الكتاب : التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزي
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
{ وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ } إن شرط دخلت عليها ما المؤكدة وجوابها : فإنما { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } الاتيان هنا بالقدرة والأمر ، والأرض أرض الكفار ونقصها هو بما يفتح الله على المسلمين منها ، والمعنى أو لم يروا ذلك فيخافوا أن نمكنك منهم ، وقيل : الأرض جنس ، ونقصها بموت الناس ، وهلاك الثمرات وخراب البلاد وشبه ذلك { لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ } المعقب الذي يكر على لاشيء فيبطله { فَلِلَّهِ المكر جَمِيعاً } تسمية للعقوبة باسم الذنب ( وسيعلم الكافر ) تهديد ، والمراد بالكافر الجنس بدليل قراءة الكفار بالجمع ، وعقبى الدار الدنيا والآخرة { قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أمره الله أن يستشهد الله على صحة نبوته وشهادة الله له هي : علمه بذلك وإظهاره الآيات الدالة على ذلك { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } معطوف على اسم الله على وجه الاستشهاد به ، وقيل : المراد عبد الله بن سلام ومن أسلم من اليهود والنصارى الذين يعلمون صفته صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل ، وقيل : المراد المؤمنون الذين يعلمون علم القرآن ودلالته على النبوّة ، وقيل : المراد الله تعالى ، فهو الذي عنده علم الكتاب ، ويضعف هذا ، لأنه عطف صفة على موصوف ، ويقويه قراءة : ومن عنده بمن الجارة وخفض عنده .
(1/777)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)
{ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والظلمات الكفر والجهل ، والنور الإيمان والعلم { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } أي بأمره وهو إرساله { إلى صراط العزيز الحميد } بدل من إلى النور .
(1/778)
اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
{ اللَّهُ } قرئ بالرفع وهو مبتدأ أو خبر مبتدأ مضمر ، وبالخفض بدل { يَسْتَحِبُّونَ } أي يؤثرون { وَيَبْغُونَهَا } قد ذكر { بِلِسَانِ قَوْمِهِ } أي بلغتهم وكلامهم { أَنْ أَخْرِجْ } أن مفسرة أو مصدرية على تقدير بأن { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } أي عقوباته للأمم المتقدمة ، وقيل : إنعامه على بني إسرائيل ، واللفظ يعم النعم والنقم ، وعبر عنها بالأيان لأنها كانت في بالأيام ، وفي ذلك تعظيم لها كقولهم يوم كذا ويوم كذا .
(1/779)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
{ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ } ذكر هنا بالواو ، ليدل على أن سوء العذاب غير الذبح أو أعم من ذلك ثم جر الذبح كقوله وملائكته وجبريل وميكال ، ذكر في البقرة بغير واو تفسير للعذاب { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ } من كلام موسى ، وتأذن بمعنى أذن أي : أعلم كقولك : توعد وأوعد وإعلام الله مقترن بإنفاذ ما أعلم به { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } هذا معمول تأذن لأنه يتضمن معنى قال ، ويحتمل أن تكون الزيادة من خير الدنيا أو من الثواب في الآخرة أو منهما { وَلَئِن كَفَرْتُمْ } يحتمل أن يريد كفر النعم أو الكفر بالإيمان والأول أرجح لمقابلته بالشكر .
(1/780)
وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
{ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } عبارة عن كثرتهم كقوله : { وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً } [ الفرقان : 38 ] { فردوا أَيْدِيَهُمْ في أفواههم } فيه ثلاثة أقوال : أحدها أن الضمائر لقوم الرسل ، والمعنى أنهم ردوا أيديهم في أفواه أنفسهم غيظاً من الرسل كقوله : عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ، أو استهزاء وضحكا : كمن غلبه الضحك فوضع يده على فمه ، والثاني : أن الضمائر لهم ، والمعنى أنهم ردوا أيديهم في أفواه أنفسهم إشارة على الأنبياء بالسكوت ، والثالث : أنهم ردوا أيديهم في أفواه الأنبياء تسكيتاً لهم ، وردا لقولهم { أَفِي الله شَكٌّ } المعنى أفي وجود الله شك أو في إلهيته شك ، وقيل : وحدانيته ، والهمزة للتقرير والتوبيخ لأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة ، ولذلك وصفه بعد بقوله : { فَاطِرِ السماوات والأرض } { مِّن ذُنُوبِكُمْ } قيل : إن من زائدة ، ومنع سيبويه زيادتها في الواجب وهي عنده للتبعيض ، ومعناه أن يغفر للكافر إذا أسلم ما تقدم من ذنبه قبل الإسلام ، ويبقى ما يذنب بعده في المشيئة ، فوقعت المغفرة في البعض ولم يأت في القرآن غفران بعض الذنوب إلا للكافر كهذا الموضع ، والذي في الأحقاف وسورة نوح وجاء للمؤمنين بغير من كالذي في الصف { وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } قال الزمخشري وأهل مذهبه من المعتزلة : معناه يؤخركم إن آمنتم إلى آجالكم ، وإن لم تؤمنوا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت ، وهذا بناء على قولهم بالأجلين ، وأهل السنة يأبون هذا ، فإن الأجل عندهم واحد محتوم . { قالوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } يحتمل أن يكون قولهم استبعاداً لتفضيل بعض البشر على بعض بالنبوة ، أو يكون إحالة لنبوة البشر ، والأول أظهر لطلبهم البرهان في قولهم : فأتونا بسلطان مبين ولقول الرسل : ولكن الله يمن على من يشاء من عباده أي : بالتفضيل بالنبوة .
(1/781)
وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)
{ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله } والمعنى أي شيء يمنعنا من التوكل على الله { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون } إن قيل لم كرر الأمر؟ فالجواب عندي أن قوله : وعلى الله فليتوكل المؤمنون راجع إلى ما تقدم من طلب الكفار بسلطان مبين أي حجة ظاهره ، فتوكل الرسل في ورودها على الله ، وأما قوله فليتوكل المتوكلون؛ فهو راجع إلى قولهم : ولنصبرن على ما آذيتمونا أي : نتوكل على الله في دفع أذاكم .
وقال الزمخشري : إن هذا الثاني في معنى الثبوت على التوكل { أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا } أو هنا بمعنى إلا أن ، أو على أصلها ، لوقوع أحد الشيئين ، والعود هنا بمعنى الصيرورة ، وهي كثير في كلام العرب ولا يقتضي أن الرسل ، كانوا في ملة الكفار قبل ذلك .
(1/782)
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
{ خَافَ مَقَامِي } فيه ثلاثة أوجه : هنا وفي { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } في [ الرحمن : 46 ] فالأول أن معناه مقام الحساب في القيامة والثاني : أن معناه قيام الله على عباده بأعمالهم والثالث : أن معناه خافني وخاف ربه ، على إقحام المقام أو على التعبير به عن الذات .
(1/783)
وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
{ واستفتحوا } الضمير للرسل أي استنصروا بالله وأصله طلب الفتح وهو الحكم { جَبَّارٍ } أي قاهر أو متكبر { عَنِيدٍ } مخالف للانقياد { مِّن وَرَآئِهِ } في الموضعين والوراء هنا بمعنى ما يستقبل من الزمان ، وقيل : معناه هنا أمامه وهو بعيد { ويسقى } معطوف على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ويسقى ، وإنما ذكر هذا السقي تجريداً بعد ذكر جهنم ، لأنه من أشد عذابها { يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } أي يتكلف جرعه وتصعب عليه إساغته ، ونفي كاد يقتضي وقوع الإساغة بعد جهد ، ومعنى يسيغه يبتلعه { وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ } أي يجد الماء مثل ألم الموت وكربته من جميع الجهات { وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } أي لا يراح بالموت .
(1/784)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
{ مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ } مذهب سيبويه والفراء فيه كقولهما في : مثل الجنة التي في الرعد والقتال ، والخبر عند سيبويه محذوف تقديره : فيما يتلى عليكم والخبر عند الفراء الجملة التي بعده ، والمثل هنا بمعنى الشبيه { أعمالهم كَرَمَادٍ } تشبيهاً بالرماد في ذهابها وتلاشيها { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } أي شديد الريح والعصوف في الحقيقة من صفة الريح { لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ على شَيْءٍ } أي لا يرون له منفعة .
(1/785)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
{ وَبَرَزُواْ للَّهِ } أي ظهروا ، ومعنى الظهور هنا خروجهم من القبور ، وقيل : معناه صاروا بالبراز ، وهي الأرض المتسعة { تَبَعًا } جمع تابع أو مصدر وصف به بالغة ، أو على حذف مضاف { مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ } من الأولى للبيان ، والثانية للتبعيض ، ويجوز أن يكونا للتبعيض معاً قاله الزمخشري ، والأظهر أن الأولى للبيان ، والثانية زائدة ، والمعنى : هل أنتم دافعون أو متحملون عنا شيئاً من عذاب الله { مَّحِيصٍ } أي مهرب حيث وقع ، ويحتمل أن مصدراً أو اسم مكان .
(1/786)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
{ وَقَالَ الشيطان } الكلام يوم القيامة أو في النار يقوله لأهلها { لَمَّا قُضِيَ الأمر } إن كان كلام إبليس في القيامة بمعنى قُضي الأمر؛ تعيَّن قومٌ للنار وقومٌ للجنة وإن كان في النار فمعنى قضي الأمر حصل أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ } استثناء منقطع { مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } أي ما أنا بمغيثكم وما أنتم مغيثين لي { بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ } ما مصدريه : أي بإشراككم لي مع الله في الطاعة { مِن قَبْلُ } يتعلق بأشركتمون ويحتمل أن يتعلق بكفرتم ، والأول أظهر وأرجح { إِنَّ الظالمين } استئناف من كلام الله تعالى ، ويحتمل أن يكون حكاية عن إبليس { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } يتعلق بأدخل أو بخالدين ، والأول أحسن .
(1/787)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
{ كَلِمَةً طَيِّبَةً } [ قال ] ابن عباس وغيره هي : لا إله إلا الله وقيل : كل حسنة { كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ } هي النخلة في قول الجمهور ، واختار ابن عطية أنها شجرة غير معينة ، إلا أنها كل ما اتصف بتلك الصفات { وَفَرْعُهَا فِي السمآء } أي في الهواء ، وذلك عبارة عن طولها { تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } الحين في اللغة وقت غير محدود وقد تقترن به قرينة تحده ، وقيل : في كل حين كل سنة لأن النخلة تطعم في كل سنة ، وقيل : غير ذلك { وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ } هي كلمة الكفر ، وقيل : كل كلمة قبيحة { كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } هي الحنظلة عند الجمهور ، واختار ابن عطية غير معينة { اجتثت } أي اقتلعت وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة ، وهذا في مقابلة قوله : أصلها ثابت { بالقول الثابت } هو لا إله إلا الله ، والإقرار بالنبوة { فِي الحياوة الدنيا } أي إذا فتنوا لم يزلوا { وَفِي الآخرة } هو عند السؤال في القبر عند الجمهور .
(1/788)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
{ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً } نعمة الله هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم ودينه : أنعم الله به على قريش فكفروا النعمة ولم يقبلوها والتقدير بدلوا شكر نعمة الله كفرا { وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ } أي من أطاعهم واتبعهم { دَارَ البوار } فسرها بقوله جهنم { يُقِيمُواْ الصلاوة } هي جواب شرط فقد يتضمنه قوله قل : تقديره إن تقل لهم أقيموا يقيموا ، ومعمول القول على هذا محذوف ، وقيل : جزم بإضمار لام الأمر تقديره ليقيموا { وَلاَ خِلاَلٌ } من الخلة وهي المودة { إِنَّ الإنسان } يريد الجنس .
(1/789)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
{ البلد آمِناً } ذكر في [ البقرة : 125 ] { واجنبني } أي امنعني ، والماضي منه جنب ، يقال جنب وجنب بالتشديد ، وأجنب بمعنى واحد { وَبَنِيَّ } يعني بنيّ من صلبي وفيهم أجيبت دعوته ، وأما أعقاب بنيه فعبدوا الأصنام { وَمَنْ عَصَانِي } يعني من عصاه بغير الكفر وبالكفر ثم تاب منه ، فهو الذي يصح أن يدعى له بالمغفرة ولكنه ذكر اللفظ بالعموم لما كان عليه السلام من الرحمة للخلق وحسن الخلق .
(1/790)
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)
{ ا أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي } يعني ابنه إسماعيل عليه السلام ، لما ولدته أمه هاجر غارت منها سارة زوجة إبراهيم فحمله مع أمه من الشام إلى مكة { بِوَادٍ } يعني مكة ، والوادي ما بين جبلين وإن لم يكن فيه ماء { عِندَ بَيْتِكَ المحرم } يعني الكعبة ، فإما أن يكون البيت أقدم من إبراهيم على ما جاء في بعض الروايات ، وإما أن يكون إبراهيم قد علم أنه سيبني هناك بيتاً { لِيُقِيمُواْ الصلاوة } اللام يحتمل أن تكون لام الأمر بمعنى الدعاء ، أو لام كي وتتعلق بأسكنت وجمع الضمير يدل على أنه كان علم أنه ابنه يعقب هناك نسلا و { تهوى إِلَيْهِمْ } أي تسير بجد وإسراع ، ولهذه الدعوة حبب الله حج البيت إلى الناس ، على أنه قال من الناس بالتبعيض ، قال بعضهم : لو قال أفئدة الناس لحجته فارس والروم { وارزقهم مِّنَ الثمرات } أي ارزقهم في ذلك الوادي مع أنه غير ذي زرع ، وأجاب الله دعوته فجعل مكة يُجبى إليها ثمراتَ كل شيء { وَمَا يخفى عَلَى الله } الآية : يحتمل أن تكون من كلام الله تعالى ، أو حكاية عن إبراهيم .
(1/791)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)
{ وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إسماعيل وإسحاق } روي أنه ولد له إسماعيل وهو ابن مائة وسبع عشر عاماً ، وروي أقل من هذا ، وإسماعيل أسن من إسحاق { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ } إن أراد بالدعاء الطلب والرغبة فمعنى القبول : الاستجابة ، وإن أراد بالدعاء العبادة ، فالقبول على حقيقته .
(1/792)
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
{ رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ } قيل إنما دعا بالمغفرة لأبويه الكافرين بشرط إسلامهما ، والصحيح أنه دعا لهما قبل أن يتبين له أن أباه عدوّ لله حسبما ورد في براءة { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غافلا } هذا وعيد للظالمين وهم الكفار على الأظهر ، فإن قيل : لمن هذا الخطاب هنا وفي قوله : ولا تحسبن الله مخلف وعده رسله؟ فالجواب أنه يحتمل أن يكون خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره ، فإن كان لغيره فلا إشكال ، وإن كان له فهو مشكل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحسب أن الله غافلاً ، وتأويل ذلك بوجهين : أحدهما أن المراد الثبوت على علمه بأن الله غير غافل وغير مخلف وعده ، والآخر أن المراد إعلامه بعقوبة الظالمين فمقصد الكلام الوعيد لهم { تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار } أي تحد النظر من الخوف { مُهْطِعِينَ } قيل : الإهطاع الإسراع ، وقيل : شدّة النظر من غير أن يطرف { مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } قيل : الإقناع هو رفع الرأس ، وقيل خفضه من الذلة { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } أي لا يطرفون بعيونهم من الحذر والجزع .
{ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } أي منحرفة لا تعي شيئاً من شدّة الجزع فشبهها بالهواء في تعريفه من الأشياء ، ويحتمل أن يريد مضطربة في صدورهم .
(1/793)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
{ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب } يعني يوم القيامة ، وانتصاب يوم على أنه مفعول ثان لأنذر ، ولا يجوز أن يكون ظرفاً { أَوَلَمْ تكونوا } تقديره : يقال لهم أو لم تكونوا الآية { مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ } هو المقسم عليه ، ومعنى من زوال ، أي من الأرض بعد الموت أي حلفتم أنكم لا تبعثون .
(1/794)
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)
{ وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } أي جزاء مكرهم { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } إن هنا نافية ، واللام لام الجحود ، والجبال يراد بها الشرائع والنبوات ، شبهت بالجبال في ثبوتها ، والمعنى مكرهم لأنه لا تزول منه تلك الجبال الثابتة الراسخة؛ وقرأ الكسائي لتزول بفتح اللام ورفع تزول وإن على هذه القراءة مخففة من الثقيلة ، واللام للتأكيد ، والمعنى تعظيم مكرهم أي أن مكرهم من شدته تزول منه الجبال ، ولكن الله عصم ووقى منه { فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } يعني وعد النصر على الكفار ، فإن قيل : هلا قال : مخلف رسله وعده ، ولم قدم المفعول الثاني على الأول؟ فالجواب أنه قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد أصلاً على الإطلاق ، ثم قال : رسله ، ليعلم أنه إذا لم يخلف وعد أحد من الناس ، فكيف يخلف وعد رسله وخيرة خلقه فقدم الوعد أولاً بقصد الإطلاق ، ثم ذكر الرسل لقصد التخصيص .
(1/795)
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
{ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض } العامل في الظرف ذو انتقام أو محذوف ، وتبديل الأرض بأن تكون يوم القيامة بيضاء عفراء كقرصة النقي هكذا ورد في الحديث الصحيح { والسماوات } تبديلها بانشقاقها وانتشار كواكبها ، وخسوف شمسها وقمرها وقيل : تبدل أرضاً من فضة ، وسماء من ذهب وهذا ضعيف .
(1/796)
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
{ وَتَرَى المجرمين } يعني الكفار { مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد } أي مربوطين في الأغلال { سَرَابِيلُهُم } أي قمصهم والسربال القميص { مِّن قَطِرَانٍ } متعلق بمحذوف أي جعل الله فيه ذلك وهو الذي تهنأ به الإبل وللنار فيه اشتعال شديد ، فلذلك جعل الله قمص أهل النار منه { لِيَجْزِىَ } يتعلق بمحذوف أي فعل الله ذلك ليجزي { هذا بلاغ } إشارة إلى القرآن أو إلى ما تضمنه هذه السورة { وَلِيُنذَرُواْ } معطوف على محذوف تقديره لينصحوا به ولينذروا { وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب } أي هذا الذكر لأولي العقول ، وهم أهل العلم رضي الله عنهم .
(1/797)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4)
{ تِلْكَ آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ } يحتمل أن يريد بالكتاب الكتب المتقدمة ، وعطف القرآن عليها ، والظاهر أنه القرآن وعطفه عطف الصفات { رُّبَمَا } قرئ بالتخفيف والتشديد وهما لغتان . وما حرف كافة لرب ، ومعنى رب التقليل ، وقد تكون للتكثير ، وقيل : إن هذه منه ، وقيل : إنما عبر عن التكثير بأداة التقليل كقوله : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء } [ البقرة : 144 ] ، و { قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } [ النور : 64 ] ، وقيل إن معنى التقليل في هذه أنهم لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة لوجب أن يسارعوا إليه ، فكيف وهم يودونه مراراً كثيرة ، ولا تدخل إلا على الماضي { يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } قيل : إن ذلك عند الموت ، وقيل : في القيامة ، وقيل : إذا خرج عصاة المسلمين من النار ، وهذا هو الأرجح لحديث روي في ذلك { ذَرْهُمْ } وما بعده تهديد { كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } أي وقت محدود .
(1/798)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)
{ وَقَالُواْ ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } الضمير في قالوا لكفار قريش ، وقولهم : نزل عليه الذكر يعنون على وجه الاستخفاف ، أي بزعمك ودعواك { لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة } لو ما عرض وتحضيض ، والمعنى أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالملائكة معه { مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق } رد عليهم فيما اقترحوا ، والمعنى أن الملائكة لا تنزل إلا بالحق من الوحي والمصالح ، التي يريدها الله ، لا باقتراح مقترح واختيار كافر ، وقيل : الحق هنا العذاب { وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ } إذاً حرف جواب وجزاء ، والمعنى لو أنزل الملائكة لم يؤخر عذاب هؤلاء الكفار ، الذين اقترحوا نزولهم ، لأن من عادة الله أن من اقترح آية فرآها ولم يؤمن أنه يعجل له العذاب ، وقد علم الله ، أن هؤلاء القوم يؤمن كثير منهم ، ويؤمن أعقابهم فلم يفعل بهم ذلك .
(1/799)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)
{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لحافظون } الذكر هنا هو القرآن وفي قوله : إنا نحن نزلنا الذكر رداً لإنكارهم واستخفافهم في قولهم يا أيها الذي نزل عليه الذكر ولذلك أكده بنحن واحتج عليه بحفظه ، ومعنى حفظه : حراسته عن التبديل والتغيير ، كما جرى في غيره من الكتب ، فتولى الله حفظ القرآن ، فلم يقدر أحد على الزيادة فيه ولا النقصان منه ، ولا تبديله بخلاف غيره من الكتب ، فإن حفظها موكول إلى أهلها لقوله : { بِمَا استحفظوا مِن كتاب الله } [ المائدة : 44 ] { فِى شِيَعِ الأولين } الشيع : جمع شيعة وهي الطائفة التي تتشيع لمذهب أو رجل { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين } معنى نسلكه ندخله ، والضمير في نسلكه يحتمل أن يكون للاستهزاء ، الذي دل عليه قوله : به يستهزؤن ، أو يكون للقرآن أي نسلكه في قلوبهم فيستهزئوا به ، ويكون قوله : كذلك تشبيهاً للاستهزاء المتقدم ، ولا يؤمنون به تفسيراً لوجه إدخاله في قلوبهم ، والضمير في به للقرآن .
(1/800)
لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
{ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين } أي تقدمت طريقتهم على هذه الحالة من الكفر والاستهزاء حتى هلكوا بذلك ، ففي الكلام تهديد لقريش { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أبصارنا } الضمائر لكفار قريش المعاندين المحتوم عليهم بالكفر وقيل : الضمير في ظلوا وفي يعرجون للملائكة وفي قالوا للكفار ، ومعنى : يعرجون يصعدون ، والمعنى أن هؤلاء الكفار لو رأوا أعظم آية لقالوا : إنها تخييل أو سحر ، وقرئ سكِّرت بالتشديد والتخفيف ويحتمل أن يكون مشتقاً من السكر ، فيكون معناه : أجبرت أبصارنا فرأينا الأمر على غير حقيقته ، أو من السِّكْر وهو السد فيكون معناه منعت أبصارنا من النظر .
(1/801)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)
{ بُرُوجاً } يعني المنازل الاثني عشر { إِلاَّ مَنِ استرق السمع } استثناء من حفظ السموات فهو في موضع نصب { مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ } أي : مقدر بقدر ، فالوزن على هذا استعارة وقيل : المراد ما يوزن حقيقة كالذهب والأطعمة ، والأول أعم وأحسن .
(1/802)
وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
{ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } يعني : البهائم والحيوانات ومن معطوف على معايش وقيل : على الضمير في لكم ، وهذا ضعيف في النحو لأنه عطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض ، وهو قوي في المعنى أي جعلنا في الأرض معايش لكم وللحيوانات .
(1/803)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ } قيل : يعني المطر ، واللفظ أعم من ذلك ، والخزائن المواضع الخازنة ، وظاهر هذا أن الأشياء موجودة قد خلقت ، وقيل : ذلك تمثيل ، والمعنى وإن من شيء إلا نحن قادرون على إيجاده وتكوينه { بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } أي بمقدار محدود { وَأَرْسَلْنَا الرياح لواقح } يقال : لقحت الناقة والشجرة إذا حملت فهي لاقحة ، وألقحت الريح الشجر فهي ملحقة ولواقح جمع لاقحة ، لأنها تحمل الماء أو جمع ملقحة على حذف الميم الزائدة .
(1/804)
وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)
{ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين } الآية : يعني الأولين والآخرين من الناس ، وذكر ذلك على وجه الاستدلال على الحشر الذي ذكر بعد ذلك في قوله : { وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ } لأنه أذا أحاط بهم علماً لم تصعب عليه إعادتهم وحشرهم ، وقيل : يعني من استقدم ولادة وموتاً ومن تأخر ، وقيل : من تقدم إلى الإسلام ومن تأخر عنه { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صلصال } الإنسان هنا هو : آدم عليه السلام ، والصلصال : الطين اليابس الذي يصلصل أي يصوت وهو غير مطبوخ ، فإذا طبخ فهو فخار { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } الحمأ : الطين الأسود ، والمسنون المتغير المنتن ، وقيل : إنه من أَسِنَ إذا تغير ، والتصريف يردّ هذا القول ، وموضع من حمأ صفة لصلصال : أي صلصال كائن من حمأ .
(1/805)
وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
{ والجآن خلقناه } يراد به جنس الشياطين ، وقيل إبليس الأول ، وهذا أرجح لقوله : من قبلُ وتناسلت الجن من إبليس وهو للجن كآدم للناس { السموم } شدّة الحر .
(1/806)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29)
{ خالق بَشَراً } يعني آدم عليه السلام { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } يعني الروح التي في الجسد ، وأضاف الله تعالى الروح إلى نفسه إضافة مُلْك إلى مالك أي : من الروح الذي هو لي وخلق من خلق ، وتقدّم الكلام على سجود الملائكة في البقرة .
(1/807)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
{ فاخرج مِنْهَا } أي من الجنة أو من السماء { قَالَ رَبِّ } يقتضي إقراره بالربوبية وأن كفره كان بوجه غير الجحود ، وهو اعتراضه على الله في أمره بالسجود لآدم { إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } اليوم الذي طلب إبليس أن ينظر إليه هو يوم القيامة ، وقيل : الوقت المعلوم الذي أُنْظِر إليه هو يوم النفخ في الصور النفخة الأولى؛ حين يموت من في السموات ومن في الأرض . وكان سؤال إبليس الانتظار إلى يوم القيامة جهلاً منه ومغالطة؛ إذ سأل ما لا سبيل إليه . لأنه لو أعطي ما سأل لم يمت أبداً ، لأنه لا يموت أحد بعد البعث ، فلما سأل ما لا سبيل إليه : أعرض الله عنه ، وأعطاه الانتظار إلى النفخة الأولى .
(1/808)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
[ الأعراف : 16 ] الباء للسببية أي لأغوينهم بسبب إغوائك لي ، وقيل : للقسم كأنه قال : بقدرتك على إغوائي لأغوينهم ، والضمير لذرية آدم { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } القائل لهذا هو الله تعالى ، والإشارة بهذا إلى نجاة المخلصين من إبليس ، وأنه لا يقدر عليهم أو إلى تقسيم الناس إلى غويّ ومخلَص { إِلاَّ عِبَادَكَ } يحتم أن يريد بالعباد جميع الناس ، فيكون قوله : إلا من اتبعك استثناء متصل أي يريد بالعباد المخلصين فيكون الاستثناء منقطعاً { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ } الضمير للغاوين { لَهَا سَبْعَةُ أبواب } روي أنها سبعة أطباق في كل طبقة باب ، فأعلاها للمذنبين من المسلمين والثاني : لليهود ، والثالث : للنصارى ، والرابع : للصابئين والخامس : للمجوس ، والسادس : للمشركين ، والسابع : للمنافقين ادخلوها تقديره يقال لهم : ادخلوها والسلام يحتمل أن يكون التحية أو السلامة { إخوانا } يعني أخوّة المودّة والإيمان { متقابلين } أي يقابل بعضهم بعضاً على الأسرة { نَصَبٌ } أي تعب .
(1/809)
نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
{ نَبِّىءْ عِبَادِي } الآية : أعلمهم والآية آية ترجيه وتخويف { وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } ضيف هنا واقع على جماعة وهم الملائكة الذين جاؤوا إلى إبراهيم بالبشرى { وَجِلُونَ } أي خائفون ، والوجل الخوف { لاَ تَوْجَلْ } أي لا تخف { إِنَّا نُبَشِّرُكَ بغلام عَلِيمٍ } هو إسحاق { قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر } المعنى : أبشرتموني بالولد مع أنني قد كبر سني ، وكان حينئذ ابن مائة سنة ، وقيل : أكثر { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } قال ذلك على وجه التعجب من ولادته في كبره أو على وجه الاستبعاد ، ولذلك قرئ تبشرون ، بتشديد النون وكسرها على إدغام نون الجمع في نون الوقاية وبالكسر والتخفيف على حذف إحدى النونين ، وبالفتح وهو نون الجمع { قَالُواْ بشرناك بالحق } أي باليقين الثابت فلا تستبعده ولا تشك فيه { وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون } دليل على تحريم القنوط ، وقرئ يقنط بفتح النون وكسرها وهما لغتان .
(1/810)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
{ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ } أي ما شأنكم وبأي شيء جئتم { إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } يعنون قوم لوط { إِلاَّ آلَ لُوطٍ } أن يكون استثناء من قوم لوط فيكون منقطعاً لوصف القوم بالإجرام ، ولم يكن آل لوط مجرمين ويحتمل أن يكون استثناء من الضمير في المجرمين ، فيكون متصلاً كأنه قال إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط فلم يجرموا { إِلاَّ امرأته } استثناء من آل لوط ، فهو استثناء من استثناء . وقال الزمخشري : إنما هو استثناء من الضمير المجرور في قولهم لمنجوهم ، وذلك هو الذي يقتضيه المعنى { قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين } الغابر يقال : بمعنى الباقي ، وبمعنى الذاهب ، وإنما أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم ، وهو لله وحده لما لهم من القرب والاختصاص بالله ، لا سيما في هذه القضية ، كما تقول خاصة الملك للملك : دبرنا كذا ويحتمل أن يكون حكاية عن الله { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } أي لا نعرفهم { قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } أي جئناك بالعذاب لقومك ومعنى يمترون يشكون فيه { واتبع أدبارهم } أي : كن خلفهم أي في ساقتهم حتى لا يبقى منهم أحد وليكونوا قدّامه ، فلا يشتغل قلبه بهم لو كانوا وراءه لخوفه عليهم { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } تقدم في هود { وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } قيل : مصر وقيل : حيث هنا للزمان إذ لم يذكر مكاناً .
(1/811)
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70)
{ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر } هو من القضاء والقدر ، وإنما تعدى بإلى لأنه ضمن معنى أوحينا وقيل : معناه أعلمناه بذلك الأمر { أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ } هذا تفسير لذلك الأمر ، ودابر القوم أصلهم ، والإشارة إلى قوم لوط { مُّصْبِحِينَ } في الموضعين أي إذا أصبحوا ودخلوا في الصباح { وَجَآءَ أَهْلُ المدينة يَسْتَبْشِرُونَ } المدينة هي سدوم ، واستبشار أهلها بالأضياف ، طمعاً أن ينالوا منهم الفاحشة { قَالُواْ أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين } كانوا قد نهوه أن يضيف أحداً .
(1/812)
قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)
{ قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي } دعاهم إلى تزويج بناته ليقي بذلك أضيافه { لَعَمْرُكَ } قسم والعمر الحياة ، ففي ذلك كرامة للنبي صلى الله عليه وسلم ، أن الله أقسم بحياته ، أو قيل : هو من قول الملائكة للوط ، وارتفاعه بالابتداء وخبره محذوف تقديره : لعمرك قسمي واللام للتوطئة { إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } الضمير لقوم لوط ، وسكرتهم : ضلالهم وجهلهم ، ويعمهون : أي يتحيرون { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة } أي صيحة جبريل وهي أخذه لهم { مُشْرِقِينَ } أي داخلين في الشروق وهو وقت بزوغ الشمس ، وقد تقدم تفسير ما بعد هذا من قصتهم في [ هود : 76 ] { لِلْمُتَوَسِّمِينَ } أي للمتفرسين ، ومنه فراسة المؤمن ، وقيل : للمعتبرين ، وحقيقة التوسم النظر إلى السيمة { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ } أي بطريق ثابت يراه الناس والضمير للمدينة المهلكة .
(1/813)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
{ وَإِن كَانَ أصحاب الأيكة لظالمين } أصحاب الأيكة قوم شعيب والأيكة الغيضة من الشجر لما كفروا أضرمها الله عليهم ناراً { وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } الضمير في إنهما قيل : إنه لمدينة قوم لوط وقوم شعيب ، فالإمام على هذا : الطريق أي إنهما بطريق واضح يراه الناس ، وقيل : الضمير للوط وشعيب ، أي إنهما على طريق من الشرع واضح والأول أظهر .
(1/814)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
{ أصحاب الحجر } هم ثمود قوم صالح ، الحجر واديهم هو بين المدينة والشام { المرسلين } ذكره بالجمع وإنما كذبوا واحداً منهم ، وفي ذلك تأويلان أحدهما أن من كذب واحداً من الأنبياء لزمه تكذيب الجميع؛ لأنهم جاءوا بأمر متفق من التوحيد ، والثاني : أنه أراد الجنس كقولك : فلان يركب الخيل ، وإن لم يركب إلا فرساً واحداً { وآتيناهم آياتنا } يعني الناقة ، وما كان فيها من العجائب { وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً } النحت : النقر بالمعاويل وشبهها من الحجر والعود وشبهه ذلك وكانوا ينقرون بيوتهم في الجبال { ءَامِنِينَ } يعني آمنين من تهدم بيوتهم لوثاقتها ، وقيل : آمنين من عذاب الله { إِلاَّ بالحق } يعني أنها لم تخلق عبثاً .
{ فاصفح الصفح الجميل } قيل : إن الصفح الجميل هو الذي ليس معه عقاب ولا عتاب ، وفي الآية مهادنة للكفار منسوخة بالسيف .
(1/815)
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
{ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني } يعني : أم القرآن لأنها سبع آيات ، وقيل : يعني السور السبع الطوال ، وهي البقرة وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال مع براءة ، والأول أرجح لوروده في الحديث ، والمثاني : مشتق من التثنية وهي التكرير ، لأن الفاتحة تكرر قراءتها في الصلاة ، ولأن غيرها من السور تكرر فيها القصص وغيرها ، وقيل : هي مشتقة من الثناء ، لأن فيها ثناء على الله ، ومن يحتمل أن تكون للتبعيض أو لبيان الجنس ، وعطف القرآن على السبع المثاني؛ لأنه يعني ما سواها من القرآن فهو عموم بعد الخصوص .
(1/816)
لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)
{ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } أي لا تنظر إلى ما متعناهم به في الدنيا كأنه يقول : قد آتيناك السبع المثاني والقرآن العظيم ، فلا تنظر إلى الدنيا ، فإن الذي أعطيناك أعظم منها { أزواجا مِّنْهُمْ } يعني أصنافاً من الكفار { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي لا تتأسف لكفرهم { واخفض جَنَاحَكَ } أي تواضع ولِنْ { لِلْمُؤْمِنِينَ } والجناح هنا استعارة { كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين } الكاف من كما متعلقة بقوله : أنا النذير أي أنذر قريشاً عذاباً مثل العذاب الذي أنزل على المقتسمين ، وقيل : متعلق بقوله : ولقد آتيناك أي أنزلنا عليك كتاباً كما أنزلنا على المقتسمين ، واختلف في المقتسمين ، فقيل : هم أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض كتابهم وكفروا ببعضه ، فاقتسموا إلى قسمين ، وقيل : هم قريش اقتسموا أبواب مكة في الموسم ، فوقف كل واحد منهم على باب ، يقول أحدهم : هو شاعر ، ويقول الآخر : هو ساحر ، وغير ذلك .
(1/817)
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
{ الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ } أي أجزاء ، وقالوا فيه أقوالاً مختلفة وواحد عضين عضة وقيل : هو من العَضْة وهو السحر ، والعاضِه الساحر ، والمعنى على هذا أنه سحر ، والكلمة محذوفة اللام ولامها على القول الأول واو وعلى الثاني هاء { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } إن قيل : كيف يجمع بين هذا وبين قوله فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان؟ فالجواب أن السؤال المثبت هو على : وجه الحساب والتوبيخ ، وأن السؤال المنفي هو : على وجه الاستفهام المحض لأن الله يعلم الأعمال فلا يحتاج إلى السؤال عنها .
(1/818)
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
{ فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } أي صرح به وأنفذه { إِنَّا كفيناك المستهزئين } يعني قوماً من أهل مكة؛ أهلكهم الله بأنواع الهلاك من غير سعي النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا خمسة : الوليد بن المغيرة ، والعاصي بن وائل ، والأسود بن عبد المطلب ، والأسود بن عبد يغوث وعدي بن قيس ، وقصة هلاكهم مذكورة في السير ، وقيل : الذين قتلوا ببدر كأبي جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط وغيرهم ، والأول أرجح ، لأن الله كفاه إياهم بمكة قبل الهجرة { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتأنيس { حتى يَأْتِيَكَ اليقين } أي الموت .
(1/819)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
{ أتى أَمْرُ الله } قيل : النصر على الكفار ، وقيل : عذاب الكفار في الدنيا ، ووضع الماضي موضع المستقبل لتحقق وقوع الأمر ولقربه ، وروي أنها لما نزلت وثب رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً فلما قال : فلا تستعجلوه سكن { يُنَزِّلُ الملائكة بالروح } أي بالنبوة وقيل بالوحي { خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ } أي من نطفة المني ، والمراد جنس الإنسان { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } فيه وجهان أحدهما : أن معناه متكلم يخاصم عن نفسه ، والثاني : يخاصم في ربه ودينه ، وهذا في الكفار ، والأول أعم .
(1/820)
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
{ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } أي ما يتدفأ به ، يعني ما يتخذ من جلود الأنعام وأصوافها من الثياب ، ويحتمل أن يكون قوله : لكم متعلق بما قبله أو بما بعده ويختلف الوقوف باختلاف ذلك { ومنافع } يعني شرب ألبانها ، والحرث بها وغير ذلك { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } يحتمل أن يريد بالمنافع ما عدا الأكل فيكون الأكل أمراً زائداً عليها ، أو يريد بالمنافع الأكل وغيره ، ثم جرد ذكر الأكل لأنه أعظم المنافع { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ } الجمال حسن المنظر ، وحين تريحون يعني حين تردونها بالعشي إلى المنازل ، وحين تسرحون حين تردونها بالغداة إلى الرعي ، وإنما قدم تريحون على تسرحون ، لأن جمال الأنعام بالعشي أكثر لأنها ترجع وبطونها ملأى وضروعها حافلة { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } يعني الأمتعة وغيرها وقيل : أجساد بني آدم { إلى بَلَدٍ } أي إلى أي بلد توجهتم ، وقيل : يعني مكة { بِشِقِّ الأنفس } أي بمشقة { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } استدل بعض الناس به على تحريم أكل الخيل والبغال والحمير ، لكونه علل خلقتها بالركوب والزينة دون الأكل ، ونصب زينة على أنه مفعول من أجله ، وهو معطوف على موضع لتركبوها { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } عبارة على العموم أي أن مخلوقات الله لا يحيط البشر بعلمها ، وكل ما ذكر في هذه الآية شيئاً مخصوصاً فهو على وجه المثال .
(1/821)
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)
{ وعلى الله قَصْدُ السبيل } أي على الله تقويم طريق الهدى ، بنصب الأدلة وبعث الرسل والمراد بالسبيل هنا : الجنس ، ومعنى القصد الموصل ، وإضافته إلى السبيل من إضافة الصفة إلى الموصوف { وَمِنْهَا جَآئِرٌ } الضمير في منها يعود على السبيل إذ المراد به : الجنس ومعنى الجائر : الخارج عن الصواب : أي ومن الطريق جائر كطريق اليهود والنصارى وغيرهم { مَآءً لَّكُم } يحتمل أن يتعلق لكم بأنزل أو يكون في موضع خبر لشراب ، أو صفة لسماء { وَمِنْهُ شَجَرٌ } يعني ما ينبت بالمطر من الشجر { فِيهِ تُسِيمُونَ } أي ترعون أنعامكم .
(1/822)
وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
{ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض } يعني الحيوان والأشجار والثمار وغير ذلك { مُخْتَلِفاً ألوانه } أي أصنافه وأشكاله { لَحْماً طَرِيّاً } يعني الحوت { حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } يعني الجواهر والمرجان { مَوَاخِرَ فِيهِ } جمع ماخرة يقال : مخرت السفينة ، والمخر : شق الماء ، وقيل : صوت جري الفلك بالرياح { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } يعني في التجارة وهو معطوف على لتأكلوا .
(1/823)
وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
{ وألقى فِي الأرض رواسي أَن تَمِيدَ بِكُمْ } الرواسي الجبال ، واللفظ مشتق من رسا إذا ثبت ، وأن تميد في موضع مفعول من أجله ، والمعنى أنه ألقى الجبال في الأرض لئلا تميد الأرض؛ وروي أنه لما خلق الله الأرض جعلت تميد فقالت الملائكة : لا يستقر على ظهر هذه أحد ، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال { وأنهارا } قال ابن عطية : أنهاراً منصوب بفعل مضمر تقديره : وجعل أو خلق أنهاراً قال : وإجماعهم على إضمار هذا الفعل دليل على أن ألقى أخص من جعل وخلق : ولو كانت ألقى بمعنى خلق : لم يحتج إلى هذا الإضمار { وَسُبُلاً } يعني الطرق { وعلامات } يعني ما يستدل به على الطرق من الجبال والمناهل وغير ذلك ، وهو معطوف على أنهاراً وسبلاً قال ابن عطية : هو نصب على المصدر أي لعلكم تعتبرون ، وعلامات أي عبرة وأعلاماً { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } يعني الاهتداء بالليل في الطرق ، والنجم هنا جنس ، وقيل : المراد الثريا والفرقدان ، فإن قيل : قوله وبالنجم هم يهتدون؛ فمن المراد بهم؟ فالجواب أنه أراد قريشاً لأنهم؛ كان لهم في الاهتداء بالنجم في سيرهم علم لم يكن لغيرهم ، وكان الاعتبار ألزم لهم فخصصوا ، قال ذلك الزمخشري .
(1/824)
أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
{ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } تقرير يقتضي الردّ على من عبد غير الله ، وإنما عبّر عنهم بمن لأن فيهم من يعقل ومن لا يعقل ، أو مشاكلة لقوله : أفمن يخلق { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ } ذكر من أول السورة إلى هنا أنواعاً من مخلوقاته تعالى على وجه الاستدلال بها على وحدانيته ، ولذلك أعقبها بقوله : { أَفَمَن يَخْلُقُ } ، وفيها أيضاً تعداد لنعمه على خلقه ، ولذلك أعقبها بقوله : وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها ، ثم أعقب ذلك بقوله : { إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } : أي يغفر لكم التقصير في شكر نعمه .
(1/825)
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)
{ والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } نفى عن الأصنام صفات الربوبية ، وأثبت لهم أضدادها ، وهي أنهم مخلوقون غير خالقين ، وغير أحياء ، وغير عالمين بوقت البعث ، فلما قام البرهان على بطلان ربوبيتهم أثبت الربوبية لله وحده فقال : إلهكم إله واحد .
(1/826)
أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
{ أموات غَيْرُ أَحْيَآءٍ } أي لم تكن لهم حياة قط ولا تكون ، وذلك أغرق في موتها ممن تقدّمت له حياة ثم مات ، ثم يعقب موته حياة { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } الضمير في يشعرون : للأصنام وفي : يبعثون للكفار الذين عبدوهم ، وقيل : إن الضميرين للكفار { قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ } أي تنكر وحدانية الله عز وجل { لاَ جَرَمَ } أي لا بد ولا شك ، وقيل إن لا نفي لما تقدم ، وجرم معناه وجب ، أو حق ، وأن فاعله بجرم .
(1/827)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
{ أساطير الأولين } أي ما سطره الأولون ، وكان النضر بن الحارث قد اتخذ كتاب تواريخ ، وكان يقول : إنما يحدث محمد بأساطير الأولين ، وحديثي أجمل من حديثه ، وماذا يجوز أن يكون اسماً واحداً مركباً من ما وذا ، ويكون منصوباً بأنزل ، أو أن تكون ما استفهامية في موضع رفع بالابتداء ، وذا بمعنى الذي ، وفي أنزل ضمير محذوف { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ } اللام لام العاقبة والصيرورة : أي قالوا أساطير الأولين ، فأوجب ذلك أن حملوا أوزارهم وأوزار غيرهم ، ويحتمل أن تكون للأمر { بِغَيْرِ عِلْمٍ } حال من المفعول في يضلونهم ، أو من الفاعل .
(1/828)
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)
{ فَأَتَى الله بنيانهم مِّنَ القواعد } الآية : قيل المراد بالذين من قبلهم نمروذ ، فإنه بنى صرحاً ليصعد فيه إلى السماء بزعمه ، فلما علا فيه هدمه الله وخر سقفه عليه ، وقيل : المراد بالذين من قبلهم كل من كفر من الأمم المتقدمة ، ونزلت به عقوبة الله فالبنيان والسقف والقواعد على هذا تمثيل { وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ } توبيخ للمشركين وأضاف الشركاء إلى نفسه أي على زعمكم ودعواكم ، وفيه تهكم به { الذين كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } أي تعادون من أجلهم فمن قرأ بكسر النون فالمفعول ضمير المتكلم وهو الله عز وجل ، ومن قرأ بفتحها فالمفعول محذوف تقديره تعادون المؤمنين من أجلهم { قَالَ الذين أُوتُواْ العلم } هم الأنبياء والعلماء من كل أمة ، وقيل : يعني الملائكة واللفظ أعم من ذلك .
(1/829)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
{ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } حال من الضمير المفعول في تتوفاهم { فَأَلْقَوُاْ السلم } أي استسلموا للموت { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء } أي قالوا ذلك ، ويحتمل قولهم لذلك أن يكونوا قصدوا الكذب اعتصاماً به كقولهم : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] أو يكونوا أخبروا على حسب اعتقادهم في أنفسهم ، فلم يقصدوا الكذب ، ولكنه كذب في نفس الأمر { بلى } من قول الملائكة للكفار : أي قد كنتم تعملون السوء .
(1/830)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)
{ وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً } لما وصف مقالة الكفار الذين قالوا أساطير الأولين : قابل ذلك بمقالة المؤمنين ، فإن قيل : لم نصب جواب المؤمنين وهو قولهم : خيراً ، رفع جواب الكافرين وهو أساطير الأولين؟ فالجواب : أن قولهم خيراً منصوب بفعل مضمر تقديره أنزل خيراً ، ففي ذلك اعتراف بأن الله أنزله ، وأما أساطير الأولين فهو خبر ابتداء مضمر تقديره هو أساطير الأولين ، فلم يعترفوا بأن الله أنزله فلا وجه لنصبه ، ولو كان منصوباً لكان الكلام متناقضاً؛ لأن قولهم أساطير الأولين يقتضي التكذيب بأن الله أنزله ، والنصب بفعل مضمر يقتضي التصديق بأن الله أنزله ، لأن تقديره أنزل ، فإن قيل : يلزم مثل هذا في الرفع ، لأن تقديره هو أساطير الأولين ، فإنه غير مطابق للسؤال الذي هو ماذا أنزل ربكم ، الجواب : أنهم عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا هو أساطير الأولين ، ولم ينزله الله { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } ارتفع حسنة بالابتداء وللذين خبره ، والجملة بدل من خيراً ، وتفسيره للخير الذي قالوا ، وقيل : هي استئناف كلام الله تعالى ، لا من كلام الذين قالوا خيراً { جَنَّاتُ عَدْنٍ } يحتمل أن يكون هو اسم الممدوح بنعم ، فيكون مبتدأ وخبره فيما قبله أو خبر ابتداء مضمر ، ويحتمل أن يكون مبتدأ وخبره يدخلونها أو مضمر تقديره : لهم جنات عدن .
(1/831)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35)
{ هَلْ يَنْظُرُونَ } أي ينتظرون ، والضمير للكفار وإنما أن تأتيهم الملائكة يعني لقبض أرواحهم { أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } يعني قيام الساعة أو العذاب في الدنيا { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } أي أصابهم جزاء سيئات ما عملوا { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي أحاط بهم العذاب الذين كانوا به يستهزؤن ، وهذا تفسيره حيث وقع { وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ } قالوا ذلك على وجه المجادلة والمخاصمة والاحتجاج على صحة فعلهم؛ أي أن فِعلنا هو بمشيئة الله فهو صواب ، ولو شاء الله أن لا نفعله ما فعلناه ، والرّد عليهم بأن الله نهى عن الشرك ولكنه قضى على من يشاء من عباده ، ويحتمل أن يكونوا قالوا ذلك في الآخرة على وجه التمني فإن " لو " تكون للتمني والمعنى هذا أنهم لما رأوا العذاب تمنوا أن يكونوا لم يعبدوا غيره ، ولم يحرموا ما أحل الله من البحيرة وغيرها .
(1/832)
إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
{ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ } قرئ بضم الياء وفتح الدال على البناء للمفعول أي لا يهدي غير الله من يضله الله وقرئ يهدي بفتح الياء وكسر الدال ، والمعنى على هذا : لا يهدي الله من قضى بإضلاله { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } الضمير عائد على من يضل ، لأنه في معنى الجمع .
(1/833)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)
{ بلى } ردّ على الذين أقسموا { لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ } أي أنه يبعثه { لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ } اللام تتعلق بما دل عليه أي يبعثهم ليبين لهم ، وهذا برهان أيضاً على البعث ، فإن الناس مختلفون في أديانهم ومذاهبهم ، فيبعثهم الله ليبين لهم الحق فيما اختلفوا فيه { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ } الآية : برهان أيضاً على البعث ، لأنه داخل تحت قدرة الله تعالى .
(1/834)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
{ والذين هَاجَرُواْ فِي الله } يعني الذين هاجروا من مكة إلى أرض الحبشة ، لأن الهجرة إلى المدينة كانت بعدها ، وقيل : نزلت في أبي جندل بن سهيل وخبره مذكور في السير في قصة الحديبية ، وهذا بعيد لأن السورة نزلت قبل ذلك { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً } وعد أن ينزلهم بقعة حسنة ، وهي المدينة التي استقروا بها ، وقيل : إن حسنة صفة لمصدر؛ أي نبوئنهم تبوئة حسنة وقرئ لنثوبنهم بالثاء من الثواب { الذين صَبَرُواْ } وصف للذين هاجروا ، ويحتمل إعرابه أن يكون نعتاً أو على تقدير : هم الذين أو مدح الذين { إِلاَّ رِجَالاً } ردّ على من استبعد أن يكون الرسول من البشر { فاسألوا أَهْلَ الذكر } يتعلق بأرسلنا الذي في أول الآية على التقديم والتأخير في الكلام ، أو بأرسلنا مضمراً وبيوحي أو بتعلمون .
(1/835)
بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر } يعني القرآن { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } يحتمل أن يريد لتبين القرآن بسردك نصه وتعليمه للناس ، أو لتبين معانيه بتفسير مشكلة ، فيدخل في هذا ما بينته السنة من الشريعة .
(1/836)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
{ أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات } يعني : كفار قريش عند جمهور المفسرين ، والسيئات تحتمل وجهين : أحدهما : يريد به الأعمال السيئات؛ أي المعاصي فيكون : مكروا يتضمن معنى عملوا ، والآخر أن يريد بالمكرات السيئات مكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ؛ فيكون المكر على بابه { أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ } يعني في أسفارهم { فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } أي بمفلتين حيث وقع { أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ } فيه وجهان أحدهما : أن معناه على تنقص أي ينتقص أموالهم وأنفسهم شيئاً بعد شيء ، حتى يهلكوا من غير أن يهلكهم جملة واحدة ، ولهذا أشار بقوله : { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } ، لأن الأخذ هكذا أخف من غيره ، وقد كان عمر بن الخطاب أشكل عليه معنى التخوف في الآية ، حتى قال له رجل من هذيل : التخوف التنقص في لغتنا ، والوجه الثاني : أنه من الخوف أي يهلك قوماً قبلهم فيتخرّفوا هو ذلك ، فيأخذهم بعد أن توقعوا العذاب وخافوه ، ذلك خلاف قوله : وهم لا يشعرون .
(1/837)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ } معنى الآية اعتبار بانتقال الظل ، ويعني بقوله : ما خلق الله من شيء : الأجرام التي لها ظلال من الجبال والشجر والحيوان وغير ذلك ، وذلك أن الشمس من وقت طلوعها إلى وقت الزوال يكون ظلها إلى جهة ، ومن الزوال إلى الليل إلى جهة أخرى ، ثم يمتدّ الظل ويعم بالليل إلى طلوع الشمس ، وقوله : يتفيؤ من الفيء وهو الظل الذي يرجع ، بعكس ما كان غدوة ، وقال رؤبة بن العجاج : يقال بعد الزوال ظل وفيء ، ولا يقال قبله إلا ظل ، ففي لفظه : يتفيؤ هنا تجوز ما لوقوع الخصوص في موضع العموم ، لأن المقصود الاعتبار من أول النهار إلى آخره ، فوضع يتفيؤ موضع ينتقل أو يميل ، والضمير في ظلاله يعود على ما أو على شيء { عَنِ اليمين والشمآئل } يعني عن الجانبين أي يرجع الظل من جانب إلى جانب ، واليمين بمعنى الأيمان والشمائل ، واستعار هنا الأيمان والشمائل للأجرام ، فإن اليمين والشمائل إنما هما في الحقيقة للإنسان { سُجَّداً لِلَّهِ } حال من الظلال ، وقال الزمخشري حال من الضمير في ظلاله ، إذ هو بمعنى الجمع لأنه يعود على قوله : { مِن شَيْءٍ } ، فعلى الأول يكون السجود من صفة الظلال ، وعلى الثاني يكون من صفة الأجرام ، واختلف في معنى هذا السجود فقيل عبر به عن الخضوع والانقياد ، وقيل هو سجود حقيقة { وَهُمْ دَاخِرُونَ } أي صاغرون وجمع بالواو [ والنون ] لأن الدخور من أوصاف العقلاء .
(1/838)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
{ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ } يحتمل أن يكون من دابة بيان لما في السموات وما في الأرض معاً ، لأن كل حيوان يصح أن يوصف بأنه يدب ، ويحتمل أن يكون بياناً لما في الأرض خاصة وإنما قال : ما في السموات وما في الأرض ليعم العقلاء وغيرهم ، ولو قال . من في السموات لم يدخل في ذلك غير العقلاء قال الزمخشري { والملائكة } إن كان قوله من دابة بياناً لما في السموات والأرض ، فقد دخل الملائكة في ذلك ، وكرر ذكرهم تخصيصاً لهم بالذكر وتشريفاً ، وإن كان من دابة لما في الأرض خاصة فلم تدخل الملائكة في ذلك فعطفهم على ما قبلهم { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ } هذا إخبار عن الملائكة ، وهو بيان نفي الاستكبار ، ويحتمل أن يريد فوقية القدرة والعظمة أو يكون من المشكلات التي يمسك عن تأويلها ، وقيل : معناه يخافون أن يرسل عليهم عذاباً من فوقهم .
(1/839)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
{ وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين } وصف الإلهين باثنين تأكيداً وبياناً للمعنى وقيل : إن اثنين مفعول أول وإلهين مفعول ثاني ، فلا يكون في الكلام تأكيد { فإياي فارهبون } خرج من الغيبة إلى التكلم ، لأن الغائب هو المتكلم ، وإياي مفعول بفعل مضمر ، ولا يعمل فيه فارهبون لأنه قد أخذ معموله .
(1/840)
وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
{ وَلَهُ الدين وَاصِباً } أي واجباً وثابتاً ، وقيل : دائماً ، وانتصابه على الحال من الدين .
(1/841)
وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله } يحتمل أن تكون الواو للاستئناف أو الحال ، فيكون الكلام متصلاً بما قبله : أي كيف تتقون غير الله ، وما بكم من نعمة فمنه وحده { فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } أي ترفعون أصواتكم بالاستغاثة والتضرع { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتيناهم } اللام لام الأمر على وجه التهديد لقوله بعد : فتمتعوا فسوف تعلمون ، فعلى هذا يبتدئ بها ، وقيل : هي لام يحتمل أن يريد به كفر النعم لقوله : بما آتيناهم ، أو كفر الجحود والشرك لقوله : بربهم يشركون { فَتَمَتَّعُواْ } يريد التمتع في الدنيا ، وذلك أمر على وجه التهديد .
(1/842)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
{ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمّا رزقناهم } الضمير في يجعلون لكفار العرب فإنهم كانوا يجعلون للأصنام نصيباً من ذبائحهم وغيرها ، والمراد بقوله لما لا يعلمون الأصنام ، والضمير في لا يعلمون للكفار أي لا يعلمون ربوبيتهم ببرهان ولا بحجة ، وقيل : الضمير في لا يعلمون للأصنام أي الأشياء غير عالمة وهذا بعيد { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات } إشارة إلى قول الكفار : إن الملائكة بنات الله ، ثم نزه تعالى نفسه عن ذلك بقوله : { سبحانه وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } المعنى أنهم يجعلون لأنفسهم ما يشتهون يعني بذلك الذكور من الأولاد ، وأما الإعراب فيجوز أن يكون ما يشتهون مبتدأ وخبره المجرور قبله ، وأن يكون مفعولاً بفعل مضمر تقديره : ويجعلون لأنفسهم ما يشتهون ، وأن يكون معطوفاً على البنات على أن هذا يمنعه البصريون ، لأنه من باب ضربتني وكان يلزم عندهم أن يقال لأنفسهم .
(1/843)
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
{ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } إخبار عن حال العرب في كراهتهم البنات ، وظل هنا يحتمل أن تكون على بابها ، أو بمعنى صار ، والسواد عبارة عن العبوس والغم ، وقد يكون معه سواد حقيقة ، وكظيم قد ذكر في [ يوسف : 84 ] { يتوارى مِنَ القوم } أي يستخفي من أجل سوء ما بشر به { أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب } المعنى يدبر وينظر هل يمسك الأنثى التي بشر بها على هوان وذل لها ، أو يدفنها في التراب حية ، وهي المؤودة ، وهذا معنى يدسه في التراب { مَثَلُ السوء } أي صفة السوء من الحاجة إلى الأولاد وغير ذلك من الافتقار والنقص { وَلِلَّهِ المثل الأعلى } أي الوصف الأعلى من الغنى عن كل شيء ، والنزاهة عن صفات المخلوقين .
(1/844)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61)
{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ } يعني لو يعاقبهم في الدنيا { بِظُلْمِهِمْ } أي بكفرهم ومعاصيهم { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا } الضمير للأرض { مِن دَآبَّةٍ } يعم بني آدم وغيرهم وهذا يقتضي أن تهلك الحيوانات بذنوب بني آدم ، وقد ورد ذلك في الأثر ، وقيل : يعني بني آدم خاصة .
(1/845)
وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
{ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } يعني البنات { أَنَّ لَهُمُ الحسنى } أي بدل من الكذب ، والحسنى هنا قيل : هي الجنة ، وقيل : ذكور الأولاد { وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } بكسر الراء والتخفيف من الإفراط : أي متجاوزون الحدّ في المعاصي ، أو بفتح الراء والتخفيف من الفرط أي معجلون إلى النار ، وبكسر الراء والتشديد من التفريط .
(1/846)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
{ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم } يحتمل أن يريد باليوم وقت نزول الآية أو يوم القيامة { وَهُدًى وَرَحْمَةً } معطوفان على موضع لنبين ، وانتصبا على أنهما مفعول من أجله : أي لأجل البيان والهدى والرحمة .
(1/847)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
{ نُّسْقِيكُمْ } بفتح النون وضمها لغتان ، يقال سقى وأسقى { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } الضمير للأنعام ، وإنما ذكر لأنه مفرد بمعنى الجمع كقوله : ثوب أخلاق لأنه اسم جنس ، وإذا أنث فهو جمع نعم { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ } الفرث هي ما في الكرش من الروث ، والمعنى أن الله يخلق اللبن متوسطاً بين الفرث والدم يكتنفانه ، ومع ذلك فلا يغيران له لوناً ولا طعماً ولا رائحة ، ومن في قوله من بين فرث لابتداء الغاية { سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } يعني سهلاً للشرب حتى قيل : لم يغص أحد باللبن { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب } المجرور يتعلق بفعل نسقيكم من ثمرات النخيل والأعناب أي من عصيرها ، ويدل عليه نسقيكم الأول أو يكون من ثمرات معطوف على مما في بطونها ، أو يتعلق من ثمرات بتتخذون ، وكرر منه توكيداً أو يكون تتخذون صفة لمحذوف تقديره : شيئاً تتخذون { سَكَراً } يعني الخمر ، ونزل ذلك قبل تحريمها فهي منسوخة بالتحريم ، وقيل إن هذا على وجه المنة بالمنفعة التي في الخمر ، ولا تعرض فيها لتحليل ولا تحريم ، فلا نسخ ، وقيل : السكر المائع من هاتين الشجرتين كالخل والرب . والرزق الحسن : العنب والتمر والزبيب .
(1/848)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
{ وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } الوحي هنا بمعنى الإلهام ، فإن الوحي على ثلاثة أنواع : وحي كلام ، ووحي منام ، ووحي إلهام { أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } أن مفسرة للوحي الذي أوحي إلى النحل ، وقد جعل الله بيوت النحل في هذه الثلاثة الأنواع إما في الجبال وكواها ، وإما في متجوف الأشجار وإما فيما يعرش بني آدم من الأجباح [ مفردها : جبح ] والحيطان ونحوها ، ومن المواضع الثلاثة للتبعيض لأن النحل إنما تتخذ بيوتاً في بعض الجبال ، وبعض الشجر ، وبعض الأماكن ، وعرش معناه هيأ أو بني ، وأكثر ما يستعمل فيما يكون من الأغصان والخشب { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات } عطف كلي على اتخذي ، ومن للتبعض ، وذلك إنها إنما تأكل النوار من الأشجار ، وقيل : المعنى من كل الثمرات التي تشتهيها { فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ } يعني الطرق من الطيران ، وأضافها إلى الرب لأنها ملكه وخلقه { ذُلُلاً } أي مطيعة منقادة ويحتمل أن يكون حالاً من السبل ، قال مجاهد : لم يتوعر قط على النحل طريق ، أو حالاً من النحل أي منقادة لما أمرها الله به { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ } يعني العسل { مُّخْتَلِفٌ ألوانه } أي منه أبيض وأصفر وأحمر { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } الضمير للعسل ، لأن أكثر الأدوية مستعملة من العسل ، كالمعاجين والأشربة النافعة من الأمراض ، وكان ابن عمر يتداوى به من كل شيء ، فكأنه أخذه على العموم . وعلى ذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً جاء إليه ، فقال : إن أخي يشتكي بطنه ، فقال اسقه عسلاً ، فذهب ثم رجع فقال : فقد سقيته فما نفع ، قال فاذهب فاسقه عسلاً فقد صدق الله وكذب بطن أخيك ، فسقاه فبرأ .
(1/849)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
{ إلى أَرْذَلِ العمر } أي إلى أخسه وأحقره ، وهو الهرم . وقيل : حدّه خمسة وسبعون عاماً ، وقيل : ثمانون ، والصحيح أنه لا يحصر إلى مدة معينة ، وأنه يختلف بحسب الناس { لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً } اللام لام الصيرورة أي يصير إذا هرم لا يعلم شيئاً بعد أن كان يعلم قبل الهرم ، وليس المراد نفي العلم بالكلية ، بل ذلك عبارة عن قلة العلم لغلبة النسيان ، وقيل : المعنى لئلا يعلم زيادة على علمه شيئاً .
(1/850)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
{ والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق } الآية في معناها قولان : أحدهما أنها احتجاج على الوحدانية ، وكأنه يقول أنتم لا تسوّون بين أنفسكم وبين مماليككم في الرزق ، ولا تجعلونهم شركاء لكم ، فكيف تجعلون عبيدي شركاء لي ، والآخر : أنها عتاب وذم لمن لا يحسن إلى مملوكه حتى يرد ما رزقه الله عليه كما جاء في الحديث : " أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون " والأول أرجح { أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ } الجحد هنا على المعنى الأول إشارة إلى الإشراك بالله ، وعبادة غيره ، وعلى المعنى الثاني إشارة إلى جنس المماليك فيما يجب لهم من الإنفاق .
(1/851)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)
{ والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أزواجا } يعني الزوجات ، ومن انفسكم يحتمل أن يريد من نوعكم وعلى خلقتكم ، أو يريد أن حواء خلقت من ضلع آدم ، وأسند ذلك إلى بني آدم لأنهم من ذرتيه { وَحَفَدَةً } جمع حافد قال ابن عباس : هم أولاد البنين ، وقيل : الأصهار وقيل الخدم ، وقيل : البنات إلا أن اللفظ المذكور لا يدل عليهم ، والحفدة في اللغة الخدمة { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } الآية : توبيخ للكفار ، وردّ عليهم في عبادتهم للأصنام ، وهي لا تملك لهم رزقاً ، وانتصب رزقاً لأنه مفعول بيملك ، ويحتمل أن يكون مصدراً أو اسماً لما يرزق ، فإن كان مصدراً فإعراب شيئاً مفعول به ، لأن المصدر ينصب المفعول ، وإن كان اسماً فإعراب شيئاً بدل منه { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } الضمير عائد على ما لأن المراد به الإلهية ، ونفي الاستطاعة بعد نفي الملك ، لأن نفيها أبلغ في الذم .
(1/852)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
{ ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً } الآية : مثل لله تعالى وللأصنام ، فالأصنام كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء ، والله تعالى له الملك ، وبيده الرزق ويتصرف فيه كيف يشاء ، فكيف يسوي بينه وبين الأصنام ، وإنما قال : لا يقدر على شيء ، لأن بعض يقدرون على بعض الأمور كالمكاتب والمأذون له { وَمَن رزقناه } من هنا نكرة موصوفة ، والمراد بها من هو حر قادر كأنه قال : حرّاً رزقناه ليطابق عبداً ، ويحتمل أن تكون موصولة { هَلْ يَسْتَوُونَ } أي هل يستوي العبيد والأحرار الذي ضرب لهم المثل { الحمد لِلَّهِ } شكراً لله على بيان هذا المثال ووضوح الحق { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } يعني الكفار .
(1/853)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
{ وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ } الآية : مثل لله تعالى وللأصنام كالذي قبله ، والمقصود منهما إبطال مذاهب المشركين ، وإثبات الوحدانية لله تعالى ، وقيل : إن الرجل الأبكم أبو جهل ، والذي يأمر بالعدل عمار بن ياسر ، والأظهر عدم التعيين { وَهُوَ كَلٌّ على مولاه } الكلّ : الثقيل يعني أنه عيال على وليه أو سيده ، وهو مثل للأصنام والذي يأمر بالعدل هو الله تعالى .
(1/854)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
{ وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } بيان لقدرة الله على إقامتها ، وأن ذلك يسير عليه كقوله : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحدة } [ لقمان : 28 ] وقيل : المراد سرعة إتيانها { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أمهاتكم } الأمهات جمع أم زيدت فيه الهاء فرقاً بين من يعقل ومن لا يعقل ، وقرئ بضم الهمزة وبكسرها إتباعاً للكسرة قبلها { فِي جَوِّ السمآء } أي في الهواء البعيد من الأرض { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً } السكن مصدر يوصف به ، وقيل : هو فعل بمعنى مفعول ومعناه ما يسكن فيه كالبيوت أو يسكن إليه { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً } يعني الأدم من القباب وغيرها { تَسْتَخِفُّونَهَا } أي تجدونها خفيفة { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ } يعني في السفر والحضر ، واليوم هنا بمعنى الوقت ويقال : ظعن الرجل إذا رحل ، وقرئ ظعنكم بفتح العين ، وإسكانها تخفيفاً { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ } الأصواف للغنم ، والأوبار للإبل ، والأشعار للمعز والبقر { أثاثا } الأثاث متاع البيت من البسط وغيرها ، وانتصابه على أنه مفعول بفعل مضمر تقديره جعل { وَمَتَاعاً إلى حِينٍ } أي إلى وقت غير معين ، ويحتمل أن يريد أن تبلى وتغنى أو إلى أن تموت .
(1/855)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
{ والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظلالا } أي نعمة عددها الله عليهم بالظل ، لأن الظل مطلوب في بلادهم محبوب لشدّة حرها ، ويعني بما خلق من الشجر وغيرها { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أكنانا } الأكنان جمع كن ، وهو ما يقي من المطر والريح وغير ذلك ، ويعني بذلك الغيران والبيوت المنحوتة في الجبال { وَجَعَلَ لَكُمْ سرابيل تَقِيكُمُ الحر } السرابيل هي الثياب من القمص وغيرها ، وذكر وقاية الحر ولم يذكر وقاية البرد ، لأن وقاية الحر عندهم لحرارة بلادهم ، وقيل : لأن ذكر أحدهما يغني عن ذكر الآخر { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } يعني دروع الحديد .
(1/856)
يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
{ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله } إشارة إلى ما ذكر من النعم من أول السورة إلى هنا والضمير في يعرفون للكفار ، وإنكارهم لنعم الله إشراكهم به وعبادة غيره ، وقيل نعمة الله نبوة محمد صلى الله عليه وسلم { وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً } أي يشهد عليهم بإيمانهم وكفرهم { ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي لا يؤذون لهم في الاعتذار { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } أي لا يسترضون ، وهو من العتب بمعنى الرضى { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } يحتمل أن يكون بمعنى التأخير أو بمعنى النظر : أي لا ينظر الله إليهم .
(1/857)
وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
{ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لكاذبون } الضمير في القول للمعبودين والمعنى أنهم كذبوهم في قولهم أنهم كانوا يعبدونهم ، كقولهم : { مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ } [ الشعراء : 75 ] فإن قيل : كيف كذبوهم وهم قد كانوا يعبدونهم؟ فالجواب أنهم لما كانوا غير راضين بعبادتهم ، فكأن عبادتهم لم تكن عبادة ، ويحتمل أن يكون تكذيبهم لهم في تسميتهم شركاء لله ، لا في العبادة { وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم } أي استسلموا له وانقادوا { زدناهم عَذَاباً فَوْقَ العذاب } رُوي أن الزيادة في العذاب هي حيات وعقارب كالبغال تلسعهم .
(1/858)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
{ إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } يعني بالعدل : فعل الواجبات ، وبالإحسان : المندوبات ، وذلك في حقوق الله تعالى وفي حقوق المخلوقين ، قال ابن مسعود : هذه أجمع آية في كتاب الله تعالى { وَإِيتَآءِ ذِي القربى } الإيتاء مصدر آتى بمعنى أعطى ، وقد دخل ذلك في العدل والإحسان ، ولكنه جرده بالذكر اهتماماً به { وينهى عَنِ الفحشاء } قيل : يعني الزنا ، واللفظ أعم من ذلك { والمنكر } هو أعم من الفحشاء ، لأنه يعم جميع المعاصي { والبغي } يعني الظلم .
(1/859)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
{ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان } هذا في الأيمان التي في الوفاء بها خير ، وأما ما كان تركه أولى ، فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير منه ، كما جاء في الحديث ، أو تكون الأيمان هنا ما يحلفه الإنسان في حق غيره ، أو معاهدة لغيره { وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } أي رقيباً ومتكفلاً بوفائكم بالعهد ، وقيل : إن هذه الآية نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : فيما كان بين العرب من حلف في الجاهلية { وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا } شبّه الله من يحلف ولم يفِ بيمينه بالمرأة التي تغزل غزلاً قوياً ثم تنقضه .
ورُوي أنه كان بمكة امرأة حمقاء تسمى ريطة بنت سعد ، كانت تفعل ذلك وبها وقع التشبيه ، وقيل إنما شبه بامرأة غير معينة { أنكاثا } جمع نكث ، وهو ما ينكث أن ينقض ، وانتصابه على الحال { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } الدخل الدغل ، وهو قصد الخديعة { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أربى مِنْ أُمَّةٍ } أن في موضع المفعول من أجله : أي بسبب أن تكون أمة ، ومعنى أربى : أكثر عدداً أو أقوى ، ونزلت الآية في العرب الذين كانت القبيلة منهم تحالف الأخرى ، فإذا جاءها قبيلة أقوى منها وغدرت بالأولى وحالفت الثانية ، وقيل : الإشارة بالأربى هنا إلى كفّار قريش؛ إذ كانوا حينئذٍ أكثر من المسلمين . { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ } الضمير للأمر بالوفاء ، أو لكون أمة أربى من أمة ، فإن ذلك يظهر من يحافظ على الوفاء أولاً .
(1/860)
وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)
{ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا } استعارة في الرجوع عن الخير إلى الشر ، وإنما أفرد القدم ونكّرها : لاستعظام الزلل في قدم واحدة فكيف في أقدام كثيرة { وَتَذُوقُواْ السواء } يعني في الدنيا { بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله } يدل على أن الآية فيمن بايع النبي صلى الله عليه وسلم { وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } يعني في الآخرة .
(1/861)
وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
[ البقرة : 41 ] الثمن القليل عرض الدنيا ، وهذا نهي لمن بايع النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكث ، لأجل ضعف الإسلام حينئذٍ وقوة الكفّار ، ورجاء الانتفاع في الدنيا إن رجع عن البيعة { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ } أي يفنى .
(1/862)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
{ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياوة طَيِّبَةً } يعني في الدنيا ، قال ابن عباس : هي الرزق الحلال ، وقيل : هي القناعة ، وقيل : هي حياة الآخرة { فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ بالله } ظاهراللفظ أن يستعاذ بعد القراءة ، لأن الفاء تقتضي الترتيب ، وقد شذ قوم فأخذوا بذلك ، وجمهور الأمة على أن الاستعاذة قبل القراءة ، وتأويل الآية : إذا أردت قراءة القرآن فاستعذ بالله { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سلطان على الذين آمَنُواْ } أي ليس له عليهم سبيل ولا يقدر على إضلالهم { إِنَّمَا سلطانه على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ } أي يتخذونه ولياً { والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } الضمير لإبليس ، والباء سببية .
(1/863)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
{ وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً } التبديل هنا النسخ ، كان الكفار إذا نسخت آية ، يقولون : هذا افتراء ولو كان من عند الله لم يبدل { والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } جملة اعتراض بين الشرط وجوابه . وفيها رد على الكفار أي الله أعلم بما يصلح للعباد في وقت ثم ما يصلح لهم بعد ذلك { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس } يعني جبريل { بالحق } أي مع الحق في أوامره ونواهيه وأخباره ، ويحتمل أن يكون قوله بالحق بمعنى حقاً أو بمعنى أنه واجب النزول .
(1/864)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
{ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ } كان بمكة غلام أعجمي أسمه يعيش ، وقيل : كانا غلامين اسم أحدهما جبر والآخر يسار ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجلس إليهما ويدعوهما إلى الإسلام ، فقالت قريش : هذان يعلمان محمداً { لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ } اللسان هنا بمعنى اللغة والكلام ، ويلحدون من ألحد إذا مال ، وقرئ بفتح الياء من لحد ، وهما بمعنى واحد ، وهذا ردّ عليهم فإن الشخص الذي أشاروا إليه يعلمه أعجمي اللسان؛ وهذا القرآن عربي في غاية الفصاحة فلا يمكن أن يأتي به أعجمي .
(1/865)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
{ إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله لاَ يَهْدِيهِمُ الله } هذا في حق من علم الله منه أنه لا يؤمن كقوله : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 96 ] ، فاللفظ عام يراد به الخصوص ، كقوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ ءَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة : 6 ] ، وقال ابن عطية : المعنى إن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بالله ، ولكنه قدم في هذا الترتيب وأخر ، تهكماً لتقبيح أفعالهم { إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بآيات الله } ردّ على قولهم : إنما أنت مفتر؛ يعني : إنما يليق الكذب بمن لا يؤمن لأنه لا يخاف الله ، وأما من يؤمن بالله فلا يكذب عليه { وأولئك هُمُ الكاذبون } الإشارة إلى الذين لا يؤمنون بالله : أي هم الذين عادتهم الكذب لأنهم لا يبالون بالوقوع في المعاصي ، ويحتمل أن يكون المنسوب إليهم قولهم إنما أنت مفتر .
(1/866)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
{ مَن كَفَرَ بالله } الآية : من شرطية في موضع رفع بالابتداء ، وكذلك من في قوله من شرح ، لأنه تخصيص من الأول ، وقوله : { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } : جواب على الأولى والثانية ، لأنهم بمعنى واحد أو يكون جواباً للثانية ، وجواب الأولى محذوف يدل عليه جواب الثانية ، وقيل : من كفر بدل من الذين لا يؤمنون أو من المبتدأ في قوله أولئك هم الكاذبون ، أو من الخبر { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } استثنى من قوله من كفر ، وذلك أن قوماً ارتدوا عن الإسلام ، فنزلت فيهم الآية ، وكان فيهم من أكره على الكفر فنطق بكلمة الكفر ، وهو يعتقد الإيمان منهم عمار بن ياسر ، وصهيب ، وبلال فعذرهم الله .
روي أن عمار بن ياسر شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع به من العذاب وما تسامح به من القول ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كيف تجد قلبك؟ قال أجده مطمئناً بالإيمان ، قال فأجبهم بلسانك ، فإنه لا يضرك " وهذا الحكم في من أكره بالنطق على الكفر ، وأما الإكراه على فعل هو كفر كالسجود للصنم فاختلف هل تجوز الإجابة إليه أم لا؟ فأجازه الجمهور ، ومنعه قوم وكذلك قال مالك : لا يلزم المكره يمين ولا طلاق ولا عتق ولا شيء فيما بينه وبين الله ، ويلزمه ما كان من حقوق الناس ، ولا تجوز الإجابة إليه كالإكراه على قتل أحد أو أخذ ماله .
(1/867)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
{ ذلك بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياوة الدنيا } الإشارة إلى العذاب ، والباء للتعليل ، فعلل عذابهم بعلتين : إحداهما إيثارهم الحياة الدنيا ، والأخرى أن الله لا يهديهم { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } قرأ الجمهور فتنوا بضم الفاء : أي عذبوا فالآية على هذا في عمار وشبهه من المعذبين على الإسلام ، قرأ ابن عامر بفتح الفاء : أي عذاب المسلمين ، فالآية على هذا فيمن عذّب المسلمين ، ثم هاجر وجاهد كالحضرمي وأشباهه .
{ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } كرر إن ربك توكيداً ، والضمير في بعدها يعود على الأفعال المذكورة وهي الجهاد والصبر .
(1/868)
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
{ يَوْمَ تَأْتِي } يحتمل أن يتعلق بغفور رحيم أو يمحذوف تقديره اذكر وهذا أظهر { كُلُّ نَفْسٍ } النفس هنا بمعنى الجملة كقولك : إنسان ، والنفس في قوله عن نفسها بمعنى الذات المعينة التي نقيضها الغير أي تجادل عن ذاتها لا عن غيرها كقولك : جاء نفسه وعينه { تجادل عَن نَّفْسِهَا } أي تحتج وتعتذر ، فإن قيل : كيف الجمع بين هذا وبين قوله { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 35-36 ] فالجواب أن الحال مختلف باختلاف المواطن والأشخاص .
(1/869)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
{ وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً } الآية ، قيل : إن القرية المذكورة مكة كانت بهذه الصفة التي ذكرها الله { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله } يعني بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فأصابهم الجدب والخوف من غزو النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : إنما قصد قرية غير معينة أصابها ذلك فضرب الله بها مثلاً لمكة ، وهذا أظهر ، لأن المراد وعظ أهل مكة بما جرى لغيرهم ، والضمير في قوله فكفرت وأذاقها : يراد بها أهل القرية بدليل قوله بما كانوا يصنعون { فأذاقها الله لِبَاسَ الجوع والخوف } الإذاقة هنا واللبس مستعاران ، أما الإذاقة فقد كثر استعمالها في البلايا ، حتى صارت كالحقيقة ، وأما اللباس فاستعير للجوع والخوف لاشتمالهما على اللباس ومباشرتهما له كمباشرة الثوب .
(1/870)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
{ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ } إن المراد بالقرية مكة ، فالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم والعذاب الذي أخذهم القحط وغيره ، وإن كانت القرية غير معينة ، فالرسول من المتقدمين كهود وشعيب وغيرهما ، والعذاب ما أصابهم من الهلاك { فَكُلُواْ } وما بعده مذكور في البقرة { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ } هذه الآية مخاطبة للعرب الذين احلوا أشياء وحرموا أشياء كالبحيرة وغيرها مما ذكر في سورة المائدة والنعام ، ثم يدخل فيها كل من قال : بدل من الكذب وما في قوله بما تصف موصولة ويجز أن ينتصب الكذب بقوله تصف وتكون ما على هذا مصدرية ويكون قوله هذا حلال وهذا حرام معمول لا تقولوا { مَتَاعٌ قَلِيلٌ } يعني عيشهم في الدنيا أو انتفاعهم بما فعلوه من التحليل والتحريم .
(1/871)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
{ وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } يعني قوله في [ الأنعام : 146 ] حرمنا كل ذي ظفر إلى آخر الآية ، فذكر ما حرم على المسلمين وما حرم على اليهود ، ليعلم أن تحريم ما عدا ذلك افتراء على الله كما فعلت العرب { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السواء بجهالة } هذه الآية تأنيس لجميع الناس وفتح باب التوبة .
(1/872)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } فيه وجهان : أحدهما أنه كان وحده أمة من الأمم بكماله وجمعه لصفات الخير كقول الشاعر :
فليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
والآخر : أن يكون أمة بمعنى إمام كقوله : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } [ البقرة : 124 ] قال ابن مسعود : والأمة معلم الناس الخير ، وقد ذكر معنى القانت والحنيف { وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا حَسَنَةً } يعني لسان الصدق ، وأن جميع الأمم متفقون عليه ، وقيل : يعني المال والأولاد { لَمِنَ الصالحين } أي من أهل الجنة { وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين } نفى عنه الشرك لقصد الرد على المشركين من العرب الذين كانوا ينتمون إليه .
(1/873)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
{ إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ } أمر موسى بني إسرائيل أن يجعلوا يوم الجمعة مختصاً للعبادة فرضي بعضهم بذلك ، وقال أكثرهم : بل يكون يوم السبت ، فألزمهم الله يوم السبت ، فاختلافهم فيه هو ما ذكر والسبت على هذا هو اليوم ، وقيل اختلافهم فيه : هو أن منهم من حرم الصيد فيه ، ومنهم من أحله ، فعاقبهم الله بالمسخ قردة ، فالمعنى : إنما جعل وبال السبت على الذين اختلفوا فيه ، والسبت على هذا مصدر من سبت إذا عظم يوم السبت ، قاله الزمخشري ، وتقتضي الآية أن السبت لم يكن من ملة إبراهيم عليه السلام { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة } المراد بالسبيل هنا : الإسلام ، والحكمة هي الكلام الذي يظهر صوابه ، والموعظة هي الترغيب والترهيب ، والجدال هو الردّ على المخالف ، وهذه الأشياء الثلاثة يسميها أهل العلوم العقلية بالبرهان والخطابة والجدال ، وهذا الآية تقتضي مهادنة نسخت بالسيف ، وقيل : إن الدعاء إلى الله بهذه الطريقة من التلطف والرفق غير منسوخ ، وإنما السيف لمن لا تنفعه هذه الملاطفة من الكفار : وأما العصاة فهي في حقهم محكمة إلى يوم القيامة باتفاق .
(1/874)
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } المعنى إن صنع بكم صنع سوء فافعلوا مثله ولا تزيدوا عليه ، والعقوبة في الحقيقة إنما هي الثانية ، وسميت الأولى عقوبة لمشاكلة اللفظ ، ويحتمل أن يكون عاقبتم بمعنى أصبتم عقبى : كقوله في الممتحنة فعاقبتم بمعنى غنمتم فيكون في الكلام تجنيس ، وقال الجمهور : إن الآية نزلت في شأن حمزة بن عبد المطلب لما بقر المشركون بطنه يوم أحد ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم ، فنزلت الآية فكفّر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه وترك ما أراد من المثلة ولا خلاف أن المثلة حرام ، وقد وردت الأحاديث بذلك؛ ويقتضي ذلك أنها مدنية ، ويحتمل أن تكون الآية عامة ، ويكون ذكرهم لحمزة على وجه المثال ، وتكون على هذا مكية كسائر السورة؛ واختلف العلماء فيمن ظلمه رجل في مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه ، فأجاز ذلك قوم لظاهر الآية ، ومنعه مالك لقوله صلى الله عليه وسلم : أدّ الأمانة إلى من إئتمنك ، ولا تخن من خانك { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ للصابرين } هذا ندب إلى الصبر وترك عقوبة من أساء إليك فإن العقوبة مباحة ، وتركها أفضل ، والضمير راجع للصبر ، ويحتمل أن يريد بالصابرين هنا العموم ، أو يراد به المخاطبون كأنه قال : خير لكم .
(1/875)
وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
{ واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله } هذا عزم على النبي صلى الله عليه وسلم في خاصته على الصبر ، ويروى انه قال لأصحابه أما أنا فأصبر كما أمرت ، فماذا تصنعون؟ قالوا نصبر كما ندبنا ثم أخبره أنه لا يصبر إلا بمعونة الله؛ وقد قيل إن ما في هذه الآية من الأمر بالصبر منسوخ بالسيف ، وهذا إن كان الصبر يراد به ترك القتال ، وأما إن كان الصبر يراد به ترك المثلة التي فعل مثلها بحمزة فذلك غير منسوخ { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي لا تتاسف لكفرهم { وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } أي لا يضق صدرك بمكرهم ، والضيق بفتح الضاد تخفيف من ضيق كميت وميت ، وقرئ بالكسر وهو مصدر ، ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدران { إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا } يريد أنه معهم بمعونته ونصره { والذين هُم مُّحْسِنُونَ } الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه وهذا هو الأظهر ، لأنه رتبه فوق التقوى .
(1/876)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
{ سبحان الذى أسرى بِعَبْدِهِ } معنى سبحان تنزه ، وهو مصدر غير منصرف ، وأسرى وسرى لغتان ، وهو فعل غير متعدّ ، واختار ابن عطية أن يكون أسرى هنا متعدياً أي أسرى الملائكة بعبده وهو بعيد ، والعبد هنا هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وإنما وصفه بالعبودية تشريفاً له وتقريباً { لَيْلاً } إن قيل : ما فائدة قوله ليلاً مع أن السرى هو بالليل؟ فالجواب : أنه أراد بقوله : ليلاً بلفظ التنكير تقليل مدّة الإسراء ، وأنه أسرى به في بعض الليل مسيرة أربعين ليلة ، وذلك أبلغ في الأعجوبة { مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا } يعني بالمسجد الحرام مسجد مكة المحيط بالكعبة ، وقد روي في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال : " بينما أنا نائم في الحجر إذ جاءني جبريل " وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء في بيته ، فالمسجد الحرام على هذا مكة أي بلد المسجد الحرام؛ وأما المسجد الأقصى فهو بيت المقدس الذي بإيلياء ، وسُمِّيَ الأقصى لأنه لم يكن وراءه حينئذ مسجد ، ويحتمل أن يريد بالأقصى الأبعد؛ فيكون المقصد إظهار العجب في الإسراء إلى هذا الموضع البعيد في ليلة ، واختلف العلماء في كيفية الإسراء ، فقال الجمهور : كان بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه ، وقال قوم : كان بروحه خاصة وكانت رؤيا نوم حق ، فحجة الجمهور؛ أنه لو كان مناماً لم تنكره قريش ، ولم يكن في ذلك ما يكذب به الكفار ، ألا ترى قول أم هانئ له : لا تخبر بذلك فيكذبك قومك ، وحجة من قال : أن الإسراء كان مناماً قوله تعالى : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك ، وإنما يقال الرؤيا في المنام ، ويقال فيما يرى بالعين رؤية ، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال : بينما أنا بين النائم واليقظان وذكر الإسراء ، وقال في آخر الحديث : فاستيقظت وأنا في المسجد الحرام ، وجمع بعض الناس بين الأدلة فقال : الإسراء كان مرتين : أحدهما بالجسد والآخر بالروح ، وأن الإسراء بالجسد كان من مكة إلى بيت المقدس ، وهو الذي أنكرته قريش ، وأن الإسراء بالروح كان إلى السموات السبع ، ليلة فرضت الصلوات الخمس ، ولقي الأنبياء في السموات { الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } صفة للمسجد الأقصى ، والبركة حوله بوجهين : أحدهما : ما كان فيه وفي نواحيه من الأنبياء ، والآخر : كثرة ما فيه من الزروع والأشجار التي خص الله بها الشام { لِنُرِيَهُ مِنْ آياتنآ } أي لنري محمداً صلى الله عليه وسلم تلك الليلة من العجائب ، فإنه رأى السموات والجنة والنار وسدرة المنتهى والملائكة والأنبياء ، وكلمه الله تعالى حسبما ورد في أحاديث الإسراء ، وهي في مصنفات الحديث فأغنى ذلك عن ذكرها هنا .
(1/877)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
{ وجعلناه هُدًى } يحتمل أن يعود الضمير على الكتاب أو على موسى { أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً } أي رباً تكلون إليه أمركم ، وأن يحتمل أن تكون مصدرية أو مفسرة { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } نداء ، وفي ندائهم بذلك تلطف وتذكير بنعمة الله ، وقيل : هي مفعول تتخذوا ، ويتعين معنى ذلك على قراءة من قرأ يتخذ بالياء ويعني بمن حملنا مع نوح أولاده الثلاثة وهم سام وحام ويافث ، ونساؤهم ، ومنهم تناسل الناس بعد الطوفان { إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } أي كثير الشكر كان يحمد الله على كل حال ، وهذا تعليل لما تقدم أي كونوا شاكرين كما كان أبوكم نوح .
(1/878)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
{ وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب } قيل : إن قضينا هنا بمعنى علمنا وأخبرنا ، كما قيل في { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر } [ الحجر : 66 ] ، والكتاب على هذا التوراة ، وقيل : قضينا إليه من القضاء والقدر ، والكتاب على هذا اللوح المحفوظ ، الذي كتبت فيه مقادير الأشياء ، وإلى بمعنى على { لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ } هذه الجملة بيان للمقضي ، وهي في وضع جواب قضينا إذا كان من القضاء والقدر ، لأنه جرى مجرى القسم ، وإن كان بمعنى أعلمنا فهو جواب قسم محذوف ، تقديره : والله لتفسدن ، والجملة في موضع معمول قضينا ، والمرتان المشار إليهما؛ إحداهما : قتل زكريا والأخرى قتل يحيىعليهما السلام { وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً } من العلو وهو الكبر والتخيل { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أولاهما بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ } معناه أنهم إذا أفسدوا في المرة الأولى بعث الله عليهم عباداً له لينتقم منهم على أيديهم ، واختلف في هؤلاء العبيد فقيل : جالوت وجنوده وقتل بختنصر ملك بابل { فَجَاسُواْ خلال الديار } أي ترددوا بينهما بالفساد ، وروي أنهم قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة . وخربوا المساجد وسبوا منهم سبعين ألفاً { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ } أي الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليكم ، ويعني رجوع الملك إلى بني إسرائيل ، واستنقاذ أسراهم ، وقبل بختنصر ، وقيل : قتل داود لجالوت { أَكْثَرَ نَفِيراً } أي أكثر عدداً ، وهو مصدر من قولك : نفر الرجل إذا خرج مسرعاً ، أو جمع نفر .
(1/879)
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
{ إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ } أحسنتم الأول بمعنى الحسنات ، والثاني : بمعنى الإحسان كقولك : أحسنت إلى فلان ، ففيه تجنيس ، واللام فيه بمعنى إلى ، وكذلك اللام في قوله : وإن سألتم فلها { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } يعني إذا أفسدوا في المرة الأخيرة ، بعث الله عليهم أولئك العباد للانتقام منهم ، فالآخرة صفة للمرة ، ومعنى يسوؤا : يجعلونها تظهر فيها آثار الشر والسوء كقوله : سيئت وجوه الذين كفروا ، واللام لام كي وهي تتعلق ببعثنا المحذوف لدلالة الأول عليه ، وقيل : هي لام الأمر { وَلِيَدْخُلُواْ المسجد } يعني بيت المقدس { وَلِيُتَبِّرُواْ } من التبار ، وهو الإهلاك وشدّة الفساد { مَا عَلَوْاْ } ما مفعول ليتبروا : أي يهلكوا ما غلبوا عليه من البلاد ، وقيل إن ما ظرفية أي يفسدوا مدة علوهم .
(1/880)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
{ عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ } خطاب لبني إسرائيل ومعناه ترجية لهم بالرحمة إن تابوا بعد الرحمة الثانية { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } خطاب لبني إسرائيل : أي إن عدتم إلى الفساد عدنا إلى عقابكم ، وقد عادوا فبعث الله عليهم محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته يقتلونهم ويذلونهم إلى يوم القيامة . { حَصِيراً } أي سجناً وهو من الحصر ، وقيل : أراد به ما يفرش ويبسط كالحصير المعروف .
(1/881)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
{ يَِهْدِى لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } أي الطريقة والحالة التي هي أقوم ، وقيل : يعني لا إله إلا الله ، واللفظ أعم من ذلك { وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير } المعنى ذم ، وعتاب لما يفعله الناس عند الغضب من الدعاء على أنفسهم وأموالهم وأولادهم ، وأنهم يدعون بالشر في ذلك الوقت كما يدعون بالخير وفي وقت التثبت ، وقيل : إن الآية نزلت في النضر بن الحارث حين قال : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ } [ الأنفال : 32 ] الآية ، وقد تقدم أن الصحيح في قائلها أنه أبو جهل { وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } الإنسان هنا وفي الذي قبله اسم جنس ، وقيل : يعني هنا آدم وهو بعيد .
(1/882)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
{ فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل } فيه وجهان : أحدهما : أن يراد أن الليل والنهار آيتان في أنفسهما ، فتكون الإضافة في آية الليل وآية النهار كقولك : مسجد الجامع أي الآية التي هي الليل ، والآية التي هي النهار ومحو آية الليل على هذا كونه مظلماً . والوجه الثاني : أن يراد بآية الليل القمر ، وآية النهار الشمس ، ومحو آية الليل على هذا كون القمر لم يجعل له ضوء الشمس { وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً } يحتمل أن يريد النهار بنفسه أو الشمس ، ومعنى مبصرة تبصر فيها الأشياء { لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } أي لتتوصلوا بضوء النهار إلى التصرف في معايشكم { وَلِتَعْلَمُواْ } باختلاف الليل والنهار أو بمسير الشمس والقمر { عَدَدَ السنين والحساب } الأشهر والأيام { وَكُلَّ شَيْءٍ فصلناه تَفْصِيلاً } انتصب كل بفعل مضمر ، والتفصيل البيان .
(1/883)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
{ وَكُلَّ إنسان ألزمناه طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } انتصب كل بفعل مضمر ، والطائر هنا العمل ، والمعنى أن عمله لازم له ، وقيل : إن طائره ما قدر عليه ، وله من خير وشر ، والمعنى على هذا؛ أن كل ما يلقى الإنسان قد سبق به القضاء ، وإنما عبر عن ذلك بالطائر ، لأن العرب كانت عادتها التيمن والتشاءم بالطير ، وقوله في عنقه أي : هو كالقلادة أو الغل لا ينفك عنه { كتابا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } يعني صحيفة أعماله بالحسنات والسيئات { اقرأ كتابك } تقديره يقال له : إقرأ { حَسِيباً } أي محاسباً أو من الحساب بمعنى العدد .
(1/884)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } معناه حيث وقع لا يؤاخذ أحد بذنب أحد ، والوزر في اللغة الثقل والحمل ، ويراد به هنا الذنوب ، ومعنى تزر تحمل وزر أخرى : أي وزر نفس أخرى { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } قيل : إن هذا في حكم الدنيا ، أي أن الله لا يهلك أمة إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال رسول إليهم ، وقيل : هو عام في الدنيا والآخرة ، وأن الله لا يعذب قوماً في الآخرة إلا وقد أرسل إليهم رسولاً فكفروا به وعصوه ، ويدل على هذا قوله : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ بلى } [ تبارك : 8-9 ] ومن هذا يؤخذ حكم أهل الفترات ، واستدل أهل السنة بهذه الآية على أن التكليف لا يلزم العباد إلا من الشرع ، لا من مجرد العقل .
(1/885)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
{ وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } في تأويل أمرنا هنا ثلاثة أوجه : أحدهما : أن يكون في الكلام حذف تقديره : أمرنا مترفيها بالخير والطاعة فعصوا وفسقوا ، والثاني : أن يكون أمرنا عبارة عن القضاء عليهم بالفسق أي قضينا عليهم ففسقوا ، والثالث : أن يكون أمرنا بمعنى كثرنا واختاره أبو علي الفارسي ، وأما على قراءة آمرنا بمدُّ الهمزة فهو بمعنى كثرنا ، وأما على قراءة أمّرنا بتشديد الميم ، فهو من الإمارة أي جعلناهم أمراء ففسقوا ، والمترف : الغني المنعّم في الدنيا { فَحَقَّ عَلَيْهَا القول } أي القضاء الذي قضاه الله { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون } القرن مائة سنة ، وقيل أربعون .
(1/886)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
{ مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة } الآية : في الكفار الذين يريدون الدنيا ، ولا يؤمنون بالآخرة ، على أن لفظها أعم من ذلك ، والمعنى أنهم يعجل الله لهم حظاً من الدنيا بقيدين : أحدهما تقييد المقدار المعجل بمشيئة الله ، والآخر : تقييد الشخص المعجل له بإرادة الله ، ولمن نريد بدل من له ، وهو بدل بعض من كل { مَّدْحُوراً } أي مبعداً أو مهاناً { وسعى لَهَا سَعْيَهَا } أي عمل لها عملها { كُلاًّ نُّمِدُّ } انتصب كلاً بنمد وهو من المدد ومعناه : نزيدهم من عطائنا { هؤلاء وهؤلاء } بدل من كلاً ، والإشارة إلى الفريقين المتقدمين { مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ } يعني رزق الدنيا ، وقيل : من الطاعات لمن أراد الآخرة ، ومن المعاصي لمن اراد الدنيا ، والأول أظهر { مَحْظُوراً } أي ممنوعا { فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ } يعني في رزق الدنيا { لاَّ تَجْعَل } خطاب لواحد ، والمراد به جميع الخلق ، لأن المخاطب غير معين { مَذْمُوماً } أي يذمه الله وخيار عباده { مَّخْذُولاً } أي غير منصور .
(1/887)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
{ وقضى رَبُّكَ } أي حكم وألزم وأوجب ، أو أمر ويدل على ذلك ما في مصحف ابن مسعود : " ووصى ربك " { أَلاَّ تعبدوا } أن مفسرة أو مصدرية على تقدير : بأن لا تعبدوا { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ } هي إن الشرطية دخلت عليها ما المؤكدة وجوابها فلا تقل لهما أف ، والمعنى الوصية ببر الوالدين إذا كبرا أو كبر أحدهما وإنما خص حاله الكبر؛ لأنهما حينئذ أحوج إلى البر والقيام بحقوقهما ، لضعفهما ومعنى عندك : أي في بيتك وتحت كنفك { أُفٍّ } حيث وقعت اسم فعل ، معناها قول مكروه ، يقال عند الضجر ونحوه ، وإنما المراد بها أقل كلمة مكروهة تصدر من الإنسان ، فنهى الله تعالى أن يقال ذلك للوالدين ، فأولى وأحرى ألا يقال لهما ما فوق ذلك ، ويجوز في أفّ الكسر والفتح والضم ، وهي حركات بناء ، وأما تنوينها فهو للتنكير { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } من الانتهار وهو الإغلاظ في القول { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة } استعارة في معنى التواضع لهما والرفق بهما ، فهو كقوله { واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ الحجر : 88 ] وأضافه إلى الذل مبالغة في المعنى كأنه قال : الجناح الذليل ، ومن في قوله من الرحمة للتعليل أي من أجل إفراط الرحمة لهما والشفقة عليهما { لِلأَوَّابِينَ } قيل : معناه الصالحين ، وقيل : المسبّحين ، وهو مشتق من الأية بمعنى الرجوع ، فحقيقته الراجعين إلى الله .
(1/888)
وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
{ وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ } خطاب لجميع الناس لصلة قرابتهم والإحسان إليهم ، وقيل : وهو خطاب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يعطي قرابته حقهم من بيت المال ، والأول أرجح { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ } الآية : معناه إن أعرضت عن ذوي القربى والمساكين وابن السبيل إذا لم تجد ما تعطيهم ، فقل لهما كلاماً حسناً ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سأله أحد فلم يكن عنده ما يعطيه أعرض عنه ، حياء منه ، فأمر بحسن القول مع ذلك وهو أن يقول : رزقكم الله وأعطاكم الله وشبه ذلك ، والميسور مشتق من اليسر { ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا } مفعول من أجله ، يحتمل أن يتعلق بقوله : { وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ } والمعنى على هذا : أنه يعرض عنهم انتظاراً لرزق يأتيه ، فيعطيه إياهم ، فالرحمة على هذا هو ما يرتجيه من الرزق أو يتعلق بقوله : { فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً } أي ابتغ رحمة ربك بقول ميسور ، والرحمة على هذا هي : الأجر والثواب .
(1/889)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
{ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ } استعارة في معنى غاية البخل؛ كأن البخيل حبست يده عن الإعطاء ، وشدت إلى عنقه { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } استعارة في معنى غاية الجود ، فنهى الله عن الطرفين : وأمر بالتوسط بينهما : كقوله : { إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } [ الفرقان : 67 ] { مَلُوماً } أي يلومك صديقك على كثرة عطائك وإضرارك بنفسك ، أو يلومك من يستحق العطاء؛ لأنك لم تترك ما تعطيه ، أو يلومك سائر الناس على التبذير في العطاء { مَّحْسُوراً } أي منقطعاً لا شيء عندك ، وهو من قولهم : حسر السفر البعير إذا أتعبه حتى لم تبق له قوة { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } أي يوسع على من يشاء ، ويضيق على من يشاء فلا تهتم بما تراه من ذلك ، فإن الله أعلم بمصالح عباده .
(1/890)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
{ وَلاَ تقتلوا أولادكم } ذكر في الأنعام [ الأنعام : 151 ] { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق } الحق الموجب لقتل النفس هو ما ورد في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان ، أو قتل نفس أخرى " ، وتتصل بهذه الأشياء أشياء أخر؛ لأنها في معناها كالحرابة وترك الصلاة ومنع الزكاة { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } المظلوم هنا من قتل بغير حق ، والولي هو ولي المقتول وسائر العصبة ، وليس النساء من الأولياء عند مالك ، والسلطان الذي جعل الله له هو : القصاص ، بأن يقتل غير قاتل وليه ، أو يقتل اثنين بواحد وغير ذلك من وجوه التعدي ، وقرئ فلا تسرف بالتاء خطاباً للقاتل ، أو لوليّ المقتول { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } الضمير للمقتول أو لوليه ، ونصره هو القصاص .
(1/891)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
{ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم } ذكر في [ الأنعام : 152 ] قال بعضهم : لا تقربوا ولا تقتلوا معطوفان على ألا تعبدوا ، والظاهر أنهما مجزومان بالنهي بدليل قوله بعدها : ولا تقفُ ولا تمشِ ، ويصح أن تكون معطوفات على إذا جعلنا ألا تعبدوا مجزوماً على النهي وأن مفسرة { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } عام في العهود مع الله ومع الناس { إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً } يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون معنى الطلب : أي يطلب الوفاء به والثاني : أن يكون المعنى يسأل عنه يوم القيامة ، هل وفي به أم لا { وَزِنُواْ بالقسطاس } قيل : القسطاس الميزان ، وقيل : العدل وقرئ بكسر القاف وهي لغة { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } أي أحسن عاقبة ومآلاً ، وهو من آل إذا رجع .
(1/892)
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } المعنى لا تقل ما لا تعلم من ذم الناس وشبه ذلك ، واللفظ مشتق من قفوته إذا اتبعته { إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } أولئك إشارة إلى السمع والبصر والفؤادُ وإنما عاملها معاملة العقلاء في الإشارة بأولئك ، لأنها حواس لها إدراك ، والضمير في عنه يعود على كل ويتعلق عنه بمسؤولاً ، والمعنى إن الإنسان يسأل عن سمعه وبصره وفؤاده ، وقيل : الضمير يعود على ما ليس به علم ، والمعنى على هذا أن السمع والبصر والفؤاد هي التي تسأل عما ليس لها بها علم وهذا بعيد .
(1/893)
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
{ وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً } المرح الخيلاء والكبر في المشية ، وقيل : هو إفراط السرور بالدنيا وإعرابه مصدر في موضع الحال { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض } أي لن تجعل فيها خرقاً بمشيك عليها ، والخرق هو : القطع ، وقيل : معناه لا تقدر أن تستوفي جميعها بالمشي ، والمراد بذلك تعليل النهي عن الكبر والخيلاء ، أي إذا كنت أيها الإنسان لا تقدر على خرق الأرض ، ولا على مطاولة الجبال ، فكيف تتكبر وتختال في مشيك ، وإنما الواجب عليك التواضع .
(1/894)
كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
{ كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً } الإشارة إلى ما تقدم من المنهيات والمكروه هنا بمعنى : الحرام ، لا على اصطلاح الفقهاء في أن المكروه دون الحرام ، وإعراب مكروهاً نعت لسيئة أو بدل منها ، أو خبر ثان لكان .
(1/895)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
{ أفأصفاكم رَبُّكُم بالبنين } خطاب على وجه التوبيخ للعرب الذين قالوا : إن الملائكة بنات الله ، والمعنى : كيف يجعل لكم الأعلى من النسل وهو الذكور ، ويتخذ لنفسه الأدنى وهو البنات ومعنى أصفاكم : خصكم { قَوْلاً عَظِيماً } أي عظيم النكر والشناعة .
(1/896)
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)
{ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً } هذا احتجاج على الوحدانية ، وفي معناه قولان : أحدهما : أن المعنى لو كان مع الله آلهة لابتغوا سبيلاً إلى التقرب إليه بعبادته وطاعته ، فيكون من جملة عباده ، والآخر : لابتغوا سبيلاً إلى إفساد ملكه ومعاندته في قدرته ، ومعلوم أن ذلك لم يكن فلا إله إلا هو .
(1/897)
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
{ تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض } الآية : اختلف في كيفية هذا التسبيح فقيل : هو تسبيح بلسان الحال أي بما تدل عليه صنعتها من قدرة وحكمة ، وقيل : إنه تسبيح حقيقة وهذا أرجح لقوله : لا تفقهون تسبيحهم { جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً } في معناه قولان : أحدهما : أن الله أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يستره من الكفار إذا أرادوا به شراً ، ويحجبه منهم ، والآخر : أنه يحجب الكفار عن فهم القرآن ، وهذا أرجح لما بعده ، والمستور هنا قيل : معناه مستور عن أعين الخلق ، لأنه من لطف الله وكفايته فهو من المغيبات ، وقيل : معناه ساتر .
(1/898)
وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
{ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } جمع كنان وهو الغطاء ، وأن يفقهوه مفعول من أجله تقديره : كراهة أن يفقهوه ، وهذه استعارات في إضلالهم .
{ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ } معناه إذا ذكرت في القرآن وحدانية الله تعالى فرّ المشركون من ذلك ، لما فيه من رفض آلهتهم وذمها . نفوراً مصدر في موضع الحال { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ } كانوا يستمعون القرآن على وجه الاستهزاء ، والضمير في به عائد على ما : أن نعلم ما يستعمون به من الاستهزاء { وَإِذْ هُمْ نجوى } جماعة يتناجون أو ذو نجوى ، والنجوى كلام السر { رَجُلاً مَّسْحُوراً } قيل : معناه جنّ فسحر وقيل : معناه ساحر ، وقيل هو من السّحر بفتح السين وهي الرئة : أي بشر إذا سحر مثلكم وهذا بعيد .
(1/899)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48) وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)
{ انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال } أي مثلوك بالساحر ، والشاعر ، والمجنون { فَضَلُّواْ } عن الحق { فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } إلى الهدى؛ ونزلت الآية في الوليد بن المغيرة ، وأصحابه من الكفار { وقالوا أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً } الآية معناها إنكار للبعث ، واستبعادهم أن يخلقهم الله خلقاً جديداً بعد فنائهم ، والرفات الذي بلي حتى صار غباراً أو فتاتاً ، وقد ذكر في سورة [ الرعد : 5 ] اختلاف القراء في الاستفهامين { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } المعنى لو كنتم حجارة أو حديداً لقدرنا على بعثكم وإحيائكم ، مع أن الحجارة والحديد أصلب الأشياء وأبعدها عن الرطوبة التي في الحياة ، فأولى وأحرى أن يبعث أجسادكم ويحيي عظامكم البالية ، فذكر الحجارة والحديد تنبيهاً بهما على ما هو أسهل في الحياة منهما ، ومعنى قوله : كونوا أي كونوا في الوهم والتقدير ، وليس المراد به التعجيز كما قال بعضهم في ذلك { أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } قيل : يعني السموات والأرض والجبال ، وقيل : بل أحال على فكرتهم عموماً في كل ما هو كبير عندهم : أي لو كنتم حجارة أو حديداً أو شيئاً أكبر عندكم من ذلك وأبعد عن الحياة لقدرنا على بعثكم { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ } أي يحركونها تحريك المستبعد للشيء والمستهزئ { وَيَقُولُونَ متى هُوَ } أي متى يكون البعث .
(1/900)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
{ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } الدعاء هنا عبارة عن البعث بالنفخ في الصور ، والاستجابة عبارة عن قيامهم من القبور طائعين منقادين ، وبحمده في موضع الحال أي حامدين له ، وقيل : معنى بحمده بأمره { وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } يعني لبثتم في الدنيا أو في القبور .
(1/901)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
{ وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ التي هِيَ أَحْسَنُ } العباد هنا المؤمنون أمرهم أن يقول بعضهم لبعض كلاماً ليناً عجيباً ، وقيل : أن يقولوه للمشركين ، ثم نسخ بالسيف ، وإعراب يقولوا كقوله : { يُقِيمُواْ الصلاوة } في سورة [ إبراهيم : 31 ] وقد ذكر ذلك .
(1/902)
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
{ قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ } قيل : يعني الملائكة ، وقيل : عيسى وأمه وعزير ، وقيل : نفر من الجن كان العرب يعبدونهم ، والمعنى أنهم لا يقدرون على كشف الضرّ عنكم ، فكيف تعبدونهم؟ { أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة } المعنى أن أولئك الآلهة الذين تدعون من دون الله يبتغون القربة إلى الله ، ويرجونه ، ويخافونه ، فكيف تعبدونهم معه؟ وإعراب أولئك مبتدأ الذين تدعون صفة له ويبتغون خبره ، والفاعل في يدعون ضمير للكفار ، وفي يبتغون للآلهة المعبودين وقيل : إن الضمير في يدعون ويبتغون للأنبياء المذكورين قبل في قوله : { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ } ، والوسيلة هي ما يتوسل به ويتقرب { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } بدل من الضمير في يبتغون أي يبتغي الوسيلة من هو أقرب منهم ، فكيف بغيره؛ أو ضمّن معنى يحرصون فكأنه قيل : يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله بالاجتهاد في طاعته ، ويحتمل أن يكون المعنى أنهم يتوسلون بأيهم أقرب { مَحْذُوراً } من الحذر وهو الخوف .
(1/903)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
{ وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة } يحتمل هذا الكلام وجهين : أحدهما أن يكون بالموت والفناء الذي لا بد منه ، والآخر : أن يكون بأمر من الله يأخذ المدينة دفعة فيهلكها ، وهذا أظهر ، لأن الأول معلوم لا يفتقر إلى الإخبار به ، والهلاك والتعذيب المذكوران في الآية هما في الحقيقة لأهل القرى أي مهلكو أهلها أو معذبوهم ، وروي أن هلاك مكة بالحبشة ، والمدينة بالجوع ، والكوفة بالترك ، والأندلس بالخيل ، وسئل الأستاذ أبو جعفر بن الزبير عن غرناطة ، فقال : أصابها العذاب يومَ قتل الموحدين بها في ثورة ابن هود ، وأما هلاك قرطبة وأشبيلية وطليطلة وغيرها بأخذ الروم لها { فِي الكتاب مَسْطُوراً } يعني اللوح المحفوظ .
(1/904)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
{ وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون } الآيات يراد بها هنا التي يقترحها الكفار فإذا رأوها ولم يؤمنوا أهلكم الله . وسبب الآية أن قريشاً اقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً ، فأخبر الله أنه لم يفعل ذلك لئلا يكذبوا فيهلكوا ، وعبر بالمنع عن تارك ذلك ، وأن نرسل في موضع نصب وأن كذب في موضع رفع ، ثم ذكر ناقة ثمود تنبيهاً على ذلك لأنهم اقترحوها وكانت سبب هلاكهم ، ومعنى مبصرة : بينة واضحة الدلالة { وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً } إن أراد بالآيات هنا المقترحة فالمعنى أنه يرسل بها تخويفاً من العذاب العاجل وهو الإهلاك ، وإن أراد المعجزات غير المقترحة فالمعنى أنه يرسل بها تخويفاً من عذاب الآخرة ، ليراها الكافر فيؤمن ، وقيل : المراد بالآيات هنا الرعد والزلازل والكسوف وغير ذلك من المخاوف .
(1/905)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
{ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس } المعنى اذكر إذ أوحينا إليك أن ربك أحاط بقريش يعني بشرناك بقتلهم يوم بدر وذلك قوله : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] ، وإنما قال : أحاط بلفظ الماضي وهو لم يقع لتحقيقه وصحة وقوعه بعد ، وقيل : المعنى أحاط بالناس في منعك وحمايتك منهم كقوله : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } [ المائدة : 67 ] { وَمَا جَعَلْنَا الرءيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } اختلف في هذه الرؤيا فقيل : إنها الإسراء ، فمن قال إنه كان في اليقظة ، فالرؤيا بمعنى الرؤية بالعين ، ومن قال إنه كان في المنام فالرؤيا منامية ، والفتنة على هذا تكذيب الكفار بذلك وارتداد بعض المسلمين حينئذ ، وقيل : إنها رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في منامه هزيمة الكفار وقتلهم ببدر والفتنة على هذا تكذيب قريش بذلك؛ وقيل : إنه رأى في المنام أنه يدخل مكة فعجل في سنة الحديبية فرد عنها فافتتن بعض المسليمن بذلك؛ وقيل : رأى في المنام أن بني أمية يصعدون على منبره فاغتم بذلك { والشجرة الملعونة فِي القرآن } يعني شجرة الزقوم ، وهي معطوفة على الرؤيا أي جعل الرؤيا والشجرة فتنة للناس ، وذلك أن قريشاً لما سمعوا أن في جهنم شجرة زقوم سخروا من ذلك وقالوا : كيف تكون شجرة في النار والنار تحرق الشجر؟ وقال أبو جهل : ما أعرف الزقوم إلا التمر بالزبد ، فإن قيل : لم لعنت شجرة الزقوم في القرآن؟ فالجواب أن المراد لعنة آكلها ، وقيل : اللعنة بمعنى الإبعاد لأنها في أصل الجحيم { وَنُخَوِّفُهُمْ } الضمير لكفار قريش { طغيانا } تمييز أو حال من من أو من مفعول خلقت .
