الكتاب : الكشف والبيان ـ موافق للمطبوع
المؤلف: أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري
دار النشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان - 1422 هـ - 2002 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 10
تحقيق : الإمام أبي محمد بن عاشور
مراجعة وتدقيق الأستاذ نظير الساعدي
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ]
" صفحة رقم 275 "
وأمّا الصدقات ، فمصرفها ما ذكر الله سبحانه وتعالى : ) إنّما الصدقات للفقراء ( الآية وقد مضى البيان عن أهل السهمين .
وأمّا الغنائم فإنّها كانت في بدء الإسلام لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصنع بها ما يشاء ، كما قال عزّ وجلّ : ) قل الأنفال لله والرسول ( ثم نسخ ذلك بقوله : ) واعلموا أنّما غنمتم من شيء ( الآية : فجعل أربعة أخماسها للغانمين تقسّم بينهم .
فأما ما كان من النقود والعروض والأمتعة والثياب والدواب والكراع فإنّه يقسّم بينهم ، ولا يحبس منهم .
وأمّا العقار ، فاختلف الفقهاء فيه ، فقال مالك ( رحمه الله ) : للإمام أن يحبس الأراضي عنهم ويجعلها وقفاً على مصالح المسلمين .
وقال أبو حنيفة : الإمام مخيّر بين أن يقسّمها بينهم وبين أن يحبسها عنهم ويجعلها وقفاً على مصالح المسلمين .
وقال الشافعي ح : ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم ، وحكمها حكم سائر الأموال . وهو الاختيار ؛ لأنّ الله سبحانه أخرج الخمس منها بعدما أضاف الجميع إليهم بقوله : ) غنمتم ( فدلّ أنّ الباقي لهم وحقّهم . وأما الخمس الباقي فيقسّم على خمسه أسهم : سهم لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسهم لذوي القربى ، وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لأبناء السبيل .
وأمّا الفيء فإنّه كان يقسّم على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على خمسة وعشرين سهماً : أربعة أخماسها ، وهي عشرون سهماً لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يفعل بها ما شاء ويحكم فيها ما أراد ، والخمس الباقي يقسّم على ما يقسم عليه خمس الغنيمة .
وأما بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقد اختلف الفقهاء في الأربعة الأخماس التي كانت له ( صلى الله عليه وسلم ) من الفيء .
فقال قوم : إنّها تصرف إلى المجاهدين المتصدّين للقتال في الثغور ، وهو أحد قولي الشافعي ح .
وقال آخرون : تصرف إلى مصالح المسلمين ؛ من سد الثغور وحفر الآبار وبناء القناطر ونحوها بدءاً بالأهّم فالأهمّ ، وهو القول الآخر للشافعي ح .
وأمّا السهم الذي كان لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من خمس الفيء وخمس الغنيمة فإنّه يصرف بعده
(9/275)
" صفحة رقم 276 "
إلى مصالح المسلمين بلا خلاف ، كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الخمس مردود فيكم ) .
وهكذا ما خلّفه من مال غير موروث عنه ، بل هو صدقة تصرف عنه إلى مصالح المسلمين كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّا لا نورّث ، ما تركناه صدقة ) . فكانت صفايا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من مال الفيء الذي خصّه الله سبحانه بها له ، ينفق منها على أهله نفقة سنة ، فما فضل جعله في الكراع والسلاح في سبيل الله كما ذكر . فلمّا توفي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وليها أبو بكر ح فجعل يفعل بها ما كان يفعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم وليها عمر ح على ما ولي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر ، فلما استخلف عثمان ولاّها عليّ بن أبي طالب على سبيل التوليه وجعله القسيم فيها ، يليها على ما وليها رسول الله ( عليه السلام ) وصاحباه ، وبالله التوفيق .
أخبرنا عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن أبي جعفر الطبري قال : حدّثنا ابن عبد الأعلى قال : حدّثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة بن خالد ، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : قرأ عمر ح . ) إنّما الصدقات للفقراء ( حتى بلغ ) عليم حكيم ( ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ ) واعلموا أنما غنمتم من شيء فأنَّ لله خمسه ( الآية ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ ) ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى ( حتى بلغ ) للفقراء المهاجرين . . . والذين تبوّأُوا . . . والذين جاءوا من بعدهم ( ، ثم قال : استوعبت هذه المسلمين عامّة ، فليس أحد إلاّ له فيها حقّ . ثم قال : لئن عشت ليأتينّ الراعي وهو يسير حمره نصيبه منها لم يعرق فيها جبينه .
) كي لا يكون دولة ( قراءة العامة ) يكون ( بالياء ) دولة ( بالنصب على معنى كي لا يكون الفيء دولة . وقرأ أبو جعفر بالتاء والرفع ، أي كي لا تكون الغنيمة أو الأموال ، ورفع ) دولة ( فاعلا ل ( كان ) ، وجعل الكينونة بمعنى الوقوع ، وحينئذ لا خبر له . والقرّاء كلهم على ضمّ الدال من ال ) دولة ( إلاّ أبا عبد الرحمن السلمي فإنّه فتح دالها .
قال عيسى بن عمر : الحالتان بمعنى واحد . وفرّق الآخرون بينهما ، فقالوا : الدولة بالفتح الظفر والغلبة في الحرب وغيرها وهي مصدر ، والدُولة بالضمّ اسم الشيء الذي يتداوله الناس بينهم مثل العارية ، ومعنى الآية : كي لا يكون الفيء دولة بين الرؤساء والأقوياء والأغنياء فيغلبوا عليه الفقراء والضعفاء ؛ وذلك أن أهل الجاهلية كانوا إذا غنموا غنيمة أخذ الرئيس ربعها
(9/276)
" صفحة رقم 277 "
لنفسه وهو المرباع ، ثم يصطفي منها أيضاً يعني المرباع ما شاء ، وفيه يقول شاعرهم :
لك المرباع منها والصفايا
وحكمك والنشيطة والفضول
فجعل الله سبحانه أمر الرسول ( عليه السلام ) بقسمته في المواضع التي أمر بها ليس فيها خمس ، فإذا خمس رفع عن المسلمين جميعاً .
) وما آتاكم ( : أعطاكم ) الرسول ( من الفيء والغنيمة ) فخذوه وما نهاكم عنه ( من الغلول وغيره ) فانتهوا ( .
قال الحسن في هذه الآية : يؤتيهم الغنائم ويمنعهم الغلول .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمّد بن عليّ قال : حدّثنا أبو محمّد عبيد بن أحمد بن عبيد الصفّار الحمصي قال : حدّثنا عطية بن بقيّة بن الوليد قال : حدّثنا عيسى ابن أبي عيسى قال : حدّثنا موسى بن أبي حبيب قال : سمعت الحكم بن عمير الثمالي وكانت له صحبة يقول : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ هذا القرآن صعب مستصعب عسير على من تركه ، يسير لمن تبعه وطلبه . وحديثي صعب مستصعب وهو الحكم ، فمن استمسك بحديثي وحفظه نجا مع القرآن . ومن تهاون بالقرآن وبحديثي خسر الدنيا والآخرة . وأمرتم أن تأخذوا بقولي وتكتنفوا أمري وتتبعوا سنتي ، فمن رضي بقولي فقد رضي بالقرآن ، ومن استهزأ بقولي فقد استهزأ بالقرآن . قال الله سبحانه : ) وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم فانتهوا ( ) .
وأخبرنا الحسين قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا الفريابي وعبيد الله بن أحمد الكناني قالا : حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدّثنا معاوية بن هشام قال : حدّثنا سفيان الثوري ، عن الأشتر ، عن إبراهيم ، عن عبد الرحمن بن يزيد قال : لقي عبد الله بن مسعود رجلا محرماً وعليه ثيابه ، فقال : انزع عنك . فقال الرجل : اتقرأ عليّ بهذا آية من كتاب الله ؟ قال : نعم ) ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم فانتهوا ( .
) واتقوا الله إنّ الله شديد العقاب (
.
) لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحّ
(9/277)
" صفحة رقم 278 "
َ نَفْسِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإَيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ( 2
الحشر : ( 8 ) للفقراء المهاجرين الذين . . . . .
) للفقراء ( يعني كي لا يكون ما أفاء الله على رسوله دولة بين الاغنياء منكم ، ولكن يكون للفقراء ) المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ( في إيمانهم . قال قتادة : هؤلاء المهاجرون الذي تركوا الديار والأموال والأهلين والعشائر وخرجوا حباً لله ولرسوله ، واختاروا الإسلام على ما كانت فيهم من شديدة ، حتى ذكر لنا أنّ الرجل يعصب الحجر على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع ، وكان الرجل يتّخذ الحفرة في الشتاء ماله دثار غيرها .
وروى جعفر بن المغيرة ، عن سعيد بن جبير وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزي قالا : كان أناس من المهاجرين لأحدهم الدار والزوجة والعبد والناقة يحجّ عليها ويغزو فنسبهم الله أنّهم فقراء ، وجعل لهم سهماً في الزكاة .
الحشر : ( 9 ) والذين تبوؤوا الدار . . . . .
) والذين تبوّأوا ( : توطّنوا ) الدار ( اي اتّخذوا المدينة دار الإيمان والهجرة ، وهم الأنصار أسلموا في ديارهم وبنوا المساجد قبل قدوم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بسنتين فأخر الله عليهم البناء . ونظم الآية : ) والذين تبوّأوا الدار من قبلهم ( أي من قبل قدوم المهاجرين عليهم وقد آمنوا ) يحبّون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة ( حزازة وغيطاً وحسداً ) ممّا أُوتوا ( أي ممّا أعطوا المهاجرين من الفيء . وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قسم أموال بني النضير بين المهاجرين ، ولم يعط الأنصار منها شيئاً إلاّ ثلاثة نفر كما ذكرناهم ، فطابت أنفس الأنصار بذلك . ) ويؤثرون على أنفسهم ( إخوانِهم من المهاجرين بأموالهم وديارهم ) ولو كان بهم خصاصة ( : فاقة وحاجة إلى ما هو يزول ؛ وذلك أنّهم قاسموهم ديارهم وأموالهم .
وأخبرنا أبو محمّد الحسن بن أحمد بن محمّد السيستاني قال : حدّثنا أبو العبّاس محمّد بن إبراهيم الثقفي قال : أخبرنا محمود بن خداش وسمعته يقول : ما أخذت شيئاً أشتري قط قال : حدّثنا محمّد بن الحسن السيستاني قال : حدّثنا الفضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقد أصابه الجهد فقال : يا رسول الله ، إني جائع فأطعمني . فبعث النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( عليه السلام ) إلى أزواجه : ( هل عندكنّ شيء ؟ ) . فكلّهنّ قلن : والذي بعثك بالحقّ نبيّاً ما عندنا إلاّ الماء . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما عند رسول الله ما يطعمك هذه الليلة ) . ثم قال : ( من يضف هذا هذه الليلة يرحمه الله ) .
(9/278)
" صفحة رقم 279 "
فقام رجل من الأنصار قال : أنا يا رسول الله . فأتى به منزله ، فقال لأهله : هذا ضيف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأكرميه ولا تدّخري عنه شيئاً . فقالت : ما عندنا إلاّ قوت الصبية . قال : قومي فعلّليهم عن قوتهم حتى يناموا ولا يطعموا شيئاً ، ثم أسرجي فأبرزي ، فاذا أخذ الضيف ليأكل قومي كأنّك تصلحين السراج فأطفئيه وتعالي نمضغ ألسنتنا لضيف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى يشبع ضيف رسول الله . قال : فقامت إلى الصبية فعللتهم حتى ناموا عن قوتهم ولم يطعموا شيئاً ، ثم قامت فأبرزت وأسرجت فلمّا أخذ الضيف ليأكل قامت كأنّها تصلح السراج فأطفأته ، وجعلا يمضغان ألسنتهما لضيف رسول الله ( عليه السلام ) فظنّ الضيف أنّهما يأكلان معه ، حتى شبع ضيف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وباتا طاويين . فلمّا أصبحا عَدوا إلى رسول الله ( عليه السلام ) ، فلمّا نظر إليهما تبسّم ثم قال : ( لقد عجب الله من فلان وفلانة هذه الليلة ) . فأنزل الله سبحانه : ) ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ( الآية .
قال أنس بن مالك : أُهدي لبعض الصحابة رأس شاة مشوي وكان مجهوداً ، فوجّهه إلى جار له فتناوله تسعة أنفس ثم عاد إلى الأوّل ، فأنزل الله سبحانه : ) ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ( .
ويحكى عن أبي الحسن الأنطاكي أنّه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلا بقرية بقرب الري ولهم أرغفة معدودة لم تسع جميعهم ونشروا الرغفان وأطفؤوا السراج وجلسوا للطعام ، فلمّا رفع فإذا الطعام بحاله لم يأكل واحد منهم إيثاراً لصاحبه .
ويحكى عن حذيفة العدوي قال : انطلقت يوم اليرموك لطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول : إن كان به رمق سقيقه ومسحت وجهه ، فإذا أنا به ، قلت : أسقيك ؟ فأشار أي نعم ، فإذا رجل يقول : آه ، فأشار ابن عمي أن انطلق به إليه ، فإذا هو هشام بن العاص ، فقلت : أسقيك ؟ فسمع به آخر قال : آه ، فأشار هشام أن انطلق به إليه ، فجئته فإذا هو قدمات ، ثم رجعت إلى هشام فإذا هو قدمات ، ثم رجعت إلى ابن عمي فإذا قد مات رحمه الله .
سمعت أبا القاسم الحسن بن محمّد النيسابوري يقول : سمعت أبا عبد الله محمّد بن عبيد الله الجرجاني يقول : سمعت الحسن بن علوية الدامغاني يحكي عن أبي يزيد البسطامي قال : ما غلبني أحد مثل ما غلبني شاب من أهل بلخ قدم علينا حاجّاً ، فقال لي : يا أبا يزيد ، ما حدّ الزهد عندكم ؟ قلت : إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا . فقال هكذا عندنا كلاب بلخ . فقلت : ماحدّ الزهد عندكم ؟ فقال : إذا فقدنا صبرنا ، وإذا وجدنا آثرنا .
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا محمّد أحمد بن محمّد بن إبراهيم البلاذري يقول : سمعت بكر بن عبد الرحمن يقول : سئل ذو النون المصري عن علامة الزاهد المشروح صدره فقال : ثلاث : تفريق المجموع ، وترك طلب المفقود ، والإيثار عند القوت .
(9/279)
" صفحة رقم 280 "
قال ابن عباس : قال رسول الله ( صلى الله عليه سلم ) يوم النضير للأنصار : ( إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شيء من الغنيمة ) .
فقالت الأنصار : بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالقسمة ولا نشاركهم فيها . فأنزل الله سبحانه : ) ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ( ) ومن يوق شحّ نفسه فأُولئك هم المفلحون ( والشح في كلام العرب : البخل ومنع الفضل ، يقال : فلان شحيح من الشُّح والشِّحّ والشحّة والشحاحة ، قال عمرو بن كلثوم :
ترى اللحز الشحيح إذا أمرّت
عليه لماله فيها مهينا
وفرّق العلماء من السلف بينهما .
فأخبرني الحسن بن محمّد قال : حدّثنا موسى بن محمّد بن علي قال : حدّثنا إدريس بن عبد الكريم الحدّاد قال : حدّثنا عاصم بن علي بن عاصم ، وأخبرنا عبد الخالق قال : حدّثنا ابن حبيب قال : حدّثنا ابن شاكر قال : حدّثنا عاصم بن علي قال : حدّثنا المعادي ، عن جامع بن شداد ، عن أبي الشعثاء قال :
قال رجل لعبد الله بن مسعود : يا أبا عبد الرحمن ، إني أخاف أن أكون قد هلكت . قال : وما ذاك ؟ قال : سمعت الله سبحانه يقول : ) ومن يوق شحّ نفسه ( وأنا رجل شحيح لا يكاد يخرج من يديّ شيء . فقال : ليس ذاك الشحّ الذي ذكر الله سبحانه في القرآن ، ولكن الشحّ أن تأكل مال أخيك ظلماً ، ولكن ذلك البخل ، وبئس الشيء البخل .
الوالبي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : ) ومن يوق شحّ نفسه ( قال : يقول : هوى نفسه يتبع هواه فلم يقبل الإيمان .
وقال ابن زيد : من لم يأخذ شيئاً لشيء نهاه الله سبحانه ولم يدعه الشحّ إلى أن يمنع شيئاً من شيء أمره الله تعالى به فقد وقاه شحّ نفسه .
وقال طاووس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يديه ، والشحّ أن يبخل بما في أيدي الناس .
وأخبرني أبي قال : أخبرنا محمّد بن أحمد بن عبد الله النحوي قال : أخبرنا محمّد بن حمدون ابن خالد قال : حدّثنا محمّد بن عبد الوهاب بن أبي تمام العسقلاني قال : حدّثنا سليمان
(9/280)
" صفحة رقم 281 "
ابن بنت شراحيل قال : حدّثنا إسماعيل بن عبّاس قال : حدّثنا عمارة بن عديّة الأنصاري ، عن عمّه عمر بن جارية ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( برئ من الشحّ من أدّى الزكاة ، وقرى الضيف وأعطى في النائبة ) .
أخبرني أبو عبد الله الحافظ قال : أخبرنا أبو حذيفة أحمد بن محمّد بن عليّ بن عبد الله ابن محمّد الطائي قال : حدّثنا عبد الله بن زيد قال : حدّثنا إبراهيم بن العلاء قال : حدّثنا إسماعيل بن عباس عن هشام بن الغاد عن أبان عن أنس أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يدعو : ( اللهم إنيّ أعوذ بك من شحّ نفسي وإسرافها ووسواسها ) .
وأخبرنا أبو عبد الله قال : حدّثنا هارون بن محمّد بن هارون قال : أخبرنا عبد الله بن محمّد بن سنان قال : حدّثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي قال : حدّثنا داود بن قيس الفرّاء ، عن عبد الله بن مقسم ، عن جابر بن عبد الله ، أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( اتقوا الشحّ ؛ فانّ الشحّ أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلّوا محارمهم ) .
وروى سعيد بن جبير ، عن أبي الهياج الأسدي قال : كنت أطوف بالبيت ، فرأيت رجلا يقول : اللهم قني شحّ نفسي . لا يزيد على ذلك . فقلت له فيه ، فقال : إنّي اذا وقيت شحّ نفسي لم أسرق ، ولم أزن ، ولم أفعل . وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف .
ويحكى أنّ كسرى قال لاصحابه : أي شيء أضرّ بابن آدم ؟ قالوا : الفقر . فقال كسرى : الشحّ أضرّ من الفقر ؛ لأنّ الفقير اذا وجد اتّسع ، والشحيح لا يتسع أبداً .
الحشر : ( 10 ) والذين جاؤوا من . . . . .
) والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للذين آمنوا ربّنا إنّك رؤوف رحيم ( .
قال ابن أبي ليلى : الناس على ثلاثة منازل : الفقراء المهاجرون ، والذين تبوّأوا الدار والإيمان ، والذين جاءوا من بعدهم ، فاجهد ألاّ تكون خارجاً من هذه المنازل .
أخبرني الحسن قال : حدّثنا علي بن إبراهيم الموصلي قال : حدّثنا محمّد بن مخلد الدوري قال : حدّثنا محمّد بن إسماعيل الحساني قال : حدّثني أبو يحيى الحماني ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم بن عيينة ، عن مقسم ، عن ابن عباس قال : أمر الله سبحانه بالاستغفار لأصحاب محمّد ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يعلم أنهم سيفتنون .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : حدّثنا أحمد بن عبد الله قال : حدّثنا محمّد بن عبد الله
(9/281)
" صفحة رقم 282 "
ابن سليمان قال : حدّثنا ابن نمير قال : حدّثنا أبي ، عن إسماعيل بن إبراهيم ، عن عبد الملك بن عمير ، عن مسروق ، عن عائشة خ قالت : أُمرتم بالاستغفار لأصحاب محمّد ( صلى الله عليه وسلم ) فسببتموهم ، سمعت نبيّكم ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( لا تذهب هذه الأُمّة حتى يلعن آخرها أوّلها ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف قال : حدّثنا الحسن بن علي الطوسي قال : حدّثنا محمّد بن المؤمّل بن الصباح البصري قال : حدّثنا النصر بن حماد العتكي قال : حدّثنا سيف ابن عمر الأسدي قال : حدّثنا عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا رأيتم الذين يسبّون أصحابي فقولوا : لعن الله شركم ) .
وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال : حدّثنا ابن النعمان قال : حدّثنا هارون بن سليمان قال : حدّثنا عبد الله يعني ابن داود قال : حدّثنا كثير بن مروان الشامي ، عن عبد الله بن يزيد الدمشقي قال : أتيت الحسن فذكر كلاماً إلاّ إنّه قال : أدركت ثلاثمائة من أصحاب محمّد ( صلى الله عليه وسلم ) منهم سبعون بدرياً كلّهم يحدّثونني أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ) .
فالجماعة ألاّ تسبّوا الصحابة ، ولا تماروا في دين الله ، ولا تكفّروا أحداً من أهل التوحيد بذنب
قال عبد الله بن زيد : فلقيت أبا أمامة وأبا الدرداء وواثلة وأنس بن مالك ، وكلّهم يحدّثونني بحديث عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بمثل حديث الجماعة .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبيش قال : حدّثنا أبو الفضل صالح بن الأصبغ التنوخي قال : حدّثنا أبو الفضل الربيع بن محمّد بن عيسى الكندي قال : حدّثنا سعيد بن منصور قال : حدّثنا شهاب بن حراش ، عن عمّه العوّام بن حوشب ، قال : أدركت من أدركت من صدر هذه الأمّة وهم يقولون : اذكروا محاسن أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى تأتلف عليهم القلوب ولا تذكروا ما شجر بينهم فتحرشوا الناس عليهم .
وسمعت عبد الله بن حامد يقول : سمعت محمّد بن محمّد بن الحسن قال : سمعت أبا عبد الله محمّد بن القاسم الجمحي المكّي قال : سمعت محمّد بن سعدان المروزي قال : سمعت أحمد بن إسماعيل المروزي ، عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول ، عن أبيه قال : قال عامر بن شراحيل الشعبي : يا مالك ، تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة ، سئلت اليهود : من
(9/282)
" صفحة رقم 283 "
خير أهل ملّتكم ؟ فقالوا : أصحاب موسى . وسئلت النصارى من خير أهل ملتكم ؟ فقالوا : حواريّو عيسى . وسئلت الرافضة : من شرّ أهل ملّتكم فقالوا : أصحاب محمّد ، أُمروا بالاستغفار إليهم فسبوّهم ؛ فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة ، لا تقوم لهم راية ولا تثبت لهم قدم ، ولا تجمع لهم كلمة ، كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم ، وإدحَاض حجّتهم ، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلّة .
وأخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمّد المعدل قال : حدّثنا أبو عبد الله محد بن يونس المقري قال : حدّثنا أحمد بن محمّد بن سالم قال : حدّثنا سوار بن عبد الله القاضي قال : حدّثنا أبي قال : قال مالك بن أنس : من ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان في قلبه عليهم غلّ ، فليس له حق في فيء المسلمين ، ثم تلا ) ما أفاء الله ورسوله من أهل القرى ( حتى أتى على هذه الآية ، ثم قرأ ) للفقراء ( حتى أتى على هذه الآية ، ثم قال : ) والذين تبوّأوا الدار والإيمان ( حتى أتى على هذه الآية ثم قال : ) والذين جاؤوا من بعدهم ( إلى قوله : ) رؤوف رحيم ( فمن ينتقصهم أو كان في قلبه عليهم غلّ فليس له من الفيء حقّ .
( ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الاَْدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ لاََنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِى صُدُورِهِمْ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِى قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّى بَرِىءٌ مِّنكَ إِنِّىأَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِى النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لاَ يَسْتَوِىأَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ لَوْ أَنزَلْنَا هَاذَا الْقُرْءَانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الاَْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِى لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الاَْسْمَآءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 2
الحشر : ( 11 ) ألم تر إلى . . . . .
) ألم تر إلى الذين نافقوا ( ، أي أظهروا خلاف ما أضمروا ، وهو مأخوذ من ( نافقاء اليربوع ) وهي أخذ جحرته ، إذا أُخذ عليه جحر أخذ من جحر آخر ، فيقال عند ذلك : نفق ونافق ،
(9/283)
" صفحة رقم 284 "
فشبه فعل المنافق بفعل اليربوع ؛ لأنه يدخل من باب ويخرج من باب ، فكذلك المنافق يدخل في الإسلام باللفظ ويخرج منه بالعقد . والنفاق لفظ إسلامي لم يكن يعرفه العرب قبل الإسلام .
) يقولون لإخوانهم الذين كفرو من أهل الكتاب ( وهم بنو قريضة والنضير ) لئن أُخرجتم ( من دياركم ) لنخرجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً ( سألنا خذلانكم وخلافكم ) أبداً ولئن قوتلتم لننصرنّكم والله يشهد إنهم لكاذبون }
الحشر : ( 12 - 13 ) لئن أخرجوا لا . . . . .
) لئن أُخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولّنّ الأدبار ثم لا ينصرون لأنتم ( يا معشر المؤمنين ) أشدّ رهبة في صدورهم من الله ( يقول : يرهبونكم أشدّ من رهبتهم من الله ) ذلك بأنهم قوم لا يفقهون }
الحشر : ( 14 ) لا يقاتلونكم جميعا . . . . .
) لا يقاتلونكم ( يعني اليهود ) جميعاً إلاّ في قرى محصّنة ( ، ولا يبرزون لكم بالقتال ) أو من وراء جدر ( .
قرأ ابن عباس ومجاهد وابن كثير وابو عمرو : ( جدار ) بالألف على الواحد .
وروي عن بعض أهل مكّة : ( جَدْر ) بفتح الجيم وجزم الدال وهي لغة في الجدار .
وقرأ يحيى بن وثاب ( جُدْر ) ، بضم الجيم وسكون الدال .
وقرأ الباقون بضمّهما .
) بأسهم بينهم شديد ( يعني : بعضهم فظّ على بعض وبعضهم عدوّ لبعض ، وعداوتهم بعضهم بعضاً شديدة .
وقيل : بأسهم فيما بينهم من وراء الحيطان والحصون شديدة ، فإذا خرجوا لكم فهم أجبن خلق الله سبحانه .
) تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتّى ( متفرقة مختلفة . قال قتادة : أهل الباطل مختلفة أهواؤهم ، مختلفة شهاداتهم مختلفة أعمالهم وهم مجتمعون في عداوة أهل الحق ، وقال مجاهد : أراد أن دين المنافقين يخالف دين اليهود ) ذلك بأنَّهم قوم لا يعقلون }
الحشر : ( 15 ) كمثل الذين من . . . . .
) كمثل الذين من قبلهم ( يعني مثل هؤلاء كمثل الذين من قبلهم وهم مشركوا مكة . ) قريباً ذاقوا وبال أمرهم ( يوم بدر قاله مجاهد ، وقال ابن عباس : كمثل الذين من قبلهم يعني بني قينقاع . وقيل : مثل قريظة كمثل بني النضير وكان بينهما سَنتان ، فربما ذاقوا وبال أمرهم الجلاء والنفي . ) ولُهم عذاب أليم ( .
الحشر : ( 16 ) كمثل الشيطان إذ . . . . .
ثم ضرب مثلا للمنافقين واليهود في تخاذلهم فقال عزّ من قائل : ) كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر ( الآية .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا الباقرحي قال : حدّثنا الحسن بن علوُية قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا إسحاق بن بشر قال : حدّثنا مقاتل عن عطاء عن ابن عباس وعبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن ابن عباس في قوله سبحانه : ) كمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر
(9/284)
" صفحة رقم 285 "
فلما كفر قال إني بريء منك ( الآية قال : كان راهب في الفترة يُقال له بَرصيصَا وكان قد تعبّد في صومعة لهُ سبعين سنة لم يعص الله فيها طرفة عين وأن إبليس أعياه في أمره الحيل ، فلم يستطيع له شيء فجمع ذات يوم مردة الشياطين فقال : ألا أحدٌ منكم يكفيني أمر بَرصيصا ، فقال الأبيض ، وهو صاحب الأنبياء وهو الذي يتصدى للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) وجاءه في صورة جبرائيل ليوسوسُ إليه على وجهِ الوحي فجاءه جبرائيل حتى دخل بينهما فدفعه بيده دفعة هينةً فوقع من دفعة جبرائيل إلى أقصى أرض الهند ، فذلك قوله سبحانه : ) ذي قوّة عند ذي العرش مكين مطاع ( .
فقال الأبيض لإبليس : أنا أكفيك فانطلق فتزيّن بزينة الرهبان وحلق وسط رأسِهِ ثم مضى حتى أتى صومعة بَرصيصا فناداه فلم يجبه برصيصا وكان لا ينفتل عن صلاته إلاّ في كل عشرة أيام ولا يفطر إلاّ في عشرة أيام مرّة ، فكان يواصل الأيام العشرة والعشرين والأكثر ، فلما رأى الأبيض أنَّه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعتهِ فلما أنفتر برصيصا اطّلع من صومعته ورأى الأبيض قائماً مُنتصباً يُصلّي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان فلما رأى ذلك من حاله ندم في نفسه حين لها عنه فلم يجبه ، فقال له : إنّك ناديتني وكنت مُشتغلا عنك فحاجتك ؟
قال : حاجتي أني أحببت أن أكون معك فأنادبك وأقتبس من علمك ونجتمع على العبادة فتدعو لي وأدعو لك قال : برصيصا : إني لفي شغل عنك فإن كنت مؤمناً فإن الله سبحانه سيجعل لك فيما أدعو للمؤمنين والمؤمنات نصيباً إن استجاب لي ، ثم أقبل على صلاته وترك الأبيض ، وأقبل الأبيض يُصلي فلم يلتفت إليه برصيصا أربعين يوماً بعدها ، فلمّا انفتل رآه قائماً يصلي ، فلمّا رآى برصيصا شدّة اجتهاده وكثرة تضرّعه وابتهاله إلى الله سبحانه كلّمه وقال له : حاجتك ؟
قال : حاجتي أن تأذن لي فارتفع إليك ، فأذن له فارتفع إليه في صومعته فأقام الأبيض معه حولا يتعبد لا يفطر إلاّ في كل أربعين يوماً ولا ينفتل عن صلاته إلاّ في كل أربعين يوماً مرّة وربّما مدَّ إلى الثمانين ، فلما رأى برصيصا أجتهاده تفاطرت إليه نفسه فأعجبه شأن الأبيض ، فلما حال الحول قال الأبيض لبرصيصا : إني منطلق فأنَّ لي صاحباً غيرك ظننت أنك أشدّ اجتهاداً ممّا أرى ، وكان يبلغنا عنك غير الذي رأيت ، قال : فدخل على برصيصا من ذلك أمر شديد وكره مفارفته للّذي رأى من شدّة اجتهاده ، فلما ودّعه قال له الأبيض : إنَّ عندي دعوات أعلّمكها أياك تدعو بهن فهي خير مما أنت فيه ، يشفي الله بها السقيم ، ويعافي بها المبتلى والمجنون ، قال برصيصا : إني أكره هذه المنزلة ، لأن لي في نفسي شغلا وإني أخاف إنْ علم بهذا الناس شغلوني عن العبادة ، فلم يزل به الأبيض حتى علّمه ، ثم انطلق حتى أتى أبليس فقال له : قد والله أهلكتُ
(9/285)
" صفحة رقم 286 "
الرجل ، قال : فانطلق الأبيض فتعرّض لرجل فخنقه ثم جاءه في صورة رجل متطبّب فقال لأهله : إنَّ بصاحبكم جنوناً فأعالجه ؟
قالوا : نعم ، فقال لهم : إني لا أقوى على جنِّيَته ولكن سأرشدكم إلى من يدعو الله عزّ وجلّ فيعافى ، فقالوا له : دلّنا ، فانطلقوا إلى برصيصا فإنَّ عنده أسم الله الذي إذا دعى به أجاب ، قال : فانطلقوا إليه فسألوه ذلك فدعا بتلك الكلمات فذهب عنهُ الشيطان ، وكان يفعل الأبيض بالناس مثل ، من مكانك قال : وما هي ؟ قال : تسجد لي ، قال : أفعل ، فسجد له ، فقال : يا برصيصا هذا الذي أردت منك صارت عاقبة أمرك إلى أن كفرت بربّك فلما كفر قال : ) إني بريء منك إني أخاف الله ربَّ العالمين ( يقول ا لله سبحانه :
الحشر : ( 17 ) فكان عاقبتهما أنهما . . . . .
) فكان عاقبتهما ( يعني الشيطان وذلك الإنسان ) أنَّهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين ( .
قال ابن عباس : فضرب الله هذا المثل ليهود بني النضير والمنافقين من أهل المدينة ، وذلك أن الله سبحانه أمر نبيّه ( عليه السلام ) أن يخلي بني النضير عن المدينة ، فدسّ المنافقون إليهم ، فقالوا : لا تجيبوا محمداً إلى مادعاكم ولا تخرجوا من دياركم فإن قاتلكم كنا معكم وإن أخرجكم خرجنا معكم . قال : فأطاعوهم فدربوا على حصونهم وتحصّنوا في ديارهم رجاء نصر المنافقين حتى جاءهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فناصبوه الحرب يرجون نصر المنافقين فخذلوهم وتبرّؤوا منهم كما تبرّأ الشيطان من برصيصا وخذله .
قال ابن عباس : فكانت الرهبان بعد ذلك في بني إسرائيل لا يمشون إلاّ بالتقية والكتمان وطمع اهل الفجور والفسق في الاحبار فرموهم بالبهتان والقبيح ، حتى كان أمر جريج الراهب ، فلمّا برّأ الله جريجاً الراهب مما رموه به فانبسطت بعدها الرهبان وظهروا للناس .
الحشر : ( 18 ) يا أيها الذين . . . . .
) ياأيَّها الذين آمنوا اتقوا الله ( باداء فرائضه واجتناب معاصيه ) ولتنظر نفس ما قدمت لغد ( يعني يوم القيامة ) واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون }
الحشر : ( 19 ) ولا تكونوا كالذين . . . . .
) ولا تكونوا كالذين نسوا الله ( أي نسوا حق الله وتركوا أمره ) فأنساهم أنفسهم ( يعني حظ أنفسهم أن يقدّموا لها خيراً ) أولئك هم الفاسقون }
الحشر : ( 20 - 21 ) لا يستوي أصحاب . . . . .
) لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون لو أنزلنا هذا القرآن على جبل ( وركبّنا فيه العقل ) لرأيته ( في صلابته ورزانته ) خاشعاً ( ذليلا خاضعاً ) متصدّعاً ( يعني متشققاً ) من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلّهم يتفكرون }
الحشر : ( 22 ) هو الله الذي . . . . .
) هو الله الذي لا اله إلا هو عالم الغيب ( وهو ما غاب عن العباد مما لم يعاينوه ولم يعلموه ) والشهادة ( وهي ماعلموه وشاهدوه ، وقال الحسن : يعني السرّ والعلانية .
) هو الرحمن الرحيم }
الحشر : ( 23 ) هو الله الذي . . . . .
) هو الله الذي لا إله هو الملك ( وهو ذو الملك وقيل : القادر على
(9/286)
" صفحة رقم 287 "
اختراع الأعيان ) القدوس ( الظاهر من كل عيب المنزه عما لايليق به . قال قتادة : المبارك ، وقال ابن كيسان : الممجّد وهو بالسريانية قديشا .
) السلام المؤمن ( قال بعضهم : المصدّق لرسله باظهار معجزاته عليهم ، ومصدّق للمؤمنين ما وعدهم من الثواب وقابل إيمانهم ، ومصدق للكافرين ما أوعدهم من العقاب .
قال ابن عباس ومقاتل : هو الذي آمن الناس من ظلمه وآمن من آمن به من عذابه من الإيمان الذي هو هذا التخويف كما قال : ) وآمنهم من خوف ( .
وقال النابغة :
والمؤمن العائذات الطير يمسحها
ركبان مكة بين الغيل والسند
وقال ابن زيد : هو الذي يصدّق المؤمنين إذا وحّدُوه ، وقال الحسين بن الفضل : هو الداعي إلى الإيمان والآمر به والموجب لأهله اسمه . القرظي : هو المجير كما قال : ) وهو يجير ولا يجار عيله ( . ) المُهيمن ( قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : الشهيد . ضحاك : الأمين . ابن زيد : المصدّق . ابن كيسان : هو اسم من أسماء الله في الكتب ، الله أعلم بتأويله . عطا : المأمون على خلقه . الخليل : هو الرقيب . يمان : هو المطّلع . سعيد بن المسيب : القاضي . المبرد : ( المهيمن في معنى مؤيمن إلاّ أن الهاء بدل من الهمزة ) .
قال أبو عبيدة : هي خمسة أحرف في كلام العرب على هذا الوزن : المهيمن والمسيطر والمبيطر والمنيقر وهو الذاهب في الأرض ، والمخيمر اسم جبل .
) العزيز الجبار ( قال ابن عباس : هو العظيم ، وجبروت الله عظمته ، وهو على هذا القول صفة ذات ، وقيل : هو من الجبر وهو الإصلاح ، يقال : جبرت العظم إذا أصلحته بعد كسر ، وجبرت الأمر ، والجبر وجبرته فجبر تكون لازماً ومتعدياً قال العجاج :
قد جبر الدين الإله فجبر
ونظيره في كلام العرب : دلع لسانه فدلع ، وفغر فاه ففغر ، وعمّر الدار فعمرت ، وقال السدي : هو الذي يقهر الناس ويجبرهم على ما اراد .
(9/287)
" صفحة رقم 288 "
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف ، قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، قال : حدّثنا محمد بن بكار بن الريان . قال حدّثنا أبو معشر عن محمد بن كعب قال : إنما يسمّى الجبار ، لأ نَّه جبر الخلق على ما أراد والخلق أرق شأناً من أن يعصوا ( له أمراً ) بل طرفة عين إلاّ بما أراد ، وسُئل بعض الحكماء عن معنى الجبّار فقال : هو القهّار الذي إذا أراد أمراً فعله وحكم فيه بما يريد لا يحجزه عنه حاجز ولا يفكّر فيمن دُونه . إن آدم أجتبي من غير طاعة وإن أبليس لعن على كثرة الطاعة ، وقيل : هو الذي لا تناله الأيدي ، من قول العرب : نخلة جبّارة ، إذا طالت وفاتت الأيدي قال الشاعر :
سوامق جبار أثيث فروُعه
وعالين قنواناً من البسر أحمرا
) المتكبر ( عن كل سوء ، المتعظّم عمّا لا يليق به ، وأصل الكبر والكبرياء : الأمتناع وقلة الإنقياد ، قال حميد بن ثور :
عفت مثل ما يعفو الفصيل فأصبحت
بها كبرياء الصعب وهي ذلول
الحشر : ( 24 ) هو الله الخالق . . . . .
) الخالق ( المقدّر المقلّب للشي بالتدبير إلى غيره كما قال : ) يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً بعد خلق ( وقال : ) خلقكم أطواراً (
) البارئ ( المنشيء للأعيان من العدم إلى الوجود ) المصور ( الممثل للمخلوقات والعلامات المميّزة والهيئات المتفرّقة حتى يتميّز بها بعضها من بعض يقال : هذه صورة الأمر أي مثاله ، فأولا يكون خلقاً ثم ( نطفة ثمّ علقة ) ثم تصويراً إذا انتهى وكمل ، والله أعلم .
) له الأسماء الحسنى يسبّح له ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم ( .
أخبرنا أحمد بن محمد بن يعقوب الفقيه بالقصر قال : أخبرنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل ببغداد قال : حدّثنا الحسن بن عرفة قال : حدّثنا محمد بن صالح الواسطي عن سليمان ابن محمد عن عمر بن نافع عن أبيه قال : قال عبد الله بن عمر : رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قائماً على هذا المنبر يعني منبر رسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يحكي عن ربّه سبحانه فقال : ( إنَّ الله تعالى إذا كان يوم القيامة جمع السموات والأرضين السبع في قبضته تبارك وتعالى ثم قال هكذا وشدّ قبضته ثم بسطها ثم يقولُ : أنا الله أنا الرحمن أنا الرحيم أنا الملك أنا القدّوس أنا السلام أنا المؤمن أنا
(9/288)
" صفحة رقم 289 "
المهيمن أنا العزيز أنا الجبّار أنا المتكبّر أنا الذي بدأت الدنيا ولم تك شيئاً ، أنا الذي أعدتها أين الملوك أين الجبابرة ) .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن وهب قال : حدّثنا محمد بن يونس الكريمي قال : حدّثنا عمرو بن عاصم قال حدثنا أبو الأشهب عن يزيد بن آبان عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ آخر سورة الحشر غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا ابن وهب قال : حدثنا أحمد بن أبي سريح وأحمد بن منصور الرمادي قالا : حدّثنا أبو أحمد الزبيدي قال : حدّثنا خالد بن سليمان قال : حدّثني نافع عن أبي نافع عن معقل بن يسار أنَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من قال حين يصبح ثلاث مرات : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر ، وكّل الله به سبعين ألف ملك يُصلّون عليه حتى يمسي ، فأن مات في ذلك اليوم مات شهيداً ، ومن قال حين يمسي كان بتلك المنزلة ) .
وأخبرني محمد بن القاسم قال : حدّثنا عبد الله بن محمد قال : حدّثنا السماح قال : حدّثنا أحمد بن الفرح قال : حدّثنا أبو عثمان يعني المؤذن قال : حدّثنا محمد بن زياد قال : سمعت أبا أمامة يقول : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ خواتيم الحشر من ليل أو نهار فقبض في ذلك اليوم أو الليلة فقد أوجب الجنة ) .
وأخبرني ابن القاسم قال حدّثنا ابن بختيار قال : حدثنا مكي بن عيدان قال : حدّثنا إبراهيم ابن عبد الله قال : حدّثنا عمرو بن عاصم قال : حدّثنا أبو الأشهب قال : حدّثنا يزيد الرقاسي عن أنس أنَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من قرأ آخر سورة الحشر : لو أنزلنا هذا القرآن على جبل إلى آخرها فمات من ليلته مات شهيداً ) .
وأخبرني أبو عثمان بن أبي بكر الحبري قال : حدثنا أبو الحسين محمد بن محمد الحجاجي قال : أخبرنا عبد الله بن أبان بن شداد أن إسماعيل بن محمد الحبريني حدّثهم قال : حدثنا علي بن زريق قال : حدثنا هشام عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال : سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن اسم الله الأعظم فقال : ( عليك بأخر سورة الحشر فأكثر قرأتها ، فاعدت عليه فعاد عليّ ، فأعدت عليه فعاد عليّ ) .
(9/289)
" صفحة رقم 290 "
( سورة الممتحنة )
مدنية ، وهي ألف وخمسمائة وعشرة أحرف ، وثلثمائة وثماني وأربعون كلمة ، وثلاثة عشر آية
أخبرنا الجباري قال : حدّثنا ابن حيان قال : أخبرنا الفرقدي قال : حدّثنا إسماعيل بن عمرو قال : حدّثنا يوسف بن عطية قال : حدّثنا هارون بن كثير قال : حدثنا زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبيّ ابن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة الممتحنة كان المؤمنون والمؤمنات له شفعاء يوم القيامة ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِىإِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لاَِبِيهِ لاََسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاَْخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَءَاتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُن
(9/290)
" صفحة رقم 291 "
َ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْئَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِن فَاتَكُمْ شَىْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِىأَنتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ( 2
الممتحنة : ( 1 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ( نزلت في حاطب بن أبي بلتعة ، وذلك أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة إلى المدينة بعد بدر بسنتين ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تجهز لفتح مكة فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أمسلمة جئت ؟ ) قالت : لا ، قال : ( أمهاجرة جئت ؟ ) قالت : لا ، قال : ( فما جاء بك ؟ ) قالت : كنتم الأصل والعشيرة والموالي وقد ذهبت موالي واحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني ، فقال لها : ( فأين أنت من شباب مكة ؟ ) وكانت مغنية نائحة .
قالت : ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر ، فحثّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عليها بني عبد المطلب وبني المطلب فكسوها وحملوها وأعطوها نفقة ، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى فكتب معها إلى أهل مكة وأعطاها عشرة دنانير ، هذه رواية يادان عن أبن عباس ، وقال مقاتل بن حيان : أعطاها عشرة دراهم ، قالوا : وكساها برداً علم أن يوصل الكتاب إلى أهل مكة ، وكتب في الكتاب : ( من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة ، أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يريدكم فخذوا حذركم ) فخرجت سارة ونزل جبرائيل فأخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بما فعل ، فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عليّاً وعمّار وعمر والزبير وطلحة والمقداد بن الأسود وأبا مريد وكانوا كلهم فرساناً ، وقال لهم : ( أنطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فأن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى المشركين فخذوه منها وخلّوا سبيلها ، وأن لم تدفعه أليكم فاضربوا عنقها ) .
قال : فخرجوا حتى أدركوها في ذلك المكان الذي قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا لها : أين الكتاب ؟ فحلفت بالله ما معها من كتاب ، فحثوها وفتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً فهمّوا بالرجوع فقال عليح والله ما كذبنا ولا كذّبنا وسلّ سيفه وقال : أخرجي الكتاب وإلاّ والله لا جرّدنّك ولأضربنّ عنقك . فلما رأت الجد أخرجت من ذؤابتها قد خبأتها في شعرها ، فخلّوا سبيلها ولم يعترضوا لها ولا لمن معها ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأرسل رسول ( صلى الله عليه وسلم ) إلى حاطب فأتاه ، فقال له : ( هل تعرف الكتاب ؟ ) قال : نعم ، قال : ( فما حملك على ماصنعت ) ؟
فقال : يا رسول الله والله ما كفرتُ منذ أسلمت ولا غششتك منذ نصحتك ولا أجبتهم منذ فارقتهم ، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يمنع عشيرته ، وكنت عزيزاً فيهم ، وكان أهلي بين ظهرانيهم ، فخشيت على أهلي فاردتُ أن أتخذ عندهم يداً ، وقد علمت أنَّ الله
(9/291)
" صفحة رقم 292 "
ينزل بهم بأسه ، وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً . فصدّقه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعذره ، فقام عمر بن الخطاب ح فقال : يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ومايدريك ياعمر لعلّ الله قد أطلع على أهل بدر فقال لهم أعملوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم ) .
أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن أسحاق قال : حدثنا محمد بن غالب قال : حدثنا عبد الصمد قال : حدثنا ليث عن أبي الدنير عن جابر أن عبداً لحاطب جاء يشتكي حاطباً إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله ليدخلن حاطب النار ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( كذبت ، لا يدخلها أبداً لأنه شهد بدراً والحديبية ) .
وأنزل الله سبحانه في شأن حاطب ومكاتبته المشركين ) ياأيُّها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ( أي المودة ، والباء صلة ، كقول القائل : أريد أن أذهب ، وأريد بأن أذهب ، قال الله سبحانه ) ومن يرد فيه بإلحاد ( أي إلحاداً بظلم ومنه قول الشاعر :
فلما رجت بالشرب هزّ لها العصا
شحيح له عند الازاء نهيم
أي رجت الشرب .
) وقد ( واو الحال ) كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وأياكم ( من مكة ) أن تؤمنوا ( أي لأن آمنتم ) بالله ربّكم أن كنتم خرجتم ( في الكلام تقديم وتأخير ، ونظم الآية : لا تتخذوا عدوّي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة ، وقد كفروا بما جاءكم إن كنتم خرجتم ) جهاداً في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرّون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل }
الممتحنة : ( 2 ) إن يثقفوكم يكونوا . . . . .
) إن يثقفوكم ( يروكم ويظهروا علكيم ) يكونوا لكم أعداء ويبسطوا اليكم أيديهم ( بالقتل ) وألسنتهم بالسوء ( بالشتم ) وودّوا لو تكفرون ( فلا تناصحوهم فإنّهم لا يناصحوكم ولا يوادونكم .
الممتحنة : ( 3 ) لن تنفعكم أرحامكم . . . . .
) لن تنفعكم ( يقول لا تدعونّكم قرابتكم وأولادكم التي بمكة إلى خيانة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين وترك مناصحتهم وموالاة أعدائهم ومطاهرتهم فلن ينفعكم ) أرحامكم ولا أولادكم ( التي عصيتم الله سبحانه لأجلهم ) يوم القيامة يفصل بينكم ( فيدخل أهل طاعته والإيمان به الجنة ، ويدخل أهل معصيته والكفر به النار
(9/292)
" صفحة رقم 293 "
واختلف القرّاء في قوله : ) يفصل بينكم ( فقرأ عاصم ويعقوب وأبو حاتم بفتح الياء وكسر الصاد مُخففاً ، وقرأ حمزة والكسائي وَخلف بضمّ الياء وكسر الصاد مُشدداً ، وقرأ ابن عامر والأعرج بضم الياء وفتح الصاد وتشديده ، وقرأ طلحة والنخعي بالنون وكسر الصاد والتشديد ، وقرأ أبو حيوة يفصل من أفصل يفصل ، وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الصاد مخففاً من الفصل .
) والله بما تعملون بصير ( أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا مكّي قال : أخبرنا عبد الله بن هاشم قال : حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي قال : حدّثنا سفيان عن سهيل بن أبي صالح عن عطاء بن يزيد عن تميم الداري أنَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إنَّما الدين النصيحة ) ثلاثاً ، قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : ( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) .
الممتحنة : ( 4 ) قد كانت لكم . . . . .
) قد كانت لكم أُسوة ( قدوة ) حسنة في إبراهيم ( خليل الرحمن ) والذين معه ( من أهل الإيمان ) أذ قالوا لقومهم ( المشركين ) أنا براء منكم ( جمع بريء ، وقراءة العامة على وزن فعلا غير مجز ، وقرأ عيسى بن عمر ) براء ( بكسر الباء ، على وزن فعال مثل قَصير وقِصار وطويل وطوال ) ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم ( أي جحدنا بكم وأنكرنا دينكم ) وبدت بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم ( يعني قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم وأموره إلا في قوله : ) لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ( أن عصيته نهوا أن يتأسوا في هذه خاصة بابراهيم فيستغفروا للمشركين ، ثم بيّن عذره في سورة التوبة .
وفي هذه الآية دلالة بيّنة على تفضيل نبيّنا وذلك أنه حين أمر بالأقتداء به أمر على الأطلاق ولم يستثن فقال : ) ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ( وحين أمر بالاقتداء بابراهيم إستثنى .
) ربّنا عليك توكلّنا ( ( هذا قول ) إبراهيم ومن معه من المؤمنين .
) وإليك أنبنا وأليك المصير }
الممتحنة : ( 5 - 6 ) ربنا لا تجعلنا . . . . .
) ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم لقد كان لكم فيهم ( يعني في إبراهيم ومن معه من الأنبياء والاولياء ) أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فان الله هو الغني الحميد ( فلما نزلت هذه الآية عادى المؤمنون أقرباءهم المشركين في الله وأظهروا لهم العداوة والبراءة فعلم سبحانه شدّة وجد المؤمنين بذلك فأنزل الله سبحانه :
الممتحنة : ( 7 ) عسى الله أن . . . . .
) عسى الله أن يجعل بينكم ( أيها المؤمنون ) وبين الذين عاديتم منهم ( من مشركي مكّة ) مودة والله قديرٌ والله غفور رحيم ( يفعل الله ذلك بأن أسلم كثير منهم فصاروا لهم أولياء وإخواناً وخالطوهم وناكحوهم وتزوّج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أم حبيبة
(9/293)
" صفحة رقم 294 "
بنت أبي سفيان بن حرب فلأن لهم أبو سفيان وكانت أم حبيبة تحت عبد الله بن جحش بن ذياب ، وكانت هي وزوجها من مهاجري الحبشة ، فنظر بوجهها وحاولها أن تتابعه فأبت وصبرت على دينها ، ومات زوجها على النصرانية ، فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى النجاشي فيها ليخطبها عليه ، فقال النجاشي لأصحابه : من أولى بها ؟
قالوا : خالد بن سعيد بن العاص ، قال : فزوّجها من نبيّكم ، ففعل ومهرها النجاشي أربعمائة دينار ، وساق أليها مهرها ، ويقال بل خطبها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى عثمان بن عفان فلما زوّجه أياها بعث إلى النجاشي فيها ، فساق عنه وبعث بها إليه فبلغ ذلك أبا سفيان وهو يومئذ مشرك فقال : ذاك الفحل لا يقرع أنفه .
الممتحنة : ( 8 ) لا ينهاكم الله . . . . .
رخّص الله سبحانه في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم ولم يخرجوهم من جميع الكافرين ، فقال عزّ من قائل : ) لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ( تعدلوا فيهم بالإحسان والبر .
) إنَّ الله يحب المقسطين ( واختلف العلماء فيمن نزلت فيهم هذه الآية ، فقال ابن عباس : نزلت في خزاعة منهم هلال بن عُديم وخزيمة ومزلقة بن مالك بن جعشم وبنو مدلح وكانوا صالحوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحداً ، وقال عبد الله بن الزُبير : نزلت في أسماء بنت أبي بكر وذلك أن أمها فتيلة بنت الغري بن عبد أسعد من بني مالك بن حنبل قدمت عليها المدينة بهدايا ضياباً وقرطاً وسمناً وهي مشركة ، فقالت أسماء : لا أقبل منك هدية ولاتدخلين عليّ في بيتي حتى أستأذن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قالت لها عائشة : رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية ، فأمر بها رسول الله أن تدخلها منزلها وتقبل هديّتها وتكرمها وتحسن إليها . وقال مرّة الهمداني وعطية العوفي : نزلت في قوم من بني هاشم منهم العباس .
الممتحنة : ( 9 ) إنما ينهاكم الله . . . . .
) إنَّما ينهاكم عن الذين قاتلوكم في دينكم وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على أخراجكم ( وهم مشركو مكة ) أن تولّوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ( الواضعون الولاية في غير موضعها .
الممتحنة : ( 10 ) يا أيها الذين . . . . .
) ياأيّها الذين آمنوا إذا جاءَكم المؤمنات مهاجرات ( الآية قال ابن عباس : أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) معتمراً حتى إذا كان بالحديبية صالحه مشركو مكّة على من أتاه من أهل مكّة رده عليهم ومن أتى أهل مكة من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فهو لهم ولم يردوه عليه ، وكتبوا بذلك كتاباً وختموا عليه فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية مسلمة بعد الفراغ من الكتاب ، والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالحديبية فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم وقال مقاتلان هو صفي بن الراهب في طلبها ، وكان كافراً فقال : يامحمد أردّد علي أمرأتي فأنك قد شرطت لنا أن ترد علينا من أتاك منّا وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد ، فأنزل الله سبحانه ) يا أيّها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات ( من دار الكفر إلى دار الإسلام .
(9/294)
" صفحة رقم 295 "
) فامتحنوهن ( قال ابن عباس : إمتحانهن أن يستحلفهن ماخرجت من بغض زوح وما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض وما خرجت التماس دنياً وما خرجت إلاّ حبّاً لله ورسوله ، فاستحلفها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما خرجت بغضاً لزوجها ولا عشقاً لرجل منا وما خرجت إلا رغبة في الإسلام ، فحلفت بالله الذي لا اله الا هو على ذلك ، فأعطى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مهرها وما أنفق عليها ولم يردها عليه ، فتروّجها عمر ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يردّ من جاء من الرجال ويحبس من جاءه من النساء إذا امتحن ويعطي أزواجهن مهورهن ، فلذلك قوله سبحانه : ) فإنْ عَلمتوهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لاهنّ حلّ لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهن ( يعني أزواجهن الكفار ما انفقوا عليهن من المهر ) ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ( مهورهن وأن كنّ لهنَّ أزواج كفار في دار الكفر ؛ لأنَّه فرّق بينهما الإسلام إذا استبرئت أرحامهن .
) ولا تمسكوا ( قراءة العامة بالتخفيف من الإمساك ، وتكون الباء صلة مجازه : ولا تمسكوا عصم الكوافر وقرأ الحسن أبو عمرو ويعقوب وأبو حاتم بالتشديد من التمسّك وقال : مسكت بالشيء وتمسّكت به ، والعصم جمع العصمة وهي ما اعتصم به من العقد والمسك ، والكوافر : جمع كافرة . نهى الله المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات ، وأمرهم بفراقهن قال ابن عباس : يقول لا تأخذوا بعقد الكوافر ممن كانت له أمرأة كافرة بمكة فلا يعتدن بها فقد أنقطعت عصمتها منه وليست له بامرأة ، وإن جاءتكم أمرأة مسلمة من أهل مكّة ولها بها زوج كافر فلا تعتدن به فقد أنقطعت عصمته منها .
قال الزهري : فلما نزلت هذه الآية طلّق عمر بن الخطاب ح أمرأتين كانتا له بمكّة مشركتين قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة فتزوّجها بعده معاوية بن أبي سفيان وهما على شركهما بمكة والأخرى أم كلثوم بنت عمر بن حروا الخزاعية أم عبد الله بن عمر ، فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غانم رجل من قومه وهما على شركهما ، وكانت عند طلحة بن عبيد الله بن عثمان ابن عمرو التيمي أروى بنت ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب ففرّق بينهما الإسلام حين نهى القرآن عن التمسك بعصم الكوافر ، وكان طلحة قد هاجر وهي بمكة على دين قومها ثم تزوّجها في الإسلام بعد طلحة خالد بن سعيد بن العاص بن أُمية بن عبد شمس ، فكانت ممن فرّ إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من نساء الكفار فحبسهما وزوّجها خالداً ، وأميمة بنت بشر كانت عند ثابت بن الدحداحة ففرّت منه وهو يومئذ كافر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فزوجها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سهل بن حنيف ، فولدت عبد الله بن سهل .
قال الشعبي : وكانت زينب بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إمرأة أبي العاص بن الربيع فأسملت
(9/295)
" صفحة رقم 296 "
ولحقت بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) في المدينة وأقام العاص مشركاً في مكة ثم أتى المدينة فأمنته زينب ثم أسلم فردّها عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
) واسألوا ( أيُّها المؤمنون الذين ذهبت أزواجكم فلحقن بالمشركين ) ما أنفقتم ( عليهن من الصدقات من تزويجهن منهم ) وليسألوا ( بعد المشركين الذين لحقت أزواجهم بكم مؤمنات إذا تزوجن فيكم من يتزوجها منكم .
) ما أنفقوا ( من المهر ) ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم ( قال الأزهري : ولولا العهد والهدنة الذي كان بينه عليه السلام وبين قريش يوم الحديبية لأمسك النساء ولم يردد أليهم صداقاً ، وكذلك يصنع بمن جاء من المسلمات قبل العهد ، فلما نزلت هذه الآية أقرّ المؤمنون بحكم الله سبحانه وأدّوا ما أمروا من نفقات المشركين على نسائهم وأبى المشركون أن يقروّا بحكم الله فيما أمر من أداء نفقات المسلمين فأنزل الله سبحانه
الممتحنة : ( 11 ) وإن فاتكم شيء . . . . .
) وإن فاتكم ( أيها المؤمنون ) شيء من أزواجكم إلى الكفار ( فلحقن بهم مرتدات ) فعاقبتم ( قراءة العامة بالألف وأختاره أبو عبيدة وأبو حاتم ، وقرأ إبراهيم وحميد والأعرج فعقّبتم مشدداً ، وقرأ مجاهد فأعقبتم على وزن أفعلتم وقال : صنعتم بهم كما صنعوا بكم ، وقرأ الزهري ( فعقبتم ) خفيفة بغير ألف ، وقرأ فعقبتم كسر القاف خفيفة وقال : غنمتم .
وكلها لغات بمعنى واحد يقال : عاقب وعقّب وعَقَب وَعقِب وأعقِب وَيعقِب واعتقِب وتعاقب إذا غنم .
ومعنى الآية : فغزوتم وأصبتم من الكفار عقبى وهي الغنيمة وظفرتم وكانت العاقبة لكم ، وقال المؤرخ : معناه فحلقتم من بعدهم وصار الأمر اليكم ، وقال الفرّاء : عقّب وعاقب مثل تصعر وتصاعر ، وقيل : غزوة بعد غزوة .
) فآتوا الذين ذهبت أزواجهم إلى الكفار منكم مثل ما أنفقوا ( عليهم من الغنائم التي صارت في أيديكم من أموال الكفار وقيل : فعاقبتم المرتدة أي قتلتموها ، وكان جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعة عن الأسلام ست نسوة : أم الحكم بنت أبي سفيان كانت تحت عياض بن شداد الفهري ، وفاطمة بنت أبي آمنة بن المغيرة أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدّت ، ويروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان ، وعبدة بنت عبد العزى بن فضلة وزوجها عمر بن عبدون ، وهند بنت أبي جهل بن هشام وكانت تحت هشام بن العاص بن وائل ، وكلثوم بنت جدّول كانت تحت عمر ابن الخطاب ، وأعطاهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مهور نسائهم من الغنيمة .
) واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ( .
(9/296)
" صفحة رقم 297 "
2 ( ) ياأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا جَآءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْادَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الاَْخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ ( 2
الممتحنة : ( 12 ) يا أيها النبي . . . . .
) ياأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنَّك ( الآية وذلك يوم فتح مكة لما فرغ الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) من بيعة الرجال وهو على الصَفا وعمر بن الخطاب أسفل منه وهو يبايع النساء بأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويبلغهن عنه وهند بنت عتبة أمرأة أبي سفيان متنقبة مستنكرة مع النساء خوفاً من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعرفها فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً ) فرفعت هند رأسها وقالت والله إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته على الرجال ، وبايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) : ( ولا يسرقن ) فقالت هند : إن أبي سفيان رجل شحيح وإني أصيب من ماله هنات ولا أدري أتحل لي أم لا ؟
فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غير فهو لك حلال ، فضحك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعرفها فقال لها : ( وإنك لهند بنت عتبة ) قالت : نعم ، فأعفُ عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك فقال : ( لا يزنين ) فقالت هند أوتزني الحرة ؟ فقال : ) ولا يقتلن أولادهن ( فقالت هند : ربيناهم صغاراً وقتلتموهم كباراً فأنتم وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر ، فضحك عمر حتى استلقى وتبسّم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ) ولا يأتين بهتان يفترينهُ بين أيديهن وأرجلهن ( وهو أن تقذف ولداً على زوجها وليس منه ، فقالت هند : والله إنَّ البهتان يقبح وما تأمرنا إلاّ مكارم الأخلاق ، ) ولا يعصينك في معروف ( فقالت : ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء ، فأقرّ النسوة بما أخد عليهن .
وأختلف العلماء في كيفية بيعة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عليه النساء ، فأخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون قال : أخبرنا مكي قال : حدثنا عبد الرحمن بن بشر قال : حدثنا سفيان وأخبرنا عبد الله ابن حامد قال : أخبرنا محمد بن جعفر قال : حدثنا بشر بن مطر قال : حدثنا سفيان بن عتبة عن محمد بن المفكر وسمع أميمة بنت رفيقة تقول : بايعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في نسوة فقال : فيما استطعتن وأطقتن فقلت : رسول الله أرحم بنا من أنفسنا ، قلت : يا رسول الله صافحنا قال : ( إني لا أصافح النساء إنما قولي ( لامرأة واحدة ) كقولي لمائة امرأة ) .
وأخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون قال : حدثنا أحمد بن محمد بن الحسن قال : حدّثنا
(9/297)
" صفحة رقم 298 "
محمد بن يحيى قال : حدّثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : كان رسول ( صلى الله عليه وسلم ) يبايع النساء بالكلام بهذه الآية على أن لا يشركن بالله شيئاً قالت : وما مسّ يد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يد أمرأة قط الايد أمرأة تملكها ، وقال السعري كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يبايع النساء وعلى يده ثوب مطري .
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أنَّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ثم غمس أيديهن فيه ، وقال الكلبي : كان رسول ( صلى الله عليه وسلم ) يشرط على النساء وعمر ح يصافحهن .
وأختلف المفسرون في معنى المعروف فقال القرظي : المعروف الذي لا يعصينه فيه ، ربيع : كل ما وافق طاعة الله فهو معروف ، فلم يرض الله لنبيّه أن يطاع في معصية الله . بكر بن عبد الله المدني : لا يعصينك في كل أمر فيه رشدهن ، مجاهد : لا تخلو المرآة بالرجال ، سعيد ابن المسيب ومحمد بن السائب وعبد الرحمن بن زيد : لا تحلقن ولا تسلقن ولا تحرقن ثوباً ولا ينتفن شعراً ولا يخمشن وجهاً ولا ينشرن شعراً ولا يحدثن الرجال إلا ذا محرم ولا تخلوا أمرأة برجل غير ذي محرم ولا تسافر أمرأة ثلاثة أيام مع غير ذي محرم ، ابن عباس : لا ينحن .
ودليل هذا التأويل ما أخبرنا الحسين قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن علي الهمداني قال : حدثنا محمد بن علي بن مخلد الفرقدي قال : حدثنا سليمان الشادكوى قال حدّثنا النعمان بن عبد السلام قال حدّثني عمرو بن فروخ قال : حدثنا مصعب بن نوح قال : أدركت عجوزاً ممن بايعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فحدّثتني عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا يعصينك في معروف قال : النوح وأخبرنا الحسن قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال : أخبرنا أبو بكر بن سلام قال : حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني قال : حدّثنا سعدون قال : حدثنا سليمان بن داود قال حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( هذه النوائح يجعلن يوم القيامة صفّين صفاً عن اليمين وصفاً وعن الشمال وينبحن كما تنبح الكلاب ) .
وأخبرنا الحسين قال : حدثنا السني قال : أخبرني إسحاق بن مروان الخطراني قال : حدثنا الحسن بن عروة قال : حدّثنا علي بن ثابت الحرري قال : حدّثنا حسان بن حميد عن سلمة بن جعفر عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( تخرج النائحة من قبرها يوم القيامة شعثاء غبراء عليها جلباب من لعنة ودرع من حرب واضعة يدها على رأسها تقول : واويلاه ، وملك يقول : آمين ، ثم يكون من ذلك حظها النار ) .
(9/298)
" صفحة رقم 299 "
وأخبرنا الحسن قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال : أخبرنا أبو يعلي الموصلي قال : حدثنا هدية بن خالد قال حدثنا أبان بن يزيد قال : حدثنا يحيى بن أبي كثير أن زيداً حدّثه أنَّ أبا سلمة حدّثه أن أبا مالك الأشعري حدّثه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن : الفخر في الإحساب والطعن في الأنساب والإستسقاء بالنجوم والنياحة ) .
وقال : ( النائحة إذا لم تتب قبل موتها يقام يوم القيامة عليها سربال من قطران ودرع من حرب ) .
وأخبرنا الحسن قال : أخبرنا ابن حمدان قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن سنان قال : حدّثنا عبد الله بن رجاء العداي قال : حدّثنا عمران بن دوار القطان قال : حدّثنا قتادة عن أبي مرانة العجلي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تصلي الملائكة على نائحة ولا مرنة .
وأخبرنا الحسن قال : حدّثنا أحمد بن إسحاق قال : حدّثني عمر بن حفص المكاري قال : حدّثنا أبو عتبة قال : حدّثنا فقيه قال : حدّثنا أبو عامر قال : حدّثني عطاء بن أبي رياح أنَّه كان عند ابن عمر وهو يقول : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لعن النائحة والمسمعة والحالقة والسالقة والواشمة والمتوشمة وقال : ( ليس للنساء في إتباع الجنائز أجر ) .
وأخبرنا الحسن قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا يوسف بن عبد الله قال حدّثنا موسى ابن إسماعيل قال : حدّثنا حماد عن أبان بن أبي عياش عن الحسين أنّ عمر بن الخطابح سمع نائحة فأتاها فضربها حتى وقع خمارها عن رأسها ، فقيل : يا أمير المؤمنين المرأة المرأة قد وقع خمارها ، قال : إنها لا حرمة لها .
الممتحنة : ( 13 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم ( وهم اليهود وذلك ان ناساً من فقراء المسلمين كانوا يخبرون اليهود بأخبار المسلمين ويتواصلونهم فيصيبون بذلك من ثمارهم ، فنهاهم الله سبحانه عن ذلك ) قد يئسوا ( يعني هؤلاء اليهود ) من الآخرة ( أن يكون لهم فيها ثواب ) كما يئس الكفار من أصحاب القبور ( أن يرجعوا إليهم أو يبعثوا .
أخبرنا الشيخ أبو علي بن أبي عمرو الخيري الحرشي قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا محمد ابن خلف بن شُعبة قال : حدّثنا محمد بن سائق قال : حدّثنا إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن
(9/299)
" صفحة رقم 300 "
ابن عباس في قوله سبحانه ) كما يئس الكفار من أصحاب القبور ( قال : هم الكفار أصحاب القبور قد يئسوا من الآخرة .
وأخبرنا أبو علي بن أبي عمرو قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا علي بن سعيد بن جبير النسائي قال : حدّثنا أبو النظر قال : حدّثنا شعبة عن الحكم عن مجاهد ) كما يئس الكفار من أصحاب القبور ( قال : الكفار حين دخلوا قبورهم يئسوا من رحمة الله .
وأخبرنا أبو علي قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا أحمد بن يوسف السلمي قال : حدّثنا موسى قال : حدّثنا شبل عن أبي نجيح عن مجاهد في قوله عزّ وجلّ ) يئسوا من الآخرة ( بكفرهم كما يئس الكفّار من الموتى في الآخرة حتى يبين لهم أعمالهم .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمّد بن جعفر قال : حدّثنا علي بن حرب قال : حدّثنا وكيع قال : حدّثنا عبد الله بن حبيب عن أبي ثابت قال : سمعت القاسم بن أبي بزة يقول في قول الله سبحانه ) قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور ( قال : من كان منهم من الكفار يئس من الخير .
(9/300)
" صفحة رقم 301 "
( سورة الصف )
مكية ، وهي تسعمائة حرف ، ومائتان وأحدى وعشرون كلمة ، وأربع عشرة آية
أخبرنا أبو الحسن الحيازي قال : حدّثنا ابن حبش قال : حدّثني أبو عباس محمد بن موسى الرازي قال : حدّثنا عبد الله بن روح المدائني قال : حدّثني شبابة بن سواد الغزاري قال : حدّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد وعن عطاء بن أبي ميمونة عن بن حبش عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة عيسى ( عليه السلام ) كان عيسى مصلياً عليه مستغفراً له مادام في الدنيا وهو يوم القيامة رفيقه )
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ياقَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِى إِسْرَاءِيلَ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلاَمِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِىأَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِىإِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَئَامَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِىإِسْرَاءِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ ( 2
الصف : ( 1 - 2 ) سبح لله ما . . . . .
) سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم يا أيها الذين آمنوا لم
(9/301)
" صفحة رقم 302 "
تقولون ما لا تفعلون ( قال مقاتلان : قال المؤمنون قبل أن يؤمروا بالقتال : لو نعلم أحب الأعمال إلى الله سبحانه لعلمناه وبذلنا فيه أموالنا وأنفسنا ، فدلّهم الله على أحب الأعمال اليه فقال : ) إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص ( فبيّن لهم فابتلوا يوم أحد بذلك ، فولّوا عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مدبرين فأنزل الله سبحانه هذه الآية .
وقال : الكلبي : قال : المؤمنون : يا رسول الله لو نعلم أحب الأعمال لفعلنا ونزل ) هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم ( ثم أنقطع الكلام ولم يبين لهم شيئاً فمكثوا بعد ذلك ما شاء الله أن يمكثوا وهم يقولون : ليتنا نعلم ماهي أما والله إذن لأشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين ، فدلّهم الله سبحانه فقال : ) تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله ( الآية ، فأبتلوا بذلك يوم أحد ففرّوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين صرع وشج في وجهه وكسرت رباعيته ، فنزلت هذه الآية يعيّرهم ترك الوفاء .
وقال محمد بن كعب : لما أخبر الله سبحانه وتعالى رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بثواب شهداء بدر قالت الصحابة : لئن لقينا بعده قتالا لنفرغن فيه وسعنا ففروا يوم أحد فعيّرهم الله بهذه الآية ، وقال ابن عباس : كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون : وددنا لو أن الله دلّنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به ، فأخبرهم الله تعالى أن أفضل الأعمال إيمان لا شك فيه والجهاد ، فكره ذلك ناس منه وشق عليهم الجهاد وتباطؤوا عنه فأنزل الله سبحانه هذه الآية ، وقال : قتادة والضحاك : نزلتا في شأن القتال ، كان الرجل يقول : قتلت ولم يقاتل ، وطعنت ولم يطعن ، وضربت ولم يضرب ، وصبرت ولم يصبر .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن مقلاب قال : حدّثنا أبو الحرث أحمد بن سعيد بدمشق قال : حدّثنا يعقوب بن محمد الزهري قال : أخبرنا حصين بن حذيف الصهري قال : حدّثني عمي عن سعيد بن المسيب عن مهيب قال : كان رجل يوم بدر قد آذى المسلمين ونهاهم فقتله صهيب في القتال ، فقال رجل : يا رسول الله قتلت فلاناً ففرح بذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عمرو بن عبد الرحمن لصهيب : أخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنك قتلته فأن فلاناً ينتحله ، فقال صهيب : إنما قتلته لله تعالى ولرسوله ، فقال عمرو بن عبدالرحمن : يا رسول الله قتله صهيب ، قال : كذلك يا أبا يحيى ؟ قال : نعم يا رسول الله ، فأنزل الله سبحانه ) يا أيها الذين آمنوا لم تقولوا ما لا تفعلون ( والآية الأخرى .
وقال الحسن : هؤلاء المنافقون ندبهم الله سبحانه ونسبهم إلى الأقرار الذي أعلنوه للمسلمين فأنزل الله فقال : ) يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ( كذباً وزوراً ، وقال : ابن زيد : نزلت في المنافقين كانوا يعدون المؤمنين النصر وهم كاذبون ، وقال : مجاهد : نزلت في نفر من الأنصار منهم عبد الله بن رواحة قال : في مجلس لهم : لو علمنا أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا بها حتى نموت ، فأنزل الله سبحانه هذه السورة فقال عبد الله بن رواحة : لا أبرح
(9/302)
" صفحة رقم 303 "
حبيساً في سبيل الله حتى أموت أو أُقتل فقتل بمؤته شهيداً رحمة الله عليه ورضوانه ، وقال : ميمون بن مهران : نزلت في الرجل يقرض نفسه بما لم يفعله نظيره ويحبون أن يحمدوا عما لم يفعلوا .
حدّثنا أبو القاسم الحسيني لفظاً قال : حدّثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفي قال : حدّثنا عمي سعيد الدارمي قال : حدّثنا محبوب بن موسى الأنطاكي قال : حدّثنا أبو إسحاق الفراري عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن سلام قال : خرجنا نتذاكر فقلنا : أيكم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسأله أي الأعمال أحب إلى الله ، ثم تفرقنا وَهِبنا أن يأتيه أحدنا ، فأرسل إلينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وجمعنا فجعل يومي بعضنا إلى بعض فقرأ علينا ) سبح لله ( إلى آخرها .
قال أبو سلمة : فقرأها علينا عبد الله بن سلام إلى آخرها قال يحيى بن أبي كثير : فقرأ علينا أبو سلمة إلى آخرها ، قال الأوزاعي : فقرأ علينا يحيى بن إسحاق إلى آخرها ، قال أبو إسحاق الفزاري : فقرأها علينا الأوزاعي إلى آخرها ، قال محبوب بن موسى : قرأها علينا الفزاري إلى آخرها ، قال عثمان بن سعيد : فقرأها علينا محبوب إلى آخرها ، قال الطرائفي : فقرأها علينا عثمان بن سعيد إلى آخرها ، قال القاسم : وقرأها علينا أبو الحسن الطرائفي إلى آخره ، وقرأها علينا الإستاذ أبو القاسم إلى آخرها وسألنا أحمد الثعلبي أن يقرأ فقرأ علينا إلى آخرها .
الصف : ( 3 ) كبر مقتا عند . . . . .
) كبر مقتاً ( نصب على الحال وأن شئت على التمييز .
وقال الكسائي : ) أن تقولوا ( في موضع رفع لان ) كبر ( بمنزلة قولك بئس رجلا أخوك ، وأضمر القراء فيه أسماً مرفوعاً ، والمقت والمقاتة مصدر واحد يقال : رجل ممقوت ومقيت إذا لم تحبّه الناس
الصف : ( 4 ) إن الله يحب . . . . .
) إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله ( ولا يزولون عن أماكنهم ) كأنَّهم بنيان مرصوص ( قد رصّ بعضه إلى بعض أي أحكم وأيقن وأدقّ فليس فيه فرجه ولا خلل ، وأصله من الرصاص ، ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( تراصوا بينكم في الصفوف لا يتخللنكم الشياطين كأنها بنات حذف ) .
الصف : ( 5 ) وإذ قال موسى . . . . .
) وإذ قال : موسى لقومه ( من بني إسرائيل ) ياقوم لم تؤذونني ( وذلك حين رموه بالادرة ) وقد تعلمون أني رسول الله إليكم ( والرسول يحترم ويعظم ) فلما زاغوا أزاغ الله ( عن الحق ) قلوبهم ( عن الدين ) والله لا يهدي القوم الفاسقين }
الصف : ( 6 ) وإذ قال عيسى . . . . .
) وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي أسمه أحمد ( وهو الذي لا يذم ، وفي وجهه قولان :
(9/303)
" صفحة رقم 304 "
أحدهما : أن الأنبياء كلّهم حمّادون لله سبحانه ونبينا ( صلى الله عليه وسلم ) أحمد ، أي أكثر حمداً لله منهم .
والثاني : أنَّ الأنبياء كلّهم محمودون ونبيّنا أحمد أي أكثر مناقب وأجمع للفضائل .
) فلما جائهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين
الصف : ( 7 - 10 ) ومن أظلم ممن . . . . .
ومن أظلم ممن أفترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام والله لا يهدي القوم الظالمين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم ( قراءة العامة بالتخفيف من الإنجاء وقرأ ابن عامر بالتشديد من ( التنجية ) ) من عذاب أليم ( بيّن ما هي فقال :
الصف : ( 11 - 12 ) تؤمنون بالله ورسوله . . . . .
) تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيله الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيّبة ( .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثني ابن حرجة قال : حدّثنا محمد بن عبد الله بن سليمان قال : حدّثنا محمد بن الفرح البغدادي قال : حدّثنا حجاج بن محمد بن جبير القصاب عن الحسن قال : سألنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عليها فقال : ( قصر من لؤلؤة في الجنّة وذلك القصر سبعون داراً من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء في كل بيت سبعون سريراً على كل سرير سبعون فراشاً من كل لون ، على كلّ فراش امرأة من الحور العين ، في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من كل الطعام ، في كل بيت سبعون وصيفاً ووصيفة ، قال : فيعطي الله المؤمن من القوة في غذاءه وحده ما يأتي على ذلك كله ) .
) في جنات عدن ذلك الفوز العظيم }
الصف : ( 13 ) وأخرى تحبونها نصر . . . . .
) وأخرى ( قال : نحاة البصرة : هي في محل الخفض مجازه : وتجارة أخرى ، وقال نحاة الكوفة : محلها رفع أي ولكم أخرى في العاجل مع ثواب الآجل .
) تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين ( ثم حثهم على نصرة الدين وجهاد المخالفين فقال :
الصف : ( 14 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله ( أعواناً بالسيف على أعدائه ، قرأ أبو عمرو وقرأ أهل الحجاز أنصاراً بالتنوين وهو أختيار أيوب ، وقرأ الباقون بالأضافة وهو أختيار أبي حاتم وأبي عبيد قال : لقوله ) نحن أنصاراً لله ( ولم يقل : أنصاراً لله .
) كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال : الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيّدنا الذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين ( .
(9/304)
" صفحة رقم 305 "
( سورة الجمعة )
مدنية ، وهي سبعمائة وعشرون حرفاً ، ومائة وثمانون كلمة ، وأحدى عشر آية
أخبرنا أبو عمرو الفراتي قال : أخبرنا موسى قال : أخبرنا مكي قال : حدّثنا سليمان قال : حدّثنا أبو معاذ عن أبي عصمة عن زيد العمي عن أبي نصرة عن ابن عباس عن أُبي بن كعب عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من قرأ سورة الجمعة كتب له عشر حسنات بعدد من ذهب إلى الجمعة من مصر من أمصار المسلمين ومن لم يذهب ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُواْ التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قُلْ ياأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُواْ إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ( 2
الجمعة : ( 1 ) يسبح لله ما . . . . .
) يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس ( قال أهل اللغة : كل أسم على فعّول بتشديد للعين فالفاء منه منصوبة ، نحو سفّود وكلّوب وسمّور وشبّوط وهو ضرب من السمك إلاّ أحرف : سبّوح وقدّوس ، ومردوح لواحد المراديح ، وحكى الفراء عن الكسائي قال : سمعت أبا الدنيا وكان إعرابياً فصيحاً يقرأ القدوس بفتح القاف ولعلها لغة .
) العزيز الحكيم ( وقرأ أبو وائل الملك القدوس بالرفع على معنى هو الملك القدوس .
أخبرني عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن عبد الله قال : حدّثنا محمد بن عبد الله
(9/305)
" صفحة رقم 306 "
ابن سليمان قال : حدّثنا محمد بن إسحاق الرازي قال : حدّثنا إسحاق بن سليمان قال : سمعت عمرو بن أبي قيس عن عطاء بن السائب عن ميسرة قال : هذه الآية ) يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم ( في التوراة سبعمائة آية .
الجمعة : ( 2 ) هو الذي بعث . . . . .
) هو الذي بعث في الأميين ( يعني العرب ) رسولا منهم ( محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمةَ وأن كانوا من قبل لفي ضلال مبين }
الجمعة : ( 3 ) وآخرين منهم لما . . . . .
) وآخرين منهم ( في ) آخرين ( وجهان من الأعراب : أحدهما الخفض على الرد إلى الأميين ، مجازه : وفي آخرين ، والثاني : النصب على الردّ إلى الهاء والميم من قوله ) يعلمهم ( أي ويعلم آخرين منهم أي من المؤمنين الذين يدينون بدينه .
) لما يلحقوا بهم ( أي لم يدركوهم ولكنهم يكونون بعدهم .
وأختلف العلماء فيهم فقال ابن عمرو سعيد بن جبير : هم العجم ، وهي رواية ليث عن مجاهد يدلّ عليه كما روى ثور بن يزيد عن أبي العتب عن أبي هريرة قال : لما نزلت هذه الآية ) وآخرين منهم لما يلحقوا بهم ( كلّمه فيها الناس فأقبل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على سلمان فقال : ( لو كان ( الدين ) عند الثريا لناله رجال من هؤلاء ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن خلف قال : حدّثنا إسحاق بن محمد قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال : حدّثنا علي بن علي قال : حدّثني أبو حمزة الثمالي قال : حدّثني حُصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( رأيتني تبعني غنم سود ثم أتبعتها غنم سود ثم اتبعتها غنم عفر ) أوّلها أبا بكر قال : أمّا السود فالعرب ، وأما العفر فالعجم تبعايعك بعد العرب ، قال : ( كذلك عبّرها الملك سحر ) يعني وقت السحر .
وبه عن أبي حمزة قال : حدّثني السدي قال : كان عبد الرحمن بن أبي ليلى إذا قال : رجل من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأنه يعني به علياً ، وإذا قال : رجل من أهل بدر فأنما يعني به علياً ، فكان أصحابه لا يسألونه عن أسمه ، وقال : عكرمة ومقاتل : هم التابعون ، وقال ابن زيد وابن حيان : هم جميع من دخل في الإسلام بعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى يوم القيامة وهي رواية ابن أبي نحيح عن مجاهد .
وروى سهل بن سعد الساعدي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( وأن في أصلاب أصلاب أصلاب
(9/306)
" صفحة رقم 307 "
رجال ( أمتي ) رجالا ونساء يدخلون الجنة بغير حساب ) ثم تلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وآخرين منهم لما يلحقوا بهم ( ) وهو العزيز الحكيم (
الجمعة : ( 4 - 5 ) ذلك فضل الله . . . . .
) ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم مثل الذين حملوا التوراة ( أي كلّفوا العمل بها ) ثم لم يحملوها ( ولم يعملوا بما فيها ولم يؤدّوا حقّها ) كمثل الحمار يحمل أسفاراً ( كتباً من العلم والحكمة .
قال الفراء : هي الكتب العظام واحدها سفر ، ونظيرها في الكلام شبر وأشبار وجلد وأجلاد فكما أن الحمار يحملها ولا يدري ما فيها ولاينتفع بها كذلك اليهود يقرؤون التوراة ولا ينتفعون به ، لأنهم خالفوا ما فيه .
أنشدنا أبو القاسم بن أبي بكر المكتب قال : أنشدنا أبو بكر محمد بن المنذر قال : أنشدنا أبو محمد العشائي المؤدب قال : أنشدنا أبو سعيد الضرير :
زوامل للأسفار لا علم عندهم
بجيّدها إلا كعلم الأباعر
لعمرك ما يدري المطي إذا غدا
بأسفاره إذ راح ما في الغرائز
) بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين (
الجمعة : ( 6 ) قل يا أيها . . . . .
) 0قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس ( محمد وأصحابه ) فتمنوا الموت ( فادعوا على أنفسكم بالموت ) إن كنتم صادقين ( أنكم أبناء الله وأحباؤه فإن الموت هو الذي يوصلكم إليه .
الجمعة : ( 7 ) ولا يتمنونه أبدا . . . . .
) ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين ( . أخبرنا الحسن قال : حدّثنا السني قال : حدّثنا النسائي قال : أخبرني عمرو بن عثمان قال : حدّثنا بقية بن الوليد قال : حدّثنا الزبيدي قال : حدّثني الزهري عن أبي عبيد أنه سمع أبا هريرة يقول قال : رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يتمن أحدكم الموت أما محسن فإن يعش يزدد خيراً فهو خيرٌ له وأما مسيئاً فلعلّه أن يستعتب ) .
2 ( ) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَواةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( 2
الجمعة : ( 8 - 9 ) قل إن الموت . . . . .
) قل إن الموت الذي تفرون منه فإنَّه ملاقيكم ثم تردّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم
(9/307)
" صفحة رقم 308 "
بما كنتم تعملون يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ( أي في يوم الجمعة كقوله سبحانه ) ماذا خلقوا من الأرض ( أي في الأرض وأراد بهذا النداء الآذان عند قعود الإمام على المنبر للخطبة ، يدل عليه ما أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون قال : أخبرنا أحمد بن الحسن قال : حدّثنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا أحمد بن خالد الوهبي قال : حدّثنا محمد بن إسحاق عن الزهري عن السائب بن يزيد قال : كان لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مؤذن واحد بلال لم يكن له مؤذن آخر غيره ، فكان إذا جلس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على المنبر أذّن على باب المسجد فإذا نزل أقام الصلاة ، ثم كان أبو بكر كذلك وعمر كذلك حتى إذا كان عثمان فكثر الناس وتباعدت المنازل زاد أذاناً فأمر بالتأذين الأوّل على دار له بالسوق يقال لها الزوراء ، فكان يؤذن له عليها ، فأذا جلس عثمان على المنبر أذن مؤذنه الأوّل ، فإذا نزل أقام للصلاد فلم يُعب ذلك عليه .
وقراءة العامة ) الجمعة ( بالضم الميم ، وقرأ الأعمش مخففة بجزم الميم وهما لغتان وجمعها : جُمع وجمعات .
أخبرنا محمد بن نعيم قال : أخبرنا أبا الحسن بن أيوب قال : أخبرنا علي بن عبد العزيز قال : أخبرنا القاسم بن سلام قال : سمعت الكسائي يخبر عن سليمان عن الزهري قال : قال ابن عباس : نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم قال الفرّاء وأبو عبيد : التخفيف حسن وهو ( . . . . . . . . ) في مذهب العربية مثل غرفة وغرف وطرفة وطرف وحجرة وحجر . وقال الفراء : وفيها لغة أخرى ثالثة : جمعة بالفتح كقولك رجل ضحكة وهمزة ولمزة وهي لغة بني عقيل ، وقيل : هي لغة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وإنما سمي هذا اليوم جمعة لما أخبرنا الحسن قال : حدّثنا الكندي قال : حدّثنا محمد بن مخلد العطّار قال : حدّثنا محمد بن عيسى بن أبي موسى قال : حدّثنا عبد الله بن عمرو بن أبي أُمية قال : حدّثنا قيس الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن قرثع الضبي عن سليمان قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنَّما سميت الجمعة لأن آدم جمع فيها خلقه ) . وقيل : لأنّ الله سبحانه فرغ فيه من خلق الأشياء فأجتمعت فيه المخلوقات .
وقيل : يجمع الجماعات فيها ، وقيل : لاجتماع الناس فيه للصلاة ، وقيل : أوّل من سماها جمعة كعب بن لؤي .
أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حفصويه قال : حدّثنا الحسن بن أحمد بن حفص الحلواني قال : حدّثنا إبراهيم بن إسحاق قال : حدّثنا إبراهيم بن المنذر قال : حدّثنا عبد العزيز عن محمد بن عبد العزيز عن أبيه عن أبي سلمة قال : أول من قال : أما بعد كعب بن لؤي ، وكان
(9/308)
" صفحة رقم 309 "
أول من سمى الجمعة الجمعة وكان يقال للجمعة : العروبة ، وقيل : أوّل من سماها جمعة الأنصار .
أخبرني الحسين قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال : حدّثنا سلمة ابن شيب قال : حدّثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال : جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة وقبل أن ينزل الجمعة وهم الذين سمّوها الجمعة ، قالت الأنصار : لليهود يوم يجمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى يوم أيضاً مثل ذلك ، فهلموا فلنجعل يوماً يجمع فيه فيذكر الله عزّ وجلّ ونصلّي ونشكره أو كما قالوا .
فقالوا : يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة ، وكانوا يسمّون يوم الجمعة يوم العروبة واجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلّى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم فسمّوه يوم الجمعة حين أجتمعوا إليه فذبح لهم أسعد بن زرارة شاة فتغدوا وتعشوا من شاة واحده وذلك لقلتهم ، فأنزل الله سبحانه في ذلك بعد ) إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ( الآية ، فهذه أول جمعة جمعت في الإسلام .
فأما أول جمعة جمعها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأصحابه فقال أهل السير والتواريخ : قدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مهاجراً حتى نزل قباء على بني عمرو بن عوف وذلك يوم الأثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين أشتد الضحى فأقام ( صلى الله عليه وسلم ) بقباء يوم الأثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وأسس مسجدهم ثم خرج بين أظهرهم يوم الجمعة عامداً المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ اليوم في ذلك الموضع مسجد وكانت هذه الجمعة أول جمعة .
وقال : الحسن هي مستحبة وليست بفرض ، وقال سعيد : جمعها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الإسلام فخطب في هذه الجمعة وهي أوّل خطبة خطبها بالمدينة فيما قيل ، وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الحمد لله أحمده وأستعينه واستغفره وأستهديه وأؤمن به ولا أكفره وأعادي من يكفره وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى والنور والموعظة على فترة من الرسل وقلّة من العلم وضلالة من الناس وإنقطاع من الزمان ودنو من الساعة ، وقرب من الأجل ، من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصيهما فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيداً ، وأوصيكم بتقوى الله فأنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة وان يأمره بتقوى الله فاحذروا ما حذركم الله من نفسه وأن تقوى الله لمن عمل به على وجل ومخافة من ربّه عون وصدق على ما تبغون من أمر الآخرة ، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السرِّ والعلانية لاينوي بذلك إلاّ وجه الله يكن له ذكراً في عاجل أمره ، وذخراً فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم ، وما كان من سوء تودّ لو أنَّ بينها وبينه أمداً بعيداً ، ويحذركم الله نفسه والله روؤف
(9/309)
" صفحة رقم 310 "
بالعباد ، والذي صدق قوله ونجز وعده لا خلق لذلك فأنه يقول ما يبدلّ القول لديَّ وما أنا بظلام للعبيد ، واتقوا الله في عاجل أمركم وآجله في السرِّ والعلانية فإنه من يتّق الله كفر عنه سيئاته ، ويعظم له أجراً ، ومن يتق الله فقد فاز فوزاً عظيماً ، وان تقوى الله توقي مقته وتوقي عقوبته وتوقي سخطه ، وأن تقوى الله تبيض الوجوه وترضي الرب وترفع الدرجة خذوا بحظّكم ولا تفرطوا في جنب الله فقد علّمكم الله كتابه ونهج لكم سبيله ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين ، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم ، وعادوا أعداءه ، وجاهدوا في سبيل الله حقّ جهاده ، هو اجتباكم وسماكم المسلمين ، ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيى عن بيّنة ولا حول ولا قوة إلاّ بالله ، وأكثروا ذكر الله واعملوا لما بعد اليوم ، فأنه من يصلح ما بينه وبين الله يكفيه الله ما بينه وبين الناس ، وذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه ، ويملك الناس ولا يملكون منه ، الله أكبر ولا قوّة إلاّ بالله العظيم ) .
فلهذا صارت الخطبة شرطاً في إنعقاد الجمعة وهو قول جمهور العلماء ، وقال الحسن : هي مستحبة وليست بفرض ، وقال سعيد بن جبير : هي بمنزلة الركعتين من الظهر فإذا تركها وصلّى الجمعة فقد صلى الركعتين من الظهر ، وأقلّ ما يجزي من الخطبة أن يحمد الله ويصلّي على نبيّه ويوصي بتقوى الله سبحانه ويقرأ آية من القرآن في الخطبة الأولى ويجب في الثانية أربع كالأولى إلاّ إن الواجب بدل قراءة الآية الدعاء ، هذا قول أكثر العلماء والفقهاء ، وقال أبو حنيفة : لو أقتصر على التحمد أو التسبيح أو التكبير أجزاه ، وقال أبو يوسف ومحمد : الواجب ما يتناوله أسم الخطبة .
ثم القيام شرط في صحة الخطبة مع القدرة عليه في قول عامّة الفقهاء إلاّ أبا حنيفة فأنه لم يشرطه فيها ، والدليل على أن القيام شرط في الخطبة قوله سبحانه : ) وتركوك قائماً ( . وحديث ابن عمر : ما كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يخطب خطبتين إلاّ وهو قائم .
وللشافعي قولان في الطهارة في حال الخطبة فقال في الجديد : هي شرط في الخطبة ، وقال في القديم : ليست بشرط ، وهو مذهب أبي حنيفة رحمة الله .
فهذا بيان القول في أول جمعه جمعت في الإسلام ، وأول جمعه جمعها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأول خطبة خطبها فيها في المدينة ، فأمّا أول جمعة جمعت بعدها بالمدينة فقال ابن عباس : أول جمعة جمعت في الإسلام بعد الجمعة بالمدينة بقرية يقال لها جُواثا من قرى البحرين .
قوله : ) فاسعوا إلى ذكر الله ( أي أمضوا إليه واعملوا له .
أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا مكّي قال : حدّثنا عبد الله بن هاشم قال : حدّثنا
(9/310)
" صفحة رقم 311 "
يحيى بن حنظلة قال : سمعت سالماً قال : قال ابن عمر : سمعت ( صلى الله عليه وسلم ) يقرأ فأمضوا إلى ذكر الله .
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ في آخرين قالوا : حدّثنا محمد بن يعقوب قال : أخبرنا الربيع ابن سليمان قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه قال : ما سمعت عمر قط يقرأها إلاّ وأمضوا إلى ذكر الله .
وأخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن جعفر الكلمواني قال : حدثنا أبو بكر محمد بن محمد بن حفص قال : حدثنا السري بن خزيمة قال : حدّثنا أبو نعيم قال : حدّثنا سفيان عن حنظلة عن سالم عن عمر أنه كان يقرأها فأمضوا إلى ذكر الله ، وروى الأعمش عن إبراهيم قال : كان عبد الله يقرأها فأمضوا إلى ذكر الله ويقول : لو قرأها فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي ، وهي قراءة أبي العالية أيضاً ، وقال الحسن : أما والله ما هو بالسعي على الأقدام ، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلاّ وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنيّة والخشوع .
وأنبأني عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن يعقوب قال : حدّثنا يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا عبد الوهاب قال : سئل سعيد عن فضل الجمعة فأخبرنا عن قتادة أنه كان يقول في هذه الآية ) ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ( فالسعي أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها قال : وكان يتأوّل هذه الآية ) فلما بلغ معه السعي ( يقول فلما مشى معه ، وقال : الكلبي فلما عمل مثله عمله .
وأخبرنا محمد بن حمدويه قال : حدّثنا محمد بن يعقوب قال : أخبرنا الربيع قال : قال الشافعي : السعي في هذا الموضع هو العمل ، قال الله سبحانه وتعالى ) إن سعيكم لشتى ( وقال سبحانه : ) وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى ( وقال تعالى : ) فإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ( وقال زهر : سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم فلم يدركوهم ولم يلاقوا ولم يألوا إلى ذكر الله يعني الصلاة .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن جعفر قال : حدّثنا علي بن حرب وليع قال : حدّثنا منصور بن دينار عن موسى بن أبي كثير عن سعيد بن المسيب ) فاسعوا إلى ذكر الله ( قال : موعظة الإمام ) وذروا البيع ( يعني البيع والشراء لأنَّ البيع يتناول المعنيان جميعاً ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا ) أراد البائع والمشتري ، وقال الأخطل
(9/311)
" صفحة رقم 312 "
وباع بنيه بعضهم بخشارة
وبعت لذبيان العلاء بمالكا
يريد بالأول البيع وبالآخر الابتياع ، وإنَّما يحرم البيع عند الأذان الثاني ، وقال الزهري : عند خروج الإمام ، وقال الضحاك : إذا زالت الشمس حرم البيع والشرى ، وروى السدي عن أبي مالك قال : كان قوم يجلسون في بقيع الزبير ويشترون ويبيعون إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ولا يقومون فنزلت هذه الآية .
) ذالكم ( الذي ذكرت من حضور الجمعة والإستماع إلى الجمعة وأداء الفريضة ) خيركم لكم ( من المبايعة ) إن كنتم تعلمون ( مصالح أنفسكم ومضارها .
ذكر تلكم الآية
أعلم أن صلاة الجمعة واجب على كل مسلم إلاّ خمسة نفر : النساء والصبيان والعبيد والمسافر والمرضى . يدل عليه ما أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن بن محمد بن إسحاق الأزهري ( باسفرائين ) قال : أخبرنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ قال : أخبرنا المزني قال : قال الشافعي : أخبرنا إبراهيم بن محمد قال : حدّثني سلمة بن عبد الله الحطمي عن محمد ابن كعب القرطي أنه سمع رجلا من بني وائل يقول : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( تجب الجمعة على كلّ مسلم إلا امرأة أو صبي أو مملوك ) .
وأخبرنا أن فنجويه قال : حدّثنا ابن يوسف قال : حدّثنا ابن وهب قال : حدّثنا الربيع بن سليمان الحبري قال : حدّثنا عبد الملك بن سلمة القرشي قال : حدّثنا أبو المثنى سلمان بن يزيد الكعبي عن محمد بن عجلان عن أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( تحرم التجارة عند الأذان يوم الجمعة ويحرم الكلام عند الخطبة وتحل التجارة بعد صلاة الجمعة ولا تجب الجمعة على أربعة : المريض والعبد والصبي والمرأة ، فمن سعى بلهو أو تجارة أستغنى الله عنه والله غني حميد ) .
وتجب الجمعة على أهل القرى إذا سمعوا النداء من المصر ، ووقت اعتبار سماع الأذان يكون المؤذّن صيّتاً والأصوات هادئة والريح ساكنة ، وموقف المؤذن عند سور البلد ، ويعتبر كل قرية بالسور الذي يليها ، هذا مذهب الشافعي ، وقال ابن عمر وأبو هريرة وأنس : تجب الجمعة على من كان على عشرة أميال من المصر ، وقال سعيد بن المسيب : يجب على من آواه المبيت ، وقال الزهري : تجب على من كان على ستة أميال ، ربيعة أربع أميال ، مالك والليث : ثلاثة أميال
(9/312)
" صفحة رقم 313 "
وقال أبو حنيفة ، لا تجب الجمعة على أهل السواد سواء كانت القرية قريبة من البلد أو بعيدة ، حتى حكي أن محمد بن الحسن سأله هل تجب الجمعة على أهل دياره وبينها وبين الكوفة مجرى نهر ، فقال : لا .
واختلف الفقهاء في عدد من ينعقد بهم الجمعة ، فقال الحسن : ينعقد بأثنين ، وقال الليث ابن سعد وأبو يوسف : بثلاثة ، وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة : بأربعة ، وقال ربيعة : الرأي بأثني عشر ، وقال الشافعي : لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين نفساً ، قال : فكل قرية جمعت فيها أربعين بالغين عاقلين أحرار مقيمين لا يظعنون عنها شتاءً وصيفاً الا ظعن حاجة وجبت عليهم الجمعة ، وقال مالك : إذا كانت قرية فيها سوق ومسجد فعليهم الجمعة من غير أعتبار عدد ، وقال أبو حنيفة : لا تجب الجمعة على أهل السواد والقرى ولا يجوز لهم أقامتها فيها ، وأشترط في وجوب الجمعة وأنعقادها : المصر الجامع للسلطان القاهر والسوق القائمة والنهر الجاري ، واحتج بحديث علي كرم الله وجهه : لا جمعة ولا تسويق إلا في مصر جامع ، وفي بعض الأخبار إلا على أهل مصر جامع وضعّفه بعضهم .
والدليل على أبي حنيفة حديث ابن عباس قال : أول جمعة جمعت بعد جمعة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة في قرية من قرى البحرين يقال لها جواثاً ، وروى أن عمر بن الخطاب ح كتب إلى أهل البحرين صلّوا الجمعة حيث ماكنتم ، وتصح إقامة الجمعة بغير إذْن السلطان وحضوره ، وقال أبو حنيفة : من شرطها الإمام أو خليفة .
والدليل على أن السلطان ليس بشرط في أنعقاد الجمعة ، ما روي أن الوليد بن عقبة والي الكوفة أبطأ يوماً في حضور الجمعة فتقدّم عبد الله بن مسعود وصلى الجمعة بالناس من غير إذنه ، وروي أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه صلى الجمعة بالناس ، يوم حصر عثمان ولم يُنقل أنه إستأذنه ، وروى أن سعيد بن العاص والي المدينة لما أخرج من المدينة صلى أبو موسى الأشعري الجمعة بالناس من غير استئذان .
ولا يجوز أن يصلي في بلد واحد إلاّ جمعة واحدة فأن صليت ثانية بطلت ، وقال أبو يوسف : فإن كان للبلد جانبان جاز أن يصلي كل جانب منه جمعة ، وقال محمد بن الحسن يجوز أن يصلي في بلد واحد جمعتان أستحساناً .
فأما الوعيد الوارد لمن ترك صلاة الجمعة من غير عذر ، فأخبرنا أبو عمرو الفراتي قال : حدّثنا أبو العباس الأحمر قال : أخبرنا محمد بن عبد الله بن الحكم قال : أخبرنا ابن أبي فديك قال : أخبرنا ابن أبي ذئب عن أسيد بن أسيد البرّاد عن عبد الله بن قتادة عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من ترك الجمعة ثلاثاً من غير ضرورة طبع الله على قلبه ) .
(9/313)
" صفحة رقم 314 "
وروى عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( لينتهين أقوام يسمعون النداء يوم الجمعة ثم لا يشهدونها أو ليطبعن الله على قلوبهم أو ليكونن من الغافلين أو ليكونن من أهل النار ) .
وروى أنه ( صلى الله عليه وسلم ) خطب فقال : ( إن الله قد افترض عليكم الجمعة في مقامي هذا ، في يومي هذا ، ( في شهري هذا من عامي هذا إلى يوم القيامة ) فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي وله إمام عادل أو جائر من غير عذر فلا بارك الله له ولا جمع الله شمله ألا فلا حج له ألا ولاصوم له ، ومن تاب تاب الله عليه ) .
أخبرنا أبو عبد الله الفتحوي قال : حدّثنا أبو بكر القطيعي قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا حسن بن علي عن الحسن بن الحر عن ميمون بن أبي المسيّب قال : أردت الجمعة زمن الحجاج ، قال : فتهيأت للذهاب ثم قلت : أين أذهب أصلي خلف هذا فقلت مرة : أذهب ، وقلت مرة : لا أذهب قال : فاجمع رأي على الذهاب ، فناداني مناد من جانب البيت : ) يا أيّها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ( قال : وجلست اكتب كتاباً فعرض لي شيء إن أنا كتبته في كتابي زُين كتابي وكنت قد كذبت ، فأن أنزلته كان في كتابي بعض القبح وكنت قد صدقت ، فقلت مرة : اكتب ، وقلت مرة : لا أكتب ، فأجمع رأي على تركه فتركته ، فناداني مناد من جانب البيت ) يثبت الله الذين آمنوابالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ( .
فأما ثواب من شهد الجمعة
وأخبرنا أحمد بن أبي قال : حدّثنا الهيثم بن كليب قال : حدّثنا عيسى بن أحمد قال : حدّثنا بقية قال : حدّثني الضحاك بن حمزة عن أبي نصرة عن أبي رجاء العطار عن أبي بكر الصديق وعمر بن حصين قالا : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من اغتسل يوم الجمعة كُفِّرت عنه ذنوبه وخطاياه فإذا أخذ في المشي ( إلى الجمعة ) كتب له بكل خطوة عمل عشرين سنة فإذا ( فرغ ) من ( الجمعة ) أجيز بعمل مائتي سنة ) .
(9/314)
" صفحة رقم 315 "
وأخبرنا أحمد بن أُبي في آخرين قالوا : حدّثنا أبو العباس الأصم قال : أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا مالك عن سمي عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من أغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرّب بدنه ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرّب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرّب كبشاً ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرّب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرّب بيضة . فإذا خرج الإمام حضرة الملائكة يستمعون الذكر ) .
وأخبرنا أبو عمرو الفراتي قال : أخبرنا أبو القاسم عمر بن أحمد بن الحسن البصري قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن شودب قال : حدّثنا محمد بن عبد الملك الدقيقي قال : حدّثنا الحسن بن عرفة قال : حدّثنا بن يزيد بن هارون عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليلة أُسري بي إلى السماء رأيت تحت العرش سبعين مدينة كل مدينة مثل دنياكم هذه سبعين مرة مملوءة من الملائكة يسبحون الله ويقدّسونه ويقولون في تسبيحهم : اللهم أغفر لمن شهد الجمعة ، اللهم أغفر لمن اغتسل في الجمعة ) .
فأما فضل يوم الجمعة
فأخبرنا أبو عمرو الفراتي وأبو عبد الله الحافظ وأبو محمد الكناني وأبو علي الثوري قالوا : حدّثنا أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف قال : أخبرنا الربيع قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا مالك عن يزيد بن عبد الله بن السهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحرث عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه ( تِيْبَ ) عليه وفيه مات وفيه تقوم الساعة وما من دابة إلاّ وهي مسبحة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة إلاّ الجن والإنس وفيه ساعة لا يصادفها عبد مسلم يسأل الله شيئاً إلاّ أعطاه إياه ) .
قال أبو هريرة : قال عبد الله بن سلام : هي آخر ساعة في يوم الجمعة ، فقلت له : كيف يكون آخر ساعة وقد قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي وتلك الساعة لا يصلي فيه فقال ابن سلام ألم يقل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من جلس مجلساً ينتظر فيه الصلاة فهو في الصلاة حتى يصلّي ) فقلت بلى قال : ( فهو ذلك ) .
وأخبرنا عبد الخالق قال : أخبرنا إبن هند قال : حدّثنا يحيى بن أبي طالب قال حدّثنا أَبُو
(9/315)
" صفحة رقم 316 "
بدر شجاع بن الوليد السكوني قال حدّثنا زياد بن خيثمة عن عثمان بن أبي مسلم عن أنس بن مالك قال : أبطأ علينا رسول اللّه ( عليه السلام ) ذات يوم فلمّا خرج قلنا : أحُبستَ قال : ذلك أنّ جبرئيل ( عليه السلام ) أتاني بهيئه المرأة البيضاء فيها نكته سوداء فقال إنّ هذه الجمعة فيها خيرٌ لك ولأمّتك وقد أرادها والنصارى فأخطؤوها ، قلت : يا جبرائيل ما هذه النكته السوداء ؟ قال : هذه السّاعة الّتي في يوم الجمعة لا يوافقها مسلم يسأل اللّه فيها خيراً إلاّ أعطاه إيّاه أو ذخر له مثله يوم القيامة أو صرف عنه من السوءِ مثله وإنّه خيرُ الأيّام عند اللّه ، وإنّ أهل الجنّة يسمّونه يوم المرند ، قلت : يا رسول الله وما يوم المرند ؟
قال : إنّ في الجنّة وادياً ، رائحة نبته مسك أبيض ، يتنزل اللّه سبحانه وتعالى كل يوم جمعة ويضع كرسيّه فيه ، ثم يجاءُ بمنابر من نور وتوضع خلفه فتحفُّ منه الملائكة ثم يجاءُ بكرسي من ذهب فيوضع ، ثمّ يجيىء النبيّيون والصدّيقون والشهداء والمؤمنون أهل الغرف فيجلسون ثمّ يُقسم اللّه سبحانه وتعالى فيقول : أي عبادي سلوا ، فيقولون : نسألك رضوانك ؟ فيقول : قد رضيت عنكم ، فسلوا ، فيسألون مناهم فيعطيهم اللّه ما شاءوا وأضعافها فيعطيهم مالا عين رأت ولا خطر على قلب بشر ، ثم يقول : ألم أُنجزكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي ، وهذا محل كرامتي ، ثم ينصرفون إلى غرفهم ويعودون كلّ يوم جمعة قلت : يا جبرائيل ما غرفهم ؟ قال : من لؤلؤة بيضاء أو ياقوته حمراء أو زبرجدة خضراء مفرزة منها أبوابها فيها أزواجها ، مطردة فيها أنهارها .
وأخبرنا عبد الخالق قال : أخبرنا أَبُو العبّاس عبد الوهّاب بن عبد الجليل ذكر قال حدّثنا أَبُو محمّد أحمد بن محمّد بن إسحاق السني قال حدّثنا أحمد بن غالب البصري الزاهد بعد إذ قال حدّثنا دينار مولى أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ ليلة الجمعه ويوم الجمعة أربعة وعشرون ساعة ، للّه سبحانه في كل ساعة ستمائه ألف عتيق من النّار ) .
2 ( ) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَواةُ فَانتَشِرُواْ فِى الاَْرْضِ وَابْتَغُواْ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَازِقِينَ ( 2
الجمعة : ( 10 ) فإذا قضيت الصلاة . . . . .
) فإذا قضيت الصلاة ( أي فرغ منها .
) فانتشروا في الأرض ( للتجارة والتصرف في حوائجكم .
) وابتغوا من فضل اللّه ( أي الرزق وهما أمر إباحة وتخيير كقوله سبحانه ) وإذا حللتم فاصطادوا ( .
(9/316)
" صفحة رقم 317 "
وقد أخبر عقيل أنّ أبا الفرح أخبرهم عن أبي جعفر الطبري قال : حدّثني العبّاس بن أبي طالب قال حدّثنا علي بن المعافي بن يعقوب الموصلي قال : حدّثنا أَبُو علي الضايع عن أبي خلف عن أنس قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) في قول الله سبحانه ) فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل اللّه ( قال : ليس بطلب دنيا ولكن عيادة مريض ، وحضور جنازة ، وزيارة أخ في اللّه .
قال الحسن وسعيد بن جبير ومكحول ) وابتغوا من فضل اللّه ( هو طلب العلم .
وقال جعفر بن محمّد الصّادق ) فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل اللّه ( هو يوم السبت .
الجمعة : ( 11 ) وإذا رأوا تجارة . . . . .
) وإذا رأوا تجارةً أو لهواً ( الآية أخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا محمّد بن جعفر قال حدّثنا علي بن حرب قال حدّثنا إبن فضيل قال حدّثنا حُصَين عن سالم بن الجعد عن جابر ابن عبد اللّه قال : أقبلت عيرٌ ونحن نصلّي مع النبّي ( عليه السلام ) الجمعة فانفضّ الناس إليها فما بقي غير إثني عشر رجلا أنا فيهم فنزلت ) وإذا رأوا تجارةً أو لهواً ( الآية .
وقال الحسن وأَبُو مالك : أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر ، فقدم دُحية بن خليفة بتجارة زيت من الشام والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يخطب يوم الجمعة ، فلمّا رأوهُ قاموا إليه بالبقيع ، خشوا أن يسبقوا إليه فلم يبق مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلاّ رهط منهم أَبُو بكر وعمر ، فنزلت هذه الآية فقال رسول اللّه ( عليه السلام ) : ( والّذي نفس محمّد بيده لو تتابعتم حتّى لا يبقى أحدٌ منكم لسال بكم الوادي ناراً ) .
قال المقاتلان : بينا رسول اللّه ( عليه السلام ) يخطب يوم الجمعة إذ قدم دُحية بن خليفة بن فروة الكلبي ثم أحد بني الخزرج ثم أحد بني زيد بن مناة بن عامر من الشام بتجارة ، وكان إذا قدم لم يبق بالمدينة عاتق إلاّ أتاه وكان يقدّم إذا قدم كل ما يحتاج إليه من دقيق أو بُرّ أو غيره ، فينزل عند أحجار الزيت ، وهو مكان في سوق المدينة ، ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ، فقدم ذات جمعة وكان ذلك قبل أن يُسلم ، ورسول اللّه ( عليه السلام ) قائماً على المنبر يخطب ، فخرج النّاس فلم يبقَ في المسجد إلاّ إثنا عشر رجلا وامرأة فقال النبي ( عليه السلام ) : ( لولا هؤلاء لسوّمت عليهم الحجارة من السماء ) وأنزل اللّه سبحانه هذه الآية ، وقال إبن عباس في رواية الكلبي لم يبق في المسجد إلاّ ثمانية رهط ، وقال إبن كيسان : خرجوا إلاّ أحد عشر رجلا وامرأة
(9/317)
" صفحة رقم 318 "
قال قتادة ومقاتل : بلغنا أنّهم فعلوا ذلك ثلاث مرات ، وكل مرّة بعير تقدم من الشام ، وكل ذلك يوافق يوم الجمعة .
وقال مجاهد : كانوا يقومون إلى نواضحهم وإلى السفر ، يقدّمون يتبعون التجارة واللهو ، فأنزل اللّه سبحانه ) وإذا رأوا تجارة أو لهواً ( قال المفسّرون : يعني الطبل وذلك أنّ العير كانت إذا قدمت المدينة استقبلوها بالطبل والتصفير .
وقال جابر بن عبد اللّه : كان الجواري إذا نكحوا يمرّون بالمزامير والطبل فانفضّوا إليها ، فنزلت هذه الآية ، وقوله ) انفضوا إليها ( ردّ الكناية إلى التجارة لاّنّها أهم وأفضل ، وقد مضت هذه المسألة .
وقرأ طلحه بن مصرف ) وإذا رأوا لهواً أو تجارة انفضّوا إليها ( .
) وتركوك قائماً ( على المنبر .
أخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا أَبُو عَمُرو بن الحسن قال حدّثنا أحمد بن الحسن بن سعيد قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا حُصين عن مسعر وأبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن حسان عن عبيدة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد اللّه أنّه سئل : أكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يخطب قائماً أو قاعداً ؟ قال أما تقرأ ) وتركوك قائما ( ) قل ما عند اللّه خيرٌ من اللّهو ومن التّجارة ( قرأ أَبُو رجاء العطاردي ) خير من اللهو والتجارة للّذين آمنوا ( .
) واللّه خير الرازقين ( لأنّه مُوجد الأرزاق فإيّاه فاسألوا ومنه فاطلبوا .
(9/318)
" صفحة رقم 319 "
( سورة المنافقون )
مدنيّة ، وهي سبعمائة وستة وسبعون حرفاً ، ومائة وثمانون كلمة ، وإحدى عشرة آية
أخبرنا الهادي قال : حدّثنا طغران قال : حدّثنا ابن أبي داود قال : حدّثنا محمّد بن عاصم قال : حدّثنا شبابة قال : حدّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن يزيد عن ذرّ بن حبيش عن أُبي ابن كعب قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة المنافقين بري من النفاق ) .
بسم اللّه الرحمن الرحيم
2 ( ) إِذَا جَآءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُواْ أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءَامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَفْقَهُونَ ( 2
المنافقون : ( 1 ) إذا جاءك المنافقون . . . . .
) إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنّك لرسول اللّه واللّه يعلم إنّك لرسوله واللّه يشهد إنّ المنافقين لكاذبون ( فيما أظهروا لأنّهم أضمروا خلافه .
المنافقون : ( 2 - 4 ) اتخذوا أيمانهم جنة . . . . .
) إتخذوا أيمانهم جُنّة ( سترة ) فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون ( ) ذلك بأنّهم آمنوا ثمّ كفروا فُطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ( ) وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم ( لاستواء خلقها ، وحسن صورتها ، وطول قامتها
(9/319)
" صفحة رقم 320 "
قال ابن عبّاس : وكان عبد اللّه بن أُبيّ جسيماً صحيحاً فصيحاً ذلق اللسان ، فإذا قال يسمع النبي ( عليه السلام ) قوله .
) وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنّهم خشبٌ مسنّدةٌ ( أشباح بلا أرواح ، وأجسام بلا أحلام .
قرأ الأعمش والكسائي وأَبُو عَمرو عن عابس وقيل عبّاس : خشب مخفف بجزم الشين ، وهي قراءة البراء بن عازب واختيار أبي عبيد قال : ( المدُّ مذهبها ) في العربية ، وذلك أنّ واحدتها خشبة ولم تجد في كلامهم اسماً على مثل فعلة تجمع فُعُلُ بضم الفاء والعين ، ويلزم من فعلها أن ينقل البدن أيضاً فيقرأ ) والبُدَن جعلناها لكم ( لأن واحدتها بُدنة أيضاً .
وقرأ الأخرون بالتثقيل وهي اختيار أبي حاتم واختلف فيه عن ابن كثير وعاصم .
أخبرنا أَبُو بكر بن أبي محمّد الحمشاذي قال : أخبرنا أَبُو بكر بن مالك القطيعي ، حدّثنا محمّد بن يونس بن موسى قال : حدّثنا الأصمعي قال : حدّثنا سليم العاملاني قال : جاءَ رجل إلى إبن سيرين فقال : رأيت حالي مُحْتضن خشبة ، فقال أحسبك من أهل هذه الآية وتلا ) كأنهم خشب مسندة ( ) يحسبون ( من جبنهم وسوء ظنهم وقلّة يقينهم .
) كلّ صيحة عليهم ( قال مقاتل : يقول إن نادى مناد في العسكر وانقلبت دابّة ، ونُشدت ضالة ظنّوا أنّهم يرادون بذلك لما في قلوبهم من الرعب .
وقال بعضهم : إنّما قال ذلك لأنّهم على وجل من أن ينزل اللّه فيهم ، يهتك أستارهم وتبيح دماءهم وأموالهم وقال الشاعر في هذا المعنى :
ولو أنها عصفورة لحسبتها
مسوّمة تدعو عُبيداً وأزنما
ثمّ قال ) هم العدّو ( ابتداء وخبر .
) فأحذرهم ( ولا تأمنهم .
) قاتلهم اللّه ( لعنهم اللّه .
) أنّى يؤفكون ( يصرفون عن الحق .
المنافقون : ( 5 ) وإذا قيل لهم . . . . .
) وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول اللّه لوّوا رؤوسهم ( أي أمالوها وأظهروا بوجوههم إظهاراً للكراهية .
(9/320)
" صفحة رقم 321 "
وقرأ نافع والمفضل ويعقوب برواية روح وزيد بتخفيف الواو ، وهي اختيار أبي حاتم .
وقرأ الباقون بالتشديد واختاره أَبُو عبيدة قال : لأنّهم فعلوها مرّة بعد مرّة .
) ورأيتهم يصدّون ( يعرضون عمّا دعوا إليه ، ) وهم مستكبرون ( لا يستغفرون .
المنافقون : ( 6 - 7 ) سواء عليهم أستغفرت . . . . .
) سواءٌ عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر اللّه لهم إنّ اللّه لا يهدي القوم الفاسقين ( نزلت هذه الآية في عبد اللّه بن أُبي المنافق وأصحابه ، وذلك ما ذكره أهل التفسير وأصحاب السير أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) بلغه أنّ بني المصطلق يجتمعون لحربه وقائدهم الحرث بن أبي ضراب أَبُو جويرية زوج رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فلمّا سمع بهم رسول اللّه ( عليه السلام ) خرج إليهم حتّى لقيهم على ماء من مياههم يقال له : المريسيع من ناحية قدموا إلى الساحل ، فتزاحف النّاس واقتتلوا فهزم اللّه بني المصطلق وقتل من قتل منهم ونقل رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءها عليه ، وقد أُصيب رجل من المسلمين من بني كليب بن عوف بن عامر يقال له : هشام بن صبابة ، أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت وهو يرى أنّه من العدو فقتله خطأً .
فبينا النّاس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني عمار يقال له : جهجاه بن سعيد يقود له فرسه فازدحم جهجاه وسنان الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني : يا معشر الأنصار ، وصرخ الغفاري : يا معشر المهاجرين ، فأعان جهجاه الغفاري رجل من المهاجرين يقال له جعال وكان فقيراً ، وقال عبد اللّه بن أبي الجعال : وإنّك لهناك ؟ فقال : وما يمنعني أن أفعل ذلك ؟ فاشتدَّ لسان جعال على عبد اللّه ، فقال عبد اللّه : والّذي يُحلَفُ به لأذرنّك وبهمك عن هذا ، وغضب عبد اللّه بن أبي وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلاماً حديث السّن ، وقال إبن أُبي افعلوا قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ، والله ما مثلنا ومثلهم إلاّ كما قال القائل : سمّن كلبك يأكلك ، أما واللّه ) لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذل ( يعني بالأعزّ نفسه وبالأذلّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم )
ثمّ أقبل على من حضر من قومه فقال : هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم ، أما واللّه لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ، ولأوشكوا أن يتحولوا عن بلادكم فيلحقوا بعشائرهم وموإليهم فلا تنفقوا عليهم حتّى ينفضّوا من حول محمّد ، فقال زيد بن أرقم : أنت واللّه الذليل المبغض في قومك ، ومحمّد في عزّ من الرحمن ومودّة من المسلمين ، واللّه لا أحبّك بعد كلامك هذا .
فقال عبد اللّه : اسكت فإنّما كنت ألعب ، فمشى زيد بن أرقم إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب فقال : دعني أضرب عنقه يا رسول اللّه
(9/321)
" صفحة رقم 322 "
فقال : إذا توعد أن خلّ عنه يدخل . فقال : أمّا إذا جاءَ أمر النبي ( عليه السلام ) فعمر يرحل ولم يلبث إلاّ أياماً ولأنك حسبتني أشتكي ومات .
قالوا : فلمّا نزلت هذه الآية وبان كذب عبد اللّه بن أبي قيل له : يا أبا حباب إنّه قد نزلت أيُ شداد ، فاذهب إلى رسول اللّه يستغفر لك فلوّى رأسه ثم قال : أمرتموني أن أؤمن فقد أمنت ، وأمرتموني أن أُعطي زكاة مالي فقد أعطيت ، فما بقي إلاّ أن أسجد لمحمّد ، فأنزل اللّه سبحانه ) وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسولُ اللّه ( إلى قوله ) هم الذّين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول اللّه حتّى ينفضّوا ولله خزائن السماوات والأرض ( فلا يعذر أحد أن يعطي هنا شيئاً إلاّ بأذنه ، ولا أن يمنعه شيئاً إلاّ بمشيئته .
قال رجل لحاتم الأصم : من أين يأكل ؟ فقرأ ) ولله خزائن السماوات والأرض ولكنّ المنافقين لا يفقهون ( .
وقال الجنيد : خزائن السماء : الغيوب ، وخزائن الأرض : القلوب وهو علاّم الغيوب ومقلّب القلوب ، وكان الشبلي يقول : وللّه خزائن السماوات والأرض فأين تَذهبون ؟ .
( ) يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الاَْعَزُّ مِنْهَا الاَْذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَاكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلاأَخَّرْتَنِىإِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( 2
المنافقون : ( 8 ) يقولون لئن رجعنا . . . . .
) يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ( يعني من غزوة بني لحيان ثمّ بني المصطلق ، وهم حي من هذيل ) ليخرجن الأعزّ منها الأذل ) .
وللّه العزّة ولرسوله وللمؤمنين ( فعزّة اللّه سبحانه قهر مَن دونه ، وعزّ رسوله إظهار دينه على الأديان كلّها ، وعزّ المؤمنين نصره إيّاهم على أعدائهم فهم ظاهرون .
وقيل : عزّة اللّه : الولاية ، قال اللّه تعالى ) هنالك الولاية للّه الحق ( وعزّة الرسول : الكفاية قال اللّه سبحانه : ) إنّا كفيناك المستهزئين ( وعزّ المؤمنين : الرفعة والرعاية قال اللّه سبحانه : ) وأنتم الأعلون إنْ كنتم مؤمنين ( وقال ) وكان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً ( .
وقيل : عزة اللّه الربوبية ، وعزّة الرسول : النبوّة . وعزّة المؤمنين : العبودية .
وكان جعفر الصّادق يقول : ( من مثلي وربّ العرش معبودي ، من مثلي وأنت لي ) .
وقيل : عزّة اللّه خمسة : عزّ الملك والبقاء ، وعزّ العظمة والكبرياء ، وعزة البذل والعطاء
(9/322)
" صفحة رقم 323 "
وعزّ الرفعة والغناء ، وعزّ الجلال والبهاء ، وعزّ الرسول خمسة : عزّ السبق والابتداء ، وعزّ الأذان والنداء ، وعزّ قدم الصدق على الأَنبياء ، وعزّ الاختيار والاصطفاء ، وعزّ الظهور على الأعداء ، وعزّ المؤمنين خمسة : عزّ التأخير بيانه : نحن السابقون الآخرون ، وعزّ التيسير بيانه : ) ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر يريدُ اللّه بكم اليسر ( ، وعزّ التبشير بيانه : ) وبشّر المؤمنين بأنّ لهم من اللّه فضلا كبيراً ( ، وعزّ التوقير بيانه : ) وأنتم الأعلون ( ، وعزّ التكثير وبيانه : إنهم أكثر الأُمم .
) ولكنّ المنافقين لا يعلمون (
المنافقون : ( 9 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيّها الذّين أمنوا لا تلهكم ( لا تشغلكم ) أموالكم ولا أولادكم عن ذكر اللّه ( قال المفسرون : يعني الصلوات الخمس ، نظيره قوله سبحانه : ) رجالُ لا تلهيهم تجارة ( الآية .
) ومن يفعل ذلك فأُولئك هم الخاسرون (
المنافقون : ( 10 ) وأنفقوا من ما . . . . .
) وأنفقوا ممّا رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول ربّ لولا أخرتني ( أمهلتني يجوز أن يكون ( لا ) صلة ، فيكون الكلام بمعنى التمنّي ، ويجوز أن يكون بمعنى هلاّ فيكون استفهاماً .
) إلى أجل قريب ( يعني مثل ما أجلت في الدنيا ، ) فأصَدّق ( فأتصدّق وأزكّي مالي .
) وأكن من الصالحين ( المؤمنين نظيره قوله ) ومن صلُح من آباءهم ( هذا قول مقاتل وجماعة من المفسرين ، وقالوا : نزلت هذه الآية في المنافقين .
وقيل : الصالح ها هنا : الحج ، والآية نازلة في المؤمنين .
روى الضّحاك وعطية عن إبن عبّاس قال : ما من أحد يموت وكان له مال ولم يؤدِّ زكاته وأطاق الحجّ ولم يحجّ إلاّ سأل الرجعة عند الموت فقالوا : يا بن عبّاس اتّق اللّه فأنّما نرى هذا الكافر سأل الرجعة فقال : أنا أقرأ عليكم قرآناً ، ثم قرأ هذه الآية إلى قوله ) فأصّدق وأكن من الصالحين ( قال : أحجّ ، أخبرناه إبن منجويه قال : حدّثنا إبن حمدان قال : حدّثنا إبن سهلويه قال : حدّثنا سلمة قال : حدّثنا عبد الرزّاق قال : أخبرنا الثوري عن يحيى بن أبي حيّة عن الضّحاك عن إبن عبّاس .
واختلف القرّاء في قوله ) وأكن ( فقرأ أبو عَمرو وإبن محيص : وأكون بالواو ونصب النون على جواب التمنّي أو للاستفهام بالفاء ، قال أَبُو عَمرو : وإنما حذفت الواو من المصحف اختصاراً كما حذفوها في ( كلّمن ) وأصلها الواو .
قال الفرّاء : ورأيت في بعض مصاحف عبد اللّه فقولا فقُلا بغير واو ، وتصديق هذه
(9/323)
" صفحة رقم 324 "
القراءة ما أخبرنا محمّد بن نعيم قال : أخبرنا الحسين بن أيّوب قال : أخبرنا علي بن عبد العزيز قال : أخبرنا القاسم بن سلام قال : حدّثنا حجاج عن هارون قال : في حرف أُبي بن كعب وعبد اللّه بن مسعود وأكون من الصالحين ، بالواو .
وقرأ الآخرون : بالجزم وأكنْ عطفاً بها على قوله فأصّدّق لو لم يكن فيه الفاء وذلك أنّ قوله فأصدّق لو لم يكن فيه الفاء كان جزماً ، واختار أَبُو عبيد الجزم ، قال : من ثلاث جهات : أحدها : إنّي رأيتها في مصحف الإمام عثمان ( فأكن ) بحذف الواو ثم اتفقت بذلك المصاحف فلم تختلف .
والثانية : اجتماع أكثر قرّاء الأمصار عليها .
والثالثة : إنّا وجدنا لها مخرجاً صحيحاً في العربية لا يجهله أهل العلم بها وهو أنْ يكون نسقاً على محل أصّدق قبل دخول الفاء ، وقد وجدنا مثله في أشعارهم القديمة منها قول القائل :
فأبلوني بليتكم لعلّي
أصالحكم واستدرجْ نويا
فجزم واستدرج عطفاً على محل أصالحكم قبل دخول لعلّي .
المنافقون : ( 11 ) ولن يؤخر الله . . . . .
) ولن يؤخّر اللّه نفساً إذا جاء أجلها واللّه خبير بما يعملون ( بالياء مختلف عنه غيره بالتاء .
(9/324)
" صفحة رقم 325 "
( سورة التغابن )
مكية إلاّ قوله ) يا أيّها الذّين آمنوا إنّ من أزواجكم ( الآية وهي ألف وسبعون حرفاً ، ومائتان وإحدى وأربعون كلمة ، وثماني عشرة آية
أخبرنا أَبُو الحسن المحاربي قال : حدّثنا أَبُو الشيخ الحافظ قال : حدّثنا أَبُو داود سليمان ابن أحمد بن الوليد قال : حدّثنا سلمة بن شبيب قال : حدّثنا الوليد بن الوليد الدمشقي عن عبد الرحمن بن ثومان عن عطاء بن عبد اللّه بن عَمرو قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من مولود يولد إلاّ وفي تشابيك رأسه مكتوب خمس آيات من فاتحة سورة التغابن ) .
وأخبرني نافل بن راقم قال : حدّثنا عبد اللّه بن أحمد بن محمّد قال : حدّثنا عَمُرو بن محمد قال : حدّثنا أسباط بن اليسع قال : حدّثنا يحيى بن عبد اللّه السلمي قال : حدّثنا أَبُو عصمة نوح بن أبي مريم عن علي بن زيد عن ذر عن أُبي قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة التغابن دفع عنه موت الفجأة ) .
بسم اللّه الرحمن الرحيم
( ) يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُاْ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ذَالِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِىٌّ حَمِيدٌ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فَئَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنّورِ الَّذِىأَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ( 2
التغابن : ( 1 - 2 ) يسبح لله ما . . . . .
) يسبّحُ لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كلّ شيء قدير (
(9/325)
" صفحة رقم 326 "
) هو الذّي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن واللّه بما تعملون بصير ( اختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فقال قوم : إنّ اللّه سبحانه خلق الخلق مؤمنين وكافرين .
قال ابن عبّاس : بدأ اللّه خلق بني آدم مؤمناً وكافراً ثمّ يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمناً وكافراً .
واحتجّوا بحديث الصادق المصدِّق وقوله : ( السعيد من سعد في بطن أمّه والشقي من شقي في بطن أُمّه ) .
وكما أخبرنا عبد اللّه بن كامل الأصبهاني قال : أخبرني أَبُو بكر أحمد بن محمد بن يحيى العبدي بنو شيخ قال : حدّثنا أحمد بن نجدة بن العريان قال : حدّثنا المحاملي قال : حدّثنا إبن المبارك عن أبي لهيعة قال : حدّثني بكر بن سوادة عن أبي تميم الحسائي عن أبي ذر عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا مكث المني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس ، فعرج به إلى الرّب تبارك وتعالى ، فقال : يارب أذكر أم أنثى ؟ فيقضي اللّه سبحانه ماهو قاض . أشقيٌ أم سعيد ؟ فيكتب ما هو لاق ) وقرأ أَبُو ذر من فاتحة التغابن خمس آيات ) .
وأخبرنا عبد الخالق قال : أخبرنا إبن حبيب قال : حدّثنا إبراهيم بن إسماعيل السيوطي قال : حدّثنا داود بن المفضل قال : حدّثنا نصر بن طريف قال : أخبرنا قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ناجيه بن كعب عن عبد اللّه بن مسعود قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( خلق اللّه سبحانه فرعون في بطن أُمّه كافراً ، وخلق يحيى بن زكرّيا في بطن أُمّه مؤمناً ) .
وقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً .
وقال اللّه سبحانه ) ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفّاراً ( .
إنّ اللّه سبحانه خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا . قالوا وتمام الكلام عند قوله : ) هو الذّي خلقكم ( ثم وصفهم ) فمنكم كافر ومنكم مؤمن ( وهو مثل قوله : ) اللّه خلق كلّ دابّة من ماء فمنهم من يمشي ( على بطنه ) ( الآية ، قالوا : فاللّه خلقهم والمشي فعلهم ، وهذا اختيار الحسن ابن الفضل .
قالوا : أو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفه بفعلهم في قوله : ) فمنكم كافر ومنكم مؤمن ( الكفر فعل الكافر ، والإيمان فعل المؤمن .
واحتجّوا بقوله سبحانه : ) فطرة اللّه التّي فطر النّاس عليها ( وبقوله : ( كل مولود يولد على الفطرة ) ، وقوله حكايةً عن ربّه : ( إنّي خلقت عبادي كلّهم حنفاء ) ونحوها من
(9/326)
" صفحة رقم 327 "
الأخبار ، ثم اختلفوا في تأويلها ، فروى أَبُو الجوزاء عن إبن عبّاس قال : ( فمنكم مؤمن يكفر ، ومنكم كافر يؤمن ) .
وقال أَبُو سعيد الخدري : ( فمنكم كافر حياته مؤمن في العاقبة ، ومنكم مؤمن حياته كافر في العاقبة ) ، وقال الضحاك : فمنكم كافر في السّر مؤمن في العلانية كالمنافق ، ومنكم مؤمن في السّر ، كافر في العلانية كعمّار وذويه . فمنكم كافر باللّه مؤمن بالكواكب ، ومنكم مؤمن باللّه كافر بالكواكب ، يعني في شأن الأنوار .
قال الزجّاج : وأحسن ما قيل فيها ) هو الذّي خلقكم فمنكم كافر ( بأنّ اللّه خلقه ، وهو مذهب أهل الدهر والطبائع . ) ومنكم مؤمن ( بأنّ اللّه خلقه .
وجملة القول في حكم هذه الآية ومعناها والذّي عليه جمهور الأُمّة والأَئمة والمحقّقون من أهل السُنّة هي أنّ اللّه خلق الكافر وكفره فعلا له وكسباً ، وخلق المؤمن وإيمانه فعلا له وكسباً ، فالكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق اللّه سبحانه إيّاه ؛ لأنّ اللّه سبحانه وتعالى قدّر عليه ذلك وعَلِمَهُ منه ، والمؤمن يؤمن ويختار الإيمان بعد خلق اللّه تعالى إيّاه ؛ لأنّ اللّه سبحانه أراد ذلك منه وقدّره عليه وعَلِمَهُ منه ، ولا يجوز أن يوجد من كلّ واحد منهم غير الذي قدّره اللّه عليه وعلمه منه ، لأنّ وجود خلاف المقدور عجز ، وخلاف المعلوم جهل ، وهما لا يليقان باللّه تعالى ، ولا يجوزان عليه ، ومن سلك هذا السبيل سَلِمَ من الجبر والقدر فأصاب الحقّ كقول القائل :
يا ناظراً في الدّين ما الأمر
لا قدرٌ صحّ ولا جبرُ
وقد أخبرنا أَبُو علي زاهر بن أحمد العمدة السرخسي قال : حدّثنا عبد اللّه بن مبشر الواسطي قال : حدّثنا أحمد بن منصور الزّيادي قال : سمعت سيلان يقول : قدم أعرابي البصرة فقيل له : ما تقول في القدر ؟ قال : أمر تغالت فيه الظنون ، واختلف فيه المختلفون ، فالواجب علينا أن نردّ ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه .
التغابن : ( 3 - 6 ) خلق السماوات والأرض . . . . .
) خلق السماوات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير ( ) يعلم ما في السموات والأرض ويعلم ما تُسرّون وما تعلنون واللّه عليم بذات الصُّدور ( ) أَلم يأتكم نبؤُا الذين كفروا من قبل ( يعني الأُمم الخالية ) فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أَليم ( ) ذلك العذاب ( ) بأَنّه كانت تأتيهم رُسُلهم بالبيّنات فقالوا أبشرٌ يهدوننا ( لأنّ البشر وإن كان لفظه واحد فإنّه في معنى الجمع وهو اسم الجنس وواحده إنسان ولا واحد له من لفظه .
) فكفروا وتولّوا واستغنى اللّه ( عن إيمانهم ) واللّه غنيٌّ ( عن خلقه ، ) حميد ( في أَفعاله
(9/327)
" صفحة رقم 328 "
التغابن : ( 7 - 8 ) زعم الذين كفروا . . . . .
) زعم الذّين كفروا أنْ لن يبعثوا قل ( يا محمّد ) بلى وربّي لتبعثُنَّ ثمّ لتنبَؤُنَّ بما عملتم وذلك على اللّه يسير ( .
) فآمنوا باللّه ورسوله والنّور الذّي أنزلنا ( وهو القرآن .
) واللّه بما تعملون خبير ( .
2 ( ) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَآ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لاَِنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 2
التغابن : ( 9 ) يوم يجمعكم ليوم . . . . .
) يوم يجمعكم ( قراءة العامّة بالياء لقوله سبحانه ) فآمنوا باللّه ورسوله والنور الذي أنزلنا واللّه بما تعملون خبير ( وقرأ ( رويس عن يعقوب ( يوم نجمعكم ) ) بالنون اعتباراً بقوله أنزلنا .
) ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ( وهو تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ والمراد ، وقد ورد في تفسير التغابن عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ما أخبرنا الحسن بن محمّد قال : حدّثنا موسى بن محمد بن علي قال : حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن سنان قال : حدّثنا كثير بن يحيى قال : حدّثنا أَبُو آمنة بن معلّى الثقفي قال : حدّثنا سعيد بن أبي سعيد المنقري عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ما من عبد مؤمن يدخل الجنّة إلاّ أُري مقعده من النّار لو أساء ليزداد شكراً ، وما من عبد يدخل النّار إلاّ أُري مقعده من الجنّة لو أحسن ازداد حسرة ) .
قال المفسّرون : من غبن أهله منازله في الجنّة فيظهر يومئذ غبن كلّ كافر ببركة الإيمان ، وغبن كلّ مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيّام .
) ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يكفّر عنه سيئاته ويدخله جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ( قرأ أهل المدينة والشام ها هنا وفي السورة الّتي تليها : نكفّر وندخله بالنون ، والباقون بالياء .
(9/328)
" صفحة رقم 329 "
) ذلك الفوز العظيم 2 )
التغابن : ( 10 - 11 ) والذين كفروا وكذبوا . . . . .
) والذّين كفروا وكذّبوا بآياتنا أُولئك أَصحابُ النّار خالدين فيها وبئس المصير ( ) ما أَصاب من مصيبة إلاّ بإذن اللّه ( بأرادته وقضائه .
) ومن يؤمن باللّه ( قصدوا به لا يصيب مصيبةً إلاّ بإذن اللّه ) يهد قلبه ( يوفقه لليقين حتّى يعلم أنّ ما أَصابه لم يكن ليخطئه ، وما أَخطأه لم يكن ليصيبه قاله إبن عبّاس .
وأنبأني عبد اللّه بن حامد إجازة قال : أخبرنا الحسن بن يعقوب قال : حدّثنا أَبُو إسحاق إبراهيم بن عبد اللّه قال : حدّثنا وكيع عن الأعمش عن أبي ظبيان قال : كنّا نعرض المصاحف على علقمة بن قيس فمرّ بهذه الآية ) ما أصاب من مصيبة إلاّ بإذن اللّه ومن يؤمن باللّه يهد قلبه ( فسألناه عنها فقال : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنّها من عند اللّه فيرضى ويسلّم .
وقال أَبُو بكر الورّاق : ومن يؤمن بالله عند النعمة والرخاء ، فيعلم أنّها من فضل اللّه يهد قلبه للشكر ، ومن يؤمن باللّه عند الشدّة والبلاء فيعلم أنّها من عند اللّه يهدِ قلبه للرضا والصبر .
وقال أَبُو عثمان الجيري : ومن صحّ إيمانه يهد قلبه لاتباع السنّة .
وقد اختلف القرّاء في هذه الآية ، فقراءة العامّة ( يهد قلبه ) بفتح الياء والباء واختاره أَبُو عبيده وأَبُو حاتم ، وقرأ السلمي بضم الياء والباء وفتح الدّال على الفعل المجهول ، وقرأ طلحة ابن مصرف : نهد قلبه بالنون وفتح الباء على التعظيم .
وأخبرني إبن فنجويه قال : حدّثنا إبن حمدان قال : حدّثنا أحمد بن الفرج المقرئ قال : حدّثنا أَبُو عمر المقرئ قال : حدّثنا أَبُو عمارة قال : حدّثنا سهل بن موسى الأَسواري قال : أخبرني من سمع عكرمة يقرأ : ومن يؤمن باللّه يهدأ قلبه ، من الهدوء أي يسكن ويطمئن .
وقرأ مالك بن دينار : يهدا قلبه بألف لينّة بدلا من الهمزة .
) واللّه بكلّ شيء عليم (
التغابن : ( 12 ) وأطيعوا الله وأطيعوا . . . . .
) وأطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنّما على رسولنا البلاغ المبين ( التبليغ البيّن .
التغابن : ( 13 - 14 ) الله لا إله . . . . .
( 2 الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون ( ) يا أيّها الذّين آمنوا إنّ من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم ( نزلت في قوم أرادوا الهجرة فثبّطهم عنها أزواجهم وأولادهم .
قال إبن عبّاس : كان الرجل يُسلم ، فإذا أراد أن يهاجر منعه أهله وولده وقالوا له : ننشدك اللّه أنْ تذهب وتدع أهلك وعشيرتك وتصير بالمدينة بلا أهل ومال ، وإنّا قد صبرنا على إسلامك فلا نصبر على فراقك ، ولا نخرج معك ، فمنهم من يرقّ لهم ويقيم لذلك فلا يهاجر ، فإذا هاجر رأى النّاس قد نقموا في الدّين منهم أن يعاقبهم في تباطئهم به عن الهجرة ، ومنهم من لا يطيعهم ويقولون لهم في خلافهم في الخروج : لئن جمعنا اللّه وإيّاكم لا تصيبون منّي خيراً ، ولأَفعلنَّ ، وأفعلنّ فأنزل اللّه سبحانه هذه الآية .
(9/329)
" صفحة رقم 330 "
وقال عطاء بن يسار وعطاء الخراساني : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ، كان ذا أهل وولد ، وكان إذا أراد الغزّو بكوا إليه ورفّقوه وقالوا : إلى من تكلنا وتدعنا فيرقّ ويقيم ، فأنزل اللّه سبحانه وتعالى : ) يا أيها الذين آمنوا إنَّ من أزواجكم وأولادكم عدّواً لكم ( لحملهم إيّاكم على المعصية وترك الطاعة فاحذروهم أن تقبلوا منهم .
) وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا ( فلا تعاقبوهم على خلافهم إيّاكم ) فإن الله غفور رحيم 2 )
التغابن : ( 15 ) إنما أموالكم وأولادكم . . . . .
) إنّما أموالكم وأولادكم فتنة ( بلاء واختبار يحملكم على الكسب من الحرام والمنع عن الحقّ ، وقال القتيبي : إغرام يقال فتن فلان بفلانه أي أُغرم بها .
قالت الحكماء : أُدخل من التبعيض في ذكر الأَزواج والأولاد حيث أُخبر عن عداوتهم ، لأنّ كلّهم ليسوا بأعداء ولم يذكر من في قوله ) إنّما أموالكم وأولادكم فتنة ( لأنّها لا تخلو عن الفتنة واشتغال القلب بها ، يدلّ عليه قول عبد اللّه بن مسعود : ( لا يقولنّ أحد : اللّهم إنّي أعوذ بك من الفتنة ، فإنّه ليس منكم أحد يرجع إلى مال وأهل وولد إلاّ وهو مشتمل على فتنة ، ولكن ليقل : اللّهم إني أعوذ بك من مضلاّت الفتن ) .
وأخبرنا إبن منجويه قال : حدّثنا عمر بن الخطاب قال : حدّثنا عبد اللّه بن الفضل قال : حدّثنا أَبُو خثمه قال : حدّثنا زيد بن حباب قال : حدّثنا حسين بن واقد قاضي مرو قال : حدثني عبد اللّه بن بريدة عن أبيه قال : كان رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران ، فنزل النّبي ( عليه السلام ) اليهما فأخذهما فوضعهما في حجره على المنبر فقال : ( صدق اللّه ) إنّما أموالكم وأولادكم فتنة ( رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما ) ثم أخذ في الخطبة .
التغابن : ( 16 ) فاتقوا الله ما . . . . .
) فاتّقوا اللّه ما استطعتم ( ناسخة لقوله ) اتّقوا اللّه حقّ تقاته ( وقد مرّ ذكره .
) واسمعوا وأطيعوا وانفقوا خيراً لأنفسكم ( مجازه : يكن الإنفاق خيراً لأنفسكم . ) ومن يوق شحّ نفسه ( ومنعها عن الحقّ ) فأولئك هم المفلحون ( قال إبن عمر : ( ليس الشّح أن يمنع الرجل ماله ، وإنّما الشّح أن يطمع الرجل إلى ما ليس له ) .
التغابن : ( 17 - 18 ) إن تقرضوا الله . . . . .
) إن تقرضوا اللّه قرضاً حسناً يضاعفه لكم ويغفر لكم واللّه شكور حليم ( .
) عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم ( .
(9/330)
" صفحة رقم 331 "
( سورة الطلاق )
مدنية ، وهي ألف وستون حرفاً ، ومائتانوسبعة وأربعون كلمة ، واثنتا عشرة آية
أخبرنا إبن المقري قال : أخبرنا إبن مطر قال : حدّثنا إبن شريك قال : حدّثنا إبن يونس قال : حدّثنا سلام قال : حدّثنا شاهرون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أُمامة عن أُبي ابن كعب قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة ) يا أيّها النّبي إذا طلقتم النساء ( مات على سُنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ) .
بسم اللّه الرحمن الرحيم
( ) ياأيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ الْعِدَّةَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ رَبَّكُمْ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَىْءٍ قَدْراً وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّاتِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلَاتُ الاَْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُوْلَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى ( 2
هذه السورة تسمى سورة النساء القصرى افتتحها اللّه سبحانه وتعالى بخطاب منه ( للنبي ) ( صلى الله عليه وسلم ) فقال ) يا أيها النبي إذا طلقتم ( .
الطلاق : ( 1 ) يا أيها النبي . . . . .
) يا أيّها النّبي ( ثم جمع الخطاب فقال عزّ من قاتل ) إذا طلّقتم ( ومجازها : يا أيها النبي
(9/331)
" صفحة رقم 332 "
قل لأُمتّك إذا طلقتم ) النساء ( أي أردتم تطليقهن كقوله ) فإذا قرأت القرآن فاستعذ ( .
) فطلّقوهنّ لعدّتهنّ ( وهو أن يطلقها طاهراً من غير جماع ، يقول : طلّقوهن لطهرهنّ الذي يحصينّه من عدّتهن ، ولا تطلقوهن لحيضهنّ الذي لا يعتددن به من قروئهنّ ، وهذا للمدخول بها ؛ لأنّ من لم يُدخل بها لا عدّة عليها .
فإذا طلّقها في طُهر لم يجامعها فيه نفذ طلاقه وأصاب السُنّة ، وإن طلّقها حائضاً وقع الطلاق وأخطأ السُنّة .
وقال سعيد بن المسيّب في آخرين : لا يقع لأنّه خلاف ما أُمروا ، وإليه ذهب الشيعة ، فإن طلقها في طهرها ثلاثاً فكرّهه قوم وقالوا ليس بطلاق السنّة ؛ لأنّه لم يدع للإمساك موضعاً ، وكان الشافعي والجمهور يبيحونه ولا يكرّهونه لأنّ عبد الرحمن بن عوف طلّق امرأته ثلاثاً ، وإنّ العجلاني لمّا لاعن قال : كذبت عليها إن أمسكتها ، هي طالق ثلاثاً ، فلم يردّ عليه النبي ( صلى الله عليه وسلم )
واختلف المفسّرون فيمن نزلت هذه الآية ، قال : فأخبرنا إبن منجويه ، حدّثنا عبيد اللّه بن محمد بن شعبة ، حدّثنا أَبُو القاسم عمر بن عقبة بن الزبير الأنصاري ، حدّثنا أَبُو عبد اللّه محمّد ابن أيوّب بن معيد بن هناد الكوفي ، حدّثنا اسباط بن محمّد ، حدّثنا سعيد بن عروة عن قتادة عن أنس قال : طلّق رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) حفصة فأتت أهلها فأنزل اللّه تعالى : ) يا أيّها النّبي إذا طلقتم النساء فطلّقوهن لعدّتهنّ ( وقيل له : راجعها فإنّها صوّامة قوّامة ، وهي من إحدى أزواجك ونسائك في الجنّة .
وقال السدي : نزلت في عبد اللّه بن عمر ، وذلك أنّه طلّق امرأته حائضاً وأمره النّبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يراجعها ويمسكها حتّى تطهر ، ثم تحيض حيضة أُخرى فإذا طهرت طلّقها إن شاء قبل أن يجامعها أو يمسكها ، فإنّها العدّة التي أمر اللّه بها .
أخبرنا عبد اللّه بن حامد ، حدّثنا محمد بن يعقوب ، حدّثنا الحسن بن علي بن عفّان ، حدّثنا محمد بن عبيد الطنافسي عن عبيد اللّه بن عمر عن نافع عن إبن عمر قال : طلّقتُ امرأتي على عهد رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وهي حائض ، فذكر ذلك عمر لرسول اللّه ، فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( مُرْهُ فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض حيضة أُخرى ، فإذا طهرت فليطلقها إن شاء قبل أن يجامعها أو يمسكها ، فإنّها العدّة التي أمر اللّه تعالى أن يطلَّق لها النساء ) .
قال فقلت لنافع ما صنعت التطليقة قال : واحدة اعتدّت بها .
(9/332)
" صفحة رقم 333 "
وقال المقاتلان : نزلت في عبد اللّه بن عَمُرو بن العاص وعَمُرو بن سعيد بن العاص وطفيل بن الحرث وعتبه بن غزوان .
أخبرنا عبد اللّه بن حامد ، حدّثنا أحمد بن عبد اللّه المزني ، حدّثنا الحضرمي ، حدّثنا عثمان ، حدّثنا عبد السلم بن حرب عن يزيد الدالاني عن أبي العلاء الأودي عن حميد بن عبد الرحمن قال : بلغ أبا موسى أنّ النّبي ( صلى الله عليه وسلم ) وجد عليهم فأتاه فذكر ذلك له فقال له رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقول أحدُكم : قد زوجت ، قد طلّقت ، وليس كذلك عدّة المسلمين ، طلّقوا المرأة في قبل عدّتها ) .
وكان إبن عبّاس وإبن عمر يقرءان : فطلّقوهنَّ قبل عدّتهن ، وفي هذه الآية دليل واضح أنّ السنّة والبدعة اعتبارهما في وقت الطّلاق لا في عدد الطلاق ؛ لأنّ اللّه تعالى ذكر وقت الطّلاق فقال : ) فطلّقوهن لعدّتهنّ ( ولم يذكر عدد الطّلاق ، فكذلك في حديث إبن عمر الذّي رويناه دليل أنّ الاعتبار بالوقت لا بالعدد لأنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) علّمه الوقت لا العدد .
فصل في ذكر بعض الأخبار الواردة في الطلاق
أخبرنا الحسن بن فنجويه بقراءتي عليه ، حدّثنا عبيد اللّه بن محمد بن شنبه ، حدّثنا أَبُو حامد أحمد بن جعفر المستملي ، حدّثنا أَبُو محمد يحيى بن إسحاق بن سافرى ببغداد ، حدّثنا أحمد بن حباب ، حدّثنا عيسى بن يونس ، حدّثنا عبيد اللّه بن الوليد الوصافي عن محارب بن دَثار عن إبن عمر قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ من أبغض الحلال إلى اللّه تعالى الطّلاق ) .
أخبرنا إبن فنجويه ، حدّثنا إبن حبيش المقري ، حدّثنا علي بن عبد الحميد العصاري بحلب ، حدّثنا أَبُو إبراهيم الترجماني ، حدّثنا عَمرو بن جُميع عن جويبر عن الضّحاك عن النزال بن سمرة عن علي ح عن النّبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( تزوّجوا ولا تطّلّقوا ، فإنّ الطّلاق يهتزّ منه العرش ) .
أخبرنا إبن فنجويه ، حدّثنا عبيد اللّه بن محمد بن شنبه ، حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة أخبرنا أُبي ، حدّثنا أَبُو أُمامة عن حمّاد بن زيد عن أبي أيوّب عن أبي قلابة عن أبي أسماء
(9/333)
" صفحة رقم 334 "
الرحبي عن ثوبان رفعه إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنّة ) .
أخبرنا الحصين بن محمد بن الحسين أخبرنا موسى بن محمد بن علي ، حدّثنا عبد اللّه بن ناجية ، حدّثنا وهب بن منبه ، حدّثنا محمد بن عبد الملك الواسطي ، حدّثنا عَمُرو بن قيس الملائي عن عبد اللّه بن عيسى عن عمارة بن راشد عن عبادة بن نسي عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تطّلّقوا النساء إلاّ من ريبة فإنّ اللّه تعالى لا يحبّ الذوّاقين ولا الذوّاقات ) .
أخبرنا إبن فنجويه أخبرنا أَبُو حذيفة أحمد بن محمد بن علي ، حدّثنا عبد الصمد بن سعيد قاضي حمص ، حدّثنا عبد السلم بن العباس بن الوليد الحضرمي ، أخبرنا علي بن خالد بن خليّ ، حدّثنا أبي ، حدّثنا سويد بن حميد عن أنس قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما حلف بالطّلاق ولا استحلف به إلاّ منافق ) .
) وأَحصوا العدّة ( أي عدد أقرائها فاحفظوها .
) واتّقوا اللّه ربّكم لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ ( حتى تنقضي عدتّهنّ .
) ولا يخرجن إلاّ أن يأتين بفاحشة مُبَيَّنَة ( وهي الزنا فيخرجن لإقامة الحد عليهنّ ، هذا قول أكثر أهل المفسرين .
وقال قتادة : معناه : له أن يطلّقها على نشوزها ، فلها أن تتحول من بيت زوجها ، والفاحشة : النشوز .
وقال إبن عمر والسدي : أي خروجها قبل انقضاء عدّتها فاحشة .
أنبأني عبد اللّه بن حامد أخبرنا محمد بن الحسن ، حدّثنا الفضل بن المسيّب ، حدّثنا سعيد ، حدّثنا سُفير عن محمد بن عَمُرو بن علقمة عن محمد بن إبراهيم التيمي عن إبن عباس في قوله : ) إلاّ أن يأتين بفاحشة مبيّنة ( قال : إلاّ أن تبدو على أهلها ، فإذا بدت عليهم فقد حلَّ إخراجها .
) وتلك حدود اللّه ومن يتعدّ حدود اللّه فقد ظلم نفسه لا يدري لعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمراً ( أي مراجعة في الواحدة والثنتين ما دامت في العدّة
(9/334)
" صفحة رقم 335 "
أخبرنا عبد اللّه بن حامد قرأه عليه ، حدّثنا محمد بن جعفر المطيري ، حدّثنا الحسن بن عرفة ، حدّثنا هيثم عن مغيرة وحصين عبد الرحمن وأشعث وإسماعيل بن أبي خالد وداود بن أبي هند وشبان ومجالد كلّهم عن الشعبي قال : دخلت على فاطمة بنت قيس بالمدينة فسألتها عن قضاء رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : طلّقني زوجي البتّة ، فخاصمته إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) في السكنى والنفقه فلم يجعل لي سكنى ولا نفقه ، وأمرني أن أعتدّ في بيت إبن أُمّ مكتوم .
قال هيثم : قال مجالد في حديثه : إنّما النفقة والسكنى على من كانت له المراجعة .
أخبرنا عبد اللّه بن حامد ، أخبرنا محمد بن الحسين ، حدّثنا أحمد بن يوسف ، حدّثنا عبد الرزّاق ، أخبرنا معمّر قال : أخبرنا عقيل بن محمد الفقيه أنّ أبا الفرج البغدادي القاضي أخبرهم عن محمد بن جهير ، حدّثنا إبن عبد الأعلى ، حدّثنا إبن ثور عن معمّر عن الزهري عن عبيد اللّه أنّ فاطمة بنت قيس كانت تحت أبي عَمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي وأنّه خرج مع علي ابن أبي طالب ح إلى اليمن حين أمّره رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) على بعض اليمن فأُرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها ، وأمر عباس بن أبي ربيعة والحرث بن هشام أن ينفقا عليها ، فقالا لها : واللّه مالك من نفقة إلاّ أن تكوني حاملا .