(1/906)
قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)
{ قَالَ أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ } الكاف من أرأيتك للخطاب ، لا موضع لها من الإعراب ، وهذا مفعول بأرأيت ، والمعنى؛ أخبرني عن هذا الذي كرمته علي أي فضلته وأنا خير منه ، فاختصر الكلام بحذف ذلك ، وقال ابن عطية : أرأيتك هذا بمعنى : أتأملت ونحوه لا بمعنى أخبرني { لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ } معناه لأستولين عليهم ولأقودنهم ، وهو مأخوذ من تحنيك الدابة ، وهو أن يشدّ على حنكها بحبل فتنقاد { قَالَ اذهب } قال ابن عطية ، وما بعده من الأوامر : صيغة أمر على وجه التهديد ، وقال الزمخشري : ليس المراد الذهاب الذي هو ضدّ المجيء ، وإنما معناه : امض لشأنك الذي اخترته خذلاناً له وتخلية ، ويحتمل عندي : أن يكون معناه للطرد والإبعاد { فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ } كان الأصل أن يقال جزاؤهم بضمير الغيبة ، ليرجع إلى من اتبعك ، ولكنه ذكره بلفظ المخاطب تغليباً للمخاطب على الغائب ، وليدخل إبليس معهم { جَزَاءً مَّوْفُوراً } مصدر في موضع الحال والموفور المكمل .
(1/907)
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
{ واستفزز } أي اخدع واستخف { بِصَوْتِكَ } قيل : يعني الغناء والمزامير ، وقيل : الدعاء إلى المعاصي { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم } أي هوّل ، وهو من الجلبة وهي الصياح { بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } الخيل هنا يراد بها الفرسان الراكبون على خيل ، والرجل : جمع راجل وهو الذي يمشي على رجليه فقيل : هو مجاز واستعارة بمعنى : افعل جهدك ، وقيل : إن له من الشيطان خيلاً ورجلاً ، وقيل : المراد فرسان الناس ورجالتهم المتصرفون في الشر { وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد } مشاركته في الأموال بكسبها من الربا ، وإنفاقها في المعاصي وغير ذلك ، ومشاركته في الأولاد هي بالاستيلاد بالزنا وتسمية الولد عبد شمس وعبد الحارث وشبه ذلك { وَعِدْهُمْ } يعني : المواعدة الكاذبة من شفاعة الأصنام وشبه ذلك .
(1/908)
إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
{ إِنَّ عِبَادِي } يعني المؤمنين الذين يتوكلون على الله بدليل قوله بعد ذلك : وكفى بربك وكيلاً ونحوه : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سلطان على الذين آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ النحل : 99 ] .
(1/909)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)
{ يُزْجِي لَكُمُ الفلك } أي يجريها ويسيرها والفلك هنا جمع ، وابتغاء الفضل في التجارة وغيرها { الضر فِي البحر } يعني خوف الغرق { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } ضل هنا بمعنى تلف وفقد : أي تلف عن أوهامكم وخواطركم كل من تدعونه إلا الله وحده ، فلجأتم إليه حينئذ دون غيره . فكيف تعبدون غيره وأنتم لا تجدون في تلك الشدة إلا إياه { وَكَانَ الإنسان كَفُوراً } أي كفوراً بالنعم ، والإنسان هنا جنس .
(1/910)
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
{ أَفَأَمِنْتُمْ } الهمزة للتوبيخ والفاء للعطف أي أنجوتم من البحر فأمنتم الخسف في البر { حَاصِباً } يعني حجارة أو ريحا شديدة ترمي بالحصباء { وَكِيلاً } أي قائماً بأموركم وناصراً لكم { قَاصِفاً مِّنَ الريح } أي الذي يقصف ما يلقى أي يكسره { تَبِيعاً } أي مطالباً يطالبنا بما فعلنا بكم : أي لا تجدون من ينصركم منا كقوله { وَلاَ يَخَافُ عقباها } [ الشمس : 15 ] { وفضلناهم على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } يعني فضلهم على الجن وعلى سائر الحيوان ، ولم يفضلهم على الملائكة ، ولذلك قال : على كثير وأنواع التفضيل كثيرة لا تحصى : وقد ذكر المفسرون منها كون الإنسان يأكل بيده ، وكونه منتصب القامة ، وهذه أمثلة .
(1/911)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
{ بإمامهم } قيل : يعني بنبيهم ، يقال : يا أمة فلان ، وقيل : يعني كتابهم الذي أنزل عليهم ، وقيل : كتابهم الذي فيه أعمالهم { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } الفتيل هو الخيط الذي في شق نواة التمرة ، والمعنى أنهم لا يظلمون من أعمالهم قليلاً ولا كثيراً ، فعبر بأقل الأشياء تنبيهاً على الأكثر .
(1/912)
وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
{ وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى } الإشارة بهذه إلى الدنيا ، والعمى يراد به عمى القلب : أي من كان في الدنيا أعمى عن الهدى ، والصواب فهو في يوم القيامة أعمى : أي حيران يائس من الخير ، ويحتمل أن يريد بالعمى في الآخرة عمى البصر : كقوله { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى } [ طه : 124 ] ، وإنما جعل الأعمى في الآخرة أضل سبيلاً ، لأنه حينئذ لا ينفعه الاهتداء ، ويجوز في أعمى الثاني : أن يكون صفة للأول ، وأن يكون من الأفعال التي للتفضيل ، وهذا أقوى لقوله وأضل سبيلاً فعطف أضل الذي هو من أفعل من كذا على ما هو شبهه ، قال سيبويه . لا يجوز أن يقال : هو أعمى من كذا ، ولكن إنما يمتنع ذلك في عمى البصر ، لا في عمى القلب .
(1/913)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
{ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } الآية : سببها أن قريشاً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : اقبل بعض أمرنا ونقبل بعض أمرك ، وقيل : إن ثقيفاً طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤخرهم بعد إسلامهم سنة يعبدون فيها اللات والعزى ، والآية على هذا القول مدنية { لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ } الافتراء هنا يراد به المخالفة لما أوحى إليه من القرآن وغيره { وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } أي لو فعلت ما أرادوا منك لاتخذوك خليلاً { وَلَوْلاَ أَن ثبتناك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً } لولا تدل على امتناع شيء لوجود غيره ، فدلت هنا على امتناع مقاربة النبي صلى الله عليه وسلم الركون إليهم لأجل تثبيت الله له وعصمته ، وكدت تقتضي نفي الركون ، لأن معنى كاد فلان يفعل كذا أي : إنه لم يفعله فانتفى الركون إليهم ومقاربته ، فليس في ذلك نقص من جانب النبي صلىلله عليه وسلم ، لأن التثبيت منعه من مقاربة الركون ، ولو لم يثبته الله لكانت مقاربته للركون إليهم شيئاً قليلاً ، وأما منع التثبيت فلم يركن قليلاً ولا كثيراً ، ولا قارب ذلك { إِذاً لأذقناك ضِعْفَ الحياوة وَضِعْفَ الممات } أي عذابهما لو فعل ذلك .
(1/914)
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
{ وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض } الضمير لقريش ، كانوا قد هموا أن يخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من مكة؛ وذلك قبل الهجرة ، فالأرض هنا يراد بها مكة لأنها بلدة { وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خلافك إِلاَّ قَلِيلاً } أي لو أخرجوك لم يلبثوا بعد خروجك بمكة إلا قليلاً ، فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجراً من مكة إلى المدينة لأجل إذاية قريش له ولأصحابه ، لم يبقوا بعد ذلك إلا قليلاً ، وقتلوا يوم بدر { سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا } انتصب سنة على المصدر ، ومعناه العادة أي هذه عادة الله مع رسله .
(1/915)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
{ أَقِمِ الصلاوة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ اليل وَقُرْآنَ الفجر } هذه الآية إشارة إلى الصلوات المفروضة فدلوك الشمس زوالها ، والإشارة إلى الظهر والعصر ، وغسق الليل ظلمته وذلك إشارة إلى المغرب والعشاء ، وقرآن الفجر صلاة الصبح ، وانتصب قرآن الفجر بالعطف على موضع اللام في قوله لدلوك الشمس ، فإن اللام فيه ظرفية بمعنى علم ، [ كذا ] وقيل : " هو عطف على الصلاة " وقيل : مفعول بفعل مضمر تقديره : إقرأ قرآن الفجر ، وإنما عبر عن صلاة الصبح بقرآن الفجر ، لأن القرآن فيها أكثر من غيرها لأنها تصلى بسورتين طويلتين { إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً } أي تشهده ملائكة الليل والنهار ، فيجتمعون فيه إذ تضعد ملائكة الليل وتنزل ملائكة النهار .
(1/916)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)
{ وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً } لما أمر بالفرائض أمر بعدها بالنوافل ، ومن للتبعيض ، والضمير في به للقرآن والتهجد والسهر هو ترك الهجود ومعنى الهجود : النوم فالتفعل هنا للخروج عن الشيء كالتحرج والتأثم : في الخروج عن الإثم والحرج { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } يعني الشفاعة يوم القيامة ، وانتصب مقاماً على الظرف { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ } الآية : المدخل : دخولة إلى المدينة ، والمخرج خروجه من مكة ، وقيل : المدخل في القبر ، والمخرج إلى البعث ، واختار ابن عطية أن يكون على العموم في جميع الأمور { سلطانا نَّصِيراً } قيل : معناه حجة تنصرني بها ويظهر بها صدقي ، وقيل : قوة ورياسة تنصرني بها على الأعداء وهذا أظهر .
(1/917)
وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
{ وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل } الحق الإيمان والباطل الكفر { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ } من للتبعيض ، أو لبيان الجنس ، والمراد بالشفاء أنه يشفى القلوب من الريبة والجهل ، ويحتمل أن يريد نفعه من الأمراض بالرقيا به والتعويذ { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان } الآية : المراد بالإنسان هنا الجنس ، لأن ذلك من سجية الإنسان ، وقيل : إنما يراد الكافر لأنه هو الذي يعرض عن الله { وَنَأَى بِجَانِبِهِ } أي بعُد ، وذلك تأكيد وبيان للإعراض ، وقرأ ابن عامر ناءٍ وهو بمعنى واحد { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ } أي مذهبه وطريقته التي تشاكله .
(1/918)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح } السائلون اليهود ، وقيل : قريش بإشارة اليهود ، والروح هنا عند الجمهور هو الذي في الجسم ، وقد يقال فيه : النفس وقيل : الروح هنا جبريل ، وقيل : القرآن ، والأول هو الصواب لدلالة ما بعده على ذلك { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي } أي من الأمور التي استأثر الله بها ولم يطلع عليها خلقه ، وكانت اليهود قد قالت لقريش اسألوه عن الروح ، فإن لم يجبكم فيه بشيء فهو نبيّ ، وذلك أنه كان عندهم في التوراة أن الروح مما انفرد الله بعلمه ، وقال ابن بريدة : لقد مضى النبي صلى الله عليه وسلم وما يعرف الروح ، ولقد كثر اختلاف الناس في النفس والروح ، وليس في أقوالهم في ذلك ما يعول عليه { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً } خطاب عام لجميع الناس ، لأن علمهم قليل بالنظر إلى علم الله . وقيل : خطاب لليهود خاصة ، والأول أظهر ، لأن فيه إشارة إلى أنهم لا يصلون إلى العلم بالروح { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ } أي إن شئنا ذهبنا بالقرآن فمحوناه من الصدور والمصاحف ، وهذه الآية متصلة المعنى بقوله : وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً : أي في قدرتنا أن نذهب بالذي أوحينا إليك فلا يبقى عندك شيء من العلم { وَكِيلاً } أي من يتوكل بإعادته وردّه بعد ذهابه { إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } يحتمل أن يكون استثناء متصلاً ، فمعنى أن رحمة ربك ترد القرآن بعد ذهابه لو ذهب ، أو استثناء منقطعاً بمعنى أن رحمة ربك تمسكه عن الذهاب .
(1/919)
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
{ قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } عجز الخلف عن الإتيان بمثله لما تضمنه من العلوم الإلهية ، والبراهين الواضحة والمعاني العجيبة التي لم يكن الناس يعلمونها ، ولا يصلون إليها ، ثم جاءت فيه على الكمال ، وقال أكثر الناس : إنهم عجزوا عنه لفصاحته وحسن نظمه . ووجوه إعجازه كثيرة قد ذكرنا في غير هذا منها خمسة عشر وجهاً { ظَهِيراً } أي معيناً .
(1/920)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ } أي بينا لهم كل شيء من العلوم النافعة ، والبراهين القائمة ، والحجج الواضحة ، وهذا يدل على إن إعجاز القرآن بما فيه من المعاني والعلوم كما ذكرنا { فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً } الكفور : الجحود ، وانتصب بقوله أبى لأنه في معنى النفي { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } الذين قالوا هذا القول هم أشراف قريش طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أنواعاً من خوارق العادات ، وهي التي ذكرها الله في هذه الآية ، وقيل : إن الذي قاله عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، وكان ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أسلم بعد ذلك والينبوع العين ، قالوا له : إن مكة قليلة الماء ففجر لنا فيها عيناً من الماء { أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً } إشارة إلى قوله تعالى : { إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السمآء } [ سبأ : 9 ] ، وكسفاً بفتح السين جمع كسفة وهي القطعة ، وقرئ بالإسكان : أي قطعاً واحداً { قَبِيلاً } قيل معناه مقابلة ومعاينة وقيل : ضامنا شاهداً بصدقك ، والقبالة في اللغة : الضمان .
(1/921)
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
{ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ } أي من ذهب { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى } تعجب من اقتراحاتهم ، أو تنزيه لله عن قولهم : تأتي بالله ، وعن أن يطلب منه هذه الأشياء التي طلبها الكفار ، لأن ذلك سوء أدب { هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } أي : إنما أنا بشر ، فليس في قدرتي شيء مما طلبتم ، وأنا رسول فليس علي إلا التبليغ { إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً } المعنى أن الذي منع الناس من الإيمان إنكارهم لبعث الرسول من البشر .
{ قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة } الآية : معناها أنه لو كان أهل الأرض ملائكة لكان الرسول إليهم ملكاً ، ولكنهم بشر ، فالرسول إليهم بشر من جنسهم ، ومعنى مطمئنين : ساكنين في الأرض { شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } ذكر في [ الأنعام : 19 ] .
(1/922)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
{ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } قيل : هي استعارة بمعنى أنهم يوم القيامة حيارى ، وقيل : هي حقيقة ، وأنهم يكونون عمياً وبكماً وصماً حين قيامهم من قبورهم { كُلَّمَا خَبَتْ } معناه في اللغة سكن لهبها ، والمراد هنا : كلما أكلت لحومهم فسكن لهبها بدلوا أجساداً أخر ، ثم صارت ملتهبة أكثر مما كانت .
(1/923)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
{ وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا عظاما } استبعاد للحشر وقد تقدم معنى الرفات والكلام في الاستفهامين { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله } الآية احتجاج على الحشر ، فإن السموات والأرض أكبر من الإنسان ، فكما قدر الله على خلقها؛ فأولى وأحرى أن يقدر على إعادة جسد الإنسان بعد فنائه ، والرؤية في الآية ، رؤية قلب { أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ } القيامة أو أجل الموت .
(1/924)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
{ قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ } لو حرف امتناع ، ولا يليها الفعل إلا ظاهراً أو مضمراً ، فلا بد من فعل يقدر هنا بعدها تقديره : تملكون ثم فسره بتملكون الظاهر ، وأنتم تأكيد للضمير الذي في تملكون المضمر { خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّى } أي الأموال والأرزاق ، { إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق } أي لو ملكتم الخزائن لأمسكتم عن الإعطاء خشية الفقر ، فالمراد بالإنفاق عاقبة الإنفاق وهو الفقر ، ومفعول أمسكتم محذوف ، وقال الزمخشري : لا مفعول هل لأن معناه بخلتم ، من قولهم للبخيل ممسك ، ومعنى الآية وصف الإنسان بالشح وخوف الفقر ، بخلاف وصف الله تعالى بالجود والغنى .
(1/925)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
{ تِسْعَ آيات } بينات الخمس منها الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، والأربع انقلاب العصا حية ، وإخراج يده بيضاء ، وحل العقدة من لسانه ، وفلق البحر وقد وعد فيها رفع الطور فوقه ، وانفجار الماء من الحجر على أن يسقط اثنان من الآخر ، وقد وعد فيها أيضاً السنون ، والنقص من الثمرات ، روي أن بعض اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال : ألا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تسرقوا ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تمشوا ببريء إلى السلطان ليقتله ، ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تقذفوا المحصنات ، ولا تفروا يوم الزحف ، وعليكم خاصة اليهود ألا تعدوا في السبت { فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي اسأل المعاصرين لك من بني إسرائيل عما ذكرنا من قصة موسى لتزداد يقيناً ، والآية على هذا خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقال الزمخشري : إن المعنى قلنا لموسى اسأل بني إسرائيل من فرعون أي اطلب منه أن يرسلهم معك ، فهو كقوله : أن أرسل معنا بني إسرائيل ، فلا يرد قوله اسأل لموسى على إضمار القول ، وقال أيضاً : يحتمل أن يكون المعنى : اسأل بني إسرائيل أن يعضدوك ويكونوا معك ، وهذا أيضاً على أن يكون الخطاب لموسى ، والأول أظهر .
{ إِذْ جَآءَهُمْ } الضمير لبني إسرائيل ، والمراد آباؤهم الأقدمون والعامل في إذ على القول الأوّل آتينا موسى أو فعل مضمر ، والعامل فيه على قول الزمخشري القول المحذوف { مَسْحُوراً } هنا وفي الفرقان : أي سحرت واختلط عقلك ، وقيل : ساحر { لَقَدْ عَلِمْتَ } بفتح التاء خطاب لفرعون ، والمعنى أنه علم أن الله أنزل الآيات ، ولكنه كفر بها عناداً كقوله : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ } [ النمل : 14 ] والإشارة بهؤلاء إلى الآيات مثبوراً أي هالكاً ، وقيل : مصروفاً عن الخير ، قابل موسى قول فرعون : إني لأظنك يا موسى مسحوراً بقوله وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً .
(1/926)
فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
{ فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض } أي أرض مصر { اسكنوا الأرض } يعني أرض الشام { لَفِيفاً } أي جميعاً مختلطين { وبالحق أنزلناه } الضمير للقرآن ، وبالحق معناه في الموضعين بالواجب من المصلحة والسداد وقيل : معنى الأول كذلك : ومعنى الثاني ضد الباطل . أي بالحق في إخباره وأوامره ونواهيه .
(1/927)
وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
{ وَقُرْآناً فرقناه } انتصب بفعل مضمر يدل عليه فرقناه ، ومعناه بيناه وأوضحناه { على مُكْثٍ } قيل : معناه على تمهل وترتيل في قراءته ، وقيل : على طول مدة نزوله شيئاً فشيئاً من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى وفاته ، وذلك عشرون سنة ، وقيل ثلاث وعشرون .
(1/928)
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
{ قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا } أمر باحتقارهم وعدم الاكتراث بهم ، كأنه يقول : سواء آمنتم أو لم تؤمنوا ، لكونكم لستم بحجة ، وإنما الحجة أهل العلم من قبله ، وهم المؤمنون من أهل الكتاب { إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ } يعني المؤمنين من أهل الكتاب وقيل : الذين كانوا على الحنيفية قبل البعثة : كزيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل ، والأوّل أظهر ، وهذه الجملة تعليل لما تقدم ، والمعنى : إن لم تؤمنوا به أنتم ، فقد آمن به من هو أعلم منكم { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ } أي لناحية الأذقان كقولهم : خرّ لليدين وللفم ، والأذقان جمع ذقن ، وهو أسفل الوجه حيث اللحية ، وإنما كرر يخرون للأذقان ، لأن الأول للسجود ، والآخر للبكاء .
(1/929)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
{ قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } سببها أن الكفار سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يدعو يا الله يا رحمن ، فقالوا إن كان محمد ليأمرنا بدعاء إله واحد ، وها هو يدعو إليهن ، فنزلت الآية مبينة أن قوله الله أو الرحمن اسم لمسمى واحد ، وأنه مخيّر في الدعاء بأيّ الاسمين شاء ، والدعاء في الآية بمعنى التسمية كقولك : دعوت ولدي زيداً لا بمعنى النداء { أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى } أياّ اسم شرط منصوب بتدعوا ، والتنوين فيه عوض من المضاف إليه ، وما زائدة للتأكيد ، والضمير في به لله تعالى ، وهو المسمى ، والمعنى أيّ هذين الاسمين تدعو فحسن ، لأن الله له الأسماء الحسنى فموضع قوله : لله الأسماء الحسنى موضع الحال ، وهو في المعنى تعليل للجواب ، لأنه إذا حسنت أسماؤه كلها حسن هذان الاسمان .
{ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } المخافتة هي الإسرار ، وسبب الآية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهر بالقرآن في الصلاة ، فسمعه المشركون ، فسبوا القرآن ومن أنزله ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوسط بين الإسرار والجهر ، ليسمع أصحابه الذين يصلون معه ، ولا يسمع المشركون ، وقيل : المعنى لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها ، واجعل منها سراً وجهراً ، حسبما أحكمته السنة ، وقيل : الصلاة هنا الدعاء .
(1/930)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
{ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل } أي ليس له ناصر يمنعه من الذل ، لأنه تعالى عزيز لا يفتقر إلى وليّ يحميه ، فنفى الولاية على هذا المعنى لأنه غنيّ عنها ، ولم ينف الولاية على وجه المحبة والكرامة لمن شاء من عباده ، وحكى الطبري أن قوله : لم يتخذ ولداً رد على النصارى واليهود والذين نسبوا لله ولداً ، وقوله : ولم يكن له شريك : رد على المشركين ، وقوله : ولم يكن له وليّ من الذل رد على الصابئين في قولهم : لولا أولياء الله لذل الله ، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً { وَكَبِّرْهُ } معطوف على قل ، ويحتمل هذا التكبير أن يكون بالقلب وهو التعظيم ، أو باللسان وهو قوله أن يقول الله أكبر مع قوله الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً الآية .
(1/931)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
{ الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب } العبد هنا هو النبي صلى الله عليه وسلم ، ووصفه بالعبودية تشريفاً له ، وإعلاماً باختصاصه وقربه ، والكتاب القرآن { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } العوج بكسر العين في المعاني التي لا تحسن ، وبالفتح في الأشخاص كالعصا ونحوها ، ومعناه عدم الاستقامة ، وقيل فيه هنا : معناه لا تناقض فيه ولا خلل ، وقيل : لم يجعله مخلوقاً ، واللفظ أعم من ذلك { قَيِّماً } أي مستقيماً ، وقيل قيماً على الخلق بأمر الله تعالى ، وقيل ، قيماً على سائر الكتب بتصديقها ، وانتصابه على الحال من الكتاب ، والعامل فيه أنزل ، ومنع الزمخشري ذلك للفصل بين الحال وذي الحال ، واختار أن العامل فيه فعل مضمر تقديره جعله قيماً { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً } متعلق بأنزل أو بقيماً ، والفاعل به ضمير الكتاب أو النبي صلى الله عليه وسلم ، والبأس العذاب ، وحذف المفعول الثاني وهو الناس ، كما حذف المفعول الآخر من قوله : وينذر الذين لدلالة المعنى على المحذوف { مِّن لَّدُنْهُ } أي من عنده ، والضمير عائد على الله تعالى { أَجْراً حَسَناً } يعني الجنة { ماكثين فِيهِ } أي دائمين ، وانتصابه على الحال من الضمير في لهم { وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً } هم النصارى لقولهم في عيسى ، واليهود لقولهم في عزير ، وبعض العرب لقولهم في الملائكة { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } الضمير عائد على قولهم ، أو على الولد .
{ كَبُرَتْ كَلِمَةً } انتصب على التمييزعلى الحال ويعني بالكلمة قولهم اتخذ الله ولداً : وعلى هذا يعود الضمير في كبرت .
(1/932)
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ } أي قاتلها بالحزن والأسف ، والمعنى تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن عدم إيمانهم { على آثَارِهِمْ } استعارة فصيحة : كأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا فهو يتبع آثارهم تأسفاً عليهم ، وانتصب أسفاً على أنه مفعول من أجله ، والعامل فيه باخع نفسك .
(1/933)
إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا } يعني ما يصلح للتزين كالملابس والمطاعم ، الأشجار والأنهار وغير ذلك { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } أي لنختبرهم أيهم أزهد في زينة الدنيا { وَإِنَّا لجاعلون مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } المعنى إخبار بفناء الدنيا وزينتها ، والصعيد هو التراب ، والجرز : الأرض التي لا نبات فيها : أي سيفنى ما على الأرض من الزينة وتبقى كالأرض التي لا نبات فيها ، بعد أن كانت خضراء بهجة .
(1/934)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أصحاب الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آياتنا عَجَباً } أم هنا استفهام ، والمعنى أحسبت أنهم عجب ، بل سائر آياتنا أعظم منها وأعجب ، والكهف الغار الواسع ، والرقيم : اسم كلبهم ، وقيل : هو لوح رقمت فيه أسماؤهم على باب الكهف ، وقيل كتاب فيهم شرعهم ودينهم ، وقيل هو القرية التي كانت بإزاء الكهف ، وقيل : الجبل الذي فيه الكهف ، وقال ابن عباس : لا أدري ما الرقيم .
(1/935)
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
{ إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف } نذكر من قصتهم على وجه الاختصار ما لا غنى عنه ، إذ قد أكثر الناس فيها مع قلة الصحة في كثير مما نقلوا ، وذلك أنهم كانوا قوماً مؤمنين ، وكان ملك بلادهم كافراً يقتل كل مؤمن ، ففروا بدينهم ، ودخلوا الكهف ليعبدوا الله فيه ويستخفوا من الملك وقومه ، فأمر الملك باتباعهم ، فانتهى المتبعون لهم إلى الغار فوجدوهم ، وعرفوا الملك بذلك فوقف عليه في جنده وأمر بالدخول إليهم ، فهاب الرجال ذلك وقالوا له : دعهم يموتوا جوعاً وعطشاً ، وكان الله قد ألقى عليهم نوماً ثقيلاً ، فبقوا على ذلك مدّة طويلة ثم أيقظهم الله ، وظنوا أنهم لبثوا يوماً أو بعض يوم ، فبعثوا أحدهم يشتري لهم طعاماً بدراهم كانت لهم ، فعجب لها البائع وقال : هذه الدراهم من عهد فلان الملك في قديم الزمان من أي جاءتك؟ وشاع الكلام بذلك في الناس ، وقال الرجل : إنما خرجت أنا وأصحابي بالأمس فأوينا إلى الكهف ، فقال : هؤلاء الفتية الذين ذهبوا في الزمان القديم فمشوا إليهم فوجدوهم موتى ، وأما موضع كهفهم ، فقيل إنه بمقربة من فلسطين وقال قوم : إنه الكهف الذي بالأندلس بمقربة من لوشة من جهة غرناطة ، وفيه موتى ومعهم كلب ، وقد ذكر ابن عطية ذلك ، وقال : إنه دخل عليهم ورآهم وعليهم مسجد ، وقريب منهم بناء يقال له الرقيم قد بقي بعض جدرانه ، وروي أن تلك الذي كانوا في زمانه اسمه دقيوس ، وفي تلك الجهة آثار مدينة يقال لها مدينة دقيوس والله أعلم .
ومما يبعد ذلك ما روي أن معاوية مر عليهم وأراد الدخول إليهم ، ولم يدخل معاوية الأندلس قط ، وأيضاً فإن الموتى التي في غار لوشة يراهم الناس ، ولم يدرك أحد منهم الرعب ، الذي ذكر الله في أصحاب الكهف { فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف } عبارة عن إلقاء النوم عليهم ، وقال الزمخشري : المعنى ضربنا على آذانهم حجاباً ثم حذف هذا المفعول { سِنِينَ عَدَداً } أي كثيرة { ثُمَّ بعثناهم } أي أيقظناهم من نومهم { لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً } أي لنعلم علماً يظهر في الوجود ، لأن الله قد كان علم ذلك ، والمراد ، بالحزبين الذين اختلفوا في الكهف في مدة لبثهم ، فالحزب الواحد : أصحاب الكهف والحزب الآخر القوم الذين بعث الله أصحاب الكهف في مدتهم وقيل : إن الحزبين معاً أصحاب الكهف إذ كان بعضهم قد قال : لبثنا يوماً أو بعض يوم ، وقال بعضهم : ربكم أعلم بما لبثتم ، وأحصى فعل ماض ، وأمداً مفعول به ، وقيل : أحصى اسم للتفضيل ، وأمداً تمييز ، وهذا ضعيف ، لأن أفعل من التي للتفضيل لا يكون من فعل رباعي إلا في الشاذ .
(1/936)
وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
{ وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ } أي قوينا عزمهم وألهمناهم الصبر ، يحتمل أن يريد قيامهم من النوم بين يدي الملك الكافر لما آمنوا ولم يبالوا به { لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } أي لو دعونا من دونه إلهاً لقلنا قولاً شططاً ، والشطط الجور والتَّعدي { لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } تحضيض بمعنى التعجيز ، أنهم لا يأتون بحجة بينة على عبادة غير الله .
(1/937)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
{ وَإِذِ اعتزلتموهم } خطاب من بعضهم لبعض حين عزموا على الفرار بدينهم { وَمَا يَعْبُدُونَ } عطف على المفعول في اعتزلتموهم : أي تركتموهم وتركتم ما يعبدون { إِلاَّ الله } أي ما يعبدون من دون الله ، وإلا هنا بمعنى غير ، وهذا استثناء متصل إن كان قومهم يعبدون الله ويعبدون معه غيره ، ومنقطع إن كانوا لا يعبدون الله ، وفي مصحف ابن مسعود " وما يعبدون من دون الله " { فَأْوُوا إِلَى الكهف } هذا الفعل هو العامل في إذ اعتزلتموهم والمعنى أن بعضهم قال لبعض إذا فارقنا الكفار فلنجعل الكهف لنا مأوى ، ونتكل على الله فهو يرحمنا ويرفق بنا { مِّرْفَقاً } بفتح الميم وكسرها ما يرتفق به وينتفع .
(1/938)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
{ وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليمين وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال } قيل : هنا كلام محذوف تقديره فأوى القوم إلى الكهف ومكثوا فيه ، وضرب الله على آذانهم ، ومعنى تزاور تميل وتزوغ ، ومعنى : تقرضهم تقطعهم : أي تبعد عنهم ، وهو بمعنى القطع ، وذات اليمين والشمال أي جهته ، ومعنى الآية : أن الشمس لا تصيبهم عند طلوعها ، ولا عند غروبها لئلا يحترقوا بحرها ، فقيل : إن ذلك كرامة لهم وخرق عادة ، وقيل : كان باب الكهف شمالياً يستقبل بنات نعش ، فلذلك لا تصيبهم الشمس ، والأول أظهر لقوله : " ذلك من آيات الله " { وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ } أي في موضع واسع ، وذلك مفتح لإصابة الشمس ، ومع ذلك حجبها الله عنهم { ذلك مِنْ آيات الله } الإشارة إلى حجب الشمس عنهم إن كان خرق عادة ، وإن كان لكون بابهم إلى الشمال فالإشارة إلى أمرهم بجملته { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ } أيقاظاً جمع يقظ ، وهو المنتبه ، كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون ، فيحسبهم من يراهم أيقاظاً وفي قوله : أيقاظاً ورقود مطابقة ، وهي من أدوات البيان { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال } أي نقلبهم من جانب إلى جانب ، ولولا ذلك لأكلتهم الأرض ، وكان هذا التقليب من فعل الله وملائكته ، وهم لا ينتبهون من نومهم ، وروي أنهم كانوا يقلبون مرتين في السنة ، وقيل من سبع سنين إلى مثلها { وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ } قيل إنه كان كلباً لأحدهم يصيد به ، وقيل كان كلباً لراع فمروا عليه فصحبهم وتبعه كلبه وأعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضيّ لأنه حكاية حال .
{ بالوصيد } أي بباب الكهف ، وقيل عتبته وقيل البناء { لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } ذلك لما ألبسهم الله من الهيبة ، وقيل : لطول أظافرهم وشعورهم وعظم أجرامهم . وقيل : لوحشة مكانهم ، وعن معاوية أنه غزا الروم فمر بالكهف ، فأراد الدخول إليه فقال له ابن عباس : لا تستطيع ذلك ، قد قال الله لمن هو خير منك : لو اطلعت عليهم لوليت منهم فراراً فبعث ناساً إليهم ، فلما دخلوا الكهف بعث الله ريحاً فأحرقتهم .
(1/939)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
{ وكذلك بعثناهم لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ } أي كما أنمناهم ، كذلك بعثناهم ليسأل بعضهم بعضاً ، واللام في ليتساءلوا لام الصيرورة { قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } هذا قول من استشعر منهم أن مدة لبثهم طويلة ، فأنكر على من قال يوماً أو بعض يوم ، ولكنه لم يعلم مقدارها فأسند علمها إلى الله . { فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ } الوّرِق : الفضة ، وكانت دراهم تزودوها حين خروجهم إلى الكهف ، ويستدل بذلك على أن التزود للمسافر أفضل من تركه ، ويستدل ببعث أحدهم على جواز الوكالة ، فإن قيل : كيف اتصل بعث أحدهم بتذكر مدة لبثهم؟ .
فالجواب أنهم كانوا قالوا : ربكم أعلم بما لبثتم ، ولا سبيل لكم إلى العلم بذلك ، فخذوا فيما هو أهم من هذا وأنفع لكم فابعثوا أحدكم { إلى المدينة } قيل : أنها طرسوس { أزكى طَعَاماً } قيل : أكثر ، وقيل : أحل ، وقيل : إنه أراد شراء زبيب ، وقيل : تمر { وَلْيَتَلَطَّفْ } في اختفائه وتحيله { إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ } أي : إن يظفروا بكم يقتلوكم بالحجارة ، وقيل : المعنى يرجموكم بالقول ، والأول أظهر .
(1/940)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
{ وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } أي كما أنمناهم وبعثناهم أطلعنا الناس عليهم { ليعلموا } الضمير للقوم الذين أطلعهم الله على أصحاب الكهف : أي أطلعناهم على حالهم من انتباههم من الرقدة الطويلة ليستدلوا بذلك على صحة البعث من القبور { إِذْ يتنازعون بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ } العامل في إذ أعثرنا أو مضمر تقديره اذكر ، والمتنازعون هم القوم الذين كانوا قد تنازعوا فيما يفعلون في أصحاب الكهف ، أو تنازعوا هل هم أموات أو أحياء ، وقيل : تنازعوا هل تحشر الأجساد أو الأرواح بالأجساد؟ فأراهم الله حال أصحاب الكهف ليعلموا أن الأجساد تحشر { فَقَالُواْ ابنوا عَلَيْهِمْ بنيانا } أي على باب كهفهم إما ليطمس آثارهم أو ليحفظهم ويمنعهم ممن يريد أخذهم أو أخذ تربتهم تبركاً ، وإما ليكون علماً على كهفهم ليعرف به .
{ قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ } قيل : يعني الولاة وقيل : يعني المسلمين لأنهم كانوا أحق بهم من الكفار ، فبنوا على باب الكهف مسجداً لعبادة الله .
(1/941)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
{ سَيَقُولُونَ } الضمير لمن كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود أو غيرهم ممن تكلم في أصحاب الكهف { رَجْماً بالغيب } أي ظنا وهو مستعار من الرجم بمعنى الرمي { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } قال قوم : إن الواو واو الثمانية لدخولها هنا وفي قوله : سبع ليال وثمانية أيام ، وفي قوله في أهل الجنة : { وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] وفي قوله في براءة { والناهون عَنِ المنكر } [ التوبة : 112 ] وقال البصريون : لا تثبت واو الثمانية وإنما الواو هنا كقوله : جاء زيد وفي يده سيف .
قال الزمخشري : وفائدتها التوكيد . والدلالة على أن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم صدقوا وأخبروا بحق ، بخلاف الذين قالوا ثلاثة ورابعهم كلبهم ، والذين قالوا خمسة وسادسهم كلبهم ، وقال ابن عطية : دخلت الواو في آخر إخبار عن عددهم لتدل على ان هذا نهاية ما قيل ، ولو سقطت لصح الكلام ، وكذلك دخلت السين في قوله سيقولون الأول ، ولم تدخل في الثاني والثالث استغناء بدخولها في الأول { مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } أي لا يعلم عدتهم إلا قليل من الناس ، وهم من أهل الكتاب ، قال ابن عباس : أنا من ذلك القليل ، وكانوا سبعة وثامنهم كلبهم ، لأنه قال في الثلاثة والخمسة : رجماً بالغيب ولم يقل ذلك في سبعة وثامنهم كلبهم { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظاهرا } لا تمار : من المراء وهو الجدال والمخالفة والاحتجاج ، والمعنى لا تمار أهل الكتاب في عدة أصحاب الكهف إلا مراء ظاهراً ، أي غير متعمق فيه من غير مبالغة ولا تعنيف في الردُّ عليهم { وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً } أي لا تسأل أحداً من أهل الكتاب عن أصحاب الكهف ، لأن الله قد أوحى إليك في شأنهم ما يغنيك عن السؤال .
(1/942)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23)
{ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } سببها أن قريشاً سألوا اليهود عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا لهم : اسألوه عن فتية ذهبوا في الزمان الأول وهم أصحاب الكهف ، وعن رجل بلغ مشارق الأرض ومغاربها وهو ذو القرنين ، وعن الروح ، فإن أجابكم في الاثنين وسكت عن الروح فهو نبي ، فسألوه فقال غداً أخبركم ولم يقل إن شاء الله ، فأمسك عنه الله الوحي خمسة عشر يوماً ، فأوجف به كفار قريش وتكلموا في ذلك ، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جاء جبريل بسورة الكهف فقص عليه فيها قصة أصحاب الكهف وذي القرنين ، وأنزل الله عليه هذه الآية تأديباً لهم وتعليماً ، فأمره بالاستثناء بمشيئة الله في كل أمر يريد أن يفعله فيما يستقبل ، وقوله : غداً يريد به الزمان المستقبل ، لا اليوم الذي بعد يومه خاصة ، وفي الكلام حذف يقتضيه المعنى وتقديره : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن تقول : إن شاء الله أو تقول إلاّ أن يشاء الله ، والمعنى أن يعلق الأمر بمشيئة الله وحوله وقوته ، ويبرأ هو من الحول والقوة ، وقيل : إن قوله إلا أن يشاء الله بقوله لا تقولنّ . والمعنى لا تقولنّ ذلك القول إلا أن يشاء الله أن تقوله بأن يأذن له فيه ، فالمشيئة على هذا راجعة إلى القول لا إلى الفعل ، ومعناها إباحة القول بالإذن فيه ، حكى ذلك الزمخشري ، وحكاه ابن عطية ، وقال إنه من الفساد بحيث كان الواجب ألا يحكي .
(1/943)
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
{ واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } . قال ابن عباس : الإشارة بذلك إلى الاستثناء ، أي استثن بعد مدة إذا نسيت الاستثناء أولاً ، وذلك على مذهبه ، فإن الاستثناء في اليمين ينفع بعد سنة ، وأما مذهب مالك والشافعي فإنه لا ينفع إلا إن كان متصلاً باليمين ، وقيل معنى الآية : اذكر ربك إذا غضبت ، وقيل اذكر إذا نسيت شيئاً ليذكرك ما نسيت ، والظاهر أن المعنى اذكر ربك إذا نسيت ذكره أي ارجع إلى الذكر إذا غفلت عنه ، واذكره في كل حال ، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه { وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً } هذا كلام أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله ، والإشارة بهذا إلى خبر أصحاب الكهف ، أي عسى الله أن يؤتيني من الآيات والحجج ما هو أعظم في الدلالة على نبوّتي ، من خبر أصحاب الكهف اللفظ يقتضي أن المعنى : يعني أن يوقفني الله تعالى من العلوم والأعمال الصالحات لما هو أرشد من خبر أصحاب أهل الكهف وأقرب إلى الله ، وقيل : إن الإشارة بهذا إلى المنسي أي إذا نسيت شيئاً فقل عسى أن يهديني الله إلى شيء آخر هو أرشد من المنسيّ .
(1/944)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27)
{ وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثلاث مِاْئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعاً } في هذا قولان أحدهما : أنه حكاية عن أهل الكتاب يدل على ذلك ما في قراءة ابن مسعود : وقالوا لبثوا في كهفهم . وهو معطوف على سيقولون ثلاثة فقوله { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } رد عليهم في هذا العدد المحكي عنه ، القول الثاني : أنه من كلام الله تعالى ، وأنه بيان لما أجمل في قوله : فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً ، ومعنى قوله : قل الله أعلم بما لبثوا على هذا أنه أعلم من الذين اختلفوا فيهم ، وقد أخبر بمدة لبثم ، فإخباره هو الحق لأنه أعلم من الناس ، وكان قوله : قل الله أعلم احتجاجاً على صحة ذلك الإخبار ، وانتصب سنين على البدل من ثلاثمائة أو عطف بيان ، أو على التمييز وذلك على قراءة التنوين في ثلاثمائة وقرئ بغير تنوين على الإضافة ووضع الجمع موضع المفرد { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } أي ما أبصره وما أسمعه ، لأن الله يدرك الخفيات كما يدرك الجليات { مَا لَهُم } الضمير لجميع الخلق أو للمعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم { وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } هو خبر في قراءة من قرأ بالياء ، والرفع وقرئ بالتاء والجزم على النهي { لاَ مُبَدِّلَ لكلماته } يحتمل أن يراد بالكلمات هنا القرآن ، فالمعنى لا يبدل أحد القرآن ولا يغيره ، ويحتمل أن يريد بالكلمات القضاء والقدر { مُلْتَحَداً } أي ملجا تميل إليه .
(1/945)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
{ واصبر نَفْسَكَ } أي احبسها صابراً { مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم } هم فقراء المسلمين : كبلال وخباب وصهيب وكان الكفار قد قالوا له : اطرد هؤلاء نجالسك نحن ، فنزلت الآية { بالغداة والعشي } قيل : المراد الصلوات الخمس ، وقيل : الدعاء على الإطلاق { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ } أي لا تتجاوز عنهم إلى أبناء الدنيا ، وقال الزمخشري : يقال عداه إذا جاوزه ، فهذا الفعل يتعدى بنفسه دون حرف ، وإنما تعدى هنا بعن لأنه تضمن معنى : نَبَتْ عينه عن الرجل إذا احتقره { تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا } جملة في موضع الحال فهي متصلة بما قبلها ، وهي في معنى تعليل الفعل المنهي عنه في قوله : ولا تعد عيناك عنهم : أي لا تبعد عنهم من أجل إرادتك لزينة الدنيا { أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ } أي جعلناه غافلاً أو وجدناه غافلاً ، وقيل : يعني أنه عيينه بن حصن الفزاري ، والأظهر أنها مطلقة من غير تقييد { فُرُطاً } من التفريط والتضييع ، أو من الإفراط والإسراف .
(1/946)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
{ وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ } أي هذا هو الحق { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن } لفظه أمر وتخيير : ومعناه أن الحق قد ظهر فليختر كل إنسان لنفسه : إما الحق الذي ينجيه ، أو الباطل الذي يهلكه ، ففي ضمن ذلك تهديد { سُرَادِقُهَا } السرداق في اللغة : ما أحاط بالشيء كالسور والجدار ، وأما سرادق جهنم فقيل : حائط من نار ، وقيل : دخان { كالمهل } وهو دردي الزيت إذ انتهى حره روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : ما أذيب من الرصاص وشبهه { مُرْتَفَقاً } أي شيء يرتفق به ، فهو من الرفق ، وقيل : يرتفق عليه فهو من الارتفاق بمعنى الاتكاء .
(1/947)
أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
{ أولئك لَهُمْ } خبر إن ، وإنا لا نضيع : اعتراض ، ويجوز أن يكونا خبرين أو يكون إنا لا نضيع الخبر ، وأولئك استئناف ، ويقوم العموم في قوله : من أحسن مقام الضمير الرابط أو يقدر من أحسن عملاً منه ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إنها نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ رضي الله عنهم { أَسَاوِرَ } جمع أسوار وسوار ، وهو ما يجعل في اليد ، وقيل : أساور جمع أسورة وأسورة جمع سوار { مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } السندس : رقيق الديباج ، والإستبرق الغليظ منه { الأرآئك } الأسرة والفرش .
(1/948)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)
{ واضرب لهُمْ } الضمير للكفار الذين قالوا : أطرد فقراء المسلمين ، وللفقراء الذين أرادوا طردهم : أي مثل هؤلاء وهؤلاء كمثل هذين الرجلين ، وهما أخوان من بني إسرائيل : أحدهما مؤمن ، والآخر كافر : ورثا مالاً عن أبيهما ، فاشترى الكافر بماله جنتين ، وأنفق المؤمن ماله في طاعة الله حتى افتقر ، فعيره الكافر بفقره فأهلك الله مال الكافر ، وروي أن اسم المؤمن تمليخا ، واسم الكافر فطروس ، وقيل : كانا شريكين اقتسما المال ، فاشترى أحدهما بماله جنتين وتصدق الآخر بماله { أُكُلَهَا } بضم الهمزة اسم لما يؤكل ، ويجوز ضم الكاف وإسكانها { وَلَمْ تَظْلِم } أي لم تنقص { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } بضم الثاء والميم ، أصناف المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك ، قاله ابن عباس وقتادة ، وقيل : هو الذهب والفضة خاصة ، وهو من ثمّر ماله إذا أكثره ويجوز إسكان الميم تخفيفاً ، وأما بفتح الثاء والميم ، فهو المأكول من الشجر ، ويحتمل المعنى الآخر { وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } أي يراجعه في الكلام { وَأَعَزُّ نَفَراً } يعني الأنصار والخدم { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ } أفرد الجنة هنا ، لأنه إنما دخل الجنة الواحدة من الجنتين ، إذ لا يمكن دخول الجنتين دفعة واحدة { وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } إما بكفره وإما بمقابلته لأخيه ، فإنها تتضمن الفخر والكبر والاحتقار لأخيه { قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً } يحتمل أن تكون الإشارة إلى السموات والأرض وسائر المخلوقات ، فيكون قائلاً ببقاء هذا الوجود؛ كافراً بالآخرة أو تكون الإشارة إلى جنته ، فيكون قوله إفراطاً في الاغترار وقلة التحصيل { وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّى } إن كان هذا على سبيل الفرض والتقدير كما يزعم أخي : لأجدن في الآخرة خيراً من جنتي في الدنيا ، وقرئ خيراً منهما . بضمير الاثنين للجنتين ، وبضمير الواحد للجنة { مُنْقَلَباً } أي مرجعاً { أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ } أي خلق منه أباك آدم ، وإنما جعله كافراً لشكه في البعث { سَوَّاكَ رَجُلاً } كما تقول سوّاك إنساناً ، ويحتمل أن يقصد الرجولية على وجه تعديد النعمة في أن لم يكن أنثى .
(1/949)
لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
{ لكنا هُوَ الله رَبِّي } قرأ الجمهور بإثبات الألف في الوقف وحذفها في الوصل ، والأصل على هذا لكن أنا ، ثم ألقيت حركة الهمزة على الساكن قبلها ، وحذفت ثم أدغمت النون في النون ، وقرأ ابن عامر بإثبات الألف في الوصل والوقف ، ويتوجه ذلك بأن تكون لحقتها نون الجماعة التي في خرجنا وضربنا ، ثم أدغمت النون في النون { ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ } الآية : وصية من المؤمن للكافر ، ولولا تحضيض { فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ } يحتمل أن يريد في الدنيا أو الآخرة { حُسْبَاناً } أي أمراً مهلكاً كالحر والبرد ونحو ذلك { صَعِيداً زَلَقاً } الصعيد : وجه الأرض ، والزلق الذي لا يثبت فيه قدم يعني أنه تذهب أشجاره ونباته .
{ غَوْراً } أي غائراً ذاهباً وهو مصدر وصف به { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } عبارة عن هلاكها { يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } عبارة عن تلهفه وتأسفه وندمه { وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } يريد أن السقف وقعت وهي العروش ، ثم تهدمت الحيطان عليها ، والحيطان على العروش وقيل : إن كرومها المعروشة سقطت على عروشها ، ثم سقطت الكروم عليها { وَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُشْرِكْ } قال ذلك على وجه التمني لما هلك بستانه ، أو على وجه التوبة من الشرك { هُنَالِكَ } ظرف يحتمل أن يكون العامل فيه منتصراً ، أو يكون في موضع خبر { الولاية لِلَّهِ } بكسر الواو بمعنى الرياسة والملك ، وبفتحها من الموالاة والمودة { وَخَيْرٌ عُقْباً } أي عاقبة .
(1/950)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
{ فاختلط } الباء سببية ، والمعنى : صار به النبات مختلطاً : أي ملتفاً بعضه ببعض من شدة تكاثفه { فَأَصْبَحَ هَشِيماً } أي متفتتاً ، وأصبح هنا بمعنى صار { تَذْرُوهُ الرياح } أي تفرقه ومعنى المثل : تشبيه الدنيا في سرعة فنائها بالزرع في فنائه بعد خضرته .
(1/951)
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
{ المال والبنون } الآية : هذا من الجمع بين شيئين في خبر واحد ، وذلك من أدوات البيان ، وقرئ زينتا بالتثنية لأنه خبر عن اثنين ، وأما قراءة الجمهور فأفردت فيه الزينة لأنها مصدر { والباقيات الصالحات } هي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر هذا قول الجمهور ، وقد روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل الصلوات الخمس ، وقيل : الأعمال الصالحات على الإطلاق .
(1/952)
وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
{ نُسَيِّرُ الجبال } أي نحملها ، ومنه قوله : وهي تمر مر السحاب ، وبعد ذلك تصير هباء { وَتَرَى الأرض بَارِزَةً } أي ظاهرة لزوال الجبال عنها { وَحَشَرْنَاهُمْ } قال الزمخشري : إنما جاء حشرناهم بلفظ الماضي بعد قوله : نسير للدلالة على أن حشرناهم قبل تسيير الجبال ليعاينوا تلك الأهوال { فَلَمْ نُغَادِرْ } أي لم نترك { صَفَّاً } أي صفوفاً فهو إفراد تنزل منزلة الجمع ، وقد جاء في الحديث : إن أهل الجنة مائة وعشرون صفا أنتم منها ثمانون صفا { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا } يقال هذا للكفار على وجه التوبيخ { كَمَا خلقناكم } أي حفاة عراة غرلا [ غير مختونين ] .
(1/953)
وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
{ وَوُضِعَ الكتاب } يعني صحائف الأعمال ، فالكتاب اسم جنس { كَانَ مِنَ الجن } كلام مستأنف جرى مجرى التعليل لإباية إبليس عن السجود ، وظاهر هذا الموضع يقتضي أن إبليس لم يكن من الملائكة ، وأن استثناءه منهم اسنثناء منقطع ، فإن الجن صنف غير الملائكة ، وقد يجيب عن ذلك من قال : إنه كان من الملائكة بأن كان هنا بمعنى صار : أي خرج من صنف الملائكة إلى صنف الجن ، أو بأن الملائكة كان منهم قوم يقال لهم الجن وهم الذين خلقوا من نار { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } : أي خرج عن ما أمر به ، والفسق في اللغة : الخروج { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ } هذا توبيخ ووعظ ، وذرية إبليس هم الشياطين واتخاذهم أولياء بطاعتهم في عصيان الله والكفر به .
(1/954)
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
{ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ } الضمير للشياطين على وجه التحقير لهم أو للكفار أو لجميع الخلق ، فيكون فيه ردّ على المنجمين وأهل الطبائع وسائر الطوائف المتخرصة { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً } أي معيناً ومعنى المضلين : الذين يضلون العباد وذلك يقوّي أن المراد الشياطين { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ } يقول هذا للكفار على وجه التوبيخ لهم ، وأضاف تعالى الشركاء إلى نفسه على زعمهم ، وقد بين هذا بقوله : الذين زعمتم { مَّوْبِقاً } أي مهلكاً ، وهو اسم موضع أو مصدر من : وبق الرجل إذا هلك ، وقد قيل : إنه واد من أودية جهنم ، والضمير في بينهم للمشركين وشركائهم { فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } الظن هنا بمعنى اليقين { مَصْرِفاً } أي معدلاً ينصرفون إليه { جَدَلاً } أي مخاصمة ومدافعة بالقول ويقتضي سياق الكلام ذم الجدل ، وسببها فيما قيل مجالة النضر بن الحارث ، على أن الإنسان هنا يراد به الجنس .
(1/955)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)
{ وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا } الآية : معناها أن المانع للناس من الإيمان والاستغفار هو القضاء عليهم بأن يأتيهم سنة الأمم المتقدمة ، وهي الإهلاك في الدنيا ، أو يأتيهم العذاب يعني عذاب الآخرة ، ومعنى ( قبلا ) معاينة وقرئ بضمتين وهو جمع قبيل : أي أنواعاً من العذاب .
(1/956)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)
{ لِيُدْحِضُواْ } أي ليبطلوا { وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً } يعني العذاب وما موصلة ، والضمير محذوف تقديره : أنذروه أو مصدرية { إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } هذه عقوبة على الإعراض المحكي عنهم ، أو تعليل لهم والأكنة جمع كنان وهو الغطاء ، والوقر الصمم وهما على وجه الاستعارة ، في قلة فهمهم للقرآن وعدم استجابتهم للإيمان { فَلَنْ يهتدوا إِذاً أَبَداً } يريد به من قضى الله أنه لا يؤمن { لَوْ يُؤَاخِذُهُم } الضمير لكفار قريش أو لسائر الناس لقوله : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس } [ النحل : 61 ] والجملة خبر المبتدأ والغفور ذو الرحمة صفتان اعترضتا بين المبتدأ والخبر توطئة لما ذكر بعد من ترك المؤاخذة ، ويحتمل أن يكون الغفور هو الخبر ، ويؤاخذهم بيان لمغفرته ورحمته ، والأول أظهر { بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ } قيل : هو الموت وقيل : عذاب الآخرة وقيل : يوم بدر { مَوْئِلاً } أي ملجأ يقال : وئل الرجل إذا لجأ .
(1/957)
وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
{ وَتِلْكَ القرى } يعني : عادا وثمود وغيرهم من المتقدمين ، والمراد هنا : أهل القرى ولذلك قال : أهلكناهم وفي ضمن هذا الإخبار تهديد لكفار قريش { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً } أي وقتاً معلوماً ، والمهلك هنا بضم الميم وفتح اللام اسم مصدر من أهلك ، فالمصدر على هذا مضاف للفاعل .
(1/958)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
{ وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ } هذا ابتداء قصة موسى مع الخضر ، وهو موسى بن عمران نبي الله ، وفتاه هو يوشع بن نون وهو ابن أخت موسى وهو من ذرية يوسف عليه السلام ، والفتى هنا بمعنى الخديم وسبب القصة فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " أن موسى عليه السلام خطب يوماً في بني إسرائيل فقيل له : هل تعلم أحداً أعلم منك؟ فقال لا : فأوحى الله إليه أن بل عبدنا الخضر أعلم منك فقال : يا رب دلني على السبيل إلى لقائه فأوحى الله إليه أن يحمل حوتاً في مكتل ويسير بطول سيف البحر حتى يبلغ مجمع البحرين ، فإذا فقد الحوت فإن الخضر هناك ، ففعل موسى ذلك حتى لقيه " { لا أَبْرَحُ حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين } قال موسى هذا الكلام وهو سائر أي : لا أبرح أسير حتى أبلغ مجمع البحرين ، فحذف خبر لا أبرح اختصاراً لدلالة المعنى عليه ، ومعنى لا أبرح هنا لا أزال ، لأن حقيقة لا أبرح تقتضي الإقامة في الموضع ، وكان موسى حين قالها على سفر لا يريد إقامة ، ومجمع البحرين : عند طنجة حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه ، وهو بحر الأندلس وقيل : هو مجمع بحر فارس وبحر الروم في المشرق { أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً } أي زماناً طويلاً ، والحقب بضم القاف وإسكانها ثمانون سنة ، وقيل زمان غير محدود وقيل : هي جمع حقبة وهي السنة { فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا } الضمير في بلغا لموسى وفتاه والضمير في بينهما للبحرين { نَسِيَا حُوتَهُمَا } نسب النسيان إليهما ، وإنما كان النسيان من الفتى وحده كما تقول فعل بنو فلان كذا : إذا فعله واحد منهم وقيل : نسي الفتى أن يقدمه ونسي موسى أن يأمره فيه بشيء { فاتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر سَرَباً } فاعل اتخذ الحوت ، والمعنى أنه سار في البحر فقيل : إن الحوت كان ميتاً مملوحاً ثم صار حياً بإذن الله ، ووقع في الماء فسار فيه .
وقال ابن عباس : إنما حيي الحوت لأنه مسه ماء عين يقال لها عين الحياة ما مست قط شيئاً إلا حيي ، وفي الحديث أن الله أمسك جرية الماء عن الحوت فصار مثل السراب ، وهو المسلك في جوف الأرض ، وذلك معجزة لموسى عليه السلام وقيل : اتخذ الحوت سبيله في البحر سرباً حتى وصل إلى البحر فعام على العادة ، ويريد هذا ما ورد في الحديث .
(1/959)
فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
{ فَلَمَّا جَاوَزَا } أي جاوزا الموضع الذي وصف له ، وهو الصخرة التي نام عندها فسار الحوت في البحر ، بينما كان موسى نائماً وكان ذهاب الحوت أمارة لقائه للخضر ، فلما استيقظ موسى أصابه الجوع ، فقال لفتاه : آتنا غداءنا { نَصَباً } أي تعباً { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة } قال الزمخشري : أرأيت هنا بمعنى أخبرني ثم قال ، فإن قلت ما وجه التئام هذا الكلام ، فإن كل واحد من أرأيت وإذ أوينا بمعنى أخبرني ثم قال ، فإن قلت ما وجه التئام هذا الكلام ، فإن كل واحد من أرأيت وإذ أوينا وفإني نسيت الحوت لا متعلق له؟ فالجواب أنه لما طلب موسى الحوت ذكر يوشع ما رأى منه ، وما اعتراه ومن نسيانه ، فدهش فطفق يسأل موسى عن سبب ذلك فكأنه قال : أرأيت ما دهاني إذ أوينا إلى الصخرة ، فإني نسيت الحوت فحذف بعض الكلام { نَسِيتُ الحوت } أي نسيت أن أذكر لك ما رأيت من ذهابه في البحر وتقديره : نسيت ذكر الحوت { أَنْ أَذْكُرَهُ } بدل من الهاء في أنسانيه وهو بدل اشتمال .
{ واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً } يحتمل أن يكون هذا من كلام يوشع ، أي اتخذ الحوت سبيله في البحر عجباً للناس أو اتخذ موسى سبيل الحوت عجباً أي تعجب هو منه وإعراب عجباً مفعول ثان لاتخذ مثل سرباً وقيل : إن الكلام تم عند قوله في البحر ثم ابتدأ التعجب فقال عجباً وذلك بعيد { قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } أي فقد الحوت هو ما كنا نطلب؛ لأنه أمارة على وجدان الرجل { فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً } أي رجعا في طريقهما يقصان أثرهما الأول لئلا يخرجا عن الطريق { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ } هو الخضر { آتيناه رَحْمَةً } يعني النبوة على قول من قال : إن الخضر نبيّ . وقيل : إنه ليس بنبّي ولكنه وليّّ ، وتظهر نبوته من هذه القصة أنه فعل أشياء لا يعملها إلا بوحي ، واختلف أيضاً هل مات أو هو حيّ إلى الآن؟ ويذكر كثير من الصلحاء أنهم يرونه ويكلمهم { وعلمناه مِن لَّدُنَّا عِلْماً } في الحديث أن موسى وجد الخضر مسجّى بثوبه فقال له : السلام عليك فرفع رأسه وقال : وأنى بأرضك السلام قال له : من أنت؟ قال : أنا موسى قال قال : بلى . ولكني أحببت لقاءك وأن أتعلم منك . قال : إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم الله علمكه لا أعلمه أنا { قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ } الآية : مخاطبة فيها ملاطفة وتواضع وكذلك ينبغي أن يكون الإنسان مع من يريد أن يتعلم منه { رُشْداً } قرئ بضم الراء وإسكان الشين وبفتحها والمعنى واحد ، وانتصب على أنه مفعول ثانٍ بتعلمني أو حال من الضمير في أتبعك .
(1/960)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)
{ فانطلقا } الضمير لموسى والخضر . وفي الحديث أنهما انطلقا ماشيين على سيف البحر ، حتى مرت بهما سفينة فعرفها الخضر فحمل فيها بغير نوال أي بغير أجرة { خَرَقَهَا } روي أن الخضر أزال لوحين من ألواحها { شَيْئاً إِمْراً } أي عظيماً وقيل : منكراً { فانطلقا } يعني بعد نزولهما من السفينة فمرا بغلمان يلعبون ، وفيهم غلام وضيء الصورة فاقتلع الخضر رأسه ، وروي أن اسم الغلام جيسورا بالجيم ، وقيل بالحاء المهملة قال الزمخشري : إن قلت لم قال خرقها بغير فاء ، وقال فقتله بالفاء؛ والجواب أن خرقها جواب الشرط ، وقتله من جملة الشرط معطوف عليه والخبر : قال أقتلت نفساً ، فإن قيل : لم خولف بينهما؟ فالجواب : أن خرق السفينة لم يتعقب الركوب وقد تعقب القتل لقاء الغلام { نَفْساً زَكِيَّةً } قيل : إنه كان لم يبلغ ، فمعنى زكية ليس له ذنب وقيل : إنه كان بالغاً ، ولكنه لم ير له الخضر ذنباً { بِغَيْرِ نَفْسٍ } يقتضي أنه لو كان قد قتل نفساً لم يكن بقتله بأس على وجه القصاص ، وهذا يدل على أن الغلام كان بالغاً فإن غير البالغ لا يقتل وإن قتل نفساً { شَيْئاً نُّكْراً } أي منكراً وهو أبلغ من قوله : إمراً ويجوز ضم الكاف وإسكانها { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ } بزيادة لك فيه من الزجر والإغلاط ما ليس في قوله أولاً : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً { بَعْدَهَا } الضمير للقصة وإن لم يتقدم لها ذكر ، ولكن سياق الكلام يدل عليها { قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً } أي قد أعذرت إليّ فأنت معذور عندي ، وفي الحديث كانت الأولى من موسى نسياناً .
(1/961)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
{ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ } قيل : هي أنطاكية ، وقيل برقة .
وقال أبو هريرة وغيره : هي بالأندلس ويذكر أنها الجزيرة الخضراء ولك على قول أن مجمع البحرين عند طنجة وسبتة { استطعمآ أَهْلَهَا } أي طلبا منهم طعاماً { جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } أن يسقط وإسناده الإرادة إلى الجدار مجاز ، ومثل ذلك كثير في كلام العرب ، وحقيقته أنه قارب أن ينقضّ ووزن ينقضّ ينفعل وقيل : يفعلّ بالتشديد كيحمرّ { فَأَقَامَهُ } قيل : إنه هدمه ثم بناه وقيل مسحه بيده وأقامه فقام { لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } أي قال موسى للخضر : لو شئت لاتخذت عليه أجراً أي طعاماً نأكله { قَالَ هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } إنما قال له هذا لأجل شرطه في قوله : " إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني " على أن قوله : " لو شئت لاتخذت عليه أجراً " ليس بسؤال ولكن في ضمنه أمر بأخذ الأجرة عليه لأنهما كانا محتاجين إلى الطعام ، والبين هنا ليس بظرف وإنما معناه الوصلة والقرب ، وقال الزمخشري : الأصل هذا فراق بيني وبينك بتنوين فراق ونصب بيني على الظرفية ، ثم أضيف المصدر إلى الظرف والإشارة بقوله هذا إلى السؤال الثالث ، الذي أوجب الفراق .
(1/962)
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
{ أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لمساكين } قيل : إنهم تجار ، ولكنه قال فيهم : مساكين على وجه الإشفاق عليهم ، لأنهم كانوا يُغصبون سفينتهم أو لكونهم في لجج البحر ، وقيل : كانوا إخوة عشرة منهم خمسة عاملون بالسفينة ، وخمسة ذوو عاهات لا قدرة لهم وقرئ مسّاكين بتشديد السين ، أي يمسكون السفينة { وَكَانَ وَرَآءَهُم } قيل : معناه قدامهم ، وقرأ ابن عباس أمامهم ، وقال ابن عطية : إن وراءهم على بابه؛ ولكن روعي به الزمان فالوراء هو المستقبل والأمام هو الماضي { كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً } عموم معناه الخصوص في الجياد والصحاح من السفن ، ولذلك قرأ نقل صحيح ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، لأن قوله { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } مؤخر في المعنى عن ذكر غصبها لأن خوف الغصب سبب في أنه عابها وإنما قُدم للعناية به .
{ وَأَمَّا الغلام } روي انه كان كافراً ، وروي أنه كان يفسد في الأرض ، { فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا } المتكلم بذلك الخضر وقيل : إنه من كلام الله وتأويله على هذا فكرهنا ، وقال ابن عطية : إنه من نحو ما وقع في القرن من عسى ولعل ، وإنما هو في حق المخاطبين ومعنى : يرهقهما طغياناً وكفراً : يكلفهما ذلك ، والمعنى أن يحملهما حبة على اتباعة أو يضر بهما لمخالطته مع مخالفته لهما { خَيْراً مِّنْهُ } أي غلاماً آخراً خيراً من الغلام المذكور المقتول { زكاوة } أي طهارة وفضيلة في دينه { وَأَقْرَبَ رُحْماً } أي رحمة وشفقة ، فقيل : المعنى أن يرحمها ، وقيل يرحمانه { لغلامين يَتِيمَيْنِ } اليتيم من فقد أبويه قبل البلوغ ، وروي أن اسم الغلامين أصرم وصريم ، واسم أبيهما كاشح وهذا يحتاج إلى صحة نقل { كَنزٌ لَّهُمَا } قيل مال عظيم ، وقيل : كان علماً في صحف مدفونة ، والأول أظهر { وَكَانَ أَبُوهُمَا صالحا } قيل : إنه الأب السابع ، وظاهر اللفظ أنه الأقرب { فَأَرَادَ رَبُّكَ } أسند الإرادة هنا إلى الله لأنها في أمر مغيب مستأنف لا يعلم ما يكون منه إلا الله ، وأسند الخضر إلى نفسه في قوله فأردت أن أعيبها لأنها لفظة عيب ، فتأدب بأن لا يسندها إلى الله وذلك كقول إبراهيم عليه السلام { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [ الشعراء : 80 ] فأسند المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تأدباً ، واختلف في قوله : فأردنا أن يبدلهما هل هو مسند إلى الضمير الخضر أو إلى الله ، { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } هذا دليل على نبوّة الخضر ، لأن المعنى أنه فعل بأمر الله أو بوحي .
(1/963)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين } السائلون اليهود ، أو قريش بإشارة اليهود ، وذو القرنين هو الإسكندر الملك ، وهو يوناني وقيل رومي وكان رجلاً صالحاً ، وقيل كان نبياً ، وقيل كان ملكاً بفتح اللام والصحيح أنه ملك بكسر اللام واختلف لم سمي ذو القرنين فقيل : كان له ضفيرتان من شعرهما قرناه ، فسمي بذلك وقيل : لأنه بلغ المشرق والمغرب وكأنه حاز قرني الدنيا { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض } التمكين له أنه ملك الدنيا ودانت له الملوك كلهم { وآتيناه مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } أي علماً وفهما ، يتوصل به إلى معرفة الأشياء والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو غير ذلك { فَأَتْبَعَ سَبَباً } أي طريقاً يوصله { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } قرئ بالهمز على وزن فعلة أي ذات حمأة وقرئ بالياء على وزن فاعله وقد اختلف في ذلك معاوية وابن عباس فقال ابن عباس : حمئة وقال معاوية حامية فبعثا إلى كعب الأحبار ليخبرهما بالأمر فقال : أما العربية فأنتما أعلما بها مني ، ولكني أجد في التوارة أنها تغرب في ماء وطين فوافق ذلك قراءة ابن عباس ومعنى { حَامِيَةٌ } [ الغاشية : 4 ] حارة ، ويحتمل أن يكون بمعنى حمية ولكن سهلت همزته ويتفق معنى القراءتين . وقد قيل : يمكن أن يكون فيها حمئة ويكون حارة لحرارة الشمس فتكون جامعة للموضعين ، ويجتمع معنى القراءتين { قُلْنَا ياذا القرنين } استدل بهذا من قال إن ذا القرنين نبي لأن هذا القول وحي ويحتمل أن يكون بإلهام فلا يكون فيه دليل على نبوته { إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } كانوا كفاراً فخيره الله بين أن يعذبهم بالقتل ، أو يدعوهم إلى الإسلام ، فيحسن إليهم وقيل : الحسن هنا هو الأسر ، وجعله حسناً بالنظر إلى القتل { قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } اختار أن يدعوهم إلى الإسلام ، فمن تمادى على الكفر قتله ومن أسلم أحسن إليه ، والظلم هنا الكفر والعذاب القتل وأراد بقوله : عذاباً نكرا عذاب الآخرة { فَلَهُ جَزَآءً الحسنى } المراد بالحسنى الجنة أو الأعمال الحسنة { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } وعدهم بأن ييسر عليهم .
(1/964)
حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
{ وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً } هؤلاء القوم هم الزنج وهم أهل الهند ومن وراءهم ، ومعنى لم نجعل الآية أنهم ليس لهم بنيان إذ لا تحمل أرضهم البناء وإنما يدخلون من حر الشمس في أسراب تحت الأرض وقال ابن عطية : الظاهر أنها عبارة عن قرب الشمس منهم وقيل : الستر اللباس فكانوا على هذا لا يلبسون الثياب { كَذَلِكَ } أي أمر ذي القرنين كذلك ، أي كما وصفناه تعظيماً لأمره وقيل : إن كذلك راجع لما قبله أي لم نجعل لهم ستراً ، كما جعلنا لكم من المباني والثياب ، وقيل : المعنى وجد عندها قوماً كذلك ، أي مثل القوم الذين وجدوا عند مغرب الشمس وفعل معهم مثل فعله { بَيْنَ السَّدَّيْنِ } أي الجبلين وهما جبلان في طرف الأرض ، وقرئ بالفتح والضم وهما بمعنى واحد ، وقيل ما كان من خلقة الله فهو مضموم وما كان من فعل الناس فهو مفتوح { وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً } قيل هم الترك { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } عبارة عن بعد لسانهم عن ألسنة الناس ، فهم لا يفقهون القول إلا بالإشارة أو نحوها { يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ } قبيلتان من بني آدم في خلقهم تشويه ، منهم مفرط الطول ومفرط القصر { مُفْسِدُونَ فِي الأرض } لفسادهم بالقتل والظلم وسائر وجوه الشرط ، وقيل : كانوا يأكلون بني آدم .
{ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً } هذا استفهام في ضمنه عرض ورغبة ، والخرج الجباية يقال فيه خراج وقد قرئ بهما ، فعرضوا عليه أن يجعلوا له أموالاً ليقيم بها السد { قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } أي ما بسط الله لي من الملك خير من خرجكم ، فلا حاجة لي به ولكن أعينوني بقوة الأبدان وعمل الأيدي { رَدْماً } أي حاجزاً حصيباً ، والردم أعظم من السد .
(1/965)
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
{ ساوى بَيْنَ الصدفين } أي بين الجبلين { قَالَ انفخوا } يريد نفخ الكير؛ أي أوقدوا النار على الحديد { قِطْراً } أي نحاساً مذاباً وقيل هو الرصاص ، وروي أنه حفر الأساس حتى بلغ الماء ثم جعل البنيان من أصل اسطاعوا استطاعوا حذفت التاء تخفيفاً ، والضمير في يظهروه للسدّ ، ومعنى يظهروه يعلوه ويصعدوا على ظهره فالمعنى أن يأجوج ومأجوج لا يقدرون أن يصعدوا على السدّ لارتفاعه ولا ينقبوه لقوته { قَالَ هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّى } القائل ذو القرنين وأشار إلى الردم { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّى } يعني القيامة جعله دكاً أي مبسوطاً مسوى بالأرض .
(1/966)
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
{ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ } الضمير في تركنا لله عز وجل ، ويومئذ يحتمل أن يريد به يوم القيامة ، لأنه قد تقدم ذكره فالضمير في قوله بعضهم على هذا لجميع الناس ، أو يريد بقوله يومئذ يوم كمال السد ، والضمير في قوله : بعضهم على هذا ليأجوج ومأجوج ، والأول أرجح لقوله بعد ذلك : ونفخ في الصور فيتصل الكلام ويموج عبارة عن اختلاطهم واضطرابهم { وَنُفِخَ فِي الصور } الصور هو القرن الذي ينفخ فيه يوم القيامة حسبما جاء في الحديث ، ينفخ فيه إسرافيل نفختين إحداهما للصعق والأخرى للقيام من القبور { وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ } أي أظهرناها { كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ } عبارة عن عمى بصائرهم وقلوبهم ، وكذلك لا يستطيعون سمعاً { أَفَحَسِبَ الذين كفروا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دوني أَوْلِيَآءَ } يعني أنهم لا يكونون لهم أولياء ، كما حكي عنهم أنهم يقولون أنت ولينا من دونهم ، والعباد هنا من عُبد مع الله ممن لا يريد ذلك؛ كالملائكة وعيسى ابن مريم { أَعْتَدْنَا } أي يسرنا { نُزُلاً } ما ييسر للضيف والقادم عند نزوله ، والمعنى أن جهنم لهم بدل النزل كما أن الجنة نزل في قوله : ( كانت لهم جنات الفردوس نزلا ) ويحتمل أن يكون النزل موضع النزول .
(1/967)
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً } الآية في كفار العرب كقوله : كفروا بآيات ربهم ولقائه وقيل : في الرهبان لأنهم يتعبدون يظنون أن عبادتهم تنفعهم وهي لا تقبل منهم ، وفي قوله : يحسبون أنهم يحسنون تجنيس وهو الذي يسمى تجنيس التصحيف { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } أي ليس لهم حسنة توزن لأن أعمالهم قد حبطت { جنات الفردوس } هي أعلى الجنة حسبما ورد في الحديث ولفظ الفردوس أعجمي معرب { حِوَلاً } أي تحوّلا وانتقالاً .
(1/968)
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
{ قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لكلمات رَبِّى } الآية إخبار عن اتساع علم الله تعالى والكلمات هي المعاني القائمة بالنفس وهي المعلومات ، فمعنى الآية لو كتب علم الله بمداد البحر لنفد البحر ولم ينفد علم الله ، وكذلك لو جيء ببحر آخر مثله وذلك لأن البحر متناهٍ وعلم الله غير متناه { بِمِثْلِهِ مَدَداً } أي زيادة والمدد هو ما يمد به الشيء أي يكثر { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ } إن كان الرجاء هنا على بابه فالمعنى يرجو حسن لقاء ربه وأن يلقاه لقاء رضا وقبول ، وإن كان الرجاء بمعنى الخوف فالمعنى يخاف سوء لقاء ربه ، { وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } يحتمل أن يريد الشرك بالله وهو عبادة غيره فيكون راجعاً إلى قوله يوحى إليَّ أنما إلهكم إله واحد أو يريد الرياء؛ لأنه الشرك الأصغر واللفظ يحتمل الوجهين ، ولا يبعد أن يحمل على العموم في المعنيين والله أعلم .
(1/969)
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)
{ كهيعص } قد تكلمنا في أول البقرة على حروف الهجاء ، وكان علي بن أبي طالب يقول في دعائه : يا كهيعص فيحتمل أن تكون الجملة عنده اسماً من أسماء الله تعالى ، أو ينادي بالأسماء التي اقتطعت منها هذه الحروف { ذِكْرُ } تقديره هذا ذكر { عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ } وصفه بالعبودية تشريفاً له ، وإعلاماً له بتخصيصه وتقريبه ، ونصب عبده على أنه مفعول لرحمة ، فإنها مصدر أضيف إلى الفاعل ، ونصب المفعول ، وقيل : هو مفعول بفعل مضمر ، تقديره : رحمة عبده وعلى هذا يوقف على ما قبله وهذا ضعيف ، وفيه تكلف الإضمار من غير حاجة إليه ، وقطع العامل عن العمل بعد تهيئته له { إِذْ نادى رَبَّهُ } يعني دعاه { نِدَآءً خَفِيّاً } أخفاه لأنه يسمع الخفي كما يسمع الجهر ، ولأن الإخفاء أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء ، ولئلا يلومه الناس على طلب الولد { إِنَّي وَهَنَ } أي ضعف { واشتعل } استعارة للشيب من اشتعال النار { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } أي قد سعدت بدعائي لك فيما تقدم ، فاستجب لي في هذا ، فتوسل إلى الله بإحسانه القديم إليه .
(1/970)
قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)
{ وَإِنِّي خِفْتُ الموالى } يعني : الأقارب قيل : خاف أن يرثوه دون نسله ، وقيل : خاف أن يضيعوا الدين من بعده { مِن وَرَآءِى } أي من بعدي { عَاقِراً } أي عقيماً { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } يعني وارثاً يرثني ، قيل : يعني وراثة المال ، وقيل : وراثة العلم والنبوة وهو أرجح لقوله صلى الله عليه وسلم : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " وكذلك { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } العلم والنبوة ، وقيل : الملك ، ويعقوب هنا هو يعقوب بن إسحاق على الأصح { رَضِيّاً } أي مرضياً فهو فعيل : بمعنى مفعول { سَمِيّاً } يعني من سُمي باسمه ، وقيل : مثيلاً ونظيراً ، والأول أحسن هنا { أنى يَكُونُ لِي غلام } تعجب واستبعاد أن يكون له ولد مع شيخوخته وعقم امرأته ، فسأل ذلك أولاً لعلمه بقدرة الله عليه ، وتعجب منه لأنه نادر في العادة ، وقيل : سأله وهو في سنّ من يرجوه ، وأجيب بعد ذلك بسنين وهو قد شاخ { عِتِيّاً } قيل : يبساً في الأعضاء والمفاصل ، وقيل : مبالغة في الكبر { كذلك } الكاف في موضع رفع ، أي الأمر كذلك ، تصديقاً له فيما ذكر من كبره وعقم امرأته ، وعلى هذا يوقف على قوله . كذلك . ثم يبتدأ : قال ربك ، وقيل : إن الكاف في موضع نصب بقال ، وذلك إشارة إلى مبهم يفسره : هو عليّ هين { اجعل لي آيَةً } أي علامة على حمل امرأته { سَوِيّاً } أي سليماً غير أخرس ، وانتصابه على الحال من الضمير في تكلم ، والمعنى أنه لا يكلم الناس مع أنه سليم من الخرس ، وقيل : إن سوياً يرجع إلى الليالي أي مستويات { فأوحى إِلَيْهِمْ } أي أشار ، وقيل : كتب في التراب إذ كان لا يقدر على الكلام { أَن سَبِّحُواْ } قيل : معناه صلوا ، والسبحة في اللغة الصلاة ، وقيل : قولوا سبحان الله { يايحيى } التقدير قال الله ليحيى بعد ولادته : { خُذِ الكتاب } يعني التوراة { بِقُوَّةٍ } أي في العلم به والعمل به { وآتيناه الحكم صَبِيّاً } قيل : الحكم ، معرفة الأحكام ، وقيل : الحكمة ، وقيل : النبوة { وَحَنَاناً } قيل : معناه رحمة وقال ابن عباس : لا أدري ما الحنان { وزكاوة } أي طهارة ، وقيل ، ثناء كما يزكى الشاهد .
(1/971)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
{ واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ } خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم والكتاب القرآن { إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا } أي اعتزلت منهم وانفردت عنهم { مَكَاناً شَرْقِياً } أي إلى جهة الشرق { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } يعني جبريل ، وقيل : عيسى ، والأول هو الصحيح؛ لأن جبريل هو الذي تمثل لها باتفاق { قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } لما رأت الملك الذي تمثل لها في صورة البشر ، قد دخل عليها خافت أن يكون من بني آدم ، فقالت له هذا الكلام ، ومعناه : إن كنت ممن يتقي الله فابعد عني ، فإني أعوذ بالله منك ، وقيل : إن تقيا اسم رجل معروف بالشرّ عندهم وهذا ضعيف وبعيد { لأَهَبَ لَكِ غلاما زَكِيّاً } الغلام الزكيّ هو عيسى عليه السلام ، وقرئ ليهب بالياء ، والفاعل فيه هو ضمير الرب سبحانه وتعالى ، وقرئ بهمزة التكلم ، وهو جبريل ، وإنما نسب الهبة إلى نفسه ، لأنه هو الذي أرسله الله بها ، أو يكون قال ذلك حكاية عن الله تعالى { وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } البغيّ هي المرأة المجاهرة بالزنا ، ووزن بغيّ فعول { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً } الضمر للولد واللام تتعلق بمحذوف تقديره : لنجعله آية فعلنا ذلك .
(1/972)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)
{ فَحَمَلَتْهُ } يعني : في بطنها وكانت مدة حملها ثمانية أشهر ، وقال ابن عباس : حملته وولدته في ساعة { مَكَاناً قَصِيّاً } أي بعيداً ، وإنما بعدت حياء من قومها أن يظنوا بها الشر { فَأَجَآءَهَا } معناه : ألجأها وهو منقول من جاء بهمزة التعدية { المخاض } أي النفاس { إلى جِذْعِ النخلة } رُوي أنها احتضنت الجذع لشدة وجع النفاس { قَالَتْ ياليتني مِتُّ } إنما تمنت الموت خوفاً من إنكار قومها ، وظنهم بها الشر ، ووقوعهم في دمها وتمني الموت جائز في مثل هذا ، وليس هذا من تمني الموت لضر نزل بالبدن فإنه منهي عنه .
{ وَكُنتُ نَسْياً } النِسْي الشيء الحقير الذي لا يؤبه له ، وقال بفتح النون وكسرها { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } قرئ من بفتح الميم وكسرها ، وقد اختلف على كلتا القراءتين ، هل هو جبريل أو عيسى ، وعلى أنه جبريل قيل : إنه كان تحتها كالقابلة ، وقيل : كان في مكان أسفل من مكانها { أَلاَّ تَحْزَنِي } تفسير للنداء ، فأن مفسرة { سَرِيّاً } جدولاً وهي ساقية من ماء كان قريباً من جذع النخلة ، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم فسره بذلك وقيل : يعني عيسى فإن السري الرجل الكريم { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة } كان جذعاً يابساً ، فخلق الله فيه الرطب كرامة لها وتأنيساً ، وقد استدل بعض الناس بهذه الآية على أن الإنسان ينبغي له أن يتسبب في طلب الرزق ، لأن الله أمر مريم بهز النخلة ، والباء في بجذع زائدة كقوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } [ البقرة : 195 ] { تساقط عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً } الفاعل بتساقط النخلة ، وقرئ بالياء والفاعل على ذلك الجذع ، ورطباً تمييز ، والجني معناه : الذي طاب وصلح لأن يجتنى { فَكُلِي واشربي } أي كلي من الرطب ، واشربي من ماء الجدول ، وهو السري { وَقَرِّي عَيْناً } أي طيبي نفساً بما جعل الله لك من ولادة نبي كريم ، أو من تيسير المأكول والمشروب { فَإِمَّا تَرَيِنَّ } هي إن الشرطية دخلت عليها ما الزائدة للتأكيد ، وترين فعل خوطبت به المرأة ، ودخلت عليه النون الثقيلة للتأكيد { إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً } أي صمتاً عن الكلام ، وقيل : يعني الصيام لأن من شرطه في شريعتهم الصمت ، وإنما أمرت بالصمت صيانة لها عن الكلام ، مع المتهمين لها ، ولأن عيسى تكلم عنها ، فإخبارها بأنها نذرت الصمت بهذا الكلام ، وقيل : بالإشارة ، ولا يجوز في شريعتنا نذر الصمت { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا } لما رأت الآيات : علمت أن الله سيبين عذرها ، فجاءت به من المكان القصي إلى قومها { شَيْئاً فَرِيّاً } أي شنيعاً وهو من الفرية .
(1/973)
يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
{ ياأخت هارون } كان هارون عابداً من بني إسرائيل ، شبهت به مريم في كثرة العبادة فقيل لها أخته بمعنى أنها شبهه ، وقيل : كان أخاها من أبيها ، وكان رجلاً صالحاً ، ويل : هو هارون النبي أخو موسى وكانت من ذريته ، فأخت على هذا كقولك : أخو بني فلان أي واحد منهم ، ولا يتصور على هذا القول أن تكون أخته من النسب حقيقة ، فإن بين زمانهما دهراً طويلاً { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ } إي إلى ولدها ليتكلم وصمتت هي كما أمرت { كَانَ فِي المهد صَبِيّاً } كان بمعنى يكون ، والمهد هو المعروف ، وقيل المهد هنا حجرها { آتَانِيَ الكتاب } يعني الإنجيل ، أو التوراة والإنجيل { مُبَارَكاً } من البركة وقيل : نفاعاً ، وقيل : معلماً للخير . واللفظ أعم من ذلك { وأوصاني بالصلاة والزكاة } هما المشروعتان ، وقيل : الصلاة هنا الدعاء ، والزكاة : التطهير من العيوب { وَبَرّاً } معطوف على مباركاً ، روي أن عيسى تكلم بهذا الكلام وهو في المهد ، ثم عاد إلى حالة الأطفال على عادة البشر ، وفي كلامه هذا ردّ على النصارى ، لأنه اعترف أنه عبد الله ، وردّ على اليهود لقوله : وجعلني نبياً { والسلام عَلَيَّ } أدخل لام التعريف هنا لتقدّم السلام المنكر في قصة يحيى ، فهو كقولك : رأيت رجلاً فأكرمت الرجل ، وقال الزمخشري : الصحيح أن هذا التعريف تعريض بلغة من اتهم مريم كأنه قال : السلام كله عليّ لا عليكم ، بل عليكم ضدّه .
(1/974)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
{ قَوْلَ الحق } بالرفع خبر مبتدأ تقديره : هذا قول الحق ، أو بدل أو خبر بعد خبر ، وبالنصب على المدح بفعل مضمر ، أو على المصدرية من معنى الكلام المتقدم { فِيهِ يَمْتُرُونَ } أي يختلفون فهو من المراء ، أو يشكون فهو من المِرية ، والضمير لليهود والنصارى { وَإِنَّ الله رَبِّى } من كلام عيسى وقرئ بفتح الهمز تقديره ولأن الله ربي وربكم فاعبدوه ، وبكسرها لابتداء الكلام ، وقيل : هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : يا محمد قل لهم ذلك عيسى بن مريم ، وأن الله ربي وربكم ، والأول أظهر { فاختلف الأحزاب } هذا ابتداء إخبار ، والأحزاب اليهود والنصارى ، لأنهم اختلفوا في أمر عيسى اختلافاً شديداً ، فكذبه اليهود وعبده النصارى ، والحق خلاف أقوالهم كلها { مِن بَيْنِهِمْ } معناه من تلقائهم ، ومن أنفسهم وأن الاختلاف لم يخرج عنهم { مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } يعني يوم القيامة { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } أي ما أسمعهم وما أبصرهم يوم القيامة ، على أنهم في الدنيا في ضلال مبين .
(1/975)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)
{ يَوْمَ الحسرة } هو يوم يؤتى بالموت في صورة كبش فيذبح ثم يقال : يا أهل الجنة خلود ولا موت ويا أهل النار خلود لا موت ، وقيل : هو يوم القيامة وانتصاب يوم على المفعولية ، لا على الظرفية { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ } يعني في الدنيا ، فهو متعلق بقوله في ضلال مبين أي بأنذرهم .
(1/976)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)
{ صِدِّيقاً } بناء مبالغة من الصدق أو من التصديق ، ووصفه بأنه صدّيق قبل الوحي نُبِّئ بعده ، ويحتمل أنه جمع الوصفين { مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ } يعني الأصنام { صراطا سَوِيّاً } أي قويما { لأَرْجُمَنَّكَ } قيل : يعني الرجم بالحجارة وقيل : الشتم { واهجرني مَلِيّاً } أي حيناً طويلاً ، وعطف اهجرني على محذوف تقديره احذر رجمي لك { قَالَ سلام عَلَيْكَ } وداع مفارقة ، وقيل : مسالمة لا تحية لأن ابتداء الكافر بالسلام لا يجوز { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ } وعد ، وهو الذي أشير إليه بقوله : عن موعدة وعدها إياه قال ابن عطية ، معناه : سأدعو الله أن يهديك فيغفر لك بإيمانك ، وذلك لأن الاستغفار للكافر لا يجوز ، وقيل : وعده أن يستغفر له مع كفره ، ولعله كان لم يعلم أن الله لا يغفر للكفار حتى أعلمه بذلك ، ويقوي هذا القول قوله : { واغفر لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين } [ الشعراء : 86 ] ، ومثل ثذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب : لأستغفرن لك ما لم أنه عنك { حَفِيّاً } أي باراً متلطفاً .
(1/977)
وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
{ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ } أي ما تعبدون { إسحاق وَيَعْقُوبَ } هما ابنه وابن ابنه ، وهبهما الله له عوضاً من أبيه وقومه الذين اعتزلهم { مِّن رَّحْمَتِنَا } النبوّة ، وقيل : المال والولد ، واللفظ أعم من ذلك ، لسان صدق يعني الثناء الباقي عليهم إلى آخر الدهر .
(1/978)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54)
{ مُخْلِصاً } بكسر اللام أي أخلص نفسه وأعماله لله وبفتحها أي أخلصه الله للنبوّة والتقريب { وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } النبي أعم من الرسول ، لأن النبي كل من أوحى الله إليه ، ولا يكون رسولاً حتى يرسله الله إلى الناس مع النبوة ، فكل رسول نبيّ وليس كل نبي رسول { وناديناه } هو تكليم الله له { الطور } وهو الجبل المشهور بالشام { الأيمن } صفة للجانب ، وكان على يمين موسى حين وقف عليه ويحتمل أن يكون من اليمن { نَجِيّاً } النجي فعيل وهو المنفرد بالمناجاة وقيل : هو من المناجاة ، والأول أصح { مِن رَّحْمَتِنَآ } من سببية أو للتبعيض ، وأخاه على الأول مفعول وعلى الثاني بدل { إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد } روي انه وعد رجلاً إلى مكان فانتظره فيه سنة ، وقيل : الإشارة إلى صدق وعده في قصة الذبح في قوله { ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين } [ الصافات : 102 ] ، وهذا يدل على قول ما قال : إن الذبيح هو إسماعيل .
(1/979)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
{ إِدْرِيسَ } هو أول نبيّ بعث إلى أهل الأرض بعد آدم ، وهو أول من خط بالقلم ، ونظر في علم النجوم وخاط الثياب ، وهو من أجداد نوح عليه السلام { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } في حديث الإسراء : وإنه في السماء الرابعة ، وقيل : يعني رفعة النبوة وتشريف منزلته . والأول أشهر ورجحه الحديث { أولئك } إشارة إلى كل من ذكر في هذه السورة ، من زكريا إلى إدريس { مِّنَ النبيين } من هنا للبيان ، والتي بعدها للتبعيض { مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ } يعني نوحاً وإدريس { وَمِمَّنْ حَمَلْنَا } يعني إبراهيم { وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ } يعني إسماعيل وإسحاق ويعقوب { وَإِسْرَائِيلَ } يعني أن من ذريته موسى وهارون ومريم وعيسى وزكريا ويحيى { وَمِمَّنْ هَدَيْنَا } يحتمل العطف على من الأولى أو الثانية { وَبُكِيّاً } جمع باك ووزنه فعول .
(1/980)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } يقال في عقب الخير خلف بفتح اللام وفي عقب الشر خلف بالسكون وهو المعني هنا . واختلف فيمن المراد بذلك ، فقيل : النصارى لأنهم خلفوا اليهود ، وقيل : كل من كفر وعصى من بعد بني إسرائيل { أَضَاعُواْ الصلاوة } قيل : تركوها ، وقيل أخرجوها عن أوقاتها { يَلْقَونَ غَيّاً } الغي : الخسران ، وقد يكون بمعنى الضلال فيكون على حذف مضاف تقديره : يلقون جزاء غيّ { إِلاَّ مَن تَابَ } استثناء يحتمل الاتصال والانقطاع .
(1/981)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
{ بالغيب } أي أخبرهم من ذلك بما غاب عنهم { مَأْتِيّاً } وزنه مفعول ، فقيل : إنه بمعنى فاعل ، لأن الوعد هو الذي يأتي وقيل إنه على بابه لأن الوعد هو الجنة ، وهم يأتونها { لَغْواً } يعني ساقط الكلام { إِلاَّ سلاما } استثناء منقطع { بُكْرَةً وَعَشِيّاً } قيل : المعنى أن زمانهم يقدر بالأيام والليالي ، إذ ليس في الجنة نهار ولا ليل ، وقيل : المعنى أن الرزق يأتيهم في كل حين يحتاجون إليه ، وعبر عن ذلك بالبُكرة والعشي على عادة الناس في أكلهم .
(1/982)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
{ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } حكاية قول جبريل حين غاب عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : أبطأت عني واشتقت إليك فقال : إني كنت أشْوَق ، ولكني عبد مأمور؛ إذا بُعثت نزلت وإذا حُبست احتسبت . ونزلت هذه الآية { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك } أي له ما قدامنا وما خلفنا ، وما نحن فيه من الجهات والأماكن ، فليس لنا الانتقال من مكان إلى مكان إلا بأمر الله ، وقيل ما بين أيدينا : الدنيا إلى النفخة الأولى في الصور ، وما خلفنا : الآخرة ، وما بين ذلك : ما بين النفختين وقيل : ما مضى من أعمالنا وما بقي منها ، والحال التي نحن فيها ، والأول أكثر مناسبة لسياق الآية { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } هو فعيل من النسيان بمعنى الذهول وقيل بمعنى الترك ، والأول أظهر .
(1/983)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)
{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } أي مثيلاً ونظيراً فهم من المسامي والمضاهي ، وقيل : من تسمى باسمه ، لأنه لم يتسم باسم الله غير الله تعالى { وَيَقُولُ الإنسان أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } هذه حكاية قول من أنكر البعث من القبور ، والإنسان هنا جنس يراد به الكفار ، وقيل : إن القائل لذلك أبي بن خلف ، وقيل أمية بن خلف ، والهمزة التي دخلت على أئذا ما مت للإنكار والاستبعاد ، واللام في قوله لسوف : سيقت على الحكاية لقول من قال بهذا المعنى ، والإخراج يراد به البعث .
(1/984)
أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
{ أَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خلقناه مِن قَبْلُ } احتجاج على صحة البعث وردّ على من أنكره ، لأن النشأة الأولى دليل على الثانية { لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين } يعني قرناءهم من الشياطين الذين أضلوهم ، والواو للعطف أو بمعنى مع فيكون الشياطين مفعول معه { جِثِيّاً } جمع جاث ، ووزنه مفعول من قولك : جثا الرجل إذا جلس جلسة الذليل الخائف { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ } الشيعة : الطائفة من الناس التي تتفق على مذهب أو اتباع إنسان ، ومعنى الآية أن ينزع من كل طائفة أعتاها فيقدمه إلى النار ، وقال بعضهم : المعنى نبدأ بالأكبر جرماً فالأكبر جرماً { أَيُّهُمْ } اختلف في إعرابه ، فقال سيبويه : هو مبني على الضم؛ لأنه حذف العائد عليه من الصلة ، وكأن التقدير : أيهم أشدّ فوجب البناء ، وقال الخليل : هو مرفوع على الحكاية تقديره : الذي قال له أشدّ ، وقال يونس : علق عنها الفعل وارتفعت بالابتداء { أولى بِهَا صِلِيّاً } الصلي : مصدر صلى النار ، ومعنى الآية : أن الله يعلم من هو أولى بأن يصلى العذاب .
(1/985)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
{ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } خطاب لجميع الناس عند الجمهور ، فأما المؤمنون فيدخلونها ، ولكنها تخمد فلا تضرهم ، فالورود على هذا بمعنى الدخول كقوله : { حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا واردون } [ الأنبياء : 89 ] ، { أَوْرَدَهُمُ النار } [ هود : 98 ] ، بمعنى القدوم عليها كقوله { وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ } [ القصص : 33 ] ، والمراد بذلك جواز الصراط وقيل : الخطاب للكفار ، فلا إشكال { حَتْماً } أي أمراً لا بدّ منه { ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا } إن كان الورود بمعنى الدخول ، فنجاة الذين اتقوا بكون النار عليهم برداً وسلاماً ، ثم بالخروج منها ، وإن كان بمعنى المرور على الصراط فنجاتهم بالجواز والسلامة من الوقوع فيها { أَيُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } الفريقان هم المؤمنون والكفار ، والمقام اسم مكان من قام ، وقرئ بالضم من أقام ، والنديّ المجلس ، ومعنى الآية : أن الكفار قالوا للمؤمنين : نحن خير منكم مقاماً : أي أحسن حالاً في الدنيا ، وأجمل مجلساً فنحن أكرم على الله منكم .
(1/986)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
{ وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ } كم مفعول بأهلكنا ، ومعنى الآية : رد على الكفار في قولهم المذكور : أي ليس حسن الحال في الدنيا دليلاً على الكرامة عند الله ، لأن الله قد أهلك من كان أحسن حالاً منكم في الدنيا { هُمْ أَحْسَنُ } قال الزمخشري : هذه الجملة في موضع نصب صفة لكم { أثاثا } أي متاع البيت ، وقال ابن عطية : هو اسم عام ، في المال العين والعروض والحيوان ، وهو اسم جمع ، وقيل هو جمع ، واحده أثاثه { وَرِءْياً } بهمزة ساكنة قبل الياء : معناه منظر حسن ، وهو من الرؤية ، والرئي اسم المرئي ، وقرئ بتشديد الياء من غير همز ، وهو تخفيف من الهمز ، فالمعنى متفق ، وقيل هو من ريِّ الشارب أي التنعم بالمشارب والمآكل ، وقرأ ابن عباس زيا بالزاي .
(1/987)
قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)
{ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } أي يمهله ويملي له ، واختلف هل هذا الفعل دعاء أو خبر سيق بلفظ الأمر تأكيداً { حتى } هنا غاية للمدّ في الإضلال { إِمَّا العذاب } يعني عذاب الدنيا { شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً } في مقابلة قولهم خير مقاماً وأحسن ندياً .
(1/988)
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
{ والباقيات الصالحات } ذكر في [ الكهف : 47 ] { وَخَيْرٌ مَّرَدّاً } أي مرجعاً وعاقبة { أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ } هو العاصي بن وائل { لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } كان قد قال : لئن بعثت كما يزعم محمد ليكونن لي هناك مال وولد { أَطَّلَعَ الغيب } الهمزة للإنكار ، والرد على العاصي في قوله { كَلاَّ } ردّ له عن كلامه { سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ } إنما جعله مستقبلاً لأنه إنما يظهر الجزاء والعقاب في المستقبل { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً } أي نزيد له فيه { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } أي نرث الأشياء التي قال إنه يؤتاها في الآخرة ، وهي المال والولد ، ووراثتها هي بأن يهلك العاصي ويتركها ، وقد أسلم ولداه هشام وعمرو رضي الله عنهما { وَيَأْتِينَا فَرْداً } أي بلا مال ولا ولد ولا ولي ولا نصير .
(1/989)
كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
{ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ } قيل : إن الضمير في يكفرون للكفار وفي عبادتهم للمعبودين ، فالمعنى كقولهم : ما كنا مشركين ، وقيل : إن الضمير في يكفرون للمعبودين ، وفي عبادتهم للكفار ، فالمعنى كقولهم : { مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ } [ يونس : 28 ] { وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } معناه يكون لهم خلاف ما أمّلوه منهم فيصير العز الذي أمّلوه ذلة ، وقيل : معناه : أعداء { أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين } تضمن معنى سلطاناً له ولذلك تعدّى بعلى { تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } أي تزجهم إلى الكفر والمعاصي { فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ } أي لا تستبطئ عذابهم وتطلب تعجيله إنما { نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } أي نعد مدّة بقائهم في الدنيا ، وقيل : نعدّ أنفاسهم .
(1/990)
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
{ وَفْداً } قيل : معناه ركباناً ، ومعنى الوفد لغة : القادمون وعادتهم الركوب فلذلك قيل ذلك ، وقيل مكرمون ، لأن العادة إكرام الوفود { وِرْداً } معناه عطاشاً لأن من يرد الماء لا يرده إلا للعطش { لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة } الضمير يحتمل أن يكون للكفار ، والمعنى لا يملكون أن يشفعوا إلا لمن أتخذ عهداً أو لا يملكون أن يشفع منهم إلا من اتخذ عهداً ، أو يكون الضمير للفريقين إذ قد ذكروا قبل ذلك؛ فالاستثناء أيضاً متصل ، ومن اتخذ : يحتمل أن يراد به الشافع أو المشفوع له { عَهْداً } يريد به الإيمان والأعمال الصالحة ، ويحتمل أن يريد به الإذن في الشفاعة . وهذا أرجح لقوله : لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ، والظاهر أن ذلك إشارة إلى شفاعة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الموقف حين ينفرد بها ، ويقول غيره من الأنبياء : نفسي نفسي .
(1/991)
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)
{ شَيْئاً إِدّاً } أي شيئاً صعباً { يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } أي يتشققن من قول الكفار : اتخذ الله ولداً { هَدّاً } أي انهداماً { أَن دَعَوْا } أي من أجل أن دعوا { للرحمن وَلَداً } وقرئ وُلْدا بضم الواو وإسكان اللام ، وهي لغة .
(1/992)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
{ إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض } ردّ على مقالة الكفار ، والمعنى أن الكل عبيده ، فكيف يكون أحد منهم ولداً ، له ، وإن نافية ، وكل مبتدأ وخبره آتى الرحمن { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً } هي المحبة والقبول الذي يجعله الله في القلوب لمن شاء من عباده ، وقيل : إنها نزلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه { يسرناه بِلِسَانِكَ } الضمير للقرآن وبلسانك أي بلغتك { قَوْماً لُّدّاً } جمع ألد ، وهو الشديد الخصومة والمجادلة ، والمراد بذلك قريش ، وقيل : معناه فجارا { أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } هو الصوت الخفي ، والمعنى أنهم لم يبق منهم أثر ، وفي ذلك تهديد لقريش .
(1/993)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)
قيل في { طه } : إنه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : معناه يا رجل ، وانظر الكلام على حروف الهجاء في سورة البقرة : { مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى } قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الصلاة حتى تورّمت قدماه ، فنزلت الآية تخفيفاً عنه ، فالشقاء على هذا إفراط التعب في العبادة ، وقيل : المراد به التأسف على كفر الكفار ، واللفظ عام في ذلك كله ، والمعنى أنه نفى عنه جميع أنواع الشقاء في الدنيا والآخرة ، لأنه أنزل عليه القرآن الذي هو سبب السعادة .
(1/994)
إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)
{ إِلاَّ تَذْكِرَةً } نصب على الاستثناء المنقطع ، وأجاز ابن عطية أن يكون بدلاً من موضع { لتشقى } إذ هو في موضع مفعول من أجله ، ومنع ذلك الزمخشري لاختلاف الجنسين ، ويصح أن ينتصب بفعل مضمر تقديره أنزلناه تذكرة .
(1/995)
تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)
{ تَنزِيلاً } نصب على المصدرية ، والعامل فيه مضمر وما أنزلنا وبدأ السورة بلفظ المتكلم في قوله ، ما أنزلنا ثم رجع إلى الغيبة في قوله { تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأرض } الآية وذلك هو الالتفات { والسماوات العلى } جمع عُلْيا .
(1/996)
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)
{ عَلَى العرش استوى } تكلمنا عليه في [ الأعراف : 53 ] { الثرى } هو في اللغة التراب النديّ ، والمراد به هنا الأرض .
(1/997)
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
{ وَإِن تَجْهَرْ } مطابقة هذا الشرط لجوابه كأنه يقول : إن جهرت أو أخفيت فإنه يعلم ذلك ، لأنه يعلم السرّ وأخفى { يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى } السر الكلام الخفيّ ، والأخفى ما في النفس ، وقيل : السر ما في نفوس البشر ، والأخفى ما انفرد الله بعلمه .
(1/998)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
{ الأسمآء الحسنى } تكلمنا عليها في [ الأعراف : 179 ] .
(1/999)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
{ وَهَلْ أَتَاكَ } لفظ استفهام والمراد به التنبيه { إِذْ رَأَى } العامل في إذ حديث لأن فيه معنى الفعل ، وكان من قصة موسى أنه رحل بأهله من مدين يريد مصر ، فسار بالليل واحتاج إلى النار ، فقدح بزناده فلم ينقدح ، فرأى ناراً فقصد إليها فناداه الله ، وأرسله إلى فرعون { إني آنَسْتُ نَاراً } أي رأيت { بِقَبَسٍ } هو الجذوة من النار تكون على رأس العود والقصبة ونحوها { بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى } يعني هدى إلى الطريق من دليل أو غيره .
(1/1000)
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
{ فاخلع نَعْلَيْكَ } قيل : إنما أمر بخلع نعليه ، لأنهما كانتا من جلد حمار ميت ، فأمر بخلع النجاسة ، واختار ابن عطية أن يكون أمر بخلعهما ليتأدب ، ويعظم البقعة المباركة ويتواضع في مقام مناجاة الله وهذا أحسن { بالواد المقدس } أي المطهر { طُوًى } في معناه قولان : أحدهما أنه اسم للوادي ، وإعرابه على هذا بدل ، ويجوز تنوينه على أنه مكان ، وترك صرفه على أنه بقعة ، والثاني : أن معناه مرتين ، فإعرابه على هذا مصدر : أي قدس الوادي مرة بعد مرة ، أو نودي موسى مرة بعد مرة .
(1/1001)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14)
{ وَأَقِمِ الصلاة لذكري } قيل : المعنى لتذكرني فيها ، وقيل : لأذكرك بها ، فالمصدر على الأول مضاف للمفعول ، وعلى الثاني مضاف للفاعل ، وقيل : معنى لذكري : عند ذكري كقوله : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس } [ الإسراء : 178 ] أي عند دلوك الشمس ، وهذا أرجح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استدل بالآية : على وجوب الصلاة على الناسي إذا ذكرها .
(1/1002)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
{ أَكَادُ أُخْفِيهَا } اضطرب الناس في معناه ، فقيل أخفيها بمعنى أظهرها ، وأخفيت هذا من الأضداد .
وقال ابن عطية : هذا قول مختل ، وذلك أن المعروف في اللغة أن يقال : أخفى بالألف من الإخفاء ، وخفي بغير ألف بمعنى أظهر ، فلو كان بمعنى الظهور لقال : أخفيها بفتح همزة المضارع ، وقد قرىء بذلك من الشاذ ، وقال الزمخشري : قد جاء في بعض اللغات أخفى بمعنى خفي : أي أظهر ، فلا يكون هذا القول مختلاً على هذه اللغة ، وقيل : أكاد بمعنى أريد ، فالمعنى أريد أخفائها وقيل : إن المعنى إن الساعة آتية أكاد ، وتم هنا الكلام بمعنى أكاد أنفذها لقربها ، ثم استأنف الإخبار فقال أخفيها ، وقيل : المعنى أكاد أخفيها عن نفسي فكيف عنكم ، وهذه الأقوال ضعيفة ، وإنما الصحيح أن المعنى أن الله أَبْهم وقت الساعة فلم يطلع عليه أحداً ، حتى أنه كاد أن يخفي وقوعها لإبهام وقتها ، ولكنه لم يخفها إذا أخبر بوقوعها ، فالأخفى على معناه المعروف في اللغة ، وكاد على معناها من مقاربة الشيء دون وقوعه وهذا المعنى هو اختيار المحققين { لتجزى } يتعلق بآتية { بِمَا تسعى } أي بما تعمل .
(1/1003)
فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
{ فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا } الضيمر للساعة : أي لا يصدنك عن الإيمان بها والاستعداد لها ، وقيل الضمير للصلاة وهو بعيد ، والخطاب لموسى عليه السلام ، وقيل : لمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك بعيد { فتردى } معناه تهلك ، والردى هو الهلاك وهذا الفعل منصوب في جواب : لا يصدّنك .
(1/1004)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)
{ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى } إنما سأله ليريه عظيم ما يفعله في العصا من قلبها حية ، فمعنى السؤال تقرير أنها عصا؛ فيتبين له الفرق بين حالها قبل أن يقلبها ، وبعد أن قلبها ، وقيل : إنما سأله ليؤنسه ويبسطه بالكلام .
(1/1005)
قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
{ وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي } معناه أضرب بها الشجر لينتشر الورق للغنم { مَآرِبُ } أي حوائج .
(1/1006)
فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
{ حَيَّةٌ تسعى } أي تمشي { سِيَرتَهَا الأولى } يعني أنه لما أخذها عادت كما كانت أول مرة ، وانتصب { سِيَرتَهَا } على أنه ظرف أو مفعول بإسقاط حرف الجر .
(1/1007)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22)
{ واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ } الجناح هنا الجنب أي تحت الإبط ، وهو استعارة من جناح الطائر { تَخْرُجْ بَيْضَآءَ } روي أن يده خرجت وهي بيضاء كالشمس { مِنْ غَيْرِ سواء } يريد من غير برص ولا عاهة .
(1/1008)
لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
{ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى } يحتمل أن تكون { الكبرى } مفعول { لِنُرِيَكَ } ، وأن تكون صفة للآيات ويختلف المعنى على ذلك .
(1/1009)
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)
{ اشرح لِي صَدْرِي } إن قيل : لم قال { اشرح لِي } { وَيَسِّرْ لي } ، مع أن المعنى يصح دون قوله { لي } ؟ فالجواب : أن ذلك تأكيد وتحقيق للرغبة { واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي } العقدة هي التي اعترته بالجمرة حين جعلها في فيه وهو صغير ، حين أراد فرعون أن يجرّبه ، وإنما قال : { عُقْدَةً } بالتنكير لأنه طلب حلَّ بعضها ليفقهوا قوله ، ولم يطلب الفصاحة الكاملة .
(1/1010)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29)
{ وَزِيراً } أي معيناً ، وإعراب هارون بدل أو مفعول أول .
(1/1011)
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)
{ أَزْرِي } أي ظهري والمراد القوة ومنه : فآزره أي قوّاه .
(1/1012)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)
{ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ } أي قد أعطيناك كل ما طلبت من الأشياء المذكورة .
(1/1013)
إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38)
{ إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ } يحتمل أن يكون وحي كلام بواسطة ملك ، أو وحي إلهام كقوله : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } [ النحل : 67 ] { مَا يوحى } إبهام يراد به تعظيم الأمر .
(1/1014)
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
{ أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم } الضمير الأول لموسى ، والثاني للتابوت أو لموسى { اليم } البحر ، والمراد به هنا النيل ، وكان فرعون قد ذُكر له أن هلاكه وخراب ملكه على يد غلام من بني إسرائيل ، فأمر بذبح كل ولد ذكر يولد لهم ، فأوحى الله إلى أم موسى أن تلقيه في التابوت وتلقي التابوت في البحر ففعلت ذلك ، وكان فرعون في موضع يشرف على النيل ، فرأى التابوت فأمر به فسيق ، إليه وامرأته معه ففتحه فأشفقت عليه امرأته ، وطلب أن تتخذه ولداً فأباح لها ذلك { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ } هو فرعون { مَحَبَّةً مِّنِّي } أي أحببتك ، وقيل : أراد محبة الناس فيه إذ كان لا يراه أحد إلا أحبه ، وقيل : أراد محبة امرأة فرعون ورحمتها له ، وقوله { مِّنِّي } : يحتمل أن يتعلق بقوله { وَأَلْقَيْتُ } ، أو يكون صفة لمحبة فيتعلق بمحذوف { وَلِتُصْنَعَ على عيني } أي تربي ويحسن إليك بمرأى مني وحفظ ، والعامل في { وَلِتُصْنَعَ } محذوف .
(1/1015)
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
{ إِذْ تمشي أُخْتُكَ } العامل في إذ تصنع أو ألقيت ، أو فعل مضمر تقديره ومننا عليك { فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ } كان لا يقبل ثدي امرأة فطلبوا له مرضعة ، فقالت أخته ذلك ليرد إلى أمه { وَقَتَلْتَ نَفْساً } يعني القبطي الذي وكزه فقضى عليه { فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم } يعني الخوف من أن يطلب بثأر المقتول { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } أي اختبرناك اختباراً حتى ظهر منك أنك تصلح للنبوة والرسالة ، وقيل : خلصناك من محنة بعد محنة ، لأن خلصه من الذبح ثم من البحر ، ثم من القصاص بالقتل ، والفتون : يحتمل أن يكون مصدراً أو جمع فتنة { فَلَبِثْتَ سِنِينَ } يعني الأعوام العشرة التي استأجره فيها شعيب { جِئْتَ على قَدَرٍ } أي بميقات محدود قدره الله لنبوتك .
(1/1016)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
{ واصطنعتك لِنَفْسِي } عبارة عن الكرامة والتقريب أي استخلصتك وجعلتك موضع صنيعتي وإحساني .
(1/1017)
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
{ وَلاَ تَنِيَا } أي لا تضعفا ولا تقصرا ، والوني هو الضعف عن الأمور والتقصير فيها .
(1/1018)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)
{ أَن يَفْرُطَ } أي يعمل بالشر .
(1/1019)
فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)
{ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ } أي سرحهم ، وكانوا تحت يد فرعون وقومه ، وكانت رسالة موسى إلى فرعون بالإيمان بالله وتسريح بني إسرائيل { وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ } كان يعذبهم بذبح أبنائهم وتسخيرهم في خدمته وإذلالهم .
{ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ } يعني قلب العصا حية وإخراج اليد بيضاء ، وإنما وحدَّهما وهما آيتان ، لأنه أراد إقامة البرهان وهو معنى واحد ، { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } يحتمل أن يريد التحية أو السلامة .
(1/1020)
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)
{ قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى } أفرد موسى بالنداء بعد جمعه مع أخيه ، لأنه الأصل في النبوة وأخوة تابع له .
(1/1021)
قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
{ الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ } المعنى أن الله أعطى خلْقه كل شيء يحتاجون إليه ، فخلقه على هذا بمعنى المخلوقين ، وإعرابه مفعول أول ، وكل شيء مفعول ثان ، وقيل : المعنى أعطى كل شيء خلقته وصورته : أي أكمل ذلك وأتقنه ، فالخلق على هذا بمعنى الخلقة وإعرابه مفعول ثان ، وكل شيء مفعول أول والمعنى الأول أحسن { ثُمَّ هدى } أي هدى خلقه إلى التوصل لما أعطاهم ، وعلمهم كيف ينتفعون به .
(1/1022)
قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)
{ قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى } يحتمل أن يكون سؤاله عن القرون الأولى محاجة ومناقضة لموسى : أي ما بالها لم تبعث كما يزعم موسى؟ أو ما بالها لم تكن على دين موسى أو ما بالها كذبت ولم يصبها عذاب كما زعم موسى في قوله : { أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى } [ طه : 48 ] ، ويحتمل أن يكون قال ذلك قطعاً للكلام الأول ، ورَوَغاناً عنه وحيرة لما رأى أنه مغلوب بالحجة ولذلك أضرب موسى عن الكلام في شأنها ، فقال { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } ، ثم عاد إلى وصف الله رجوعاً إلى الكلام الأول { فِي كِتَابٍ } يعني اللوح المحفوظ .
(1/1023)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)
{ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً } أي فراشاً ، وانظر كيف وصف موسى ربه تعالى بأوصاف لا يمكن فرعون أن يتصف بها ، لا على وجه الحقيقة ولا على وجه المجاز ، ولو قال له هو القادر أو الرازق وشبه ذلك لأمكن فرعون أن يغالطه ويدعي ذلك لنفسه { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } أي نهج لكم فيها طرقاً تمشون فيها { فَأَخْرَجْنَا } يحتمل أن يكون من كلام موسى على تقدير يقول الله عز وجل { فَأَخْرَجْنَا } ، ويحتمل أن يكون كلام موسى ثم عند قوله { وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } ثم ابتدأ كلام الله .
{ فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شتى } أي أصنافاً مختلفة .
(1/1024)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)
{ كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ } المعنى أنها تصلح لأن تؤكل وترعاها الأنعام ، وعبر عن ذلك بصيغة الأمر؛ لأنه أذن في ذلك فكأنه أمر به { لأُوْلِي النهى } أي العقول واحدها نهية .
(1/1025)
مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55)
{ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ } الضمير للأرض يريد خلقه آدم من تراب { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } يعني بالدفن عند الموت { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ } يعني عند البعث .
(1/1026)
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
{ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا } يعني الآيات التي رآها فرعون وهي تسع آيات ، وليس يريد جميع آيات الله على العموم ، فالإضافة في قوله { آيَاتِنَا } تجري مجرى التعريف بالعهد : أي آياتنا التي أعطينا موسى كلها ، وإنما أضافها الله إلى نفسه تشريفاً .
(1/1027)
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
{ فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً } يحتمل أن يكون الموعد اسم مصدر أو اسم زمان أو اسم مكان ، ويدل على أنه اسم مكان قوله { مَكَاناً سُوًى } ، ولكن يضعف بقوله : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } ، لأنه أجاب بظرف الزمان ، ويدل على أن الموعد اسم زمان قوله : { يَوْمُ الزينة } ولكن يضعفه بقوله : { مَكَاناً سُوًى } . ويدل على أنه اسم مصدر بمعنى الوعد قوله { لاَّ نُخْلِفُهُ } لأن الإخلاف إنما يوصف به الوعد لا الزمان ولا المكان . ولكن يضعف ذلك بقوله { مَكَاناً } وبقوله { يَوْمُ الزينة } ، فلا بد على كل وجه من تأويل أو إضمار ، ويختلف إعراب قوله : مكاناً باختلاف تلك الوجوه . فأما إن كان الموعد اسم مكان فيكون قوله { مَوْعِداً } و { مَكَاناً } مفعولين لقوله { فاجعل } ، ويطابقه قوله : { يَوْمُ الزينة } من طريق المعنى ، لا من طريق اللفظ ، وذلك أن الاجتماع في المكان يقتضي الزمان ضرورة ، وإن كان الموعد اسم زمان فينتصب قوله : { مَكَاناً } على أنه ظرف زمان ، والتقدير : موعداً كائناً في مكان وإن كان الموعد اسم مصدر فينتصب { مَكَاناً } على أنه مفعول بالمصدر وهو الموعد ، أو بفعل من معناه ، ويطابقه قوله : { يَوْمُ الزينة } على حذف مضاف تقديره موعدكم وعد يوم الزينة ، وقرأ الحسن يوم الزينة بالنصب وذلك يطابق أن يكون الموعد اسم مصدر من غير تقدير محذوف { مَكَاناً سُوًى } معناه : مستو في القرب منا ومنكم ، وقيل : معناه مستوي الأرض ليس فيه انخفاض ولا ارتفاع ، وقرىء بكسر السين وضمها ، والمعنى متفق { يَوْمُ الزينة } يوم عيد لهم وقيل يوم عاشوراء { وَأَن يُحْشَرَ } عطف على الزينة ، فهو في موضع خفض أو على اليوم فهو في موضع رفع وقصد موسى أن يكون موعدكم عند اجتماع الناس على رؤوس الأشهاد لتظهر معجزته ويستبين الحق للناس .
(1/1028)
قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
{ فَيُسْحِتَكُم } معناه يهلككم ، يقال سحت وأسحت ، وقد قرىء بفتح الياء وضمها ، والمعنى متفق .
(1/1029)
قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
{ قالوا إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ } قرأ إن هذين بالياء ولا إشكال في ذلك ، وقرأ بتخفيف إنْ وهي مخففة من الثقيلة ، وارتفع بعدها هذان بالابتداء ، وأما قراءة نافع وغيره بتشديد إنّ ورفع هذان ، فقيل { إِنْ } هنا بمعنى نعم فلا تنصب ، ومنه ما روي في الحديث أن الحمد بالرفع ، وقيل : اسم إن ضمير الأمر والشأن تقديره : إن الأمر ، و { هذان لَسَاحِرَانِ } مبتدأ وخبر في موضع خبر إن .
وقيل : جاء القرآن في هذه الآية بلغة بني الحرث بن كعب وهو إبقاء التثنية بالألف حال النصب ، والخفض ، وقالت عائشة رضي الله عنها ، هذا مما لحن فيه كتاب المصحف { وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى } أي يذهب بسيرتكم الحسنة { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } أي اعزموا وأنفذوه .
(1/1030)
قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)
{ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } استدل بعضهم بهذه الآية على أن السحر تخييل لا حقيقة ، وقال بعضهم : إن حيلة السحرة في سعي الحبال والعصيّ هو أنهم حشوها بالزئبق ، وأوقدوا تحتها ناراً وغطوا النار لئلا يراها الناس ، ثم وضعوا عليها حبالهم وعصيهم ، وقيل : جعلوها للشمس ، فلما أحسّ الزئبق بحر النار أو الشمس سال ، وهو في حشو الحبال والعصيّ فحملها ، فتخيل للناس أنها تمشي ، فألقى موسى عصاه فصارت ثعباناً فابتلعتها .
(1/1031)
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)
{ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ } ما هنا موصولة وهي اسم إن وكيد خبرها { آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى } قدم هارون لتعادل رؤوس الآي { مِّنْ خِلاَفٍ } أي قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى { والذي فَطَرَنَا } معطوف على { مَا جَآءَنَا مِنَ البينات } ، وقيل : هي واو القسم { هذه الحياة } نصب على الظرفية : أي : إنما قضاؤك في هذه الدنيا .
(1/1032)
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)
{ إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً } قيل : إن هنا وما بعدها من كلام السحرة لفرعون على وجه الموعظة ، وقيل : هو من كلام الله .
(1/1033)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)
{ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي } يعني ببني إسرائيل ، وأضافهم إلى نفسه تشريفاً لهم ، وكانوا فيما قيل ستمائة ألف { يَبَساً } أي يابساً ، وهو مصدر وصف به { لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى } أي لا تخاف أن يدركك فرعون وقومه ، ولا تخشى الغرق في البحر { مَا غَشِيَهُمْ } إبهام لقصد التهويل { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى } إن قيل : إن قوله { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ } يغني عن قوله { وَمَا هدى } ، فالجواب أنه مبالغة وتأكيد ، وقال الزمخشري : هو تهكم بفرعون في قوله : { وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد } [ غافر : 29 ] .
(1/1034)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
{ يابني إِسْرَائِيلَ } خطاب لهم بعد خروجهم من البحر ، وإغراق فرعون ، وقيل : هو خطاب لمن كان منهم في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأول أظهر { وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن } لما أهلك الله فرعون وجنوده أمر موسى وبني إسرائيل أن يسيروا إلى جانب طور سيناء ليكلم فيه ربه ، والطور هو الجبل ، واختلف هل هذا الطور هو الذي رأى فيه موسى النار في أول نبوّته ، أو هو غيره { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } ذكر في [ البقرة : 57 ] { فَقَدْ هوى } استعارة من السقوط من علو إلى سفل { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى } المغفرة لمن تاب حاصلة ولا بد ، والمغفرة للمؤمن الذي لم يتب في مشيئة الله عند أهل السنة ، وقالت المعتزلة : لا يغفر إلا لمن تاب { ثُمَّ اهتدى } أي استقام ودام على الإيمان والتوبة والعمل الصالح ، ويحتمل أن يكون الهدى هنا عبارة عن نور وعلم؛ يجعله الله في قلب من تاب وآمن وعمل صالحاً .
(1/1035)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83)
{ وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى } قصص هذه الآية أن موسى عليه السلام ، لما أمره الله أن يسير هو وبنو إسرائيل إلى الطور ، تقدم هو وحده مبادرة إلى أمر الله ، وطلباً لرضاه ، وأمر بني إسرائيل أن يسيروا بعده ، واستخلف عليهم أخاه هارون ، فأمرهم السامريّ حينئذ بعبادة العجل ، فلما وصل موسى إلى الطور دون قومه قال الله تعالى : ما أعجلك عن قومك؟ وإنما سأل الله موسى عن سبب استعجاله دون قومه ليخبره موسى بأنهم ياتون على أثره ، فيخبره الله بما صنعوا بعده من عبادة العجل ، وقيل : سأله على وجه الإنكار لتقدّمه وحده دون قومه فاعتذر موسى بعذرين : أحدهما أن قومه على أثره : أي قريب منه ، فلم يتقدّم عليهم بكثير فيوجب العتاب ، والثاني أنه إنما تقدم طلباً لرضا الله .
(1/1036)
قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88)
{ وَأَضَلَّهُمُ السامري } كان السامريّ رجلاً من بني إسرائيل يقال : إنه ابن خال موسى ، وقيل : لم يكن منهم وهو منسوب إلى قرية بمصر يقال لها سامرة ، وكان ساحراً منافقاً { فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ } يعني رجع من الطور بعد إكمال الأربعين يوماً التي كلمه الله بها { أَسِفاً } ذكر في [ الأعراف : 149 ] .
{ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } يعني ما وعدهم من الوصول إلى الطور { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد } يعني المدة وهذا الكلام توبيخ لهم { بِمَلْكِنَا } قرىء بالفتح والضم والكسر ، ومعناه ما أخلفنا موعدك بأن مَلَكْنا أمرنا ، ولكن غُلبنا بكيد السامريّ ، فيحتمل أنهم اعتذروا بقلة قدرتهم وطاقتهم ويناسب هذا المعنى القراءة بضم الميم ، واعتذروا بقلة ملكهم لأنفسهم في النظر وعدم توفيقهم للرأي السديد ، ويناسب هذ المعنى القراءة بالفتح والكسر { حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القوم } الأوزار هنا الأحمال؛ سميت أوزاراً لثقلها ، أو لأنهم اكتسبوا بسببها الأوزار أي الذنوب ، وزينة القوم هي : حُلّي القبط قوم فرعون؛ كان بنو إسرائيل قد استعاروه منهم قبل هلاكهم ، وقيل : أخذوه بعد هلاكهم فقال لهم السامريّ اجمعوا هذا الحليّ في حفرة حتى يحكم الله فيه ، ففعلوا ذلك وأوقد السامريّ ناراً على الحلّي وصاغ منه عجلاً وقيل : بل خلق الله منه العجل من غير أن يصنعه السامري ، ولذلك قال لموسى قد فتنا قومك من بعدك { فَقَذَفْنَاهَا } أي قذفنا أحمال الحلي في الحفرة { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ } كان السامريّ قد رأى جبريل عليه السلام ، فأخذ من وطء فرسه قبضة من تراب ، وألقى الله في نفسه أنه إذا جعلها على شيء مواتاً صار حيواناً فألقاها على العجل فجاز العجل أي : صاح صياح العجول . فالمعنى أنهم . قالوا كما ألقينا الحلي في الحفرة ألقى السامريّ قبضة التراب { جَسَداً } أي جسماً بلا روح ، والخوار صوت البقر { فَقَالُواْ هاذآ إلهكم } أي قال ذلك بنو إسرائيل بعضهم لبعض { فَنَسِيَ } يحتمل وجهين : أحدهما أن يكون من كلام بني إسرائيل والفاعل موسى : أي نسي موسى إلهه هنا ، وذهب يطلبه في الطور ، والنسيان على هذا بمعنى الذهول ، والوجه الثاني : أن يكون من كلام الله تعالى ، والفاعل على هذا السامريّ : أي نسي دينه وطريق الحق ، والنسيان على هذا المعنى : الترك .
(1/1037)
أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
{ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً } معناه لا يردّ عليهم كلاماً إذا كلموه وذلك ردّ عليهم في دعوى الربوبية له ، وقرىء { يَرْجِعُ } بالرفع ، وأن مخففة من الثقيلة ، وبالنصب وهي مصدرية .
(1/1038)
قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)
{ قَالَ ياهرون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } لا زائدة للتأكيد ، والمعنى ما منعك أن تتبعني في المشي إلى الطور ، أو تتبعني في الغضب لله ، وشدّة الزجر لمن عبد العجل ، وقتالهم بمن لم يعبده؟
(1/1039)
قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
{ قَالَ يَبْنَؤُمَّ } ذكر في [ الأعراف : 150 ] { تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } كان موسى قد أخذ بشعر هارون ولحيته من شدّة غضبه ، لما وجد بني إسرائيل قد عبدوا العجل { إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ } أي : لو قاتلت من عبد العجل منهم بمن لم يعبده ، لقلت فرقت جماعتهم وأدخلت العداوة بينهم ، وهذا على أن يكون معنى قوله : { تَتَّبِعَنِ } في الزجر والقتال ، ولو أتبعتك في المشي إلى الطور لاتبعني بعضهم دون بعض ، فتفرقت جماعتهم وهذا على أن يكون معنى { تَتَّبِعَنِ } في المشي إلى الطور { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } يعني قوله له : اخلفني في قومي وأصلح .
(1/1040)
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
{ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسامري } أي قال موسى ما شأنك؟ ولفظ الخطب يقتضي الانتهار ، لأنه يستعمل في المكاره { قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } أي رأيت ما لم يروه يعني : جبريل عليه السلام وفرسه { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول } أي قبضت قبضة من تراب من أثر فرس الرسول وهو جبريل ، وقرأ ابن مسعود " من أثر فرس الرسول " وإنما سمى جبريل بالرسول ، لأن الله أرسله إلى موسى ، والقبضة مصدر قبض ، وإطلاقها على المفعول من تسمية المفعول بالمصدر كضرب الأمير ، ويقال : قبض بالضاد المعجمة إذا أخذ بأصابعه وكفه ، وبالصاد المهملة : إذا أخذ بأطراف الأصابع وقد قرىء كذلك في الشاذ { فَنَبَذْتُهَا } أي ألقيتها على الحلي ، فصار عجلاً أو على العجل فصار له خوار { فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ } عاقب موسى عليه السلام السامري؛ بأن منع الناس من مخالطته ومجالسته ومؤاكلته ومكالمته ، وجعل له مع ذلك أن يقول طول حياته : لا مساس؛ أي لا مماسة ولا إذاية ، وروي أنه كان إذا مسه أحد أصابت الحمى له وللذي مسه ، فصار هو يبعد عن الناس وصار الناس يبعدون عنه { وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً } يعني العذاب في الآخرة وهذا تهديد ووعيد { ظَلْتَ } أصله ضللت ، حذفت إحدى اللامين والأصل في معنى ظل : أقام بالنهار ، ثم استعمل في الدأب على الشيء ليلاً ونهاراً { لَّنُحَرِّقَنَّهُ } من الإحراق بالنار ، وقرىء بفتح النون وضم الراء بمعنى نبرده بالمبرد ، وقد حمل بعضهم قراءة الجماعة على أنها من هذا المعنى ، لأن الذهب لا يفنى بالإحراق بالنار ، والصحيح أن المقصود بإحراقه بالنار إذابته وإفساد صورته ، فيصح حمل قراءة الجماعة على ذلك { ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً } أي نلقيه في البحر ، والنسف تفريق الغبار ونحوه { إِنَّمَآ إلهكم الله } الآية : من كلام موسى لبني إسرائيل .
(1/1041)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)
{ كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ } مخاطبة من الله تعالى لسيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ، وأنباء ما قد سبق : أخبار المتقدمين { ذِكْراً } يعني القرآن { مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ } يعني إعراض تكذيب به { وِزْراً } الوزر في اللغة الثقل ، ويعني هنا العذاب لقوله { خَالِدِينَ فِيهِ } أو الذنوب لأنها سبب العذاب { وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً } شبه الوزر بالحمل لثقله ، قال الزمخشري : { وَسَآءَ } تجري مجرى بئس ، ففاعلها ، مضمر يفسره { حِمْلاً } ، وقال غيره : فاعلها مضمر يعود على الوزر { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور } أي ينفخ الملك في القرن ، وقرأ ننفخ بالنون أي بأمرنا { زُرْقاً } أي زرق الألوان كالسواد ، وقيل : زرق العيون من العمى .
(1/1042)
يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106)
{ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } أي يقول بعضهم لبعض في السرّ : إن لبثتم في الدنيا إلا عشر ليال وذلك لاستقلالهم مدّة الدنيا ، وقيل : يعنون لبثهم في القبور { يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } أي يقول أعلمهم بالأمور ، فالإضافة إليهم إن لبثتم إلا يوماً واحداً فاستقل المدّة أشد مما استقلها غيره { يَنسِفُهَا رَبِّي } أي يجعلها كالغبار ثم يفّرقها { فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً } الضمير في يذرها للجبال ، والمراد موضعها من الأرض ، والقاع الصفصف : المستوي من الأرض الذي لا ارتفاع فيه .
(1/1043)
لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)
{ لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً } المعروف في اللغة أن العوج بالكسر في المعاني ، وبالفتح في الأشخاص والأرض شخص ، فكان الأصل أن يقال فيها بالفتح ، وإنما قاله بالكسر مبالغة في نفيه ، فإن الذي في المعاني أدق من الذي في الأشخاص ، فنفاه ليكون غاية في نفي العوج من كل وجه { ولا أَمْتاً } الأمت : هو الارتفاع اليسير .
(1/1044)
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)
{ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } يحتمل أن يكون الاستثناء متصلاً ، ومن في موضع نصب ينتفع وهي واقعة على المشفوع له ، فالمعنى لا تنفع الشفاعة أحداً إلا من أذن له الرحمن في أن يُشفع له ، وأن يكون الاستثناء منطقعاً ومن واقعه على الشافع ، والمعنى لكن من أذن له الرحمن يشفع { وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } إن أريد بمن أذن له الرحمن المشفوع فيه ، فاللام في له بمعنى لأجله ، أي رضي قول الشافع لأجل المشفوع فيه ، وإريد الشافع فالمعنى رضي له قوله في الشفاعة .
(1/1045)
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110)
{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } الضميران لجميع الخلق ، والمعنى ذكر في آية الكرسي { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } قيل : المعنى لا يحيطون بمعلوماته كقوله : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } [ البقرة : 255 ] ، والصحيح عندي أن المعنى لا يحيطون بمعرفة ذاته؛ إذ لا يعرف الله على الحقيقة إلا الله ، ولو أراد المعنى الأوّل لقال ولا يحيطون بعمله ، ولذلك استثنى إلا بما شاء هناك ولم يستثن هنا .
(1/1046)
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
{ وَعَنَتِ الوجوه } أي ذلت يوم القيامة { وَلاَ هَضْماً } أي بخساً ونقصاً لحسناته { أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } أي تذكراً ، وقيل : شرفاً وهو هنا بعيد { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } أي إذ أقرأك جبريل القرآن؛ فاستمع إليه واصبر حتى يفرغ ، وحينئذ تقرأه أنت . فالآية : كقوله { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } [ القيامة : 16 ] ، وقيل كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوحي إليه القرآن يأمر بكتبه في الحين ، فأمر بأن يتأنى حتى تفسر له المعاني ، والأول أشهر .
(1/1047)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
{ عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ } أي وصيناه أن لا يأكل من الشجرة { فَنَسِيَ } يحتمل أن يكون النسيان الذي هو ضدّ الذكر ، فيكون ذلك عذراً لآدم أو يريد الترك ، وقال ابن عطية : ولا يمكن غيره ، لأن الناسي لا عقاب عليه ، وقد تقدّم الكلام على قصة آدم وإبليس في البقرة .
(1/1048)
فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)
{ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى } أي لا تطيعاه فيخرجكما من الجنة ، فجعل المسبب موضع السبب وخص آدم بقوله { فتشقى } لأنه كان المخاطب أولاً ، والمقصود بالكلام ، وقيل : لأن الشقاء في معيشة الدنيا مختص بالرجال .
(1/1049)
وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)
{ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى } الظمأ هو العطش ، والضحى هو البروز للشمس .
(1/1050)
فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
{ يَخْصِفَانِ } ذكر في [ الأعراف : 21 ] وكذلك الشجرة وأكل آدم منها ذكر ذلك في [ البقرة : 35 ] .
(1/1051)
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)
{ اهبطا } خطاب لآدم وحواء { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم } هي إن الشرطية دخلت عليها ما الزائدة وجوابها { فَمَنِ اتبع } { فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى } أي لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة { مَعِيشَةً ضَنكاً } أي ضيقة ، فقيل إن ذلك في الدنيا ، فإن الكافر ضيق المعيشة لشدّة حرصه وإن كان واسع الحال ، وقد قال بعض الصوفية : لا يُعرض أحد عن ذكر الله إلا أظلم عليه وقته وتكدر عليه عيشه ، وقيل : إن ذلك في البرزخ ، وقيل : في جهنم بأكل الزقوم ، وهذا ضعيف ، لأنه ذكر بعد هذا يوم القيامة وعذاب الآخرة { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى } أي يعني أعمى البصر .
(1/1052)
قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
{ فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى } من الترك لا من الذهول { وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وأبقى } أي عذاب جهنم أشدّ وأبقى من العيشة الضنك ومن الحشر أعمى .
(1/1053)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)
{ أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } معناه : أفلم يتبين لهم ، والضمير لقريش والفاعل بيهد مقدر تقديره : أو لم يهد لهم الهدى أو الأمر ، وقال الزمخشري : الفاعل الجملة التي بعده ، وقيل : الفاعل ضمير الله عز وجل ، ويدل عليه قراءة ( أفلم نهد ) بالنون ، وقال الكوفيون : الفاعل كم { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } يريد أن قريشاً يمشون في مساكن عاد وثمود ، ويعاينون آثار هلاكهم { لأُوْلِي النهى } أي ذوي العقول .
(1/1054)
وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
{ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً } الكلمة هنا القضاء السابق ، والمعنى لولا قضاء الله بتأخير العذاب عنهم لكان العذاب لزاماً : أي واقعاً بهم { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } معطوف على { كَلِمَةٌ } : أي لولا الكلمة والأجل المسمى لكان العذاب لزاماً ، وإنما أخره لتعتدل رؤوس الآي ، والمراد بالأجل المسمى يوم بدر ، وبذلك ورد تفسيره في البخاري ، وقيل : المراد به أجل الموت ، وقيل القيامة .
(1/1055)
فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
{ وَسَبِّحْ } يحتمل أن يريد بالتسبيح الصلاة ، أو قول سبحان الله وهو ظاهر اللفظ { بِحَمْدِ رَبِّكَ } في موضع الحال أي وأنت حامد لربك على أن وفقك للتسبيح ، ويحتمل أن يكون المعنى سبح تسبيحاً مقروناً بحمد ربك فيكون أمراً بالجمع بين قوله : سبحان الله وقوله الحمد لله ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماء والأرض " { قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } إشارة إلى الصلوات الخمس عند من قال إن معنى { فَسَبِّحْ } : الصلاة ، فالتي قبل طلوع الشمس الصبح ، والتي قبل غربوها الظهر والعصر ، ومن آناء الليل المغرب والعشاء الآخرة وأطراف النهار المغرب والصبح ، وكرر الصبح في ذلك تأكيداً للأمر بها ، وسمى الطرفين أطرافاً لأحد وجهين : إما على نحو فقد صغت قلوبكما ، وإما أن يجعل النهار للجنس ، فلكل يوم طرف ، وآناء الليل ساعاته ، واحدها إني .
(1/1056)
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)
{ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } ذكر في [ الحجر : 88 ] ومدّ العينين هو تطويل النظر ففي ذلك دليل على أن النظر غير الطويل معفوّ عنه { زَهْرَةَ الحياة الدنيا } شبه نعيم الدنيا بالزهر وهو النوار ، لأن الزهر له منظر حسن ، ثم يذبل ويضمحل ، وفي نصب زهرة خمسة أوجه : أن ينتصب بفعل مضمر على الذم ، أو يضمن { مَتَّعْنَا } معنى أعطينا ، ويكون { زَهْرَةَ } مفعولاً ثانياً له ، أو يكون بدلاً من موضع الجار والمجرور ، أو يكون بدلاً من أزواجاً على تقدير ذوي زهرة أو ينتصب على الحال .
{ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي لنختبرهم .
(1/1057)
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)
{ لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً } أي لا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك فتفرغ أنت وأهلك للصلاة فنحن نرزقك ، وكان بعض السلف إذا أصاب أهله خصاصة قال : قوموا فصلوا بهذا أمركم الله ، ويتلو هذه الآية : { أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى } البينة هنا البرهان ، والصحف الأولى هي التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله بهذا الجواب ، والمعنى قد جاءكم برهان ما في التوراة والإنجيل من ذكر محمد صلى الله عليه وسلم ، فلأي شيء تطلبون آية أخرى ، ويحتمل أن يكون المعنى : قد جاءكم القرآن وفيه من العلوم والقصص ما في الصحف الأولى ، فذلك بينة وبرهان على أنه من عند الله .
(1/1058)
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)
{ وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ } الآية : معناها لو أهلكنا هؤلاء الكفار قبل بعث محمد صلى الله عليه وسلم لاحتجوا على الله بأن يقولوا : لولا أرسلت إلينا رسولاً ، ولولا هنا : عرض فقامت عليهم الحجة ببعثه صلى الله عليه وسلم .
(1/1059)
قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
{ قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ } أي قل كل واحد منا ومنكم منتظر لما يكون من هذا الأمر { فَتَرَبَّصُواْ } تهديد { الصراط السوي } المستقيم .
(1/1060)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
سورة الأنبياء عليهم السلام .
{ اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } الناس لفظ عام ، وقال ابن عباس : المراد به هنا المشركون من قريش بدليل ما بعد ذلك ، لأنه من صفاتهم ، وإنما أخبر عن الساعة بالقرب ، لأن الذي مضى من الزمان قبلها أكثر مما بقي لها ولأن كل آت قريب .
(1/1061)
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)
{ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ } يعني بال { ذِكْرٍ } القرِآن ، { مُّحْدَثٍ } أي محدث النزول .
(1/1062)
لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
{ وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } الواو في { وَأَسَرُّواْ } ضمير فاعل ، يعود على ما قبله ، { الذين ظَلَمُواْ } : بدل الضمير ، وقيل : إن الفاعل هو الذين ظلموا ، وجاء ذلك على لغة من قال : أكلوني البراغيث ، وهي لغة بني الحارث بن كعب ، وقال سيبويه : لم تأت هذه اللغة في القرآن ويحتمل أن يكون { الذين ظَلَمُواْ } منصوباً بفعل مضمر على الذم أو خبر ابتداء مضمر ، والأول أحسن { هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } هذه الكلام في موضع نصب بدل من النجوى ، لأن هو الكلام الذي تناجوا به ، والبشر المذكور في الآية هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم { قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول } إخبار بأنه ما تناجوا به على أنهم أسّروه فإن قيل : هلا قال يعلم السر مناسبة لقوله { وَأَسَرُّواْ النجوى } ؟ فالجواب : أن القول يشمل السرّ والجهر فحصل به ذكر السرّ وزيادة .
{ بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ } أي أخلاط منامات ، وحكى عنهم هذه الأقوال الكثير ، ليظهر اضطراب أمرهم وبطلان أقوالهم { كَمَآ أُرْسِلَ الأولون } أي كما جاء الرسل المتقدمون بالآيات ، فليأتنا محمد بآية . فالتشبيه في الإتيان بالمعجزة { مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ } لما قالوا : { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ } أخبرهم الله أن الذين من قبلهم طلبوا الآيات ، فلما رأوها ولم يؤمنوا أهلكوا ، ثم قال : { أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ } أي أن حالهم في عدم الإيمان وفي الهلاك كحال من قبلهم ، ويحتمل أن يكون المعنى : أن كل قرية هلكت لم تؤمن فهؤلاء كذلك ، ولا يكون على هذا جواباً لقولهم : { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ } بل يكون إخباراً مستأنفاً على وجه التهديد؛ وأهلكناها في موضع الصفة لقرية ، والمراد أهل القرية .
(1/1063)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً } ردّ على قولهم : { هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [ الأنبياء : 3 ] ؛ والمعنى أن الرسل المتقدمين [ كانوا ] رجالاً من البشر ، فكيف تنكرون أن يكون هذا الرجل رسولاً { أَهْلَ الذكر } يعني : أحبار أهل الكتاب .
(1/1064)
وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)
{ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام } أي ما جعلنا الرسل اجساداً غير طاعمين ، ووحد الجسد لإرادة الجنس ، و { لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام } صفة لجسد ، وفي الآية ردّ على قولهم { مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام } [ الفرقان : 7 ] .
(1/1065)
ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)
{ وَمَن نَّشَآءُ } يعني المؤمنين { فِيهِ ذِكْرُكُمْ } أي شرفكم وقيل : تذكيركم .
(1/1066)
وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13)
{ قَصَمْنَا } أي أهلكنا ، وأصله من قصم الظهر أي كسره { مِن قَرْيَةٍ } يريد أهل القرية : قال ابن عباس : هي قرية باليمن يقال لها حضور ، بعث الله إليهم نبياً فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر ملك بابل فأهلكهم بالقتل ، وظاهر اللفظ أنه على العموم لأن كم للتكثير ، فلا يريد قرية معينة { يَرْكُضُونَ } عبارة عن فرارهم ، فيحتمل أن يكونوا ركبوا الدواب ، وركضوها لتسرع الجري أو شبهوا في سرعة جريهم على أرجلهم بمن يركض الدابة { لاَ تَرْكُضُواْ } أي قيل لهم لا تركضوا والقائل لذلك هم الملائكة . قالوه تهكماً بهم ، أو رجال بختنصر إن كانت القرية المعينة ، قالوا ذلك لهم خداعاً ليرجعوا فيقتلوهم { أُتْرِفْتُمْ } أي نعمتم { لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } تهكم بهم وتوبيخ أي : ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسألون عما جرى عليكم ، ويحتمل أن يكون { تُسْأَلُونَ } بمعنى يطلب لكم الناس معروفكم وهذا أيضا تهكم .
(1/1067)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)
{ قَالُواْ ياويلنآ } الآية اعتراف وندم حين لم ينفعهم { حَصِيداً خَامِدِينَ } شبهوا في هلاكهم بالزرع المحصود ومعنى { خَامِدِينَ } : موتى وهو تشبيه بخمود النار { لاَعِبِينَ } حال منفية أي ما خلقنا السموات والأرض لأجل اللعب بل للاعتبار بها ، والاستدلال على صنعها .
(1/1068)
لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21)
{ لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ } اللهو في لغة اليمن : الولد ، وقيل المرأة ، و { مِن لَّدُنَّآ } : أي من الملائكة ، فالمعنى على هذا لو أردنا أن نتخذ ولداً لاتخذناه من الملائكة ، لا من بني آدم ، فهو ردّ على من قال : إن المسيح ابن الله وعزيز ابن الله ، والظاهر أن اللهو بمعنى اللعب لاتصاله بقوله لا عبين .
وقال الزمخشري : المعنى على هذا لو أردنا أن نتخذ لهواً لكان ذلك في قدرتنا ، ولكن ذلك لا يليق بنا لأنه مناقض للحكمة ، وفي كلا القولين نظر { إِن كُنَّا فَاعِلِينَ } يحتمل أن تكون إن شرطية وجوابها فيما قبلها ، أو نافية ، والأوّل أظهر { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل } { الحق } عام في القرآن والرسالة والشرع وكل ما هو حق ، { الباطل } عام في أضداد ذلك { فَيَدْمَغُهُ } أي يقمعه ويبطله ، وأصله من إصابة الدماغ { وَمَنْ عِنْدَهُ } يعني الملائكة { وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } أي لا يَعْيَوْن ولا يملون { أَمِ اتخذوا آلِهَةً مِّنَ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ } أم هنا للإضراب عما قبلها ، والاستفهام على وجه الإنكار لما بعدها { مِّنَ الأرض } يتعلق بينشرون؛ والمعنى : أن الآلهة التي اتخذها المشركون لا يقدرون أن ينشروا الموتى من الأرض ، فليست بآلهة في الحقيقة؛ لأن من صفة الإلهة القدرة على الإحياء والإماتة .
(1/1069)
لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)
{ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } هذا برهان على وحدانية الله تعالى ، والضمير في قوله { فِيهِمَآ } للسموات والأرض ، { إِلاَّ الله } صفة لآلهة ، و { إِلاَّ } بمعنى غير ، فاقتضى الكلام أمرين : أحدهما نفي كثرة الآلهة ، ووجوب أن يكون الإله واحداً ، والأمر الثاني : أن يكون ذلك الواحد هو الله دون غيره ، ودل على ذلك قوله : { إِلاَّ الله } ، وأما الأوّل فكانت الآية تدل عليه لو لم تذكر هذه الكلمة ، وقال ابن كثير من الناس في معنى الآية : إنها دليل على التمانع الذي أورده الأصوليون ، وذلك أنا لو فرضنا إليهن ، فأراد أحدهما شيئاً وأراد الآخر نقيضه ، فإما أن تنفذ إرادة كل واحد منهما ، وذلك محال؛ لأن النقيضين لا يجتمعان ، وإما أن لا تنفذ إرادة واحدة منهما ، وذلك أيضاً محال ، لأن النقيضين لا يرتفعان معاً ، ولأن ذلك يؤدّي إلى عجزهما وقصورهما ، فلا يكونان إليهن ، وإما أن ينفذ أرادة واحدة منهما دون الآخر ، فالذي تنفذ إرادته هو الإله ، والذي لا تنفذ إرادته ليس بإله ، فالإله واحد . وهذا الدليل إن سلمنا صحته فلفظ الآية لا يطابقه ، بل الظاهر من اللفظ استدلال آخر أصح من دليل التمانع ، وهو أنه لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ، لما يحدث بينهما من الاختلاف والتنازع في التدبير وقصد المغالبة ، ألا ترى أنه لا يوجد ملكان اثنان لمدينة واحدة ، ولا ولّيان لخطة واحدة { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } لأنه مالك كل شيء ، والمالك يفعل في ملكه ما يشاء ، ولأنه حكيم ، فأفعاله كلها جارية على الحكمة { وَهُمْ يُسْأَلُونَ } لفقد العلتين { أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً } كرر هذا الإنكار استعظاماً للشرك ، ومبالغة في تقبيحه ، لأن قبله من صفات الله ما يوجب توحيده ، وليناط به ما ذكر بعده من تعجيز المشركين ، وأنهم ليس لهم على الشرك برهان؛ لا من جهة العقل ، ولا من جهة الشرع .
{ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } تعجيز لهم وقد تكلمنا على هاتوا في [ البقرة : 111 ] { هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي } ردّ على المشركين والمعنى هذا الكتاب الذي معي ، والكتب التي من قبلي ليس فيهما ما يقتضي الإشراك بالله ، بل كلها متفقة على التوحيد .
(1/1070)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا } الآية : ردّ على المشركين ، والمعنى أن كل رسول إنما أتى بلا إله إلا الله { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } يعني الملائكة ، وهم الذي قال فيهم بعض الكفار أنهم بنات الله ، فوصفهم بالعبودية لأنها تناقض النبوّة ، ووصفهم بالكرامة ، لأن ذلك هو الذي غر الكفار حتى قالوا فيهم ما قالوا : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول } أي لا يتكلمون حتى يتكلم هو تأدباً معه { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } أي لمن ارتضى أن يشفع له ، ويحتمل أن تكون هذه الشفاعة في الآخرة أو في الدنيا ، وهي استغفارهم لمن في الأرض { مُشْفِقُونَ } أي خائفون .
(1/1071)
وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
{ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ } الآية على فرض أن لو قالوا ذلك ، ولكنهم لا يقولونه ، وإنما مقصد الآية الردّ على المشركين وقيل : إن الذي قال : إني إله هو إبليس لعنه الله .
(1/1072)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)
{ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا } الرتق مصدر وصف به ، ومعناه الملتصق بعضه ببعض الذي لا صدع فيه ولا فتح ، والفتق : الفتح فقيل : كانت السموات ملصقة بالأرض ففتقها الله بالهواء ، وقيل كانت السموات ملتصقة بعضها ببعض ، والأرضون كذلك ففتقهما الله سبعاً سبعاً ، والرؤية في قوله { أَوَلَمْ يَرَ } على هذه رؤية قلب ، وقيل : فتق السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات ، فالرؤية على هذه رؤية عين .
{ وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } أي خلقنا من الماء كل حيوان ، ويعني بالماء المنيّ . وقيل : الماء الذي يشرب لأنه سبب لحياة الحيوان ، ويدخل في ذلك النبات باستعارة { رَوَاسِيَ } يعني الجبال { أَن تَمِيدَ } تقديره كراهية أن تميد { فِجَاجاً } يعني الطرق الكبار ، وإعرابه عند الزمخشري حال من السبل ، لأنه صفة تقدّمت على النكرة { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } يعني في طريقهم وتصرفاتهم .
(1/1073)
وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
{ سَقْفاً مَّحْفُوظاً } أي حفظ من السقوط ومن الشياطين { عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } يعني الكواكب والأمطار والرعد والبرق وغير ذلك { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } التنوين في { كُلٌّ } عوض عن الإضافة أي : كلهم في فلك يسبحون يعني؛ الشمس والقمر ، دون الليل والنهار ، إذ لا يوصف الليل والنهار بالسبح في الفلك فالجملة في موضع حال من الشمس والقمر أو مستأنفاً ، فإن قيل : لفظ كلّ ويسبحون جمع ، فكيف يعني الشمس والقمر وهما اثنان؟ فالجواب : أنه أراد جنس مطالعها كل يوم وليلة ، وهي كثيرة قاله الزمخشري وقال القزنوي : أراد الشمس والقمر وسائر الكواكب السيارة ، وعبر عنهما بضمير الجماعة العقلاء في قوله : { يَسْبَحُونَ } ، لأنه وصفهم بفعل العقلاء وهو السبح ، فإن قيل : كيف قال في فلك ، وهي أفلاك كثيرة؟ فالجواب أنه أراد كل واحد يسبح في فلكه ، وذلك كقولهم : كساهم الأمير حلة أي كسا كل واحد منهم حلة ، ومعنى الفلك جسم مستدير ، وقال بعض المفسرين : إنه من موج ، وذلك بعيد ، والحق أنه لا يُعلم صفته وكيفيته إلا بإخبار صحيح عن الشارع ، وذلك غير موجود ، ومعنى يسبحون يجرون ، أو يدورون ، وهو مستعار من السبح بمعنى العوم في الماء ، وقوله : { كُلٌّ فِي فَلَكٍ } من المقلوب الذي يقرأ من الطرفين .
(1/1074)
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)
{ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد } سببها أن الكفار طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بشر يموت ، وقيل : إنهم تمنوا موته ليشتموا به ، وهذا أنسب لما بعده { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون } موضع دخول الهمزة فهم الخالدون وتقدمت لأن الاستفهام له صدر الكلام .
(1/1075)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت } أي كل نفس مخلوقة لا بدّ لها أن تذوق الموت ، والذوق هنا استعارة { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير } أي نختبركم بالفقر والغنى والصحة والمرض وغير ذلك من أحوال الدنيا ، ليظهر الصبر على الشر والشكر على الخير ، أو خلاف ذلك { فِتْنَةً } مصدر من معنى نبلوكم .
(1/1076)
وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)
{ أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ } أي يذكرهم بالذم دلت على ذلك قرينة الحالن فإن الذكر قد يكون بذمّ أو مدح ، والجملة تفسير للهزء أي يقولون : أهذا الذي { وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كَافِرُونَ } الجملة في موضع الحال أي كيف ينكرون ذمّك لآلهتهم وهم يكفرون بالرحمن ، فهم أحق بالملامة ، وقيل : معنى بذكر الرحمن تسميته بهذا الاسم ، لأنهم أنكروها ، والأول أغرق في ضلالهم .
(1/1077)
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
{ خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } خلق شديد الاستعجال وجاءت هذه العبارة للمبالغة : كقولهم خلق حاتم من جود ، والإنسان هنا جنس ، وسبب الآية : أن الكفار استعجلوا الآيات التي اقترحوها والعذاب الذي طلبوه ، فذكر الله هذا توطئة لقوله : { فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } ، وقيل : المراد هنا آدم ، لأنه لما وصلت الروح إلى صدره أراد أن يقوم . وهذا ضعيف ، وقيل { مِنْ عَجَلٍ } : أي من طين ، وهذا أضعف { سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي } وعيد وجواب على ما طلبوه من التعجيل { وَيَقُولُونَ } الآية : تفسير لاستعجالهم { الوعد } القيامة وقيل : نزول العذاب بهم .
(1/1078)
لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)
{ لَوْ يَعْلَمُ } جواب لو محذوف { حِينَ } مفعول به ليعلموا : أي لو يعلمون الوقت الذي يحيط بهم العذاب لآمنوا وما استعجلوا { بَلْ تَأْتِيهِم } الضمير الفاعل للنار ، وقيل للساعة { تَبْهَتُهُمْ } أي تفجؤهم { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي لا يؤخرون عن العذاب { وَلَقَدِ استهزىء } الآية تسلية بالتأسي { فَحَاقَ } أي أحاط .
(1/1079)
قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)
{ مَن يَكْلَؤُكُم } أي من يحفظكم من أمر الله ، ومن استفهامية ، والمعنى تهديد ، وإقامة حجة ، لأنهم لو أجابوا عن هذا السؤال لاعترفوا أنهم ليس لهم مانع ولا حافظ ، ثم جاء قوله { بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ } بمعنى أنهم إذا سئلوا عن ذلك السؤال لم يجيبوا عنه لأنهم تقوم عليهم الحجة إن أجابوا ، ولكنهم يعرضون عن ذكر الله : أي عن الجواب الذي فيه ذكر الله ، وقال الزمخشري : معنى الإضراب هنا أنهم معرضون عن ذكره ، فضلاً عن أن يخافوا بأسه .
(1/1080)
أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
{ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا } أي تمنعهم من العذاب ، وأم هنا للاستفهام ، والمعنى الانكار والنفي ، وذلك أنه لما سألهم عمن يكلؤهم : أخبر بعد ذلك أن آلهتهم لا تمنعهم ولا تحفظهم ثم احتج عن ذلك بقوله : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ } ، فإن من لا ينصر نفسه أولى أن لا ينصر غيره { وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ } الضمير للكفار : أي لا يصحبون منا بنصر ولا حفظ .
(1/1081)
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)
{ بَلْ مَتَّعْنَا هؤلاء } أي متعناهم بالنعم والعافية في الدنيا ، فطغوا بذلك ونسوا عقاب الله ، والإضراب ببل عن معنى الكلام المتقدم : أي لم يحملهم على الكفر والاستهزاء نصر ولا حفظ ، بل حملهم على ذلك أنا متعناهم وآباءهم .
{ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ } ذكر في [ الرعد : 43 ] { وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعآء } إشارة إلى الكفار ، والصم استعارة في إفراط إعراضهم { نَفْحَةٌ } أي خطرة وفيها تقليل العذاب ، والمعنى أنهم لو رأوا أقل شيء من عذاب الله لأذعنوا واعترفروا بذنوبهم { وَنَضَعُ الموازين القسط } أي العدل ، وإنما أفرد القسط وهو صفة للجمع ، لأنه مصدر وصف به كالعدل والرضا ، وعلى تقدير ذوات القسط ، ومذهب أهل السنة أن الميزان يوم القيامة حقيقة ، له كفتان ولسان وعمود توزن فيه الأعمال ، والخفة والثقل متعلقة بالأجسام ، وإما صحف الأعمال ، أو ما شاء الله ، وقالت : المعتزلة : إن الميزان عبارة عن العدل ، في الجزاء { لِيَوْمِ القيامة } ، وقال ابن عطية تقديره : لحساب يوم القيامة ، أو لحكمة ، فهو على حذف مضاف وقال الزمخشري : هو كقولك كتبت الكتاب لست خلون من الشعر { مِثْقَالَ حَبَّةٍ } أي وزنها والرفع على أن كان تامة ، والنصب على أها ناقصة واسمها مضمر { الفرقان } هنا التوراة ، وقل التفرقة بين الحق والباطل بالنصر وإقامة الحجة .
(1/1082)
وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)
{ وهذا ذِكْرٌ } يعني القرآن { رُشْدَهُ } أي إرشاده إلى توحيد الله وكسر الأصنام وغير ذلك { مِن قَبْلُ } أي قبل موسى وهارون ، وقيل آتيناه رشده قبل النبوة { وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } أي علمناه أنه يستحق ذلك { التماثيل } يعني الأصنام وكانت على صور بني آدم { وَجَدْنَآ آبَآءَنَا } اعتراف بالتقليد من غير دليل .
(1/1083)
قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)
{ قالوا أَجِئْتَنَا بالحق } أي هل الذي تقول حق أم مزاح ، وانظر كيف عبر عن الحق بالفعل ، وعن اللعب بالجملة الإسمية ، لأنه أثبت عندهم { فطَرَهُنَّ } أي خلقهن ، والضمير للسموات والأرض ، أو التماثيل ، وهذا أليق بالرد عليهم { بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } يعني خروجهم إلى عيدهم { جُذَاذاً } أي فتاتاً ، ويجوز فيه الضم والكسر والفتح ، وهو من الجذ بمعنى القطع { إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ } ترك الصنم الكبير لم يكسره وعلق القدم في يده { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } الضمير للصنم الكبير أي يرجعون إليه فيسألونه فلا يجيبهم ، فيظهر لهم أنه لا يقدر على شيء ، وقيل : الضمير لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أي يرجعون إليه فيبين لهم الحق .
{ قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا } قبله محذوف تقديره : فرجعوا من عيدهم فرأوا الأصنام مكسورة ، فقالوا : { مَن فَعَلَ هذا } { فَتًى يَذْكُرُهُمْ } أي يذكرهم بالذم وبقوله : { لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } { يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } قيل : إن إعراب إبراهيم منادى ، وقيل : خبر ابتداء مضمر ، وقيل رفع على الإهمال ، والصحيح أنه مفعول لم يسم فاعله ، لأن المراد الاسم لا المسمى وهذا اختيار ابن عطية والزمخشري { لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } أي يشهدون عليه بما فعل أو يحضرون عقوبتنا له .
(1/1084)
قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
{ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } قصد إبراهيم عليه السلام بهذا القول تبكيتهم وإقامة الحجة عليهم ، كأنه يقول : إن كان إلهاً فهو قادر على أن يفعل ، وإن لم يقدر فليس بإله ولم يقصد الإخبار المحض ، لأنه كذب ، فإن قيل : فقد جاء في الحديث " إن إبراهيم كذب ثلاث كذبات : أحدها قوله ( فعله كبيرهم ) " فالجواب أن معنى ذلك أنه قال قولاً ظاهره الكذب ، وإن كان القصد به معنى آخر ، ويدل على ذلك قوله { فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } لأنه أراد به أيضاً تبكيتهم وبيان ضلالهم .
(1/1085)
فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65)
{ فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ } أي رجعوا إليها بالفكرة والنظر ، أو رجعوا إليها بالملامة { فقالوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون } أي الظالمون لأنفسكم؛ في عبادتكم ما لا ينطق ولا يقدر على شيء أو الظالمون لإبراهيم في قولكم عنه { إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 59 ] ، وفي تعنيفه على أعين الناس { ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ } استعارة لانقلابهم برجوعهم عن الاعتراف بالحق إلى الباطل والمعاندة فقالوا : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ } أي فكيف تأمرنا بسؤالهم فهم قد اعترفوا بأنهم لا ينطقون ، وهم مع ذلك يعبدونهم فهذه غاية الضلال في فعلهم ، وغاية المكابرة والمعاندة في جدالهم ، ويحتمل أن يكون نكسوا على رؤوسهم بمعنى رجوعهم من المجادلة إلى الانقطاع؛ فإن قولهم { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ } : اعتراف يلزم منه أنهم مغلوبون بالحجة ، ويحتمل على هذا أن يكون نكسوا على رؤوسهم حقيقة : أي أطرقوا من الخجل لما قامت عليهم الحجة .
(1/1086)
أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69)
{ أُفٍّ لَّكُمْ } تقدم الكلام على أف في [ الإسراء : 23 ] { قَالُواْ حَرِّقُوهُ } لما غلبهم بالحجة رجعوا إلى تغلب عليه بالظلم قلنا { يانار كُونِي بَرْداً وسلاما } أي ذات برد وسلام ، وجاءت العبارة هكذا للمبالغة ، واختلف كيف بردت النار؟ فقيل : أزال الله عنها ما فيها من الحرّ ، والإحراق ، وقيل : دفع عن جسم إبراهيم حرها وإحراقها مع ترك ذلك فيها ، وقيل : خلق بينه وبينها حائلاً ، ومعنى السلام هنا السلامة ، وقد روي أنه لو لم يقل : { وسلاما } لهلك إبراهيم من البرد . وقد أضربنا عما ذكره الناس في قصة إبراهيم لعدم صحته ، ولأن ألفاظ القرآن لا تقتضيه .
(1/1087)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)
{ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا } هي الشام خرج إليها من العراق ، وبركتها بخصبها وكثرة الأنبياء فيها { نَافِلَةً } أي عطية ، والتنفيل العطاء ، وقيل سماه : نافلة؛ لأنه عطاء بغير سؤال ، فكأنه تبرع ، وقيل : الهبة إسحاق ، والنافلة يعقوب ، لأنه سأل إسحاق بقوله : { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين } [ الصافات : 100 ] فأعطى يعقوب زيادة على ما سأل ، واختار بعضهم على هذا الوقف على إسحاق لبيان المعنى ، وهذا ضعيف لأنه معطوف على كل قول { يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } أي يرشدون الناس بإذننا .
(1/1088)
وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
{ وَلُوطاً } قيل : إنه انتصب بفعل مضمر يفسره آتيناه ، والأظهر أنه انتصب بالعطف على موسى وهارون ، أو إبراهيم وانتصب ونوحاً وداود وسليمان وما بعدهم بالعطف أيضاً ، وقيل بفعل مضمر تقديره : اذكر { آتَيْنَاهُ حُكْماً } أي حكماً بين الناس : أو حكمة { مِنَ القرية } هي سدوم من أرض الشام { وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ } أي في الجنة أو في أهل رحمتنا .
(1/1089)
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
{ نادى مِن قَبْلُ } أي دعا قبل إبراهيم ولوط { مِنَ الكرب } يعني من الغرق { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم } تعدى نصرناه بمن لأنه مطاوع انتصر المتعدّي بمن ، أو تضمن معنى نجيناه أو أجزناه .
(1/1090)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
{ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ } كان داود نبياً ملكاً ، وكان ابنه سليمان ابن أحد عشر عاماً { فِي الحرث } قيل : زرع ، وقيل : كرم والحرث يقال فيهما { إِذْ نَفَشَتْ } رعت فيه بالليل { لِحُكْمِهِمْ } الضمير لداود وسليمان المتخاصمين ، وقيل لداود وسليمان خاصة ، على أن يكون أقل الجمع اثنان { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } تخاصم إلى { دَاوُودَ } رجلان دخلت غنم أحدهما على زرع الآخر بالليل فأفسدته فقضى { دَاوُودَ } بأن يأخذ صاحب الزرع الغنم ، ووجه هذا الحكم أن قيمة الزرع كانت مثل قيمة الغنم ، فخرج الرجلان على سليمان وهو بالباب ، فأخبراه بما حكم به أبوه ، فدخل عليه فقال : يا نبيّ الله لو حكمت بغير هذا كان أرفق للجميع ، قال وما هو؟ قال يأخذ صاحب الغنم الأرض ليصلحها حتى يعود زرعها كما كان ، ويأخذ صاحب الزرع الغنم وينتفع بألبانها وصوفها ونسلها ، فإذا أكمل الزرع ردت الغنم إلى صاحبها ، والأرض بزرعها إلى ربها ، فقال له داود : وفقت يا بنيّ ، وقضى بينهما بذلك ، ووجه حكم سليمان أنه جعل الانتفاع بالغنم بإزاء ما فات من الزرع ، وواجب على صاحب الغنم أن يعمل في الحرث حتى يزول الضرر والنقصان ، ويحتمل أن يكون ذلك إصلاحاً لا حكماً .
واختلف الناس هل كان حكمهما بوحي أو اجتهاد؟ فمن قال كان باجتهاد أجاز الاجتهاط للأنبياء ، وروي أن داود رجع عن حكمه لما تبين له أن الصواب خلافه ، وقد اختلف في جواز الاجتهاد في حق الأنبياء ، وعلى القول بالجواز اختلف ، هل وقع أم لا؟ وظاهر قوله : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } : أنه كان اجتهاد فخص الله به سليمان ففهم القضية ، ومن قال : كان بوحي ، جعل حكم سليمان ناسخاً لحكم داود .
وأما حكم إفساد المواشي الزرع في شرعنا ، فقال مالك والشافعي : يضمن أرباب المواشي ما أفسدت بالليل دون النهار للحديث الوارد في ذلك ، وعلى هذا يدل حكم داود وسليمان ، لأن النفش لا يكون إلا بالليل ، وقال أبو حنيفة : لا يضمن ما أفسدت بالليل ولا بالنهار ، لقول صلى الله عليه وسلم : " العجماء جرحها جبار " { آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } قيل : يعني في هذه النازلة ، وأن داود لم يخطىء فيها ، ولكنه رجع إلى ما هو أرجح ، ويدل على هذا القول أن كل مجتهد مصيب ، وقيل : بل يعني حكماً وعلماً في غير هذه النازلة ، وعلى هذا القول فإنه أخطأ فيها ، وأن المصيب واحد من المجتهدين { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير } كان هذا التسبيح قول سبحانه الله ، وقيل : الصلاة معه إذا صلى ، وقدم الجبال على الطير ، لأن تسبيحها أغرب إذ هي جماد { وَكُنَّا فَاعِلِينَ } أي قادرين على أن نفعل هذا .
وقال ابن عطية : معناه كان ذلك في حقه لأجل أن داود استوجب ذلك مناصفة كذا! { صَنْعَةَ لَبُوسٍ } يعني دروع الحديد ، وأول من صنعها داود عليه السلام ، وقال ابن عطية اللبوس في اللغة : السلاح وقال الزمخشري : اللبوس اللباس { لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ } أي لتقيكم في القتال وقرىء بالياء والتاء والنون ، فالنون لله تعالى ، والتاء للصنعة ، والياء لداود أو للبوس { فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ } لفظ استفهام ، ومعناه استدعاء إلى الشكر { وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً } عطف الريح على الجبال والعاصفة هي الشديدة فإن قيل : كيف يقال عاصفة؟ وقال في [ ص : 36 ]
(1/1091)
{ رُخَآءً } أي لينة؟ فالجواب : أنها كانت في نفسها لينة طيبة ، وكانت تسرع في جريها كالعاصف فجمعت الوصفين ، وقيل : كانت رخاء في ذهابه ، وعاصفة في رجوعه إلى وطنه ، لأن عادة المسافرين الإسراع في الرجوع؛ وقيل : كانت تشتدّ إذا رفعت البساط وتلين إذا حملته { إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا } يعني أرض الشام ، وكانت مسكنة وموضع ملكه ، فخص في الآية الرجوع إليها لأنه يدل على الانتقال منها { يَغُوصُونَ لَهُ } أي يدخلون في الماء ليستخرجوا له الجواهر من البحار { عَمَلاً دُونَ ذلك } أقل من الغوص كالبنيان والخدمة { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } أي نحفظهم عن أن يزيغوا عن أمره ، أو نحفظهم من إفساد ما صنعوه ، وقيل : معناه عالمين بعددهم .
(1/1092)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
{ وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ } كان أيوب عليه السلام نبياً من الروم ، وقيل من بني إسرائيل ، وكان له أولاد ومال كثير فأذهب الله ماله فصبر ، ثم أهلك الأولاد فصبر ، ثم سلط البلاء على جسمه فصبر إلى أن مر به قومه فشمتوا به ، فحينئذ دعا الله تعالى ، على أن قوله : { مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين } ليس تصريحاً بالدعاء ، ولكنه ذكر نفسه بما يوجب الرحمة ، ووصف ربه بغاية الرحمة ليرحمه ، فكان في ذلك من حسن التلطف ما ليس في التصريح بالطلب { فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ } لما استجاب الله له أنبع له عيناً من ماء فشرب منه واغتسل فبرىء من المرض والبلاء { وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ } روى أن الله أحيا أولاده الموتى ورزقهم مثلهم معهم في الدنيا وقيل : في الآخرة ، وقيل : ولدت امرأته مثل عدد الموتى ، ومثلهم معهم ، وأخلف الله عليه أكثر مما ذهب من ماله { رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا } أي رحمة لأيوب ، وذكرى لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر ، ويحتمل أن تكون الرحمة والذكرى معاً للعابدين .
(1/1093)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
{ وَذَا الكفل } قيل : هو إلياس وقيل : زكريا ، وقيل : نبيّ بعث إلى رجل واحد ، وقيل : رجل صالح غير نبي ، وسمى ذا الكفل ، أي ذا الحظ من الله وقيل : لأنه تكفل لليسع بالقيام بالأمر من بعده .
(1/1094)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
{ وَذَا النون } هو يونس عليه السلام ، والنون هو الحوت نسب إليه لأنه التقمه { إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً } أي مغاضباً لقومه ، إذ كان يدعهم إلى الله فيكفرون ، حتى أدركه ضجر منهم فخرج عنهم ، ولذلك قال الله : { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت } [ القلم : 48 ] ، ولا يصح قول من قال مغاضباً لربه { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } أي ظن أن [ لن ] نضيق عليه ، فهو من معنى قوله قدر عليه رزقه ، وقيل : هو من القدر والقضاء : أي ظنّ أن لن نضيق عليه بعقوبة ، ولا يصح قول من قال : إنه من القدرة { فنادى فِي الظلمات } قيل هذا الكلام محذوف؛ لبيانه في غير هذه الآية ، وأنه لما خرج ركب السفينة فرمي في البحر فالتقمه الحوت؛ { فنادى فِي الظلمات } ، وهي ظلمة الليل والبحر وبطن الحوت ، ويحتمل أنه عبر بالظلمة عن بطن الحوت ، لشدّة ظلمته كقوله : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } [ البقرة : 17 ] { أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } أن مفسرة أو مصدرية على تقدير نادى بأن ، والظلم الذي اعترف به كونه لم يصبر على قومه وخرج عنهم { وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم } يعني من بطن الحوت وإخراجه إلى البرّ { وكذلك نُنجِي المؤمنين } يحتمل أن يكون مطلقاً أو لمن دعا بدعاء يونس ، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دعوة أخي يونس ذي النون ما دعا بها مكروب إلا استجيب له " .
(1/1095)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
{ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً } أي بلا ولد ولا وارث { وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين } إن لم ترزقني وارثاً فأنت خير الوارثين ، فهو استسلام لله { وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } يعني ولدت بعد أن كانت عاقراً ، واسم زوجته أشياع ، قاله السهيلي { يُسَارِعُونَ فِي الخيرات } والضمير للأنبياء المذكورين { رَغَباً وَرَهَباً } الرغب الرجاء ، والرهب الخوف ، وقيل : الرغب أن ترفع إلى السماء بطون الأيدي ، والرهب أن ترفع ظهورها .
(1/1096)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
{ والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } هي مريم بنت عمران ، ومعنى أحصنت من العفة أي أعفته عن الحرام والحلال ، كقولها : { لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [ آل عمران : 47 ، مريم : 20 ] { فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } أي أجرينا فيها روح عيسى لما نفخ جبريل في جيب درعها ، ونسب الله النفخ إلى نفسه ، لأنه كان بأمره والروح هنا هو الذي في الجسد ، وأضاف الله الروح إلى نفسه للتشريف أو للملك { آيَةً } أي دلالة ، ولذلك لم يثن .
(1/1097)
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93)
{ إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ } أي ملتكم ملة واحدة ، وهو خطاب للناس كافة ، أو للمعاصرين لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم : إي إنما بعث الأنبياء المذكورون بما أمرتم به من الدين ، لأن جميع الأنبياء متفقون في أصول العقائد { وتقطعوا أَمْرَهُمْ } أي اختلفوا فيه ، وهو استعارة من جعل الشيء قطعاً ، والضمير للمخاطبين ، قيل فالأصل تقطعتم .
(1/1098)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
{ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } أي لإبطال ثواب عمله { وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ } أي نكتب عمله في صحيفته .
(1/1099)
وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95)
{ وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } قرىء حِرْم بكسر الحاء وهو بمعنى حرام ، واختلف في معنى الآية ، فقيل حرام بمعنى ممتنع على قرية أراد الله إهلاكها أن يرجعوا إلى الله بالتوبة ، أو ممتنع على قرية أهلكها الله أن يرجعوا إلى الدنيا ، ولا زائدة في الوجهين ، وقيل : حرام بمعنى حتم واقع لا محالة ، ويتصور فيه الوجهان ، وتكون لا نافية فيهما أي : حتمٌ عدم رجوعهم إلى الله بالتوبة أو : حتم عدم رجوعهم إلى الدنيا وقيل : المعنى ممتنع على قرية أهكلها الله أنهم لا يرجعون إليه في الآخرة ، ولا على هذا نافية أيضاً ، ففيه ردّ على من أنكر البعث .
(1/1100)
حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)
{ حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ } حتى هنا حرف ابتداء أو غاية متعلقة بيرجعون ، وجواب إذا : فإذا هي شاخصة ، وقيل : الجواب يا ويلينا لأن تقديره يقولون يا ويلنا ، وفتحت يأجوج ومأجوج أي فتح سدها فحذف المضاف { وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } الحدب المرتفع من الأرض ، وينسلون : أي يسرعون ، والضمير ليأجوج ومأجوج : أي يخرجون من كل طريق لكثرتهم ، وقيل : لجميع الناس { الوعد الحق } يعني القيامة { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ } إذا هنا للمفاجأة ، والضمير عند سيبويه ضمير القصة ، وعند الفراء ، للأبصار ، وشاخصة من الشخوص وهو : إحداد النظر من الخوف { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } هذا خطاب للمشركين ، والحصب : ما توقد به النار : كالحطب . وقرأ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه " حطب جنهم " والمراد بما تعبدون الأصنام وغيرها تحرق في النار توبيخاً لمن عبدها { وَارِدُونَ } الورود هنا الدخول .
(1/1101)
لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100)
{ زَفِيرٌ } ذكر في هود { لاَ يَسْمَعُونَ } .
قيل يجعلون في توابيت من نار فلا يسمعون شيئاً ، وقيل : يصمهم الله كما يعميهم .
(1/1102)
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
{ إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى } سبقت أي : قُضيت في الأزل ، والحسنى السعادة ، ونزلت الآية لما اعترض ابن الزبعرى على قوله : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] ، فقال : إن عيسى وعزير والملائكة قد عُبدوا؛ فالمعنى إخراج هؤلاء من ذلك الوعيد ، واللفظ مع ذلك على عمومه في كل من سبقت له السعادة { حَسِيسَهَا } أي صوتها { الفزع الأكبر } أهوال القيامة على الجملة ، وقيل ذبح الموت وقيل : النفخة الأولى في الصور لقوله : { فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض } [ النمل : 87 ] { كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ } السجل الصحيفة والكتاب مصدر : أي كما يطوي السجل ليكتب فيه ، أو ليصان الكتاب الذي فيه ، وقيل : السجل رجل كاتب وهذا ضعيف ، وقيل : هو ملك في السماء الثانية : ترفع إليه الأعمال ، وهذا أيضاً ضعيف { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } أي كما قدرنا على البداءة نقدر على الإعادة ، فهو كقوله : { قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ يس : 79 ] ، وقيل : المعنى نعيدهم على الصورة التي بدأناهم كما جاء في الحديث : " يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً " ثم قرأ : { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } ، والكاف متعلقة بقوله بقوله { نُّعِيدُهُ } { فَاعِلِينَ } تأكيداً لوقوع البعث .
(1/1103)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر } في الزبور هنا قولان : أحدهما أنه كتاب داود ، والذكر هنا على هذا التوراة التي أنزل الله على موسى ، وما في الزبور من ذكر الله تعالى ، والقول الثاني أن الزبور جنس الكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء ، والذكر على هذا هو اللوح المحفوظ : أي كتب الله هذا في الكتاب الذي أفرد له ، بعد ما كتبه في اللوح المحفوظ حتى قضى الأمور كلها ، والأول أرجح ، لأن إطلاق الزبور على كتاب داود أظهر وأكثر استعمالاً ، ولأن الزبور مفرد فدلالته على الواحد أرجح من دلالته على الجمع ، ولأن النص قد ورد في زبور داود بأن الأرض يرثها الصالحون { أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون } الأرض هنا على الاطلاق في مشارق الأرض ومغاربها ، وقيل : الأرض المقدسة ، وقيل : أرض الجنة ، والأول أظهر ، والعباد الصالحون : أمّة محمد صلى الله عليه وسلم ، ففي الآية ثناء عليهم ، وإخبار بظهور غيب مصداقة في الوجود إذ فتح الله لهذه الأمة مشارق الأرض ومغاربها .
(1/1104)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
{ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } هذا خطاب لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وفيه تشريف عظيم ، وانتصب رحمة على أنه حال من ضمير المخاطب المفعول ، والمعنى على هذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الرحمة ، ويحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحال من ضمير الفاعل تقديره : أرسلناك راحمين للعالمين ، أو يكون مفعولاً من أجله ، والمعنى على كل وجه : أن الله رحم العالمين بإرسال سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، لأنه جاءهم بالسعادة الكبرى ، والنجاة من الشقاوة العظمى ، ونالوا على يديه الخيرات الكثيرة في الآخرة والأولى ، وعلمهم بعد الجهالة وهداهم بعد الضلالة ، فإن قيل : رحمة للعالمين عموم ، والكفار لم يرحموا به؟ فالجواب من وجهين : أحدهما أنهم كانوا معرضين للرحمة به لو آمنوا فهم الذين تركوا الرحمة بعد تعريضها لهم ، والآخر أنهم رحموا به لكونهم لم يعاقبوا بمثل ما عوقب به الكفار المتقدّمون من الطوفان والصيحة وشبه ذلك .
(1/1105)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
{ آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ } أي أعلمتكم بالحق على استواء في الإعلام وتبليغ إلى جميعكم لم يختص به واحد دون آخر .
{ وَإِنْ أدري أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } إن هنا وفي الموضع الآخر نافية ، وأدري فعل علق عن معموله لأنه من أفعال القلوب وما بعده في موضع المعمول ، من طريق المعنى فيجب وصله معه ، والهمزة في قوله : { أَقَرِيبٌ } للتسوية لا لمجرد الاستفهام ، وقيل : يوقف على إن أدرى في الموضعين ، ويبتدأ بما بعده ، وهذا خطأ لأنه يطلب ما بعده { لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ } الضمير لإمهالهم وتأخير عقوبتهم { وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ } أي الموت أو القيامة { المستعان على مَا تَصِفُونَ } أي أستعين به على الصبر على ما تصفون من الكفر والتكذيب .
(1/1106)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)
{ اتقوا رَبَّكُمْ } تكلمنا على التقوى في أول البقرة { إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة } أي شدّتها وهولها كقوله : { وَزُلْزِلُواْ } [ البقرة : 214 ، الأحزاب : 11 ] ، أو تحريك الأرض حينئذ كقوله : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا } [ الزلزلة : 1 ] ، والجملة تعليل للأمر بالتقوى ، واختلف هل الزلزلة والشدائد المذكورة بعد ذلك في الدنيا بين يدي القيامة ، أو بعد أن تقوم القيامة ، والأرجح أن ذلك قبل القيامة ، لأن في ذلك الوقت يكون ذهول المرضعة ، ووضع الحامل لا بعد القيامة .
(1/1107)
يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
{ يَوْمَ تَرَوْنَهَا } العامل في الظرف تذهل ، والضمير للزلزلة ، وقيل : الساعة ، وذلك ضعيف لما ذكرنا؛ إلا أن يريد ابتداء أمرها { تَذْهَلُ } الذهول هو الذهاب عن الشيء ثديها مع دهشة { مُرْضِعَةٍ } إنما لم يقل مرضع ، لأن المرضعة هي التي في حال الإرضاع ملقمة ثديها للصبي ، والمرضع التي شأنها أن ترضع وإن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به ، فقال : مرضعة ليكون ذلك أعظم في الذهول ، إذ تنزع ثديها من فم الصبي حينئذ { وَتَرَى الناس سكارى } تشبيه بالسكارى من شدّة الغمّ { وَمَا هُم بسكارى } نفي لحقيقة السكر ، وقرأ سَكْرى والمعنى متفق .
(1/1108)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3)
{ وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله } نزلت في النضر بن الحارث ، وقيل في أبي جهل ، وهي تتناول كل من اتصف بذلك { شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } أي شديد الإغواء ، ويحتمل أن يريد شيطان الجن أو الإنس .
(1/1109)
كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
{ كُتِبَ } تمثيل لثبوت الأمر كأنه مكتوب ، ويحتمل أن يكون بمعنى قضى ، كقولك : كتب الله أنه في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله ، وفي أنه عطف عليه وقيل : تأكيد { مَن تَوَلاَّهُ } أي تبعه أو اتخذ ولياً ، والضمير في عليه ، وفي أنه في الموضعين ، وفي تولاه ، للشيطان ، وفي يضله ، ويهديه ، للمتولي له ، ويحتمل أن تكون تلك الضمائر أولاً لمن يجادل .
(1/1110)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)
{ ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث } الآية : معناها إن شككتم في البعث الأخروي فزوال ذلك الشك أن تنظروا في ابتداء خلقتكم؛ فتعلموا أن الذي قدر على أن خلقكم أول مرة : قادر على أن يعيدكم ثاني مرة ، وأن الذي قدر على إخراج النبات من الأرض بعد موتها : قادر على أن يخرجكم من قبوركم { خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } إشارة إلى خلق آدم ، وأسند ذلك إلى الناس لأنهم من ذريته وهو أصلهم { مِنْ عَلَقَةٍ } العلقة قطعة من دم جامدة { مِن مُّضْغَةٍ } أي قطعة من لحم { مُّخَلَّقَةٍ } المخلقة التامة الخلقة ، وغير المخلقة الغير التامة : كالسقط ، وقيل : المخلقة المسوّاة السالمة من النقصان { لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ } اللام تتعلق بمحذوف تقديره : ذكرنا ذلك { لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ } قدرتنا على البعث { وَنُقِرُّ } فعل مستأنف { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } يعني وقت وضع الحمل وهو مختلف وأقله ستة أشهر إلى ما فوق ذلك { نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } أفرده لأنه أراد الجنس ، أو أراد نخرج كل واحد منكم طفلاً { لتبلغوا أَشُدَّكُمْ } هو كمال القوّة والعقل والتمييز . وقد اختلف فيه من ثماني عشرة سنة إلى خمس وأربعين { أَرْذَلِ العمر } ذكر في [ النحل : 70 ] { هَامِدَةً } يعني لا نبات فيها { اهتزت } تحركت بالنبات وتخلخلت أجزاؤها لما دخلها الماء { وَرَبَتْ } انتفخت { زَوْجٍ بَهِيجٍ } أي صنف عجيب .
(1/1111)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
{ ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق } أي ذلك المذكور من أمر الإنسان ، والنبات حاصل ، بأن الله هو الحق ، هكذا قدره الزمخشري ، والباء على هذا سببية ، وبهذا المعنى أيضاً فسّره ابن عطية ، ويلزم على هذا أن لا يكون قوله : { وَأَنَّ الساعة آتِيَةٌ } : معطوفاً على ذلك ، لأنه ليس بسبب لما ذكر ، فقال ابن عطية قوله : أن الساعة ليس بسبب لما ذكر ولكن المعنى أن الأمر مرتبط بعضه ببعض ، أو على تقدير : والأمر أن الساعة وهذان الجوابان اللذان ذكر ابن عطية ضيعفان : أما قوله إن الأمر مرتبط بعضه ببعض ، فالارتباط هنا إنما يكون بالعطف والعطف لا يصح ، وأما قوله على تقدير الأمر : أن الساعة ، فذلك استئناف وقطع الكلام الأول ، ولا شك أن المقصود من الكلام الأول : هو إثبات الساعة فكيف يجعل ذكرها مقطوعاً مما قبله ، والذي يظهر لي أن الباء ليست بسببية ، وإنما يقدر لها فعل تتعلق به ويقتضيه المعنى؛ وذلك أن يكون التقدير؛ ذلك الذي تقدم من خلقة الإنسان والنبات شاهد بأن الله هو الحق ، وأنه يحيي الموتى ، وبأن الساعة أتية ، فيصح عطف : { وَأَنَّ الساعة } على ما قبله بهذا التقدير ، وتكون هذه الأشياء المذكورة بعد قوله : { ذلك } مما استدل عليها بخلقة الإنسان والنبات .
(1/1112)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8)
{ ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ } نزلت فيمن نزلت فيه الأولى وقيل الأخنس بن شريق .
(1/1113)
ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9)
{ ثَانِيَ عِطْفِهِ } كناية عن المتكبر المعرض { لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ } إن كانت في النضر بن الحارث : فالخزي أسره ثم قلته ، وكذلك قتل أبي جهل .
(1/1114)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
{ ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } أي يقال له : ذلك بما فعلت ويعدل الله ، لأنه لا يظلم العباد .
(1/1115)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12)
{ مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ } نزلت في قوم من الإعراب ، كان أحدهم إذا أسلم فاتفق له ما يعجبه في ماله وولده قال : هذا دين حسن ، وإن اتفق له خلاف ذلك تشاءم به وارتدّ عن الإسلام ، فالحرف هنا كناية عن المقصد ، وأصله من الانحراف عن الشيء ، أو من الحرف بمعنى الطرف أي أنه في طرف من الدين لا في وسطه { خَسِرَ الدنيا والأخرة } خسارة الدنيا بما جرى عليه فيها ، وخسارة الآخرين بارتداده وسوء اعتقاده { مَا لاَ يَضُرُّهُ } يعني الأصنام ، { يَدْعُو } بمعنى يعبد في الموضعين .
(1/1116)
يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
{ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } فيها إشكالان : الأول في المعنى وهو كونه وصف الأصنام بأنها لا تضر ولا تنفع ، ثم وصفها بأن ضرّها أقر من نفعها ، فنفى الضرّ ثم أثبته ، فالجواب : أن الضر المنفي أولاً يراد به ما يكون من فعلها وهي لا تفعل شيئاً ، والضر الثاني : يراد به ما يكون بسببها من العذاب وغيره ، والاشكال الثاني : دخول اللام على { مِن } وهي في الظاهرة مفعول ، واللام لا تدخل على المفعول ، وأجاب الناس عن ذلك بثلاثة أوجه : أحدها أن اللام مقدّمة على موضعها ، كأن الأصل أن يقال : يدعو من لضره أقر من نفعه ، فموضعها الدخول على المبتدأ ، والثاني : أن { يَدْعُو } هنا كرر تأكيداً ليدعو الأول وتم الكلام عنده ، ثم ابتدأ قوله : { لَمَنْ ضَرُّهُ } ، فمن مبتدأ وخبره { لَبِئْسَ المولى } ، وثالثها : أن معنى { يَدْعُو } : يقول يوم القيامة هذا كلام إذا رأى مضرة الأصنام ، فدخلت اللام على مبتدأ في أول الكلام { المولى } هنا بمعنى الولي { العشير } الصاحب فهو من العشيرة .
(1/1117)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
{ إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } الآية : لما ذكر أن الأصنام لا تنفع من عبدها ، قابل ذلك بأن الله ينفع من عبده بأعظم النفع ، وهو دخول الجنة .
(1/1118)
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)
{ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء ثُمَّ لْيَقْطَعْ } السبب هنا الحبل ، والسماء هنا سقف البيت وشبهه من الأشياء ، التي تعلق منها الحبال ، والقطع هنا يراد به : الاختناق بالحبل ، يقال : قطع الرجل إذا اختنق ، ويحتمل أن يراد به قطع الرجل من الأرض بعد ربط الحبل في العنق ، وربطه في السقف ، والمراد بالاختناق هنا ما يفعله من اشتد غيظه وحسرته ، أو طمع فيما لا يصل إليه ، كقوله للحسود : مت كمداً ، أو اختنق؛ فإنك لا تقدر على غير ذلك ، وفي معنى الآية قولان : الأول أن الضمير في ينصره لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، والمعنى على هذا : من كان من الكفار يظنّ أن لن ينصر الله محمداً فليختنق بحبل ، فإن الله ناصره ولا بد على غيظ الكفار ، فموجب الاختناق هو الغيظ من نصرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، والقول الثاني أن الضمير في { يَنصُرَهُ } عائد الى { مَن } ، والمعنى على هذا من ظنّ بسبب ضيق صدره وكثرة غمه أن لن ينصره الله : فيليختنق وليمت بغيظه ، فإنه لا يقدر على غير ذلك ، فموجب الاختناق على هذا القنوط والسخط من القضاء ، وسوء الظنّ بالله حتى ييأس من نصره ، ولذلك فسر بعضهم أن لن { يَنصُرَهُ الله } بمعنى أن ( لن يرزقه ) ، وهذا القول أرجح من الأول لوجهين : أحدهما أن هذا القول مناسب لمن يعبد الله على حرف ، لأنه إذا أصابته فتنة انقلب وقنط ، حتى ظنّ أن الله لن ينصره ، فيكون هذا الكلام متصلاً بما قبله : ويدل على ذلك قوله قبل هذه الآية : { إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } [ الحج : 14 ] : أي الأمور بيد الله ، فلا ينبغي لأحد أن يتسخط من قضاء الله ، ولا ينقلب إذا أصابته فتنة ، والوجه الثاني ، أن الضمير في ينصره على هذا القول يعود على ما تقدّمه ، وأما على القول الأول فلا يعود على مذكور قبله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر قبل ذلك بحيث يعود الضمير عليه ، ولا يدل سياق الكلام عليه دلالة ظاهرة { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } الكيد هنا يراد به اختناقه ، وسُميَ كيداً لأنه وضعه موضع الكيد ، إذ هو غاية حيلته ، والمعنى إذا خنق نفسه فلينظر هل يذهب ذلك ما يغيظه من الأمر ، أي ليس يذهبه .
(1/1119)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
{ وكذلك أَنزَلْنَاهُ } الضمير للقرآن ، أي مثل هذا أنزلنا القرآن كله { آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ الله يَهْدِي مَن يُرِيدُ } قال ابن عطية : أن في موضع خبر الابتداء والتقدير الأمر أن الله ، وهذا ضعيف . لأن فيه تكلف إضمار وقطع للكلام عن المعنى الذي قبله ، وقال الزمخشري : التقدير : لأن الله يهدي من يريد أنزلناه كذلك آيات بينات ، فجعل أن تعليلاً للإنزال ، وهذا ضعيف؛ للفصل بينهما بالواو . والصحيح عندي : أن قوله : { وَأَنَّ الله } معطوف على آيات بيناتع ، لأنه مقدر بالمصدر ، فالتقدير أنزلناه آيات بينات وهدى لمن أراد الله أن يهديه .
(1/1120)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
{ والصابئين } ذكر في [ البقرة : 62 ] وكذلك الذين هادوا { والمجوس } هم الذين يعبدون النار ، ويقولون : إن الخير من النور والشر من الظلمة { والذين أشركوا } هم الذين يعبدون الأصنام من العرب وغيرهم { إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ } هذه الجملة هي خبر { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ } الآية ، وكررت مع الخبر للتأكيد ، وفصل الله بينهم بأن يبين لهم أن الإيمان هو الحق ، وسائر الأديان باطلة ، وبأن يدخل الذين آمنوا الجنة ويدخل غيرهم النار .
(1/1121)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
{ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض } دخل في هذا من في السموات من الملائكة ، ومن في الأرض من الملائكة ، والجنّ ولم يدخل الناس في ذلك؛ لأنه ذكرهم في آخر الآية ، إلا أن يكون ذكرهم في آخرها على وجه التجريد ، وليس المراد بالسجود هنا السجود المعروف ، لأنه لا يصح في حق الشمس والقمر وما ذكر بعدهما ، وإنما المراد به الانقياد ثم إن الانقياد يكون على وجهين : أحدهما الانقياد لطاعة الله طوعاً ، والآخر الانقياد لما يجري الله على المخلوقات في أفعاله وتدبيره شاؤوا أو أبوا { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } إن جعلنا السجود بمعنى الانقياد لطاعة الله ، فيكون كثير من الناس معطوفاً على ما قبله من الأشياء التي تسجد ويكون قوله : { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } مستأنفاً يراد به من لا ينقاد للطاعة ، ويوقف على قوله : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } ، وهذا القول هو الصحيح؛ وإن جعلنا السجود بمعنى الانقياد لقضاء الله وتدبيره؛ فلا يصح تفضيل الناس على ذلك إلى من يسجد ومن لا يسجد لأن جميعهم يسجد بذلك المعنى ، وقيل : إن قوله : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } معطوف على ما قبله ثم عطف عليه وكثير { حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } فالجميع على هذا يسجد وهذا ضعيف لأن قوله : { حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } يقتضي ظاهرة أنه إنما حق عليه العذاب بتركه للسجود ، وتأوله الزمخشري على هذا المعنى ، بأن إعراب { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } فاعل بفعل مضمر تقديره يسجد سجود طاعة أو مرفوع بالابتداء وخبره محذوف تقديره مثاب وهذا تكلف بعيد .
(1/1122)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
{ هذان خَصْمَانِ } الإشارة إلى المؤمنين والكفار على العموم ، ويدل على ذلك ما ذكر قبلها من اختلاف الناس في أديانهم ، وهو قول ابن عباس ، وقيل : نزلت في علي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث حين برزوا يوم بدر لعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة ، فالآية على هذا مدنية إلى تمام ست آيات ، والخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة ، والمراد به هنا الجماعة ، والإشارة بهذان الفريقين { اختصموا فِي رَبِّهِمْ } أي في دينه وفي صفاته ، والضمير في اختصموا لجماعة الفريقين { فالذين كَفَرُواْ } الآية : حكم بين الفريقين ، بإن جعل للكفار النار وللؤمنين الجنة المذكورة بعد هذا { قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ } أي فصلت على قدر أجسادهم ، وهو مستعارمن تفصيل الثياب { الحميم } الماء الحارّ .
(1/1123)
يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)
{ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ } أي يذاب ، وذلك أن الحميم إذا صب على رؤوسهم وصل حره إلى بطونهم ، فأذاب ما فيها ، وقيل : معنى يصهر ينضج .
(1/1124)
وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21)
{ مَّقَامِعُ } جمع مقمعة أي مقرعة { مِنْ حَدِيدٍ } يضربون بها ، وقيل : هي السياط .
(1/1125)
كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
{ مِنْ غَمٍّ } بدل من المجرور قبله { وَذُوقُواْ } التقدير يقال لهم ذوقوا .
(1/1126)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23)
{ مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } من لبيان الجنس أو للتبعيض وفسرنا الأساور في [ الكهف : 31 ] { وَلُؤْلُؤاً } مفعول بفعل مضمر أي يعطون لؤلؤاً ، أو معطوف على موضع { مِنْ أَسَاوِرَ } إذ هو مفعول ، وبالخفض معطوف على أساور أو على ذهب .
(1/1127)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
{ الطيب مِنَ القول } قيل : هو لا إله إلا الله ، واللفظ أعم من ذلك { صِرَاطِ الحميد } أي صراط الله ، فالحميد اسم الله ، ويحتمل أن يريد الصراط الحميد ، وأضاف الصفة إلى الموصوف كقولك : مسجد الجامع .
(1/1128)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ } خبره محذوف يدل عليه قوله { نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } ، وقيل : الخبر { وَيَصُدُّونَ } على زيادة الواو ، وهذا ضعيف ، وإنما قال : { يَصُدُّونَ } بلفظ المضارع ليدل على الاستمرار على الفعل { سَوَآءً } بالرفع مبتدأ وخبره مقدر ، والجملة في موضع المفعول الثاني لجعلنا ، وقرأ حفص بالنصب على أنه المفعول الثاني والعاكف فاعل به { العاكف فِيهِ والباد } العاكف المقيم في البلد : والبادي القادم عليه من غيره ، والمعنى : الناس سواء في المسجد الحرام ، لا يختص به أحد دون أحد وذلك إجماع ، وقال أبو حنيفة : حكم سائر مكة في ذلك كالمسجد الحرام ، فيجوز للقادم أن ينزل منها حيث شاء ، وليس لأحد فيها ملك ، والمراد عنده بالمسجد الحرام جميع مكة ، وقال مالك وغيره : ليست الدور في ذلك كالمسجد ، بل هي متملكة { بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } الإلحاد الميل عن الصواب ، والظلم هنا عام في المعاصي من الكفر إلى الصغائر ، لأن الذنوب في مكة أشدّ منها في غيرها ، وقيل : هو استحلال الحرام ، ومفعول { يُرِدْ } محذوف تقديره : من يرد أحداً أو من يرد شيئاً ، { بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } : حالان مترادفان ، وقيل : المفعول قوله بإلحاد على زيادة الباء .
(1/1129)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26)
{ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت } العامل في إذ مضمر تقديره اذكر وبوأنا أصله من باء بمعنى رجع ، ثم ضوعف ليتعدى ، واستعمل بمعنى أنزلنا في الموضع كقوله : { تُبَوِّىءُ المؤمنين } [ آل عمران : 121 ] ، إلا أن هذا المعنى يشكل هنا لقوله لإبراهيم لتعدّى الفعل باللام ، وهو يتعدّى بنفسه حتى قيل : اللام زائدة ، ، وقيل : معناه هيأنا ، وقيل : جعلنا ، والبيت هنا الكعبة ، وروى أنه كان آدم يعبد الله فيه ، ثم درس بالطوفان ، فدل الله إبراهيم عليه السلام على مكانه ، وأمره ببنيانه { أَن لاَّ تُشْرِكْ } أن مفسرة ، والخطاب لإبراهيم عليه السلام ، وإنما فسرت تبوئه البيت بالنهي عن الإشراك ، والأمر بالتطهير؛ لأن التبوئة إنما قصدت لأجل العبادة التي تقتضي ذلك { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } عام في التطهير من الكفر والمعاصي والأنجاس ، وغير ذلك { والقآئمين } يعني المصلين .
(1/1130)
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
{ وَأَذِّن فِي الناس بالحج } خطاب لإبراهيم ، وقيل : لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، والأول هو الصحيح ، روى أنه لما أمر بالأذان بالحج . صعد على جبل أبي قبيس ، ونادى : أيها الناس إن الله قد أمركم بحج هذا البيت فحجوا ، فسمعه كل من يحج إلى يوم القيامة ، وهم في أصلاب آبائهم . وأجابه في ذلك الوقت كل شيء من جماد وغيره . لبيك اللهم لبيك ، فجرت التلبية على ذلك { يَأْتُوكَ رِجَالاً } جمع راجل أي ماشياً على رجليه { وعلى كُلِّ ضَامِرٍ } الضامر يراد به كل ما يركب من فرس وناقة وغير ذلك ، وإنما وصفه بالضمور لأنه لا يصل إلى البيت إلا بعد ضموره ، وقوله : { وعلى كُلِّ ضَامِرٍ } حال معطوف على حال كأنه قال : رجالاً وركباناً ، واستدل بعضهم بتقديم الرجال في الآية على أن المشي إلى الحج أفضل من الركوب ، واستدل بعضهم بسقوط ذكر البحر بهذه الآية ، على أنه يسقط فرض الحج على من يحتاج إلى ركوب البحر { يَأْتِينَ } صفة لكل ضامر ، لأنه في معنى الجمع { مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ } أي طريق بعيد .
(1/1131)
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28)
{ مَنَافِعَ لَهُمْ } أي بالتجارة ، وقيل : أعمال الحج وثوابه ، واللفظ أعم من ذلك { وَيَذْكُرُواْ اسم الله } يعني التسمية عند ذبح البهائم ونحرها وفي الهدايا والضحايا ، وقيل : يعني الذكر على الإطلاق ، وإنما قال : { اسم الله } ، لأن الذكر باللسان إنما يذكر لفظ الأسماء { في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ } هي عند مالك : يوم النحر وثانية وثالثة خاصة لأن هذه هي أيام الضحايا عنده ، ولم يجز ذحبها بالليل لقوله { في أَيَّامٍ } وقيل : الأيام المعلومات : عشر ذي الحجة ويوم النحر ، والثلاثة بعده ، وقيل : عشر ذي الحجة خاصة ، وأما الأيام المعدودات ، فهي الثلاثة بعد يوم النحر ، فيوم النحر من المعلومات لا من المعدودات واليومان بعده من المعلومات والمعدودات ورابع النحر في المعدودات لا من المعلومات { فَكُلُواْ مِنْهَا } ندب أو إباحة ويستحب أن يأكل الأقل من الضحايا ويتصدق بالأكثر { البآئس } الذي أصابه البؤس وقيل : هو المتكفف وقيلأ : الذي يظهر عليه أثر الجوع .
(1/1132)
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
{ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ } التفث في اللغة الوسخ ، فالمعنى ليقضوا إزالة تفثهم بقص الأظافر ، والاستحداد وسائر خاصل الفطرة والتنظف بعد أن يحلّوا من الحج ، وقيل : التفث أعمال الحج ، وقرىء بكسر اللام وإسكانها ، وهي لام الأمر وكذلك وليوفوا وليطوّفوا .
{ وَلْيَطَّوَّفُواْ } المراد هنا طواف الإفاظة عند جميع المفسرين وهو الطواف الواجب { بالبيت العتيق } أي القديم ، لأنه أول بيت وضع للناس وقيل : العتيق الكريم ، كقولهم : فرس عتيق ، وقيل أُعتق من الجبابرة أي منع منهم ، وقيل : العتيق هو الذي لم يملكه أحد قط .
(1/1133)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
{ ذلك } هنا وفي الموضع الثاني مرفوع على تقدير : الأمر ذلك كما يقدم الكاتب جملة من كتابه ، ثم يقول هذا وقد كان كذا ، وأجاز بعضهم الوقف على قوله : { ذلك } في ثلاثة مواضع من هذه السورة وهي هذا ، و { ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله } [ الحج : 32 ] و ذلك { وَمَن يُشْرِكْ بالله } [ الحج : 31 ] لأنها جملة مستقلة أو هو خبر ابتداء مضمر ، والأحسن وصلها بما بعدها عند شيخنا أبي جعفر بن الزبير ، لأن ما بعدها ليس كلاماً أجنبياً ، مثلها { ذلك وَمَنْ عَاقَبَ } [ الحج : 60 ] و { ذلكم فَذُوقُوهُ } [ الأنفال : 14 ] في الأنفال ، و { هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ } في [ ص : 55 ] { حُرُمَاتِ الله } جمع حرمة ، وهو ما لا يحل هتكه من أحكام الشريعة ، فيحتمل أن يكون هنا على العموم ، أو يكون خاصاً بما يتعلق بالحج لأن الآية فيه { فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ } أي التعظيم للحرمات خير { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } يعني ما حرمه في غير هذا الموضع كالميتة { الرجس مِنَ الأوثان } من لبيان الجنس كأنه قال : الرجس الذي هو الأوثان ، والمراد النهي عن عبادتها أو عن الذبح تقرباً إليها ، كما كانت العرب تفعل { قَوْلَ الزور } أي الكذب ، وقيل : شهادة الزور .
(1/1134)
حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
{ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء } الآية ، تمثيل للمشرك بمن أهلك نفسه أشدّ الهلاك { سَحِيقٍ } أي بعيد .
(1/1135)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
{ شَعَائِرَ الله } قيل : هي الهدايا في الحج وتعظيمها بأن تختار سماناً عظاماً غالية الأثمان ، وقيل : مواضع الحج ، كعرفات ومنى المزدلفة ، وتعظيمها إجلالها وتوقيرها والقصد إليها ، وقيل : الشعائر أمور الدين على الاطلاق ، وتعظيمها القيام بها وإجلالها { فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب } الضمير عائد على الفعلة التي يتضمنها الكلام وهي مصدر يعظم ، وقال الزمخشري ، : التقدير فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب ، فحذفت هذه المضافات .
(1/1136)
لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
{ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } من قال إن شعائر الله هي الهدايا ، فالمانع بها شرب لبنها ، وركوبها لمن اضطر إليها ، والأجل المسمى نحرها . ومن قال إن شعائر الله مواضع الحج ، فالمنافع التجارة فيها أو الأجر ، والأجل المسمى : الرجوع إلى مكة لطواف الإفاضة { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق } من قال : إن شعائر الله الهدايا فمحلها موضع نحرها وهي منى ومكة ، وخص البيت بالذكر لأنه أشرف الحرم وهو المقصود بالهدي ، و { ثُمَّ } على هذا القول ليست للترتيب في الزمان ، لأن محلها قبل نحرها ، وإنما هي لترتيب الجُمل ، ومن قال : إن الشعائر موضع الحج ، فمحلها مأخوذ من إحلال المحرم : أي أخر ذلك كله الطواف بالبيت يعني طواف الإفاضة إذ به يحل المحرم من إحرامه ومن قال : إن الشعائر أمور الدين على الاطلاق فذلك لا يستقيم مع قوله : محلها إلى البيت .
(1/1137)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً } أي لكل أمة مؤمنة ، والمنسك اسم مكان أي موضعها لعبادتهم ، ويحتمل أن يكون اسم مصدر بمعنى عبادة ، والمراد بذلك الذبائح لقوله : { لِّيَذْكُرُواْ اسم الله على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام } بخلاف ما يفعله الكفار من الذبح تقرّباً إلى الأصنام { فإلهكم إله وَاحِدٌ } في وجه اتصاله بما قبله وجهان : أحدهما أنه لما ذكر الأمم المتقدمة خاطبها بقوله : { فإلهكم إله وَاحِدٌ } ، أي هو الذي شرع المناسك لكم ولمن تقدّم قبلكم ، والثاني : أنه إشارة إلى الذبائح أي إلهكم إله واحد فلا تذبحوا تقرباً لغيره { المخبتين } الخاشعين وقيل : المتواضعين ، وقيل : نزلت في أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ ، وكذلك قوله بعد ذلك : { وَبَشِّرِ المحسنين } [ الحج : 37 ] واللفظ فيهما أعم من ذلك { وَجِلَتْ } خافت { والبدن } جمع بَدَنة ، وهو ما أشعر من الإبل ، واختلف هل يقال للبقرة بدنة ، وانتصابه بفعل مضمر { مِّن شَعَائِرِ الله } واحدها شعيرة ، ومن للتبعيض ، واستدل بذلك من قال : إن شعائر الله المذكورة أو على العموم في أمور الدين { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } قيل : الخير هنا المنافع المذكورة قبل ، وقيل : الثواب ، والصواب العموم في خير الدنيا والآخرة { صَوَآفَّ } معناه : قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن ، وهي منصوبة على الحال من الضمير المجرور ، ووزنه فواعل ، وواحده صافة { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } أي سقطت إلى الأرض عند موتها ، يقال : وجب الحائط وغيره إذا سقط { القانع } معناه السائل ، هو من قولك قنع الرجل بفتح النون : إذا سأل ، وقيل : معناه المتعفف عن السؤال ، فهو على هذا من قولك : قنع بالكسر إذا رضي بالقليل { والمعتر } المعترض بغير سؤال ، ووزنه مفتعل ، يقال : اعتررت بالقوم إذا تعرّضت لهم ، فالمعنى : أطعموا من سأل ومن لم يسأل ممن تعرض بلسان حاله ، وأطعموا من تعفف عن السؤال بالكلية ، ومن تعرض للعطاء { كذلك سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ } أي كما أمرناكم بهذا كله سخرناها لكم ، وقال الزمخشري : التقدير مثل التخيير الذي علمتم سخرناها لكم .
(1/1138)
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
{ لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا } المعنى لن تصلوا إلى رضا الله باللحوم ولا بالدماء ، وإنما تصلون إليه بالتقوى أي بالإخلاص لله ، وقصد وجه الله بما تذبحون وتنحرون من الهدايا ، فعبر عن هذا المعنى بلفظ : { يَنَالَ } مبالغة وتأكيداً ، لأنه قال : لن تصل لحومها ولا دماؤها إلى الله ، وإنما تصل بالتقوى منكم ، فإن ذلك هو الذي طلب منكم ، وعليه يحصل لكم الثواب ، وقيل : كان أهل الجاهلية يضرجون البيت بالدماء فأراد المسلمون فعل ذلك فنهوا عنه ونزلت الآية { كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ } كرر للتأكيد { لِتُكَبِّرُواْ الله } قيل : يعني قول الذابح : بسم الله والله أكبر ، واللفظ أعم من ذلك .
(1/1139)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
{ إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا } كان الكفار يؤذون المؤمنين بمكة ، فوعدهم الله أن يدفع عنهم شرهم وأذاهم ، وحذف مفعول يدافع ليكون أعظم وأعم وقرىء " يدافع " بالألف ، ويدفع بسكون الدال من غير الألف ، وهما بمعنى واحد ، أجريت فاعل مجرى فَعَل من قولك عاقبة الأمر ، وقال الزمخشري : يدافع : معناه يبالغ في الدفع عنهم ، لأنه للمبالغة ، وفعل المغالبة أقوى { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } الخوّان مبالغة في خائن ، والكفور مبالغة في كافر ، قال الزمخشري : هذه الآية علة لما قبلها .
(1/1140)
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)
{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ } هذه أول آية نزلت في الإذن في القتال ، ونسخت الموادعة مع الكفار ، وكان نزولها عند الهجرة ، وقرىء أذن بضم الهمزة على البناء لما لم يسم فاعله وبالفتح على البناء للفاعل وهو الله تعالى والمعنى أذن لهم في القتال فحذف المأذون فيه لدلالة { يُقَاتَلُونَ } عليه ، وقرىء { يُقَاتَلُونَ } بفتح التاء وكسرها { بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ } أي بسبب أنهم ظلموا .
(1/1141)
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
{ الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم } يعني الصحابة ، فإن الكفار آذوهم وأضروا بهم حتى اضطروهم إلى الخروج من مكة ، فمنهم من هاجر إلى أرض الحبشة ، ومنهم من هاجر إلى المدينة ونسب الإخراج إلى الكفار؛ لأن الكلام في معرض إلزامهم الذنب وصفهم بالظلم { إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله } قال ابن عطية هو استثناء منقطع لا يجوز فيه البدل عند سيبويه ، وقال الزمخشري : { أَن يَقُولُواْ } في محل الجر على الابدال من حق { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس } الآية تقوية للإذن في القتال وإظهار للمصلحة التي فيه ، كأن يقول لولا القتال والجهاد لا ستولى الكفار على المسلمين وذهب الدين ، وقيل : المعنى؛ لولا دفع ظلم الظلمة بعدل الولاة ، والأول أليق بسياق الآية ، وقرأ نافع : دفاع بالألف مصدر دافع ، والباقون بغير ألف مصدر دفع { لَّهُدِّمَتْ } قرأ نافع وابن كثير بالتخفيف والباقون بالتشديد للمبالغة { صَوَامِعُ } جمع صومعة بفتح الميم وهي موضع العبادة ، وكانت للصابئين ولرهبان النصارى ، ثم سمى بها في الإسلام موضع الأذان ، والبيع جمع بيعة بكسر الباء وهي كنائس النصارى ، والصلوات كنائس اليهود ، وقيل : هي مشتركة لكل أمة ، والمراد بها مواضع الصلوات ، والمساجد للمسلمين ، فالمعنى : لولا دفع الله لاستولى الكفار على أهل الملل المتقدمة في أزمانهم ، ولاستولى المشركون على هذه الأمة فهدموا مواضع عباداتهم { يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله } الضمير لجميع ما تقدم من المتعبدات ، وقيل : للمساجد خاصة { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ } أي من ينصر دينه وأولياءه ، وهو وعد تضمن الحض على القتال .
(1/1142)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
{ الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ } الآية؛ قيل : يعني أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : الصحابة ، وقيل : الخلفاء الأربعة لأنهم الذين مكنوا في الأرض بالخلافة ففعلوا ما وصفهم الله به .
(1/1143)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
{ وَإِن يُكَذِّبُوكَ } الآية ضمير الفاعل لقريش ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم على وجه التسلية له والوعيد لهم { نَكِيرِ } مصدر بمعنى الإنكار { على عُرُوشِهَا } العروش السقف فإن تعلق الجار بخاوية : فالمعنى أن العروش سقطت ثم سقطت الحيطان عليها فهي فوقها ، وإن كان الجار والمجرور في موضع الحال : فالمعنى أنها خاوية مع بقاء عروشها { وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ } أي لا يُسقى الماء منها لهلاك أهلها ، ورُوي أن هذا البئر هي الرس ، وكانت ( بعدن ) لأمة من بقايا ثمود ، والأظهر أنه لم يرد التعيين ، لقوله : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } وهذا اللفظ يراد به التكثير { وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } أي مبنى بالشيد وهو الجص ، وقيل : المشيد المرفوع البنيان { قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ } دليل على أن العقل في القلب ، خلافاً للفلاسفة في قولهم : العقل في الدماغ { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار } أي لا تعمى الأبصار عمى يعتد به ، وإنما العمى الذي يعتد به عمى القلوب ، وإن هؤلاء القوم ما عميت أبصارهم ولكن عميت قلوبهم ، فالمعنى الأول لقصد المبالغة ، والثاني خاص بهؤلاء القوم { التي فِي الصدور } مبالغة كقوله : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم } [ آل عمران : 167 ] .
(1/1144)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب } الضمير لكفار قريش { وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ } إخبار يتضمن الوعيد بالعذاب ، وسماه وعداً؛ لأن المراد به مفهوم { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } المعنى أن يوماً من أيام الآخرة مقداره ألف سنة من أعوام الدنيا ، ولذلك قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم . وذلك خمسمائة سنة ، وقيل : المعنى إن يوماً واحداً من أيام العذاب كألف سنة لطول العذاب ، فإن أيام البؤس طويلة ، وإن كانت في الحقيقة قصيرة ، وفي كل واحد من الوجهين تهديد للذين استعجلوا العذاب ، إلا أن الأول أرجح ، لأن الألف سنة فيه حقيقة ، وقيل : إن اليوم المذكور في الآية هو يوم من الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض .
(1/1145)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
{ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } ذكر أولاً القرى التي أهلكها بغير إملاء ، وذكر هنا التي أهلكها بعد الإملاء ، والإملاء هو الإمهال مع إرادة المعاقبة فيما بعد ، وعطف هذه الجملة بالواو على الجمل المعطوفة قبلها بالواو ، وقال في الأولى { فَكَأَيِّن } لأنه بدل من قوله : { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [ الحج : 44 ] .
(1/1146)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
{ سَعَوْاْ في آيَاتِنَا } أي سعوا فيها بالطعن عليها ، وهو من قولك : سعى في الأمر إذا وجد فيه لقصد إصلاحه أو إفساده { مُعَاجِزِينَ } بالألف أي مغالبين ، لأنهم قصدوا عجز صاحب الآيات ، والآيات تقتضي عجزهم ، فصارت مفاعلة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتشديد من غير ألف ومعناه أنهم يعجزون الناس عن الإسلام أي يثبطونهم عنه .
(1/1147)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52)
{ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ } النبيّ أعم من الرسول ، فكل رسول نبيّ وليس كل نبيّ رسولاً ، فقدم الرسول لمناسبته لقوله { أَرْسَلْنَا } وأخر النبي لتحصيل العموم ، لأنه لو اقتصر على رسول لم يدخل في ذلك من كان نبياً غير رسول { إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ } سبب هذه الآية أن رسول الله صلى لله عليه وسلم قرأ سورة والنجم بالمسجد الحرام بمحضر المشركين والمسلمين فلما بلغ إلى قوله : { أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى * وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى } [ النجم : 19-20 ] ألقى الشيطان : تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى ، فسمع ذلك المشركون ففرحوا به وقالوا : محمد يذكر آلهتنا بما نريد .
واختلف في كيفية إلقاء الشيطان ، فقيل : إن الشيطان هو الذي تكلم بذلك ، وظن الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم هو المتكلم به؛ لأنه قرّب صوته من صوت النبيّ صلى الله عليه وسلم حتى التبس الأمر على المشركين ، وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي تكلم بذلك على وجه الخطأ والسهو؛ لأن الشيطان ألقاه ووسوس في قلبه ، حتى خرجت تلك الكلمة على لسانه من غير قصد ، والقول الثاني أشهر عند المفسرين والناقلين لهذه القصة ، والقول الأول أرجح لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم في التبليغ ، فمعنى الآية : أن كل نبي وكل رسول قد جرى له مثل ذلك من إلقاء الشيطان ، واختلف في معنى تمنى وأمنيته في هذه الآية فقيل : تمنى بمعنى تلا ، والأمنية : التلاوة : أي إذا قرأ الكتاب ألقى الشيطان من عنده في تلاوته ، وقيل : هو من التمني بمعنى حب الشيء ، وهذا المعنى أشهر في اللفظ : أي تمنى النبي صلى الله عليه وسلم مقاربة قومه واستئلافهم ، وألقى الشيطان ذلك في هذه الأمنية ليعجبهم ذلك { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان } أي يبطله كقولك : نسخت الشمس الظل .
(1/1148)
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53)
{ لِّيَجْعَلَ } متعلق بقوله : { يَنسَخُ } و { يُحْكِمُ } { لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي أهل الشك { والقاسية قُلُوبُهُمْ } المكذبون ، وقيل : { لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } عامة الكفار ، { والقاسية قُلُوبُهُمْ } أشدُّ كفراً وعتوّاً كأبي جهل { وَإِنَّ الظالمين لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } يعني بالظالمين المذكورين قبل ، ولكنه جعل الظاهر موضع المضمر ، ليقضي عليهم بالظلم ، والشقاق : العداوة ، ووصفه ببعيد ، لأنه في غاية الضلال والبعد عن الخير .
(1/1149)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
{ الذين أُوتُواْ العلم } قيل : يعني الصحابة ، واللفظ أعم من ذلك .
{ أَنَّهُ الحق } الضمير عائد على القرآن ، وقال الزمخشري : هو لتمكين الشيطان من الإلقاء { فَتُخْبِتَ } أي تشخع .
(1/1150)
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)
{ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ } الضيمر للقرآن ، أو للنبي صلى الله عليه وسلم أو للإلقاء { يَوْمٍ عَقِيمٍ } يعني يوم بدر ، ووصفه بالعقيم لأنه لا ليلة لهم بعده ولا يوم ، لأنهم يقتلون فيه ، وقيل : هو يوم القيامة ، والساعة مقدّماته ، ويقوي ذلك قوله : { الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ } ، ثم قسم الناس إلى قسمين : أصحاب الجحيم وأصحاب النعيم .
(1/1151)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)
{ قتلوا أَوْ مَاتُواْ } روى أن قوماً قالوا : يا رسول الله قد علمنا ما أعطى الله لمن قتل من الخيرات ، فما لمن مات معك؟ فنزلت الآية معلمة أن الله يرزق من قتل ومن مات معاً ، ولا يقتضي ذلك المساواة بينهم لأن تفضيل الشهداء ثابت { رِزْقاً حَسَناً } يحتمل أن يريد به الرزق في الجنة بعد يوم القيامة ، أو رزق الشهداء في البرزخ ، والأول أرجح ، لأنه يعم الشهداء والموتى { مُّدْخَلاً } يعني الجنة .
(1/1152)
ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
{ ذلك } تقديره هنا : الأمر ذلك كما يقول الكاتب هذا وقد كان كذا إذا أراد أن يخرج إلى حديث آخر .
{ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ } سمى الابتداء عقوبة باسم الجزاء عليها تجوّزاً كما تسمى العقوبة أيضاً باسم الذنب ووعد بالنصر لمن بغى عليه { إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } إن قيل ما مناسبة هذين الوصفين للمعاقبة؟ فالجواب من وجهين : أحدهما أن في ذكر هذين الوصفين إشعار بأن العفو أفضل من العقوبة ، فكأنه حض على العفو ، والثاني أن في ذكرهما إعلاماً بعفو الله عن المعاقب حين عاقب ، ولم يأخذ بالعفو الذي هو أولى .
(1/1153)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
{ ذلك بِأَنَّ الله يُولِجُ الليل } أي ذلك النصر بسبب أن الله قادر ، ومن آيات قدرته أنه { يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل } ومعنى الإيلاج هنا أنه يدخل ظلمة هذا في مكان ضوء هذا ، ويدخل ضوء هذا مكان ظلمة هذا ، وقيل : الإيلاج هو ما ينقص من أحدهما ويزيد في الآخر .
(1/1154)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67)
{ ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق } أي ذلك الوصف الذي وصف الله به هو بسبب أنه الحق { فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً } تصبح هنا بمعنى تصير ، وفهم بعضهم أنه أراد صبيحة ليلة المطر ، فقال : لا تصبح الأرض مخضرة إلا بمكة ، والبلاد الحارة ، وأما على معنى تصير ، فذلك عام في كل بلد ، والفاء للعطف ، وليست بجواب ، ولو كانت جواباً لقوله : { أَلَمْ تَرَ } لنصبت الفعل ، وكان المعنى نفي خضرتها وذلك خلاف المقصود ، وإنما قال { تُصْبِحُ } بلفظ المضارعة ليفيد بقاءها كذلك مدة { سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض } يعني البهائم والثمار والمعادن وغير ذلك { أَن تَقَعَ } في موضع مفعول على تقدير عن أن تقع ، وقال الزمخشري : كراهة أن تقع فهو مفعول من أجله { إِلاَّ بِإِذْنِهِ } يحتمل أن يريد يوم القيامة ، فجعل طي السماء كوقوعها أو يريد بإذنه لو شاء متى شاء { ا أَحْيَاكُمْ } أي أوجدكم بعد العدم ، وعبّر عن ذلك بالحياة؛ لأن الإنسان قبل ذلك تراب فهو جماد بلا روح ، ثم أحياه بنفخ الروح { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } يعني الموت المعروف { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } يعني البعث { لَكَفُورٌ } أي جحود للنعمة { مَنسَكاً } هو اسم مصدر لقوله : { نَاسِكُوهُ } ولو كان اسم مكان لقال ناسكون فيه { فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ } ضمير الفاعل للكفار ، والمعنى : أنه لا ينبغي منازعة النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن الحق قد ظهر بحيث لا يسع النزاع فيه ، فجاء الفعل بلفظ النهي والمراد غير النهي ، وقيل : إن المعنى لا تنازعهم فينازعونك ، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، ويحتمل أن يكون نهياً لهم عن المنازعة على ظاهر اللفظ { فِي الأمر } أي في الدين الشريعة أو في الذبائح { وادع إلى رَبِّكَ } أي ادع الناس إلى عبادة ربك .
(1/1155)
وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)
{ وَإِن جَادَلُوكَ } الآية : تقتضي موادعة منسوخة بالقتال { إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ } يعني اللوح المحفوظ ، والإشارة بذلك إلى معلومات الله { إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ } يحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى كتب المعلومات في الكتاب ، أو إلى الحكم في الاختلاف والأول أظهر { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } يعني الأصنام؛ والسلطان هنا : الحجة والبرهان ، وما ليس لهم به علم : قيل : إنه يعني ما ليس لهم به علم ضروري ، فنفى أولاً البرهان النظري ، ثم العلم الضروري ، وليس اللفظ بظاهر في هذا المعنى ، بل الأحسن نفي العلم الضروري والنظري معاً { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر } أي الإنكار لما يسمعون فالمنكر مصدر : كالمكرم بمعنى الإكرام ويعرف ذلك في وجوههم بعبوسها وإعراضها { يَسْطُونَ } من السطوة وهي سرعة البطش { النار وَعَدَهَا الله } يحتمل أن تكون { النار } مبتدأ ، و { وَعَدَهَا الله } خبراً أو يكون النار خبر ابتداء مضمر كأنّ قائلاً قال : ما هو ، فقيل : هو النار ، ويكون وعدها الله استئنافاً وهذا أظهر { ضُرِبَ مَثَلٌ } أي ضربه الله لإقامة الحجة على المشركين { لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً } تنبيه بالأصغر على الأكبر من باب أولى وأحرى : والمعنى أن الأصنام التي تعبدونها لا تقدر على خلق الذباب ولا غيره ، فكيف تُعبد من دون الله الذي خلق كل شيء ، ثم أوضح عجزهم بقوله { وَلَوِ اجتمعوا لَهُ } أي لو تعاونوا على خلق الذباب لم يقدروا عليه { وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ } بيان أيضاً لعجز الأصنام بحيث لو اختطف الذباب منهم شيئاً لم يقدروا على استنقاذه منه على حال ضعفه ، وقد قيل : إن المراد بما يسلب الذباب منهم الطيب الذي كانت تجعله العرب على الأصنام واللفظ أعم من ذلك { ضَعُفَ الطالب والمطلوب } المراد بالطالب الأصنام وبالمطلوب الذباب ، لأن الأصنام تطلب من الذباب ما سلبته منها . وقيل : الطالب الكفار والمطلوب الأصنام . لأن الكفار يطلبون الخير منهم .
(1/1156)
مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
{ مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } أي ما عظموه حق تعظيمه .
(1/1157)
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75)
{ الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس } ردّ على من أنكر أن يكون الرسول من البشر .
(1/1158)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)
{ اركعوا واسجدوا } في هذه الآية سجدة عند الشافعي ون غيره للحديث الصحيح الوارد في ذلك خلافاً للمالكية { وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ } عموم في العبادة بعد ذلك الصلاة التي عبر عنها بالركوع والسجود ، وإنما قدمها لأنها أهم العبادات { وافعلوا الخير } قيل : المراد صلة الرحم ، وقال ابن عطية : هي في الندب فيما عدا الواجبات واللفظ أعم من ذلك كله .
(1/1159)
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
{ وَجَاهِدُوا فِي الله } يحتمل أن يريد جهاد الكفار ، أو جهاد النفس والشيطان أو الهوى ، أو العموم في ذلك { حَقَّ جِهَادِهِ } قيل : إنه منسوخ كنسخ حق تقاته بقوله : { مَا استطعتم } [ الأنفال : 60 ، التغابن : 16 ] وفي ذلك نظر ، وإنما أضاف الجهاد إلى الله ليبين بذلك فضله واختصاصه بالله { اجتباكم } أي اختاركم من بين الأمم { مِنْ حَرَجٍ } أي مشقة ، وأصل الحرج الضيق { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } انتصب ملة بفعل مضمر تقديره : أعني بالدين ملة إبراهيم أو التزموا ملة إبراهيم وقال الفراء : انتصب على تقدير حذف الكاف كأنه قال كلمة ، وقال الزمخشري : انتصب بمضمون ما تقدم : كأنه قال : وسع عليكم توسعة ملة أبيكم إبراهيم ، ثم حذف المضاف ، فإن قيل : لم يكن إبراهيم للمسلمين كلهم ، فالجواب : أنه كان أباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أباً لأمته لأن أمة الرسول في حكم أولاده ، ولذلك قرىء { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [ الأحزاب : 6 ] ، " وهو أب لهم " وأيضاً فإن قريشاً وأكثر العرب من ذرية إبراهيم ، وهم أكثر الأمة فاعتبرهم دون غيرهم { هُوَ سَمَّاكُمُ } الضمير لله تعالى ، ومعنى { مِن قَبْلُ } من الكتب المتقدمة . وفي هذا أي في القرآن ، وقيل الضمير لإبراهيم والإشارة إلى قوله : ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ، ومعنى من قبل على هذا : من قبل وجودكم ، وهنا يتم الكلام على هذا القول ويكون قوله { وَفِي هذا } مستأنفاً : أي وفي هذا البلاغ ، والقول الأول أرجح وأقل تكلفاً ، ويدل عليه قراءة أبي بن كعب : الله سماكم المسلمين { شَهِيداً عَلَيْكُمْ } تقدم معنى هذه الشهادة في البقرة { فَأَقِيمُواْ الصلاة } الظاهر أنها المكتوبة لاقترانها مع الزكاة { هُوَ مَوْلاَكُمْ } معناه هنا : وليكم وناصركم؛ بدلالة ما بعد ذلك .