فأتت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فذكرت له قولهما ، فلم يجعل لها نفقة إلاّ أن تكون حاملا ، واستأذنته في الانتقال ، فأذن لها فقالت : أين أنتقل يا رسول اللّه ؟ قال : ( عند إبن أُمّ مكتوم ) وكان أعمى ، تضع ثيابها عنده ولا يراها ، فلم تزل هنالك حتى مضت عدّتها ، فأنكحها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أُسامة ابن زيد ، فأرسل إليها مروان بن الحكم قبيصة بن ذؤيب يسألها عن هذا الحديث ، فقال مروان : لم نسمع هذا الحديث إلاّمن امرأة ، سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها ، فقالت فاطمة حين بلغها قول إبن مروان : بيني وبينكم القرآن ، قال اللّه تعالى : ) لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ ( إلى قوله ) لعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمرا ( قالت : هذا لمن كانت له مراجعة ، فأيّ أمر يحدث بعد الثلاث ؟
الطلاق : ( 2 ) فإذا بلغن أجلهن . . . . .
) فإذا بلغن أجلَهُنّ ( أي أشرفن على انقضاء عدّتهنّ وقربن منه .
) فأمسكوهنّ ( برجعة تراجعونهنّ . ) بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف ( أي اتركوهنّ حتى تنقضي عدّتهن فَيكنَّ منكم ويكنَّ أملَكَ لأنفسهنّ .
) ولا تضّاروهنّ ( فنزل الضرار هو المعروف .
) وأشهدوا ذوي عدل منكم ( على الرجعة والفراق
(9/335)
" صفحة رقم 336 "
) وأقيموا الشهادة للّه ذلكم يوعظ به من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجا ( قال عكرمة والشعبي والضحاك : من يطلق السنة يجعل له مخرجاً إلى الرجعة .
الطلاق : ( 3 ) ويرزقه من حيث . . . . .
) ويرزقه من حيث لا يحتسب ( لا يرجو ولا يتوقع .
قال أكثر المفسرين : نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي ، وذلك أنّ المشركين أسروا ابناً له يسمّى : سالماً ، فأتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول اللّه إنّ العدوّ أسر ابني وشكا إليه أيضاً الفاقة ، فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما أمسى عند آل محمد إلاّ مُدْ فاتّق اللّه واصبر وأكثر من قول : لا حول ولا قوة إلاّ باللّه ) ففعل الرجل ذلك ، فبينا هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو فأصاب إبلا وجاء بها إلى أبيه وكان فقيراً وقال الكلبي في رواية يوسف بن مالك : قدم ابنه ومعه خمسون بعيراً .
أخبرنا عبد اللّه بن حامد أخبرنا محمد بن عامر البلخي ، حدّثنا القاسم بن عبّاد ، حدّثنا صالح بن محمد الترمذي ، حدّثنا أَبُو علي غالب عن سلام بن سليم عن عبد الحميد عن الكلبي عن أبي صالح عن إبن عباس قال : جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول اللّه إنّ ابني أسره العدو وجزعت الأُم ، فما تأمرني ؟ قال : ( ( اتّق اللّه واصبر ) وآمرك وإيّاها أن تستكثر من قول : لا حول ولا قوة إلاّ باللّه ) . فانصرف إليها وقالت : ما قال لك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : أمرني وإياك أن نستكثر من قول : لا حول ولا قوة إلاّ بالله ، قالت : نِعْمَ ما أمرك به ، فجعلا يقولان فغفل عنه العدو فساق غنمهم فجاء بها إلى أبيه وهي أربعة آلاف شاة ، فنزلت ) ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ( ما ساقَ من الغنيمة .
وقال مقاتل : أصاب غنماً ومتاعاً ثمّ رجع إلى أبيه فانطلق أبوه إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبره الخبر وسأله الحلّ له وأن يأكل ما أتاه به ابنه ، فقال النبي ( عليه السلام ) : ( نعم ) وأنزل اللّه تعالى هذه الآية .
أخبرنا إبن فنجويه الدينوري ، حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن شيبة ، حدّثنا بن وهب ، أخبرنا عبد اللّه بن إسحاق ، حدّثنا عَمرو بن الأشعث ، حدّثنا سعد بن راشد الحنفي ، حدّثنا عبد اللّه بن سعيد بن أبي هند عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن إبن عباس قال : قرأ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ) ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ( قال : مخرجاً من شبهات الدنيا ، ومن غمرات الموت ، ومن شدائد يوم القيامة ) .
(9/336)
" صفحة رقم 337 "
وقال إبن مسعود ومسروق : ) يجعل له مخرجاً ( هو أن يعلم أنّه من قِبَل اللّه ، وأنّ اللّه تعالى رازقه وهو معطيه ومانعه . الربيع بن خيثم : ) يجعل له مخرجاً ( من كلّ شيء ضاق على الناس .
أَبُو العالية : مخرجاً من كلّ شدّة .
الحسن : مخرجاً عمّا نهاه عنه .
الحسين بن الفضل : ) ومن يتّق اللّه ( في أداء الفرائض ) يجعل له مخرجاً ( من العقوبة ويرزقه الثواب من حيث لا يحتسب .
وقال الصادق : ( ) ويرزقه من حيث لا يحتسب ( يعني يبارك له فيما آتاه ) .
وقال سهل : ) ومن يتق اللّه ( في اتّباع السُّنّة ) يجعل له مخرجاً ( من عقوبة أهل البدع ، ويرزقه الجنّة من حيث لا يحتسب .
عَمرو بن عثمان الصدفي : ومن يقف عند حدوده ، ويحتسب معاصيه يخرجه من الحرام إلى الحلال ، ومن الضّيق إلى السعة ، ومن النّار إلى الجنّة .
أَبُو سعيد الخرّاز : ومن يتبرأ من حوله وقوّته بالرجوع إليه يجعل له مخرجاً ممّا كلّفهُ بالمعونه له .
علي بن صالح : ) يجعل له مخرجاً ( يقنّعه برزقه ، وقيل : ومن يتّق اللّه في الرزق وغيره بقطع العلائق يجعل له مخرجاً بالكفاية ويرزقه من حيث لا يحتسب .
أخبرنا أَبُو عبد اللّه بن فنجويه ، أخبرنا أَبُو مكي بن مالك المطيعي ، حدّثنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبل ، حدّثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدّثنا معتمر عن كهمس عن أبي السليل عن أبي ذر قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّي لأعلم آيةً لو أخذ بها النّاس لكفتهم ) ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ( فما يزال يقولها ويعيدها ) .
ويحكى أنّ رجلا أتى عمر بن الخطّابح فقال : ولّني مما ولاّك اللّه قال أتقرأ القرآن ؟ قال : لا . فقال : إنّا لا نولّي من لا يقرأ القرآن ، فانصرف الرجل واجتهد في تعلّم القرآن رجاء أن يعود إلى عمر فيولّيه عملا ، فلمّا تعلم القرآن تخلّف عن عمر ، فرآه ذات يوم فقال : يا هذا هجرتنا ، فقال : يا أمير المؤمنين لست ممّن يهجر ، ولكنّي تعلّمت القرآن فأغناني اللّه تعالى عن
(9/337)
" صفحة رقم 338 "
عمر وعن باب عمر . فقال : أيُّ آية أغنتك ، فقال : قول اللّه تعالى : ) ومن يتّق اللّه يجعل له مخرجاً ويرزقهُ من حيثُ لا يحتسب ( .
أخبرنا عبد اللّه بن حامد بن محمد ، أخبرنا أحمد بن محمد بن عّدوس ، أخبرنا عثمان بن سعيد الرّازي ، حدّثنا مهدي بن جعفر الرّملي ، حدّثنا الوليد بن مسلم عن الحكم بن مصعب عن محمد بن علي عن عبد اللّه بن عباس عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أكثر الاستغفار جعل اللّه له من كل همَ فرجاً ، ومن كل ضيق مخرجاً ، ويرزقهُ من حيثُ لا يحتسب ) .
) ومن يتوكل على اللّه ( فيثق به ويسكن قلبه إليه في الموجود والمفقود .
) فهو حَسْبُهُ إنَّ اللّه بالغ أمَرهُ ( قرأ العامة بالغ بالتنوين ) أمرَهُ ( النّصب : أي منفِّذٌ أمرَه ممضى في حلقة قضائه ، وقرأ طلحة بن مضر : بالغ أمره على الإضافة ، ومثلهُ روى حفص والمفضل عن عاصم .
وقرأ داود بن أبي هند : بالغ بالتنوين أمره : رفعاً .
قال الفراء : أي أمرهُ بالغ .
قال عبد الرحمن بن نافع : لما نزلت ) ومن يتوكل على اللّه فهو حسبهُ ( قال أصحاب رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) حسبنا اللّه إذا توكلنا عليه ؛ فنحن ننسى ما كان لنا ولا نحفظهُ ، فأنزل اللّه تعالى ) إنّ اللّه بالغ أمره ( يعني منكم وعليكم .
) قد جعل اللّه لكل شيء قدرا ( حداً وأجلا ينتهي إليه .
قال مسروق : في هذه الآية ) إن اللّه بالغ أمره ( توكل عليه أو لم يتوكل ، غير أنّ المتوكل عليه يكفِّر عنه سيئاته ويُعظم له أجرا .
قال الربيع : إنّ اللّه تعالى قضى على نفسه أنّ من توكل كفاهُ ، ومن آمن به هداهُ ، ومن أقرضهُ جازاهُ ، ومن وثق به نجّاه ، ومن دعاهُ أجاب له ، وتصديق ذلك في كتاب اللّه تعالى : ) ومن يؤمن باللّه يهدِ قلبهُ ومن يتوكل على اللّه فهو حسبهُ وإنْ تقرضوا اللّه قرضاً حسناً يضاعفه لكم ومن يعتصم باللّه فقد هُدي إلى صراط مستقيم وإذا سألك عبادي عني فإني قريب . . . ( .
الطلاق : ( 4 ) واللائي يئسن من . . . . .
) واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ( فلا يرجون أن يحضن ) إنْ ارتبتم ( قال قوم : إن شككتم أنّ الدم الذي يظهر منها لبكرها من الحيض أو من الاستحاضة
(9/338)
" صفحة رقم 339 "
) فعدتهن ثلاثة أشهر ( هذا قول الزهري وإبن زيد وقال آخرون : إن ارتبتم في حلمهنّ ؛ فلم تدروا ما الحلم في عدتهن ، فعدتهن ثلاثة أشهر .
أخبرنا أَبُو سعيد محمد بن عبد اللّه بن حمدون ، حدّثنا أَبُو حاتم مكي بن عيدان ، حدّثنا أَبُو الأزهر أحمد بن الأزهر ، حدّثنا أسباط محمد عن مطرف عن أبي عثمان عَمرو بن سالم قال : لمّا نزلت عدّة النساء في سورة البقرة في المُطلقة المتوفى عنها زوجها ، قال أُبي بن كعب : يا رسول اللّه إنّ أُناساً من أهل المدينة يقولون قد بقي من النساء ما لم يُذكر فيهن شيء .
قال : وما هو ؟ قال : الصّغار والكبار وذوات الحمل ، فنزلت هذه الآيات ) واللائي يئسن من المحيض من نسائكم . . . ( إلى آخرها .
وقال مقاتل : لما نزلت ) والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ( الآية ، قال خلاد بن النعمان بن قيس الأنصاري : يا رسول اللّه فما عدّة من لا تحيض وعدة التي لم تحض وعدّة الحُبلى ؟ فأنزل اللّه تعالى ) واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ( يعني القواعد اللاتي قعدن عن المحيض .
) إن ارتبتم ( شككتم في حالها وفي حكمها .
وقال أَبُو علي الزهري : ) إن ارتبتم ( إن تعنّتّم ، قال : وهو من الأضداد ، يكون شكاً ويقيناً كالظن ، فعدتهن ثلاثة أشهر .
) واللائي لم يحضن ( يعني بهنّ الصّغار .
) وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهنّ ( في المطلقات والمتوفى عنهن أزواجهنّ .
قال : أخبرنا محمد بن عبد اللّه بن حمدون ، أخبرنا محمد بن محمد بن الحسن ، حدّثنا محمد بن يحيى ، حدّثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر بن الزهري عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة قال : أُرسل مروان عبد اللّه بن عتبة إلى سبيعة بنت الحرث يسألها عمّا أنبأها به رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبرته أنّها كانت عند سعد بن خولة فتوفي عنها في حجة الودّاع ، وكان ثلاثاً ، فوضعت حملها قبل أن يمضي لها أربعة أشهر وعشر من وفاة زوجها وخطبها ، قالت : فأتيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فذكرتُ ما قال أَبُو السنابل ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( قد حللتِ حين وضعتِ حملكِ ) وأمرها أن تتزوج ، فإن أريقت حيضة المرأة وهي شابة ، فإنّها يُتأنّى بها أحامل أم لا ؟ وإن استبان حملها فأجلها أن تضع حملها ، وإن لم يستبن حملها فاختلف الفقهاء فيه :
فقال بعضهم : يُستأنى بها ، فأقصى ذلك سنة ، وهذا مذهب مالك وأحمد وإسحاق وأبي
(9/339)
" صفحة رقم 340 "
عبيد ، كانوا يرون عدّة المرأة أرتفاع حيضها وهي شابة سنة ، ورووا ذلك عن عمر وغيره .
فأمّا أهل العراق فإنّهم يرون عدتها ثلاث حيضات بعد ما كانت قد حاضت مرّة في عمرها وإن مكثت عشرين سنة إلى أن تبلغ من الكبر مبلغاً تيأس من الحيض ، فتكون عدّتها بعد الأياس ثلاثة أشهر ، وهذا الأصح من مذهب الشافي وعليه العلماء ، ورووا ذلك عن إبن مسعود وأصحابه .
) ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا 2 )
الطلاق : ( 5 - 6 ) ذلك أمر الله . . . . .
) ذلك أمرُ اللّه أنزلهُ إليكم ومن يتّق اللّه يكفّر عنهُ سيئاته ويُعظم لهُ أجرا ( .
) أسكنوهن ( يعني مطلّقات نسائكم .
) من حيث سكنتم ( أي من المواضع التي سكنتم .
وقال الكسائي : ) من ( صلة مجازة أسكنوهن حيثُ سكنتم ، مطلقات نسائكم .
) من وجدكم ( سعتكم وطاقتكم ، قراءة العامّة بضم الواو ، وقرأ الأعرج بفتحه ، وروى نوح عن يعقوب بكسر الواو ، وكلّها لغات . حتى تنقضي عدتهن .
) ولا تضاروهن ( ولا تؤذوهنَ ) لتضيقوا عليهن ( مساكنهنَ فيخرجنَ .
) وأنْ كُنَّ أولاتِ حمل فأنفقوا عليّهنَ حتى يضعن حملهن ( ليخرجن من عدّتهن .
واختلف الفقهاء في هذه المسألة : فذهب مالك والشافعي والأوزاعي وإبن أبي ليلى وأَبُو عبيدة ومحمد بن جرير إلى أنّ المبتوتة المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها ، ولها سُكنى ، واحتجوا بأنّ اللّه تعالى عمَّ بالسكنى المطلقات كلّهنّ ، وخصَّ بالنفقة أولات الأحمال خاصّة قال ) فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ( .
وقال أحمد وأَبُو ثور : لا سُكنى لها ولا نفقة ، واحتجوا بحديث فاطمة بنت قيس أخت الضّحاك بن قيس حين أرسل زوجها المخزومي طلاقها ؛ فلم يجعل لها رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) نفقة وقال لها : إنّما النفقة إذا كانت له عليك الرجعة ، وأمرها أن تعتدّ في بيت إبن أُم مكتوم ، وقد ذكرناه ، وهذا قول أُبي بن كعب وزيد بن ثابت .
وأما ( سُفيان ) وأهل العراق فقالوا : لها السُكنى والنفقة حاملا كانت أو حايلا ، وهذا قول ( عائشة ) رضي اللّه عنها .
(9/340)
" صفحة رقم 341 "
ويروى أنّ عائشة قالت لفاطمة بنت قيس : اتقي اللّه يا فاطمة فقد فتنتِ الناس ؛ إنّما أخرجك رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) لأنّكِ كنتِ امرأة لسِنَة فخشي لسانكِ على ( أحمائك ) .
فأما نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها ، فقال علي وإبن عُمر وشُريح والنخعي والشعبي وحماد وإبن أبي ليلى ( وسُفر ) وأصحابه : يُنفق عليها من جميع المال حتى تضع .
وقال إبن عباس وعبد اللّه بن الزبير وجابر بن عبد اللّه ومالك والشافعي وأَبُو حنيفة : لا ينفق عليها إلاّ من نصيبها .
) فإن أرضعنَ لكم ( أولادكم منهنّ ) فآتوهن أجورهن ( على إرضاعهنّ ) وأتْمِرُوا بينكم بمعروف ( يقول : وليقبل بعضكم من بعض إذا أمرهُ بالمعروف ، وقال الفرّاء : ) وأتْمِرُوا ( همّوا . الكسائي : شاوروا .
) وإنْ تعاسرتم ( في الرّضاع ؛ فأبى الزوج أن يعطي المرأة أجرة رضاعها ، وأبت الأُم أن ترضعهُ فليس لهُ إكراهها على أرضاعهِ ، ولكنهُ يستأجر للصبيّ مرضعاً غير أُمه الباينة منهُ ، فذلك قولهُ ) فَسَترضِعُ لهُ أُخرى ( .
2 ( ) لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ ءَاتَاهُ اللَّهُ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآ ءَاتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى الأَلْبَابِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الاَْرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الاَْمْرُ بَيْنَهُنَّ لِّتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْءٍ عِلْمَا ( 2
الطلاق : ( 7 ) لينفق ذو سعة . . . . .
) لينفق ذو سعة من سعته ( على قدر غناهُ ) ومن قُدِر ( ضُيّقَ ) فلينفق مما آتهُ اللّه ( من المال .
) لا يُكلفُ اللّه نفساً ( في النفقة ) إلاّ ما آتها ( أعطاها من المال .
) سيجعل اللّهُ بعد عُسر يُسرا (
الطلاق : ( 8 ) وكأين من قرية . . . . .
) وكأيّن من قرية عتت ( عصت وطغت وتمردت ) عن أمر
(9/341)
" صفحة رقم 342 "
رَبَّها ورُسُلِهِ ( أي وأمر رسلهِ ) فحاسبناها حساباً شديداً ( بالمناقشة والاستقصاء ) وعذبناها عذاباً نُكراً ( منكراً فظيعاً ، وهو عذاب النّار ، لفظهما ماض ومعناهما الاستقبال .
وقيل : في الآية تقديم وتأخير مجازها : فعذّبناها في الدنيا بالجوع والقحط والسيف وسائر المصائب والنوائب والبلايا والرزايا ، وحاسبناها في الآخرة حساباً شديداً .
الطلاق : ( 9 - 10 ) فذاقت وبال أمرها . . . . .
) فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا ( ) أَعدَّ اللّهُ لهم عذاباً شديداً فاتقُوا اللّهَ يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزلَ اللّهُ إليكم ذكراً ( يعني القرآن .
الطلاق : ( 11 - 12 ) رسولا يتلو عليكم . . . . .
) رسولا ( بدل من الذكر . وقيل : مع الرّسول . وقيل : وأرسل رسولا . وقيل : الذِّكر هو الرّسول . وقيل : أراد شرفاً ثم بيّن ما هو فقال : رسولا .
) يتلوا عليكم آيات اللّه مبيّنات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصّالحات من الظّلمات إلى النّور ومنْ يؤمن باللهِ ويعمل صالحاً يُدخلهُ جنات تجري من تحتها الأنّهار خالدين فيها أبداً قد أحسن اللّه له رزقاً ( ) اللّه الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهنّ ( في العدد .
) يتنزّل الأمر بينهن ( بالوحي من السماء السابعة إلى السفلى .
وقال أهل المعاني : هو مايدبر فيهنّ من عجيب تدبيره ؛ فينزل المطر ويخرج النبات ويأتي بالليل والنّهار والشتاء والصّيف ويخلق الحيوان على اختلاف هيأتها وانواعها ، وينقلهم من حال إلى حال .
قال إبن كيسان : وهذا على مجال اللغة واتساعها ، كما يقول للموت أمْر اللّهِ ، وللرياح والسحاب ونحوها .
وقال قتادة : في كل أرض من أرضه وسماء من سمائه خلق من خلقهِ ، وأمر من أمره ، وقضاء من قضائهِ .
) لتعلموا أنَّ اللّه على كل شيء قدير وأنَّ اللّه قدْ أحاط بكلِ شيء علماً ( فلا يخفى عليه شيء .
(9/342)
" صفحة رقم 343 "
( سورة التحريم )
مدنية ، وهي إثنتا عشرة آية ومائتانوسبعة وأربعون كلمة ، وألف وستون حرفاً
أخبرني إبن المقرئ ، أخبرنا إبن مطر ، حدّثنا إبن شويك ، حدّثنا إبن يونس ، حدّثنا سلام ابن سليم ، حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أُمامه الباهلي عن أُبي بن كعب قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة ) يا أيها النبي لِمَ تحرم ما أحل اللّهُ لك ( أعطاهُ اللّه توبة نصوحاً ) .
بسم اللّه الرحمن الرحيم
( ) ياأَيُّهَا النَّبِىُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ وَإِذَ أَسَرَّ النَّبِىُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَاذَا قَالَ نَبَّأَنِىَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ( 2
التحريم : ( 1 ) يا أيها النبي . . . . .
) يا أيها النبي لِمَ تحرّم ما أحل اللّه لك تبتغي مرضات أزواجك واللّه غفورٌ رحيم ( وذلك أنَّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا صلّى الغداة دخل على نسائهِ امرأة امرأة ، وكان أهديت لحفصة بنت عمر عكّة عسل ، فكان إذا دخل عليها رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) مُسلِّماً حبستهُ وسقته منها ، وإنّ عائشة أنكرت احتباسهُ عندها ؛ فقالت لجويرية عندها حبشية يقال لها : حصن : إذا دخل رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) على حفصة فادخلي عليها وانظري ماذا يصنع ، فأخبرتها الخبر وشأن العسل ، فغارت عائشة وأرسلت إلى صَواحبها فأخبرتهن وقالت : إذا دخل عليكنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فقلن : إنّا نجد منّك ريح مغافير ، وهو صمغ العرفط ، كريه الرائحة ، وكان رسول اللّه يكرهه .
قال : فدخل رسول اللّه على سودة ، قالت : فما أردت أنْ أقول ذلك لرسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ثم أنّي فرقت من عائشة فقلتُ : يا رسول اللّه ما هذه الريح التي أجدُها منك ؟ أكلت المغافير ؟ فقال : ( لا ، ولكن حفصة سقتني عسلا ) . ثمَّ دخل رسول على امرأة امرأة وهنَّ يقولنّ له ذلك ، ثمّ دخل على عائشة فأخذت بأنفها . فقال لها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما شأنك ؟ )
(9/343)
" صفحة رقم 344 "
قالت : أجدُ ريح المغافير ، أكلتها يا رسول اللّه ؟ قال : ( لا ؛ بل سقتني حفصة عسلا ) .
قالت : حرست إذاً نحلها العرفط ، فقال لها ( صلى الله عليه وسلم ) ( واللّه لا أطعمهُ أبداً ) فحرّمهُ على نفسه .
وقال عطاء بن أبي مسلم : إنَّ التي كانت تسقي رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) أُم سلمة .
أخبرنا عبد اللّه بن حامد ، أخبرنا محمد بن الحسن ، حدّثنا علي بن الحسن ، حدّثنا علي ابن عبد اللّه ، حدّثنا حجّاج بن محمد الأعور عن إبن جريج قال : زعم عطاء أنّهُ سمع عبيد بن عمير قال : سمعتُ عائشة زوج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ورضي عنها تخبر أنَّ رسول اللّه كان يمكث عند زينب بنت جحش ويشرب عندها عسلا ، قالت : فتواطأتُ أنا وحفصة أيَّتُنَا دخل عليها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلنقل : إني أجدُ منك ريح مغافير ، فدخل على احداهما ، فقالت له ذلك ، فقال : ( لا بل شربتُ عسلا عند زينب بنت جحش ، ولن أعود له ) . فنزلت ) يا أيُها النبي لِمَ تحرم . . . ( الآيات .
قالوا : وكان رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قسّم الأيام بين نسائهِ فلمّا كان يوم حفصة قالت : يا رسول اللّه ، إنّ لي إلى أبي حاجة نفقة لي عندهُ ، فأذنْ لي أنْ أزوره وآتي ، فأذن لها ، فلمّا خرجت أرسل رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) إلى جاريته مارية القبطية أُم إبراهيم وكان قد أهداها المقوقس فأدخلها بيت حفصة فوقع عليها ، فأتت حفصة فوجدت الباب مُغلقاً فحُبست عند الباب ، فخرج رسول اللّه ( عليه السلام ) ووجههُ يقطرُ عرقاً وحفصة تبكي ، فقال : ما يُبكيكِ ؟ قالت : إنّما أذنت لي من أجل هذا ، أدخلت أَمتك بيتي ، ثم وقعت عليها في يومي وعلى فراشي ، أما رأيت لي حُرمة وحقاً ؟ ما كنتَ تصنعُ هذا بامرأة منهنّ ؟ فقال رسول اللّه ( عليه السلام ) : ( أليس هي جاريتي قد أحلّها اللّه لي ؟ اسكتي فهي حرام عليَّ ألتمس بذلك رضاكِ ، فلا تخبري بهذا امرأة منهن هو عندك أمانة ) .
فلمّا خرج رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قرعت حفصة الجدار الذي بينها وبين عائشة فقالت : ألا أُبشركِ أنّ رسول اللّه قد حرّم عليه أمته مارية ، فقد أراحنا اللّه منها ، فأخبرت عائشة بما رأت وكانتا متصافيتين ، متظاهرتين على سائر أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فغضبت عائشة فلم تزل بنبي اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) حتى حلف أن لا يقربها ؛ فأنزل اللّه ) يا أيها النبي لِمَ تحرّم ما أحلَ اللّه لك ( يعني العسل ومارية .
وقال عكرمة : نزلت في المرأة التي وهبت نفسها للنبي عليه والسلام ، ويُقال لها أُم شريك ؛ فأبى النبي ( عليه السلام ) أن يصلها لأجل امرأته ) تبتغي مرضات أزواجك واللّه غفور رحيم (
.
(9/344)
" صفحة رقم 345 "
التحريم : ( 2 ) قد فرض الله . . . . .
) قد فرض اللّه لكم تحلّة أيْمانكم ( أن تكفروها إذا حنثم ، وهي قولهُ في سورة المائدة .
) واللّه موليكم وهو العليم الحكيم ( فأمرهُ أنْ يكفِّر حنثه ، ويُراجع أَمته .
التحريم : ( 3 ) وإذ أسر النبي . . . . .
) وإذْ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً ( وهو تحريمهُ ( صلى الله عليه وسلم ) فتاته على نفسه ، وقوله لحفصة : لا تخبري بذلك أحداً .
وقال الكلبي : أسرّ إليها أنْ أباكِ وأبا عائشة يكونان خليفتين على أُمتي من بعدي .
أخبرنا عبد اللّه بن حامد قراءة عليه ، أخبرنا عمر بن الحسن ، حدّثنا أحمد بن الحسن بن سعيد ، حدّثنا أُبي ، حدّثنا حصين عن الحر المسلي عن خلف بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن إبن عباس : ) وإذ أسرّ النبي إلى بعض أزواجه حديثاً ( قال : أسرَّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمر الخلافة بعده ؛ فحدّثت به حفصة .
أخبرنا عبد اللّه بن حامد ، أخبرنا نصر بن محمد بن شيرزاد ، حدّثنا الحسن بن سعيد البزار ، حدّثنا خالد بن العوام البزار ، حدّثني فرات بن السائب عن ميمون بن مهران في قول اللّه تعالى ) وإذْ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثاً ( قال : أسرَّ إليها أنّ أبا بكر خليفتي من بعدي .
) فلمّا نبأت به ( خبّرت بالحديث الذي أسرّ إليها رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) صاحبتها .
) وأظهرهُ اللّه عليه ( اي وأطلع اللّه نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) على أنّها قد نبّأت به .
وقرأ طلحة بن مصرف : فلمّا أنبأت به بالألف .
) عَرّف بعضهُ ( قرأ علي وأَبُو عبد الرّحمن والحسن البصري وقتادة والكسائي : عرف بالتخفيف .
أخبرنا محمد بن عبدوس ، حدّثنا محمد بن يعقوب ، حدّثنا محمد بن الجهم ، حدّثنا الفرّاء ، حدّثني شيخ من بني أسد يعني الكسائي عن نعيم بن عَمُرو عن عطاء عن أبي عبد الرّحمن قال : كان إذا قرأ عليه الرجل عرّف بالتشديد حصبه بالحصباء ، ومعناه على هذه القراءة : عرف بعض ذلك ما فعلت الفعل الذي فعلته من إفشاء سِرّه أي غضب من ذلك عليها وجازاها به ، من قول القائل لمن اساء إليه : لأعرفنّ لك بمعنى لأجازينّك عليه .
قالوا وجازاها رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) بإنّ طلّقها ، فلمّا بلغ ذلك عُمر قال : لو كان في آل عمر خير لما طلقك رسول اللّه شهراً ، فجاءه جبرائيل ( عليه السلام ) وأمرهُ بمراجعتها ، واعتزل رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) نساءه شهراً ، وقعد في مشربة أُم إبراهيم مارية حتى نزلت آية التخيير ، فقال مقاتل بن حيّان : لم يطلق رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) حفصة وإنّما همَّ بطلاقها فأتاهُ جبرائيل ( عليه السلام ) فقال : لا تطلّقها ؛ فإنّها صوّامة قوّامة ، وإنّها من أحدى نسائك في الجنة ، فلم يطلقها .
وقرأ الباقون : عرّف بالتشديد يعني : إنّهُ عرّف حفصة بعض ذلك الحديث وأخبرها به ،
(9/345)
" صفحة رقم 346 "
واختاره أَبُو حاتم وأَبُو عبيدة قال : لأنّه في التفسير أنّهُ أخبرها ببعض القول الذي كان منها ، ومما يحقق ذلك قوله : ) وأعرض عن بعض ( يعني : إنّه لم يعرّفها أياهُ ولم يخبرها به .
ولو كانت ) عرف بعضه ( مخففه لكان ضدّه وأنكر بعضاً ، ولم يقل أعرّض عنه .
قال الحسن : ما استقصى كريم قط ، قال اللّه تعالى ) عرّف بعضه وأعرض عن بعض ( .
قال مقاتل : يعني أخبرها ببعض ما قال لعائشة ، فلم يخبرها بقولها أجمع ، عرّف حفصة بعضهُ وأعرض عن بعض الحديث بأنّ أبا بكر وعمر يملكان بعدي .
) فلمّا نبأها به ( أي أخبر حفصة بما أظهره اللّه عليه .
) قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير ( .
) إِن تَتُوبَآ إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَالِكَ ظَهِيرٌ ( 2
التحريم : ( 4 ) إن تتوبا إلى . . . . .
) إنْ تتوبا إلى اللّه فقد صغت قلوبكما ( أي زاغت ومالت واستوجبتما التوبة .
وقال إبن زيد : مالت قلوبهما بأن سرّهما ان يجتنب رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وسلمّ ) جاريته ، وذلك لهما موافق فسرّهما ما كره رسول اللّه .
أخبرنا أَبُو سعيد محمد بن عبد اللّه بن حمدون قراءة عليه ، أخبرنا أَبُو حامد أحمد بن محمد بن الحسن ، حدّثنا محمد بن يحيى ، حدّثنا عبد الرّزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن أبي ثور عن إبن عباس قال : لم أزل حريصاً أنْ أسأل عمرح عن المرأتين من أزواج رسول اللّه اللّتين قال اللّه تعالى : ) إنْ تتوبا إلى اللّه فقد صغت قلوبكما ( حتى حج عمر وحججت معه ، فلمّا كنا ببعض الطريق عدل عمر وعدلتُ معه بالأداوة فتبرّد ثم أتاني فسكبت على يديه ، فتوضّأ فقلت : يا أمير المؤمنين من المرأتان من أزواج النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم اللّتان قال اللّه تعالى ) إنْ تتوبا إلى اللّه فقد صغت قلوبكما ( . فقال عمر : واعجباً لك يا ابن عبّاس .
قال الزّهري : كره واللّه ما سأله ولم يكتمه ثمّ قال : هي حفصة وعائشة ، ثمّ أخذ يسوق الحديث فقال : كنّا معاشر قريش قوماً نغلب النساء ، فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلَمْنَ من نسائهم .
قال : وكان منزلي في بني أُميّة بن زيد بالغوالي قال : فتعصّبتُ يوماً على إمرأتي ، فإذا هي تراجعني ، فأَنكرت أنْ تراجعني فقالت : وما يُنكر أن أُراجعك ؟ فواللّه إنّ أزواج النّبي صلّى اللّه عليه ليراجعنه ، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل قال : فانطلقت فدخلت على حفصة فقلت :
(9/346)
" صفحة رقم 347 "
أتراجعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه ؟ قالت : نعم ، قلت : وتهجره إحداكنّ اليوم إلى الليل ؟ قالت : نعم . فقلت : قد خاب من فعل ذلك منكنّ وخسر ، أفتأمن إحداكنّ أن يغضب اللّه عليها لغضب رسوله صلّى اللّه عليه فاذا هي قد هلكت .
لا تراجعي رسول اللّه صلّى اللّه عليه ولا تسأليه شيئاً وسليني ما بدالك ولا يغرنّك إنْ كانت جارتك هي أَوسم وأحبّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منك يريد عائشة رضي اللّه عنها
قال : وكان لي جارٌ من الأنصار ، قال : كنّا نتناوب النزول إلى رسول اللّه ( عليه السلام ) فينزل يوماً وأنزل يوماً فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك ، قال : وكنّا نتحدّث أنّ غسّان تفعل الحيل لتغزونا ، فنزل صاحبي يوماً ثم أَتاني غشيان فضرب بابي ، ثم ناداني فخرجت إليه فقال : حدث أَمرٌ عظيم .
قلت : ماذا ، أجاءت غسّان ؟ قال : بل أعظم من ذلك طلق الرسول نساءه . فقلت : قد خابت حفصة وخسرت ، قد كنت أظنّ هذا كائناً ، حتّى إذا صليت الصبح شددت عليّ ثيابي ، ثمّ نزلت فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت : أطلّقكنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ؟ قالت : لا أدري هو معتزل في هذه المشربة ، فأتيت غلاماً له أسود ، فقلت : استأذن لعمر ، فدخل الغلام ثمّ خرج إليّ فقال : قد ذكرتك له فَصَمَتْ ، فانطلقت حتّى أتيتُ المنبر فإذا حوله رهط جلوس بعضهم ، فجلست قليلا ثمّ غلبني ما أجد ، فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمر فدخل ثّم خرج إليّ فقال : قد ذكرتك له فصمت ، فخرجت فجلست إلى المنبر ثمّ غلبني ما أجد فأتيت يعني الغلام فقلت : استأذن لعمر ، فدخل ثمّ خرج إليّ فقال : قد ذكرتك له فَصَمَتْ ، قال : فولّيت مدبراً ، فاذا الغلام يدعوني فقال : أدخل فقد أذن لك ، فدخلت فسلّمتُ على رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا هو متكئ على رمل حصير قد أثّر في جنبه ، فقلت : أطلّقت يا رسول اللّه نساءك ؟ فرفع رأسه إليّ وقال : لا .
فقلت : اللّه أكبر ، ثم ذكر لهُ ما قال لامرأته وما قالت لهُ امرأته ، فتبسم رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : يا رسول اللّه قد دخلت عليّ حفصة وذكرت ما قلت لها . فتبسّم أُخرى ، فقلت : أستأنس يا رسول اللّه ؟ قال : نعم . فجلست فرفعت رأسي في البيت ، فواللّه ما رأيت فيه شيئاً يرد البصر إلاّ أهن ثلاثة ، فقلت : يا رسول اللّه ادع اللّه تعالى أنْ يوسّع على أُمتك فقد وَسّع على فارس والروم وهم لا يعبدون اللّه ، فاستوى جالساً ثم قال : ( أفي شكّ أنت يا بن الخطاب ، أولئك عُجّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا ) . فقلت : استغفر لي يا رسول اللّه ، وكان أقسم ألاّ يدخل عليهنّ شهراً من شدة مُوجِدَتِه عليهنّ حتى عاتبه اللّه تعالى .
قال الزهري : فأخبرني عُروة عن عائشة رضي اللّه عنها قالت : فلمّا مضى تسع وعشرون ليلة على رسول اللّه بدأني ، فقلت : يا رسول اللّه إنّك أقسمت أنْ لا تدخل علينا شهراً ، وإنّك قد
(9/347)
" صفحة رقم 348 "
دخلتَ عن تسع وعشرين ، أعدهنّ ، قال : إن الشهر تسع وعشرون ، ثم قال : يا عائشة إنّي ذاكر لك أمراً فلا عليك ألاّ تعجلي فيه حتى تسامري أبويك ، قالت : ثم قرأ عليّ ) يا أيها النبي قل لأزواجك ( حتى بلغ ) أجراً عظيماً ( قالت عائشة : قد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني وقيل : ليأمراني بفراقه فقلت : أفيْ هذا أتسأمر أبوي ؟ فإنّي أريدُ اللّه ورسولهُ والدار الآخرة .
قالت عائشة : فقلت لهُ يا رسول اللّه لا تخبر أزواجك أني اخترتك فقال : فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنّما بعثني اللّه مبلِّغاً ولم يبعثني متعنتاً .
) وإن تظاهرا ( تعاونا على أذى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ أهل الكوفة بتخفيف الظاء على الحذف واختاره أَبُو عُبيد ، وقرأ الباقون بالتشديد على الإدغام واختاره أَبُو حاتم .
) فإنّ اللّه هو موليه ( وليّه وحافظه وناصره .
) وجبريل وصالح المؤمنين ( قال المسيب بن شريك : هو أَبُو بكر ح .
وقال سعيد بن جبير : عمر ( رض ) ، عكرمة : أَبُو بكر وعمر ، يدلّ عليه ما أخبرنا إبن فنجويه ، حدّثنا علي بن أحمد بن نصرويه ، حدّثنا أَبُو الحسن علي بن الحسن بن سليمان الباقلاني ، حدّثنا أَبُو عمار الحسين بن الحرث ، حدّثنا عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سقيق عن عبداللّه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله عزَّ وجل ) فإنّ اللّه هو موليه وجبرّيل وصالح المؤمنين ( قال : ( إنّ صالح المؤمنين أَبُو بكر وعمر رضي اللّه عنهما .
أخبرنا إبن فنجويه ، حدّثنا أَبُو علي المقري ، حدّثنا أَبُو القاسم بن الفضل ، حدّثنا محمد بن يحيى بن أبي عمر ، حدّثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن حسين بن علي بن أبي طالب ، حدّثني رجل ثقة يرفعه إلى علي بن أبي طالب قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله اللّه تعالى : ) وصالح المؤمنين ( هو علي بن أبي طالب ح ) .
أخبرنا عبد اللّه بن حامد الوران ، أخبرنا عمر بن الحسن ، حدّثنا أحمد بن الحسن ، حدّثنا أبي ، حدّثنا حصين عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن أسماء بنت عميس قالت : سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( وصالح المؤمنين هو علي بن أبي طالب ح ) .
وقال الكلبي : هُمْ المخلصون الذين ليسوا بمنافقين .
وقال قتادة والعلاء بن زياد العدوي : هم الأنبياء
(9/348)
" صفحة رقم 349 "
) والملائكة بعد ذلك ظهير ( أي أعوان ، فلم يقل : صالحو ولا ظهراً ، لأن لفظهما وأنْ كان واحداً فهو في معنى الجمع كقول الرجل : لا يُقرئني إلاّ قارئ القرآن ، فهو واحد ومعناه الجمع ؛ لأنّه قد أذن لكل قارئ القرآن ان يقرئه .
( ) عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى اللَّهُ النَّبِىَّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَآ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ياأَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِينَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَاخِلِينَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الْجَنَّةِ وَنَجِّنِى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِىأَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ( 2
التحريم : ( 5 ) عسى ربه إن . . . . .
) عسى ربّهُ إن طلقكن أن يبدلهُ أزواجاً خيراً منكنّ مسلمات مؤمنات قانتات ( داعيات ، وقيل : مُصليات .
) تائبات عابدات سائحات ( يُسحَن معه حيث ما ساح ، وقيل : صائمات .
وقال زيد بن أسلم وأبنهُ ويمان : مهاجرات .
) ثيّبات وأبكارا ( والآية واردة في الإخبار ، عن القدرة لا عن الكون في الوقت ؛ لأنهُ تعالى قال : ) إن طلقكن ( وقد علِمَ أنّهُ لا يطلقهنّ ، وهذا قوله ) وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ( فهذا إخبار عن القدرة وتخويف لهم ، لا أن في الوجود من هو خير من أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
التحريم : ( 6 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً ( يعني : مروهم بالخير ، وانهوهم عن الشر وعلّموهم وأدنوهم تقوهم بذلك ناراً ) وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ ( فظاظ ) شداد ( أقوياء لم يخلق اللّه فيهم الرّحمة ، وهم الزبانيه التسعة عشر وأعوانهم من خزنه النّار .
) لا يعصون اللّه ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ( )
التحريم : ( 7 - 8 ) يا أيها الذين . . . . .
يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون ( ) يا أيها الذين آمنوا توبُوا إلى اللّه توبةً نصوحا ( قراءة العامة بفتح النون على نعت التوبة .
(9/349)
" صفحة رقم 350 "
وروى حماد ويحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم بضمِّهِ على المصدر ، وهي قراءة الحسن .
قال المبرّد : أراد توبة ذات نصح ، واختلف المفسِّرون في معنى التوبة النّصوح .
وقال عُمَر وأُبي ومعاذ : التوبة النصوح أنْ يتوب ثم لا يعود إلى الذنب ، كما لا يعود اللبن إلى الضرع ، ورفعهُ معاذ .
وقال الحسن : هي أنْ يكون العبد نادماً على ما مضى ، مجمعاً على أنْ لا يعود فيه .
الكلبي : أن يستغفر باللسان ، ويندمُ بالقلب ، ويمسك بالبدن .
قال قتادة : هي الصادقة الناصحة .
سعيد بن جبير : هي توبة مقبولة ، ولا تقبل مالم يكن فيها ثلاث : خوف أن لا تُقبل ، ورجاء أن تقبل ، وإدمان الطاعات .
سعيد بن المسيّب : توبة تنصحون بها أنفسكم .
القرظي : تجمعها أربعة أشياء : الاستغفار باللسان ، والأقلاع بالأبدان ، وإظهار ترك العود بالجَنان ، ومهاجرة سيّئ الخلاّن .
سفيان الثوري : علامة التوبة النّصوح أربع : القلّة ، والعلة ، والذلة ، والغربة .
فضيل بن عياض : هي أن يكون الذنب نصب عينيه ، ولا يزال كأنّهُ ينظرُ إليه .
أَبُو بكر محمد بن موسى الواسطي : هي توبة لا لعقد عوض ؛ لأن من أذنب في الدنيا لرفاهيّة نفسه ، ثم تاب طلباً لرفاهيتها في الآخرة فتوبته على حظ نفسه لا لله .
أَبُو بكر الورّاق : هي أن تضيق عليك الأرض بما رحبت ، وتضيق عليك نفسك كتوبة الثلاثة الذين خلِّفوا .
أَبُو بكر الرقاق المصري : ردّ المظالم واستحلال الخصوم ، وإدمان الطاعات . رويم الرّاعي : هو أن تكون للّه وجهاً بلا قفاً كما كنت لهُ عند المعصية قفاً بلا .
رابعة : توّبة لابيات منها . ذو النون : علامتها ثلاث : قلة الكلام وقلة الطعام وقلة المنام .
سقيق : هي أن يكثر صاحبها لنفسه الملامة ، ولا ينفك من الندّامة ، لينجو من آفاتها بالسّلامة .
سري السقطي : لا تصح التوبة النصوح إلاّ بنصحة النفس من المؤمنين ؛ لأن مَن صحة توبته أحب أن يكون النّاس مثله .
(9/350)
" صفحة رقم 351 "
الجنيد : هي أَن بنسى الذنب فلا يذكره أبداً ؛ لأن من صحة توبته صار محبّاً للّه ، ومن أَحب اللّه نسي ما دون اللّه .
سهل : هي توبة أهل السُنّة والجماعة لأنّ المبتدع لا توبة له ، بدليل قوله صلّى اللّه عليه : ( حجب اللّه على كل صاحب بدعة أن يتوب ) .
أَبُو الأَديان : هي أَن يكون لصاحبها دمع سفوح ، وقلب عن المعاصي جموع ، فاذا كان ذلك فإنّ توبته نصوح ، وأمارات التوبة منه تلوح .
فتح الموصلي : علامتها ثلاث : مخالفة الهوى ، وكثرة البكاء ، ومكابدة الجوع والظماء .
) عسى ربّكم أَن يكفّر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنّات تجري من تحتها الأنهار بوم لا يخزي اللّه النّبي والّذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ( على الصراط .
) يقولون ( إذا طفئ نور المنافقين .
) ربّنا أَتمم لنا نورنا واغفر لنا إنّك على كلّ شيء قدير (
التحريم : ( 9 ) يا أيها النبي . . . . .
) يا أَيّها النّبي جاهد الكفّار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنّم وبئس المصير ( ثمّ ضرب مثلا للصالحات ، والصالحات من النساء فقال عزّ من قائل :
التحريم : ( 10 ) ضرب الله مثلا . . . . .
) ضرب اللّه مثلا للّذين كفروا امرأة نوح ( واسمها واعلة وامرأة لوط واسمها واهلة . وقال مقاتل : والعدو والهة .
) كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما ( في الدين ، وما بغت امرأة النّبي قط .
قال إبن عبّاس : ليس بخيانة الزّنا وهما ( امرأتا ) نوح ولوط ( عليهما السلام ) وإنّما خيانتهما أنّهما كانتا على غير دينهما ، فكانت امرأة نوح تخبر النّاس أنّه مجنون وتُطلع على سرّه ، فاذا آمنَ بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح به . وأمّا امرأة لوط فكانت تدلّ قومه على أضيافه .
) فلم يغنيا عنهما ( مع توبتهما ) من اللّه شيئاً وقيل ادخلا النّار مع الداخلين ( يخوّف عائشة وحفصة رضي اللّه عنهما .
التحريم : ( 11 ) وضرب الله مثلا . . . . .
) وضرب اللّه مثلا للّذين آمنوا امرأة فرعون ( وهي آسية بنت مزاحم .
قال المفسرون : لمّا غلب موسى السحرة آمنت امرأة فرعون فلمّا تبيّن إسلامها وثبتت عليه أوتد يديها ورجليها بأَربعة أَوتاد وأَلقاها في الشمس وأَمر بصخرة عظيمة لتلقى عليها ، فلمّا أتوها بالصخرة ) إذ قالت ربّ إبن لي عندك بيتاً في الجنّة ( وأبصرت بيتها في الجنّة من دُرّة ، وانتزع اللّه روحها ، فألقيت الصخرة على جسد ليس فيه روح ، فلم تجد ألماً من عذاب فرعون .
وقال الحسن وإبن كيسان : رفع اللّه امرأة فرعون إلى الجنّة فهي فيها تأكل وتشرب .
(9/351)
" صفحة رقم 352 "
أخبرنا محمد بن عبد اللّه بن حمدون ، أخبرنا علي بن عبدان ، حدّثنا أَبُو الأزهر ، حدّثنا أسباط عن سُليمان عن أبي عثمان عن سلمان قال : كانت امرأة فرعون تعذّب بالشمس ، وإذا انصرفوا عنها أظلّتها الملائكة وجعلت ترى بيتها في الجنّة .
) ونجني من فرعون وعمله ( أي دينه .
أخبرنا عبد اللّه بن حامد ، أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي سعيد ، حدّثنا علي بن حرث ، حدّثنا أَبُو المنذر هشام بن محمد عن أبي صالح عن إبن عبّاس في قول اللّه تعالى ) ونجّني من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين ( الكافرين ، قطع اللّه بهذه الآية طمع من ركب المعصية ورجا أن ينفعه صلاح غيره ، وأخبر أنّ معصية الغير لا تضرّه إذا كان مطيعاً .
التحريم : ( 12 ) ومريم ابنة عمران . . . . .
) ومريم ابنت عمران الّتي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا ( أي في درعها ، لذلك ذكر الكناية .
) وصدّقت ( قراءة العامّة بالتشديد ، وقرأ لاحق بن حميد بالتخفيف .
) بكلمات ربّها ( قراءة العامّة بالجمع .
وقرأ الحسن وعيسى والجحدري : الكلمة على الواحد يعنون عيسى ( عليه السلام ) ) وكُتُبهِ ( قرأ أَبُو عمر ويعقوب : وكتبه ، على الجمع ، وهي رواية حفص عن عاصم واختيار أبي حاتم قال : لأنّها أَعم .
وقرأ الباقون : ) وكتابه ( ، على الواحد وهي اختيار أبي عبيد .
) وكانت من القانتين ( المطيعين ، مجازه : من القوم العابدين ، ولذلك لم يقل قانتات ، نظيره ) يا مريم اقنتي لربّك ( .
أخبرنا الحسن بن محمد ، حدّثنا أحمد بن محمّد بن اسحاق السني ومحمد بن المظفّر قالا : حدّثنا علي بن أحمد بن سليمان ، حدّثنا موسى بن سابق ، حدّثنا إبن وهب أخبرني الماضي ابن محمد عن بردة عن مكحول عن معاذ بن جبل : أنّ النبّي ( صلى الله عليه وسلم ) دخل على خديجة وهي تجود بنفسها فقال : ( أكره ما نزل بك يا خديجة وقد جعل اللّه في الكره خيراً كثيراً ، فإذا قدمت على ضرّاتك فأقرئيهنّ منّي السلام ) .
قالت : يا رسول اللّه من هنّ ؟
قال : ( مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم وكليمة أو حليمة أُخت موسى ) . شكَّ الراوي ، فقالت : بالرفاه والبنين
(9/352)
" صفحة رقم 353 "
أخبرنا الحسن بن محمد ، حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن شيبة ، حدّثنا عبيد اللّه أحمد بن منصور الكسائي ، حدّثنا محمد بن عبد الجبار المعروف بسندول الهمداني ، حدّثنا أَبُو أُسامة عن شعبة عن عمرو بن مرّة عن أبي موسى قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلاّ أربع : آسية بنت مُزاحم امرأة فرعون ، ومريم أبنة عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ، وفضل عائشة على النّساء كفضل الثريد على سائر الطعام ) .
(9/353)
" صفحة رقم 354 "
( سورة المُلك )
مكية ، وهي ثلاثون آية ، وثلاثمائة وثلاثون كلمة وألف وثلاثمائة حرفاً
حدّثنا أَبُو محمد المخلدي أخبرنا أَبُو العباس السراج ، حدّثنا العباس بن عبد اللّه الترمذي ، حدّثنا حفص بن عمر ، حدّثنا الحكم بن أبان عن عكرمة عن إبن عباس قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( وددتُ أنّ ) تبارك الذي بيده المُلك ( في قلب كل مؤمن ) .
أخبرني أَبُو الحسن الفارسي ، حدّثنا أَبُو عبد اللّه محمد بن يزيد ، حدّثنا أَبُو يحيى البزار ، حدّثنا محمد بن يحيى ، حدّثنا أَبُو داود ، حدّثنا عمران عن قتادة عن عباس الحسبي عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إنّ سورة من كتاب اللّه ما هي إلاّ ثلاثون آية شفعت لرجُل وأخرجته يوم القيامة من النّار وأدخلته الجنّة وهي سورة تبارك ) .
أخبرنا أَبُو الحسن بن أبي إسحاق المزكي ، وأَبُو الحسن بن أبي الفضل العدل قالا : حدّثنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصّفار ، حدّثنا سعدان بن نصر ، حدّثنا معّمر بن سليمان عن الخليل بن مرّة عن عاصم بن أبي النّجود رواه عن زرّ بن حُبيش عن عبد اللّه بن مسعود قال : إذا وضع الميت في قبره يؤتى من قبل رجليه فيقال : ليس لكم عليه سبيل قد كان يقوم بسورة المُلك ، ثم يؤتى من قبل رأسه فيقول لسانه : ليس لك عليّ سبيل كان يقرأ بي سورة المُلْك ، ثم قال : هي المانعة من عذاب القبر ، وهي في التوراة سورة الملك من قرأها في ليلة فقد اكثر وأطيب .
بسم اللّه الرحمن الرحيم
( ) تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَواةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَانِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ
(9/354)
" صفحة رقم 355 "
الْمَصِيرُ إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقًا وَهِىَ تَفُورُ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ كَبِيرٍ ( 2
الملك : ( 1 - 2 ) تبارك الذي بيده . . . . .
) تبارك الذي بيده المُلك وهو على كل شيء قدير ( ) الذي خلق الموت والحيوة ( قدّم الموت على الحياة لأنّهُ إلى القهر أقرب ، كما قدّم البنات على البنين في قوله : ) يهب لمن يشاء أُناثاً ويهب لمن يشاء الذكور ( .
قال قتادة : أذلّ اللّه إبن آدم بالموت ، وجعل الدنيا دار حياة ودار فناء ، وجعل الآخرة دار جزاء وبقاء . وقيل : قدّمةُ لأنّهُ أقدم ، وذلك أنّ الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموات كالنطفة والتراب ونحوها ، ثم اعترصت عليها الحياة .
قال إبن عباس : خلق الموت على صورة كبش أملح لا يمرّ بشيء ولا يجد ريحه شيء إلاّ مات ، وخلق الحياة على صورة فرس بلقاء ، وهي التي كان جبرئيل والأنبياء ( عليهم السلام ) يركبونها ، خطوها مد البصر ، وهي فوق الحمار ودون البغل ، لا تمر بشيء ، ولا تطأ شيئاً ولا يجد ريحها شيء إلاّ حيّ ، وهي التي أخذ السامري من أثرها ؛ فألقاها على العجل فحيى .
) ليبلوكم ( فيما بين الحياة إلى الموت ، ) أيّكم أحسن عملاً (
أخبرنا الحسن بن محمد بن فنجويه ، حدّثنا محمد بن عبد اللّه بن برزة ، حدّثنا الحرث بن أُسامة ، حدّثنا داود بن المحر ، حدّثنا عبد الواحد بن زياد العبدي عن كليب بن وائل عن إبن عمر عن النبي ( صلّى اللّه عليه ) أنّه تلا ( تبارك الذي بيده الملك ) حتى بلغ إلى قوله ( أيكم أحسن عملا ) . ثم قال : أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم اللّه ، وأسرعكم في طاعة اللّه .
وبإسناده عن داود بن المحر ، حدّثنا ميسر عن محمد بن زيد عن أبي سلمة عن أبي قتادة قال : قلت : يا رسول اللّه أرأيت قول اللّه تعالى ) أيّكم أحسن عملا ( ما عُني به ؟ قال : ( يقول أيّكم أحسن عقلا ) .
وقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( أتمّكم عقلا وأشدّكم لله خوفاً ، وأحسنكم فيما أمر اللّه تعالى به ونهى عنه نظراً وإن كان أقلكم تطوعاً ) .
أخبرنا محمد بن موسى بن الفضل ، حدّثنا أَبُو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه بن أحمد ، حدّثنا أَبُو بكر بن أبي الدّنيا القرشي ، حدّثنا محمد بن علي بن الحسن بن سقيق عن إبراهيم عن
(9/355)
" صفحة رقم 356 "
الأشعث عن فضيل بن عَياض ) ليبلوكم أيّكم أحسن عملاً ( قال : أخلصه وأصوبة ، قلت : ما أخلصه وأصوبه ؟ قال : إنّ العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل ، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتّى يكون خالصاً صواباً ، والخالص : إذا كان للّه ، والصّواب : إذا كان على السُنّة .
وقال الحسن : يعني أيّكم أزهد في الدنيا زهداً ، وأترك لها تركاً .
وقال سهل : أيّكم أحسن توكّلا على اللّه .
قال الفرّاء : لم يرفع البلوى على أي ؛ لأنّ فيما بين أي والبلوى إضماراً وهو كما يقول في الكلام : بلوتكم لأنظر أيّكم أطوع ، ومثله ) سلْهم أيّهم بذلك زعيم ( أي سلهم وانظر أيّهم . فأيّ رفع على الابتداء وأحسن خبره .
) وهو العزيز الغفور }
الملك : ( 3 ) الذي خلق سبع . . . . .
) الّذي خلق سبع سماوات طباقاً ( طبقا على طبق ، بعضها فوق بعض ، يقال : أطبقت الشيء إذا وضعت بعضه فوق بعض .
قال أبان بن تغلب : سمعت بعض الأعراب يذمّ رجلا فقال : شرّه طباق ، وخيره غير باق .
قال سيبويه : ونصب طباقاً لأنّه مفعول ثان .
) ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ( قرأ يحيى بن ثابت والأعمش وحمزة والكسائي : من تفوّت بغير ألف ، وهي اختيار أبي عبيد وقراءة عبد اللّه وأصحابه .
أخبرنا عبد اللّه بن حامد الورّاق ، أخبرنا مكي بن عبدان ، حدّثنا عبد اللّه بن هاشم ، حدّثنا يحيى بن سعيد القّطان عن سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن إبراهيم عن علقمة عن عبد اللّه أنّه كان يقرأ : من تفوّت .
قال الأعمش : فذُكرتْ لأبي رزين فقال : لقد سمعتها من عبد اللّه فيما قبلتها وأخذتها ، وقرأ تفاوت ، وهي قراءة الباقين واختيار أبي حاتم وهما لغتان مثل التّعهد والتّعاهد ، والتحمّل والتحامل ، والتطّهر والتطاهر . ومعناه : ماترى في خلق الرحمن من اعوجاج واختلاف وتناقض وتباين ، بل هي مستوية مستقيمة ، وأصله من الفوت ، وهي أَنْ يفوت بعضها بعضاً لقلّة استوائها ، يدلّ عليه قول إبن عبّاس : من تفرق .
) فارجع ( فَردّ ) البصر ( قال الفراء : إنّما قال فارجع وليس قبله فعل مذكور فيكون الرجوع على ذلك الفعل ؛ لأَنّ مجاز الكلام : أُنظر ثمّ ارجع البصر .
(9/356)
" صفحة رقم 357 "
) هل ترى من فطور ( فتوق وشقوق وخروق .
الضحّاك : اختلاف وشطور ، عطية : عيب ، إبن كيسان : تباعد ، القرظي : قروح ، أَبُو عبيدة : صدوع قال عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة بن مسعود :
شققت القلب ثم ذررت فيه
هواك فليم فالتأم الفطورُ
وقال آخر :
تغلغل حيث لم يبلغ شراب
ولا سُكر ولم يبلغ سرور
وقال آخر :
بنى لكمُ بلا عمد سماءً
وزيّنها فما فيها فطور
الملك : ( 4 ) ثم ارجع البصر . . . . .
) ثم ارجع البصر ( رُدَّ البصر وكرّر النظر ) كرّتين ( مرتين ، ) ينقلبْ ( ينصرفْ ويرجع ) إليك البصر خاسئاً ( خاشعاً ، ذليلا ، مبعداً ) وهو حسير ( يعني كليل ، منقطع لم يُدرك ماطلب قال الشاعر :
نظرتُ إليها بالمحصب من منى
فعاد إليّ الطرفُ وهو حسير
أخبرنا إبن فنجويه ، حدّثنا موسى بن محمد ، حدّثنا الحسن بن علويه ، حدّثنا إسماعيل بن عيسى ، حدّثنا المسيب ، حدّثنا إبراهيم البكري عن صالح بن جبار عن عبد اللّه بن يزيد عن أبيه ، قال المسيب : وحدّثنا أَبُو جعفر عن الرّبيع عن كعب قالا : السماء الدنيا موج مكفوف ، والثانية مرمرة بيضاء ، والثالثة حديد ، والرابعة صفر وقال نحاس والخامسة فضة ، والسادسة ذهب والسّابعة ياقوته حمراء ، وبين السّماء السّابعة إلى الحجب السبعة صحاري من نور ، واسم صاحب الحجب ( فنطاطروس ) .
الملك : ( 5 ) ولقد زينا السماء . . . . .
) ولقد زينا السّماء الدُّنيا بمصابيح ( أي الكواكب ، واحدها مصباح وهو السراج .
) وجعلناها رجوماً ( مرمىً ) للشياطين ( إذا اخترقوا السّمع ، ) وأعتدنا لهم ( في الآخرة ) عذاب السّعير ( ما جعلنا لهم في الدنيا من الشهب ،
الملك : ( 6 ) وللذين كفروا بربهم . . . . .
) وللذّين كفروا بربِّهم ( أيضاً ) عذاب جهنم وبئس المصير 2 )
الملك : ( 7 ) إذا ألقوا فيها . . . . .
) إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً ( صوتاً كصوت الحمار ) وهي تفور ( تزفر وتغلي بهم كما يغلي القدر
(9/357)
" صفحة رقم 358 "
وقال مجاهد : تفور بهم كما يفوّر الحبّ القليل في الماء الكثير .
الملك : ( 8 ) تكاد تميز من . . . . .
) تكاد تميّزُ من الغيظ ( يتفرق بعضها من بعض على أهلها غيظاً وانتقاماً للّه تعالى ) كلّما ألُقي فيها فوج ( قومٌ ) سألهم خزنتها ألمْ يأتكم نذير ( رسول في الدنيا
الملك : ( 9 ) قالوا بلى قد . . . . .
) قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ( للرُسُل ) ما نزّل اللّه من شيء إن أنتم إلاّ في ضلال كبير ( .
) وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِىأَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لاَِصْحَابِ السَّعِيرِ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ ذَلُولاً فَامْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ أَءَمِنتُمْ مَّن فِى السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الاَْرْضَ فَإِذَا هِىَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِى السَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَانُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ بَصِيرٌ أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرَّحْمَانِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُورٍ أَمَّنْ هَاذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ قُلْ هُوَ الَّذِىأَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاَْبْصَارَ وَالاَْفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الاَْرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَقِيلَ هَاذَا الَّذِى كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ اللَّهُ وَمَن مَّعِىَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ قُلْ هُوَ الرَّحْمَانُ ءَامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ ( 2
الملك : ( 10 ) وقالوا لو كنا . . . . .
) وقالوا ( وهم في النّار ) لو كنّا نسمع ( النذر من الرُسُل ، وما جاؤونا به ) أو نعقل ( عنهم . قال إبن عباس : لو كنّا نسمع الهدى أو نعقله فنعمل به .
) ما كنا في أصحاب السعير 2 )
الملك : ( 11 ) فاعترفوا بذنبهم فسحقا . . . . .
) فاعترفوا بذنبهم فسُحقاً ( بعداً ، وقال سعيد بن جبير : هو وادٍ في جهنم ) لأصحاب السّعير ( ونقله أَبُو جعفر والكسائي بروايتيه الدوري وقتيبة الخلاف عنهما ، وحققه الآخرون : وهما لغتان مثل الرُّعب والرَّعب ، السُّحت والسَّحت ، أخبرنا عبد اللّه ابن حامد ، أخبرنا محمد بن خالد حدّثنا داود بن سليمان ، حدّثنا عبد بن حميد ، حدّثنا عبيد الله ابن موسى عن إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد عن ابن عباس قال : إنّ الرجل ليجرّ إلى النار فتنزوي ، وتنقبض بعضها إلى بعض ، فيقول لها الرحمن : مالكِ ؟ قالت : إنّه كان يستجير منّي فيقول : أرسلوا عبدي . وإنّ الرجل ليُجرّ إلى النار ، فيقول : يا ربّ ما كان هذا الظنّ بك قال : فما كان ظنّك ؟ قال : كان ظنّي أن تسعني رحمتك ، فيقول : أرسلوا عبدي . وإنّ الرجل ليُجرّ إلى
(9/358)
" صفحة رقم 359 "
النار فتشهق إليه النار شهيق البغلة إلى الشعير ، ثمّ تزفر زفرة لا يبقى أحدٌ إلاّ خاف .
الملك : ( 12 - 14 ) إن الذين يخشون . . . . .
) إنّ الذين يخشون ربّهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير وأسرّوا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ( .
قال ابن عباس : نزلت في المشركين ، كانوا ينالون من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيخبره جبرائيل ما قالوا فيه ونالوا منه ، فيقول بعضهم لبعض : أسرّوا قولكم كي لا يسمع إله محمد . وقال أهل المعاني : إن شئت جعلت ( من ) في قوله : ) من خلق ( اسماً للخالق ؟ فقلت : ألا يعلم الخالق ما في الصدور وهو اللطيف الخبير ، وإن شئت جعلته اسماً ، فقلت : ألا يعلم الله مخلوقه .
أخبرنا الفنجوي حدّثنا موسى بن الحسن بن علويّة حدّثنا عيسى بن إسماعيل بن عيسى بن المسيّب ، قال : بينا رجل واقف بالليل في شجر كثير وقصفت الريح فوقع في نفس الرجل فقال : أترى الله يعلم ما يسقط من هذه الورق ؟ فنودي من خلفه : ألا يعلم مَنْ خلق وهو اللطيف الخبير ؟
وروى محمد بن فضيل عن زرين عن ابن أبي أسماء أنّ رجلا دخل غيضة فقال : لو خلوت هاهنا للمعصية مَنْ كان يراني ؟ قال : فسمع صوتاً ملأ ما بين لا يتي الغيضة ، ألا يعلم مَنْ خلق وهو اللطيف الخبير ؟
الملك : ( 15 ) هو الذي جعل . . . . .
) هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا ( سهلا مُسخّرة لا تمتنع ) فامشوا في مناكبها ( قال ابن عباس وقتادة : في جبالها ، ضحاك : في آكامها ، مجاهد : طرقها وفجاجها ، وقال الكلبي : أطرافها ، الفرّاء : في جوانبها ، مقاتل : نواحيها ، الحسن : سهلها حيث أردتم فقد جعلها لكم ذلولا لا تمتنع ، وأصل المنكب الجانب ومنه منكب الرجل ، والريح النكاب ، وتنكب فلان .
) وكلوا من رزقه ( الحلال ) وإليه النشور (
الملك : ( 16 ) أأمنتم من في . . . . .
) ءَأمنتم مَنْ في السماء ( وقال ابن عباس : أمنتم عذاب مَنْ في السماء أن عصيتموه . وقيل : معنى ) أمنتم مَنْ في السماء ( : قدرته وسلطانه وعرشه ومملكته ، وقيل : إنّما قال : ) مَنْ في السماء ( لأنّهم كانوا يعترفون بأنّه إله السماء ، ويزعمون إنّ الأصنام آلهة الأرض ، وكانوا يدعون الله من جهة السماء ، وينتظرون نزول أمره بالرحمة والسطوة منها .
وقال المحقّقون : معنى قوله : ) في السماء ( أي فوق السماء كقوله تعالى : ) فسيحوا في الأرض ( ، أي فوقها لا بالمماسة والتحيز ولكن بالقهر والتدبير
(9/359)
" صفحة رقم 360 "
وقيل : معناه على السماء كقوله : ) ولأصلّبنّكم في جذوع ( ومعناه : إنّه مالكها ومدبّرها والقائم عليها ، كما يقال : فلان على العراق والحجاز ، وفلان على خراسان وسجستان يعنون أنّه واليها وأميرها .
وأعلم أنّ الآيات والأخبار الصحاح في هذا الباب كثيرة وكلّها إلى العلو مشيرة ، ولا يدفعها إلاّ ملحد جاحد أو جاهل معاند ، والمراد بها والله أعلم توقيره وتعظيمه وتنزيهه عن السفل والتحت ، ووصفه بالعلو والعظمة دون أن يكون موصوفاً بالأماكن والجهات والحدود والحالات ؛ لأنّها صفات الأجسام وأمارات الحدث والله سبحانه وتعالى كان ولا مكان فخلق الأمكنة غير محتاج إليها ، وهو على ما لا يزل ، ألا يرى أنّ الناس يرفعون أيديهم في حال الدعاء إلى السماء مع إحاطة علمه وقدرته ومملكته بالأرض وغيرها أحاطتها بالسماء ، إلاّ أنّ السماء مهبط الوحي ومنزل القطر ومحلّ القدس ومعدن المطهرين المقرّبين من ملائكته ، وإليها تُرفع أعمال عباده وفوقها عرشه وجنّته وبالله التوفيق .
) أن يخسف ( يغور ) بكم الأرض فإذا هي تمور ( قال الحسن : تُحرّك بأهلها ، وقال الضحّاك : تدور بهم وهم في قعرها ، وقال ابن كيسان : تهوى بهم .
الملك : ( 17 ) أم أمنتم من . . . . .
) أم أمنتم مَنْ في السماء أن يُرسل عليكم حاصباً ( ريحاً ذات حجارة كما فعل بقوم لوط وأصحاب الفيل ) فستعلمون كيف نذير ( أي إنذاري بالعذاب .
الملك : ( 18 ) ولقد كذب الذين . . . . .
) ولقد كذّب الذين من قبلهم فكيف كان نكير ( إنكاري ، وأثبت بعض القرّاء الياء في هذه الحروف وجوابها على الأصل وحذفها بعضهم على الخط .
)
الملك : ( 19 ) أولم يروا إلى . . . . .
أولم يروا إلى الطير فوقهم ( ) صافّات ( أجنحتها وهي تطير ، ) ويقبضن ( أجنحتها بعد انبساطها ، ) ما يمسكهنّ ( يحبسهنّ في حال القبض والبسط أن يسقطن ، ) إلاّ الرحمن إنّه بكلّ شيء بصير ( .
الملك : ( 20 ) أم من هذا . . . . .
) أمن هذا الذي هو جند لكم ( قال ابن عباس : منعه لكم ) ينصركم من دون الرحمن ( فيدفع عنكم ما أراد بكم ) إن الكافرون إلاّ في غرور (
الملك : ( 21 ) أم من هذا . . . . .
) أمّن هذا الذي يُرزقكم إن أمسك رزقه بل لجّوا في عتو ( في الضلال ) ونفور ( تباعد من الحقّ
الملك : ( 22 ) أفمن يمشي مكبا . . . . .
) أفمن يمشي مكبّاً على وجهه ( راكباً رأسه في الضلالة والجهالة أعمى القلب والعين لا يُبصر يميناً ولا شمالا ، وهو الكافر .
وقال قتادة : هو الكافر أكبّ على معاصي الله في الدنيا فحشره الله يوم القيامة على وجهه ، ) أهدى أمّن يمشي سويّاً على صراط مستقيم ( وهو المؤمن ، وقوله ) مكبّاً على وجهه ( فعل غريب لأنّ أكثر اللغة في التعدّي واللزوم أن يكون أفعلت يفعّل ، وهذا على ضدّه يقال
(9/360)
" صفحة رقم 361 "
كببت فلاناً على وجهه فأكب ، قال الله تعالى : ) فكبّت وجوههم في النار ( ، وقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( وهل يكبّ الناس في النار على مناخرهم إلاّ حصائد ألسنتهم ) .
ونظيره في الكلام قولهم : قشعت الريح السحاب فأقشعت ، وبشرته بمولود فأبشر ، وقيل مكبّاً لأنه فعل غير واقع ، قال الأعشى :
مكبّاً على روقيه يُحفّز عرفه
على ظهر عُريان الطريقة أهيما
الملك : ( 23 - 27 ) قل هو الذي . . . . .
) قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون قُلّ هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قُلّ إنّما العلم عند الله وإنّما أنا نذير مبين فلمّا رأوه ( ويعني العذاب في الآخرة عن أكثر المفسّرين ، وقال مجاهد : يعني العذاب ببدر ، ) زُلفة ( قريباً ، وهو اسم بوصف مصدر يستوي فيه المذكّر والمؤنّث والواحد والاثنان والجميع ) سيئت ( أُخزيت ) وجوه الذين كفروا ( فاسودّت وعلتها الكآبة والغربة يقول العرف : سويه فسيء ، ونظيره سررته فسر وشعلته فشعل ) وقيل ( قال لهم الخزنة : ) هذا الذي كنتم به تدّعون ( أي أن يعجّله لكم .
وقراءة العامّة : ( تدّعون ) بتشديد الدال يفتعلون من الدعاء عن أكثر العلماء أي يتمنّون ويتسلّون ، وقال الحسن : معناه يدّعون أن لا جنّة ولا نار ، وقرأ الضحاك وقتادة ويعقوب بتخفيف الدال ، أي تدعون الله أن يأتكم به وهو قوله : ) وإذ قالوا اللّهمّ إن كان هذا هو الحق من عندك ( الآية .
الملك : ( 28 ) قل أرأيتم إن . . . . .
) قل ( يا محمد لمشركي مكّة الذين يتمنّون هلاكك ويتربّصون بك ريب المنون ) أرأيتم إن أهلكني الله ( فأماتني ) ومَنْ معي أو رحمنا ( أبقانا وأخّر في آجالنا ) فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ( فإنّه واقع بهم لا محالة ، وهذا اختيار الحسين بن الفضل ومحمد بن الحسن .
وقال بعضهم : ) قل أرأيتم إن أهلكني الله ( فعذّبني ( ومَنْ معي أو رحمنا ) غفر لنا ( فمن يُجير الكافرين من عذاب أليم ) ونحن معاً إنّما خائفون من عذابه ؛ لأنّ له أن يأخذنا بذنوبنا ويعاقبنا ويهلكنا ؛ لأنّ حكمه جائز وأمره نافذ وفعله واقع في ملكه ، فنحن مع إيماننا خائفون من
(9/361)
" صفحة رقم 362 "
عذابه فمن يمنعكم من عذاب الله وأنتم كافرون ؟ وهذا معنى قول ابن عباس واختيار عبد العزيز ابن يحيى وابن كيسان .
الملك : ( 29 ) قل هو الرحمن . . . . .
) قل هو الرحمن آمنّا به وعليه توكّلنا فستعلمون ( بالياء الكسائي ورواه عن عليّح ، الباقون بالتاء ، ) مَنْ هو في ضلال مبين ( نحن أم أنتم
الملك : ( 30 ) قل أرأيتم إن . . . . .
) قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غوراً ( يعني غائراً ذاهباً ناضباً في الأرض لا تناله الأيدي والدلاء ، قال الكلبي ومقاتل : يعني ماء زمزم وبئر ميمون الحضرمي وهي بئر عادية قديمة .
) فمن يأتيكم بماء معين ( ظاهر تناله الأيدي والدلاء ، وقال عطاء عن ابن عباس : جار ، وقال المؤرخ : عذب بلغة قريش .
(9/362)
" صفحة رقم 5 "
( سورة القلم )
مكّية ، وهي اثنان وخمسون آية ، وثلاث مائة كلمة ، وألف ومائتان وستّة وخمسون حرفاً
أخبرنا محمد بن القيّم أخبرنا محمد بن طه حدّثنا إبراهيم بن شريك حدّثنا أحمد بن عبد الله حدّثنا سلام بن سليم حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن ابنه عن أبي أمامة بن كعب ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَنْ قرأ سورة نون والقلم أعطاه الله تعالى ثواب الذين حسّن الله أخلاقهم ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) نوَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَإِنَّ لَكَ لاََجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ( 2
القلم : ( 1 ) ن والقلم وما . . . . .
) ن ( اختلف القراء فيه ، فأظهر بعضهم نونه ، وأخفاها الآخرون ، وقرأ ابن عباس ( ن ) بكسر النون على إضمار حرف القسم ، وقرأ عيسى بن عمر بالفتح على إضمار فعّل ، واختلف المفسّرون في معناه ، فقال مجاهد ومقاتل ومرة الهمداني وعطاء الخراساني والسدي والكلبي : هو الحوت الذي يحمل الأرض ، وهي رواية أبي طيسان عن ابن عباس قال : أوّل ما خلق الله القلم فجرى بما هو كائن ، ثمّ رفع فخلق الماء فخلق منه السماوات ، ثمّ خلق النون فبسط الأرض على ظهر النون ، فتحرّكت النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال فإنّ الجبال لتفخر على الأرض ، ثمّ قرأ ابن عباس : ) نون والقلم وما يسطرون ( واختلفوا في اسمه :
فقال الكلبي ومقاتل : يهموت ، وقال أبو اليقظان والواقدي وأبو كعب : لوسا ، وقال عليّ ابن أبي طالب ح : يلهوت ، وقال الراجز .
ما لي أراكم كلكم سكوتاً
والله ربي خالق اليلهوتا
قالت الرواة : لمّا خلق الله تعالى الأرض وفتقها بعث الله سبحانه من تحت العرش ملكاً ،
(10/5)
" صفحة رقم 6 "
فهبط إلى الأرض حتّى دخل تحت الأرضين السبع فوضعها على عاتقه ، إحدى يديه بالمشرق والأخرى بالمغرب باسطتين قابضتين على الأرضين السبع ، حتى ضبطها ولم يكن لقدمه موضع قرار ، فأهبط الله تعالى من الفردوس ثوراً له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة ، وجعل قرار قدم الملك على سنامه فلم يستقر قدماه ، فاحدر الله تعالى ياقوتة حمراء من أعلى درجة في الفردوس ، غلظها مسيرة خمس مائة عام ، فوضعها بين سنام الثور إلى أذنه فاستقرت عليها قدماه ، وقرون ذلك الثور خارجة من أقطار الأرض ، ومنخراه في البحر ، فهو يتنفس كلّ يوم نفساً فإذا تنفس مد البحر ، وإذا مدّ نفسه جزر فلم يكن لقوائم الثور موضع قرار ، فخلق الله صخرة خضراء كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين فاستقرّت قوائم الثور عليها ، وهي الصخرة التي قال لقمان لأبنه : ) فتكن في صخرة ( الآية ، فلم يكن للصخرة مستقر ، فخلق الله تعالى نوناً وهو الحوت العظيم ، فوضع الصخرة على ظهره وبسائر جانبه ، والحوت على البحر على متن الريح ، والريح على القدرة وثقل الدنيا كلّها بما عليها حرفان من كتاب الله تعالى قال لها الجبّار : كوني ، فكانت .
وقال كعب الأحبار : إنّ إبليس تغلغل إلى الحوت الذى على ظهره الأرض كلّها فوسوس إليه ، وقال : أتدري ما على ظهرك يالوتيا من الأمم والدواب والشجر والجبال وغيرها لو نفضتهم ألقيتهم من ظهرك أجمع ، قال : فهمّ لوتيا أن يفعل ذلك ، فبعث الله تعالى دابّة فدخلت منخره ووصلت إلى دماغه فضج الحوت إلى الله تعالى منها ، فأذن لها فخرجت ، قال كعب : والذي نفسي بيده لينظر إليها وتنظر إليه إن هم بشيء من ذلك عادت كما كانت .
وقال بعضهم : هي آخر حروف الرحمن ، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس قال : ألر وحم ونون ، حروف الرحمن تبارك وتعالى مقطعة .