(1/1160)
الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)
{ الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } الخشوع حالة في القلب من الخوف والمراقبة والتذلل لعظمة المولى جل جلاله ، ثم يظهر أثر ذلك على الجوارح بالسكون والإقبال على الصلاة وعدم الالتفات والبكاء والتضرع ، وقد عدّ بعض الفقهاء الخشوع في فرائض الصلاة ، لأنه جعله بمعنى حضور القلب فيها ، وقد جاء في الحديث : لا يكتب للعبد في صلاته إلا ما عقل منها ، والصواب أن الخشوع أمر زائد على حضور القلب ، فقد يحضر القلب ولا يخشع .
(1/1161)
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
{ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ } اللغو هنا : الساقط من الكلام كالسب واللهو ، والكلام بما لا يعني ، وعدد أنواع المنهي عنه من الكلام عشرون نوعاً ، ومعنى الإعراض عنه : عدم الاستماع إليه والدخول فيه ، ويحتمل أن يريد أنهم لا يتكلمون به ، ولكن إعراضهم عن سماعه يقتضي ذلك من باب أولى وأحرى .
(1/1162)
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4)
{ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } أي مؤدّون ، فإن قيل : لم قال فاعلون ولم يقل مؤدّون؟ فالجواب؛ أن الزكاة لها معنيان أحدهما : الفعل الذي يفعله المزكي أي أداء ما يجب على المال ، والآخر المقدار المخرج من المال كقولك : هذه زكاة مالي ، والمراد هنا الفعل لقوله { فَاعِلُونَ } ويصح المعنى الآخر على حذف تقديره : هم لأداء الزكاة فاعلون .
(1/1163)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
{ على أَزْوَاجِهِمْ } هذا المجرور يتعلق بفعل يدل عليه قوله { غَيْرُ مَلُومِينَ } أي لا يلامون على أزواجهم ويمكن أن يتعلق بقوله { حَافِظُونَ } على أن يكون على بمعنى عن { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } يعني النساء المملوكات ، { وَرَآءَ ذلك } يعني ما سوى الزوجات والمملوكات { لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ } يحتمل أن يريد أمانة الناس وعهدهم وأمانة الله وعهده في دينه أو العموم ، والأمانة أعم من العهد ، لأنها قد تكون بعهد وبغير عهد متقدم { رَاعُونَ } أي حافظون لها قائمون بها { على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } المحافظة عليها هي فعلها في أوقاتها مع توفية شروطها ، فإن قيل : كيف كرر ذكر الصلوات أولاً وآخراً؟ فالجواب : أنه ليس بتكرار ، لأنه قد ذكر أولاً الخشوع فيها وذكر هنا المحافظة عليها ، فهما مختلفان ، وأضاف الصلاة في الموضعين إليهم دلالة على ثبوت فعلهم لها { الوارثون } أي المستحقون للجنة ، فالميراث استعارة ، وقيل : إن الله جعل لكل إنسان مسكناً في الجنة ومسكناً في النار ، فيرث المؤمنون مساكن الكفار في الجنة { الفردوس } مدينة الجنة وهي جنة الأعناب ، وأعاد الضمير عليها مؤنثاً على معنى الجنة .
(1/1164)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } اختلف هل يعني آدم ، أو جنس بني آدم { مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } السلالة : هي ما يسل من الشيء أي ما يستخرج منه ، ولذلك قيل إنها الخلاصة ، والمراد بها هنا : القطعة التي أخذت من الطين وخلق منها آدم ، فإن أراد بالإنسان آدم : فالمعنى أنه خلق من تلك السلالة المأخوذة من الطين ، ولكن قوله بعد هذا { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً } لا بدّ أن يراد به بنو آدم ، فيكون الضمير يعود على غير من ذكر أولاً ، ولكن يفسره سياق الكلام ، وإن أراد بالإنسان ابن آدم فيستقيم عود الضمير عليه ، ويكون معنى خلقه من سلالة من طين : أي خلق أصله وهو أبوه آدم ويحتمل عندي أن يراد بالإنسان الجنس الذي يعم آدم وذريته ، فأجمل ذكر الإنسان أولاً ثم فصله بعد ذلك إلى الخلقة المختصة بآدم : وهي من طين ، وإلى الخلقة المختصة بذريته . وهي النطفة ، فإن قيل : ما الفرق بين من ومن؟ فالجواب على ما قال الزمخشري : أن الأولى للابتداء ، والثانية للبيان . كقوله من الأوثان { فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } يعني رحم الأمّ ، ومعنى { مَّكِينٍ } : متمكن وذلك في الحقيقة من صفة النطفة المستقرّة ، لا من صفة المحل المستقرّ فيه ، ولكنه كقولك طريق سائر : أي يسير الناس فيه ، وقد تقدّم تفسير النطفة والمضغة والعلقة في أول الحج { خَلْقاً آخَرَ } قيل : هو نفخ الروح فيه ، وقيل : خروجه إلى الدنيا ، وقيل : استواء الشباب وقيل على العموم من نفخ الروح فيه إلى موته { فَتَبَارَكَ الله } هو مشتق من البركة ، وقيل : معناه تقدس { أَحْسَنُ الخالقين } أي أحسن الخالقين خلقاً ، فحذف التمييز لدلالة الكلام عليه ، وفسر بعضهم الخالقين بالمقدّرين ، فراراً من وصف المخلوق بأنه خالق ، ولا يجب أن ينفي عن المخلوق أنه خالق بمعنى صانع كقوله : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين } [ المائدة : 110 ] وإنما الذي يجب أن ينفي عنه معنى الاختراع ، والإيجاد من العدم ، فهذا هو الذي انفرد الله به .
(1/1165)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
{ سَبْعَ طَرَآئِقَ } يعني السموات ، وسماها طرائق لأن بعضها طورق فوق بعض كمطارقة النعل ، وقيل : يعني الأفلاك لأنها طرق للكواكب { وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ } يحتمل أن يريد بالخلق المخلوقين ، أو المصدر .
(1/1166)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18)
{ مَآءً بِقَدَرٍ } يعني المطر الذي ينزل من السماء ، فتكون منه العيون والأنهار في الأرض ، وقيل : يعني أربعة أنهار وهي النيل ، والفرات ، ودجلة ، وسيحان ، ولا دليل على هذا التخصيص ، ومعنى بقدر : بمقدار معلوم لا يزيد عليه ولا ينقص منه .
(1/1167)
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20)
{ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ } يعني الزيتون ، وإنما خص النخيل والأعناب والزيتون بالذكر : لأنها أكرم الشجر وأكثرها منافع ، وطور سيناء : جبل بالشام وهو الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام ، وينسب الزيتون إليه لأنها فيه كثيرة وسيناء اسم جبل أضافه إليه كقوله : جبل أحد ، وقرأ الباقون : بفتح السين ولم ينصرف للتأنيث اللازم ، وقرىء بالكسر ، ولم ينصرف للعجمة أو للتأنيث مع التعريف ، لأن فعلاء بالكسر لا تكون ألفه للتأنيث ، وقيل : معناه مبارك ، وقيل ذو شجرة ، ويلزم على ذلك صرفه { تَنبُتُ بالدهن } يعني الزيت ، وقرىء تنبت بفتح التاء ، فالمجرور على هذا في موضع الحال . كقولك جاء زيد بسلاحه ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : تُنْبِتُ بضم التاء وكسر الباء ، وفيه ثلاثة أوجه : الأول أن أنبت بمعنى نبت ، والثاني حذف المفعول تقديره تنبت ثمرتها بالدهن والثالث زيادة الباء { وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ } الصبغ الغمس في الإدام .
(1/1168)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
{ فِي الأنعام } هي الإبل والبقر والغنم والمقصود بالذكر الإبل ، لقوله : { وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ } وقد تقدم في [ النحل : 80 ] ذكر المنافع التي فيها وتذكيرها وتأنيثها .
(1/1169)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)
{ مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ } استبعدوا أن تكون النبوّة لبشر؛ فيا عجباً منهم إذ أثبتوا الربوبية لحجر! { يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ } أي يطلب الفضل و الرياسة عليكم { مَّا سَمِعْنَا بهذا } أي بمثل ما دعاهم إليه من عبادة الله ، أو بمثل الكلام الذي قال لهم ، وهذا يدل على أنه كان قبل نوح فترة طويلة .
(1/1170)
إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
{ بِهِ جِنَّةٌ } أي جنون . فانظر اختلاف قولهم فيه : فتارة نسبوه إلى طلب الرياسة ، وتارة إلى الجنون { حتى حِينٍ } أي إلى وقت لم يعينوه ، ولكن أرادوا وقت زوال جنونه على قولهم ، أو وقت موته .
(1/1171)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)
{ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ } تضمن هذا دعاء عليهم ، لأن نصرته إنما هي بإهلاكهم وقد تقدم في [ هود : 37 ] تفسير { بِأَعْيُنِنَا } ووحينا ، { وَفَارَ التنور } ، { وَلاَ تُخَاطِبْنِي } { فاسلك فِيهَا } أي أدخل فيها ، وقد تقدم تفسير زوجين إثنين { وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } إن مخففة من الثقيلة ، { لَمُبْتَلِينَ } : اسم فاعل من ابتلى ، ويحتمل أن يكون بمعنى الاختبار ، أو إنزال البلاء { قَرْناً آخَرِينَ } قيل : إنهم عاد ورسولهم ( هود ) ، لأنهم الذين يلون قوم نوح ، وقيل : أنهم ثمود ورسولهم صالح ، وهذا أصح لقوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة } [ المؤمنون : 41 ] ، وأما عاد فأهلكوا بالريح { مِن قَوْمِهِ } قدم هذا المجرور على قوله { الذين كَفَرُواْ } لئلا يوهم أنه متصل بقوله { الحياة الدنيا } بخلاف قوله : { وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ } في غير هذا الموضع { وَأَتْرَفْنَاهُمْ } أي نعمناهم { بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } يحتمل أنهم قالوا ذلك لإنكارهم أن يكون نبيّ من البشر ، أو قالوه أنفه من اتباع بشر مثلهم ، وكذلك قال قوم نوح { أَيَعِدُكُمْ } استفهام على وجه الاستهزاء والاستبعاد { أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ } كرر أن تأكيداً للأولى؛ ومخرجون خبر عن الأولى .
(1/1172)
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36)
{ هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ } هذا من حكاية كلامهم ، وهيهات : اسم فعل بمعنى بعد ، وقال الغزنوي : هي للتأسف والتأوّه ، ويجوز فيه الفتح والضم والكسر والإسكان ، وتارة يجيء فاعله دون لام كقوله : فهيهاتَ هيهاتَ العقيقُ وأهله ، وتارة يجيء باللام كهذه الآية ، قال الزجاج في تفسيره البعد : { لِمَا تُوعَدُونَ } ، فنزّله منزلة المصدر ، قال الزمخشري : وفيه وجه آخر : وهي أن تكون اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في هيت لك البيان المهيت به .
(1/1173)
إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)
{ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا ، فوضع هي موضع الحياة لدلالة الخبر عليها { نَمُوتُ وَنَحْيَا } أي يموت بعض ويولد بعض ، فينقرض قرن ويحدث قرن آخر ومرادهم : إنكار البعث .
(1/1174)
قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40)
{ عَمَّا قَلِيلٍ } ما زائدة ، وقيل صفة للزمان والتقدير : عن زمان قليل يندمون .
(1/1175)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
{ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً } يعني هالكين كالغثاء ، والغثاء ما يحمله السيل من الورق وغيره مما يبلى ويسود ، فشبه به الهالكين { فَبُعْداً } مصدر موضع الفعل بمعنى بعدوا : أي هلكوا ، والعامل في مضمر لا يظهر .
(1/1176)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
{ تَتْرَا } مصدر ووزنه فعلى ، ومعناه التواتر والتتابع ، وهو موضع موضوع الحال : أي متواترين واحداً بعد واحد ، فمن قرأه بالتنوين . فألفه للإلحاق ، ومن قرأه بغير تنوين : فألفه للتأنيث فلم ينصرف ، وتأنيثه لأن الرسل جماعة والتاء الأولى فيه بدل من واو هي فاء الكلمة { وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أي يتحدث الناس بما جرى عليهم ، ويحتمل أن يكون جمع حديث أو جمع أحدوثة ، وهذا أليق لأنها تقال في الشر .
(1/1177)
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
{ قَوْماً عَالِينَ } أي متكبرين { وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } أي حامدون متذللون { لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } الضمير لبني إسرائيل لا لقوم فرعون ، لأنهم هلكوا قبل إنزال التوراة .
(1/1178)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
{ وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ } الربوة : الموضع المرتفع من الأرض ، ويجوز فيها فتح الراء وضمها وكسرها ، واختلف في موضع هذه الربوة ، فقيل : بيت المقدس ، وقيل : بغوطة دمشق ، وقيل : بفلسطين { ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } القرار : المستوي من الأرض؛ فمعناه أنها بسيطة يمكن فيها الحرث والغراسة ، وقيل : إن القرار هنا الثمار والحبوب ، والمعين الماء الجاري ، فقيل : إنه مشتق من قولك : معن الماء إذ كثر ، فالميم على هذا أصلية ، ووزنه فعيل ، وقيل : إنه مشتق من العين ، فالميم زائدة ، ووزنه مفعول .
(1/1179)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51)
{ ياأيها الرسل } هذا النداء ليس على ظاهره ، لأن الرسل كانوا في أزمنة متفرقة ، وإنما المعنى أن كل رسول في زمانه خوطب بذلك ، وقيل : الخطاب لسيدنا محد صلى الله عليه وآله وسلم ، وأقامه مقام الجماعة وهذا بعيد { كُلُواْ مِنَ الطيبات } أي من الحلال ، فالأمر على هذا للوجوب ، أو من المستلذات فالأمر للإباحة .
(1/1180)
وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)
{ وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } قرىء إن بالكسر على الاستئناف وهي قراءة أهل الكوفة وبالفتح على معنى لأن ، وهي متعلقة بقوله آخراً { فاتقون } وقيل : تتعلق بفعل مضمر تقديره : واعلموا ، والأمة هنا الدين ، وهو ما اتفقت عليه الرسل من التوحيد وغيره .
(1/1181)
فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)
{ فتقطعوا أَمْرَهُمْ } أي افترقوا واختلفوا ، والضمير لأمم الرسل المذكورين من اليهود والنصارى وغيرهم { زُبُراً } جمع زبور : وهو الكتاب ، والمعنى أنهم افترقوا في اتباع الكتب ، فاتبعت طائفة التوراة ، وطائفة الإنجيل ، وغير ذلك ، ووضعوا كتاباً من عند أنفسهم .
(1/1182)
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
{ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ } الضمير لقريش ، والغمرة الجهل والضلال ، وأصلها من غمرة الماء { حتى حِينٍ } هنا يوم بدر أو يوم موتهم .
(1/1183)
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
{ أَيَحْسَبُونَ } الآية : ردّ عليهم فيما ظنوا من أن أموالهم وأولادهم خير لهم وأنهم سبب لرضا الله عنهم { نُسَارِعُ لَهُمْ } هذا خبر أن ، والضمير الرابط محذوف تقديره نسارع به { بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } أي لا يشعرون أن ذلك استدراج لهم ، ففيه معنى التهديد .
(1/1184)
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
{ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ } قيل : معناه يعطون ما أعطوه من الزكاة والصدقات وقيل : إنه عام في جميع أفعال البرّ أي يفعلونها وهم يخافون أن لا تقبل منهم ، وقد روت عائشة هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
إلا أنها قرأت : { يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ } بالقصر ، فيحتمل أن يكون الحديث تفسيراً لهذه القراءة ، وقيل : إنه عام في الحسنات والسيئات : أي يفعلونها وهم خائفون من الرجوع إلى الله { أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } أن في موضع المفعول من أجله ، أو في موضع المفعول بوجلت ، إذ هي في المعنى خائفة .
(1/1185)
أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
{ أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات } فيه معنينان : أحدهما أنهم يبادرون إلى فعل الطاعات ، والآخر أنهم يتعجلون ثواب الخيرات ، وهذا مطابق للآية المتقدّمة ، لأنه أثبت فيهم ما نفى عن الكفار من المسارعة { وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } فيه المعنيان المذكوران في يسارعون للخيرات ، وقيل : معناه سبقت لهم السعادة في الأزل .
(1/1186)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)
{ وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } يعني أن هذا الذي وصف به الصالحون غير خارج عن الوسع والطاقة ، وقد تقدّم الكلام على تكليف ما لا يطاق في البقرة { وَلَدَيْنَا كِتَابٌ } يعني صحائف الأعمال ، ففي الكلام تهديد وتأمين من الظلم والحيف .
(1/1187)
بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)
{ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هذا } أي في غفلة من الدين بجلمته ومن القرآن ، وقيل : من الكتاب المذكور ، وقيل : من الأعمال التي وصف بها المؤمنون { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك } أي لهم أعمال سيئة دون الغمرة التي هم فيها ، فالمعنى أنهم يجمعون بين الكفر وسوء الأعمال ، والإشارة بذلك على هذا إلى الغمرة ، وإنما أشار إليها بالتأكيد لأنها في معنى الكفر ، وقيل : الإشارة إلى قوله من هذا : أي لهم أعمال سيئة غير المشار إليها حسبما اختلف فيه { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } قيل : هي إخبار عن أعمالهم في الحال ، وقيل : عن الاستقبال ، وقيل : المعنى أنهم يتمادون على عملها حتى يأخذهم الله فجعل . { حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ } غاية لقوله { عَامِلُونَ } { مُتْرَفِيهِمْ } أي أغنياؤهم وكبراؤهم { إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ } أي يستغيثون ويصيحون فإن أراد العذاب قتل المترفين يوم بدر : فالضمير في يجأرون لسائر قريش : أي صاحوا وناحوا على القتلى ، وإن أراد بالعذاب شدائد الدنيا أو عذاب الآخرة : فالضمير لجميعهم { لاَ تَجْأَرُواْ اليوم } تقديره : يقال لهم يوم العذاب : لا تجأروا ويحتمل أن يكون هذا القول حقيقة ، وأن يكون بلسان الحال ولفظه نهي ، ومعناه : أن الجؤار لا ينفعهم { على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ } أي ترجعون إلى وراء وذلك عبارة عن إعراضهم عن الآيات وهي القرآن .
(1/1188)
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
{ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ } قيل : إن الضمير عائد على المسجد الحرام وقيل : إنه على الحرم وإن لم يذكر؛ ولكنه يفهم من سياق الكلام والمعنى : أنهم يستكبرون بسبب المسجد الحرام لأنهم أهله وولاته ، وقيل : إنه عائد على القرآن من حيث ذكرت الآيات ، والمعنى على هذا أن القرآن يحدث لهم عتواً وتكبراً ، وقيل : إنه يعود على النبي صلى الله عليه وسلم وهو على هذا متعلق بسامراً { سَامِراً } مشتق من السمر وهو الجلوس بالليل للحديث ، وكانت قريش تجتمع بالليل في المسجد ، فيتحدّثون وكان أكثر حديثهم سب النبي صلى الله عليه وسلم فالمعنى أنهم سامرون بذكره وسبه { تَهْجُرُونَ } من قرأ بضم التاء وكسر الجيم فمعناه تقولون الهجر بضم الهاء وهو الفحش من الكلام وهي قراءة نافع ، وقرأ الباقون بفتح التاء وضم الجيم فهو من الهجر بفتح الهاء أي تهجرون الإسلام ، والنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أو من قولك : هجر المريض إذا هذي أي : تقولون اللغو من القول .
(1/1189)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68)
{ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول } يعني القرآن ، وهذا توبيخ لهم { أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ آبَآءَهُمُ الأولين } معناه أن النبوّة ليست ببدع فينكرونها ، بل قد جاءت آناؤهم الأولين فقد كانت النبوة النوح وإبراهيم وإسماعيل وغيرهم .
(1/1190)
أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69)
{ أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ } المعنى أم لم يعرفوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، ويعلموا أنه أشرفهم وأصدقهم حديثاً ، وأعظمهم أمانة وأرجحهم عقلاً ، فكيف ينسبونه إلى الكذب أو إلى الجنون ، أو غير ذلك من النقائص؟ مع أنه جاءهم بالحق الذي لا يخفى على كل ذي عقل سليم ، وأنه عين الصواب .
(1/1191)
وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
{ وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض } الاتباع هنا استعارة ، والحق هنا يراد به الصواب والأمر المستقيم ، فالمعنى لو كان الأمر على ما تقتضي أهواؤهم من الشرك بالله واتباع الباطل لفسدت السموات والأرض كقوله : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] وقيل : إن الحق في الآية هو الله تعالى ، وهذا بعيد في المعنى ، وإنما حمله عليه أن جعل الاتباع حقيقة لوم يفهم فيه الاستعارة ، وإنما الحق هنا هو المذكورة في قوله ، { بَلْ جَآءَهُمْ بالحق وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ } يحتمل أن يكون بتذكيرهم ووعظهم أو بفخرهم وشرفهم وهذا أظهر .
(1/1192)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)
{ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً } الخرج هو الأجرة ويقال فيه : خراج والمعنى واحد ، وقرىء بالوجهين في الموضعين فهو كقوله أم تسألهم أي لست تسألهم أجراً فيثقل عليهم اتباعك { فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } أي رزق ربك خير من أموالهم فهو يرزقك ويغنيك عنهم .
(1/1193)
وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)
{ عَنِ الصراط لَنَاكِبُونَ } أي عادلون ومعرضون عن الصراط المسقيم .
(1/1194)
وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)
{ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ } الآية : قال الأكثرون : نزلت هذه الآية حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش بالقحط فنالهم الجوع حتى أكلوا الجلود وغيرها ، فالمعنى رحمناهم بالخصب وكشفنا ما بهم من ضرّ الجوع والقحط : لتمادوا على طغيانهم ، وفي هذا عندي نظر ، فإنَّ الآية مكية باتفاق ، وإنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على قريش بعد الهجرة حسبما ورد في الحديث ، وقيل : المعنى لو رحمناهم بالرد إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه ، وهذا القول لا يلزم عليه ما لزم على الآخر ، ولكنه خرج عن معنى الآية : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب } قيل : إن هذا العذاب هو الجوع بالقحط ، وأن الباب ذا العذاب الشديد المتوعد به بعد هذا يوم بدر ، وهذا مردود بأن العذاب الذي أصابهم إنما كان بعد بدر ، وقيل إن العذاب الذي أخذهم هو يوم بدر ، والباب المتوعد به هو القحط ، وقيل : الباب ذو العذاب الشديد : عذاب الآخرة ، وهذا أرجح ، ولذلك وصفه بالشدّة لأنه أشد من عذاب الدنيا ، وقال : { إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } : أي يائسون من الخير ، وإنما يقع لهم اليأس في الآخرة كقوله { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ المجرمون } [ الروم : 12 ] .
{ فَمَا استكانوا } أي ما تذللوا لله عز وجل ، وقد تقدم الكلام على هذه الكلمة في آخر [ آل عمران : 146 ] { وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } إن قيل : هلا قال : فما استكانوا وما تضرعوا ، أو فما يستكينون وما يتضرعون باتفاق الفعلين في الماضي أو في الاستقبال؟ فالجواب : أن ما استكانوا عند العذاب الذي أصابهم ، وما يتضرعون حتى يفتح عليهم باب عذاب شديد فنفى الاستكانة فيما مضى ، ونفى التضرع ، في الحال والاستقبال .
(1/1195)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
{ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } ما زائدة ، وقليلاً صفة لمصدر محذوف تقديره : شكراً قليلاً تشكرون وذكر السمع والبصر والأفئدة وهي القلوب لعظم المنافع التي فيها ، فيجب شكر خالقها؛ ومن شكره : توحيده واتباع رسوله عليه الصلاة السلام ، ففي ذكرها تعديد نعمة وإقامة حجة { ذَرَأَكُمْ فِي الأرض } أي نشركم فيها .
(1/1196)
وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80)
{ وَلَهُ اختلاف الليل والنهار } أي هو فاعله ومختص به فاللام على هذا للاختصاص ، وقد ذكر في البقرة معنى اختلاف الليل والنهار .
(1/1197)
بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
{ بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون } أي قالت قريش مثل قول الأمم المتقدمة ، ثم فسر قولهم بإنكارهم البعث ، وإليه الإشارة بقولهم : { لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هذا } ، وقد ذكر الاستفهامان في الرعد ، وأساطير الأولين في الأنعام .
(1/1198)
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
{ قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ } هذه الآيات توقيف لهم على أمور لا يمكنهم الإقرار بها ، وإذا أقروا بها لزمهم توحيد خالقها والإيمان بالدار الآخرة { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } قرىء في الأول لله باللام بإجماع ، جواباً لقوله : { لِّمَنِ الأرض } ، وكذلك قرأ الجمهور الثاني والثالث ، وذلك على المعنى لأن قوله : { مَن رَّبُّ السماوات } في معنى لمن هي ، وقرأ أبو عمرو الثاني والثالث بالرفع على اللفظ { مَلَكُوتُ } مصدر وفي بنائه مبالغة { يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ } الإجازة المنع من الإهانة ، يقال : أجرت فلاناً على فلان ، إذا منعته من مضرته وإهانته ، فالمعنى أن الله تعالى بغيث من شاء ممن شاء ، ولا يغيب أحد منه أحداً { فأنى تُسْحَرُونَ } أي تخدعون عن الحق والخادع لهم الشيطان ، وذلك تشبيه بالسحر في التخطيط والوقوع في الباطل ، ورتب هذه التوبيخات الثلاثة بالتدريج فقال أولاً : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } ثم قال ثانياً : { أَفَلاَ تَتَّقُونَ } ، وذلك أبلغ ، لأن فيه زيادة تخويف ، ثم قال ثالثاً : { فأنى تُسْحَرُونَ } وفيه من التوبيخ ما ليس في غيره { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } يعني فيما ينسبون لله من الشركاء والأولاد ، ولذلك رد عليهم بنفي ذلك .
(1/1199)
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)
{ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ } هذا برهان على الوحدانية ، وبيانه أن يقال : لو كان مع الله إلهاً آخر لانفرد كل وا حد منهما بمخلوقاته عن مخلوقات الآخر ، واستبدّ كل واحد منهما بملكه ، وطلب غلبة الآخر والعلوّ عليه كما ترى حال ملوك الدنيا ، ولكن لما رأينا جميع المخلوقات مرتبطة بعضها ببعض حتى كأن العالم كله كرة واحدة : علمنا أن مالكه ومدبره واحد ، لا إله غيره . وليس هذا البرهان بدليل التمانع كما فهم ابن عطية وغيره ، بل هو دليل آخر ، فإن قيل : إذ لا تدخل إلا على كلام هو جزاء وجواب ، فكيف دخلت هنا ولم يتقدّم قبلها شرط ولا سؤال سائل؟ فالجواب : أن الشرط محذوف تقديره لو كان معه آلهة وإنما حذف لدلالة قوله : { وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ } ، وهو جواب للكفار الذين وقع الرد عليهم .
(1/1200)
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
{ عَالِمِ الغيب } بالرفع خبر ابتداء ، وبالخفض صفة الله .
(1/1201)
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94)
{ قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ } الآية : معناه أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لنفسه بالنجاة من عذاب الظالمين إن قضى أن يرد ذلك ، وفيها تهديد للظالمين وهم الكفار ، وإن شرطية وما زائدة ، وجواب الشرط { فَلاَ تَجْعَلْنِي } ، وكرر قوله { رَّبِّ } مبالغة في الدعاء والتضرع .
(1/1202)
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)
{ ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة } قيل التي هي أحسن لا إله إلا الله ، والسيئة الشرك ، والأظهر أنه أمر بالصفح والاحتمال وحسن الخلق وهو محكم غير منسوخ ، وإنما نسخ ما يقتضيه من مسالمة الكفار .
(1/1203)
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)
{ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين } يعني نزغاته ووساوسه ، وقيل : يعني الحنون ، واللفظ أعم من ذلك { أَن يَحْضُرُونِ } معناه أن يكونوا معه ، وقيل : يعني حضورهم عند الموت { حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت } قال ابن عطية : حتى هنا حرف ابتداء : أي ليست غاية لما قبلها ، وقال الزمخشري : حتى تتعلق بيصفون : أي لا يزالون كذلك حتى يأيتهم الموت { قَالَ رَبِّ ارجعون } يعني الرجوع إلى الدنيا ، وخاطب به مخاطبة الجماعة للتعظيم ، قال ذلك الزمخشري وغيره ، ومثله قول الشاعر :
ألا فارحمون يا آل محمد ... وقيل إنه نادى ربه ثم خاطب الملائكة { فِيمَا تَرَكْتُ } قيل : يعني فيما تركت من المال ، وقيل : فيما تركت من الإيمان فهو كقوله : { أَوْ كَسَبَتْ في إِيمَانِهَا خَيْراً } [ الأنعام : 158 ] ، والمعنى أن الكافر رغب أن يرجع إلى الدنيا ليؤمن ويعمل صالحاً في الإيمان الذي تركه أول مرة { كَلاَّ } ردع له عما طلب { إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا } يعني قوله : { رَبِّ ارجعون } { لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً } فسمى هذا الكلام كلمة وفي تأويل معناه ثلاثة أقوال : أحدها أن يقول هذه الكلمة لا محالة لإفراط ندمه وحسرته فهو إخبار بقوله والثاني أن المعنى أنها كلمة يقولها ولا تنفعه ولا تغني عنه شيئاً ، والثالث أن يكون المعنى أنه يقولها كاذباً فيها ، ولو رجع إلى الدنيا لم يعمل صالحاً { وَمِن وَرَآئِهِمْ } أي فيما يستقبلون من الزمان والضمير للجماعة المذكورين في قوله جاء أحدهم { بَرْزَخٌ } يعني المدة التي بين الموت والقيامة ، وهي تحول بينهم وبين الرجوع إلى الدنيا وأصل البرزخ الحاجز بين شيئين { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ } المعنى أنه ينقطع يومئذ التعاطف والشفقة التي بين القرابة؛ لاشتغال كل أحد بنفسه كقوله : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ } [ عبس : 34-35 ] فتكون الأنساب كأنها معدومة { وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } أي لا يسأل بعضهم بعضاً لاشتغال كل أحد بنفسه ، فإن قيل : كيف الجمع بين هذا وبين قوله { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [ الطور : 25 ] فالجواب أن ترك التساؤل عند النفخة الأولى ثم يتساءلون بعد ذلك ، فإن يوم القيامة يوم طويل فيه مواقف كثيرة .
(1/1204)
تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
{ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار } أي تصيبهم بالإحراق { كَالِحُونَ } الكلوح انكشاف الشفتين عن الأسنان ، وكثيراً ما يجري ذلك للكلاب ، وقد يجري للكباش إذا شويت رؤوسها ، وفي الحديث : إن شفة الكافر ترتفع في النار حتى تبلغ وسط رأسه ، وفي ذلك عذاب وتشويه .
(1/1205)
قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106)
{ غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا } أي ما قدر عليهم من الشقاء ، وقرىء شقاوتنا ، والمعنى واحد .
(1/1206)
قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)
{ قَالَ اخسئوا } كلمة تستعمل في زجر الكلاب ، ففيها إهانة وإبعاد { وَلاَ تُكَلِّمُونِ } أي لا تكلمون في رفع العذاب ، فحينئذ ييأسون من ذلك ، أعاذنا الله من ذلك برحمته .
(1/1207)
فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
{ سِخْرِيّاً } بضم السين من السخرة بمعنى التخديم ، وبالكسر من السخر بمعنى الاستهزاء ، وقد يقال هذا بالضم ، وقرىء هنا بالوجهين لاحتمال المعنيين ، وعلى أن معنى الاستهزاء هنا أليق لقوله { وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } .
(1/1208)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)
{ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض } يعني في جوف الأرض أمواتاً ، وقيل : أحياء في الدنيا ، فأجابوا بأنهم لبثوا يوماً أو بعض يوم لاستقصارهم المدة أو لما هم فيه من العذاب بحيث لايعدون شيئا { فَسْئَلِ العآدين } أي اسأل من يقدر على أن يعدّ ، وهو من عوفي مما ابتلوا به أو يعنون الملائكة { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } معناه أنه بالنسبة إلى بقائهم في جهنم خالدين أبداً { عَبَثاً } أي باطلاً والمعنى إقامة حجة على الحشر للثواب والعقاب .
(1/1209)
فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117)
{ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } أي لا حجة ولا دليل ، والجملة صفة لقوله : { إِلَهَا آخَرَ } وجواب الشرط { فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } الضمير للأمر والشأن ، وانظر كيف افتتح السورة بفلاح المؤمنين وختمها بعدم فلاح الكفارين ، ليبين البون بين الفريقين والله أعلم .
(1/1210)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)
{ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا } السورة خبر ابتداء مضمر ، أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره فيما أنزل عليكم سورة ، وأنزلناها صفة للسورة ، { وَفَرَضْنَاهَا } : أي فرضنا الأحكام التي فيها وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : [ فَرّضناها ] بالتشديد للمبالغة { آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } يعني ما فيها من المواعظ والأحكام والأمثال ، وقيل : معنى بينات هنا ليس فيها مشكل .
(1/1211)
الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
{ الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } الزانية والزاني يراد بهما الجنس ، وقدم الزانية لأن الزنا كان حينئذ في النساء أكثر ، فإنه كان منهنّ إماء وبغايا يجاهرن بذلك ، وإعراب الزاني والزانية كإعراب : السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ، وقد ذكر في [ المائدة : 38 ] وهذه الآية ناسخة بإجماع لما في سورة [ النساء : 14 ] من الإمساك في البيوت ، في الآية الواحدة ومن الأذى في الأخرى ، ثم إن لفظ هذه الآية عند مالك ليس على عمومه ، فإن جلد المائدة إنما هو حدّ الزاني والزانية إذا كانا مسلمين حرين غير محصنين ، فيخرج منها الكفار ، فيردّون إلى أهل دينهم ، ويخرج منها العبد والأمة والمحصن والمحصنة ، فأما العبد والأمة : فحدّهما خمسون جلدة سواء كان محصنين أو غير محصنين ، وأما المحصنان الحران فحدّهما الرجم هذا على مذهب مالك .
وأما الكلام على الآية بالنظر إلى سائر المذاهب ، فاعلم أن لفظ هذه الآية ظاهرة العموم في المسلمين والكافرين ، وفي الأحرار والعبيد والإماء وفي المحصن وغير المحصن ، ثم إن العلماء خصصوا من هذا العموم أشياء منها باتفاق ، ومنها باختلاف ، فأما الكفار فرأى أبو حنيفة وأهل الظاهر أن حدّهم جلد مائة أحصنوا أو لم يحصنوا : أخذاً بعموم الآية ، ورأى الشافعي أن حدهم كحد المسلمين الجلد إن لم يحصنوا ، والرجم إن أحصنوا أخذاً بالآية ، وبرجم النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي واليهودية إذا زنيا ، ورأى مالك أن يردّوا إلى أهل دينهم لقوله تعالى : في سورة النساء { واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ } [ النساء : 15 ] فخص نساء المسلمين على أنها قد نسختها هذه . ولكن بقيت في محلها ، وأما العبد والأمة : فرأى أهل الظاهر أن حدّ الأمة خمسون جلدة لقوله تعالى : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب } [ النساء : 25 ] وأن حدّ العبد الجلد مائة لعموم الآية ، وقال غيرهم : يجلد العبد خمسين بالقياس على الأمة ، إذا لا فرق بينهما ، وأما المحصن فقال الجمهور : حدّه الرجم فهو مخصوص في هذه الآية ، وبعضهم يسمي هذا التخصيص نسخاً ، ثم اختلفوا في المخصص أو الناسخ ، فقيل : الآية التي ارتفع لفظها وبقي حكمها وهي قوله : الشيخ والشيخة إذ زنيا فراجموهما البتة { نكالاً من الله والله عزيز حكيم } وقيل : الناسخ لها السنة الثابتة في الرجم ، وقال أهل الظاهر وعلي بن أبي طالب : يجلد المحصن بالآية ، ثم يرجم بالسنة فجعوا عليه الحدّين ، ولم يجعلوا الآية منسوخة ، ولا مخصصة ، وقال الخوارج : لا رجم أصلاً فإن الرجم ليس في كتاب الله ، ولا يعتد بقولهم ، وظاهر الآية الجلد دون تغريب ، وبذلك قال أبو حنيفة ، وقال مالك : الجلد والتغريب سنة للحديث ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام "
(1/1212)
، ولا تغريب على النساء ولا على العبيد عند مالك ، وصفة الجلد عند مالك في الظهر والمجلود جالس وقال الشافعي : يفرق على جميع الأعضاء والمجلود قائم ، وتستر المرأة بثوب لا يقيها الضرب ، ويجرّد الرجل عند مالك وقال قوم يجلد على قميص { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ } قيل : يعني في إسقاط الحدّ : أي أقيموه ولا بد ، وقيل : في خفيف الضرب ، وقيل : في الوجهين . فعلى القول الأول : يكون الضرب في الزنا كالضرب في القذف غير مبرح ، وهو مذهب مالك والشافعي ، وعلى القول الثاني والثالث : يكون الضرب في الزنا أشد ، واختلف : هل يجوز أن يجمع مائة سوط يضرب بها مرة واحدة؟ فمنعه مالك وأجازه أبو حنيفة لما ورد في قصة أيوب عليه السلام ، وأجازه الشافعي للمريض لورود ذلك في الحديث .
{ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } المراد بذلك توبيخ الزناة والغلظة عليهم ، واختلف في أقل ما يجزىء من الطائفة فقيل : أربعة اعتباراً بشهادة الزنا وهو قول أبي زيد ، وقيل : عشرة ، وقيل : اثنين وهو مشهور مذهب مالك ، وقيل : واحد { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } الآية : معناها ذم الزناة وتشنيع الزنا ، وأنه لا يقع فيه إلا زان أو مشرك ولا يوافقه عليه من النساء إلا زانية أو مشركة ، وينكح على هذا بمعنى يجامع ، وقيل : معناها لا يحل لزان أن يتزوج إلا زانية أو مشركة ، ولا يحل لزانية أن تتزوج إلا زانياً أو مشركاً ، ثم نسخ هذا الحكم وأبيح لهما التزوج ممن شاؤوا ، والأول هو الصحيح { وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } الإشارة إلى الزنا أي حرم على المؤمنين وقيل : الإشارة إلى تزويد المؤمن غير الزاني بزانية ، فإن قوماً منعوا أن يتزوجها ، وهذا على القول الثاني في الآية قبلها وهو بعيد ، وأجاز تزويجها مالك وغيره ، وروي عنه كراهته .
(1/1213)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
{ والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً } هذا حدّ القذف ، وهو الفرية التي عبر الله عنها بالرمي ، والمحصنات يراد بهن هنا العفائف من النساء ، وخصهن بالذكر لأن قذفهن أكثر وأشنع من قذف الرجال ، ودخل الرجال في ذلك بالمعنى إذ لا فرق بينهم ، وأجمع العلماء على أن حكم الرجال والنساء هنا واحد ، وقيل : إن المعنى؛ يرمون الأنفس المحصنات ، فيعم اللفظ على هذا النساء والرجال .
ويحتاج هنا إلى الكلام في القذف والمقذوف والشهادة في ذلك ، فأما القذف فهو الرمي بالزنا اتفاقاً ، أو بفعل قوم لوط عند مالك والشافعي لعموم لفظ الرمي في الآية ، خلافاً لأبي حنيفة ، أو النفي من النسب ، ومذهب مالك أن التعريض بذلك كله كالتصريح خلافاً للشافعي وأبي حنيفة ، وأما القاذف فيحدّ : سواء كان مسلماً أو كافراً لعموم الآية ، وسواء كان حراً أو عبداً ، إلا أن العبد والامة إنما يحدّان أربعين عند الجمهور ، فنصفوا حدَّهما قياساً على تنصيفه في الزنا خلافاً للظاهرية ، ولا يحدّ الصبي ولا المجنون لكونهما غير مكلفين ، وأما المقذوف فمذهب مالك أنه يشترط فيه الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والبراءة عما رمي به ، والتمكن من الوطء تحرزاً من المحبوب وشبهه ، فلا يحدّ عنده من قذف صبياً أو كافراً أو محبوباً أو عبداً ومن لا يمكنه الوطء وقد قيل : يحدّ من قذف واحداً منهم لعموم الآية واتفقوا على اشتراط البراءة مما رُمي به وأما الشهادة التي تسقط حدّ القذف ، فهي أن يشهد شاهدان عدلان بأن المقذوف عبد أو كافر أو يشهد أربعة شهود ذكور عدول على المعاينة لما قذف به كالمردود في المكحلة ، ويؤدون الشهادة مجتمعين { إِلاَّ الذين تَابُواْ } تقدّم قبل هذا الاستثناء ثلاثة أحكام ، وهي الحدّ ، ورد شهادة القاذف ، وتفسيقه ، فاتفق على أن الاستثناء راجع إلى التفسيق ، وأن ذلك يزول عنه بالتوبة ، واتفق على أنه لا يرجع إلى الحدّ وأنه لا يسقط عنه بالتوبة ، واختلف هل يرجع إلى ردّ الشهادة أم لا : فقال مالك : إذا تاب قبلت شهادته ، خلافاً لأبي حنيفة ، وتوبته هو صلاح حاله في دينه وقبل إكذاب نفسه .
(1/1214)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)
{ والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ } هذه الآية في قذف الرجل لامرأته فيجب اللعان بذلك ، وسببها " أن رجلاً قال يا رسول الله : الرجل يجد مع امرأته رجلاً أيقلته فتقتلونه أم كيف يصنع؟ فسكت عنه نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم عاد فقال مثّل ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل فيك وفي صاحبتك فأتني بها فأتى بها فتلاعنا وفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما " .
وموجب اللعان عند مالك شيئان : أحدهما أن يدعي الزوج أنه رأى امرأته تزني . والآخر أن ينفي حملها ويدعى الاستبراء قبله ، فإذا تلاعن الزوج تعلقت به ثلاثة أحكام : نفي حدّ القذف عنه ، وانتفاء سبب الولد منه ، ووجوب حدّ الزنا عليها إن لم تلاعن ، فإن تلاعنت سقط الحدّ عنها ، ولفظ الآية عام في الزوجات الحرائر والمماليك ، والمسلمات والكافرات والعدول وغيرهم ، وبذلك أخذ مالك واشترط في الزوج الإسلام واشترط أبو حنيفة أن يكونا مسلمين حرين عدلين { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين } أي يقول الزوج أربع مرات : أشهد بالله لقد رأيت هذه المرأة تزني ، أو أشهد بالله ما هذا الحمل مني؛ ولقد زنت وإني في ذلك لمن الصادقين ، ثم يقول في الخامسة لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، وزاد أشهب أن يقول : أشهد بالله الذي لا إله إلا هو ، وانتصب : { أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله } على المصدرية ، والعامل فيه شهادة أحدهم وقرأ بالرفع وهو خبر شهادة أحدهم ، وقوله : { بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصادقين } من صلة أربع شهادات أو من صلة شهادة أحدهم { والخامسة أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الكاذبين } بنصب الخامسة هنا وفي الموضع الثاني ، وانتصب بفعل مضمر تقديره ويشهد الخامسة ، أو بالعطف على أربع شهادات على قراءة النصب ، وقرأ الباقون بالرفع على الابتداء أو عطف على أربع شهادات بقراءة الرفع ، وقرىء أن لعنه ، وأن غضب : بتشديد أن ، ونصب اسمها وقرأ نافع بتخفيفها ورفع اللعنة والغضب على الابتداء { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الكاذبين } العذاب هنا حدّ الزنا ، أي يدفعه التعان المرأة ، وهي أن تقول أربع مرات : أشهد بالله ما زنيت ، وإنه في ذلك لمن الكاذبين ، ثم تقول في الخامس : غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، ويتعلق بالتعانها ثلاثة أحكام : دفع الحدّ عنها ، والتفريق بينها وبين زوجها ، وتأبيد الحرمة .
(1/1215)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
{ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله } جواب لو محذوف هنا وفي الموضع الآخر تقديره { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ } لأخذكم ، أو نحو هذا .
(1/1216)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
{ إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ } الإفك : أشدّ الكذب ، ونزلت هذه الآية وما بعدها إلى تمام ست عشرة آية في شأن سيدتنا عائشة رضي الله عنها وفي براءتها مما رماها به أهل الإفك ، وذلك أن الله برأ أربعة بأربعة برأ يوسف بشهادة الشاهد من أهلها ، وبرأ موسى من قول اليهود بالحجر الذي ذهب بثوبه وبرأ مريم بكلام ولدها في حجرها ، وبرأ عائشة من الإفك بإنزال القرآن في شأنها ، ولقد تضمنت هذه الآيات الغاية القصوى في الاعتناء بها ، والكرامة لها والتشديد على من قذفها .
وقد خرج حديث الإفك البخاري ومسلم وغيرهما ، واختصاره " أن عائشة خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق ، فضاع لها عقد فتأخرت على التماسه حتى رحل الناس ، فجاء رجل يقال له صفوان بن المعطل ، فرآها فنزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة ، وأخذ يقودها حتى بلغ الجيش ، فقال أهل الإفك في ذلك ما قالوا ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما بال رجال رموا أهلي والله ما علمت على أهلي إلا خيراً ، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً ، وسأل جارية عائشة ، فقالت : والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر " .
والعصبة الجماعة من العشرة إلى الأربعين ، ولم يذكر في الحديث من أهل الإفك إلا أربعة ، وهم : عبد الله بن أبيّ بن سلول رأس المنافقين ، وحمنة بنت جحش ، ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت ، قيل : إن حسّان لم يكن منهم وارتفاع عصبة لأنه خبر إن ، واختبار ابن عطية أن يكون عصبة بدلاً من الضمير في جاؤوا ، ويكون الخبر { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ } على تقدير : إن حديث الذين جاؤوا بالإفك ، والأول أظهر { بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } خطاب للمسلمين ، والخير في ذلك من خمسة أوجه : تبرئة أم المؤمنين ، وكرامة الله لها بإنزال الوحي في شأنها ، والأجر الجزيل لها في الفرية عليها ، وموعظة المؤمنين ، والانتقام من المفترين { والذي تولى كِبْرَهُ } هو عبد الله بن أبي بن سلول المنافق ، وقيل الذي بدأ بهذه الفرية غير معين ، والعذاب العظيم هنا يحتمل أن يراد به الحدّ أو عذاب الآخرة .
(1/1217)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12)
{ لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً } لولا هنا عرض ، والمعنى أنه : كان ينبغي للمؤمنين والمؤمنات أن يقيسوا ذلك الأمر على أنفسهم ، فإن كان ذلك يبعد في حقهم ، فهو في حق عائشة أبعد لفضلها ، وروي أن هذا النظر وقع لأبي أيوب الأنصاري ، فقال لزوجته : أكنت أنت تفعلين ذلك ، قالت : لا والله ، قال فعائشة أفضل منك؟ قالت : نعم ، فإن قيل : لم قال : { سَمِعْتُمُوهُ } بلفظ الخطاب ، ثم عدل إلى لفظ الغيبة في قوله : { ظَنَّ المؤمنون } ، ولم يقل ظننتم؟ فالجواب أن ذلك التفات ، قصد به المبالغة والتصريح بالإيمان ، الذي يوجب أن لا يصدق المؤمن على المؤمن شراً .
(1/1218)
لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14)
{ لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } لولا هنا عرض ، والضمير في { جَآءُوا } لأهل الإفك ، ثم حكم الله بكذبهم إذ لم يأتوا بالشهداء { أَفَضْتُمْ فِيهِ } يقال أفاض في الحديث وخاص فيه إذا أكثر الكلام فيه .
(1/1219)
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
{ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ } العامل في إذ قوله { لَمَسَّكُمْ } أو { أَفَضْتُمْ } ، ومعنى { تَلَقَّوْنَهُ } : يأخذ بعضكم من بعض ، وفي هذا الكلام وفي الذي قبله وبعده عتاب لهم على خوضهم في حديث الإفك ، وإن كانوا لم يصدقوه ، فإن الواجب كان الإغضاء عن ذكره والترك بالكلية ، فعاتبهم على ثلاثة أشياء ، وهي : تلقيه بالألسنة : أي السؤال عنه وأخذه من المسؤول والثاني : قولهم ذلك ، والثالث : أنهم حسبوه هيناً وهو عند الله عظيم ، وفائدة قوله { بِأَلْسِنَتِكُمْ } وبأفواهكم الإشارة إلى أن ذلك الحديث كان باللسان دون القلب ، إذ كانوا لم يعلموا حقيقته بقلوبهم .
(1/1220)
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)
{ ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا } أي كان الواجب أن يبادروا إلى إنكار هذا الحديث أول سماعهم له ، ولولا أيضاً في هذه الآية عرض ، وكان حقها أن يليها الفعل من غير فاصل بينهما ، بقوله : { إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } لأن الظروف يجوز فيها ما لا يجوز في غيرها ، والقصد بتقديم هذا الظرف الاعتناء به ، وبيان أنه كان الواجب المبادرة إلى إنكار الكلام في أول وقت سمعتموه ، ومعنى { مَّا يَكُونُ لَنَآ } : ما ينبغي لنا ولا يحل لنا أن نتكلم بهذا .
{ سُبْحَانَكَ } تنزيه لله عن أن تكون زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قال أهل الإفك ، وقال الزمخشري : هو بمعنى التعجب من عظيم الأمر ، والاستبعاد له ، والأصل في ذلك أن يسبح الله عند رؤية العجائب { بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه ، والغيبة أن يقال ما فيه .
(1/1221)
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)
{ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ } تقديره : { يَعِظُكُمُ } كراهة أن تعودوا لمثله ، ثم عظم الأمر وأكده بقوله : { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } .
(1/1222)
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
{ إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة } الإشارة بذلك إلى المنافقين الذين أحبوا أن يشيع حديث الإفك ، ثم هو عام في غيرهم ممن اتصف بصفتهم ، والعذاب في الدنيا الحد ، وأما عذاب الآخرة فقد ورد في الحديث : أن من عوقب في الدنيا على ذنب لم يعاقب عليه في الآخرة فأشكل اجتماع الحدّ مع عذاب الآخرة في هذا الموضع ، فيحتمل أن يكون القاذف يعذب في الآخرة ولا يسقط الحدّ عنه عذاب الآخرة بخلاف سائر الحدود ، أون يكون هذا مختصاً بمن قذف عائشة ، فإنه روى عن ابن عباس أنه قال : من أذنب ذنباً ثم تاب منه قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة ، أو يكون لمن مات مصراً غير تائب ، أو يكون للمنافقين .
(1/1223)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
{ خُطُوَاتِ الشيطان } في البقرة { بالفحشآء والمنكر } ذكر في النحل { زَكَا } أي تطهر من الذنوب ، وصلح دينه .
(1/1224)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
{ وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى } معنى يأتل يحلف ، فهو من قولك : آليت إذا حلفت ، وقيل معناه : يقصر فهو من قولك : ألوت أي قصرت ، ومنه { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً } [ آل عمران : 118 ] والفضل هنا يحتمل أن يريد به الفضل في الدين ، أو الفضل في المال ، وهو أن يفضل له عن مقدار ما يكفيه ، والسعة هي اتساع المال ، ونزلت الآية بسبب أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين حلف أن لا ينفق على مسطح ، لما تكلم في حديث الإفك ، وكان ينفق عليه لمسكنته؛ ولأنه قريبه ، وكان ابن بنت خالته ، فلما نزلت الآية رجع إلى مسطح النفقة والإحسان ، وكفر عن يمينه قال بعضهم : هذه أرجى آية في القرآن ، لأن الله أوصى بالإحسان إلى القاذف ، ثم إن لفظ الآية على عمومه في أن لا يحلف أحد على ترك عمل صالح { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ } أي كما تحبون أن يغفر الله لكم ، كذلك اغفروا أنتم لمن أساء إليكم ، ولما نزلت قال أبو بكر رضي الله عنه : إني لأحب أن يغفر الله لي ، ثم ردّ النفقة إلى مسطح .
(1/1225)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23)
{ المحصنات الغافلات } معنى المحصنات هنا العفائف ذوات الصون ، ومعنى الغافلات السليمات الصدور ، فهو من الغفلة عن الشر { لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة } هذا الوعيد للقاذفين لعائشة ولذلك لم يذكر فيه توبة ، قال ابن عباس : كل مذنب تقبل توبته إذا تاب إلا من خاض في حديث عائشة وقيل : الوعيد لكل قاذف ، والعذاب العظيم يحتمل أن يريد به الحدّ أو عذاب الآخرة .
(1/1226)
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
{ يَوْمَ تَشْهَدُ } العامل فيه يوفيهم ، وكرر يومئذ توكيداً وقيل : العام فيه عذاب أو فعل مضمر .
(1/1227)
يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
{ دِينَهُمُ الحق } أي جزاؤهم الواجب لهم { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين } هذه الآية تدل على أن ما قبلها في المنافقين ، لأن المؤمن قد علم في الدنيا أن الله هو الحق المبين ، ومعنى المبين الظاهر الذي لا شك فيه .
(1/1228)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
{ الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ } الآية : معناها أن الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، وأن الطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، ففي ذلك ردّ على أهل الأفك ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو أطيب الطيبين فزوجته أطيب الطيبات ، وقيل : المعنى أن الخبيثات من الأعمال للخبيثين من الناس ، والطيبات من الأعمال للطيبين من الناس ، ففيه أيضاً ردّ على أهل الإفك ، وقيل : معناه أن الخبيثات من الأقوال للخبيثين من الناس ، والإشارة بذلك إلى أهل الإفك : أي أن أقوالهم الخبيثة لا يقولها إلا خبيث مثلهم { أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } الإشارة بأولئك إلى الطيبين والطيبات والضمير في يقولون للخبيثات و الخبيثين ، والمراد تبرئة عائشة رضي الله عنها مما رميت به .
(1/1229)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
{ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا } هذه الآية أمر بالاستئذان في غير بيت الداخل ، فيعم بذلك بيوت الأقارب وغيرهم ، وقد جاء في الحديث الأمر بالاستئذان على الأم خيفة أن يراها عُريانة ، ومعنى { تَسْتَأْنِسُواْ } : تستأذنوا وهو مأخوذ من قولك : آنست للشيء إذا علمته ، فالاستئناس : أن يستعلم هل يريد أهل الدار الدخول أم لا؟ وقيل هو مأخوذ من الأنس ضد الوحشة؛ وقرأ ابن عباس حتى تستأذنوا ، والاستئذان واجب ، وأما السلام فلا ينتهي إلى الوجوب ، واختلف أيهما يقدّم ، فقيل يقدّم السلام ثم يستأذن فيقول : السلام عليكم ، ثم يقول أأدخل ، وقيل يقدم الاستئذان لتقديمه في الآية ، وليس في الآية عدد الاستئذان ، وجاء في الحديث أن يستأذن ثلاث مرات ، وهو تفسير الآية : { لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ } سبب هذه الآية أنه لما نزلت آية الاستئذان تعمق قوم فكانوا يأتون المواضع غير المسكونة فيسلمون ويستأذنون ، فأباحت هذه الآية دخولها بغير استئذان ، واختلف في البيوت غير المسكونة في هذه الآية ، فقيل : هي الفنادق التي في الطرق ولا يسكنها أحد ، بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل ، والمتاع على التمتع بالنزول فيها والمبيت وغير ذلك ، وقيل هي الخرب التي تدخل للبول والغائط ، والمتاع على هذا حاجة الإنسان ، وقيل : هي حوانيت القيسارية ، والمتاع على هذا الثياب والبسط وشبهها ، وهذا القول خطأ لأن الاستئذان في الحوانيت واجب بإجماع .
(1/1230)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
{ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } إعرابها كإعراب { يُقِيمُواْ الصلاة } في [ إبراهيم : 31 ] وقد ذكر ومن أبصارهم للتبعيض ، والمراد غض البصر عما يحرم ، والاقتصار به على ما يحل ، وقيل : معنى التبعيض فيه أن النظرة الأولى لا حرج فيها ، ويمنع ما بعدها ، وأجاز ( الأخفش ) أن تكون من زائدة ، وقيل : هي لابتداء الغاية ، لأن البصر مفتاح القلب والغض المأمور به هو عن النظر إلى العورة ، أو إلى ما لا يحل من النساء ، أو إلى كتب الغير وشبه ذلك مما يستر ، وحفظ الفروج المأمور به : هو عن الزنا ، وقيل : أراد ستر العورة ، والأظهر أن الجميع مراد { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } تؤمر المرأة بغض بصرها عن عورة الرجل وعن عورة المرأة إجماعاً ، واختلف هل يجب عليها غض بصرها عن سائر جسد الرجل الأجنبي أم لا ، وعن سائر جسد المرأة أم لا ، فعلى القول بذلك تشتمل الآية عليه ، والكلام في حفظ فروج النساء كحفظ فروج الرجال { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } نهى عن إظهار الزينة بالجملة ثم استثنى الظاهر منها ، وهو ما لا بد من النظر إليه عند حركتها أو إصلاح شأنها وشبه ذلك ، فقيل : إلا ما ظهر منها يعني الثياب؛ فعلى هذا يجب ستر جميع جسدها ، وقيل : الثياب والوجه والكفان ، وهذا مذهب مالك لأنه أباح كشف وجهها وكفيها في الصلاة ، وزاد أبو حنيفة القدمين { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ } الجيوب هي التي يقول لها العامة أطواق ، وسببها أن النساء كن في ذلك الزمان يلبسن ثياباً واسعات الجيوب ، ويظهر منها صدورهن ، وكن إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة ، سدلنها ، من وراء الظهر ، فبيقى الصدر والعنق والأذنان لا ستر عليها ، فأمرهن الله بلي الأخمرة [ جمع خمار ] على الجيوب ليستر جميع ذلك { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ } الآية : المراد بالزينة هنا الباطنة ، فلما ذكر في الآية قبلها ما أباح أن يراه غير ذوي المحرم من الزينة الظاهرة ، وذكر في هذه ما أباح أن يراه الزوج وذوي المحارم من الزينة الباطنة ، وبدأ بالبعولة وهم الأزواج لأن اطلاعهم يقع على أعظم من هذا ، ثم ثنّى بذوي المحارم وسوّى بينهم في أبداء الزينة ، ولكن مراتبهم تختلف بحسب القرب ، والمراد بالآباء كل من له ولادة من والد وجدّ ، وبالأبناء كل من عليه ولادة من ولد وولد ولد ، ولم يذكر في هذه الآية من ذوي المحارم : العم والخال ومذهب جمهور العلماء جواز رؤيتهما للمرأة ، لأنهما من ذوي المحارم ، وكره ذلك قوم ، وقال الشافعي : إنما لم يذكر العم والخال لئلا يصفا زينة المرأة لأولادهما { أَوْ نِسَآئِهِنَّ } يعني جميع المؤمنات ، فكأنه قال أو صنفهن ويخرج عن ذلك نساء الكفار { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } يدخل في ذلك الإماء المسلمات والكتابيات ، وأما العبيد : ففيهم ثلاثة أقوال : منع رؤيتهم لسيدتهم وهو قول الشافعي ، والجواز : وهو قول ابن عباس وعائشة ، والجواز بشرط أن يكون العبد وغداً وهو مذهب مالك ، وإنما أخذ جوازه من قوله { أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة } واختلف هل يجوز أن يراها عبد زوجها وعبد الأجنبيّ أم لا؟ على قولين { أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة } شرط في رؤية غير ذوي المحارم شرطين : أحدهما أن يكونا تابعين ، ومعناه أن يتبع لشيء يعطاه كالوكيل والمتصرف ، ولذلك قال بعضهم هو الذي يتبعك وهمه بطنه ، والآخر : أن لا يكون لهم إربة في النساء كالخصي والمخنث والشيخ الهرم والأحمق ، فلا يجوز رؤيتهم للنساء إلا باجتماع الشرطين ، وقيل بأحدهما ، ومعنى الإربة الحاجة إلى الوطء { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء وَلاَ يَضْرِبْنَ } أراد بالطفل الجنس ، ولذلك وصفه بالجمع ، ويقال : طفل ما لم يراهق الحلم ، و { يَظْهَرُواْ } معناه يطلعون بالوطء على عورات النساء ، فمعناه الذين لم يطأوا النساء ، وقيل : الذي لا يدرون ما عورات النساء وهذا أحسن { وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } روي أن امرأة كان لها خلخالان ، فكانت تضرب بهما ليسمعهما الرجال ، فنهى الله عز وجل عن ذلك ، قال الزجاج : إسماع صوت الزينة أشد تحريكاً للشهوة من إبدائها .
(1/1231)
{ وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون } التوبة واجبة على كل مؤمن مكلف بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة ، وفرائضها ثلاثة : الندم على الذنب من حيث عصي به ذو الجلال ، لا من حيث أضر ببدن أو ما ، والإقلاع عن الذنب في أول أوقات الإمكان من غير تأخير ولا توان ، والعزم أن لا يعود إليها أبداً ومهما قضى عليه بالعود أحدث عزماً مجدّداً ، وآدابها ثلاثة : الاعتراف بالذنب مقروناً بالانكسار ، والإكثار من التضرع والاستغفار ، والإكثار من الحسنات لمحو ما تقدم من السيئات ، ومراتبها سبع : فتوبة الكفار من الكفر ، وتوبة المخلطين من الذنوب والكبائر ، وتوبة العدول من الصغائر وتوبة العابدين من الفترات ، وتوبة السالكين من علل القلوب والآفات ، وتوبة أهل الورع من الشبهات ، وتوبة أهل المشاهدة من الغفلات . والبواعث على التوبة سبعة : خوف العقاب ، ورجاء الثواب ، والخجل من الحساب ، ومحبة الحبيب ، ومراقبة الرقيب القريب ، وتعظيم بالمقام ، وشكر الإنعام .
(1/1232)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)
{ وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } الأيامى جمع أيَّم ومعناه الذين لا أزواج لهم رجالاً كانوا أو نساء أبكاراً أو ثيبات ، والخطاب هنا للأولياء الحكام أمرهم الله بتزويج الأيامى ، فاقتضى ذلك النهي عن عضلهن من التزويج ، وفي الآية دليل على عدم استقلال النساء بالإنكاح؛ واشتراك الولاية فيه ، الولاية فيه ، وهو مذهب مالك والشافعي خلافاً لأبي حنيفة { والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ } يعني الذين يصلحون للتزويج من ذكور العبيد وإناثهم ، وقال الزمخشري : الصالحين بمعنى الصلاح في الدين ، قال وإنما خصهم الله بالذكر ليحفظ عليهم صلاحهم والمخاطبون هنا ساداتهم؛ ومذهب الشافعي أن السيد يجبر على تزويج عبيده على هذه الآية خلافاً لمالك ، ومذهب مالك أن السيد يجبر عبده وأمته على النكاح خلافاً للشافعي { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ } وعد الله بالغنى للفقراء الذين يتزوجون لطلب رضا الله ، ولذلك قال ابن مسعود : التمسوا الغنى في النكاح .
(1/1233)
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
{ وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } أمر بالأستعفاف وهو الاجتهاد في طلب العفة من الحرام لمن لا يقدر على التزويج ، فقوله : { لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } معناه لا يجدون استطاعة على التزويج بأي وجه تعذر التزويج ، وقيل : معناه لا يجدون صداقاً للنكاح ، والمعنى الأول أعم ، والثاني : أليق بقوله : { حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } .
{ والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ } الكتاب هنا مصدر بمعنى الكتابة ، وهي مقاطعة العبد على مال منجم فإذا أدّاه خرج حرّاً وإن عجز بقي رقيقاً ، وقيل : إن الآية نزلت بسبب حويطب ابن عبد العزى سأل مولاه أن يكابته فأبى عليه ، وحكمها مع ذلك عام فأمر الله سادات العبيد أن يكاتبوهم إذا طلبوا الكتابة ، وهذا الامر على الندب عند مالك والجمهور ، وقال الظاهرية وغيرهم . هو على الوجوب وذلك ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأنس بن مالك حين سأله مملوكه سيرين الكتابة فتلكأ أنس ، فقال له عمر : لتكاتبنه أو لأوجعنك بالدرة ، وإنما حمله مالك على الندب لأن الكتابة كالبيع ، فكما لا يجبر على البيع لا يجبر عليها ، واختلف هل يجبر السيد عبده على الكتابة أم لا؟ على قولين في المذهب { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ } الخير هنا القوة على أداء الكتابة بأي وجه كان ، وقيل : هو المال الذي يؤذي منه كتابته من غير أن يسأل أموال الناس ، وقيل هو الصلاح في الدين .
{ وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ } هذا أمر بإعانة المكاتب على كتابته ، واختلف فيمن المخاطب بذلك فقيل : هو خطاب للناس أجمعين ، وقيل للولاة ، والأمر على هذين القولين للندب ، وقيل : هو خطاب لسادات المكاتبين ، وهو على هذا القول ندب عند مالك : وللوجوب عند الشافعي فإن كان الأمر للناس ، فالمعنى أن يعطوهم صدقات من أموالهم ، وإن كان للولاة فيعطوهم من الزكاة ، وإن كان للسادات فيحطوا عنهم من كتابتهم ، وقيل : يعطوهم من أموالهم من غير الكتابة ، وعلى القول بالحط من الكتابة اختلف في مقدار ما يحط ، فقيل : الربع ، وروى ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : الثلث ، وقال مالك والشافعي : لا حد في ذلك ، بل أقل ما ينطلق عليه اسم شيء ، إلا أن الشافعي يجبره على ذلك ، ولا يجبره مالك ، وزمان الحط عنه في آخر الكتابة عند مالك ، وقيل في أول نجم .
{ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء } معنى البغاء الزنا ، نهى الله المسلمين أن يجبروا مملوكاتهم على ذلك ، وسبب الآية أن عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق كان له جاريتان ، فكان يأمرهما بالزنا للكسب منه وللولادة ، ويضربهما على ذلك ، فشكتا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية فيه وفيمن فعل مثل فعله { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } هذا الشرط راجع إلى إكراه الفتيات على الزنا ، إذ لا يتصور إكراههن إلا إذا أردن التحصن وهو التعفف ، وقيل : هو راجع إلى قوله : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى } وذلك بعيد { لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا } يعني ما تكسبه الأمة بفرجها ، وما تلده من الزنا؛ ويتعلق { لِّتَبْتَغُواْ } بقوله { وَلاَ تُكْرِهُواْ } { يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } المعنى غفور لهن رحيم بهن لا يؤاخذهن بالزنا لأنهن أكرهن عليه ، ويحتمل أن يكون المعنى غفور رحيم للسيد الذي يكرههن إذا تاب من ذلك { آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ } بفتح الياء : أي بينها الله؛ وبالكسر مبينات للأحكام والحلال والحرام { وَمَثَلاً } يعي ضرب لكم الأمثال بمن كان قبلكم في تحريم الزنا ، لأنه كان حراماً في كل ملة أو في براءة عائشة كما برأ يوسف ومريم .
(1/1234)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
{ الله نُورُ السماوات والأرض } النور يطلق حقيقة على الضوء الذي يدرك بالأبصار ، ومجازاً على المعاني التي تدرك بالقلوب ، والله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } الشورى : 11 ] ، فتأويل الآية الله ذو نور السموات والأرض؛ ووصف نفسه بأنه نور كما تقول زيد كرَم إذا أردت المابلغة في أنه كريم ، فإن أراد بالنور المدرك بالأبصار ، فمعنى نور السموات والأرض أنه خلق النور الذي فيهما من الشمس والقمر والنجوم ، أو أنه خلقهما وأخرجهما من العدم إلى الوجود ، فإنما ظهرت به كما تظهر الأشياء بالضوء ، ومن هذا المعنى قرأ عليّ بن أبي طالب : { الله نُورُ السماوات والأرض } بفتح النون والواو والراء وتشديد الواو : أي جعل فيهما النور وإن أراد بالنور المدرك بالقلوب ، فمعنى نور السموات والأرض جاعل النور في قلوب أهل السموات والأرض ولهذا قال ابن عباس : معناه هادي أهل السموات والأرض .
{ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ } المشكاة هي الكوة غير النافذة تكون في الحائط ، ويكون المصباح فيها شديد الإضاءة وقيل : المشكاة العمود الذي يكون المصباح على رأسه ، والأول أصح وأشهر ، والمعنى صفة نور الله في وضوحه كصفة مشكاة فيها مصباح ، على أعظم ما يتصوّره البشر من الإضاءة والإنارة ، وإنما شبه بالمشكاة وإن كان نور الله أعظم ، لأن ذلك غاية ما يدركه الناس من الأنوار ، فضرب المثل لهم بما يصلون إلى إدراكه . وقيل : الضمير في نوره عائد على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : على القرآن ، وقيل : على المؤمن ، وهذه الأقوال ضعيفة لأنه لم يتقدم ما يعود عليه الضمير ، فإن قيل : كيف يصح أن يقال الله نور السموات والأرض فأخبر أنه هو النور ثم أضاف النور إليه في قوله : { مَثَلُ نُورِهِ } ، والمضاف عين المضاف إليه؟ فالجواب أن ذلك يصح مع التأويل الذي قدمناه أي الله ذو نور السموات والأرض ، أو كما تقول : زيد كرم ، ثم تقول : ينعش بكرمه { المصباح فِي زُجَاجَةٍ } المصباح هو الفتيل بناره ، والمعنى أنه في قنديل من زجاج لأن الضوء فيه أزهر ، لأنه جسم شفاف { الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } شبه الزجاجة في إنارتها بكوكب دريّ ، وذلك يحتمل معنيين إما أن يريد أنها تضيء بالمصباح الذي فيها ، وإما أن يريد أنها في نفسها شديدة الضوء لصفائها ورقة جوهرها ، وهذا أبلغ الاجتماع نورها مع نور المصباح ، والمراد بالكوكب الدرّي أحد الدراري المضيئة : كالمشتري ، والزهرة ، وسهيل ، ونحوها ، وقيل : أراد الزهرة ، ولا دليل على هذا التخصيص ، وقرأ نافع { دُرِّيٌّ } بضم الدال وتشديد الياء بغير همزة ولهذا القراءة وجهان : إما أن ينسب الكوكب إلى الدرّ لبياضه وصفائه ، أو يكون مسهلاً من الهمز ، وقرأ حمزة وأبو بكر : { دُرِّيٌّ } بالهمز وكسر الدال ، بالهمز وضم الدال ، وهو مشتق من الدرء بمعنى الدفع .
(1/1235)
{ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ } من قرأ يوقد بالياء أو تَوَقَّدَ بالفعل الماضي فالفعل مسند إلى المصباح ، ومن قرأ توقد بالتاء والفعل المضارع فهو مسند إلى الزجاجة ، والمعنى : توقد من زيت شجرة مباركة ، ووصفها بالبركة لكثرة منافعها ، أو لأنها تنبت في الأرض المباركة وهي الشام { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } قيل : يعني أنها بالشام فليست من شرق الأرض ولا من غربها ، وأجود الزيتون زيتون الشام ، وقيل : هي منكشفة تصيبها الشمس طول النهار ، فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ، ولا للغرب فتسمى غربية بل هي غربية شرقية ، لأن الشمس تستدير عليها من الشرق والغرب ، وقيل إنها في وسط دوحة لا في جهة الشرق من الدوحة ولا في جهة الغرب ، وقيل : إنها من شجرة الجنة ولو كانت في الدنيا لكانت شرقية أو غربية { يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } مبالغة في وصف صفائه وحسنه { نُّورٌ على نُورٍ } يعني اجتماع نور المصباح وحسن الزجاجة وطيب الزيت ، والمراد بذلك كمال النور الممثل به { يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } أي يوفق الله من يشاء لإصابة الحق .
(1/1236)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
{ فِي بُيُوتٍ } يعني المساجد ، وقيل : بيوت أهل الإيمان من مساجد أو مساكن ، والأول أصح ، والجار يتعلق بما قبله : أي كمشكاة في بيوت ، أو توقد في بيوت ، وقيل : بما بعده وهو يسبح ، وكرر الجارّ بعد ذلك تأكيداً ، وقيل : بمحذوف : أي سبحوا { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ } ، والمراد بالإذن الأمر ، ورفعها بناؤها ، وقيل : تعظيمها { بالغدو والآصال } أي غدوة وعيشة وقيل : أراد الصبح والعصر وقيل : صلاة الضحى والعصر { رِجَالٌ } فاعل { يُسَبِّحُ } على القراءة بكسر الباء ، وأما على القراءة بالفتح فهو مرفوع بفعل مضمر يدل عليه الأول { لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله } أي لا تشغلهم ، ونزلت الآية في أهل الأسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا إليها ، والبيع من التجارة ، ولكنه خصه بالذكر تجريداً كقوله : { فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [ الرحمن : 68 ] ، أو أراد بالتجارة الشراء { تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار } أي تضطرب من شدة الهول والخوف ، وقيل : تفقه القلوب وتبصر الأبصار بعد العمى ، لأن الحقائق تنكشف حنيئذ ، والأول أصبح كقوله : { وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } [ الأحزاب : 10 ] ، وفي قوله { تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب } تجنيس { لِيَجْزِيَهُمُ الله } متعلق بما قبله ، أو بفعل من معنى ما قبله { أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } تقديره جزاء أحسن ما عملوا { وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ } يعني زيادة على ثواب أعمالهم { بِغَيْرِ حِسَابٍ } ذكر في البقرة .
(1/1237)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)
{ والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } لما ذكر الله حال المؤمنين أعقب ذلك بمثالين لأعمال الكافرين : الأول يقتضي حال أعمالهم في الآخرة ، وأنها لا تنفعهم ، بل يضمحل ثوابها كما يضمحل السراب ، والثاني يقتضي حال أعمالهم في الدنيا ، وأنها في غاية الفساد والضلال كالظلمات التي بعضها فوق بعض ، والسراب هو ما يرى في الفلوات من ضوء الشمس في الهجيرة حتى يظهر كأنه ماء يجري على وجه الأرض ، والقيعة جمع قاع وهو المنسبط من الأرض ، وقيل : بمعنى القاع وليس بجمع { يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً } الظمآن العطشان : أي يظن العطشان أن السراب ماء ، فيأتيه ليشربه ، فإذا جاء خاب ما أمل ، وبطل ما ظنّ ، وكذلك الكافر يظن أن أعماله تنفعه ، فإذا كان يوم القيامة لم تنفعه فهي كالسراب { حتى إِذَا جَآءَهُ } ضمير الفاعل للظمآن ، وضمير المفعول للسراب أو ضمير الفاعل للكافر وضمير المفعول لعمله { لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } أي شيئاً ينتفع به أو شيئاً موجوداً على العموم لأنه معدوم ، ويحتمل أن يكون ضمير الفاعل للظمآن وضمير المفعول للسراب . أو ضمير الفاعل للكافر وضمير المفعول لعمله { وَوَجَدَ الله عِندَهُ } ضمير الفاعل في وجد الكافر ، والضمير في عنده لعمله ، والمعنى وجد الله عنده بالجزاء ، أو وجد زبانية الله .
(1/1238)
أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
{ أَوْ كَظُلُمَاتٍ } هذا هو المثال الثاني ، وهو عطف على قوله { كَسَرَابٍ } ، والمشبه بالظلمات أعمال الكافر : أي هم من الضلالة والحيرة في مثل الظلمات المجتمعة من ظلمة البحر تحت الموج تحت السحاب { فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ } منسوب إلى اللج ، وهو معظم الماء ، وذهب بعضهم إلى أن أجزاء هذا المثال قوبلت به أجزاء الممثل به : فالظلمات أعمال الكافر ، والبحر اللجي صدره ، والموج جهله ، والسحاب الغطاء الذي على قلبه ، وذهب بعضهم إلى أنه تمثيل بالجملة من غير مقابلة وفي وصف هذه الظلمات بهذه الأوصاف مبالغة كما أن وصف النور المذكور قبلها مبالغة { إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } المعنى مبالغة في وصف الظلمة ، والضمير في أخرج وما بعده للرجل الذي وقع في الظلمات الموصوفة ، واختلف في تأويل الكلام : فقيل : المعنى إذا أخرج يده لم يقارب رؤيتها ، فنفى الرؤية ومقاربتها ، وقيل : بل رآها بعد عسر وشدة ، لأن كاد إذا نفيت تقتضي الإيجاب ، وإذا أوجبت تقتضي النفي ، وقال ابن عطية : إنما ذلك إذا دخل حرف النفي على الفعل الذي بعدها ، فأما إذا دخل حرف النفي على كاد كقوله : لم يكد ، فإنه يحتمل النفي والإيجاب .
{ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً } أي من لم يهده الله لم يهتد ، فالنور كناية عن الهدى ، والإيمان ، في الدنيا ، وقيل : أراد في الآخرة أي من لم يرحمه الله فلا رحمة له ، والأول أليق بما قبله ، { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السماوات والأرض والطير صَآفَّاتٍ } الرؤية هنا بمعنى العلم والتسبيح التنزيه والتعظيم ، وهو من العقلاء بالنطق ، وأما تسبيح الطير وغيرها مما لايعقل ، فقال الجمهور : إنه حقيقي ، ولا يبعد أن يلهمها الله التسبيح ، كما يلهمها الأمور الدقيقة التي لا يهتدي إليها العقلاء ، وقيل : تسبيحه ظهور الحكمة فيه { صَآفَّاتٍ } يصففن أجنحتهن في الهواء { قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } الضمير في { عَلِمَ } لله ، أو لكل ، والضمير في { صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } لكل { يُزْجِي } معناه يسوق ، والإزجاء إنما يستعمل في سوق كل ثقيل كالسحاب { رُكَاماً } متكاثف بعضه فوق بعض { الودق } المطر { مِنْ خِلاَلِهِ } أي من بينه ، وهو جمع خلل كجبل وجبال { وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } قيل : إن الجبال هنا حقيقة وأن الله جعل في السماء جبالاً من برد ، وقيل : إنه مجاز كقولك عند فلان جبال من مال أو علم : أي هي في الكثرة كالجبال ، و { مَن } في قوله { مِنَ السمآء } لابتداء الغاية ، وفي قوله { مِن جِبَالٍ } كذلك ، وهي بدل من الأولى ، وتكون للتبعيض ، فتكون مفعول ينزل ، و { مِن } في قوله : { مِن بَرَدٍ } : لبيان الجنس أو للتبعيض فتكون مفعول ينزل ، وقال الأخفش : هي زائدة ، وذلك ضعيف ، وقوله : { فِيهَا } صفة للجبال ، والضمير يعود على السماء { سَنَا بَرْقِهِ } السنا بالقصر الضوء ، وبالمدّ المجد والشرف { يُقَلِّبُ الله الليل والنهار } أي يأتي بهذا بعد هذا .
(1/1239)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
{ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ } يعني بن آدم والبهائم والطير لأن ذلك كله يدب { مِّن مَّآءٍ } يعني المنيّ ، وقيل : الماء الذي في الطين الذي خلق منه آدم وغيره { على بَطْنِهِ } كالحيات والحوت .
(1/1240)
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47)
{ وَيَِقُولُونَ آمَنَّا } الآية : نزلت في المنافقين ، وسببها أن رجلاً من المنافقين كانت بينه وبين يهودي خصومة ، فدعاه اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عنه ، ودعاه إلى كعب بن الأشرف .
(1/1241)
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
{ مُذْعِنِينَ } أي منقادين طائعين لقصد الوصول إلى حقوقهم .
(1/1242)
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
{ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } توقيف [ سؤال } يراد به التوبيخ ، وكذلك ما بعده { أَن يَحِيفَ } معناه أن يجور ، والحيف الميل ، وأسنده إلى الله ، لأن الرسول إنما يحكم بأمر الله وشرعه .
(1/1243)
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51)
{ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين } الآية . معناه إنما الواجب أن يقول المؤمنون : سمعنا وأطعنا إذا دعوا إلى الله ورسوله ، وجعل الدعاء إلى الله من حيث هو إلى شرعه .
(1/1244)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
{ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } الآية . قال بان عباس : معناها من يطع الله في فرائضه ، ورسوله في سننه { وَيَخْشَ الله } فيما مضى من ذنوبه { وَيَتَّقْهِ } فيما يستقبل ، وسأل بعض الملوك عن آية كافية جامعة فذكرت له هذه الآية ، وسمعها بعض بطارقة الروم فأسلم ، وقال إنها جمعت كل ما التوراة والأنجيل .
(1/1245)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
{ وَأَقْسَمُواْ } أي حلفوا ، والضمير للمنافقين { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي بالغوا في اليمين وأكدوها { لَيَخْرُجُنَّ } يعني إلى الغزو { قُل لاَّ تُقْسِمُواْ } نهى عن اليمين الكاذبة لأنه قد عرف أنهم يحلفون على الباطل { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } مبتدأ وخيره محذوف أي طاعة معروفة أمثل وأولى بكم ، أو خبر مبتدأ محذوف أي المطلوب منكم طاعة معروفة لا يشك فيها { عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ } يعني تبليغ الراسلة { وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } يعني السمع والطاعة واتباع الشريعة .
(1/1246)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
{ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض } وعد ظهر صدقه بفتح مشارق الأرض ومغاربها لهذه الأمة ، وقيل : إن المراد بالآية : خلافة أبي بكر وعثمان وعليّ رضي الله عنهما لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الخلافة بعدي ثلاثون سنة " ، وانتهت الثلاثون إلى آخر خلافة عليّ ، فإن قيل : أين القسم الذي جاء قوله { لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ } جواباً له؟ فالجواب أنه محذوف تقديره : وعدهم الله وأقسم ، أو جعل الوعد بمنزلة القسم لتحققه .
(1/1247)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58)
{ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم } قيل المراد بالذين ملكت أيمانكم : الرجال خاصة ، وقيل النساء خاصة ، لأن الرجال يستأذنون في كل وقت وقيل الرجال والنساء { والذين لَمْ يَبْلُغُواْ الحلم } يعني الأطفال غير البالغين { ثَلاَثَ مَرَّاتٍ } نصب على الظرفية لأنهم أمروا بالاستئذان في ثلاثة مواطن ، فمعى الآية أن الله أمر المماليك والأطفال بالاستئذانفي ثلاثة أوقات ، وهي قبل الصبح وحين القائلة وسط النهار ، وبعد صلاة العشاء الأخيرة ، لأن هذه الأوقات يكون الناس فيها متجردين للنوم في غالب أمرهم ، وهذه آية محكمة؛ وقال ابن عباس : ترك الناس العمل بها ، وحملها بعضهم على الندب { تَضَعُونَ ثيابكم } يعني تتجّردون { الظهيرة } وسط النهار { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ } جمع عورة من الانكشاف كقوله : { بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } [ الأحزاب : 13 ] ومن رفع ثلاث فهو خبر ابتداء مضمر تقديره : هذه الأوقات ثلاث عورات لكم : أي تنكشفون فيها ، ومن نصبه فهو بدل من ثلاث مرات { لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ } هذا الضمير المؤنث يعود على الأوقات المتقدّمة أي ليس عليكم ولا على المماليك والأطفال جناح في ترك الاستئذان في غير المواطن الثلاثة { طوافون عَلَيْكُمْ } تقديره المماليك والأطفال طوافون عليكم ، فلذلك يؤمر بالاستئذان في كل وقت { بَعْضُكُمْ على بَعْضٍ } بدل من طوافون : أي بعضكم يطوف على بعض وقال الزمخشري : هو مبتدأ أي بعضكم يطوف على بعض أو فاعل بفعل مضمر .
(1/1248)
وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)
{ وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ } لما أمر الأطفال في الآية المتقدمة بالاستئذان في ثلاثة أوقات ، وأباح لهم الدخول بغير إذن في غيرها : أمرهم هنا بالاستئذان في جميع الأوقات إذا بلغوا ولحقوا بالرجال .
(1/1249)
وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
{ والقواعد مِنَ النسآء } جمع قاعد وهي العجوز ، فقيل : هي التي قعدت عن الولد ، وقيل : التي قعدت عن التبرج { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ } أباح الله لهذا الصنف من العجائز ما لم يبح لغيرهنّ من وضع الثياب ، قال ابن مسعود إنما أبيح لهنّ وضع الجلباب الذي فوق الخمار والرداء ، وقال بعضهم : إنما ذلك في منزلها الذي يراها فيه ذوو محارمها { غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } إنما أباح الله لهنّ وضع الثياب بشرط ألا يقصدن إظهار زينة ، والتبرج هو الظهور { وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ } المعنى أن الاستعفاف عن وضع الثياب المذكورة خير لهنّ من وضعها ، والأولى لهن أن يلتزمن من ما يلتزم شباب النساء من الستر .
(1/1250)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
{ لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ } الآية اختلف في المعنى الذي رفع فيه الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض في هذه الآية فقيل : هو في الغزو أي لا حرج عليهم في تأخيرهم عنه ، وقوله { وَلاَ على أَنفُسِكُمْ } مقطوع من الذي قبله على هذا القول كأنه قال : ليس على هؤلاء الثلاثة حرج في ترك الغزو ، ولا عليكم حرج في الأكل ، وقيل : الآية كلها في معنى الأكل ، واختلف الذاهبون إلى ذلك ، فقيل : إن أهل هذه الأعذار كانوا يتجنبون الأكل مع الناس لئلا يتقذرهم الناس ، فنزلت الآية مبيحة لهم الأكل مع الناس ، وقيل : إن الناس كانوا إذا نهضوا إلى الغزوا وخلفوا أهل هذه الأعذار في بيوتهم ، وكانوا يتجنبون أكل مال الغائب ، فنزلت الآية في ذلك ، وقيل : إن الناس كانوا يتجنبون الأكل معهم تقذراً ، فنزل الآية ، وهذا ضعيف ، لأن رفع الحرج عن أهل الأعذار لا عن غيرهم ، وقيل : إن رفع الحرج عن هؤلاء الثلاثة في كل ما تمنعهم عنه أعذارهم من الجهاد وغيره { وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } أباح الله تعالى الإنسان الأكل في هذه البيوت المذكورة في الآية ، فبدأ ببيت الرجل نفسه ، ثم ذكر القرابة على ترتيبهم ولم يذكر فيهم الابن ، لأنه دخل في قوله { مِن بُيُوتِكُمْ } ، لأن بيت ابن الرجل بيته ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " أنت ومالك لأبيك " ، واختلف العلماء فيما ذكر في هذه الآية من الأكل بين بيوت القرابة فذهب قوم إلى أنه منسوخ ، وأنه لا يجوز الأكل من بيت أحد إلا بإذنه والناسخ قوله تعالى : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } [ البقرة : 188 ، النساء : 29 ] ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " لا يحل مال امرىء مسلم إلا عن طيب نفسه منه " وقيل الآية محكمة ، ومعناها إباحة الأكل من بيوت القرابة إذا أذنوا في ذلك ، وقيل بإذن وبغير إذن { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ } يعني الوكلاء والأجراء والعبيد الذين يمسكون مفاتح مخازن أموال ساداتهم ، فأباح لهم الأكل منها ، وقيل : المراد ما ملك الإنسان من مفاتح نفسه وهذا ضعيف { أَوْ صَدِيقِكُمْ } الصديق يقع على الواحد والجماعة ، كالعدوّ ، والمراد به هنا جمع ليناسب ما ذكر قبله من الجموع في قوله { آبَآئِكُمْ } و { أُمَّهَاتِكُمْ } وغير ذلك ، وقرن الله الصديق بالقرابة ، لقرب مودّته ، وقال ابن عباس : الصديق أوكد من القرابة .
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } إباحة للأكل في حال الاجتماع والانفراد ، لأنّ بعض العرب كان لا يأكل وحده أبداً خيفة من البخل ، فأباح لهم الله ذلك { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ } أي إذا دخلتم بيوتاً مسكونة ، فسلموا على من فيها من الناس ، وإنما قال : { على أَنفُسِكُمْ } بمعنى صنفكم كقوله { وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ } [ الحجرات : 11 ] وقيل : المعنى إذا دخلتم بيوتاً خالية فسلموا على أنفسكم بأن يقول الرجل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، وقيل : يعني بالبيوت ، المساجد ، والأمر بالسلام على من فيها ، فإن لم يكن فيها أحد فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الملائكة وعلى عباد الله الصالحين .
(1/1251)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
{ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ على أَمْرٍ جَامِعٍ } الآية : الأمر الجامع هو ما يجمع الناس للمشورة فيه ، أو للتعاون عليه . ونزلت هذه الآية في وقت حفر الخندق بالمدينة ، فإن بعض المؤمنين كانوا يستأذنون في الانصراف لضرورة ، وكان المنافقون يذهبون بغير استئذان { لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ } أي لبعض حوائجهم .
(1/1252)
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
{ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } في معناها ثلاثة أقوال الأول : أن الدعاء هنا يراد به دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم ليجتمعوا إليه في أمر جامع أو في قتال وشبه ذلك ، فالمعنى أن إجابتكم له إذا دعاكم واجبه عليكم بخلاف ما إذا دعا بعضكم بعضاً ، فهو كقوله تعالى : { استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم } [ الأنفال : 24 ] ويقوي هذا القول مناسبته لما قبله من الاستئذان والأمر الجامع ، والقول الثاني أن المعنى لا تدعوا الرسول عليه السلام باسمه كما يدعو بعضكم بعضاً باسمه بل قولوا : يا رسول الله أو يا نبي الله تعظيماً له ودعاء بأشرف أسمائه ، وقيل : المعنى لا تحسبوا دعاء الرسول عليكم كدعاء بعضكم على بعض : أي دعاؤه عليكم يجاب فاحذروه ، ولفظ الآية بعيد من هذا المعنى على أن المعنى صحيح { قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً } الذي ينصرفون عن حفر الخندق واللواذ الروغان والمخالفة وقيل : الانصراف في خفية { فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } الضمير لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، واختلف في عن هنا ، فقيل إنها زائدة وهذا ضعيف ، وقال ابن عطية : معناه يقع خلافهم بعد أمره كما تقول : كان المطر عن ريح ، قال الزمخشري يقال : خالفه إلى الأمر إذا ذهب إليه دونه ، وخالفه عن الأمر إذا صد الناس عنه ، فمعنى يخالفون عن أمره يصدّون الناس عنه ، فحذف المفعول لأن الغرض ذكر المخالف { فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } الفتنة في الدنيا بالرزايا ، أو بالفضيحة أو القتل أو العذاب الآخر .
(1/1253)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
{ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } دخلت قد للتأكيد ، وفي الكلام معنى الوعيد ، وقيل : معناها التقليل على وجه التهكم والخطاب لجميع الخلق ، أو للمنافقين خاصة { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ } يعني المنافقين ، والعامل في الظرف بينهم .
(1/1254)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4)
{ تَبَارَكَ } من البركة وهو فعل مختص بالله تعالى لم ينطق بالمضارع { على عَبْدِهِ } يعني محمدً صلى الله عليه وآله وسلم ، وذلك على وجه التشريف له والاختصاص { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } الضمير لمحمد صلى الله عليه وسلم أو للقرآن ، والأول أظهر وقوله " للعالمين " عموم يشمل الجن والإنس ممن كان في عصره ، ومن يأتي بعده إلى يوم القيامة ، وتضمن صدر هذه الآية إثبات النبوة والتوحيد ، والردّ على من خالف في ذلك { فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } الخلق عبارة عن الإيجاد بعد العدم ، والتقدير : عبارة عن إتقان الصنعة ، وتخصيص كل مخلوق بمقداره ، وصفته وزمانه ومكانه ، ومصلحته ، وأجله ، وغير ذلك { واتخذوا } الضمير لقريش وغيرهم ممن أشرك بالله تعالى { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } يعنون قوماً من اليهود منهم : عداس ويسار وأبو فكيهة الرومي { فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً } أي ظلموا النبي صلى الله عليه وسلم فما نسبوا إليه وكذبوا في ذلك عليه .
(1/1255)
وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)
{ وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين } أي ما سطره الأولون في كتبهم ، وكان الذي يقول هذه المقالة النضر بن الحارث { اكتتبها } أي كتبها له كاتب ، ثم صارت تملي عليه ليحفظها ، وهذاحكاية كلام الكفار ، وقال الحسن : إنها من قول الله على وجه الردّ عليهم ، ولو كان ذلك لقال أكتتبها بفتح الهمزة لمعنى الإنكار ، وقد يجوز حذف الهمزة في مثل هذا ، وينبغي على قول الحسن أن يوقف على أساطير الأولين .
(1/1256)
قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
{ قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر } ردّ على الكفار في قولهم ويعني بالسر : ما أسرّه الكفار من أقوالهم ، أو يكون ذلك على وجه التنصل والبراءة مما نسبه الكفار إليه من الافتراء ، أي أن الله يعلم سري فهو العالم بأني ما افتريت عليه ، بل هو أنزله عليّ ، فإن قيل : ما مناسبة قوله : { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } لما قبله؟ فالجواب أنه لما ذكر أقوال الكفار : أعقبها بذلك ، لبيان أنه غفور رحيم في كونه لم يعجل عليهم بالعقوبة بل أمهلهم ، وإن أسلموا تاب عليهم وغفر لهم .
(1/1257)
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)
{ وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام } الآية : قال هذا الكلام قريش طعناً على النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد رد الله عليهم بقوله { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق } [ الفرقان : 20 ] وقولهم { هذا الرسول } على وجه آلهتكم كقوله فرعون : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ } [ الشعراء : 27 ] أو يعنون الرسول بزعمه ، ثم ذكر ما اقترحوا من الأمور في قولهم : { لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ } وما بعده ، ثم وصفهم بالظلم ، وقد ذكرنا معنى مسحوراً في [ الإسراء : 47 ] سبحان { ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال } أي قالوا فيك تلك الأقوال { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } أي لا يقدرون على الوصول إلى الحق لبعدهم عنه وإفراط جهلهم { خَيْراً مِّن ذلك } الإشارة إلى ما ذكره الكفار من الكنز والجنة في الدنيا { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } يعني جنات الآخرة وقصورها وما قيل : يعني جنات ، وقصوراً في الدنيا ، ولذلك قال : إن شاء .
(1/1258)
إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12)
{ إِذَا رَأَتْهُمْ } أي إذا رأتهم جهنم وهذه الرؤية يحتمل أن تكون حقيقة أو مجازاً بمعنى : صارت منهم بقدر ما يرى على البعد { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } التغيظ لا يسمع وإنما المسموع أصوات دالة عليه ، ففي لفظه تجوز ، والزفير أول صوت الحمار .
(1/1259)
وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
{ مَكَاناً ضَيِّقاً } تضيق عليهم زيادة في عذابهم { مُّقَرَّنِينَ } أي مربوط بعضهم إلى بعض ، وروي أن ذلك بسلاسل من النار { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } الثبور : الويل وقيل : الهلاك ، ومعنى دعائهم ثبورا : أنهم يقولون يا ثبوارة كقول القائل : واحسرتاه وا أسفاه { لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً } تقديره : يقال لهم ذلك أو يكون حالهم يقتضي ذلك ، وإن لم يكن ثم قول ، وإنما دعوا ثبوراً كثيراً لأن عذابهم دائم ، فالثبور يتجدد عليهم في كل حين .
(1/1260)
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17)
{ قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد } إنما جاز هنا التفضيل بين الجنة والنار ، لأن الكلام سؤال وتوبيخ ، وإنما يمنع التفضيل بين شيئين ، ليس بينهما اشتراك في المعنى إذ كان الكلام خبراً { وَعْداً مَّسْئُولاً } أي سأله المؤمنين أو الملائكة في قولهم : وأدخلهم جنات عدن ، وقيل : معناه وعداً واجب الوقوع ، لأنه حتمه { فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ } القائل لذلك هو الله عز وجل ، والمخاطب هم المعبودون مع الله على العموم ، وقيل : الأصنام خاصة ، والأول أرجح لقوله : { ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [ سبأ : 40 ] وقوله : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } [ المائدة : 119 ] { أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل } أم هنا معادلة لما قبلها ، والمعنى أن الله يقول يوم القيامة للمعبودين : { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا } من تلقاء أنفسهم باختيارهم ولم تضلوهم أنتم؟ ولأجل ذلك بين هذا المعنى بقوله : { هُمْ } ليتحقق إسناد الضلال إليهم ، فإنما سألهم الله هذا السؤال مع علمه بالأمور ليوبخ الكفار الذين عبدوهم .
(1/1261)
قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18)
{ قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ } القائلون لهذا هم المعبودون : قالوه على وجه التبري ممن عبدهم كقولهم : أنت ولينا من دونهم ، والمراد بذلك توبيخ الكفار يومئذ ، وإقامة الحجة عليهم { ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ } معناه إن إمتاعهم بالنعم في الدنيا كان سبب نسيانهم لذكر الله وعبادته { قَوْماً بُوراً } أي هالكين ، وهو من البوار وهو الهلاك ، واختلف هل هو جمع بائر؟ أو مصدر وصف به ولذلك يقع على الواحد والجماعة .
(1/1262)
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
{ فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ } هذا خطاب خاطب الله به المشركين يوم القيامة أي : قد كذبكم آلهتكم التي عبدتم من دون الله ، وتبرؤوا منكم . وقيل : هو خطاب للمعبودين : أي كذبوكم في هذه المقالة لما عبدوكم في الدنيا ، وقيل : هو خطاب للمسلمين : أي قد كذبكم الكفار فيما تقولونه من التوحيد والشريعة ، وقرىء بما يقولون بالياء من أسفل ، والباء في قوله : { بِمَا تَقُولُونَ } على القراءة بالتاء بدل من الضمير في { كَذَّبُوكُمْ } ، وعلى القراءة بالياء كقولك : كتبت بالقلم ، أو كذبوكم بقولهم { فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً } قرىء فيما تستطيعون بالتاء فوق ، ويحتمل على هذا أن يكون الخطاب للمشركين أو للمعبودين؛ والصرف على هذين الوجيهن صرف العذاب عنهم ، أو يكون الخطاب للمسلمين والصرف على هذا رد التكذيب ، وقرىء بالياء وهو مسند إلى المعبودين أو إلى المشركين والصرف صرف العذاب { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ } خطاب للكفار وقيل : للمؤمنين وقيل : على العموم .
(1/1263)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين } تقديره : وما أرسلنا رسلاً أو رجالاً قبلك ، وعلى هذا المفعول المحذوف يعود الضمير في قوله : { إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام } ، وهذه الآية ردّ على الكفار في استعبادهم بعث رسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } هذا خطاب لجميع الناس لاختلاف أحوالهم ، فالغني فتنة للفقير ، والصحيح فتنة للمريض ، والرسول فتنة لغيره ممن يحسده ويكفر به { أَتَصْبِرُونَ } تقديره لنظر هل تبصرون .
(1/1264)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21)
{ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } قيل : معناه لا يخافون ، والصحيح أنه على بابه لأن لقاء الله يرجى ويخاف { لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا } اقترح الكفار نزول الملائكة أو رؤية الله ، وحينئذ يؤمنون فرد الله عليهم بقوله : { لَقَدِ استكبروا } الآية : أي طلبوا ما لا ينبغي لهم أن يطلبوه ، وقوله : { في أَنفُسِهِمْ } كما تقول : فلان عظيم في نفسه ، أي عند نفسه أو بمعنى أنهم أضمروا الكفر في أنفسهم .
(1/1265)
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22)
{ يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ } لما طلبوا رؤية الملائكة ، أخبر الله أنهم لا بشرى لهم يوم يرونهم ، فالعامل في يوم معنى لا بشرى ، ويومئذ بدل { وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً } الضمير في يقولون إن كان للملائكة ، فالمعنى أنهم يقولون للمجرمين حجراً محجوراً ، أي حرام عليكم الجنة أو البشرى ، وإن كان الضمير للمجرمين ، فالمعنى أنهم يقولون حجراً بمعنى عوذاً . لأن العرب كانت تتعوّذ بهذه الكلمة مما تكره ، وانتصابه بفعل متروك إظهاره نحو معاذ الله .
(1/1266)
وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)
{ وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ } أي قصدنا إلى أفعالهم فلفظ القدوم مجاز ، وقيل : هو قدوم الملائكة أسنده الله إلى نفسه لأنه عن أمره { فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } عبارة عن عدم قبول ما عملوا من الحسنات كإطعام المساكين وصلة الأرحام وغير ذلك ، وأنها لا تنفعهم لأن الإيمان شرط في قبول الأعمال ، والهباء هي الأجرام الدقيقة من الغبار التي لا تظهر إلا حين تدخل الشمس على موضع ضيق كالكوة ، والمنثور المتفرّق .
(1/1267)
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
{ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً } جاء هنا التفضيل بين الجنة والنار ، لأن هذا مستقرّ وهذا مستقرّ { وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } هو مِفعل من النوم في القائلة وإن كانت الجنة لا نوم فيها ، ولكن جاء على ما تتعارفه العرب من الاستراحة وقت القائلة في الأمكنة الباردة ، وقيل : إن حساب الخلق يكمل في وقت ارتفاع النهار ، فيقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار .
(1/1268)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25)
{ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام } هو يوم القيامة وانشقاق السماء : انفطارها ومعنى بالغمام أي يخرج منها الغمام ، وهو السحاب الرقيق الأبيض ، وحينئذ تنزل الملائكة إلى الأرض .
(1/1269)
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30)
{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ } عض اليدين كناية عن الندم والحسرة ، والظالم هنا عقبة بن أبي معيط ، وقيل : كل ظالم والظلم هنا الكفر { مَعَ الرسول } هو محمد صلى الله عليه وسلم ، أو اسم جنس على العموم { لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً } روي أن عقبة جنح إلى الإسلام فنهاه أبيّ بن خلف فهو فلان ، وقيل : إن عقبة نهى أبيّ بن خلف عن الإسلام ، فالظالم على هذا أبيّ وفلان عقبة ، وإن كان الظالم على العموم ففلاناً على العموم أي خليل كل كافر { وَكَانَ الشيطان لِلإِنْسَانِ خَذُولاً } يحتمل أن يكون هذا من قول الظالم ، أو ابتداء إخبار من قول الله تعالى ، ويحتمل أن يريد الشيطان إبليس أو الخليل المذكور { وَقَالَ الرسول } قيل : إن هذا حكاية قوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا ، وقيل : في الآخرة { مَهْجُوراً } من الهجر بمعنى البعد والترك وقيل : من الهجر بضم الهاء ، أي قالوا فيه الهجر حين قالوا : إنه شعر وسحر والأول أظهر .
(1/1270)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً } العدو هنا جمع ، والمراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بالتأسي بغيره من الأنبياء { وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } وعد لمحمد صلى الله عليه وسلم بالهدى والنصرى .
(1/1271)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً } هذا من اعتراضات قريش ، لأنهم قالوا لو كان القرآن من عند الله لنزل جملة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } هذا جواب لهم تقديره : أنزلناه كذلك مفرقاً لنثبت به فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم لحفظه : ولو نزل جملة واحدة لتعذر عليه حفظه لأنه أمي لا يقرأ ، فحفظ المفرق عليه أسهل ، وأيضاً فإنه نزل بأسباب مختلفة تقتضي أن ينزل كل جزء منه عند حدوث سببه ، وأيضاً من ناسخ ومنسوخ ، ولا يتأتى ذلك فيما ينزل جملة واحدة { وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } أي فرقناه تفريقاً فإنه نزل بطول عشرين سنة . وهذا الفعل معطوف على الفعل المقدر ، الذي يتعلق به { كَذَلِكَ } وبه يتعلق { لِنُثَبِّتَ } { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ } ألآية معناه لا يوردون عليك سؤالاً أو اعتراضاً ، إلا أتيناك في جوابه بالحق ، والتفسير الحسن الذي يذهب اعتراضهم ويبطل شبهتهم .
(1/1272)
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
{ الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ } يعني الكفار ، وحشرهم على وجوههم حقيقة لأنه جاء في الحديث؛ " قيل يا رسول الله : كيف يحشر الكافر على وجهه : قال أليس الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادراً على أن يمشيه في الآخرة على وجهه " { شَرٌّ مَّكَاناً } يحتمل أن يريد بالمكان المنزلة والشرف أوالدار والمسكن في الآخرة .
(1/1273)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36)
{ وَزِيراً } معيناً { إِلَى القوم } يعني فرعون وقومه ، وفي الكلام حذف تقديره : فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم .
(1/1274)
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38)
{ كَذَّبُواْ الرسل } تأويله كما ذكر في قوله في هود { وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } [ هود : 59 ] { وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ } يحتمل أن يريد بالظالمين من تقدم ووضع هذا الاسم الظاهر موضع المضمر لقصد وصفهم بالظلم ، أو يريد الظالمين على العموم { وَأَصْحَابَ الرس } معنى الرس في اللغة : البئر ، واختلف في أصحاب الرس : فقيل هم من بقية ثمود وقيل : من أهل اليمامة ، وقيل : من أهل أنطاكية ، وهم أصحاب يس ، واختلف في قصتهم فقيل بعث الله إليهم نبياً فرموه في بئر فأهلكهم الله ، وقيل : كانوا حول بئر لهم فانهارت بهم فهلكوا { وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً } يقتضي التكثير والإبهام ، والإشارة بذلك إلى المذكور وقبل من الأمم .
(1/1275)
وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
{ ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال } أي بيناً له { تَبَّرْنَا } أي أهلكنا { وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القرية } الضمير في أتوا لقريش وغيرهم من الكفار ، والقرية قرية قوم لوط ، ومطر السوء الحجارة ثم سألهم على رؤيتهم لها؛ لأنها في طريقهم إلى الشام ، ثم أخبر أن سبب عدم اعتبارهم بها كفرهم بالنشور . و { يَرْجُونَ } كقوله : { يَرْجُونَ لِقَآءَنَا } [ الفرقان : 21 ] ، وقد ذكر { أهذا الذي } حكاية قولهم على وجه الاستهزاء ، فالجملة في موضع مفعول لقول محذوف يدل عليه هذا ، وقوله { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا } استئناف جملة أخرى وتم كلامهم ، واستأنف كلام الله تعالى في قوله { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } الآية على وجه التهديد لهم { اتخذ إلهه هَوَاهُ } أي أطاع هواه حتى صار كأنه له إله { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } لأن الأنعام ليس لها عقول ، وهؤلاء لهم عقول ضيعوها ، ولأن الأنعام تطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها ، وهؤلاء يتركون أنفع الأشياء وهو الثواب ، ولا يخافون أضرّ الأشياء وهو العقاب .
(1/1276)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45)
{ أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ } أي إلى صنع ربك وقدرته { مَدَّ الظل } قيل : مدّة من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لأن الظل حينئذ على الأرض كلها ، واعترضه ابن عطية لأن ذلك الوقت من الليل ، ولا يقال ظل بالليل ، واختار أن مدّ الظل من الإسفار إلى طلوع الشمس وبعد مغيبها بيسير ، وقيل : معنى مد الظل؛ أي جعله يمتدّ وينبسط { وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً } أي ثابتاً غير زائل لكنه جعله يزول بالشمس ، وقيل : معنى ساكن غير منبسط على الأرض ، بل يلتصق بأصل الحائط والشجرة ونحوها { ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً } قيل : معناه أن الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها ، في سيرها على الظل متى يتسع ومتى ينقبض ، ومتى يزول عن مكان إلى آخر ، فيبنون على ذلك انتفاعهم به وجلوسهم فيه ، وقيل : معناه لولا الشمس لم يعرف أن الظل شيء ، لأن الأشياء لم تعرف إلا بأضدادها .
(1/1277)
ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)
{ ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً } قبضه نسخه وأزالته بالشمس؛ ومعنى يسيراً شيئاً بعد شيء لا دفعة واحدة ، فإن قيل : ما معنى ثم في هذه المواضع الثلاثة؟ فالجواب أنه يحتمل أن تكون للترتيب في الزمان أي جعل ألله هذه الأحوال حالاً بعد حال ، أو تكون لبيان التفاضل بين هذه الأحوال الثلاثة : وأن الثاني أعظم من الأول ، والثالث أعظم من الثاني .
(1/1278)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49)
{ اليل لِبَاساً } شبَّه ظلام الليل باللباس ، لأنه يستر كل شيء كاللباس { والنوم سُبَاتاً } قيل : راحة وقيل موتاً لقوله : { يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } [ الزمر : 42 ] ويدل عليه مقابلته بالنشور { الرياح بُشْرَى } ذكر في [ الأعراف : 57 ] { مَآءً طَهُوراً } مبالغة في طاهر وقيل : معناه مطهر للناس في الوضوء وغيره . وبهذا المعنى يقول الفقهاء : ماء طهوراً ، أي مطهراً ، وكل مطهر طاهر ، وليس كل طاهر مطهر { وَأَنَاسِيَّ } قيل : جمع إنسي ، وقيل جمع إنسان ، والأول أصح .
(1/1279)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)
{ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ } الضمير للقرآن ، وقيل : للمطر وهو بعيد { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً } أي لو شئنا لخففنا عنك أثقال الرسالة ببعث جماعة من الرسل ، ولكنا خصصناك بها كرامة لك فاصبر { وَجَاهِدْهُمْ بِهِ } الضمير للقرآن أو لما دل عليه الكلام المتقدم .
(1/1280)
وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53)
{ مَرَجَ البحرين } اضطراب الناس في هذه الآية لأنه لا يعلم في الدنيا بحر ملح وبحر عذب وإنما البحار المعروفة ماؤها ملح ، قال ابن عباس : أراد بالبحر الملح الأجاج بحر الأرض ، والبحر العذب الفرات بحر السحاب ، وقيل : البحر الملح البحر المعروف ، والبحر العذب هو مياه الأرض ، وقيل : البحر الملح جميع الماء الملح من الآبار وغيرها ، والبحر العذب هو مياه الأرض من الأنهار والعيون ، ومعنى العذب : البالغ العذوبة حتى يضرب إلى الحلاوة ، والأجاج نقيضه ، واختلف في معنى مرجهما ، فقيل : جعلهما متجاورين متلاصقين ، وقيل أسال أحدهما في الآخر { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً } أي فاصلاً بينهما وهو ما بينهما من الأرض بحيث لا يختلطان ، وقيل : البرزخ يعلمه الله ولا يراه البشر .
(1/1281)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55)
{ خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً } إن أراد بالبشر آدم؛ فالمراد بالماء الماء الذي خلق به مع التراب فصار طيناً ، وإن أراد بالبشر بني آدم ، فالمراد الماء المنيّ الذي يخلقون منه { فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً } النسب والصهر يَعُمَّان كل قربى : أي كل قرابة ، والنسب أن يجتمع إنسان مع آخر في أب أو أمّ قرب ذلك أو بعد ، والصهر هو الاختلاط بالنكاح ، وقيل : أراد بالنسب الذكور ، أي ذوي نسب ينتسب إليهم ، وأراد بالصهر الإناث : أي ذوات صهر يصاهر بهنّ ، وهو كقوله : { فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى } [ القيامة : 39 ] { وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيراً } الكافر هنا الجنس ، وقيل : المراد أبو جهل ، والظهير : المعين أي يعين الشيطان على ربه بالعداوة والشرك ، ولفظه يقع للواحد والجماعة كقوله : { وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [ التحريم : 4 ] .
(1/1282)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57)
{ قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } أي لا أسئلكم على الإيمان أجرة ولا منفعة { إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } معناه إنما أسألكم أن تتخذوا إلى ربكم سبيلاً بالصدقة ، فالاستثناء على هذا متصل ، والأول أظهر ، وفي الكلام محذوف تقديره : إلا سؤال من شاء وشبه ذلك .
(1/1283)
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)
{ وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ } قرأ هذه الآية بعض السلف فقال : لا ينبغي لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق فإنه يموت { وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ } أي قل سبحان الله وبحمده ، والتسبيح التنزيه عن كل ما لا يليق به ، ومعنى بحمده أي : بحمده أقول ذلك ، ويحتمل أن يكون المعنى سبحه متلبساً بحمده ، فهو أمر بأن يجمع بين التسبيح والحمد { وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً } يحتمل أن يكون المراد بهذا أبيات حمله وعفوه من عباده مع علمه بذنوبهم أم يكون المراد تهديد العباد لعلم الله بذنوبهم { استوى عَلَى العرش } ذكر في [ الأعراف : 53 ] { الرحمن } خبر ابتداء مضمر ، أو بدل من الضمير في استوى { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } فيه معنيان : أحدهما وهو الأظهر : أن المراد اسأل عنه من هو خبير عارف به ، وانتصب خبيراً على المفعولية ، وهذا الخبير المسؤول هو جبريل عليه السلام والعلماء ، وأهل الكتاب ، والباء في قوله : { بِهِ } : يحتمل أن تتعلق بخبيراً ، أو تتعلق بالسؤال ، ويكون معناها على هذا معنى عن ، والمعنى الثاني : أن المراد اسأل بسؤاله خبيراً؛ أي إن سألته تعالى تجده خبيراً بكل شيء ، فانتصب خبيراً على الحال ، وهو كقولك : لو رأيت فلاناً رأيت به أسداً : أي رأيت برؤيته أسداً .
(1/1284)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
{ قَالُواْ وَمَا الرحمن } لما ذكر الرحمن في القرآن أنكرته قريش ، وقالوا : لا نعرف الرحمن ، وكان مسيلمة الكذاب قد تسمى بالرحمن ، فقالوا على وجه المغالطة : إنما الحرمن الرجل الذي باليمامة { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } تقديره لما تأمرنا أن نسجد له { وَزَادَهُمْ نُفُوراً } الضمير المعفول في زادهم يعود على المقول وهو { اسجدوا للرحمن } { بُرُوجاً } يعني المنازل الأثني عشر ، وقيل الكواكب العظام { سِرَاجاً } يعني الشمس ، وقرىء بضم السين والراء على الجمع يعني جميع الأنوار ثم القمر بالذكر تشريفاً { جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً } أي يخلف هذا هذا ، وقيل : هو من الاختلاف ، لأن هذا أبيض وهذا أسود ، والخلفة اسم الهيئة : كالركبة والجِلسة ، والأصل جعلهما ذوي خلفة { لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ } قيل : معناه يعتبر في المصنوعات ، وقيل : معناه يتذكر لما فاته من الصلوات وغيرها في الليل ، فيستدركه في النهار أو فاته بالنهار فيستذكره بالليل ، وهو قول عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهما .
(1/1285)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63)
{ وَعِبَادُ الرحمن } أي عباده المرضيون عنده ، فالعبودية هنا للتشريف والكرامة { وَعِبَادُ } مبتدأ وخبره { الذين يَمْشُونَ } ، أو قوله في آخر السورة : { أولئك يُجْزَوْنَ الغرفة } [ الفرقان : 75 ] { الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً } أي رفقاً وليناً بحلم ووقار ، ويحتمل أن يكون ذلك وصف مشيهم على الأرض أو وصف أخلاقهم في جميع أحوالهم ، وعبر بالمشي على الأرض عن جميع تصرفهم مدة حياتهم { قَالُواْ سَلاَماً } أي : قالوا قولاً سديداً ليدفع الجاهل برفق ، وقيل : معناه قلوا للجاهل : سلاماً أي هذا اللفظ بعينه بمعنى : سلمنا منكم قال بعضهم هذه الآية منسوخة بالسيف ، وإنما يصح النسخ في حق الكفار ، أما الإغضاء عن السهفاء والحلم عنهم فمستحسن غير منسوخ .
(1/1286)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)
{ إِنَّ عَذَابَهَا } وما بعده يحتمل أن يكون من كلامهم أو من كلام الله عز وجل { كَانَ غَرَاماً } أي هلاكاً وخسراناً ، وقيل ملازماً .
(1/1287)
وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
{ والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } الاقتار هو التضييق في النفقة والشح وضده الإسراف ، فنهى عن الطرفين ، وأمر بالتوسط بينهما وهو القوام ، وذلك في الانفاق في المباحات وفي الطاعات ، وأما الانفاق في المعاصي فهو إسراف ، وإن قل .
(1/1288)
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68)
{ وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً } أي عقاباً ، وقيل الأثام الإثم فمعناه يلق جزاء أثام؛ وقيل الأثام : واد في جهنم ، والإشارة بقوله ذلك إلى ما ذكر من الشرك بالله وقتل النفس بغير حق والزنا .
(1/1289)
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69)
{ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً } قيل : نزلت في الكفار لأنهم المخلدون في النار بإجماع ، فكأنه قال : الذين يجمعون بين الشرك والقتل والزنا ، وقيل : نزلت في المؤمنين الذين يقتلون النفس ويزنون ، فأما على مذهب المعتزلة فالخلود على بابه ، وأما على مذهب أهل السنة فالخلود عبارة عن طول المدة .
(1/1290)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)
{ إِلاَّ مَن تَابَ } إن قلنا الآية في الكفار فلا إشكال فيها ، لأن الكافر إذا أسلم صحت توبته من الكفر والقتل والزنا ، وإن قلنا الآية إنها في المؤمنين فلا خلاف أن التوبة من الزنا تصح ، واختلف هل تصح توبة المسلم من القتل أم لا { يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } قيل : يوفقهم الله لفعل الحسنات بدلاً عما علموا من السيئات ، وقيل : إن هذا التبديل في الآخرة : أي يبدل عقاب السيئات بثواب الحسنات .
(1/1291)
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
{ يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً } أي متاباً مقبولاً مرضياً عند الله كما تقول : لقد قلت يا فلان قولاً ، أي قولاً حسناً .
(1/1292)
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72)
{ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } أي لا يشهدون بالزور وهو الكذب فهو من الشهادة ، وقيل : معناه لا يحضرون مجالس الزور واللهو ، فهو على هذا من المشاهدة والحضور ، والأول أظهر { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } اللغو هو الكلام القبيح على اختلاف أنواعه ، ومعنى { مَرُّوا كِراماً } إي أعرضوا عنه واستحيوا ، ولم يدخلوا مع أهله تنزيهاً لأنفسهم عن ذلك .
(1/1293)
وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73)
{ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } أي لا يعرضوا عن آيات الله ، بل أقبلوا عليها بأسماعهم وقلوبهم ، فالنفي للصمم والعمى لا للخرور عليها .
(1/1294)
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75)
{ قُرَّةَ أَعْيُنٍ } قيل : معناه اجعل أزواجنا وذريتنا مطيعين لك ، وقيل : أدخلهم معنا الجنة ، واللفظ أعم من ذلك { واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } أي قدوة يقتدي بنا المتقون ، فإمام مفرد يراد به الجنس ، وقيل : هو جمع آمّ أي متبع { الغرفة } يعني غرفة الجنة فهي اسم الجنس .
(1/1295)
قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
{ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ } يحتمل أن تكون ما نافية أو استفهامية ، وفي معنى الدعاء هنا ثلاثة أقوال : الأول : أن المعنى إن الله لا يبالي بكم لولا عبادتكم له ، فالدعاء بمعنى العبادة وهذا قريب من معنى قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] الثاني : أن الدعاء بمعنى الاستغاثة والسؤال ، والمعنى لا يبالي الله بكم ، ولكن يرحمكم إذا استغثتم به ودعوتموه ويكون على هذين القولين خطاباً لجميع الناس من المؤمنين والكافرين ، لأن فيهم من يعبد الله ويدعوه ، أو خطاباً للمؤمنين خاصة ، لأنهم هم الذين يدعون الله ويعبدونه ، ولكن يضعف هذا بقوله " فقد كذبتم " الثالث : أنه خطاب للكفار خاصة والمعنى على هذا : ما يعبأ بكم لولا أن يدعوكم إلى دينه ، والدعاء على هذا بمعنى الأمر بالدخول في الدين ، وهو مصدر مضاف إلى المفعول ، وأما على القول الأول والثاني فهو مصدر مضاف إلى الفاعل { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } هذا خطاب لقريش وغيرهم من الكفار دون المؤمنين { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } أي سوف يكون العذاب لزاماً ثابتاً وأضمر العذاب وهو اسم كان لأنه جزاء التكذيب المتقدم ، واختلف هل يراد بالعذاب هنا القتل يوم بدر ، أو عذاب الآخر؟
(1/1296)
لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7)
{ بَاخِعٌ } ذكر في الكهف { فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } الأعناق جمع عنق وهي الجارحة المعروفة ، وإنما جمع خاضعين جمع العقلاء؛ لأنه أضاف الأعناق إلى العقلاء ، ولأنه وصفها بفعل لا يكون إلا من العقلاء ، وقيل : الأعناق الرؤساء من الناس شبهوا بالأعناق كما يقال لهم : رؤوس وصدور ، وقيل : هم الجماعات من الناس ، فلا يحتاج جمع خاضعين إلى تأويل { مُحْدَثٍ } يعني به محدث الإتيان { فَسَيَأْتِيهِمْ } الآية : تهديد { مِن كُلِّ زَوْجٍ } أي من كل صنف من النبات فيعم ذلك الأقوات والفواكه والأدوية والمرعى ، ووصفه بالكرم لما فيه من الحسن ومن المنافع { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } الإشارة إلى ما تقدّم من النبات ، وإنما ذكره بلفظ الإفراد لأنه أراد أن في كل واحد آية أو إشارة إلى مصدر قوله : { أَنبَتْنَا } .
(1/1297)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18)
{ وَيَضِيقُ صَدْرِي } بالرفع عطف على أخاف ، أو استئناف ، وقرىء بالنصب عطفاً على { يُكَذِّبُونِ } { فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ } أي اجعله معي رسولاً أستعين به { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ } يعني قتله للقبطي { قَالَ كَلاَّ } أي لا تخف أن يقتلوك { إِنَّا مَعَكُمْ } خطاب لموسى وأخيه ومن كان معهما . أو على جعل الاثنين جماعة { مُّسْتَمِعُونَ } لفظه جمع ، وورد مورد تعظيم الله تعالى ، ويحتمل أن تكون الملائكة هي التي تسمع بأمر الله ، لأن الله لا يوصف بالاستماع ، وإنما يوصف بالسمع والأول أحسن ، وتأويله : أن في الاستماع اعتناء واهتماماً بالأمر ليست في صفة سامعون ، والخطاب في قوله : { مَعَكُمْ } لموسى وهارون وفرعون وقومه ، وقيل : لموسى وهارون خاصة على معاملة الاثنين معاملة الجماعة ، ذلك على قول من يرى أن أقل الجمع اثنان { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ } إن قيل : لم أفرده وهما اثنان؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول أنّ التقدير كل واحد منا رسول . الثاني : أنهما جعلا كشخص واحد لا تفاقهما في الشريعة ، ولأنهما أخوان فكأنهما واحد . الثالث : أن { رَسُولُ } هنا مصدر وصف به ، فلذلك أطلق على الواحد والاثنين والجماعة ، فإنه يقال رسول بمعنى رسالة ، بخلاف قوله إنا رسولا فإنه بمعنى الرسل ، { أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ } أي أطلقهم { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } قصد فرعون بهذا الكلام المنّ على الموسى والاحتقار له .
(1/1298)
وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30)
{ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الكافرين } قصد فرعون بهذا الكلام توبيخ موسى عليه السلام ، ويعني بالفعلة : قتله للقبطي ، والواو في قوله : { وَأَنتَ } إن كانت للحال فقوله من الكافرين ، معناه كافراً بهذا الدين الذي جئت به لأن موسى إنما أظهر لهم الإسلام بعد الرسالة ، وقد كان قبل ذلك مؤمناً ، ولم يعلم بذلك فرعون ، وقيل : معناه من الكافرين بنعمتي ، وإن كانت الواو للاستئناف : فيحتمل أن يريد من الكافرين بديني ، ومن الكفارين بنعمتي { قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين } القائل هنا هو موسى عليه السلام ، والضمير في قوله : فعلتها لقتله القبطي ، واختلف في معنى قوله : { مِنَ الضالين } ، فقيل : معناه من الجاهلين بأن وكزتي تقتله ، وقيل؛ معناه من الناسين ، فهو كقوله : { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا } [ البقرة : 282 ] وقوله { إِذاً } صلة في الكلام ، وكأنها بمعنى حنيئذ ، قال ذلك ابن عطية { فَفَرَرْتُ مِنكُمْ } أي من فرعون وقومه ، ولذلك جمع ضمير الخطاب بعد أن أفرده في قوله { تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ } { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ } معنى { عَبَّدتَّ } : ذللت واتخذتهم عبيداً فمعنى هذا الكلام أنك عددت نعمة عليّ تعبيد بني إسرائيل ، وليست في الحقيقة بنعمة إنما كانت نقمة ، لأنك كنت تذبح أبناءهم ، ولذلك وصلت أنا إليك فربيتني ، فالإشارة بقوله : { وَتِلْكَ } إلى التربية ، و { أَنْ عَبَّدتَّ } في موضع رفع عطف بيان على تلك ، أو في موضع نصب على أنه مفعول من أجله ، وقيل : معنى الكلام تربيتك نعمة علي لأنك عبدت بني إسرائيل وتركتني فهي في المعنى الأول إنكار لنعمته وفي الثاني اعتراف بها { قَالَ لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين } لما أظهر فرعون الجهل بالله فقال : وما رب العالمين؟ أجابه موسى بقوله : { رَبُّ السماوات والأرض } ، فقال : { أَلاَ تَسْتَمِعُونَ } ؟ تعجباً من جوابه فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله : { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين } لأن وجود الإنسان وآبائه أظهر الأدلة عند العقلاء وأعظم البراهين ، فإن أنفسهم أقرب الأشياء إليهم فيستدلون بها على وجود خالقهم ، فلما ظهرت هذه الحجة حاد فرعون عنها ونسب موسى إلى الجنون مغالطة منه ، وأيد الازدراء والتهكم في قوله : { رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ } فزاد موسى في إقامة الحجة بقوله : { رَبُّ المشرق والمغرب } ، لأن طلوع الشمس وغروبها آية ظاهرة لا يمكن أحداً جحدها ، ولا أن يدعيها لغير الله ، ولذلك أقام إبراهيم الخليل بها الحجة على نمرود ، فلما انقطع فرعون بالحجة رجع إلى الاستعلاء والتغلب فهدّده بالسجن ، فأقام موسى عليه الحجة بالمعجزة ، وذكرها له بتلطف طمعاً في إيمانه ، فقال : { أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ } والواو واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام وتقديره : أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين؟ وقد تقدم في الأعراف ذكر العصا واليد ، وماذا تأمرون؟ وأرجه ، وحاشرين فإن قيل : كيف قال أولاً : { إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } ، ثم قال آخراً { إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } ؟ فالجواب أنه لايَنَ أولاً طمعاً في إيمانهم ، فلما رأى منهم العناد والمغالطة : وبخهم بقوله : { إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } ، وجعل ذلك في مقابلة قول فرعون : { إِنَّ رَسُولَكُمُ . . . لَمَجْنُونٌ } .
(1/1299)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60)
{ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ } هو يوم الزينة { نَتَّبِعُ السحرة } أي نتبعهم في نصرة ديننا لا في عمل السحر ، لأن عمل السحر كان حراماً { بِعِزَّةِ فِرْعَونَ } قسم أقسموا به ، وقد تقدم في [ الأعراف : 117 ] تفسير ما يأفكون ، وما بعد ذلك { لاَ ضَيْرَ } أي لا يضرنا ذلك لأننا ننقلب إلى الله { أَسْرِ بعبادي } يعني بين إسرائيل { إِنَّكُم مّتَّبَعُونَ } إخبار باتباع فرعون { لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } الشرذمة الطائفة من الناس ، وفي هذا احتقار لهم على أنه روي أنهم كانوا ستمائة ألف ، ولكن جنود فرعون أكثر منهم بكثير { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } يعني التي بمصر ، والعيون الخلجان الخارجة من النيل ، وكانت ثم عيون في ذلك الزمان ، وقيل يعني الذهب والفضة وهو بعيد { وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } مجالس الأمراء والحكام ، وقيل : المنابر ، وقيل : المساكن الحسان { كَذَلِكَ } في موضع خفض صفة لمقام أو في موضع نصب على تقدير : أخرجناهم مثل ذلك الإخراج ، أو في موضع رفع أنه خبر ابتداء تقديره : الأمر كذلك { وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ } أي أورثهم الله مواضع فرعون بمصر ، على أن التواريخ لم يذكر فيها ملك بني إسرائيل لمصر ، وإنما المعروف أنهم ملكوا الشام ، فتأويله على هذا أورثهم مثل ذلك بالشام { فَأَتْبَعُوهُم } أي لحقوهم ، وضمير الفاعل لفرعون وقومه ، وضمير المفعول لبني إسرائيل { مُّشْرِقِينَ } معناه داخلين في وقت الشروق وهو طلوع الشمس ، وقيل : معناه نحو المشرق وانتصابه على الحال .
(1/1300)
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80)
{ تَرَاءَى الجمعان } وزن تراء تفاعل ، وهو منصوب من [ الرؤية ] ، والجمعان جمع موسى وجمع فرعون ، أي رأى بعضهم بعضاً { فانفلق } تقدير الكلام فضرب موسى البحر فانفلق { كُلُّ فِرْقٍ } أي كل جزء منه والطود الجبل ، ورُوي أنه صار في البحر اثنا عشر طريقاً ، لكل سبط من بني إسرائيل طريق { وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين } يعني بالآخرين فرعون وقومه ، ومعنى { أَزْلَفْنَا } : قربناهم من البحر ليغرقوا ، وثم هنا ظرف يراد به حيث انفلق البحر وهو بحر القلزم [ الأحمر ] { مَا تَعْبُدُونَ } إنما سألهم مع علمه بأنهم يعبدن الأصنام ليبين لهم أن ما يعبدونه ليس بشيء ، ويقيم عليهم الحجة { قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً } إن قيل : لم صرحوا بقولهم نعبد ، مع أن السؤال وهو قوله : { مَا تَعْبُدُونَ } يغني عن التصريح بذلك ، وقياس مثل هذا الاستغناء بدلالة السؤال كقوله : { مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ } [ النحل : 30 ] ؟ قالوا : { خَيْراً } [ النحل : 30 ] ، فالجواب أنهم صرحوا بذلك على وجه الافتخار والابتهاج بعبادة الأصنام ، ثم زادوا قولهم : { فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ } مبالغة في ذلك { بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا } اعتراف بالتقليد المحض { إِلاَّ رَبَّ العالمين } استثناء منقطع وقيل : متصل لأن في آبائهم من عبد الله تعالى : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } أسند المرض إلى نفسه وأسند الشفاء إلى الله تأدباً مع الله .
(1/1301)
وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90)
{ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي } قيل أراد كذباته الثلاثة الواردة في الحديث وهي قوله في سارة زوجته : هي أختي ، وقوله : { إِنِّي سَقِيمٌ } [ الصافات : 89 ] وقوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ } [ الأنبياء : 63 ] أراد الجنس على الإطلاق؛ لأن هذه الثلاثة من المعاريض فلا إثم فيها { لِسَانَ صِدْقٍ } ثناء جميلاً { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ } وما بعده منقطع عن كلام إبراهيم ، وهو من كلام الله تعالى ، ويحتمل أن يكون أيضاً من كلام إبراهيم { إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } ، قيل : سليم من الشرك والمعاصي وقيل : الذي يلقى ربه وليس في قلبه شيء غيره وقيل : بقلب لديغ من خشية الله ، والسليم هو اللديغ : لغة ، وقال الزمخشري : هذا من بدع التفاسير ، وهذا الاستثناء يحتمل أن يكون متصلاً فيكون : { مَنْ أَتَى الله } مفعولاً ، بقوله : { لاَ يَنفَعُ } والمعنى على هذا أن المال لا ينفع إلا من أنفقه في طاعة الله وأن النبيين لا ينفعون إلا من علمهم الدين وأوصاهم بالحق ويحتمل أيضا أن يكون متصلاً ويكون قوله : { مَنْ أَتَى الله } بدلاً من قوله : { مَالٌ وَلاَ بَنُونَ } على حذف مضاف تقديره : إلا مال من أتى الله وبنوه ويحتمل أن يكون منقطعاً بمعنى لكن { وَأُزْلِفَتِ الجنة } أي قربت .
(1/1302)
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116)
{ وَبُرِّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ } يعني المشركين بدلالة ما بعده { فَكُبْكِبُواْ فِيهَا } كبكبوا : مضاعف من كب كررت حروفه دلالة على تكرير معناه : أي كبهم الله في النار مرة بعد مرة ، والضمير للأصنام ، والغاوون هم المشركون ، وقيل : الضمير للمشركين ، والغاوون هم الشياطين { نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العالمين } أي نجعلكم سواء معه { وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ المجرمون } يعني كبراءهم ، وأهل الجرم والجراءة منهم { حَمِيمٍ } أي خالص الودّ ، قال الزمخشري : جمع الشفعاء ووحد الصديق لكثرة الشفعاء في العادة ، وقلة الأصدقاء { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين } أسند الفعل إلى القوم ، وفيه علامة التأنيث ، لأن القوم في معنى الجماعة والأمة ، فإن قيل : كيف قال المرسلين بالجمع وإنما كذبوا نوحاً وحده؟ فالجواب من وجهين : أحدهما أنه أراد الجنس كقولك : فلان يركب الخيل وإنما لم يركب إلى فرساً واحداً والآخر أن من كذب نبياً واحداً فقد كذب جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لأن قولهم واحد ودعوتهم سواء ، وكذلك الجواب في : كذبت عاد المرسلين وغيره { واتبعك الأرذلون } جمع أرذل ، وقد تقدّم الكلام عليه في قوله { أَرَاذِلُنَا } في [ هود : 27 ] { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين } يعني الذين سموهم أرذلين ، فإنّ الكفار أرادوا من نوح أن يطردهم ، كما أرادت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرد عمار بن ياسر وصهيباً وبلالاً وأشباههم من الضعفاء { المرجومين } يحتمل أن يريدوا الرجم بالحجارة ، أو بالقول وهو الشتم .
(1/1303)
فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148)
{ فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ } أي احكم بيننا { فِي الفلك المشحون } أي المملوء { بِكُلِّ رِيعٍ } الريع المكان المرتفع وقيل الطريق { آيَةً } يعني المباني الطوال وقبل أبراج الحمام { مَصَانِعَ } جمع مصنع وهو ما أتقن صنعه من المباني ، وقيل : مأخذ الماء { أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ } الآية تفسير لقوله أمدكم بما تعلمون فأبْهَمَ أولاً ثم فسره { خُلُقُ الأولين } بضم الخاء واللام أي عادتهم والمعنى أنهم قالوا : ما هذا الذي عليه من ديننا إلا عادة الناس الأولين ، وقرأ [ ابن كثير والكسائي وأبو عمرو ] بفتح الخاء وإسكان اللام ، ويحتمل على هذا وجهين : أحدهما أنه بمعنى الخلقة والمعنى ما هذه الخلقة التي نحن عليها إلا خلقة الأولين ، والآخر أنها من الاختلاق بمعنى الكذب ، والمعنى ما هذا الذي جئت به إلا كذب الأولين { أَتُتْرَكُونَ } تخويف لهم معناه : أتطمعون أن تتركوا في النعم على كفركم { وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ } الطلع عنقود التمر في أول نباته قبل أن يخرج من الكم ، والهضيم : اللين الرطب ، فالمعنى طلعها يتم ويرطب ، وقيل : هو الرَّخْص أول ما يخرج ، وقيل : الذي ليس فيه نوى ، فإن قيل : لم ذكر النخل بعد ذكر الجنات ، والجنات تحتوي على النخل؟ فالجواب : أن ذلك تجريد كقوله : { فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [ الرحمن : 68 ] ، ويحتمل أنه أراد الجنات التي ليس فيها نخل ثم عطف عليها النخل .
(1/1304)
وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
{ وَتَنْحِتُونَ } ذكر في [ الأعراف : 74 ] { فَارِهِينَ } قرىء بألف وبغير ألف وهو منصوب على الحال في الفاعل من تنحتون ، وهو مشتق من الفراهة وهي النشاط والكيس ، وقيل : معناه أقوياء وقيل : أشرين بطرين { مِنَ المسحرين } مبالغة في المسحورين ، وهو من السحر بكسر السين ، وقيل : من السحر بفتح السين وهي الرؤية ، والمعنى على هذا إنما أنت بشر { لَّهَا شِرْبٌ } أي حظ من الماء { فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ } لما تغيرت ألوانهم حسبما أخبرهم صالح عليه السلام ندموا حين لا تنفعهم الندامة { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة } [ الحجر : 73 ، 83 ، المؤمنون : 41 ] التي ماتوا منها وهي العذاب المذكور هنا { مِّنَ القالين } أي من المبغضين ، وفي قوله : ( قال ومن القالين ) : ضرب من ضروب التجنيس { مِمَّا يَعْمَلُونَ } أي تجّني من عقوبة عملهم أو اعصمني من عملهم ، والأول أرجح { إِلاَّ عَجُوزاً } يعني امرأة لوط { فِي الغابرين } ذكر في [ الأعراف : 83 ] وكذلك { وَأَمْطَرْنَا } [ الأعراف : 84 ] { أَصْحَابُ لْئَيْكَةِ } قرىء بالهمز وخفض التاء مثل الذي في الحجر وق ، ومعناه الغيضة من الشجر ، وقرىء هنا وفي ص : بفتح اللام والتاء ، فقيل : إنه مسهل من الهمز ، وقيل : اسم بلدهم ، ويقوي هذا : القول بأنه على هذه القراءة بفتح التاء غير منصرف ، يدل على ذلك أنه اسم علم ، وضعّف ذلك الزمخشري ، وقال : إن الأيكة اسم لا يعرف { إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ } لم يقل هنا أخوهم كما قال في قصة نوح وغيره ، وقيل : إن شعيباً بعث إلى مدين ، وكان من قبيلتهم ، فلذلك قال : { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } [ الأعراف : 85 ، هود : 84 ، العنكبوت : 36 ] ، وبعث أيضاً إلى أصحاب الأيكة ولم يكن منهم ، فلذلك لم يقل أخوهم ، فكان شعيباً على هذا مبعوثاً إلى القبلتين وقيل : إن أصحاب الأيكة مدين ، ولكنه قال أخوهم حين ذكرهم باسم قبيلتهم ، ولم يقل أخوهم حين نسبهم إلى الأيكة التي هلكوا فيها تنزيهاً لشعيب عن النسبة إليها { مِنَ المخسرين } أي من الناقصين للكيل والوزن { بالقسطاس } الميزان المعتدل { والجبلة } يعني القرون المتقدمة { عَذَابُ يَوْمِ الظلة } هي سحابة من نار أحرقتهم ، فأهلك الله مدين بالصيحة ، وأهل أصحاب الأيكة بالظلة ، فإن قيل : لم كرر قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } مع كل قصة؟ فالجواب : أن ذلك أبلغ من الاعتبار ، وأشدّ تنبيهاً للقلوب وأيضاً فإن كل قصة منها كأنها كلام قائم مستقل بنفسه ، فختمت بما ختمت به صاحبتها .
(1/1305)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
{ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين } الضمير للقرآن { الروح الأمين } يعني جبريل عليه السلام { على قَلْبِكَ } إشارة إلى حفظه إياه لأن القلب هو الذي يحفظ { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ } يعني كلام العرب هو متعلق بنزل أو المنذرين { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأولين } المعنى أن القرآن مذكور في كتب المتقدّمين ففي ذلك دليل على صحته ثم أقام الحجة على قريش بقوله { أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بني إِسْرَائِيلَ } بأنه من عند الله آية لكم وبرهان ، والمراد من أسلم من بني إسرائيل : كعبد الله بن سلام وقيل : الذين كانوا يبشرون بمبعثه عليه الصلاة والسلام { وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ على بَعْضِ الأعجمين } الآية جمع أعجم ، وهو الذي لا يتكلم سواء كان إنساناً أو بهيمة أو جماداً والأعجمي : المنسوب إلى [ العجم أي غير العرب ] وقيل : بمعنى الأعجم ، ومعنى الآية : أن القرآن لو نزل على من لا يتكلم ، ثم قرأه عليهم لا يؤمنوا لإفراط عنادهم ، ففي ذلك تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم على كفرهم به مع وضوح برهانه { كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ المجرمين } معنى { سَلَكْنَاهُ } . أدخلناه ، والضمير للتكذيب الذي دل عليه ما تقدم من الكلام ، أو القرآن أي سلكناه في قلوبهم مكذباً به ، وتقدير قوله : { كَذَلِكَ } مثل هذا السلك سلكناه ، { المجرمين } : يحتمل أن يريد به قريشاً أو الكفار المتقدمين و { لاَ يُؤْمِنُونَ } : تفسير للسلك الذي سلكه في قلوبهم { فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ } تمنوا أن يؤخروا حين لم ينفعهم التمني { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } توبيخ لقريش على استعجالهم بالعذاب في قولهم : { وَأَلْقِ عَصَاكَ } [ النمل : 10 ] { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء } [ الأنفال : 32 ] وشبه ذلك { أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ } المعنى أن مدّة إمهالهم لا تغني مع نزول العذاب بعدها ، وإن طالت مدة سنين ، لأن كل ما هو آت قريب ، قال بعضهم { سِنِينَ } يريد به عمر الدنيا { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } المعنى أن الله لم يهلك قوماً إلا بعد أن أقام الحجة عليهم بأن أرسل إليهم رسولاً فأنذرهم فكذبوه { ذكرى } منصوب على المصدر من معنى الإنذار ، أو على الحال من الضمير من منذرون ، أو على المفعول من أجله ، أو مرفوع على أنه خبر ابتداء مضمر { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين } الضمير للقرآن ، وهو ردّ على من قال أنه كهانة نزلت به الشياطين على محمد { وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } أي ما يمكنهم ذلك ولا يقدرون عليه ، ولفظ : { مَا يَنبَغِي } تارة يستعمل بمعنى لا يمكن وتارة بمعنى لا يليق { إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ } تعليل لكون الشياطين لا يستطيعون الكهانة ، لأنهم منعوا من استراق السمع منذ بعث محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد كان أمر الكهان كثيراً منتشراً قبل ذلك .
(1/1306)
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223)
{ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } عشيرة الرجل هم قرابته الأدنون ، ولما نزلت هذه الآية " أنذر النبي صلى الله عليه وسلم قرابته فقال : يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ، ثم نادى كذلك ابنته فاطمة وعمته صفية " ، قال الزمخشري : في معناه قولان : أحدهما أنه أمر أن يبدأ بإنذار أقاربه قبل غيرهم من الناس ، والآخر أنه أمر أن لا يأخذه ما يأخذ القريب من الرأفة بقريبه ، ولا يخافهم بالإنذار { واخفض جَنَاحَكَ } عبارة عن لين الجانب والرفق ، وعن التواضع { الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } أي حين تقوم في الصلاة ، ويحتمل أن يريد سائر التصرفات { وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين } معطوف على الضمير المفعول في قوله يراك ، والمعنى أنه يراك حين تقوم وحين تسجد ، وقيل : معناه يرى صلاتك مع المصلين ، ففي ذلك إشارة إلى الصلاة مع الجماعة ، وقيل : يرى تقلب بصرك في المصلين خلفك لأنه عليه الصلاة والسلام كان يراهم من وراء ظهره { تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } هذا جواب السؤال المتقدم وهو قوله : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين } والأفاك الكذاب ، والأثيم الفاعل للإثم يعني بذلك الكهان ، وفي هذا ردّ على من قال أن الشياطين تنزلت على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالكهانة ، لأنها لا تنزل إلا على أفاك أثيم ، وكان صلى الله عليه وسلم على غاية الصدق والبرّ { يُلْقُونَ السمع } معناه يستمعون والضمير يحتمل أن يكون للشياطين بمعنى أنهم يستمعون إلى الملائكة ، أو يكون للكهان بمعنى أنهم يستمعون إلى الشياطين ، وقيل : { يُلْقُونَ } بمعنى يلقون المسموع ، والضمير يحتمل أيضاً على هذا أن يكون للشياطين ، لأنهم يلقون الكلام إلى الكهان أو يكون للكهان لأنهم يلقون الكلام إلى الناس { وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } يعني الشياطين أو الكهان لأنهم يكذبون فيما يخبرون به عن الشياطين .
(1/1307)
وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
{ والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون } لما ذكر الكهان ذكر الشعراء ليبين أن القرآن ليس بكهانة ولا شعر لتابين أوصافه وما بين أوصاف الشعر والكهانة ، وأراد الشعراء الذين يلقون من الشعر مالا ينبغي كالهجاء والمدح بالباطل وغير ذلك ، وقيل : أراد شعراء الجاهلية ، وقيل : شعراء كفار قريش الذين كانوا يؤذون المسلمين بأشعارهم ، والغاوون قيل : هم رواه الشعر وقيل : هم سفهاء الناس الذي تعجبهم الأشعار لما فيها من اللغو والباطل ، وقيل : هم الشياطين { فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } استعارة وتمثيل أي يذهبون في كل وجه من الكلام الحق والباطل ، ويفرطون في التجوز حتى يخرجوا إلى الكذب { إِلاَّ الذين آمَنُواْ } الآية : استثناء من الشعراء يعني بهم شعراء المسلمين كحسان بن ثابت وغيره ممن اتصف بهذه الأوصاف ، وقيل : إن هذه الآية مدنية { وَذَكَرُواْ الله } قيل : معناه ذكروا الله في أشعارهم ، وقيل : يعني الذكر على الإطلاق { وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } إشارة إلى ما قاله حسان بن ثابت وغيره من الشعراء في هجو الكفار بعد أن هجا الكفار النبي صلى الله عليه وسلم { وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } وعيد للذين ظلموا والظلم هنا بمعنى الاعتداء على الناس لقوله : { مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } وعمل ينقلبون في أيّ لتأخره ، وقيل : إن العامل في أيّ سيعلم .
(1/1308)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1)
{ آيَاتُ القرآن وَكِتَابٍ مُّبِينٍ } عطف الكتاب على القرآن كعطف الصفات بعضها على بعض ، وإن كان الموصوف واحداً .
(1/1309)
هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)
{ هُدًى وبشرى } في موضع نصب على المصدر ، أو في موضع رفع على أنه خبر ابتداء مضمر .
(1/1310)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3)
{ وَهُم بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ } تحتمل هذه الجملة أن تكون معطوفة ، فتكون بقية صلة الذين ، أو تكون مستأنفة وتمت الصلة قبلها ، ورجح الزمخشري هذا .
(1/1311)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
{ يَعْمَهُونَ } يتحيرون { سواء العذاب } يعني في الدنيا وهو القتل يوم بدر ، ويحتمل أن يريد عذاب الآخرة ، والأول أرجح لأنه ذكر الآية بعد ذلك { لَتُلَقَّى القرآن } أي تعطاه .
(1/1312)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8)
{ آنَسْتُ } ذكر في [ طه : 11 ] وكذلك قبس : [ طه : 12 ] ، والشهاب : النجم شبَّه القبس به ، وقرىء بإضافة شهاب إلى قبس وبالتنوين على البدل أو الصفة ، فإن قيل : كيف قال هنا : { سَآتِيكُمْ } وفي الموضع الآخر : { لعلي آتِيكُمْ } [ طه : 10 ، القصص : 29 ] ؛ والفرق بين الترجي والتسويق أن التسويق متيقن الوقوع بخلاف الترجي؟ فالجواب أنه قد يقول الراجي : سيكون كذا؛ إذا قوي رجاؤه { تَصْطَلُونَ } معناه : تستدفئون بالنار من البرد ، ووزنه تفعلون ، وهو مشتق من صلى بالنار والطاء بدل من التاء { أَن بُورِكَ مَن فِي النار } { أَن } مفسرة ، و { بُورِكَ } من البركة ، { مَن فِي النار } : يعني من في مكان النار { وَمَنْ حَوْلَهَا } : من حول مكانها : يريد الملائكة الحاضرين وموسى عليه السلام ، قال الزمخشري : والظاهر أنه عام في كل من كان في تلك الأرض ، وفي ذلك الوادي وما حوله من أرض الشام { وَسُبْحَانَ الله } يحتمل أن يكون مما قيل في النداء لموسى عليه السلام ، أو يكون مستأنفاً وعلى كلا الوجهين قصد به تنزيه الله مما عسى أن يخطر ببال السامع من معنى النداء ، أو في قوله : { أَن بُورِكَ مَن فِي النار } لأن المعنى نودي أن بورك من في النار ، إذ قال بعض الناس فيه ما يجب تنزيه الله عنه .
(1/1313)
وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
{ وَأَلْقِ عَصَاكَ } هذه الجملة معطوفة على قوله : { بُورِكَ مَن فِي النار } ، لأن المعنى يؤدي إلى أن : { بُورِكَ مَن فِي النار } ، وأن { وَأَلْقِ عَصَاكَ } وكلاهما تفسير للنداء { كَأَنَّهَا جَآنٌّ } الجان : الحية ، وقيل : الحية الصغيرة ، وعلى هذا يشكل قوله : { فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ } [ الأعراف : 107 ، الشعراء : 32 ] ، والجواب أنها ثعبان في جِرْمها ، جانٌ في سرعة حركتها { وَلَمْ يُعَقِّبْ } لم يرجع أو لم يلتفت { إِلاَّ مَن ظَلَمَ } استثناء منقطع تقديره : لكن من ظلم من سائر الناس ، لا من المرسلين ، وقيل : إنه متصل على القول بتجويز الذنوب عليهم ، وهذا بعيد؛ لأن الصحيح عصمتهم من الذنوب ، وأيضاً فإن تسميتهم ظالمين شنيع على القول بتجويز الذنوب عليهم { بَدَّلَ حُسْناً } أي عمل صالحاً { فِي جَيْبِكَ } ذكر في [ طه : 22 ] { فِي تِسْعِ آيَاتٍ } متصل بقوله : ألق وأدخل ، تقديره : نسير لك في جملة تسع آيات ، وقد ذكرت الآيات التسع في [ الإسراء : 101 ] { إلى فِرْعَوْنَ } متعلق بفعل محذوف يقتضيه الكلام تقديره : اذهب بالآيات التسع إلى فرعون { مُبْصِرَةً } أي ظاهرة واضحة الدلالة ، وأسند الإبصار لها مجازاً ، وهو في الحقيقة لمتأملها { واستيقنتهآ } يعني أنهم جحدوا بها مع أنهم تيقنوا أنها الحق فكفرهم عناد ، ولذلك قال فيه : { ظُلْماً } . والواو فيه واو الحال ، وأضمرت بعدها قد عَلَوْا يعني تكبروا .
(1/1314)
وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17)
{ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } أي ورث عنه النبوة والعلم والملك { عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير } أي فهمنا من أصوات الطير المعاني التي في نفوسها { وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } عموم معناه الخصوص ، والمراد بهذا اللفظ التكثير : كقولك : فلان يقصده كل أحد ، وقوله : علمنا وأوتينا؛ يحتمل أن يريد نفسه وأباه أو نفسه خاصة على وجه التعظيم ، لأنه كان ملكاً { وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ } اختلف الناس في عدد جنود سليمان اختلافاً شديداً ، تركنا ذكره لعدم صحته { فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي : يكفُّون ويردّ أوَّلهم إلى آخرهم ، ولا بدّ لكل ملك أو حاكم في وَزَعَةٍ يدفعون الناس .
(1/1315)
حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
{ حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل } ظاهر هذا أن سليمان وجنوده كانوا مشاة بالأرض ، أو ركباناً حتى خافت منهم النمل ، ويحتمل أنهم كانوا في الكرسي المحمول بالريح ، وأحست النملة بنزولهم في وادي النمل { قَالَتْ نَمْلَةٌ } النمل : حيوان بل حشرة فطن قويّ الحس يدخر قوته ، ويقسم الحبة بقسمين لئلا تنبت ، ويقسم حبة الكسبرة على أربع قطع لأنها تنبت إذا قمست قسمين ، ولإفراط إدراكها قالت هذا القول ، ورُوي أن سليمان سمع كلامها ، وكان بينه وبينها ثلاثة أميال ، وهذا لا يسمعه البشر إلى من خصة الله بذلك { ادخلوا } خاطبتهم مخطابة العقلاء ، لأنها أمرتهم بما يؤمر به العقلاء { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ } يحتمل أن يكون جواباً للأمر ، أو نهياً بدلاً من الأمر لتقارب المعنى { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } الضمير لسليمان وجنوده ، والمعنى اعتذار عنهم لو حطموا النمل أي لو شعروا بهم لم يحطموهم { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً } تبسم لأحد أمرين : أحدهما سروره بما أعطاه الله؛ والآخر ثناء النملة عليه وعلى جنوده ، فإن قولها هم لا يشعرون : وصف لهم بالتقوى والتحفظ من مضرة الحيوان .
(1/1316)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20)
{ وَتَفَقَّدَ الطير } اختلف الناس في معنى تفقده للطير ، فقيل : ذلك لعنايته بأمور ملكه ، وقيل : لأن الطير كانت تظله فغاب الهدهد فدخلت الشمس عليه من موضعه { أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين } أم منقطعة ، فإنه نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره ، { فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد } أي لا أراه ولعله حاضر وستره ساتر ، ثم علم بأنه غائب فأخبر بذلك .
(1/1317)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22)
{ فَمَكَثَ } أي أقام ويجوز فتح الكاف وضمها ، وبالفتح قرأ عاصم والباقون بالضم ، والفعل يحتمل أن يكون مسنداً إلى سليمان عليه السلام أو إلى الهدهد ، وهو أظهر { غَيْرَ بَعِيدٍ } يعني زمان قريب { أَحَطتُ } أي أحطت علماً بما لم تعلمه { مِن سَبَإٍ } يعني قبيلة من العرب ، وجدّهم الذي يعرفون به : سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، ومن صرفه أراد الحيّ أو الأب ، ومن لم يصرفه سبأ أراد القبيلة أو البلدة ، وقرىء بالتسكين لتوالي الحركات ، وعلى القراءة بالتنوين يكون في قوله : من سبإ بنإ ضرب من أدوات البيان ، وهو التجنيس .
(1/1318)
إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)
{ وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ } المرأة بلقيس بنت شراحيل : كان أبوها ملك اليمن ولم يكن له ولد غيرها ، فغلبت بعده على الملك ، والضمير في تملكهم يعود على سبأ ، وهم قومها { مِن كُلِّ شَيْءٍ } عموم يراد به الخصوص فيما يحتاجه الملك { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } يعني سرير ملكها ، ووقف بعضهم على عرش ، ثم ابتدأ { عَظِيمٌ } { وَجَدتُّهَا } على تقدير عظيم أن { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله } ، وهذا خطأ ، وإنما حمله عليه الفرار من وصف عرشها بالعظمة .
(1/1319)
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25)
{ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ } من كلام الهدهد أو من كلام الله ، وقرأ الجمهور ألاَّ بالتشديد ، وأن في موضع نصب على البدن من أعمالهم ، أو في موضع خفض على البدل من السبيل ، أو يكون التقدير : لا يهتدون لأن يسجدوا بحذف اللام ، وزيادة لا ، وقرأ الكسائي : ألا يا اسجدوا بالتخفيف على أن تكون لا حرف تنبيه وأن تكون الياء حرف نداء فيوقف عليها بالألف على تقدير يا قوم ثم يبتدىء اسجدوا { يُخْرِجُ الخبء } في اللغة : الخفي ، وقيل : معناه هنا : الغيب ، وقيل : يخرج النبات من الأرض ، واللفظ يعم كل خفيّ ، وبه فسره ابن عباس .
(1/1320)
اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28)
{ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ } أي تنح إلى مكان قريب لتسمع ما يقولون ، وروي أنه دخل عليها من كوّة فألقى إليها الكتاب وتوارى في الكوة ، وقيل : إن التقدير انظر ماذا يرجعون ، تول عنهم فهو من المقلوب والأول أحسن { مَاذَا يَرْجِعُونَ } من قوله يرجع بعضهم إلى بعض القول .
(1/1321)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
{ قَالَتْ ياأيها الملأ } قبل هذا الكلام محذوف تقديره : فألقى الهدهد إليها الكتاب فقرأته ، ثم جمعت أهل ملكها فقالت لهم : يا أيها الملأ { كِتَابٌ كَرِيمٌ } وصفته بالكرم لأنه من عند سليمان ، أو لأن فيه اسم الله ، أو لأنه مختوم كما جاء في الحديث : كرم الكتاب ختمه { مِن سُلَيْمَانَ } يحتمل أن يكون هذا نص الكتاب بدأ فيه بالعنوان ، وأن يكون من كلامها : أخبرتهم أن الكتاب من سليمان { وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } يحتمل أن يكون من الانقياد بمعنى مستسلمين ، أو يكون من الدخول في الإسلام { أُوْلُو قُوَّةٍ } يحتمل أن يريد قوة الأجساد أو قوة الملك والعدد { وكذلك يَفْعَلُونَ } من كلام الله عز وجل تصديقاً لقولها فيوقف على ما قبله ، أو من كلام بلقيس تأكيداً للمعنى الذي أرادته ، وتعني : كذلك يفعل هؤلاء بنا .
(1/1322)
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
{ وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ } قالت لقومها إني أجرب هذا الرجل بهدية من نفائس الأموال ، قإن كان ملكاً دنيوياً : أرضاه المال ، ون كان نبياً لم يرضه المال ، وإنما يرضيه دخولنا في دينه ، فبعثت إليه هدية عظيمة وصفها الناس ، واختصرنا وصفها لعدم صحته .
(1/1323)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36)
{ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } إنكار للهدية لأن الله أغناه عنها بما أعطاه { بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } أي أنتم محتاجون إليها فتفرحون بها ، وأنا لست كذلك .
(1/1324)
ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
{ ارجع إِلَيْهِمْ } خطاب للرسول ، وقيل : للهدهد ، والأول أرجح ، لأن قوله : { فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ } مسند إلى الرسول { لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا } أي لا طاقة لهم بها .
(1/1325)
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38)
{ قَالَ ياأيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } القائل : سليمان ، والملأ جماعة من الجن والإنس ، وطلب عرشها قبل أن يأتوه مسلمين ، لأنه وصف له بعظمة ، فأراد أن يأخذه قبل أن يسلموا فيمنع إسلامهم من أخذ أموالهم ، فمسلمين على هذا من الدخول في دين الإسلام ، وقيل : إنما طلب عرشها قبل أن يأتوه مسلمين ليظهر لهم قوّته ، فمسلمين على هذا بمعنى منقادين .
(1/1326)
قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)
{ قَالَ عِفْرِيتٌ } روي عن وهب بن منبه أن اسم هذا العفريت كوزن { قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ } قبل أن تقوم من موضع الحكم ، وكان يجلس من بكرةَ إلى الظهر ، وقيل : معناه قبل أن تستوي من جلوسك قائماً .
(1/1327)
قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
{ قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب } هو آصف بن برخيا ، وكان رجلاً صالحاً من بني إسرائيل كان يعلم اسم الله الأعظم وقيل : هو الخضر ، وقيل هو جبريل ، والأول أشهر ، وقيل سليمان وهذا بعيد { آتِيكَ بِهِ } في الموضعين : يحتمل أن يكون فعلاً مستقلاً او اسم فاعل { قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } الطرف العين ، فالمعنى على هذا قبل أن تغمض بصرك إذا نظرت إلى شيء وقيل : الطرف تحريك الأجفان إذا نظرت { فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } قيل : هنا محذوف تقديره : فجاءه الذي عنده ، علم من الكتاب بعرشها ، ومعنى مستقرّاً عنده حاصلاً عنده وليس هذا بمستقر الذي يقدر النحويون تعلق المجرورات به خلافاً لمن فهم ذلك { يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } أي منفعة الشكر لنفسه .
(1/1328)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41)
{ قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا } تنكيره تغيير وصفه وستر بعضه ، وقيل : الزيادة فيه والنقص منه ، وقصد بذلك اختبار عقلها وفهمها { أتهتدي } يحتمل أن يرتد : تهتدي لمعرفة عرشها ، أو للجواب عنه إذا سئلت أو للإيمان .
(1/1329)
فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42)
{ فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ } كان عرشها قد وصل قبلها إلى سليمان فأمر بتنكيره ، وأن يقال لها أهكذا عرشك؟ أي أمثل هذا عرشك؟ لئلا تفطن أنه هو ، فأجابته بقوله : { كَأَنَّهُ هُوَ } . جواباً عن السؤال ، ولم تقل هو تحرزاً من الكذب أو من التحقيق في محل الاحتمال { وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا } هذا من كلام سليمان وقومه لما رأوها قد آمنت قالوا ذلك؛ اعترافاً بنعمة الله عليهم ، في أن آتاهم العلم قبل بلقيس ، وهداهم للإسلام قبلها ، والجملة معطوفة على كلام محذوف تقديره : قد أسلمت هي وعلمت وحدانية الله وصحة النبوّة وأوتينا نحن العلم قبلها .
(1/1330)
وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43)
{ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله } هذا يحتمل أن يكون من كلام سليمان وقومه ، أو من كلام الله تعالى ، ويحتمل أن يكون { مَا كَانَت تَّعْبُدُ } فاعلاً أو مفعولاً ، فإن كان فاعلاً ، فالمعنى صدها ما كانت تعبد عن عبادة الله والدخول في الإسلام حتى إلى هذا الوقت ، وإن كان مفعولاً : فهو على إسقاط حرف الجر ، والمعنى صدها الله أو سليمان عن ما كانت تعبد من دون الله فدخلت في الإسلام .
(1/1331)
قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
{ قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا } الصرح في اللغة هو القصر ، وقيل : صحن الدار ، روي أن سليمان أمر قبل قدومها فبنى له على طريقها قصراً من زجاج أبيض ، وأجرى الماء من تحته ، وألقى فيه دواب البحر من السمك وغيره وضع سريره في صدره فجلس عليه فلما رأته حسبته لجة ، واللجة الماء المجتمع كالبحر ، فكشفت عن ساقيها لتدخله لما أمرت بدخوله ، وروي أن الجن كرهوا تزوج سليمان لها ، فقالوا له : أن عقلها مجنون ، وإن رجلها كحافر الحمار فاختبر عقلها بتنكير العرش فوجدها عاقلة ، واختبر ساقها بالصرح فلما كشف عن ساقيها وجدها أحسن الناس ساقاً ، فتزوجها وأقرها على ملكها باليمن ، وكان يأتيها مرة في كل شهر ، وقيل : أسكنها معه بالشام { قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ } لما ظنت أن الصرح لجة ماء وكشفت عن ساقيها لتدخل الماء قال لها سليمان : إنه صرح ممرّد والممرّد الأملس ، وقيل الطويل ، والقوارير جمع قارورة وهي الزجاجة .
{ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } تعني بكفرها فيما تقدم { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ } هذا ضرب من ضروب التجنيس .
(1/1332)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
{ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ } الفريقان من آمن ومن كفر؛ واختصامهم؛ اختلافهم وجدالهم في الدين { لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ } أي لم تطلبون العذاب قبل الرحمة ، أو المعصية قبل الطاعة { قَالُواْ اطيرنا بِكَ } أي تشاءَمنا بك ، وكانوا قد أصابهم القحط { قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله } أي السبب الذي يحدث عنه خيركم أو شركم : هو عند الله وهو قضاؤه وقدره ، وذلك رد عليهم في تطيرهم ، ونسبتهم ما أصابهم من القحط إالى صالح عليه السلام .
(1/1333)
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49)
{ وَكَانَ فِي المدينة } يعني مدينة ثمود { يُفْسِدُونَ فِي الأرض } قيل : إنهم كانوا يقرضون الدنانير والدارهم ولفظ الفساد أعم من ذلك { تَقَاسَمُواْ بالله } أي حلفوا بالله ، وقيل : إنه فعل ماض وذلك ضعيف ، والصحيح أنه فعل أمر قاله بعضهم لبعض ، وتعاقدوا عليه { لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } أي لنقتلنه وأهله بالليل ، وهذا هو الفعل الذي تحالفوا عليه { ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ } أي نتبرأ من دمه إن طلبنا به وليه ، ومهلك يحتمل أن يكون اسم مصدر أو زمان أو مكان ، فإن قيل : إن قولهم : { مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ } يقتضي التبري من دم أهله ، دون التبري من دمه ، فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول أنهم رادوا ما شهدنا مهلكه ومهلك أهله ، وحذف مهلكه لدلالة قولهم { لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } ، والثاني أن أهل الإنسان قد يراد به هو وهم لقوله : " وأغرقنا آل فرعون " يعني فرعون وقومه ، الثالث : أنهم قالوا مهلك أهله خاصة ليكونوا صادقين ، فإنهم شهدوا مهلكه ومهلك أهله معاً ، وأرادوا التعريض في كلامهم لئلا يكذبوا .
{ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } يحتمل أن يكون قولهم : { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } مغالطة مع اعتقادهم أنهم كاذبون ، ويحتمل أنهم قصدوا وجهاً من التعريض ليخرجوا به عن الكذب وقد ذكرناه في الجواب الثالث عن مهلك أهله ، وهو أنهم قصدوا أن يقتلوا صالحاً وأهله معاً ، ثم يقولون : ما شهدنا مهلك أهله وحدهم وإنا لصادقون في ذلك بل يعنون أنهم شهدوا مهلكه ومهلك أهله معاً ، وعلى ذلك حمله الزمخشري .
(1/1334)
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
{ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ } روي أن الرهط الذين تقاسموا على قتل صالح اختفوا ليلاً في غار ، قريباً من داره ليخرجوا منه إلى داره بالليل ، فوقعت عليهم صخرة فأهلكتهم ، ثم هلك قومهم بالصيحة ولم يعلم بعضهم بهلاك بعض ، ونجا صالح ومن آمن به { وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } قيل : معناه تبصرون بقلوبكم أنها معصية وقيل : تبصرون بأبصاركم لأنهم كانوا ينكشفون بفعل ذلك ولا يستتر بعضهم من بعض ، وقيل : تبصرون آثار الكافر قبلكم وما نزل بهم من العذاب { يَتَطَهَّرُونَ } و { الغابرين } { وَأَمْطَرْنَا } قد ذكر .
(1/1335)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
{ قُلِ الحمد لِلَّهِ وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى } أمر الله رسول أن يتلو الآيات المذكورة بعد هذا ، لأنها براهين على وحدانيته وقدرته ، وأن يستفتح ذلك بحمده ، والسلام على من اصطفاه من عباده ، كما تستفتخ الخطب والكتب وغيرها بذلك ، تيمناً بذكر الله ، قال ابن عباس : يعني بعباده الذين اصطفى الصحابة ، واللفظ يعم الملائكة والأنبياء والصحابة والصالحين { ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } على وجه الرد على المشركين ، فدخلت خير التي يراد بها التفضيل لتبكيتهم وتعنيفهم ، مع أنه معلوم أنه لا خبر فيما أشركوا أصلاً ، ثم أقام عليهم الحجة بأن الله هو الذي خلق السموات والأرض ، وبغير ذلك مما ذكره إلى تمام هذه الآيات ، وأعقب كل برهان منها بقوله : { أإله مَّعَ الله } على وجه التقرير لهم ، على أنه لم يفعل ذلك كله إلا الله وحده ، فقامت عليهم الحجة بذلك وفيها أيضاَ نِعَمٌ يجب شركها فقامت بذلك أيضاً ، وأمَّا في قوله { خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } متصلة عاطفة ، وأم في المواضع التي بعد منقطعة بمعنى بل والهمزة { قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } أي يعدلون عن الحق والصواب أو يعدلون بالله غيره أي يجعلون له عديلاً ومثيلاً { رَوَاسِيَ } يعني الجبال { البحرين } ذكر في [ الفرقان : 53 ] .
(1/1336)
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
{ يُجِيبُ المضطر } قيل هو المجهود ، وقيل الذي لا حول له ولا قوّة ، واللفظ مشتق من الضرر : أي الذي أصابه الضّر أو من الضرورة أي الذي ألجأته الضرورة إلى الدعاء { خُلَفَآءَ الأرض } أي خلفاء فيها تتوارثون سكناها { أَمَّن يَهْدِيكُمْ } يعني الهداية بالنجوم والطرقات { بُشْرَاً } ذكر في [ الأعراف : 75 ] { مِّنَ السمآء والأرض } الرزق من السماء : المطر ومن الأرض : النبات { هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } تعجيز للمشركين .
(1/1337)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65)
{ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله } هذه الآية تقتضي انفراد الله تعالى بعلم الغيب ، وأنه لا يعلمه سواه ، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها : من زعم أن محمداً يعلم الغيب فقد أعظم الفرية على الله ، ثم قرأت هذه الآية ، فإن قيل : فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بالغيوب وذلك معدود في معجزاته ، فالجواب : أنه صلى الله عليه وسلم قال : " إني لا أعلم الغيب إلا ما عملني الله " ، فإن قيل : كيف ذلك مع ما ظهر من إخبار الكهان والمنجمين ، وأشباههم ، بالأمور المغيبة؟ فالجواب : أن إخبارهم بذلك عن ظن ضعيف أو عن وهم لا عن علم ، وإنما اقتضت الآية نفي العلم ، وقد قيل : إن الغيب في هذه الآية يراد به متى تقوم الساعة ، لأن سبب نزولها أنهم سألوا عن ذلك ، ولذلك قال : { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } ، فعلى هذا يندفع السؤال الأول ، والثاني لأن علم الساعة انفرد به الله تعالى لقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } [ الأحزاب : 63 ] ولقوله صلى الله عليه وسلم : " في خمس لا يعلمها إلا الله ، ثم قرأ : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } إلى آخر السورة " ، فإن قيل : كيف قال : { إِلاَّ الله } بالرفع على البدل والبدل ، لا يصح إلا إذا كان الاستثناء متصلاً ، ويكون ما بعد إلا من جنس ما قبلها والله تعالى ليس ممن في السموات والأرض باتفاق؟ فإن القائلين بالجهة والمكان يقولون إنه فوق السموات والأرض ، والقائلين بنفي الجهة يقولون : إن الله تعالى ليس بهما ولا فوقهما ، ولا داخلاً فيهما ، ولا خارجاً عنهما ، فهو على هذا استثناء منقطع ، فكان يجب أن يكون منصوباً فالجواب من أربعة أوجه :
الأول أن البدل هنا جاء على لغة بني تميم في البدل ، وإن كان منقطعاً كقولهم ما في الدار أحد إلا حمار بالرفع ، والحمار ليس من الأحدين وهذا ضعيف ، لأن القرآن أنزل بلغة الحجاز لا بلغة بني تميم ، والثاني أن الله في السموات والأرض بعلمه كما قال : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } [ الحديد : 4 ] يعني بعلمه ، فجاء البدل على هذا المعنى وهذا ضعيف ، لأن قوله : { فِي السماوات والأرض } وقعت فيه لفظة في الظرفية الحقيقية ، وهي في حق الله على هذا المعنى للظرفية المجازية ، ولا يجوز استعمال لفظة واحدة في الحقيقة والمجاز في حالة واحدة عند المحققين ، الجواب الثالث أن قوله : { مَن فِي السماوات والأرض } يراد به كل موجود فكأنه قال من في الوجود فيكون الاستثناء على هذا متصلاً ، فيصح الرفع على البدل ، وإنما قال { مَن فِي السماوات والأرض } جرياً على منهاج كلام العرب فهو لفظ خاص يراد به ما هو أعم منه : الجواب الرابع أن يكون الاستثناء متصلاً على أن يتأول من في السموات في حق الله كما يتأول قوله { أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء } [ الملك : 16 ] وحديث الجارية وشبه ذلك { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي لا يشعرون من في السموات والأرض متى يبعثون ، لأنّ علم الساعة مما انفرقد به الله ، روي أن سبب نزول هذه الآية أن قريشاً سألوا النبي صلى الله عليه وسلم متى الساعة؟
(1/1338)
بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
{ بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة } وزن أدّراك تفاعل ثم سكنت التاء وأدغمت الدال واجتلبت ألف الوصل ، والمعنى تتابع علمهم بالآخرة وتناهى إلى أن يكفروا بها ، أو تناهى إلى أن لا يعلموا وقتها ، وقرئ أدرك بهمزة قطع على وزن أفعل والمعنى على هذا : يدرك علمهم في الآخرة ، أي يعلمون فيها الحق ، لأنهم يشاهدون حينئذ الحقائق ، فقوله : { فِي الآخرة } على هذا ظرف ، وعلى القراءة الأولى بمعنى الباء { عَمُونَ } جمع عم ، وهو من عمى القلوب .
(1/1339)
قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72)
{ رَدِفَ لَكُم } أي تبعكم ، واللام زائدة ، أو ضمن معنى قرب وتعدى باللام ، ومعنى الآية : أنهم استعجلوا العذاب بقولهم : متى هذا الوعد ، فقيل لهم : عسى أن يكون قرب لكم بعض العذاب الذي تستعجلون ، وهو قتلهم يوم بدر .
(1/1340)
وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
{ غَآئِبَةٍ } الهاء فيه للمبالغة : أي ما من شيء في غاية الخفاء ، إلا وهو عند الله في كتاب .
(1/1341)
إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)
{ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } شبه من لا يسمع ولا يعقل بالموتى؛ في أنهم لا يسمعون وإن كانوا أحياء ، ثم شبههم بالصم وبالعُمي وإن كانوا صحاح الحواس ، وأكد عدم سماعهم بقوله { إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ } ، لأن الأصم إذا أدبر وبعد عن الداعي زاد صممه وعدم سماعه بالكلية .
(1/1342)
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
{ وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم } أي إذا حان وقت عذابهم الذي تضمنه القول الأزلي من الله في ذلك وهو قضاؤه ، والمعنى إذا قربت الساعة أخرجنا لهم دابة من الأرض ، وخروج الدابة من أشراط الساعة ، ورُوي أنها تخرج من المسجد الحرام ، وقيل : من الصفا ، وأن طولها ستون ذراعاً ، وقيل : هي الجساسة التي وردت في الحديث { تُكَلِّمُهُمْ } قيل : تكلمهم ببطلان الأديان كلها إلا دين الإسلام ، وقيل : تقول لهم : ألا لعنة الله على الظالمين ، وروي أنها تسم الكافر وتخطم أنفه وتسوِّده ، وتبيض وجه المؤمن { أَنَّ الناس } من قرأ بكسر الهمزة فهو ابتداء كلام ، ومن قرأ بالفتح فهو مفعول تكلمهم : أي تقول لهم إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ، أو مفعول من أجله تقديره تكلمهم ، لأن الناس لا يوقنون ثم حذفت اللام ، ويحتمل قوله : { لاَ يُوقِنُونَ } بخروج الدابة ، ولا يوقنون بالآخرة وأمور الدين ، وهذا أظهر .
(1/1343)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87)
{ فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي يساقون بعنف { أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أم استفهامية ، والمعنى إقامة الحجة عليهم ، كأنه قيل لهم إن كان لكم عمل أو حجة فهاتوها { وَوَقَعَ القول عَلَيهِم } أي حق العذاب عليهم أو قامت الحجة عليهم { فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ } إنما يسكتون لأن الحجة قد قامت عليهم وهذا في بعض مواطن القيامة ، وقد جاء أنهم يتكلمون في مواطن { لِيَسْكُنُواْ فِيهِ } ذكر في [ يونس : 6 ] { يُنفَخُ فِي الصور } ذكر في [ الكهف : 99 ] { إِلاَّ مَن شَآءَ الله } قيل : " هم الشهداء ، وقيل : جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم السلام { دَاخِرِينَ } صاغرين متذللين .
(1/1344)
وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)
{ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً } أي قائمة ثابتة { وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ } يكون مرورها في أول أحوال يوم القيامة ، ثم ينسفها الله في خلال ذلك فكتون كالعهن ثم تصبر هباء منبثاً { صُنْعَ الله } مصدر ، والعامل فيه محذوف ، وقيل : هو منصوب على الإغراء : أي انظروا صنع الله .
(1/1345)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
{ مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } قيل : إن الحسنة لا إله إلا الله ، واللفظ أعم ، ومعنى : { خَيْرٌ مِّنْهَا } أن له بالحسنة الواحدة عشراً { مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ } من نون فزع فتح الميم من { يَوْمَئِذٍ } ومن أسقط التنوين للإضافة قرأ بفتح الميم على البناء أو بكسرها على الإعراب { وَمَن جَآءَ بالسيئة } السيئة هنا الكفر ، والمعاصي التي قضى الله بتعذيب فاعلها .
(1/1346)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
{ هَذِهِ البلدة } يعني مكة { الذي حَرَّمَهَا } أي جعلها حرماً آمناً ، لا يقاتل فيها أحد ولا ينتهك حرمتها ، ونسب تحريمها هنا إلى الله؛ لأنه بسبب قضائه وأمره ، ونسبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبراهيم عليه السلام في قوله : " إن إبراهيم حرّم مكة " لأن إبراهيم هو الذي أعلمَ الناس بتحريمها ، فليس بين الحديث والآية تعارض وقد جاء في الحديث آخر أن مكة حرمها الله يوم خلق السموات والأرض { وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ المنذرين } إي إنما عليّ الإنذار والتبليغ { سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } وعيد بالعذاب الذي يضطرهم إلى معرفة آيات الله ، إما في الدنيا أو في الآخرة .
(1/1347)
إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
{ عَلاَ فِي الأرض } أي تكبر وطغا { شِيَعاً } أي فرقاً مختلفين ، فجعل فرعون القبطَ ملوكاً وبني إسرائيل خُداماً علهم ، وهم الطائفة الذين استضعفهم ، وأراد الله أن يمنّ عليهم ويجعلهم أئمة : أي ولاة في الأرض أرض فرعون وقومه .
(1/1348)
وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
{ وَهَامَانَ } وهو وزير فرعون { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى } اختلف هل كان هذا الوحي بإلهام أو منام أو كلام بواسطة الملك ، وهذا أظهر لثقتها بما أوحى إليها وامتثالها ما أمرت به { فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ } أي إذا خفت عليه أن يذبحه فرعون؛ لأن كان يذبح أبناء بني إسرائيل ، لما أخبره الكهان أن هلاكه على يد غلام منهم { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ } الالتقاط اللقاء من غير قصد ، رُوي أن آسية امرأة فرعون رأت التابوت في البحر ، وهو النيل فأمرت أن يساق لها ، ففتحته فوجدت فيه صبياً فأحبته ، وقالت لفرعون : هذا قرّة عين لي ولك { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً } اللام لام العاقبة وتسمى أيضاً لام الصيرورة { لاَ تَقْتُلُوهُ } روي أن فرعون همّ بذبحه ، إذ توسم أنه من بني إسارئيل ، فقالت امرأته لا تقتلوه { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي لا يشعرون أن هلاكهم يكون على يديه ، والضمير الفاعل لفرعون وقومه .
(1/1349)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)
{ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ موسى فَارِغاً } أي ذاهلاً لا عقل معها ، وقيل : فارغاً من الصبر وقيل : فارغاً من كل شيء إلا من همّ موسى ، وقيل : فارغاً من وعد الله : أي نسيت ما أوحى إليها ، وقيل : فارغاً من الحزن إذ لم يغرق ، وهذا بعيد لما بعده . وقيل : فارغاً من كل شيء إلا من ذكر الله ، وقرىء فزعاً بالزاي من الفزع { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } أي تظهر أمره ، وفي الحديث كادت أمّ موسى أن تقول وابناه وتخرج صائجة على وجهها { رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا } أي رزقناها الصبر { لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين } أي من المصدّقين بالوعد الذي وعدها الله .
(1/1350)
وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11)
{ وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } أي ابتعيه ، والقص طلب الأثر ، فخرجت أخته تبحث عنه في خفية { فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ } أي رأته من بعيد ، ولم تقرب منه لئلا يعلموا أنها أخته ، وقيل معنى عن جنب؛ عن شوق إليه ، وقيل : معناه أنها نظرت إليه ، كأنها لا تريده { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي لا يشعرون أنها أخته .
(1/1351)
وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
{ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع } أي منع بأن بغضها الله له ، والمراضع جمع مرضعة ، وهي المرأة التي ترضع ، أو جمع مرضع فتح الميم والضاد : وهو موضع الرضاع يعني الثدي { مِن قَبْلُ } أي من أول مرة { فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ } القائلة أخته تخاطب آل فرعون { فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ } لما منعه الله من المراضع وقالت أخته : { هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ } الآية : جاءت بأمه فقبل ثديها ، فقال لها فرعون ومن أنت منه بذلكَ ، وعلمت أن وعد الله حق في قوله : { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ } [ القصص : 7 ] { بَلَغَ أَشُدَّهُ } ذكر في [ يوسف : 22 ] { واستوى } أي كمل عقله ، وذلك من الأربعين سنة .
(1/1352)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)
{ وَدَخَلَ المدينة } يعني مصر وقيل : قرية حولها ، والأول أشهر { على حِينِ غَفْلَةٍ } قيل : في القائلة وقيل بين العشاءين ، وقيل يوم عيد ، وقيل كان قد جفا فرعون وخاف على نفسه فدخل مختفياً متخوفاً { هذا مِن شِيعَتِهِ } الذي من شعيته من بني إسرائيل ، والذي من عدوّه من القبط { فَوَكَزَهُ موسى } أي ضربه ، والوكز الدفع بأطراف الأصابع وقيل : بجمع الكف { فقضى عَلَيْهِ } أي قتله ، ولم يرد أن يقتله ولكن وافقت وكزته الأجل ، فندم وقال : هذا من عمل الشيطان أي إن الغضب الذي أوجب ذلك كان من الشيطان ، ثم اعترف واستغفر فغفر الله له ، فإن قيل : كيف استغفر من القتل وكان المقتول كافراً؟ فالجواب أنه لم يؤذن له في قتله ، ولذلك يقول يوم القيامة : إني قتلت نفساً لم أومر بقتلها .
(1/1353)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
{ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ } الظهير المعين ، والباء سببية ، والمعنى بسبب إنعامك عليّ : لا أكون ظهيراً للمجرمين ، فهي معاهدة عاهد موسى عليها ربه ، وقيل الباء باء القسم ، هذا ضعيف لأن قوله : { فَلَنْ أَكُونَ } لا يصلح لجواب القسم ، وقيل : جواب القسم محذوف تقديره : وحق نعمتك لأتوين { فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ } ، وقيل الباء للتحليف : أي اعصمني بحق نعمتك عليّ ، { فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ } ، ويحتج بهذه الآية على المنع من صحبة ولاة الجور .
(1/1354)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)
{ يَتَرَقَّبُ } في الموضعين أي يستحس هل يطلبه أحد { يَسْتَصْرِخُهُ } أي يستغيث به ، لقي موسى الإسرائيليَّ الذي قاتل القبطي بالأمس يقاتل رجلاً آخر في من القبط ، فاستغاث بموسى لينصره كما نصره بالأمس ، فعظم ذلك على موسى وقال له : إنك لغوي مبين { فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بالذي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا } الضمير في { أَرَادَ } في يبطش لموسى ، وفي قال للإسرائيلي ، والمعنى لما أراد موسى أن يبطش بالقبطي الذي هو عدوّ له للإِسرائيلي ، ظن الإسرائيلي أنه يريد أن يبطش به إذ قال له { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } ، فقال الإسرائيلي لموسى : { أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس } ؟ وقيل : الضمير في أراد للإسرائيلي ، والمعنى فلما أراد الإسرائيلي أن يبطش موسى بالقبطي ، ولم يفعل موسى ذلك لندامته على قتله الآخر بالأمس ، فنصح الإسرائيلي ، فقال له : أتريد أن تقتلني فاشتهر خبر قتله للآخر إلى أن وصل إلى فرعون .
(1/1355)
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
{ وَجَآءَ رَجُلٌ } قيل : إنه مؤمن آل فرعون ، وقيل : غيره { يسعى } أي يسرع في مشيه ليدرك موسى فينصحه { إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ } يتشاورون : وقيل : يأمر بعضهم بعضاً بقتلك كما قتلت القبطي .
(1/1356)
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22)
{ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ } أي قصد بوجهه ناحية مدين وهي مدينة شعيب عليه السلام { قَالَ عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل } أي وسط الطريق يعني طريق مدين ، إذ كان قد خرج فارّاً بنفسه ، وكان لا يعرف الطريق ، وبين مصر ومدين مسيرة ثمانية أيام ، وقيل : أراد سبيل الهدى وهذا أظهر ، ويدل كلامه هذا على أنه كان عارفاً بالله قبل نبوته .
(1/1357)
وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
{ وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ } أي وصل إليه وكان بئراً { يَسْقُونَ } أي يسقون مواشيهم { امرأتين } روى أن اسمهما ليا وصفوريا ، وقيل : صفيرا وصفرا { تَذُودَانِ } أي تمنعان الناس عن غنمهما ، وقيل : تذودان غنمهما عن الماء حتى يسقي الناس ، وهذا أظهر لقولهما : { لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء } : أي كانت عادتهما ألا يسقيا غنمهما إلا بعد الناس لقوة الناس ولضعفهما ، أو لكراهتهما التزاحم مع الناس { يُصْدِرَ } بضم الياء وكسر الدار فعل متعدّ ، والمفعول محذوف تقديره حتى يصدر الرعاء مواشيهم ، وقرأ أبو عمرو وابن عامر : يُصْدِرَ بفتح الياء وضم الدال أي ينصرفون عن الماء { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } أي لا يستطيع أن يباشر سقي غنمه ، وهذا الشيخ هو شعيب عليه السلام في قول الجمهور ، وقيل : ابن أخيه ، وقيل : رجل صالح ليس من شعيب بنسب { فسقى لَهُمَا } أي أدركته شفقته عليهما فسقى غنمهما وروي أنه كان على فم البئر صخرة لا يرفعها إلا ثلاثون رجلاً فرفعها وحده { تولى إِلَى الظل } أي جلس في الظل ، وروي أنه كان ظل سَمُرَة { إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } طلب من الله ما يأكله وكان قد اشتدّ عليه الجوع .
(1/1358)
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25)
{ فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا } قبل هذا كلام محذوف تقديره : فذهبتا إلى أبيهما سريعتين ، وكانت عادتهما الإبطاء في السقي ، أخبرتاه بما كان من أمر سقي الرجل لهما ، فأمر إحداهما أن تدعوه له فجاءته ، واختلف هل التي جاءته الصغرى أو الكبرى { عَلَى استحيآء } رُويَ أنها سترت وجهها بكُم دِرْعِها والمجرور يتعلق بما قبله وقيل : بما بعده وهو ضعيف { وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص } أي ذكر له قصته { لاَ تَخَفْ } أي قد نجوت من فرعون وقومه .
(1/1359)
قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)
{ استأجره } أي اجعله أجيراً لك { إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين } هذا الكلام حكمة جامعة بليغة ، روي أن أباها قال لها من أين عرفت قوته وأمانته ، قالت أما قوته ففي رفعه الحجر عن فم البئر : وأما أمانته فإنه لم ينظر إليّ .
(1/1360)
قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29)
{ قَالَ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي } زوجته التي دعته ، واختلف هل زوّجه الكبرى أو الصغرى ، واسم التي زوجه صفور ، وقيل : صفوريا ، ومن لفظ شعيب حَسُنَ أن يقال في عقود الأنكحة ، أنكحه إياها أكثر من أن يقال أنكحها إياه { على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ } أيّ أزوجك بِنتي على أن تخدمني ثمانية أعوام ، قال مكي : في هذه الآية خصائص في النكاح ، منها أنه لم يعين الزوجة ، ولا حدّ أول الأمد ، وجعل المهر إجارة ، قلت : فأما التعيين فيحتمل أن يكون عند عقد النكاح بعد هذه المراودة ، وقد قال الزمخشري : إن كلامه معه لم يمكن عقد نكاح ، وإنما كان مواعدة وأما ذكر أول الأمد ، فالظاهر أنه من حيث العقد ، وأما النكاح بالإجازة فظاهر من الآية ، وقد قرر شرعنا حسبما ورد في الحديث الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم للرجل : " قد زوجكتها على ما معك من القرآن " ؛ أي على أن تعلمها ما عندك من القرآن ، وقد أجاز النكاح بالإجازة الشافعي وابن حنبل وأبو حنيفة للآية والحديث ، ومنعه مالك { فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ } جعل الأعوام الثمانية شرطاً ، ووكل العامين إلى مروءة موسى ، فوفى له العشر ، وقيل : وفي العشرة وعشراً بعدها ، وهذا ضعيف لقوله . { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل } أي الأجل المذكور { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } الأهل هنا الزوجة مشى بها إلى مصر { جَذْوَةٍ } أي قطعة ، ويجوز كسر الجيم وضمها ، وقد ذكر آنس ، والطور ، وتصطلون .
(1/1361)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
{ شَاطِىءِ الوادي } جانبه والأيمن صفة للشاطئ اليمين ، ويحتمل أن يكون من اليمن فيكون صفة للوادي { مِنَ الشجرة } روي : أنها كانت عوسجة { جَآنٌّ } ذكر من النمل { اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ } أي أدخلها فيه ، والجيب هو فتح الجبة من يحث يخرج الإنسان رأسه { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } الجناح اليد أو الإبط أو العضد ، أمره الله لما خاف من الحية أن يضمه إلى جنبه ليخفَّ بذلك خوفه ، فإن من شاء الإنسان إذا فعل ذلك في وقت فزعه أن يخف خوفه ، وقيل : ذلك على وجه المجاز ، والمعنى أنه أمر بالعزم على ما أمر به : كقوله اشدد حيازيمك واربط جأشك .
{ مِنَ الرهب } أي من أجل الرَّهْب ، وهو الخوف ، وفيه ثلاثة لغات : فتح الراء والهاء ، وفتح الراء وإسكان الهاء ، وضم الراء وإسكان الهاء { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ } أي حجتان والإشارة إلى العصا واليد { إلى فِرْعَوْنَ } يتعلق بفعل محذوف يقتضيه الكلام .
(1/1362)
وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
{ رِدْءاً } أي معيناً ، وقرئ بالهمز وبغير همز على التسهيل من المهموز أو يكون من : أرديت أي زدت { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } استعارة في المعونة { بِآيَاتِنَآ } يحتمل أن يتعلق بقوله : نجعل أو يصلون أو بالغالبون .
(1/1363)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38)
{ فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين } أي اصنع الآجر لبنيان الصرح الذي رام أن يصعد منه إلى السماء ، ورُوي أنه أول من عمل الآجر ، وكان هامان وزير فرعون وانظر ضعف عقولهما وعقول قومهما ، وجهلهم بالله تعالى في كونهم طمعوا أن يصلوا إلى السماء ببنيان الصرح ، وقد روي أنه عمله وصعد عليه ورمى بسهم إلى السماء فرجع مخضوباً بدم ، وذلك فتنة له ولقومه وتهكم بهم ، ثم قال { وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين } يعني في دعوة الرسالة ، والظن هنا يحتمل أن يكون على بابه أو بمعنى اليقين .
(1/1364)
وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
{ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار } أي كانوا يدعون الناس إلى الكفر المودجب للنار { مِّنَ المقبوحين } من المطرودين المبعدين ، وقيل : قبحت وجوههم ، وقيل : قبح ما فعل بهم وما يقال لهم .
(1/1365)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)
{ وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي } خطاب لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والمراد به إقامة حجة لإخباره بحال موسى ، وهو لم يحضره والغربي المكان الذي في غربي الطور ، وهو المكان الذي كلم الله فيه موسى ، والأمر المقضي إلى موسى هو النبوة . ومن الشاهدين : معناه من الحاضرين هناك .
(1/1366)
وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)
{ وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ العمر } المعنى لم تحضر يا محمد للاطلاع على هذه الغيوب التي تخبر بها ، ولكنها صارت إليك بوحينا فكان الواجب على الناس المسارعة إلى الإيمان بك ، ولكن تطاول الأمر على القرون التي أنشأناها ، فغابت عقولهم واستحكمت جهالتهم ، فكفروا بك ، وقيل : المعنى لكنا أنشأنا قروناً بعد زمان موسى فتطاول عليهم العمر ، وطالت الفترة فأرسلناك على فترة من الرسل { ثَاوِياً } أي مقيماً .
(1/1367)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)
{ إِذْ نَادَيْنَا } يعني تكليم موسى ، والمراد بذلك إقامة حجة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لإخباره بهذه الأمور مع أنه لم يكن حاضراً حينئذ { ولكن رَّحْمَةً } انتصب على المصدر ، أو على أنه مفعول من أجله والتقدير : ولكن أرسلناك رحمة منا لك ورحمة للخلق بك .
(1/1368)
وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48)
{ ولولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ } لو هنا حرف امتناع ولولا الثانية عرض وتحضيض ، والمعنى لولا أن تصيبهم مصيبة بكفرهم لم نرسل الرسل ، وإنما أرسلناهم على وجه الإعذار وإقامة الحجة عليهم ، لئلا يقولوا : { رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } { فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق } يعني القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم { قَالُواْ لولا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى } يعنون إنزال الكتاب عليه من السماء جملة واحدة ، وقلب العصا حية وفلق البحر وشبه ذلك { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ } هذا ردّ عليهم فيما طلبوه ، والمعنى أنهم كفروا بما أوتي موسى فلما آتينا محمداً مثل ذلك لكفروا به ، { مِن قَبْلُ } على هذا يتعلق بقوله : { أُوتِيَ موسى } ، ويحتمل أن يتعلق بقوله : { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ } ، إن كانت الآية في بني إسرائيل ، والأول أحسن { قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا } يعنون موسى وهارون ، أو موسى ومحمداً صلى الله عليه وسلم والضمير في { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ } وفي { قَالُواْ } لكفار قريش وقيل : لآبائهم ، وقيل لليهود والأول أظهر وأصح لأنهم المقصودون بالرد عليهم .
(1/1369)
قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)
{ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ } أمر على وجه التعجيز لهم { أهدى مِنْهُمَآ } الضمير يعود على كتاب موسى وكتاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ } قد علم أنهم لا يستجيبون للاتيان بكتاب هو أهدى منهما أبداً ، ولكنه ذكره بحرف إن مبالغة في إقامة الحجة عليهم : كقوله : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ } [ البقرة : 24 ] ، فاعلم أنما يتبعون أهواهم : المعنى إن لم يأتوا بكتاب فاعلم أن كفرهم عناد واتباع أهوائهم ، لا بحجة وبرهان .
(1/1370)
وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
{ وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول } الضمير لكفار قريش ، وقيل : لليهود والأول أظهر؛ لأن الكلام من أوله معهم ، والقول هنا القرآن ، و { وَصَّلْنَا لَهُمُ } : أبلغناه لهم ، أو جعلناه موصلاً بعضه ببعض .
(1/1371)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53)
{ الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ } يعني من أسلم من اليهود ، وقيل : النجاشي وقومه ، وقيل : نصارى نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهم عشرون رجلاً فآمنوا به ، والضمير في قبله القرآن ، وقولهم إنه الحق : تعليل لإيمانهم ، وقولهم : { إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } : بيان لأن إسلامهم قديم ، لأنهم وجدوا ذكر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم قبل أن يبعث .
(1/1372)
أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54)
{ أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ورجل مملوك أدى حق الله وحق مواليه ، ورجل كانت له أمة فأعتقها وتزوّجها " { بِمَا صَبَرُواْ } يعني صبرهم على إذاية قومهم لهم لما أسلما أو غير ذلك من أنواع الصبر { وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة } أي يدفعون ، ويحتمل أن يريد بالسيئة ما يقال لهم من الكلام القبيح ، وبالحسنة ما يجاوبون به من الكلام الحسن ، أو يريد سيئات أعمالهم وحسناتهم كقوله : { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } [ هود : 114 ] .
(1/1373)
وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
{ وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو } يعني ساقط الكلام { لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } هذا على وجه التبري والبعد من القائلين للغو { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } معناه هنا ، المتاركة والمباعدة لا التحية ، أو كأنه سلام الانصراف والبعد { لاَ نَبْتَغِي الجاهلين } أي لا نطلبهم للجدال والمراجعة في الكلام .
(1/1374)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)
{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } " نزلت في أبي طالب إذ دعاه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول عند موته : لا إله إلا الله فقال : لولا أن يعايرني بها قريش لأقررت بها عينك ومات على الكفر " ، ولفظ الآية مع ذلك على عمومه { ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } لفظ عام ، وقيل : أراد به العباس بن عبد المطلب .
(1/1375)
وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
{ وقالوا إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ } القائلون لذلك قريش ، وروي أن الذي قالها منهم : الحارث بن عامر بن نوفل ، والهدى هو الإسلام ، ومعناه الهدى على زعمك ، وقيل : إنهم قالوا : قد علمنا أن الذي تقول حق ، ولكن إن اتبعناك تخطفتنا العرب : أي أهلكونا بالقتال لمخالفة دينهم { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً } هذا ردّ عليهم فما اعتذروا به من تخطف الناس لهم ، والمعنى أن الحرم لا تتعرض له العرب بقتال ، ولا يمكن الله أحداً من إهلاك أهله ، فقد كانت العرب يغير بعضهم على بعض ، وأهل الحرم آمنون من ذلك { يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ } أي تجلب إليه الأرزاق مع أنه واد غير ذي زرع .
(1/1376)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58)
{ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } معنى بطرت طغت وسفهت ، ومعيشتها : نصب على التفسير مثل : سفه نفسه ، أو لعى إسقاط حرف الجرّ تقديره : بطرت في معيشتها أو يتضمن معنى بطرت : كفرت { إِلاَّ قَلِيلاً } يعني : قليلاً من السكنى ، أو قليلاً من الساكنين : أي لم يسكنها بعد إهلاكها إلا مارّاً على الطريق ساعة .
(1/1377)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
{ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً } أم القرى مكة لأنها أول ما خلق الله في الأرض ، ولأن فيها بيت الله ، والمعنى أن الله أقام الحجة على أهل القرى؛ بأن بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في أم القرى ، فإن كفروا أهلكهم بظلمهم بعد البيان لهم ، وإقامة الحجة عليهم .
(1/1378)
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
{ وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ } الآية : تحقير للدنيا وتزهيد فيها وترغيب في الآخرة { أَفَمَن وَعَدْنَاهُ } الآية : إيضاح لما قبلها من البون بين الدنيا والآخرة ، والمراد بمن وعدناه للمؤمنين ، وبمن متعناه الكافرين ، وقيل : سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم وأبو جهل ، وقيل حمزة وأبو جهل ، والعموم أحسن لفظاً ، ومعنى من المحضرين أي من المحضرين في العذاب .
(1/1379)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)
{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ } العامل في الظرف مضمر ، وفاعل ينادي : الله تعالى ، ويحتمل أن يكون نداؤه بواسطة أو بغير واسطة ، والمفعول به المشركون { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ } توبيخ للمشركين ونسبهم إلى نفسه على زعمهم ، ولذلك قال : { الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } ، فحذف المفعول وتقديره : تزعمون أنهم شركاء لي أو تزعمون أنهم شفعاء لكم .
(1/1380)
قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64)
{ قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول رَبَّنَا هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ } معنى { حَقَّ عَلَيْهِمُ القول } : وجب عليهم العذاب ، والمراد بذلك رؤساء المشركين وكبراؤهم ، والإشارة بقولهم : { هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ } : إلى أتباعهم من الضعفاء ، فإن قيل : كيف الجمع بين قولهم { أَغْوَيْنَآ } وبين قولهم : { تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ } ، فإنهم اعترفوا بإغوائهم ، وتبرأوا مع ذلك منهم؟ فالجواب إن إغوائهم لهم هو أمرهم لهم بالشرك ، والمعنى أنا حملناهم على الشرك كما حملنا أنفسنا عليه ، ولكن لم يكونوا يعبدوننا إنما كانوا يعبدون غيرنا ، من الأصنام وغيرها فتبرأنا إليك من عبادتهم لنا ، فتحصل من كلام هؤلاء الرؤساء أنهم اعترفوا أنهم أغووا الضعفاء ، وتبرأوا من أن يكونوا هم آلهتهم فلا تناقض في الكلام ، وقد قيل في معنى الآية غير هذا مما هو تكلف بعيد { لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } فيه أربعة أوجه : الأول أن المعنى لو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا لم يعبدوا الأصنام ، والثاني لو أنهم كانوا يهتدون لم يعذبوا والثالث لو أنهم كانوا يهتدون في الآخرة لحيلة يدفعون بها العذاب لفعلوا ، فلو على هذه الأقوال حرف امتناع وجوابها محذوف ، والرابع أن يكون للتمني : أي تمنوا لو كانوا مهتدين .
(1/1381)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66)
{ مَاذَآ أَجَبْتُمُ } أي هل صدقتم المرسلين أو كذبتموهم { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبآء يَوْمَئِذٍ } عميت عبارة عن حيرتهم ، و { الأنبآء } الأخبار أي أظلمت عليهم الأمور ، فلم يعرفوا ما يقولون { فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ } أي لا يسأل بعضهم بعضاً عن الأنباء لأنهم قد تساووا في الحيرة والعجز عن الجواب .
(1/1382)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68)
{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ } قيل : سببها استغراب قريش لاختصاص سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة ، فالمعنى أن الله يخلق ما يشاء ، ويختار لرسالته من يشاء من عباده ، ولفظها أعم من ذلك ، والأحسن حمله على عمومه : أي يختار ما يشاء من الأمور على الاطلاق ، ويفعل ما يريد { مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة } ما نافية ، والمعنى ما كان للعباد اختيار إنما الاختيار ، والإرادة لله وحده . فالوقف على قوله ويختار ، وقيل : إن ما مفعولة بيختار ، ومعنى الخيرة على هذا الخير والمصلحة ، وهذا يجري على قول المعتزلة ، وذلك ضعيف؛ لرفع الخيرة على أنها اسم كان ، ولو كانت ما مفعولة : لكان اسم كان مضمراً يعود على ما؛ وكانت الخيرة منصوبة على أنها خبر كان ، وقد اعتذر عن هذا من قال : إن ما مفعولة بأن يقال : تقدير الكلام : يختار ما كان لهم الخيرة فيه ، ثم حذف الجار والمجرور وهذا ضعيف ، وقال ابن عطية : يتجه أن تكون ما مفعولة إذا قدرنا كان تامة ، ويوقف على قوله ما كان : أي يختار كل كائن ، ويكون " لهم الخيرة " جملة مستأنفة ، وهذا بعيد جداً .
(1/1383)
وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69)
{ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } أي ما تخفيه قلوبهم وعبر عن القلب بالصدر ، لأنه يحتوي عليه .
(1/1384)
وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
{ لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة } قيل إن الحمد في الآخرة قولهم : { الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } [ الزمر : 74 ] أو قولهم : { الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن } [ فاطر : 34 ] وفي ذكر الأولى مع الآخرة مطابقة { سَرْمَداً } أي دائماً ، والمراد بالآيات إثبات الوحدانية وإبطال الشرك ، فإن قيل : كيف قال { يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ } ، وهلا قال : يأتيكم بنهار في مقابلة قوله { يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ } فالجواب أنه ذكر الضياء لجملة ما فيه من المنافع والعبر { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } أي في الليل { وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي في النهار ، ففي الآية لف ونشر .
(1/1385)
وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
{ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً } أي أخرجنا من كل أمة شهيداً منهم يشهد عليهم بأعمالهم وهو نبيهم ، لأن كل نبي يشهد على أمته { هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } أي هاتوا حجتكم على ما كنتم عليه من الكفر ، وذلك إعذار لهم وتوبيخ وتعجيز .
(1/1386)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
{ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى } أي من بني إسرائيل ، وكان ابن عم موسى وقيل ابن عمته ، وقيل ابن خالته { فبغى عَلَيْهِمْ } أي تكبر وطغى ، ومن ذلك كفره بموسى عليه السلام { وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعصبة } المفاتح هي التي يفتح بها ، وقيل : هي الخزائن ، والأول أظهر ، والعصبة جماعة الرجال من العشيرة إلى الأربعين ، وتنوء معناه تثقل ، يقال ناء به الحمل : إذا أثقله ، وقيل : معنى تنوء تنهض بتحامل وتكلف ، والوجه على هاذ أن يقال إن العصبة تنوء بالمفاتح ، لكنه قلب كما جاء قلب الكلام عن العرب كثيراً ، ولا يحتاج إلى قلب على القول الأول { لاَ تَفْرَحْ } الفرح هنا هو الذي يقود إلى الإعجاب والطغيان ، ولذلك قال : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين } ، وقيل السرور بالدنيا ، لأنه لا يفرح بها إلا من غفل عن الآخرة ويدل على هذا قوله : { وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } [ الحديد : 23 ] .
(1/1387)
وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
{ وابتغ فِيمَآ آتَاكَ الله الدار الآخرة } أي اقصد الآخرة بما أعطاك الله من المال ، وذلك بفعل الحسنات والصدقات { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا } أي لا تضيع حظك من دنياك وتمتع بها مع عملك إنما هو بما يعمل فيها من الخير ، فالكلام على هذا وعظ ، وعلى الأول إباحة للتمتع بالدنيا لئلا ينفر عن قبول الموعظة { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } أي أحسن إلى عباد الله كما أحسن الله إليك بالغنى قال : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي } لما وعظه قومه أجابهم بهذا على وجه الردل عليهم ، والروغان عما ألزموه من الموعظة ، والمعنى : أن هذا المال إنما أعطاه الله لي بالاستحقاق له بسبب علم عندي استجوبته به ، اختلف في هذا العلم فقيل : إنه علم الكيمياء وقيل : التجارب للأمور والمعرفة بالمكاسب ، وقيل : حفظه التوراة وهذا بعيد ، لأنه كان كافراً ، قيل : المعنى إنما أوتيته على علم من الله وتخصيص خصني به ، ثم جعل قوله عندي كما تقول في ظني واعتقادي { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون } هذا ردّ عليه في اغتراره بالدنيا وكثرة جمعه للمال أو جمعه للخدم ، والأول أظهر .
{ وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون } في معناه قولان : أحدهما أنه متصل بما قبله ، والضمير في ذنوبهم يعود على القرون المتقدمة ، والمجرمون من بعدهم أي : لا يسأل المجرمون عن ذنوب من تقدمهم من الأمم الهالكة؛ لأن كل أحد إنما يسأل عن ذنوبه خاصة ، والثاني : أنه إخبار عن حال المجرمين في الآخرة؛ وأنهم لا يسألون عن ذنوبهم؛ لكونهم يدخلون النار من غير حساب ، والصحيح أنهم يحاسبون على ذنوبهم ويسألون عنها لقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92-93 ] وأن هذا السؤال المنفي السؤال على وجه الاختبار وطلب التعريف ، لأنه لا يحتاج إلى سؤالهم على هذا الوجه؛ لكن يسألون على وجه التوبيخ ، وحيثما ورد في القرآن إثبات السؤال في الآخرة ، فهو على معنى المحاسبة والتوبيخ ، وحيثما ورد نفيه فهو على وجه الاستخبار والتعريف ، ومنه قوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 39 ] .
(1/1388)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
{ فَخَرَجَ على قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ } في ثياب حمر ، وقيل : في عبيده وحاشيته ، واللفظ أعم من ذلك { وَيْلَكُمْ } زجر للذين تمنوا مثل حال قارون { وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصابرون } الضمير عائد على الخصال التي دل عليها الكلام المتقدم ، وهو الإيمان والعمل الصالح ، وقيل : على الكلمة التي قالها الذين أوتوا العلم : أي لا تصدر الكلمة إلا عن الصابرين ، والصبر هنا إمساك النفس عن الدنيا وزينتها { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض } روي أن قارون لما بغى على بني إسرائيل وآذى موسى دعى موسى عليه السلام عليه ، فأوحى إليه أن قد أمرت الأرض أن تطيعك فيه وفي أتباعه ، فقال موسى : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى الركب فاستغاثوا بموسى فقال : يا أرض خذيهم حتى تمّ بهم الخسف { مَكَانَهُ } أي منزلته في المال والعزة { بالأمس } يحتمل أن يريد به اليوم الذي كان قبل ذلك اليوم أو ما تقدم من الزمان القريب { وَيْكَأَنَّ } مذهب سيبويه أن وي حرف تنبيه ، ثم ذكرت بعدها كأن ، والمعنى على هذا أنهم تنبهوا لخطئهم في قولهم : { ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ } ، ثم قالوا : { وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ } : أي ما أشبه الحال بهذا ، وقال الكوفيون : ويك هو ويلك حذفت منها اللام لكثرة الاستعمال ، ثم ذكرت بعدها أن ، والمعنى ألم يعلموا أن الله . وقيل : ويكأن كلمة واحدة معناها ألم تعلم .
(1/1389)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
{ عُلُوّاً فِي الأرض } أي تكبراً وطغياناً لا رفعة المنزلة ، فإن إرادتها جائزة .
(1/1390)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85)
{ فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن } أي أنزله عليك وأثبته ، وقيل المعنى أعطاك القرآن ، والمعنى متقارب ، وقيل فرض عليك أحكام القرآن ، فهي على حذف مضاف { لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ } المعاد الموضع الذي يعاد إليه ، فقيل : يعني مكة ، والآية نزلت حين الهجرة ، ففيها وعد بالرجوع إلى مكة وفتحها ، وقيل : يعني الآخرة فمعناها إعلام بالحشر ، وقيل يعني الجنة .
(1/1391)
وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86)
{ وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب } أي ما كنت تطمع أن تنال النبوّة ، ولا أن ينزل عليك الكتاب ، ولكن الله رحمك بذلك ورحم الناس بنبوّتك ، والاستثناء بمعنى لكن فهو منقطع . ويحتمل أن يكون متصلاً . والمعنى ما أنزل عليك الكتاب إلا رحمة من ربك لك ورحمة للناس ، ورحمة على هذا مفعول ما أجله أو حال ، وعلى الأول منصوب على الاستثناء .
(1/1392)
وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
{ وادع إلى رَبِّكَ } يحتمل أن يكون من الدعاء بمعنى الرغبة ، أو من دعوة الناس إلى الإيمان بالله ، فالمفعول محذوف على هذا تقديره : ادع الناس { وَلاَ تَدْعُ } أي لا تعبد { مَعَ الله إلها آخَرَ لاَ إله إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } الآية . أي إلا إياه ، والوجه هنا عبارة عن الذات .
(1/1393)
الم (1)
{ الم } ذكر في البقرة .
(1/1394)
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)
{ أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا } نزلت في قوم من المؤمنين ، كانوا بمكة مسضعفين منهم عمار بن ياسر و غيره ، وكان كفار قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام ، فضاقت صدورهم بذلك . فآنسهم الله بهذه الآية . ووعظهم وأخبرهم أن ذلك اختبار ، ليوطنوا أنفسهم على الصبر على الأذى ، والثبوت على الإيمان ، فأعلمهم الله تعالى أن تلك سيرته في عباده ، يسلط الكفار على المؤمنين ليمحصهم بذلك ، ويظهر الصادق في إيمانه من الكاذب ، ولفظها مع ذلك عام ، فحكمها على العموم في كل من أصابته فتنة ، من معصية أو مضرة في النفس والمال وغير ذلك ، ومعنى { حَسِبَ } ظنّ ، و { أَن يتركوا } مفعولها ، والهمزة للإنكار { وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } في موضع الحال في يتركوا تقديره غير مفتونين ، وأن يقولوا : تعليل في موضع المفعول من أجله .
(1/1395)
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)
{ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ } أي يعلم صدقهم علماً ظاهراً في الوجود ، وقد كان علمه في الأزل والصدق والكذب في الآية يعني بهما صحة الإيمان والثبوت عليه ، أو ضدّ ذلك .
(1/1396)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
{ أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا } أم معادلة لقوله : { أَحَسِبَ الناس } ، والمراد ب { الذين يَعْمَلُونَ السيئات } الكفار ، الذي يعذبون المؤمنين ، ولفظها مع ذلك عام في كل كافر أو عاص ، ومعنى يسبقونا : يفوتون من عقابنا ويعجزوننا ، فمعنى الكلام نفيُ سبقهم . كما أن معنى الآية قبلها ، نفي ترك المؤمنين بغير فتنة .
(1/1397)
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)
{ مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ الله } الآية : تسلية المؤمنين ، ووعد لهم بالخير في الدار الآخرة ، والرجاء هنا على بابه ، وقيل : هو بمعنى الخوف ، { أَجَلَ الله } هو الموت ، ومعنى الآية : من كان يرجو ثواب الله فليصبر وفي الدنيا ، على المجاهدة في طاعة الله حتى يلقى الله ، فيجازيه فإن لقاء الله قريب الإتيان ، وكل ما هو آتٍ قريب .
(1/1398)
وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6)
{ وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } أي منفعة جهاده فإنما هي لنفسه ، فإن الله لا تنفعه طاعة العباد ، والجهاد هنا يحتمل أن يراد به القتال ، أو جهاد النفس .
(1/1399)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
{ حُسْناً } منصوب بفعل مضمر تقديره : ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه حسناً ، أو مصدراً من معنى وصينا أي وصية حسنة { وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي } الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص ، وأنه لما أسلم حلفت أمهك أن لا تستظل بظل حتى يكفر وقيل : نزلت في غيره ممن جرى له مثل ذلك ، فأمرهم الله بالثبات على الإسلام ، وألا يطيعوا الوالدين إذا أمروهم بالكفر ، وعبَّر عن أمر الوالدين بالجهاد مبالغة .
(1/1400)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10)
{ وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله } نزلت في قوم كانوا مؤمنين بألسنتهم ، فإذا عذبهم الكفار رجعوا عن الإيمان ، فإذا نصر الله المؤمنين قالوا : إنا كنا معكم ، فمعنى أوذي في الله أوذي بسبب إيمانه بالله ، وفتنة الناس ، تعذيبهم ، وقيل : نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه .
(1/1401)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12)
{ اتبعوا سَبِيلَنَا } أي قال الكافر للمؤمنين : اكفروا كما كفرنا ، ونحمل نحن عنكم الإثم والعقاب إن كان ، وروي أن قائل هذه المقالة الوليد بن المغيرة حكاه المهدوي ، وقولهم : { وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } : حزاء قولهم : { اتبعوا سَبِيلَنَا } ، ولكنهم ذكروه على وجه الأمر للمبالغة ، ولما كان معنى الخبر صحة تكذيبهم فيه أخبره الله أنهم كاذبون : أي لا يحملون أوزار هؤلاء ، بل يحملون أوزار أنفسهم وأوزار أتباعهم من الكفار .
(1/1402)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)
{ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } الظاهر أنه لبث هذه المدة بعد بعثه ، ويحتمل أن يكون ذلك من أول ولادته ، وروي أنه بعث وهو ابن أربعين سنة ، وأنه عمر بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين سنة فإن قيل : لم قال ألف سنة ، ثم قال إلا خمسين عاماً؟ فاختلف اللفظ مع اتفاق المعنى؟ فالجواب أن ذلك كراهة لتكرار لفظ السنة ، فإن التكرار مكروه إلا إذا قصد به تفخيم أو تهويل .
(1/1403)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
{ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً } يحتمل أن يعود الضمير على السفينة ، أو على النجاة ، أو على القصة بكاملها .
(1/1404)
إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)
{ وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } هو من الخلقة يريد به نحت الأصنام فسماه خلقة على وجه التجوّز ، وقيل هو من اختلاق الكذب { لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً } الآية : احتجاج على الوحدانية ونفي الشركاء ، فإن قيل : لم نكَّر الرزق أولاً ، ثم عرَّفه في قوله : { فابتغوا عِندَ الله } ؟ فالجواب : أنه نكره في قوله : { لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً } لقصد العموم في النفي ، فإن النكرة في سياق النفي تقتضي العموم . ثم عرَّفه بعد ذلك لقصد العموم في طلب الرزق كله من الله ، لأنه لا يقتضي العموم ، في سياق الإثبات إلا مع التعريف فكأنه قال : ابتغوا الرزق كله عند الله .
(1/1405)
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
{ وَإِن تُكَذِّبُواْ } الآية يحتمل أن تكون من كلام إبراهيم أو من كلام الله تعالى ، ويحتمل مع ذلك أن يراد به وعيد الكفار وتهديدهم ، أو يراد به تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب قومه له ، بالتأسي بغيره من الأنبياء ، الذين كذبهم قومهم .
(1/1406)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21)
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ الله الخلق } يقال بدأ الله الخلق وأبداه بمعنى واحد ، وقد جاءت اللغتان في هذه السورة والمعنى : أو لم يَرَ الكفار أن الله خلق الخلق فيستدلون بالخلقة ا لأولى على الإعادة في الحشر ، فقوله : { ثُمَّ يُعِيدُهُ } ليس بمعطوف على يبدأ ، لأن المعنى فيهما مختلف ، لأن رؤية البداءة بالمشاهدة ، بخلاف الإعادة فإنها تعلم بالنظر والاستدلال ، وإنما هو معطوف على الجملة كلها ، وقد قيل : إنه يريد إعادة النبات ، وإبدائه ، وعلى هذا يكون { ثُمَّ يُعِيدُهُ } عطفاً على يبدىء لاتفاق المعنى ، والأول أحسن وأليق بمقاصد الكلام { إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ } يعني إعادة الخلق وهي حشرهم ، ثم أمرهم بالسير في الأرض ليروا مخلوقات الله فيستدلوا بها على قدرته على حشرهم ، ولذلك ختمها بقوله : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } { وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } أي ترجعون .
(1/1407)
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22)
{ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي لا تفوتون من عذاب الله وليس لكم مهرب في الأرض ولا في السماء .
(1/1408)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
{ أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي } يحتمل أن يكون يأسهم في الآخرة ، أو يكون وصف لحالهم في الدنيا ، لأن الكافر يائس من رحمة الله ، والمؤمن راج خائف ، وهذا الكلام من قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } ، إلى هنا : يحتمل أن يكون خطاباً لمحمد صلى الله عليه وسلم معترضاً بين قصة إبراهيم ، ويحتمل أن يكون خطاباً لإبراهيم وبعد ذلك ذكر جواب قومه له .
(1/1409)
وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
{ مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ } نصب مودة على أنها مفعول من أجله أو مفعول ثاني لاتخذتم ، ورفعها على أنها خبر ابتداء مضمر أو خبر إن ، وتكون ما موصولة ونصب بينكم على الظرفية ، وخفضه بالإضافة .
(1/1410)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26)
{ فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } تضمن آمن معنى انقاد ، ولذلك تعدّى باللام { وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي } القائل لذلك أبراهيم ، وقيل : لوط ، وهاجرا من بلادهما بأرض بابل إلى الشام .
(1/1411)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
{ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة } أكثر الأنبياء من ذرية إبراهيم ، وعلى ذريته أنزل الله التوراة والإنجيل والزبور والفرقان .
(1/1412)
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29)
{ وَتَقْطَعُونَ السبيل } قيل أراد قطع الطرق للسلب والقتل ، وقيل : أراد قطع سبيل النسل بترك النساء وإتيان الرجال { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر } النادي المجلس الذي يجتمع فيه الناس ، والمنكر فعلهم بالرجال ، وقيل : إذايتهم للناس .
(1/1413)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34)
{ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى } الرسل هنا الملائكة والبشرى بشارة إبراهيم بالولد وهو وقوله : { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ } [ الصافات : 101 ] أو بشارته بنصر سيدنا لوط ، والأول أظهر { أَهْلِ هذه القرية } يعني قرية سيدنا لوط ، { قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً } ليس أخباراً بأنه فيها ، وإنما قصد نجاة سيدنا لوط من العذاب الذي يصيب أهل القرية ، وبراءته من الظلم الذي وصفوه به ، فكأنه قال : كيف تهلكون أهل القرية وفيها لوط ، وكيف تقولون إنهم ظالمون وفيهم لوط { مِنَ الغابرين } قد ذكر وكذلك { سِيءَ بِهِمْ } { رِجْزاً مِّنَ السمآء } أي عذاباً .
(1/1414)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
{ وارجوا اليوم الأخر } قيل : الرجاء هنا الخوف ، وقيل : هو على بابه { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض } يعني نقصهم المكيال والميزان { الرجفة } هي الصيحة .
(1/1415)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
{ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ } أي آثار مساكنهم باقية تدل على ما أصابهم { وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ } قيل : معناه لهم بصيرة في كفرهم وإعجاب به ، وقيل : لهم بصيرة في الإيمان ، ولكنهم كفروا عناداً ، وقيل : معنى : مستبصرين عقلاء متمكنين من النظر والاستدلال ، ولكنه لم يفعلوا { وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ } أي لم يفوتونا { فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً } الحاصب الحجارة ، والحاصب أيضاً الريح الشديدة ، ويحتمل عندي أنه أراد به المعنيين ، لأن قوم سيدنا لوط أهلكوا بالحجارة ، وعاد أهلكوا بالريح ، وإن حملناه على المعنى الواحد نقص ذكر الآخر ، وقد أجاز كثير من الناس استعمال اللفظ الواحد في معنيين كقوله : { إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي } [ الأحزاب : 56 ] ويقوي ذلك هنا لأن المقصود هنا ذكر عموم أخذ أصناف الكفار { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة } يعني ثمود ومدين { وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض } يعني قارون { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا } يعني قوم نحو وفرعون وقومه .
(1/1416)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
{ مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً } شبه الله الكافرين في عبادتهم للأصنام بالعنكبوت في بنائها بيتاً ضعيفاً ، فكان ما اعتمدت عليه العنكبوت في بيتها ليس بشيء فكذلك ما اعتمدت عليه الكفار من آلهتهم ليس بشيء لأنهم لا ينفعون ولا يضرون { أَوْهَنَ البيوت } أي أضعفها { كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم .
(1/1417)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42)
{ إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ } ما موصولة بمعنى الذي مفعولة للفعل الذي قبلها وقيل : هي نافية ، والفعل معلق عنها والمعنى على هذا : لستم تدعون من دون الله شيئاً له بال ، فلا يصلح أن يسمى شيئاً .
(1/1418)
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44)
{ بالحق } أي بالواجب لا على وجه العبث واللعب .
(1/1419)
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
{ إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر } إذا كان المصلي خاشعاً في صلاته ، متذكراً لعظمة من وقف بين يديه ، حمله ذلك على التوبة من الفحشاء والمنكر؛ فكأن الصلاة ناهية عن ذلك { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } قيل : فيه ثلاثة معان؛ الأول أن المعنى أن الصلاة أكبر من غيرها من الطاعات ، وسماها بذكر الله ، لأن ذكر الله أعظم ما فيها ، كأنه أشار بذلك إلى تعليل نهيها عن الفحشاء والمنكر ، لأن ذكر الله فيها هو الذي ينهي عن الفحشاء والمنكر : الثاني أن ذكر الله على الدوام أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من الصلاة ، لأنها في بعض الأوقات دون بعض : الثالث أن ذكر الله أكبر أجراً من الصلاة ومن سائر الطاعات ، كما ورد في الحديث " ألا أنبئكم بخير أعمالكم؛ قالوا : بلى قال : ذكر الله " .
(1/1420)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
{ وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } أي لا تجادلوا كفار أهل الكتاب إذا اختلفتم معهم في الدين إلا بالتي هي أحسن ، لا بضرب ولا قتال ، وكان هذا قبل أن يفرض الجهاد ، ثم نسخ بالسيف ، ومعنى { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ } : أي ظلموكم ، وصرحوا بإذاية نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : معنى الآية؛ لا تجادلوا من أسلم من أهل الكتاب فيما حدثوكم به من الأخبار إلا بالتي هي أحسن ، ومعنى إلا الذين ظلموا على هذا من بقي منهم على كفره ، والمعنى الأول أظهر { وقولوا آمَنَّا } هذا وما بعده يقتضي مواعدة ومسالمة ، وهي ومنسوخة بالسيف ، ويقتضي أيضاً الأعراض عن مكالمتهم ، وفي الحديث : " لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : آمناً بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ، فإن كان باطلاً لم تصدقوهم ، وإن كان حقاً لم تكذبوهم " .
(1/1421)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47)
{ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب } أي كما أنزلنا الكتاب على من قبلك أنزلناه عليك { فالذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب } يعني عبد الله بن سلام وأمثاله ، ممن أسلم من اليهود والنصارى { وَمِنْ هؤلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ } أراد بالذين أوتوا الكتاب أهل التوراة والإنجيل ، وأراد بقوله : { وَمِنْ هؤلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ } كفار قريش ، وقيل : أراد بالذين أوتوا الكتاب المتقدّمين من أهل التوراة والإنجيل ، وأراد بهؤلاء المعاصرين لمحمد صلى الله عليه وسلم منهم كعب الله بن سلام .
(1/1422)
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)
{ وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ } هذا احتجاج على أن القرآن من عند الله ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقرأ ولا يكتب ، ثم جاء بالقرآن . فإن قيل : ما فائدة قوله بيمينك؟ فالجواب أن ذلك تأكيد للكلام ، وتصوير للمعنى المراد { إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون } أي لو كنت تقرأ أو تكتب لتطرق الشك إلى الكفار ، فكانوا يقولون : لعله تعلم هذا الكتاب أو قرأه ، وقيل : وجه الاحتجاج أن أهل الكتاب كانوا يجدون في كتبهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب ، فلما جعله الله كذلك قامت عليهم الحجة ، ولو كان يقرأ أو يكتب لكان مخالفاً للصفة التي وصفه الله بها عندهم ، والمذهب الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقرأ قط ولا كتب . وقال الباجي وغيره : إنه كتب لظاهر حديث الحديبية ، وهذا القول ضعيف .
(1/1423)
بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
{ بَلْ هُوَ آيَاتٌ } الضمير للقرآن ، والإضراب ببل عن كلام محذوف تقديره : ليس الأمر كما حسب الظالمون والمبطلون .
(1/1424)
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
{ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب } المعنى كيف يطلبون آية والقرآن الكريم أعظم الآيات ، وأوضحها دلالة على صحة النبوة ، فهلا اكتفوا به عن طلب الآيات { قُلْ كفى بالله } ذكره معناه في [ الرعد : 43 ] وفي الأنعام .
(1/1425)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54)
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب } الضمير للكفار يعني قولهم : { ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ } [ الأعراف : 77 ] ، وقولهم : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء } [ الأنفال : 32 ] وشبه ذلك { وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى } أي لولا أن الله قدّر لعذابهم أجلاً مسمى لجاءهم به حين طلبوه { وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ } يحتمل أن يريد القتل الذي أصابهم يوم بدر ، أو الجوع الذي أصابهم بهم بتوالي القحط ، أو يريد عذاب الآخرة ، وهذا أظهر لقوله : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } .
(1/1426)
يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
{ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب } أي يحيط بهم ، والعامل في الظرف محذوف أو محطيه .
(1/1427)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)
{ إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ } تحريض على الهجرة من مكة ، إذا كان المؤمنون يلقون فيها أذى الكفار ، وترغيباً في غيرها من أرض الله ، فحينئذ هاجروا إلى أرض الحبشة ، ثم إلى المدينة .
(1/1428)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58)
{ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ } أي ننزلنهم وقرأ حمزة والكسائي : نثوينهم بالثاء المثلثة من الثوى وهو الإقامة في المنزل .
(1/1429)
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)
{ وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } أي : كم من دابة ضعيفة لا تقدر على حمل رزقها ، ولكن الله يرزقها مع ضعفها ، والقصد بالآية : تقوية لقلوب المؤمنين ، إذا خافوا الفقر والجوع في الهجرة إلى بلاد الناس : أي كما يرزق الله الحيوانات الضعيفة كذلك يرزقكم إذا هاجرتم من بلدكم { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ } في الموضعين : إقامة حجة عليهم { العليم } أي كيف يصرفون عن الحق .
(1/1430)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
{ قُلِ الحمد لِلَّهِ } حمداً لله على ظهور الحجة ، ويكون المعنى إلزامهم أن يحمدوا الله لما اعترفوا أنه خلق السموات والأرض { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } إضراب عن كلام محذوف تقديره : يجب عليهم أن يعبدوا الله لما اعتفروا به ولكنهم لا يعقلون .
(1/1431)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64)
{ لَهِيَ الحيوان } أي الحياة الدائمة التي لا موت فيها ، ولفظ الحيوان مصدر كالحياة .
(1/1432)
فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65)
{ فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك } الآية : إقامة حجة عليهم بدعائهم حين الشدائد ، ثم يشركون به في حال الرخاء .
(1/1433)
لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
{ لِيَكْفُرُواْ } أمر على وجه التهديد ، أو على وجه الخذلان والتخلية ، كما تقول لمن تنصحه فلا يقبل نصحك : اعمل على ما شئت .
(1/1434)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67)
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً } الضمير لكفار قريش ، والحرم الآمن : مكة ، لأنها كانت لا تغير عليها العرب كما تغير على سائر البلاد ، ولا ينتهك أحد حرمتها { وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } عبارة عما يصيب غير أهل مكة من القتال أو أخذ الأموال .
(1/1435)
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
{ والذين جَاهَدُواْ فِينَا } يعني : جهاد النفس من الصبر على إذابة الكفار واحتمال الخروج عن الأوطان وغير ذلك ، قيل يعني : القتال : وذلك ضعيف لأن القتال لم يكن مأموراً به حين نزول الآية { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } أي لنوفقنهم لسبيل الخير { وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين } المعنى أنه معهم بإعانته ونصره .
(1/1436)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2)
{ الم * غُلِبَتِ الروم } أي هزم كسرى ملك الفرس جيش ملك الروم ، وسميت الروم باسم جدهم وهو روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم .
(1/1437)
فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)
{ في أَدْنَى الأرض } قيل : هي الجزيرة ، وهي بين الشام والعراق وهي أدنى أرض الروم إلى فارس ، وقيل في أدنى أرض العرب منهم وهي أطراف الشام { وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } إخبار بأن الروم سيغلبون الفرس .
(1/1438)
فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
{ فِي بِضْعِ سِنِينَ } البضع ما بين الثلاث إلى التسع { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون } رُوي أن غَلَب الروم فارس وقع يوم بدر ، وقيل : يوم الحديبية ففرح المؤمنون بنصر الله لهم على كفار قريش وقيل : فرح المؤمنون بنصر الروم على الفرس ، لأن الروم أهل كتاب فهم أقرب إلى الإسلام ، كذلك فرح الكفار من قريش بنصر الفرس على الروم ، لأن الفرس ليسوا بأهل كتاب ، فهم أقرب إلى كفار قريش ، وروي أنه لما فرح الكفار بذلك خرج إليهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فقال : إن نبينا صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا عن الله تعالى أنهم سيغلبون ، وراهنهم على عشرة قلاص [ القلاص مفردها : قلوص وهي الناقة الشابة ] إلى ثلاث سنين ، وذلك قبل أن يحرم القمار ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : زدهم في الرهن واستزدهم في الأجل ، فجعل القلاص مائة ، والأجل تسعة أعوام ، وجعل معه أبيّ بن خلف مثل ذلك ، فلما وقع الأمر على ما أخبر به أخذ أبو بكر القلاص من ذرية أبيّ بن خلف ، إذ كان قد مات وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : تصدق بها .