وقال الحسن وقتادة والضحاك : النون : الدواة ، وهي رواية ثابت اليماني عن ابن عباس ، وقال فيه الشاعر :
إذا ما الشوق يرح بي إليهم
ألقت النون بالدمع السجوم
وقال معاوية بن قرة : هو لوح من نور ، ورفعه إلى النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقال ابن زيد : هو قسم أقسم الله تعالى به ، ابن كيسان : فاتحة السورة ، عطاء : افتتاح اسمه نور وناصر ونصير ( القرظي ) : أقسم الله تعالى بنصرته المؤمنين بيانه قوله : ) وكان حقّا
(10/6)
" صفحة رقم 7 "
علينا نصر المؤمنين ( ، جعفر الصادق : هو نهر في الجنّة .
) والقلم ( وهو الذي كتب به الذكر ، وهو قلم من نور ما بين السماء والأرض ويقال : لمّا خلق الله تعالى القلم وهو أوّل ما خلقه نظر إليه فانشقّ نصفين ، ثمّ قال : اجرِ ، فقال : يا ربّ بم أجري ، فقال : بما هو كائن إلى يوم القيامة ، فجرى على اللوح المحفوظ بذلك .
قال عطا : سألت الوليد بن عبادة بن الصامت ، كيف كانت وصية أبيك حين حضره الموت ؟ قال : دعاني فقال : أي بني اتقِ الله واعلم أنّك لن تتقي الله ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده والقدر خيره وشره ، إنّي سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إنّ أوّل ما خلق الله القلم فقال له : اكتب ، فقال : يا ربّ وما أكتب ؟ فقال : اكتب العلم وقال : فجرى القلم في تلك الساعة وما هو كائن إلى الأبد ) .
وحكي أنّ ابن الزيّات دخل على بعض الخلفاء فوجده مغموماً ، وقال له : روّح عني يابن الزيّات ، فأنشأ يقول :
اللهم فضل والقضاء غالب
وكان الخطّ في اللوح
انتظر الروح وأسبابه
أيئس ما كنت في الروح
وهل أراد بالقلم الخطّ والكتابة الذي امننّ الله تعالى على عباده بتعليمه إياهم ؟ ذلك كما قال : ) علم بالقلم ( .
وقد أكثر الحكماء والبلغاء في وصف القلم ونفعه فلم أُراد إخلال هذا الكتاب عن تدبر فصوصه ؟
فقال ابن هيثم : من جلالة القلم أنّه لم يكتب لله تعالى كتاب إلاّ به لذلك أقسم الله تعالى به . وقيل : الأقلام مطايا الفطن ورسل الكرام .
وقيل : القلم الظِلم الأكبر . وقيل : البيان اثنان : بيان لسان وبيان بنان ، وفضل بيان البنان أنّ ما تثبته الأقلام باق على الأَيام ، وبيان اللسان تدرسه الأعوام .
وقال بعض الحكماء : قوام أمور الدين والدنيا شيئان : القلم والسيف ، والسيف تحت العلم وفيه يقول شاعرهم
(10/7)
" صفحة رقم 8 "
إن يخدم القلم السيف الذي خضعت
له الرقاب ودانت دون حذره الأمم
فالموت والموت لا شيء يغالبه
ما زال يتبع ما يجرى به القلم
كذا قضى الله للأقلام مذ بُرئت
إن السيوف لها مذ أرهفت خدم
وللصنوبري :
قلم من القصب الضعيف الأجوف
أمضى من الرمح الطويل الأثيف
ومن النصال إذا بدت لقيتها
ومن المهنّد للصقال المرهفِ
وأشدّ إقداماً من الليث الذي
يكوي القلوب إذا بدا في الموقف
أنشد أبو القيّم السدوني ، قال : أنشدني عبد السميع الهاشمي ، قال : أنشدني ابن صفون لأبي تمّام في معناه :
ولضربة من كاتب في بيانه
أمضى وأبلغ من رقيق حُسام
قوم إذا عزموا عداوة حاسد
سفكوا الدماء بأسنّة الأقلام
وللبحتري :
قوم إذا أجدوا الأقلام عن غضب
ثمّ استمدّوا بها ماء المنيّاتِ
نالوا بها من أعاديهم وأن كثروا
ما لا ينالوا على المشرفيات
وقال آخر :
ما السيف غضباً يضيء رونقه
أمضى على النائبات من قلمه
ولأبن الرومي :
في كفّه قلم ناهيك من قلم
نبلاً وناهيك من كفّ به اتّشحا
يمحو ويُثبت أرزاق العباد به
فما المقادير إلاّ ما وحى ومحا
قال : وأنشد بعضهم في وصفه :
وأخرس ينطق بالمحكمات
وجثمانه صامت أجوف
كلّه ينطق في جفنه
وبالثام منطقه يُعرف
والآخر في وصفه :
نحف الشوى بعد ما على أم رأسه
ويحفى ويقوى عدوه حين يقطع
(10/8)
" صفحة رقم 9 "
لجّ ظلاماً في نهار لسانه
ويُفهم عمّن قال ما ليس يسمع
اخذه وما شجرات نابتات بفقره
إذا قطعت حارت مطايا الأصابع
لهن بكاء العاشقين ولونهم
سوى أيّها يبكن سود المدامع
آخر :
هذا هو البيت الأول للبيتين التاليين .
يناط نحدّه الأفراد طرّاً
يمحي بعض خلق أو ممات
بمشيه حيّة وبلون جان
وجرم متيم وشيما الطيبات
قوله : ) وما يسطرون ( يكتبون ، ويجوز أن يكون معناه ويسطرهم يعني السفرة . وقيل : جمع الكتبة
القلم : ( 2 ) ما أنت بنعمة . . . . .
) ما أنت بنعمة ربّك بمجنون ( يعني أنّك لا تكون مجنوناً وقد أنعم الله عليك بالنبوّة . وقيل : بعصمة ربّك .
وقيل : هو كما يُقال : ما أنت بمجنون والحمد لله . وقيل : معناه ما أنت بمجنون والنعمة لربّك كقولهم : سبحانك اللّهمّ وبحمدك ، أي والحمد لك . وقال لبيد :
وأُفردت في الدنيا بفقد عشيرتي
وفارقني جار بأربد نافع
أي : وهو أربد .
وقال النابغة :
لم يحرموا حسن الغداء وأمّهم
طفحت عليك بناتق مذكار
أي : وهو ناتق .
القلم : ( 3 ) وإن لك لأجرا . . . . .
) وإنّ لك لأجراً غير ممنون ( غير مقطوع ولا منقوص من قولهم : حبل منين إذا كان غير متين .
القلم : ( 4 ) وإنك لعلى خلق . . . . .
) وإنّك لعلى خُلُق عظيم ( قال ابن عباس ومجاهد : دين عظيم ، وقال الحسن : كان خلقه آداب القرآن ، ونقلت عائشة عن خلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ورضي عنها فقالت : كان خلقه القرآن . وقال قتادة : هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه من نهي الله ، وقال جنيد : سمي خلقه عظيماً لأنّه لم يكن له همّة سوى الله .
وقال الواسطي : لأنّه جاد بالكونين عوضاً عن الحقّ . وقيل : لأنّه عاشرهم بخلقه وزايلهم
(10/9)
" صفحة رقم 10 "
بقلبه ، فكان ظاهره مع الخلق وباطنه مع الحق ، وأوصى بعض الحكماء رجلا فقال : عليك بالحقّ مع الخلق والصدق مع الحقّ . وقيل : لأنّه امتثل بالدنيا لله تعالى إياه بقوله : ) خذ العفو ( الآية . وقيل : عظم لَه خُلقه حيث صغّر الألوان في عينه ليعرف لهذه مكونها .
وقيل : سمّي خلقه عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه تدلّ عليه ما أخبرنا أبو القيّم الحسن ابن محمد المفسّر ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الصفّار ، حدّثنا ابن أبي الرما حدّثنا الدراوردي ، عن ابن عجلان عن القعقاع عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( بُعثت لأتُمّم مكارم الأخلاق ) .
وقال : ( أدّبني ربّي فأحسن تأديبي ) .
أخبرنا أبو عمر وأحمد بن أبي الفرابي جد أبو العباس الأصم ، حدّثنا ابن عبد الحكم أخبرنا أبي وشعيب ، وأخبرنا الليث عن عمر بن أبي عمرو عن المطّلب بن عبد الله عن عائشة خ قالت : سمعت النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إنّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل صائم النهار ) .
قال : وأخبرنا أحمد بن أبي الفرابي ، أخبرنا منصور بن محمد السرخسي ، حدّثنا محمد بن أيوب الرازي حدّثنا أبو الوليد حدّثنا شعبة عن القاسم وأبي قرة قال : سمعت عطاء الكيخاراني عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال : قال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما شيء أثقل في الميزان من خُلق حسن ) .
أخبرنا أحمد بن السري العروضي في درب الحاجب ، أخبرنا محمد بن عبد الله بن أحمد ابن جعفر العماني ، أخبرنا عبد الله بن أحمد بن عامر الطائي ، حدثني أبي ، حدّثنا عليّ بن موسى الرضا حدّثنا أبي موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن عليّ عن أبيه عليّ بن الحسين عن أبيه الحسين بن عليّ عن أبيه عليّ بن أبي طالب ح قال : قال رسول الله : ( عليكم بحسن الخُلق فإنّ حُسن الخُلق في الجنّة لا محالة ، وإياكم وسوء الخُلق فإنّ سوء الخُلق في النار لا محالة ) .
أخبرنا ابن فنجويّه حدّثنا عبيد الله بن محمد بن شِنبه ، حدّثنا سمعان عن ابن الجارود
(10/10)
" صفحة رقم 11 "
حدّثنا صالح عن سعيد بن جبير عن أبي عثمان اليهري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أحبّكم إلى الله أحسنكم أخلاقاً الموطؤن أكنافاً الذين يألفون ويُؤلفون ، وأبغضكم إلى الله المشّاؤون بالنميمة المفرّقون بين الأخوان الملتمسون للبراء العنت ) .
2 ( ) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّآءِ بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاَْوَّلِينَ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ( 2
القلم : ( 5 ) فستبصر ويبصرون
) فستبصر ( فسترى يا محمد ) ويبصرون ( ويرون يعني الذين رموه بالجنون .
القلم : ( 6 ) بأيكم المفتون
) بأيّكم المفتون ( اختلف المفسرون في معنى الآية ووجهها ، فقال قوم : معناه بأيّكم المجنون ، وهو مصدر على وزن المفعول كما يقال : ما لفلان مجنون ومعقود ومعقول أي جلادة وعقد وعقل ، قال الشاعر :
حتّى إذا لم يتركوا لعظامه
لحماً ولا لفؤاده معقولا
أي عقلا ، وهذا معنى قول الضحاك : ورواية العوفي عن ابن عباس .
وقيل : الباء بمعنى في مجازه : فستبصر ويبصرون في أي الفريقين المجنون في فريقك يا محمد أو في فريقهم .
والمفتون : المجنون الذي فتنه الشيطان . وقيل : تأويله بأيّكم المفتون وهو الشيطان ، وهذا معنى قول مجاهد .
وقال آخرون : معناه : أيّكم المفتون والباء زائدة لقوله تعالى : ) تنبت بالدُهن ( و ) يشرب بها عباد الله ( وهذا قول قتادة والأخفش ( وأبي عبيد ) .
وقال الراجز :
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج
نضرب بالسيف ونرجوا بالفرج
(10/11)
" صفحة رقم 12 "
القلم : ( 7 - 8 ) إن ربك هو . . . . .
) إنّ ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين فلا تطع المكذّبين ( فيما دعوك عليه من دينهم الخبيث ، نزلت في مشركي قريش حين دعوه إلى دين آبائه ،
القلم : ( 9 ) ودوا لو تدهن . . . . .
) ودّوا لو تُدهن فيدهنون ( قال عطية والضحاك : لو تكفر فيكفرون .
وقال ابن عباس : برواية الوالبي لو ترخص فيرخصون ، قال الكلبي : لو تلن لهم فيلينون ، الحسن : لو تصانعهم دينك فيصانعون في دينهم ، زيد بن مسلم : لو تنافق وترائي فينافقون ، أبان ابن تغلب : لو تحابهم فيحابوك ، وقال العوفي : لو تكذب فيكذّبون ، عوف عن الحسن : لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم ، ابن كيسان : لو تقاربهم فيقاربوك .
القلم : ( 10 ) ولا تطع كل . . . . .
) ولا تطع كلّ حلاّف ( كثير الحلف بالباطل يعني : الوليد بن المغيرة وقيل : الأسود بن عبد يغوث ، وقيل : الأخفش بن شديق . ) مهين ( ضعيف حقير .
وقال ابن عباس : كذّاب وهو قرين منه ؛ لأنّ الرجل إنّما يكذّب لمهانة نفسه عليه . وقال قتادة : المكثار في الشر .
القلم : ( 11 ) هماز مشاء بنميم
) همّاز ( مغاتب يأكل لحوم الناس . وقال الحسن : هو الذي يعيب ناحية في المجلس لقوله : همزة . ) مشّاء بنميم ( قتادة : يسعى بالنميمة يفسد بين الناس .
القلم : ( 12 ) مناع للخير معتد . . . . .
) منّاع للخير ( قال ابن عباس : يعني للإسلام يمنع ولده وعشيرته من الإسلام ويقول : لأن دخل واحد منكم في دين محمد لا انفعه بشيء أبداً . وقال الآخرون : يعني بخيل بالمال ضنين به عن الحقوق .
) معتد ( غشوم ظلوم . ) أثيم ( فاجر .
القلم : ( 13 ) عتل بعد ذلك . . . . .
) عتل ( قال ابن عباس : العتل : الفاتك الشديد المنافق . وقال عبيد بن عمير : العتلّ الأكول الشروب القويّ الشديد يوضع في الميزان فلا يزن شعره ، يدفع الملك من أولئك سبعين ألف دفعة .
وقال عليّ والحسن : العتلّ : الفاحش الخلق السيّيء الخلق . وقال يمان : هو الجافي القاسي اللئيم العشرة . وقال مقاتل : الضخم . وقال الكلبي : هو الشديد في كفره ، وكلّ شديد عند العرب عتلّ وأصله من العَتل وهو الدفع بالعنف .
) بعد ذلك ( أي مع ذلك ) زنيم ( وهو الدعي الملحق النسب الملصق بالقوم وليس منهم . قال الشاعر :
زنيم تداعاه الرجال زيادة
كما زيد في عرض الأديم الأكارعِ
وقال حسّان بن ثابت :
(10/12)
" صفحة رقم 13 "
وأنت دعي نيط في آل هاشم
كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
وقال آخر :
زنيم ليس يعرف مَنْ أبوه
بغي الام ذو حسب لئيم
فقال مرّة الهمداني : إنّما ادّعاه أبوه بعد ثماني عشرة سنة ، هذا قول أكثر المفسرين .
وقال عليّ بن أبي طالبح : الزنيم : الذي لا أصل له . وقيل : هو الذي له زنمة كزنمة الشاة .
روى عكرمة عن ابن عباس قال : في هذه الآية الكريمة نعت فلم يعرف حتّى قيل زنيم فعرف ، وكانت له زنمه في عنقه يعرف بها . وقال عكرمة : الزنيم : المعروف ( بلؤمه ) كما تعرف الشاة بزنمتها . وقال الشعبي : هو الذي له علامة في ( الشر ) تعرف كما تعرف الشاه بزنمتها . وقال القرطبي وسعيد بن جبير و ( عكرمة ) : هو الكافر الهجين المعروف بالشرّ المريب .
وقال الوالبي عن ابن عباس : الزنيم : الظلوم .
أخبرنا أبو عبد الله ابن فنجويه حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيفي حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل حدثني أبي حدّثنا وكيع حدّثنا عبد الحميد عن شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن عمر قال : سُئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن العتلّ الزنيم فقال : ( هو الشديد الخُلق المصحح الأكول الشروب الواجد للطعام والشروب الظلوم للناس رحيب الجوف ) .
أخبرنا ابن فنجويه حدّثنا محمد بن الحسن بن عليّ القطيفي حدّثنا أحمد بن عبد الله بن رزين العقيلي حدّثنا صفوان بن صالح حدّثنا الوليد بن مسلم حدثني أبو شيّة إبراهيم بن عثمان عن عثمان بن عمير عن شهر بن حوشب عن سداد بن أوس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يدخل الجنّة جواظ ولا جعظري ولا عتل ولا زنيم ) قال : قلت : فما الجواظ ؟
قال : ( كلّ جمّاع منّاع ) .
قلت : فما الجعظوي ؟
قال : ( الفظ الغليظ ) .
قلت : فما العتل الزنيم ؟
(10/13)
" صفحة رقم 14 "
قال : ( كلّ رحب الجوف بئر الحلق أكول شروب غشوم ظلوم ) .
أخبرنا ابن فنجويه حدّثنا ابن حبش المقري حدّثنا ابن زنجويه حدّثنا سلمة حدّثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن زيد بن أسلم في قوله : ) زنيم ( قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( تبكي السماء من رجل أصحّ الله جسمه وأرحب جوفه ، وأعطاه من الدنيا مقضماً في المصدر بعضاً فكان للناس ظلوماً ، فذلك العتل الزنيم ، قال : وتبكي السماء من الشيخ الزاني ما تكاد الأرض تقلّه ) .
وروي الثمالي عن مجاهد في الزنيم قال : كانت له ست أصابع في يده في كل إبهام له أصبع زائدة . وأكثر العلماء على أن الزنيم الدعي الشرير ، وقد ورد في هذا الباب أخبار غرائب نذكر من بعضها وبالله التوفيق :
أخبرنا الحسن بن محمد بن الحسين بن عبد الله المقري حدّثنا محمد بن الحسن بن بشير حدّثنا ابن خوصا ، أخبرنا ابن خنيق حدّثنا يوسف بن أسباط عن أبي إسرائيل الملائي ، عن فضيل ابن عمر والفقمي عن مجاهد عن ابن عمر عن أبي هريرة عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا يدخل الجنّة ولد زنى ولا ولده ولا ولد ولده ) .
أخبرنا الحسين بن محمد حدّثنا محمد بن الحسن بن بشر ، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد الطواسعي ، حدّثنا أبو بدر عباد بن الوليد حدّثنا حيّان بن هلاك حدّثنا حماد بن سلمة ، عن عليّ بن زيد بن عياض عن عيسى بن حطان عن عبد الله بن عمر أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إنّ أولاد الزنى يُحشرون يوم القيامة في صورة القردة والخنازير ) .
أخبرنا الحسن بن محمد ، حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيعي ، حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدّثني أبي ، حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الرازي ، حدّثنا سلمة بن الفضل حدثني محمد بن إسحاق ، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان عن محمد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن أبي رافع عن ميمونة زوج النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قالت : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( لا يزال أمّتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنى فإذا فشا فيهم ولد الزنى فيوشك أن يعمّهم الله تعالى بعقاب ) .
أخبرنا الحسن بن محمد حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي حدّثنا إبراهيم بن الحسن الآدمي حدّثنا أبو أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي حدّثنا سعيد بن أوس حدّثنا أبو الأشهب هو العطاردي قال : سمعت عكرمة يقول : إذا كثر أولاد الزنى قلّ المطر
(10/14)
" صفحة رقم 15 "
القلم : ( 14 ) أن كان ذا . . . . .
) أن كان ذا مال وبنين ( قرأ أبو جعفر وابن عامر ويعقوب ) أن ( بالمد واختاره أبو حاتم وقرأ حمزة وعاصم برواية أبي بكر ) أن ( بهمزتين ، وغيرهم بالجرّ .
فمن قرأ بالاستفهام فله وجهان : أحدهما : الآن كان ذا مال وبنين
القلم : ( 15 ) إذا تتلى عليه . . . . .
) إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأوّلين ( ، والآخر : الآن كان ذا مال وبنين تطيعه . ومن قرأ على الخبر فمعناه : فلا تطع لأيّ كان .
2 ( ) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلاَ يَسْتَثْنُونَ فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُواْ عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ فَانطَلَقُواْ وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ وَغَدَوْاْ عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُواْ إِنَّا لَضَآلُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ قَالُواْ ياوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ عَسَى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الاَْخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَالِكَ زَعِيمٌ أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ ( 2
القلم : ( 16 ) سنسمه على الخرطوم
) سنسمه على الخرطوم ( قال ابن عباس : سنخطمه بالسيف فنجعل ذلك علامة باقية على أنفه قال : فقاتل يوم بدر : فخطم بالسيف بالقتال ، وقال قتادة : سنخلق به شيئاً ، يقول العرب للرجل يسبّ الرجل سبّة قبيحة باقية : قد وسمه ميسم سوء ، يريدون الصق به عاراً لا يفارقه ، كما أنّ السمة لا تنمحي ولا يعفو أثرها . قال جرير :
لما وضعت على الفرزدق ميسمي
وعلى البعيث جدعت أنف الأخطل
أراد به الهجاء .
وقال أبو العالية ومجاهد : سنسمه على أنفه ونسوّد وجهه فنجعل له علامة في الآخرة يعرف سواد وجهه ، الضحاك والكسائي : يشكونه على وجهه .
وقال حريز بن محمد بن جرير : سنبين أمره بياناً واضحاً حتى يعرفوه ما يخفى عليهم كما لا تخفى السمة على الخراطيم . قال الفرّاء : وإن كان الخرطوم قد خص بالسمة فإنّه في مذهب الوجه . لأنّ بعض الشيء يعبّر به عن كله ، وقد مرّ هذا الباب
(10/15)
" صفحة رقم 16 "
قال النضر بن شميل : معناه سنحدّه على شربه الخمر ، والخرطوم : الخمر وجمعه خراطيم . وقال الشاعر :
تظل يومك في لهو وفي طرب
وأنت بالليل شرّاب الخراطيم
القلم : ( 17 ) إنا بلوناهم كما . . . . .
قوله : ) إنا بلوناهم ( يعني اختبرنا وامتحنّا أهل مكّة بالقحط والجوع . ) كما بلونا أصحاب الجنّة ( .
أخبرنا أبو عمرو الفرابي أخبرنا أبو موسى أخبرنا الحريري حدّثنا فارس بن عمر حدّثنا صالح بن محمد حدّثنا محمد بن مزوان عن الكليني عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى : ) إنّا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنّة ( قال : بستان باليمن يقال لها القيروان دون صنعاء بفرسخين ، يطأه أهل الطريق ، وكان غرسه قوم من أهل الصلاة ، وكانت لرجل فمات فورثه بنين له ، فكان يكون للمساكين إذا صرموا نخلهم كل شيء تعداه المنجل فلم تجدّه ، فإذا طرح من فوق المنجل أملى البساط ، فكل شيء يسقط على البساط فهو أيضاً للمساكين ، فإذا حصدوا زروعهم فكل شيء تعدّاه المنجل فهو للمساكين ، وإذا داسوا كان لهم كل شيء ينثر ، فلما مات الأب ورثها هؤلاء الأخوة عن أبيهم ، فقالوا : والله إنّ المال لقليل وإنّ العيال لكثير إنّما كان يفعل هذا الأمر إذا كان كثيراً والعيال قليلا ، فأمّا إذا قلّ المال وكثر العيال فإنّا لا نستطيع أن نفعل هذا ، فتحالفوا بينهم يوماً ليعدون عدوة قيل خروج الناس فليصرمن نخلهم ولم يستثنوا لم يقولوا إن شاء الله فغدا القوم بسدف من الليل إلى جنّتهم ليصرموها فرأوها مسودّة ، وقد طاف عليها من الليل طائف من عذاب أصابها فأحرقها فأصبحت كالصريم فذلك قوله تعالى : ) إذ أقسموا ( حلفوا ، ) ليصرمنّها ( لتجدّيها ولتقطيع ثمرها ، ) مصبحين ( إذ أصبحوا قبل أن يعلم المساكين ،
القلم : ( 18 ) ولا يستثنون
) ولا يستثنون ( لا يقولون إن شاء الله ،
القلم : ( 19 ) فطاف عليها طائف . . . . .
) فطاف عليها طائف ( عذاب ) من ربّك ( ولا يكون الطائف إلاّ بالليل ، وكان ذلك الطائف ناراً أنزلت من السماء فأحرقتها . ) وهم نائمون }
القلم : ( 20 ) فأصبحت كالصريم
) فأصبحت كالصريم ( كالليل المظلم الأسود ، قال الشاعر :
تطاول ليلك الجون البهيم
فما ينجاب عن صبح صريم
وقال الحسن : صرم عنها الخير فليس فيها شيء ، ابن كيسان : كالجرة السوداء ، ابن زيد : كالأرض المصرومة ، الأخفش : كالصبح انصرم من الليل ، وقال المروّج : كالرملة انصرمت من معظم الرمل ، وأصل الصريم : المصروم ، وكلّ شيء قطع من شيء فهو صريم ، فالليل صريم والصبح صريم ، لأنّ كلّ واحد منهما ينصرم عن صاحبه .
قال ابن عباس : كالرماد الأسود بلغة حذيم .
(10/16)
" صفحة رقم 17 "
القلم : ( 21 - 25 ) فتنادوا مصبحين
) فتنادوا ( نادى بعضهم بعضاً ) مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين فانطلقوا ( فمضوا إليها ) وهم يتخافتون ( يتشاورون يقول بعضهم لبعض : ) أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين وغدوا على حرد قادرين ( .
قال ابن عباس : على قدرة قادرين في أنفسهم . وقال أبو العالية والحسن : على جد وجهد . وللنخعي والقرطبي ومجاهد وعكرمة : على أمر مجتمع قد أسّسوه بينهم . وروى معمر عن الحسن قال : على فاقة ، وقيل : على قوّة ، وقال السدي : الحرد : اسم الجنّة . وقال سفيان : على حنق وغضب ، ومنه قول الأشهب بن رملة :
أسود شرى لاقت أسود خفية
تساقوا على حرد دماء الأساود
وفيه لغتان حرّد وحَرَد ، مثل الدرّك والدرك ، وقال أبو عبيدة والقتيبي : على منع والحرد ، والمحاردة : المنع ، تقول العرب : حاردت السنة ، إذا لم يكن فيها مطر ، وحاردت الناقة إذا لم يكن لها لبن .
قال الشاعر :
فإذا ما حاردت أو بكأت
فت عن حاجب أخرى طينها
وقيل : على قصد ، قال الراجز :
وجاء سيل كان من أمر الله
يحرد حرد الجنّة المغلة
وقال آخر :
إمّا إذا حردت حردي فمجرية
ضبطاء تسكن غيلا غير مقروب
القلم : ( 26 ) فلما رأوها قالوا . . . . .
) فلمّا رأوها قالوا إنا لضالون ( لمخطئوا الطريق فليس هذه بجنتنا . فقال بعضهم :
القلم : ( 27 ) بل نحن محرومون
) بل نحن محرومون ( حرمنا خيرها ونفعها لمنعنا المساكين وتركنا الإستثناء
القلم : ( 28 ) قال أوسطهم ألم . . . . .
) قال أوسطهم ( أعدلهم وأعقلهم وأفضلهم ، ) ألم أقل لكم لولا تسبّحون ( هلاّ تستثنون ، قال أبو صالح : إستثناءهم : سبحان الله . وقيل : هلا تسبحون الله وتقولون : سبحان الله وتشكرونه على ما أعطاكم . وقيل : هلاّ تستغفرونه من فعلكم .
القلم : ( 29 ) قالوا سبحان ربنا . . . . .
) قالوا سبحان ربّنا ( ننزهه على أن يكون ظالماً ، وأقرّوا على أنفسهم بالظلم فقالوا : ) إنّا كنّا ظالمين }
القلم : ( 30 - 31 ) فأقبل بعضهم على . . . . .
) فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون قالوا يا ويلنا إنّا كنّا طاغين ( في منعنا حقّ الفقراء وتركنا الاسثناء ، وقال ابن كيسان : طغينا نعم الله فلم نشكرها .
(10/17)
" صفحة رقم 18 "
القلم : ( 32 ) عسى ربنا أن . . . . .
) عسى ربّنا أن يبدلنا خيراً منها ( ، قرأ الحسن وعاصم والأخفش وابن محيص بالتخفيف ، وغيرهم بالتشديد ، وهما لغتان وفرق قوم بينهما ، فقال : التبديل تغيير الشيء أو تغيير حاله وعين الشيء قائم ، والابدال رفع الشيء ووضع شيء آخر مكانه .
قال عبد الله بن مسعود : بلغني أنّ القوم أخلصوا وعرف الله تعالى منهم الصدق ، فأبدلهم بها جنّة يقال لها : الحيوان ، فيها عنب يحمل البغل منها عنقوداً . وقال بكر بن سهل الدمياطي : حدّثني أبو خالد اليمامي أنه رأى تلك الجنّة ، وقال : رأيت كل عنقود منها كالرجل الأسود القائم .
) إنّا إلى ربّنا راغبون (
القلم : ( 33 - 37 ) كذلك العذاب ولعذاب . . . . .
) كذلك العذاب ( أي كفعلنا بهم نفعل بمن تعدّى حدودنا وخالف أمرنا .
) ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون إنّ للمتقين عند ربّهم جنات النعيم أَفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون أم لكم كتاب ( نزل من عند الله سبحانه وتعالى . ) فيه تدرسون ( تقرؤون ما فيه .
القلم : ( 38 ) إن لكم فيه . . . . .
) إنّ لكم فيه ( في ذلك الكتاب ) لما تخيرون ( تختارون وتشتهون
القلم : ( 39 ) أم لكم أيمان . . . . .
) أم لكم أيمان ( عهود ومواثيق ) علينا بالغة ( كما عهدناكم علمه ووعدناكم فاستوثقتم بها منا ، فلا ينقطع عهدكم ) إلى يوم القيامة إن لكم ( كسر ) إن ( لدخول اللام فيه في ذلك العهد . ) لما تحكمون ( تقضون وتريدون فيكون لكم حكمكم .
القلم : ( 40 ) سلهم أيهم بذلك . . . . .
) سلهم أيّهم بذلك ( الذي ذكرت ) زعيم ( كفيل ، والزعيم : الرسول ها هنا قاله الحسن وابن كيسان قائم بالحجة والدعوى
القلم : ( 41 ) أم لهم شركاء . . . . .
) أم لهم شركاء ( أرباب تفعل هذا . وقيل : شهداء يشهدون لهم بصدق ما يدّعونه .
) فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين (
.
) يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ فَذَرْنِى وَمَن يُكَذِّبُ بِهَاذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ وَأُمْلِى لَهُمْ إِنَّ كَيْدِى مَتِينٌ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ ( 2
القلم : ( 42 ) يوم يكشف عن . . . . .
) يوم يكشف عن ساق ( أي عن أمر شديد فظيع ، وهو إقبال الآخرة . قرأه العامة بياء مضمومة ، وقرأ ابن عباس بتاء مفتوحة ، أي يكشف القيامة عن ساقها . وقرأ الحسن بتاء مضمومة ) عن ساق ( أي عن أمر شديد فظيع ، وهو إقبال الآخرة وذهاب الدنيا وهذا من باب الإستعارة ، يقول العرب للرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج فيه إلى جد وجهد ومعاناة ومقاساة للشدة : شمّر عن ساقه ، فاستعير الساق في موضع الشدة .
قال دريد بن الصمّة يرثي رجلا
(10/18)
" صفحة رقم 19 "
كميش الازار خارج نصف ساقه
صبور على الجلاء طلاع أنجد
ويقال للأمر إذا اشتدّ وتفاقم وظهر وزالت عماه : كشف عن ساقه ، وهذا جائز في اللغة ، وإن لم يكن للأمر ساق وهو كما يقال : أسفر وجه الأمر ، واستقام صدر الرأي . قال الشاعر يصف حرباً :
كشفت لهم عن ساقها
وبدا من الشر الصراح
وأنشد ابن عباس :
اصبر عناق أنّه شرّ باق
قد سنّ لي قومك ضرب الأعناق
وقامت الحرب بنا على ساق .
وقال آخر :
قد كشفت عن ساقها فشدّوا
وجدت الحرب بكم فجدّوا
والعرب تقول له : الحرب كشفت عن ساقها .
قال الشاعر :
عجبت من نفسي ومن إشفاقها
ومن طراد الطير عن أرزاقها
في سنة قد كشفت عن ساقها
حمراء تبري اللحم عن عراقها
ونحو ذلك قال أهل التأويل .
أخبرنا أبو بكر بن عبد أوس ، أخبرنا أبو الحسن محفوظ ، حدّثنا عبد الله بن هاشم ، حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفير عن عاصم ، عن سعيد بن جبير : ) يوم يكشف عن ساق ( قال : عن شدّة الأمر . وقال ابن عباس : هي أشد ساعة في يوم القيامة .
وقال الربيع عن العطا : أخبرنا ابن فنجويه ، حدّثنا أحمد بن جعفر بن سلم الجتلي ، حدّثنا محمد بن عمر وابن مسعدة البيروتي ، حدّثنا محمد بن الوزير السلمي ، حدّثنا الوليد بن مسلم ، حدّثنا روح بن جناح عن مولى عمر بن عبد العزيز عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري
(10/19)
" صفحة رقم 20 "
عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) يوم يكشف عن ساق ( قال : ( نور عظيم يخرّون له سجّداً ) .
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد الرومي يقرأ أبي عليه في مسجده يوم السبت لأربع بقين من ذي الحجة سنة ست وثمانين وثلاثمائة ، حدّثنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج ، حدّثنا زهير بن محمد ، حدّثنا عبد الرحمن بن المبارك ، حدّثنا قريش بن حيان العجلي ، حدّثنا بكر بن وائل عن الزهري عن أبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة قال : قلنا : يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة ؟
قال : ( هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب ؟ ) .
قلنا : لا .
قال : ( فهل تضارون في القمر ليلة البدر ؟ ) .
قلنا : لا .
قال : ( فإنّكم ترون كذلك ، إذا كان يوم القيامة جُمع الأوّلون والآخرون ، ونادى مناد : من كان يعبد شياً فليلزمه ، وترفع لهم آلهتهم التي كانوا يعبدون فتمضي ويتبعونها حتى يقذفهم في النار ، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيقال لهم : ذهب الناس وبقيتم فيقولون : لنا ربّ لم نره بعد ، قال : يقول هل تعرفونه ؟ فيقولون : إن بيننا وبينه آية إذا رأيناه عرفناه ، فيكشف لهم عن ساق فيخرون له سجداً ، ويبقى أقوام ظهورهم كصياصي البقر يريدون السجود فلا يستطيعون ) .
أخبرنا الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم قراءة عليه في جمادي الآخرة سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة ، أخبرنا أبو بكر الشافعي ، حدّثنا أبو قلابة الرقاشي ، حدّثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد ، حدّثنا إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يأخذ الله تعالى للمظلوم من الظالم ، حتى لا يبقى مظلمة عند أحد حتى أنه يكلف شائب اللبن بالماء ثمّ يتبعه أن يخلص اللبن من الماء ، فإذا فرغ من ذلك نادى مناد يسمع الخلائق كلهم ألا ليلحق كل قوم بآلهتهم وما كانوا يعبدون من دون الله فلا يبقى أحدٌ عبد شيئاً من دون الله إلاّ مثلت له آلهته بين يديه ، ويجعل الله ملكاً من الملائكة على صورة عزير ، ويجعل الله ملكاً من الملائكة على صورة عيسى ابن مريم ، فيتبع هذا اليهود ويتبع هذا النصارى ، ثمّ يلونهم ، وقيل : تلونهم آلهتهم إلى النار ، وهم الذين يقول الله تعالى : ) لو كان هؤلاء آلهة لما وردوها وكلٌّ فيها خالدون ( فإذا لم يبق إلاّ المؤمنون ، وفيهم المنافقون قال الله لهم : ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون .
(10/20)
" صفحة رقم 21 "
فيقولون : ما لنا إله إلاّ الله وما كنا نعبد غيره ، فينصرف الله تعالى فيمكث ما شاء أن يمكث ، ثمّ يأتيهم فيقول : أيّها الناس ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون ، فيقولون والله ما لنا إله إلاّ الله وما كنا نعبد غيره ، فيكشف لهم عن ساق ويتجلى لهم من عظمته ما يعرفون أنه ربّهم ، فيخرون سجّداً على وجوههم ويخر كل منافق على قفاه يجعل الله أصلابهم كصياصي البقر ، ثمّ يضرب الصراط بين ظهراني جهنم ) .
أخبرنا عقيل بن محمد بن أحمد أن أبا الفرج البغدادي القاضي ، أخبرهم عن أبي جعفر الطبري ، حدّثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدّثنا أبي وشعيب بن الليث عن الليث ، حدّثنا خالد بن يزيد بن أسلم عن أبي هلال ، قال أبو جعفر : وحدثني موسى بن عبد الرحمن بن المسروقي ، حدّثنا جعفر بن عون ، حدّثنا هشام بن سعيد ، حدّثنا زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا كان يوم القيامة نادى مناد : ألا ليلحق كل أمة بما كانوا يعبدون ( فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم وأصحاب الأوثان مع أوثانهم وأصحاب كلّ آلهة مع آلهتهم ) فلا يبقى أحد كان يعبد صنماً ولا وثناً ولا صورة إلاّ ذهبوا حتى يتساقطون في النار ، ويبقى من كان يعبد الله وحده من بر وفاجر وغبرات من أهل الكتاب ، ثمّ يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب يحطم بعضها ، بعضاً ثمّ يدعى اليهود فيقال : ماذا كنتم تعبدون ؟ فيقولون : عزير بن الله فيقول : كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد فماذا تريدون ؟ فيقولون : أي ربنا ظمئنا أسقنا فيقول : أفلا تردّون فيذهبون حتى يتساقطون في النار ، ثمّ يدعى النصارى فيقول : ماذا كنتم تعبدون ؟
فيقولون : المسيح ابن الله فيقول : كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد ، فماذا تريدون ؟ فيقولون : أي ربّنا ظمئنا اسقنا ، فيقول : أفلا تردّون فيذهبون فيتساقطون في النار ، فيبقى مَن كان يعبد الله تعالى من بر وفاجر ، ثمّ يأتي الله تعالى جل جلاله لنا في صورة غير صورته التي رأيناه فيها أوّل مرة ، فيقول : أيها الناس لحقت كل أمة بما تعبد ، ونحن ننظر ربنا الذي كنا نعبد ، فيقول : أنا ربكم فيقولون : نعوذ بالله منك ، فيقول : هل بينكم وبين الله من آية تعرفونها ؟ فيقولون : نعم ، فيكشف عن ساق فيخرون سجداً لله تعالى أجمعون ، ولا يبقى من كان سجد في الدنيا سمعةً ورياءً ولا نفاقاً إلاّ صار ظهره طبقاً واحداً ، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه ، ثمّ يدفع برّنا ومسيئنا وقد عاد لنا في صورته التي رأيناه فيها أوّل مرّة ، فيقول : أنا ربكم فيقولون : نعم أنت ربّنا ثلاث مرّات ) .
(10/21)
" صفحة رقم 22 "
وبه قال أبو جعفر بن جرير الطبري ، حدّثنا أبو لهب ، حدّثنا أبو بكر ، حدّثنا الأعمش ، عن المنهال عن قيس بن بكر ، قال : حدثني عبد الله وهو عند عمر قال : إذا كان يوم القيامة يقوم الناس بين يدي رب العالمين أربعين عاماً ، شاخصة أبصارهم إلى السماء ، حفاة عراة يلجمهم العرق ، ولا يُكلّمهم بشيء أربعين عاماً ، ثمّ ينادي مناد : يا أيها الناس أليس عدلا من ربكم الذي خلقكم وصوّركم ورزقكم ثمّ عبدتم غيره أن يولي كل قوم ما تولوا ؟ قالوا : نعم ، قال : فيرفع لكل قوم ما كانوا يعبدون من دون الله فيتبعونها حتى تقذفهم في النار ، فيبقى المسلمون والمنافقون فيقال : ألا تذهبون قد ذهب الناس ؟ فيقولون : حتى يأتينا ربّنا ، قال : وتعرفونه ؟ قالوا : إن اعترف لنا ، قال : فعند ذلك يكشف عن ساق ويتجلى لهم فيخرّ من كان يعبده ساجداً ويبقى المنافقون لا يستطيعون كأنّ في ظهورهم السفافيد فيذهب بهم إلى النار ويدخل هؤلاء الجنّة ، فذلك قوله سبحانه وتعالى : ) ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون }
القلم : ( 43 ) خاشعة أبصارهم ترهقهم . . . . .
) خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلّة ( وذلك أن المؤمنين يرفعون رؤوسهم ووجوههم أشد بياضاً من الثلج ، وتسوّد وجوه الكافرين والمنافقين . ) وقد كانوا يدعون ( في الدنيا . ) إلى السجود وهم سالمون ( أصحاء فلا يأتونه ويأبونه .
قال إبراهيم : التيمي : يدعون إلى الصلاة المكتوبة بالأذان والإقامة فيأبونه . وقال سعيد بن جبير : كانوا يسمعون حيّ على الفلاح فلا يجيئون . قال كعب الأحبار : والله ما نزلت هذه الآية إلاّ في الذين يتخلّفون عن الجماعات .
ويروى أنّ ربيع بن الجثم عرض له الفالج فكان يتهادى بين رجلين إلى المسجد ، فقيل له : يا أبا يزيد لو جلست فإن لك رخصة ، قال : من سمع حي على الفلاح فليجب ولو حبواً . قيل لسعيد بن المسيب : إنّ طارقاً يريد قتلك فتغيّب ، فقال : أحيث لا يقدره عليّ الله ، فقيل له : فاجلس ، فقال : أسمع حيّ على الفلاح فلا أجيب .
القلم : ( 44 ) فذرني ومن يكذب . . . . .
) فذرني ومن يكذّب بهذا الحديث ( أي فدعني والمكذبين بهذا القرآن . ) سنستدرجهم ( سنأخذهم ) من حيث لا يعلمون ( فيعذّبوا يوم بدر . وقيل : معناه سنزيدهم حزناً وخذلاناً فيزدادوا عصياناً وطغياناً .
وقال سفيان الثوري : يسبغ عليهم النعم وينسيهم الشكر . وقال ( العباد ) : لم نعاقبهم في وقت مخالفتهم فيستيقظوا بل أمهلناهم ومددنا لهم في النعم حتى زال عنهم خاطر التدبير ، فكانوا منعّمين في الظاهر مستدرجين في الحقيقة .
(10/22)
" صفحة رقم 23 "
وقال الحسن : كم مستدرج بالإحسان إليه ، وكم من مفتون بالثناء عليه ، وكم من مغرور بالستر عليه .
القلم : ( 45 - 48 ) وأملي لهم إن . . . . .
) وأملي لهم إنّ كيدي متين أم تسألهم أجراً فهم من مغرم مثقلون أم عندهم الغيب فهم يكتبونفاصبر لحكم ربّك ولا تكن كصاحب الحوت ( في الضجر والغضب والعجلة وهو يونس ( عليه السلام ) .
) إذ نادى وهو مكظوم ( مغموم
القلم : ( 49 ) لولا أن تداركه . . . . .
) لولا أن تداركه ( أدركه ، وفي مصحف عبد الله ( تداركته ) بالتاء . ) نعمة من ربه ( حين رحمه وتاب عليه ) لنبذ بالعراء وهو مذموم ( مليم مجرم .
القلم : ( 50 - 51 ) فاجتباه ربه فجعله . . . . .
) فاجتباه ربّه فجعله من الصالحين وإن يكاد الذين كفروا ( وذلك أنّ الكفار أرادوا أن يعيّنوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويصيبوه بالعين ، فنظر إليه قوم من قريش ، وقالوا : ما رأينا مثله ولا مثل حججه .
وقيل : كانت العين في بني أسد ، حتى أن كانت الناقة السمينة والبقرة السمينة تمرّ بأحدهم فيعاينها ثمّ يقول : يا جارية خذي المكيل والدرهم فاتينا بلحم من لحم هذه البقرة ، فما تبرح حتى تقع بالموت فتنحر .
وقال الكلبي : كان رجل من العرب يمكث لا يأكل يومين أو ثلاثة ، ثمّ يرفع جانب خبائه فتمر به الإبل فيقول : لم أرَ كاليوم إبلا ولا غنماً أحسن من هذه ، فما تذهب إلاّ قريباً حتى يسقط منها طائفة وعدة ، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالعين ويفعل به مثل ذلك ، فأجابهم وأنشد :
قد كان قومك يحسبونك سيداً
وأخال أنّك سيد معيون
فعصم الله تعالى نبيّه ( صلى الله عليه وسلم ) وأنزل ) وإن يكاد الذين كفروا ( يعني : ويكاد الذين كفروا . ) ليزلقونك ( دخلت اللام لمكان إن ، وقرأ الأعمش وعيسى ) ليرهقونك ( ، وهي قراءة ابن عباس وابن مسعود أي يهلكونك ، وقرأ أهل المدينة بفتح الياء ) ليَزلقونك ( ، وقرأ غيرهم بضمه ، وهما لغتان ، يقال : زلّفه تزلقه زلقاً ، أزلقه تزلقه إزلاقاً بمعنى واحد ، واختلفت عبارات المفسرون في تأويله .
قال ابن عباس : يقذفونك بأبصارهم ) لما سمعوا الذكر ( .
ويقال : زهق السهم وزلق إذا نفذ ، وقال قتادة ، بمعنى يزهقونك ، معمر عن الكلبي : يصرعونك ، حيان عنه : يصرفونك عما أنت عليه من تبيلغ الرسالة ، عطية : يرجونك ، المؤرخ
(10/23)
" صفحة رقم 24 "
يزيلونك ، النضر بن شميل والأخفش : يعينونك ، قال عبد العزيز بن يحيى : ينظرون إليك نظراً شزراً بتحديق شديد يروّعنك به ويظهرون العداوة لك . السدي : يصيبونك بعيونهم ، ابن زيد : ليمسوك ، جعفر : ليأكلونك ، الحسن وابن كيسان : ليقتلونك ، وهذا كما يقال : صرعني بطرفه وقتلني بعينه ، وقال الشاعر :
ترميك مزلقة العيون بطرفها
وتكلّ عنك نصال نبل الرامي
وقال آخر :
يتقارضون إذا التقوا في موطن
نظراً يزيل مواطئ الأقدام
وقال الحسن : دواء إصابة العين أن يقرأ الإنسان هذه الآية . وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) العين حق ( وأن العين لتُدخل الرجل القبر ، والجمل القدر ) .
) ويقولون إنّه لمجنون }
القلم : ( 52 ) وما هو إلا . . . . .
) وما هو ( يعني محمداً ، وقيل : القرآن ) إلاّ ذكر للعالمين ( .
(10/24)
" صفحة رقم 25 "
( سورة الحاقة )
مكّية : وهي ألف وأربعة وثمانون حرفاً ، وست وخمسون كلمة ، واثنان وخمسون آية
أخبرنا كامل بن أحمد ، وأخبرنا محمد بن مسلم ، قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك ، قال : حدّثنا أحمد بن يونس ، قال : حدّثنا هارون بن كثير ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبي بن كعب ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَنْ قرأ سورة الحاقة حاسبه الله حساباً يسيراً ) .
وأخبرنا أبو الحسين الخبازي ، قال : حدّثنا أبو الشيخ الحافظ ، قال : حدّثنا الحسن بن محمد ، قال : حدّثنا أبو زرعة ، قال : حدّثنا عمرو بن عثمان ، قال : حدّثنا محمد بن حميد عن فضالة بن شريك عن أبي الزاهرية ، قال : سمعته يقول : من قرأ إحدى عشرة آية من سورة الحاقة أجير من فتنة الدجال ، ومن قرأها كان له نوراً من فوق رأسه إلى قدمه .
بسم الله الرحمن الرحيم
)
الْحَاقَّةُ مَا الْحَآقَّةُ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَآءُ حَمَلْنَاكُمْ فِى الْجَارِيَةِ لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الاَْرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَانشَقَّتِ السَّمَآءُ فَهِىَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَآئِهَآ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ( 2
الحاقة : ( 1 - 2 ) الحاقة
) الحاقة ما الحاقة ( أي القيامة ، وسمّيت حاقّة لأنها حقّت فلا كاذبة لها . ولأن فيها حواق الأمور وحقائقها . ولأنّ فيها يحق الجزاء على الأعمال أي يجب ، فيقال : حق عليه الشيء
(10/25)
" صفحة رقم 26 "
إذا وجب بحق حقوقاً ، قال الله سبحانه : ) ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين ( وقال الكسائي والمؤرخ : ) ^ الحاقة : يوم الحق ، يقول العرب : لما عرفت الحق مني .
والحاقة والحقّة هي ثلاث لغات بمعنى واحد ، والحاقّة الأولى رفع بالإبتداء وخبره فيما بعده ، وقيل : الحاقّة الأولى مرفوعة بالثانية ؛ لأنّ الثانية بمنزلة الكتابة عنها كأنه عجب منها وقال : الحاقة ما هي ؟ كما تقول : زيد ما زيد ، والحاقّة الثانية مرفوعة بما ، وما بمعنى أي شيء ، وهو رفع بالحاقة الثانية ، ومثله ) القارعة ما القارعة ( ) وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين ( ، ونحوهما .
الحاقة : ( 3 - 4 ) وما أدراك ما . . . . .
) وما أدرياك ما الحاقة كذبت ثمود وعاد بالقارعة ( أي بالعذاب الذي نزل بهم حين وعدهم نبيّهم حتى هجم عليهم فقرع قلوبهم . وقال ابن عباس وقتادة : بالقيامة .
الحاقة : ( 5 ) فأما ثمود فأهلكوا . . . . .
) فأمّا ثمود فأهلكوا بالطاغية ( أي بطغيانهم وعصيانهم ، وهي مصدر كالحاقة ، وقيل : هي نعت مجازه : بفعلتهم الطاغية ، وهذا معنى قول مجاهد وابن زيد ، ودليل هذا التأويل قوله سبحانه : ) كذبت ثمود بطغواها ( وقال قتادة : يعني بالصيحة الطاغية التي جاوزت مقادير الصياح فاهمدتهم .
الحاقة : ( 6 ) وأما عاد فأهلكوا . . . . .
) وأمّا عاد فأهُلكوا بريح صرصر عاتية ( عتت على خزآنها فلم تطعهم وجاوزت المقدار .
أخبرني الحسن قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا محمد بن حمدان بن سعد قال : حدّثنا أبو زرعة الرازي قال : حدّثنا المعافى بن سلمان البحراني قال : حدّثنا موسى بن عمر عن سعيد عن موسى بن المسيب عن شهر بن خوشب عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما أرسل الله سبحانه من ريح إلاّ بمكيال ، ولا قطرة من ماء إلاّ بمكيال ، إلاّ يوم عاد ويوم نوح ، فإن الماء يوم نوح طغى على الخزائن فلم يكن لهم عليها سبيل ، ثمّ قرأ : بريح صرصر عاتية ) .
الحاقة : ( 7 ) سخرها عليهم سبع . . . . .
) سخّرها ( أرسلها وسلطها . ) عليهم ( والتسخير استعمال الشيء بالاقتدار . ) سبع ليال وثمانية أيام ( قال وهب : هي الأيام التي سمّاها العرب : أيام العجوز ذات برد ورياح شديدة وإنما نسبت هذه الأيام إلى العجوز ؛ لأن عجوزاً دخلت سرباً فتبعتها الريح فقتلها اليوم الثامن من نزول العذاب وانقطع العذاب في اليوم الثامن
(10/26)
" صفحة رقم 27 "
وقيل : سمّيت أيام العجوز ؛ لأنها في عجز الشتاء ولها أسامي مشهورة . أنشدني أحمد بن محمد بن يوسف ، قال : أنشدنا محمد بن طاهر الوزير قال : أنشدنا أبو الحسين محمد بن محمد ابن يحيى الصفار قال : ) ^ أنشدنا محمد بن القيّم بن بشار قال : أنشدنا أحمد بن يحيى ثعلب الشاعر في وصف أيام العجوز :
كُسِع الشتاء بسبعة غُبر
أيّام شهلتنا من الشهر
فبآمر وأخيه مؤتمر
ومعلّل وبمطفئ الجمر
ذهب الشتاء مولّياً عجلاً
وأتتك وأقدة من النجر
واسم اليوم الثامن : مكفي الظعن .
) حسوماً ( قال ابن عباس : تباعاً ، ومجاهد وقتادة : متابعة ليس فيها فترة ، وعلى هذا القول هو من جسم الكي وهو أن تتابع عليه بالمكواة ، وقال مقاتل والكلبي : دائمة ، والضحاك : كاملة لم تفتر عنهم حتى أفنتهم ، عطيّة : شؤما كأنّها حسمت الخير عن أهلها ، الخليل : قطعاً لدابرهم ، والحسم : القطع والمنع ومنه حسم الداء وحسم الدفاع ، قال يمان والنظر بن شميل : حسمهم فقطعهم وأهلكهم وهو نصب على الحال والقطع .
) فترى القوم فيها ( أي في تلك الليالي والأيام ، ) صرعى ( هلكى جمع صريع ) كأنّهم أعجاز ( أصول ) نخل خاوية ( ساقطة ، وقيل : خالية الأجواف .
الحاقة : ( 8 ) فهل ترى لهم . . . . .
) فهل ترى لهم من باقية ( بقاء .
الحاقة : ( 9 ) وجاء فرعون ومن . . . . .
) وجاء فرعون ومن قبله ( قرأ أبو عمرو والحسن والسلمي والحجري والكسائي ويقعوب : بكسر القاف وفتح الباء أي ومن معه من جنوده وأتباعه وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم اعتبار : بقراءة عبد الله وأبيّ ومن معه ، وقرأ أبو موسى الأشعري : ومن تلقاه ، وقرأ الآخرون : ومن قبله بفتح القاف وجزم الباء ، أي ومن تقدّمه من القرون الخالية .
) والمؤتفكات ( قراءة العامّة بالألف ، وقرأ الحسن والمؤتفكة : بغير ألف ) بالخاطئة ( بالخطيئة والمعصية وهي الكفر
الحاقة : ( 10 ) فعصوا رسول ربهم . . . . .
) فعصوا رسول ربّهم فأخذهم أخذة رابية ( نامية عالية غالية . قال ابن عباس : شديدة ، وقيل : زائدة على عذاب الأمم .
الحاقة : ( 11 ) إنا لما طغى . . . . .
) إنّا لما طغى الماء ( أي عتا فخرج بلا وزن ولا كيل . قال قتادة : طغى الماء فوق كل
(10/27)
" صفحة رقم 28 "
شيء خمسة عشر ذراعاً ) حملناكم في الجارية ( السفينة
الحاقة : ( 12 ) لنجعلها لكم تذكرة . . . . .
) لنجعلها لكم تذكرة ( عبرة وموعظة ) وتعيها ( قرأ طلحة بإسكان على العين تشبها بقوله : ) وارنا ( ، واختلف فيه عن عاصم وابن بكر وهي قراءة رديئة غير قويّة ، ) ^ الباقون : مشبع .
) أُذنٌ واعية ( عقلت عن الله ما سمعت .
الفاربي بن فنجويه ، قال : حدّثنا ابن حيان قال : حدّثنا إسحاق بن محمد قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال : حدّثنا عليّ بن عليّ قال : حدّثنا أبو حمزة الثمالي قال : حدثني عبد الله بن الحسن قال : حين نزلت هذه الآية ) وتعيها أذن واعية ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( سألت الله أن يجعلها أذنك يا عليّ ) قال علي : فما نسيت شيئاً بعد وما كان لي أن أنساه .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثني ابن حسن قال : حدّثنا أبو القيّم بن الفضل قال : حدّثنا محمد بن غالب بن الحرب قال : حدثني بشر بن آدم قال : حدثني عبد الله بن الزبير الأسدي قال : حدّثنا صالح بن ميثم قال : سمعت بريرة الأسلمي يقول : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لعلي : ( إنّ الله عزّ وجلّ أمرني أن أدنيك ولا أقصيك ، وأن أعلّمك وأن تعي وأن حقّاً على الله سبحانه أن تعي ) قال : ونزلت ) وتعيها أذن واعية ( .
الحاقة : ( 13 ) فإذا نفخ في . . . . .
) فإذا نُفخ في الصور نفخة واحدة ( وهي النفخة الأولى
الحاقة : ( 14 ) وحملت الأرض والجبال . . . . .
) وحُملت الأرض ( وما عليها ) والجبال ( وما فيها ) فدُكّتا دكّة واحدة ( فكسّر ودقّتا دقة واحدة فصارتا هباءاً منبثّاً ، وإنّما قال : فدكّتا ولم يقل : دككن ؛ لأنّه جعل الأرض كالشيء الواحد ، وجعل الجبال كالشيء الواحد .
الحاقة : ( 15 ) فيومئذ وقعت الواقعة
) فيومئذ وقعت الواقعة ( قامت القيامة
الحاقة : ( 16 ) وانشقت السماء فهي . . . . .
) وانشقّت السماء فهي يومئِذ واهية ( ضعيفة
الحاقة : ( 17 ) والملك على أرجائها . . . . .
) والملك ( يعني الملائكة ) على أرجائها ( نواحيها وأقطارها ، بلغة هذيل واحدها رجاء وتثنيته رجوان ) ويحمل عرش ربك فوقهم يومئِذ ثمانية ( .
قال ابن عباس : ثمانية صفوف من الملائكة ، لا يعلم عددهم إلاّ الله ، وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( هم اليوم أربعة ، فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين ، فكانوا ثمانية ) .
وأخبرنا الإمام أبو منصور الحمادي قال : حدّثنا الإمام أبو الوليد قال : حدّثنا جعفر قال : حدّثنا عليّ بن حجر قال : حدّثنا شريك عن سماك عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد
(10/28)
" صفحة رقم 29 "
المطلب في قوله سبحانه : ) ويحمل عرش ربك فوقهم يومئِذ ثمانية ( قال : ثمانية أملاك على صورة الأوعال . وفي الحديث : ) ) إن لكلّ ملك منهم أربعة أوجه : وجه رجل ، ووجه أسد ، ووجه ثور ، ووجه نسر ) .
وقيل : أنشد بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قول أمية بن أبي الصلت :
رجل وثور تحت رجل يمينه
والنسر للأُخرى وليث مرصد
والشمس تصبح كل آخر ليلة
حمراء تصبح لونها يتورّد
تأبى فما تطلع لنا في رسلها
إلاّ معذّبة وإلاّ تجلّد
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( صدق ) .
وروى عن عليّ بن الحسن أنه قال : إنّ الله سبحانه خلق العرش رابعاً لم يخلق قبله إلاّ ثلاثة أشياء : الهواء ، والقلم ، والنور ، ثمّ خلق من ألوان أنوار مختلفة ، من ذلك نور أخضر منه اخضرت الخضرة ، ونور أصفر منه اصفرت الصفرة ، ونور أحمر منه احمرت الحمرة ، ونور أبيض فهو نور الأنوار ، ومنه ضوء النهار ثمّ جعله سبعين ألف ألف ألف طبق ليس من ذلك طبق إلاّ يسبّح بحمده ويقدّسه بأصوات مختلفة لو أذن للسان منها أن تسمع لهدم الجبال والقصور ولخسف البحار .
2 ( ) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ إِنِّى ظَنَنتُ أَنِّى مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِى جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِى الاَْيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَآ أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّى سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِى سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِئُونَ فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الاَْقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ( 2
(10/29)
" صفحة رقم 30 "
الحاقة : ( 18 ) يومئذ تعرضون لا . . . . .
) يومئِذ تُعرضون لا تُخفى ( بالياء كوفي غير عاصم والباقون بالتاء ) منكم خافية ( في الحديث قال : ( يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فأمّا عرضتان فجدال وخصومات ومعاذير ، وأمّا الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي ، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله ) .
الحاقة : ( 19 ) فأما من أوتي . . . . .
) فأمّا مَنْ أُوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم ( أي تعالوا ) اقرؤوا كتابيه ( ها الوقف وأخواته مثله
الحاقة : ( 20 ) إني ظننت أني . . . . .
) إنّي ظننت ( علمت وأيقنت ) انّي ملاق حسابيه ( .
أخبرنا الحسن قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف قال : حدّثنا أبو القيّم عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي قال : حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي قال : حدّثنا عمر بن إبراهيم بن خالد عن عبد الرحمن قال : حدّثنا مرحوم بن أبي أرطبان ابن عم عبد الله بن عون قال : حدّثنا عاصم الأحول عن زيد بن ثابت قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أوّل مَنْ يُعطى كتابه بيمينه من هذه الأمّة عمر بن الخطّاب ، وله شعاع كشعاع الشمس ) فقيل له : فأين أبو بكر ؟
قال : ( هيهات هيهات زفّته الملائكة إلى الجنّة ) .
أخبرنا الحسن ، حدّثنا منصور بن جعفر بن محمد النهاوندي ، قال : حدّثنا أبو صالح أحمد ابن محمد بن أسعد البروجردي ، قال : حدّثنا أسد بن عاصم ، قال : حدّثنا إبراهيم بن محمد ، قال : حدّثنا أبو عمر الضرير عن حماد عن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا عائشة كلّ الناس يحاسبون يوم القيامة إلاّ أبو بكر ) .
الحاقة : ( 21 ) فهو في عيشة . . . . .
) فهو في عيشة راضية ( مرضية كقوله : ) ماء دافق ( وقيل : ذات رضا مثل لأبن وتأمن
الحاقة : ( 22 ) في جنة عالية
) في جنّة عالية ( رفيعة
الحاقة : ( 23 ) قطوفها دانية
) قطوفها دانية ( ثمارها قريبة ينالها القائم والقاعد والمضطجع ، يقال لهم
الحاقة : ( 24 ) كلوا واشربوا هنيئا . . . . .
) كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية ( قدّمتم لآخرتكم من الأعمال الصالحة في الأيام الماضية وهي الدنيا .
أخبرني الحسين قال : حدّثنا القطيعي قال : حدّثنا عبد الله قال : أخبرت عن عبد الله بن أبي بكر بن عليّ المقدمي قال : حدّثنا عبد الله بن جعفر قال : سمعت يوسف بن يعقوب الخيفي يقول : بلغنا أن الله سبحانه وتعالى يقول يوم القيامة : يا أوليائي طال ما نظرت إليكم في الدنيا وقد قلصت شفاهكم عن الأشربة ، وغارت أعينكم ، وخمصت بطونكم ، فكونوا اليوم في نعيمكم ، وكلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية
(10/30)
" صفحة رقم 31 "
الحاقة : ( 25 ) وأما من أوتي . . . . .
) وأمّا مَنْ أُوتي كتابه بشماله ( قال ابن الثابت : تلوى يده اليسرى خلف ظهره ثمّ يعطى كتابه . وقيل : تنزع من صدره إلى خلف ظهره ) فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه }
الحاقة : ( 26 - 27 ) ولم أدر ما . . . . .
) ولم أدر ما حسابيه يا ليتها كانت القاضية ( يقول : يا ليت الموتة التي متّها في الدنيا كانت القاضية الفارغة من كل ما بعدها ، فلم أُبعث بعده ، والقاضية موت الأحياء بعدها . وقيل : معناه يا ليتني متُّ فاسترحت . قال قتادة : تمنّى الموت ولم يكن عنده في الدنيا شيء أكره من الموت .
الحاقة : ( 28 - 29 ) ما أغنى عني . . . . .
) ما أغنى عنّي ماليه هلك عنّي سلطانيه ( ذهبت عنّي حجّتي عن أكثر المفسّرين ، وقال ابن زيد : زال عنّي ملكي وقولي فيقول الله لخزنة جهنّم :
الحاقة : ( 30 ) خذوه فغلوه
) خذوه ( ، ويروى أنّه يجتمع على شخص واحد من أهل النار مائة ألف من الزبانية ، فيقطع في أيديهم قال : فلا يرى على أيديهم منه إلاّ الودك ، ثمّ يعاد خلقاً جديداً .
) فغلّوه }
الحاقة : ( 31 ) ثم الجحيم صلوه
) ثمّ الجحيم صلّوه ( أدخلوه
الحاقة : ( 32 ) ثم في سلسلة . . . . .
) ثمّ في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه ( فأدخلوه في ذراع الملك ، فيدخل دبره ويخرج من منخريه . وقيل : يدخل من فيه ويخرج من دبره .
روى سفيان عن بسر بن دعلوق عن نوف البكالي قال : كلّ ذراع سبعون باعاً والباع أبعد ممّا بينك وبين مكّة ، وكان في رحبة الكوفة .
وقال سفيان الثوري : كلّ ذراع من سبعين ذراعاً سبعون ذراعاً وقال : بأي ذراع هو ؟ ، وقال عبد الله بن عمر وابن العاص : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو أن رصاصة مثل هذه وأشار إلى جمجمة أُرسلت من السماء إلى الأرض فهي مسيرة خمسمائة سنة بلغت الأرض قبل الليل ، ولو أنّها أُرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ أصلها أو قعرها ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبش قال : حدّثنا ابن زنجويه قال : حدّثنا موسى بن محمد قال : حدّثنا الحسن بن عليّ قال : حدّثنا سلمة قال : حدّثنا عبد الرزاق قال : حدّثنا بكار ابن عبد الله عن ابن أبي مليكة عن عبد الله بن حنظلة عن كعب في قوله : ) ثمّ في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه ( قال : لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منها .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا موسى بن محمد قال : حدّثنا الحسن بن علويه قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا المسيب قال : حدّثنا سويد بن يحيى قال : بلغني أن جميع أهل النار في تلك السلسلة ، ولو أن حلقة منها وضعت على جبل لذاب من حرّها
(10/31)
" صفحة رقم 32 "
الحاقة : ( 33 - 35 ) إنه كان لا . . . . .
) إنّه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحضّ على طعام المسكين فليس له اليوم هاهنا حميم ( صديق ، وقيل : قريب يعينه ، وقيل : هو مأخوذ من الحميم ، وهو الماء الحار كأنه الصديق الذي يرق ويحترق قلبه له .
الحاقة : ( 36 ) ولا طعام إلا . . . . .
) ولا طعام ( وليس له اليوم طعام . ) إلاّ من غسلين ( وهو صديد أهل النار مأخوذ من الغسل كأنه غسالة جروحهم وقروحهم ، وقال الضحاك والربيع : هو شجر يأكله أهل النار .
الحاقة : ( 37 ) لا يأكله إلا . . . . .
) لا يأكله إلاّ الخاطئون ( المذنبون وهم الكافرون .
الحاقة : ( 38 - 39 ) فلا أقسم بما . . . . .
) فلا أُقسم بما تبصرون وما لا تُبصرون ( ترون وما لا ترون ، وأراد جميع المكونات والموجودات ، وقيل : الدنيا والآخرة . وقيل : ما في ظهر السماء والأرض وما في بطنها . وقيل : الأجسام والأرواح .
وقيل : النعم الظاهرة والباطنة .
وقال جعفر الصادق : بما تبصرون من صنعي في ملكي وما لا تبصرون من برّي بأوليائي .
وقال الجنيد : ما تبصرون من آثار الرسالة والوحي على حسن محمد وما لا تبصرون من السر معه ليلة الإسراء . وقيل : ما أظهر الله للملائكة واللوح والقلم ، وما استأثر بعلمه فلم يطلع عليه أحداً .
وقيل : ما تُبصرون : الإنس وما لا تبصرون : الجن والملائكة . وقال ابن عطا : ما تبصرون من آثار القدرة وما لا تبصرون من أسرار القرية .
الحاقة : ( 40 ) إنه لقول رسول . . . . .
) إنّه لقول رسول كريم ( أي تلاوة محمد وتبليغه ، وقيل : لقول مرسل رسول كريم فحذف كقوله ) وسئل القرية ( .
الحاقة : ( 41 - 42 ) وما هو بقول . . . . .
) وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون ( قرأ ابن عامر ويعقوب أبو حاتم : يؤمنون ويذكرون بالياء ، وغيرهم بالتاء فيهما
الحاقة : ( 43 - 44 ) تنزيل من رب . . . . .
) تنزيل من رب العالمين ولو تقوّل ( تخرّص واختلق ) علينا بعض الأقاويل }
الحاقة : ( 45 ) لأخذنا منه باليمين
) لأخذنا منه باليمين ( قيل : من صلة مجازه : لعاقبناه وانتقمنا منه بالحق كقوله : ) قالوا إنّكم كنتم تأتوننا عن اليمين ( أي من قبل الحق .
وقال ابن عباس : لأخذناه بالقوة والقدرة ، كقول الشاعر :
إذا ما راية رفعت لمجد
تلقّاها غرابة باليمن
وقيل : معناه لأخذنا منه باليد اليمنى من يديه ، وهو مثل معناه لأذللناه وأهناه ، وهذا
(10/32)
" صفحة رقم 33 "
كقوله : ذي السلطان إذا أراد الاستخفاف ببعض من بين يديه ، واهانته لبعض أعوانه ، خذ بيده فاقمه ، واعتمد ابن جرير هذا التأويل .
الحاقة : ( 46 ) ثم لقطعنا منه . . . . .
) ثمّ لقطعنا منه الوتين ( نياط القلب ، عن ابن عباس وأكثر الناس ، وقال قتادة : حبل القلب ، وقال مجاهد : الحبل الذي في الظهر . وقيل : هو عرق بين العلباء والحلقوم .
الحاقة : ( 47 ) فما منكم من . . . . .
) فما منكم من أحّد عنهُ حاجزين ( مانعين يحجزوننا عن عقوبته وما نفعله به وإنّما جمع وهو فعل واحد رداً على معناه كقوله : ) لا نفرق بين أحد من رسله ( ، وقال ( عليه السلام ) : ( لم تحل الغنائم لأحدسود الرؤوس ( ممّن ) قبلكم ) لفظه واحد ومعناه الجميع .
الحاقة : ( 48 - 50 ) وإنه لتذكرة للمتقين
) وإنّه ( يعني القرآن ) تذكرة للمتّقين وإنّا لنعلم إنّ منكم مكذّبين وإنّه لحسرة على الكافرين ( إذا رأوا ثواب متبابعيه وقد خالفوه .
الحاقة : ( 51 ) وإنه لحق اليقين
) وإنّه لحق اليقين ( إضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين
الحاقة : ( 52 ) فسبح باسم ربك . . . . .
) فسبّح باسم ربّك العظيم ( الذي كلّ شيء في جنب عظمته صغير .
(10/33)
" صفحة رقم 34 "
( سورة المعارج )
مكية ، وهي ألف ومائة وستّون حرفاً ، واثنتان وست عشرة كلمة ، وأربعة وأربعون آية
أخبرني محمد بن القيّم ، قال : حدّثنا إسماعيل بن مُجيد قال : حدّثنا محمد بن إبراهيم بن سعد قال : حدّثنا سعد بن حفص قال : قرأت على معقل بن عبيد الله عن عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَن قرأ سورة سأل سائل أعطاه الله ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً يَوْمَ تَكُونُ السَّمَآءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ وَلاَ يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً ( 2
المعارج : ( 1 ) سأل سائل بعذاب . . . . .
) سأل سائلٌ بعذاب واقع ( قرأ أهل المدينة والشام سأل بغير همز ، وقرأ الباقون بالهمز واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، فمن قرأه بالهمز فهو من السؤال لا غير وله وجهان : أحدهما أن تكون الباء في قوله ) بعذاب ( بمعنى عن كقوله سبحانه : ) فاسأل به خبيرا ( أي عنه ، وقال علقمة بن عبدة :
فإن تسألوني بالنساء فانّي
بصير بأدواء النساء طبيب
أي عن النساء .
ومعنى الآية : سأل سائل عن عذاب واقع نازل : على من ينزل ؟ ولمن هو ؟ فقال الله سبحانه مجيباً له
(10/34)
" صفحة رقم 35 "
المعارج : ( 2 ) للكافرين ليس له . . . . .
) للكافرين ( وهذا قول الحسن وقتادة قالا : كان هذا بمكّة ، لما بعث الله تعالى محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) إليهم وخوّفهم بالعذاب والنكال ، قال المشركون بعضهم لبعض : من أهل هذا العذاب اسألوا محمداً لمن هو وعلى مَنْ ينزل وبمَنْ يقع ، فبيّن الله سبحانه وأنزل سأل سائل عذاباً واقعاً للكافرين أي على الكافرين ، اللام بمعنى على ، وهو النضر بن الحرث حيث دعا على نفسه وسأل العذاب فقال : اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ لأنّه نزل به ما سأل يوم بدر ، فقتل صبراً ولم يقتل من الأسرى يومئذ غيره وغير عقبه بن أبي معيط ، وهذا قول ابن عباس ومجاهد ، وسئل سفيان بن عيينة عن قول الله سبحانه : ) سأل سائل ( فيمن نزلت ، فقال : لقد سألتني عن مسألة ما سألني أحد قبلك .
حدّثني أبي عن جعفر بن محمد عن آبائه ، فقال : لما كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بغدير خم ، نادى بالناس فاجتمعوا ، فأخذ بيد عليّ ح فقال : ( مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه ) .
فشاع ذلك وطار في البلاد ، فبلغ ذلك الحرث بن النعمان القهري فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على ناقة له حتّى أتى الأبطح ، فنزل عن ناقته وأناخها وعقلها ، ثمّ أتى النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وهو في ملأ من أصحابه فقال : يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّك رسول الله فقبلناه منك ، وأمرتنا أن نصلّي خمساً فقبلناه منك ، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا ، وأمرتنا بالحجّ فقبلنا ، وأمرتنا أن نصوم شهراً فقبلنا ، ثمّ لم ترض بهذا حتّى رفعت بضبعي ابن عمّك ففضلته علينا وقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فهذا شيء منك أم من الله تعالى ؟
فقال : ( والّذي لا إله إلاّ هو هذا من الله ) فولّى الحرث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول : اللهمّ إن كان ما يقوله حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم ، فما وصل إليها حتّى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله ، وأنزل الله سبحانه : ) سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع ( .
ومَنْ قرأ بغير همز فله وجهان : أحدهما أنّه لغة في السؤال ، تقول العرب : سأل سائل وسأل سال مثل نال ينال ، وخاف يخاف ، والثاني : أن يكون من السيل ، قال زيد بن ثابت وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، سال واد من أودية جهنم يقال له سائل .
المعارج : ( 3 ) من الله ذي . . . . .
) من الله ذي المعارج ( . قال ابن عباس : يعني ذي السماوات ، وقال ابن كيسان : المعارج الفتق الذي بين سمائين وأرضين ، قتادة : ذي الفواصل والنعم ، سعد بن جبير : ذي الدرجات ، القرطبي : ذي الفضائل العالية ، مجاهد : معارج الملائكة .
(10/35)
" صفحة رقم 36 "
المعارج : ( 4 ) تعرج الملائكة والروح . . . . .
) تعرج ( بالياء الكسائي وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي عبيد ، وغيرهم بالتاء ) الملائكة والروح ( هو جبريل ) إليه ( إلى الله عزّوجلّ ) في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ( من سنين الدنيا ، لو صعد غير الملائكة وذلك أنّها تصعد من منتهى أمر الله من أسفل الأرض السابعة إلى منتهى أمره من فوق السماء السابعة .
وروى ليث عن مجاهد ) في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ( قال : من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السموات مقدار خمسين ألف سنة ) ويوم كان مقداره ألف سنة ( يعني بذلك نزول الأمر من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد فذلك مقدار ألف سنة ؛ لأنّ ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة عام .
وقال محمد بن إسحاق بن يسار : لو سار بنو آدم من الدنيا إلى موضع العرش ساروا خمسين ألف سنة قبل أن يقطعوه .
وقال الحكم بن عكرمة : هو مدة عمر الدنيا من أولها إلى آخرها ، خمسون ألف سنة لا يدري أحد كم مضى وكم بقي إلاّ الله . وقال قتادة : هو يوم القيامة .
وقال الحسن : هو يوم القيامة وليس يعني أن مقدار طوله هو دون عمره ، ولو كان ذلك لكانت له غاية نعني فيها الجنة والنار ، ولكنّه يوم موقفهم للحساب ، حتّى يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدنيا ، وذلك أنّ ليوم القيامة أولا وليس له آخر . لأنّه يوم ممدود ولو كان له آخر كان منقطعاً .
وقيل : معناه لو ولى محاسبة العباد في ذلك غير الله لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة ، وهي رواية محمد بن الفضيل عن الكلبي قال : يقول : لقد لو وليت حساب ذلك اليوم الملائكة والجن والإنس وطالت محاسبتهم لم يفرغوا منه في خمسين ألف سنة ، وأنا أفرغ منه في ساعة من النهار .
وقال يمان : هو يوم القيامة فيه خمسون موطناً ، كل موطن ألف سنة ، وفيه تقديم وتأخير ، كأنه قال : ليس له دافع من الله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة يعرج الملائكة والروح إليه .
وروى أبو الجوزاء وابن أبي طلحة عن ابن عباس قال : هو يوم القيامة جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة فأراد أن أهل الموقف يستطيلون ذلك اليوم .
وأخبرنا ابن فنجويه ، قال : حدّثنا القطيعي ، قال : حدّثنا عبد الله قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا حسن قال : حدّثنا ابن لهيعة قال : حدّثنا دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال : قيل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ما أطول هذا اليوم ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
(10/36)
" صفحة رقم 37 "
( والذي نفسي بيده إنّه ليخفف على المؤمنين حتّى يكون أخف عليهم من صلاة مكتوبة تصليها في الدنيا ) .
وقال إبراهيم التيمي : ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلاّ كما بين الظهر والعصر .
المعارج : ( 5 - 6 ) فاصبر صبرا جميلا
) فاصبر صبراً جميلا إنّهم يرونه ( يعني العذاب ) بعيداً (
المعارج : ( 7 ) ونراه قريبا
) ونراه قريباً ( ؛ لأنّ ما هو آت قريب
المعارج : ( 8 ) يوم تكون السماء . . . . .
) يوم تكون السماء كالمهل ( كعكر الزيت ، وقيل : كالفلز المذاب وقد مرّ تفسيره .
المعارج : ( 9 ) وتكون الجبال كالعهن
) وتكون الجبال كالعهن ( كالصوف المصبوغ ، ولا يقال عهن إلاّ للمصبوغ . وقال مقاتل : كالصوف المنفوش . قال الحسن : كالصوف الأحمر وهو أضعف الصوف ، وأوّل ما تتغير الجبال تصير رملاً مهيلاً ، ثمّ عهناً منفوشاً ، ثمّ تصير هباءً منثوراً .
المعارج : ( 10 ) ولا يسأل حميم . . . . .
) ولا يُسئل حميم حميماً ( قريب قريباً لشغله بشأن نفسه ، وقرأ : ولا يُسئل بضم الياء ، أي لا يسأل حميم عن حميم .
( ) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِى تُئْوِيهِ وَمَن فِى الاَْرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ وَالَّذِينَ فِىأَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَأِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذَالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لاَِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَائِكَ فِى جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ ( 2
المعارج : ( 11 ) يبصرونهم يود المجرم . . . . .
) يبصّرونهم ( يرونهم وليس في القيامة مخلوق إلاّ وهو نصب عن صاحبه من الجن والإنس فيبصر الرجل أباه وأخاه وقرابته وعشيرته ولا يسأله ، ويبصر الرجل حميمه فلا يكلمه لاشتغالهم بأنفسهم .
قال ابن عباس : يتعارفون مدة ساعة من النهار ثمّ لا يتعارفون بعد ذلك ، وقال السدي : يبصرونهم يعرفونهم ، أمّا المؤمن فلبياض وجهه ، وأما الكافر فلسواد وجهه .