(1/1439)
وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)
{ وَعْدَ الله } مصدر مؤكد كقوله : له علي ألف درهم عُرفاً ، لأن معناه اعترفت له بها اعترافاً .
(1/1440)
يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
{ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً } قيل : معناه يعلمون ما يدرك بالحواس دون ما يدرك بالعقول؛ فهم في ذلك مثل البهائم : وقيل : الظاهر ما يعلم بالنظر بأوائل العقول ، والباطن ما يعلم بالنظر والدليل ، وقيل : هو من الظهور بمعنى العلو في الدنيا ، وقيل : ظاهر بمعنى زائل ذاهب ، والأظهر أنه أراد بالظاهر المعرفة بأمور الدنيا ومصالحها ، لأنه وصفهم بعد ذلك بالغفلة عن الآخرة ، وذلك يقتضي عدم معرفتهم بها ، وانظر كيف نفى العلم عنهم أولاً ، ثم أثبت لهم العلم بالدنيا خاصة ، وقال بعض أهل البيان : إن هذا من المطابقة لاجتماع النفي والإثبات ، وجعل بعضهم العلم المثبت كالعدم لقلة منفعته ، فهو على هذا بيان النفي .
(1/1441)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8)
{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ في أَنفُسِهِمْ } يحتمل معنيين : أحدهما أن تكون النفس ظرفاً للفكرة في خلق السموات والأرض كأنه قال : أو لم يتفكروا بعقولهم فيعلموا أن الله خلق السموات والأرض إلا بالحق ، والثاني أي يكون المعنى أولم يتفكروا في ذواتهم وخلقتهم ليستدلوا على الخالق ، ويكون قوله : ما خلق الآية : استئناف كلام ، والمعنى الأول أظهر .
(1/1442)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
{ وَأَثَارُواْ الأرض } أي حرثوها .
(1/1443)
ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
{ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الذين أَسَاءُواْ السواءى } معنى السوآى : هلاك الكفار ، ولفظ السوآى تأنيث الأسوأ : كما أن الحسنى تأنيث الأحسن ، وقرئ عاقبة بالرفع على أنه اسم كان ، والسوآى خبرها ، وقرئ بنصب عاقبة على أنها خبر كان ، والسوآى اسمها ، وإن كذبوا مفعول من أجله ، ويحتمل أن تكون السوآى مصدر أساؤوا .
(1/1444)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12)
{ يُبْلِسُ المجرمون } الإبلاس الكون في شر من اليأس من الخير .
(1/1445)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)
{ يَتَفَرَّقُونَ } معناه في المنازل والجزاء .
(1/1446)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)
{ يُحْبَرُونَ } تنعمون من الحبور وهو السرور والنعيم ، وقيل : تكرمون .
(1/1447)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18)
{ فَسُبْحَانَ الله } هذا تعليم للعباد أي : قولوا سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون { وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } أي حين تدخلون في وقت الظهيرة وهي وسط النهار ، وقوله : { وَلَهُ الحمد فِي السماوات والأرض } : اعتراض بين المعطوفات وقيل : أراد بذلك الصلوات الخمس ، ف { حِينَ تُمْسُونَ } المغرب والعشاء ، { وَحِينَ تُصْبِحُونَ } : الصبح ، { وَعَشِيّاً } : العصر ، { وَحِينَ تُظْهِرُونَ } : الظهر .
(1/1448)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20)
{ يُخْرِجُ الحي } ذكر في آل عمران { وَيُحْي الأرض } أي ينبت فيها النبات { وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } أي كما يخرج الله النبات من الأرض ، كذلك يخرجكم من الأرض للبعث يوم القيامة { تَنتَشِرُونَ } أي تنصرفون في الدنيا .
(1/1449)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22)
{ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } أي صنفكم وجنسكم ، قيل أراد خلقة حواء من ضلع آدم ، وخاطب الناس بذلك لأنهم ذرية آدم { مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } قيل : بسبب المصاهرة ، والعموم أحسن وأبلغ { واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ } أي لغاتكم { وَأَلْوَانِكُمْ } يعني البياض والسواد ، وقيل : يعني أصنافكم ، والأول أظهر .
(1/1450)
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
{ خَوْفاً وَطَمَعاً } ذكر في [ الرعد : 12 ] .
(1/1451)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
{ أَن تَقُومَ السمآء والأرض } معناه تثبت أو يقوم تدبيرها { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } إذا الأولى شرطية ، والثانية فجائية وهي جواب الأولى ، والدعوة في هذه الآية قوله للموتى : قوموا بالنفخة الثانية في الصور ، ومن الأرض يتعلق بقوله مخرجون أو بقوله دعاكم ، على أن تكون الغاية بالنظر إلى المدعوّ كقولك : دعوتك من الجبل إذا كان المدعو في الجبل .
(1/1452)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26)
{ قَانِتُونَ } ذكر في [ البقرة : 116 ] .
(1/1453)
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
{ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } أي الإعادة يوم القيامة أهون عليه من الخلقة الأولى ، وهذا تقريب لفهم السامع وتحقيق للبعث ، فإن من صنع صنعة أول مرة كانت أسهل عليه ثاني مرة ، ولكن الأمور كلها متساوية عند الله ، فإن كل شيء على الله يسير { وَلَهُ المثل الأعلى } أي الوصف الأعلى الذي يصفه به أهل السموات والأرض .
(1/1454)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)
{ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ } هذا هو المثل المضروب معناه : أنكم أيها الناس لا يشارككم عبيدكم في أموالكم ، ولا يستوون معكم في أحوالكم ، فكذلك الله تعالى لا يشارك عبيده في ملكه ، ولا يماثله أحد في ربوبيته ، فذكر حرف الاستفهام ومعناه : التقرير على النفي ، ودخل في النفي قوله : { فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } : أي لستم في أموالكم سواء مع عبيدكم ، ولستم تخافونهم كما تخافون الأحرار مثلكم ، لأن العبيد عندكم أقل وأذل من ذلك .
(1/1455)
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
{ بَلِ اتبع الذين ظلموا أَهْوَآءَهُمْ } الإضراب ببل عما تضمنه معنى الآية المتقدمة كأنه يقول : ليس لهم حجة في إشراكهم بالله؛ بل اتبعوا في ذلك أهواءهم بغير علم .
(1/1456)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)
{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ } هو دين الإسلام ، وإقامة الوجه في الموضعين من السورة عبارة عن الإقبال عليه والإخلاص فيه في قوله : { فَأَقِمْ } ، و { القيم } ضرب من ضروب التجنيس { فِطْرَتَ الله } منصوب على المصدر : كقوله : صبغة الله أو مفعولاً بفعل مضمر تقديره : الزموا فطرة الله ، أو عليكم فطرة الله ، ومعناه خلقة الله ، والمراد به دين الإسلام ، لأن الله خلق الخلق عليه ، إذ هو الذي تقتضيه عقولهم السليمة ، وإنما كفر من كفر لعارض أخرجه عن إصل فطرته ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه " .
{ لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } يعني بخلق الله الفطرة التي خلق الناس عليها من الإيمان ، ومعنى أن الله لا يبدلها ، أي لا يخلق الناس على غيرها ، ولكن يبدلها شياطين الإنس والجن بعد الخلقة الأولى ، أو يكون المعنى أن تلك الفطرة لا ينبغي للناس أن يبدلوها ، فالنفي على هذا حكم لا خبر وقيل : إنه على الخصوص في المؤمنين؛ أي لا تبديل لفطرة الله في حق من قضى الله أنه يثبت على إيمانه ، وقيل : إنه نهى عن تبديل الخلقة كخصاء الفحول من الحيوان ، وقطع آذانها وشبه ذلك .
(1/1457)
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31)
{ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ } منصوب على الحال في قوله : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ } لأن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد هو وأمته ، ولذلك جمعهم في قوله منيبين ، وقيل : هو حال من ضمير الفاعل المستتر في الزموا فطرة الله ، وقيل : هو حال من قوله : فطر الناس وهذا بعيد { واتقوه } وما بعده معطوف على " أقم وجهك " أو على العامل في فطرة الله وهو الزموا المضمر .
(1/1458)
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
{ مِنَ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } المجرور بدل من المجرور قبله ، ومعنى فرقوا دينهم : جعلوه فرقاً أي اختلفوا فيه ، وقرئ : فارقوا من المفارقة أي تركوه ، والمراد بالمشركين هنا أصناف الكفار ، وقيل : هم المسلمون الذي تفرقوا فرقاً مختلفة ، وفي لفظ المشركين هنا تجوّز بعيد ، ولعل قائل هذا القول إنما قال في قول الله في [ الأنعام : 159 ] { إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } فإنه ليس هناك ذكر المشركين .
(1/1459)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34)
{ وَإِذَا مَسَّ الناس ضُرٌّ } بالآية : إنحاء على المشركين ، لأنهم يدعون الله في الشدائد ويشركون به في الرخاء { لِيَكْفُرُواْ } ذكر في [ النحل : 55 ] .
(1/1460)
أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35)
{ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً } أم هنا منقطعة بمعنى بل ، والسلطان الحجة ، وكلامه مجاز كما تقول نطق : بكذا ، والمعنى ليس لهم حجة تشهد بصحة شركهم .
(1/1461)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)
{ وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً } إنحاء على من يفرح ويبطر إذا أصابه الخير ، ويقنط إذا أصابه الشر ، وانظر كيف قال هنا { إِذَا } ، وقال في الشر { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } ، لأن إذا للقطع بوقوع الشرط ، بخلاف إن فإنها للشك في وقوعه ، ففي ذلك إشارة إلى أن الخير الذي يصيب به عباده أكثر من الشرّ { بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } المعنى أن ما يصيب الناس من المصائب ، فإنه بسبب ذنوبهم .
(1/1462)
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)
{ فَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ } يعني صلة رحم القرابة بالإحسان والمودّة ، ولو بالكلام الطيب .
(1/1463)
وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)
{ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ الناس } الآية : معناها كقوله : { يَمْحَقُ الله الرباوا وَيُرْبِي الصدقات } [ البقرة : 276 ] أي ما أعطيتم من أموالكم على وجه الربا فلا يزكو عند الله ، وما آتيتم من الصدقات : هو الذي يزكو عند الله وينفعكم به ، وقيل : المراد أن يهب الرجل للرجل أو يهدي له ليعوض له أكثر من ذلك ، فهذا وإن كان جائزاً فإنه لا ثواب فيه . وقرئ { وَمَآ آتَيْتُمْ } بالمد بمعنى أعطيتم وبالقصر يعني : جئتم أي فعلتموه ، { لِّيَرْبُوَاْ } بالتاء المضمومة { لِّيَرْبُوَاْ } بالياء مفتوحة ونصب الواو { فأولئك هُمُ المضعفون } المضعف ذو الإضعاف من الحسنات ، وفي هذه الجملة التفات لخروجه من الغيبة إلى الخطاب ، وكان الأصل أن يقال : وما آتيتم من زكاة فأنتم المضعفون ، وفيه أيضاً حذف ، لأنه لا بد من ضمير يرجع إلى ما ، وتدقيره المضعفون به أو فمؤتوه هم المضعفون .
(1/1464)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)
{ ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر } قيل : البر البلاد البعيدة من البحر ، والبحر هو البلاد التي على ساحل البحر ، وقيل : البر اللسان والبحر القلب وهذا ضعيف ، والصحيح أن البر والبحر المعروفان ، فظهور الفساد في البر بالقحط والفتن وشبه ذلك ، وظهور الفساد في البحر بالغرق وقلة الصيد وكساد التجارات وشبه ذلك ، وكل ذلك بسبب ما يفعله الناس من الكفر والعصيان .
(1/1465)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
{ لاَّ مَرَدَّ لَهُ } أي لا رجوع له ولا بد من وقوعه { مِنَ الله } يتعلق بقوله : { يَأْتِيَ } أو بقوله لا مردّ له أي لا يرده الله { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } من الصدع وهو الفرقة أي يتفرقون : { فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير } [ الشورى : 7 ] { فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } أي يوطنون وهو استعارة من تمهيد الفراش ونحوه ، والمعنى أنهم يعملون ما ينتفعون به في الآخرة { لِيَجْزِيَ } يتعلق بيمهدون أو يصدعون ، أو بمحذوف .
(1/1466)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
{ مُبَشِّرَاتٍ } أي تبشر بالمطر { وَلِيُذِيقَكُمْ } عطف على { مُبَشِّرَاتٍ } كأنه قال : ليبشركم وليذيقكم ويحتمل أن يتعلق بمحذوف تقديره : ليذيقكم { مِّن رَّحْمَتِهِ } أرسلها { وَكَانَ حَقّاً } انتصب حقاً لأنه خبر كان واسمها { نَصْرُ المؤمنين } ، وقيل : اسمها مضمر يعود على مصدر انتقمنا : أي كان الانتقام حقاً ، فعلى هذا يوقف على { حَقّ } ويكون { نَصْرُ المؤمنين } مبتدأ وهذا ضعيف .
(1/1467)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)
{ فَتُثِيرُ سَحَاباً } أي تحركها وتنشرها { كِسَفاً } أي قطعاً ، وقرئ بإسكان السين وهما بناءان للجمع ، وقيل : معنى الإسكان أن السحاب قطعة واحدة { الودق } هو المطر { مِنْ خِلاَلِهِ } الخلال الشقاق الذي بين بعضه وبعض ، لأنه متخلل الأجزاء والضمير يعود على السحاب { مِّن قَبْلِهِ } كرر للتأكيد وليفيد سرعة تقلب قلوب الناس من القنوط إلى الاستبشار { لَمُبْلِسِينَ } أي قانطين كقوله : { يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } [ الشورى : 28 ] .
(1/1468)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
{ فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً } الضمير للنابت الذي ينبته الله بالمطر ، والمعنى لئن أرسل الله ريحاً فاصفر به لكفر الناس بالقنوط والاعتراض على الله ، وقيل : الضمير للريح : وقيل : للسحاب والأول أحسن في المعنى .
(1/1469)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)
{ فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } الآية : استعارة في عدم سماع الكفار للمواعظ والبراهين ، فشبه الكفار بالموتى في عدم إحساسهم .
(1/1470)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
{ خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ } الضعف الأول كون الإنسان من ماء مهين ، وكونه ضعيف في حال الطفولية ، والضعف الثاني الأخير الهم ، وقرئ بفتح الضاد وضمها وهما لغتان .
(1/1471)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55)
{ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ } هذا جواب القسم ، ومعناه أنهم يحلفون أنهم ما لبثوا في القبور تحت التراب إلا ساعة ، أي ما لبثوا في الدنيا إلا ساعة ، وذلك لاستقصار تلك المدة { كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ } أي مثل هذا الصرف كانوا يصرفون في الدنيا عن الصدق ، والتحقيق حتى يروا الأشياء على ما هي عليه .
(1/1472)
وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56)
{ وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان } هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون ردّوا مقالة الكفار التي حلفوا عليها { فِي كِتَابِ الله } يعني اللوح المحفوظ أو علم الله ، والمجرور على هذا يتعلق بقوله : { لَبِثْتُمْ } ، وقيل : يعني القرآن ، فعلى هذا يتعلق هذا المجرور بقوله { أُوتُواْ العلم } ، وفي الكلام تقديم و تأخير ، وتقديره على هذا : قال الذين أتوا العلم في كتاب الله أي العلماء بكتاب الله وقولهم : { لَقَدْ لَبِثْتُمْ } خطاب للكفار ، وقولهم : { فهذا يَوْمُ البعث } : تقرير لهم ، وهو في المعنى جواب لشرط مقدّر تقديره : إن كنتم تنكرون البعث فهذا يوم البعث .
(1/1473)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
{ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } من العتبى بمعنى الرضا : أي ولا يرضون وليست استفعل هنا للطلب .
(1/1474)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
{ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } يعني ما وعد من النصر على الكفار { وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ } من الخفة : أي لا تضطرب لكلامهم .
(1/1475)
تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2)
{ الكتاب الحكيم } ذكر في يونس .
(1/1476)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6)
{ وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث } هو الغناء ، وفي الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال شراء المغنيات وبيعهنّ حارم ، وقرأ هذه الآية ، وقيل : نزلت في قرشي اشترى جارية مغنية تغني بهجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالشراء على هذا حقيقة ، وقيل : نزلت في النضر بن الحارث ، وكان قد تعلم أخبار فارس ، فذلك هو لهو الحديث ، وشراء لهو الحديث استحبابه وسماعه ، فالشراء على هذا مجاز ، وقيل { لَهْوَ الحديث } : الطبل ، وقيل : الشرك ، ومعنى اللفظ يعم ذلك كله ، وظاهر الآية أنه لهوٌ مضافٌ إلى الكفر بالدين واستخفاف ، لقوله تعالى : { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله } الآية ، وأن المراد شخص معين ، لوصفه بعد ذلك بجملة أوصاف .
(1/1477)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)
{ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } ذكر في [ الرعد : 2 ] { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } أي لئلا تميد بكم .
(1/1478)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
{ لُقْمَانَ } رجل ينطق بالحكمة واختلف هل هو نبيّ أم لا؟ وفي الحديث لم يكن لقمان نبياً ، ولكن عبداً حسن اليقين أحب الله فأحبه ، فمنّ عليه بالحكمة ، روي أنه كان ابن أخت أيوب أو ابن خالته ، وروي أنه كان قاضي بني إسرائيل ، واختلف في صناعته ، فقيل : كان نجاراً وقيل : خياطاً ، وقيل : راعي غنم ، وكان ابنه كافراً فما زال يوصيه حتى أسلم ، وروي أن اسم ابنه ثاران .
(1/1479)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
{ وَوَصَّيْنَا الإنسان } هذه الآية والتي بعدها اعتراض في اثناء وصية لقمان لابنه؛ على وجه التأكيد لما في وصية لقمان من النهي عن الشرك بالله ، ونزلت الآية في سعد بن أبي وقاص وأمه حسبما ذكرنا في العنكبوت { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ } أي ضعفاً على ضعف ، لأن الحمل كلما عظم ازدادت الحامل به ضعفاً ، وانتصاب { وَهْناً } بفعل مضمر تقديره : تهن وهنا { وَفِصَالُهُ } اي فطامه ، وأشار بذلك إلى غاية مدة الرضاع { أَنِ اشكر } تفسير للوصية واعترض بينهما وبين تفسيرها بقوله : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } ليبين ما تكابده الأم بالولد مما يوجب عظيم حقها ، ولذلك كان حقها أعظم من حق الأب .
(1/1480)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)
{ يابني } الآية : رجع إلى كلام لقمان ، والتقدير : وقال لقمان يا بنيّ { مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ } أي وزنها ، والمراد بذلك أن الله يأتي بالقليل والكثير ، من أعمال العباد فعبَّر بحبة الخردل ليدل على ما هو أكثر { فِي صَخْرَةٍ } قيل : معنى الكلام أن مثقال خردلة من الأعمال أو من الأشياء ولو كانت في أخفى موضع كجوف صخرة ، فإن الله يأتي بها يوم القيامة ، وكذلك لو كانت في السموات أو في الأرض .
(1/1481)
يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)
{ واصبر على مَآ أَصَابَكَ } أمر بالصبر على المصائب عموماً ، وقيل : المعنى ما يصيب من يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر { مِنْ عَزْمِ الأمور } يحتمل أن يريد ما أمر الله به على وجه العزم والإيجاب ، أو من مكارم الأخلاق التي يعزم عليها أهل الحزم والجد ، ولفظ العزم مصدر يراد به المفعول أي : من معزومات الأمور .
(1/1482)
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)
{ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } الصعر في اللغة : الميل أي لا تول الناس خدك وتعرض عنهم تكبراً عليهم { مَرَحاً } ذكر في [ الإسراء : 37 ] { مُخْتَالٍ } من الخيلاء .
(1/1483)
وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
{ واقصد فِي مَشْيِكَ } أي اعتدل فيه ولا تتسرع إسراعاً يدل على الطيش ، والخفة ، ولا تبطئ إبطاء يدل على الفخر والكبر .
(1/1484)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)
{ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } الظاهرة : الصحة والمال وغير ذلك ، والباطنة : النعم التي لا يطلع عليها الناس ، ومنها ستر القبيح من الأعمال ، وقيل : الظاهرة نعم الدنيا ، والباطنة : نعم العقبى ، واللفظ أعم من ذلك كله .
{ وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ } نزلت في النضر بن الحارث وأمثاله .
(1/1485)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
{ أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير } معناه أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم إلى النار .
(1/1486)
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)
{ وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله } يسلم أي يخلص أو يستسلم أو ينقاد ، والوجه هنا عبارة عن القصد { بالعروة الوثقى } ذكر في البقرة .
(1/1487)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)
{ قُلِ الحمد لِلَّهِ } وما بعده ذكر في العنكبوت .
(1/1488)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)
{ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ } الآية إخبار بكثرة كلمات الله ، والمراد اتساع علمه ومعنى الآية : أن شجر الأرض لو كانت أقلاماً ، والبحر لو كان مداداً يصب فيه سبعة أبحر صَبّاً دائماً وكتبت بذلك كلمات الله لنفدت الأشجار والبحار ولم تنفد كلمات الله ، لأن الأشجار والبحار متناهية ، وكلمات الله غير متناهية ، فإن قيل : لم لم يقل والبحر مداداً كما قال في الكهف قل لو كان البحر مدداً؟ فالجواب : أنه أغنى من ذلك قوله : { يَمُدُّهُ } لأنه من قولك مدّ الدواة وأمدّها ، فإن قيل لم قال : { مِن شَجَرَةٍ } ولم يقل من شجر باسم الجنس الذي يقتضي العموم؟ فالجواب أنه أراد تفصيل الشجر إلى شجرة شجرة حتى لا يبقى منها واحدة ، فإن قيل : لم قال { كَلِمَاتُ الله } ولم يقل كلم الله بجمع الكثرة؟ فالجواب أن هذا أبلغ لأنه إذا لم تنفد الكلمات مع أنه جمع قلة ، فكيف ينفد الجميع الكثير . وروي أن سبب الآية أن اليهود قالوا : قد أوتينا التورات وفيها العلم كله فنزلت الآية؛ لتدل أن ما عندهم قليل من كثير ، والآية على هذا مدنية ، وقيل : أن سببها إن قريشاً قالوا إن القرآن سينفد .
(1/1489)
مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
{ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } بيان لقدرة الله على بعث الناس وردّ على من استبعد ذلك .
(1/1490)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)
{ يُولِجُ الليل فِي النهار } أي يدخل كلاً منهما في الآخر بما يزيد في أحدهما وينقص من الآخر ، أو بإدخال ظلمة الليل على ضوء النهار وإدخال ضوء النهار على ظلمة الليل { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } يعني يوم القيامة .
(1/1491)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
{ ذَلِكَ بِأَنَّ الله } يحتمل أن تكون الباء سببية ، أو يكون المعنى ذلك بأن الله شاهد هو الحق .
(1/1492)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)
{ بِنِعْمَةِ الله } يحتمل أن يريد بذلك ما تحمله السفن من الطعام والتجارات ، والباء للإلصاق أو للمصاحبة ، أو يريد الريح فتكون الباء سببية { صَبَّارٍ شَكُورٍ } مبالغة في صابر وشاكر .
(1/1493)
وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
{ كالظلل } جمع ظلة وهو ما يعلوك من فوق ، شبَّه الموج بذلك إذا ارتفع وعظم حتى علا فوق الإنسان { فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } المقتصد المتوسط في الأمر ، فيحتمل أن يريد كافراً متوسطاً في كفره لم يسرف فيه أو مؤمناً متوسطاً في إيمانه ، لأن الإخلاص الذي عليه في البحر كان يزول عنه ، وقيل : معنى مقتصد مؤمن ثبت في البر على ما عاهد الله عليه في البحر { خَتَّارٍ } أي غدّار شديد الغدر ، وذلك أنه جحد نعمة الله غدراً .
(1/1494)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
{ لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ } أي لا يقضي عنه شيئاً ، والمعنى ، أنه لا ينفعه ولا يدفع عنه مضرة { وَلاَ مَوْلُودٌ } أي ولد فكما لا يقدر الوالد لولده على شيء ، كذلك لا يقدر الولد لوالده على شيء { الغرور } الشيطان وقيل : الأمر والتسويف .
(1/1495)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
{ عِلْمُ الساعة } أي متى تكون ، فإن ذلك مما انفرد الله بعلمه ، ولذلك جاء في الحديث : " مفاتح الغيب خمس " وتلا هذه الآية { مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً } يعني من خير أو شر أو ما أو ولد أو غير ذلك .
(1/1496)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
{ تَنزِيلُ الكتاب } يعني القرآن { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي لا شك أنه من عند الله عز وجل ، ونفي الريب على اعتقاد أهل الحق ، وعلى ما هو الأمر في نفسه ، لا على اعتقاد أهل الباطل { مِن رَّبِّ العالمين } يتعلق بتنزيل .
(1/1497)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
{ أَمْ يَقُولُونَ } الضمير لقريش و { أَمْ } بمعنى بل ، والهمزة { لِتُنذِرَ } يتعلق بما قبله أو بمحذوف { مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ } يعني من الفترة من زمن عيسى ، وقد جاء الرسل قبل ذلك إبراهيم وغيره ، ولما طالت الفترة على هؤلاء أرسل الله رسولاً ينذرهم ليقيم الحجة عليهم .
(1/1498)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4)
{ استوى عَلَى العرش } قد ذكر في [ الأعراف : 53 ] { مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ } نفي الشفاعة على وجهين أحدها الشفاعة للكفار وهي معدومة على الاطلاق ، والآخر : أن الشفاعة للمؤمنين لا تكون إلا بإذن الله كقوله : { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } [ يونس : 3 ] .
(1/1499)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)
{ يُدَبِّرُ الأمر } أي واحد الأمور ، وقيل : المأمور به من الطاعات ، والأول أصح { مِنَ السمآء إِلَى الأرض } أي ينزل ما دبره وقضاه من السماء وإلى الأرض { ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } قال ابن عباس : المعنى ينفذ الله ما قضاه من السماء إلى الأرض ، ثم يعرج إليه خبر ذلك في يوم من أيام الدنيا مقداره لو سِيَر فيه السير المعروف من البشر ألف سنة لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام ، فالألف ما بين نزول الأمر إلى الأرض وعروجه إلى السماء ، وقيل : إن الله يلقى إلى الملائكة أمور ألف سنة من أعوام البشر وهو يوم من أيام الله ، فإذا فرغت ألقي إليهم مثلها ، فالمعنى أن الأمور تنفذ عنده لهذه المدّة ، ثم تصير إليه آخراً لأن عاقبة الأمور إاليه ، فالعروج على هذه عبارة عن مصير الأمور إليه .
(1/1500)
ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
{ عَالِمُ الغيب والشهادة } الغيب ما غاب عن المخلوقين ، والشهادة ما شاهدوه .
(1/1501)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7)
{ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } أي أتقن جميع المخلوقات ، وقرئ بإسكان اللام على البدل { وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ } يعني آدم عليه السلام .
(1/1502)
ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8)
{ نَسْلَهُ } يعني ذريته { مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } يعني المنيّ ، والسلام مشتقة من سل يسل ، فكأن الماء يسل من الإنسان ، والمهين الضعيف .
(1/1503)
ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
{ ثُمَّ سَوَّاهُ } أي قومه { وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ } عبارة عن إيجاد الحياة فيه ، وأضيفت الروح إلى الله إضافة مُلك إلى ملك ، وقد يراد بها الاختصاص ، لأن الروح لا يعلم كنهه إلى الله .
(1/1504)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10)
{ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض } أي تلفنا وصرنا تراباً ، ومعنى هذا الكلام المحكي عن الكفار استبعاد البعث ، والعامل في إذا معنى قولهم : إنا لفي خلق جديد تقديره : نبعث .
(1/1505)
قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
{ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت } اسمه عزرائيل وتحت يده ملائكة .
(1/1506)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12)
{ وَلَوْ ترى } يحتمل أن تكون لو للتمني ، وتأويله في حق الله كتأويل الترجي ، وقد ذكر ، أو تكون للامتناع وجوابها محذوف تقديره : ولو ترى حال المجرمين في الآخرة لرأيت أمرا مهولاً { نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ } عبارة عن الذل والغم والندم { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } تقديره : يقولون ربنا قد عملنا الحقائق .
(1/1507)
وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13)
{ وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } يعني أنه لو أراد أن يهدي جميع الخلائق لفعل ، فإنه قادر على ذلك بأن يجعل الإيمان في قلوبهم ويدفع عنهم الشيطان والشهوات ، ولكن يُضل من يشاء ويهدي من يشاء .
(1/1508)
فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
{ فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ } أي يقال لهم : ذوقوا ، والنسيان هنا بمعنى الترك .
(1/1509)
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)
{ تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع } أي ترتفع والمعنى يتركون مضاجعهم بالليل من كثرة صلاتهم النوافل ، ومن صلى العشاء والصبح في جماعة فقد أخذ بحظه من هذا .
(1/1510)
فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
{ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } يعني : أنه لا يعلم أحد مقدار ما يعطيهم الله من النعيم وقرأ حمزة { أُخْفِي } بإسكان الياء على أن يكون فعل المتكلم وهو الله تعالى .
(1/1511)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)
{ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً } الآية : يعني المؤمنين والفاسقين على العموم ، وقيل : يعني عليّ بن أبي طالب وعقبة بن أبي معيط .
(1/1512)
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21)
{ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } الذي نعت بالعذاب ، ولذلك أعاد عليه الضمير المذكور في قوله : { بِهِ } ، فإن قيل : لم وصف هنا العذاب وأعاد عليه الضمير ، ووصف في سبأ النار وأعاد عليها الضمير ، وقال عذاب النار التي كنتم بها تكذبون؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول أنه خص العذاب في السجدة بالوصف اعتناء به لما تكرر ذكره في قوله : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى دُونَ العذاب الأكبر } ، والثاني : أنه قدم في السجدة ذكر النار ، فكان الأصل أن يذكرها بعد ذلك بلفظ الضمير ، لكنه جعل الظاهر مكان المضمر فكما لا يوصف المضمر لم يوصف ما قام مقامه وهو النار ، ووصف العذاب ولم يصف النار ، الثالث وهو الأقوى أنه امتنع في السجدة وصف النار فوصف العذاب ، وإنما امتنع وصفها لتقدم ذكرها ، فإنك إذا ذكرت شيئاً ثم كررت ذكره لم يجز وصفه ، كقولك : رأيت رجلاً فأكرمت الرجل ، فلا يجوز وصفه لئلا يفهم أنه غيره .
{ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى } يعني الجوع ومصائب الدنيا وقيل : القتل يوم بدر ، وقيل : عذاب القبر وهذا بعيد لقوله { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } .
(1/1513)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
{ إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ } هذا وعيد لمن ذُكر بآيات ربه فأعرض عنها ، وكان الأصل أن يقول : إنا منه منتقمون ، ولكنه وضع المجرمين موضع المضمر ليصفهم بالإجرام ، وقدّم المجرور في منتقمون للمبالغة .
(1/1514)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23)
{ فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ } المرية الشك ، والضمير لموسى : أي لا تمتر في لقائك موسى ليلة الإسراء وقيل : المعنى لا تشك في لقاء موسى ، والكتاب الذي أنزل عليه ، والكتاب على هذا التوراة ، وقيل : الكتاب هنا جنس ، والمعنى : لقد آتينا موسى الكتاب فلا تشك أنت في لقائك الكتاب الذي أنزل عليك ، وعبر باللقاء عن إنزال الكتاب كقوله : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن } [ النمل : 6 ] .
(1/1515)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
{ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ } الضمير لجميع الخلق ، وقيل : لبني إسرائيل خاصة .
(1/1516)
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)
{ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } ذكر في [ طه : 128 ] { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } } الضمير في يمشون لأهل مكة : أي يمشون في مساكن القوم المهلكين : كقوله { وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ } [ العنكبوت : 38 ] وقيل : الضمير للمهلكين : أي أهلكناهم وهم يمشون في مساكنهم ، والأول أحسن لأن فيه حجة على أهل مكة .
(1/1517)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
{ الأرض الجرز } يعني التي لا نبات فيها من شدّة العطش .
(1/1518)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)
{ متى هذا الفتح } أي الحكم بين المسلمين والكفار في الآخرة ، وقيل : يعني فتح مكة ، وهذا بعيد لقوله { قُلْ يَوْمَ الفتح لاَ يَنفَعُ الذين كفروا إِيَمَانُهُمْ } وذلك في الآخرة ، وقيل : يعني فتح مكة ، لأن من آمن يوم فتح مكة نفعه إيمانه .
(1/1519)
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
{ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } منسوخ بالسيف { وانتظر إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ } أي انتظر هلاكهم إنهم ينتظرون هلاكك ، وفي هذا تهديد لهم .
(1/1520)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1)
{ ياأيها النبي } نداء فيه تكريم له ، لأنه ناداه بالنبوّة ، ونادى سائر الأنبياء بأسمائهم { اتق الله } أي دُمْ على التقوى وزد منها { وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } أي لا تقبل أقوالهم وإن أظهروا أنها نصيحة ، ويعني بالكافرين المظهرين للكفر ، وبالمنافقين الذين يظهرون الإسلام ويخفون الكفر ، وروي أن الكافرين هنا . أبيّ بن خلف ، والمنافقين هنا : عبد الله بن أبيّ بن سلول ، والعموم أظهر .
(1/1521)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
{ مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } قال ابن عباس : كان في قريش رجل يقال له ذو القلبين لشدّة فهمه ، فنزلت الآية نفياً لذلك وقيل : إنما جاء هذا اللفظ توطئة لما بعده من النفي ، أي كما لم يجعل الله لرجل من قلبين في جوفه ، كذلك لم يجعل أزواجكم أمهاتكم ولا أدعياءكم أبناءكم { اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ } أي تقولون للزوجة : أنت عليّ كظهر أمي ، وكانت العرب تطلق هذا اللفظ بمعنى التحريم ، ويأتي حكمه في سورة المجادلة ، وإنما تعدى هذا الفعل بمن لأنه يتضمن معنى يتباعدون منهنّ { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } الأدعياء جمع دعيّ ، وهو الذي يدعى ولد فلان وليس بولده ، وسببها أمر زيد بن حارثة : وذلك أنه كان فتى من [ قبيلة ] كلب ، فسباه بعض العرب وباعه من خديجة ، فوهبته للنبي صلى الله عليه وسلم فتبناه؛ فكان يقال له زيد بن محمد حتى أنزلت هذه الآية { ذلكم قَوْلُكُم } الإشارة إلى نسبة الدعي إلى غير أبيه ، أو إلى كل ما تقدم من المنفيات ، وقوله : { بِأَفْوَاهِكُمْ } تأكيد لبطلان القول .
(1/1522)
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
{ ادعوهم لآبَآئِهِمْ } الضمير للأدعياء ، أي انسبوهم لآبائهم الذين ولدوهم .
(1/1523)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
{ النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } يقتضي أن يحبوه صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم أكثر مما يحبون أنفسهم ، وأن ينصروا دينه أكثر مما ينصرون أنفسهم { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } جعل الله تعالى لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم حرمة الأمهات؛ في تحريم نكاحهن ووجوب مبرتهن ، ولكن أوجب جحبهن عن الرجال .
{ وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } هذا نسخ لما كان في صدر الإسلام من التوارث بأخوة الإسلام ، وبالهجرة وقد تكلمنا عليها في الأنفال { فِي كِتَابِ الله } يحتمل أن يريد القرآن ، أو اللوح المحفوظ { مِنَ المؤمنين } يحتمل أن يكون بياناً لأولى الأرحام أو يتعلق بأولى : أي أولو الأرحام أولى بالميراث من المؤمنين ، الذين ليسوا بذوي أرحام { إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } يريد الإحسان إلى الأولياء الذين ليسوا بقرابة ، ونفعهم في الحياة والوصية لهم عند الموت فذلك جائز ، ومندوب إليه ، وإن لم يكونوا قرابة ، وأما الميراث فللقرابة خاصة ، واختلف هل يعني بالأولياء المؤمنين خاصة ، أو المؤمنين والكافرين؟ { فِي الكتاب مَسْطُوراً } يعني القرآن أو اللوح المحفوظ .
(1/1524)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ } هو الميثاق بتبليغ الرسالة والقيام بالشرائع ، وقيل : هو الميثاق الذي أخذه حين أخرج بني آدم من صلب آدم كالذر ، والأول أرجح لأنه هو المختص بالأنبياء { وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } قد دخل هؤلاء في جملة النبيين ، ولكنه خصهم بالذكر تشريفاً لهم ، وقدم محمداً صلى الله عليه وسلم تفضيلاً له { مِّيثَاقاً غَلِيظاً } يعني الميثاق المذكور ، وإنما كرره تأكيداً ، وليصفه بأنه غليظ أي وثيق ثابت يجب الوفاء به .
(1/1525)
لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
{ لِّيَسْأَلَ الصادقين } اللام تحتمل أن تكون لام كي أم لام الصيرورة ، والصدق هنا يحتمل أن يكون الصدق في الأقوال ، أو الصدق في الأفعال والعزائم ويحتمل أن يريد بالصادقين الأنبياء وغيرهم من المؤمنين .
(1/1526)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9)
{ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ } هذه الآية وما بعدها نزلت في قصة غزوة الخندق ، والجنود المذكورة هم قريش ومن كان معهم من الكفار ، وسماهم الله في هذه السورة الأحزاب ، وكانوا نحو عشرة آلاف ، حاصروا المدينة وحفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق حولها ، ليمنعهم من دخولها { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً } أرسل الله عليهم ريح الصبا ، فأطفأت نيرانهم وأكفأت قدورهم ، ولم يمكنهم معها قرار فانصرفوا خائبين { وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } يعني الملائكة .
(1/1527)
إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
{ إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } أي حصروا المدينة من أعلاها ومن أسفلها ، وقيل : معنى من فوقكم أهل نجد ، لأن أرضهم فوق المدينة ومن أسفل منكم أهل مكة وسائر تهامة { وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار } أي مالت عن مواضعها وذلك عبارة عن شدة الخوف { وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } جمع حنجرة وهي الحلق وبلوغ القلب إليها مجاز ، وهو عبارة عن شدّة الخوف وقيل : بل هي حقيقة ، لأن الرئة تنتفخ من شدة الخوف ، فتربوا ويرتفع القلب بارتفاعها إلى الحنجرة { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } أي : تظنون أن الكفار يغلبونكم ، وقد وعدكم الله بالنصر عليهم ، فأما المنافقون فظنوا ظن السوء وصرحوا به ، وأما المؤمنون فربما خطرت لبعضهم خطرة مما لا يمكن البشر دفعها ، ثم استبصروا ووثقوا بوعد الله ، وقرأ نافع الظنونا والرسولا ، والسبيلا ، وبالألف في الوصل وفي الوقف ، وقرأ بإسقاطها في الوصل دون الوقف ، وقرأ أبو عمر وحمزة بإسقاطها في الوقف دون الوصل فأما إسقاطها فهو الأصل وأما إثباتها فلتعليل رؤوس الآي لأنها كالقوافي ، وتقتضي هذه العلة أن تثبت في الوقف خاصة ، وأما من أثبتها في الحالين ، فإنه أجرى الوصل مجرى الوقف .
(1/1528)
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11)
{ هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون } أي اختبروا أو أصابهم بلاء ، والعامل في الظرف ابتلى وقيل : ما قبله { وَزُلْزِلُواْ } أصل الزلزلة شدة التحريك وهو هنا عبارة عن اضطراب القلوب .
(1/1529)
وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12)
{ وَإِذْ يَقُولُ المنافقون } { وَإِذْ يَقُولُ المنافقون } روي أنه متعب بن قشير .
(1/1530)
وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)
{ وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ } قال السهيلي : الطائفة تقع على الواحد مما فوقه ، والمراد هنا أوس بن قبطي { ياأهل يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فارجعوا } يثرب اسم المدينة وقيل : اسم البقعة التي المدينة في طرف منها ، ومقام اسم مَوْضِع من القيام ، أي لإقرار لكم هنا يعنون مَوْضع القتال وقرئ بالضم وهو اسم موضع من الإقامة ، وقولهم : فارجعوا إلى منازلكم بالمدينة ودعوا القتال { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي } أي يستأذنه في الانصراف والمستأذن أوس بن قبطي وعشيرته وقيل : بنو حارثة { إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } أي منكشفة للعدوّ وقيل : خالية للسراق فكذبهم الله في ذلك .
(1/1531)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14)
{ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا } أي لو دخلت عليهم المدينة من جهاتها { ثُمَّ سُئِلُواْ الفتنة } يريد بالفتنة الكفر أو قتال المسلمين { لآتَوْهَا } بالقصر بمعنى جاؤوا ليها وبالمدّ بمعنى أعطوها من أنفسهم { وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ } الضمير للمدينة .
(1/1532)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18)
{ قَدْ يَعْلَمُ الله } دخلت قد على الفعل المضارع بمعنى التهديد ، وقيل : للتعليل على وجه التهكم { المعوقين مِنكُمْ } أي الذين يعوِّقون الناس عن الجهاد ، ويمنعونهم منه بأقوالهم وأفعالهم { والقآئلين لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا } هم المنافقون الذين قعدوا بالمدينة عن الجهاد ، وكانوا يقولون لقرابتهم أو للمنافقون مثلهم : هلم إلى الجلوس معنا بالمدينة وترك القتال ، وقد ذكر هلم في [ الأنعام : 150 ] .
{ وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً } البأس القتال ، وقليلاً صفة لمصدر محذوف تقديره : إلا إتياناً قليلاً؛ أو مستثنى من فاعل يأتون : أي إلا قليلاً منهم .
(1/1533)
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
{ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } أشحة جمع شحيح بوزن فعيل ، معناه يشحن بأنفسهم فلا يقاتلون ، وقيل : يشحون بأموالهم ، وقيل : معناه أشحة عليكم وقت الحرب ، أي يشفقون أن يقتلوا . ونصب { أَشِحَّةً } على الحال من القائلين ، أو على المعوقين ، أومن الضمير في يأتون ، أو نُصِبَ على الذم { فَإِذَا جَآءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } أي إذا اشتدّ الخوف من الأعداء . نظر إليك هؤلاء في تلك الحالة ولاذوا بك من شدة خوفهم { تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت } عبارة عن شدة خوفهم { فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } السلق بالألسنة عبارة عن الكلام بكلام مستكره ، ومعنى حداد : فصحاء قادرين على الكلام ، وإذا نصركم الله فزال الخوف رجع المنافقون إلى إذايتكم بالسب وتنقيص الشريعة ، وقيل : إذا غنمتم طلبوا من الغنائم { أَشِحَّةً عَلَى الخير } أي يشحون بفعل الخير وقيل؛ يشحون بالمغانم ، وانتصابه هنا على الحال من الفاعل في سلقوكم { لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالَهُمْ } ليس المعنى أنها حبطت بعد ثبوتها ، وإنما المعنى أنها لم تقبل ، لأن الإيمان شرط من قبول الأعمال ، وقيل : إنهم نافقوا بعد أن آمنوا ، فالإحباط على هذا حقيقة .
(1/1534)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
{ يَحْسَبُونَ الأحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ } الأحزاب هنا هم كفار قريش ، ومن معهم ، فالمعنى أن المنافقين من شدة جزعهم يظنون الأحزاب لم ينصرفوا عن المدينة ، وهم قد انصرفوا { وَإِن يَأْتِ الأحزاب يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعراب } معنى { يَوَدُّواْ } يتمنوا ، { بَادُونَ } : خارجون في البادية ، والأعراب هم أهل البوادي من العرب ، فمعنى الآية : أنه إن أتى الأحزاب إلى المدينة مرة أخرى؛ تمنى هؤلاء المنافقون من شدة جزعهم أن يكونوا في البادية مع الأعراب ، وأن لا يكونوا في المدينة بل غائبين عنها يسألون من ورد عليهم على أنبائكم .
(1/1535)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)
{ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أي قدوة تقتدون به صلى الله عليه وسلم في اليقين والصبر وسائر الفضائل ، وقرئ أسوة بضم الهمزة والمعنى واحد .
(1/1536)
وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
{ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ } قيل : إن هذا الوعد ما أعلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر بحفر الخندق من أن الكفار ينزلون ، وأنهم ينصرفون خائبين ، وقيل : إنه قول الله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء } [ البقرة : 214 ] الآية ، فعلموا أنهم يبتلون ثم ينصرون .
(1/1537)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)
{ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ } يعني : قتل شهيداً قال أنس بن مالك : يعني عمي أنس بن النضر ، وقيل : يعني حمزة بن عبد المطلب ، وقضاء النحب عبارة عن الموت عند ابن عباس وغيره ، وقيل : قضى نحبه : وفي العهد الذي عاهد الله عليه ، ويدل على هذا ما ورد " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " طلحة ممن قضى نحبه " وهو لم يقتل حينئذ { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } المفعول محذوفكم أي ينتظر أن يقضي نحبه ، أو ينتظر الشهادة في سبيل الله على قول ابن عباس ، أو ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح على القول الآخر .
(1/1538)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26)
{ وَأَنزَلَ الذين ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الكتاب مِن صَيَاصِيهِمْ } الصياصي هي الحصون ، ونزلت الآية في يهود بني قريظة ، وذلك أنهم كانوا معادين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنقضوا عهده وصاروا مع قريش ، فلما انصرفت قريش عن المدينة حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة ، حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ؛ فحكم أن يقتل رجالهم ويسبى نساؤهم وذريتهم { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ } يعني الرجال وقتل منهم يومئذ كل من أنبت وكانوا بين ثمانمائة أو تسعمائة { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } يعني النساء والذرية .
(1/1539)
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
{ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ } يعني أرض بني قريظة قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين { وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } هذا وعد بفتح أرض لم يكن المسلمين قد وطئوهنا حينئذ ، وهي مكة واليمن والشام والعراق ومصر ، فأورث الله المسلمين جميع ذلك وما وراءها إلى أقصى المشرق والمغرب ، ويحتمل عندي أن يريد أرض بني قريظة ، لأنه قال : أورثكم بالفعل الماضي ، وهي التي كانوا أخذوها حينئذ ، وأما غيرها من الأرضين ، فإنما أخذوها بعد ذلك فلو أرادها لقال : يورثكم إنما كررها بالعطف ليصفها بقوله : لم تطأوها : أي لم تدخلوها قبل ذلك .
(1/1540)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28)
{ ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا } الآية : سببها أن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم تغايرن حتى غمه ذلك وقيل : طلبن منه الملابس ونفقات كثيرة ، وكان أزواجه يومئذ تسع نسوة؛ خمس من قريش وهنّ : عائشة بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وحفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسودة بنت زمعة ، وأم حبيبة بنت أبي سفيان ، وأم سلمة بنت أبي أمية المخزومي وأربع من غير قريش وهنَّ ميمونة بنت الحارث الهلالية ، وصفية بنت حييّ من بني إسرائيل وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } أصل : تعال أن يقوله من كان في موقع مرتفع لمن في موضع منخفض ، ثم استعملت بمعنى أقبل في جميع الأمكنة؛ { أُمَتِّعْكُنَّ } من المتعة وهي الإحسان إلى المرأة إذا طلقت والسراح الطلاق ، فمعنى الآية : " أن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخيّر نساءه بين الطلاق والمتعة إن أرادوا زينة الدنيا ، وبين البقاء في عصمته إن أرادوا الآخرة ، فبدأ صلى الله عليه وسلم بعائشة : فاختارت البقاء في عصمته ، ثم تبعها سائرهن في ذلك ، لم يقع طلاق ، وقالت : عائشة : خيَّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه ولم يعد ذلك طلاقاً " وإذا اختارت المخيرة الطلاق : فمذهب مالك أنه ثلاث ، وقيل : طلقة بائنة ، وقيل : طلقة رجعية ووصف السراج بالجميل : يحتمل أن يريد أن دون الثلاث ، أو يريد أنه ثلاث ، وجماله : حسن الرعي والثاني وحفظ العهد .
(1/1541)
وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
{ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ } من للبيان لا للتبعيض ، لأن جميعهنّ محسنات .
(1/1542)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
{ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } قيل : يعني الزنا ، وقيل : يعني عصيان زوجهن عليه الصلاة والسلام ، أو تكليفه ما يشق عليه ، وقيل : عموم في المعاصي { يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ } أي يكون عذابها في الآخرة مثل عذاب غيرها مرتين ، وإنما ذلك لعلوّ رتبتهن ، لأن كل أحد يطالب على مقدار حاله ، وقرأ أبو عمرو يُضَعَّفُ بالياء ورفع العذاب على البناء للمفعول ، وقرأ ابن عامر وابن كثير : نُضَعِّفُ ونصب العذاب على البناء للفاعل .
(1/1543)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
{ وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ } قرئ بالياء حملاً على لفظ من وبالتاء حملاً على المعنى ، وكذلك تعمل ، والقنوت هنا بمعنى الطاعة { نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } أي يضاعف لها ثواب الحسنات { رِزْقاً كَرِيماً } يعني الجنة ، وقيل : في الدنيا ، والأوّل هو الصحيح .
(1/1544)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32)
{ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن } فضلهن الله على النساء بشرط التقوى ، وقد حصل لهن التقوى فحصل التفضيل على جميع النساء ، إلا أنه يخرج من هذا العموم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومريم بن عمران وآسية امرأة فرعون لشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل واحدة منهن بأنها سيدة نساء عالمها { فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول } نهى عن الكلام اللين الذي يعجب الرجال ويميلهن إلى النساء { فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي فجور وميل للنساء ، وقيل : هو النفاق ، وهذا بعيد في هذا الموضع { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } هو الصواب من الكلام أو الذي ليس فيه شيء مما نهى عنه .
(1/1545)
وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)
{ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } قرئ بكسر القاف ، ويحتمل وجهين : أن يكون من الوقار أو من القرار في الموضع ، ثم حذفت الراء الواحدة كما حذفت اللام في ظلت ، وأما القراءة بالفتح فمن القرار في الموضع ، ثم حذفت الراء الواحدة كما حذفت اللام في ظلت ، وأما القراءة بالفتح فمن القرار في الموضع على لغة من يقول قررت بالكسر أقر بالفتح ، والمشهور في اللغة عكس ذلك ، وقيل : هي من قار يقار إذا اجتمع ، ومعنى القرار أرجح ، لأن سودة رضي الله عنها قيل لها : لم لا تخرجين؟ فقالت : أمرنا الله بأن نقرّ في بيوتنا ، وكانت عاشئة إذا قرأت هذه الآية تبكي على خروجها أيام الجمل ، وحينئذ قال لها عبد الله بن عمر : إن الله أمرك تقري في بيتك { وَلاَ تَبَرَّجْنَ } التبرج إظهار الزينة { تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى } أي مثل ما كان نساء الجاهلية يفعلن ، من الانكشاف والتعرض للنظر ، وجعلها أولى بالنظر إلى حال الإسلام ، وقيل : الجاهلية الأولى ما بين آدم ونوح ، وقيل : ما بين موسى وعيسى .
{ الرجس } أصله النجس ، والمراد به النقائص والعيوب { أَهْلَ البيت } منادى أو منصوب على التخصيص ، وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هم أزواجه وذريته وأقاربه كالعباس وعليّ وكل من حرمت عليه الصدقة ، وقيل : المراد هنا أزواجه خاصة ، والبيت على هذا المسكن ، وهذا ضعيف لأن الخطاب بالتذكير ، ولو أراد ذلك لقال : عنكن ورُوي " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال نزلت هذه الآية في خمسة : في ولد عليّ وفاطمة والحسن والحسين . "
(1/1546)
وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
{ واذكرن } خطاب لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، خصهن بعد دخولهن مع أهل البيت ، وهذا الذكر يحتمل أن يكون التلاوة أو التذكر بالقلب ، وآيات الله هي القرآن والحكمة هي السنة .
(1/1547)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
{ إِنَّ المسلمين والمسلمات } الآية : سببها بعض النساء قلن : ذكر الله الرجال ولم يذكرنا ، فنزل فيها ذكر النساء { والمؤمنين والمؤمنات } الإسلام هو الانقياد ، والإيمان هو التصديق ، ثم أنهما يطلقان بثلاثة أوجه باختلاف المعنى كقوله : " لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا " وبالاتفاق لاجتماعهما كقوله : { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين } [ الذاريات : 35 ] الآية ، وبالعموم فيكون الإسلام أعم ، لأنه بالقلب والجوارح ، والإيمان أخص لأنه بالقلب خاصة ، وهذا هو الأظهر في هذا الموضع { والقانتين والقانتات } يحتمل أن يكون بمعنى العبادة أو الطاعة { والصادقين والصادقات } يحتمل أن يكون من صدق القول أو من صدق العزم .
(1/1548)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ } الآية : معناها أنه ليس لمؤمن ولا مؤمنة اختيار مع الله ورسوله ، بل يجب عليهم التسليم والانقياد لأمر الله ورسوله ، والضمير في قوله من أمرهم : راجع إلى الجمع الذي يقتضيه قوله { لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ } لأن معناه العموم في جميع المؤمنين والمؤمنات ، وهذه الآية توطئة للقصة المذكورة بعدها ، وقيل : سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب امرأة ليزوجها لمولاه زيد بن حارثة ، فكرهت هي وأهلها ذلك ، فلما نزلت الآية قالوا : رضينا يا رسول الله ، واختلف هل هذه المخطوبة زينب بنت جحش أو غيرها ، وقد قيل : إنها أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط .
(1/1549)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
{ وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } " هو زيد بن حارثة الكلبي ، وإنعام الله عليه بالإسلام وغيره ، وإنعام النبي صلى الله عليه وسلم بالعتق وكانت عند زيد زينب بنت جحش وهي بنت أميمة عمة النبي صلى الله عليه وسلم ، فشكا زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوء معاشرتها وتعاضمها عليه ، وأراد أن يطلقها ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمسك عليك زوجك واتق الله " يعني فيما وصفها به من سوء المعاشرة ، واتق الله ولا تطلقها فيكون نهياً عن الطلاق على وجه التنزيه ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " أبغض المباح إلى الله الطلاق " { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ } الذي أخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر جائز مباح لا إثم فيه ولا عتب ، ولكنه خاف أن يسلط الله عليه ألسنتهم وينالوا منه ، فأخفاه حياء وحشمة وصيانة لعرضه ، وذلك أنه روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على أن يطلق زيد زينب ليتزوجها هو صلى الله عليه وسلم لقرابتها منه ولحسبها ، فقال : أمسك إذ كان زوجك وهو يخفي الحرص عليها خوفاً من كلام الناس ، لئلا يقولوا : تزوج امرأة ابنه إذ كان قد تبناه ، فالذي أخفاه صلى الله عليه وسلم وهو إرادة تزوجها ، فأبدى الله ذلك بأن قضى له بتزوّجها ، فقالت عائشة : لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي لكتم هذه الآية لشدتها عليه . وقيل : إن الله كان أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج زينب بعد طلاق زيد ، فالذي أخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أعلمه الله به من ذلك { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } لم يُذكر أحد من الصحابة في القرآن باسمه غير زيد بن حارثة ، والوطر الحاجة ، أي لما لم يبق لزيد فيها حاجة زوجها الله من نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأسند الله تزويجها إاليه تشريفاً لها ، ولذلك كانت زينب تفتخر على نساء النبي صلى الله عليه وسلم وتقول : إن الله زوجني نبيه من فوق سبع سموات " ، واستدل بعضهم بقوله : زوجناكها على أن الأولى أن يقال في كتاب الصداق : أنكحه إياها بتقديم ضمير الزوج على ضمير الزوجة كما في الآية { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ } المعنى أن الله زوّج زينب امرأة زيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليُعلم المؤمنين أن تزوج نساء أدعيائهم حلال لهم ، فإن الأدعياء ليسوا لهم بأبناء حقيقة .
(1/1550)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)
{ مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله لَهُ } المعنى أنَّ تزوَّجَ النبي صلى الله عليه وسلم لزينب بعد زيد حلال ، لا حرج فيه ولا إثم ولا عتاب ، وفي ذلك ردّ على من تكلم في ذلك من المنافقين . وفرض هنا بمعنى قسم له { سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } أي عادة الله في الأنبياء المتقدمين أن ينالوا ما أحل الله لهم ، وقيل : الإشارة بذلك إلى دواد في تزوجه للمرأة التي جرى له فيها ما جرى ، والعموم أحسن ، ونصب سنة على المصدر ، أو على إضمار فعل أو على الإغراء .
(1/1551)
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)
{ الذين يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ الله } صفة للذين خلوا من قبل ، وهم الأنبياء أو رفع على إضمار مبتدأ ، أو نصب بإضمار فعل .
(1/1552)
مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } هذا ردّ على من قال في زيد بن حارثة : زيد بن محمد ، فاعترض على النبي صلى الله عليه وسلم تزوّج امرأة زيد ، وعموم النفي في الآية لا يعارضه وجود الحسن والحسين ، لأنه صلى الله عليه وسلم ليس أباً لهما في الحقيقة لأنهما ليسا من صلبه ، وإنما كانا ابني بنته ، وأما ذكور أولاده فماتوا صغاراً فليسوا من الرجال { وَخَاتَمَ النبيين } أي آخرهم فلا نبيّ بعده صلى الله عليه وسلم وقرئ بكسر التاء بمعنى أنه ختمهم فهو خاتم ، وبالفتح بأنهم خُتموا به فهو كالخاتم والطابع لهم ، فإن قيل : إن عيسى ينزل في آخر الزمان فيكون بعده عليه الصلاة والسلام ، فالجواب أن النبوّة أوتيت عليى قبله عليه الصلاة والسلام ، وأيضاً فإن عيسى يكون إذا نزل على شريعته عليه الصلاة والسلام ، فكأنه واحد من أمته .
(1/1553)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)
{ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً } اشترط الله الكثرة في الذكر حيثما أمر به بخلاف سائر الأعمال ، والذكر يكون بالقلب وباللسان وهو على أنواع كثيرة من التهليل والتسبيح والحمد والتكبير وذكر أسماء الله تعالى { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } قيل : إن ذلك إشارة إلى صلاة الصبح والعصر ، والأظهر أنه أمر بالتسبيح في أو النهار وآخره ، وقال ابن عطية : أراد من كل الأوقات فحدُ النهار بطَرَفَيْه .
(1/1554)
هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43)
{ هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ } هذا خطاب للمؤمنين ، وصلاة الله عليهم رحمة لهم ، وصلاة الملائكة عليهم دعاؤهم لهم ، فاستعمل لفظ يصلي في المعنيين على اختلافها وقيل : إنه على حذف مضاف تقديره وملائكته يصلون .
(1/1555)
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
{ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ } قيل : يعني يوم القيامة وقيل : في الجنة وهو والأرجح لقوله : { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } [ يونس : 10 ] ، ويحتمل أن يريد تسليم بعضهم على بعض أو قول الملائكة لهم { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ } [ الزمر : 73 ] .
(1/1556)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)
{ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } أي يشهد على أمته { وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ } أي بأمر الله وإرساله { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } استعارة للنور الذي يتضمنه الدين .
(1/1557)
وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
{ وَدَعْ أَذَاهُمْ } يحتمل وجهين أحدهما لا تؤذهم فالمصدر على هذا مضاف إلى المعفول ونسخ من الآية على هذا التأويل ما يخص الكافرين بآية السيف ، والآخر احتمل إذايتهم لك ، وأعرض عن أقوالهم ، فالمصدر على هذا مضاف للفاعل .
(1/1558)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
{ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } الآية : معناه سقوط العدّة عن المطلقة قبل الدخول ، فالنكاح في الآية هو العقد ، والمس هو الجماع ، وتعتدونها من العدد { فَمَتِّعُوهُنَّ } هذا يقتضي متعة المطلقة قبل الدخول ، سواء فرض لها أو لم يفرض لها صداق ، وقوله تعالى في [ البقرة : 237 ] { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } يقتضي أن المطلقة قبل الدخول وقد فرض لها ، يجب لها نصف الصداق ولا متعة لها ، وقد اختلف هل هذه الآية ناسخة لآية البقرة أو منسوخة بها؟ ويمكن الجمع بينهما بأن تكون آية البقرة مبينة لهذه ، مخصصة لعمومها .
(1/1559)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
{ ياأيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } في معناها قولان أحدهما أن المراد أزواجه اللاتي في عصمته حينئذ ، كعائشة وغيرها ، وكان أعطاهن مهورهن ، والآخر أن المراد جميع النساء ، فأباح الله له أن يتزوج كل امرأة يعطى مهرها ، وهذا أوسع من الأول { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } أباح الله له مع الأزاج السراري بملك اليمين ويعني بقوله : { أَفَآءَ الله عَلَيْكَ } : الغنائم { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ } يعني قرابته من جهة أبيه ومن جهة أمه ، وكان له عليه الصلاة والسلام أعمام وعمات إخوة لأبيه ، ولم يكن لأمه عليه الصلاة والسلام أخ ولا أخت ، وإنما يعني بخاله وخالاته عشيرة أمه وهم بنو زهرة ، ولذلك كانوا يقولون نحن أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن قال : إن المراد بقوله { أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } : من كانت في عصمته : فهو عطف عليهن ، وإباحة لأن يتزوج قرابته زيادة على من كان في عصمته ، ومن قال : إن المراد جميع النساء ، فهو تجريد منهن على وجه التشريف بعد دخول هؤلاء في العموم { اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ } تخصيص تحرز به ممن لم يهاجر ، كالطلقاء الذين أسلموا يوم فتح مكة { وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } أباح الله له صلى الله عليه وسلم من وهبت له نفسها من النساء ، واختلف هل وقع ذلك أم لا؟ فقال ابن عباس : لم تكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة إلا بنكاح أو ملك يمين ، لا بهبة نفسها ، ويؤيد هذا قراءة الجمهور إن هبت بكسر الهمزة إي إن وقع ، وقيل : قد وقع ذلك ، وهو على هذا القول قرئ { إِن وَهَبَتْ } بفتح الهمزة ، واختلف على هذا القول فيمن هي التي وهبت نفسها فقيل : ميمونة بنت الحارث ، وقيل زينب بنت خزيمة أم المساكين ، وقيل : أم شريك الأنصارية ، وقيل أم شريك العامرية .
{ خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين } أي هبة المرأة نفسها مزية خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره ، وانظر كف رجع من الغيبة إلى الخطاب ليخص المخاطب وحده ، وقيل : إن خالصة يرجع إلى كل ما تقدم ، من النساء المباحات له صلى الله عليه وسلم ، لأن سائر المؤمنين قُصروا على أربع نسوة ، وأبيح له عليه الصلاة والسلام أكثر من ذلك ، ومذهب مالك أن النكاح بلفظ الهبة لا ينعقد بخلاف أبي حنيفة ، وإعراب : { خَالِصَةً } مصدر أو حال أو صفة لامرأة { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ في أَزْوَاجِهِمْ } يعني أحكام النكاح من الصداق والوليّ والاقتصار على أربع وغير ذلك { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ } يتعلق بالآية التي قبله أي : بينا أحكام النكاح لئلا يكون عليك حرج ، أو لئلا يظن بك إنك فعلت ما لا يجوز ، وقال الزمخشري : يتعلق بقوله { خَالِصَةً لَّكَ } .
(1/1560)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
{ تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ } معنى { تُرْجِي } تؤخر وتبعد ، ومعنى : { وتؤوي } تضم وتقرب . واختلف في المراد بهذا الإرجاء والإيواء ، فقيل إن ذلك في القسمة بينهنّ ، أي تكثر لمن شئت ، وتقلل لمن شئت ، وقيل : إنه في الطلاق أي تمسك من شئت وتطلق من شئت؛ وقيل : معناه تتزوج من شئت ، وتترك من شئت ، والمعنى على كل قول توسعة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وإباحة له أن يفعل ما يشاء ، وقد اتفق الناقلون على أنه صلى الله عليه وسلم كان يعدل في القسمة بين نسائه : أخذاً منه بأفضل الأخلاق مع إباحة الله له ، والضمير في قوله { مِنْهُنَّ } : يعود على أزواجه صلى الله عليه وسلم خاصة أو على كل ما أحل الله له على حسب الخلاف المتقدم { وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } في معناه قولان : أحدهما من كنت عزلته من نسائك فلا جناح عليك في ردّه بعد عزله ، والآخر من ابتغيت ومن عزلت سواء في إباحة ذلك ، فمن للتبعيض على القول الأول ، وأما على القول الثاني فنحو قولك : من لقيك ومن لم يلقك سواء { ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ } أي إذا علمن أن هذا حكم الله فرّت به أعينهن ورضين به ، زال ما كان بهنّ من الغيرة ، فإن سبب نزول هذه الآية ما وقع لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم من غيرة بعضهن على بعض .
(1/1561)
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
{ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ } فيه قولان : أحدهما لا يحل لك النساء غير اللاتي في عصمتك الآن ولا تزيد عليهن ، قال ابن عباس لما خيرهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترن الله ورسوله جازاهن الله على ذلك ، بأن حرّم غيرهنّ من النساء كرامة لهنّ ، والقول الثاني : لا يحل لك النساء غير الأصناف التي سميت ، والخلاف هنا يجري على الخلاف في المراد بقوله : { إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } : أي لا يحل لك غير من ذكر حسبما تقدم ، وقيل : معنى لا يحل لك النساء : لا يحل لك اليهوديات والنصرانيات من بعد المسلمات المذكورات وهذا بعيد ، واختلف في حكم هذه الآية ، فقيل إنها منسوخة بقوله { إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } على القول بأن المراد جميع النساء ، وقيل : إن هذه الأية ناسخة لتلك على القول بأن المراد من كان في عصمته ، وهذا هو الأظهر لما ذكر عن ابن عباس ، ولأن التسع في حقه عليه الصلاة والسلام كالأربع في حق أمته { وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ } معناه لاي حل لك أن تطلق واحدة منهن وتتزوج غيرها بدلاً منها { وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ } في هذا دليل على جواز النظر إلى المرأة إذا أراد الرجل أن يتزوجها { إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } المعنى أن الله أباح له الإماء ، والاستثناء في موضع رفع على البدل من النساء ، أو في موضع نصب على الاستثناء من الضمير في حسنهن .
(1/1562)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53)
{ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ } سبب هذه الآية ما رواه أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما تزوج زينب بنت جحش ، أوْلم عليها فدعا الناس ، فلما طعموا قعد نفر في طائفة من البيت ، فثقل ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ، فخرج ليخرجوا بخروجه ، ومر على حُجَر نسائه ثم عاد فوجدهم في مكانهم ، فانصرف فخرجوا عن ذلك " ، وقال ابن عباس : نزلت في قوم كانوا يتحينون طعام النبي صلى الله عليه وسلم ، فيدخلون عليه قبل الطعام فيقعدون إلى أن يطبخ ، ثم يأكلون ولا يخرجون ، فأمروا أن لا يدخلوا حتى يؤذن لهم ، وأن ينصرفوا إذا أكلوا ، قلت : والقول الأول أشهر ، وقول ابن عباس أليق بما في الآية من النهي عن الدخول حتى يؤذن لهم ، فعلى قول ابن عباس في النهي عن الدخول حتى يؤذن لهم ، والقول الأول في النهي عن القعود بعد الأكل ، فإن الآية تضمنت الحكمين { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } أي غير منتظرين لوقت الطعام ، والإنا الوقت ، وقيل : إنا الطعام نضجه وإدراكه ، يقال أنى يأنى إناء { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا } أمر بالدخول بعد الدعوة ، وفي ذلك تأكيد للنهي عن الدخول قبلها { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا } أي انصرفوا ، قال بعضهم : هذا أدب أدّب الله به الثقلاء { وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } معطوف على غير ناظرين ، أو تقديره : ولا تدخلوا مستأنسين ، ومعناه النهي عن أن يطلبوا الجلوس للأنس للأنس بحديث بعضهم مع بعض ، أو يستأنسوا لحديث أهل البيت ، واستئناسهم : تسمعهم وتجسسهم { إِنَّ ذلكم كَانَ يُؤْذِي النبي } يعني جلوسهم للحديث أو دخولهم بغير إذن { فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ } تقديره يستحي من إخراجكم ، بدليل قوله : { والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق } : أي أن إخراجكم حق لا يتركه الله .
{ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } المتاع الحاجة من الأثاث وغيره ، وهذه الآية نزلت في احتاجب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وسببها ما رواه أنس من قعود القوم يوم الوليمة في بيت زينب ، وقيل : " سببها أنّ عمر بن الخطاب أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحجب نساءه ، فنزلت الآية موافقة لقول عمر " ، قال بعضهم لما نزلت في أمهات المؤمنين { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } كن لا يجوز للناس كلامهن إلا من وراء حجاب ، ولا يجوز أن يراهن متنقبات ولا غير متنقبات ، فخصصن بذلك دون سائر النساء { ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } يريد أنقى من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء والنساء في أمر الرجال { وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ } سببها أن بعض الناس قالوا : لو مات رسول الله صلى الله عليه وسلم لتزوّجت عائشة ، فحرم الله على الناس تزوج نسائه بعده كرامة له صلى الله عليه وسلم .
(1/1563)
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
{ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في آبَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ } الآية : لما أوجب الله الحجاب أباج لهن الظهور لذوي محارمهن من القرابة وهم : الآباء ، والأبناء ، والإخوة ، وأولادهم ، وأولاد الأخوات { وَلاَ نِسَآئِهِنَّ } قيل يريد بالنساء القرابة والمصرفات لهن ، وقيل : يريد نساء جميع المؤمنات ، ويقوي الأول تخصيص النساء بالإضافة لهن ، ويقوي الثاني أنهن كن لا يحتجبن من النساء على الاطلاق { وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } واختلف فيمن أبيح لهن الظهور له من ملك اليمين ، فقيل : الإماء دون العبيد ، وقيل : الإماء والعبيد ، وهو أولى بلفظ الآية ، ثم اختلف من ذهب إلى هذا فقال قوم : من ملكه من العبيد دون من ملكه غيرهن ، وهذا هو الظاهر من لفظ الآية ، وقال قوم : جميع العبيد كن في ملكهن أو في ملك غيرهن .
(1/1564)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
{ إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي } هذه الآية تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ذكرنا معنى صلاة الله وصلاة الملائكة في قوله { يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ } [ الأحزاب : 43 ] { صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فرض إسلاميّ ، فالأمر به محمول على الوجوب ، وأقله مرة في العمر ، وأما حكمها في الصلاة : فمذهب الشافعي أنها فرض تبطل الصلاة بتركه ، ومذهب مالك أنها سنة وصفتها ما ورد في الحديث الصحيح : " اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد " ، وقد اختلفت الروايات في ذلك اختلافاً كثيراً أما السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فيحتمل أن يريد السلام عليه في التشهد في الصلاة ، أو السلام عليه حين لقائه ، وأما السلام عليه بعد موته فقد قال صلى الله عليه وسلم : " من سلم عليّ قريباً سمعته ، ومن سلم عليّ بعيداً أبلغته ، فإن الله حرم على الأرض أن تأكك أجساد الأنبياء " .
(1/1565)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57)
{ إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ } إذاية الله وهي بالإشراك به ونسبة الصاحبة والولد به ، وليس معنى إذايته أنه يضره الأذى ، لأنه تعالى لا يضره شيء ولا ينفعه شيء ، وقيل : إنها على حذف مضاف تقديره : يؤذون أولياء الله ، والأوّل أرجح ، لأنه ورد في الحديث يقول الله تعالى : " يشتمني ابن آدم وليس له أن يشتمني ، ويكذبني وليس له أن يكذبني ، أما شتمه إياي فقوله : إن لي صاحبة وولداً ، وأما تكذيبه إياي فقوله : لا يعيدني كما بدأني " وأما إذاية رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي التعرض له بما يكره من الأقوال أو الأفعال ، وقال ابن عباس : نزلت في الذين طعنوا عليه حين أخذ صفية بنت حييّ .
(1/1566)
وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
{ والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات بِغَيْرِ مَا اكتسبوا } الآية : في البهتان وهو ذكر الإنسان بما ليس فيه ، وهو أشد من الغيبة ، مع أن الغيبة محرمة ، وهي ذكره ما فيه مما يكره .
(1/1567)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)
{ ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } كان نساء العرب يكشفن وجوههن كما تفعل الإماء ، وكان ذلك داعياً إلى نظر الرجال لهن ، فأمرهن الله بإدناء الجلابيب ليسترن بذلك وجوههن ، ويفهم الفرق بن الحرائر والإماء ، والجلابيب جمع جلباب وهو ثوب أكبر من الخمار ، وقيل : هو الرداء وصورة إدنائه عند ابن عباس أن تلويه على وجهها حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها وقيل : أن تلويه حتى لايظهر إلا عيناها ، وقيل أن تغطي نصف وجهها { ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ } أي ذلك أقرب إلى أن يعرف الحرائر من الإماء فإذا عرف أن المرأة حرة لم تعارض بما تعارض به الأمة ، وليس المعنى أن تعرف المرأة حتى يعلم من هي ، إنما المراد أن يفرق بينها وبين الأمة ، لأنه كان بالمدينة إماء يعرفن بالسوء وربما تعرض لهن السفهاء .
(1/1568)
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)
{ لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون } الآية : تضمنت وعيد هؤلاء الأصناف إن لم ينتهوا ، وقيل : إنهم لم ينتهوا : ولم ينفذ الوعيد عليهم ففي ذلك دليل على بطلان القول بوجوب إنفاذ الوعيد في الآخرة ، وقيل : إنهم انتهوا وستروا أمرهم ، فكف عنهم إنفاذ الوعيد ، والمنافقون هم الذين يظهرون الإيمان ويخفون الكفر ، والذين في قلوبهم مرض : قوم كان فيهم ضعف إيمان ، وقلة ثبات عليه ، وقيل : هم الزناة؛ كقوله : { فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [ الأحزاب : 32 ] ، { والمرجفون فِي المدينة } قوم كانوا يشيعون أخبار السوء ويخوفون المسلمين ، فيحتمل أن تكون هذه الأصناف متفرقة ، أو تكون داخلة في جملة المنافقين ، ثم جردها بالذكر { لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } أي نسلطك عليهم وهذا هو الوعيد { ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ } ذلك لأنه ينفيهم أو يقتلهم ، والضمير المجرور للمدينة { إِلاَّ قَلِيلاً } يحتل أن يريد إلا جواراً قليلاً أو وقتاً قليلاً أو عدداً قليلاً منهم ، والإعراب يختلف بحسب هذه الاحتمالات ، فقليلاً على الاحتمال الأول مصدر ، وعلى الثاني ظرف ، وعلى الثالث منصوب على الاستثناء .
(1/1569)
مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61)
{ مَّلْعُونِينَ } نصب على الذم ، أو بدل من قليلاً على الوجه الثالث؛ أو حال من ضمير الفاعل في يجاورونك تقديره : سينفون ملعونين { أَيْنَمَا ثقفوا أُخِذُواْ } أي حيث ما ظفر بهم أسروا ، والأخذ الأسر .
(1/1570)
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
{ سُنَّةَ الله } أي عادته ونصب على المصدر { فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } أي عادته في المنافقين من الأمم المتقدمة وقيل : يعني الكفار في بدر ، لأنهم أسروا وقتلوا .
(1/1571)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63)
{ تَكُونُ قَرِيباً } إنما قال قريباً بالتذكير ، والساعات مؤنثة على تقدير شيئاً قريباً ، أو زماناً قريباً ، أو لأن تأنيثها غير حقيقي .
(1/1572)
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66)
{ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النار } العامل في يوم قوله { يَقُولُونَ } ألا يجدون أو محذوف ، وتقليب وجوههم : تصريفها في جهة النار كما تدور البضعة [ قطعة اللحم ] في القدر إذا غلت من جهة إلى جهة ، أو تغيرها عن أحوالها .
(1/1573)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70)
{ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى } هم قوم من بني إسرائيل ، وإذايتهم لهم : ما ورد في الحديث " أن بني إسرائيل كانوا يغتسلون عراة ، وكان موسى يستتر منهم إذا اغتسل ، فقالوا : إنه لآدر [ آدر : أي فيه عيب في خصيته ] ، فاغتسل موسى يوماً وحده وجعل ثيابه على حجر ، ففر الحجر بثيابه ، واتبعه موسى وهو يقول : ثوبي حجر ثوبي حجر ، فمر في أتباعه على ملأ من بني إسرائيل فرأوه سليماً ما قالوا ، فذلك قوله : { فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ } " ، وقيل : إذايتهم له أنهم رموه بأنه قتل أخاه هارون ، فبعث الله ملائكة فحملته حتى رآه بنو إسرائيل ليس فيه أثر فبرأ الله موسى ، وروي أن الله أحياه فأخبرهم ببراءة موسى ، والقول الأول هو الصحيح لوروده في الحديث الصحيح { قَوْلاً سَدِيداً } قيل : يعني لا إله إلا الله ، واللفظ أعم من ذلك .
(1/1574)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
{ إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال } الأمانة هي التكاليف الشرعية من التزام الطاعات وترك المعاصي ، وقيل : هي الأمانة في الأموال : غسل الجنابة ، والصحيح العموم في التكاليف ، وعرضها على السموات والأرض والجبال يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون الله خلق لها إدراكاً فعرض عليها الأمانة حقيقة فأشفقت منها ، وامتنعت من حملها ، والثاني أن يكون المراد تعظيم شأن الأمانة ، وأنها من الثقل بحيث لو عرضت على السموات والأرض والجبال ، لأبين من حملها وأشفقن منها ، فهذا ضرب من المجاز كقولك : عرضت الحمل العظيم على الدابة فأبت أن تحمله ، والمراد أنها لا تقدر على حمله { وَحَمَلَهَا الإنسان } أي التزم الإنسان القيام بالتكاليف مع شدة ذلك ، وصعوبته على الأجرام التي هي أعظم منه ، ولذلك وصفه الله بأنه ظلوم جهول ، والإنسان هنا جنس ، وقيل : يعني آدم ، وقيل : الذي قتل أخاه { لِّيُعَذِّبَ } اللام للصيرورة ، فإن حمل الأمانة : كان سبب تعذيب المنافقين والمشركين ، ورحمة للمؤمنين .
(1/1575)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)
{ وَلَهُ الحمد فِي الآخرة } يحتمل أن يكون الحمد الأول في الدنيا ، والثاني في الآخرة ، وعلى هذا حمله الزمخشري ، ويحتمل عندي أن يكون الحمد الأول للعموم والاستغراق ، فجمع الحمد في الدنيا والآخرة ، ثم جرد منه الحمد في الآخرة كقوله : { فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [ الرحمن : 68 ] ثم أن الحمد في الآخرة يحتمل أن يريد به الجنس أو يريد به قوله : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ يونس : 10 ] أو { الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } [ الزمر : 74 ] .
(1/1576)
يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
{ مَا يَلِجُ فِي الأرض } أي يدخل فيها من المطر والأموات وغير ذلك { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من النبات وغيره { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء } من المطر والملائكة والرحمة والعذاب وغير ذلك { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } أي يصعد ويرتفع من الأعمال وغيرها .
(1/1577)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة } روي : أن قائل هذه المقالة هو أبو سفيان بن حرب { لاَ يَعْزُبُ } أي لا يغيب ولا يخفى { وَلاَ أَصْغَرُ } معطوف على مثقال؛ وقال الزمخشري : هو مبتدأ ، لأن حرف الاستثناء من حروف العطف ، ولا خلاف بين القراء السبعة في رفع أصغر وأكبر في هذا الموضع ، وقد حكى ابن عطية الخلاف فيه عن بعض القراء السبعة ، وإنما الخلاف في [ يونس : 61 ] { فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } يعني اللوح المحفوظ { لِّيَجْزِيَ } متعلق بقوله : { لَتَأْتِيَنَّكُمْ } أو بقوله : { لاَ يَعْزُبُ } أو بمعنى قوله : { فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } .
(1/1578)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)
{ والذين سَعَوْا } مبتدأ وخبره الجملة بعده ، وقال ابن عطية : هو معطوف على الذين الأول ، وقد ذكر في [ الحج : 51 ] معنى سعوا ، ومعاجزين { أَلِيمٌ } بالرفع قراءة حفص صفة لعذاب وبالخفض قراءة نافع وغيره صفة لرجز .
(1/1579)
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
{ وَيَرَى } معطوف على ليجزي أو مستأنف ، وهذا أظهر { الذين أُوتُواْ العلم } هم الصحابة أو من أسلم من أهل الكتاب ، أو على العموم { الحق } مفعول ثاني ليرى ، لأن الرؤية هنا بالقلب بمعنى العلم والضمير ضمير فصل .
(1/1580)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7)
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ } أي قال بعضهم لبعض : هل ندلكم على رجل يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } معنى { مُزِّقْتُمْ } أي : بليتم في القبور ، وتقطعت أوصالكم ، { كُلَّ مُمَزَّقٍ } : مصدر ، والخلق الجديد : هو الحشر في القيامة ، والعامل في { إِذَا } معنى { إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } ، لأن معناه : تبعثون إذا مزقتم ، وقيل : العامل فيه فعل مضمر مقدر قبلها وذلك ضعيف ، و { إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } معمول { يُنَبِّئُكُمْ } وكسرت اللام التي في خبرها ، ومعنى الآية أن ذلك الرجل يخبركم أنكم تبعثون بعد أن بليتم في الأرض ، ومرادهم استبعاد الحشر .
(1/1581)
أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)
{ أفترى عَلَى الله } هذا من جملة كلام الكفار ، ودخلت همزة الاستفهام على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل وبقيت الهمزة مفتوحة غير ممدودة { بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة فِي العذاب } هذا ردّ عليهم : أي أنه لم يفتر على الله الكذب وليس به جنة ، بل هؤلاء الكفار في ضلال وحيرة عن الحق توجب لهم العذاب ، ويحتمل أن يريد بالعذاب عذاب الآخرة ، أو العذاب في الدنيا بمعنادة الحق ، ومحاولة ظهور الباطل .
(1/1582)
أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
{ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السمآء والأرض } الضمير في يروا للكفار المنكرين للبعث ، وجعل السماء والأرض بين أيديهم وخلفهم ، لأنهما محيطتان بهم ، والمعنى ألم يروا إلى السماء والأرض فيعلمون أن الذي خلقهما قادر على بعث الناس بعد موتهم ، ويحتمل أن يكون المعنى تهديد لهم ثم فسره بقوله : { إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السمآء } : أي أفلم يروا إلى السماء والأرض أنهما محيطتان بهم ، فيعملون أنهم لا مهرب لهم من الله { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } الإشارة إلى إحاطة السماء بهم ، أو إلى عظمة السماء والأرض بأن فيهما آية تدل على البعث .
(1/1583)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10)
{ ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ } تقديره : قلنا يا جبال ، والجملة تفسير لفضلاً ، ومعنى أوّبي : سبّحي ، وأصلحه من التأويب ، وهو الترجيع ، لأن كان يرجِّع التسبيح فترجعه معه : وقيل : هو من التأويب بمعنى السير بالنهار ، وقيل : كان ينوح فتساعده الجبال بصداها ، والطير بأصواتها { والطير } بالنصب عطف على موضع يا جبال ، وقيل : مفعول معه ، وقيل : معطوف على فضللاً ، وقرئ بالرفع عطفاً على لفظ : يا جبال { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد } أي جعلناه له ليناً بغير نار كالطين والعجين ، وقيل : لأن له الحديد لشدّة قوته .
(1/1584)
أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
{ سَابِغَاتٍ } هو الدروع الكاسية { وَقَدِّرْ فِي السرد } معنى { السرد } هنا نسج الدروع ، وتقديرها أن لا يعمل الحلقة صغيرة فتضعف ولا كبيرة فيصاب لابسها من خلالها ، وقيل : لا يجعل المسمار دقيقاً ولا غليظاً { واعملوا صَالِحاً } خطاب لداود وأهله .
(1/1585)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12)
{ وَلِسُلَيْمَانَ الريح } بالنصب على تقدير وسخرنا ، وقرئ بالرفع رواية أبي بكر عن عاصم على الابتداء { غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ } أي كانت تسير به بالغداة مسيرة شهر ، وبالعشي مسيرة شهر فكان يجلس على سريره وكان من خشب ، يحمل فيها روي أربعة آلاف فارس ، فترفعه الريح ثم تحمله { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر } قال ابن عباس : كانت تسيل له باليمن عين من نحاس ، يصنع منها ما أحب ، والقِطر : النحاس ، وقيل : القطر الحديد والنحاس وما جرى مجرى ذلك : كان يسيل له منه أربعة عيون ، وقيل : المعنى أن الله أذاب له النحاس بغير نار كما صنع بالحديد لداود { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير } يعني نار الآخرة ، وقيل : كان معه ملك يضربهم بسوط من نار .
(1/1586)
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
{ مَّحَارِيبَ } هي القصور ، وقيل : المساجد وتماثيل قيل : إنها كانت على غير صور الحيوان وقيل على صور الحيوان وكان ذلك جائزاً عندهم { كالجواب } جمع جابية وهي البركة التي يجتمع فيها الماء { رَّاسِيَاتٍ } أي ثابتات في مواضعها لعظمها { اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً } حكاية ما قيل لآل داود ، وانتصب شكراً على أنه مفعول من أجله ، أو مصدر في موضع الحال ، تقديره : شاكرين ، أو مصدر من المعنى لأن العمل شكر تقديره : اشكروا شكراً ، أو مفعول به { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } يحتمل أن يكون مخاطبة لآل داود أو مخاطبة لمحمد صلى الله عليه وسلم .
(1/1587)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
{ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } المنسأة هي العصا ، وقرئ بهمز وبغير همز ، ودابة الأرض هي الارضة ، وهي السوسة التي تأكل الخشب وغيره ، وقصة الآية أن سليمان عليه السلام دخل قبة من قوارير ، وقام يصلي متكئاً على عصاه ، فقبض روحه وهو متكئ عليها فبقى كذلك سنة ، لم يعلم أحد بموته ، حتى وقعت العصا فخر إلى الأرض . واختصرنا كثيراً مما ذكره الناس في هذه القصة لعدم صحته { تَبَيَّنَتِ الجن } من تبين الشيء إذا ظهر ، وما بعدها بدل من الجنّ ، والمعنى ظهر للناس أنة الجن لا يعلمون الغيب ، وقيل : تبينت بمعنى علمت ، وأن وما بعدها مفعول به على هذه . والمعنى : علمت الجن أنهم لا يعلمون الغيب ، وتحققوا أن ذلك بعد التباس الأمر عليهم ، أو علمت الجن أن كفارهم لا يعلمون الغيب ، وأنهم كاذبون في دعوة ذلك { فِي العذاب المهين } يعني الخدمة التي كانوا يخدمون سليمان وتسخيره لهم في أنواع الأعمال ، والمعنى لو كانت الجن تعلم الغيب ما خفي عليهم موت سليمان .
(1/1588)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15)
{ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ } سبأ : قبيلة من العرب سميت باسم أبيها الذي تناسلت منه ، وقيل : باسم أمها ، وقيل : باسم موضعها ، والأول أشهر ، لأنه ورد في الحديث وكانت مساكنهم بين الشام واليمن { جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } كان لهم واد ، وكانت الجنتان عن يمينه وشماله ، وجنتان بدل من آية أو مبتدأ أو خبر مبتدأ محذوف { كُلُواْ } تقديره : قيل : لهم كلوا من رزق ربكم ، قالت لهم ذلك الأنبياء ، وروي أنهم بعث لهم ثلاثة عشر نبياً فكذبوهم { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ } أي كثيرة الأرزاق طيبة الهواء سليمة من الهوام .
(1/1589)
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16)
{ فَأَعْرَضُواْ } أي أعرضوا عن شكر الله ، أو عن طاعة الأنبياء { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم } كان لهم سدّ يمسك الماء ليرتفع فتسقى به الجنتان ، فأرسل الله على السد الجرذ ، وهي دويبة خربته فيبست الجنتان ، وقيل : لما خرب السدّ حمل السيل الجنتين وكثيراً من الناس ، واختلف في معنى العرم : فقيل هو السدح ، وقيل هو اسم ذلك الوادي بعينه ، وقيل معناه الشديد ، فكأنه صفة للسيل من العرامة ، وقيل هو الجرذ الذي خرب السدّ ، وقيل : المطر الشديد { أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } الأكل بضم الهمزة المأكول ، والخمط شجر الأراك ، وقيل : كل شجرة ذات شوك ، والأثل شجر ثشبه الطرفا والسدر شجر معروف ، وإعراب خمط بدل من أكل ، أو عطف بيان وقرئ بالإضافة وأثل عطف على الأكل لا على خمط ، لأن الأثل لا أكل له ، والمعنى أنه لما أهلكت الجنتان المذكورتان قيل : أبدلهم الله منها جنتين بضد وصفهما في الحسن والأرزاق .
(1/1590)
ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
{ وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور } معناه لا يناقش ويجازى بمثل فعله إلا الكفور؛ لأن المؤمن قد يسمح الله له ويتجاوز عنه .
(1/1591)
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18)
{ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً } هذه الآية وما بعدها وصف حال سبأ قبل مجيء اليل وهلاك جناتهم ، ويعني بالقرئ التي باركنا فيها الشام ، والقرى الظاهرة قرى متصلة من بلادهم إلى لشام ، ومعنى ظاهرة يظهر بعضها من بعض لاتصالها ، وقيل : مرتفعة في الآكام ، وقال ابن عطية : خارجة عن المدن كما تقول بظاهر المدينة أي خارجها { وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير } أي : قسمنا مراحل السفر ، وكانت القرى متصلة ، فكان المسافر يبيت في قرية ويصبح في أخرى ، ولا يخاف جوعاً ولا عطشاً ، ولا يحتاج إلى حمل زاد ، ولا يخاف من أحد .
(1/1592)
فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
{ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } قرئ { بَاعِدْ } وقرأ ابن كثير وأبو عمر { بَعِّدْ } بالتخفيف والتشديد على وجه الطلب ، والمعنى أنهم بطروا النعمة وملّوا العافية ، وطلبوا من الله أن يباعد بين قراهم المتصلة ليمشوا في المفاوز ويتزوّدوا للأسفار ، فعجل الله إجابتهم ، وقرئ { باعَد } بفتح العين على الخبر ، والمعنى أنهم قالوا إن الله باعد بين قراهم ، وذلك كذب وجحد للنعمة { وظلموا أَنفُسَهُمْ } يعني بقولهم { بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } أو بذنوبهم على الاطلاق { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي فرقناهم في البلاد حتى ضرب المثل بفرقتهم ، قيل تفرقوا أيدي سبأ ، وفي الحديث : " إن سبأ أبو عشرة من القبائل ، فلما جاء السير على بلادهم تفرقوا فتيامَنَ منهم ستة وتشاءَمَ أربعة " .
(1/1593)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)
{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } أي وجد ظنه فيهم صادقاً يعني قوله : { لأُغْوِيَنَّهُمْ } [ ص : 82 ] ، وقوله : { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الأعراف : 17 ] .
(1/1594)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
{ قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ } تعجيز للمشركين وإقامة حجة عليهم ويعني بالذين زعمتم آلهتهم ، ومفعول زعمتم محذوف أي زعمتم أنهم آلهة أو زعمتم أنهم شفعاء ، وروي أن ذلك نزل عند الجوع الذي أصاب قريشاً { مِن شِرْكٍ } أي نصيب والظهير المعين .
(1/1595)
وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
{ وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } المعنى لا تنفع الشفاعة عند الله إلا لمن أذن الله له أن يشفع ، فإنه لا يشفع أحد إلا بإذنه ، وقيل : المعنى لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الله أن يشفع فيه ، والمعنى أن الشفاعة على كل وجه لا تكون إلا بإذن الله ، ففي ذلك ردّ على المشركين الذين كانوا يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله { حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } تظاهرت الأحاديث عن رسول الله أن هذه الآية في الملائكة عليهم السلام ، فإنهم إذا سمعوا الوحي إلى جبريل يفزعون لذلك فزعاً عظيماً ، فإذا زال الفزع عن قلوبهم قال بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم فيقولون : قال الحق ، ومعنى { فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } زال عنها الفزع ، والضمير في { قُلُوبِهِمْ } وفي { قَالُواْ } للملائكة ، فإن قيل كيف ذلك ولم يتقدم لهم ذكر يعود الضمير عليه؟ فالجواب أنه قد وقعت إليهم إشارة بقوله { وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } لأن بعض العرب كانوا يعبدون الملائكة ، ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، فذكر الشفاعة يقتضي ذكر الشافعين ، فعاد الضمير على الشفعاء الذين دل عليهم لفظ الشفاعة ، فإن قيل : بم اتصل قوله : { حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } ولأي شيء وقعت حتى غائية؟ فالجواب أنه اتصل بما فهم من الكلام من أن ثم انتظاراً للإذن ، وفزعا وتوقفا حتى يزول الفزع بالإذن في الشفاعة ، ويقرب هذا في المعنى من قوله : { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } [ النبأ : 38 ] ولم يفهم بعض الناس اتصال هذه الآية بما قبلها فاضطربوا فيها حتى قال بعضهم : هي من الكفار بعد الموت ، ومعنى { فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } : رأوا الحقيقة ، فقيل لهم : { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } ؟ فيقولون : قال الحق فيقرّون حيث لا ينفعهم الإقرار ، والصحيح أنها في الملائكة لورود ذلك في الحديث ، ولأن القصد الردّ على الكفار الذين عبدوا الملائكة ، فذكره شدّة خوف الملائكة من الله وتعظيمهم له .
(1/1596)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24)
{ قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ } سؤال قصد به إقامة الحجة على المشركين { قُلِ الله } جواب عن السؤال بما لا يمكن المخالفة فيه ، ولذلك جاء السؤال والجواب من جهة واحدة { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } هذه ملاطفة وتنزل في المجادلة إلى غاية الإنصاف كقولك : الله يعلم أن أحدنا على حق وأن الآخر على باطل ، ولا تُعين بالتصريح أحدهما ، ولكن تنبه الخصم على النظر حتى يعلم من هو على الحق ومن هو على الباطل ، والمقصود من الآية أن المؤمنين على هدى ، وأن الكفار على ضلال مبين .
(1/1597)
قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25)
{ قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا } إخبار يقتضي مسالمة نسخت بالسيف .
(1/1598)
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
{ يَفْتَحُ بَيْنَنَا } أي يحكم ، والفتاح الحاكم .
(1/1599)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
{ قُلْ أَرُونِيَ الذين أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ } إقامة حجة على المشركين ، والرؤية هنا رؤية قلب فشركاء مفعول ثالث ، والمعنى أروني بالدليل والحجة من هم له شركاء عندكم ، وكيف وجه الشركة ، وقيل : هي رؤية بصر ، وشركاء حال من المفعول في { أَلْحَقْتُمْ } كأنه قال : أين الذين تعبدون من دونه وفي قوله : { أَرُونِيَ } تحقير للشركاء وازدراء بهم ، وتعجيز للمشركين ، وفي قوله : { كَلاَّ } ردع لهم عن الإشراك ، وفي وصف الله بالعزيز الحكيم : ردّ عليهم بأن شركاءهم ليسوا كذلك .
(1/1600)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28)
{ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ } المعنى أن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ، وهذه إحدى الخصال التي أعطاه الله دون سائر الأنبياء ، وإعراب { كَآفَّةً } حال من الناس قدمت للاهتمام ، هكذا قال ابن عطية ، وقال الزمخشري : ذلك خطأ لأن تقدم حال المجرور عليه لا يجوز ، وتقديره عنده : وما أرسلناك إلا رسالة عامة للناس ، فكافة صفة للمصدر المحذوف ، وقال الزجَّاج : المعنى أرسلناك جامعاً للناس في الإنذار ، والتبشير ، فجعله حالاً من الكاف ، والتاء على هذا للمبالغة كالتاء في راوية وعلاّمة .
(1/1601)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
{ قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ } يعني يوم القيامة ، أو نزول العذاب بهم في الدنيا ، وهو الذي سألوا عنه على وجه الاستخفاف؛ فقالوا : { متى هذا الوعد } .
(1/1602)
وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34)
{ بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } المعنى أن المستضعفين قالوا للمستكبرين : بل مكركم بنا في الليل والنهار سبب كفرنا ، وإعراب { مَكْرُ } مبتدأ وخبره محذوف ، أو خبر ابتداء مضمر ، وأضاف مكر إلى الليل والنهار على وجه الاتساع ، ويحتمل أن يكون إضافة إلى المفعول أو إلى الفاعل على وجه المجاز : كقولهم : نهاره صيام وليله قيام أي يصام فيه ويقام ، ودلت الإضافة على كثيرة المكر ودوامه بالليل والنهار ، فإن قيل : لم أثبت الواو في قول { الذين استضعفوا } دون قول { لِلَّذِينَ استكبروا } فالجواب أنه قد تقدم كلام الذين استضفوا قبل ذلك فعطف عليه كلامهم الثاني ، ولم يتقدم للذين استكبروا كلام آخر فيعطف عليه { وَأَسَرُّواْ الندامة } أي أخفوها في نفوسهم ، وقيل : أظهروها فهو من الأضداد ، والضمير لجميع المستضعفين والمستكبرين { مُتْرَفُوهَآ } يعني أهل الغنى والتنعيم في الدنيا ، وهم الذين يبادرون إلى تكذيب الأنبياء ، والقصد بالآية تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على تكذيب أكابر قريش له .
(1/1603)
وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35)
{ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً } الضمير لقريش أو للمترفين المتقدمين : قاسوا أمر الدنيا على الآخرة ، وظنوا أن الله كما أعطاهم الأموال والأولاد في الدنيا لا يعذبهم في الآخرة .
(1/1604)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36)
{ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } إخبار يتضمن الردّ عليهم بأن بسط الرزق وقبضه في الدنيا معلق بمشيئة الله ، فقد يوسع الله على الكافر وعلى العاصي ، ويضيق على المؤمن والمطيع ، وبالعكس ، فليس في ذلك دليل على أمر الآخرة .
(1/1605)
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37)
{ زلفى } مصدر بمعنى القرب كأنه قال : تقربكم قربى { إِلاَّ مَنْ آمَنَ } استثناء من المفعول في تقربكم ، والمعنى أن الأموال لا تقرب إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله ، وقيل الاستثناء منقطع ، والأول أحسن { جَزَآءُ الضعف } يعني تضعيف الحسنات إلى عشر أمثالها فما فوق ذلك .
(1/1606)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
{ يَبْسُطُ الرزق } الآية : كررت لاختلاف القصد ، فإن القصد بالأول على الكفار والقصد هنا ترغيب المؤمنين بالإنفاق { فَهُوَ يُخْلِفُهُ } الخلف قد يكون بمال أو بالثواب .
(1/1607)
قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)
{ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ } براءة من أن يكون لهم رضا بعبادة المشركين لهم ، وليس في ذلك نفي لعبادته لهم { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } عبادتهم للجن طاعتهم لهم في الكفر والعصيان ، وقيل : كانوا يدخلون في جوف الأصنام فيعبدون بعبادتها ، ويحتمل أن يكون قوم عبدوا الجن لقوله : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن } [ الأنعام : 100 ] .
(1/1608)
وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44)
{ وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا } الآية : في معناها وجهين : أحدهما ليس عندهم كتب تدل على صحة أقوالهم ، ولا جاءهم نذير يشهد بما قالوه؛ فأقوالهم باطلة إذ لا حجة لهم عليها ، فالقصد على هذا ردّ عليهم ، والآخر : أنهم ليس عندهم كتب ولا جاءهم نذير فيهم محتاجون إلى من يعلمهم وينذرهم ولذلك بعث الله إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم ، فالقصد على هذا إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .
(1/1609)
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
{ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ } المعشار العشر ، وقيل عشر العشر ، والأول أصح ، والضمير في بلغوا لكفار قريش ، وفي آتيناهم للكتب المتقدمة : أي إن هؤلاء لم يبلغوا عشر ما أعطى الله للمتقدمين من القوة والأموال ، وقيل : الضمير في بلغوا للمتقدمين ، وفي آتيناهم لقريش : أي ما بلغ المتقدمون عشر ما أعطى الله هؤلاء من البراهين والأدلة ، والأول أصح وهو نظير قوله : كانوا أشد منهم قوة { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي إنكاري ، يعني عقوبة الكفار المتقدمين ، وفي ذلك تهديد لقريش .
(1/1610)
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
{ قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } أي بقضية واحدة تقريباً عليكم { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ } هذا تفسير القضية الواحدة وأن تقوموا بدل أو عطف بيان أو خبر ابتداء مضمر ، ومعناه أن تقوموا للنظر في أمر محمد صلى الله عليه وسلم قياماً خالصاً لله تعالى ليس فيه اتباع هوى ولا ميل ، وليس المراد بالقيام هنا القيام على الرجلين؛ وإنما المراد القيام بالأمر والجدّ فيه { مثنى وفرادى } حال من الضمير في تقوموا ، والمعنى أن تقوموا اثنين اثنين للمناظرة في الأمر وطلب التحقيق وتقوموا واحداً واحداً لإحضار الذهن واستجماع الفكرة ، ثم تتفكروا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم فتعلموا أن ما به من جنة ، لأنه جاء بالحق الواضح ، ومع ذلك فإن أقواله وأفعاله تدل على رجاحة عقله ومتانة علمه ، وأنه بلغ في الحكمة مبلغاً عظيماً ، فيدل ذلك على أنه ليس بمجنون ولا مفتر على الله { مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ } متصل بما قبله على الأصح : أي تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة ، وقيل هو استئناف .
(1/1611)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47)
{ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ } هذا كما يقول الرجل لصاحبه : إن أعطيتني شيئاً فخذه ، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئاً ، ولكنه يريد البراءة من عطائه ، وكذلك معنى هذا ، فهو كقولك : قل ما أسألكم عليه من أجر .
(1/1612)
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)
{ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق } القذف الرمي ويستعار للإلقاء ، فالمعنى يلقي الحق إلى أصفيائه ، أو يرمي الباطل بالحق فيذهبه { عَلاَّمُ الغيوب } خبر ابتداء مضمر أو بدل من الضمير في { يَقْذِفُ } أو من اسم إن على الموضع .
(1/1613)
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
{ قُلْ جَآءَ الحق } يعني الإسلام { وَمَا يُبْدِىءُ الباطل وَمَا يُعِيدُ } الباطل الكفر ، ونفى الإبداء والإعادة ، على أنه لا يفعل شيئاً ولا يكون له ظهور أو عبارة عن ذهابه كقوله : { جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل } [ الإسراء : 81 ] وقيل : الباطل الشيطان { إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } يعني قربه تعالى بعلمه وإحاطته .
(1/1614)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51)
{ وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ } جواب لو محذوف تقديره : لرأيت أمراً عظيماً ، أو معنى { فَزِعُواْ } : أسرعوا إلى الهروب ، والفعل ماضي بمعنى الاستقبال ، وكذلك ما بعده من الأفعال ، ووقت الفزع البعث ، وقيل : الموت ، وقيل : يوم بدر { فَلاَ فَوْتَ } أي يفوتون الله إذ هربوا { وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } يعني من الموقف إلى النار إذا بعثوا ، أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا ، أو من أرض بدر إلى القليب ، والمراد على كل قول سرعة أخذهم .
(1/1615)
وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)
{ وقالوا آمَنَّا بِهِ } أي قالوا ذلك عند أخذهم ، والضمير المجرور لله تعالى أو للنبي صلى الله عليه وسلم ، أو القرآن أو للإسلام { وأنى لَهُمُ التناوش مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } التناوش بالواو التناول ، إلا أن التناوش تناول قريب سهل لشيء قريب ، وقرئ بهمز الواو فيحتمل أن يكون المعنى واحداً ، ويكون المهموز بمعنى الطلب ، ومعنى الأية استبعاد وصولهم إلى مرادهم ، والمكان البعيد : عبارة عن تعذر مقصودهم فإنهم يطلبون ما لا يكون ، أو يريدون أن يتناولوا ما لا ينالون وهو رجوعهم إلى الدنيا أو انتفاعهم بالإيمان حينئذ .
(1/1616)
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)
{ وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ } الضمير يعود على ما عاد عليه قولهم { آمَنَّا بِهِ } { وَيَقْذِفُونَ بالغيب مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } يقذفون فعل ماض في المعنى معطوف على كفروا ، ومعناه أنهم يرمون بظنونهم في الأمور المغيبة فيقولون : لا بعث ولا جنة ولا نار . ويقولون في الرسول عليه الصلاة والسلام : إنه ساحر أو شاعر . والمكان البعيد هنا عبارة عن بطلان ظنونهم وبعد أقوالهم عن الحق .
(1/1617)
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
{ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } أي حيل بينهم وبين دخول الجنة ، وقيل : حيل بينهم وبين الانتفاع بالإيمان ، حينئذ ، وقيل حيل بينهم وبين نعيم الدنيا والرجوع إليها { كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ } يعني الكفار المتقدمين وجعلهم أشياعهم لاتفاقهم في مذاهبهم ، و { مِّن قَبْلُ } يحتمل أن يتعلق بفعل ، أو { بِأَشْيَاعِهِم } على حسب معنى ما قبله { فِي شَكٍّ مَّرِيبٍ } هو أقوى الشك واشده إضلاماً .
(1/1618)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
{ جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً } أي وسائط بين الله وبين الأنبياء متصرفين في أمر الله { مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } صفات للأجنحة ولم ينصرف للعدل والوصف ، والمعنى أن الملائكة منهم من له جناحان ، ومنهم من له ثلاثة أجنحة ، ومنهم من له أربعة أجنحة { يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ } قيل : يعني حسن الصوت ، وقيل : حسن الوجه ، وقيل : حسن الحظ ، والأظهر أنه يرجع إلى أجنحة الملائكة ، أو يكون على الاطلاق في كل زيادة في المخلوقين .
(1/1619)
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
{ مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } الفتح عبارة عن العطاء والإمساك عبارة عن المنع ، والإرسال الإطلاق بعد المنع والرحمة كمل ما يمنّ الله به على عباده من خيريّ الدنيا والآخرة فمعنى الآية : لا مانع لما أعطى الله ولا مُعطي لما منع الله ، فإن قيل : لم أنث الضمير في قوله { فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } وذكَّره في قوله : { فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ } وكلاهما يعود على ما الشرطية ، فالجواب : أنه لما فسر { مِن } الأولى بقوله { مِن رَّحْمَةٍ } أنثه لتأنيث الرحمة ، وترك الآخرة على الأصل من التذكير { مِن بَعْدِهِ } أي من بعد إمساكه .
(1/1620)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
{ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله } رفع غير على الصفة لخالق على الموضع ، وخفضه صفة على الرفع ، ورزق السماء المطر ، ورزق الأرض النبات ، والمعنى تذكيرهم بنعم الله وإقامة حجة على المشركين ، ولذلك أعقبه بقوله : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } .
(1/1621)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
{ وَإِن يُكَذِّبُوكَ } الآية : تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على تكذيب قومه كأنه يقول : إن يكذبوك فلا تحزن لذلك فإن الله سينصرك عليهم ، كما كذبت رسل من قبلك فنصرهم الله .
(1/1622)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
{ الغرور } الشيطان ، وقيل : التسويف .
(1/1623)
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
{ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ } توقيف وجوابه محذوف تقديره : أفمن زين له سوء عمله كمن لم يزين له؟ ثم بنى على ذلك ما بعده ، فالذي زين له سوء عمله هو الذي أضله الله ، ومن لم يزين له سوء عمله هو الذي هداه الله { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن حزنه لعدم إيمانهم ، لأن ذلك بيد الله .
(1/1624)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
{ كَذَلِكَ النشور } اي الحشر ، والمعنى : كما يحيي الله الأرض بالنبات كذلك يحيي الموتى .
(1/1625)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
{ مَن كَانَ يُرِيدُ العزة فَلِلَّهِ العزة } الآية تحتمل ثلاثة معان : أحدها وهو الأظهر من كان يريد نيل العزة فليطلبها من عند الله ، فإن العزة كلها لله ، والثاني من كان يريد العزة بمغالبة الإسلام فللَّه العزة جميعاً ، فالمغالب له مغلوب ، والثالث من كان يريد أن يعلم لمن العزة فليعلم أن العزة لله جميعاً { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } قيل : يعني لا إله إلا الله ، واللفظ يعم ذلك وغيره من الذكر ، والدعاء ، وتلاوة القرآن ، وتعليم العلم : فالعموم أولى { والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } فيه ثلاثة أقوال أحدها أن ضمير الفاعل في يرفعه : الله وضمير المفعول للعمل الصالح ، فالمعنى على هذا أن الله يرفع العمل الصالح : أي يتقبله ويثيب عليه ، والثاني أن ضيمر الفاعل للكلام الطيب ، وضمير المفعول للعمل الصالح ، والمعنى على هذا : لا يقبل عمل صالح إلا ممن له كلام طيب ، وهذا يصح إن قلنا : إن الكلم الطيب لا إله إلا الله ، لأنه لا يبقبل العمل إلا من موحد ، والثالث أن ضمير الفاعل للعمل الصالح ، وضمير المفعول للكلم الطيب ، والمعنى على هذا أن العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيب فلا يقبل الكلم إلا ممن له عمل صالح ، وروي هذا المعنى عن ابن عباس ، واستبعده ابن عطية وقال : لم يصح عنه؛ لأن اعتقاد أهل السنة أن الله يتقبل من كل مسلم . قال وقد يستقيم بأن يتأول أن الله يزيد في رفعه وحسن موقعه { يَمْكُرُونَ السيئات } لا يتعدى مكر فتأويله يمركون المكرات السيئات ، فتكون السيئات مصدراً أو تضمن يمكرون معنى يكتسبون فتكون السيئات مفعولاً ، والإشارة هنا إلى مكر قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ حين اجتمعوا في دار الندوة؛ وأرادوا أن يقتلوه أو يحبسوه أو يخرجوه { وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } البوار الهلاك أو الكساد ، ومعناه هنا أن مكرهم يبطل ولا ينفعهم .
(1/1626)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
{ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً } أي أصنافاً وقيل : ذُكراناً وإناثاً وهذا أظهر { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } التعمير : طول العمر والنقص : قصره والكتاب : اللوح المحفوظ فإن قيل : إن التعمير والنقص لا يجتمعان لشخص واحد فكيف أعاد الضمير في قوله : { وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } على الشخص المعمر؟ فالجواب من ثلاثة أوجه الأول وهو الصحيح أن المعنى ما يعمر من أحد ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ، فوضع من معمر موضع من أحد ، وليس المراد شخصاً واحداً ، وإنما ذلك كقولك لا يعاقب الله عبداً ولا يثيبه إلا بحق ، والثاني أن المعنى لا يزاد في عمر إنسان ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ، وذلك أن يكتب في اللوح المحفوظ أن فلاناً إن تصدق فعمره ستون سنة وإن لم يتصدق فعمره أربعون ، وهذا ظاهر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : صلة الرحم تزيد في العمر ، إلا أن ذلك مذهب المعتزلة القائلين بالأجلين وليس مذهب الأشعرية ، وقد قال كعب حين طُعن عمر : لو دعا الله لزاد في أجله ، فأنكر الناس عليه فاحتج بهذه الآية . والثالث أن التعمير هو كَتْبُ ما يستقبل من العمر والنقص هو : كَتْبُ ما مضى منه في اللوح المحفوظ وذلك حق كل شخص .
(1/1627)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
{ وَمَا يَسْتَوِي البحران } قد فسرنا البحرين الفرات والأجاج في [ الفرقان : 53 ] وسائغ في [ النحل : 66 ] ، والقصد بالآية التنبيه على قدرة الله ووحدانيته وإنعامه على عباده ، وقال الزمخشري : إن المعنى أن الله ضرب للبحرين الملح والعذب مثلين للمؤمن والكافر وهذا بعيد { لَحْماً طَرِيّاً } يعني الحوت [ السمك ] { حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } يعني الجوهر والمرجان ، فإن قيل : إن الحلية لا تخرج إلا من البحر الملح دون العذب ، فكيف قال : { وَمِن كُلٍّ } أي من كل واحد منهما؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول أن ذلك تجوّز في العبارة كما قال : { يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ } [ الأنعام : 130 ] والرسل إنما هي من الإنس . الثاني أن المرجان إنما يوجد في البحر الملح حيث تنصب أنهار الماء العذب ، أو ينزل المطر فلما كانت الأنهار والمطر وهي البحر العذب تنصب في البحر الملح كان الإخراج منهما جميعاً . الثالث زعم قومٌ أنه يخرج اللؤلؤ والمرجان من الملح والعذب ، وهذا قول يبطله الحس أي الواقع { مَوَاخِرَ } ذكر في [ النحل : 14 ] .
(1/1628)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
{ يُولِجُ } ذُكر في [ لقمان : 29 ] { قِطْمِيرٍ } هو القشر الرقيق الأبيض الذي على نوى التمر ، والمعنى أن الأصنام لا يملكون أقل الأشياء فكيف أكثرها .
(1/1629)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
{ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } أي بإشراككم ، فالمصدر مضاف للفاعل ، وكفر الأصنام بالشرك يحتمل أن يكون بكلام يخلقه الله عندها ، أو بقرينة الحال { وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } أي لا يخبرك بالأمر مخبر مثل مخبر عالم به ، يعني نفسه تعالى في إخباره أن الأصنام يكفرون يوم القيامة بمن عبدهم .
(1/1630)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)
{ أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله } خطاب لجميع الناس ، وإنما عرف الفقر بالألف واللام ليدل على اختصاص الفقر بجنس الناس ، وإن كان غيرهم فقراء ولكن فقراء الناس أعظم ، ثم وصف نفسه بأنه الغني في مقابلة وصفهم بالفقر ، ووصفه بأنه الحميد ليدل على وجوده وكرمه الذي يوجب أن يحمده عباده .
(1/1631)
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
{ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ } الحمل عبارة عن الذنوب ، والمثقلة الثقيلة الحمل أو النفس الكثيرة الذنوب ، والمعنى أنها لودعت أحداً إلى أن يحمل عنها ذنوبها لم يحمل عنها ، وحذف مفعول { إِن تَدْعُ } لدلالة المعنى وقصد العموم ، وهذه الآية بيان وتكميل لمعنى قوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الإسراء : 15 ] { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } المعنى ولو كان المدعوّ ذا قربى ممن دعاه إلى حمل ذنوبه لم يحمل منه شيئاً ، لأن كل واحد يقول : نفسي نفسي { إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } المعنى أن الإنذار لا ينفع إلا الذين يخشون ربهم ، وليس المعنى اختصاصهم بالإنذار { بالغيب } في موضع حال من الفاعل في يخشون أي يخشون ربهم ، وهم غائبون عن الناس فخشيتهم حق لا رياء .
(1/1632)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21)
{ وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير } تمثيل للكافر والمؤمن { وَلاَ الظلمات وَلاَ النور } تمثيل للكفر والإيمان { وَلاَ الظل وَلاَ الحرور } تمثيل للثواب والعقاب وقيل : { الظل } : الجنة { وَلاَ الحرور } النار . والحرور في اللغة : شدة الحر بالنهار والليل السموم بالنهار خاصة .
(1/1633)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)
{ وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء وَلاَ الأموات } تمثيل لمن آمن فهو كالحي ومن لم يؤمن فهو كالميت { إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ } عبارة عن هداية الله لمن يشاء { وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور } عبارة عن عدم سماع الكفار للبراهين والمواعظ ، فشبههم بالموتى في عدم إحساسهم ، وقيل : المعنى أن أهل القبور وهم الموتى حقيقة لا يسمعون ، فليس عليك أن تسمعهم ، وإنما بعث للأحياء .
(1/1634)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)
{ وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } معناه أن الله قد بعث إلى كل أمة نبياً يقيم عليهم الحجة ، فإن قيل : كيف ذلك وقد كان بين الأنبياء فترات وأزمنة طويلة؟ ألا ترى أن بين عيسى ومحمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم ستمائة سنة لم يبعث فيها نبي؟ فالجواب أن دعوة عيسى ومن تقدمه من الأنبياء كانت قد بلغتهم فقامت عليهم الحجة . فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } ؟ [ السجدة : 3 ] فالجواب أنهم لم يأتهم نذير معاصر لهم ، فلا يعارض ذلك من تقدم قبل عصرهم ، وأيضاً فإن المراد بقوله : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ليست ببدع فلا ينبغي أن تنكر ، لأن الله أرسله كما أرسل من قبله والمراد بقوله : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ } [ السجدة : 3 ] أنهم محتاجون إلى الإنذار ، لكونهم لم يتقدم من ينذرهم فاختلف سياق الكلام فلا تعارض بينهما .
(1/1635)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)
{ وَإِن يُكَذِّبُوكَ } الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم للتأسي { نَكِيرِ } ذكر في سبأ { ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } يريد الصفرة والحمرة وغير ذلك من الألوان ، وقيل : يريد الأنواع والأول أظهر لذكره البيض والحمر والسود بعد ذلك . وفي الوجهين دليل على أن الله تعالى فاعل مختار ، يخلف ما يشاء ويختار . وفيه ردّ على الطبائعيين [ الدهريين ] لأن الطبيعة لا يصدر عنها ولا نوع واحد { جُدَدٌ } جمع جدة وهي الخطط والطرائق في الجبال { وَغَرَابِيبُ } جمع غربيب وهو الشديد السواد ، وقدم الوصف الأبلغ ، وكان حقه أن يتأخر لقصد التأكيد ، ولأن ذلك كثيراً ما يأتي في كلام العرب .
(1/1636)
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
{ كَذَلِكَ } يتعلق بما قبله فيتم الوقف عليه والمعنى : أن من الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه ، مثل الجبال المختلف ألوانها ، والثمرات المختلف ألوانها ، وذلك كله استدلال على قدرة الله وإرادته .
{ إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } يعني العلماء بالله وصفاته وشرائعه علماً يوجب لهم الخشية من عذابه وفي الحديث : " أعلمكم بالله أشدكم له خشية " لأن العبد إذا عرف الله خاف من عقابه وإذا لم يعرفه لم يخف منه فلذلك خص العلماء بالخشية .
(1/1637)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
{ إِنَّ الذين يَتْلُونَ كِتَابَ الله } أي يقرأون القرآن وقيل : معنى { يَتْلُونَ } : يتبعون والخبر { يَرْجُونَ تِجَارَةً } أو محذوف { لَّن تَبُورَ } أي لن تكسد ويعني بالتجارة طلب الثواب { وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ } توفية الأجور ، وهو ما يستحقه المطيع من الثواب ، والزيادة التضعيف فوق ذلك ، وقيل : الزيادة النظر إلى وجه الله { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } تقدم في البقرة .
(1/1638)
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا } يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، والتوريث عبارة عن أن الله أعطاهم الكتاب بعد غيرهم من الأمم { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات } قال عمر وابن مسعود وابن عباس وكعب وعائشة وأكثر المفسرين هذه الأصناف الثلاثة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم : فالظالم لنفسه العاصي والسابق التقي والمقتصد بينهما وقال الحسن : السابق من رجحت حسناته على سيئاته ، والظالم لنفسه من رجحت سيئاته والمقتصد من استوت حسانته وسيّئاته ، وجميعهم يدخلون الجنة وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له " ، وقيل : الظالم الكافر والمقتصد المؤمن العاصي ، والسابق التقي فالضمير في منهم على هذا يعود على العباد ، وأما على القول الأول فيعود على الذين اصطفينا وهو أرجح وأصح لوروده في الحديث ، وجلالة القائلين به ، فإن قيل : لم قدّم الظالم ووسط المقتصد وآخر السابق؟ فالجواب : أنه قدّم الظالم لنفسه رفقاً به لئلا ييئس وآخر السابق لئلا يعجب بنفسه ، وقال الزمخشري : قدّم الظالم لكثرة الظالمين وآخر السابق لقلة السابقين { ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير } إشارة إلىلاصطفاء .
(1/1639)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ } بدل من الفضل أو خبر مبتدأ تقديره : ثوابهم جنات عدن أو مبتدأ تقديره : لهم جنات عدن { يَدْخُلُونَهَا } ضمير الفاعل يعود على الظالم ، والمقتصد ، والسابق ، على القول بأن الآية في هذه الأمة : وأما على القول بأن الظالم هو الكافر فيعود على المقتصد والسابق خاصة ، وقال الزمخشري : إنه يعود على السابق خاصة وذلك على قول المعتزلة في الوعيد { أَسَاوِرَ } ذكر في [ الحج : 23 ] .
(1/1640)
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)
{ أَذْهَبَ عَنَّا الحزن } قيل هو عذاب النار ، وقيل : أهوال القيامة وقيل : هموم الدنيا والصواب العموم في ذلك كله .
(1/1641)
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
{ دَارَ المقامة } هي الجنة والمقامة هي الإقامة ، والموضع وإنما سميت الجنة دار المقامة ، لأنهم يقومون فيها ولا يخرجون منها { نَصَبٌ } النصب تعب البدن ، واللغوب تعب النفس ، اللازم عن تعب البدن .
(1/1642)
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
{ يَصْطَرِخُونَ } يفتعلون من الصراخ أي يستغيثون فيقولون : { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا } وفي قولهم : { غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ } اعتراف بسوء عملهم وتندم عليه .
{ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ } الآية توبيخ لهم وإقامة حجة عليهم وقيل : إن مدة التذكير ستون سنة وقيل : أربعون وقيل : البلوغ والأول أرجح لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من عمره الله ستين فقد أعذر إليه في العمر " { وَجَآءَكُمُ النذير } يعني النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : يعني الشيب ، لأنه نذير بالموت والأول أظهر .
(1/1643)
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)
{ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي بما تضمره الصدور وتعتقده ، وقال الزمخشري : ذات هنا تأنيث ذو معنى صاحب لأن المضمرات تصحب الصدور .
(1/1644)
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
{ خَلاَئِفَ } ذكر الأنعام { مَقْتاً } المقت احتقار الإنسان وبغضه لأجل عيوبه أو ذنوبه .
(1/1645)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ } الآية احتجاج على المشركين وإبطال لمذهبهم { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ } أي نصيب { على بَيِّنَةٍ } قرأ نافع بيِّنات أي على أمر جليّ ، والضمير في أتيناهم يحتمل أن يكون للأصنام أو للمشركين وهذا أظهر في المعنى والأول أليق بما قبله من الضمائر .
(1/1646)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
{ أَن تَزُولاَ } في موضع مفعول من أجله تقديره كراهة أن تزولا أو مفعول به لأن يمسك بمعنى يمنع { وَلَئِن زَالَتَآ } أي لو فرض زوالهما لم يمسكهما أحد ، وقيل : أراد زوالهما يوم القيامة عند طيّ السماء وتبديل الأرض ونسف الجبال { مِّن بَعْدِهِ } أي من بعد تركه الإمساك .
(1/1647)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42)
{ وَأَقْسَمُواْ بالله } الضمير لقريش وذلك أنهم قالوا : لعن الله اليهود والنصارى جاءتهم الرسل فكذبوهم ، والله لئن جاءنا رسول لنكونن أهدى منهم { إِحْدَى الأمم } يعني اليهود والنصارى { فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ } يعني محمد صلى الله عليه وسلم .
(1/1648)
اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
{ استكبارا } بدل من نفوراً أو مفعول من أجله { وَمَكْرَ السيىء } هذا من إضافة الصفة إلى الموصوف كقولك : مسجد الجامع وجانب الغربي والأصل أن يقال : المكر السيء { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } أي لا يحيط وبالُ المكر السيء إلا بمن مكره ودبره ، وقال كعب لابن عباس : إن في التوراة من حفر حفرة لأخيه وقع فيها فقال ابن عباس : أنا أجد هذا في كتاب الله : ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأولين } أي هل ينتظرون إلا عادة الأمم المتقدمة في أخذ الله لهم وإهلاكهم للرسل .
(1/1649)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)
{ وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ } أي لا يفوته شيء ولا يصعب عليه .
(1/1650)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
{ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } الضمير للأرض والدابة عموم في كل ما يدب وقيل : أراد بني آدم خاصة { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } يعني يوم القيامة وباقي الآية وعد ووعيد .
(1/1651)
يس (1)
قد تكلمنا في البقرة على حروف الهجاء وقيل : في يس إنه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم وقيل : معناه يا إنسان .
(1/1652)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
{ تَنزِيلَ } بالرفع خبر ابتداء مضمر وبالنصب مصدر أو مفعول بفعل مضمر { لِتُنذِرَ قَوْماً } هم قريش ويحتمل أن يدخل معهم سائر العرب وسائر الأمم { مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ } ما نافية والمعنى : لم يرسل إليهم ولا لآبائهم رسول ينذرهم ، وقيل : المعنى : لتنذر قوماً مثل ما أنذر آباؤهم ، فما على هذا موصولة بمعنى الذي ، أو مصدرية والأول أرجح لقوله { فَهُمْ غَافِلُونَ } يعني أن غفلتهم بسبب عدم إنذارهم ، وتكون بمعنى قولهم : ما أتاهم من نذير من قبلك ولا يعارض هذا بعث الأنبياء المتقدمين ، فإن هؤلاء القوم لم يدركوهم ولا آبائهم الأقربون { لَقَدْ حَقَّ القول } أي سبق القضاء .
(1/1653)
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
{ إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً } الآية : فيها ثلاثة أقوال : الأول أنها عبارة عن تماديهم على الكفر ، ومنع الله لهم من الإيمان ، فشبههم بمن جعل في عنقه غل يمنعه من الالتفات ، وغطى على بصره فصار لا يرى ، والثاني أنها عبارة عن كفهم عن إذاية النبي صلى الله عليه وسلم حين أراد أبو جهل أن يرميه بحجر ، فرجع عنه فزعاً مرعوباً ، والثالث : أن ذلك حقيقة في حالهم في جهنم ، والأول أظهر وأرجح لقوله قبلها { فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } وقوله بعدها { وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } { فَهِىَ إِلَى الأذقان } الذقن هي طرف الوجه حيث تنبت اللحية ، والضمير للأغلال ، وذلك أن الغل حلقة في العنق ، فإذا كان واسعاً عريضاً وصل إلى الدقن فكان أشدّ على المغلول ، وقيل : الضمير للأيدي على أنها لم يتقدم لها ذكر ، ولكنها تفهم من سياق الكلام ، لأن المغلول تضم يداه في الغل إلى عنقه ، وفي مصحف ابن مسعود : { إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الأذقان } . وهذه القراءة تدل على هذا المعنى ، وقد أنكره الزمخشري { فَهُم مُّقْمَحُونَ } يقال قمح البعير إذا رفع رأسه ، وأقمحه غيره إذا فعل به ذلك ، والمعنى أنهم لما اشتدت الأغلال حتى وصلت إلى أذقانهم اضطرت رؤوسهم إلى الارتفاع ، وقيل : معنى { مُّقْمَحُونَ } ممنوعون من كل خير .
{ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً } الآية : السّد الحائل بين الشيئين ، وذلك عبارة عن منعم من الإيمان { فَأغْشَيْنَاهُمْ } أي غطينا على أبصارهم وذلك أيضاً مجاز يراد به إضلالهم { وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ } الآية : ذكرنا معناها وإعرابها في [ البقرة : 6 ] { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر } المعنى أن الإنذار لا ينفع إلا من اتبع الذكر وهو القرآن { وَخشِيَ الرحمن بالغيب } معناه كقولك : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وقد ذكرناه في [ فاطر : 18 ] { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى } أي نبعثهم يوم القيامة ، وقيل : أحياؤهم إخراجهم من الشرك إلى الإيمان ، والأول أظهر { وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ } أي ما قدموا من أعمالهم ، وما تركوه بعدهم ، كعلم علموه أو تحبيس جبسوه ، وقيل : الأثر هنا : الخطا إلى المساجد ، وجاء ذلك في الحديث { إِمَامٍ مُّبِينٍ } أي في كتاب وهو اللوح المحفوظ أو صحائف الأعمال .
(1/1654)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16)
{ واضرب لَهُمْ مَّثَلاً } الضمير لقريش ، ومثلاً وأصحاب القرية مفعولان بأضرب على القول بأنها تتعدى إلى مفعولين ، وهو الصحيح والقرية أنطاكية { إِذْ جَآءَهَا المرسلون } هم من الحواريين الذين أرسلهم عيسى عليه الصلاة والسلام ، يدعون الناس إلى عبادة الله ، وقيل : بل هم رسل أرسلهم الله ، ويدل على هذا قول قومهم : { مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } ، فإن هذا إنما يقال : لمن ادعى أن الله أرسله { فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } أي قوينا الاثنين برسول ثالث ، قيل : اسمه شمعون { رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } أنما أكدوا الخبر هنا باللام لأنه جواب المنكرين ، بخلاف الموضع الأول فإنه إخبار مجرد .
(1/1655)
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
{ قالوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } أي تشاءمنا بكم ، وأصل اللفظة من زجر الطير ليستدل على ما يكون من شر أو خير ، وإنما تشاءموا بهم لأنهم جاؤوهم بدين غير دينهم ، وقيل : وقع فيهم الجذام لما كفروا ، وقيل : قحطوا { قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ } أي قال الرسل لأهل القرية : شؤمكم معكم؛ أي إنما الشؤم الذي أصابكم بسبب كفركم لا بسببنا { أَئِن ذُكِّرْتُم } دخلت همزة الاستفهام على حرف الشرط وفي الكلام حذف تقديره : أتطيرون أن ذكرتم .
(1/1656)
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)
{ يسعى } أي يسرع بجده ونصيحته ، وقيل : اسمه حبيب النجار { اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } أي هؤلاء المرسلون لا يسألونكم أجرة على الإيمان ، فلا تخسرون معهم شيئاً من دنياكم ، وترجعون معهم الاهتداء في دينكم { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي } المعنى أي شيء يمنعني من عبادة ربي؟ وهذا توقيف سؤال وإخبار عن نفسه قصد به البيان لقومه ، ولذلك قال : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فخاطبهم { إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ } هذا وصف للآلهة ، والمعنى : كيف أتخذ من دون الله آلهة لا يشفعون ولا ينقذونني من الضر { إني إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي إن اتخذت آلهة غير الله فإني لفي ضلال مبين { إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون } خطاب لقومه أي : اسمعوا قولي واعملوا بنصيحتي ، وقيل : خطاب للرسل ليشهدوا له .
(1/1657)
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
{ قِيلَ ادخل الجنة } قيل : محذوف يدل عليه الكلام ، وروي في الأثر وهو أن الرجل لما نصح قومه قتلوه فلما مات قيل له : ادخل الجنة ، واختلف هل دخلها حيث موته كالشهداء؟ أو هل ذلك بمعى البشارة بالجنة ورؤيته لمقعده منها؟ { قَالَ ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي } تمنّى أن يعلم قومه بغفران الله له على إيمانه فيؤمنون ، ولذلك ورد في الحديث أنه نصح لهم حياً وميتاً ، وقيل : أراد أن يعلموا ذلك فيندموا على فعلهم معه وينفعهم ذلك .
(1/1658)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
{ وَمَآ أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السمآء } المعنى أن الله أهلكهم بصيحة صاحها جبريل ، ولم يحتج في تعذيبهم إلى إنزال جند من السماء ، لأنهم أهون من ذلك ، وقيل المعنى ما أنزل الله على قومه ملائكة رسلاً كما قالت قريش : { لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } [ الفرقان : 7 ] ولفظ الجند أليق بالمعنى الأول ، وكذلك ذكر الصيحة بعد ذلك { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } ما كنا لننزل جنداً من السماء علىأحد { فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } أي ساكنون لا يتحركون ولا ينطقون .
(1/1659)
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)
{ ياحسرة عَلَى العباد } نداء للحسرة كأنه قال : يا حسرة احضري فهذا وقتك ، وهذا التفجع عليهم استعارة في معنى التهويل والتعظيم لما فعلوا من استهزائهم بالرسل ، ويحتمل أن يكون من كلام الملائكة ، أو المؤمنين من الناس ، وقيل : المعنى يا حسرة العباد على أنفسهم .
(1/1660)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
{ أَلَمْ يَرَوْاْ } الضمير لقريش أو للعباد على الاطلاق ، والرؤية هنا بمعنى العلم { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } قرئ لما بالتخفيف وهي لام التأكيد دخلت على { مَا } المزيدة وإن على هذا مخففة من الثقيلة ، وقرئ بالتشديد وهي بمعنى إلا ، وإن على هذا نافية .
(1/1661)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
{ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } على ثمرة أي ليأكلوا من الثمر { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } بالحرث والزراعة والغراسة ، وقيل { مَا } نافية وقرئ { مَا عَمِلَتْ } من غيرها وما على معطوفة { الأزواج } يعني أصناف المخلوقات ثم فسرها بقوله : { مِمَّا تُنبِتُ الأرض } وما بعده ، فمن في المواضع الثلاثة للبيان { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } يعني أشياء لا يعلمها بنو آدم كقوله : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 8 ] .
(1/1662)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)
{ نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } أن نجرده منه وهي استعارة .
(1/1663)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)
{ والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا } أحد لحد موقت تنتهي إليه من فلكها ، وهي نهاية جريها إلى أن ترجع في المنقلبين الشتاء والصيف ، وقيل : مستقرها : وقوفها كل وقت زوال ، بدليل وقوف الظل حينئذ ، وقيل : مستقرها يوم القيامة حين تكوّر ، وفي الحديث : " مستقرها تحت العرش تسجد فيه كل ليلة بعد غروبها " وهذا أصح الأقوال لوروده عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي في البخاري عن أبي ذر ، وقرئ { لا مستقر لها } أي لا تستقر عن جريها .
(1/1664)
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)
{ والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } قرأ نافعت بالرفع على الابتداء أو عطف على الليل ، وآخرون بالنصب على إضمار فعل ، ولا بد في { قَدَّرْنَاهُ } من حذف تقديره : قدرنا سيره منازل ، ومنازل القمر ثمانية وعشرون ينزل القمر كل ليلة واحدة منها أول الشهر ، ثم يستتر في آخر الشهر ليلة أو ليلتين ، وقال الزمخشري : وهذه المنازل هن مواضع النجوم؛ وهي السرطان ، البطين ، الثريا ، الدبران ، الهقعة الهنعة ، الذراع ، النثرة ، الطرف ، الجبهة ، الزبرة الصرفة ، العوى ، السماك ، الغفر ، الزباني ، الأكليل ، القلب ، الشولة ، النعائم ، البلدة ، سعد بلع ، سعد الذابح ، سعد السعود ، سعد الأخبية ، فرغ الدلو المقدم ، فرغ الدلو المؤخر ، بطن الحوت { حتى عَادَ كالعرجون القديم } العرجون هو غصن النخلة شبه القمر به إذا انتهى في نقصانه ، والتشبيه في ثلاثة أوصاف : وهي الرقة ، والانحناء ، والصفرة ، ووصفه بالقديم لأنه حينئذ تكون له هذه الأوصاف .
(1/1665)
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
{ لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر } المعنى لا يمكن الشمس أن تجتمع مع القمر بالليل فتمحو نوره ، وهكذا قال بعضهم ، ويحتمل أن يريد أن سير الشمس في الفلك بطيء ، فإنها تقطع الفلك في سنة وسير القمر سريع ، فإنه يقطع الفلك في شهر ، والبطيء لا يدرك السريع { وَلاَ اليل سَابِقُ النهار } يعني أن كل واحد منهما جعل الله له وقتاً موقتاً ، واحداً معلوماً لا يتعدّاه ، فلا يأتي الليل حتى ينفصل النهار ، كما لا يأتي النهار حتى ينفصل الليل ، ويحتمل أن يريد أن آية الليل وهي القمر لا تسبق آية النهار وهي الشمس : أي لا تجتمع معه فيكون المعنى كالذي قيل في قوله { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر } فحصل من ذلك أن الشمس لا تجتمع مع القمر وأن القمر لا يجتمع مع الشمس { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } ذكر في [ الأنبياء : 23 ] .
(1/1666)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)
{ وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون } معنى المشحون : المملوء ، والفلك هنا يحتمل أن يريد به جنس السفن ، أو سفينة نوح عليه السلام ، وأما الذرية فقيل : إنه يعني الآباء الذين حملهم الله في سفينة نوح عليه السلام ، وسمى الآباء ذرية لأنها تناسلت منهم ، وأنكر ابن عطية ذلك ، وقال : إنه يعني النساء ، وهذا بعيد ، والأظهر أنه أراد بالفُلك جنس السفن ، فيعني جنس بن آدم ، وإنما خص ذريتهم بالذكر لأنه أبلغ في الامتنان عليهم ، ولأن فيه إشارة إلى حمل أعقابهم إلى يوم القيامة ، وإن أراد بالفلك سفينة نوح فيعني بالذرية من كان في السفينة ، وسماهم ذرية ، لأنهم ذرية آدم ونوح ، فالضمير في ذريتهم على هذا النوع بني آدم كأنه يقول الذرية منهم .
(1/1667)
وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
{ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } إن أراد بالفلك سفينة نوح فيعني بقوله : { مِّن مِّثْلِهِ } سائر السفن التي يركبها سائر الناس ، وإن أراد بالفلك جنس السفن فيعني بقوله { مِّن مِّثْلِهِ } الإبل وسائر المركوبات ، فتكون المماثلة على هذا في أنه مركوب لا غير ، والأول أظهر ، لقوله { وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ } ، ولا يتصور هذا في المركوبات غير السفن { فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ } أي لا مغيث لهم ولا منفذ لهم من الغرق { إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا } قال الكسائي : نصب رحمة على الاستثناء كأنه قال : إلا أن نرحمهم ، وقال الزجاج : نصب رحمة على المفعول من أجله كأنه قال : إلا لأجل رحمتنا إياهم { وَمَتَاعاً إلى حِينٍ } يعني آجالهم .
(1/1668)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ } الضمير لقريش ، وجواب إذا محذوف تقديره : أعرضوا يدل عليه { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } ، والمراد ب { مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ } : ذنوبهم المتقدّمة والمتأخرة ، وقيل : { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } عذاب الأمم المتقدمة ، { وَمَا خَلْفَهُمْ } عذاب الآخرة .
(1/1669)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)
{ قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ } كان النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون يحضون على الصدقات وإطعام المساكين فيجيبهم الكفار بهذا الجواب ، وفي معناه قولان : أحدهما أنهم قالوا كيف نطعم المساكين ولو شاء الله أن يطعمهم لأطعمهم ، ومن حرمهم الله نحن نحرمهم ، وهذا كقولهم : كن مع الله على المدبر ، والآخر أن قولهم رد على المؤمنين ، وذلك أن المؤمنين كانوا يقولون : إن الأمور كلها بيد الله ، فكأن الكفار يقولون لهم : لو كان كما تزعمون لأطعم الله هؤلاء فما بالكم تطلبون إطعامهم منا ، ومقصودهم في الوجهين احتجاج لبخلهم ، ومنعهم الصدقات واستهزاء بمن حضهم على الصدقات { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } يحتمل أن يكون من بقية كلامهم خطاباً للمؤمنين ، أون يكون من كلام الله خطاباً للكافرين .
(1/1670)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
{ وَيَقُولُونَ متى هَذَا الوعد } يعنون يوم القيامة أن نزول الأولى في الصور وهي نفخة الصعق .
(1/1671)
مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
{ تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } أي يتكلمون في أمروهم وأصل { يَخِصِّمُونَ } يختصمون ، ثم آدغم ، وقرئ بفتح الخاء وبكسرها واختلاس حركتها .
(1/1672)
فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
{ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً } أي لا يقدرون أن يوصوا بما لهم وما عليهم لسرعة الأمر { وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } أي يستطيعون أن يرجعوا إلى منازلهم لسرعة الأمر .
(1/1673)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)
{ وَنُفِخَ فِي الصور فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } هذه النفخة الثانية وهي نفخة القيام من القبور ، والأجداث هي القبور ، وينسلون يسرعون المشيء ، وقيل : يخرجون .
(1/1674)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
{ قَالُواْ ياويلنا } الويل منادى أو مصدر { مَن بَعَثَنَا مِن } المرقد يحتمل أن يكون اسم مصدر أو اسم مكان ، قال أبيّ بن كعب ومجاهد : إن البشر ينامون نومة قبل الحشر ، قال ابن عطية هذا غير صحيح الإسناد ، وإنما الوجه في معنى قولهم : { مِن مَّرْقَدِنَا } : أنها استعارة وتشبيه به يعني أن قبورهم شبهت بالمضاجع ، لكونهم فيها على هيئة الرقاد ، وإن لم يكن رقاد في الحقيقة { هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون } هذا مبتدأ وما بعده خبر وقيل : إن هذا صفة لمرقدنا وما وعد الرحمن مبتدأ محذوف الخبر وهذا ضعيف ، ويحتمل أن يكون هذا الكلام من بقية كلامهم ، أو من كلام الله أو الملائكة أو المؤمنين يقولونها للكفار على وجه التقريع .
(1/1675)
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53)
{ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } يعني النفخة الثانية وهي نفخة القيام .
(1/1676)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
{ إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ } قرأ نافع وغيره { شُغُلٍ } بسكون الغين وقرأ عاصم وآخرون بضم الغين ، عام في الاشتغال باللذات { فَاكِهُونَ } قرئ بالألف ومعناه أصحاب فاكهة ، وبغير ألف وهو في الفكاهة بمعنى الراحة والسرور { فِي ظِلاَلٍ } جمع ظل ، وبالضم جمع ظلة ، { عَلَى الأرآئك } جمع أريكة وهي السرير { وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } أي ما يتمنون ، وقيل : معناه أن ما يدعومن به يأتيهم { سَلاَمٌ } مبتدأ ، وقيل بدل مما يدعون { قَوْلاً } مصدر مؤكد ، والمعنى : أن السلام عليهم قول من الله بواسطة الملك أو بغير واسطة .
(1/1677)
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
{ وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون } أي انفردوا عن المؤمنين ، وكونوا على حدة .
(1/1678)
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)
{ جِبِلاًّ كَثِيراً } الجِبِّل الامة العظيمة ، وقال الضحاك : أقلها عشرة آلاف ولا نهاية لأكثرها ، وقرأ عاصم ونافع { جِبِلاًّ } بكسر الجيم والباء وتشديد اللام ، وبضمها مع التخفيف ، وبضم الجيم وإسكان الباء ، وهي لغات بمعنى واحد .
(1/1679)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
{ اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ } أي نمنعهم من الكلام فتنطق أعضاؤهم يوم القيامة .
(1/1680)
وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)
{ وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ } هذا تهديد لقريش ، والطمس على الأعين هو العمى ، و { الصراط } الطريق و { أنى } استفهام يراد به النفي ، فمعنى الآية لو نشاء لأعميناهم فلو راموا أن يمشوا على الطريق لم يبصروه ، وقيل : يعني عمى البصائر أي : لو نشاء لختمنا على قلوبهم ، فالطريق على هذا استعارة بمعنى الإيمان والخير .
(1/1681)
وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)
{ وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ } هذا تهديد بالمسخ ، فقيل : معناه المسخ قردة وخنازير وحجارة ، وقيل : معناه لو نشاء لجعلناهم مقعدين مبطولين لا يستطيعون تصرفاً ، وقيل : إن هذا التهديد كله بما يكون يوم القيامة ، والأظهر أنه في الدنيا { على مَكَانَتِهِمْ } المكانة المكان ، والمعنى لو نشاء لمسخناهم مسخاً يقعدهم في مكانهم { فَمَا استطاعوا مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ } أي إذا مسخوا في مكانهم لو يقدروا أن يذهبوا ولا أن يرجعوا .
(1/1682)
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
{ وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخلق } أي نحول خلقته من القوة إلى الضعف ، ومن الفهم إلى البله وشبه ذلك كما قال تعالى : { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً } [ الروم : 54 ] وإنما قصد بذكر ذلك هنا للاستدلال على قدرته تعالى على مسخ الكفار ، كما قدر على تنكيس الإنسان إذا هرم .
(1/1683)
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)
{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ } الضميران لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك ردّ على الكفار في قولهم : إنه شاعر ، وكان صلى الله عليه وسلم لا ينظم الشعر ولا يزنه ، وإذا ذكر بيت شعر كسر وزنه ، فإن قيل : قد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب " وروي أيضاً عنه صلى الله عليه وسلم : " هل أنت إلا أصبع دميت ، وفي سبيل الله ما لقيت " ، وهذا الكلام على وزن الشعر فالجواب أنه ليس بشعر ، وأنه لم يقصد به الشعر ، وإنما جاء موزوناً بالاتفاق لا بالقصد ، فهو كالكلام المنثور ، ومثل هذا يقال في مثل ما جاء في القرآن من الكلام الموزون ، ويقتضي قوله { وَمَا يَنبَغِي لَهُ } تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن الشعر لما فيه من الأباطيل وإفراط التجاوز ، حتى يقال : إن الشعر أطيبه أكذبه ، وليس كل الشعر كذلك فقد قال صلى الله عليه وسلم : " إن من الشعر لحكمة " وقد أكثر الناس في ذم الشعر ومدحه ، وإنما الانصاف قول الشافعي الشعر كلام والكلام منه حسن ومنه قبيح { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ } الضمير للقرآن يعني أنه ذكر الله أو تذكير للناس أو شرفه لهم .
(1/1684)
لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
{ لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً } أي حيّ القلب والبصيرة { وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين } أي يجب عليهم العذاب .
(1/1685)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)
{ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً } مقصد الآية تعديد النعم وإقامة الحجة ، والأيدي هنا عند أهل التأويل عبارة عن القدرة ، وعند أهل التسليم من المتشابة الذي يجب الإيمان به وعلمه عند الله { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ } الركوب بفتح الراء هو المركوب { وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } يعني الأكل منها والحمل عليها ، والانتفاع بالجلود والصوف وغيره { وَمَشَارِبُ } يعني الآلبان .
(1/1686)
لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
{ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ } الضمير في يستطيعون للأصنام ، وفي نصرهم للمشركين ، ويحتمل العكس ، ولكنّ الأول أرجح ، فإنه لما ذكر أن المشركين اتخذوا الأصنام لينصروهم : أخبر أن الأصنام لا يستطيعون نصرهم فخاب أملهم { وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ } الضمير الأول للمشركين والثاني للأصنام؛ يعني أن المشركين يخدمون الأصنام ويتعصبون لهم حتى أنهم لهم كالجند ، وقيل : بالعكس بمعنى أن الأصنام جند محضرون لعذاب المشركين في الآخرة والأول أرجح ، لأنه تقبيح لحال المشركين { فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم معللة لما بعدها .
(1/1687)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)
{ أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ } هذه الآية وما بعدها إلى آخر السورة براهين على الحشر يوم القيامة ، ورد على من أنكر ذلك ، والنطفة هي نطفة المني التي خلق الإنسان منها ، ولا شك أن الإله الذي قدر على خلق الإنسان من نطفة قادر على أن يخلقه مرة أخرى عند البعث وسبب الآية أن العاصي بن وائل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم فقال : يا محمد من يحيي هذا؟ وقيل إن الذي جاء بالعظم أمية بن خلف وقيل : أبي بن خلف فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله يحييه ويميتك ثم يحييك ويدخلك جهنم { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } أي متكلم قادر على الخصام يبين ما في نفسه بلسانه .
(1/1688)
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
{ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً } إشارة إلى قول الكافرين : من يحيي هذا العظم { وَنَسِيَ خَلْقَهُ } أي نسي الاستدلال بخلقته الأولى على بعثه ، والنسيان هنا يحتمل أن يكون بمعنى الذهول أو الترك { وَهِيَ رَمِيمٌ } أي بالية متفتتة { قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } استدلال بالخلقة الأولى على البعث { وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } أي يعلم كيف يخلق كل شيء فلا يصعب عليه بعث الأجساد بعد فنائها ، والخلق هنا يحتمل أن يكون مصدراً أو بمعنى المخلوق .
(1/1689)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)
{ الذي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً } هذا دليل آخر على إمكان البعث ، وذلك أن الذين أنكروه من الكفار والطبائعيين قالواك طبع الموت يضاد طبع الحياة فكيف تصير العظام حية؟ فأقام الله عليهم الدليل من الشجر الأخضر الممتلئ ماء ، مع مضادة طبع الماء للنار . ويعني بالشجر زناد العرب وهو شجر المرخ والعفار ، فإنه يقطع من كل واحد منهما غصناً أخضر يقطر منه الماء ، فيسحق المرخ على العفار فتنقدح النار بينهما : قال ابن عباس : ليس من شجرة إلا وفيها نار إلا العناب ، ولكنه في المرخ والعفار أكثر .
(1/1690)
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)
{ أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى } هذا دليل آخر على البعث ، بأن الإله الذي قدر على خلق السموات والأرض على عظمهما وكبر أجرامهما قادر على أن يخلق أجساد بني آدم بعد فنائها ، والضمير في مثلهم يعود على الناس { وَهُوَ الخلاق العليم } ذكر في هذه الأسمين أيضاً استدلال على البعث ، وكذلك في قوله : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } لأن هذا عبارة عن قدرته على جميع الأشياء ولا شك أن الخلاق العليم القدير لا يصعب عليه إعادة الأجساد .
(1/1691)
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
{ فَسُبْحَانَ الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } في هذا استدلال على البعث ، وتنزيه لله عما نسبه الكفار إليه من العجز عن البعث ، فإنهم ما قدروا الله حق قدره ، وكل من أنكر البعث فإنما أنكره لجهله بقدرة الله سبحانه وتعالى .
(1/1692)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3)
{ والصافات صَفَّا } تقديره والجماعات الصافات ثم اختلف فيها فقيل : هي الملائكة التي تصف في السماء صفوفاً لعبادة الله ، وقيل : هو من يصف من بني آدم في الصلوات والجهاد ، والأول أرجح لقوله حكاية عن الملائكة [ الآية : 165 ] { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون } { فالزاجرات زَجْراً } هي الملاكئة تزجر السحاب وغيرها ، وقيل : الزاجرون بالمواعظ من بني آدم ، وقيل : هي آيات القرآن المتضمنة للزجر عن المعاصي { فالتاليات ذِكْراً } هي الملائكة تتلو القرآن والذكر ، وقيل : هم التالون للقرآن والذكر من بني آدم ، وهي كلها أشياء أقسم الله بها على أنه واحد .
(1/1693)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)
{ وَرَبُّ المشارق } يعني مشارق الشمس ، وهي ثلاثمائة وستون مشرقاً ، وكذلك المغارب فإنها تشرق كل يوم من أيام السنة في مشرق منها وتغرب في مغرب ، واستغنى بذكر المشارق عن ذكر المغارب لأنها معادلة لها ، فتفهم من ذكرها .
(1/1694)
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)
{ بِزِينَةٍ الكواكب } وقرأ نافع وغيره بإضافة الزينة إلى الكواكب ، والزينة تكون مصدراً واسماً لما يزان به ، فإن كان مصدراً فهو مضاف إلى الفاعل تقديره : بأن زينة الكواكب أسماً أو مضاف إلى المفعول تقديره : بأن زيناً الكواكب ، وإن كانت اسماً فالإضافة بيان للزينة ، وقرأ حفص وحمزة بتنوين زينة وخفض الكواكب على البدل ، ونصب الكواكب على أنها مفعول بزينة أو بدل من موضع زينة .
(1/1695)
وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)
{ وَحِفْظاً } منصوب على المصدر تقديره : وحفظناها حفظاً ، أو مفعول من أجله ، والواو زائدة أو محمول على المعنى ، لأن المعنى إنا جعلنا الكواكب زينة للسماء وحفظاً { مَّارِدٍ } أي شديد الشر .
(1/1696)
لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
{ لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى } الضمير في يسمعون للشياطين ، والملأ الأعلى هم الملائكة الذين يسكنون في السماء ، والمعنى أن الشياطين منعت من سماع أحاديث الملائكة . وقرأ حفص وعاصم وحمزة يسمعون بتشديد السين والميم ووزنة يتفعلون والسمع طلب السماع ، فنفى السماع على القراءة الأولى ، ونفى طلبه على القراءة بالتشديد ، والأول أرجح لقوله { إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ } [ الشعراء : 212 ] ولأن ظاهر الأحاديث أنهم يستمعون ، لكنه لا يسمعون شيئاً ، منذ بعث محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم يرجمون بالكواكب { وَيُقْذَفُونَ } أي يرجمون يعني بالكواكب وهي التي يراها الناس تقتضّ ، قال النقاش ومكي : ليست الكواكب الراجمة للشياطين بالكواكب الجارية في السماء؛ لأن تلك لا ترى حركتها وهذه الراجمة ترى حركتها لقربها منا . قال ابن عطية : وفي هذا نظر { دُحُوراً } أي طرداً وإبعاداً وإهانة؛ لأن الدحر الدفع بعنف . وإعرابه مفعول من أجله أو مصدر من يقذفون على المعنى أو مصدر في موضع الحال تقديره : مدحورين { عَذابٌ وَاصِبٌ } أي دائم ، لأنهم يرجمون بالنجوم في الدنيا ، ثم يقذفون في جهنم ، { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة } { مَنْ } في وضع رفع بدل من الضمير في قوله : { لاَّ يَسَّمَّعُونَ } والمعنى لا تسمع الشياطين أخبار السماء إلا الشيطان الذي خطف الخطفة { شِهَابٌ ثَاقِبٌ } أي شديد الإضاءة .
(1/1697)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)
{ فاستفتهم أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } الضمير لكفار قريش ، والاستفتاء نوع من السؤال ، وكأنه سؤال من يعتبر قوله ويجعل حجة؛ لأن جوابهم عن السؤال مما تقوم به الحجة عليهم و { مَّنْ خَلَقْنَآ } يراد به ما تقدم ذكره من الملائكة والسموات والأرض والمشارق والكواكب ، وقيل : يراد به ما تقدم من الأمم والأول أرجح؛ لقراءة ابن مسعود أم من عددنا ومقصد الآية : إقامة الحجة عليهم في إنكارهم البعث في الآخرة كأنه يقول : هذه المخلوقات أشد خلقاً منكم ، فكما قدرنا على خلقهم كذلك نقدر على إعادتكم بعد فنائكم { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } اللازب اللازم أي يلزم ما جاوره ويلصق به ، ووصفه بذلك يراد به ضعف خلقة بني آدم .
(1/1698)
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)
{ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } أي عجب يا محمد من ضلالهم وإعراضهم عن الحق ، أو عجبت من قدرة الله على هذه المخلوقات العظام المذكورة ، وقرأ حمزة والكسائي عجبتُ بضم التاء وأشكال ذلك على من يقول : إن التعجيب مستحيل على الله فتأولوه بمعنى : أنه جعله على حال يتعجب منها الناس وقيل : تقديره قل يا محمد عجبت وقد جاء التعجب من الله في القرآن والحديث كقوله صلى الله عليه وسلم : " يعجب ربك من شاب ليس له صبوة " وهي صفة فعل وإنما جعلوه مستحيلاً على الله ، لأنهم قالوا إن التعجب استعظام خفي سببه ، والصواب أنه لا يلزم أن يكون خفّي السبب بل هو لمجرد الاستعظام؛ فعلى هذا لا يستحيل على الله { وَيَسْخَرُونَ } تقديره وهم يسخرون منكم أو من العبث .
(1/1699)
وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)
{ وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ } الآية هنا العلامة كانشاق القمر ونحوه ، وروي أنها نزلت في مشرك اسمه ركانة ، أراه النبي صلى الله عليه وسلم آيات فلم يؤمن و { يَسْتَسْخِرُونَ } معناه : يسخرون فيكون فعل واستعمل بمعنى واحد وقيل : معناه يستدعي بعضهم بعضاً لأن يسخر ، وقيل يبالغون في السخرية .
(1/1700)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)
{ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً } الآية : معناها استبعادهم البعث وقد تقدم الكلام على الاستفهامين في الرعد { أَوَ آبَآؤُنَا } بفتح الواو دخلت همزة الإنكار على واو العطف ، وقرئ بالإسكان عطفاً بأو .
(1/1701)
قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)
{ قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ } أي قل : تبعثون . والداخر الصاغر الذليل .
(1/1702)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
{ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } هي النفخة في الصور للقيام من القبور { فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ } يحتمل أن يكون من النظر بالأبصار ، أو من الانتظار أي : ينتظرون ما يفعل بهم .
(1/1703)
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)
{ هذا يَوْمُ الدين } يحتمل أن يكون من كلامهم مثل الذي قبله ، أو مما يقال لهم مثل الذي بعده .
(1/1704)
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)
{ احشروا } الآية : خطاب للملائكة خاطبهم به الله تعالى أو خاطب به بعضهم بعضاً { وَأَزْوَاجَهُمْ } يعني نساءهم المشركات وقيل يعني أصنامهم وقرناءهم من الجن والإنس { وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ } يعني الأصنام والآدميين الذي كانوا يرضون بذلك .
(1/1705)
مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23)
{ فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم } أي دلوهم على طريق جهنم ليدخلوها .
(1/1706)
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
{ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } يعني إنهم يسألون عن أعمالهم ، توبيخاً لهم وقيل : يسألون عن قول : لا إله إلا الله والأول أرجح ، لأنه أهم ويحتمل أن يسألوا عن عدم تناصرهم ، على وجه التهكم بهم ، فيكون { مَّسْئُولُونَ } عاملاً فيما بعده والتقدير؛ يقال لهم : ما لكم لا ينصر بعضكم بعضاً وقد كنتم في الدنيا تقولون : { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } [ القمر : 44 ] { مُسْتَسْلِمُونَ } أي منقادون عاجزون عن الانتصار .
(1/1707)
قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28)
{ قالوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين } الضمير في { قالوا } ، للضعفاء من الكفار خاطبوا الكبراء منهم في جهنم ، أو للإنس خاطبوا الجنّ ، واليمين هنا يحتمل ثلاث معان : الأول أن يراد بها طريق الخير والصواب وجاءت العبارة عن ذلك بلفظ اليمين كما أن العبارة عن الشر بالشمال ، والمعنى أنهم قالوا لهم : إنكم كنتم تأتوننا عن طريق الخير فتصدوننا عنه والثاني أن يراد به القوة ، والمعنى على هذا أنكم كنتم تأتوننا بقوتكم وسلطانكم فتأمروننا بالكفر وتمنعوننا من الإيمان والثالث أن يراد بها اليمين التي يحلف بها أي كنتم تأتوننا بأن تحلفوا لنا أنكم على الحق فنصدقكم في ذلك ونتبعكم .
(1/1708)
قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)
{ قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } الضمير في قالوا للكبراء من الكفار ، أو للشياطين والمعنى أنهم قالوا لأتباعهم : ليس الأمر كما ذكرتم ، بل كفرتم باختياركم .
(1/1709)
فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31)
{ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ } أي وجب العذاب علينا وعليكم ، و { إِنَّا لَذَآئِقُونَ } : معمول القول وحذف معمول ذائقون تقديره ، وجب القول بأنا ذائقو العذاب .
(1/1710)
فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32)
{ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ } أي دعوناكم إلى الغي ، لأنا كنّا على غي .
(1/1711)
فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33)
{ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ } أي إن المتبوعين والأتباع مشتركون في عذاب النار .
(1/1712)
وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
{ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ } الضمير في يقولون لكفار قريش ، ويعنون بشاعر مجنون : محمد صلى الله عليه وسلم ، فردّ الله عليهم بقوله : { بَلْ جَآءَ بالحق } أي جاء بالتوحيد والإسلام ، وهو لحق { وَصَدَّقَ المرسلين } الذين جاؤوا قبله : لأنه جاء بمثل ما جاؤوا به ، ويحتمل أن يكون صدقهم لأنهم أخبروا بنبوّته فظهر صدقه لما بعث عليه الصلاة ولسلام .
(1/1713)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)
{ إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } استثناء منقطع بمعنى لكن ، وقرئ مخلصين بفتح اللام وكسرها في كل موضع ، وقد تقدّم تفسيره .
(1/1714)
عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44)
{ على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } السرر جمع سرير ، وتقابلهم في بعض الأحيان للسرور بالأنس ، وفي بعض الأحيان ينفرد كل واحد بقصره .
(1/1715)
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45)
{ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } الذين يطوفون عليهم الولدان ، حسبما ورد في الآية الآخرى ، والكأس الإناء الذي فيه خمر قاله ابن عباس : وقيل : الكأس إناء واسع الفم ، ليس له مقبض ، سواء كان فيه خمر أم لا ، والمعين : الجاري الكثير ، لأنه فعيل ، والميم فيه أصلية ، وقيل : هو مشتق من العين والميم زائدة ، ووزنه مفعول .
(1/1716)
بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)
{ لَذَّةٍ } أي ذات لذة ، فوصفها بالمصدر اتساعاً .
(1/1717)
لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)
{ لاَ فِيهَا غَوْلٌ } الغول : اسم عام في الأذى والضير ، ومنه يقال : غاله يغوله؛ إذا أهلكه ، وقيل : الغول وجع في البطن ، وقيل : صداع في الرأس ، وإنما قدم المجرور هنا تعريضاً بخمر الدنيا لأن الغول فيها { وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } أي لا يسكرون من خمر الجنة ، ومنه النزيف ، وهو السكران ، وعن هنا سببية ، كقولك فعلته عن أمرك ، أي لا ينزفون بسبب شربها .
(1/1718)
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
{ قَاصِرَاتُ الطرف } معناه أنهن قصرن أعينهن على النظر إلى أزواجهن ، فلا ينظرن إلى غيرهن { عِينٌ } جمع عيناء ، وهي الكبيرة العينين في جمال { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } قيل شبههن في اللون ببيض النعام ، فإنه بياض خالطه صفرة حسنة ، وكذلك قال امرؤ القيس :
كبكر مقناة البياض بصفرة ... وقيل : إنما التشبيه بلون قشر البيضة الداخلي الرقيق ، وهو المكنون المصون تحت القشرة الأولى ، وقيل : أراد الجوهر المصون .
(1/1719)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)
{ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } هذا إخبار عن تحدّث أهل الجنة . قال الزمخشري : هذه الجملة معطوفة على { يُطَافُ عَلَيْهِمْ } ، والمعنى : أنهم يشربون فيتحدّثون على الشراب ، بما جرى لهم في الدنيا .
(1/1720)
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)
{ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ } قيل : إن هذا القائل وقرينه من البشر ، مؤمن وكافر ، وقيل : إن قرينه كان من الجن .
(1/1721)
يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)
{ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين } معناه أنه كان يقول له على وجه الإنكار : أتصدق بالدنيا والآخرة؟
(1/1722)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53)
{ لَمَدِينُونَ } أي مجازون ومحاسبون على الأعمال ، ووزنه مفعول ، وهو من الدين ، بمعنى الجمزاء والحساب .
(1/1723)
قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)
{ قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ } أي قال ذلك القائل لرفقائه في الجنة ، أو الملائكة أو لخدامه : هل أنتم مطلعون على النار لأريكم ذلك العزيز فيها؟ ورُوي أن في الجنة كوى ينظرون أهلها منها إلى النار .
(1/1724)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)
{ فِي سَوَآءِ الجحيم } أي في وسطها .
(1/1725)
قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)
{ قَالَ تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ } أي تهلكني بإغوائك ، والردى الهلاك ، وهذا خطاب خاطب به المؤمن قرينه الذي في النار .
(1/1726)
وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)
{ المحضرين } في العذاب .
(1/1727)
أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58)
{ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ } هذا من كلام المؤمن ، خطاب لقرينه ، أو خطاباً لرفقائه في الجنة ولهذا قال نحن فأخبر عن نفسه وعنهم ، ويحتمل أن يكون من كلامه وكلامهم جميعاً .
(1/1728)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
{ إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم } يحتمل أن يكون من كلام المؤمن ، أو من كلامه وكلام رفقائه في الجنة أو من كلام الله تعالى ، وكذلك يحتمل هذه الوجود في قوله : { لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون } والأول أرجح فيه أن يكون من كلام الله تعالى ، لأن الذي بعده من كلام الله فيكون متصلاً به ، ولأن الأمر بالعمل إنما هو حقيقة في الدنيا ففيه تحضيض على العمل الصالح .
(1/1729)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)
{ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم } الإشارة بذلك إلى نعيم الجنة ، وكل ما ذكر من وصفها ، وقال الزمخشري : الإشارة إلى قوله : { لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ } ، والنزل الضيافة ، وقيل : الرزق الكثير وجاء التفضيل هنا بين شيئين ، ليس بينهما اشتراك ، لان الكلام تقرير وتوبيخ .
(1/1730)
إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63)
{ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ } قيل : سببها أن أبا جهل وغيره لما سمعوا ذكر شجرة الزقوم ، قالوا : كيف يكون في النار شجرة ، والنار تحرق الشجر ، فالفتنة على هذا الابتلاء في الدنيا وقيل : معناه ، عذاب الظالمين في الآخرة والمراد بالظالمين هنا الكفار .
(1/1731)
إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64)
{ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم } أي تنبت في قعر جهنم وترتفع أغصانها إلى دركاتها .
(1/1732)
طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)
{ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين } الطلع ثمر النخل فاستعير لشجرة الزقوم ، وشبه برؤوس الشياطين مبالغة في قبحه وكراهته ، لأنه قد تقرر في نفوس الناس كراهتها وإن لم يروها ، ولذلك يقال للقبيح المنظر : وجه شيطان وقيل : رؤوس الشياطين شجرة معروفة باليمن ، وقيل : هو صنف من الحيات .
(1/1733)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)
{ لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ } أي مزاجاً من ماء حار ، فإن قيل : لم عطف هذه الجملة بثم ، فالجواب من وجهين : أحدهما أنه لترتيب تلك الأحوال في الزمان ، فالمعنى أنهم يملؤون البطون من شجرة الزقوم ، وبعد ذلك يشربون الحميم والثاني أنه لترتيب مضاعفة العذاب ، فالمعنى أن شربهم للحميم أشدّ مما ذكر قبله .
(1/1734)
فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
{ يُهْرَعُونَ } الإهراع الإسراع الشديد .
(1/1735)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)
{ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ } أي دعانا فالمعنى دعاؤه بإلاهلاك قومه ونصرته عليهم { مِنَ الكرب العظيم } يعني الغرق { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين } أهل الأرض كلهم من ذرية نوح ، لأنه لما غرق الناس في الطوفان ونجا نوح ومن كان معه في السفينة ، تناسل الناس من أولاده الثلاثة ، سام وحام ويافث { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين } معناه أبقينا عليها ثناء جميلاً في الناس إلى يوم القيامة { سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين } هذا التسليم من الله على نوح عليه السلام ، وقيل : إن هذه الجملة مفعول تركنا ، وهي محكية أي تركنا هذه الكلمة ، تقال له يعني أن الخلق يسلمون عليه فيبتدأ بالسلام على القول الأول ، لا على الثاني والأول أظهر ، و معنى { فِي العالمين } على القول الأول تخصيصه بالسلام عليه بين العالمين ، كما تقول : أحب فلاناً في الناس : أي أحبه خصوصاً من بين الناس ومعناه على القول الثاني : أن السلام عليه ثابت في العالمين ، وهذا الخلاف يجري حيث ما ذكر ذلك في هذه السورة .
(1/1736)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)
{ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ } الشيعة الصنف المتفق ، فمعنى من شيعته : من على دينه في التوحيد ، والضمير يعود على نوح وقيل : على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم والأول أظهر { إِذْ جَآءَ رَبَّهُ } عبارة عن إخلاصه وإقباله على الله تعالى ، بكليته وقيل : المراد المجيء بالجسد { بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } أي سليم من الشرك ، والشك وجميع العيوب .
(1/1737)
أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)
{ أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ } الإفك الباطل وإعرابه هنا مفعول من أجله ، وآلهة مفعول به وقيل : أئفكا مفعول به ، وآلهة بدل منه وقيل : أئفكا مصدر في موضع الحال ، تقديره : آفكين أي كاذبين والأول أحسن .
(1/1738)
فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)
{ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العالمين } المعنى أي شيء تظنون برب العالمين أن يعاقبكم به ، وقد عبدتم غيره؟ أو أي شيء تظنون أنه هو حتى عبدتم غيره كما تقول ما ظنك بفلان؟ إذا قصدت تعظيمه ، فالمقصد على المعنى الأول تهديد وعلى الثاني تعظيم لله وتوبيخ لهم .
(1/1739)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)
{ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } روي أن قومه كان لهم عيد يخرجون إليه فدعوه إلى الخروج معهم ، فحينئذ قال : إن سقيم ليمتنع عن الخروج معهم ، فيكسر أصنامهم إذا خرجوا ليعدهم وفي تأويل ذلك ثلاثة أقوال : الأول أنها كانت تأخذه الحمى في وقت معلوم ، فنظر في النجوم ليرى وقت الحمى ، واعتذر عن الخروج لأنه سقيم من الحمى ، والثاني أن قومه كانوا منجمين وكان هو يعلم أحكام النجوم فأوهمهم أنه استدل بالنظر في علم النجوم أنه يسقم ، فاعتذر بما يخاف من السقم عن الخروج معهم والثالث أن معنى نظر في النجوم أنه نظر وفكر فيما يكون من أمره معهم فقال : إني سقيم والنجوم على هذا ما ينجم من حاله معهم ، وليست بنجوم السماء ، وهذا بعيد وقوله : إني سقيم على حسب هذه الأقوال يحتمل أن يكون حقاً لا كذب فيه ، ولا تجوّز أصلاً ، ويعارض هذا ما ورد " عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم كذب ثلاث كذبات ، أحدها : قوله إن سقيم " ويحتمل أن يكون كذبا صراحاً ، وجاز له ذلك لهذا الاحتمال ، لأنه فعل ذلك من أجل الله إذ قصد كسر الأصنام ، ويحتمل أن يكون من المعارضين ، فإن أراد أنه سقيم فيما يستقبل ، لأن كل إنسان لا بدّ له أن يمرض ، أو أراد أنه سقيم النفس من كفرهم وتكذبيهم له ، وهذان التأويلان أولى ، لأن نفي الكذب بالجملة معارض للحديث ، والكذب الصراح لا يجوز على الأنبياء ، عند أهل التحقيق ، أما المعاريض فهي جائزة .
(1/1740)
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)
{ فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } أي تركوه إعراضاً عنه وخرجوا إلى عيدهم ، وقيل : إنه أراد بالسقم الطاعون وهو داء يُعدي ، فخافوا منه وتباعدوا عنه مخافة العدوى { فَرَاغَ } أي مال { فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ } إنما قال ذلك على وجه الاستهزاء بالذين يعبدون تلك الأصنام { ضَرْباً باليمين } أي يمين يديه وقيل بالقوة وقيل : الحلف ، وهو قوله : تالله لأكيدن أصنامكم ، والأول أظهر وأليق بالضرب ، وضرباً مصدر في موضع الحال { يَزِفُّونَ } أي يسرعون .
(1/1741)
قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)
{ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } أي تنجرون والنحت النجارة إشارة إلى صنعهم من الحجارة والخشب { والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } ذهب قوم إلى ما مصدرية والمعنى : الله خلقكم وأعمالكم ، وهذه الآية عندهم قاعدة في خلق أفعال العباد ، وقيل : إنها موصولة بمعنى الذي والمعنى : الله خلقكم وخلق أصنامكم التي تعملونها ، وهذا أليق بسياق الكلام ، وأقوى في قصد الاحتجاج على الذين عبدوا الأصنام ، وقيل : إنها نافية ، وقيل : إنها استفهامية ، وكلاهما باطل .
(1/1742)
قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
{ قَالُواْ ابنوا لَهُ بُنْيَاناً } قيل : البنيان في موضع النار ، وقيل : بل كان للمنجنيق ، الذي رمى عنه { فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً } يعني حرقه بالنار { فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفلين } أي المغلوبين .
(1/1743)
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99)
{ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ } قيل : إنه قال هذا بعد خروجه من النار ، وأراد أنه ذاهب إلى ربه بالموت ، لأنه ظن أن النار تحرقه ، وسيهدين على القول الأول يعني إلى صلاح الدين والدنيا ، وعلى القول الثاني إلى الجنة ، وقالت المتصوفة : معناه إني ذاهب إلى ربي بقلبي ، أي مقبل على الله بكليتي تاركاً سواه .
(1/1744)
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)
{ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين } يعني ولداً من الصالحين { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ } أي عاقل واختلف الناس في هذا الغلام المبشر به في هذا الموضع وهو الذبيح ، هل هو إسماعيل أو إسحاق؟ فقال ابن عباس وابن عمر وجماعة من التابعين هو إسماعيل : وحجتهم من ثلاثة أوجه الأول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أنا ابن الذابحين يعني إسماعيل عليه السلام ، ووالده عبد الله ، حين نذر والده عبد المطلب أن ينحر [ أحد أولاده وأصابت القرعة عبد الله ] إن يسر الله له أمر زمزم ، ففداه بمائة من الإبل والثاني أن الله تعالى قال بعد تمام قصة الذبيح { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ } فدل ذلك على أن الذبيح غيره والثالث أنه روي أنه إبراهيم جرت له قصة الذبح بمكة ، وإنما كان معه بمكة إسماعيل . وذهب عليّ بن أبي طالب وابن مسعود وجماعة من التابعين إلى أن الذبيح إسحاق وحجتهم من وجهين الأول أن البشارة المعروفة لإبراهيم بالوادي إنما كانت بإسحاق لقوله : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ } ومن وراء إسحاق يعقوب ، والثاني أنه روي أن يعقوب كان يكتب من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله .
{ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي } يريد بالسعي هنا العمل والعبادة ، وقيل : المشي وكان حينئذ ابن ثلاثة عشرة سنة { قَالَ يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ } يحتمل أن يكون رأى في المنام الذبح وهو الفعل ، أو أمر في المنام أن يذبحه ، والأول أظهر في اللفظ هنا ، والثاني أظهر في قوله : { افعل مَا تُؤمَرُ } ورؤيا الأنبياء حق ، فوجب عليه الامتثال على الوجهين { فانظر مَاذَا ترى } إن قيل : لم شاوره في أمر هو حتم من الله؟ فالجواب : أنه لم يشاوره ليرجع إلى رأيه ، ولكن ليعلم ما عنده فيثبت قلبه ويوطن نفسه على الصبر ، فأجابه بأحسن جواب { فَلَمَّا أَسْلَمَا } أي إستسلما وانقيادا لأمر الله { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أي صرعه بالأرض على جبينه وللإنسان جبينان حول الجبهة ، وجواب لما محذوف عند البصريين تقديره ، فلما أسلما كان ما كان من الأمر العظيم ، وقال الكوفيون : جوابها تله والواو زائدة ، وقال بعضهم : جوابها : ناديناه والواو زائدة { قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ } يحتمل أنه يريد بقلبك أي كانت عندك رؤيا صادقة فعملت بحسبها ، ويحتمل أن يريد بعملك أي وفيت حقها من العمل ، فإن قيل : إنه أمر بالذبح ولم يذبح ، فكيف قيل له : صدقت الرؤيا؟ فالجواب أنه قد بذل جهده إذ قد عزم على الذبح ولو لم يَفْدِه الله لذبحه ، ولكن الله هو الذي منعه من ذبحه لما فداه ، فامتناع ذبح الولد إنما كان من الله وبأمر الله ، وقد مضى إبراهيم ما عليه { البلاء المبين } الذي يظهر به طاعة الله أو المحنة البينة الصعوبة .
(1/1745)
{ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } الذبح اسم لما يذبح ، وأراد به هنا الكبش الذي فدى به ، وروي أنه من كباش الجنة ، وقيل : إنه الكبش الذي قرب به ولد آدم ، ووصفه بعظيم لذلك ، أو لأنه من عند الله أو لأنه متقبل ، وروي في القصص أن الذبيح قال لإبراهيم : أشدد رباطي لئلا أضطرب ، وأصرف بصرك عني لئلا ترحمني ، وأنه أمر الشفرة على حلقه فلم تقطع ، فحينئذ جاء الكبش من عند الله ، وقد أكثر الناس في قصص هذه الآية وتركناه لعدم صحته { كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين } إن قيل : لم قال هنا في قصة إبراهيم كذلك دون قوله إنا ، وقال في غيرها إنا ، فالجواب أنه قد تقدم في قصة إبراهيم نفسها ، إنا كذلك فأغنى عن تكرار أنا .
(1/1746)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117)
{ وَلَقَدْ مَنَنَّا على موسى وَهَارُونَ } يعني بالنبوة وغير ذلك { مِنَ الكرب العظيم } يعني الغرق أو تعذيب فرعون إذلاله لهم { وَنَصَرْنَاهُمْ } الضمير يعود على موسى وهارون وقومهما وقيل : على موسى وهارون خاصة ، وعاملهما معاملة الجماعة للتعظيم ، وهذا ضعيف { وَآتَيْنَاهُمَا الكتاب المستبين } يعني : التوراة ومعنى { المستبين } البين ، وفي هذه الآية وما بعدها نوع من أدوات البيان وهو الترصيع .
(1/1747)
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)
{ وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المرسلين } إلياس من ذرية هارون وقيل إنه أدريس ، وقد أخطأ من قال : إنه إلياس المذكور في أجداد النبي صلى الله عليه وسلم .
(1/1748)
أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)
{ أَتَدْعُونَ بَعْلاً } البعل في اللغة الرب بلغة أهل اليمن ، وقيل : بعل اسم صنم يقال له بعلبك .
(1/1749)
سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)
{ سَلاَمٌ على إِلْ يَاسِينَ } آل هنا على هذه القراءة بمعنى أهل ياسين اسم لإلياس ، وقيل : لأبيه وقيل : لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وقرىء إلياسين ، وبكسر الهمزة ووصل اللام ساكنة على هذا جمع إلياس ، أو منسوب لإلياس حذفت منه الياء كما حذفت من أعجمين ، وقيل سمى كل واحد من آل ياسين إلياس ثم جمعهم وقيل هو لغة في إلياس .
(1/1750)
إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135)
{ عَجُوزاً فِي الغابرين } قد ذكر .
(1/1751)
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)
{ وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين } قد ذكرنا قصته في يونس و [ الأنبياء : 87 ] { إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون } أي هرب إلى السفينة والفلك هنا واحد والمشحون المملوء ، وسبب هروبه غضبه على قومه حين لم يؤمنوا ، وقيل : إنه أخبرهم أن العذاب يأتيهم في يوم معين حسبما أعلمه الله ، فلما رأى قومه مخايل العذاب آمنوا ، فرفع الله عنهم العذاب فخاف أن ينسبوه إلى الكذب فهرب { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين } معنى ساهم ضارب القرعة والمدحض المغلوب في القرعة والمحاجة ، وسبب مقارعته أنه لما ركب السفينة ، وقفت ولم تجر ، فقالوا : إنما وقفت من حدث أحدثه أحدنا ، فنقترع لنرى على من تخرج القرعة فنطرحه فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس فطرحوه في البحر { فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ } أي فعل ما يلام عليه ، وذلك خروجه بغير أن يأمره الله بالخروج { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين } تسبحه هو قوله { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] ، حسبما حكى الله عنه في الأنبياء وقيل : هو قوله سبحانه الله وقيل : هو الصلاة ، واختلف على هذا على يعني صلاته في بطن الحوت أو قبل ذلك ، واختلف في مدة بقائه في بطن الحوت فقيل : ساعة وقيل : ثلاثة أيام وقيل : سعبة أيام وقيل : أربعون يوماً { فَنَبَذْنَاهُ بالعرآء } العراء الأرض الفضاء التي لا شجر فيها ، ولا ظل ، وقيل يعني الساحل { وَهُوَ سَقِيمٌ } روي أنه كان كالطفل المولود بضعة لحم .
(1/1752)
وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
{ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ } أي أنبتناها فوقه لتظله وتقيه حر الشمس ، واليقطين ، القرع وإنما خصه الله به لأنه يجمع برد الظل ولين اللمس وكبر الورق ، وأن الذباب لا يقربه ، فإن لحم يونس لما خرج من البحر كان لا يحتمل الذباب ، وقيل : اليقطين كل شجرة لا ساق لها كالبقول والقرع والبطيخ ، والأول أشهر { وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ } يعني رسالته الأولى التي أبق بعدها وقيل : هذه رسالة ثانية بعد خروجه من بطن الحوت والأول أشهر { أَوْ يَزِيدُونَ } قيل : أو هنا بمعنى بل ، وقرأ ابن عباس ، بل يزيدون ، وقيل هي بمعنى الواو وقيل : هي للابهام وقيل : المعنى أن البشر إذا نظر إليهم يتردد فيقول : هم مائة ألف أو يزيدون واختلف في عددهم فقيل : مائة وعشرون ألفاً وقيل : مائة وثلاثون ألفاً وقيل : مائة وأربعون ألفاً وقيل : ومائة وسبعون ألفاً { فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ } روي أنهم خرجوا بالأطفال وأولاد البهائم ، وفرقوا بينهم وبين الأمهات ، وناحوا وتضرعوا إلى الله وأخلصوا فرفع الله العذاب عنهم إلى حين : يعني لانقضاء آجالهم وقد ذكر الناس في قصة يونس أشياء كثيرة أسقطناها لضعف صحتها .
(1/1753)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)
{ فاستفتهم أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون } قال الزمخشري : إن هذا معطوف على قوله { فاستفتهم } الذي في أول السورة وإن تباعد ما بينهما ، والضمير المفعول لقريش وسائر الكفار أي أسألهم على وجه التقرير والتوبيخ عما زعموا من أن الملائكة بنات الله ، فجعلوا لله الإناث ولأنفسهم الذكور ، وتلك قسمة ضيزى ، ثم قررهم على ما زعموا من أن الملائكة إناث وردّ عليهم بقوله : { وَهُمْ شَاهِدُونَ } ، ويحتمل أن يكون بمعنى الشهادة ، أو بمعنى الحضور أي أنهم لم يحضروا ذلك ولم يعلموه ، ثم أخبر عن كذبهم في قولهم : { وَلَدَ الله } ، ثم قررهم على ما زعموا من أن الله اصطفى لنفسه البنات؛ وذلك كله ردّ عليهم وتوبيخ لهم ، تعالى الله عن أقوالهم علواً كبيراً { أَصْطَفَى } دخلت همزة التقرير والتوبيخ على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل ( مالكم ) هذا استفهام معناه التوبيخ ، وهي في موضع رفع بالابتداء والمجرور بعدها خبرها ، فينبغي الوقف على قوله { أَمْ لَكُمْ } { أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ } أي برهان بيّن { فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ } تعجيز لهم لأنهم ليس لهم كتاب يحتجون به { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً } الضمير في جعلوا لكفار العرب ، وفي معنى الآية قولان : أحدهما أن الجنَّة هنا الملائكة وسميت بهذا الاسم لأنه مشتق من الاجتنان وهو الاستتار ، والملائكة مستورين عن أعين بني آدم كالجن ، والنسب الذين جعلوه بينهم وبين الله قولهم : إنهم بنات الله ، والقول الثاني أن الجن هنا الشياطين ، وفي النسب الذي جعلوه بينه وبينهم أن بعض الكفار قالوا : إن الله والشياطين أخوان ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
{ وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } من قال : إن الجن الملائكة فالضمير في قوله { إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } يعود على الكفار أي قد علمت الملائكة أن الكفار محضرون في العذاب ومن قال : إن الجن الشياطين فالضمير يعود عليهم أي قد علمت الشياطين أنهم محضرون في العذاب .
(1/1754)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
{ إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } استثناء منقطع من المحضرين أو من الفاعل في يصفون والمعنى : لكن عباد الله المخلصين لا يحضرون في العذاب ، أو لكن عباد الله المخلصين يصفونه بما هو أهله .
(1/1755)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)
{ فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم } هذا خطاب للكفار والمراد بما { تَعْبُدُونَ } الأصنام وغيرها وما تعبدون عطف على الضمير في إنكم ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع ومعنى { فَاتِنِينَ } مضلين والضمير في عليه يعود على ما تعبدون وعلى سببية معناها التعليل و { مَنْ هُوَ } مفعول بفاتنين والمعنى : إنكم أيها الكفار وكل ما تعبدونه لا تضلون أحداً إلا من قضى الله أن يصلى الجحيم ، أي لا تقدرون على إغواء الناس إلا بقضاء الله وقال الزمخشري : الضمير في عليه يعود على الله تعالى .
(1/1756)
وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)
{ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } هذا حكاية كلام الملائكة عليهم السلام ، تقديره : ما منك مالك إلا وله مقام معلوم ، وحذف الموصوف لفهم الكلام ، والمقام المعلوم : يحتمل أن يراد به المكان الذي يقومون فيه ، لأن منهم من هو في السماء الدنيا ، وفي الثانية ، وفي السموات ، وحيث شاء الله ، ويحتمل أن يراد به المنزلة من العبادة والتقريب والتشريف .
(1/1757)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165)
{ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون } أي الواقفون في العبادة صفوفاً ، ولذلك أمر المسلمون بتسوية الصفوف في صلاتهم ليقتدوا بالملائكة ، وليس أحد من أهل الملل يصلون صفوفاً إلا المسلمون .
(1/1758)
وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)
{ وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون } قيل : معناه القائلون سبحان الله ، وفي هذا الكلام الذي قالته الملائكة رد على من قال : إنهم بنات الله وشركاء له ، لأنهم اعترفوا على أنفسهم بالعبودية والطاعة لله والتنزيه له ، ويدل هذا الكلام أيضاً على أن المراد بالجن قبل هذا الملائكة ، وقيل : إنه هذا كله من كلام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وكلام المسلمين ، والأول أشهر .
(1/1759)
وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168)
{ وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين } الضمير لكفار قريش وسائر العرب ، والمعنى أنهم كانوا قبل بعث محمد صلى الله عليه وسلم يقولون : أو أرسل الله إلينا رسولاً وأنزل علينا كتاباً لكنا عباد الله المخلصين .
(1/1760)
فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
{ فَكَفَرُواْ بِهِ } الضمير للذكر ، أو لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، لأن المعنى يقتضي ذلك وإن لم يتقدم له ذكر { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } تهديد ووعيد لهم على كفرهم .
(1/1761)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)
{ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون } المعنى سبق القضاء بأن المرسلين منصورون على أعدائهم .
(1/1762)
وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)
{ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } هذا النصر والغلبة بظهور الحجة والبرهان ، وبهزيمة الأعداء في القتال ، وبالسعادة في الآخرة .
(1/1763)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174)
{ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ } أي أعرض عنهم ، وذلك موادعة منسوخة بالسيف ، والحين هنا يراد به يوم بدر ، وقيل : حضور آجالهم ، وقيل : يوم القيامة .
(1/1764)
وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)
{ وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } هذا وعد النبي صلى الله عليه وسلم ووعيد لهم { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } إشارة إلى قولهم { متى هَذَا الوعد } ؟ { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء } [ الأنفال : 32 ] وشبه ذلك { فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ } الساحة : الفِناء حول الدار ، والعرب تستعمل هذه اللفظة فيما يرد على الإنسان من محظور وسوء { فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين } الصباح مستعمل في ورورد الغارات والرزايا ، ومقصد الآية التهديد بعذاب يحل بهم بعد أن أنذروا ، فلم ينفعهم الإنذار ، وذلك تمثيل أنذرهم ناصح بأن جيشاً يحل بهم فلم يقبلوا نصحه ، حتى جاءهم الجيش وأهلكهم .
(1/1765)
وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)
{ وَأَبْصِرْ } كرر الأم بالتولي عنهم والوعد والوعيد على وجه التأكيد ، وقيل : أراد بالوعيد الأول عذاب الدنيا ، والثاني عذاب الآخرة ، فإن قيل : لم قال أولاً أبصرهم ، وقال هنا : أبصر ، فحذف الضمير المفعول؟ فالجواب من وجهين : أحدهما أنه اكتفى بذكره أولاً عن ذكره ثانياً فحذفه اقتصاراً ، والآخر أنه حذفف ليفيد العموم فيمن تقدم وغيرهم كأنه قال : أبصر جميع الكفار بخلاف الأول ، فإنه من قريش خاصة .
(1/1766)
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
{ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ } نزه الله تعالى نفسه عما وصفه به الكفار مما لا يليق به ، فإنه حكى عنهم في هذه السورة أقوالاً كثيرة شنيعة ، والعزة إن أراد بها عزة الله : فمعنى رب العزة ، ذو العزة وأضافها إليه لاختصاصه بها ، وإن أراد بها عزة الأنبياء والمؤمنين : فمعنى رب العزة مالكها وخالقها ، ومن هذا قال محمد بن سحنون : من حلف بعزة الله ، فإن أراد صفة الله فهي يمين ، وإن أراد العزة التي أعطى عباده فليست بيمين ، ثم ختم هذه السورة بالسلام على المرسلين { والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } فأما السلام على المرسلين فيحتمل أن يريد التحية أو سلامتهم من أعدائهم ، ويكون ذلك تكميلاً لقوله : { إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون } [ الصافات : 182 ] ، وأما الحمد لله ، فيحتمل أن يريد به الحمد لله على ما ذكر في هذه السورة من تنزيه الله ونصرة الأنبياء وغير ذلك ، ويحتمل أن يريد الحمد لله على الاطلاق .
(1/1767)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)
{ ص } تكلمنا على حروف الهجاء في البقرة ، ويختص بهذا أنه قال فيه : معناه صدق محمد ، وقيل : هو حرف من اسم الله الصمد أو صادق الوعد ، أو صانع المصنوعات { والقرآن ذِي الذكر } هذا قسم جوابه محذوف تقديره : إن القرآن من عند الله ، وإن محمداً لصادق وشبه ذلك . وقيل : جوابه في قوله { ص } إذ هو بمعنى صدق محمد ، وقيل : جوابه [ الآتي ] { إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل } [ ص : 14 ] وهذا بعيد ، وقيل : جوابه { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار } [ ص : 64 ] وهذا أبعد ، ومعنى ذي الذكر : الشرف والذكر بمعنى الموعظة ، أو ذكر الله وما يحتاج إليه من الشريعة .
(1/1768)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)
{ بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } الذين كفروا يعني قريشاً ، وبل للإضراب عن كلام محذوف ، وهو جواب القسم أي : إن كفرهم ليس ببرهان بل هو بسبب العزة والشقاق ، والعزة التكبر ، والشقاق : العداوة وقصد المخالفة ، وتنكيرهما للدلالة على شدتهما ، وتفاخم الكفار فيهما .
(1/1769)
كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
{ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ } إخبار يتضمن تهديداً لقريش { فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } المعنى أن القرون الذين هلكوا دعوا واستغاثوا حين لم ينفعهم ذلك ، ولات بمعنى : ليس وهي لا النافية زيدت عليها علامة التأنيث ، كما زيدت في رُبَّتَ وثمة ، ولا تدخل لات إلا على زمان ، واسمها مضمر ، وحين مناص خبرها ، والتقدير : ليس الحين الذين دعوا فيه حين مناص ، والمناص المفرّ والنجاة من قولك : ناص ينوص إذ فرّ .
(1/1770)
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)
{ وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ } الضمير لقريش ، والمنذر سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، أي استبعدوا أن يبعث الله رسولاً منهم ، ويحتمل أن يريد من قبيلتهم ، أو يريد من البشر مثلهم { وَقَالَ الكافرون } كان الأصل وقالوا؛ ولكن وضع الظاهر موضع المضمر قصداً لوصفهم بالكفر { أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً } هذا إنكار منهم للتوحيد ، وسبب نزول هذه الآيات " أن قريشاً اجتمعوا وقالوا لأبي طالب : كُفَّ ابن أخيك عنا ، فإنه يعيب ديننا ويذم آلهتنا ويسفه أحلامنا . فكلمه أبو طالب في ذلك ، فقال : صلى الله عليه وسلم : إنما أريد منهم كلمة واحدة يملكون بها العجم ، وتدين لهم بها العرب ، فقالوا : نعم وعشر كلمات معها . فقال : قولوا لا إله إلا الله ، فقاموا وأنكروا ذلك وقالوا : { أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً } " .
(1/1771)
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)
{ وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا وَاْصْبِرُواْ } انطلاق الملأ عبارة عن خروجهم عن أبي طالب وقيل : عبارة عن تفرّقهم في طرق مكة وإشاعتهم للكفر ، وأن امشوا : معناه يقول بعضهم لبعض : امشوا واصبروا على عبادة آلهتكم ، ولا تطيعوا محمداً فيما يدعو إليه من عبادة الله وحده { إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرَادُ } هذا أيضاً مما حكى الله من كلام قريش ، وفي معناه وجهان : أحدهما إن الإشارة إلى الإسلام والتوحيد ، أي إن هذا التوحيد شيء يراد به الإنقياد إليه ، والآخر أن الإشارة إلى الشرك والصبر على آلهتهم ، أي إن هذا التوحيد الشيء ينبغي أن يراد ويتمسك به ، أو أن هذا شيء يريده الله منا لما قضى علينا من الأول أرجح ، لأن الإشارة فيما بعد إليه فيكون الكلام على نسق واحد .
(1/1772)
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)
{ مَا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة الآخرة } هذا أيضاً مما حكى الله عنهم من كلامهم ، أي ما سمعنا بالتوحيد في الملة الآخرة ، والمراد بالملة الآخرة ملة النصارى ، لأنها بعد ذلك ملة موسى وغيره وهم يقولون بالتثليث لا بالتوحيد ، وقيل : المراد ملة قريش أي ما سمعنا بهذا في الملة التي أدركنا عليها آباءنا ، وقيل : المراد الملة المنتظرة إذ كانوا يسمعون من الأحبار والكهان أن رسولاً يبعث يكون آخر الأنبياء { إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق } هذا ايضاً مما حُكى من كلامهم ، والإشارة إلى التوحيد والإسلام ، ومعنى الاختلاق الكذب .
(1/1773)
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)
{ أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا } الهمزة للإنكار ، والمعنى أنهم أنكروا أن يخص الله محمداً صلى الله عليه وسلم بإنزال القرآن عليه دونهم { بَلْ هُمْ فَي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي } هذا ردّ عليهم ، والمعنى أنهم ليست لهم حجة ولا برهان ، بل هم في شك من معرفة الله وتوحيده ، فلذلك كفروا ، ويحتمل أن يريد بالذكر القرآن { بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ } هذا وعيد لهم وتهديد ، والمعنى أنهم إنما حملهم على الكفر كونهم لم يذوقوا العذاب ، فإذا ذاقوه زال عنهم الشك وأذعنوا للحق .
(1/1774)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
{ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ العزيز الوهاب } هذا ردّ عليهم فيما أنكروا من اختصاص محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة ، والمعنى أنهم ليس عندهم خزائن رحمة الله ، حتى يعطوا النبوة من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا ، بل يعطيها الله لمن يشاء ، ثم وصف نفسه بالعزيز يفعل ما يشاء والوهاب ينعم على من يشاء فلا حجة لهم فيها أنكروا .
(1/1775)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)
{ أَمْ لَهُم مُّلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } هذا أيضاً ردّ عليهم ، والمعنى : أم لهم الملك فيتصرفون فيه كيف شاؤوا ، بل مالك الملك يفعل في ملكه ما يشاء ، وأم الأولى منقطعة بمعنى بل وهمزة الإنكار ، وأما أم الثانية فيحتمل أن تكون كذلك ، أو تكون عطافة معادلة لما قبلها { فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب } هذا تعجيز لهم ، وتهكم بهم ، ومعنى يرتقوا يصعدوا ، والأسباب هنا السلالم الطرق ، وشبه ذلك ما يوصل به إلى العلو ، وقيل : هي أبواب السماء ، والمعنى إن كان لهم ملك السموات والأرض فليصعدوا إلى العرش ويدبروا الملك .
(1/1776)
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
{ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأحزاب } هذا وعيد بهزيمتهم في القتال ، وقد هزموا يوم بدر وغيره ، و { مَّا هُنَالِكَ } صفة لجند ، وفيها معنى التحقير لهم ، والإشارة بهنالك إلى حيث وصفوا أنفسهم من الكفر والاستهزاء ، وقيل : الإشارة إلى الارتقاء في الأسباب وهذا بعيد؛ وقيل الإشارة إلى موضع بدر ، ومن الأحزاب معناه من جملة الأحزاب الذين تعصبوا للباطل فهلكوا .
(1/1777)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13)
{ وفِرْعَوْنُ ذُو الأوتاد } قال ابن عباس : كانت له أوتاد وخشب يلعب بها وعليها ، وقيل : كانت له أوتاد يسمرها في الناس لقتلهم ، وقيل : أراد المباني العظام الثابتة ، ورجحه ابن عطية ، وقال الزمخشري : إن ذلك استعارة في ثبات الملك كقول القائل : في ظل ملك ثابت الأوتاد { وَأَصْحَابُ لْئَيْكَةِ } قد ذكر [ الحجر : 78 ، والشعراء : 176 ] .
(1/1778)
وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)
{ وَمَا يَنظُرُ هؤلاءآء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً } ينظر هنا بمعنى ينتظر ، وهؤلاء يعني قريشاً ، والصيحة الواحدة النفخة في الصور وهي نفخة الصعق ، وقيل : الصحية عبارة عما أصابهم من قتل أو شدة ، و الأول أظهر ، وقد روي تفسيرها بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } فيه ثلاثة أقوال : الأول مالها رجوع أي لا يرجعون بعدها إلى الدنيا ، وهو على هذا مشتق من الإفاقة ، الثاني ما لها من ترداد : أي إنما هي واحدة لا ثانية لها : الثالث مالها من تأخير ولا توقف مقدار فواق ناقة وهي ما بين حلبتي اللبن ، وهذا القول الثالث إنما يجري على قراءة فُواق بالضم لأن فواق الناقة بالضم ، والقولان الأولان على الفتح والضم .
(1/1779)
وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)
{ وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } القط في اللغة له معنيان : أحدها : الكتاب ، والآخر : النصيب ، وفي معناه هنا ثلاثة أقوال : أحدهما نصيبنا من الخير : أي دعو أن يعجله الله لهم في الدنيا والآخر : نصيبهم من العذاب ، فهو كقولهم : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء } [ الأنفال : 32 ] . الثالث : صحائف أعمالنا .
(1/1780)
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)
{ اصبر على مَا يَقُولُونَ واذكر عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيد إِنَّهُ أَوَّابٌ } الأيد القوة ، وكان داود جمع قوة البدن وقوة الدين والملك والجنود ، والأواب : الرجاع إلى الله ، فإن قيل : ما المناسبة بين أمر الله لسيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر على أقوال الكفار وبين أمره له بذكر داود؟ فالجواب عندي أن ذكر داود ومن بعده من الآنبياء في هذه السورة فيه تسلية للنبي صلى لله عليه وسلم ، وووعد له بالنصر وتفريج الكرب ، وإعانة له على ما أمر به من الصبر ، وذلك أن الله ذكر ما أنعم به على داود من تسخير الطير والجبال ، وشدّة ملكه ، وإعطائه الحكمة وفصل الخطاب ، ثم الخاتمة له في الآخرة بالزلفى وحسن المآب ، فكأنه يقول : يا محمد كما أنعمنا على داود بهذه النعمم كذلك ننعم عليك ، فاصبر ولا تحزن على ما يقولون ، ثم ذكر ما أعطى سليمان من الملك العظيم ، وتسخير الريح والجن والخاتمة بالزلفى وحسن المآب ، ثم ذكر من ذكر بعد ذلك من الأنبياء . والمقصد : ذكر الإنعام عليهم لتقوية قلب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأيضاً فإن داود وسليمان وأيوب أصابتهم شدائد ثم فرّجها الله عنهم ، وأعقبها بالخير العظيم ، فأمر سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بذكرهم ، ليعلمه أنه يفرج عنه ما يلقى من إذاية قومه ، ويعقبها بالنصر والظهور عليهم ، فالمناسبة في ذلك ظاهرة وقال ابن عطية : المعنى : اذكر داود ذا الأيدي في الدين فتأسَّ به وتأيد كما تأيد ، وأجاب الزمخشري : عن السؤال فإنه قال : كأن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : اصبر على ما يقولون ، وعظم أمر المعصية في أعين الكفار بذكر قصة داود ، وذلك أنه نبي كريم عند الله ثم زلَّ زلة فوبخه الله عليها فاستغفر وأناب ، فما الظن بكم مع كفركم ومعاصيكم؛ وهذا الجواب لا يخفى ما فيه من سوء الأدب مع داود عليه السلام حيث جعله مثالاً يهدد الله به الكفار ، وصرح بأنه زل وأن الله وبخه على زلته ، ومعاد الله من ذكر الأنبياء بمثل هذا { والإشراق } يعني : وقت الإشراق وهو حين تشرق الشمس ، وأي تضيء ويصفر شعاعها وهو وقت الضحى ، وأما شروقها فطلوعها .
(1/1781)
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)
{ مَحْشُورَةً } أي مجموعمة { كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } أي كل مسبح لأجل تسبيح داود ، ويحتمل أن يكون أوّاب هنا بمعنى رجاع أي ليرجع ألى مره .
(1/1782)
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
{ وَآتَيْنَاهُ الحكمة } قيل : يعني النبوة ، وقيل : العلم والفهم وقيل : الزبور { وَفَصْلَ الخطاب } قال ابن عباس : هو فصل القضاء بين الناس بالحق ، وقال عليّ بن أبي طالب : هو إيجاب اليمين على المدعى عليه ، والبينة على المدعى ، وقيل : أراد قول : أما بعد فإنه أول من قالها ، وقال الزمخشري : معنى فصل الخطاب : البيّن من الكلام الذي يفهمه من يخاطب به ، وهذا المعنى اختاره ابن عطية ، وجعله من قوله تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } [ الطارق : 13 ] .
(1/1783)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)
{ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب } جاءت هذه القصة بلفظ الاستفهام؛ تنبيهاً للمخاطب ودلالة على أنها من الأخبار العجيبة ، التي ينبغي أن يلقى البال لها ، والخصم يقع على الواحد والاثنين والجماعة ، كقولك : عدل وزور ، واتفق الناس على أن هؤلاء الخصم كانوا ملائكة ، ورُوي أنهما جبريل وميكائيل بعثهما الله ، ليضرب بهما المثل لداود في نازلة وقع هو في مثلها ، فأفتى بفتيا هي واقعة عليه في نازلته ، ولما شعر وفهم المراد أناب واستغفر ، وسنذكر القصة بعد هذا ، ومعنى تسوّروا المحراب علَوْا على سوره ودخلوه ، والمحراب : الموضع الأرفع من القصر أو المسجد وهو موضع التعبد ، ويحتمل أن يكون المتسوّر المحراب اثنين فقط ، لأن نفس الخصومة إنما كانت بين اثنين فقط ، فتجيء الضمائر في تسّوروا ، ودخلوا ، وفزع منهم : على وجه التجوز ، والعبارة عن الاثنين بلفظ الجماعة ، وذلك جائز على مذهب من يرى أن أقل الجمع اثنان ، ويحتمل أنه جامع كل واحد من الخصمين جماعة فيقع على تجميعهم خصم ، وتجيء الضمائر المجموعة حقيقة ، وعلى هذا عوَّل الزمخشري .
(1/1784)
إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)
{ إِذْ دَخَلُواْ على دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ } العامل في إذْ هنا تسوروا ، وقيل : هي بدل من الأولى ، وأما إذ الأولى فعامل فيها أتاك أو تسوروا وردَّ الزمخشري ذلك ، وقال : إن العامل فيها محذوف تقديره : هل أتاك نبأ تحكم الخصم إذ تسوروا ، وإنما فزع داود منهم لأنهم دخلوا عليه بغير إذن ، ودخلوا من غير الباب ، وقيل : إن ذلك كان ليلاً { خَصْمَانِ بغى بَعْضُنَا على بَعْضٍ } تقديره نحن خصمان ، ومعنى بغى تعدى { وَلاَ تُشْطِطْ } أي لا تَجُرْ علينا في الحكم ، يقال : أشط الحاكم إذا جار ، وقرئ في الشاذ : لا تشطط بفتح التاء : أي لا تبعد عن الحق ، يقال : شط إذا بَعُد { سَوَآءِ الصراط } أي وسط الطريق ، ويعني القصد والحق الواضح .
(1/1785)
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)
{ إِنَّ هَذَآ أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الخطاب } هذه حكاية كلام أحد الخصمين ، والأخوة هنا أخوة الدين ، والنعجة في اللغة تقع على أثنى بقر الوحش وعلى أنثى الضأن ، وهي هنا عبارة عن المرأة ، ومعنى أكفلنيها : أملكها لي وأصله اجعلها في كفالتي ، وقيل : اجعلها كفلي أي نصيبي ، ومعنى عزّني في الخطاب أي : غلبني في الكلام والمحاورة يقال : عز فلان فلاناً إذا غلبه ، وهذا الكلام تمثيل للقصة التي وقع داود فيها . وقد اختلف الناس فيها أكثروا القول فيها قديماً وحديثاً حتى قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه : من حدّث بما يقول هؤلاء القصاص في أمر داود عليه السلام جلدته حَدَّين لما ارتكب من حرمة من رفع الله محله ، ونحن نذكر من ذلك ما هو اشهر وأقرب إلى تنزيه داود عليه السلام : روي أن أهل زمان داود عليه السلام كان يسأل بعضهم بعضاً أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته ، وكانت لهم عادة في ذلك لا ينكرونها ، وقد جاء عن الأنصار في أول الإسلام شيء من ذلك ، فاتفق أن وقعت عين داود على امرأة رجل فأعجبته فسأله النزول عنها ففعل ، وتزوّجها داود عليه السلام فولد له منها سليمان عليه السلام ، وكان لداود تسع وتسعون امرأة ، فبعث الله إليه ملائكة مثالاً لقصته ، فقال أحدهما إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة إشارة إلى أن ذلك الرجل لم تكن له إلا تلك المرأة الواحدة ، فقال أكفلنيها إشارة إلى سؤال داود من الرجل النزول عن امرأته فأجابه داود عليه السلام بقوله : لقد ظلمك بساؤل نعجتك إلى نعاجه ، فقامت الحجة عليه بذلك ، فتبسم الملكان عند ذلك وذهبا ولم يرهما ، فشعر داود أن ذلك عتاب من الله على ما وقع فيه .
(1/1786)
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
{ فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } ولا تقتضي هذه القصة على هذه الراوية أن داود عليه السلام وقع فيما لا يجوز شرعاً ، وإنما عوتب على أمر جائز ، كان ينبغي له أن يتنزه عنه لعلوّ مرتبته ومتانة دينه ، فإنه قد يعاتب الفضلاء على ملا يعاتب عليه غيرهم ، كما قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وأيضاً فإنه كان له تسع وتسعون امرأة ، فكان غنياً عن هذه المرأة فوقع العتاب على الاستكثار من النساء ، وإن كان جائزاً ، وروُي هذه الخبر على وجه آخر ، وهو أن داود انفرد يوماً في محرابه للتعبد ، فدخل عليه طائر من كوه فوقع بين يديه فأعجبه ، فمد يده ليأخه فطار على الكوه فصعد داود ليأخذه ، فرأى من الكوة امراة تغتسل عريانة فأعجبته ، ثم انصرف فسأل عنها فأخبر أنها امرأة رجل من جنده ، وأنه خرج للجهاد مع الجند ، فكتب داود إلى أمير تلك الحرب أن يقدم ذلك الرجل يقاتل عند التابوت ، وهو موضع قل ما تخلص أحد منه ، فقدم ذلك الرجل فقاتل حتى قتل شهيداً ، فتزوج داود امرأته فعوتب على تعريضه ذلك الرجل للقتل ، وتزوجه امرأته بعده مع أنه كان له تسع وتسعون امرأة سواها ، وقيل : إن داود همَّ بذلك كله ولم يفعله ، وإنما وقعت المعاتبة على همه بذلك ، ورُوي أن السبب فيما جرى له مثل ذلك أنه أعجب بعلمه ، وظهر منه ما يقتضي أنه لا يخاف الفتنة على نفسه ففتن بتلك القصة ، وروُي أيضاً أن السبب في ذلك أنه تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، والتزم أن يبتلى كما ابتلوا فابتلاه الله بما جرى له في تلك القصة { قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ } سؤال مصدر مضاف إلى المفعول ، وإنما تعدى بإلى لأنه تضمن معنى الإضافة كأنه قال : بسؤال نعجتك مضافة إو مضمومة إلى نعاجه ، فإن قيل : كيف قال له داود : { لَقَدْ ظَلَمَكَ } قبل أن يثبت عنده ذلك؟ فالجواب أنه رُوي أن الآخر اعترف بذلك وحذف ذكر اعترافه اختصاراً ، ويحتمل أن يكون قوله : لقد ظلمك على تقدير صحة قوله ، وقد قيل : إن قوله لأحد الخصمين : لقد ظلمك قبل أن يسمع حجة الآخر كانت خطيئته التي استغفر منها وأناب { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الخلطآء ليبغي بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } الخلطاء هم الشركاء في الأموال ، ولكن الخلطة أعم من الشركة ، ألا ترى أن الخلطة في المواشي ليست بشركة في رقابها ، وقصد داود بهذا الكلام الوعظ للخصم الذي بغى ، والتسلية بالتأسي للخصم الذي بُغيَ عليه { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } ما زائدة للتأكيد .
{ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } ظن هنا بمعنى شعر بالأمر ، وقيل : بمعنى أيقن ، وفتناه معناه اختبرناه { وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } معنى خرَّ : ألقى بنفسه إلى الأرض ، وإنما حقيقة ذلك في السجود ، فقيل : إن الركوع هنا بمعنى السجود ، وقيل : خرَّ من ركوعه ساجداً بعد أن ركع ، ومعنى أناب : تاب ، ورُوي أنه بقي ساجداً أربعين يوماً يبكي حتى نبت البقل من دموعه ، وهذا الموضع فيه سجدة عند مالك خلافاً للشافعي ، إلا أنه اختلف في مذهب مالك هل يسجد عند قوله : { وَأَنَابَ } ، أو عند قوله : { لزلفى . . مَآبٍ } { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ } الزلفى القُربة والمكانة الرفيعة ، والمآب المرجع في الآخرة .
(1/1787)
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
{ ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض } تقديره قال الله يا داود ، وخلافة داود بالنبوة والملك ، قال ابن عطية : لا يقال خليفة الله إلا لنبيّ ، وأما الملوك والخلفاء فكل واحد منهم خليفة الذي قبله ، وقول الناس فيهم خليفة الله تجوّز .
(1/1788)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)
{ وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً } أي عبثاً بل خلقهما الله بالحق للاعتبار بهما والاستدلال على خالقهما { ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ } المعنى أن الكفار لما أنكروا الحشر والجزاء كانت خلقة السموات والأرض عندهم باطلاً بغير الحمة ، فإن الحكمة في ذلك إنما تظهر في الجزاء الأخروي .
(1/1789)
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)
{ أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض } أم هنا استفهامية يراد بها الإنكار : أي أن الله لا يجعل المؤمنين والمتقين كالمفسدين والفجار ، بل يجازي كل واحد بعلمه لتظهر حكمة الله في الجزاء ، ففي ذلك استدلال على الحشر والجزاء ، وفيه أيضاً وعد ووعيد .
(1/1790)
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)
{ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعشي الصافنات الجياد } الصافنات جمع صافن ، وهو الفرس الذي يرفع إحدى رجليه أو يديه ويقف على طرف الأخرى ، وقيل : الصافن هو الذي يسوّي يديه ، والصفن علامة على فراهة الفرس ، والجياد السريعة الجري واختلف الناس في قصص هذه الآية ، فقال الجمهور : إن سليمان عليه السلام عرضت عليه خيل كان ورثها عن أبيه وقيل : أخرجتها له الشياطين من البحر ، وكانت ذوات أجنحة ، وكانت ألف فرس ، وقيل : أكثر فتشاغل بالنظر إليها حتى غربت الشمس وفاتته صلاة العشي " العصر " ، فأسف لذلك ، وقال : ردوا عليّ الخيل وطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف حتى عقرها؛ لما كانت سبب فوات الصلاة ، ولم يترك منها إلا اليسير ، فأبدله الله أسرع منها وهي الريح ، وأنكر بعض العلماء هذه الرواية ، وقال : تفويت الصلاة ذنب لا يفعله سليمان وعقر الخير لغير فائدة لا يجوز ، فكيف يفعله سليمان عليه السلام؟ وأي ذنب للخيل في تفويت الصلاة فقال بعضهم : إنما عقرها ليأكلها الناس ، وكان زمانهم زمان مجاعة فعقرها تقرباً إلى الله ، وقال بعضهم ، لم تفته الصلاة ولا عقر الخيل ، بل كان يصلي فعرضت عليه الخيل فأشار إليهم فأزالوها حتى دخلت اصطبلاتها فلما فرغ من صلاته قال ردّوها عليّ فطفق يمسح عليها بيده كرامة لها ومحبة ، وقيل إن المسح عليها كان وسماً في سوقها وأعناقها بسوم حبس في سبيل الله .
(1/1791)
فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)
ِ { فَقَالَ إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِّي } معنى هذا يختلف على حسب الاختلاف في القصة ، فأما الذين قالوا إن سليمان عقر الخيل لما اشتغل بها حتى فاتته الصلاة فاختلفوا في هذا على ثلاثة أقوال : أحدها أ ، الخير هنا يراد به الخيل ، وزعموا أن الخيل يقال لها خير ، وأحببت بمعنى : آثرت أو بمعنى فعل يتعدى بمن قال : آثرت حب الخيل فشغلني عن ذكر ربي ، والآخر : أن الخير هنا يراد به المال ، لأن الخيل وغيرها مال فهو كقوله تعالى : { إِن تَرَكَ خَيْراً } [ البقرة : 180 ] أي مالاً ، والثالث : أن المفعول محذوف ، وحب الخير مصدر والتقدير : أحببت هذه الخيل مثل حب الخير ، فشغلني عن ذكر ربي ، وأما الذين قالوا : كان يصلي فعرضت عليه الخيل فأشار بإزالتها؛ فالمعنى أنه قال : إني أحببت حب الخير الذي عند الله في الآخرة بسبب ذكر ربي ، وشغلني ذلك عن النظر إلى الخيل { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } الضمير للشمس وإن لم يتقدم ذكرها ، ولكنها تفهم من سياق الكلام وذكر العشي يقتضيها ، والمعنى حتى غابت الشمس ، وقيل : إن الضمير للخيل ، ومعنى { تَوَارَتْ بالحجاب } دخلت اصطبلاتها والأول أشهر وأظهر .
(1/1792)
رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
{ رُدُّوهَا عَلَيَّ } أي قال سليمان : ردوا الخيل عليّ { فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق } السوق جمع ساق يعني سوق الخيل ، وأعناقهم : أي جعل يمسحها مسحاً ، وهذا المسح يختلف على حسب الاختلاف المتقدم ، هل هو قطعها وعقرها أو مسحها باليد محبة لها ، أو وسمها للتحبيس .
(1/1793)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)
{ وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } تفسير هذه الآية يختلف على حسب الاختلاف في قصتها ، وفي ذلك أربعة أقوال : الأول أن سليمان كان له خاتم ملكه وكان فيه اسم الله ، فكان ينزعه إذا دخل الخلاء توقيراً لاسم الله تعالى ، فنزعه يوماً ودفعه إلى جارية فتمثل لها جني في صورة سليمان وطلب منها الخاتم فدفعته له ، وري أن اسمه صخر ، فقعد على كرسيّ سليمان يأمر وينهي الناس يظنون أنه سليمان ، وخرج سليمان فارّاً بنفسه فأصابه الجوع فطلب حوتاً ففتح بطنه فوجد فيه خاتمه ، وكان الجني قد رماه في البحر فلبس سليمان الخاتم وعاد إلى ملكه ، ففتنة سليمان على هذا هي ما جرى له من سلب ملكه ، والجسد الذي ألقي على كرسيه هو الجنيّ الذي قعد عليه وسماه جسداً ، لأنه تصور في صورة إنسان ، ومعنى أناب رجع إلى الله بالاستغفار والدعاء ، أو رجع إلى ملكه والقول الثاني أن سليمان كان له امرأة يحبها وكان أبوها ملكاً كافراً قد قتله سليمان فسألته أن يضع لها صورة أبيها فأطاعها في ذلك فكانت تسجد للصورة ويسجد معها جواريها ، وصار صنماً معبوداً في داره ، وسليمان لا يعلم حتى مضت أربعون يوماً ، فلما علم به كسره فالفتنة على هذا عمل الصورة ، والجسد هو الصورة والقول الثالث أن سليمان كان له ولد وكان يحبه حباً شديداً ، فقالت الجن إن عاش هذا الولد ورث ملك أبيه فبقينا في السخرة أبداً فلم يشعر إلا وولده ميت على كرسيه ، فالفتنة على هذا حبه الولد ، والجسد هو الولد لما مات وسمي جسداً لأنه جسد بلا روح ، والقول الرابع أنه قال : لأطوفن الليلة على مائة امرأة تأتي كل واحدة منهن بفارس يجاهد في سبيل الله ، ولم يقل إن شاء الله ، فلما تحمل إلا واحدة بشق إنسان فالفتنة على هذا كونه لم يقل إن شاء الله ، والجسد هو شق الإنسان الذي ولد له ، فأما القول الأول فضعيف من طريق النقل مع أنه يبعد ما ذكر فيه من سلب ملك سليمان وتسليط الشياطين عليه ، وأما القول الثاني فضعيف أيضاً مع أنه يبعد أن يعبد صنم في بيت نبي ، أو يأمر نبي بعمل صنم ، وأما القول الثالث فضعيف أيضاً ، وأما القول الرابع فقد روي في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنه لم يذكر في الحديث إن ذلك تفسير الآية .
(1/1794)
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
{ قَالَ رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي } قدم الاستغفار على طلب الملك ، لأن أمور الدين كانت عندهم أهم من الدنيا فقدّم الأولى والاهمّ ، فإن قيل : لأي شيء قال لا ينبغي لأحد من بعدي ، وظاهر هذا طلب الانفراد به حتى قال فيه الحجاج أنه كان حسوداً؟ فالجواب من وجهين : أحدهما أنه إنما قال ذلك لئلا يجري عليه مثل ما جرى من أخذ الجني لملكه ، فقصد أن لا يسلب ملكه عنه في حياته ويصير إلى غيره ، والآخر أنه طلب ذلك ليكون معجزة ، دلالة على نبوته { فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } معنى رخاء لينة طيبة ، وقيل : طائعة ، له ، وقد ذكرنا الجميع بين هذا وبين قوله { عَاصِفَةً } في [ الأنبياء : 81 ] وحيث أصاب : أي حيث قصد وأراد { والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ } الشياطين معطوف على الريح ، وكل بناء يدل على الشياطين أي سخرنا له الريح والشياطين من يبني منهم ومن يغوص في البحر { وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد } أي آخرين من الجنّ موثقون في القيود والأغلال { هذا عَطَآؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ } الإشارة إلى الملك الذي أعطاه الله له ، والمعنى أن الله قال له : أعط من شئت وامنع من شئت ، وقيل : المعنى أمنن على من شئت من الجنّ بالاطلاق من القيود ، وأمسك من شئت منهم في القيود ، والأوّل أحسن وهو قول ابن عباس { بِغَيْرِ حِسَابٍ } يحتمل ثلاثة معان : أحدها أنه لا يحاسب في الآخرة على ما فعل ، والآخر بغير تضييق عليك في الملك ، والثالث بغير حساب ولا عدد بل خارج عن الحصر { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ } قد ذكر في قصة داود .
(1/1795)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)
{ واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } قد ذكرنا قصة أيوب عليه السلام في [ الأنبياء : 83 ] والنصب يقال بضم النون وإسكان الصاد : وبفتح النون وإسكان الصاد وبضم النون والصاد وبفتحهما ، ومعناه واحد وهو المشقة ، فإن قيل : لم نسب ما أصابه من البلاء إلى الشيطان؟ فالجواب من أربعة أوجه : أحدها أن سبب ذلك كان من الشيطان ، فإنه رُوِيَ أنه دخل على بعض الملوك فرأى منكراً فلم يغيره ، وقيل : إنه كانت له شاة فذبحها وطبخها ، وكان له جار جائع فلم يعط جاره منها شيئاً ، والثاني : أنه أراد ما وسو له الشيطان في مرضه من الجزع وكراهة البلاء ، فدعا إلى الله أن يدفع عنه وسوسة الشيطان بذلك ، والثالث : أنه روي أن الله سلط الشيطان عليه ليفتنه فأهلك ماله فصبر وأهلك أولاده فصبر وأصابه المرض الشديد فصبر فنسب ذلك إلى الشيطان لتسليط الشيطان عليه ، والرابع : روي أن الشيطان لقي امرأته فقال لها : قولي لزوجك إن سجد لي سجدة أذهبت ما به من المرض فذكرت المرأة ذلك لأيوب ، فقال لها : ذلك عدوّ الله الشيطان وحينئذ دعا .
(1/1796)
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42)
{ اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } التقدير قلنا له : اركض برجلك فضرب الأرض برجله فنبعت له عين ماء صافية باردة ، فشرب منها فذهب كل مرض كان داخل جسده ، واغتسل منها فذهب ما كان في ظاهر جسده ، وروي أنه ركض الأرض مرتين فنبع له عينان ، فشرب من أحدهما واغتسل من الأخرى .
(1/1797)
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
{ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ } ذكر في الأنبياء { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ } الضغث القبضة من القضبان ، وكان أيوب عليه السلام قد حلف أن يضرب امرأته مائة سوط إذا برئ من مرضه ، وكان سبب ذلك ما ذكرته له من لقاء الشيطان ، وقوله لها إن سجد لي زوجك أذهبت ما به من المرض ، فأمره أن يأخذ ضغثاً فيه مائة قضيب فيضربها بها ضربة واحدة فيبرَّ في يمينه ، وقد ورد مثل هذا عن نبينا صلى الله عليه وسلم في حدّ رجل زنى وكان مريضاً فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذق نخلة فيه شماريخ مائة فضرب به ضربة واحدة ذكر ذلك أبو داود والنسائي ، وأخذ به بعض العلماء ، ولم يأخذ به مالك ولا أصحابه .
(1/1798)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)
{ أُوْلِي الأيدي والأبصار } الأيد جمع يد وذلك عبارة عن قوتهم في الأعمال الصالحات ، وإنما غير عن ذلك بالأيدي ، لأن الأعمال أكثر ما تعمل بالأيدي ، وأما الأبصار فعبارة عن قوة فهمهم وكثرة علمهم من قولك : أبصر الرجل إذا تبينت له الأمور ، وقيل : الأيدي جمع يد بمعنى النعمة ، ومعناه أولوا النعم التي أسداها الله إليهم من النبوة والفضيلة ، وهذا ضعيف ، لأن اليد بمعنى النعمة أكثر ما يجمع على أيادي ، وقرأ ابن مسعود : { أُوْلِي الأيدي } بغير ياء ، فيحتمل أن تكون الأيدي محذوفة الياء أو يكون الأيد بمعنى القوة : كقوله : { دَاوُودَ ذَا الأيد } [ ص : 17 ] .
(1/1799)
إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)
{ إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار } معننى أخلصناهم : جعلناهم خالصين لنا ، أو أخلصناهم دون غيرهم ، وخالصة صفة حذف موصوفها تقديره : بخصلة خالصة ، وأما الباء في قوله { بِخَالِصَةٍ } فإن كان أخلصناهم بمعنى خالصين ، فالباء سببية للتعليل ، وإن كان أخلصناهم بمعنى جعلناهم خصصناهم فالباء لتعدية الفعل ، وقرأ نافع بإضافة خالصة إلى ذكرى من الباقون تنوين ، وقرأ غيره بالتنوين على أن تكون ذكر بدلا ً من خالصة على وجه البيان والتفسير لها ، والدار يحتمل أن يريد به الآخرة أو الدنيا ، فإن أراد به الآخرة ففي المعنى ثلاثة أقوال : أحدها أن { ذِكْرَى الدار } : يعني ذكرهم للآخرة وجهنم فيها ، والآخر أن معناه تذكيرهم للناس بالآخرة ، وترغيبهم للناس فيما عند الله ، والثالث أن معناه ثواب الآخرة : أي أخصلناهم بأفضل ما في الآخرة ، والأول أظهر ، وإن أراد بالدار الدنيا فالمعنى حسن الثناء والذكر الجميل في الدنيا ، كقوله : { لِسَانَ صِدْقٍ } [ مريم : 50 ، الشعراء : 84 ] { الأخيار } جمع خير بتشديد الياء أو خير المخفف من خير كميت مخفف من ميت { وَذَا الكفل } ذكر في [ الأنبياء : 85 ] .
(1/1800)
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)
{ هذا ذِكْرٌ } الإشارة إلى ما تقدم في هذه السورة من ذكر الأنبياء ، وقيل : الإشارة إلى القرآن بجملته ، والأول أظهر وكأن قوله : { هذا ذِكْرٌ } ختام للكلام المتقدم ، ثم شرع بعده في كلام آخر كما يتم المؤلف باباً ثم يقول فهذا باب ثم يشرع في آخر .
(1/1801)
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52)
{ قَاصِرَاتُ الطرف } ذكر في [ الصافات : 48 ] { أَتْرَابٌ } يعني أسنانهم سواء يقال : فلان تِرْبُ فلان إذا كان مثله في السن ، وقيل : إن أسنانهم وأسنان أزواجهم سواء .
(1/1802)
إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
{ مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ } أي ما له من فناء ولا انقضاء .
(1/1803)
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55)
{ هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ } تقديره الأمر هذا : لما تم ذكر أهل الجنة خمته بقوله { هذا } ثم ابتدأ وصف أهل النار ، ويعني بالطاغين الكفار .
(1/1804)
هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)
{ هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } هذا مبتدأ وخبره حميم فليذوقوه : اعترافاً بينهما والحميم الماء الحار الغساق قرأه بالتشديد حفص وحمزة والكسائي والباقي بالتخفيف : غَسَاق بتخفيف السين وتشديدها وهو صديد أهل النار ، وقيل : ما يسيل من عيونهم ، وقيل : هو عذاب لا يعلمه الله .
(1/1805)
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)
{ وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } آخر معطوف على حميم وغساق تقديره : وعذاب آخر ، قيل : يعني الزمهرير ، ومعنى { مِن شَكْلِهِ } من مثله ونوعه أي من مثل العذاب المذكور ، و { أَزْوَاجٌ } معناه أصناف وهو صفة للحميم والغساق والعذاب الآخر والمعنى أنهما أصناف من العذاب ، وقال ابن عطية : آخر مبتدأ ، واختلف في خبره ، فقيل : تقديره ولهم عذاب آخر وقيل : أزواج مبتدأ ومن شكله خبر أزواج ، والجملة خبر آخر ، وقيل : أزواج خبر الآخر ، ومن شكله في موضع الصفة وقرئ آخر بالجمع وهو أليق أن يكون أزواج خبره لأنه جمع مثله .
(1/1806)
هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60)
{ هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ } الفوج جماعة من الناس ، والمقتحم الداخل في زحام وشدة ، وهذا من كلام خزنة النار خاطبوا به رؤساء الكفار الذين دخلوا النار أولاً ، ثم دخل بعدهم أتباعهم وهو الفوج المشار إليه ، وقيل : هو كلام أهل النار بعضهم لبعض ، والأول أظهر { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ } أي لا يلقون رحباً ولا خيراً ، وهو دعاء من كلام رؤساء الكفار : أي لا مرحباً بالفوج الذي هم أتباع لهم { قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ } هذا حكاية كلام الأتباع للرؤساء لما قالوا لهم : لا مرحباً بهم ، أجابوهم بقولهم بل أنتم لا مرحباً بكم { أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا } هذا ايضاً من كلام الأتباع خطاباً للرؤساء ، وهو تعليل لقولهم : { بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ } ، والضمير في قدمتموه للعذاب ، ومعنى قدمتموه أوجبتموه لنا بما قدمتم في الدنيا من إغوائنا ، وأمركم لنا بالكفر .
(1/1807)
قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)
{ قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النار } هذا أيضاً من كلام الأتباع دعوا إلى الله تعالى أن يضاعف العذاب لرؤسائهم ، الذين أوجبوا لهم العذاب فهو كقولهم : { رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار } [ الأعراف : 38 ] والضعف زيادة المثل .
(1/1808)
وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62)
{ وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار } الضمير في { وَقَالُواْ } لرؤساء الكفار ، وقيل : للطاغين والرجال هم ضعفاء المؤمنين ، وقيل : إن القائلين لذلك أبو جهل لعنة الله وأمية بن خلف وعتبة بن ربيعة وأمثالهم وأن الرجال المذكورين هم عمّار وبلال وصهيب وأمثالهم ، واللفظ أعم من ذلك والمعنى أنهم قالوا في جهنم : ما لنا لا نرى في النار رجالاً كنا في الدنيا نعدّهم من الأشرار .
(1/1809)
أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)
{ أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً } قرئ { أَتَّخَذْنَاهُمْ } بهمزة قطع ومعناه : توبيخ أنفسهم على اتخاذهم المؤمنين سخرياً ، وقرئ بألف وصل على أن يكون الجملة صفة لرجال وقرأ نافع وحمزة والكسائي { سِخْرِيّاً } بالرفع والباقون بالكسر { سِخْرِيّاً } بضم السين من التسخير بمعنى الخدمة وبالكسر بمعنى الاستهزاء { أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصار } هذا يحتمل ثلاثة أوجه : أحدها أن يكون معادلاً لقولهم : ما لنا لا نرى رجالاً ، والمعنى ما لنا لا نراهم في جهنم ليسوا فيها أم هم فيها ولكن زاغت عنه أبصارنا ، ومعنى زاغت عنهم مالت فلم نرهم . الثاني أن يكون معادلاً لقولهم : { أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً } والمعنى اتخذناهم سُخرياً . ( وأم زاغت الأبصار ) على هذا : مالت عن النظر إليهم إحتقاراً لهم . الثالث أن تكون أم منقطعة بمعنى بل والهمزة فلا تعادل شيئاً ما قبلها .
(1/1810)
إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
{ إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ } الإشرة إلى ما تقدم من حكاية أقوال أهل النار ثم فسره بقوله { تَخَاصُمُ أَهْلِ النار } وإعراب تخاصم بدل من حق أو خبر مبتدأ مضمر .
(1/1811)
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67)
{ قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } النبأ : الخبر ، ويعني به ما تضمنته الشريعة من التوحيد والرسالة والدار الآخرة ، وقيل : هو القرآن ، وقيل : هو يوم القيامة والأول أعم وأرجح .
(1/1812)
مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
{ مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الأعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } الملأ الأعلى هم الملائكة ومقصد الآية الاحتجاج على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه أخبر بأمور لم يكن يعلمها قبل ذلك ، والضمير في يختصمون للملأ الأعلى ، واختصامهم هو في قصة آدم حين قال لهم : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] حسبما تضمنته قصته في مواضع من القرآن ، وفي الحديث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقال : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى فقال : لا أدري قال في الكفارات وهي إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد " الحديث بطوله ، وقيل : الضمير في يختصمون للكفار : أي يختصمون في الملأ الأعلى فيقول بعضهم هم بنات الله ، ويقول آخرون : هم آلهة تعبد ، وهذا بعيد .