) يود المجرم ( يتمنّى المشرك ) لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه (
المعارج : ( 12 - 13 ) وصاحبته وأخيه
) وصاحبته ( زوجته ) وأخيه وفصيلته ( عشيرته التي فصل منهم ، أبو عبيدة : فخذه ، ثعلب : آبائه الأدنين . غيره
(10/37)
" صفحة رقم 38 "
أقربائه الأقربين ) التي تُؤيه ( مجاهد قبيلته
المعارج : ( 14 ) ومن في الأرض . . . . .
) ومَنْ في الأرض جميعاً ثمّ يُنجيه ( ذلك الفداء من عذاب الله سبحانه
المعارج : ( 15 ) كلا إنها لظى
) كلا ( ليس كذلك لا يُنجيه من عذاب الله شيء .
ثمّ ابتدأ فقال : ) إنّها لظى ( وقيل : معناه حقّا إنّها لظى ، فيكون متّصلا ولظى اسم من أسماء جهنّم ، ولذلك لم يجر ، وقيل : هي الدركة الثانية سمّيت بذلك لأنّها تتلظى ، قال الله تعالى : ) فأنذرتكم نارا تلظى 2 )
المعارج : ( 16 ) نزاعة للشوى
) نزّاعة ( قراءة العامة بالرفع على نعت اللظى ، وروى حفص عن عاصم بالنصب على الحال والقطع ) للشوى ( قال الكلبي : لأمر الرأس بأكل الدماغ ، ثمّ يعود الدماغ كما كان ، ثمّ يعود لأكله فذلك دائها ، وهي رواية أبي ظبيان عن ابن عباس ، عطيّة عنه : يعني الجلود والهام ، سعيد بن جبير عنه : للعصب والعقب ، مجاهد : لجلود الرأس ، ودليل هذا التأويل قول كثير عزّة :
لأصبحت هدتك الحوادث هذه
لها فشواة الرأس باد قتيرها
إبراهيم بن مهاجر : اللحم دون العظم ، الهام يحرق كل شيء منه ويبقى فؤاده نصيحاً ، أبو صالح : للحم الساق ، ثابت البناني : لمكارم وجهه ، قتادة : لمكارم خلقه وأطرافه ، أبو العالية : لمحاسن وجهه ، يمان : خلاّعة للأطراف ، مرة : للأعضاء ، ابن زيد : لأذاب العظام ، الضحّاك : تبري اللحم والجلد عن العظم حتّى لا تترك منه شيئاً ، الكسائي : للمفاصل ، ابن جرير : الشوى جمع شواة وهي من جوارح الإنسان ما لم يكن مقتلا يقال : رمى فاشوى إذا لم يصب مقتلا ، وقال بعض الأئمة : هي القوائم والجلود ، قال امرؤ القيس :
سليم الشظى عبل الشوى شنج النسا
وقال الأعشى :
قالت قتيلة ماله قد جلّلت شيباً شواته
المعارج : ( 17 ) تدعو من أدبر . . . . .
) تدعوا ( إلى نفسها ) من أدبر ( عن الإيمان ) وتولّى ( عن الحق فتقول إليّ إليّ .
قال ابن عباس : تدعوا الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح ، ثمّ تلتقطهم كما تلتقط الطير الحب ، وقال تغلب : تدعوا أي تهلك يقول العرف : دعاك الله أي أهلكك الله ، وقال الخليل : إنه ليس كالدعاء تعالوا ولكن دعوتها إياهم تمكّنها من تعذيبهم وفعلها بهم ما تفعل .
المعارج : ( 18 ) وجمع فأوعى
) وجمع ( المال ) فأوعى ( أمسك ولم يود حقّ الله منه .
(10/38)
" صفحة رقم 39 "
أخبرني وقيل : إنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال : حدّثنا محمد بن منصور قال : حدّثنا أبو فطن قال : حدّثنا المسعودي عن الحكم قال : كان عبد الله بن حكيم لا يربط كيسه ويقول : سمعت الله سبحانه وتعالى يقول : ) وجمع فأوعى 2 )
المعارج : ( 19 ) إن الإنسان خلق . . . . .
) إنّ الإنسان خلق هلوعاً ( .
أخبرنا عبد الخالق قال : حدّثنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن يزداد الرازي ، قال : حدّثنا أبو الحسن طاهر الخثعمي ، قال : حدّثنا إسماعيل بن موسى ، قال : أخبرنا الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله : ) هلوعاً ( قال : الحريص على ما لا يحلّ له .
وروى عطية عنه قال : هو الذي قال الله سبحانه وتعالى :
المعارج : ( 20 - 21 ) إذا مسه الشر . . . . .
) إذا مسّه الشرّ جزوعاً وإذا مسّه الخير منوعاً ( وقال سعيد بن جبير : شحيحاً ، عكرمة : ضجوراً ، الضحاك والحسن : بخيلا ، حصين : حريصاً ، قتادة وابن زيد : حزوناً ، مجاهد : شرهاً ، وعن الضحاك أيضاً : الهلوع الذي لا يشبع ، مقاتل : ضيق القلب ، ابن كيسان : خلق الله الإنسان يحب ما يُسره ويرضيه ويهرب مما يكرهه ويسخطه ثمّ تعبّده بإنفاق ما يحب ويلذ والصبر على ما يكره ، عطا : عجولا وقيل : جهولا ، سهل : متقلّباً في شهواته وهواه ، وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول : سمعت منصور بن عبد الله يقول : سمعت أبا القيّم البزاز يقول : قال ابن عطاء : الهلوع : الذي يرضى عند الموجود ويسخط عند المفقود ، أبو الحسن الوراق : نسّاء عند النعمة دعّاء عند المحنة ، وعن سهل أيضاً : إذا افتقر جزع وإذا أيسر منع ، أبو عبيدة وثعلب : هو الذي إذا مسّه الخير لم يشكر وإذا مسّه الشرّ لم يصبر ، وقيل : طموعاً يرضيه القليل من الدنيا ويسخطه مثلها ، والهلع في اللغة : أشد الحرص وأسوأ الجزع .
قال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( شرّ ما أعطى العبد شح هالع وجبن خالع ) .
وتقول العرب : ناقة هلواع إذا كانت سريعة السير خفيفة . قال الشاعر :
صكاء علبة إذا استديرتها
حرج إذا استقبلتها هلواع
المعارج : ( 22 ) إلا المصلين
ثمّ استثنى سبحانه وتعالى ) إلاّ المصلّين ( قيل : هم الصحابة خاصّة وهم المؤمنون عامّة فإنّهم يغلبون فرط الهلع بحكم الشرع لثقتهم بربّهم ويقينهم بقدرته ، واستثنى الجمع من الواحد . لأنّ الإنسان اسم الجنس فهو في معنى الجمع .
المعارج : ( 23 ) الذين هم على . . . . .
) الذين هم على صلواتهم دائمون ( .
(10/39)
" صفحة رقم 40 "
أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا القطيعي قال : حدّثنا بشر بن موسى قال : حدّثنا أبو عبد الرحمن المقري عن حيوة قال : حدثني يزيد بن أبي حسب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني : أن عقبة بن عامر قال لهم : الذين هم على صلواتهم دائمون .
قال : قلنا : الذين لا يزالون يصلون ؟ فقال : لا ولكن الذين إذا صلوا لم يلتفتوا يميناً ولا شمالا
المعارج : ( 24 - 33 ) والذين في أموالهم . . . . .
) والذين في أموالهم حقّ معلوم للسائل والمحروم والذين يصدّقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربّهم مشفقون إنّ عذاب ربّهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنّهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون ( يعني يقيمونها ولا يكتمونها ولا يغيرونها .
وقال سهل : قائمون بحفظ ما شهدوا به من شهادة لا إله إلاّ الله ، فلا يشركون به في شيء من الأفعال والأقوال والأحوال . وقرأ ابن عامر ويعقوب وحفص بشهاداتهم بالألف على الجمع ، الباقون بشهادتهم .
المعارج : ( 34 - 35 ) والذين هم على . . . . .
) والذين هم على صلاتهم يُحافظون أولئك في جنّات مكرمون ( .
2 ( ) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِى يُوعَدُونَ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الاَْجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ ( 2
المعارج : ( 36 ) فمال الذين كفروا . . . . .
) فمال الذين كفروا ( فما بالهم كقوله سبحانه : ) فما لكم في المنافقين فئتين ( وقوله سبحانه : ) فما لهم عن التذكرة معرضين ( ) قبلك مهطعين ( مقبلين مسرعين عليك مادّي أعناقهم مديمي النظر إليك متطلّعين نحوك . وقد مرّ تفسير الإهطاع وهو نصب على الحال
المعارج : ( 37 ) عن اليمين وعن . . . . .
) عن اليمين وعن الشمال عزين ( حلقاً وفرقاً عصبة عصبة وجماعة جماعة متفرقين ، والعزين : جماعات في تفرقة ، واحدتها عزة ونظيرها في الكلام ثبته وثبتين وكره وكرين وقله وقلين ، قال عنترة :
وقرن قد تركت لذي ولي
عليه الطير كالعضب العزين
وقال الراعي
(10/40)
" صفحة رقم 41 "
أخليفة الرحمن إنّ عشيرتي
أمسى سوائمهم عزين فلولا
وقال آخر :
كأن الجماجم من وقعها
خناطيل يهون شتى عزينا
وأخبرني عقيل أن المعافى أخبرهم عن ابن جرير ، قال : حدّثنا بكار قال : حدّثنا مؤمل قال : حدّثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن أبي سلمة عن أبي هريرة : أن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) خرج على أصحابه وهم حلق حلق فقال : ( ما لي أراكم عزين ) .
قال المفسّرون : كان المشركون يجتمعون حول النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ويتسمعون كلامه ولا ينتفعون به ، بل يكذبونه ويكذبون عليه ويستهزؤون به وبأصحابه ، ويقولون : دخل هؤلاء الجنّة كما يقول محمد ، فلندخلها قبلهم وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم فأنزل الله سبحانه :
المعارج : ( 38 ) أيطمع كل امرئ . . . . .
) أيطمع كلّ امرىء منهم أن يدخل جنّة نعيم ( قرأ الحسن وطلحة بفتح الياء وضم الخاء ، ومثله روى المفضل عن عاصم ، الباقون ضده
المعارج : ( 39 ) كلا إنا خلقناهم . . . . .
) كلاّ ( لايدخلونها ثمّ ابتدأ فقال : ) إنّا خلقناهم ممّا يعلمون ( أي من نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة فلا يستوجب الجنّة أحد منهم بكونه شريفاً ؛ لأنّ مادة الخلق واحدة بل يستوجبونها بالطاعة ، قال قتادة في هذه : إنّما خلقت يابن آدم من قذر فاتق إلى الله .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن عبد الله بن برزة قال : حدّثنا محمد بن سليمان ابن الحرث الباغندي قال : حدّثنا عارم أبو النعمين السدوسي ، قال : حدّثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك ، قال : كان أبو بكر الصديق إذا خطبنا ذكر مناتن ابن آدم فذكر بدء خلقه أنّه يخرج من مخرج البول مرتين ، ثمّ يقع في الرحم نطفة ، ثمّ علقة ، ثمّ مضغة ، ثمّ يخرج من بطن أمه فيتلوث في بوله وخراه حتّى يقذر أحدنا نفسه .
وأخبرني ابن فنجويه ، قال : حدّثنا موسى بن محمد بن عليّ ، قال : حدّثنا جعفر بن محمد الفريابي ، قال : حدّثنا صفوان بن صالح قال : حدّثنا الوليد بن مسلم قال : حدّثنا جرير بن عثمان عن عبد الرحمن بن ميسرة عن جبير بن نفير عن بسر بن جحاش قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبصق يوماً في كفه ووضع عليها أصبعه فقال : ( يقول عزّوجلّ بني آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ، حتّى إذا سوّيتك وعدّلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت حتّى إذا بلغت التراقي قلت : أتصدّق وأنى أوان الصدقة )
(10/41)
" صفحة رقم 42 "
وقيل : إنّا خلقناهم من أجل ما يعلمون وهو الأمر والنهي والثواب والعقاب فحذف أجل ، كقول الشاعر :
أأزمعت من آل ليلى احتكاراً
وشطّت على ذي هوى أن تزارا
أي من أجل آل ليلى .
وقيل : ) ما ( بمعنى من ، مجازه : إنا خلقناهم ممن يعلمون ويعقلون لا كلبهائم .
المعارج : ( 40 ) فلا أقسم برب . . . . .
) فلا أُقسم بربّ المشارق والمغارب ( قرأ أبو حيوة برب المشرق والمغرب ) إنا لقادرون }
المعارج : ( 41 ) على أن نبدل . . . . .
) على أن نبدّل خيراً منهم وما نحن بمسبوقين ( نظيره في سورة الواقعة .
المعارج : ( 42 ) فذرهم يخوضوا ويلعبوا . . . . .
) فذرهم يخوضوا ( في باطلهم ) ويلعبوا ( ويلهوا في دنياهم ) حتّى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ( نسختها آية القتال
المعارج : ( 43 ) يوم يخرجون من . . . . .
) يوم يخرجون ( قراءة العامّة بفتح الياء وضم الراء ، وروى الأعشى عن أبي بكر عن عاصم بضم الياء وفتح الراء ) من الأجداث ( القبور ) سراعاً ( إلى إجابة الداعي ) كأنّهم إلى نصب ( قراءة العامّة بفتح النون وجزم الصاد يعنون إلى شيء منصوب ، يقال : فلان نصب عيني .
قال ابن عباس : يعني إلى غاية وذلك حين سمعوا الصيحة الأخيرة . الكلبي : إلى علم وزواية ، وقال أبو العلاء : سمعت بعض العرب يقول : النصب الشبكة التي يقع فيها الصيد فيتسارع إليها صاحبها مخافة أن يفلت الصيد منها ، وقرأ زيد بن ثابت وأبو رجاء وأبو العالية ومسلم البطين والحسن وأشهب العقيلي وابن عامر ) إلى نصب ( بضم النون والصاد ، وهي رواية حفص عن عاصم واختيار أبي حاتم .
قال مقاتل والكسائي : يعني إلى أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله . وقال الفراء والأخفش : النُصُب جمع النُصْب مثل رُهُن ، والأنصاب جمع النُصُب فهي جمع الجمع . وقيل : النُصُب والأنصاب واحد .
) يوفضون ( يسرعون . قال الشاعر :
فوارس ذبيان تحت الحديد
كالجن يوفضن من عبقر
وقال ابن عباس وقتادة : يسعون ، وقال أبو العالية ومجاهد : يستبقون ، ضحاك : يطلعون . الحسن يبتدرون . القرظي يشتدون
المعارج : ( 44 ) خاشعة أبصارهم ترهقهم . . . . .
) خاشعة ( ذليلة خاضعة ) أبصارهم ( بالعذاب ، قال قتادة : سواد الوجوه ) ترهقهم ذلّة ( يغشاهم هوان ، ومنه غلام مراهق إذا غشى الإحتلام ) ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون ( وهو يوم القيامة .
(10/42)
" صفحة رقم 43 "
( سورة نوح )
مكيّة وهي تسعمائة وتسعة وعشرون حرفاً ، ومائتان وأربع وعشرون كلمة ، وثمان وعشرون آية .
أخبرني محمد بن القيّم قال : حدّثنا محمد بن محمد بن شاذه قال : حدّثنا أحمد بن محمد ابن الحسن قال : حدّثنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا سليم بن فتينة عن شعبة عن عاصم بن تهّدله عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة نوح كان من المؤمنين الذين تدركهم دعوة نوح ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ ياقَوْمِ إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآئِىإِلاَّ فِرَاراً وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ فِىءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً ثُمَّ إِنِّى دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّىأَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَآءَ عَلَيْكُمْ مُدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً وَاللَّهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الاَْرْضِ نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ بِسَاطاً لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِى وَاتَّبَعُواْ مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الاَْرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً رَّبِّ اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِىَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَاراً ( ) 2
(10/43)
" صفحة رقم 44 "
)
نوح : ( 1 - 4 ) إنا أرسلنا نوحا . . . . .
إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم ( ) من ( صلة ) ويؤخّركم إلى أجل مسمّىً ( وهو الموت فلا يهلككم بالعذاب ) إنّ أجل الله إذا جاء لا يُؤخّر لو كنتم تعلمون (
نوح : ( 5 - 6 ) قال رب إني . . . . .
) قال ربّ إنّي دعوت قومي ليلا ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلاّ فراراً ( نفاراً وإدباراً عنه
نوح : ( 7 ) وإني كلما دعوتهم . . . . .
) وإنّي كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم ( لئلاّ يسمعوا دعوتي ) واستغشوا ثيابهم ( غطوا بها وجوههم لئلاّ يروني ولا يسمعوا صوتي ) وأصرّوا ( على الكفر ) واستكبروا استكباراً (
نوح : ( 8 - 9 ) ثم إني دعوتهم . . . . .
) ثمّ إنّي دعوتهم جهاراً ثمّ إنّي أعلنت لهم ( الدعوة ) وأسررت لهم إسراراً (
نوح : ( 10 - 11 ) فقلت استغفروا ربكم . . . . .
) فقلت استغفروا ربكم إنّه كان غفّاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ( .
أخبرني الحسين قال : حدّثنا عبد الله بن إبراهيم بن عليّ قال : حدّثنا محمد بن عمران بن هارون قال : حدّثنا أبو عبيد الله المخزومي قال : حدّثنا سفيان عن مطرف عن الشعبي : أن عمر خرج يستسقي بالناس ، فلم يزد على الاستغفار حتّى رجع ، فقالوا له : ما رأيناك استسقيت ، فقال عمر : لقد طلبت المطر لمحاويج السماء التي يستنزل منها المطر ، ثمّ قرأ : ) استغفروا ربكم إنّه كان غفّاراً يُرسل السماء عليكم مدراراً ( .
نوح : ( 12 ) ويمددكم بأموال وبنين . . . . .
) ويُمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنّات ( بساتين ) ويجعل لكم أنهاراً ( جارية ، وذلك أن قوم نوح لما كذّبوه زماناً طويلا حبس الله عنهم المطر ، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة ، فهلكت أموالهم ومواشيهم ، فوعدهم الله إن آمنوا أن يرد عليهم .
وروى الربيع بن صبيح أن رجلاً أتى الحسن فشكا إليه الجدوبة ، فقال له الحسن : استغفر الله ، وأتاه آخر فشكا إليه الفقر ، فقال له : استغفر الله ، وأتاه آخر فقال : ادع الله أن يرزقني ابناً ، فقال له : استغفر الله ، وأتاه آخر فشكا إليه جفاف بساتينه فقال له : استغفر الله فقلنا أتاك رجال يشكون أبواباً ويسألون أنواعاً فأمرتهم كلهم بالاستغفار ، فقال : ما قلت من ذات نفسي في ذلك شيئاً إنّما أعتبرت فيه قول الله سبحانه حكاية عن نبيّه نوح ( عليه السلام ) إنّه قال لقومه : ) استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا 2 )
نوح : ( 13 ) ما لكم لا . . . . .
) ما لكم لا ترجون لله وقاراً ( . قال ابن عباس ومجاهد : ما لكم لا ترون لله عظمة ، سعيد بن جبير : ما لكم لا تعظمون لله حقّ عظمته . منصور عن مجاهد : لا تبالون لله عظمته . العوفي عن ابن عباس : لا تعلمون لله عظمة . قتادة : لا ترجون لله عاقبة ، ابن زيد : لا ترون لله طاعة . الكلبي : لا تخافون لله عظمة . ابن كيسان : ما لكم لا ترجون في عبادة الله أن يثبكم على توقيركم إياه خير ، الحسن : لا تعرفون لله حقاً ولا تشكرون له نعمة . سعيد بن جبير أيضاً : لا يرجون لله ثواباً ولا يخافون عقاباً ، والرجاء من الأضداد يكون أملا وخوفاً .
(10/44)
" صفحة رقم 45 "
نوح : ( 14 ) وقد خلقكم أطوارا
) وقد خلقكم أطواراً ( تارات ومرات حالا بعد حال ، نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة ، إلى تمام الخلقة
نوح : ( 15 - 16 ) ألم تروا كيف . . . . .
) ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقاً وجعل القمر فيهن نوراً ( .
) وجعل الشمس سراجاً ( قال الحسن : يعني في السماء الدنيا . وهذا جائز في كلام العرب ، كما يقال : أتيت بني تميم وأتاني بعضهم ، ويقول : فلان متوار في دور بني فلان ، وإنّما هو في دار واحدة . وقال مقاتل : هو معناه وجعل القمر معهن نوراً لأهل الأرض ، ) في ( بمعنى مع . وقال عبد الله بن محمد : وإن الشمس والقمر وجوههما قبل السموات وضوء الشمس ونور القمر منها وأقفيتها قبل الأرض ، وأنا أقرأ بذلك آية من كتاب الله سبحانه ) وجعل القمر فيهنّ نوراً وجعل الشمس سراجاً ( مصباحاً مضيئاً .
وقيل لعبد الله بن عمر : ما بال الشمس تُصلينا أحياناً وتبرد علينا أحياناً ، فقال : إنّها في الصيف في السماء الرابعة وفي الشتاء في السماء السابعة عند عرش الرحمن ، ولو كانت في السماء الدنيا لما قام لها شيء .
نوح : ( 17 ) والله أنبتكم من . . . . .
) والله أنبتكم من الأرض نباتاً ( وكان حقّه إنباتاً ولكنّه مصدر مخالف للصدر ، وقال الخليل : مجازه : فنبتم نباتاً
نوح : ( 18 ) ثم يعيدكم فيها . . . . .
) ثمّ يعيدكم فيها ( أمواتاً ) ويخرجكم ( منها أحياءً ) إخراجاً }
نوح : ( 19 ) والله جعل لكم . . . . .
) والله جعل لكم الأرض بساطاً ( مهاداً يحملكم ويستركم أمواتا
نوح : ( 20 ) لتسلكوا منها سبلا . . . . .
) لتسلكوا منها سبلا فجاجاً ( طرقاً مختلفة .
نوح : ( 21 ) قال نوح رب . . . . .
) قال نوح ربّ إنّهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلاّ خساراً ( وهم القادة والأشراف
نوح : ( 22 ) ومكروا مكرا كبارا
) ومكروا مكراً كباراً ( عظيماً يقال : كبر كبار بالتخفيف وكبّار بالتشديد ، كلها بمعنى واحد ونظيره في كلام العرب ، أمر عجيب وعجاب وعجّاب ، ورجل حسان وحسّان ، وكمال وكمّال ، وقرّاء للقاريووضّاء للوضي ، وأنشد ابن السكيت :
بيضاء تصطاد القلوب وتستبي
وبالحُسن قلب المسلم القراء
وقال آخر :
والمرء يلحقه بقيتان الندى
خُلق الكريم وليس بالوضاء
وقرأ ابن محيص وعيسى : كبارا بالتخفيف ، واختلفوا في معنى مكرهم .
فقال ابن عباس : قالوا قولا عظيماً . الحسن : مكروا في دين الله وأهله مكراً عظيماً .
الضحاك : افتروا على الله وكذّبوا رسله . وقيل : حرّشوا أسفلتهم على قتل نوح .
نوح : ( 23 ) وقالوا لا تذرن . . . . .
) وقالوا ( لهم ) لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودّاً ( قرأ أهل المدينة بضم الواو ، وغيرهم بفتحها وهما لغتان ) ولا سُواعاً ولا يغوث ويعوق ( قراءة العامة غير مجرى فيهما ، قال أبو
(10/45)
" صفحة رقم 46 "
حاتم : لأنهما على بناء فعل مضارع وهما مع ذلك أعجميان . وقرأ الأعمش وأشهب العقيلي : ولا يغوثاً ويعوقاً مصروفين ) ونسراً ( .
أخبرني الحسين قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف ، قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، قال : حدّثنا محمد بن بكار بن المرقان ، قال : حدّثنا أبو معشر عن يزيد بن زياد عن محمد بن كعب ، قال : كان لآدم ( عليه السلام ) خمس بنين : ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وكانوا عباداً فمات رجل منهم فحزنوا عليه حزناً شديداً ، فجاءهم الشيطان ، فقال : هل لكم أن أصور لكم في قبلتكم مثله إذا نظرتم إليه ذكرتموه ، قالوا : نكره أن يجعل في قبلتنا شيئاً نصلي إليه ، قال : فأجعله في مؤخّر المسجد . قالوا : نعم فصوره لهم من صفر ورصاص ، ثمّ مات آخر فصوّره لهم ، ثمّ مات آخر فصوّره لهم ، قال : فنقصت الأشياء كما ينقصون اليوم وأقاموا على ذلك ما شاء الله ، ثمّ تركوا عبادة الله سبحانه فأتاهم الشيطان فقال : ما لكم لا تعبدون شيئاً ، قالوا : من نعبد ؟ قال : هذه آلهتكم وآلهة آبائكم لا ترونها مصوّرة في مصلاّكم ، قال : فعبدوها من دون الله عزّوجل ، حتّى بعث الله عزّوجلّ نوحاً فدعاهم إلى عبادة الله سبحانه ، فقالوا : ) لا تذرن آلهتكم ( إلى قوله سبحانه وتعالى : ) ونسراً ( .
وروى سفيان عن موسى عن محمد بن قيس ، ) ولا تذرن وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً ( قال : كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح ( عليهما السلام ) ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم ، فلما ماتوا ، قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم : لو صوّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم ، فصوّروهم ، فلمّا ماتوا وجاء آخرون دبَّ إليهم إبليس فقال : إنّما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم .
قال ابن عباس : كان نوح يحرس جسد آدم على جبل بالهند ، يحول بين الكافرين وبين أن يطوفوا بقبره ، فقال لهم الشيطان : إنّ هؤلاء يفخرون عليكم فيزعمون أنّهم بنو آدم دونكم وإنّما هو جسد وأنا أصور لكم مثله تطوفون به ، فنحت خمسة أصنام وحملهم على عبادتها وهي ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، فلما كان أيام الغرق دفن الطوفان تلك الأوثان وطمّها التراب ، فلم تزل مدفونة حتّى أخرجها الشيطان لمشركي العرب ، فاتخذت قضاعة ودّاً فعبدوها بدومة الجندل ، ثمّ توارثه بنوه الأكابر فالأكابر حتّى صارت إلى كلب فجاء الإسلام وهو عندهم ، وأخذ أعلى وأنعم وهما من طي يغوث فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زماناً ، ثمّ إن بني ناجية أرادوا أن ينزعوه من أعلى وأنعم ، ففروا به إلى الحصين أخي بني الحرث بن كعب ، وأما يعوق فكان لكهلان ، ثمّ توارثه بنوه الأكبر فالأكبر ، حتّى صار إلى همدان ، وأما نسر فكان لخثعم يعبدونه ، وأما سواع فكان لآل ذي الكلاع يعبدونه .
(10/46)
" صفحة رقم 47 "
وقال عطاء وقتادة والثمالي والمسيب : صارت أوثان قوم نوح إلى العرب فكان ود لكلب بدومة الجندل ، وكان سواع برهاط لهذيل ، وكان يغوث لبني غطيف من مراد بالجوف ، وكان يعوق لهمدان ، وكان نسر لآل ذي الكلاع من حمير ، وأما اللات فلثقيف ، وأما العزى فلسليم وغطفان وخثعم ونصر وسعيد بن بكر ، وأما مناة فكانت لقديد ، وأما أساف ونائلة وهبل فلأهل مكّة ، وكان أساف حيال الحجر الأسود ، وكانت نائلة حيال الركن اليماني ، وكان هبل في جوف الكعبة ثمانية عشر ذراعاً .
وقال الواقدي : كان ودّ على صورة رجل ، وسواع على صورة امرأة ، ويغوث على صورة أسد ، ويعوق على صورة فرس ، ونسر على صورة نسر من الطير .
نوح : ( 24 ) وقد أضلوا كثيرا . . . . .
) وقد أضلّوا كثيراً ( أي ضل بعبادتها وبسببها كثيراً من الناس نظيره ) ربّ إنّهنّ أضللن كثيراً من الناس ( ) ولا تزد الظالمين إلاّ ضلالا }
نوح : ( 25 ) مما خطيئاتهم أغرقوا . . . . .
) مما خطيئاتهم ( أي من خطاياهم و ( ما ) صلة وقرأ أبو عمروا خطاياهم ) أغرقوا فأدخلوا ناراً فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً ( وقرأ أبو حيوة والأعمش : مما خطتهم على الواحد ، وروى أبو روق عن الضحاك في قوله سبحانه : ) أُغرقوا فأُدخلوا ناراً ( قال : يعني في الدنيا في حالة واحدة كانوا يغرقون من جانب ويحترقون في الماء من جانب .
أنشدنا أبو القيّم الحسن قال : أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رمح ، قال : أنشدنا أبو بكر بن الأنبازي :
الخلق مجتمع طوراً ومفترق
والحادثات فنون ذات أطوار
لا تعجبنّ لأضداد إن اجتمعت
فاللهُ يجمع بين الماء والنار
نوح : ( 26 ) وقال نوح رب . . . . .
) وقال نوح ( قال مقاتل : نوح بالسريانية الساكن ، وإنّما سمّي نوحاً ؛ لأنّ الأرض سكنت إليه ) ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً ( . أحداً يدور في الأرض فيذهب ويحيى ، وهو فيعال من الدوران مثل القيام أصله قيوام وديّوار .
وقال القتيبي : أصله من الدارأي نازل داراً
نوح : ( 27 ) إنك إن تذرهم . . . . .
) إنّك إن تذرهم يضلّوا عبادك ( قال ابن عباس : كان الرجل ينطلق بابنه إلى نوح فيقول : احذر هذا فإنّه كذّاب وإن أبي حذّرنيه فيموت الكبير وينشأ الصغير عليه .
) ولا يلدوا إلاّ فاجراً كفّاراً ( يعني : من سيكفر ويفجر . قال محمد بن كعب ومقاتل والربيع وعطية وابن زيد : إنّما قال نوح ( عليه السلام ) هذا حين أخرج الله تعالى كلّ مؤمن
(10/47)
" صفحة رقم 48 "
أصلابهم وأرحام نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة ، وقيل : سبعين سنة وأخبر الله سبحانه وتعالى نوحاً أنّهم لا يؤمنون ولا يلدون مؤمناً ، فحينئذ دعا عليهم نوح ، فأجاب الله سبحانه دعاءه فأهلكهم كلّهم ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب .
وقال أبو العالية والحسن : لو أهلك أطفالهم معهم لكان عذاباً من الله لهم ، ولكن الله تعالى أهلك ذريتهم وأطفالهم بغير عذاب ثم أهلكهم ، والدليل عليه قوله سبحانه : ) وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم ( وقد علمنا أن الأطفال لم يكذّبوا الرسل وإنّما وقع العذاب على المكذّبين .
نوح : ( 28 ) رب اغفر لي . . . . .
) ربّ أغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً ( أي داري ، وقال الضحاك : مسجدي ، وقيل : سفينتي ) وللمؤمنين والمؤمنات ( عامة وقال الكلبي : من أُمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ولا تزد الظالمين إلاّ تباراً ( هلاكاً ودماراً .
(10/48)
" صفحة رقم 49 "
( سورة الجن )
مكيّة وهي ثمان مائة وسبعون حرفاً ، وخمس وثمانون كلمة ، وثماني وعشرون آية
أخبرنا نافل بن راقم بن أحمد بن عبد الجبار البابي ، قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن محمد البلخي ، قال : حدّثنا عمرو بن محمد الكرباسي ، قال : حدّثنا أسباط بن اليسع البخاري ، قال : حدّثنا يحيى بن عبد الله السلمي ، قال : حدّثنا نوح بن أبي مريم عن عليّ بن زيد عن أُبيّ ابن كعب ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَنْ قرأ سورة الجنّ أُعطي بعدد كلّ جنّي وشيطان صدّق بمحمد وكذّب به عتق رقبة ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) قُلْ أُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُواْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْءَانَاً عَجَباً يَهْدِىإِلَى الرُّشْدِ فَئَامَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادوهُمْ رَهَقاً وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الاَْنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً وَأَنَّا لاَ نَدْرِىأَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى الاَْرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ اللَّهَ فِى الاَْرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىءَامَنَّا بِهِ فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَائِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ( 2
الجن : ( 1 ) قل أوحي إلي . . . . .
) قلّ أُوحي إليّ أنّهُ استمع نفرٌ من الجن ( وكانوا تسعة من جن نصيبين استمعوا قراءة النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وقد مرّ خبرهم
(10/49)
" صفحة رقم 50 "
قال أبو حمزة الثمالي : بلغنا أنهم من بني الشيطان وهم أكثر الجن عدداً وهم عامة جنود إبليس . ) فقالوا ( لما رجعوا إلى قومهم ) إنّا سمعنا قرآناً عجباً }
الجن : ( 2 - 3 ) يهدي إلى الرشد . . . . .
) يهدي إلى الرُشد فآمنّا به ولن نُشرك بربّنا أحداً وأنّه ( بالفتح قرأه أهل الشام والكوفة إلاّ حفصاً .
وفتح أبو جعفر ما كان مردوداً على الوحي ، وكسر ما كان حكاية عن الجن ، وجرها كلّها الباقون .
) تعالى جدّ ربّنا ( حدّثنا عبيد الله بن محمد بن محمد بن مهدي العدل ، قال : حدّثنا الأصم ، قال : حدّثنا أحمد بن حازم ، قال : حدّثنا عبد الله بن سفيان عن السدي في قوله : ) جدّ ربّنا ( قال : أمر ربنا .
وبإسناده عن سفيان عن سلمان التيمي عن الحسن ، قال : غنى ربنا ومنه قيل : للحظ جد ورجل مجدود . وقال ابن عباس : قدرة ربنا . مجاهد وعكرمة : جلاله . قتادة : عظمته . ابن أبي نجيح عن مجاهد : ذكره . ضحاك : فعله . القرظي : آلاؤه ونعمه على خلقه . الأخفش : علا ملك ربنا . ابن كيسان : علا ظفره على كل كافر بالحجة . والجدّ في اللغة : العظمة ، ومنه قول أنس : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ في أعيننا أي عظم .
وقال ابن عباس : لو علمت أن في الإنس جدّاً ما قالت تعالى جدّ ربّنا ، وقال أبو جعفر الباقر وابنه جعفر والربيع بن أنس : ليس لله جد وإنّما وليه الجدّ بالجهالة فلم توخذوا به .
) ما اتخذ صاحبة ولا ولداً ( وقرأ عكرمة : ) تعالى جدّ ربّنا ( بكسر الجيم على ضد الهزل ، وقرأ ابن السميع : ( جدي ربّنا ) وهو الجدوى والمنفعة .
الجن : ( 4 ) وأنه كان يقول . . . . .
) وأنّه كان يقول سفيهنا ( جاهلنا ، وقال مجاهد وقتادة : هو إبليس لعنه الله ) على الله شططاً ( عدواناً وقولا عظيماً
الجن : ( 5 ) وأنا ظننا أن . . . . .
) وإنّا ظننا ( حسبنا ) أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً ( أي كنّا نظنّهم صادقين في قولهم : إنَّ لله صاحبة وولداً حتّى سمعنا القرآن
الجن : ( 6 ) وأنه كان رجال . . . . .
) وأنّه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن ( وذلك قول الرجل من العرب إذا أمسى بالأرض القفر : أعوذ بسيد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه ، فيبيت في أمن وجوار حتّى يصبح .
قال مقاتل : أوّل مَنْ تعوّذ بالجن قوم من أهل اليمن ، ثمّ بنو حنيفة ثمّ فشا ذلك في العرب .
أخبرني ابن فنجويه ، قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف ، قال : حدّثنا أبو القيّم عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي ، قال : حدّثنا موسى بن سعيد بن النعمان بطرطوس ، قال : حدّثنا فروة بن معراء الكندي ، قال : حدّثنا القيّم بن مالك عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبيه عن كردم بن أبي السائب الأنصاري ، قال : خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أوّل ما ذكر
(10/50)
" صفحة رقم 51 "
رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بمكّة فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتصف النهار جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم فوثب الراعي ، فقال : يا عامر الوادي جارك ، فنادى مناد لا نراه يقول : يا سرحان أرسله ، فأتانا الحمل يشتدّ حتّى دخل الغنم ، ولم يصبه كدمة ، قال ، وأنزل الله سبحانه على رسوله بمكة : ) وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن ( ) فزادوهم رهقاً ( يعني : ( إن الإنس زادوا الجن طُغياناً باستعاذتهم ) فزادتهم رهقاً .
قال ابن عباس : أثماً . معمر عن قتادة : خطيئة . سعيد عنه : جرأة . مجاهد : طغياناً . ربيع : فرقاً . ابن زيد : خوفاً . إبراهيم : عظمة ، وذلك أنّهم قالوا : ( سدنا ) الجن والإنس . مقاتل : غيّاً . الحسن : شرّاً . ثعلب : خساراً . والرهق في كلام العرب : الإثمّ وغشيان المحارم ، ورجل مرهق : إذا كان كذلك . وقال الأعشى :
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها
هل يشتفي وامق ما لم يصب رهقاً
الجن : ( 7 ) وأنهم ظنوا كما . . . . .
) وأنّهم ظنّوا كما ظننتم ( يا معشر الكفّار من الإنس ) أن لن يبعث الله أحداً ( بعد موته
الجن : ( 8 ) وأنا لمسنا السماء . . . . .
) وأنّا لمسنا السماء فوجدناها مُلئت حرساً شديداً ( من الملائكة ) وشُهباً ( من النجوم
الجن : ( 9 ) وأنا كنا نقعد . . . . .
) وأنّا كنّا نقعد منها ( من السماء ) مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً (
الجن : ( 10 ) وأنا لا ندري . . . . .
) وأنا لا ندري أشرّ أُريد بمن في الأرض ( برمي الشهب ) أم أراد بهم ربّهم رشداً (
الجن : ( 11 ) وأنا منا الصالحون . . . . .
) وأنا منّا الصالحون ومنّا دون ذلك كنّا طرائق دداً ( أهواء مختلفة وفرقاً شتى ، منّا المؤمن ومنّا الكافر .
قال سعيد بن جبير : ألواناً شتى . الحسن : قدداً مختلفين ، الأخفش : ضروباً ، أبو عبيدة : أصنافاً ، المؤرّخ : أجناساً ، النضر : مللا ، ابن كيسان : شيعاً وفرقاً لكلّ فرقة هوى كأهواء الناس ، وقال الفراء : تقول العرب : هؤلاء طريقة قومهم أي ساداتهم ورؤساؤهم ، المسيّب : كنّا مسلمين ويهوداً ونصارى .
أخبرني ابن فنجويه ، قال : حدّثنا محمد بن عمرو بن الخطاب ، قال : حدّثنا الحسن بن محمد بن نحتويه ، قال : حدّثنا أبو الحسن محمد بن إبراهيم الصوري بأنطاكية ، قال : حدّثنا محمد بن المتوكل بن أبي السراي ، قال : حدّثنا المطلب بن زياد ، قال : سمعت السدي يقول في قول الله سبحانه : ) كنّا طرائق قدداً ( ، قال : الجن مثلكم فيهم قدرية ومرجئة ورافضة وشيعة .
واحد القدد : قدة ، وهي الفرقة وأصلها من القدّ وهو القطع . قال لبيد يرثي أخاه أربد :
لم تبلغ العين كل نهمتها
ليلة تمشي الجياد كالقدد
(10/51)
" صفحة رقم 52 "
وقال آخر :
ولقد قلت وزيد جاسر
يوم ولّت خيل عمرو قددا
الجن : ( 12 ) وأنا ظننا أن . . . . .
) وإّنا ظننا ( علمنا ) أن لن نعجز الله في الأرض ( إن أراد بنا أمراً ) ولن نعجزه هرباً ( إن طلبنا
الجن : ( 13 ) وأنا لما سمعنا . . . . .
) وأنّا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يُؤمن بربّه فلا يخاف ( قرأه العامّة بالألف ، وقرأ الأعمش فلا يخفف بالجزم ) بخساً ( نقصاً ) ولا رهقاً ( ظلماً ، يقول : لا يخاف أن ينقص من حسناته ، ولا أن يزداد في سيّئاته ، ولا أن يؤخذ بذنب غيره ، ولا أن يعاقب بغير جرم ، وقيل : رهقاً : مكروهاً يغشاه ، وقيل : ذهاب كله نظيره قوله سبحانه وتعالى : ) فلا يخاف ظلما ولا هضما 2 )
الجن : ( 14 ) وأنا منا المسلمون . . . . .
) وأنّا منّا المسلمون ومنّا القاسطون ( الجائرون العادلون عن الحق . يقال : أقسط الرجل فهو مقسط إذا عدل ، قال الله سبحانه : ) وأقسطوا إنّ الله يحب المقسطين ( ، وقسط يقسط قسوطاً إذا جاد . قال الشاعر :
قوم هم قتلوا ابن هند عنوة
عمراً وهم قسطوا على النعمان
وأنشد ابن زيد :
قسطنا على الأملاك في عهد تبّع
ومن قبل ما أدرى النفوس عقابها
ونظيره في الكلام المترب : الفقير ، والمترب : الغني .
) فمن أسلم فأولئك تحرّوا رشداً ( أي قصدوا وأعدّوا وتوخّوا ومنه بتحرّى القبلة لمن عميت عليه . وقال امرؤ القيس :
ديمة هطلاء فيها وطف
طبق الأرض تحرّى وتدر
الجن : ( 15 ) وأما القاسطون فكانوا . . . . .
) وأمّا القاسطون فكانوا لجهنم حطباً ( .
) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ لاََسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللَّهِ أَحَداً وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّى وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّى لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً قُلْ إِنِّى
(10/52)
" صفحة رقم 53 "
لَن يُجِيرَنِى مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً قُلْ إِنْ أَدْرِىأَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّىأَمَداً عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَىْءٍ عَدَداً ( 2
الجن : ( 16 ) وأن لو استقاموا . . . . .
) وَألَّوِ استقاموا ( قراءة العامة لو : بكسر الواو . وقرأ الأعمش : لو استقاموا بضم الواو .
) على الطريقة ( اختلف المفسرون في تأويلها ، فقال قوم : معناها وأن لو استقاموا على طريقة الحقّ والإيمان والهدى وكانوا مؤمنين مطيعين . ) لأسقيناهم ماءً غدقاً ( ، قال عمر ح في هذه الآية : أينما كان الماء كان المال ، وأينما كان المال كانت الفتنة ، يعني أعطيناهم مالا كثيراً وعيشاً رغيداً ووسعنا عليهم في الرزق وبسطنا لهم في الدنيا
الجن : ( 17 ) لنفتنهم فيه ومن . . . . .
) لنفتنهم فيه ( لنختبرهم كيف شكرهم فيما خوّلوا وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء بن رياح والضحاك وقتادة وعبيد بن عمير وعطية ومقاتل والحسن ، قال : كان والله أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سامعين لله مطيعين فتحت عليهم كنوز كسرى وقيصر ، ففتنوا بها فوثبوا بإمامهم فقتلوه يعني عثمان بن عفان .
ودليل هذا التأويل قوله سبحانه وتعالى : ) ولو أنّهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أُنزل إليهم من ربّهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ( وقوله سبحانه : ) ولو أن أهل القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ( وقوله تعالى : ) مَنْ عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيّبة ( وقوله تعالى : ) فقلت استغفروا ربكم إنّه كان غفّاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ( الآيات .
وقال آخرون : معناها وأن لو استقاموا على طريقة الكفر والضلالة وكانوا كفّاراً كلهم لأعطيناهم مالا كثيراً ولوسّعنا عليهم لنفتنهم فيه عقوبة لهم واستدراجاً ، حتّى يفتنوا فيعذبهم . وهذا قول الربيع بن أنس وزيد بن أسلم والكلبي والثمالي ويمان بن رباب وابن كيسان وابن مجلد ، ودليل هذا التأويل قوله سبحانه : ) فلمّا نسوا ما ذُكّروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء (
(10/53)
" صفحة رقم 54 "
وقوله سبحانه وتعالى : ) ولولا أن يكون الناس أُمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمان ( . وقوله سبحانه : ) ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ( .
وقوله سبحانه وتعالى : ) كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ( ) ومَنْ يعرض عن ذكر ربّه يُسلكه ( قرأ أهل الكوفة ويعقوب وأيوب بالياء وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد . وقرأ مسلم بن جندب : نُسلكه بضم النون وكسر اللام . وقرأ الآخرون بفتح النون وضم اللام وهما لغتان سلك واسلك بمعنى واحد أي يدخله .
) عذاباً صعداً ( قال ابن عباس : شاقاً . السدي : مشقة . قتادة : لا راحة فيه . مقاتل : لا فرج فيه . الحسن : لا يزداد إلاّ شدّة .
ابن زيد : متعباً . والأصل فيه أن الصعود يشقّ على الإنسان ، ومنه قول عمر : ما تصعدني شيء ما تصعد في خطبة النكاح ، أي ما شقّ عليّ . وقال عكرمة : هو جبل في النار . وقال الكلبي : يكلّف الوليد بن المغيرة أن يصعد في النار جبلا من صخرة ملساء حتّى يبلغ أعلاها يجذب من أمامه بالسلاسل ، ويضرب بمقامع الحديد حتّى يبلغ أعلاها ولا يبلغه في أربعين سنة ، فإذا بلغ أعلاها أجر إلى أسفلها ، ثمّ يكلف أيضاً صعودها فذلك دأبه أبداً ، وهو قوله : ) سأُرهقه صعوداً ( .
الجن : ( 18 ) وأن المساجد لله . . . . .
) وأنّ المساجد لله ( قال سعيد بن جبير : قالت الجن لنبي الله كيف لنا أن نأتي المسجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك ؟ فنزلت : وأن المساجد لله ) فلا تدعوا مع الله أحداً ( . قال قتادة : كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله ، فأمر الله سبحانه نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين أن يخلصوا له الدعوة إذا دخلوا المساجد ، وأراد بها المساجد كلّها .
وقال الحسن : أراد بها البقاع كلها وذلك ، أن الأرض جعلت للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) مسجداً ، وكان المسلمون بعد نزول هذه الآية إذا دخل أحدهم المسجد قال : أشهد أن لا إله إلاّ الله والسلام على رسول الله .
وقال سعيد بن جبير وطلق بن حبيب : أراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها العبد وهي سبعة : القدمان والركبتان واليدان والوجه . وسمعت محمد بن الحسن السلمي يقول : سمعت منصور بن عبد الله يقول : سمعت أبو القيّم البزاز يقول : قال ابن عطاء : مساجدك أعضاؤك التي أمرت أن تسجد عليها لا تذللها لغير خالقها .
(10/54)
" صفحة رقم 55 "
وأخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن زكريا غير مرة ، قال : أخبرنا ابن الشرقي ، قال : حدّثنا حمدان السلمي ، قال : حدّثنا موسى بن إسماعيل ومعلّى بن أسيد ومسلم بن إبراهيم ، قالوا : حدّثنا وهيب ، قال : حدّثنا ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أُمرتُ أن أسجد على سبعة : أعظم الجبهة وأشار بيده إلى أنفه واليدين والركبتين وأطراف القدمين ، وأن لا أكف شعراً ولا ثوباً ) .
وأخبرنا أبو بكر الجوزقي ، قال : أخبرنا عمرو بن عبد الله البصري ، قال : حدّثنا أحمد بن سلمة ، قال : حدّثنا قتيبة بن سعيد ، قال : حدّثنا بكر بن مضر عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن عامر بن سعد عن العباس بن عبد المطلب ، أنه سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إذا سجد العبد سجد معه سبعة ) فإن جعلت المساجد المواضع فواحدها مسجد بكسر الجيم ، وإن جعلت الأعضاء فواحدها مسجَد بفتح الجيم . وقال الحسن : ) وأن المساجد لله ( يعني الصلوات فلا تدعوا مع الله أحداً أي أفردوا له التوحيد وأخلصوا له العبادة . وقيل : معناه فردّوها لذكر الله وعبادته فلا تتخذوها متجراً ولا مجلساً ولا طرقاً ولا تجعلوا فيها لغير الله نصيباً .
الجن : ( 19 ) وأنه لما قام . . . . .
) وأَنّه لمّا قام عبد الله ( يعني : محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) يدعوه ( يقول : لا إله إلاّ الله ويدعوا إليه ويقرأ القرآن ) كادوا ( يعني : الجن ) يكونون عليه لبداً ( أي يركبون بعضهم بعضاً ، ويزدحمون ويسقطون حرصاً منهم على استماع القرآن . قاله الضحاك ورواه عطية عن ابن عباس .
سعيد بن جبير عنه : هذا من قول النفر من الجن لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) له واهتمامهم به في الركوع والسجود واقتدائهم به في الصلاة .
وقال الحسن وقتادة وابن زيد : يعني لما قام عبد الله بالدعوة تلبّدت الجن والإنس ، وتظاهروا عليه ليبطلوا الحقّ الذي جاءهم به ، ويطفئوا نور الله فأبى الله إلاّ أن يتم هذا الأمر وينصره ويظهره على من ناواه .
وأصل اللبد : الجماعات بعضها فوق بعض ، ومنه قيل للجراد الكبير : لبدٌ ، وتلبد الشعر إذا تراكم . ومنه سمي اللبد لبداً ، كما ويقال للشعر على الأسد : لبدة وجمعها لبدٌ ، قال زهير :
لدى أسد شاك السلاح خبان
له لبد أظفاره لم تُقلّم
وفيه أربع لغات : لِبَدٌ بكسر اللام وفتح الباء و ( هي ) قراءة العامة واختيار أبي عبيدة وأبي
(10/55)
" صفحة رقم 56 "
حاتم واحدتها لِبدة بكسر اللام ، ولُبد بضم اللام وفتح الباء وهي قراءة مجاهد وابن محيص وواحدتها لبدة بضم اللام ، ولُبُد بضم اللام والباء وهي قراءة أبي حيوة واحدتها لبيد ، ولُبّد بضم اللام وتشديد الباء وهي قراءة الحسن وأبي جعفر وواحدها لابد مثل راكع رُكع وساجد وسُجد .
الجن : ( 20 ) قل إنما أدعو . . . . .
) قل ( يعني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبه قرأ أكثر القرّاء ، وقرأ أبو جعفر والأعمش وعاصم وحمزة ) قل ( على الأمر ) إنّما أدعوا ربّي ولا أُشرك به أحداً (
الجن : ( 21 - 22 ) قل إني لا . . . . .
^) قل إنّي لا أملك لكم ضرّاً ولا رشداً قل إنّي لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحداً ( أي ملجأ أميل إليه وقال قتادة : نصراً . الكلبي : مدخلا في الأرض مثل السرب ، السدي : جرزاً .
قال مقاتل : قال كفار قريش للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنّك أتيت بأمر عظيم لم يسمع بمثله ، وقد عاديت الناس كلهم فارجع عن هذا الأمر ، فنحن نجزيك ، فأنزل الله سبحانه هذه الآيات . وفي قراءة أُبي عنّا ( ولا رشداً ) .
الجن : ( 23 ) إلا بلاغا من . . . . .
) إلاّ بلاغاً من الله ورسالاته ( فإن فيه الحوار والأمن والنجاة قاله الحسن .
وقال قتادة : إلاّ بلاغاً من الله فذلك الذي أملكه بعون الله وتوفيقه ، فإمّا الكفر والإيمان فلا أملكهما .
وقيل : لا أملك لكم ضراً ولا رشداً لكن أبلغ بلاغاً من الله ، إنّما أنا مرسل ومبلّغ لا أملك إلاّ ما ملكت .
) ومَنْ يعصِ الله ورسوله فإنّ له نار جهنم خالدين فيها أبداً (
الجن : ( 24 ) حتى إذا رأوا . . . . .
) حتّى إذا رأوا ما يوعدون ( يعني العذاب .
) فسيعلمون مَنْ أضعف ناصراً وأقلّ عدداً (
الجن : ( 25 ) قل إن أدري . . . . .
) قل إن أدري أقريب ما تُوعدون ( يعني العذاب وقيل : القيامة ) أم يجعل له ربّي أمداً ( أجلا وغاية تطول مدتها
الجن : ( 26 ) عالم الغيب فلا . . . . .
) عالم الغيب ( رفع على نعت قوله ربّي ، وقيل : هو عالم الغيب . ) فلا يُظهر ( يُطلع ) على غيبه أحداً (
الجن : ( 27 ) إلا من ارتضى . . . . .
) إلاّ مَنْ ارتضى ( اصطفى ) من رسول ( فإنه يصطفيه ويُطلعه على ما يشاء من الغيب . ) فإنّه يُسلك من بين يديه ومن خلفه ( ذكر بعض الجهات دلالة على جميعها ) رصداً ( حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين واستماع الجن ليلا يسترقوه فيلقوه إلى كهنتهم .
قال سعيد بن المسيب : ) رصداً ( أربعة من الملائكة حفظة . قال مقاتل وغيره : كان الله إذا بعث رسولا أتاه إبليس في صورة جبرائيل يخبره ، فبعث الله من بين يديه ومن خلفه رصداً من الملائكة يحرسونه ويطردون الشيطان ، فإذا جاءه شيطان في صورة ملك ، قالوا : هذا شيطان فاحذر ، وإذا جاءه ملك ، قالوا : هذا رسول ربّك .
(10/56)
" صفحة رقم 57 "
الجن : ( 28 ) ليعلم أن قد . . . . .
) ليعلم ( قرأ ابن عباس ويعقوب بضم الياء ، أي ليعلم الناس أن الرسل قد بلّغوا ، وقرأ الآخرون بفتح الياء أي ليعلم الرسول أن الملائكة ) أن قد أبلغوا رسالات ربّهم وأحاط بما لديهم ( عندهم ) وأحصى كلّ شيء عدداً ( فلم يخفَ عليه شيئاً ونصب عدداً على الحال وإن شئت على المصدر أي عد عدداً .
(10/57)
" صفحة رقم 58 "
( سورة المزمل )
هي مكيّة إلاّ قوله سبحانه : ) إن ربّك يعلم ( إلى آخر السورة ، وهي ثمانمائة وثمانية وثلاثون حرفاً ، ومائتان وخمس وثمانون كلمة ، وعشرون آية في الكوفي
أخبرني أبو الحسن الماوردي ، قال : حدّثنا أبو محمد بن أبي حامد ، قال : حدّثنا أبو جعفر محمد بن الحسن الأصفهاني ، قال : حدّثنا المؤمل بن إسماعيل ، قال : حدّثنا سفيان الثوري ، قال : حدّثنا أسلم المعري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن ابزي عن أبيه عن أُبي بن كعب ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَنْ قرأ سورة المزمّل رُفع عنه العسر في الدنيا والآخرة ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
( ) ياأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً إِنَّ نَاشِئَةَ الَّيْلِ هِىَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً ( 2
المزمل : ( 1 ) يا أيها المزمل
) يا أيُّها المزمّل ( المتلفف بثوبه ، وأصله المتزمل فأدغم التاء في الزاء ، ومثله يقال : تزمل وتدثر بثوبه إذا تغطى به ، وزمل غيره إذا غطّاه .
قال امرؤ القيس :
كبير أُناس في بجاد مزمّل
قال أبو عبد الله الجدلي : سألت عائشة عن قوله سبحانه : ) يا أيُّها المزمّل ( ما كان تزميله ذلك ؟ قالت : كان مرطاً طوله أربع عشر ذراعاً نصفه عليَّ وأنا نائمة ونصفه على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يصلّي .
قال أبو عبد الله : فسألتها ما كان ؟
قالت : والله ما كان جزّاً ولا قزّاً ولا مرعزي ولا إبريسم ولا صوفاً كان سداه شعراً ولحمته وبراً
(10/58)
" صفحة رقم 59 "
وقال السدي : أراد يا أيها النائم قم فصلِّ . وقال عكرمة : يعني : يا أيُّها الذي زُمّل هذا الأمر أي حُمّله ، وكان يقرأ المزمّل بتخفيف الزاي وفتح الميم وتشديدها . وقالت الحكماء : إنّما خاطبه بالمزمل والمدثر في أوّل الأمر ؛ لأنّه لم يكن أدّى بعد شيئاً من تبليغ الرسالة .
المزمل : ( 2 ) قم الليل إلا . . . . .
) قم الليل ( قراءة العامة بكسر الميم ، وقرأ أبو السماك العدوي : بضمه لضمة القاف ) إلاّ قليلا ( ثمّ بين فقال :
المزمل : ( 3 ) نصفه أو انقص . . . . .
) نصفه أو انقص منه قليلا ( إلى الثلث
المزمل : ( 4 ) أو زد عليه . . . . .
) أو زد عليه ( على النصف إلى الثلثين ، خيّره بين هذه المنازل ، فلما نزلت هذه الآية صلّى النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) أصحابه واشتد ذلك عليهم وكان الرجل لا يدري متى ثلث الليل ومتى النصف ومتى الثلثان فكان يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ حتى شقّ عليهم وانتفخت أقدامهم وانتُقعت ألوانهم ، فرحمهم الله سبحانه وخفف عنهم ونسخها بقوله : ) علم أن سيكون منكم مرضى ( الآية . وكان بين أوّل السورة وآخرها سنة .
وقال سعيد بن جبير : لمّا نزل قوله : ) يا أيُّها المزمّل ( مكث النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله تعالى ، وكانت طائفة من أصحابه يقومون معه ، فأنزل الله سبحانه بعد عشر سنين ) إنّ ربّك يعلم أنّك تقوم أدنى ( الآية . فخفف عنهم بعد عشر سنين .
وقال مقاتل وابن كيسان : كان هذا قبل أن يفرض الصلوات الخمس ، ثمّ نسخ ذلك بالصلوات الخمس . وقال ابن عباس : لما نزل أول المزمّل كانوا يقومون نحو من قيامهم في شهر رمضان ، وكان بين أولها وآخرها سنة . وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة ، قالت : كنت أجعل لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حصيراً يصلّي عليه من الليل ، فتسامع الناس به ، فاجتمعوا فلمّا تكثر جماعتهم ، كره ذلك وخشى أن يكتب عليهم قيام الليل ، فدخل البيت كالمغضب ، فجعلوا يتنحنحون ويشتغلون حتّى خرج إليهم ، فقال : ( يا أيُّها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون ، فإنّ الله لا يملّ من الثواب حتّى تملّوا من العمل وإنّ خير العمل أدومه وان قلّ ) فنزلت عليه : ) يا أيُّها المزمّل قم الليل ( فكُتبت عليهم وانزلت بمنزلة الفريضة حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل فيتعلق به ، فمكثوا ثمانية أشهر ، فلمّا رأى الله ما يكلّفون ويبتغون به وجه الله ورضاه رحمهم فوضع ذلك عنهم فقال : ) إن ربّك يعلم أنّك تقومُ أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه ( الآية . فردّهم إلى الفريضة ووضع عنهم قيام الليل إلاّ ما تطوعوا به .
وقال الحسن : في هذه الآية الحمد لله تطوع بعد فريضة .
) ورتّل القرآن ترتيلا ( . قال الحسن : اقرأه قراءة ، بيّنه تبياناً ، وعنه أيضاً : اقرأه على
(10/59)
" صفحة رقم 60 "
هينتك ثلاث آيات وأربعاً وخمساً . قتادة : تثبت فيه تثبيتاً . ابن كيسان : تفهّمه تالياً له . وقيل : فصّله تفصيلا ولا تعجل في قراءته ، وهو من قول العرب : ثغّر رتّل ورتل إذا كان مفلجاً . أبو بكر ابن طاهر : دبّر في لطائف خطابه ، وطالب نفسك بالقيام بأحكامه ، وقلبك بفهم معانيه ، وسرك بالإقبال عليه .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن مالك ، قال : حدّثنا عبد الله ، قال : حدثني أبي ، قال : حدّثنا عبد الرحمن عن سفيان عن عاصم عن زر عن عبد الله بن عمرو عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يقال لصاحب القرآن : اقرأ وارقَ ورتل كما ترتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية تقرأها ) .
المزمل : ( 5 ) إنا سنلقي عليك . . . . .
) إنّا سنُلقي عليك قولا ثقيلا ( قال الحسن : إنّ الرجل ليهدُّ السورة ولكن العمل به ثقيل . وقال قتادة : ثقيل والله فرائضه وحدوده . ابن عباس : شديداً . أبو العالية : ثقيلا بالوعد والوعيد والحلال والحرام . محمد بن كعب : ثقيلا على المنافقين . الفرّاء : ثقيلا ليس بالخفيف السفساف ؛ لأنه كلام ربّنا . عبد العزيز بن يحيى : مهيباً ، ومنه يقال للرجل العاقل : هو رزين راجح .
وسمعت الأُستاذ أبا القيّم بن جندب يقول : سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن مضارب بن إبراهيم يقول : سمعت الحسين بن الفضل وسئل عن هذه الآية ، فقال : معناها أنا سنلقي عليك قولا خفيفاً على اللسان ثقيلا في الميزان . وقال أبو بكر بن طاهر : يعني قولا لا يحمله إلاّ قلب مؤيد بالتوفيق ونفس مزيّنة بالتوحيد . وقال القيّم : في هذه الآية سماع العلم من العالم مرّ واستعماله ثقيل لكنه يأتي بالفرح إذا استعمله العبد على جد السنّة وتمام الأدب . وقيل : عنى بذلك أن القرآن عليه ثقيل محمله . قال ابن زيد : هو والله ثقيل مبارك كما ثقل في الدنيا يثقل في الموازين يوم القيامة .
أخبرنا أبو الحسين ابن أبي الفضل القهندري ، قال : أخبرنا مكي قال : حدّثنا محمد بن يحيى فقال : وفيما قرأت على عبد الله عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن الحرث بن هشام سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحي ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّ عليّ فينفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحياناً يتمثل الملك رجلا فأعرف ما يقول ) .
قالت عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فينفصم عنه وان جبينه ليرفض عرقاً
(10/60)
" صفحة رقم 61 "
وأخبرنا عبد الله بن حامد ، قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى العبدي ، قال : حدّثنا أحمد بن نجدة ، قال : حدّثنا يحيى الحماني ، قال : حدّثنا ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، قالت : إن كان ليوحى إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو على راحلته فيضرب بجرافها .
المزمل : ( 6 ) إن ناشئة الليل . . . . .
) إنّ ناشئة الليل ( أي ساعاته كلّها ، وكل ساعة منه فهي ناشئة سميت بذلك ؛ لأنها تُنشأ ، ومنه نشأت السحابة إذا بدت انشاها الله وجمعها ناشيات .
أنبأني عقيل ، قال : أخبرنا المعافى ، قال : أخبرنا ابن جرير ، قال : حدثني يعقوب ، قال : حدّثنا ابن عليّة قال : أخبرنا حاتم بن صفيرة ، قال : قلت لعبد بن أبي مليكة : ألا تحدثني أيّ الليل ناشئة ؟ فقال : على الثبت سقطت سألت عنها ابن عباس فزعم أنّ الليل كلّه ناشئة . وسألت ابن الزبير عنها فأخبرني مثل ذلك . وقال سعيد بن جبير وابن زيد : أي ساعة قام من الليل فقد نشأ ، وهو بلسان الحبش نشأ إذا قام . وقال عكرمة : ما قمت من أوّل الليل فهو ناشئة .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن ماجة ، قال : حدّثنا ابن أيوب ، قال : حدّثنا ابن أبي زياد ، قال : حدّثنا سيار ، قال : حدّثنا جعفر عن الجرير عن بعض أشياخه عن عليّ بن الحسين أنّه كان يصلّي بين المغرب والعشاء ويقول : أما سمعتم قول الله سبحانه : ) إنّ ناشئة الليل ( هذا ناشئة الليل .
وقال أبو مجلد وقتادة : ما كان بعد العشاء فهو ناشئة . وقال عبيد بن عمير : قلت لعائشة : رجل قام من أوّل الليل أيقال له قام ناشئة ؟ قالت : لا ، إنّما الناشئة القيام بعد النوم . وقال يمان وابن كيسان : هي القيام من آخر الليل .
) هي أشد وطئاً ( قرأ أبو عمرو وابن عامر وابن محيص : وطأ بكسر الواو ممدوداً ، واختاره أبو عبيد على معنى المواطاة والموافقة ، وهو أن يواطيء قلبه وسمعه وبصره لسانه . وقرأ الباقون بفتح الواو مقصوراً ، أي فراغاً للقلب . قال ابن عباس : كانت صلواتهم أوّل الليل هي أشدّ وطئاً ، يقول : هو أجدر أن تحصوا ما فرض الله عليكم من القيام ، وذلك أنّ الإنسان إذا نام لم يدرِ متى يستيقظ .
وقال قتادة : أثبت في الخير أحفظ للقراة . الفرّاء : أثبت قياماً . القرطبي : أشدّ على المصلّي من صلاة النهار ، دليله قول النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللّهمّ أشدد وطأتك على مضر ) .
ابن زيد : أفرغ له قلباً من النهار ، لأنّه لا تعرض له حوائج ولا شيء . الحسن ، أشدّ وطأً في الخير وأمنع من الشيطان .
) وأقوم قيلا ( وأصوب قراءة ، وعبادة الليل أشدّ نشاطاً وأتم إخلاصاً وأكثر بركة .
(10/61)
" صفحة رقم 62 "
2 ( ) إِنَّ لَكَ فِى النَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً وَذَرْنِى وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِى النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً يَوْمَ تَرْجُفُ الاَْرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَلَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءَاخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِى الاَْرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءَاخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلَواةَ وَءَاتُواْ الزَّكَواةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُواْ لاَِنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 2
المزمل : ( 7 ) إن لك في . . . . .
) إنّ لك في النهار سبحاً طويلا ( قراءة العامة : بالحاء غير معجمة ، أي فراغاً وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك ، وأصل السبح سرعة الذهاب . ومنه السباحة في الماء ، وفرس سابح شديد الجري . قال الشاعر :
أباحوا لكم شرق البلاد وغربها
ففيها لكم يا صاح سبح من السبح
وقرأ يحيى بن يعمر : سبخاً بالخاء المعجمة ، أراد خفة وسعة واستراحة ، ومنه قول النبيّ لعائشة وقد دعت على سارق سرقها : ( لا تسبخي عنه بدعائك عليه ) أي لا تخففي ، والتسبيخ توسيع القطن والصوف وتنفيشها ، يقال للمرأة : سبّخي قطنك ، ويقال لقطع القطن إذا ندف : سابخ .
قال الأخطل يصف القناص والكلاب :
فأرسلوهن يذرين التراب كما
يذري سبائخ قطن ندف أوتار
قال تغلب : السبحُ التردد والاضطراب والسبخ السكون ومنه قول النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( الحمى من قيح جهنهم فسبّخوها بالماء ) أي سكنوها .
المزمل : ( 8 ) واذكر اسم ربك . . . . .
) واذكر اسم ربّك ( بالتوحيد والتعظيم ، وقال سهل اقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم في ابتداء صلواتك توصلها بركة قرابها إلى ربّك وتقطعك عن كل ما سواه .
) وتبتل إليه تبتيلا ( قال ابن عباس وأكثر الناس : أخلص إليه إخلاصاً . الحسن : اجتهد . ابن زيد : تفرّغ لعبادته . شفيق : توكل عليه توكلا
(10/62)
" صفحة رقم 63 "
وسمعت محمد بن الحسن السليمي ، يقول : سمعت منصور بن عبد الله ، يقول : سمعت أبا القيّم البزاز يقول : قال ابن عطاء : انقطع إليه انقطاعاً ، وهو الأصل في هذا الباب ، يقال : بتلت الشيء أي وقطعته ، وصدقة بتة بتلة أي بائنة مقطوعة من صاحبها لا سبيل له عليها ، ودار تبتيل أي منقطعة عن الدور ، قال امرؤ القيس :
تضيء الظلام بالعشاء كأنّها
منارة ممسى راهب متبتلّ
ونهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن التبتّل ومنه قيل لمريم العذراء البتول .
وقال أبو القيّم : اتصل به اتصالا ما رجع من رجع إلاّ من الطريق ، ما وصل إليه أحد فرجع عنه . محمد بن عليّ : ارفع اليدين في الصلاة . زيد بن أسلم : التبتل : رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله .
المزمل : ( 9 ) رب المشرق والمغرب . . . . .
) ربّ المشرق والمغرب ( قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو وأيوب وحفص برفع الباء على الإبتداء . وقيل : على إضمار هو ، وقرأ الباقون بالخفض على نعت الربّ في قوله سبحانه : ) واذكر اسم ربّك ( الآية .
) لا إله إلاّ هو فاتّخذه وكيلا ( قيّماً بأمورك ففوّضها إليه
المزمل : ( 10 ) واصبر على ما . . . . .
) واصبر على ما يقولون واهجرهم هجراً جميلا ( نسختها آية القتال .
أخبرني الحسن قال : حدّثنا السني ، قال : حدّثنا حاتم بن شعيب ، قال : حدّثنا سريح بن يونس ، قال : حدّثنا سعيد بن محمد الورّاق عن الأحوص بن حكيم عن أبيه عن أبي الزاهرية أنّ أبا الدرداء قال : إنا لنكشّر في وجوه أقوام ونضحك إليهم ، وإنّ قلوبنا لتقليهم أو لتلعنهم .
المزمل : ( 11 ) وذرني والمكذبين أولي . . . . .
) وذرني والمكذّبين أولي النعمة ومهّلهم قليلا ( نزلت في صناديد قريش المكذبين المشتهرين . وقال مقاتل بن حيان : نزلت في المطعمين ببدر وهم عشرة ذكرناهم في الأنفال والنعمة التنعم والنعمة المرؤة والمنّة أيضاً ، والنعمة بضم النون : الميسرة يقال : نعم ونعمة عيّن ونعمى عين .
المزمل : ( 12 ) إن لدينا أنكالا . . . . .
) إنّ لدينا أنكالا ( عندنا في الآخرة قيوداً عظاماً لا تفكّ أبداً واحدها نكل ، قال الشعبي : ترون أن الله يجعل الأنكال في أرجل أهل النار لأنّه خشي أن يفروا ؟ ولكن إذا أراد أن يرتفعوا استفلت بهم . ) وجحيماً }
المزمل : ( 13 ) وطعاما ذا غصة . . . . .
) وطعاماً ذا غُصّة ( غير سائغة تأخذ بالحلق لا هو نازل ولا هو خارج وهو الغِسْلين والزقوم والضريع . ) وعذاباً أليماً ( .
أخبرني عقيل : أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير ، قال : حدّثنا أبو كريب ، قال : حدّثنا
(10/63)
" صفحة رقم 64 "
وكيع عن حمزة الزيّات عن حمران بن أعين أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ : ) أنّ لدينا أنكالا وجحيماً وطعاماً ذا غصة ( فصعق .
وأخبرني ابن فنجويه ، قال : حدّثنا ابن ماجه ، قال : حدّثنا الحسن بن أيوب ، قال : حدّثنا عبد الله بن أبي زياد ، قال : حدّثنا سيار ، قال : حدّثنا صالح ، قال : حدّثنا خالد بن حسان ، قال : أمسى عندنا الحسن وأمسى صائماً ، فأتيته بطعام فعرضت له هذه الآية ) إنّ لدينا أنكالا وجحيماً وطعاماً ذا غُصّة وعذاباً أليماً ( فقال : ارفع الطعام ، فلما كانت الليلة الثانية أتيناه أيضاً بطعام فعرضت له هذه الآية ، فقال : ارفعه ، فلمّا كانت الليلة الثالثة أتيته فعرضت له هذه الآية ، فقال : ارفعوا ، فانطلق ابنه إلى ثابت البناني ويزيد الضبي ويحيى البكاء فحدثهم بحديثه ، فجاءوا معه فلم يزالوا به حتّى شرب شربة من سويق .
المزمل : ( 14 ) يوم ترجف الأرض . . . . .
) يوم ترجف الأرض والجبال ( أي تتحرك وتضطرب بمن عليها ) وكانت الجبال كثيباً ( وهو الرمل المجتمع ) مهيلا ( سائلا متناثراً إذا مسّته تتابع ، وأصله مهيول وهو مفعول من قول القائل : هلت الرمل فأنا أهيله ، وذلك إذا حرّك أسفله فانهال عليه من أعلاه ، يقال : مهيل ومهيول ومكيل ومكيول ومعين ومعيون ، قال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) لأصحابه وهم يشكون الجدوبة : ( أتكيلون أم تهيلون ) ؟
قالوا : نهيل .
قال : ( كيلوا ولا تهيلوا ) .
وقال الشاعر :
واخال أنّك سيّد معيون
المزمل : ( 15 - 16 ) إنا أرسلنا إليكم . . . . .
) إنّا أرسلنا إليكم رسولا شاهداً عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذاً وبيلا ( شديداً صعباً ثقيلا ، ومنه يقال : كلأ مستوبل وطعام مستوبل إذا لم يُستمرأ ، ومنه الوبال وقالت الخنساء :
لقد أكلت بجيلة يوم لاقت
فوارس مالك أكلا وبيلا
وتقول العرب : لقد أوبل عليه الشراء أي توبع .
المزمل : ( 17 ) فكيف تتقون إن . . . . .
) فكيف تتّقون إن كفرتم ( أي فكيف لكم بالتقوى في القيامة إذا كفرتم في الدنيا ، يعني : لا سبيل لكم إلى التقوى ولا تنفعكم التقوى إذا وافيتم القيامة . وقيل : معناه فكيف تتّقون عذاب يوم ، وكيف تنجون منه إذا كفرتم . وقرأ ابن مسعود وعطيّة : فكيف يتّقون يوماً يجعل الولدان شيباً أن كفرتم
(10/64)
" صفحة رقم 65 "
وقرأ أبو السماك العدوي : فكيف يتّقون بكسر النون على الإضافة .
) يوماً يجعل الولدان ( الصبيان ) شيباً ( شمطاً من هوله وشدّته وذلك حين يقال لآدم : قم فابعث بعث النار من ذرّيتك .
أخبرني الحسن ، قال : حدّثنا محمد بن الحسن بن بشر ، قال : حدّثنا أبو بكر بن أبي الخطيب ، قال : حدثني محمد بن غالب ، قال : سمعت عثمان بن الهيثم ، يقول : مررت بأبن السري وهو قائم في الطريق ، فسأله إنسان ) يوماً يجعل الولدان شيباً ( ، قال : هم أولاد الزنا . وقيل : أولاد المشركين .
المزمل : ( 18 ) السماء منفطر به . . . . .
) السماء منفطر ( مثقل مشقق ) به كان وعده مفعولا }
المزمل : ( 19 ) إن هذه تذكرة . . . . .
) إنّ هذه ( السورة أو هذه الآيات ) تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربّه سبيلا ( بالإيمان والطاعة
المزمل : ( 20 ) إن ربك يعلم . . . . .
) إنّ ربّك يعلم أنّك تقوم أدنى ( أقرب ) من ثُلثي الليل ( روى هشام عن أهل الشام ثلثي مخفف غير مشبع ) ونصفه وثلثه ( نصبها أهل مكة والكوفة على معنى وتقوم نصفه وثلثه ، وخففهما الباقون عطفاً على ثلثي . ) وطائفة من الذين معك ( أيضاً يقومونه .
) والله يقدّر الليل والنهار علم أن لن تحصوه ( تطيقوا قيام الليل ) فتاب عليكم ( تجاوز عنكم ورجع لكم إلى التخفيف عليكم ) فاقرءُوا ما تيسّر من القرآن ( قال السدي : مائة آية . قال الحسن : من قرأ مائة آية في ليله لم يحاجّه القرآن . وقال كعب : من قرأ في ليله مائة آية كتب من القانتين . وقال سعيد : خمسون آية . وروى الربيع بن صبيح عن الحسن : ) فاقرءُوا ما تيسّر منه ( قال : يعني في صلاة المغرب والعشاء .
) علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يُقاتلون في سبيل الله ( فسوى بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال للنفقة على نفسه وعلى العيال وللإحسان والإفضال .
أخبرني ابن فنجويه ، قال : حدّثنا ابن سلم ، قال : حدّثنا أبو بكر بن عبد الخالق ، قال : حدّثنا أبو بكر بن أحمد بن محمد الحجاج ، قال : حدثني أبو الفتح ، قال : قال أبو نصر بشر بن الحرث ، قال : حدّثنا المعافى بن عمران وعيسى بن يونس عن فرقد السبخي عن إبراهيم عن ابن مسعود ، قال : أيّما رجل جلب شيئاً إلى مدينة من مدائن المسلمين صابراً محتسباً فباعه بسعر يومه كان عند الله سبحانه بمنزلة الشهداء ، ثمّ قرأ عبد الله ) وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله ( .
وأخبرني ابن فنجويه ، قال : حدّثنا موسى بن محمد بن عليّ ، قال : حدّثنا محمد بن عثمان ابن أبي شيبة ، قال : حدّثنا عبد الحميد بن صالح ، قال : حدّثنا أبو عقيل عن القيّم بن عبيد الله
(10/65)
" صفحة رقم 66 "
عن أبيه ، قال : سمعت ابن عمر ، يقول : ما خلق الله عزّوجلّ موتة أموتها بعد القتل في سبيل الله أحبّ إليّ من أن أموت بين شعبتي رجل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله .
) فاقرءُوا ما تيسّر منه ( سمعت محمد بن الحسن السلمي ، يقول : سمعت منصور بن عبد الله ، يقول : سمعت أبا القيّم الأسكندراني ، يقول : سمعت أبا جعفر الملطي ، يقول : عن عليّ ابن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد في هذه الآية ، قال : ما تيسّر لكم منه خشوع القلب وصفاء السر .
) وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضاً حسناً وما تُقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيراً ( من الشح والتقصير ) وأعظم أجراً ( من ذلك الذي قدّمتموه لو لم تكونوا قدّمتموه ، ونصب ) خيراً وأعظم ( على المفعول الثاني ، وهو فصل في قول البصريين ، وعماد في قول الكوفيين لا محل له من الإعراب . ) واستغفروا الله إنّ الله غفور رحيم (
.
(10/66)
" صفحة رقم 67 "
( سورة المدثر )
مكّية ، وهي ألف وعشرة أحرف ، ومائتان وخمسون كلمة ، وست وخمسون آية
أخبرني محمد بن القاسم بن أحمد قال : حدّثنا عبدالله بن أحمد بن جعفر قال : حدّثنا أبو عمر والخيري وعمرو بن عبدالله البصري قالا : حدّثنا محمد بن عبدالوهاب قال : حدّثنا أحمد ابن عبدالله بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة المدثر أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد مَنْ صدّق بمحمد وكذبه بمكة ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) ياأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ( 2
المدثر : ( 1 ) يا أيها المدثر
) يا أيُّها المدّثِر ( : أي المدّثر في قطيفه . أخبرنا أبو نعيم الاسفرائيني ، بها قال : أخبرنا أبو عمران بن موسى بن العباس الارادواري بها ، قال : أخبرنا العباس بن الوليد بن مزيد البيروتي ببيروت قال : أخبرني أبي قال : حدّثنا أبو عمرو الأوزاعي قال : حدّثنا ، أبو نصر يحيى ابن أبي كبير العطار اليماني قال : سألت أبا سلمة بن عبدالرحمن : أي القرآن أنزل قبل ؟ قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إني جاورت بحراء شهراً فلما قضت جواري نزلت فاستبطنت الوادي ، فنوديت فنظرت بين يدي وخلفي وعن يميني وشمالي فلم أر شيئاً ، ثم نظرت إلى السماء فإذا هو على العرش في الهواء فأخذتني وحشة ، فأمرتهم فدثّروني فأنزل الله سبحانه : يا أيها المدثر ، حتى بلغ : وثيابك فطهر ) .