(1/1813)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72)
{ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ } إذ بدل من إذ يختصمون ، وقد ذكرنا في البقرة معنى سجود الملائكة لآدم ، ومعنى كفر إبليس وذكرنا في [ الحجر : 29 ] معنى قوله تعالى : { مِن رُّوحِي } .
(1/1814)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)
{ قَالَ ياإبليس مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } الضمير في قال الله عز وجل ، وبيديّ من المتشابه الذي ينبغي الإيمان به ، وتسليم علم حقيقته إلى الله ، وقال المتأوّلون : هو عبارة عن القدرة ، وقال القاضي أبو بكر بن الطيب إن اليد والعين والوجه صفات زائدة على الصفات المقترّرة ، قال ابن عطية : وهذا قول مرغوب عنه ، وحكى الزمخشري : أن معنى خلقت بيدي خلقت بغير واسطة { أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين } دخلت همزة الاستفهام على ألف الوصل فحذفت ألف الوصل ، وأم هنا معادلة ، والمعنى أستكبرت الآن أم كنت قديماً ممن يعلوا ويستكبر ، وهذا على وجه التوبيخ له .
(1/1815)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)
{ رَجِيمٌ } أي لعين مطرود .
(1/1816)
إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81)
{ إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } يعني القيامة ، وقد تقدم الكلام على ذلك في الحجر .
(1/1817)
قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)
{ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } الباء للقسم ، أقسم إبليس بعزة الله أن يغوي بني آدم .
(1/1818)
قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)
{ قَالَ فالحق والحق أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } الضمير في قال هنا : لله تعالى ، والحق الأول مقسم به وهو منصوب بفعل مضمر كقولك : الله لأفعلن ، وجوابه : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ } ، بالرفع وهو مبتدأ ، أو خبر مبتدأ مضمر تقديره : الحق يميني ، وأما الحق الثاني فهو مفعول بأقول وقوله : { والحق أَقُولُ } جملة اعتراض بين القسم وجوابه على وجه التأكيد للقسم { وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين } أي الذين يتصنعون ويتحيلون بما ليسوا من أهله .
(1/1819)
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
{ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ } هذا وعيد لتعلمن صدق خبره بعد حين ، والحين يوم القيامة أو موتهم أو ظهور الإسلام يوم بدر وغيره .
(1/1820)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)
{ تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله } { تَنزِيلُ } مبتدأ وخبره : { مِنَ الله } أو خبره ابتداء مضمر تقديره : ها تنزيل ، و { مِنَ الله } على هذا الوجه يتعلق بتنزيل ، أو يكون خبراً بعد خبر أو خبر مبتدأ آخر محذوف ، والكتاب هنا القرآن أو السورة واختار ابن عطية أن يراد به جنس الكتب المنزلة وأما الكتاب الثاني فهو القرآن باتفاق { بالحق } يحتمل معنيين أحدهما أن يكون معناه متضمناً الحق ، والثاني أن يكون معناه بالاستحقاق والوجوب { مُخْلِصاً لَّهُ الدين } قيل : معناه من حق ومن واجبه أن يكون له الدين الخالص ، ويحتمل أن يكون معناه : إن الدين الخالص هو دين الله وهو الإسلام ، الذي شرعه لعباده ولا يقبل غيره ، معنى الخالص : الصافي من شوائب الشرك ، وقال قتادة : الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله ، وقال الحسن : هو الإسلام وهذا أرجح لعمومه .
(1/1821)
أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
{ والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } يريد بالأولياء الشركاء المعبودين ، ويحتمل أن يريد بالذين اتخذوا الكفار العابدين لهم ، أو الشركاء المعبودين ، والأول أظهر؛ لأنه يحتاج على الثاني إلى حذف الضمير العائد على الذين تقديره : الذين اتخذوهم ، ويكون ضمير الفاعل في اتخذوا عائداً على غير مذكور ، وارتفاع الذين على الوجهين بالابتداء وخبره إما قوله : { إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } أو المحذوف المقدر قبل قوله : { مَا نَعْبُدُهُمْ } لأن تقديره : يقولون ما نعبدهم . والأول أرجح؛ لأ ، المعنى به أكمل { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } هذه الجملة في موضع معمول قول محذوف ، والقول في موضع الحال أو في موضع بدل من صلة الذين ، وقرأ ابن مسعود : قالوا ما نعبدهم بإظهار القول أي يقول الكفار : ما نعبد هؤلاء الآلهة إلا ليقربونا إلى الله ويشفعوا لنا عنده ، ويعني بذلك الكفار الذين عبدوا الملائكة ، أو الذين عبدوا الأصنام ، أو الذين عبدوا عيسى أو عزير ، فإن جميعهم قالوا هذه المقالة . معنى زلفى : قربى فهو مصدر من يقربونا { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } إشارة إلى كذبهم في قولهم : ليقربونا إلى الله وقوله : لا يهدي في تأويله وجهان : أحدهما لا يهديه في حال كفره والثاني أن ذلك مختصّ بمن قضى عليه بالموت على الكفر ، أعاذنا الله من ذلك . وهذا تأويل : لا يهدي القوم الظالمين والكافرين حيثما وقع .
(1/1822)
لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
{ لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } الولد يكون على وجهين : أحدهما بالولادة الحقيقية وهذا محال على الله تعالى؛ لا يجوز في العقل والثاني التبني بمعنى الاختصاص والتقريب ، كما يتخذ الإنسان ولد غيره ولداً لإفراط محبته له ، وذلك ممتنع على الله بإخبار الشرع فإن قوله : { وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [ مريم : 92 ] يعم نفي الوجهين ، فمعنى الآية على ما أشار إليه ابن عطية : لو أراد الله أن يتخذ ولداً على وجه التبني لاصطفى لذلك مما يخلق من موجوداته ومخلوقاته ، ولكنه لم يرد ذلك ولا فعله ، وقال الزمخشري : معناه لو أراد الله اتخاذ الولد لا متنع ذلك ، ولكنه يصطفي من عباده من يشاء على وجه الاختصاص والتقريب ، لا على وجه اتخاذه ولداً ، فاصطفى الملائكة وشرفهم بالتقريب ، فحسب الكفار أنه أولاده ، ثم زادوا على ذلك أن جعلوهم إناثاً ، فأفرطوا في الكفر والكذب على الله وملائكته .
{ سُبْحَانَهُ هُوَ الله الواحد القهار } نزه تعالى نفسه من اتخاذ الولد ، ثم وصف نفسه بالواحد؛ لأن الوحدانية تنافي اتخاذ الولد لأنه لو كان له ولد لكان من جنسه ، ولا جنس له لأنه واحد ، ووصف نفسه بالقهار؛ ليدل على نفي الشركاء والأنداد ، لأن كل شيء مقهور تحت قهره تعالى ، فكيف يكون شريكاً له؟ ثم أتبع ذلك بما ذكره من خلقه السموات والأرض وما بينهما ، ليدل على وحدانيته وقدرته وعظمته .
(1/1823)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
{ يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار } التكوير اللف والليّ ، ومنه : كوّر العمامة التي يلتوي بعضها على بعض وهو هنا استعارة ، ومعناه على ما قال ابن عطية : يعيد من هذا على هذا ، فكأن الذي يطيل من النهار أو الليل يصير منه على الآخر جزءاً فيستره ، وكأن الذي ينقص يدخل في الذي يطول فيستتر فيه . ويحتمل أن يكون المعنى أن كل واحد منهما يغلب الآخر إذا طرأ عليه ، فشبه في ستره له بثوب يلف على الآخر { لأَجَلٍ مُّسَمًّى } يعني يوم القيامة .
(1/1824)
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
{ خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني آدم عليه السلام { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } يعني حواء خلقها من ضلع آدم ، فإن قيل : كيف عطف قوله : { ثُمَّ جَعَلَ } على خلقكم بثم التي تقتضي الترتيب المهلة ، ولا شك أن خلقة حواء كانت قبل خلقة بني آدم؟ فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول وهو المختار أن العطف إنما هو على معنى قوله : { وَاحِدَةٍ } لا على خلقكم كأنه قال : خلقكم من نفس واحدة ثم خلق منها زوجها بعد وحدتها الثاني : أن ثم لترتيب الأخبار لا لترتيب الوجود . الثالث : أنه يعني بقوله : { خَلَقَكُمْ } إخراج بني آدم من صلب أبيهم كالذر وذلك كان قبل خلقه حواء .
{ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } يعني المذكورة في الأنعام من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ومن البقر اثنين وسماها أزواجاً لأن الذكر زوج الأنثى والأنثى زوج الذكر . وأما { أَنزَلَ } ففيه ثلاثة أوجه : الأول أن الله خلق أول هذه الأزواج في السماء ثم أنزلها . الثاني أن معنى أنزل قضى وقسم ، فالإنزال عبارة عن نزول أمره وقضائه . الثالث أنه أنزل المطر الذي ينبت به النبات الذي تعيش منه هذه الأنعام فعبّر بإنزالها عن إنزال أرزاقها وهذا بعيد { خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ } يعني أن الإنسان يكون نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن يتم خلقه ، ثم ينفخ فيه الروح { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } هي البطن والرحم والمشيمة ، وقيل : صلب الأب والرحم والمشيمة ، والأول أرجح لقوله : { بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } ولم يذكر الصلب .
(1/1825)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
{ إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ } أي لا يضره كفركم .
{ وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر } تأويل الأشعرية هذه الآية على وجهين : أحدها أن الرضا بمعنى الإرادة ، ويعني بعباده من قضى الله له الإيمان والوفاة عليه . فهو كقوله : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الحجر : 42 ، الإسراء : 65ِ ] ، والآخر أن الرضا غير الإرادة ، والعبادة على هذا العموم أي لا يرضى الكفر لأحد من البشر ، وإن كان قد أراد أن يقع من بعضهم فهو لم يرضه ديناً ولا شرعاً . وأراده وقوعاً ووجوداً أم المعتزلة فإن الرضا عندهم بمعنى الإرادة والعباد على هذا على العموم جرياً على قاعدتهم في القدر وأفعال العباد { وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ } هذا عموم ، والشكر الحقيقي يتضمن الإيمان { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ } ذكر في الإسراء .
(1/1826)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
{ وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ } الآية : يراد بالإنسان هنا الكافر بدليل قوله : { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً } ، والقصد بهذه الآية عتاب وإقامة حجة ، فالعتاب على الكفر وترك دعاء الله ، وإقامة الحجة على الإنسان بدعائه إلى الله ، في الشدائد ، فإن قيل : لم قال هنا { وَإِذَا مَسَّ } بالواو وقال بعدها { فَإِذَا مَسَّ } [ الزمر : 49 ] بالفاء؟ فالجواب : أن الذي بالفاء مسبب عن قوله : { اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الزمر : 45 ] فجاء بفاء السببية قاله الزمخشري وهو بعيد { ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ } خوله أعطاه والنعمة هنا يحتمل أن يريد بها كشف الضر المذكور ، أو أي نعمة كانت { نَسِيَ مَا كَانَ يدعوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ } يحتمل أن تكون ما مصدرية أي نسي دعاءه ، أو تكون بمعنى الذي والمراد بها الله تعالى .
(1/1827)
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
{ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } بتخفيف الميم على إدخال همزة الاستفهام على من وقيل : هي همزة النداء والاول أظهر ، وقرئ بتشديدها على إدخال أم على من ومن مبتدأ وخبره محذوف وهو المعادل وتقديره أم من هو قانت كغيره ، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه وهو ما ذكر قبله وما ذكر بعده ، وهو وقوله : { هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ } والقنوت هنا بمعنى الطاعة والصلاة بالليل ، وآناء الليل ساعاته .
(1/1828)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
{ قُلْ ياعباد الذين آمَنُواْ } الآية نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة ، ومعناها التأنيس لهم والتنشيط على الهجرة { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } يحتمل أن يتعلق في هذه الدنيا بأحسنوا ، والمعنى الذين أحسنوا في الدنيا لهم الآخرة ، أو يتعلق بحسنه ، والحسنة على هذا حسن الحال والعافية في الدنيا والأول أرجح { وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ } يراد البلاد المجاورة للأرض التي هاجروا منها ، والمقصود من ذلك الحض على الهجرة .
{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } هذا يحتمل وجهين أحدهما أن الصابر يوفي أجره ولا يحاسب على أعماله ، فهو من الذين يدخلون الجنة بغير حساب الثاني أن أجر الصابرين بغير حصر بل أكثر من أن يحصر بعدد أو وزن وهذا قول الجمهور .
(1/1829)
قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)
{ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين } اللام هنا يجوز أن تكون زائدة أو للتعليل ويكون المفعول على هذا محذوف ، فإن قيل : كيف عطف أمرت على أمرت والمعنى واحد؟ فالجواب أن الأول أمر بالعبادة والإخلاص والثاني أمر بالسبق إلى الإسلام فهما معنيان اثنيان وكذلك قوله : { قُلِ الله أَعْبُدُ } ليس تكراراً لقوله { أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله } ، لأن الأول إخبار بأنه مأمور بالعبادة الثاني إخبار بإنه يفعل العبادة . وقدم اسم الله تعالى للحصر واختصاص العباده به وحده { فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ } هذا تهديد ومبالغة في الخذلان والتخلية لهم على ما هم عليه { ظُلَلٌ } جمع ظلة بالضم ، وهو ما غشي من فوق كالسقف ، فقوله { مِّن فَوْقِهِمْ } بيّن وأما { وَمِن تَحْتِهِمْ } فسماه ظلة لأنه سقف لمن تحتهم؛ فإن جهنم طبقات وقيل : سماه ظله لأنه يلتهب ويصعد من أسفلهم إلى فوقهم .
(1/1830)
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17)
{ والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا } قيل : إنها نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد وطلحة والزبير ، إذ دعاهم أبو بكر الصديق إلى الإيمان فآمنوا ، وقيل : نزلت في أبي ذر وسلمان ، وهذا ضعيف ، لأن سلمان إنما أسلم بالمدينة والآية مكية والأظهر أنها عامة ، والطاغوت كل ما عبد من دون الله ، وقيل : الشياطين .
(1/1831)
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
{ الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } قيل : يستمعون القول على العموم فيتبعون القرآن ، لأنه أحسن الكلام وقيل : يستمعون القرآن فيتبعون بأعمالهم أحسنه من العفو الذي هو أحسن من الانتصار ، وشبه ذلك وقيل : هو الذي يستمع حديثاً فيه حسن وقبيح فيتحدّث بالحسن ويكف عما سواه ، وهذا قول ابن عباس ، وهو الأظهر وقال ابن عطية : هو علم في جميع الأقوال؛ والقصد الثناء على هؤلاء ببصائر ونظر سديد يفرقون به بين الحق والباطل وبين الصواب والخطأ ، فيتبعون الأحسن من ذلك ، وقال الزمخشري مثل هذا يكون الكلام جملة واحدة تقديره : أفمن حق عليه كلمة العذاب أأنت تنقذه ، فموضع من في النار موضع المضمر ، والهمزة في قوله { أَفَأَنتَ } هي الهمزة التي في قوله : { أَفَمَنْ } وهي همزة الإنكار كررّت للتأكيد ، والثاني أن يكون التقدير أفمن حق عليه العذاب تتأسف عليه ، فحذف الخير ثم استأنف قوله : { أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النار } ؟ وعلى هذا يوقف على العذاب ، والأول أرجح لعدم الإضمار .
(1/1832)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
{ فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض } معنى سلكه أدخله وأجراه ، والينابيع : جمع ينبوع وهو العين ، وفي هذا دليل على أن ماء العيون من المطر { مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } أي أصنافه كالقمح والأرز والفول وغير ذلك ، وقيل : ألوانه الخضرة والحمرة وشبه ذلك ، وفي الوجهين دليل على الفاعل المختار وَرَدٌ على الطبائع [ الملحدين ] .
(1/1833)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
{ أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } تقديره : أفمن شرح الله صدره كالقاسي قلبه ، وروي أن الذي شرح الله صدره للإسلام عليّ بن أبي طالب وحمزة ، والمراد بالقاسية قلوبهم أبو لهب وأولاده ، واللفظ أعم من ذلك { مِّن ذِكْرِ الله } قال الزمخشري : مِنْ هنا سببية أي قلوبهم قاسية من أجل ذكر الله ، وهذا المعنى بعيد ، ويحتمل عندي أن يكون قاسية تضمن معنى خالية ، فلذلك تعدى بمن ، أن قلوبهم خالية من ذكر الله .
(1/1834)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
{ الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث } يعني القرآن { كِتَاباً } بدل من أحسن أو حال منه { مُّتَشَابِهاً } معناه هنا أنه يشبه بعضه بعضاً في الفصاحة والنطق بالحق وأنه ليس فيه تناقض ولا اختلاف { مَّثَانِيَ } جمع مثان أي تثنى فيه القصص وتكرر ، ويحتمل أن يكون مشتقاً من الثناء ، لأنه يثنى فيه على الله ، فإن قيل : مثاني جمع فكيف وصف به المفرد؟ فالجواب : أن القرآن ينقسم فيه إلى سور وآيات كثيرة فهو جمع بهذا الاعتبار ، ويجوز أن يكون كقولهم : برمة أعشار ، وثوب أخلاق ، أو يكون تمييزاً من متشابهاً كقولك : حُسْن شمائل { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله } إن قيل : كيف تعدّى تلين بإلى؟ فالجواب أنه تضمن معنى فعل تعدى بإلى كأنه قال تميل أو تسكن أو تطمئن قلوبهم إلى ذكر الله . فإن قيل : لم ذكر الجلود أولاً وحدها ثم ذكر القلوب بعد ذلك معها؟ فالجواب : أنه لما قال أولاً تقشعر ذكر الجلود وحدها ، لأن القشعريرة من وصف الجلود لا من وصف غيرها ، ولما قال ثانياً تلين ذكر الجلود والقلوب ، لأن اللبن توصف به الجلود والقلوب : أما لين القلوب فهو ضدّ قسوتها ، وأما لين الجلود فهو ضد قشعريرتها فاقشعرت أولاً من الخوف ، ثم لانت بالرجاء { ذَلِكَ هُدَى الله } يحتمل أن تكون الإشارة إلى القرآن أو إلى الخشية واقشعرار الجلود .
(1/1835)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)
{ أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب } الخبر محذوف كما تقدم في نظائره تقديره : أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب كمن هو آمن من العذاب ومعنى يتقي يلقى النار بوجهه ليكفها عن نفسه ، وذلك أن الإنسان إذا لقي شيئاً من المخاوف استقبله بيديه ، وأيدي هؤلاء مغلولة ، فاتقوا النار بوجوههم { ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } أي ذوقوا جزاء ما كنتم تكسبون من الكفر والعصيان .
(1/1836)
قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
{ قُرْآناً عَرَبِيّاً } نصب على الحال أو بفعل مضمر على المدح { غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } أي ليس فيه تضادّ ولا اختلاف ، ولا عيب من العيوب التي في كلام البشر ، وقيل : معناه : غير مخلوق وقيل : غير ذي لحن ، فإن قيل : لم قال { غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } ولم يقل غير معوج؟ فالجواب : أن قوله { غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } أبلغ في نفي العوج عنه كأنه قال : ليس فيه شيء من العوج أصلاً .
(1/1837)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
{ رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ } أي متنازعون متظالمون ، وقيل : متشاجرون وأصله من قولك : رجل شكس إذا كان ضيق الصدر ، والمعنى ضرب هذا المثل لبيان حال من يشرك بالله ومن يوحده ، فشبه المشرك بمملوك بين جماعة من الشركاء يتنازعون فيه ، والمملوك بينهم في أسوء حال ، وشبه من يوحد الله بمملوك الرجل واحد ، فمعنى قوله { سَلَماً لِّرَجُلٍ } أي خالصاً له وقرئ سلماً بغير ألف والمعنى واحد .
(1/1838)
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)
{ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } في هذا وعد للنبي صلى الله عليه وسلم ، ووعيد للكفار ، فإنهم إذا ماتوا جميعاً وصاروا إلى الله فاز من كان على الحق وهلك من كان على الباطل ، وفيه أيضاً إخبار بأنه صلى الله عليه وسلم سيموت ، لئلا يختلف الناس في موته كما اختلفت الأمم في غيره . وقد جاء أنه لما مات صلى الله عليه وسلم أنكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه موته حتى احتج عليه أبو بكر الصديق بهذه الآية فرجع إليها .
(1/1839)
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
{ تَخْتَصِمُونَ } قيل : يعني الاختصام في الدماء ، وقيل : في الحقوق والأظهر أنه اختصام النبي صلى الله عليه وسلم مع الكفار في تكذيبهم له ، فيكون من تمام ما قبله . ويحتمل أن يكون على العموم في اختصام الخلائق فيما بينهم من المظالم وغيرها .
(1/1840)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32)
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله } المعنى لا أحد أظلم ممن كذب على الله ويريد بالكذب عل الله هنا ما نسبوا إليه من الشركاء والأولاد { وَكَذَّبَ بالصدق } أي كذب بالإسلام والشريعة .
(1/1841)
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)
{ والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ } قيل : الذي جاء بالصدق النبي صلى الله عليه وسلم ، والذي صدّق به أبو بكر . وقيل : الذي جاء بالصدق جبريل ، والذي صدق به محمد صلى الله عليه وسلم وقيل : الذي جاء بالصدق الأنبياء والذي صدق به المؤمنون ، واختار ابن عطية أن يكون على العموم ، وجعل الذي للجنس كأنه قال : الفريق الذي لأنه في مقابلة من كذب على الله وكذب بالصدق والمراد به العموم .
(1/1842)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)
{ أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } تقوية لقلب محمد صلى الله عليه وسلم ، وإزالة للخوف الذي كان الكفار يخوفونه .
(1/1843)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ } الآية احتجاج على التوحيد وردّ على المشركين { هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } رد على المشركين وبرهان على الوحدانية ، روي أن سببها أ ، المشركين خوّفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من آلهتهم ، فنزلت الآية مبينة أنهم لا يقدرون على شيء ، فإن قيل كاشفات وممسكات بالتأنيث؟ فالجواب أنها لا تعقل فعاملها معاملة المؤنثة ، وأيضاً ففي تأنيثها تحقير لها وتهكم بمن عبدها .
(1/1844)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39)
{ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } تهديد ومسالمة منسوخة بالسيف { إِنِّي } ذكر في أول السورة .
(1/1845)
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
{ الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } هذه الآية اعتبار ، ومعناها أن الله يتوفى النفوس على وجهين : أحدهما : وفاة كاملة حقيقية وهي الموت ، والآخر : وفاة النوم ، لأن النائم كالميت في كونه لا يبصر ولا يسمع ومنه قوله : { وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم باليل } [ الأنعام : 60 ] وتقديرها ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها { فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت } أي يمسك الأنفس التي قضى عليها بالموت الحقيقي ، ومعنى إمساكها أنه لا يردها إلى الدنيا { وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي يرسل الأنفس النائمة ، وإرسالها هو ردّها إلى الدنيا ، والأجل المسمى هو أجل الموت الحقيقي ، وقد تكلم الناس في النفس والروح وأكثروا القول في ذلك بالظن دون تحقيق ، والصحيح أن هذا مما استأثر بعلمه الله لقوله : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [ الإسراء : 85 ] .
(1/1846)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)
{ أَمِ اتخذوا مِن دُونِ الله شُفَعَآءَ } أم هنا بمعنى بل وهمزة الإنكار والشفعاء هم الأصنام وغيرها ، لقولهم : { هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله } [ يونس : 18 ] { قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ } دخلت همزة الاستفهام على واو الحال تقديره : يشفعون وهم لا يملكون شيئاً ولا يعقلون .
(1/1847)
قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)
{ قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً } أي هو مالكها ، فلا يشفع أحد إليه إلا بإذنه ، وفي هذا ردّ على الكفار في قولهم : إن الأصنام تشفع لهم .
(1/1848)
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
{ وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ } الآية : معناها أن الكفار يكرهون توحيد الله ويحبون الإشراك به ، ومعنى { اشمأزت } انقبضت من شدة الكراهية وروي أن هذه الآية نزلت حين قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة النجم ، فألقى الشيطان في أمنيته حسبما ذكرنا في الحج ، فاستبشر الكفار بما ألقى الشيطان من تعظيم اللات والعزى ، فلما أذهب الله ما ألقى الشيطان استكبروا واشمأزوا .
(1/1849)
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)
{ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } أي ظهر لهم يوم القيامة خلاف ما كانوا يظنون لأنهم كانوا يظنون ظنوناً كاذبة . ال الزمخشري : المراد بذلك تعظيم العذاب الذي يصيبهم ، أي ظهر لهم من عذاب الله ما لم يكن في حسابهم فهو كقوله في الوعد : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 17 ] وقيل : معناها عملوا أعمالاً حسبوها حسنات ، فإذا هي سيئات وقال الحسن : ويل لأهل الربا من هذه الآية وهذا على أنها من المسلمين والظاهر أنها في الكفار .
(1/1850)
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)
{ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } معنى حاق حل ونزل وقال ابن عطية وغيره : إن هذا على حذف مضاف تقديره : حاق بهم جزاء ما كانوا به يستهزئون ، ويحتمل أن يكون الكلام دون حذف وهو أحسن ، ومعناه حاق بهم جزاء ما كانوا به يستهزؤون لأنهم كانوا في الدنيا يستهزؤون ، إذا خوفوا بعذاب الله ، ويقولون متى هذا الوعد .
(1/1851)
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50)
{ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ } يحتمل وجهين أحدهما وهو الأظهر : أن يريد على علم مني بالمكاسب والمنافع ، والآخر : على علم الله باستحقاقي لذلك ، وإنما هنا تحتمل وجهين : أحدهما وهو الأظهر : أن تكون ما كافة و { على عِلْمٍ } في موضع الحال ، والآخر أن تكون { ما } اسم إن و { على عِلْمٍ } خبرها وإنما قال : أوتيته بالضمير المذكر وهو عائد على النعمة للحمل على المعنى { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ } ردّ على الذي قال إنما أوتيته على علم { قَدْ قَالَهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني قارون وغيره .
(1/1852)
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
{ قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } قال علي بن أبي طالب وابن مسعود : هذه أرجى آية في القرآن ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية واختلف في سببها فقيل : في وحشي قاتل حمزة ، لما أراد أن يسلم وخاف أن لا يغفر له ما وقع فيه من قتل حمزة ، وقيل : نزلت في قوم آمنوا ولم يهاجروا ، ففتنوا فافتتنوا ثم ندموا وظنوا أنهم لا توبة لهم ، وهذا قول عمر بن الخطاب : وقد كتب بها إلى هشام بن العاصي ، لما جرى له ذلك وقيل : نزلت في قوم من أهل الجاهلية ، قالوا : ما ينفعنا الإسلام لأننا قد زينا ، وقتلنا النفوس فنزلت الآية فيهم ، ومعناها مع ذلك على العموم في جميع الناس إلى يوم القيامة على تفصيل نذكره ، وذلك أن الذين أسرفوا على أنفسهم ، إن أراد بهم الكفار فقد اجتمعت الأمة على أنهم إذا أسلموا غفر لهم كفرهم وجميع ذنوبهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " الإسلام يَجُبْ ما قبله " ، وأنهم إن ماتوا على الكفر فإن الله لا يغفر لهم ، بل يخلدهم في النار ، وإن أراد به العصاة من المسلمين فإن العاصي إذا تاب غفر له ذنوبه ، وإن لم يتب فهو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ، فالمغفرة المذكورة في هذه الآية ، يحتمل أن يريد بها المغفرة للكفار إذا أسلموا أونن للعصاة إذا تابوا ، أو للعصاة وإن لم يتوبوا إذا تفضل الله عليهم بالمغفرة ، والظاهر أنها نزلت في الكفار ، وأن المغفرة المذكورة هي لهم إذا أسلموا ، والدليل على أنها في الكفار ما ذكر بعدها إلى قوله : { قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت وَكُنتَ مِنَ الكافرين } [ الزمر : 59 ] .
(1/1853)
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55)
{ واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ } يعني اتبعوا القرآن وليس أن بعض القرآن أحسن من بعض ، لأنه حسن كله . إنما المعنى أن يتبعوا بأعمالهم ما فيه من الأوامر . ويجتنبوا ما فيه من النواهي ، فالتفضيل الذي يقتضيه أحسن إنما هو في الإتباع ، قيل : يعني الناسخ دون المنسوخ وهذا بعيد .
(1/1854)
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)
{ أَن تَقُولَ نَفْسٌ } في موضع مفعول من أجله تقديره : كراهية أن تقول نفس وإنما ذكر النفس لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكفار { فِي جَنبِ الله } أي في حق الله وقيل : في أمر الله وأصله من الجنب بمعنى الجانب ثم استعير لهذا المعنى { الساخرين } أي المستهزئين { بلى } جواب للنفس التي حكى كلامها ولا يجاوب ببلى إلا النفي وهي هنا جواب لقوله : { لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ المتقين } ؛ لأنه في معنى النفي ، لأن لو حرف امتناع . وتقرير الجواب بل قد جاءك الهدى من الله بإرساله الرسل وإنزاله الكتب . وقال ابن عطية : هي جواب لقوله : { لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً } فإن معناه يقتضي أن العمر يتسع للنظر فقيل له { بلى } على وجه الرد عليه ، والأول أليق بسياق الكلام لأن قوله : { قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي } تفسير لما تضمنته بلى { وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } يحتمل أن يريد سواد اللون حقيقة أو يكون عبارة عن شدة الكرب { بِمَفَازَتِهِمْ } أصله من الفوز والتقدير بسبب فوزهم ، وقيل معناه : بفضائلهم { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } أي قائم بتدبير كل شيء .
{ مَقَالِيدُ } مفاتيح وقيل خزائن واحدها إقليد ، وقيل لا واحد لها من لفظها وأصلها كلمة فارسية ، وقال عثمان بن عفان : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مقاليد السموات والأرض فقال : هي لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله وأستغفر الله هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحي ويميت وهو على كل شيء قدير . فإن صح هذا الحديث فمعناه أن من قال هذه الكلمات صادقاً مخلصاً نال الخيرات والبركات من السموات والأرض لأن هذه الكلمات توصل إلى ذلك فكأنها مفاتيح له { والذين كَفَرُو } الآية قال الزمخشري : إنها متصلة بقوله { وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ } وما بينهما من الكلام اعتراض .
(1/1855)
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)
{ أَفَغَيْرَ الله } منصوب بأعبد { تأمروني } حذف إحدى النونين تخفيفاً وقرئ بإدغام إحدى النونين في الأخرى .
(1/1856)
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)
{ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } دليل على إحباط عمل المرتد مطلقاً خلافاً للشافعي في قوله : لا يحبط عمله إلا إذا مات على الكفر ، فإن قيل : الموحى إليهم جماعة والخطاب بقوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ } لواحد : فالجواب أنه أوحى إلى كل واحد منهم على حدته ، فإن قيل : كيف خوطب الأنبياء بذلك وهم معصومون من الشرك ، فالجواب أن ذلك على وجه الفرض والتقدير : أي لو وقع منهم شرك لحبطت أعمالهم ، لكنهم لم يقع منهم شرك بسبب العصمة ، ويحتمل أن يكون الخطاب لغيرهم وخوطبوا هم ليدل المعنى على غيرهم بالطريق الأولى .
(1/1857)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
{ وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } أي ما عظموه حق تعظيمه ولا وصفوه بما يجب له ولا نزهوه عما لا يليق به ، والضمير في قدروا لقريش وقيل : اليهود { والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } المقصود بهذا تعظيم جلال الله والردّ على الكفار الذين ماقدروا الله حق قدره ، ثم اختلف الناس فيها كاختلافهم في غيرها من المشكلات ، فقالت المتأولة : إن القبضة واليمين عبارة عن القدرة وقال ابن الطيب إنها صفة زائدة على صفات الذات ، وأما السلف الصالح فسلموا علم ذلك إلى الله ، ورأوا أن هذا من المتشابه الذي لا يعلم علم حقيقته إلا الله ، وقد قال ابن عباس ما معناه : إن الأرض في قبضته والسموات مطيوات كل ذلك بيمينه ، وقال ابن عمر ما معناه : أن الأرض في قبضة اليد الوحدة ، والسموات مطويات باليمين الأخرى لأن كلتا يديه يمين .
(1/1858)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)
{ وَنُفِخَ فِي الصور } هو القرن الذين ينفخ فيه إسرافيل ، وهذه النفخة نفخة الصعق وهو الموت ، وقد قيل : إن قبلها نفخة الفزع ولم تذكر في هذه الآية { إِلاَّ مَن شَآءَ الله } قيل : يعني جبريل وإسرافيل ، وميكائيل وملك الموت ، وثم يميتهم الله بعد ذلك وقيل : استثناء الأنبياء وقيل الشهداء { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى } هي نفخة القيام { قِيَامٌ يَنظُرُونَ } إنه من النظر ، وقيل : من الانتظار أي ينتظرون ما يفعل بهم .
(1/1859)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)
{ وَوُضِعَ الكتاب } يعني صحائف الأعمال وإنما وحّدها لأنه أراد الجنس وقيل : هو اللوح المحفوظ { وَجِيءَ بالنبيين } ليشهدوا على قومهم { والشهدآء } يحتمل أن يكون جمع شاهد أو جمع شهيد في سبيل الله ، والأول أرجح لأن فيه معنى الوعيد ، ولأنه أليق بذكر الأنبياء الشاهدين ، والمراد على هذا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنهم يشهدون على الناس وقيل : يعني الملائكة الحفظة { وَقُضِيَ بَيْنَهُم } الضمير لجميع الخلق .
(1/1860)
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
{ زُمَراً } في الموضعين جمع زمرة وهي الجماعة من الناس وقال صلى الله عليه وسلم : " أول زمرة يدخلون الجنة وجوههم على مثل القمر ليلة البدر ، والزمرة الثانية على مثل أشد نجم في السماء إضاءة ثم هم بعد ذلك منازل " { خَزَنَتُهَآ } جمع خازن حيث وقع { كَلِمَةُ العذاب } يعني القضاء السابق بعذابهم { فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } إنما قال في الجنة و { فُتِحَتْ } أبوابها بالواو وقال في النار { فُتِحَتْ } بغير واو لأن أبواب الجنة كانت مفتحة قبل مجيء أهلها ، والمعنى حتى إذا جاؤها وأبوابها مفتحة ، فالوالو واو الحال وجواب إذا على هذا محذوف ، وأما أبواب النار فإنها فتحت حين جاؤوها ، فوقع قوله : فتحت جواب الشرط فكأنه بغير واو وقال الكوفيون : الواو في أبواب الجنة واو الثمانية ، لأن أبواب الجنة ثمانية وقيل : الواو زائدة ز { فُتِحَتْ } هو الجواب { وَأَوْرَثَنَا الأرض } يعني أرض الجنة والوارثة هنا استعارة كأنهم ورثوا موضع من لم يدخل الجنة { نَتَبَوَّأُ } أي ننزل من الجنة حيث نشاء ونتخذه مسكناً { حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش } أي محدقين به دائرين حوله { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } الضمير لجميع الخلق كالموضع الأول ، ويحتمل هنا أن يكون للملائكة والقضاء بينهم توفية أجورهم على حسب منازلهم { وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين } يحتمل أن يكون القائل لذلك الملائكة أو جميع الخلق أو أهل الجنة لقوله : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ يونس : 10 ] .
(1/1861)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)
{ تَنزِيلُ الكتاب } ذكر في الزمر .
(1/1862)
غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
{ ذِي الطول } أي ذي الفضل والإنعام ، وقيل : الطول : الغنى والسعة .
(1/1863)
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)
{ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي البلاد } جعل لا يغررك بمعنى لا يحزنك ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ، ووعيد للكفار .
(1/1864)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)
{ والأحزاب } يراد بهم عاد وثمود وغيرهم { لِيَأْخُذُوهُ } أي ليقتلوه { لِيُدْحِضُواْ } أي ليبطلوا به الحق .
(1/1865)
وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
{ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ } أي وجب قضاؤه .
(1/1866)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)
{ وَمَنْ حَوْلَهُ } عطف على { الذين يَحْمِلُونَ } { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } إن قيل : ما فائدة قوله { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } ، ومعلوم أن حملة العرش ومن حوله يؤمنون بالله؟ فالجواب أن ذلك إظهار لفضيلة الإيمان وشرفه ، قال ذلك الزمخشري ، وقال : إن فيه فائدة أخرى وهي : أن معرفة حملة العرش بالله تعالى من طريق النظر والاستدلال ، كسائر الخلق لا بالرؤية ، وهذه نزعته إلى مذهب المعتزلة في استحالة رؤية الله .
{ وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } أصل الكلام وسعت رحمتك وعلمك كل شيء فالسعة في المعنى مسندة إلى الرحمة والعلم ، وإنما أسندتا إلى الله تعالى في اللفظ لقصد المبالغة في وصف الله تعالى بهما كأن ذاته رحمة وعلم واسعان كل شيء .
(1/1867)
وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
{ وَقِهِمُ السيئات } يحتمل أن يكون المعنى قهم السيئات نفسها ، بحيث لا يفعلونها ، أو يكون المعنى : قِهِمْ جزاء السيئات ، فلا تؤاخذهم بها .
(1/1868)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ الله أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } المقت البغض الذي يوجبه ذنب أو عيب ، وهذه الحال تكون للكفار عند دخولهم النار؛ فإنهم إذا دخلوها مقتوا أنفسهم ، أي مقت بعضهم بعضاً ، ويحتمل أن يمقت كل واحد منهم نفسه فتناديهم الملائكة وتقول لهم : مقت الله لكم في الدنيا على كفركم أكبر من مقتكم أنفسكم اليوم . فقوله : لمقت الله مصدر مضاف إلى الفاعل ، وحذف المفعول لدلالة مفعول مقتكم عليه وقوله : { إِذْ تُدْعَوْنَ } ظرف العامل فيه { مَقْتُ الله } عاماً من طريق المعنى ، ويمتنع أن يعمل فيه من طريق قوانين النحو ، لأن مقت الله مصدر فلا يجوز أن يفصل بينه وبين بعض صلته ، فيحتاج أن يقدر اللظرف عامل ، وعلى هذا جاز بعضهم الوقف على قوله { أَنفُسَكُمْ } ، والابتداء بالظرف وهذا ضعيف ، لأن المراعى المعنى . وقد جعل الزمخشري { مَقْتُ الله } عاماً في الظرف ولم يعتبر الفصل .
(1/1869)
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
{ قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين } هذه الآية كقوله : { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 28 ] فالموتة الأولى عبارة عن كونهم عدماً ، أو كونهم في الأصلاب ، أو في الأرحام ، والمؤتة الثانية الموت المعروف ، والحياة الأولى حياة الدنيا ، والحياة الثانية حياة البعث في القيامة . وقيل : الحياة الأولى حياة الدنيا ، والثانية : الحياة في القبر ، والموتة الأولى الموت المعروف ، والموتة الثانية بعد حياة القبر ، وهذا قول فاسد لأنه لا بدّ من الحياة للبعث فتجيء الحياة ثلاثة مرات .
فإن قيل : كيف اتصال قولهم أمتّنا اثنتين وأحييتنا اثنتين بما قبله؟ فالجواب : أنهم كانوا في الدنيا يكفرون بالبعث ، فلما دخلوا النار مقتوا أنفسهم على ذلك ، فأقروا به حينئذ ليرضوا الله بإقرارهم ، حينئذ فقولهم : { أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين } إقرار بالبعث على أكمل الوجوه ، طمعاً منه أن يخرجوا عن المقت الذي مقتهم الله؛ إذ كانوا يدعون إلى الإسلام فيكفرون { فاعترفنا بِذُنُوبِنَا } الفاء هنا رابطة معناها التسبب ، فإن قيل : كيف يكون قولهم : { أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين } سبباً لاعترافهم بالذنوب؟ فالجواب أنهم كانوا كافرين بالبعث ، فلمّا رأوا الإماتة والإحياء قد تكرر عليهم ، علموا أن الله قادر على البعث فاعترفوا بذنوبهم ، وهي إنكار البعث ، وما أوجب لهم إنكاره من المعاصي ، فإن من لم يؤمن بالآخرة لا يبالي بالوقوع في المعاصي . { ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ } الباء سببية للتعليل ، والإشارة بذلكم يحتمل أن تكون للعذاب الذي هم فيه ، أو إلى مقت ألله لهم أو مقتهم لأنفسهم ، والأحسن أن تكون إشارة إلى ما يقتضيه سياق الكلام وذلك أنهم لما قالوا : { فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ } ، كأنهم قيل لهم : لا سبيل إلى الخروج ، فالإشارة بقوله { ذَلِكُم } إلى عدم خروجهم من النار .
(1/1870)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13)
{ يُرِيكُمْ آيَاتِهِ } يعني : العلامات الدالة عليه من مخلوقاته ومعجزات رسله { وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً } يعني المطر .
(1/1871)
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)
{ رَفِيعُ الدرجات } يحتمل أن يكون المعنى مرتفع الدرجات ، فيكون بمعنى العالي أو رافع درجات عباده في الجنة وفي الدنيا { يُلْقِي الروح } يعني الوحي { مِنْ أَمْرِهِ } يحتمل أن يريد الأمر الذي هو و احد الأمور ، أو الأمر بالخبر ، فعلى الأول تكون من للتبعيض أو لإبتداء الغاية ، وعلى الثاني تكون لابتداء الغاية أو بمعنى الباء { يَوْمَ التلاق } يعني يوم القيامة ، وسمي بذلك لأن الخلائق يلتقون فيه ، وقيل : لأنه يلتقي فيه أهل السموات والأرض وقيل : لأنه يلتقي الخلق مع ربهم ، والفاعل في ينذر ضمير يعود على من يشاء أو على الروح أو على الله .
(1/1872)
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)
{ لِّمَنِ الملك اليوم } هذا من كلام الله تعالى تقريراً للخلق يوم القيامة؛ فيجيبونه ويقولون : { لِلَّهِ الواحد القهار } وقيل : بل هو الذي يجيب نفسه؛ لأنه الخلق يسكتون هيبة له ، وقيل : إن القائل { لِّمَنِ الملك اليوم } ملك .
(1/1873)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)
{ يَوْمَ الأزفة } يعني القيامة ومعناه القريبة { إِذِ القلوب لَدَى الحناجر } معناه أن القلوب قد صعدت من الصدور ، لشدّة الخوف حتى بلغت الحناجر ، فيحتمل أن يكون ذلك حقيقة أو مجاز عبرّ به عن شدّة الخوف . والخناجر جمع حنجرة وهي الحلق { كَاظِمِينَ } أي محزونين حزناً شديداً كقوله : { فَهُوَ كَظِيمٌ } [ يوسف : 84 ] وقيل : معناه يكظمونت حزنهم أي يطمعون أن يخفوه ، والحال تغلبهم ، وانتصابه على الحال من أصحاب القلوب ، لأن معناه قلوب الناس ، أو من المفعول في أنذرهم أو من القلوب . وجمعها جمع المذكر لمّا وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ } أي صديق مشفق { وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } يحتمل أن يكون نفي الشفاعة وطاعة الشفيع أو نفي طاعة خاصة . كقولك : ما جاءني رجل صالح فنفيت الصلاح ، وإن كان قد جاءك رجل غير صالح ، والأول أحسن لأن الكفار ليس لهم من يشفع فيهم .
(1/1874)
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
{ يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين } أي استراق النظر ، والخائنة مصدر بمعنى الخيانة ، أو وصف للنظرة وهذا الكلام متصل بما تقدم من ذكر الله ، واعترض في أثناء ذلك بوصف القيامة لما استطرد إليه من قوله : { لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق } [ غافر : 15 ] .
(1/1875)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23)
{ وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } حجة ظاهرة وهي المعجزات .
(1/1876)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25)
{ قَالُواْ اقتلوا أَبْنَآءَ الذين آمَنُواْ مَعَهُ } هذا القتل غير القتل الذي كانوا يقتلون أولاً قبل ميلاد موسى .
(1/1877)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)
{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذروني أَقْتُلْ موسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } المعنى : أنه لا يبالي بدعاء موسى لربه ، ولا يخاف من ذلك إن قتله ، ويظهر من قوله : { ذروني } أنه كان في الناس من ينازعه في قتل موسى ، وذلك يدل على أن فرعون كان قد اضطرب أمره بظهور معجزات موسى { أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الفساد } يعني فساد أحوالهم في الدنيا ، أو أن يظهر وقرئ بالواو فقط ويظهر بفتح الياء ، ورفع الفساد على الفاعلية وبضم الياء ونصب الفساد على المفعولية .
(1/1878)
وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)
{ وَقَالَ موسى إِنِّي عُذْتُ } الآية لما سمع موسى ما همّ به فرعون من قتله ، استعاذ بالله فعصمه الله منه ، وقال : { مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ } ليشمل فرعون وغيره ، وليكون فيه وصف لغير فرعون بذلك الوصف القبيح .
(1/1879)
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
{ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } قيل : أسم هذا الرجل حبيب وقيل : حزقيل ، وقيل : شمعون بالشين المعجمة ، وروي أن هذا الرجل المؤمن كان ابن عم فرعون ، فقوله : من آل فرعون صفة للمؤمن ، وقيل : كان من بني إسرائيل ، فقوله : { مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } على هذا يتعلق بقوله { يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } ، والأول أرجح؛ لأنه لا يحتاج فيه إلى تقديم وتأخير ، ولقوله : { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله } لأن هذا كلام قريب شفيق ، ولأن بني إسرائيل حينئذ كانوا أذلاء ، بحيث لا يتكلم أحد منهم بمثل هذا الكلام ، و { أَن يَقُولَ } في موضع المفعول من أجله تقديره : أتقتلونه من أجل أن يقول ربي الله { وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ } أي إن كان موسى كاذباً في دعوى الرسالة فلا يضركم كذبه ، فلأي شيء تقتلونه ، فإن قيل : كيف قال : وإن يك كاذباً بعد أن كان قد آمن به؟ فالجواب أنه لم يقل ذلك على وجه التكذيب له ، وإنما قاله على وجه الفرض والتقدير ، وقصد بذلك المحاجّة لقومه ، فقسم أمر موسى إلى قسمين ، ليقيم عليهم الحجة في ترك قتله على كل وجه من القسمين { وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ } قيل : إن بعض هنا بمعنى كل وذلك بعيد ، وإنما قال بعض ولم يقل كل مع أن الذي يصيبهم هو كل ما يعدهم ليلاطفهم في الكلام ، ويبعد عن التعصب لموسى ، ويظهر النصيحة لفرعون وقومه ، فيرتجى إجابتهم للحق .
(1/1880)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30)
{ وَقَالَ الذي آمَنَ } هو المؤمن المذكور أولاً ، وقيل : هو موسى عليه السلام وهذا بعيد ، وإنما توهموا ذلك لأنه صرح هنا بالإيمان ، وكان كلام المؤمن أولاً غير صريح؛ بل كان فيه تورية وملاطفة لقومه ، إذ كان يكتم إيمانه ، والجواب : أنه كتم إيمانه أول الأمر ، ثم صرح به بعد ذلك ، وجاهرهم مجاهرة ظاهرة ، لما وثق بالله حسبما حكى الله من كلامه إلى قوله { فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله } [ غافر : 44 ] .
(1/1881)
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
{ يَوْمَ التناد } التنادي يعني : يوم القيامة وسمي بذلك لأن المنادي ينادي الناس ، وذلك قوله : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ } [ الإسراء : 71 ] وقيل : لأن بعضهم ينادي بعضاً ، أن ينادي أهل الجنة { أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً } [ الأعراف : 44 ] وينادي أهل النار : { أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء } [ الأعراف : 50 ] { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } أي منطلقين إلى النار ، وقيل : هاربين من النار .
(1/1882)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
{ وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات } قيل : هو يوسف بن يعقوب ، وقيل : هو يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب ، والبينات التي جاء بها يوسف لم تعيّن لنا ، واختلف هل أدركه فرعون موسى أو فرعون آخر قبله لأن كل من ملك مصر يقال له فرعون { قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } كلام هذا لا يدل على أنهم مؤمنون برسالة يوسف ، وإنما مرادهم : لم يأت أحد يدّعي الرسالة بعد يوسف ، قاله ابن عطية ، وقال الزمخشري : إنما هو تكذيب لرسالة من بعده مضموم إلى تكذيب رسالته .
(1/1883)
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
{ الذين يُجَادِلُونَ } بدل من مسرف مرتاب وإنما جاز إبدال الجمع من المفرد ، لأنه من معنى الجمع ، كأنه قال : كل مسرف { كَبُرَ مَقْتاً } فاعل كبر مصدر يجادلون ، وقال الزمخشري : الفاعل ضمير من هو مسرف .
(1/1884)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
{ الأسباب } هنا الطريق وقيل : الأبواب ، وكررها للتفخيم وللبيان { فَأَطَّلِعَ } بالرفع عطف على أبلغ وبالنصف بإضمار أن في جواب لعل ، لأن الترجّي غير واجب ، فهو كالتمني في انتصاب جوابه ، ولا نقول : إن لعل أشربت معنى ليت كما قال بعض النجاة { تَبَابٍ } أي خسران .
(1/1885)
يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)
{ مَتَاعٌ } أي يتمتع به قليلاً ، فإن قيل : لم كرر المؤمن نداء قومه مراراً؟ فالجواب : أن ذلك لقصد التنبيه لهم ، وإظهار الملاطفة والنصيحة ، فإن قيل : لم جاء بالواو في قوله و { ياقوم } في الثالث دون الثاني؟ فالجواب : أن الثاني بيان للأول وتفسير ، فلم يصح عطفه عليه بخلاف الثالث ، فإنه كلام آخر فصح عطفه عليه .
(1/1886)
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
{ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } أي ليس لي علم بربوبيته والمراد بنفي العلم نفي المعلوم كأنه قال : وأشرك به ما ليس بإله ، وإذا لم يكن إلهاً لم يصح ربوبيته .
(1/1887)
لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43)
{ لاَ جَرَمَ } أي لا بد ولا شك { لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ } قال ابن عطية ليس له قدر ولا حق ، يجب أن يدعى إليه كأنه قال : أتدعونني إلى عبادة ما لا خطر له في الدنيا ، ولا في الآخرة ، ويحتمل اللفظ أن يكون معناه : ليس له دعوة قائمة ، أي لا يدعى أحد إلى عبادته .
(1/1888)
فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45)
{ فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ } دليل على أن من فوض أمره إلى الله عز وجل كان الله معه .
(1/1889)
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
{ النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } النار بدل من سوء العذاب ، أو مبتدأ أو خبر مبتدأ مضمر ، وعرضهم عليها من حين موتهم إلى يوم القيامة ، وذلك مدّة البرزخ بدليل قوله : يوم القيامة { أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب } واستدل أهل السنة بذلك على صحة ما ورد من عذاب القبر ، وروي أن أرواحهم في أجواف طيور سود تروح بهم وتغدوا إلى النار { غُدُوّاً وَعَشِيّاً } قيل : معناه في كل غدوة وعشية من أيام الدنيا ، وقيل : المعنى على تقدير : ما بين الغدوة والعشية ، لأن الآخرة لا غدوة فيها ولا عشية .
(1/1890)
وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
{ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ } إن قيل : هلا قال الذين في النار لخزنتها فلم صرح باسمها؟ فالجواب أن في ذكر جهنم تهويلاً ليس في ذكر الضمير { وَمَا دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } يحتمل أن يكون من كلام خزنة جهنّم فيكون متّصلاً بقوله : { فادعوا } أن يكون من كلام الله تعالى استنئنافاً .
(1/1891)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)
{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } قيل : إن هذا خاص فيمن أظهره الله على الكفار ، وليس بعام؛ لأن من الأنبياء من قتله قومه كزكريا ويحيى ، والصحيح أنه عام ، والجواب عما ذكروه أن زكريا ويحيى لم يكونا من الرسل ، إنما كانا من الأنبياء الذي ليسوا بمرسلين ، وإنما ضمن الله نصر الرسل خاصة ، لا نصر الأنبياء كلهم { وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } يعني يوم القيامة ، والأشهاد جمع شاهد أو شهيد ، ويحتمل أن يكون بمعنى الحضور . أو الشهادة على الناس أو الشهادة في سبيل الله ، والأظهر أنه بمعنى الشهادة على الناس لقوله : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] .
(1/1892)
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
{ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ } يحتمل أنهم لا يتعذرون أو يعتذرون ، ولكن لا تنفعهم معذرتهم ، والأول أرجح لقوله : { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 36 ] فنفى الاعتذار والانتفاع به .
(1/1893)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)
{ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } يعني وعده لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالنصر والظهور على أعدائه الكفار { بالعشي والإبكار } قيل : العشي صلاة العصر والإبكار صلا الصبح ، وقيل : العشي بعد العصر إلى الغروب والإبكار من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس .
(1/1894)
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
{ إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ } يعني كفار قريش { إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ } أي تكبر وتعاظم ، يمنعهم من أن يتبعوك أن ينقادوا إليك وقيل : كبرهم أنهم أرادوا النبوة لأنفسهم ، ورأوا أنهم أحق بها ، والأول أظهر لأن إرادتهم النبوة لأنفسهم حسد ، والأول هو الكبر { مَّا هُم بِبَالِغِيهِ } أي لا يبلغون ما يقتضيه كبرهم من الظهور عليك ، ومن نيل النبوة { فاستعذ بالله } أي استعذ من شرهم لأنهم أعداء لك ، واستعذ من مثل حالهم في الكبر والحسد ، واستعذ بالله من جميع أمورك على الاطلاق .
(1/1895)
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)
{ لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } الخلق هنا مصدر مضاف إلى المفعول ، والمراد به الاستدلال على البعث ، لأن الإله الذي خلق السموات والأرض على كبرها ، قادر على إعادة الأجسام بعد فنائها ، وقيل : المراد توبيخ الكفار المتكبرين ، كأنه قال : خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس ، فما بال هؤلاء يتكبرون على خالقهم ، وهم من أصغر مخلوقاته وأحقرهم ، والأول أرجح لوروده في مواضع من القرآن لأنه قال بعده : { إِنَّ الساعة لآتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا } فقدم الدليل ، ثم ذكر المدلول .
(1/1896)
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ } الدعاء هنا هو الطلب والرغبة ، وهذا وعد مقيّد بالمشيئة ، وهي موافقة القدر لمن أراد أن يستجيب له ، وقيل : أدعوني هنا : اعبدوني بدليل قوله بعده : { إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } وقوله صلى الله عليه وسلم : " الدعاء هو العبادة ثم تلا الآية " { أَسْتَجِبْ لَكُمْ } لكم على هذا القول بمعنى أغفر لكم أو أعطيكم أجوركم . والأول أظهر ، ويكون قوله : { يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } بمعنى يستكبرون عن الرغبة إليّ كما قال صلى الله عليه وسلم : " من لم يسأل الله يغضب عليه " وأما قوله صلى الله عليه وسلم : " الدعاء هو العبادة " فمعناه أن الدعاء والرغبة إلى الله هي العبادة ، لأن الدعاء يظهر فيه افتقار العبد وتضرعه إلى الله { دَاخِرِينَ } أي صاغرين .
(1/1897)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61)
{ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } ذكر في { يونس : 67 ] .
(1/1898)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)
{ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات } يعني المستلذات ، لأنه جاء ذكر الطيبات في معرض الإنعام فيراد به المستلذات ، وإذا جاء في معرض التحليل والتحريم فيراد به الحلال والحرام { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } هذا متصل بما قبله ، قال ذلك ابن عطية والزمخشري وتقديره : ادعوه مخلصين قائلين { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } ولذلك قال ابن عباس : من قال لا إله إلا الله فليقل الحمد لله رب العالمين ، ويحتمل أن يكون الحمد لله استئنافاً .
(1/1899)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67)
{ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } أراد الجنس ولذلك أفرد لفظه مع أن الخطاب لجماعة { ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ } ذكر الأشد في سورة يوسف عليه السلام : [ يوسف : 22 ] واللام تتعلق بفعل محذوف تقديره : ثم يبقيكم لتبلغوا وكذلك ليكونوا أو أما لتبلغوا أجلاً مسمى فمتعلق بمحذوف آخر تقديره : فعل ذلك بكم لتبلغوا أجلاً مسمى هو الموت أو يوم القيامة .
(1/1900)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72)
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُجَادِلُونَ } يعني كفار قريش ، وقيل : هم أهل الأهواء كالقدرية وغيرهم ، وهذا مردود بقوله : { الذين كَذَّبُواْ بالكتاب } إلا إن جعلته منقطعاً مما قبله وذلك بعيد { إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ } العامل في إذ يعملون وجعل الظرف الماضي من الموضع المستقبل لتحقيق الأمر به { إِذِ الأغلال } أي يجرون والحميم الماء الشديد الحرارة { يُسْحَبُونَ * فِي الحميم } أي يجرون في الحميم والماء الشديد الحرارة { ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ } هذا من قولك : سجرت التنور إذا ملأته بالنار ، فالمعنى أنهم يدخلون فيها كما يدخل الحطب في التنور ، ولذلك قال مجاهد في تفسيره : توقد بهم النار ( تمرحون ) من المرح وهو الأشر والبطر . وقيل : الفخر والخيلاء .
(1/1901)
ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)
{ فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } إن قيل : قياس النظم أن يقول بئس مدخل الكافرين لأنه تقدم قبله ادخلوا . فالجواب أن الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثوى { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ } أصل إما إن نريك ودخلت ما الزائدة بعد إن الشرطية ، وجواب الشرط محذوف تقديره : إن أريناك بعض الذي نعدهم من العذاب قرّت عينك بذلك ، وإن توفيناك قبل ذلك فإلينا يرجعون ، فننتقم منهم أشد الانتقام .
(1/1902)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
{ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ } روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى بعث ثمانية آلاف رسول وفي حديث آخر أربعة آلاف ، وفي حديث أبي ذر أن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً منهم الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر؛ فذكر الله بعضهم في القرآن ، فهم الذي قص عليه ولم يذكر سائرهم فهم الذين لم يقصص عليه { فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله قُضِيَ بالحق } قال الزمخشري : أمر الله : القيامة ، وقال ابن عطية : المعنى إذا أراد الله إرسال رسول قضي ذلك ، ويحتمل أن يريد بأمر الله إهلاك المكذبين للرسل لقوله : { وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون } هنالك في الموضعين يراد به الوقت والزمان ، وأصله ظرف كان ثم وضع موضع ظرف الزمان ( الأنعام ) هي الإبل والبقر والضأن والمعز ، فقوله : { لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا } يعني الإبل ، و { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } يعني اللحوم والمنافع منها اللبن والصوف وغير ذلك { وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً } يعني قطع المسافة البعيدة ، وحمل الأثقال على الإبل ، { تُحْمَلُونَ } يريد الركوب عليها وإنما كرره بعد قوله : { لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا } لأنه أراد الركوب الأول المتعارف في القرى والبلدان وبالحمل عليها ، الأسفار البعيدة ، قاله ابن عطية { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } هذا عموم بعد ما قدم من الآيات المخصوصة ولذلك وبخهم بقوله : { فَأَيَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ } .
(1/1903)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)
{ فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم } الضمير يعود على الأمم المكذبين وفي تفسير علمهم وجوه : أحدها أنه ما كانوا يعتقدون من أنهم لا يبعثون ولا يحاسبون ، والثاني أنه علمهم بمنافع الدنيا ووجوه كسبها ، والثالث أنه علم الفلاسفة الذين يحتقرون علوم الشرائع وقيل : الضمير يعود على الرسل ، أي فرحوا بما أعطاهم الله من العلم وشرائعه أو بما عندهم من العلم بأن الله ينصرهم على من يكذبهم ، وأما الضمير في { وَحَاقَ بِهِم } فيعود على الكفار باتفاق ، ولذلك ترجع أن يكون الضمير في { فَرِحُواْ } يعود عليهم ليتسق الكلام ( سنة الله ) انتصب على المصدرية والله سبحانه أعلم .
(1/1904)
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)
{ فُصِّلَتْ } أي بينت وقيل قطعت إلى سورة وآيات { قُرْآناً عَرَبِيّاً } منصوب بفعل مضمر على التخصيص أو حال أو مصدر { لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } معناه يعلمون الأشياء ويعقلون الدلائل إذا نظروا فيها ، وذلك هو العلم الذي يوجب التكليف وقيل : معناه يعلمون الحق والإيمان والأول عام وهذا خاص ، والأول أولى لقوله : { فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ } لأن الإعراض ليس من صفة المؤمنين ، وقيل : يعلمون لسان العرب فيفهمون القرآن إذ هو بلغتهم ، وقوله : { لِّقَوْمٍ } يتعلق بتنزيل أو فصلت والأحسن أن يكون صفة لكتاب { فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } أي لا يقبلون ولا يطيعون ، وعبّر عن ذلك بعدم السماع على وجه المبالغة .
(1/1905)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
{ في أَكِنَّةٍ } جمع كنان وهو الغطاء ، { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } عبارة عن بعدهم عن الإسلام { فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ } قيل : معناه اعمل على دينك ، وإننا عاملون على ديننا فهي متاركة ، وقيل : اعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك ، فهو تهديد .
(1/1906)
الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7)
{ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ بالآخرة } هي زكاة المال ، وإنما خصها بالذكر لصعوبتها على الناس ، ولأنها من أركان الإسلام ، وقيل : يعني بالزكاة التوحيد ، وهذا بعيد . وإنما حمله على ذلك لأن الآيات مكية . لم تفرض الزكاة إلا بالمدينة ، والجواب أن المراد النفقة في طاعة الله مطلقاً ، وقد كانت مأموراً بها بمكة .
(1/1907)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
{ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } أي غير مقطوع من قولك ، مننت الحبل إذا قطعته وقيل : غير منقوص وقيل : غير محصور ، وقيل : لا يمن عليهم به لأن المن يكدر الإحسان .
(1/1908)
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)
{ أَندَاداً } أي أمثالاً وأشباهاً من الأصنام وغيرها .
(1/1909)
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)
{ رَوَاسِيَ } يعني الجبال { وَبَارَكَ فِيهَا } أكثر خيرها { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا } أي أرزاق أهلها ومعاشهم وقيل : يعني أقوات الأرض من المعادن وغيرها من الأشياء التي بها قوام الأرض ، والأول أظهر { في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } يريد أن الأربعة كملت باليومين الأولين ، فخلق الأرض في يومين وجعل فيها ما ذكر في يومين ، فتلك أربعة أيام وخلق السموات في يومين فتلك ستة أيام حسبما ذكر في مواضع كثيرة ، ولو كانت هذه الأربعة الأيام زيادة على اليومين المذكورين قبلها لكانت الجملة ثماينة أيام ، بخلاف ما ذكر في المواضع الكثيرة { سَوَآءً } بالنصب مصدر تقديره : استوت استواء قاله الزمخشري ، وقال ابن عطية انتصب على الحال للسائلين قيل : معناه لمن سأل عن أمرها ، وقيل : معناه للطالبين لها ، ويعني بالطلب على هذا حاجة الخلق إليها ، وحرف الجر يتعلق بمحذوف على القول الأول تقديره : يبين ذلك لمن سأل عنه ويتعلق بقدّر على القول الثاني .
(1/1910)
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
{ ثُمَّ استوى إِلَى السمآء } أي قصد إليها ، ويقتضي هذا الترتيب : أن الأرض خلقت قبل اسماء ، فإن قيل : كيف الجمع بين ذلك وبين قوله : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النزاعات : 30 ] فالجواب لأنها خلقت قبل السماء ثم دحيت بعد ذلك { وَهِيَ دُخَانٌ } روي أنه كان العرش على الماء ، فأخرج إليه من الماء دخان فارتفع فوق الماء فأيبس الماء فصار أرضاً ، ثم خلق السموات من الدخان المرتفع { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } هذه عبارة عن لزوم طاعتها ، كما يقول الملك لمن تحت يده : افعل كذا شئت أو أبيت ، أي : لا بد لك من فعله ، وقيل : تقديره ائتيا طوعاً وإلا أتيتما كرهاً ، ومعنى هذا الإتيان تصويرهما على الكيفية التي أرادها الله ، وقوله لهما { أَتَيْنَا } مجاز ، وهو عبارة عن تكوينه لهما وكذلك قولهما : أتينا طائعين عبارة عن أنهما لم يمتنعا عليه حين أراد تكوينهما ، وقيل : بل ذلك حقيقة وأنطق الله الأرض والسماء بقولهما : { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } وإنما جمع طائعين جمع العقلاء لوصفهما بأوصاف العقلاء { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماوات } أي صنعهنّ والضمير للسموات السبع ، وانتصابها على التمييز تفسيراً للضمير ، وأعاد عليها ضمير الجماعة المؤنثة لأنها لا تعقل ، فهو كقولك : الجذوع انكسرت ، وجمعهما جمع المفكر العاقل في قوله : { طَآئِعِينَ } ، لأنه وصفهما بالطوع ، وهو فعل العقلاء فعاملهما معاملتهم فهو كقوله في [ سورة يوسف : 4 ] : { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } وأعاد ضمير التثنية في قوله : { قَالَتَآ أَتَيْنَا } لأنه جعل الأرض فرقة والسماء أخرى { وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا } أي أوحى إلى سكانها من الملائكة ، وإليها نفسها ما شاء من الأمور ، التي بها قوامها وصلاحها ، وأضاف الأمر إليها لأنه فيها { وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ } يعني الشمس والقمر والنجوم ، وهي زينة للسماء الدنيا سواء كانت فيها أو فيما فوقها من السموات { وَحِفْظاً } تقديره : وحفظناها حفظاً ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله ، على المعنى كأنه قال : وخلقنا المصابيح زينة وحفظاً .
(1/1911)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)
{ فَإِنْ أَعْرَضُواْ } الضمير لقريش { صَاعِقَةً } يعني واقعة واحدة شديدة ، وهي مستعارة من صاعقة النار ، وقرئ صعقة بإسكان العين وهي الواقعة من قولك صعق الرجل { إِذْ جَآءَتْهُمُ الرسل مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } معنى ما بين الأيدي المتقدم ، ومعنى ما خلف المتأخر ، فمعنى الآية : أن الرسل جاؤوهم في الزمان المتقدم ، واتصلت نذارتهم إلى زمان عاد وثمود ، حتى قامت عليهم الحجة بذلك من بين أيديهم ، ثم جاءتهم رسل آخرون عند اكتمال أعمارهم ، فذلك من خلفهم ، قال ابن عطية وقال الزمخشري : معناه أتوهم من كل جانب ، فهو عبارة عن اجتهادهم في التبليغ إليهم ، وقيل : أخبروهم بما أصاب مَنْ قبلهم ، فذلك ما بين أيديهم ، وأنذرهم ما يجري عليهم في الزمان المستقبل وفي الآخرة فذلك { إِوَمِنْ خَلْفِهِمْ } { أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله } أنْ حرف عبارة وتفسير أو مصدرية على تقدير بأن لا تعبدوا إلا الله { فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } ليس فيه اعتراف الكفار بالرسالة ، وإنما معناه بما أرسلتم على قولكم ودعواكم ، وفيه تهكم .
(1/1912)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)
{ رِيحاً صَرْصَراً } قيل : إنه من الصرّ وهو شدة البرد فمعناه باردة وقيل : إنه من قولك : صرصر إذا صوت فمعناه لها صوت هائل في أيام نحسات معناه من النحس وهو ضد السعد وقيل شديدة البرد وقيل : متتابعة والأول أرجح ، وروي أنها كانت آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء وقرئ نحسات بإسكان الحاء وكسرها فأما الكسر فهو جمع نحس وهو صفة وأما الإسكان فتخفيف من الكسر على وزن فعل أو وصف بالمصدر .
(1/1913)
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)
{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُ } أي بينا لهم فهو بمعنى البيان ، لا بمعنى الإرشاد .
(1/1914)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
{ فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي يدفعون بعنف { وَجُلُودُهُم } يعني الجلود المعروفة ، وقيل : هو كناية عن الفروج والأول أظهر { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ } الآيات يحتمل أن تكون من كلام الجلود ، أو من كلام الله تعالى أو الملائكة ، وفي معناه وجهان : أحدهما لم تقدروا أن تستتروا من سمعكم وأبصاركم وجلودكم ، لأنها ملازمة لكم ، فلم يمكنكم احتراس من ذلك فشهدت عليكم ، والآخر لم تتحفظوا من شهادة سمعكم وأبصاركم وجلودكم ، لأنكم لم تبالوا بشهادتها ، ولم تظنوا أنها تشهد عليكم ، وإنما استترتم لأنكم ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون ، وهذا أرجح لاتّساق ما بعده معه ، ولما جاء في الحديث الصحيح عن ابن مسعود : " أنه قال اجتمع ثلاثة نفر قرشيان وثقفي ، قليل فقه قلوبهم كثير شحم بطونهم ، فتحدثوا بحديث فقال أحدهم : أترى الله يسمع ما قلنا : قال الآخر نه يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أخفينا فقال الآخر : إن كان يسمع منا شيئاً فإنه يسمعه كله فنزلت الآية " { أَرْدَاكُمْ } أي أهلككم؛ من الردى بمعنى الهلاك { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين } هو من العتب بمعنى الرضا أي : إن طلبوا العتبى ليس فيهم من يعطاها { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ } أي يسرنا لهم قرناء سوء من الشياطين وغواة الإنس { فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } ما بين أيديهم ما تقدم من أعمالهم ، وما خلفهم ما هم عازمون عليه ، أو ما بين أيديهم من أمر الدنيا وما خلفهم من أمر الآخرة ، والتكذيب بها { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول } أي سبق عليهم القضاء بعذابهم { في أُمَمٍ } أي في جملة أمم ، وقيل : في بمعنى مع .
(1/1915)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)
{ وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن } روي أن قائل هذه المقالة أبو جهل بن هشام لعنه الله { والغوا فِيهِ } المعنى لا تسمعوا إليه ، وتشاغلوا عند قراءته برفع الأصوات وإنشاد الشعر ، وشبه ذلك حتى لايسمعه أحد ، وقيل : معناه قعوا فيه وعيبوه .
(1/1916)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31)
{ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا } يقولون هذا إذا دخلوا جهنم ، فقولهم مستقبل ذكر بلفظ الماضي ، ومعنى اللذين أضلانا : كل من أغوانا من الجن والإنس ، وقيل : المراد ولد آدم الذي سن القتل وإبليس الذي أمر بالكفر والعصيان ، وهذا باطل لأن ولد آدم مؤمن عاصي ، وإنما طلب هؤلاء من أضلهم بالكفر { تَحْتَ أَقْدَامِنَا } أي في أسفل طبقة من النار { ثُمَّ استقاموا } قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، استقاموا على قولهم : ربنا الله ، فصح إيمانهم ودام توحيدهم وقال عمر بن الخطاب : المعنى استقاموا على الطاعة وترك المعاصي ، وقول عمر أكمل وأحوط ، وقول أبي بكر أرجح لما روى أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية وقال : قد قالها قوم كفروا فمن مات عليها فهو ممن استقام " ، وقال بعض الصوفية : معنى استقاموا أعرضوا عما سوى الله ، وهذه حالة الكمال على أن اللفظ لا يقتضيه { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة } يعني عند الموت { وَلَكُمْ فِيهَا } الضمير للآخرة { مَا تَدَّعُونَ } أي ما تطلبون .
(1/1917)
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
{ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله } أي : لا أحد أحسن قولاً منه ، ويدخل في ذلك كل من دعا إلى عبادة الله أو طاعته على العموم ، وقيل : المراد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل المؤذنون وهذا بعيد؛ لأنها مكية ، وإنما شرع الأذان بالمدينة ولكن المؤذنين يدخلون في العموم { وَمَا يُلَقَّاهَا } الضمير يعود على الخلق الجميل الذي يتضمنه قوله : { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ } { ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } أي حظ من العقل والفضل وقيل : حظ عظيم في الجنة .
(1/1918)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38)
{ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ } إن شرطية دخلت عليها ما الزائدة ، ونزغ الشيطان : وساوسه وأمره بالسوء { الذي خَلَقَهُنَّ } الضمير يعود على الليل والنهار والشمس والقمر ، لأن جماعة ما لا يعقل كجماعة المؤنث ، أو كالواحدة المؤنثة ، وقيل : إنما يعود على الشمس والقمر ، وجمعهما لأن الاثنين جمع هذا بعيد { فالذين عِندَ رَبِّكَ } الملائكة { لاَ يَسْأَمُونَ } أي لا يملون .
(1/1919)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
{ الأرض خَاشِعَةً } عبارة عن قلة النبات { اهتزت } ذكر في [ الحج : 5 ] { نَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى } تمثيل واحتجاج على صحة البعث .
(1/1920)
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40)
{ إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ في آيَاتِنَا } أي يطعنون عليها ، وهذا الإلحاد هو بالتكذيب وقيل : باللغو فيه حسبما تقدم في السورة { أَفَمَن يلقى فِي النار } الآية : قيل إن المراد بالذي يلقى بالنار أبو جهل ، وبالذي يأتي آمناً عثمان بن عفان وقيل : عمار بن ياسر واللفظ أعم من ذلك { اعملوا مَا شِئْتُمْ } تهديد لا إباحة .
(1/1921)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
{ إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر } الذكر هنا القرآن باتفاق ، وخبر إن محذوف تقديره؛ { ضَلُّواْ } أو هلكوا ، وقيل : خبرها : { أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } ، وذلك بعيد .
{ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } أي كريم على الله ، وقيل منيع من الشيطان { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل } أي ليس فيما تقدمه ما يبطله ، ولا يأتي ما يبطله والمراد على الجملة أنه لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } في معناه قولان : أحدهما : ما يقول الله لك من الوحي والشرائع ، إلا مثل ما قال للرسل من قبلك ، والآخر : ما يقول لك الكفار من التكذيب والأذى إلا مثل ما قالت الأمم المتقدمون لرسلهم ، فالمراد على هذا تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بالتأسي ، والمراد على القول الأوّل أنه عليه الصلاة والسلام أتى بما جاءت به الرسل فلا تنكر رسالته { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ } يحتمل أن يكون مستأنفاً ، أو يكون هو المقول في الآية المتقدمة ، وذلك على القول الأوّل ، وأما القول الثاني فهو مستأنف منطقع مما قبله .
{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } الأعجمي الذي لا يفصح ، ولا يبين كلامه سواء كان من العرب أو من العجم ، والعجمي الذي ليس من العرب فصيحاً كان أو غير فصيح ، ونزلت الآية بسبب طعن قريش في القرآن ، فالمعنى أنه كان أعجمياً لطعنوا فيه وقالوا : هلا كان مبيناً فظهر أنهم يطعنون فيه على أي وجه كان { ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } هذا من تمام كلامهم ، والهمزة للإنكار ، والمعنى : أنه لو كان القرآن أعجمياً لقالوا قرآن أعجمي ، ورسول عربي ، أو مرسل إليه عربي ، وقيل : إنما طعنوا فيه لما فيه من الكلمات العجمية ، كسجين وإستبرق ، فقالوا أقرآن أعجمي وعربي ، أي مختلط من كلام العرب والعجم ، وهذا يجري على قراءة أعجمي بفتح العين { في آذَانِهِمْ وَقْرٌ } عبارة عن إعراضهم عن القرآن ، فكأنهم صم لا يسمعون وكذلك { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } عبارة عن قلة فهمهم له { أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } فيه قولان : أحدهما عبارة عن قلة فهمهم فشبههم بمن ينادي من مكان بعيد فهو لايسمع الصوت ولا يفقه ما يقال ، والثاني : أنه حقيقة في يوم القيامة أي ينادون من مكان بعيد ليسمعوا أهل الموقف توبيخهم ، والأوّل أليق بالكنايات التي قبلها .
(1/1922)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
{ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } يعني القدر .
(1/1923)
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)
{ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة } أي علم زمان وقوعها ، فإذا سئل أحد عن ذلك قال : الله هو الذي يعلمها { مِّنْ أَكْمَامِهَا } جمع كم بكسر الكاف وهو غلاف الثمرة قبل ظهورها .
{ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي } العامل في يوم محذوف والمراد به يوم القيامة ، والضمير للمشركين وقوله : { أَيْنَ شُرَكَآئِي } توبيخ لهم ، وأضاف الشركاء إلى نفسه على زعم المشركين ، كأنه قال : الشركاء الذين جعلتم لي { قالوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } المعنى : أنهم قالوا : أعلمناك ما منا من يشهد اليوم بأن لك شريكاً ، لأنهم كفروا يوم القيامة بشركائهم .
(1/1924)
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
{ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ } أي ضل عنهم شركاؤهم ، بمعنى أنهم لا يرونهم حينئذ ، فما على هذا موصولة ، أو ضل عنهم قولهم الذي كانوا يقولون من الشرك ، فما على هذا مصدرية { وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } الظنّ هنا بمعنى اليقين ، والمحيص المهرب : أي علموا أنهم لا مهرب لهم من العذاب؛ وقيل : يوقف على ظنوا ، ويكون مالهم؛ استئنافاً ، وذلك ضعيف .
(1/1925)
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)
{ لاَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير } أي لا يمل من الدعاء بالمال والعافية وشبه ذلك ، ونزلت الآية في الوليد بن المغيرة ، وقيل في غيره من الكفار واللفظ أعم من ذلك .
(1/1926)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)
{ لَيَقُولَنَّ هذا لِي } أي هذا حقي الواجب لي ، وليس تفضلاً من الله ولا يقول هذا إلا كافر ، ويدل على ذلك قوله : { وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً } وقوله : { وَلَئِن رُّجِعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى } معناه إن بعثت تكون لي الجنة ، وهذا تخرص وتكبر ، وروي أن الآية نزلت في الوليد بن المغيرة { وَنَأَى بِجَانِبِهِ } ذكر في [ الإسراء : 83 ] أي كثير ، وذكر الله هذه الأخلاق على وجه الذم لها .
(1/1927)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52)
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ الله } الآي معناها أخبروني إن كان القرآن من عند الله ثم كفرتم به ألستم في شقاق بعيد؟ فوضع قوله ( من أحل ) موضع الخطاب لهم .
(1/1928)
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ } الضمير لقريش وفيها ثلاثة أقوال : أحدها أن الآيات في الآفاق هي فتح الأقطار للمسلمين ، والآيات في أنفسهم هي فتح مكة فجمع ذلك وعداً للمسلمين بالظهور ، وتهديداً للكفار ، واحتجاجاً عليهم بظهور الحق وخمول الباطل ، والثاني أن الآيات في الآفاق : هي ما أصاب الأمم المتقدمة من الهلاك وفي أنفسهم يوم بدر الثالث أن الآيات في الآفاق : هي خلق السماء وما فيها من العبر والآيات ، وفي أنفسهم خلقة بني آدم وهذا ضعيف لأنه قال : { سَنُرِيهِمْ } بسين الاستقبال ، وقد كانت السموات وخلقة بني آدم مرئية والأول هو الراجح { أَنَّهُ الحق } الضمير للقرآن أو للإسلام { مُّحِيطٌ } أي بعلمه وقدرته وسلطانه .
(1/1929)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
{ حم* عسق } الكلام فيه كسائر حروف الهجاء حسبما تقدم في سورة البقرة ، وقد حكى الطبري أن رجلاً سأل ابن عباس عن حم عسق فأعرض عنه ، فقال حذيفة : إنما كرهها ابن عباس ، لأنها نزلت في رجل من أهل بيته اسمه عبد الله يبني مدينة على نهر من أنهار المشرق ، ثم يخسف الله بها في آخر الزمان ، والرجل على هذا أبو جعفر المنصور ، والمدينة بغداد . وقد ورد في الحديث الصحيح أنها يخسف بها { كَذَلِكَ يوحي إِلَيْكَ } الكاف نعت لمصدر محذوف ، والإشارة بذلك إلى تضمنه القرآن أو السورة ، وقيل : الإشارة لقوله : { حم* عسق } فإن الله أنزل بهذه الأحرف بعينها في كتاب أنزله ، وفي صحة هذا نظر { الله العزيز الحكيم } اسم الله فاعل بيوحِي ، وأما على قراءة { } بالفتح فهو فاعل بفعل مضمر ، دل عليه يوحي كأن قائلاً قال : من الذي أوحى؟ فقيل : الله .
(1/1930)
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
{ تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ } أي يتشققن من خوف الله وعظيم جلاله ، وقيل : من قول الكفار : أتخذ الله ولداً ، فهي كالآية التي في مريم قال ابن عطية : وما وقع للمفسرين هنا من ذكر الثقل ونحوه : مردود لأن الله تعالى لا يوصف به { مِن فَوْقِهِنَّ } الضمير للسموات والمعنى يتشققن من أعلاهن ، وذلك مبالغة في التهويل ، وقيل : الضمير للأرضين وهذا بعيد ، وقيل : الضمير للكفار كأنه قال : من فوق الجماعات الكافرة التي من أجل أقوالها تكاد السموات يتفطرن ، وهذا أيضاً بعيد { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض } عموم يراد به الخصوص؛ لأن الملائكة إما يستغفرون للمؤمنين من أهل الأرض ، فهي كقوله : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } [ غافر : 7 ] . وقيل : إنّ يستغفرون للذين آمنوا نسخ هذه الآية ، وهذا باطل ، لأن النسخ لا يدخل في الأخبار ، ويحتمل أن يريد بالاستغفار طلب الحلم عن أهل الأرض مؤمنهم وكافرهم ، ومعناه : الإمهال لهم ، وأن لا يعالجوا بالعقوبة فيكون عاماً ، فإن قيل : ما وجه اتصال قوله : { والملائكة يُسَبِّحُونَ } الآية : بما قبلها؟ فالجواب أنا إن فسرنا تفطر السموات بأنه من عظمة الله؛ فإنه يكون تسبيح الملائكة أيضاً تعظيماً له ، فينتظم الكلام ، وإن فسرنا تفطرها بأنه من كفر بني آدم؛ فيكون تسبيح الملائكة تنزيهاً لله تعالى عن كفر بني آدم ، وعن أقوالهم القبيحة .
(1/1931)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)
{ أُمَّ القرى } هي مكة ، والمراد أهلها ، ولذلك عطف عليه { وَمَنْ حَوْلَهَا } يعني من الناس { يَوْمَ الجمع } يعني يوم القيامة وسمي بذلك لأن الخلائق يجتمعون فيه .
(1/1932)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
{ أَمِ اتخذوا } أم منقطعة ، والأولياء هنا المعبودون من دون الله .
(1/1933)
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10)
{ فَحُكْمُهُ إِلَى الله } أي ما اختلفهم فيه أنتم والكفار من أمر الدين فحكمه إلى الله؛ بأن يعاقب المبطل ويثيب المحق؛ أو ما اختلفتم فيه من الخصومات فتحاكموا فيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، كقوله : { فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } [ النساء : 59 ] .
(1/1934)
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
{ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } يعني الإناث { وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً } يحتمل أن يريد الإناث أو الأصناف { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } معنى يذرؤكم يخلقكم نسلاً بعد نسل وقرناً بعد قرن ، يكثركم ، والضمير المجرور يعود على الجعل الذي يتضمنه قوله : { جَعَلَ لَكُم } ، وهذا كما تقول كلمت زيداً كلاماً أكرمته فيه ، وقيل : الضمير للتزويج الذي دل عليه قوله { أَزْوَاجاً } ، وقال الزمخشري : تقديره { يَذْرَؤُكُمْ } في هذا التدبير . وهو أن جعل الناس والأنعام أزواجاً ، والضمير في يذرؤكم خطاب للناس؛ والأنعام غلَّب فيه العقلاء على غيرهم ، فإن قيل : لم قال يذرؤكم فيه وهلا قال يذرؤكم به؟ فالجواب : أن هذا التدبير جعل كالمنبع والمعدن للبث والتكثير قاله الزمخشري { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } تنزيه لله تعالى عن مشابهة المخلوقين ، قال كثير من الناس : الكاف زائدة للتأكيد ، والمعنى ليس مثله شيء ، وقال الطبري وغيره ليست بزائدة ، ولكن وضع مثله موضع هو ، والمعنى ليس كهو شيء قال الزمخشري : وهذا كما تقول : مثلك لا يبخل ، والمراد : أنت لا تبخل ، فنفى البخل عن مثله والمراد نفيه عن ذاته .
(1/1935)
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
{ مَقَالِيدُ } قد ذكر في [ الزمر : 63 ] .
(1/1936)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً } اتفق دين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مع جميع الأنبياء في أصول الاعتقادات ، وذلك هو المراد هنا ، ولذلك فسره بقوله : { أَنْ أَقِيمُواْ الدين } يعني إقامة الإسلام الذي هو توحيد الله وطاعته ، والإيمان برسله وكتبه وبالدار الآخرة ، وأما الأحكام الفروعية ، فاختلفت فيها الشرائع فليست تراد هنا { أَنْ أَقِيمُواْ } يحتمل أن تكون أن في موضع نصب بدلاً من قوله : { مَا وصى } أو في موضع خفض بدلاً من به ، أو في موضع رفع على خبر ابتداء مضمر ، أو تكون مفسرة لا موضع لها من الإعراب { كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } أي صعب الإسلام على المشركين { الله يجتبي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ } الضمير في إليه يعود على الله تعالى ، وقيل على الدين .
(1/1937)
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
{ وَمَا تفرقوا } يعني أهل الأديان المختلفة من اليهود والنصارى وغيرهم { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ } يعني القضاء السابق بأن لا يفصل بينهم في الدنيا { وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب } يعني المعاصرين لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى ، وقيل : يعني العرب ، والكتاب على هذا القرآن { لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ } الضمير للكتاب ، أو للدين أو لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .
(1/1938)
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
{ فَلِذَلِكَ فادع } أي إلى ذلك الذي شرع الله ، فادع الناس فاللام بمعنى إلى ، والإشارة بذلك إلى قوله شرع لكم من الدين أو إلى قوله : ما تدعوهم إليه وقيل : ءن اللام بمعنى أجل ، والإشارة إلى التفرق والاختلاف ، أي لأجل ما حدث من التفرق ادع إلى الله وعلى هذا يكون قوله : واستقم معطوفاً ، وعلى الأول يكون مستأنفاً فيوقف على { فادع واستقم } { كَمَآ أُمِرْتَ } أي دُمْ على ما أمرت به من عبادة الله وطاعته وتبليغ رسالته { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } لضمير الكفار وأهواؤهم ما كانوا يحبون من الكفر والباطل كله { وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } قيل : يعني العدل في الأحكام إذا تخاصموا إليه ، ويحتمل أن يريد بالعدل في دعائهم إلى دين الإسلام ، أي أمرت أن أحملكم على الحق { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } أي لا جدال ولا مناضرة ، فإن الحق قد ظهر وأنتم تعاندون .
(1/1939)
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
{ والذين يُحَآجُّونَ فِي الله } أي يجادلون المؤمنين في دين الإسلام ، ويعني كفار قريش ، وقيل : اليهود { مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ } الضمير يعود على الله أي من بعد ما استجاب الناس له ودخلوا في دينه ، وقيل : يعود على الدين وقيل : على محمد صلى الله عليه وسلم والأول أظهر وأحسن { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ } أي زاهقة باطلة .
(1/1940)
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)
{ أَنزَلَ الكتاب } يعني جنس الكتاب { بالحق } أي بالواجب أو متضمناً الحق { والميزان } قال ابن عباس وغيره يعني : العدل ، ومعنى إنزال العدل ، إنزال الأمر به في الكتب المنزلة ، وقيل يعني الميزان المعروف ، فإن قيل : وما وجه اتصال ذكر الكتاب والميزان بذكر الساعة؟ فالجواب أن الساعة يوم الجزاء والحساب ، فكأنه قال : أعدلوا وافعلوا الصواب قبل يوم الذي تحاسبون فيه على أعمالكم { لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ } جاء قريب ، بالتذكير ، لأن تأنيث الساعة غير حقيقي ، ولأن المراد به وقت الساعة .
(1/1941)
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)
{ يَسْتَعْجِلُ بِهَا } أي يطلبون تعجيلها استهزاء بها ، وتعجيزاً للمؤمنين { يُمَارُونَ } أي يجادلون ويخالفون .
(1/1942)
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)
{ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } يعني الرزق الزائد على المضمون لكل حيوان في قوله : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] أي ما تقوم به الحياة ، فإن هذا على العموم لكل حيوان طول عمره ، والزائد خاص بمن شاء الله .
(1/1943)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
{ حَرْثَ الآخرة } عبارة عن العمل لها ، وكذلك حرث الدنيا ، وهو مستعار من حرث الأرض؛ لأن الحراث يعمل وينتظر المنفعة بما عمل { نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } عبارة عن تضعيف الثواب { نُؤْتِهِ مِنْهَا } أي نؤته منها ما قدّر له ، لأن كل واحد لا بد أن يصل إلى ما قسم له { وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ } هذا للكفار ، أو لمن كان يريد الدنيا خاصة ، ولا رغبة له في الآخرة .
(1/1944)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)
ِ { أَمْ لَهُمْ } أم منقطعة للإنكار والتوبيخ ، والشركاء الأصنام وغيرها ، وقيل : الشياطين { شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله } الضمير في شرعوا للشركاء ، وفي لهم : للكفار ، وقيل : بالعكس والأول أظهر { لَمْ يَأْذَن } بمعنى : لم يأمر ، والمراد بما شرعوا من البواطل في الاعتقادات ، وفي الأعمال ، كالبحيرة والوصيلة وغير ذلك .
{ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل } أي لولا القضاء السابق بأن لا يقضي بينهم في الدنيا لقضي بينهم فيها .
(1/1945)
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
{ تَرَى الظالمين } يعني في الآخرة .
(1/1946)
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
{ ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ } تقديره يبشر به ، وحذف الجار والمجرور { إِلاَّ المودة فِي القربى } فيه أربعة أقوال : الأول أن القرى بمعنى القرابة ، وفي بمعنى من أجل ، والمعنى لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تودوني لأجل القرابة التي بيني وبينكم؛ فالمقصد على هذا استعطاف قريش ، ولم يكن فيهم بطن إلا وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة : الثاني أن القربى بمعنى الأقارب ، أو ذوي القربى ، والمعنى إلا أن تودّوا أقاربي وتحفظوني فيهم ، والمقصد على هذا وصية بأهل البيت : الثالث أن القربى قرابة الناس بعضهم من بعض ، والمعنى أن تودوا أقاربكم ، والمقصود على هذا وصية بصلة الأرحام الرابع أن القربى التقرّب إلى الله ، والمعنى إلا أن تتقربوا إلى الله بطاعته ، والاستثناء على القول الثالث والرابع منقطع ، وأما على الأول والثاني فيحتمل الانقطاع ، لأن المودّة ليست بأجر ، ويحتمل الاتصال على المجاز كأنه قال : لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة فجعل المودة كالأجر { يَقْتَرِفْ } أي يكتسب { نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } يعني مضاعفة الثواب .
(1/1947)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
{ أَمْ يَقُولُونَ } أم منقطعة للإنكار والتوبيخ { فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ } فالمقصد بهذا قولان : أحدهما أنه رد على الكفار في قولهم افترى على الله كذباً : أي لو افتريت على الله كذباً لختم على قلبك ، ولكنك لم تفتر على الله كذباً فقد هداك وسددك ، والآخر أن المراد : إن يشأ الله يختم على قلبك بالصبر على أقوال الكفار ، وتحمل أذاهم { وَيَمْحُ الله الباطل } هذا فعل مستأنف غير معطوف على ما قبله ، لأن الذي قبله مجزوم ، وهذا مرفوع فيوقف على ما قبله ويبدأ به ، وفي المراد به وجهان : أحدهما أنه من تمام ما قبله : أي لو افتريت على الله كذباً لختم على قلبك ومحا الباطل الذي كنت تفتريه لو افتريت ، والآخر أنه على وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يمحو الله الباطل وهو الكفر ، ويحق الحق وهو الإسلام .
(1/1948)
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)
{ وَهُوَ الذي يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ } { عَنْ } هنا بمعنى من ، وكأنه قال التوبة الصادرة من عباده وقبول التوبة على ثلاثة أوجه : أحدها التوبة من الكفر فهي مقبولة قطعاً والثاني التوبة من مظالم العباد فهي غير مقبولة حتى ترّد المظالم أو يستحل منها والثالث التوبة من المعاصي التي بين العبد وبين الله فالصحيح أنها مقبولة بدليل هذه الآية وقيل : إنها في المشيئة { وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات } العفو مع التوبة على حسب ما ذكرنا ، وأما العفو دون التوبة فهو على أربعة أقسام الأول العفو عن الكفر وهو لا يكون أصلاً ، والثاني العفو عن مظالم العباد وهو كذلك والثالث العفو عن الذنوب الصغائر إذا اجتنبت الكبائر ، وهو حاصل باتفاق الرابع العفو عن الكبائر فمذهب أهل السنة أنها في المشيئة ، ومذهب المعتزلة أنها لا تغفر إلا بالتوبة { وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ } فيه ثلاثة أقوال أحدها أن معنى يستجيب يجيب والذين آمنوا مفعول ، والفاعل ضمير يعود على الله تعالى أي يجيبهم فيما يطلبون منه . وقال الزمخشري : أي أصله يستجيب للذين آمنوا فحذف اللام . والثاني أن معناه يجيب و { الذين آمَنُواْ } فاعل أي يستجيب المؤمنون لربهم باتباع دينه والثالث أن معناه يطلب المؤمنون الإجابة من ربهم واستفعل هذا على بابه من الطلب ، والأول أرجح لدلالة قوله : { وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ } ؛ ولأنه قول ابن عباس ومعاذ بن جبل . { وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ } أي يزيدهم ما لا يطلبون ، زيادة على الاستجابة فيما طلبوا ، وهذه الزيادة روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها الشفاعة والرضوان .
(1/1949)
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27)
{ وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض } أي بغى بعضهم على بعض ، وطغوا؛ لأن الغنى يوجب الطغيان ، وقال بعض الصحابة : فينا نزلت لأنا نظرنا إلى أموال الكفار فتمنيناها .
(1/1950)
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
{ وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } قيل لعمر رضي الله عنه : اشتد القحط وقنط الناس . فقال : الآن يمطرون ، وأخذ ذلك من هذه الآية ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : اشتدي أزمة تنفرجي { وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ } قيل : يعني المطر فهو تكرار للمعنى الأول بلفظ آخر ، وقيل : يعني الشمس وقيل : بالعموم .
(1/1951)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)
{ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ } لا إشكال؛ لأن الدواب في الأرض وأما في السماء فقيل : يعني الملائكة وقيل : يمكن أن تكون في السماء دواب لا نعلمها نحن وقيل : المعنى أنه بث في أحدهما فذكر الاثنين كما تقول في بني فلان كذا وإنما هو في بعضهم { وَهُوَ على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ } يريد جمع الخلق في الحشر يوم القيامة .
(1/1952)
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)
{ وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } المعنى أن المصائب التي تصيب الناس في أنفسهم وأموالهم؛ إنما هي سبب الذنوب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يصيب ابن آدم خدش عود أو عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر . وقرأ نافع وابن عامر { بما كسبت } بغير فاء على أن يكون { مَآ أَصَابَكُمْ } بمعنى الذي وقرأ الباقون بالفاء على أن يكون ما أصابكم شرطاً .
(1/1953)
وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32)
{ بِمُعْجِزِينَ } قد ذكر الجواري جمع جارية وهي السفينة { كالأعلام } جمع علم وهو الجبل .
(1/1954)
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)
{ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ } الضمير في يظللن للجواري وفي ظهره للبحر ، أي لو أراد الله أن يسكن الرياح لبقيت السفن واقفة على ظهر البحر ، فالمقصود تعديد النعمة في إرسال الرياح أو تهديد بإسكانه { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا } عطف على يسكن الريح ، ومعنى يوبقهن يهلكهن بالغرق ، من شدة الرياح العاصفة والضمير فيه للسفن ، وفي { كَسَبُوا } لركابها من الناس والمعنى : أنه لو شاء لأغرقها بذنوب الناس .
(1/1955)
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)
{ وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } أي يعلمون أنه لا مهرب له من الله ، وقرأ نافع وابن عامر يعلم بالرفع على الاستئناف ، [ وقرأ الباقون ] بالنصب واختلف في إعرابه على قولين : أحدهما أنه نصب بإضمار أن بعد الواو لما وقعت بعد الشرط والجزاء؛ لأنه غير واجب . وأنكر ذلك الزمخشري وقال : إنه شاذ فلا ينبغي أن يحمل القرآن عليه ، والثاني قول الزمخشري إنه معطوف على تعليل محذوف تقديره : لينتقم منهم ويعلم ، قال : ونحوه من المعطوف على التعليل المحذوف في القرآن كثير ، ومنه قوله : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } [ مريم : 21 ] { كَبَائِرَ الإثم } ذكرنا الكبائر في [ النساء : 31 ] وقيل : كبائر الإثم : هو الشرك ، والفواحش : هي الزنا واللفظ أعم من ذلك .
{ والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ } قيل : يعني الأنصار ، لأنهم استجابوا لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ، ويظهر لي أن هذه الآية إشارة إلى ذكر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ، لأنه بدأ أولاً بصفات أبي بكر الصديق ، ثم صفات عمر بن الخطاب ، ثم صفات عثمان بن عفان ، ثم صفات علي بن أبي طالب ، فكونه جمع هذه الصفات ، ورتبها على هذا الترتيب يدل على أنه قصد بها من اتصف بذلك ، فأما صفات أبي بكر فقوله : { لِلَّذِينَ آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ، وإنما جعلناها صفة أبي بكر وإن جميعهم متصفاً بها ، لأن أبا بكر كانت له فيها مزية لم تكن لغيره فقد روي : لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجحهم وورد : أنا مدينة الإيمان وأبو بكر بابا . وقال أبو بكر : لو كشف الغطاء لما ازددت إلا يقيناً والتوكل إنما يقوى بقوة الإيمان . أما صفات عمر فقوله : { والذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش } لأن ذلك هو التقوى ، وقوله : إذا ما غضبوا هم يغفرون ، وقوله : { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله } [ الجاثية : 14 ] نزلت في عمر ، وأما صفات عثمان فقوله : { والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ } لأن عثمان لما دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان تبعه ، وبادر إلى الإسلام وقوله ، { وَأَقَامُواْ الصلاة } ، لأن عثمان كان كثير الصلاة بالليل ، وفيه نزلت { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل سَاجِداً وَقَآئِماً } [ الزمر : 9 ] الآية : وروي أنه كان يحي الليل بركعة يقرأ فيها القرآن كله ، وقوله : { وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ } لأن عثمان ولي الخلافة بالشورى ، وقوله : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } ، لأن عثمان كان كثير النفقة في سبيل الله ، ويكفيك أنه جهّز جيش العسرة ، وأما صفة عليّ فقوله : { والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ } ، لأنه لما قاتلته الفئة الباغية قاتلها انتصاراً للحق ، وانظر كيف سمّى رسول الله صلى الله عليه وسلم المقاتلين لعلي الفئة الباغية حسبما ورد في الحديث الصحيح أنه قال لعمار بن ياسر تقتلك الفئة الباغية فذلك هو البغي الذي أصابه وقوله : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } إشارة إلى فعل الحسن بن عليّ حين بايع معاوية ، وأسقط حق نفسه ليصلح أحوال المسلمين ، ويحقن دماءهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحسن :
(1/1956)
" إن ابني هذا سيّد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " وقوله : { وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ } ، فأولئك ما عليهم من سبيل إشارة إلى انتصار الحسين بعد موت الحسن ، وطلبه للخلافة وقوله : { إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس } إشارة إلى بني أمية ، فإنهم استطالوا على الناس كما جاء في الحديث عنهم : أنهم جعلوا عباد الله خولاً وما الله دولاً ، ويكفيك من ظلمهم أنهم كانوا يلعنون علي بن أبي طالب على منابرهم وقوله : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ } الآية إشارة إلى صبر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما نالهم من الضر والذل ، طول مدّة بني أمية { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } سمى العقوبة باسم الذنب ، وجعلها مثلها تحرزاً من الزيادة عليها { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } هذا يدل على أن العفو عن الظلمة أفضل من الانتصار ، لأنه ضمن الأجر في العفو ، وذكر الانتصار بلفظ الإباحة في قوله : { وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } وقيل : إن الانتصار أفضل ، والأول أصح فإن قيل : كيف ذكر الانتصار في صفات المدح في قوله : { والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ } والمباح لا مدح فيه ولا ذم ، فالجواب : من ثلاثة أوجه أحدها أن المباح قد يمدح لأنه قيام بحق لا بباطل ، والثاني أن مدح الانتصار لكونه كان بعد الظلم ، تحرزاً ممن بدأ بالظلم فكأن المدح إنما هو بترك الابتداء بالظلم ، والثالث إن كانت الإشارة بذلك إلى علي بن أبي طالب حسبما ذكرنا فانتصاره محمود ، لأن قتال أهل البغي واجب لقوله تعالى : { فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي } [ الحجرات : 9 ] { يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } أي على النار { خَاشِعِينَ مِنَ الذل } عبارة عن الذل والكآبة ، ومن الذل يتعلق بخاشعين { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } فيه قولان : أحدهما أنه عبارة عن الذل ، لأن نظر الذليل بمهابة واستكانة ، والآخر أنهم يحشرون عمياً فلا ينظرون بأبصارهم ، وإنما ينظرون بقلوبهم واستبعد هذا ابن عطية والزمخشري : والظرف يحتمل أن يريد به العين أو يكون مصدراً { يَوْمَ القيامة } يتعلق بقال أو بخسروا { أَلاَ إِنَّ الظالمين } يحتمل أن يكون من كلام الذين آمنوا أو مستأنفاً من كلام الله تعالى .
(1/1957)
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)
{ لاَّ مَرَدَّ لَهُ } ذكر في [ غافر : 11 ] { مِّن نَّكِيرٍ } أي إنكار يعني لا تنكرون أعمالكم .
(1/1958)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49)
{ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً } قدم الإناث اعتناء بهنّ وتأنيساً لمن وهبهن له . قال واثلة بن الأسقع : من يمن المرأة تبكيرها بأنثى قبل الذكر ، لأن الله بدأ بالإناث وقال بعضهم : نزلت هذه الآية في الأنبياء عليهم السلام فشعيب ولوط كان لهما إناث دون ذكور ، وإبراهيم كان له ذكور دون إناث ، ومحمد صلى الله عليه وسلم جمع الإناث والذكور ، ويحيى كان عقيماً ، والظاهر أنها على العموم في جميع الناس ، إذ كل واحد منهم لا يخلو عن قسم من هذه الأقسام الأربعة التي ذكر ، وفي الآية من أدوات البيان التقسيم .
(1/1959)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً } الآية : بين الله تعالى فيها كلامه لعباده ، وجعله على ثلاثة أوجه أحدها المذكور أولاً وهو الذي يكون بإلهام أو منام والآخر أن يسمعه كلامه من وراء حجاب الثالث الوحي بواسطة الملك وهو قوله : { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } يعني ملكاً ، فيوحي بإذنه ما يشاء إلى النبي ، وهذا خاص بالأنبياء والثاني خاص بموسى وبمحمد صلى الله عليه وسلم ؛ إذ كلمة الله ليلة الإسراء ، وأما الأول فيكون للأنبياء والأولياء كثيراً ، وقد يكون لسائر الخلق ومنه ، { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل } [ النحل : 68 ] ومنه؛ منامات الناس { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً } قرأ نافع يرسل ويوحي بالرفع ، على تقدير أو هو يرسل والباقون بالنصب عطفاً على وحياً لأن تقديره : أن يوحي عطف على أن المقدرة .
(1/1960)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)
{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } الروح هنا القرآن ، والمعنى مثل هذا الوحي ، وهو بإرسال ملك أوحينا إليك القرآن ، والأمر هنا يحتمل أن يكون واحد الأمور ، أو يكون من الأمر بالشيء { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان } المقصد بهذا شيئان : أحدهما تعداد النعمة عليه صلى الله عليه وسلم ، بأن علمه الله ما لم يكن يعلم . والآخر احتجاج على نبوته لكونه أتى بما لم يكن يعلمه ولا تعلمه من أحد ، فإن قيل : أما كونه لم يكن يدري الكتاب فلا إشكال فيه ، وأما الإيمان ففيه إشكال لأن الأنبياء مؤمنون بالله قبل مبعثهم؟ فالجواب أن الإيمان يحتوي على معارف كثيرة ، وإنما كمل له معرفتها بعد بعثه ، وقد كان مؤمناً بالله قبل ذلك ، فالإيمان هنا يعني به كمال المعرفة وهي التي حصلت له بالنبوة { ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً } الضمير للقرآن .
(1/1961)
وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
{ والكتاب المبين } يعني القرآن ، و { المبين } يحتمل أن يكون بمعنى البيِّن ، أو المبيِّن لغيره .
(1/1962)
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
{ وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } أم الكتاب ، اللوح المحفوظ ، والمعنى : أن القرآن وصف في اللوح بأنه عليّ حكيم ، وقيل : المعنى أن القرآن نُسِخَ بجملته في اللوح المحفوظ ، ومنه كان جبريل ينقله ، فوصفه الله بأنه علي حكيم؛ لكونه مكتوب في اللوح المحفوظ . والأول أظهر وأشهر .
(1/1963)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)
{ أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً } الهمزة للإنكار والمعنى : أنمسك عنكم الذكر ، ونضرب من قولك : أضربت عن كذا : إذا تركته ، والذكر يراد به : القرآن ، أو التذكير ، والوعظ . وصفحاً فيه وجهان : أحدهما أنه بمعنى الإعراض ، تقول صفحت عنه إذا أعرضت عنه؛ فكأنه قال : أنترك تذكيركم إعراضاً عنكم؟ وإعراب صفحاً على هذا مصدر من المعنى ، أو مفعول من أجله ، أو مصدر في موضع الحال ، والآخر أن يكون بمعنى العفو والغفران ، فكأنه يقول : أنمسك عنكم الذكر عفواً عنكم وغفراناً لذنبوكم؟ وإعراب صفحاً على هذا مفعول من أجله ، أو مصدر في موضع الحال { أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ } قرأ نافع وحمزة والكسائي بكسر الهمزة على الشرط ، والجواب في الكلام الذي قبله ، وقرأ الباقون بالفتح على أنه مفعول من أجله .
(1/1964)
فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
{ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً } الضمير لقريش وهم المخاطبون بقوله : { أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ } [ الزخرف : 5 ] ، فإن قيل : كيف قال : إن كنتم على الشرط بحرف إن التي معناها الشك ، ومعلوم أنهم كانوا مسرفين؟ فالجواب أن في ذلك إشارة إلى توبيخهم على الإسراف ، وتجهيلهم في ارتكابه ، فكأنه شيء لا يقع من عاقل ، فلذلك وضع حرف التوقع في موضع الواقع { ومضى مَثَلُ الأولين } أي تقدّم في القرآن ذكر حال الأولين وكيفية إهلاكهم لما كفروا .
(1/1965)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ } الآية احتجاج على قريش؛ لأنهم كانوا يعترفون أن الله هو الذي خلق السموات والأرض؛ وكانوا مع اعترافهم بذلك يعبدون غيره ، ومقتضى جوابهم أن يقولوا : خلقهن الله ، فلما ذكر هذا المعنى جاءت العبارة عن الله ب { العزيز العليم } ؛ لأن اعترافهم بأنه خلق السموات والأرض يقتضي أن يعترفوا بأنه عزيز عليم ، وأما قوله : { الذي جَعَلَ لَكُمُ } فهو من كلام الله لا من كلامهم { مَهْداً } أي فراشاً على وجه التشبيه { سُبُلاً } أي طرقاً تمشون فيها .
(1/1966)
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11)
{ مَآءً بِقَدَرٍ } أي بمقدار ووزن معلوم وقيل : معناه بقضاء { كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } تمثيل للخروج من القبور؛ بخروج النبات من الأرض .
(1/1967)
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)
{ الأزواج كُلَّهَا } يعني أصناف الحيوان والنبات وغير ذلك .
(1/1968)
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
{ لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ } الضمير يعود على ما تركبون { ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ } يحتمل أن يكون هذا الذكر بالقلب أو باللسان ، ويحتمل أن يريد النعمة في تسخير هذا المركوب أو النعمة على الاطلاق ، وكان بعض السلف إذا ركب دابة يقول : الحمد لله الذي هدانا للإسلام ، ثم يقول : { سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } أي مطيقين وغالبين { وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } اعتراف بالحشر فإن قيل : ما مناسبة هذا للركوب؟ فالجواب : أن راكب السفينة أو الدابة متعرض للهلاك بما يخاف من غرق السفينة ، أو سقوطه عن الدابة ، فأمر بذكر الحشر ليكون مستعداً للموت الذي قد يعرض له ، وقيل يذكر عند الركوب ركوب الجنازة .
(1/1969)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)
{ وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا } الضمير في جعلوا لكفار العرب ، وفي { لَهُ } لله تعالى ، وهذا الكلام متصل بقوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ } [ الزخرف : 9 ] الآية والمعنى أنهم جعلوا الملائكة بنات الله ، فكأنهم جعلوا جزءاً من عباده نصيباً له وحظاً دون سائر عباده . وقال الزمخشري : معناه أنهم جعلوا الملائكة جزءاً منه وقال بعض اللغويين : الجزء في اللغة الإناث واستشهد على ذلك ببيت شعر قال الزمخشري وذلك كذب على اللغة والبيت موضوع .
(1/1970)
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)
{ أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ } أم للإنكار والرد على الذين قالوا : إن الملائكة بنات الله ومعنى أصفاكم : خصكم . أي كيف يتخذ لنفسه البنات وهي أدنى ، وأصفاكم بالبنين وهم أعلى { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً } أي إذا بشر بالأنثى ، وقد ذكر المعنى في النحل والمراد أنهم يكرهون البنات فيكف ينسبونها إلى الله؟ تعالى الله عن قولهم .
(1/1971)
أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
{ أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية } المراد بمن ينشأ في الحلية النساء ، والحلية هي الحلي من الذهب والفضة ، وشبه ذلك . ومعنى ينشأ فيها يكبر وينبت في استعمالها . وقرئ ينشأ بضم الياء وتشديد الشين بمعنى يُربِّي فيها ، والمقصد الرد على الذين قالوا : الملائكة بنات الله . كأنه قال : أجعلتم لله من ينشأ في الحلية وذلك صفة النقص ، ثم أتبعها بصفة نقص أخرى وهي قوله : { وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ } ، يعني أن الأنثى إذا خاصمت أو تكلمت لم تقدر أن تبين حجَّتها لنقص عقلها ، وقلَّ ما تجد امرأة إلا تفسد الكلام وتخلط المعاني ، فكيف ينسب لله من يتصف بهذه النقائص؟ وإعراب ينشأ مفعول بفعل مضمر تقديره : أجعلتم لله من ينشأ أو مبتدأ وخبره محذوف تقديره أو من ينشأ في الحلية خصصتم به الله .
(1/1972)
وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)
{ وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً } الضمير في جعلوا لكفار العرب ، فحكى عنهم ثلاثة أقوال شنيعة أحدها أنهم نسبوا إلى الله الولد ، والآخر أنهم نسبوا إليه البنات دون البنين ، والثالث أنهم جعلوا الملائكة المكرمين إناثاً ، وقرئ { عِبَادُ الرحمن } بالنون ، والمراد به قرب الملائكة وتشريفهم كقوله والذين عند ربك ، وقرئ عباد بالباء جمع عبد والمراد به أيضاً الاختصاص والتشريف { أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ } هذا ردّ على العرب في قولهم : إن الملائكة إناث ، والمعنى لم يشهدوا خلق الملائكة ، فكيف يقولون ما ليس لهم به علم؟ { سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } أي تكتب شهادتهم التي شهدوا بها على الملائكة ، ويسألون عنها يوم القيامة .
(1/1973)
وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)
{ وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ } الضمير في { قَالُواْ } للكفار ، وفي { عَبَدْنَاهُمْ } للملائكة ، وقال ابن عطية للأصنام : والأول أظهر وأشهر ، والمعنى : احتجاج احتجّ به الذين عبدوا الملائكة ، وذلك أنهم قالوا : لو أراد الله أن لا نعبدهم ما عبدناهم ، فكونه يمهلنا وينعم علينا : دليل على أنه يرضى عبادتنا لهم ، ثم رد الله عليهم بقوله : { مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ } يعني أن قولهم بلا دليل وحجة ، وإنا هو تخرُّص منهم .
(1/1974)
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
{ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ } أي من قبل القرآن ، وهذا أيضاً رد عليهم؛ لكونهم ليس لهم كتاب يحتجون به { بَلْ قالوا إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ } أي على دين وطريقة ، والمعنى أنهم ليس لهم حجة ، وإنما هم مقلدو آبائهم .
(1/1975)
وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23)
{ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ } الآية المعنى كما اتبع هؤلاء الكفار آباءهم بغير حجة اتبع كل من كان قبلهم من الكفار آباءهم بغير حجة ، بل بطريق التقليد المذموم .
(1/1976)
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
{ قال أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ } هذا رد على الذين اتبعوا آباءهم ، والمعنى قل لهم أتتبعونهم ولو جئتكم بدين أهدى من الدين الذي وجدتم عليه آباءكم ، وقرىء { قال أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ } والفاعل ضمير يعود على النذير المتقدم ، وأما قراءة { قال } بالأمر فهو خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم ، أمره الله أن يقول ذلك لقريش وقيل : هو للنذير المتقدم ، أمره الله أن يقول ذلك لقومه ، والأول أظهر ، وعلى هذا تكون هذه الجملة اعتراضاً بين قصة المتقدمين ، فإنه قوله : { قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } : حكاية عن الكفار المتقدمين ، وكذلك قوله : { فانتقمنا مِنْهُمْ } : يعني من المتقدمين .
(1/1977)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29)
{ إِنَّنِي بَرَآءٌ } أي بريء وبراء في الأصل مصدر ثم استعمل صفة ، ولذلك استوى فيها الواحد والجماعة كَعَدْل وشبهه { إِلاَّ الذي فَطَرَنِي } يحتمل أن يكون استثناء منقطعاً ، وذلك إن كانوا لا يعبدون الله ، أو يكون متصلاً إن كانوا يعبدون الله ويعبدون معه غيره ، وإعرابه على هذا بدل { مِّمَّا تَعْبُدُونَ } فهو في موضع خفض ، أو منصوب على الاستثناء فهو في موضع نصب { سَيَهْدِينِ } قال هنا : سيهدين ، وقال مرة أخرى : فهو يهدين ، ليدل على أن الهداية في الحال والاستقبال [ من الله ] { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } ضمير الفاعل في جعلها يعود على إبراهيم عليه السلام ، وقيل على الله تعالى ، والأول أظهر ، والضمير يعود على الكلمة التي قالها وهي : { إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ } ، ومعناه : التوحيد ولذلك قيل : يعود على الإسلام لقوله : { هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ } [ الحج : 78 ] ، وقيل : يعود على { لاَ إله إِلاَّ الله } [ الصافات : 35 ] ، والمعنى متقارب : أي جعل إبراهيم تلك الكلمة ثابتة في ذريته؛ لعل من أشرك منهم يرجع إلى التوحيد ، والعقب هو الولد وولد الولد ما تناسلا أبداً { بَلْ مَتَّعْتُ هؤلاء وَآبَآءَهُمْ } الإشارة بهؤلاء إلى قريش ، وهذا الكلام متصل بما قبله ، لأن قريشاً من عقب إبراهيم عليه السلام ، فالمعنى لكن هؤلاء ليسوا ممن بقيت الكلمة فيهم ، بل متعتهم بالنعم والعافية ، فلم يشكروا عليها واشتغلوا بها عن عبادة الله { حتى جَآءَهُمُ الحق وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم .
(1/1978)