وأخبرنا أبو نعيم قال : حدّثنا أبو عمران قال : حدّثنا جعفر بن عامر البغدادي قال : حدّثنا سعد أبو محمد قال : حدّثنا شيبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبدالرحمن قال
(10/67)
" صفحة رقم 68 "
أخبرني جابر بن عبدالله إنّ أوّل شيء نزل من القرآن يا أيها المدثر ، وقال جابر : ألا أخبرك ما سمعت عن النبي ( عليه السلام ) سمعته يقول : ( جاورت بحراء فلما قضيت جواري أقبلت في بطن الوادي فناداني مناد فنظرت عن يميني وشمالي وخلفي وأمامي فلم أرَ شيئاً ، ثم ناداني فنظرت فوقي فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض فجثثتُ منه فرقاً فأقبلت إلى خديجة ، فقلت : دثروني وصبّوا عليّ ماءاً بارداً فأنزل الله سبحانه يا أيها المدّثّر ) .
أخبرنا عبدالله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن جعفر بن يزيد الصيرفي قال : حدّثنا عليّ بن حرب الموصلي قال : حدّثنا عبدالرحمن بن يحيى المدني عن يونس عن الزهري قال : سمعت أبا سلمة بن عبدالرحمن يقول : أخبرني جابر أنه سمع رسول الله ( عليه السلام ) يقول : ( فنزعني الوحي مرّة فبينما أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي أتاني بحراء قاعد على الكرسي بين السماء والأرض فجثثت منه فرقاً حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي فقلت زمّلوني فأنزل الله سبحانه يا أيها المدثر ) .
المدثر : ( 2 - 4 ) قم فأنذر
) قم فأنذر وربّك فكبّر وثيابك فطهّر ( قال : عكرمة سئل ابن عباس عن هذه الآية فقال : معناه لا يلبسها على معصية ولا على غدرة ثم قال : قول غيلان بن سلمة الثقفي :
إني بحمد لله لا ثوب فاجر
لبست ولا من غدرة اتقنع
والعرب تقول للرجل إذا وفى وصدق : إنه طاهر الثياب ، وإذا غدر ونكث : إنه لدنس الثياب .
وقال أبي بن كعب : لا يلبسها على غدر ولا على ظلم ولا على أكم البسها وأنت طاهر ، وقال قتادة وإبراهيم والضحاك والشعبي والزهري ويمان : وثيابك فطهّر من الذنب والإثم والمعصية ، وقال أهل المعاني : أراد طهّر نفسك عن الذنوب فكنى عن الجسم بالثياب لأنها تشتمل عليه ، كقول عنترة :
فشككت بالرمح الأصم ثيابه
ليس الكريم على القنا بمحرم
أي نفسه ، وقال آخر :
ثياب بني عوف طهارى نقية
وأوجههم بيض المسافر غران
(10/68)
" صفحة رقم 69 "
أي أنفس بني عوف .
وقال السدي : يقال للرجل إذا كان صالحاً : إنّه لطاهر الثياب ، وإذا كان فاجراً : إنه لخبيث الثياب . قال الشاعر :
لا هم إن عامر بن جهم
أو ذم حجا في ثياب دسم
يعني متدنس بالخطايا .
أبو زوق عن الضحاك : وعملك فأصلح ، وهي رواية فضيل بن عياض عن منصور عن مجاهد .
سعيد بن جبير : وقلبك وبيتك فطهّر ، ودليل هذا التأويل قول امرؤ القيس :
وإن تك قد ساءتك منّي خليقة
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
أي قلبي من قلبك .
وقال الحسن والمقرظي : وخلقك فحسّن ، ودليلهما قول الشاعر :
ويحيى لا يلام بسوء خلق
ويحيى طاهر الأثواب حر
أي حسن الأخلاق .
عطية عن ابن عباس : لا تكن ثيابك التي تلبس من مكسب غير طائل ، وقال ابن زيد وابن شريك نقِّ ثيابك واغسلها بالماء وطهّرها من النجاسة وذلك أنّ المشركين كانوا لا يتطهرون فأمره أن يطهّر ثيابه .
قال الفراء : وسمعت بعضهم يقول : طهّرها بالأشنان .
وقال طاوس : وثيابك فقصّر وشمّر ، لأن تقصير الثياب طهرُة لها ، وقيل : وأهلك فطهّره من الخطايا بالوعظ والتأديب ؛ والعرب تسمّي الأهّل ثوباً ولباساً وإزاراً ، وقد مضى ذكره . يحيى ابن معاد : طهّر قلبك من مرض الخطايا وأشغال الدنيا تجد حلاوة العبادة ، فإن من لم يصُن الجسم لا يجد شهوة الطعام ، وقيل : طهّر قلبك عما سوى الله .
المدثر : ( 5 ) والرجز فاهجر
) والرّجز فأهجُرْ ( قرأ الحسن وعكرمة ومجاهد وحميد وأبو جعفر وشيبة ويعقوب ( والرُجز ) بضم الراء ومثله روى الفضل وحفص عن عاصم واختاره أبو حاتم وقرأ الباقون بكسر الراء واختاره أبو عبيد قال لأنها أفشى اللغتين وأكثرهما ، وهما لغتان لمعنى واحد
(10/69)
" صفحة رقم 70 "
قال ابن عباس : اترك المأثم ، مجاهد وقتادة وعكرمة والزهري وابن زيد : والأوثان فأهجر ولا تقربها وهي رواية الوالبي عن ابن عباس ، وقيل الزاي فيه منقلبة عن السين والعرب تعاقب بين الزاي والسين لقرب مخرجهما ودليل هذا التأويل قوله سبحانه : ) فاجتنبوا الرجس من لأوثان ( .
أبو العالية والربيع : الرُجز بالضم الصّنم ، وبالكسر : النجاسة والمعصية ، وقال الضحاك : يعني الشرك ، ابن كيسان : يعني الشيطان ، وقال الكلبي : يعني العذاب ، ومجاز الآية : اهجّر ما أوجب لك العذاب من الأعمال ، وقيل : أتسقط حب الدُنيا عن قلبك ؛ فإنها رأس كلّ خطيئة ، وقيل : ونفسك فخالفها .
المدثر : ( 6 - 7 ) ولا تمنن تستكثر
) ولا تمنن ( قراءة العامة باظهاره التضعيف وقرأ أبو السماك العدوى ولا تمُنّ مدغمة مفتوحة مؤكدة ) تستكثرُ ( قرأ الحسن بالجزم على جواب النهي وهو ردي ؛ لأنه ليس بجواب .
وقرأ الأعمش بالنصب على توهّم لام كي كأنه قال : لتستكثر ، وقرأ الآخرون بالرفع واختلفوا في معنى الآية فقال أكثر المفسرين ولا تعُطِ شيئاً لتعُطى أكبر منه ، قال قتادة : لا تعط شيأ طمعاً لمجازاة الدنيا ومقارضتها ، القرظي : لا تعط مالك مصانعة ، قال الضحاك ومجاهد : كان هذا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة ، وقال الضحاك : هما رياءان : حلال وحرام ، فأما الحلال فالهدايا وأما الحرام فالربا .
وقال الحسن : ولا تمنن على الله بعملك فتستكثره ، الربيع : لا يكثرن عملك في عينك فإنه فيما أنعم الله عليك وأعطاك قليل ، ابن كيسان : لا تستكثر عملك فتراه من نفسك أنّما عملك منّةً من الله سبحانه عليك ، إذ جعل لك سبيلا إلى عبادته ( فله ) بذلك الشكر أن هداك له ، خصيف عن مجاهد : ولا تضعف أن تستكثر من الخير من قولهم : حبل متين إذا كان ضعيفاً ، ودليله قراءة ابن مسعود ولا تمنن أن تستكثر ، وقال ابن زيد : معناه ولا تمنّ بالنبوة على الناس فنأخذ عليها منهم أجراً وعرضاً من الدنيا . زيد بن أسلم : إذا أعطيت عطية فاعطها لربّك واصبر حتى يكون هو الذي يثيبك عليها ، وقال مجاهد : واصبر لله على ما أوذيت ، ابن زيد : حملت أمراً عظيماً محاربة العرب ثم العجم فاصّبر عليه لله ، وقيل : على أوامر الله ونواهيه ، وقيل : فاصبر تحت موارد القضاء لأجل الله ، وقيل : فارق الملامة والسآمة ، وقيل : فاصبر على البلوى فإنه يمتحن أحباءه وأصفياءه .
( ) فَإِذَا نُقِرَ فِى النَّاقُورِ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ
(10/70)
" صفحة رقم 71 "
وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلاَّ إِنَّهُ كان لاَْيَاتِنَا عَنِيداً سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لاَ تُبْقِى وَلاَ تَذَرُ لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِيمَاناً وَلاَ يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَاذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِىَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ( 2
المدثر : ( 8 ) فإذا نقر في . . . . .
) فإذا نقر في الناقور ( أي نفخ في الصوّر .
حدّثنا أبو محمد المخلدي قال : أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد الحفوظي قال : حدّثنا عبدالله بن هشام قال : حدّثنا أسباط بن محمد القرشي عن مطرف عن عطية عن ابن عباس في قوله سبحانه : ) فإذا نقر في الناقور ( قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته يستمع متى يؤمر فينفخ ) وقال أصحاب رسول الله كيف نقول ؟
قال : ( قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، على الله توكلنا ) .
المدثر : ( 9 - 10 ) فذلك يومئذ يوم . . . . .
) فذلك يومئذ يوم عسيرٌ على الكافرين غير يسير (
أخبرنا أبو جعفر ( محمد ) الحلقاني قال : حدّثنا أبو العباس أحمد بن هارون الفقيه قال : حدّثنا عمران بن موسى قال : حدّثنا هدية بن خلد القيسي ، قال : حدّثنا أبو حباب القصاب قال : أمَّنا زرارة بن أوفى فلما بلغ ) فإذا نقر في الناقور ( الآية : خرّ ميتاً .
المدثر : ( 11 ) ذرني ومن خلقت . . . . .
) ذرّني ومَنْ خلقتُ ( أي خلقته في بطن أمه ) وحيداً ( فريداً لا مال له ولا ولد . نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي . قال ابن عباس وكان يسمى : الوحيد في قومه .
المدثر : ( 12 ) وجعلت له مالا . . . . .
) وجعلتُ لهُ مالا ممدوداً ( أي كثيراً وقيل : ما يمدّ بالنماء كالزرع والضرع والتجارة واختلفوا في مبلغه . فقال : مجاهد وسعيد بن جبير : ألف دينار . قتادة : أربعة آلاف دينار . سفيان الثوري : ألف ألف . النعمان بن سالم : كان ماله أرضاً . ابن عباس : سبعة آلاف مثقال فضة . مقاتل : كان له بستاناً بالطائف لا ينقطع ثماره شتاء ولا صيفاً ، دليله ) وظل ممدود ( .
(10/71)
" صفحة رقم 72 "
وروى ابن جريح عن عطاء عن عمر في قوله سبحانه : ) وجعلت له مالا ممدوداً ( قال : غلّة شهر . بشهر .
المدثر : ( 13 ) وبنين شهودا
) وبنين شهوداً ( حضوراً معه بمكة لا يغيبون عنه . قال سعيد بن جبير : كانوا ثلاثة عشر ولداً . مجاهد وقتادة : كانوا عشرة . مقاتل : كانوا سبعة كلّهم رجال ، وهم : الوليد بن الوليد وخالد بن الوليد وعماره بن الوليد وهشام بن الوليد والعاص بن الوليد وقيس بن الوليد وعبد شمس بن الوليد ، أسلم منهم ثلاثة : خالد وهشام وعمارة ، قالوا : فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك .
المدثر : ( 14 ) ومهدت له تمهيدا
) ومهدت له تمهيداً ( أي بسطت له في العيش بسطاً ، وقال ابن عباس : يعني المال بعضه على بعض كما تمهد الفرش
المدثر : ( 15 ) ثم يطمع أن . . . . .
) ثم يطمع ( يرجو ) أن أزيد ( مالا وولداً أو تمهيداً في الدنيا
المدثر : ( 16 ) كلا إنه كان . . . . .
) كلا ( قطع الرجاء عمّا كان يطمع فيه ويكون متّصلا بالكلام الأوّل وقيل : قسم أي حقاً وتكون ابتداء آية .
) إنّه كان لآياتنا عنيداً ( معناداً
المدثر : ( 17 ) سأرهقه صعودا
) سأرهقُهُ صعوداً ( سأكلّفه مشقّة من العذاب لا راحة له منها .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا ابن سعيد قال : حدّثنا أحمد بن صالح قال : حدّثنا عبدالله بن وهب قال : أخبرني عمرو بن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي ( عليه السلام ) ) سأرهقه صعوداً ( قال : ( هو جبل في النار يكلف أن يصعده فإذا وضع يده ذابت وإذا رفعها عادت وإذا وضع رجله ذابت وإذا رفعها عادت ) .
المدثر : ( 18 ) إنه فكر وقدر
) إنّهُ فكر وقدّر ( الآيات ، وذلك أن الله سبحانه لما أنزل على النبي ( عليه السلام ) ) حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ( إلى قوله : ) إليه المصير ( قرأها النبي ( عليه السلام ) في المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته ، فلما فطن النبي ( عليه السلام ) لإستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية ، فانطلق الوليد حذاء مجلس قومه بني مخزوم فقال : والله لقد سمعت من محمد كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإنّ أسفله لمغدق وإنّه يعلو وما يُعلى .
ثم انصرف إلى منزله ، فقالت قريش : صبا والله الوليد والله ليصبأنّ قريش كلّهم وكان يقال للوليد : ريحانة قريش ، فقال : لهم أبو جهل أنا أكفيكموه فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزيناً ، فقال : له الوليد مالي أراك حزيناً يابن أخي ، قال : وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون
(10/72)
" صفحة رقم 73 "
لك نفقة يعينونك على كبر سنك ويزعمون أنّك ) تؤمن ) بكلام محمد وتدجل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهم ، فغضب الوليد وقال : ألم تعلم قريش أني أكثرهم مالا وولداً وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام فيكون لهم فضل ؟ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه ، فقال لهم : تزعمون أن محمداً مجنوناً فهل رأيتموه يخنق قط ؟ قالوا : اللهم لا ، قال : تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه يتكهّن قط ؟ قالوا : اللهم لا ، قال : تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه ينطق بشعر قط ؟ قالوا : اللهم لا . قال : تزعمون أنه كذّاب فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب ؟ قالوا : لا ، وكان رسول الله ( عليه السلام ) يسمّى : الأمين قبل النبوة من صدقه . فقالت : قريش : فما هو ؟ فتفكّر في نفسه ثم نظر وعبس فقال : ما هو إلاّ ساحراً ، أما رأيتموه يفرّق بين الرجل وأهله وولده ومواليه فهو ساحر ، وما يقوله سحر . فذلك قوله سبحانه ) إنّه فكّر ( في محمد والقرآن وقدّر في نفسه ماذا يمكنه أن يقول فيهما .
المدثر : ( 19 ) فقتل كيف قدر
) فقتل ( لعن ، وقال الزهري : عُذّب ) كيف قدَّر ( على طريق التعجّب والإنكار والتوبيخ .
المدثر : ( 20 - 22 ) ثم قتل كيف . . . . .
) ثم قتل كيف قدَّر ثم نظر ثم عبس وبسر ( كلح
المدثر : ( 23 - 24 ) ثم أدبر واستكبر
) ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا ( ما هذا الذي يقرأه محمد ) إلاّ سحر يؤثر ( يروى ويحكى .
المدثر : ( 25 ) إن هذا إلا . . . . .
) إنّ هذا إلاّ قول البشر ( يعني يساراً وجبراً فهو مأثرة عنهما . وقيل : يرويه عن مسيلمة صاحب اليمامة ، وقيل : يرويه عن أهل بابل .
المدثر : ( 26 ) سأصليه سقر
) سأُصليه ( سأدخله ) سقر ( لم يصرفه ، لأنه اسم من أسماء جهنم .
أخبرني الحسين قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا سعدان قال : حدّثنا أحمد بن صالح قال : حدّثنا ابن وهب قال : أخبرنا عمرو أن أبا السمح حدّثه عن ابن حجرة عن أبي هريرة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قال موسى لربّه عزّوجلّ : أي عبادك أفقر ؟ قال : صاحب سقر ) .
المدثر : ( 27 - 28 ) وما أدراك ما . . . . .
) وما أدرياك ما سقر لا تبقِى ولا تذر ( فيها شيئاً إلاّ أكلته وأهلكته قال مجاهد : يعني لا تميت ولا تحيي يعني أنها لا تبقي من فيها حيّاً ولا تذر من فيها ميتاً ، ولكنها تحرقهم كلّما جدد خلقهم ، وقال السدي : لا تبقي لهم لحماً ولا تذر لهم عظماً ، وقال الضحاك : إذا أخذت فيهم لم تبق منهم شيئاً وإذا أعيدوا لم تذرهم حتى تفنيهم ، ولكل شيء فترة وملالة إلاّ لجهنم .
المدثر : ( 29 ) لواحة للبشر
) لوّاحة للبشر ( مغيّرة للجلود . تقول العرب : لاحته الشمس ولوّحته . قال الشاعر :
تقول لشيء لوحته السمائم
وقال رؤبة
(10/73)
" صفحة رقم 74 "
لوح منه بعد بدّن وسق
تلويحك الضامر يُطوى للسبق
قال مجاهد : يلفح الجد فتدعه أشدّ سواداً من الليل ، وقال ابن عباس وزيد ابن أسلم : محرقة للجلد ، وقال الحسن وابن كيسان : يعني تلوح لهم جهنم متى يروها عياناً . نظيره ) وبرزت الجحيم للغاوين ( ، ولوّاحة رفع على النعت ، سقر في قوله ) وما أدريك ما سقر ( وقرأ عطية العوفي في ) لواحة للبشر ( بالنصب والبشر جمع بشره وجمع البشر أبشار .
المدثر : ( 30 ) عليها تسعة عشر
) عليها تسعة عشر ( من الخزنة ويحتمل أن يكونوا تسعة عشر صنفاً ويحتمل أن يكونوا تسعة عشر صفاً ، ويحتمل أن يكونوا تسعة عشر نقيباً ، ويحتمل أن يكونوا تسعة عشر ملكاً بأعيانهم وعلى هذا أكثر المفسّرين . ولا يستنكر هذا فإن ملك واحد يقبض أرواح جميع الخلق كان أحرى أن يكون تسعة عشر على عذاب بعض الخلق .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن لؤلؤ قال : أخبرنا الهيثم بن خلف قال : حدّثنا إبراهيم ابن إبراهيم قال : حدّثنا حجاج بن جريح قال : حدّثنا مرفوعاً إلى النبي ( عليه السلام ) ( إنّه نعت خزنة النار فقال : كأن أعينهم البرق ، وكإن أفواههم الصياصي يجرّون أشعارهم ، لأحدهم من القوة مثل قوة الثقلين يسوق أحدهم الأمة وعلى رقبته جبل فيرميهم في النار ، ويرمي بالجبل عليهم ) .
وقال عمرو بن دينار : إن واحداً منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر . قال ابن عباس وقتاده والضحاك : لما نزلت هذه الآية قال أبو جهل : لقريش ثكلتكم أمهاتكم اسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم ألدّهم أي الشجعان أفتعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم ، فقال أبو الاشدين كلدة بن خلف بن أسد الجمحي : أنا أكفيكم منهم سبعة عشرة على ظهري وسبعة على بطني واكفوني أنتم اثنين . فأنزل الله سبحانه وتعالى
المدثر : ( 31 ) وما جعلنا أصحاب . . . . .
) وما جعلنا أصحاب النار إلاّ ملائكة ( لا رجالا إذ من فمن ذا يغلب الملائكة ) وما جعلنا عدّتهم ( عددهم ) إلاّ فتنة للذين كفروا ( لتكذيبهم بذلك وقول بعضهم أنا أكفيكموه . ) ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ( لأنّه مكتوب في التوراة والإنجيل أنهم تسعة عشر .
) ويزداد الذين آمنوا إيمناً ولا يرتاب ( يشك ) الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض ( شك ونفاق قاله أكثر المفسرين ، وقال الحسين بن الفضل : السورة مكيّة ولم يكن بمكة البتة نفاق فالمرض في هذه الخلاف لا النفاق .
(10/74)
" صفحة رقم 75 "
) ماذا أراد الله بهذا مثلا ( إنما قاله مشركو مكّة ) كذلك يضلّ الله من يشاء ويهدى من يشاء وما يعلم جنود ربّك ( جموع ربك ) إلاّ هو ( قال مقاتل : هذا جواب أبي جهل حين قال : أما لمحمد أعوان إلاّ تسعة عشر .
أخبرنا الحسين قال : حدّثنا عمران أحمد بن القاسم قال : حدّثنا محمد بن أحمد الصباح قال : حدّثنا محمد بن عبيدة الوراق أبو مخدورة قال : حدّثنا حسين بن الحسن الأشقر قال : حدّثنا هاشم عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقسّم غنائم حنين وجبرئيل إلى جنبه ، فأتاه ملك فقال : إنّ ربّك يأمرك بكذا وكذا قال : فخشي النبي عليهم أن يكون شيطان فقال : ( يا جبريل أتعرفه ) قال : هو ملك ، وما كل ملئكة ربّك أعرف .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا عبد بن مرداس قال : حدّثنا سلمة ابن شعيب قال : حدّثنا عبد القدوس قال : سمعت الأوزاعي يقول : قال موسى عليه السلام : يا ربّ من معك في السماء ؟ قال : ملائكتي ، قال : كم عددهم ؟ قال : إثنا عشر سبطاً ، قال : كم عدة كل سبط ؟ قال : عدد التراب .
) وما هِيَ ( يعني النار ) إلاّ ذكرى للبشر ( عضة للناس .
( ) كَلاَّ وَالْقَمَرِ وَالَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ إِنَّهَا لإِحْدَى الْكُبَرِ نَذِيراً لِّلْبَشَرِ لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِى جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِى سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَآئِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الاَْخِرَةَ كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ( 2
المدثر : ( 32 - 33 ) كلا والقمر
) كلاّ والقمر والليل إذ أدبر ( يعني ولّى ذاهباً ، واختلفت القراءة فيه فقرأ ابن محيضن ونافع وحمزة وخلف ويعقوب وحفص ) إذ ( بغير ألف . ) أدّبر ( بالألف ، غيرهم هم ضده ، واختاره أبو عبيد قال : لأنها أشّد موافقه للحرف الذي يليه ، ألا تراه قال :
المدثر : ( 34 ) والصبح إذا أسفر
) والصبح إذا أسفر ( فكيف يكون في أحدهما إذا وفي الآخر إذ ، وأبو حاتم قال : لأنه ليس في القرآن لجنبه إذ وأنما الأقسام بجنبها إذا
(10/75)
" صفحة رقم 76 "
قال قطرب من قرأ ) والليل إذ أدبر ( : يريد أقبل ، من قول العرب دبر فلان أي جاء خلفي ، فكأنّه دبر خلف النهار . قال أبو الضحى : كان ابن عباس يعيب على من يقرأ دبر ويقول : إنما يدبّر ظهر البعير ، وقال الفراء : هما لغتان دبّر وأدبر . قال الشاعر :
صدعت غزالة قلبه بفوارس
تركت مسامعه كأمس الدابر
وقال أبو عمرو : دبّر لغة قريش .
) والصبح إذا أسفر ( قرأه العامة بالألف أي أضاء وأقبل ، وقرأ ابن السميع وعيسى ابن الفضل سفر بغير ألف ، وهما لغتان يقال : سفر وجه فلان وأسفر ، إذا أضاء ، ويجوز أن يكون من قولهم : سفرت المرأة إذا ألقت خمارها عن وجهها ، ويحتمل أن يكون معناه نفي الظلام كما سفر البيت أي يكنس ويقال للمكنسة المسفرة .
المدثر : ( 35 ) إنها لإحدى الكبر
) إنها لأحدى الكُبر ( يعني أن سفر لإحدى الأمور العظام وواحد الكبر كُبرى :
المدثر : ( 36 ) نذيرا للبشر
) نذيراً للبشر ( يعني أنّ النار نذير للبشر قال الحسن : والله ما أنذر الله بشيء أدهى منها ، وهو نصب على القطع من قوله : ) لأحدى الكبر ( ؛ لأنها معرفة ونذيراً نكرة .
قال الخليل : النذير مصدر كالنكير ، فلذلك وصف به المؤنث ، وقيل : هو من صفة الله سبحانه مجازه : وما جعلنا أصحاب النار إلاّ ملائكة ، نذيراً للبشر أي إنذاراً لهم . قال أبو رزين : أنا لكم منها نذير فاتقوها ، وقيل : هو صفة محمد ( عليه السلام ) ، ومعنى الكلام : يا أيّها المدثر قم نذيراً للبشر فأنذر ، وهو معنى قول ابن زيد ، وقرأ إبراهيم عن أبي غيلة نذير للبشر بالرفع على إضمار هو .
المدثر : ( 37 ) لمن شاء منكم . . . . .
) لمن شاء منكم أن يتقدّم ( في الخير والطاعة ) أو يتأخر ( عنها في الشر والمعصية نظيره ودليله ) ولقد علمنا المستقدمين منكم ( يعني في الخير ) ولقد علمنا المستأخرين ( عنه قاله الحسن ، وهذا وعيد لهم كقوله : ) فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ( يعني أنّه نذير لهما جميعاً .
المدثر : ( 38 ) كل نفس بما . . . . .
) كلّ نفس بما كسبت رهينة ( مرتهنة بكسبها مأخوذة بعملها .
المدثر : ( 39 ) إلا أصحاب اليمين
) إلاّ أصحاب اليمين ( فإنهم لا يحاسبون ولا يرتهنون بذنوبهم ولكن يغفرها الله لهم ويتجاوزها عنهم كما وعدهم . قال قتادة : غلق الناس كلّهم إلاّ أصحاب اليمين واختلفوا فيهم .
فأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن ( شنبه ) قال : حدّثنا رضوان بن أحمد قال : حدّثنا أحمد بن عبدالجبار قال : حدّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي اليقظان عن زاذان عن علي في قوله : ) إلاّ أصحب اليمين ( قال : هم أطفال المسلمين
(10/76)
" صفحة رقم 77 "
تدل عليه ما أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حسن قال : حدّثنا البغوي قال : حدّثنا علي ابن الجعد قال : أخبرنا أبو عقيل عن نُهيّة عن عائشة قالت : سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن ولدان المؤمنين أين هم ؟ قال : ) في الجنة ( وسألته عن ولدان المشركين فقال : ) إنْ شئت سمّعتُكِ تضاغيهم في النار ( .
وقال أبو ظبيان : عن ابن عباس : هم الملائكة ، وروى أبو حمزة الثمالي عن أبي جعفر الباقر قال : نحن وشيعتنا أصحاب اليمين ، وقال مقاتل : هم أهل الجنة الذين كانوا على يمين آدم يوم الميثاق حين قال لهم الله سبحانه : هؤلاء في الجنة ولا أبالي .
وقال الحسن : هم المسلمون المخلصون ، وعنه أيضاً : هم الذين كانوا ميامين على أنفسهم . ابن كيسان هم المؤمنون الصالحون ليسوا مرتهنين لأنهم أدّوا ما كان عليهم . يمان : هم الذين أمكنوا رهونهم ، وقال الحكيم : هم الذين أختار الله سبحانه بخدمته فلم يدخلوا في الرهن ، لأنهم خدّام الله سبحانه وصفوته وكسبهم لم يضرهم ، وقال القاسم : كلّ نفس مأخوذة بكسبها من خير وشر إلاّ من اعتمد الفضل والرحمة دون الكسب والخدمة فكل من اعتمد على الكسب فهو رهين به ومَنْ اعتمد على الفضل فإنّه غير مأخوذ .
وسمعت أبا عبدالرحمن السلمي يقول : سمعت أبا بكر الرازي يقول : سمعت أبا عمرو البخاري يقول : في قوله سبحانه : ) كل نفس بما كسبت رهينة ( قال : فأين الفرار من القدر وكيف القرار على الخطر ؟ .
المدثر : ( 40 - 41 ) في جنات يتساءلون
) في جنت يتساءلون عن المجرمين ( المشركين
المدثر : ( 42 - 45 ) ما سلككم في . . . . .
) ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائِضين ( في الباطل .
المدثر : ( 46 - 47 ) وكنا نكذب بيوم . . . . .
) وكنا نكذّب بيوم الدين حتى أتنا اليقين ( يعني الموقن به وهو الموت .
المدثر : ( 48 ) فما تنفعهم شفاعة . . . . .
قال الله سبحانه وتعالى : ) فما تنفعهم شفعة الشافعين ( قال عبدالله بن مسعود : يشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين فلا يبقى في النار إلاّ أربعة ثم تلا قوله سبحانه : ) لم يك من المصلين ( إلى قوله ) بيوم الدين ( قال الحسن : كنا نتحدّث أن الشهيد يُشفع في سبعين من أهل بيته .
وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا ابن ماهان قال : حدّثنا موسى بن إسماعيل قال : حدّثنا حماد قال : حدّثنا ثابت عن الحسن أن رسول الله ( عليه السلام ) قال : ( يقول الرجل من أهل الجنة يوم القيامة أي ربي عبدك فلان سقاني شربة من الماء في الدنيا فشفّعني فيه ، فيقول اذهب فاخرجه من النار فيذهب فيتجسس النار حتى يخرجه منها )
(10/77)
" صفحة رقم 78 "
وبإسناد عن حماد عن خالد الحذاء عن عبدالله ابن شفيق عن رجل من بني تميم قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( ليشفعن رجل من أمتي لأكثر من بني تميم ) .
وأخبرنا الحسن قال : حدّثنا عمر بن نوح البجلي قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن شاهين قال : حدّثنا عبدالله بن عمر قال : حدّثنا أبو معاوية قال : حدّثنا داود بن أبي هند عن عبدالله بن قيس الأسدي عن الحرث بن أقشن قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( من أمتي من سيدخل الله بشفاعته الجنة أكثر من مضر ) .
المدثر : ( 49 ) فما لهم عن . . . . .
) فما لهم عن التذكرة معرضين ( نصب على الحال ، وقيل : صاروا معرضين .
المدثر : ( 50 ) كأنهم حمر مستنفرة
) كأنهم حمر ( جمع حمار ) مستنفرة ( قرأ أهل المدينة والشام وأيوب بفتح الفاء أي منفرة مذعورة ، ومثله روى المفضل عن عاصم وأختاره أبو عبيد ، وقرأ الآخرون بالكسر أي نافرة يقال : نفرت واستنفرت بمعنى واحد ، وأنشد الفراء :
أمسك حمارك إنه مستنفر
في الثر أحمرة عمدن لغُرت
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا أبو حامد المستملي قال : حدّثنا محمد بن حاتم الذمي قال : حدّثنا محمد بن سلام الجمحي قال : سألت أبا سراب الغنوي وكان إعرابياً فصيحاً قارئاً للقرآن فقلت : حمر ماذا ؟ قال : حمرّ مستنفرة طردها قسورة ، قلت : إنّما هي فرت من قسورة فقال : أفرّت ، قلت : نعم قال : فمستنفرة .
المدثر : ( 51 ) فرت من قسورة
) فرَّت من قسورة ( اختلفوا فيه فقال مجاهد وقتادة والضحاك وابن كيسان : هم الرُماة وهي رواية عطاء عن ابن عباس وأبي ظبيان عن أبي موسى الأشعري ، وقال سعيد بن جبير : هم القناص وهي رواية عطية عن ابن عباس .
وأخبرني الحسين قال : حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال : حدّثنا محمد بن أيوب قال : أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدّثنا وكيع عن شعبة عن أبي حمزة عن ابن عباس : فرت من قسورة قال : عُصب الرجال .
وأخبرني عقيل قال : أخبرنا المعافى قال : أخبرنا محمد بن جرير قال : حدّثنا ابن المثنى قال : حدّثني عبدالصمد بن عبدالوارث قال : سمعت أبي تحدث قال : حدّثني داود قال : حدّثني عباس بن عبدالرحمن مولى بني هاشم قال : سئل ابن عباس عن القسورة فقال : هي جمع الرجال ألم تسمع ما قالت فلانه في الجاهلية :
(10/78)
" صفحة رقم 79 "
يا بنت كوني خيرة لخيرة
أخوالها الحي وأهل القسورة
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا محمد بن عمران قال : حدّثنا أبو عبيدالله المخزومي قال : حدّثنا سفيان بن عيينة عن عمرو وعن عطاء عن ابن عباس في قوله سبحانه ) فرت من قسورة ( قال : هي ركز الناس .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبش قال : حدّثنا أبو يعلي الموصلي قال : حدّثنا يحيى بن معين قال : حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن إسماعيل بن مسلم العبدي عن أبي المتوكّل في قوله سبحانه : ) فرّت من قسورة ( قال : هو لغط القوم ، وقال أبو هريرة : هي الأسد .
وأخبرني بن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا ابن ماهان قال : حدّثنا موسى بن إسماعيل قال : حدّثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن سليمان بن قتة عن إبن عباس ) فرت من قسورة ( قال : هو بلسان العرب : الأسد ، وبلسان الحبش : القسورة ، وبلسان فارس : شير ، وبلسان النبط : أريا . وقيل : هو فعولة من القسر وهو القهر ، سمي بذلك لأنه يقهر السباع كلّها .
وأخبرني الحسين قال : حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال : حدّثنا محمد بن صالح بن ذريح قال : حدّثنا حبارة بن مغلس قال : حدّثنا عبدالأعلى بن أبي المساور عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى ) فرّت من قسورة ( قال : من حبال الصيادين ، وقال عكرمة : من ظلمة الليل ، وقيل : هي سواد أول الليل ولا يقال لسواد آخر الليل : قسورة ، وقال زيد بن أسلم : أي من رجال أقوياء ، وكلّ ضخم شديد عند العرب فهو قسور وقسورة . قال لبيد :
إذا ما هتفنا هتفة في ندينا
أتانا الرجال العائذون القساور
المدثر : ( 52 ) بل يريد كل . . . . .
) بل يريد كلّ أمرىء منهم أن يؤتى صحفاً منشرة ( وذلك أنهم قالوا : يا محمد إن سرّك أن نتبعك فأتنا بكتاب خاصة إلى فلان وفلان من ربّ العالمين نؤمر فيه باتباعك ، نظيره قوله : ) ولن نؤمن لرقيّك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه ( . بادان عن ابن عباس يقول : كان المشركون يقولون : لو كان محمد صادقاً فليصح عند كل رأس رجل منا صيحة فيها براءته وأمنه من النار . قال مطر الوراق : كانوا يريدون أن يؤتوا براءة من غير عمل ، وقال الكلبي : إن المشركين قالوا : يا محمد بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل يصبح مكتوب عند رأسه ذنبه وكفارته فأتنا بمثل ذلك ، فكرهه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأنزل الله سبحانه هذه الآية
المدثر : ( 53 ) كلا بل لا . . . . .
) كلا ( ليس كما تقولون وتريدون وقيل : حقاً وكل ما ورد عليك منه فهذا وجهه ) بل لا يخافون الآخرة }
المدثر : ( 54 ) كلا إنه تذكرة
) كلاّ إنّه ( يعني القرآن ) تذكرة ( وليس بسحر
المدثر : ( 55 - 56 ) فمن شاء ذكره
) فمن شاء ذكره وما يذكرون ( بالتاء نافع ، يعقوب وغيرهما بالياء ) إلاّ أن يشاء الله هو
(10/79)
" صفحة رقم 80 "
أهل التقوى وأهل المغفرة ( أي أهل أن تتقى محارمه وأهل أن يغفر لمن اتقاه .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عمر بن الخطاب قال : حدّثنا عبدالله بن الفضل قال : حدّثنا هدية بن خالد قال : وحدّثنا عبدالله بن عبدالرحمن الدقاق وهارون بن محمد قالا : حدّثنا محمد بن عبدالعزيز قال : حدّثنا هدية قال : حدّثنا موسى بن محمد بن علي قال : حدّثنا الحسن ابن علي المعمري قال : حدّثنا هدية قال : حدّثنا سهيل بن أبي حزم عن ثابت عن أنس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال هذه الآية : ) هو أهل التقوى وأهل المغفرة ( : قال ربكم عزّوجلّ : أنا أهل أن اتقى ولا يشرك بي غيري وأنا أهل لمن اتقى أن يشرك بي أن أغفر له ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن مالك قال : حدّثنا ابن حنبل قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا عبدالقدوس بن بكر قال : سمعت محمد بن النظر الجارقي يذكر في قوله سبحانه : ) هو أهل التقوى وأهل المغفرة ( قال : أنا أهلٌ أن يتقيني عبدي فإن لم يفعل كنت أنا أهلاً أن أغفر له .
(10/80)
" صفحة رقم 81 "
( سورة القيامة )
مكيّة ، وهي ستمائة وإثنان وخمسون حرفاً ، ومائة وتسع وتسعون كلمة ، وأربعون آية
أخبرني محمد بن القيم الفقيه قال : حدّثنا محمد بن يزيد المعدّل قال : حدّثنا أبو يحيى البزاز قال : حدّثنا محمد بن منصور قال : حدّثنا محمد بن عمران بن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال : حدّثني أبي عن مجاهد عن عبدالواحد عن الحجاج بن عبدالله عن أبي الخليل وعن علي ابن زيد وعطاء بن أبي ميمونة عن زرين حبش عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة القيامة شهدت أنا وجبرائيل له يوم القيامة أنه كان مؤمناً بيوم القيامة وجاء ووجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم القيامة ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّىَ بَنَانَهُ ( 2
القيامة : ( 1 ) لا أقسم بيوم . . . . .
) لا أقسم بيومِ القيامة ( قراءة العامة مقطوعة الألف مهموزة .
القيامة : ( 2 ) ولا أقسم بالنفس . . . . .
) ولا أقسم بالنفس اللوامة ( مثلها ، وقرأ الحسن وعبدالرحمن الأعرج لاقسم بغير ألف موصله . ) ولا أقسم بالنفس ( بالألف مقطوعة على معنى أنه أقسم باليوم ولم يقسم بالنفس ، ومثله روى القواس عن شبل عن ابن بكير ، والصحيح أنه قسم بهما جميعاً ومعنى قوله لا أقسم بيوم القيامة اختلفوا فيه فقال : بعضهم ) لا ( صلة أي أقسم بيوم القيامة وإليه ذهب سعيد بن جبير وقال أبو بكر بن عباس : هو تأكيد للقسم كقولك لا والله ، وقال الفراء في قوله ) لا ( : رد لكلام المشركين ثم ابتدأ القسم فقال أقسم بيوم القيامة ، وقال : وكل يمين قبلها رد فلابد من تقديم ) لا ( قبلها ليفرّق بين اليمين التي تكون جحداً واليمين التي تستأنف ، ألا ترى أنك تقول مبتدئاً : والله إن الرسول لحق ، فإذا قلت : لا والله إن الرسول لحق ، فكأنك أكّدت قوماً أنكروه .
(10/81)
" صفحة رقم 82 "
أخبرنا عقيل أن المعافى أخبرهم عن ابن جرير قال : حدّثنا أبو كريب قال : حدّثنا وكيع عن سفيان ومسعر عن زياد بن علاقة عن المغيرة بن شعبة قال : لا يقولون القيامة القيامة وإنما قيامة أحدهم موته ، وبه عن سفيان ومسعر عن أبي قيس قال : شهدت جنازة فيها علقمة فلما دفن قال : أما هذا فقد قامت قيامته .
) ولا أقسم بالنفس اللوامة ( قال : سعيد بن جبير وعكرمة : تلوم على الخير والشر ولا تصبر على السراء والضراء . مجاهد : تندم على ما فات وتلوم عليه وتقول لو فعلت ولو لم أفعل .
قتادة : اللوامة : الفاجرة . ابن عباس : هي المذمومة ، وقال الفراء : ليس من نفس برَّة ولا فاجرة إلاّ وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيراً قالت : هلاّ زدت ، وإن كانت عملت سوءاً قالت : يا ليتني لم أفعل . الحسن : هي نفس المؤمن ، قال : إنّ المؤمن والله ما تراه إلاّ يلوم نفسه ما أردت بكلامي ما أردت بأكلتي ما أردت بحديث نفسي وإنّ الفاجر يمضي قُدماً لا يحاسب نفسه ولا ( يعاتبها ) . مقاتل : هي نفس الكافر تلوم نفسها في الآخرة على ما فرطت في أمر الله في الدنيا ، وقيل : لومها قوله سبحانه : ) فتقول يا ليتني قدمت لحياتي ( و ) يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله ( أي في أمر الله . سهل : هي الإمارة بالسوء وهي قرينة الحرص والأمل .
أبو بكر الورّاق : النفس كافرة في وقت منافقه في وقت مرائية على الأحوال كلّها هي كافرة ؛ لأنها لا تألف الحق ، وهي منافقة لأنها لا تفي بالعهد ، وهي مرائية لأنها لا تحبّ أن تعمل عملاً ولا تخطو خطوة إلاّ لرؤية الخلق ، فمن كانت هذه صفاته فهي حقيقة بدوام الملامة لها .
القيامة : ( 3 ) أيحسب الإنسان ألن . . . . .
) أيحسب الإنسان ( نزلت في عدي بن ربيعة بن أبي سلمة حليف بني زهرة ختن الأخنس ابن شريف حليف بني زهرة وكان النبي ( عليه السلام ) يقول : ( اللهم اكفني جارَيّ السوء ) يعني عدياً والأخنس وذلك أن عدي بن ربيعة أتى النبي ( عليه السلام ) فقال : يا محمد حدّثني عن يوم القيامة متى يكون ، وكيف يكون أمرها وحالها فأخبره النبي ( عليه السلام ) بذلك ، فقال : لو عاينت ذلك اليوم لم أصدّقك ولم أؤمن به ، أو يجمع الله العظام ؟ فأنزل الله سبحانه ) أيحسب الإنسان ( يعني الكافر .
) أنْ لن نجمع عظامهُ ( بعد تفريقها وبلائها فنجيبه ونبعثه بعد الموت ، يقال : إنّه ذكر
(10/82)
" صفحة رقم 83 "
العظام ، والمراد بها نفسه كلّها لأن العظام قالب الخلق ولن يستوي الخلق إلاّ باستوائها ، وقيل : هو خارج على قول المنكر أو يجمع الله العظام كقول الآخر : ) قال من يحيي العظام وهي رميم ( .
القيامة : ( 4 ) بلى قادرين على . . . . .
ثم قال سبحانه : ) بلى قادرين ( أي نقدر استقبال صرف إلى الحال ، قال الفراء : ) قادرين ( نصب على الخروج من ) نجمع ( كأنك قلت في الكلام : أيحسب أن لن يقوى عليك ، بلى قادرين على أقوى منك ، يريد بلى نقوى مقتدرين على أكثر من ذا ، وقرأ ابن أبي غيلة قادرون بالرفع ، أي بلى نحن قادرون ، ومجاز الآية : بلى نقدر على جمع عظامه وعلى ما هو أعظم من ذلك ، وهو : ) على أن نسوّي بنانه ( أنامله فيجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحد كخف البعير ، أو كظلف الخنزير ، أو كحافر الحمار ، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئاً ولكنا فرقنا أصابعه حتى يأخذ بها ما شاء ، ويقبض إذا شاء ويبسط إذا شاء فحسنّا خلقه . هذا قول عامة المفسرين .
وقال القبيسي : ظن الكافر أن الله لا يبعث الموتى ولا يقدر على جمع العظام البالية ، فقال الله سبحانه : بلى قادرين أن نعيد السلاميات على صغرها ونؤلف بينها حتى نسوي البنان ، ومَنْ يقدر على هذا فهو على جمع كبار العظام أقدر وهذا كرجل قلت له : أتراك تقدر على أن تؤلف من هذا الحنظل في خيط ويقول نعم وبين الخردل .
القيامة : ( 5 ) بل يريد الإنسان . . . . .
) بل يريد الإنسان ليفجر أمامه ( يقول تعالى ذكره : ما يجهل إبن آدم أن ربّه قادر على جمع عظامه بعد الموت ، ولكنّه يريد أن يفجر أمامه ، أي يمضي قدماً في معاصي الله راكباً رأسه لا ينزع عنها ولا يتوب ، هذا قول مجاهد والحسن وعكرمه والسدي ، وقال سعيد بن جبير : يقدم الذنب ويؤخر التوبة ، يقول : سوف أتوب حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوأ أعماله ، وقال الضحاك : هو الأمل يأمل الإنسان يقول : أعيش وأصيب من الدنيا كذا وكذا ولا يذكر الموت ، وقال ابن عباس وابن زيد : يكذّب بما أمامه من البعث والحساب ، وقال ابن كيسان : يريد أن تأتيه الآخرة التي هي أمامه فيراها في دار الدنيا .
وأصل الفجور : الميل ، ومنه قيل للكافر والفاسق والكافر : فاجر ، لميلهم عن الحق ، وقال السدي أيضاً : يعني ليظلم على قدر طاقته ، وقيل : يركب رأسه في هواه ويهتم حيث قادته نفسه .
القيامة : ( 6 ) يسأل أيان يوم . . . . .
) يسئل أيان ( متى ) يوم القيمة ( فبيّن الله له ذلك فقال عزّ من قال :
القيامة : ( 7 ) فإذا برق البصر
) فإذا برق البصر ( قرأ أبو جعفر ونافع وابن أبي إسحاق : ) بَرَق ( بفتح الراء وغيرهم بالكسر .
(10/83)
" صفحة رقم 84 "
أخبرنا محمد بن نعيم قال : أخبرنا الحسن بن الحسين بن أيوب ، أخبرنا علي بن عبدالعزيز قال : حدّثنا أبو عبيد قال : حدّثنا حجاج عن هارون قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عنها فقال : برق بالكسر يعني جار قال : وسألت عنها عبدالله بن أبي إسحاق فقال : برَق بالفتح ، وقال : إنّما برق الحنظل اليابس ، وبرق البصر قال : فذكرت ذلك لأبي عمرو فقال : إنما برق الحنظل والنار والبرق ، وأما البصر فبرق عند الموت ، قال : فأخبرت بذلك ابن أبي إسحاق فقال : أخذت قراءتي عن الأشياخ نصر بن عاصم وأصحابه فذكرت ذلك لأبي عمرو فقال : لكني لا آخذ عن نصر ولا عن أصحابه كأنه يقول أخذ عن أهل الحجاز فقال : قتادة ومقاتل : شخص البصر فلا يطرف مما يرى من العجائب مما كان يكذب به في الدنيا إنّه غير كائن ، وقال الفراء والخليل : برق بالكسر فزع ، وأنشدا لبعض العرب :
فنفسك قانع ولا تتغي
وداو الكلوم ولا تبرق
أي لا تفزع من الجرح الذي بك .
قال ذو الرمّة :
ولو أن لقمان الحكيم تعرّضت
لعينيه ميّ سافراً كاد يبرق
وبرَق بفتح الراء : شقّ عينه وفتحها ، وأنشد أبو عبيدة :
لما أتاني ابن عمير راغباً
أعطيته عيساً صهاباً فبرق
أي فتح عينه ، ويجوز أن يكون من البرق .
القيامة : ( 8 ) وخسف القمر
) وخسف القمر ( أظلم وذهب ضوءه ، قال ابن كيسان : ويحتمل أن يكون بمعنى غاب كقوله سبحانه ) فخسفنا به الأرض ( ، وقرأ ( ابن أبي اسحاق وعيسى والأعرج ) : وخُسف بالضم لقوله :
القيامة : ( 9 ) وجمع الشمس والقمر
) وجُمع الشمسُ والقمر ( أسودين مكوّرين كأنهما ثوران عقيران ، وهي في قراءة عبدالله : وجمع بين الشمس والقمر ، وقيل : وجمع بينهما في ذهاب الضياء ، وقال عطاء بن يسار : يجمعان يوم القيامة ، ثم يقذفان في البحر ، فيكونان نار الله الكبرى ، وقال علي بن أبي طالب وابن عباس : يجعلان في نور الحجب .
القيامة : ( 10 ) يقول الإنسان يومئذ . . . . .
) يقول الإنسان يومئذ أين المفر ( المهرب ، وقرأها العامة ) المفر ( بفتح الفاء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم قالا : لأنه مصدر ، وقرأ ابن عباس والحسن بكسر الفاء ، قال الكسائي : هما
(10/84)
" صفحة رقم 85 "
لغتان مثل مدَب ومدِب ومصَح ومصِح ، وقال الآخرون : بالفتح المصدر وبالكسر موضع الفرار مثل المطلع والمطلع .
القيامة : ( 11 ) كلا لا وزر
) كلاّ لا وزر ( لا حصن ولا حرز ولا ملجأ ، قال السدي : لا جبل ، وكانوا إذا فزعوا نحوا إلى الجبل فتحصّنوا به فقال الله سبحانه : لا جبل يومئذ يمنعهم .
القيامة : ( 12 ) إلى ربك يومئذ . . . . .
) إلى ربّك يومئذ المستقر ( أي مستقر الخلق وأعمالهم وكل شي ، وقال مقاتل : المنتهى فلا يجد عنه مرحلا نظيره ) وأنّ إلى ربّك المنتهى ( وقال يمان : المصير والمرجع ، وهو قول ابن مسعود نظيره ) إن إلى ربك الرجعى ( و ) إلى الله المصير ( وقوله سبحانه ) ألا إلى الله تصير الأمور ( .
القيامة : ( 13 ) ينبأ الإنسان يومئذ . . . . .
) يُنْبؤُا الإنسن يومئذ بما قدّم وأخر ( قال ابن مسعود وابن عباس : قدم قبل موته من عمل صالح أو طالح وما أخر بعد موته من سنة حسنة أو سيئة يعمل بها . عطية عن ابن عباس : بما قدّم من المعصية وأخّر من الطاعة . مجاهد : بأول عمل عمله وآخره . قتادة : بما قدّم من طاعة الله وأخّر من حقّ الله فضيّعه . ابن زيد : بما قدّم من عمل من خير أو شر وما أخّر من العمل بطاعة الله فلم يعمل به .
عطاء : بما قدّم في أول عمره وما أخّر في آخر عمره . زيد بن أسلم : بما قدم من أمواله لنفسه وما أخّر خلّف للورثة ، نظيره ) علمت نفس ما قدّمت وأخّرت ( .
سمعت أبا عبدالرحمن السلمي يقول : سمعت أبا سعيد بن أبي بكر بن أبي عثمان يقول : سمعت أبي يقول : سمعت أبا عثمان يقول : خمس مصائب في الذنب أعظم من الذنب :
أوّلها : خذلان الله لعبده حتى عصاه ولو عصمه ما عصاه .
والثانية : أن سلبه حلية أوليائه وكساه لباس أعدائه .
والثالثة : أن أغلق عليه أبواب رحمته وفتح عليه أبواب عقوبته .
والرابعة : نظر إليه وهو يعصيه .
والخامسة : وقوفه بين يديه يعرض عليه ما قدّم وأخّر من قبائحه .
فهؤلاء المصائب الخمس في الذنب أعظم من الذنب .
(10/85)
" صفحة رقم 86 "
2 ( ) بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ كَلاَّ لاَ وَزَرَ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْءَانَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الاَْخِرَةَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِىَ وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ ( 2
القيامة : ( 14 ) بل الإنسان على . . . . .
) بل الإنسان على نفسه بصيرة ( قال عكرمة ومقاتل والكلبي : معناه بل الإنسان على نفسه من نفسه رقبا يرقبونه بعمله ويشهدون عليه به وهي : سمعه وبصره ويداه ورجلاه وجميع جوارحه وهذه رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .
قال القبسي : أقام جوارحه مقام نفسه لذلك رأت ويجوز أن يكون تأنيثه للإضافة إلى النفس كما تقول في الكلام : ذهبت بعض أصابعه ، و ) بصيرة ( مرفوعة بخبر حرف الصفة وهي قوله ) على نفسه ( ، ويحتمل أن يكون معناه بل الإنسان على نفسه ببصيرة ، ثم حذفت حرف الجر كقوله : ) وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم ( أي لأولادكم ، ويصلح أن يكون نعتاً لاسم مؤنث أي بل للإنسان على نفسه عين بصيرة وأنشد الفراء :
كأن على ذي العقل عيناً بصيرة
بمقعده أو منظر هو ناظره
يحاذر حتّى يحسب الناس كلهم
من الخوف ولا تخفى عليه سرائره
قال أبو العالية وعطاء : بل الإنسان على نفسه شاهد ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، والهاء في ) بصيرة ( للمبالغة ، وقال الأخفش : هي كقولك فلان عبرة وحجة ، ودليل هذا التأويل قول الله تعالى : ) كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً ( وقال ابن تغلب : البصيرة والبينة والشاهد والدليل واحد .
القيامة : ( 15 ) ولو ألقى معاذيره
) ولو ألقى ( عليه ) معاذيره ( يعني أنه يشهد عليه الشاهد ولو أعتذر وجادل عن نفسه . نظيره قوله سبحانه : ) يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ( وقوله : ) ولا يؤذن لهم فيعتذرون ( وهذا قول مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وابن زيد وأبو العالية وعطا . قال الفراء : ولو اعتذر
(10/86)
" صفحة رقم 87 "
فعليه من نفسه من يكذّب عذره . مقاتل : ولو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك .
ومعنى الإلقاء : القول نظيره : ) فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون ( ) وألقوا إلى الله يومئذ السلم ( . الضحاك والسدي : يعني ولو أرخى الستور وأغلق الأبواب ، قال : وأهل اليمن يسمّون الستر المعذار ، وقال بعض أهل المعاني : المعاذير إحالة بعضهم على بعض .
القيامة : ( 16 ) لا تحرك به . . . . .
) لا تحرك به لسانك لتعجل به ( وذلك أن رسول الله ( عليه السلام ) كان لا يفتر من قراءة القرآن مخافة أن ينساه ، وكان إذا نزل عليه جبرائيل بالقرآن لم يفرغ جبرائيل من الآية حتى يقرأ رسول الله ( عليه السلام ) أولها ويحرك لسانه بها في نفسه مخافة أن ينساها فأنزل الله سبحانه ) ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه ( وأنزل ) سنقرئك فلا تنسى ( وأنزل ) لا تحرك به ( أي بالوحي لسانك به أي تلاوته لتحفظه ولا تنساه
القيامة : ( 17 ) إن علينا جمعه . . . . .
) إنّ علينا جمعه ( في صدرك حتى تحفظه ) وقرءانه ( وقراءته عليك حتى تعيه وقيل أراد بقوله : ) وقرءانَهُ ( وجمعه في صدرك وهو مصدر كالرجحان والنقصان .
القيامة : ( 18 ) فإذا قرأناه فاتبع . . . . .
) فإذا قرأناه ( عليك ) فاتّبع قرءانه ( أي ما فيه من الأحكام
القيامة : ( 19 ) ثم إن علينا . . . . .
) ثم إنّ علينا بيانه ( بما فيه من الحدود والحلال والحرام .
القيامة : ( 20 - 21 ) كلا بل تحبون . . . . .
) كلاّ بل تحبّون العاجلة وتذرون الآخرة ( قرأهما أهل المدينة والكوفة بالتاء وغيرهم بالياء أي يختارون الدنيا على العقبى نظيرها في سورة الإنسان ) ان هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراهم يوماً ثقيلا ( .
القيامة : ( 22 ) وجوه يومئذ ناضرة
) وجوه يومئذ ( يعني يوم القيامة ) ناضرة ( . قال ابن عباس : حسنة . قال الحسن : حسّنها الله بالنظر إلى ربها . مجاهد : مسرورة . ابن زيد : ناعمة . مقاتلان : بيض يعلوها النور . السدي : مضيئة . يمان : مسفرة . الفراء : مشرقة بالنعيم . الكسائي : بهجة . قال الفراء والأخفش : يقال نضر الله وجه فلان فلا يتنضر نضيراً فنضر وجهه ننضّرُ نضّرة ونضارة قال الله سبحانه : ) تعرف في وجوههم نضرة النعيم ( وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( نضّر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها ) ، ونظر في هذه الآية قوله سبحانه : ) وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ( .
القيامة : ( 23 ) إلى ربها ناظرة
) إلى ربّها ناظرة ( وأكثر الناس تنظر إلى ربّها عياناً
(10/87)
" صفحة رقم 88 "
قال الحسين بن واقد : أخبرني يزيد بن عكرمة وإسماعيل بن أبي خالد وأشياخ من أهل الكوفة قالوا : تنظر إلى ربّها نظراً ، وقال الحسن : تنظر إلى الخالق وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق ، وقال عطية العوفي : ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره يحيط بهم ، فذلك قوله سبحانه : ) لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ( ودليل هذا التأويل ما أخبرنا الحسن بن فنجويه قال : حدّثنا ابن ماجه قال : حدّثنا أبو جعفر محمد بن مندة الأصفهاني قال : حدّثنا الحسين بن حفص قال : حدّثنا إسرائيل بن يونس عن ثوير بن أبي ناختة قال : سمعت ابن عمر يقول : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وزوجاته ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف عام ، وإن أكرمهم على الله لمن ينظر إلى وجهه تبارك وتعالى غدوة وعشية ثم قرأ رسول الله ( عليه السلام ) ) وجوه يومئذ ناضرة إلى ربّها ناظرة ( ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو النفخ محمد بن الحسن الأزدي الموصلي قال : حدّثني أحمد بن عيسى بن السكين قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن عمر بن يونس اليمامي قال : حدّثنا قال : أخبرنا رباح بن زيد الصنعاني قال : أخبرني ابن جريح قال : أخبرني زياد بن سعد أن أبا الزبير أخبره عن جابر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يتجلّى ربّنا عزّوجل حتى ينظروا إلى وجهه فيخرّون له سجداً فيقول : إرفعوا رؤسكم فليس هذا بيوم عبادة ) .
وروى الحسن عن عمار بن ياسر قال : كان من دعاء النبي ( عليه السلام ) : ( اللهم أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلّة ) يعني أنّها تنتظر الثواب من ربّها ولا تراه من خلفه شي .
قلت : وهذا تأويل مدخول ؛ لأنّ العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار قالوا : نظرته ، كما قال الله سبحانه : ) فهل ينظرون إلاّ الساعة ( هل ينظرون إلاّ نار الله ؟ ) وما ينظرون إلاّ صيحة واحدة ( وإذا أردت به التفكّر والتدبير قالوا : نظرت فيه فأمّا إذا كان النظر مقروناً بذكر إلى وذكر الوجه فلا يكون إلاّ بمعنى الرؤية والعيان .
القيامة : ( 24 ) ووجوه يومئذ باسرة
) ووجوه يومئذ باسرة ( عابسة كالحة متغيّرة مسودة
القيامة : ( 25 ) تظن أن يفعل . . . . .
) تظنُّ أن يفعل بها فاقرة ( قال مجاهد : داهية ، سعيد بن المسيب : قاصمة الظهر وأصلها الفقرة والفقار ، يقال : فقره إذا كسر فقاره ، كما يقال : رأسه إذا ضرب رأسه ، وقال قتادة : الفاقرة : الشرّ ، وقال ابن زيد : تعلم أنها
(10/88)
" صفحة رقم 89 "
ستدخل النار ، وقال أبو عبيدة : الفاقرة : الداهية يقال : عمل بها الفاقرة وأصلها الوسم على أنف البعير بحديدة أو بنار حتى يخلص إلى العظم ، وقال الكلبي : منكرة من العذاب وهي الحجاب .
القيامة : ( 26 ) كلا إذا بلغت . . . . .
) كلاّ إذا بلغت ( يعني النفس كناية عن غير مذكور ) التراقي ( فيحشرج بها عند الموت ، والتراقي : العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين وشمال ، وقال دريد بن الصمة :
ورُبَّ عظيمة دافعت عنهم
وقد بلغت نفوسهم التراقي
القيامة : ( 27 ) وقيل من راق
) وقيل ( وقال من حضره ) من راق ( هل من طبيب يرقيه ويداويه فيشفيه . قال قتادة : التمسوا له الأطباء فلم يغنوا عنه من قضاء شيئاً .
أخبرني الحسين قال : حدّثنا السني أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال : حدّثنا مسدّد بن مسرهد عن خالد بن عبدالله عن عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن السلمي أنه كوى غلاماً له فقلت أتكوى قال : نعم هوّدوا العرب .
أخبرنا ابن مسعود أن رسول الله ( عليه السلام ) قال : ( إن الله سبحانه لم ينزل داء إلاّ وقد أنزل معه دواء جهله من جهله وعلمه من علمه ) ، وقال سليمان التيمي ومقاتل بن سليمان : هذا من قول الملائكة يقول بعضهم لبعض من يرقى بروحه فيصعد بها ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، وهذه رواية أبي الجوزاء عن ابن عباس . قال أبو العالية : يختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب أيّهم يترقّى بروحه .
القيامة : ( 28 ) وظن أنه الفراق
) وظنّ أنّه الفراق ( فراق ليس يشبهه فراق قد انقطع الرجاء عن التلاق .
أخبرنا الربيع بن محمد الخاتمي ومحمد بن عقيل الخزاعي قالا : أخبرنا علي بن محمد بن عقبة الشيباني قال : أخبرنا الخضر بن أبان القرشي قال : حدّثنا ابن ميثم بن هدية عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( عليه السلام ) : ( إنّ العبد ليعالج كرب الموت وسكراته وإنّ مفاصله يسلّم بعضها على بعض يقول عليك السلام تفارقني وأفارقك إلى يوم القيامة ) .
( ) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى وَلَاكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالاُْنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِىَ الْمَوْتَى (
(10/89)
" صفحة رقم 90 "
القيامة : ( 29 ) والتفت الساق بالساق
) والتفت الساق بالساق ( قال الربيع بن أنس : الدنيا بالآخرة ، وهي رواية أبي الجوزاء وعطية عن ابن عباس ، ورواية عوف ومنصور عن الحسن ، وروى الوالي وبادان عن ابن عباس قال : أمر الدنيا بأمر الآخرة ، فكان في آخر يوم من أيام الدنيا ، وأول يوم من أيام الآخرة ، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد وقال : إسماعيل ابن أبي خالد : عمل الدنيا بعمل الآخرة ، وقال الضحاك : الناس يجهزون جسده والملائكة يجهزون روحه ، وروى سفيان عن رجل عن الحسن عن مجاهد قالا : اجتمع فيه الحياة والموت . قتادة : الشدّة بالشدّة . بشر بن المهاجر عن الحسن قال : هما ساقاك إذا لفّتا في الكفن ، وإليه ذهب سعيد بن المسيّب .
وأخبرنا عبدالله بن حامد قال : أخبرنا أبو محمد المزني قال : حدّثنا مطين قال : حدّثنا نصر بن علي فقال : حدّثنا خالد بن قيس عن قتادة عن الحسن قال : ماتت رجلاه ولم تحملاه وكان عليهما جوّالا ، وروى شعبة عن قتادة قال : أمر أتاه إذا ضرب برجله الأخرى . أبو مالك : يلبسهما عند الموت . عكرمة : خروج من الدنيا إلى الآخرة . أبو يحيى عن مجاهد : بلاء ببلاء . القرطبي : الأمر بالأمر . زيد بن أسلم : ساق الكفن بساق الميت . سعيد بن جبير : تتابعت عليه الشدائد . السدي : لا يخرج من كرب إلاّ جاءه أشدّ منه ، والعرب لا تذكر الساق إلاّ في المحن والشدائد ، ومنه مثلهم السائر : ( لا يرسل الساق إلاّ ممسكاً ساقاً ) ، وقال أميّه بن أبي الصلّت :
وقد أرقت لهمَ بات يطرقني
والنفس ذات حزازات وطرّاق
مستجذ بالقراة حين
آرقني ليل التمام أقاسيه على ساق
أي على تعب وشدة .
وقال ابن عطاء : اجتمع عليه شدّة مفارقة الوطن من الدنيا والأهل والولد وشدّة القدوم على ربّه لا يدري بماذا يقدم عليه لذلك قال عثمان بن عفان : ما رأيت منظراً إلاّ والقبر أفضع منه ؛ لأنّه آخر منازل الدنيا وأول منازل الآخرة ، وقال يحيى بن معاذ : إذا دخل الميت القبر قام على شفير قبره أربعة أملاك واحد عند رأسه والثاني عند رجليه والثالث عن يمينه والرابع عن يساره ، فيقول الذي عند رأسه : يا ابن آدم انفضّت الآجال وانقطعت الآمال ، ويقول الذي عن يمينه : ذهبت الأموال وبقيت الأعمال ، ويقول الذي عن يساره : ذهب الأشغال وبقي الوبال ، ويقول الذي عند رجليه : طوبى لك من كسبك إن كان كسبك من الحلال وكنت مشتغلاً بخدمة ذي الجلال .
القيامة : ( 30 ) إلى ربك يومئذ . . . . .
) إلى ربّك يومئذ المساق ( المنتهى والمرجع تسوق الملائكة روحه حيث أمرهم الله سبحانه وتعالى .
القيامة : ( 31 ) فلا صدق ولا . . . . .
) فلا صدّق ( يعني أبا جهل ) ولا صلّى }
القيامة : ( 32 - 33 ) ولكن كذب وتولى
) ولكن كذّب وتولى ثم ذهب إلى أهله يتمطّى ( يتبختر ، قال زيد بن أسلم : هي مشية بني مخزوم وأصله من المطا وهو الظهر أي يلوي مطاه تبختراً ، وقيل : أصله يتمطط أي يتمدد ، والمط هو المد فجعلت أحدى الطاءت يا ، وقد مضت هذه المسألة وتمطى الإنسان إذا قام من منامه فتمدّد .
(10/90)
" صفحة رقم 91 "
أخبرني الحسين قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن علي بن الحسين الهمداني قال : حدّثنا محمد بن علي بن مخلد الفرقدي قال : حدّثنا سليمان بن داود الشاذكوني قال : حدّثنا سفيان بن عتبة عن يحيى بن سعيد الأنصاري سمع شيخاً قديماً يقال له بجنس مولى الزبير يقول : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم الروم وفارس سلط بعضهم على بعض ) قال سفيان : فأخبرت بهذا الحديث ابن أبي نجيح فقال هل تدرون ما المطيطاء ؟ هو مثل قوله سبحانه : ) ثم ذهب إلى أهله يتمطى ( يتبختر .
القيامة : ( 34 - 35 ) أولى لك فأولى
) أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ( هذا وعيد من الله سبحانه على وعيد أبي جهل وهي كلمة موضوعة للتهدّد والوعيد قالت الخنساء :
هممت بنفسي كل الهموم
فأولى لنفسي أولى لها
وأنشدني أبو القيّم السدوسي قال : أنشدني أبو محمد عبدالله بن محمد البلوي الأدبي قال : أنشدنا أحمد بن يحيى بن تغلب :
يا أوس لو نالتك أرماحنا
كنت كمن تهوى به الهاويه
القيتا عيناك عند القفا
أولى فأولى لك ذا واقيه
وقال بعض العلماء : معناه أنك أجدر بهذا العذاب وأحقّ وأولى ، يقال للرجل يصيبه مكروه يستوجبه ، وقيل : هو كلمة يقولها العرب لمن قاربه المكروه وأصلها من الولي وهو القرب ، قال الله سبحانه : ) قاتلوا الذين يلونكم ( ويقال ثمّ الذي يليه أي يقرب منه . قال الشاعر :
فصالوا صولة فيمن يليهم
وصلنا صولة فيمن يلينا
وقال آخر :
هجرت غضوب وحب من يتجنّب
وَعَدَتْ عواد دون وليك تشعب
وحكى لنا الإستاذ أبو القيم الحلبي أنه سمع أبا الهيثم الجمي وكان عارفاً بالمعاني يقول حاكياً عن بعض العلماء : أن قوله ) أولى ( من المقلوب مجازه : أويل من الويل ، كما يقال : ما أطيبه وأيطبه وعاقني وعقاني وأيم وأيامي وأصله أيايم وقوس وقسي وأصله قؤوس ، ومعنى الآية
(10/91)
" صفحة رقم 92 "
كأنه يقول لأبي جهل : الويل لك يوم تموت ، والويل لك يوم تبعث ، والويل لك يوم تدخل النار وتخلد فيها .
وقال قتادة : ذكر لنا أن النبي ( عليه السلام ) لمّا نزلت هذه الآية اخذ بمجامع ثوب أبي جهل بالبطحاء وقال له : ) أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى ( فقال أبو جهل : اتوعدني يا محمد والله ما تستطيع أنت ولا ربّك أن تفعلا بي شيئاً وأني لأعزّ من مشى بين جبليها ، فلمّا كان يوم بدر أشرف عليهم وقال : لا نعبد الله بعد اليوم ، فصرعه الله شرّ مصرع ، وقتله أسوأ قتلة ، أقعصه ابنا عفراء وأجهز عليه ابن مسعود ، قال : وذكر لنا أن أبا جهل كان يقول : لو علمت أن محمداً رسول الله ما أتبعت غلاماً من قريش قال : وذكر لنا أن نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول : ( إنّ لكل أمّة فرعوناً وأن فرعون هذه الأمة أبو جهل ) .
القيامة : ( 36 ) أيحسب الإنسان أن . . . . .
) أيحسب الإنسان أن يترك سُدىً ( هملا لا يؤمر ولا ينهى يقال : أسديت حاجتي أي ضيّعتها ، وأبل سدى ترعى حيث شاءت بلا راع .
القيامة : ( 37 ) ألم يك نطفة . . . . .
) ألم يك نطفة من منيّ يمنى ( قرأ الحسن وابن محيص وأبو عمرو ويعقوب وسلام بالياء وهي رواية المفضل وحفص عن عاصم واختيار أبي عبيد لأجل المنى ، وقرأ الباقون بالتاء لأجل النطفة وهو اختيار أبي حاتم .
القيامة : ( 38 ) ثم كان علقة . . . . .
) ثم كان علقة فخلق فسوى ( خلقه
القيامة : ( 39 - 40 ) فجعل منه الزوجين . . . . .
) فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى أليس ذلك ( الذي فعل هذا ) بقادرٍ على أن يحيي الموتى ( .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا القطيعي قال : حدّثنا الكندي قال : حدّثنا سعيد بن بنان الصفار قال : حدّثنا شعبة قال : حدّثني يونس الطويل جليس لأبي إسحاق الهمداني عن البراء بن عازب قال : لما نزلت هذه الآية ) أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى ( قال رسول الله ( عليه السلام ) : ( سبحانك وبلى ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن إبراهيم الربيعي قال : حدّثنا إبراهيم بن عبدالله ابن أيوب المخزومي قال : حدّثنا صالح بن مالك قال : حدّثنا أبو نوفل علي بن سليمان قال : حدّثنا أبو إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن عبدالله بن عباس قال : من قرأ ) سبح اسم ربك الأعلى ( إماماً كان أو غيره فليقل : سبحان ربي الأعلى ، ومن قرأ : ) لا أقسم بيوم القيامة ( فإذا انتهى إلى آخرها فليقل : سبحانك اللهم بلى ، إماماً كان أو غيره .
(10/92)
" صفحة رقم 93 "
( سورة الإنسان ( الدهر )
مكية ، وهي ألف وأربع مائة وخمسون حرفاً ، ومائتان وأربعون كلمة ، وإحدى وثلاثون آية
أخبرني نافل بن راقم قال : حدّثنا محمد بن شادة قال : حدّثنا أحمد بن الحسن قال : حدّثنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا مسلم بن قتيبة عن شعبة عن عاصم عن زرّ عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله جنة وحريراً ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالاً وَسَعِيراً إِنَّ الاَْبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً ( 2
الإنسان : ( 1 ) هل أتى على . . . . .
) هل أتى ( قد أتى ) على الإنسان ( آدم ( عليه السلام ) ، وهو أول من سمّي به ) حين من الدهر ( أربعون سنة ملقى بين مكة والطائف قبل أن ينفخ الروح فيه ) لم يكن شيئاً مذكوراً ( لا يذكر ولا يعرف ولا يدري ما اسمه ولا ما يراد به ، وروى أن عمر سمع رجلا يقول ) هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً ( فقال عمر : ليتها تمت ، وقال عون بن عبدالله : قرأ رجل عند ابن مسعود الآية فقال : إلاّ ليت ذلك .
الإنسان : ( 2 ) إنا خلقنا الإنسان . . . . .
) إنا خلقنا الإنسان ( يعني ولد آدم ) من نطفة ( يعني من منيّ الرجل ومنيّ المرأة ، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة ، كقول عبدالله بن رواحة : هل أنت إلاّ نطفة ، وجمعها نطاف ونُطف ، وأصلها من نطف إذا قطر . ) أمشاج ( أخلاط ، واحدها مشج مشيج مثل حذن وحذين قال رؤبة :
يطرحن كلّ معجّل نسّاج
لم يكس جلداً في دم أمشاج
(10/93)
" صفحة رقم 94 "
ويقال مشجت هذا بهذا أي خلطته فهو ممشوج ومشج ، مثل مخلوط وخليط ، قال أبو دوم :
كأن الريش والفوقين منه
خلاف النصل سبطيه مشيج
قال ابن عباس والحسن وعكرمة ومجاهد والربيع : يعني ماء الرجل وماء المرأة يختلطان في الرحم فيكون منهما جميعاً الولد ، وماء الرجل أبيض غليط وماء المرأة أصفر رقيق ، فأيهما علا صاحبه كان الشبه له ، وقال قتادة : هي أطوار الخلق : نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم لحماً ثم عظاماً ثم يكسوه لحماً ثم ينشئه خلقاً آخر .
وقال الضحاك : أراد اختلاف ألوان النطفة نطفة ، الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وحمراء فهي مختلفة الألوان ، وهي رواية الوالي عن ابن عباس وابن أبي نجح عن مجاهد ، وكذلك قال عطاء الخراساني والكلبي : الأمشاج الحمرة في البياض والبياض في الحمرة أو الصفرة .
وقال عبدالله بن مسعود وأسامة بن زيد : هي العروق التي تكون في النطفة ، وروى ابن جريح عن عطاء قال : الأمشاج الهن الذي كإنه عقب ، وقال الحسن : نعم والله خلقت من نطفة مشجت بدم وهو دم الحيضة فإذا حبلت أرفع الحيض ، وقال يمان : كل لونين اختلطا فهما أمشاج ، وقال ابن السكيت : الأمشاج : الأخلاط ، لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان ذا طبائع مختلفة ، وقال أهل المعاني : بناء الأمشاج بناء جمع وهو في معنى الواحد لأنه نعت النطفة وهذا كما يقال : برمة أعشار وثوب أخلاق ونحوهما .
وسمعت أبا عبدالرحمن السلمي يقول : سمعت أبا عثمان المغربي يقول : سُئلت وأنا بمكّة عن قول الله سبحانه : ) أمشاج نبتليه ( فقلت ابتلى الله الخلق تسعة أمشاج : ثلاث مفتنات وثلاث كافرات وثلاث مؤمنات ، فأما الثلاث المفتنات فسمعه وبصره ولسانه ، وأما الثلاث الكافرات فنفسه وهواه وشيطانه ، وأما الثلاث المؤمنات فعقله وروحه وملكه ، فإذا أيّد الله العبد بالمعونة فقرّ العقل على القلب فملكه واستأسرت النفس والهوى فلم يجد إلى الحركة سبيلا ، فجانست النفس الروح وجانس الهوى العقل وصارت كلمة الله هي العليا : ) قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ( .
) نبتليه ( نختبره بالأمر والنهي وقال بعض أهل العربية : هي مقدمة معناها التأخير مجازها : ) فجعلنه سميعاً بصيراً ( لنبتليه ؛ لأن الابتلاء لا يقع إلاّ بعد تمام الخلقة .
الإنسان : ( 3 ) إنا هديناه السبيل . . . . .
) إنّا هدينه السبيل (
(10/94)
" صفحة رقم 95 "
أي بيّنا له سبيل الحق والباطل والهدى والضلالة وعرّفناه طريق الخير والشرّ وهو كقوله ) وهديناه النجدين ( ) إمّا شاكراً وإمّا كفوراً ( أما مؤمناً سعيداً وأما كافراً شقيّاً يعني خلقناه أما كذا وأما كذا ، وقيل معنى الكلام : الجزاء ، يعني بيّنا له الطريق إن شكر وكفر ، وهو إختيار الفرّاء ، ثم بين الفريقين فقال عز من قال
الإنسان : ( 4 ) إنا أعتدنا للكافرين . . . . .
) إنّا أعتدنا للكفرين سلاسلا ( كل سلسلة سبعون ذراعاً .
) وأغلالا وسعيراً ( قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم عن حفص والأعمش والكسائي وأيوب كلهن : ) سلاسلاً ( بإثبات الألف في الوقف والتنوين في الأصل ، وهو اختيار أبي عبيد ، ورواية هشام عن أهل الشام ، ضده حمزة وخلف ( وقنبل ) ويعقوب برواية ( . . . . . ) وزيد ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : قواريراً الأولى بالألف والثاني بغير ألف .
قال أبو عبيد : ورأيت في مصحف الإمام عثمان ) قواريراً ( الأولى بالألف مبنية والثانية كانت بالألف فحكّت ، ورأيت أثرها بيّنا هناك .
الإنسان : ( 5 ) إن الأبرار يشربون . . . . .
) إنّ الأبرار ( يعني المؤمنين الصادقين في إيمانهم المطيعين لربّهم ، وقال الحسن : هم الذين لا يؤذون الذر ولا ينصبون الشرّ ، وأحدهم بار ، مثل شاهد وأشهاد وناصر وأنصار وصاحب وأصحاب ويراد بها مثل نهر وأنهار وضرب وأضراب .
) يشربون ( في الآخرة ) من كأس ( خمر ) كان مزاجها كافوراً ( قال قتادة : يمزج لهم بالكافور ويختم لهم بالمسك ، وقال عكرمة : مزاجها طعمها ، وقال أهل المعاني : أراد كالكافور في بياضه وطيب ريحه وبرده ، لأن الكافور لا يشرب ، وهو كقوله ) حتى إذا جعله ناراً ( أي كنار ، وقال ابن كيسان : طيّبت بالكافور والمسك والزنجبيل ، وقال الفرّاء : ويقال : إنّ الكافور اسم لعين ماء في الجنة ، وفي مصحف عبدالله من كأس صفراء كان مزاجها قافورا والقاف والكاف يتعاقبان ؛ لانّهما لهويتان ، وقال الواسطي : لمّا اختلفت أحوالهم في الدنيا اختلفت أشربتهم في الآخرة فكأس الكافور برّدت الدنيا في صدورهم .
الإنسان : ( 6 ) عينا يشرب بها . . . . .
) عينا ( نصب لأنها تابعة للكافور كالمفر له وقال الكسائي : على الحال والقطع ، وقيل : يشربون عيناً ، وقيل من عين ، وقيل : أعني عينا ، وقيل : على المدح وهي لهذه الوجوه كلّها محتملة .
) يشرب بها ( أي شربها والباء صلة وقيل منها . ) عباد الله يفجّرونها تفجيراً ( أي يقودونها حيث شاءوا من منازلهم وقصورهم كما يفجر الرجل منكم النهر يكون له في الدنيا هاهنا وهاهنا إلى حيث يريد .
(10/95)
" صفحة رقم 96 "
2 ( ) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الاَْرَائِكِ لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً ( 2
الإنسان : ( 7 ) يوفون بالنذر ويخافون . . . . .
) يوفون بالنذر ( قال قتادة : بما فرض الله سبحانه عليهم من الصلاة والزكاة والحج والعمرة وغيرها من الواجبات ، وقال مجاهد وعكرمة : يعني إذا بدروا في طاعة الله وفوا به . ) ويخافون يوماً كان شرّه مستطيراً ( ممتداً قاسيا يقال استطار الصدع في الزجاجة واستطال إذا امتد ، ومنه قول الأعشى :
وبانت وقد أُسأرت في الفؤاد
صدعاً على نأيها مستطيراً
الإنسان : ( 8 ) ويطعمون الطعام على . . . . .
) ويطعمون الطعام على حبّه ( قال ابن عباس : على قلّته وحسبهم أياه وشهوتهم له ، وقال الداري : على حبّ الله ، وقال الحسين بن الفضل : على حبّ إطعام الطعام . ) مسكيناً ويتيماً وأسيراً ( وهو الحربي يؤخذ قهراً أو المسلم يحبس بحق . قال قتادة : بعد أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم ، وأنّ أسراءهم يومئذ لأهل الشرك فأخوك المسلم أحقّ أن تطعمه ، وقال مجاهد وسعيد بن جبير وعطا : هو المسجون من أهل القبلة .
أخبرني الحسن قال : حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبدالله قال : حدّثنا عبدالله بن محمد بن ناجية قال : حدّثنا عباد بن أحمد العرزمي قال : حدّثنا عمي عن أبيه عن عمرو بن قيس عن عطية عن أبي سعيد الخدري عن النبي ( عليه السلام ) ) ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ( قال : ( فقيراً ) ) ويتيماً ( قال : ( لا أب له ) ) وأسيراً ( قال : ( المملوك والمسجون ) ، وقال أبو حمزة الثمالي : الأسير المرأة ، ودليل هذا التأويل قول النبي ( عليه السلام ) : ( استوصوا بالنساء خيراً فإنّهن عندكم عوان ) .
الإنسان : ( 9 ) إنما نطعمكم لوجه . . . . .
) إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً ( فيه وجهان : أحدهما أن يكون جمع الشكر كالفلوس بجمع الفلس ، والكفور بجمع الكفر ، والآخران يكون بمعنى المصدر كالفعول والدخول والخروج .
قال مجاهد وسعيد بن جبير : أمّا أنهم ما تكلموا به ، ولكن علمه الله من قلوبهم فأثنى عليهم ليرغب في ذلك راغب .
الإنسان : ( 10 ) إنا نخاف من . . . . .
) إنا نخاف من ربّنا يوماً ( في يوم ) عبوساً ( تعبس فيه الوجوه من شدّته وكثرة مكارهة
(10/96)
" صفحة رقم 97 "
فنسب العبوس إلى اليوم كما يقال : يوم صائم وليل نائم ، وقال ابن عباس : يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران ، وقيل : وصف اليوم بالعبوس لما فيه من الشدّة والهول كالرجل الكالح البائس .
) قمطريرا ( روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : العبوس : الضيق ، والقمطرير : الطويل . الكلبي : العبوس : الذي لا انبساط فيه والقمطرير : الشديد . وقال قتادة ومجاهد ومقاتل : القمطرير : الذي يقلّص الوجوه ويقبض الحياة وما بين الأعين من شدته . قال الأخفش : القمطرير أشدّ ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء يقال : يوم قمطرير وقماطر إذا كان شديداً لكربها . قال الشاعر :
ففرّوا إذا ما الحرب ثار غبارها
ولج بها اليوم العبوس القماطر
وأنشد الفرّاء :
بني عمّنا هل تذكرون بلانا
عليكم إذا ما كان يوم قماطر
وقال الكسائي : أقمطرّ القوم وأزمهرّ أقمطراراً وازمهراراً وهو الزمهرير والقمطرير ، ويوم مقمطر إذا كان صعباً شديداً . قال الهذلي :
بنو الحرب أرضعنا لهم مقمطرّة
فمن تلق منا ذلك اليوم يهرب
الإنسان : ( 11 ) فوقاهم الله شر . . . . .
) فوقياهم الله شرّ ذلك اليوم ( الذي يخافون ) ولقيهم نضرة ( في وجوههم ) وسروراً ( في قلوبهم
الإنسان : ( 12 ) وجزاهم بما صبروا . . . . .
) وجزاهم بما صبروا ( على طاعة الله وعن معصيته ، وقال الضحاك : على الفقر . القرطبي : على الصوم . عطاء : على الجوع .
وروي سعيد بن المسيب عن عمر قال : سئل رسول الله ( عليه السلام ) عن الصبر فقال : ( الصبر أربعة أولها الصبر عند الصدمة الأولى والصبر على أداء الفرائض ، والصبر على اجتناب محارم الله ، والصبر على المصائب ) . ) جنة وحريراً ( قال الحسن : أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير .
الإنسان : ( 13 ) متكئين فيها على . . . . .
) متَّكئين ( نصب على الحال ) فيها ( في الجنة ) على الأرائك ( السرر في الحجال لا تكون أريكة إذا اجتمعا . قال الحسن : وهي لغة أهل اليمن كان الرجل العظيم منهم يتخذ أريكة فيقال : أريكه فلان .
وقال مقاتل : الأرائك : السرر في الحجال من الدر والياقوت موضونة بقضبان الذهب والفضة وألوان الجواهر . ) لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً ( أي شتاء ولا قيضاً .
(10/97)
" صفحة رقم 98 "
قال قتادة : علم الله سبحانه أن شدّة الحر تؤذي وشدة القرّ تؤذي فوقّاهم الله أذاهما جميعاً ، وقال مرة الهمداني : الزمهرير البرد القاطع . مقاتل بن حيّان : هو شي مثل روس الابر ينزل من السماء في غاية البرد . ابن سمعود : هو لون من العذاب وهو البرد الشديد .
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا بكر أحمد بن عمران السوادي يقول : سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلب وسئل عن قوله ) لا ترون فيها شمساً ولا زمهريرا ( قال الزمهرير القمر بلغة طي . قال شاعرهم :
وليلة ظلامها قد اعتكر
قطعتها والزمهرير ما زهر
أي لم يطلع القمر .
واختلف العلماء في سبب نزول هذه الآيات فقال مقاتل : نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكيناً ويتيماً وأسيراً وكانت قصته .
أخبرنا ابن فتجويه قال : حدّثنا محمد بن خلف بن حيّان قال : حدّثنا إسحاق بن محمد بن مروان قال : حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال : حدّثنا على بن علي بن أبي حمزة الثمالي قال : بلغنا أن مسكيناً أتى رسول الله ( عليه السلام ) فقال : يا رسول الله أطعمني فقال : ( والذي نفسي بيده ما عندي ما أطعمك ولكن أطلب ) فأتى رجلاً من الأنصار وهو يتعشى وامرأته فقال له : أني أتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت له : أطعمني فقال : ما عندي ما أطعمك ولكن أطلب ، فقال : الأنصاري لأمرأته : ما ترين ؟ فقالت : أطعمه وأسقه ثم أتى رسول الله ( عليه السلام ) يتيم فقال يا رسول الله أطعمني فقال : ( ما عندي ما أطعمك ولكن أطلب ) فأتى اليتيم الأنصاري الذي أتاه المسكين فقال له : أطعمني فقال لامرأته : ما ترين ؟ قالت : أطعمه فاطعمه ، ثم أتى رسول الله ( عليه السلام ) أسير فقال : يا رسول الله أطعمني ، فقال : ( والله ما معي ما أطعمك ولكن أطلب ) فأتى الأسير الأنصاري فقال له : أطعمني ، فقال : لامرأته ما ترين فقالت : أطعمه ، وكان هذا كلّه في ساعة واحدة ، فأنزل الله سبحانه فيما صنع الأنصاري من إطعامه المسكين واليتيم والأسير ) ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ( .
وقال غيرهما : نزلت في علي بن أبي طالب وفاطمة وجارية لهما يقال لها فضة وكانت القصة فيه .
وأخبرنا الشيخ أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد بن علي الشيباني العدل قراءة عليه في صفر سنة سبع وثمانين وثلثمائة قال : أخبرنا ابن الشرقي قال : حدّثنا محبوب بن حميد النصري
(10/98)
" صفحة رقم 99 "
قال : حدّثنا أبو محمد عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب الخوار ابن عم اللأحنف بن قيس سنة ثمان وخمسين ومائتين وسأله عن هذا الحديث روح بن عبادة قال : حدّثنا القيم بن مهرام عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس وأخبرنا عبدالله بن حامد قال : أخبرنا أبو محمد أحمد بن عبدالله المزني قال : حدّثنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن سهيل بن علي بن مهران الباهلي بالبصرة قال : حدّثنا أبو مسعود عبدالرحمن بن فهد بن هلال قال : حدّثنا الغنيم بن يحيى عن أبي علي القيري عن محمد بن السائر عن أبي صالح عن ابن عباس قال : أبو الحسن بن مهران وحدّثني محمد بن زكريا البصري قال : حدّثني سعيد بن واقد المزني قال : حدّثنا القاسم بن بهرام عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس في قول الله سبحانه وتعالى ) يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً ( قال : مرض الحسن والحسين فعادهما جدّهما محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه أبو بكر وعمر ذ وعادهما عامّة العرب فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذراً وكل نذر لا يكون له وفاء فليس بشيء .
فقال علي ح : إن برأ ولداي مما بهما صمتُ ثلاثة أيام شكراً ، وقالت فاطمة خ : إن برأ ولداي مما بهما صمت لله ثلاثة أيام شكراً ما لبس الغلامان العافية ، وليس عند آل محمد قليل ولا كثير ، فانطلق علي ح إلى شمعون بن جابا الخيبري ، وكان يهودياً فاستقرض منه ثلاثة أصوع من شعير ، وفي حديث المزني عن ابن مهران الباهلي فانطلق إلى جار له من اليهود يعالج الصوف يقال له : شمعون بن جابا ، فقال : هل لك أن تعطيني جزّة من الصوف تغزلها لك بنت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بثلاثة أصوع من الشعير قال : نعم ، فأعطاه فجاء بالسوق والشعير فأخبر فاطمة بذلك فقبلت وأطاعت قالوا : فقامت فاطمة خ إلى صاع فطحنته وأختبزت منه خمسة أقراص لكل واحد منهم قرصاً وصلى علي مع النبي ( عليه السلام ) المغرب ، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه اذ أتاهم مسكين فوقف بالباب فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، مسكين من مساكين المسلمين ، أطعموني أطعمكم من موائد الجنة ، فسمعه علي ح فأنشأ يقول :
فاطم ذات المجد واليقين
يا ابنة خير الناس أجمعين
أما ترين البائس المسكين
قد قام بالباب له حنين
يشكوا إلى الله ويستكين
يشكوا إلينا جائع حزين
كل امرء بكسبه رهين
وفاعل الخيرات يستبين
موعدنا جنة عليين
حرمها الله على الضنين
وللبخيل موقف مهين
تهوى به النار إلى سجين
شرابه الحميم والغسلين
من يفعل الخير يقم سمين
ويدخل الجنة أي حين
(10/99)
" صفحة رقم 100 "
فأنشأت فاطمة :
أمرك عندي يا ابن عمّ طاعه
ما بي من لؤم ولا وضاعه
غذيت من خبز له صناعة
أطعمه ولا أبالي الساعه
أرجو إذ أشبعت ذا المجاعه
أن ألحق الأخيار والجماعه
وأدخل الخلد ولي شفاعه
قال : فأعطوه الطعام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئاً إلاّ الماء القراح ، فلمّا كان اليوم الثاني قامت فاطمة إلى صاع فطحنته فاختبزته وصلّى علي مع النبي ( عليه السلام ) ، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه فأتاهم يتيم فوقف بالباب فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، يتيم من أولاد المهاجرين ، استشهد والدي يوم العقبة ، أطعموني أطعمكم الله على موائد الجنة فسمعه علي ح فأخذ يقول :
فاطم بنت السيد الكريم
بنت نبي ليس بالزنيم
لقد أتى الله بذي اليتيم
من يرحم اليوم يكن رحيم
موعده في جنّة النعيم
قد حرّم الخلد على اللئيم
ألا يجوز الصراط المستقيم
يزل في النار إلى الجحيم
فأنشأت فاطمة :
أطعمه اليوم ولا أبالي
وأوثر الله على عيالي
أمسوا جياعاً وهم أشبالي
أصغرهم يقتل في القتال
بكربلا يقتل باغتيال
للقاتل الويل مع الوبال
تهوى به النار إلى سفال
وفي يديه الغل والأغلال
كبوله زادت على الأكبال . قال : فأعطوه الطعام ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئاً إلاّ الماء القراح ، فلمّا كان في اليوم الثالث قامت فاطمة خ إلى الصاع الباقي فطحنته واختبزته وصلى علي مع النبي ( عليه السلام ) ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه إذ أتاهم أسير فوقف بالباب فقال : السلام عليكم أهل بيت محمد ، تأسرونا ( وتشدوننا ) ولا تطعمونا ، أطعموني فإني أسير محمد أطعمكم الله على موائد الجنة ، فسمعه علي فأنشأ يقول :
(10/100)
" صفحة رقم 101 "
فاطم يابنة النبي أحمد
بنت نبي سيد مسوّد
هذا أسير للنبي المهتد
مكبّلٌ في غلّه مقيّد
يشكو إلينا الجوع قد تمدد
من يطعم اليوم يجده من غد
عند العلي الواحد الموحّد
ما يزرع الزارع سوف يحصد
فأنشأت فاطمة تقول :
لم يبق مما جاء غير صاع
قد ذهبت كفي مع الذراع
ابناي والله من الجياع
يارب لا تتركهما ضياع
أبوهما للخير ذو اصطناع
يصطنع المعروف بابتداع
عبل الذراعين طويل الباع
وما على رأسي من قناع
إلاّ قناعاً نسجه انساع
قال : فاعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئاً إلاّ الماء القراح فلما أن كان في اليوم الرابع وقد قضوا نذرهم أخذ علي ح بيده اليمنى الحسن وبيده اليسرى الحسين وأقبل نحو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع فلمّا نضر به النبي ( عليه السلام ) قال : يا أبا الحسن ما أشدّ ما يسؤني ما أرى بكم ، أنطلق إلى ابنتي فاطمة فانطلقوا إليها وهي في محرابها وقد لصق بطنها بظهرها من شدة الجوع وغارت عيناها ، فلما رأها النبي ( عليه السلام ) قال : ( واغوثاه بالله ، أهل بيت محمد يموتون جوعاً ) فهبط جبرائيل ( عليه السلام ) فقال : يا محمد خذها ، هنّأك الله في أهل بيتك قال : ( وما أخذنا يا جبرائيل ) فاقرأه ) هل أتى على الإنسان ( إلى قوله ) ولا شكوراً ( إلى آخر السورة .
قتادة بن مهران الباهلي في هذا الحديث : فوثب النبي ( عليه السلام ) حتى دخل على فاطمة فلما رأى مابهم انكب عليهم يبكي ، ثم قال : أنتم من منذ ثلاث فيما أرى وأنا غافل عنكم ، فهبط جبرائيل ( عليه السلام ) بهذه الآيات ) إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عيناً يشرب بها عباد الله يفجّرونها تفجيراً ( قال : هي عين في دار النبي ( عليه السلام ) تفجر إلى دور الأنبياء ( عليهم السلام ) والمؤمنين .
) يوفون بالنذر ( يعني علياً وفاطمة والحسن والحسين وجاريتهم فضة ) ويخافون يوماً كان شرّه مستطيراً ويطعمون الطعام على حبّه ( يقول على شهوتهم للطعام ، وإيثارهم مسكيناً من مساكين المسلمين ويتيماً من يتامى المسلمين ، وأسيراً من أسارى المشركين ، ويقولون إذا
(10/101)
" صفحة رقم 102 "
أطعموهم ) إنّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً إنا نخاف من ربّنا يوماً عبوساً قمطريراً ( قال : والله ما قالوا لهم هذا بألسنتهم ، ولكنهم أضمروه في نفوسهم ، فأخبر الله سبحانه بإضمارهم يقولون : لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً ، فيتمنون علينا به ولكنا أعطيناكم لوجه الله وطلب ثوابه قال الله سبحانه : ) فوقهم الله شرّ ذلك اليوم ولقاهم نضرة ( في الوجوه ) وسروراً ( في القلوب ) وجزاهم ( بما صبروا ) جنة ( يسكنونها ) وحريراً ( يلبسونه ويفترشونه ) متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً ( .
قال ابن عباس : وبينا أهل الجنة في الجنة إذا رأوا ضوءاً كضوء الشمس وقد أشرقت الجنان لها فيقول أهل الجنة : يا رضوان قال : ربّنا عزّوجل ) لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً ( فيقول : لهم رضوان : ليست هذه بشمس ولا قمر ولكن هذه فاطمة وعلي ضحكا ضحكاً أشرقت الجنان من نور ضحكهما ، وفيهما أنزل الله سبحانه : ) هل أتى على الإنسان حين من الدهر ( إلى قوله : ) وكان سعيكم مشكوراً ( .
وأنشدت فيه :
أنا مولى لفتى
أنزل فيه هل أتى
وعلى هذا القول تكون السورة مدنية ، وقد اختلف العلماء في نزول هذه السورة فقال مجاهد وقتادة : هي كلّها مدنية ، وقال الحسن وعكرمة : منها آية مكيّة وهي قوله سبحانه : ) ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً ( والباقي مدني ، قال الآخرون : هي كلّه مكيّة والله أعلم .
( ) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِئَانِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّواْ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هَاذَا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنزِيلاً فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً ( 2
الإنسان : ( 14 ) ودانية عليهم ظلالها . . . . .
) ودانية عليهم ظلالها ( أي قريبة منهم ظلال أشجارها ، وفي نصب الدانية أوجه : أحدها العطف بها على قوله متكئين ، والثاني على موضع قوله : ) لا يرون فيها شمساً ( ويرون دانية ، والثالثة على المدح ، وأتت دانية لأن الظلال جمع وفي قراءة عبدالله ودانياً عليهم ليقدم الفعل ، وفي حرف أبيّ ودان رفع على الإستئناف .
) وذلّلت ( سخّرت وقرّبت ) قطوفها ( ثمارها ) تذليلا ( يأكلون من ثمارها قياماً وقعوداً ومضطجعين ينالونها ويتناولونها كيف شاءوا على أي حال كانوا .
(10/102)
" صفحة رقم 103 "
أخبرنا عبدالله بن حامد قال : أخبرنا حامد بن محمد قال : حدّثنا موسى بن إسحاق قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : أرض الجنة من ورق وترابها مسك وأصول شجرها ذهب وفضّة وأفنانها لؤلؤ وزبرجد وياقوت ، والورق والثمر تحت ذلك فمن أكل قائماً لم يؤذه ( ومن أكل جالساً لم يؤذه ) ومن أكل مضطجعاً لم يؤذه فذلك قوله سبحانه : ) وذللت قطوفها تذليلا 2 )
الإنسان : ( 15 - 16 ) ويطاف عليهم بآنية . . . . .
) ويُطاف عليهم بأنية من فضة وأكواب كانت قواريراً قوارير من فضة ( قال المفسرون : أراد بياض الفضة في صفاء القوارير فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة .
أخبرنا محمد بن عبدالله بن حمدون قال : أخبرنا مكّي قال : حدّثنا عبدالرحمن بن بشر قال : حدّثنا سفيان وأخبرنا عبدالله بن حامد قال : حدّثنا محمد بن حمدويه قال : حدّثنا محمود ابن آدم قال : حدّثنا سفيان عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس في قوله سبحانه : ) قوارير من فضة ( قال : لو أخذت فضة من فضة الدنيا فضربتها حتى جعلتها مثل جناح الذباب لم تر الماء من ورائها ، ولكن قوارير الجنة في بياض الفضة في صفاء القارورة .
وقال الكلبي والثمالي : إن الله سبحانه جعل قوارير كلّ قوم من تراب أرضهم وإن تراب الجنة من فضة فجعل من تلك الفضة قوارير يشربون فيها . ) قدَّروها تقديراً ( على قدر رتبهم لا يزيد ولا ينقص ، وقال الربيع والقرطبي : على قدر الكفّ ، وقراءة العامّة بفتح القاف والدال قدرها لهم السقاة الذين يطوفون بها عليهم .
وأخبرني بن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا أبو حامد المستملي قال : أخبرنا محمد بن حاتم الرقي قال : أخبرنا هشام قال : أخبرنا إسماعيل بن سالم عن الشعبي قال : سمعته قرأها قدروها بضم القاف وكسر الدال أي قدرت عليهم فلا زيادة فيها ولا نقصان . قال : وسمعت غيره قدّروها في أنفسهم فأتتهم على ما قدروا لا يزيد ولا ينقص .
الإنسان : ( 17 ) ويسقون فيها كأسا . . . . .
) ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلا ( سوق ومطرب من غير لدع ، والعرب تستحب الزنجبيل قال شاعرهم :
كأن جنيا من الزنجبيل خالط
فاها وأريا مشورا
وقيل : هو عين في الجنّة توجد منها طعم الزنجبيل .
قال قتادة : شربها المقرّبون صرفاً ويمزج لسائر أهل الجنة .
الإنسان : ( 18 ) عينا فيها تسمى . . . . .
) عيناً فيها تسمى سلسبيلا ( قال قتادة : سلسة منقادة لهم يصرفونها حيث شاءوا ، وقال
(10/103)
" صفحة رقم 104 "
مجاهد : حديدة الجرية . يمان : طيبة الطعم والمذاق ، تقول العرب : هذا شراب سلس وسلسل وسلسبيل ، أبو العالية ومقاتل بن حيان : سميت سلسبيلا ؛ لأنها يتسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم تنبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنان على برد الكافور وطعم الزنجبيل وريح المسك ، ومعنى ) تسمى ( توصف ؛ لأن أكثر العلماء على أن سلسبيل صفة الإسم .
الإنسان : ( 19 - 20 ) ويطوف عليهم ولدان . . . . .
) ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثوراً وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً ( وهو أن أدناهم يعني أهل الجنة منزلة ينظر من ملكه في مسيرة ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه ، وقيل : هو استئذان الملائكة عليهم ، وقيل : ) وملكاً ( لا زوال له . قال أبو بكر الورّاق : ملكاً لا يتعقبه هلك ، وقال محمد بن علي الترمذي : يعني ملك التكوين إذا أراد شيئاً كان .
الإنسان : ( 21 ) عاليهم ثياب سندس . . . . .
) عاليهم ثياب سُندس ( قرأ قتادة ومجاهد وابن سيرين وعون العقيلي وابن محيص وأبو جعفر ونافع والأعمش وحمزة وأيوب ) عاليهم ( بتسكين الياء على أنه اسم موصوف بالفعل يقول علاهم فهو عاليهم ، واختاره أبو عبيد إعتباراً بقراءة ابن مسعود وابن وثاب وغيرهما ( عاليتهم ) ، وتفسير ابن عباس : أما رأيت الرجل عليه ثياب يعلوها أفضل منها ، وقرأ الباقون بنصب الياء على الصفة أي فوقهم وهو نصب على الظرف ، وقيل : هو كقوله : ) لاهية قلوبهم ( وقد مضى ، ذكرنا تقديم الصفة على الموصوف ، وقيل : معناه عالياً لهم ثيابها كقوله : ) هدياً بالغ الكعبة ( ونحوها .
) خضر وإستبرق ( اختلف القراء فيهما فقرأ ابن كثير وابو بكر والمفضل خضر بالخفض على نعت السندس والاستبرق بالرفع على نعت الثياب ، وقرأ أبو جعفر وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بضده واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، وقرأ نافع وأيوب وحفص كليهما بالرفع ، وقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف كليهما بالجر .
) وحلّوا أساور من فضة وسقاهم ربّهم شراباً طهوراً ( طاهر من الأقذار لم تدنسه الأيدي ولم تدنسه الأرجل كخمر الدنيا قال أبو قلابة وإبراهيم : يعني أنه لا يصير نجساً ولكنه يصير رشحاً في أيديهم كريح المسك ، وأن الرجل من أهل الجنة يقسم له شهوة مائة رجل من أهل الدنيا وأكلهم ونهمتهم ، فإذا أكل ما شاء سُقي شراباً طهوراً فيطهر بطنه ويصير ما أكل رشحاً يخرج من جلده أطيب ريحاً من المسك الأذفر ويضمر بطنه وتعود شهوته ، وقيل : يطهرهم من الذنوب والأدناس والأنجاس ويرشحهم للجنّة
(10/104)
" صفحة رقم 105 "
وقال جعفر : يطهّرهم به عن كلّ شيء سواه ، إذ لا طاهر من تدنّس شيء من الأكوان .
وقال أبو سليمان الداراني سقاهم ربّهم على حاشية بساط الود ، فأرواهم من صحبة الخلق وأراهم رؤية الحقّ ، ثمّ أقعدهم على منابر القدس وحيّاهم بتحيّة المزمّل وأمطر التأييد ، فسالت عليهم أودية الشوق فكفاهم هموم الفرقة وحيّاهم بسرور القربة .
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا عبدالله محمّد بن علي الشاشي يقول : سمعت الحسن بن علوية الدامغاني يقول سئل أبو يزيد البسطامي عن قوله سبحانه ) وسقاهم ربّهم شراباً طهوراً ( قال : طهّرهم به عن محبّة غيره ثم قال : إنّ لله شراباً ادّخره لأفاضل عباده يتولى سقيهم فإذا شربوا طاشوا وإذا طاشوا طاروا وإذا طاروا وصلوا وإذا وصلوا اتّصلوا فهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
وسمعت أبا عبدالرحمن السلمي يقول : سمعت أبا بكر الرازي يقول : سمعت طيّب الحمّال يقول : صلّيت خلف سهل بن عبدالله العتمة فقرأ قوله : ) وسقاهم ربّهم شراباً طهورا ( فجعل يحرّك فمه كأنّه يمصّ شيئاً ، فلمّا فرغ من صلاته قيل له : إتشرب أم تقرأ ؟ قال : والله لو لم أجد لذّته عند قراءته كلذّتي عند شربه ما قرأته .
وأخبرني الحسين قال : حدّثنا هارون قال : حدّثا حازم بن يحيى الحلواني قال حدّثنا محمّد ابن عبدالله بن عمار الموصلي قال : حدّثنا عفيف بن سالم عن أيّوب بن عتبة عن عطاء عن ابن عمر قال : جاء رجل من الحبشة إلى النبي ( عليه السلام ) عليه السلام يسأله فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( سل واستفهم ) .
فقال : يا رسول الله فضلتم علينا بالصوَر والألوان والنبوّة أفرأيت إن آمنت بمثل ما آمنت به وعملت بمثل ما عملت به أأني لكائن معك في الجنّة ؟ قال : ( نعم ) ثمّ قال النبي ( عليه السلام ) : ( والذي نفسي بيده ليرى بياض الأسود في الجنّة مسيرة ألف عام ) ، ثمّ قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قال لا إله إلاّ الله كان له بها عهد عند الله ومن قال سبحان الله وبحمده كتب له مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة ) .
قال رجل : كيف نهلك بعدها يا رسول الله ؟
قال : ( إنّ الرجل ليأتي يوم القيامة لو وضع على جبل لأثقله ، قال : فتقوم النعمة من نعم الله سبحانه فيكاد أن تستنفد ذلك كلّه إلاّ أن يتطوّل الله تعالى برحمته ) قال : ثمّ نزلت ) هل أتى على الإنسان حين من الدهر ( إلى قوله ) وملكاً كبيراً ( الآيات .
قال الحبشي : وإن عيني لتريان ما ترى عيناك في الجنّة .
(10/105)
" صفحة رقم 106 "
قال النبي ( عليه السلام ) : ( نعم ) فاشتكى الحبشي حتى فاضت نفسه . فقال ابن عمر : لقد رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يدليّه في حفرته بيده .
الإنسان : ( 22 - 23 ) إن هذا كان . . . . .
) إنّ هذا كان لكم جزاءاً وكان سعيكم مشكوراً إنّا نحن نزّلنا عليك القرآن تنزيلا ( قال ابن عبّاس : متفرّقاً آية بعد آية ولم ينزله جملة فلذلك قال ( نزلنا ) .
الإنسان : ( 24 ) فاصبر لحكم ربك . . . . .
) فاصبر لحكم ربّك ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً ( يعني وكفوراً . الألف صلة ، وقال الفرّاء : أو معنى ( . . . . ) كقول الشاعر :
لا وجد ثكلى كما وجدت ولا
وجد عجول أضلها ربعُ
أو وجد شيخ أضّل ناقته
يوم توافى الحجيج فاندفعوا
أراد : ولا وجد شيخ .
قال قتادة : الآثم : الكفور ، نهى الله سبحانه وتعالى نبيّه عن طاعة أبو جهل لما فُرضت على نبيّ الله ( صلى الله عليه وسلم ) الصلاة ، وهو يومئذ بمكّة نهاه أبو جهل عنها وقال : لئن رأيتُ محمداً يصلي لوطأت على عنقه . فأنزل الله سبحانه هذه الآية .
وقال مقاتل : ) ولا تطع منهم ( يعني من مشركي مكّة أنها تعني عتبة بن ربيعة قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إن كنت صنعت ما صنعت من أجل النساء فقد علمت قريش أن بناتي من أجملها بنات فأنا أزوّجك بنتي وأسوقها إليك بغير مهر وأرجع عن هذا الأمر .
) أو كفوراً ( يعني الوليد بن المغيرة قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يا محمد إن كنت صنعت من أجل المال فقد علمت قريش أني من أكثرهم مالا فأنا أعطيك من المال حتى ترضى فارجع عن هذا الأمر ، فأنزل الله سبحانه ) ولا تطع منهم ( أنها تعني عتبة ) أو كفوراً ( تعني ولا كفوراً وهو الوليد بن المغيرة .
2 ( ) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً إِنَّ هَاؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً إِنَّ هَاذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ( 2
(10/106)
" صفحة رقم 107 "
الإنسان : ( 25 - 26 ) واذكر اسم ربك . . . . .
) واذكر اسم ربّك بكرة وأصيلا ومن الليل فاسجد له ( تعني صلاتي العشاء ) وسبّحه ليلا طويلا ( يعني التطوّع
الإنسان : ( 27 ) إن هؤلاء يحبون . . . . .
) إن هؤلاء لا يحبّون العاجلة ويذرون ورائهم ( أمامهم وقدّامهم كقوله : ) وكان وراءهم ملك ( وقوله سبحانه : ) ومن ورائهم برزخ ( ) يوماً ثقيلا ( وهو يوم القيامة ،
الإنسان : ( 28 ) نحن خلقناهم وشددنا . . . . .
) نحن خلقناهم وشددنا ( . قوّينا وحكمنا . ) أسرهم ( قال مجاهد وقتادة ومقاتل : خلقهم ، وهي رواية عطية عن ابن عباس يقال : رجل حسن الاسّر أي الخلق ، وفرس شديد الأسّر ، وقال أبو هريرة والربيع : مفاصلهم ، وقال الحسن : أوّصالهم بعضها إلى بعض بالعروق والعصب وروى عبدالوهاب بن مجاهد عن أبيه ) وشددنا أسرهم ( قال : الشرج وأصل الأسر الشكّ يقال : ما أحسن ما أسَر قتبه أي شدّه ، ومنه قولهم : خُذه بأسره إذا أرادوا أن يقولوا : هو لك كلّه كأنهم أرادوا بعكة وشدة لم تفتح ولم تنقص منه . قال لبيد :
ساهم الوجه شديد اسّره
مغبط الحارك محبوك الكفل
وقال الأخطل :
من كلّ مجتنب شديد أسره
سلس القياد تخاله مختالا
) وإذا شئنا بدّلنا أمثالهم تبديلا (
الإنسان : ( 29 ) إن هذه تذكرة . . . . .
) إنّ هذه ( السورة ) تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربّه سبيلا ( أي وسيلة بالطاعة .
الإنسان : ( 30 ) وما تشاؤون إلا . . . . .
) وما تشاءُون ( . بالياء ابن كثير وأبو عمرو ومثله روى هشام عن أهل الشام ، غيرهم بالتاء . ) إلاّ أن يشاء الله ( لأن الأمر إليه لا إليكم وفي أمره عند الله إلاّ ما شاء الله ، ) إن الله كان عليماً حكيماً (
الإنسان : ( 31 ) يدخل من يشاء . . . . .
) يدخل من يشاء في رحمته والظالمين ( ، وقرأ أبان بن عثمان والظالمون . ) أعدّ لهم عذاباً أليماً (
.
(10/107)
" صفحة رقم 108 "
( سورة المرسلات )
مكّية ، وهي ثمان مائة وستة عشر حرفاً ، ومائة واحدى وثمانون كلمة ، وخمسون آية
أخبرني محمد بن القاسم الفقيه قال : حدّثنا محمد بن زيد العدل قال : حدّثنا أبو يحيى البزاز قال : حدّثنا منصور قال : حدّثنا محمد بن عمران قال : حدّثنا أبي عن مخالد عن علي بن زيد عن زر بن حبيش عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة والمرسلات كتب أنه ليس من المشركين ) .
وروى الأسود بن يزيد عن عبدالله بن مسعود : قرأت ) والمرسلات عرفاً ( على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة الجن ونحن نسير .
بسم الله الرحمن الرحيم
( ) وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفاً فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً والنَّاشِرَاتِ نَشْراً فَالْفَارِقَاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً عُذْراً أَوْ نُذْراً إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ وَإِذَا السَّمَآءُ فُرِجَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نُهْلِكِ الاَْوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الاَْخِرِينَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ أَلَمْ نَجْعَلِ الاَْرْضَ كِفَاتاً أَحْيَآءً وَأَمْواتاً وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِىَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ انطَلِقُواْ إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ انطَلِقُواْ إِلَى ظِلٍّ ذِى ثَلَاثِ شُعَبٍ لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِى مِنَ اللَّهَبِ إِنَّهَا تَرْمِى بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ( 2
المرسلات : ( 1 ) والمرسلات عرفا
) والمرسلات عرفاً ( يعني الرياح بعضها بعضاً كعرف الفرس ، وقيل كثيراً . يقول العرب : الناس إلى فلان عرف واحد إذا توجهوا إليه فأكثروا ، وهذا معنى قول مجاهد وقتادة ، ورواية أبي العبيد عن ابن مسعود ، والعوفي عن ابن عباس ، وقال أبو صالح ومقاتل : يعني الملائكة التي أرسلت بالمعروف اسم واحد من أمر الله ونهيه ، وهي رواية مسروق عن ابن مسعود .
(10/108)
" صفحة رقم 109 "
المرسلات : ( 2 ) فالعاصفات عصفا
) فالعاصفات عصفا ( يعني الرياح الشديدات الهبوب .
المرسلات : ( 3 ) والناشرات نشرا
) والناشرات نشرا ( يعني الرياح اللينة وقال أبو صالح هي المطرق . قال الحسن : هي الرياح يرسلها الله نشراً بين يدي رحمته اقسم الله بالرياح ثلاث مرات ، مقاتل : هم الملائكة ينشرون الكتب .
المرسلات : ( 4 ) فالفارقات فرقا
) فالفارقات فرقا ( قال ابن عباس وأبو صالح ومجاهد والضحاك : يعني الملائكة التي تفرّق بين الحقّ والباطل ، وقال قتادة والحسن وابن كيسان : يعني آي القرآن فرّقت بين الحلال والحرام ، وقيل : يعني السحابات الماطرة تشبيهاً بالناقة الفارق ، وهي الحامل التي تجزع حين تضع ، ونوق فراق .
المرسلات : ( 5 ) فالملقيات ذكرا
) فالملقيات ذكرا ( يعني الملائكة التي تنزل بالوحي نظيره قوله سبحانه : ) تنزل الملائكة والروح 2 )
المرسلات : ( 6 ) عذرا أو نذرا
) عُذراً أو نذراً ( يعني الأعذار والإنذار واختلف القرّاء فيهما فخففهما الأعمش وأبو عمرو وحمزة والكسائي واختاره أبو عبيد قال : لأنهما في موضع مصدرين أنما هو الأعذار والإنذار وليس بجمع فيثقّلا ، وثقلهما الحسن ، وهي رواية الأعشى والجعفي عن أبي بكر عن عاصم ، والوليد عن أهل الشام ، وروح عن يعقوب الياقوت بتثقيل النذر وتخفيف العذر وهما لغتان ، وقرأ إبراهيم التيمي وقتادة ) عذراً ونذراً ( بالواو العاطفة ولم يجعلا ألف بينهما .
المرسلات : ( 7 - 8 ) إنما توعدون لواقع
) إنّما توعدون لواقع فإذا النجوم طُمست ( محي نورها ،
المرسلات : ( 9 ) وإذا السماء فرجت
) وإذا السماء فرجت ( شقت
المرسلات : ( 10 ) وإذا الجبال نسفت
) وإذا الجبال نسفت ( قلعت من أماكنها ،
المرسلات : ( 11 ) وإذا الرسل أقتت
) وإذا الرُّسُل أُقّتت ( جمعت لميقات يوم معلوم ، واختلف القراء فيه فقرأ أبو عمرو ) وُقّتت ( بالواو وتشديد القاف وعلى الأصل ، وقرأ أبو جعفر بالواو والتخفيف ، وقرأ عيسى بن عمر الثقفي : اقتت بالألف وتخفيف القاف ، وقرأ الآخرون بالألف والتشديد وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، والعرب تعاقب بين الواو والهمزة كقولهم وكّدت واكّرت وورّخت الكتاب وأرّخته وودّشت من القوم وأرّشت ووشاح وأشاح وأكاف ووكاف ووسادة وأسادة ، وقال النخعي : رعدت .
المرسلات : ( 12 ) لأي يوم أجلت
) لأي يوم أجّلت ( أي وقتت من الأجل وقيل : أخّرت
المرسلات : ( 13 - 16 ) ليوم الفصل
) ليوم الفصل ( ) وما أدرياك ما يوم الفصل ( ) ويّل يومئذ للمكذّبين ( ) ألم نهلك الأولين ( من الأمم المكذّبين في قديم الدهر
المرسلات : ( 17 ) ثم نتبعهم الآخرين
) ثم نُتبعُهُم الآخرين ( السالكين سبيلهم في الكفر والتكذيب ، وقرأ الأعرج نتبعهم بالجزم وقرأ ابن مسعود سنتبعهم .
)
المرسلات : ( 18 - 22 ) كذلك نفعل بالمجرمين
كذلك نفعل بالمجرمين ( ) ويلٌ يومئذ للمكذّبين ( ) ألم نخلقكم من ماء مهين ( ) فجعلناه في قرار مكين ( ) إلى قدر معلوم ( وهو وقت الولادة
المرسلات : ( 23 ) فقدرنا فنعم القادرون
) فقدّرنا ( قرأ عليّ والحسن
(10/109)
" صفحة رقم 110 "
والسلمي وطلحة وقتادة وأبو إسحاق وأهل المدينة وأيوب بالتشديد من التقدير وهي اختيار الكسائي ، وقرأ الباقون بالتخفيف من القُدرة واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله ) فنعم القادرون ( ويجوز أن يكون التشديد والتخفيف بمعنى واحد كقوله سبحانه وتعالى ) نحن قدرنا بينكم ( فهي بالتخفيف والتشديد ، )
المرسلات : ( 24 - 25 ) ويل يومئذ للمكذبين
ويل يومئذ للمكذبين ( ) ألم نجعل الأرض كفاتاً ( وعاء
المرسلات : ( 26 ) أحياء وأمواتا
) أحياء وأمواتاً ( تجمعهم أحياء على ظهرها فإذا ماتوا ضمتهم إليها في بطنها وقال ( بنان الصفّار ) : خرجنا في جبانة مع الشعبي فنظر إلى الجبانة فقال : هذه الأموات ، ثم نظر إلى البيوت فقال : هذه كفات الأحياء . وأصل الكفت : الجمع والضمّ ، وكانوا يسمّون بقيع الغرقد كفتة لأنه مقبرة تضمّ الموتى ، ومثلّه قول النبي ( عليه السلام ) ( خمروا آنيتكم وأوّكوا أسقيتكم وأجيفوا الأبواب واطفئوا المصابيح واكفتوا صبيانكم فإنَّ للشيطان انتشاراً وخطفة ) يعني بالليل ، ويقال للأرض : كافتة .
المرسلات : ( 27 ) وجعلنا فيها رواسي . . . . .
) وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم فُراتاً ( عذباً
المرسلات : ( 28 ) ويل يومئذ للمكذبين
) ويلٌ يومئذ للمكذّبين ( ثم أخبر أنه يقال لهم يوم القيامة :
المرسلات : ( 29 ) انطلقوا إلى ما . . . . .
) انطلقوا إلى ما كنتم به تكذّبون ( في الدنيا
المرسلات : ( 30 ) انطلقوا إلى ظل . . . . .
) انطلقوا إلى ظلَ ذي ثلاث شُعب ( يعني دخان جهنم إذا ارتفع أشعب ، وقيل : أنها عنق يخرج من النار فينشعب ثلاث شعب فأمّا النور فيقف على رؤوس المؤمنين والدخان يقف على رؤس المنافقين واللهب الصافي يقف على رؤس الكافرين ، وقال مقاتل : هو السرادق والظل من يحموم .
المرسلات : ( 31 ) لا ظليل ولا . . . . .
) لا ظليل ( لا كنين ) ولا يغني من اللهب (
المرسلات : ( 32 ) إنها ترمي بشرر . . . . .
) إنّها ( يعني جهنم ) ترمي بشرر ( ، وهي ما تطاير من النار إذا التهبت واحدتها شررة ) كالقصر ( وقرأ عيسى بشرار وهي لغة تميم وأحدها شرارة .
) كالقصر ( وقرأه العامّة بسكون الصاد ، وقال ابن مسعود : يعني الحصون والمدائن وهو واحد القصر وهي رواية الوالي عن ابن عباس قال : كالقصر العظيم ، وقال القرظي : إنّ على جهنم سوراً فما خرج من وراء السور مما يرجع إليه في عظم القصر ولون النار .
وروى سعيد عن عبدالرحمن بن عابس قال : سألت ابن عباس عن قوله سبحانه : ) إنها ترمي بشرر كالقصر ( قال هي الخشب العظام المقطعة وكنا نعمد إلى الخشب فنقطعها ثلاثة أذرع وفوق ذلك ودونه ندّخره للشتاء فكنّا نسمّيها القصر ، وقال مجاهد : هي حزم الشجر ، وقال سعيد ابن جبير والضحاك : هي أصول النخل والشجر العظام واحدتها قصرة مثل تمرة وتمر وجمر وقرأ علي بن أبي طالب وابن عباس : كالقصر بفتح الصاد أراد أعناق النخل ، والقصرة العنق وجمعها قصر وقصرات ، وقرأ سعيد بن جبير كالقصر بكسر القاف وفتح الصاد قال أبو حاتم : ولعله لغة ونظيرها في الكلام حاجة وحوج ، كأنه ردّ الكناية إلى اللفظ .
(10/110)
" صفحة رقم 111 "
2 ( ) كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ هَاذَا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالاَْوَّلِينَ فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى ظِلَالٍ وَعُيُونٍ وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ فَبِأَىِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ( 2
المرسلات : ( 33 ) كأنه جمالة صفر
) كأنهُ جمالاتُ ( قرأ ابن عباس جُمالات بضم الجيم كأنها جمع جماله وهي الشيء المجمّل ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف جمالة بكسر الجيم من غير ألف على جمع الجمل مثل حجر وحجارة ، وقرأ يعقوب جُمالة بضم الجيم من غير ألف أراد الأشياء العظام المجموعة ، وقرأ الباقون جمالات بالألف وكسر الجيم على جمع الجمال ، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : هي جبال السُفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال ، ) صفر ( جمع الأصفر يعني لون النار ، وقال بعض أهل المعاني : أراد سوداً ، لأنّ في الخبر أن شرر نار جهنم سود كالقير ، والعرب يسمي السود من الأبل صفراً ، وقال الشاعر :
تلك خيلي منه وتلك ركابي
هن صفراً أولادها كالزبيب
أي سوداً .
وإنّما سمّيت سود الإبل صفراً لأنه يشوب سوادها بشيء من صفرة ، كما قيل لبيض الظباء : ادمّ ، لأن بيضها يعلوه كدرة .
المرسلات : ( 34 - 36 ) ويل يومئذ للمكذبين
) ويل يومئذ للمكذبين هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ( رفع عطف على قوله ) يؤذن ( .
المرسلات : ( 37 ) ويل يومئذ للمكذبين
) ويل يومئذ للمكذبين ( قال أبو عثمان : أمسكتهم رؤية الهيبة وحياء الذنوب ، وقال الحسن : وهي عذر لمن أعرض عن مُنعمه وجحده وكفر بنعمه .
المرسلات : ( 38 - 41 ) هذا يوم الفصل . . . . .
) هذا يوم الفصل جمعناكم والأوّلين فإنّ كان لكم كيدٌ فكيدون ويلٌ يومئذ للمكذبين إنّ المتّقين في ظلال ( جمع الظل وقرأها الأعرج في ظُلل على جمع الظُلة ) وعيون (
المرسلات : ( 42 ) وفواكه مما يشتهون
) وفواكه مما تشتهون ( ويقال لهم :
المرسلات : ( 43 - 46 ) كلوا واشربوا هنيئا . . . . .
) كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون إنّا كذلك نجزي المحسنين ويل يومئذ للمكذبين كلوا وتمتعوا ( في الدنيا ) قليلا إنّكم مجرمون ( مشركون مستخفون للعذاب ،
المرسلات : ( 47 - 48 ) ويل يومئذ للمكذبين
) ويل يومئذ للمكذبين وإذا قيل لهم اركعوا ( صلّوا ) لا يركعون ( لا يصلّون ، قال مقاتل : نزلت في ثقيف حين
(10/111)
" صفحة رقم 112 "
أمرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالصلاة فقالوا لا نحني فإنها مسبّة علينا فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود ) ، وقال ابن عباس : إنما يقال لهم : هذا يوم القيامة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون .
المرسلات : ( 49 - 50 ) ويل يومئذ للمكذبين
) ويل يومئذ للمكذّبين فبأي حديث بعده ( أي بعد القرآن ) يؤمنون ( إذا لم يؤمنوا به ، وقال أهل المعاني : ليس قوله : ) ويل يومئذ للمكذبين ( تكراراً غير مفيد لأنه أراد بكلّ قول منه غير ما أراد بالقول الاخر كأنه ذكر شيئاً ثم قال : ويل للمكذّبين بهذا والله أعلم .
(10/112)
" صفحة رقم 113 "
( سورة النبأ )
مكّية ، وهي سبع مائة وسبعون حرفاً ، ومائة وثلاث وسبعون كلمة ، وأربعون آية
أخبرني ابن المعزي قال : أخبرنا ابن مطرّز قال : حدثنا ابن شريك قال : حدّثنا ابن يونس قال : حدّثنا سلام قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبيّ أُمامة عن أُبي قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ عمّ يتساءلون سقاه الله سبحانه وتعالى برد الشراب يوم القيامة ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِى هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ أَلَمْ نَجْعَلِ الاَْرْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً وَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَآءً ثَجَّاجاً لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً وَفُتِحَتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ أَبْوَاباً وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِّلطَّاغِينَ مَئَاباً لَّابِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً جَزَآءً وِفَاقاً إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا كِذَّاباً وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً ( 2
النبأ : ( 1 ) عم يتساءلون
) عمّ يتساءلون ( يعني عن أي شيء يتساءلون هؤلاء المشركين وذلك أنهم اختلفوا واختصموا في أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وما جاءهم به ،
النبأ : ( 2 ) عن النبإ العظيم
) عن النبأ العظيم ( قال مجاهد هو القرآن . دليله قوله سبحانه ) قل هو نبأ عظيم ( [ الآية ) وقال قتادة : هو البعث ،
النبأ : ( 3 ) الذي هم فيه . . . . .
) الذي هم فيه مختلفون ( فمصدّق ومكذّب
النبأ : ( 4 - 5 ) كلا سيعلمون
) كلاّ سيعلمون ثم كلاّ سيعلمون ( وهذا وعيد لهم ، وقال الضحاك كلاّ سيعلمون يعني الكافرين ، ثم كلاّ سيعلمون يعني المؤمنين ، وقراءة العامة بالياء فيهما ، وقرأ الحسن ومالك بن دينار بالتاء فيهما
(10/113)
" صفحة رقم 114 "
النبأ : ( 6 - 8 ) ألم نجعل الأرض . . . . .
) ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً وخلقناكم أزواجاً ( أصنافاً ذكوراً وإناثاً .
النبأ : ( 9 ) وجعلنا نومكم سباتا
) وجعلنا نومكم سُباتاً ( راحة لأبدانكم ، والنائم مسبوت لا يعلم ولا يعقل كأنّه ميّت ،
النبأ : ( 10 ) وجعلنا الليل لباسا
) وجعلنا الليل لباساً ( غطاء وغشاء يلبس كل شيء بسواده
النبأ : ( 11 ) وجعلنا النهار معاشا
) وجعلنا النهار معاشا ( سبباً لمعاشكم والتصرّف في مصالحكم فسمّاه به كقول الشاعر :
وأخو الهموم إذا الهموم تحضّرت
( جنح ) الظلام وساده لا يرقدُ
فجعل الوسادة هي التي لا ترقد والمعنى لصاحب الوسادة .
النبأ : ( 12 - 13 ) وبنينا فوقكم سبعا . . . . .
) وبنينا فوقكم سبعاً شداداً وجعلنا سراجاً وهاجاً ( مضيئاً منيراً وقّاداً حارّاً وهي الشمس .
النبأ : ( 14 ) وأنزلنا من المعصرات . . . . .
) وأنزلنا من المعصرات ( قال مجاهد ومقاتل وقتادة : يعني الرياح التي تعصر السحاب ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ومجازه على هذا التأويل بالمعصرات ) من ( بمعنى الباء كقوله سبحانه : ) من كل أمر سلام ( وكذلك كان عكرمة يقرأها ) وأنزلنا بالمعصرات ( وروى الأعمش عن المنهال عن ابن عمرو وعن قيس بن سكن قال : قال عبدالله في قوله : ) وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجاً ( قال : بعث الله سبحانه الريح فحمل الماء من الماء فتدرّ كما تدر اللقحة ثم يُبعث الماء كأمثال العزالي فتضرب به الرياح فينزل متفرّقاً .
قال المؤرّخ : المعصرات : ذوات الأعاصير ، وقال أبو العالية والربيع والضحاك : هي السحاب التي تجلب المطر ولم تمطر كالمرأة المعصر ، وهي التي دنا حيضها ، قال أبو النجم :
قد أعصرت أو قد دنا اعصارها .
وهذه رواية الوالي عن ابن عباس . قال المبرّد : المعصرات الفاطرات ، وقال ابن كيسان : المغيثات من قوله ) يعصرون ( وقال أُبي بن كعب والحسن وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان : من المعصرات أي من السموات .
) ماءً ثجاجاً ( أي صباباً ، وقال مجاهد : مدراراً ، قتادة : متتابعاً يتلوا بعضه بعضاً ، وقال ابن زيد : كثيراً .
النبأ : ( 15 - 16 ) لنخرج به حبا . . . . .
) لنخرج به حباً ونباتاً وجنات ألفافاً ( مجتمعه ملتفة بعضه ببعض وواحدها ألفّ في قول ( نحاة ) البصّرة وليس بالقوى وفي قول الآخرين واحدها لِف ولفيف وقيل : هو جمع الجمع يقال : جنّة لفاً ( وبنت ) لف وجنان لف بضم اللام ثم تجمع اللف ألفافاً
(10/114)
" صفحة رقم 115 "
النبأ : ( 17 ) إن يوم الفصل . . . . .
) إنّ يوم الفصل كان ميقاتاً ( لما وعد الله سبحانه
النبأ : ( 18 ) يوم ينفخ في . . . . .
) يوم ينفخ في الصُور فتأتون أفواجاً ( [ . . . . ] ، وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه ، قال : حدّثنا عبدالله بن أحمد بن منصور الكسائي قال : حدّثنا محمد بن عبدالجبار قال : أخبرنا محمد بن زهير عن محمد بن المهتدي عن حنظلة الدّوري عن أبيه عن ) البزا ) بن عازب قال : كان معاذ بن جبل جالساً قريباً من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في منزل أبي أيوب الأنصاري فقال معاذ : يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى : ) يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً ( فقال : ( معاذ سألت عن عظيم من الأمر ، ثم أرسل عينيه ثم قال : تحشرون عشرة أصناف من أمتي أشتاتاً قد ميزّهم الله تعالى من جماعة المسلمين وبدّل صورهم فبعضهم على صور القردة وبعضهم على صورة الخنازير وبعضهم منكّبين أرجلهم فوق ووجوههم أسفل يسحبون عليها ، وبعضهم عُمي يتردّدون ، وبعضهم صمّ بكمّ لا يعقلون ، وبعضهم يمضغون ألسنتهم وهي مدّلاة على صدورهم يسيل القيح من أفواههم يقذّرهم أهل الجمع ، وبعضهم مقطعة أيديهم وأرجلهم ، وبعضهم مصلّبين على جذوع من نار ، وبعضهم أشدّ نتناً من الجيف ، وبعضهم يلبسون جباباً سابغة من قطران لازقة بجلودهم ، فأما الذين على صورة القردة فالقتّات من الناس يعني النّمام وأما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت ، والمنكسين على وجوههم فأكلة الربا ، والعمي من يجور في الحكم ، والصمّ والبكمّ المعجبون بأعمالهم ، والذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء والقصاص الذين خالف قولهم أعمالهم ، والمقطّعة أيديهم وأرجلهم الذين يؤذون الجيران ، والمصلّبين على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان ، والذين هم أشد نتناً من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات واللذات ومنعوا حق الله سبحانه من أموالهم ، والذين يلبسون الجباب فأهل الكبر والفخر والخيلاء ) .
النبأ : ( 19 ) وفتحت السماء فكانت . . . . .
) وفتحت السماء ( قرأ أهل الكوفة بالتخفيف وغيرهم بالتشديد . ) فكانت أبواباً ( أي شقت لنزول الملائكة ، وقيل : شقت حتى جعلت كالأبواب قطعاً ، وقيل : تنحلّ وتتناثر حتى تصير فيها أبواب وطرق وقيل : إنّ لكل عبد بابين في السماء : باب لعمله وباب لرزقه ، فإذا قامت القيامة انفتحت الأبواب .
النبأ : ( 20 ) وسيرت الجبال فكانت . . . . .
) وسيّرت الجبال ( عن وجه الأرض ) فكانت سراباً ( كالسراب
النبأ : ( 21 ) إن جهنم كانت . . . . .
) إن جهنم كانت مرصاداً ( طريقاً وممراً فلا سبيل إلى الجنة حتى تقطع النار ، وقال مقاتل : محبساً
النبأ : ( 22 - 23 ) للطاغين مآبا
) للطاغين ( للكافرين ) مآباً لابثين ( قرأه العامة بالألف وقرأ علقمة وحمزة : لبثين بغير ألف وهما لغتان ) فيها أحقاباً ( جمع حقب والحقب جمع حقبة كقول متمم :
وكنا كندماني جذيمة حقبةً
من الدهر حتى قيل لن يتصدّعا
(10/115)
" صفحة رقم 116 "
واختلف العلماء في معنى الحقب فقال قوم : هو إسم للزمان والدّهر وليس له حدّ ، وروى أبو الضحى عن ابن مسعود قال : لا يعلم عدد الأحقاب إلاّ الله عزّوجل ، وقال آخرون : هو محدود . ثم اختلفوا في مبلغ مدّته فقال طارق بن عبدالرحمن : دعاني شيخ بين الصفا والمروة فإذا عنده كتاب عبدالله بن عمرو ) لابثين فيها أحقاباً ( ان الحقب أربعون سنة كلّ يوم منها ألف سنة ، وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا موسى بن محمد وابن حسن قالا : حدّثنا محمد بن عمران قال : حدّثنا ابن المقري وأبو عبيدالله قالا : حدّثنا ) محمد بن يحيى ) العرني عن سفيان عن عمّار الدهني قال : قال علي بن أبي طالب لهلال الهجري : ما يجدون في الحقب في كتاب الله المنزل قال : يجده في كتاب الله ثمانين سنة كل سنة اثنا عشر شهراً لكل شهر ثلاثون يوماً كل يوم ألف سنة .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن عبدالله بن محمد بن الفتح قال : حدّثنا أبو حامد محمد بن هارون الحضرمي قال : حدّثنا زياد بن أبي يزيد قال : حدّثنا سليمان بن مسلم عن سليمان الحتمي عن نافع عن ( ابن عمر ) عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( والله لا يخرج من النار من دخلها حتى يكونوا فيها أحقاباً ، والحقب بضع وثمانين سنة ، والسنة ثلثمائة وستون ويوماً ، كل يوم ألف سنة مما تعدون ، فلا يتكّلنّ أحد على أن يخرج من النار ) .
وقال أُبي بن كعب : بلغني أن الحقب ثلثمائة سنة كل سنة ثلثمائة وستون يوماً كلّ يوم ألف سنة ، وقال الحسن : إنّ الله سبحانه لم يذكر شيئاً إلاّ وجعل له مدّة ينقطع إليها ولم يجعل لأهل النار مدّة بل قال : ) لابثين فيها أحقاباً ( فوالله ما هو إلاّ أنه إذا مضى حقب دخل آخر ثم آخر ثم آخر كذلك إلى أبد الآبدين فليس للأحقاب عدة إلاّ الخلود في النار ولكن قد ذكروا أن الحقب الواحد سبعون ألف سنة كل يوم منها ألف سنة ممّا نعده ، وقال مقاتل بن حيان : الحقب الواحد سبع عشرة ألف سنة ، وقال وهذه الآية منسوخة ) فلن نزيدكم إلاّ عذاباً ( يعني أن العدد قد ارتفع والخلود قد حصل ، وقال بعض العلماء مجاز الآية ) لابثين فيها أحقاباً ( : لا يذوقون في تلك الأحقاب إلاّ حميماً وغساقاً ثم يلبثون أحقاباً يذوقون حرّ الحميم ، والغساق من أنواع العذاب ، فهو توقيت لأنواع العذاب لا بمكثهم في النار .
النبأ : ( 24 ) لا يذوقون فيها . . . . .
) لا يذوقون فيها برداً ( يشفيهم من الحر إلاّ الغسّاق وهو الزمهرير ، وقيل صديد أهل السعير ، وقال الثمالي : دموعهم ، وقال شهر بن حوشب : الغسّاق واد في النار فيه ثلثمائة وثلاثون شعباً في كل شعب ثلثمائة وثلاثون بيتاً في كل بيت أربع زوايا في كلّ زاوية شجاع كأعظم ما خلقه الله سبحانه من خلقه في رأس كل شجاع سم
(10/116)
" صفحة رقم 117 "
) ولا شراباً ( يرويهم من العطش ،
النبأ : ( 25 ) إلا حميما وغساقا
) إلاّ حميماً ( وأنبأني عبدالله بن حامد قال : أخبرنا حامد بن محمد قال : حدّثنا عبدالله بن أحمد بن حماد قال : حدّثنا محمد بن علي الحسن الشقيقي قال : سألت أبا معاذ النحوي الفضل بن خالد المروزي يقول في قوله سبحانه : ) لا يذوقون فيه برداً ( قال : البرد : النوم ، ومثله قال الكسائي وأبو عبيده وانشدوا فيه :
بردت مراشفها عليّ فصدّني
عنها وعن قبلاتها البردُ
والعرب تقول : منع البُرد البرد ، يعني أذهب البردُ النوم ، قال الفراء : إنّ النوم ليبرّد صاحبه وإنّ العطشان لينام فيبرد غليله ؛ فلذلك سمي النوم برداً ، قال الشاعر :
وان شئت حرّمت النساء سواكم
وان شئت لم أطعم نقاخاً ولا بردا
وقال الحسن وعطاء : لا يذوقون فيها برداً أي روّحاً وراحة .
النبأ : ( 26 ) جزاء وفاقا
) جزاء ( نصب على المصدر ، مجازه : جازيناهم جزاء .
) وفاقا ( وافق أعمالهم وفاقاً كما نقول : قاتل قتالا عن الأخفش ، وقال الفراء : هو جمع وفق والوفق واللفق واحد ، قال الربيع : جزاء بحسب أعمالهم ، الضحاك : على قدر أعمالهم ، مقاتل : وافق العذاب الذنب فلا ذنب أعظم من الشرك ولا عذاب أعظم من النار ، الحسن وعكرمة : كانت أعمالهم سيئة فأثابهم الله بما يسوءهم .
النبأ : ( 27 ) إنهم كانوا لا . . . . .
) إنّهم كانوا لا يرجون ( يخافون ) حسابا }
النبأ : ( 28 ) وكذبوا بآياتنا كذابا
) وكذبوا بآياتنا كذاباً ( تكذيباً قال الفراء : هي لغة يمانية فصيحة ، يقولون : كذّب كذّاباً ، وخرّقت القميص خرّاقا ، كل فعّلت فمصدرها فعّال في لغتهم مشدّد ، قال : وقال لي إعرابي منهم : علي المروّة ستفتيني الحلاق أحب إليك أم القصاب وأنشدني بعض بني كلاب :
لقد طال ( ما ثبطتني ) عن صحابي
وعن حوج قضّاؤها من شفائناً
النبأ : ( 29 - 30 ) وكل شيء أحصيناه . . . . .
) وكل شيء أحصيناهُ كتاباً فذوقوا فلن نزييدكم إلاّ عذاباً ( أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا السنّي قال : أخبرني ابن منجويه قال : حدّثنا أبو داود الحراني قال : حدّثنا شعيب بن حيان قال : حدّثنا مهدي بن ميمون قال : حدّثنا وسمعت الحسن بن دينار سأل الحسن عن أشد آية في القرآن على أهل النار فقال الحسن : سألت أبا برزة الأسلمي فقال : سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( فذوقا فلن نزيدكم إلاّ عذاباً ) .
(10/117)
" صفحة رقم 118 "
2 ( ) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً وَكَأْساً دِهَاقاً لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَاباً جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً رَّبِّ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَانِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَاباً ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَآءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَئَاباً إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِى كُنتُ تُرَاباً ( 2
النبأ : ( 31 ) إن للمتقين مفازا
) إنّ للمتقين مفازاً ( فوزاً ونجاة من النار إلى الجنة ، وقال ابن عباس والضحاك : متنزّهاً .
النبأ : ( 32 - 33 ) حدائق وأعنابا
) حدائق وأعناباً وكواعب ( نواهد قد تكعبت ثديهنّ واحدتها كاعب ، قال بشر بن أبي حازم :
( وكم من حصان قد حوينا كريمة )
ومن كاعب لم تدر ما البؤس معصر
) أترابا ( مستويات في السنّ
النبأ : ( 34 ) وكأسا دهاقا
) وكأساً دهاقا ( قال الحسن وابن عباس وقتادة وابن زيد : مترعة مملوة ، وقال سعيد بن جبير ومجاهد : متتابعة
النبأ : ( 35 ) لا يسمعون فيها . . . . .
) لا يسمعون فيها لغواً ولا كذاباً ( تكذيباً وهي قراءة العامة ، وخفّفه الكسائي وهي قراءة أمير المؤمنين علي كرّم الله وجهه ، وهما مصدران للتكذيب .
وقال قوم : الكذاب بالتخفيف مصّدر الكاذبة وقيل : هو الكذب ، قال الأعشى :
فصدقتها وكذبتها
والمرء تنفعه كذابه
وإنّما خففها هنا لأنها ليست بمقيّدة بفعل يصيّرها مصدراً له ، وشدد قوله : ) وكذبوا بآياتنا كذّابا ( لأن كذبوا يقيد الكذاب بالمصدر .
النبأ : ( 36 ) جزاء من ربك . . . . .
) جزاء من ربّك عطاء حساباً ( كثيراً كافياً وافياً يقال : أحسبت فلاناً أي أعطيته ما يكفيه حتى قال : حسبي . قال الشاعر :
ونقفي وليد الحيّ إن كان جائعاً
ونحسبه إن كان ليس بجائع
أي يعطيه حتى يقول حسبّي .
وقيل : جزاء بقدر أعمالهم وقرأ أبو هاشم ) عطاءً حساباً ( بفتح الحاء وتشديد السين على وزن فعّال أي كفافاً . قال الأصمعي : تقول العرب حسّبت الرجل بالتشديد إذا أكرمته ، وأنشد :
إذا أتاه ضيفه يحسُّبه
من حاقن أو من صريح يُحلبُه
(10/118)
" صفحة رقم 119 "
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبيش قال : حدّثنا الطُهراني قال : أخبرنا يحيى بن الفضل قال : حدّثنا وهب بن عمر قال : أخبرنا هارون بن موسى عن حنظلة عن شهر عن ابن عباس أنه قرأ ( عطاء حسناً ) بالنون .
النبأ : ( 37 ) رب السماوات والأرض . . . . .
) ربّ السماوات والأرض وما بينهما الرحمن ( قرأ ابن مسعود والأشهب وأبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو سلام ويعقوب برفع الباء والنون ، وقرأ ابن عامر وعيسى وعاصم كلاهما خفضاً واختاره أبو حاتم ، وقرأ ابن كثير ومحيض ويحيى وحمزة والكسائي ) ربّ ( خفضاً و ) الرحمن ( رفعاً ، واختاره أبو عبيد ، وقال : هذه أعدلها عندي أن يخفض الأوّل منهما لقربه من قوله : ) جزاء من ربّك ( فتكون نعتاً له ونرفع ) الرحمن ( لبعده منه .
) لا يملكون منه خطاباً ( كلاماً وقال الكلبي : شفاعة إلاّ بإذنه .
النبأ : ( 38 ) يوم يقوم الروح . . . . .
) يوم يقوم الروح ( اختلفوا فيه ، فأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن خُرجة قال : حدّثنا عبدالله بن العباس الطيالسي قال : حدّثنا أحمد بن عبدالله قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا إبراهيم ابن طهمان عن مسلم الأعور عن مجاهد عن ابن عباس قال : أتى نفر من اليهود رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : أخبرنا عن الروح ما هو ؟ قال : ( هو جند من جند الله ليسوا بملائكة ، لهم رؤوس وأيد وأرجل يأكلون الطعام ثم قرأ ) يوم يقوم الروح والملائكة صفاً ( الآية ، قال : هؤلاء جند وهؤلاء جند ) .
وقال ابن عباس : هو من أعظم الملائكة خلقاً ، وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا موسى قال : حدّثنا ابن علوية قال : حدّثنا إسماعيل قال : حدّثنا المسيب قال : حدّثنا ثابت أبو حمزة عن عامر عن علقمة عن ابن مسعود قال : الروح ملك أعظم من السموات ومن الجبال وأعظم من الملائكة ، وهو في السماء الرابعة تسبح كلّ يوم إثني عشر تسبيحة يخلق من كل تسبحه ملك يجيء يوم القيامة صفاً وحده ، وقال الشعبي والضحاك : هو جبريل ، وروى الضحاك عن ابن عباس قال : إنّ عن يمين العرش نهراً من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبع يدخل جبريل ( عليه السلام ) فيه كل فجر فيغتسل فيزداد نوراً إلى نوره وجمالا إلى جماله وعظماً إلى عظمه ، ثم ينتفض فيخرج الله سبحانه من كل قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كلّ يوم سبعون ألف ملك البيت المعمور في الكعبة سبعون ألفاً لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة ، وقال وهب : إنّ جبريل ( عليه السلام ) واقف بين يدي الله سبحانه ترعد فرائصه يخلق الله سبحانه وتعالى من كلّ رعدة ألف ملك ، فالملائكة صفوف بين يدي الله منكّسوا رؤوسهم ، فإذا أذن الله سبحانه لهم في الكلام قالوا : لاإله إلاّ أنت وهو قوله سبحانه : ) يوم يقوم الروح والملائكة صفا ( .
(10/119)
" صفحة رقم 120 "
) لا يتكلمون إلاّ من أذن له الرحمن وقال صواباً ( يعني لا إله إلاّ الله ، وقال مجاهد : هم خلق على صورة بني آدم يأكلون ويشربون ، أبو صالح : خلق يشبهون الناس وليسوا ، وقال الحسن وقتادة : هم بنو آدم ، قال قتادة : وهذا مما كان يكتمه ابن عباس ، وروى ابن مجاهد عن ابن عباس قال : الروح خلق من الله وصورهم على صور بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلاّ ومعه واحد من الروح ، عطية : هي أرواح الناس يقوم مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن تُرد الأرواح إلى الأجساد ، وقال ابن زيد : كان أبي يقول : هو القرآن وقرأ ) وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ( .
) يوم يقوم الروح الملائكة صفاً ( قال الشعبي : هما سماطا ربّ العالمين يوم القيامة سماطا من الروح وسماطا من الملائكة لا يتكلمون إلاّ من أذن له الرحمن وقال صوابا قال : لا إله إلاّ الله في الدنيا .
النبأ : ( 39 ) ذلك اليوم الحق . . . . .
) ذلك اليوم الحق فمن شاء اتّخذ إلى ربّه مآباً ( مرجعاً وسبيلا إلى طاعته ،
النبأ : ( 40 ) إنا أنذرناكم عذابا . . . . .
) إنا أنذرناكم عذاباً قريباً ( يعني القيامة وقيل القتل ببدر .
) يوم ينظر المرء ما قدّمت يَداهُ ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً ( قال عبدالله بن عمر : إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مدّ الأديم وحشرت الدواب والبهائم والوحش ثم يجعل القصاص بين الدواب حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء نطحتها ، فإذا فرغ من القصاص قال لها : كوني تراباً ، فعند ذلك يقول الكافر : يا ليتني كنت تراباً . قال مجاهد : يقاد يوم القيامة للمنقورة وللمنطوحة من الناطحة ، وقال المقاتلان : إنّ الله سبحانه وتعالى يجمع الوحوش والهوام والطير كلّ شيء غير الثقلين فيقول : من ربّكم فيقولون : الرحمن الرحيم ، فيقول لهم الرب تبارك وتعالى بعدما يقضي بينهم حتّى يقتص للجماء من القرناء : أنا خلقتكم وسخرّتكم لبني آدم وكنتم مطيعين أيام حياتكم فارجعوا إلى الذي كنتم كونوا تراباً فيكونون تراباً ، فإذا التفت الكافر إلى شيء صار تراباً يتمنى فيقول : يا ليتني كنت في الدنيا في صورة خنزير رزقي كرزقه وكنت اليوم في الآخرة تراباً . قال عكرمة : بلغني أنّ السباع والوحوش والبهائم إذا رأينَ يوم القيامة بني آدم وما هم فيه من الغمّ والحزن قلن : الحمد لله الذي لم يجعلنا مثلكم فلا جنّة نرجوا ولا ناراً نخاف ، وأخبرنا عبدالله بن حامد قال : أخبرنا محمّد بن خالد قال : حدّثنا داود بن سليمان قال : حدّثنا عبد بن حميد قال : حدّثنا الحسن بن موسى قال : حدّثنا يعقوب بن عبدالله قال : حدّثنا جعفر عن عبدالله بن ذكوان أبي الزياد قال : إذا قضي بين الناس وأمر أهل الجنة إلى الجنّة وأهل النار إلى النار قيل لسائر الأمم ولمؤمني الجنّ : عودوا تراباً فيعودون تراباً ، فعند ذلك يقول الكافر حيث يراهم قد عادوا تراباً : يا ليتني كنت تراباً ، وبه قال ليث بن سليم : مؤمنوا الجن يعودون تراباً ،
(10/120)
" صفحة رقم 121 "
وقال عمر بن عبدالعزيز : إن مؤمنين الجن حول الجنّة في ريض ورحاب وليسوا فيها .
وسمعتُ أبا القاسم بن جبير يقول : رأيت في بعض التفاسير أن الكافر ها هنا إبليس وذلك أنه عاب آدم بأنه خُلق من تراب وافتخر بأنه خلق من النار ، فإذا عاين يوم القيامة ما فيه آدم وبنوه المؤمنون من الثواب والراحة والرحمة ورأى ما هو وذويه فيه من الشدّة والعذاب تمنّى أنه بمكان آدم فيقول حينئذ : يا ليتني كنت تراباً .
وقال أبو هريرة : فيقول التراب للكافر : لا ولا كرامة لك من جعلك مثلي .
(10/121)
" صفحة رقم 122 "
( سورة النازعات )
مكيّة : وهي ستة وأربعون آية ، ومائة وتسعوسبعون كلمة ، وثلاثة وسبع مائة وخمسون حرفاً
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ يَقُولُونَ أَءِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى الْحَافِرَةِ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ ( 2
النازعات : ( 1 ) والنازعات غرقا
) والنازعات غرقاً ( قال مسروق : هي الملائكة التي تنزع نفوس بني آدم ، وهي رواية أبي صالح وعطية عن ابن عباس ، قال أمير المؤمنين علي كرّم الله وجهه : هي الملائكة تنزع أرواح الكافر والكفرة ، وقال ابن مسعود : يريد أنفس الكفّار ينزعها ملك الموت من أجسادهم من تحت كلّ شعرة ومن تحت الأظافير وأصول القدمين ثم يفرّقها ويرّددها في جسده بعد ما تنزع حتى إذا كادت تخرج ردّها في جسده فهذا عمله بالكفار ، وقال مقاتل : هم ) ملك الموت ) وأعوانه ينزعون روح الكافر كما ينزع السّفود الكثير الشعب من الصوف المبتل فتخرج نفسه كالغريق في الماء .
سعيد بن جبير : نزعت أرواحهم ثم غرّقت ثم حرّقت ثم قذف بها في النار ، وقال مجاهد هو الموت ينزع النفوس ، السندي : هي النفس حين تغرق في الصدر ، وقيل : يرى الكافر نفسه في وقت النزع كأنه يغرق ، الحسن وقتادة وابن كيسان وأبو عبيدة والأخفش : هي النجوم تنزع من أفق إلى أفق تطلع ثم تغيب ، عطاء وعكرمة : هي القسيّ ، وقيل : الغزاة ، الرماة ، ومجاز الآية : والنازعات إغراقاً كما يغرق النازع في القوس إذا بلغ بها غاية المد ( . . . ) الذي عند النصل الملفوف عليه ، ويقال لقشرة البيضة الداخلة غرقي ، وأراد بالإغراق المبالغة في النزع وهو سابغ في جميع وجوه تأويلها
(10/122)
" صفحة رقم 123 "
النازعات : ( 2 ) والناشطات نشطا
) والناشطات نشطاً ( قال ابن عباس : يعني الملائكة تنشط نفس المؤمن فتقبضها كما ينشط العقال من يد البعير إذا حلّ عنها وحكى الفرّاء هذا القول ثم قال : والذي سمعت من العرب أن يقولوا : أنشطت ، وكأنما أنشط من عقال ، وربطها نشطاً ، والرابط : الناشط ، وإذا ربطت الحبل في يد البعير فقد نشطته وأنت ناشط ، وإذا حللته فقد أنشطته وأنت منشط .
وعن ابن عباس أيضاً : هي أنفس المؤمنين عند الموت ، ينشط للخروج وذلك أنه ليس من مؤمن يحضره الموت إلاّ عرضت عليه الجنّة قبل أن يموت فيرى فيها أشباهاً من أهله وأزواجه من الحور العين فهم يدعونه إليها ، فنفسه إليهم نشيطة ان تخرج فتأتيهم ، وقال علي ابن أبي طالب : هي الملائكة تنشط أرواح الكفار ما بين الجلد والأظفار حتى تخرجها من أجوافها بالكرب والغمّ ، وقال مجاهد : هو الموت ينشط نفس الإنسان ، وقال السندي : حين ينشط من القدمين ، عكرمة وعطا : هي الأدهان ، قتادة والأخفش : هي النجوم تنشط من أفق إلى أُفق ، أي تذهب ، يقال : حمارنا ناشط ينشط من بلد إلى بلد أي يذهب ، ويقال لبقر الوحش نواشط ، لأنها تذهب من موضع إلى موضع . قال الطرماح :
وهل بحليف الخيل ممّن عهدته
به غير أحدان النواشط روّع
والهموم تنشط بصاحبها ، قال هميان بن قحافة :
أمست همومي تنشط المناشطا
الشام بي طوراً وطوراً واسطّا
وقال الخليل : النشط والإنشاط مدّك شيئاً إلى نفسك حتى تنحّل .
النازعات : ( 3 ) والسابحات سبحا
) والسابحات سبحاً ( قال علي : هي الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين ، وقال الكلبي : هم الملائكة يقبضون أرواح المؤمنين كالذي يسبح في الماء فأحياناً ينغمس وأحياناً يرتفع يسلونه سلا رفيقاً ثم يدعونها حتى يستريح ، وقال مجاهد وأبو صالح : هم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين كما يقال للفرس الجواد ، سابح إذا أسرع في جريه ، وقيل : هي خيل الغزاة . قال امرؤ القيس :
مسح إذا ما السابحات على الونى
أثرن الغبار بالكديد المركل
وقال قتادة : هي النجوم والشمس والقمر . قال الله سبحانه : ) كلّ في فلك يسبحون ( وقال عطا : هي السفن
(10/123)
" صفحة رقم 124 "
النازعات : ( 4 ) فالسابقات سبقا
) والسابقات سبقاً ( قال مجاهد وأبو روق : سقت ابن آدم بالخير والعمل الصالح ، مقاتل : هي الملائكة تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة ، ابن مسعود : هي أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقضونها وقد عاينت السرور شوّقا إلى لقاء الله ورحمته وكرامته ، عطا : هي الخيل ، قتادة : النجوم تسبق بعضها بعضاً في المسير .
النازعات : ( 5 ) فالمدبرات أمرا
) فالمدبّرات أمراً ( يعني الملائكة .
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن جعفر بن الطيب قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص قال : حدّثنا محمد بن خلف قال : حدّثنا أبو نعيم قال : حدّثنا الأعمش عن عمرو ابن مرّة عن عبدالرحمن بن سابط قال : يدبّر أمر الدنيا أربعة : جبريل وميكائيل وملك الموت وإسرافيل ( عليهم السلام ) ، فأما جبريل فوكّل بالرياح ، وأما ميكائيل فوكّل بالقطر والنبات وأمّا ملك الموت فوكّل بقبض الأنفس ، وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم .
النازعات : ( 6 ) يوم ترجف الراجفة
) يوم ترجفُ الراجفة ( يعني النفخة الأولى التي يتزلزل ويتحرّك لها كلّ شيء
النازعات : ( 7 ) تتبعها الرادفة
) تتبعها الرادفة ( وهي النفخة الأخيرة وبينهما أربعون سنة ، قال قتادة : هما صيحتان : أما الأولى فتميت كلّ شيء بإذن الله ، وأمّا الأخرى فتحيي كلّ شيء بإذن الله ، وقال مجاهد : ) يوم ترجف الراجفة ( يعني تزلزل الأرض والجبال ) تتبعها الرادفة ( حين تنشق السماء ويحمل الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة ، عطا : الراجفة : القيامة ، والرادفة البعث ، ابن زيد : الراجفة : الموت ، والرادفة : الساعة ، وأصل : الراجفة : الصوت والحركة ومنه سميت الأراجيف لاضطراب الأصوات بها ، وكلّ شيء ولى شيئاً وتبعه فقد ردفه .
أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا عبدالله بن محمد بن يوسف قال : حدّثنا محمد بن هارون الحضرمي قال : حدّثنا الحسن بن عرفة قال : حدّثنا قبيصة بن عقبة عن سفيان الثوري عن عبدالله ابن محمد بن عقيل عن الطفيل بن أبيّ بن كعب عن أبيّ بن كعب ، قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا ذهب ربع الليل قام وقال : ( يا أيها الناس اذكروا الله إذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه جاء الموت بما فيه ) .
واختلف العلماء في جواب القسم فقال بعض نُحاة الكوفة : جوابه مضمر مجازه : لتبعثن ولتحاسبُن ، وقال بعض نُحاة البصرة : هو قوله : ) إنّ في ذلك لعبرة لمن يخشى ( وقيل : في الكلام تقديم وتأخير تقديره : يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة والنازعات غرقاً .
النازعات : ( 8 ) قلوب يومئذ واجفة
) قلوب يومئذ واجفة ( خائفة ، مجاهد : وجلة ، السدي : زائلة عن أماكنها ، نظيره ) إذ القلوب لدى الحناجر ( ، المؤرّخ : قلقة ، قطرب : مستوفرة ، يمان : غير هادئة ولا ساكنة ، أبو
(10/124)
" صفحة رقم 125 "
عمرو بن العلا : مرتكضة ، المبرد : مضطربة من وجيف الحركات يقال : وجف القلب ووجب فهو يجف ويجب وجوفاً ووجيفاً ووجوباً ووحيباً .
النازعات : ( 9 - 10 ) أبصارها خاشعة
) أبصارُها خاشعة يقولون ( يعني هؤلاء المكذّبين للبعث من مشركي مكّة إذا قيل لهم : إنكم مبعوثون بعد الموت .
) أنّا لمردودون في الحافرة ( أي إلى أوّل الحال وابتداء الأمر فراجعون أحياء كما كنّا قبل حياتنا وهو من قول العرب : رجع فلان على حافرته إذا أرجع من حيث جاء ، وقال الشاعر :
أحافرة على صلع وشيب
معاذ الله من سفه وعار
ويقال : البعد عند الحافر وعند الحافرة أي في العاجل عند ابتداء الأمر وأول سومه ، والتقى القوم فاقتتلوا عند الحافرة أي عند أول كلمة .
أخبرنا أبو بكر الجمشادي قال : أخبرنا أبو بكر القطيعي قال : حدّثنا إبراهيم بن عبدالله بن مسلم قال : حدّثنا عمر بن مرزوق قال : أخبرنا عمران القطان قال : سمعت الحسن يقول : إنّا لمردودون إلى الدنيا فنصير أحياء كما كنا ، قال الشاعر :
آليتُ لا أنساكم فاعلموا
حتى يردُ الناس في الحافرة
وقال بعضهم : الحافرة الأرض التي فيها تحفر قبورهم فسُمّيت حافرة وهي بمعنى المحفورة كقوله سبحانه : ) ماء دافق ( و ) عيشة راضية ( ومعنى الآية إنّا لمردودون إلى الأرض فنبعث خلقاً جديداً ثم مردودون في قبورنا أمواتاً ، وهذا قول مجاهد والخليل بن أحمد ، وقيل : سمّيت الأرض حافرة ، لأنها مستقر الحوافر كما سمي القدمُ أرضاً ، لأنها على الأرض ومجاز الآية : نرد فنمشي على أقدامنا ، وهذا معنى قول قتادة ، وقال ابن زيد : الحافرة النار ، وقرأ ) تلك إذاً كرة خاسرة ( قال : هي إسم من أسماء النار وما أكثر أسمائها .
النازعات : ( 11 ) أئذا كنا عظاما . . . . .
) أءذا كنا عظاماً نخرة ( قرأ أهل الكوفة وأيوب ناخرة بالألف ، وهي قراءة عمر بن الخطاب وابنه وابن عباس وابن الزبير وابن مسعود وأصحابه ، واختاره الفراء وابن جرير لوفاق رؤوس الآي ، وقرأ الباقون بجرة بغير الألف ، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، قال أبو عبيد إنما اخترناه لحجتين : أحديهما : أن الجمهور الأعظم من الناس عليها ، منهم أهل تهامة والحجاز والشام والبصرة ، والثانية : إنّا قد نظرنا في الآثار التي فيها ذكر العظام التي قد نخرت
(10/125)
" صفحة رقم 126 "
فوجدناها كلّها العظام النخرة ، ولم أسمع في شيء منها الناخرة ، وكان أبو عمرو يحتج بحجة ثالثة قال : إنّما يكون تناخره إلى تنخرها ، ولم يفعل ، وهما لغتان في قول أكثر أهل اللسان مثل : الطمع والطامع والبخل والباخل والفره والفاره والجذر والجاذر ، وفرّق بينهما فقالوا : النخرة : البالية ، والناخرة : المجوّفة التي تمرّ فيها الريح فتخرّ أي تصوّت .
النازعات : ( 12 ) قالوا تلك إذا . . . . .
) قالوا ( يعني المنكرين ) تلك إذاً كرّةٌ خاسرةٌ ( رجعة غابنة قال الله سبحانه :
النازعات : ( 13 ) فإنما هي زجرة . . . . .
) فإنّما هي زجرة ( صيحة ونفخة ) واحدة (
النازعات : ( 14 ) فإذا هم بالساهرة
) فإذا هم بالساهرة ( يعني وجه الأرض صاروا على ظهر الأرض بعد ما كانوا في جوفها ، والعرب تسمي الفلاة ووجه الأرض ساهرة ، قال أئمة أهل اللغة تراهم سمّوا ذلك بها ) لأنّ فيها نوم الحيوان ) سهّرهم فوصف بصفة ما فيه ، واستدل ابن عباس والمفسرون بقول أمية بن أبي الصلت :
وفيها لحم ساهرة وبحر
وما فاهوا به لهم مقيم
أي لهم البر والبحر ، وقال امرؤ القيس :
ولاقيتمُ بعدهُ غبّها
فضاقت عليكم به الساهرة
وقال أبو ذؤيب :
يرتدن ساهرة كأن حميمها
وعميمها أسداف ليل مظلم
وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا ابن لمهان قال : حدّثنا موسى بن إسماعيل قال : حدّثنا جهاد عن أبي سنان عن أبي المنية ) فإذا هم بالساهرة ( جبل عند البيت المقدّس ، وروى الوليد بن مسلم عن عثمان بن أبي العاتكة ) فإذا هم بالساهرة ( قال الصقع الذي بين جبل حسان وجبل أريحا يمدّه الله كيف يشاء ، وقال سفيان : هي أرض الشام ، وقال قتادة : هي جهنم .
2 ( ) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى فَأَرَاهُ الاَْيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاَْعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الاَْخِرَةِ وَالاُْوْلَى إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى أَءَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالاَْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وَلاَِنْعَامِكُمْ فَإِذَا جَآءَتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَى يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى فَأَمَّا مَن طَغَى
(10/126)
" صفحة رقم 127 "
وَءاثَرَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِىَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِىَ الْمَأْوَى يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ( 2
النازعات : ( 15 - 18 ) هل أتاك حديث . . . . .
) هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربّه بالواد المقدّس طوىً إذهب إلى فرعون إنه طغى فقل هل لك إلى أن تزكى ( قرأ أهل الحجاز وأيوب ويعقوب بتشديد الزاي أي تتزّكى ومثله روى العباس عن أبي عمرو ، غيرهم بتخفيفه ومعناه تسلّم وتصلح وتطهّر .
النازعات : ( 19 ) وأهديك إلى ربك . . . . .
) وأهديك إلى ربّك فتخشى ( أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبيش قال : أخبرنا ابن زنجويه قال : حدّثنا مسلمة قال : حدّثنا عبدالرزاق قال : أخبرنا ابن التيمي عن عبيدالله بن أبي بكر قال : حدّثني صخر بن جويرية قال : لما بعث الله تعالى موسى ( عليه السلام ) إلى فرعون فقال له : ) إذهب إلى فرعون إنّه طغى ( إلى ) فتخشى ( ولن يفعل . قال موسى ( عليه السلام ) : يا رب وكيف أذهب إليه وقد علمت أنه لن يفعل ؟ فأوحى الله تعالى إليه أن أمضِ إلى من أُمرت به فإن في السماء إثني عشر ألف ملك يطلبون علم القدر فلم يبلغوه ولم يدركوه .
النازعات : ( 20 ) فأراه الآية الكبرى
) فأرياه الآية الكبرى ( وهي العصا واليد البيضاء .
النازعات : ( 21 - 22 ) فكذب وعصى
) فكذّب وعصى ثم أدبر ( تولى وأعرض عن الإيمان .
) يسعى ( يعمل بالفساد
النازعات : ( 23 - 24 ) فحشر فنادى
) فحشر ( فجمع السحرة وقومه ) فنادى فقال أنا ربّكم الأعلى ( يقول ليس ربّ فوقي ، وقيل : أراد أن الأصنام أرباب وأنا ربّها وربكم ، وقيل : أراد القادة والسادة
النازعات : ( 25 ) فأخذه الله نكال . . . . .
) فأخذه الله ( فعاقبه الله ) نكال الآخرة والأولى ( يعني في الدنيا والآخرة ، الأولى بالغرق وفي الآخرة بالنار ، وقيل : نكال كلمته الأولى وهي قوله سبحانه ) ما علمت لكم من إله غيري ( وكلمته الآخرة هي قوله ) أنا ربكم الأعلى ( وكان بينهما أربعون سنة .
النازعات : ( 26 - 27 ) إن في ذلك . . . . .
) إن في ذلك لعبرة لمن يخشى أأنتم ( أيها المنكرون للبعث ) أشدّ خلقاً أم السماء ( إن الذي قدر على خلق السماء قادر على أن يحيي الموتى وقوله ) لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ( .
) بناها }
النازعات : ( 28 ) رفع سمكها فسواها
) رفع سمكها ( سقفها ، قال الفراء : كل شيء حمل شيئاً من البناء وغيره فهو سمك وبناء وسموك ) فسواها ( بلا شطور ولا فطور
النازعات : ( 29 ) وأغطش ليلها وأخرج . . . . .
) وأغطش ( أظلم ) ليلها ( والغطش أشد الظلمة ورجل أغطش أي أعمى ) وأخرج ضحياها ( أبرز وأظهر نهارها ونوره .
النازعات : ( 30 ) والأرض بعد ذلك . . . . .
) والأرض بعد ذلك دحياها ( اختلفوا في معنى الآية ، فقال ابن عباس : خلق الله سبحانه
(10/127)
" صفحة رقم 128 "
الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها قبل السماء ثم استوى إلى السماء فسوّاهن سبع سموات ، ثم دحا الأرض بعد ذلك أي بسطها ، قال ابن عباس وعبدالله بن عمرو : خلق الله الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام فدحيت الأرض من تحت البيت ، وقيل معناه : والأرض مع ذلك دحاها كما يقال للرجل : أنت أحمق وأنت بعد هذا لئيم الحسب ، أي مع هذا ، قال الله عزّوجل : ) عتلّ بعد ذلك زنيم ( أي مع ذلك ، وقال الشاعر :
فقلت لها عني إليك فإنني
حرام وإني بعد ذاك لبيب
يعني مع ذلك .
ودليل هذا التأويل قراءة مجاهد ) والأرض عند ذلك دحاها ( وقيل بعد بمعنى قبل كقوله سبحانه : ) ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذّكر ( أي من قبل الذكر وهو القرآن ، وقال الهذلي : حملت الهي بعد عروة إذا نجا خراش وبعض الشراهون من بعض زعموا أن خراشا نجا قبل عروة .
وقراءة العامة ) والأرض ( بالنصب ، وقرأ الحسن ) والأرض ( رفعها بالأبتداء الرجوع الهاء وكلا الوجهين سائغان في عائد الذكر ، والدّحو البسط والمدّ ، ومنه أُدحيّ النعامة ؛ لأنها تدحوه بصّدرها ، يقال : دحا يدحوا دحواً ودحا يدحا دحياً لغتان مثل قولهم طغى يطغو أو يطغي وصغا يصغو ويصغي ، ومحا يمحو ويمحي ولحي العود يلحوا أو يلحيّ ، فمن قال : يدحو قال دحوت ، ومن قال يدحا قال : دحيتُ .
النازعات : ( 31 ) أخرج منها ماءها . . . . .
) أخرج منها ماءها ومرعاها ( قال القتيبي : أنظر كيف دلّ بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتاً ومتاعاً للأنعام من العشب والشجر والحبّ والتمر والعصف والحطب واللباس والنار والملح ، لأنّ النار من العيدان والملح من الماء .
النازعات : ( 32 ) والجبال أرساها
) والجبال أرساها ( قراءة العامة بالنصب وقرأ عمرو بن عبيد بالرفع .
النازعات : ( 33 - 34 ) متاعا لكم ولأنعامكم
) متاعاً لكم ولأنعامكم فإذا جاءت الطامةُ الكبرى ( وهي القيامة سميت بذلك ؛ لأنها تطمُ على كلّ هائلة من الأمور فتغمر ما سواها بعظم هولها ؛ أي يغلب ، والطامة عند العرب الناهية التي لا تُستطاع ، وإنّما أخرت من قولهم ظمّ الفرس طميمها إذا استفرغ جهده الجري .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبيش قال : حدّثنا محمد بن عمران قال : حدّثنا هناد ابن السهى قال : حدّثنا أبو أسامة عن ملك بن مغول عن القاسم الهمداني ) فإذا جاءت الطامة الكبرى ( قال الحسن : يسوق أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار
(10/128)
" صفحة رقم 129 "
النازعات : ( 35 ) يوم يتذكر الإنسان . . . . .
) يوم يتذكر الإنسان ما سعى ( عمل في الدنيا من خير أو شر
النازعات : ( 36 - 42 ) وبرزت الجحيم لمن . . . . .
) وبرّزت الجحيمُ لمن يرى فأمّا من طغى وآثر الحيواة الدُنيا فإن الجحيم هي المأوى وأمّا من خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنّة هي المأوى يسئلونك عن الساعة أيان مُرساها ( متى ظهورها وثبوتها
النازعات : ( 43 - 44 ) فيم أنت من . . . . .
) فيم أنت من ذكراها إلى ربّك منتهاها ( علمها عند الله ولست من علمها في شيء قالت عائشة : لم يزل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يذكر الساعة ويسأل عنها حتى نزلت هذه الآيات .
النازعات : ( 45 ) إنما أنت منذر . . . . .
) إنّما أنت منذر من يخشاها ( قراءة العامة بالإضافة وقرأ أبو جعفر وابن محيض منذر بالتنوين ، ومثله روى العباس عن أبي عمرو .
النازعات : ( 46 ) كأنهم يوم يرونها . . . . .
) كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا ( في الدنيا قيل : في قبورهم ، ) إلاّ عشيةً أو ضُحيها ( قال الفراء : ليس للغاشية ضحى إنّما الضحى لصدر النهار ولكن هذا ظاهر من كلام العرب أن تقولوا أتتك العشية أو عداتها إنما معناه آخر يوم أو أوّله قال وأنشد بعض بني عقيل :
نحن صبّحنا عامرا في دارها
جردا تعاطى طرفي نهارها
عشية الهلال أو سرارها .
بمعني عشية الهلال أو عشية سرار العشية .
(10/129)
" صفحة رقم 130 "
( سورة عبس )
مكيّة وهي إحدى وأربعون آية ، ومائة وثلاثون كلمة ، وخمس مائة وثلاثة وثلاثون حرفاً
أخبرنا ابن المقري قال : أخبرنا ابن مطر قال : حدّثنا ابن شريك قال : حدّثنا ابن يونس قال : حدّثنا سلام قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبيّ قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة عبس وتولى جاء يوم القيامة ووجهه ضاحك مستبشر ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَآءَهُ الاَْعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ فَى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِى سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ قُتِلَ الإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ مِنْ أَىِّ شَىْءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَآءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الاَْرْضَ شَقّاً فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلاَِنْعَامِكُمْ ( 2
عبس : ( 1 ) عبس وتولى
) عَبَسَ ( كلح . ) وتولّى ( وأعرض عنه بوجهه )
عبس : ( 2 ) أن جاءه الأعمى
آن لأن ( ) جاءهُ الأعمى ( وهو ابن مكتوم واسمه عبدالله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي ، وذلك أنه أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبدالمطلب وأبيا وأمية ابني خلف ويدعوهم إلى الله سبحانه ويرجوا إسلامهم فقال : يا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أقرئني وعلّمني مما علّمك الله ، فجعل يناديه ويكرّر النداء ولا يدري أنه مشتغل مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهية في وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لقطعه كلامه وقال في نفسه يقول : هؤلاء الصناديد إنما أتباعه العميان والسفلة والعبيد فعبس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأعرض عنه وأقبل على القوم يكلّمهم ، فأنزل الله سبحانه
(10/130)
" صفحة رقم 131 "
هذه الآيات ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد ذلك يكرمه وإذا رآهُ قال : ( مرحباً بمن عاتبني فيه ربي ) ويقول : ( هل لك من حاجة ) واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما قال أنس بن مالك : فرأيته يوم القادسية عليه درع ومعه راية سوداء ، قال ابن زيد كان يقال : لو كتم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شيئاً من الوحي لكتم هذا .
عبس : ( 3 ) وما يدريك لعله . . . . .
) وما يدريك لعلّهُ يزكى ( أي يتطهّر من ذنوبه ويتّعظ ويصلح ، وقال ابن زيد : يسلم .
عبس : ( 4 ) أو يذكر فتنفعه . . . . .
) أو يذكر ( يتعظ ) فتنفعه الذكرى ( الموعظة ، وقراءة العامة فتنفعه بالرفع نسقاً على قوله يزّكى ويذكر ، وقرأ عاصم في أكثر الروايات بالنصب على جواب لعل بالفاء .
عبس : ( 5 ) أما من استغنى
) أمّا من استغنى ( اثرى
عبس : ( 6 ) فأنت له تصدى
) فأنت له تصدّى ( تتعرّض وتصغي إلى كلامه قال الراعي : ) تصدى ( لوّضاح كان جبينه سراج الدجى تجبى إليه الأساور ، وقرأ أهل الحجاز وأيوب تصّدى بتشديد الصاد على معنى يتصدى ، وقرأ الباقون بالتخفيف على الحذف .
عبس : ( 7 ) وما عليك ألا . . . . .
) وما عليك ألَّا يزكى ( أن لا يسلم أن عليك إلاّ البلاغ
عبس : ( 8 ) وأما من جاءك . . . . .
) وأمّا من جاءك يسعى ( يمشي يعني الأعمى
عبس : ( 9 ) وهو يخشى
) وهو يخشى ( الله سبحانه
عبس : ( 10 ) فأنت عنه تلهى
) فأنت عنه تلهى ( تعرض وتتغافل وتتشاغل بغيره
عبس : ( 11 ) كلا إنها تذكرة
) كلاّ ( ردع وزجر أي لا تفعل مثلها بعدها فليس الأمر كما فعلت من إقبالك على الغني الكافر وإعراضك ( عن ) الفقير المؤمن .
) إنّها ( يعني هذه الموعظة ، وقيل : هذه السورة ، وقال مقاتل : آيات القرآن ) تذكرة ( موعظة وتبصرة
عبس : ( 12 ) فمن شاء ذكره
) فمن شاء ( من عباد الله ذكره اتّعظ به ، وقال مقاتل : فمن شاء الله ذكّره ، أي فهّمه واتعض به إذا شاء الله منه ذلك وذكّره وفهمه ، والهاء في قوله : ) ذكره ( راجعة إلى القرآن والتنزيل والوحي أو الوعظ .
عبس : ( 13 ) في صحف مكرمة
) في صحف مكرّمة ( يعني اللوح المحفوظ ، وقيل : كتب الأنبياء ( عليهم السلام ) ، دليله قوله سبحانه : ) إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى 2 )
عبس : ( 14 ) مرفوعة مطهرة
) مرفوعة ( رفيعة القدر عند الله ) مطهرة }
عبس : ( 15 ) بأيدي سفرة
) بأيدي سفرة ( قال ابن عباس ومجاهد : كتبة وهم الملائكة الكرام الكاتبون واحدهم سافر ، ويقال : سفرت أي كتبت ومنه قيل للكتاب سفر ، وجمعه أسفار ، ويقال للورّاق سفّرا بلغة العبرانية وقال قتادة : هم القرّاء ، وقال الباقون : هم الرسل من الملائكة واحدهم سفير وهو الرسول ، وسفير القوم هو الذي يسعى بينهم للصلح ، وسفرت بين القوم إذا أصلحت بينهم ، قال الشاعر
(10/131)
" صفحة رقم 132 "
فما ادع السفارة بين قومي
ولا أمشي بغير أب نسيب
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبيش قال : حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال : حدّثنا علي بن الحسين قال : حدّثنا الصلت بن مسعود قال : حدّثنا جعفر بن سلمان قال : حدّثنا عبدالصمد بن معقل قال : سمعت عمّي وهب بن منبّه ) بأيدي سفرة ( قال : هم أصحاب محمد .
عبس : ( 16 ) كرام بررة
) كرام بررة ( جمع بار وبرّ مثل كافر وكفرة وساحر وسحرة .
عبس : ( 17 ) قتل الإنسان ما . . . . .
) قتل الإنسان ( لعن الكافر سمعت السلمي يقول : سمعت منصور بن عبدالله يقول : سمعت أبا القاسم البزاز يقول : قال ابن عطا : منع الإنسان عن طريق الخيرات بجهله بطلب رشده وسكونه إلى ما وعد الله له ، قال مقاتل : نزلت في عتبة بن أبي لهب ) ما أكفرهُ ( بالله وأنعمه مع كثرة إحسانه إليه وأياديه عنده على طريق التعجّب ، وقال الكلبي ومقاتل : هو ) ما ( الاستفهام تعني أي شيء يحمله على الكفر .
عبس : ( 18 - 20 ) من أي شيء . . . . .
) من أي شي خلقه من نطفة خلقه فقدّره ثم السبيل يسّرهُ ( أي طريق خروجه من بطن أمّه ، وقال الحسن ومجاهد : يعني طريق الحق والباطل بيّن له ذلك وسهل له العمل به ، دليله قوله سبحانه : ) إنا هديناه السبيل ( و ) هديناه النجدين ( وقال أبو بكر بن طاهر : يسّر على كل أحد ما خلقه له وقدّر عليه ، دليله قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اعملوا فكل ميسّر لما خلق له ) .
عبس : ( 21 ) ثم أماته فأقبره
) ثم أماته ( قبض روحه ) فأقبره ( صيّره بحيث يقبر ويدفن يقال : قبرت الميت ، إذا دفنته ، وأقبره الله أي صيّره بحيث يقبر وجعله ذا قبر ويقول العرب : بُترت ذنب البعير والله أبتره ، وعضبت قرن الثور والله أعضبه ، وطردتُ فلاناً والله أطرده أي صيّره طريدا ، وقال الفراء : معناه جعله مقبوراً ، ولم يجعله ممن يلقى للسباع والطير ولا ممن يلقى في النواويس ، فالقبر مما أكرم به المسلم ، وقال أبو عبيدة فأقبره أي أمر بأن يُقبر ، قال : وقالت بنو تميم لعمر بن هبيرة لما قتل صالح بن عبدالرحمن : أقبرنا صالحاً فقال : دونكموه .
عبس : ( 22 ) ثم إذا شاء . . . . .
) ثم إذا شاء أنشره ( أحياه بعد موته .
عبس : ( 23 ) كلا لما يقض . . . . .
) كلاّ ( ردّ عليه أي ليس الأمر كما تقول ونظر هذا الكافر ، وقال الحسن : حتماً .
) لما يقضي ما أمرهُ ( أي لم يفعل ما أمرهُ به ربّه ولم يؤدّ ما فرض عليه
عبس : ( 24 ) فلينظر الإنسان إلى . . . . .
) فلينظر الإنسان إلى طعامه ( كيف قدر ربّه ودبّره وليكون له آية وعبرة ، وقال مجاهد : إلى مدخله ومخرجه .
أخبرنا ابن فتحوية قال : حدّثنا القطيعي قال : حدّثنا عبدالله قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا
(10/132)
" صفحة رقم 133 "
أحمد بن عبدالملك قال : حدّثنا حماد بن زيد عن علي بن زيد بن جدعان عن الضحاك بن سفيان الكلابي : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال له : ( يا ضحاك ما طعامك ؟ ) قال : يا رسول الله اللحم واللبن ، قال : ( ثم يصير إلى ماذا ؟ ) قال : إلى ما قد علمت . قال : ( قال الله سبحانه وتعالى : ضرب ما يخرج من ابن آدم مثلا للدنيا ) .
أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن مالك قال : حدّثنا ابن حنبل قال : حدّثني محمد بن عبدالرحيم أبو يحيى قال : حدّثنا أبو حذيفة قال : حدّثنا سفيان عن يونس عن عبيد عن الحسن عن عتيّ عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ مطعم ابن آدم جُعل مثلا للدنيا وان قزحهوملحه فانظر إلى ما يصير ) .
وأخبرني ابن فنحويه قال : حدّثنا ابن صقلاب قال : حدّثنا ابن أبي الخصيب قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا سهل بن عامر قال : حدّثنا عمر بن سليمان عن ابن الوليد قال : سألت ابن عمر عن الرجل يدخل الخلاء فينظر إلى ما يخرج منه ، قال : يأتيه الملك فيقول انظر إلى ما بخلت به إلى ما صار ؟
عبس : ( 25 ) أنا صببنا الماء . . . . .
) أنا ( قرأ الكوفيون بفتح الألف على نية تكرير الخافض ، مجازه : ولينظر إلى أنّا ، غيرهم بالكسر على الإستئناف .
) صببنا الماء صباً ( يعني الغيث
عبس : ( 26 ) ثم شققنا الأرض . . . . .
) ثم شققنا الأرض شقاً ( بالنبات
عبس : ( 27 - 28 ) فأنبتنا فيها حبا
) فأنبتنا فيها حبّاً وعنباً وقضباً ( قال ابن عباس والضحاك : يعني الرطبة ، وأهل مكة يسمون القتّ القضيب ، قال ثعلب : سمي بذلك لأنه يقضب في كل أيام أي يقطع ، وقال الحسن : القضبّ العلف .
عبس : ( 29 ) وزيتونا ونخلا
) وزيتوناً ( وهو الذي منه الزيت ) ونخلا }
عبس : ( 30 ) وحدائق غلبا
) وحدائق غُلباً ( غلاظ الأشجار واحدها أغلب ومنه قيل لغليظ الرقبة أغلب ، وقال مجاهد : ملتفة ، ابن عباس : طوالا ، قتادة : الغلب النخل الكرام ، عكرمة : عظام الأوساط ، ابن زيد : عظام الجذوع والرقاب .
عبس : ( 31 ) وفاكهة وأبا
) وفاكهة وأباً ( يعني الكلاء والمرعى ، وقال الحسن : هو الحشيش وما تأكله الدواب ولا تأكله الناس ، قتادة : أما الفاكهة فلكم وأما الأبُ فلأنعامكم ، أبو رزين : النبات ، يدل عليه ما روى ابن جبير عن ابن عباس قال : ما أنبتت الأرض مما تأكل الناس والأنعام . علي بن أبي طلحة عنه : الأبّ : الثمار الرطبة . الضحّاك : هو التبن . عكرمة : الفاكهة : ما يأكل الناس ، والأب : ما يأكل الدواب
(10/133)
" صفحة رقم 134 "
وأخبرنا عبدالله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن خالد قال : حدّثنا داود بن سليمان قال : حدّثنا عبد بن حميد قال : حدّثنا محمد بن عبيد عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي إن أبا بكر سئل عن قوله ) وفاكهة وأبّاً ( فقال : أي سماء تظلّني وأي أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم .
وأخبرنا ابن حمدون قال : أخبرنا ابن الشرقي قال : حدّثنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد قال : أخبرنا أبي عن صالح عن ابن شاب عن أنس بن مالك أخبره أنه سمع هذه الآية ثم قال : كلّ هذا قد عرّفنا فما الأب ثم رفض عصاً كانت بيده وقال : هذا لعمر الله التكليف وما عليك يابن أم عمر أن لا تدري ما الأب ثم قال : اتبعوا ما تبيّن لكم من هذا الكتاب وما لا فدعوه .
عبس : ( 32 ) متاعا لكم ولأنعامكم
) متاعاً لكم ( يعني الفاكهة ) ولأنعامكم ( يعني العشب .
( ) فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أُوْلَائِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ( 2
عبس : ( 33 ) فإذا جاءت الصاخة
) فإذا جاءت الصّاخة ( يعني صيحة القيامة ، سمّيت بذلك لأنها تصخّ الأسماع أي تبالغ في إسماعها حتى كاد تصمّها .
عبس : ( 34 - 36 ) يوم يفر المرء . . . . .
) يوم يفرّ المرء من أخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه ( لا يلتفت إلى واحد منهم لشغله بنفسه وقيل : حذراً من مطالبتهم إيّاه لما بينه وبينهم من التبعاتّ والمظالم ، وقيل : لعلمه بأنهم لا ينفعونه ولا يغنون عنه من الله شيئاً .
سمعت السلمي يقول : سمعت منصور بن عبدالله يقول : سمعت عبدالله بن طاهر الأبهري يقول في هذه الآية : يفر منهم إذا ظهر له عجزهم وقلّة حيلتهم إلى مَنْ يملك كشف تلك الكروب والهموم عنه ولو ظهر له ذلك في الدنيا لما اعتمد سوى ربّه الذي لا يعجزه شيء ، ويمكن من فسحة التوكّل واستراح في ظل التفويض .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا مخلّد قال : حدّثنا ابن علوية قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا إسحاق بن بشر قال : أخبرني شيخ لنا عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن قال : أول من يفر يوم القيامة من أبيه إبراهيم وأول من يفر من أمه إبراهيم وأول من يفر من إبنه نوح ، وأول من يفر من أخيه هابيل بن آدم ، وأول من يفر من صاحبته نوح ثم لوط ، ثم تلا هذه الآية ) يوم يفرّ المرء من أخيه ( وقال يروون أن هذه الآية نزلت فيهم .
وأخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس قال : أخبرنا أبو بكر بن محمد بن حمدون بن
(10/134)
" صفحة رقم 135 "
خالد قال : حدّثنا أبو حنيفة محمد بن عمرو قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا خليد بن دعلج عن قتادة في قول الله سبحانه ) يوم يفرّ المرء من أخيه ( قال : يفرّ هابيل من قابيل وأمه وأبيه ، قال : يفر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أمه وإبراهيم من أبيه وصاحبته وبنيه ، قال : لوط من صاحبته ونوح من ابنه .
عبس : ( 37 ) لكل امرئ منهم . . . . .
) لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه ( يشغله عن شأن غيره قال خفاف .
ستغنيك حرب بني مالك
عن الفحش والجهل في المحفل
قال الفراء : وقرأ بعض القراء وهو ابن محيض ( بعينه ) وهو شاذ .
أخبرني الحسين قال : حدّثنا عبدالله بن عبدالرحمن قال : حدّثنا محمد بن عبدالعزيز قال : حدّثنا ابن أبي أوس قال : حدّثنا أبي عن محمد بن عياش عن عطاء بن بشار عن سودة زوج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يُبعث الناس حفاة عراة عزلا قد ألجمهم العرق ، وبلغ شحوم الآذان ) .
فقلت يا رسول الله واسوأتاه ينظر بعصبنا إلى بعض ؟ فقال : ( قد شُغل الناسُ ) لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه 2 )
عبس : ( 38 ) وجوه يومئذ مسفرة
) وجوه يومئذ مسفرة ( مشرقة مضيئة ، يقال : أسفر الصبح إذا أضاء
عبس : ( 39 ) ضاحكة مستبشرة
) ضاحكة مستبشرة ( فرحة .
أخبرنا الحسين قال : حدّثنا أبو علي الحسين بن أحمد الفامي قال : حدّثنا أحمد بن الحسن بن عبدالجبار قال : حدّثنا يحيى بن معين قال : أخبرنا إسحاق بن الأشعث عن شمر بن عطية عن عطاء في قول الله سبحانه : ) وجوه يومئذ مسفرة ( قال : من طول ما اغبرت في سبيل الله .
عبس : ( 40 ) ووجوه يومئذ عليها . . . . .
) ووجوه يومئذ عليها غبرة ( غُبار ، ذكر أن البهائم التي يصيّرها الله سبحانه تراباً بعد القضاء بينها حُوِّلَ ذلك التراب في وجوه الكفرة
عبس : ( 41 ) ترهقها قترة
) ترهقها قترة ( ظلمة وكآبة وكسوف وسواد ، قال ابن عباس : يغشاها ذلّة ، قال ابن زيد : الفرق بين الغبرة والقترة أن القترة ما ارتفع من الغبار فلحق بالسماء ، والغبرة ما كان أسفل في الأرض
عبس : ( 42 ) أولئك هم الكفرة . . . . .
) أولئك ( الذين يصنع بهم هذا ) هم الكفرة الفجرة ( .
(10/135)
" صفحة رقم 136 "
( سورة التكوير )
مكيّة وهي تسع وعشرون آية ، ومائة وأربع كلمات ، وخمس مائة وثلاثون حرفاً
حدّثنا الشيخ الإمام أبو الحسن محمد بن علي بن سهل الماسرخي إملاءاً قال : أخبرنا أبو الوفاء المؤمّل بن عيسى الماسرخي قال : حدّثنا أحمد بن منصور الرمادي قال : حدّثنا إبراهيم بن خالد قال : حدّثنا يحيى بن عبدالله بن القاص قال : سمعت عبدالرحمن بن زيد الصناعي يقول : سمعت ابن عمر يقول : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سرّه أن يُنظر إلى يوم القيامة فليقرأ إذا الشمس كورت ) .
وأخبرني سعيد بن محمد قال : أخبرنا محمد بن مطر قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك قال : حدّثنا أحمد بن عبدالله قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد عن مسلم عن أبيه عن أبي أُمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ إذا الشمس كوّرت أعاذه الله سبحانه وتعالى أن يفضحه حين تنشر صحيفته ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ( 2
التكوير : ( 1 ) إذا الشمس كورت
) إذا الشمس كُوّرت ( قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أظلمت ، عطية عنه : ذهبت ، مجاهد : أضمحلت ، قتادة : ذهب ضوؤها ، سعيد بن جبير : عوّرت وهي بالفارسية كوريكرد . أبو صالح : نكست ، وعنه أيضاً : أُلقيت ، يقال : طعنه فكوّره ، أي : ألقاه ، ربيع بن هيثم : رُمي بها . واصل التكوّر في كلام العرب جمع بعض الشيء إلى بعض كتكوير العمامة ، وهو لفّها على الرأس ، وتكوير الكارة من النبات ، وهو جمع بعضها إلى بعض ولفّها ، فمعنى
(10/136)
" صفحة رقم 137 "
قوله ) إذا الشمس كوّرت ( : جمع بعضها إلى بعض ، ثم لف فرمي بها وإذا فعل ذلك بها ذهب ضوئها ، دليله ونظيره قوله سبحانه ) وجمع الشمس والقمر 2 )
التكوير : ( 2 ) وإذا النجوم انكدرت
) وإذا النجوم انكدرت ( أي تناثرت من السماء فتساقطت على الأرض ويقال : انكدر الطائر أي سقط عن عشّه .
قال العجاج :
أبصر ضربان فضاء فانكدر .
وانكدر القوم إذا جاؤا أرسالا حتى انصبوا عليهم ، قال ذو الرمّة :
فانصاع جانبه الوحشي وانكدرت
يلجبن لا يأتلي المطلوبُ والطّلبُ
ابن عباس : تغيّرت .
التكوير : ( 3 ) وإذا الجبال سيرت
) وإذا الجبال سيّرت ( عن وجه الأرض فصارت هباء منبثاً
التكوير : ( 4 ) وإذا العشار عطلت
) وإذا العشار ( وهي النوق الحوامل التي أتى على حملها عشرة أشهر واحدتها عُشراء ، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع لتمام سنة وهي أنفس ما تكون عند أهلها وأعزّها عليهم . ) عُطلت ( سُيّبت وأهملت تركها أربابها وكانوا ( . . . . ) لأذنابها فلم تركب ولم تحلب ، ولم يكن في الدنيا مال أعجب إليهم منها . لاتيان ما يشغلهم عنها .
التكوير : ( 5 ) وإذا الوحوش حشرت
) وإذا الوحوش حُشرت ( .
أخبرنا عبدالخالق قال : أخبرنا ابن حبيب قال : حدّثنا أبو العباس البرتي قال : حدّثنا أبو نعيم قال : حدّثنا سفيان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس ) وإذا الوحوش حشرت ( قال : حشرها موتها ، وقال ابن عباس : حشر كلّ شيء الموت غير الجنّ والإنس فإنهما يوقفان يوم القيامة ، وقال أُبيّ بن كعب وإذا ) الوحوش حشرت ( أي اختلطت . قتادة : جمعت ، وقيل : بعثت ليقضي الله ( بينها ) .
التكوير : ( 6 ) وإذا البحار سجرت
) وإذا البحار سجّرت ( قرأ أهل مكّة والبصرة بالتخفيف وغيرهم بالتشديد ، واختلفوا في معناه فقال ابن زيد وشمر بن عطيّة وسفيان ووهب : أُوقدت فصارت ناراً
(10/137)
" صفحة رقم 138 "
قال ابن عباس : يكوّر الله الشمس والقمر والنجوم في البحر فيبعث عليها ريحاً دبوراً فينفخه حتى يصير ناراً .
وقال مجاهد ومقاتل والضحّاك : يعني فجر بعضها في بعض العذب والملح فصارت البحور كلّها بحراً واحداً .
قال الحلبي : ملئت ، ربيع بن حيثم : فاضبّت ، الحسن : يبست ، قتادة : ذهب ماؤها فلم يبق فيها قطرة ، وقتل : صارت مياهها بحراً واحد له من الحميم لأهل النار .
وأخبرنا عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال : حدّثنا الحسن بن الحريث قال : حدّثنا الفضل موسى عن الحسين بن واقد عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال : حدّثني أُبيّ بن كعب قال : ستّ آيات قبل يوم ا لقيامة بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فجردت واضطربت واحترقت وفزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن واختلطت الدواب والطير والوحش وماج بعضهم في بعض فذلك قوله سبحانه ) وإذا الوحوش حشرت ( قال : اختلطت ) وإذا العشار عطّلت ( قال : أهملها أهعلها ) وإذا البحار سجرّت ( قال : قالت الجن للإنس : نحن نأتيكم بالخبر ، فانطلقوا إلى البحر فإذا هي نار تأجج .
قال : فبينما هم كذلك إذ تصدّعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة وإلى السماء السابعة العليا ، قال : فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم .
التكوير : ( 7 ) وإذا النفوس زوجت
) وإذا النفوس زوّجت ( أخبرنا الحسن قال : أخبرنا السُني قال : أخبرنا أبو يعلي قال : حدّثنا محمد بن بكار قال : حدّثنا الوليد بن أبي نور عن سماك عن النعمان بن بشير أنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ) وإذا النفوس زوّجت ( قال : ( الضرباء ) كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله ) .
وأخبرنا عبدالله بن حامد قال : حدّثنا محمد بن يعقوب قال : حدّثنا محمد بن خالد قال : حدّثنا أحمد بن خالد الوهبي قال : حدّثنا إسماعيل عن سماك بن حرب إنّه سمع النعمان بن بشير يقول : قال عمر بن الخطاب : ) وإذا النفوس زوجت ( قال : الفاجر مع الفاجر ، والصالح مع الصالح ، قال ابن عباس : ذلك حتى يكون الناس أزواجاً ثلاثة ، وقال الحسن وقتادة : أُلْحِقَ كلّ امريء بشيعته ، اليهود باليهود والنصارى بالنصارى ، الربيع بن خيثم بحشر المرء مع صاحب عمله : مقاتل : زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين ونفوس الكافرين بالشياطين نظيرها ) احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ( ، وقيل : زوجت النفوس بأعمالها
(10/138)
" صفحة رقم 139 "
وأخبرنا محمد بن حمدون قال : أخبرنا مكي قال : حدّثنا حمد بن الأزهر قال : حدّثنا أسباط عن أبيه عن عكرمه في قوله سبحانه : ) وإذا النفوس زوّجت ( قال زوّجت الأرواح في الأجساد .
التكوير : ( 8 ) وإذا الموؤودة سئلت
) وإذا المؤَوَدُة ( وهي الجارية المقتولة المدفونة حيّة سمّيت بذلك لما يطرح عليها من التراب فيؤدها أي يثقلها حتى تموت ، قالوا : وكان الرجل من العرب إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحيها ألبسها جبّة من صوف أو شعر ترعى الإبل والغنم في البادية وإذا أراد أن يقتلها تركها حتى إذا صارت سداسية قال أبوها لأمها طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئراً في الصحراء فإذا بلغ بها البئر قال لها : انظري إلى هذا البئر فيدفعها من خلفها في البئر لم يهيل على رأسها التراب حتى يستوي البئر بالأرض ، فذلك قوله سبحانه وتعالى ) أيمسكه على هون أم يدسّه في التراب ( وقال ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت وكان أوان ولادتها حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت جارية رمت بها في الحفرة ، وإن ولدت غلاماً حبسته ، وكانت طوائف من العرب يفعلون ذلك وفيه يقول قائهلم :
سميتها إذ ولدت تموت
والقبر صهر ضامن رميت
وقال قتادة : كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته ويغذو كلبه فعاب الله تعالى ذلك عليهم وأوعدهم .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان أن قال : حدّثنا الفراتي قال : حدّثنا محمد بن مهدي الأبلي ويحيى بن موسى قالا : حدّثنا عبدالرزاق قال : أخبرنا إسرائيل بن يونس عن سماك ابن حرب عن النعمان بن بشير قال : سمعت عمر بن الخطاب ح يقول في قول الله سبحانه : ) وإذا المؤَوَدُة سئلت ( قال : جاء قيس بن عاصم التميمي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله إني وأدت ثمان بنات في الجاهلية ، قال : ( فأعتق عن كلّ واحدة منهم رقبة ) .
قال : يا رسول الله إني صاحب إبل . قال : ( فانحر عن كل واحدة منهنّ بدنة إن شئت ) .
) سُئلت }
التكوير : ( 9 ) بأي ذنب قتلت
) بأي ذنب قتلت ( قراءة العامة على الفعل المجهول فيهما ، ولها وجهان : أحدهما : سئلت هي فقيل لها : بأي ذنب قتلت وبأي فجور قتلت ؟ كما يقال : قال عبدالله إنه ذاهب وإني ذاهب ، وقال عبدالله بأي ذنب ضربت وبأي ذنب ضرب ، كلاهما سائغ جائز ، والآخر : سُئل عنها الذين وأدوها كأنّك قلت : طلبت منهم فقيل : أين أولادكم وبأي ذنب قتلتموهم
(10/139)
" صفحة رقم 140 "
وأخبرنا الحسن بن محمد بن عبدالله المقريء قال : أخبرنا البغوي ببغداد قال : حدّثنا ابن أبي شيبة قال : حدّثنا زياد بن أيوب دلويه قال : حدّثنا هشام عن رجل ذكروا أنه هارون ، قال زياد : ولم اسمعه أنا من هاشم عن جابر بن زيد أنه كان يقرأ ) وإذا المؤَوَدُة سئلت بأي ذنب قتلت ( ومثله قرأ أبو الضحى ومسلم بن صبح .
التكوير : ( 10 ) وإذا الصحف نشرت
) وإذا الصحف نشرت ( قرأ أهل المدينة والشام والبصرة إلاّ أبا عمرو بالتخفيف غيرهم بالتشديد لقوله سبحانه ) صحفاً منشرة ( .
أخبرني الحسين قال : حدّثنا هارون قال : حدّثنا اليسيّري قال : حدّثنا سعيد بن سليمان عن عبدالحمد بن سليمان قال : حدّثنا محمد بن أبي موسى عن عطاء بن بشار عن أم سلمه قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة ) قالت يا رسول الله كيف بالنساء ؟ قال : ( شغل الناس يا أم سلمة ) قالت : وما شغلهم قال : ( نشر الصحف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل ) .
( ) وَإِذَا السَّمَآءُ كُشِطَتْ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ وَالَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَءَاهُ بِالاُْفُقِ الْمُبِينِ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ فَأيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( 2
التكوير : ( 11 ) وإذا السماء كشطت
) وإذا السماء كُشطت ( أي فعلت ونزعت وجذبت عن أماكنها ثم طويت ، وفي قراءة عبدالله : قشطت بالقاف وهما لغتان ، والقاف والكاف في كلام العرب يتعاقبان مخرجيهما كما يقال : الكافور والقافور والقف والكُف .
التكوير : ( 12 ) وإذا الجحيم سعرت
) وإذا الجحيم سُعّرت ( قرأ أهل المدينة بالتشديد غيرهم بالتخفيف واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، لأنها واحدة واختلف فيه بن عاصم وبن عامر ، ومعناه : أوقدت ، قال قتادة : سعّرها غضب الله وخطايا بني آدم .
التكوير : ( 13 ) وإذا الجنة أزلفت
) وإذا الجنة أُزلفت ( قرّبت لأهلها نظيرها قوله : ) وأزلفت الجنة للمتقين 2 )
التكوير : ( 14 ) علمت نفس ما . . . . .
) علمت ( عند ذلك ) نفسُ ما أحضرت ( من خير أو شرّ وهو جواب لقوله : ) إذا الشمس ( وما بعدها كما
(10/140)
" صفحة رقم 141 "
يقال : إذا قام زيد قعد عمر ، وقال ابن عباس في قوله : ) إذا الشمس كوّرت ( إلى قوله : ) علمت ( : اثنتا عشرة خصلة ستة في الدنيا وستة في الآخرة .
التكوير : ( 15 - 16 ) فلا أقسم بالخنس
) فلا أُقسم بالخنّس الجوار الكنّس ( قال قوم : هي النجوم الخمسة الذراري السيارة تخنس في مجارتها فترجع ورائها ويكنس في وقت اختفائها غروبها كما يكنس الظباء في مغارها ، وقال قتادة : هي النجوم تبدوا بالليل وتخفى بالنهار فلا تُرى ودليل هذا التأويل ما روى شعبة عن سماك عن خالد بن عرعرة أن رجلا من مراد قال لعلي : ما الخنس الجوار الكنس ؟ قال : هي الكواكب تخنس بالنهار فلا تُرى وتكنس بالليل فتأوي إلى مجاريها ، وهي بهرام وزحل وعطارد والزهرة والمشتري ، قال ابن زيد : معنى الخنس : أنها تخنس أي تتأخر عن مطالعها كل سنة لها في كل عام تأخر يتأخره عن تعجيل ذلك الطلوع يخنس عنه والكنس يكنسن بالنهار فلا تُرى .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن النواب قال : حدّثنا رضوان بن أحمد بن عبدالجبار قال : حدّثنا أبو معونة عن الأعمش عن إبراهيم عن عبدالله في قوله سبحانه : ) الجوار الكنس ( قال : هي بقر الوحش ، وإليه ذهب إبراهيم وجابر بن زيد وقال سعيد بن جبير : هي الظباء وهي رواية العوفي عن ابن عباس .
وأصل الخنس الرجوع إلى وراء ، والكنوس أن يأوي إلى مكانسها ، وهي المواضع التي يأوي إليها الوحش قال الأعشى :
فلما لحقنا الحي أتلع أنس
كما أتلعت تحت المكانس ربرب
ويقال لها الكنايس أيضاً ، قال طرفه بن العبد :
كأن كناسي ضالة يكنفانها
وأطرقسي تحت صلب مؤيد
وقال أوس بن حجر :
ألم تر أن الله أنزل مزنه
وعفر الظباء في الكناس تقمع
التكوير : ( 17 ) والليل إذا عسعس
) والليل إذا عسعس ( قال الحسن : أقبل بظلامه ، وقال الآخرون : أدبر ، يقول العرب : عسعس الليل وسعسع إذا أدبر ولم يبق منه إلاّ اليسير ، قال علقمة بن فرط :
حتى إذا الصبح لها تنفسا
وانجاب عنها ليلها وعسعسّا
وقال رؤبة
(10/141)
" صفحة رقم 142 "
يا هند ما أسرع ما تسعسعا
من بعد أن كان فتى سرعرعا
من بعد إن كان فتى سرّعرعا .
التكوير : ( 18 ) والصبح إذا تنفس
) والصبح إذا تنفّس ( أقبل وأضاء وبدأ أوله وقيل : أمتد وارتفع .
التكوير : ( 19 ) إنه لقول رسول . . . . .
) إنه ( يعني القرآن ) لقول ( لتنزيل ) رسول كريم ( وهو جبريل ( عليه السلام
التكوير : ( 20 - 21 ) ذي قوة عند . . . . .
) ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم ( في السماء يطيعه الملائكة ) أمين ( على الوحي
التكوير : ( 22 ) وما صاحبكم بمجنون
) وما صاحبكم ( محمد ) بمجنون }
التكوير : ( 23 ) ولقد رآه بالأفق . . . . .
) ولقد رآه ( يعني جبريل على صورته ) بالأفق المبين ( وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق الذي يجيء منه النهار ، قاله مجاهد وقتادة .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا مخلد قال : حدّثنا ابن علويه قال : حدّثنا إسماعيل قال : حدّثنا إسحاق بن بشر قال : حدّثنا ابن جريح عن عكرمة ، ومقاتل عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لجبريل : ( إني أحبّ أن أراك في صورتك التي تكون فيها في السماء ) قال : لن تقوى على ذلك ، قال : ( بلى ) قال : فأين تشاء أن أتخيل لك ؟ قال : ( بالأبطح ) قال : لا يسعني قال : ( فبمنى ) قال : لا يسعني قال : ( فبعرفات ) قال : ذاك بالحرى أن يسعني ، فواعده فخرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للوقت ، فإذا هو بجبريل ( عليه السلام ) قد أقبل من جبال عرفات بخشخشه وكلكله قد ملأ ما بين المشرق والمغرب ورأسه في السماء ورجله في الأرض ، فلما رآه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خرّ مغشياً عليه فتحوّل جبريل في صورته فضمّه إلى صدره ، وقال : يا محمد لا تخف ، فكيف لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش ورجلاه في النجوم السابعة ، وإن العرش لعلى كاهله ، وإنّه ليتضائل أحياناً من مخافة الله عزّوجل حتى يصير مثل الوضع يعني العصفور حتى ما يحمل عرش ربك إلاّ عظمته .
التكوير : ( 24 ) وما هو على . . . . .
) وما هو ( يعني محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) على الغيب ( أي الوحي وخبر السماء وما اطّلع عليه من علم الغيب ) بظنين ( قرأ زيد بن ثابت والحسن وابن عمرو والأشهب وعاصم والأعمش وحمزة وأهل المدينة والشام بالضاد ، وكذلك في حرف أُبيّ بن كعب ومصحفه ، وهي قراءة ابن عباس برواية مجاهد واختيار أبي حاتم ومعناه : يبخل يقول : ( يأتيه ) علم الغيب وهو منقوش فيه فلا يبخل به عليكم بل يعلّمكم ويخبركم به ، يقول العرب : ضننت بالشيء بكسر النون أضن به ضناً وضنانة فأنا ضنين ، أي بخيل ، قال الشاعر :
أجود بمضنون التلاد وانني
بسرك عمن سالني لضنين
وقرأ الباقون بالظاء وكذلك هو في حرف ابن مسعود ومصحفه وهي قراءة عبدالله وعروة
(10/142)
" صفحة رقم 143 "
ابني الزبير وعمر بن عبدالعزيز وأبي عبدالسلمي ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس ومعناه يتهمهم يقال : فلان يُظن بمال ويزن بمال أي يتهمّ به ، والظنّة : التهمة ، قال الشاعر :
أما وكتاب الله لا عن شناءة
هجرت ولكن الظنين ظنين
واختار أبو عبيد هذه القراءة وقال : أنهم لم يبخّلوه فيحتاج أن ينفى عنه ذلك البخل ، وإنما كذّبوه واتهموه ، ولأنّ الأكثر من كلام العرب ما هو بظنين بكذا ولا يقولون على كذا إنّما يقولون : ما أنت على كذا بمتهم ، وقيل بظنين . بضعيف حكاه الفراء والمبرّد يقال : رجل ظنين أي ضعيف ، وبئر ضنون إذا كانت ضعيفة الماء ، قال الأعشى :
ما جعل الجد الظنون الذي
جُنّب صوب اللجب الماطر
مثل الفراتي إذا ما طما
يقذف بالبوصي والماهر
التكوير : ( 25 - 26 ) وما هو بقول . . . . .
) وما هو ( يعني القرآن ) بقول شيطان رجيم فأين تذهبون ( يعني قال : أين تعدلون عن هذا القرآن ، وفيه الشفاء والبيان ، قال الكسائي : سمعت العرب تقول : انطلق به الغور ، وحكى الفراء عن العرب : ذهبت الشام وخرجت العراق وانطلقت السوق ، أي ( . . . . . . ) قال سمعناه في هذه الأحرف الثلاثة وأنشدني بعض بني عقيل :
تصيح بنا حنيفة إذ رأتنا
وأي الأرض تذهب بالصياح
يريد إلى أي الأرض تذهب .
وقال الواسطي : فأين تذهبون من ضعف إلى ضعف ارجعوا إلى فُسحة الربوبيّة ليستقر بكم القرار ، وقال الجنيد : معنى هذه الآية مقرون بآية اخرى وهو قوله سبحانه وتعالى : ) وإن من شيء إلاّ عندنا خزائنه ( فأين يذهبون .
التكوير : ( 27 - 28 ) إن هو إلا . . . . .
) إن هو إلاّ ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم ( أي يتبع الحق ويعمل به ويقيم عليه ثم قال :
التكوير : ( 29 ) وما تشاؤون إلا . . . . .
) وما تشاءون إلاّ أن يشاء الله ربّ العالمين ( أخبرنا أبو بكر بن عبدوس المزكى قال : أخبرنا أبو حامد بن بلال البزاز قال : حدّثنا أحمد بن يوسف السلمي قال : حدّثنا أبو مسهر قال : حدّثني سعيد عن سليمان بن موسى قال : لما أنزل الله سبحانه وتعالى ) لمن شاء منكم أن
(10/143)
" صفحة رقم 144 "
يستقيم ( قال أبو جهل بن هشام : ذاك إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم ، فأنزل الله سبحانه ) وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله ربّ العالمين ( .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا ( الفرمي ) قال : حدّثني مالك بن سليمان قال : حدّثنا بقية عن عمر بن محمد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة قال : لمّا أنزل الله سبحانه على رسوله : ) لمن شاء منكم أن يستقيم ( قالوا : الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم فأنزل الله سبحانه وتعالى : ) وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله رب العالمين ( .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن عمر بن مهران قال : حدّثنا أبو مسلم الكنجي قال : حدّثنا جعفر بن جبير بن فرقد قال : سمعت رجلا سأل الحسن عن قول الله سبحانه وتعالى ) وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله رب العالمين ( فقال الحسن : والله ما شاءت العرب الإسلام حتى شاء الله لها .
وأخبرني الحسن قال : حدّثنا أحمد بن علي بن الحسين قال : حدّثنا علي بن أحمد بن بسطام قال : حدّثنا إبراهيم بن الحجاج الشامي قال : حدّثنا حماد بن سلمة قال : حدّثنا أبو سنان عن وهب بن منبّه قال : الكتب التي أنزلها الله سبحانه على الأنبياء بضع وتسعون كتاباً قرأت منها بضعاً وثمانين كتاباً فوجدت فيها ( من جعل لنفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر ) .
قال الواسطي : أعجزك في جميع أوصافك فلا تشاء إلاّ مشيئته ولا تعمل إلاّ بقوته ولا تطيع إلاّ بفضله ولا تعصي . إلاّ بخذلانه فماذا يبقى لك وماذا تفتخر من أفعالك وليس من فعلك شيء ؟ .
(10/144)
" صفحة رقم 145 "
( سورة الإنفطار )
مكيّة ، وهي تسع عشر آية ، وثمانون كلمة ، وثلثمائة وسبعة وعشرون حرفاً
أخبرني محمد بن القاسم قال : أخبرنا محمد بن مطر قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك قال : حدّثنا أحمد بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ إذا السماء انفطرت اعطاه الله سبحانه من الأجر بعدد كل قبر حسنة وبعدد كل قطرة ماء حسنة وأصلح الله له شأنه يوم القيامة ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) إِذَا السَّمَآءُ انفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ياأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِىأَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ ( 2
الإنفطار : ( 1 ) إذا السماء انفطرت
) إذا السماء انفطرت ( انشقت
الإنفطار : ( 2 ) وإذا الكواكب انتثرت
) وإذا الكواكبُ انتثرت ( تساقطت
الإنفطار : ( 3 ) وإذا البحار فجرت
) وإذا البحار فجّرت ( أي فجر بعضها في بعض عدنها في ملحها وملحها في عدنها فصارت بحراً واحداً ، وقال الحسن : ذهب ماؤها ، وقال الكلبي : مليت .
الإنفطار : ( 4 ) وإذا القبور بعثرت
) وإذا القبور بعثرت ( بحثت ونثرت وأثيرت فاستخرج ما في الأرض من الكنوز ومن فيها من الموتى أحياء ، يقال : بعثرت الحوض وبحثرته إذا هدمته فجعلت أسفله أعلاه ، وهذا من أشراط الساعة أن تخرج الأرض أفلاذ كبدها من ذهبها وفضّتها وأموالها
الإنفطار : ( 5 ) علمت نفس ما . . . . .
) علمت نفسٌ ما قدّمت ( من عمل صالح أو طالح .
) وأخّرت ( من سنّة حسنة أو سيئة ، وقال عكرمة : ما قدّمت من الفرائض التي أدّتها واخّرت من الفرائض التي ضيّعتها ، وقيل : ما قدمت من الأعمال وأخّرت من المظالم ، وقيل :
(10/145)
" صفحة رقم 146 "
ما قدّمت من الصدقات وأخرّت من التركات ، وقيل ما قدّمت من الاسقاط والإفراط وما أخرت من الأولاد وهذا جواب إذا .
الإنفطار : ( 6 ) يا أيها الإنسان . . . . .
) يا أيّها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم ( .
أخبرنا عبدالله الفتحوي قال : حدّثنا أبو علي المقريء قال : حدّثنا أبو القاسم ابن الفضل المقريء قال : حدّثنا علي بن الحسين قال : حدّثنا المقدّمي وعلي بن هاشم قالا : حدّثنا كثير بن هشام قال : حدّثنا جعفر بن برقان قال : حدّثني صالح بن مسمار قال : بلغني أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تلا هذه الآية : ) يا أيّها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم ( قال : جهله ، وقال قتادة : غرّة شيطانه عدوه المسّلط عليه .
وحدّثني الحسن بن محمد بن الحسن قال : حدّثني أبي عن جدّي عن علي بن الحسن الهلالي عن إبراهيم بن الأشعث قال : قيل للفضّيل بن عياض : لو أقامك الله سبحانه وتعالى يوم القيامة بين يديه فقال : ما غرّك بربّك الكريم ماذا كنت تقول ؟ قال : أقول غرني ستورك المرخاة ، نظمه محمد ابن السماك فقال :
يا كاتم الذنب أما تستحي
الله في الخلوة ثانيكا
غرك من ربّك إمهاله
وستره طول مساويكا
وقال : مقاتل : غرّه عفو الله حين لم يعجّل عليه بالعقوبة ، وتلا ( نصر ) بن مغلس هذه الآية فقال : غرّه رفق الله به .
وسمعت أبا القاسم الحلبي يقول : سمعت أبي يقول : سمعت علي بن محمد الورّاق يقول : سمعت يحيى بن معاذ يقول : لو أقامني الله سبحانه بين يديه فقال : ما غرّك بي ؟ قلت : غرّني بك برّك بي سابقاً وآنفاً .
وسمعته يقول : أخبرنا عبدالله بن محمد بن صالح المغافري يقول : سمعت حماد بن بكر يحكي عن بعضهم أنه قال : لو سألني عن هذا ربي لقلت : غرّني حلمك ، وسمعته يقول : سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن يزيد النسقي يقول : سمعت أبا عبدالله حسن أبي بكر الورّاق يقول : سمعت أبا بكر الورّاق يقول : لو قال لي ما غرّك بربّك الكريم لقلت : غرّني كرم الكريم .
قال أهل الإشارة : إنّما قال : ) بربّك الكريم ( دون سائر أسمائه وصفاته ؛ لأنه كان لفتة الإجابة حتى يقول : غرّني كرم الكريم ، قال منصور بن عمار لو قيل : ما غرّك بي ؟ قلت : يا رب ما غرّني إلاّ ما علمته من فضلك على عبادك وصفحك عنهم ، وروى أبو وائل عن ابن مسعود
(10/146)
" صفحة رقم 147 "
قال : ما منكم من أحد إلاّ سيخلو الله سبحانه وتعالى به يوم القيامة فيقول : يابن آدم ما غرّك بي يابن آدم ماذا عملت فيما علمت يابن آدم ماذا أجبت المرسلين ؟ .
وسمعت أبا القاسم النيسابوري يقول : سمعت أبا عبدالله محمد بن عبيدالله الشامي وأبا الحسن محمد بن الحسين القاضي الجرجاني يقولان : سمعنا إبراهيم بن فاتك يقول : سمعت يوسف بن الحسين يقول : سمعت ذا النون المصري يقول : كم من مغرور تحت الستر وهو لا يشعر .
وأنشدني الحسن بن جعفر البابي يقول : أنشدني منصور بن عبدالله الأصفهاني يقول : أنشدنا أبو بكر بن طاهر الأبهري في هذا المعنى :
يا من غلا في الغنى والتيه
وغرّه طول تماديه
أملى لك الله فبارزته
ولم تخف غبّ معاصيه
الإنفطار : ( 7 ) الذي خلقك فسواك . . . . .
) الذي خلقك فسوّاك فعدّلك ( قرأ أهل الكوفة بتخفيف الدال أي صرفك وأمالك إلى أي صورة شاء قبيحاً أو جميلا وقصيراً أو طويلا ، وقرأ الباقون بالتشديد أي قوّمك وجعلك معتدل الخلق ، وهو اختيار الفراء وأبي عبيد لقوله سبحانه : ) لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ( .
الإنفطار : ( 8 ) في أي صورة . . . . .
) في أي صورة ما شاء ركّبك ( قال مجاهد : في أي شبه أب أو أم أو خال أو عم .
وأنبأني عبدالله بن حامد قال : أخبرنا عبدالله بن عبدالرحمن العسكري قال : حدّثنا عبدالرحمن بن محمّد بن منصور قال : حدّثنا مطهر بن الهيثم قال : حدّثنا موسى بن علي عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( . . . . ) :
( وما ولد لك ) قال : يا رسول الله وما عسى أن يولد لي إمّا غلام وإما جارية . قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( من شبه ) قال : فمن شبه إمه وأباه ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تقل هكذا إنّ النطفة إذا أستقرت في الرحم أحضر الله كلّ نسب بينهم وبين آدم ، أما قرأت هذه الآية ) في أي صورة ما شاء ركّبك ( ) قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن شاء في صورة إنسان وإن شاء في صورة حمار وإن شاء في صورة قرد ، وإن شاء في صورة كلب وإن شاء في صورة خنزير ) .
2 ( ) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ
(10/147)
" صفحة رقم 148 "
إِنَّ الاَْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالاَْمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ( 2
الإنفطار : ( 9 ) كلا بل تكذبون . . . . .
) كلاّ بل تكذبون بالدين ( قراءة العامة بالتاء لقوله سبحانه
الإنفطار : ( 10 ) وإن عليكم لحافظين
) وإن عليكم ( وقراءة أبو جعفر بالياء ) وإن عليكم لحافظين ( رقباء يحفظون عليكم أعمالكم .
الإنفطار : ( 11 ) كراما كاتبين
) كراماً ( على الله ) كاتبين ( يكتبون أقوالكم وأفعالكم .
الإنفطار : ( 12 - 13 ) يعلمون ما تفعلون
) يعلمون ما تفعلون إنّ الأبرار ( يعني الذين بروا وصدقوا في إيمانهم بأداء فرائض الله وإجتناب معاصيه ، وأخبرنا عبدالرحمن بن يحيى العدل قال : حدّثنا علي المؤمل قال : حدّثنا أحمد بن عثمان قال : حدّثنا هشام بن عامر قال : حدّثنا سعد بن يحيى بن عبيدالله بن الوليد الوصافي عن محارب بن ( دثار ) عن ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إنما سماهم الله الأبرار لأنّهم برّوا الأباء والأبناء ، كما أن لوالدك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حق ) .
) لفي نعيم }
الإنفطار : ( 14 - 15 ) وإن الفجار لفي . . . . .
) وإنّ الفجّار لفي جحيم يصلونها ( يدخلونها ) يوم الدين ( يوم القيامة
الإنفطار : ( 16 - 19 ) وما هم عنها . . . . .
) وما هم عنها بغائبين وما أدرياك ما يوم الدين ثم ما أدريك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً ( قراءة أهل مكّة والبصرة برفع الميم ردّاً على اليوم الأول ، وقراءة غيرهم بالنصب أي في يوم ، واختاره أبو عبيد قال : لأنها اضافة غير محضة ) والأمر يومئذ لله ( .
(10/148)
" صفحة رقم 149 "
( سورة المطففين )
مدنية ، وهي ست وثلاثون آية ، ومائة وتسعوستون كلمة ، وسبع مائة وثلاثون حرفاً
أخبرنا كامل بن أحمد المفيد قال : أخبرنا محمد بن مطر العدل قال : حدّثنا ابن إبراهيم بن شريك الأسدي قال : حدّثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامه عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة المطفّفين سقاه الله سبحانه من الرحيق المختوم يوم القيامة ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُوْلَائِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الاَْوَّلِينَ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( 2
المطففين : ( 1 ) ويل للمطففين
) ويل للمطففين ( يعني الذين ينقصون الناس ويبخسون حقوقهم في الكيل والوزن ، وأصله من الشيء الطفيف وهو النزر القليل ، وإناءٌ طفاف إذا لم يكن ملآن ، ومنه قيل للقوم الذين يكونون سواء في حسبة أو عدد : هم كطف الصاع ، يعني ذلك : كقرب الملء منه ناقص عن الملء .
المطففين : ( 2 ) الذين إذا اكتالوا . . . . .
) الذين إذا اكتالوا ( أخذوا ) على الناس ( أي منهم ، وعلى ومن تتعاقبان في هذا الموضع ) يستوفون ( حقوقهم منه
المطففين : ( 3 ) وإذا كالوهم أو . . . . .
) وإذا كالوهم أو وزنوهم ( أي كالوا لهم أو وزنوا لهم ، يقال : وزنتك حقّك ، وكِلْتك طعامك بمعنى وزنت لك وكلت لك ، قال الفراء : وهي لغة أهل الحجاز ومَنْ جاوزهم من ( . . . . . . ) قال : وسمعتُ أعرابية تقول : إذا صدر الناس أتينا التاجر فيكيلنا المد والمدين إلى الموسم المقبل
(10/149)
" صفحة رقم 150 "
قال أبو عبيد : وكان عيسى بن عمر يجعلها حرفين حرفين ويقف على : كالوا ووزنوا ، ثمّ يبتدئ فيقول : هم يخسرون ، قال : وأحسب قراءة حمزة أيضاً كذلك ، قال أبو عبيد : والأختيار أن يكون كلمة واحدة من جهتين : إحداهما : الخط ، وذلك أنهم كتبوها بغير ألف ، ولو كانتا مقطوعتين لكانتا كالوا ووزنوا بالألف على ما كتبوا الأفعال كلّها مثل : فاءوا وجاءوا ( . . . ) المصاحف إلاّ على إسقاطها .
والجهة الأُخرى : أنه يقال : كلتك ووزنتك بمعنى كلتُ لك ووزنت لك ، وهو كلام عربي كما يقال : صدتك وصدت لك وكسبتك وكسبت لك ومثله كثير .
) يخسرون ( ينقصون .
حدّثنا أبو محمد المخلدي قال : أخبرنا ابن الشرقي قال : حدّثنا عبدالرحمن بن بشر قال : حدّثنا علي بن الحسين بن واقد ، قال : حدّثني أبي قال : حدّثني يزيد النحوي أن عكرمة حدّثه عن ابن عباس قال : لما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً ، فأنزل الله سبحانه ) ويلٌ للمطفّفين ( فأحسنوا الكيل .
وقال القرطبي : كان بالمدينة تجارٌ يُطفّفون وكانت بياعتهم كشبه القِمار والمنابذة والملامسة والمخاطرة فأنزل الله سبحانه هذه الآية . فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى السوق وقرأها عليهم ، وقال السدي : قدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة وبها رجل يقال له أبو جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر فأنزل الله سبحانه هذه الآية .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا بن يوسف قال : حدّثنا ابن عمران قال : حدّثنا أبو الدرداء ، عبدالعزيز ( بن منيب ) قال : حدّثنا إسحاق بن عبدالله بن كيسان عن أبيه عن الضحاك ومجاهد وطاووس عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( خمس لخمس ) قالوا : يا رسول الله وما خمس لخمس ؟ قال : ( ما نقض قوم العهد إلاّ سلّط عليهم عدوّهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلاّ فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلاّ فشا فيهم الموت ، ولا طفّفوا الكيل إلاّ منعوا النبات وإخذوا بالسنين ، ولا منعوا الزكاة إلاّ حبس عنهم القطر ) .
وأخبرني بن فنجويه قال : حدّثنا ابن ماجة قال : حدّثنا ابن أيوب قال : حدّثنا القصواني قال : حدّثنا سنان بن حاتم قال : حدّثنا حفص قال : حدّثنا مالك بن دينار قال : دخلتُ على جار لي وقد نزل به الموت فجعل يقول : جبلين من نار جبلين من نار ، قال : قلت : ما تقول أتهجر ؟ قال : يا أبا يحيى كان لي مكيالان ، كنت أكيل بأحدهما وأكتال بالآخر ، قال : فقمت فجعلت
(10/150)
" صفحة رقم 151 "
أضرب أحدهما بالآخر فقال : يا أبا يحيى كلما ضربت أحدهما بالآخر إزداد عظماً فمات في وجعه .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا بن صقلان قال : حدّثنا محمد بن محمد بن النفاخ الباهلي قال : حدّثنا بركة بن محمد الحلبي عن عثمان بن عبدالرحمن عن النضر بن عدي قال : سمعتُ عكرمة يقول : أشهد على كلّ كيّال أو وزّان أنّه في النار ، قيل له : إنّ ابنك كيال أو وزان ، قال : أنا أشهد أنه في النار .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا الفضل بن الفضل قال : حدّثني عبدالله بن زكريا القاضي قال : حدّثنا العباس بن عبدالله بن أحمد قال : حدّثنا المبرد قال : حدّثنا الرياسي عن الأصمعي قال : قال لي إعرابي : لا تلتمس الحوائج ممن مروءته في رؤس المكاييل والسن الموازين ، وروى عبد خير أن عليّاً مرّ على رجل وهو يزن الزعفران وقد أرجح ، فكفا الميزان ، ثم قال : أقم الوزن بالقسط ، ثم أرجح بعد ذلك ما شئت ، وقال نافع كان ابن عمر يمرّ بالبائع فيقول : اتّقِ الله وأوفِ الكيل والوزن ، فإن المطفّفين يوقفون يوم القيامة حتى أن العرق ليلجمهم إلى أنصاف آذانهم .
المطففين : ( 4 - 6 ) ألا يظن أولئك . . . . .
) ألا يظنّ ( يستيقن ) أولئك أنّهم مبعثون ليوم عظيم يوم يقوم الناس لرب العالمين ( أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن مالك قال : حدّثنا ابن حنبل قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا وكيع عن هشام صاحب ( الدستواني ) عن القمر بن أبي ( ابزى ) قال : حدّثني من سمع ابن عمر قرأ ) ويل للمطففين ( فلما بلغ ) يوم يقوم الناس لرب العالمين ( بكى حتى خرّوا وامتنع من قراءة ما بعده .
المطففين : ( 7 ) كلا إن كتاب . . . . .
) كلاّ ( قال الحسن : حقاً ) إنّ كتاب الفجار ( الذي كتب فيه أعمالهم ) لفي سجين ( قال عبدالله بن عمر ومغيث بن سمي وقتاده ومجاهد والضحاك وابن زيد : هي الأرض السابعة السفلى فيها أرواح الكفّار وأعمالهم ، يدلّ عليه ما أخبرنا الحسين قال : حدّثنا موسى قال : حدّثنا ابن علوية قال : حدّثنا إسماعيل قال : حدّثنا المسيّب قال : حدّثنا الأعمش عن المنهال عن زادان عن البرك قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( سجين أسفل سبع أرضين ) :
وأخبرني أبو عبدالله الفنجوي قال : حدّثنا أبو علي المقريء قال : حدّثنا أبو ( القاسم بن ) الفضل قال : حدّثنا محمد بن حميد قال : حدّثنا يعقوب بن عبدالله الأشعري قال : حدّثنا حفص ابن حميد عن سمر بن عطية قال : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال : أخبرني عن قول الله سبحانه وتعالى : ) إنّ كتاب الفجّار لفي سجين ( فقال : إنّ روح الفاجر يُصعد بها إلى السماء
(10/151)
" صفحة رقم 152 "
فتأبى السماء أن تقبلها ثم يهبط بها إلى الأرض فتأبى الأرض أن تقبلها فيُهبط تحت سبع أرضين حتى ينتهي بها إلى سجّين ، وهي حدّ إبليس ، فيخرج لها من سجين من تحت حدّ إبليس رق فيرقم ويختم ويوضع تحت حدّ إبليس بمعرفتها الهلاك بحساب يوم القيامة ، وإليه ذهب سعيد بن جبير قال : سجّين تحت حدّ إبليس ، وقال عطاء الخراساني : هي الأرض السُفلى وفيها إبليس وذريته .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا الفضل قال : حدّثنا عبدالرحمن بن أبي حاتم قال : قراءتي على يونس بن عبدالأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : وحدّثني عمارة بن عيسى عن يونس بن يزيد عمّن حدّثه عن ابن عباس أنه قال لكعب الأحبار : أخبرني عن سجّين وعليّين ، فقال كعب : والذي نفسي بيده لأأخبرنّك عنها إلاّ بما أجدُ في كتاب الله المنزل ، أما سجّين فإنّها شجرة سوداء تحت الأرضين السبع مكتوب فيها كلّ اسم شيطان ، فإذا قبضت نفس الكافر عرج بها إلى السماء فغلقت أبواب السماء دونها ، ثم رمى بها إلى سجين فذلك سجين ، وأما عليّيون فإنّه إذا قُبضت نفس المسلم عرج بها إلى السماء وفتحت لها أبواب السماء حتى تنتهي إلى العرش ، قال : فيخرج كفّ من العرش فيكتبُ له نُزله وكرامته فذلك عليّون .
وقال الكلبي : هي صخرة تحت الأرض السابعة السفلى خضراء خضرة السموات منها ، يجعل كتاب الفجار تحتها ، وقال وهب : هي آخر سلطان إبليس .
وأخبرني عقيل : إن المعافى أخبرهم عن ابن جرير قال : حدّثني إسحاق بن وهب الواسطي قال : حدّثنا مسعود بن موسى بن مشكان قال : حدّثنا نصر بن خزيمة عن شعيب بن صفوان عن القرطي عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال . ( الفلق جبّ في جهنم مغطّى وأما سجين جبّ في جهنم مفتوح ) .
وأخبرنا أبو القمر الصفار قال : أخبرنا حاجب بن أحمد قال : حدّثنا محمد بن حماد قال : حدّثنا يحيى بن سليم الطائفي عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله سبحانه : ) إن كتاب الفجّار لفي سجّين ( قال : سجّين صخرة تحت الأرض السابعة تقلب فيجعل كتاب الفجّار تحتها ، وقال عكرمة : أي لفي خسار وضلال ، والمعنى أنه أراد بطلان أعمالهم وذهابها بلا محمده ولا ثواب وهذا سائغ مستفيض في كلام الناس ، يقولون لمن خمل ذكره وسقط قدره قد لزق بالحضيض ، وقال الأخفش : لفي حبس ضيق شديد ، وهو فعّيل من السجّن كما يقال فسّيق وشرّيب قال ابن مقبل :
ورفقه يضربون البيّض ضاحيّة
ضرباً تواصت به الأبطال سّجينا
(10/152)
" صفحة رقم 153 "
المطففين : ( 8 ) وما أدراك ما . . . . .
) وما أدراك ( يا محمد ) ما سجّين ( أي ذلك الكتاب الذي في السجّين ثم منّ فقال :
المطففين : ( 9 ) كتاب مرقوم
) كتاب ( أي هو كتاب ) مرقوم ( مكتوب مثبت عليهم كالرقم في الثوب لا ينسى ولا يمحى حتى يجازوا به وقال قتادة : رُقم لهم بشرّ وقيل : مختوم بلغة حمير .
المطففين : ( 10 - 13 ) ويل يومئذ للمكذبين
) ويل يومئذ للمكذّبين الذين يكذّبون بيوم الدين وما يكذّب به إلاّ كلُ مُعتد أثيم إذا تتلى عليه آياتنا ( قراءة العامة تتلى ، وقرأ أبو حيان بالياء لتقديم الفعل .
) قال أساطير الأوّلين }
المطففين : ( 14 ) كلا بل ران . . . . .
) كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ( أخبرنا الحسين قال : حدّثنا الفضل قال : حدّثنا أبو الحسن أحمد بن مكرم التربي ببغداد قال : حدّثنا علي المكرمي قال : حدّثنا الوليد بن مسلم قال : سمعت محمد بن عجلان يقول : حدّثني القعقاع بن حكم أن أبا صالح السمّان قال أن أبا هريرة حدّثه أنّه سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إنّ العبد إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب صُقل قلبه وإن عاد زادت حتى يسوّد قلبه ) قال : فذلك قوله سبحانه ) كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ( وكذا قال المفسرون : هو الذنب على الذنب حتى يسوّد القلب ، وقال حذيفة بن اليمّان : القلب مثل الكفّ فإذا أذنب العبد انقبض وقبض أصبعاً من أصابعه ثم إذا أذنب انقبض وقبض إصبعاً أخرى ، ثم إذا أذنب انقبض وقبض أصابعه ثم يطبع عليه فكانوا يرون أنّ ذلك هو الرين ، ثمّ قرأ هذه الآية .
وقال بكر بن عبدالله : إنّ العبد إذا أصاب الذنب صار في قلبه كوخزة الإبرة ثمّ إذا أذنب ثانياً صار كذلك فإذا كثرت الذنوب صار القلبُ كالمنخل أو كالغربال ، وقال الحسن : هو الذنب على الذنب حتى لعله يصديء القلب ، وقال ابن عباس : طبع عليها ، عطا : غشيت على قلوبهم فهوت بها فلا يفزعون ولا يتحاشون ، وقيل : قلبها فجعل أسفلها أعلاها ، نظيره قوله سبحانه ) ونقلّب أفئدتهم ( وأصل الرين الغلبة ، يقال : رانت الخمر على عقله إذا غلبت عليه فسكر ، وقال أبو زبيد الطائي :
ثم إذا رآه رانت به الخم
ر وأن لا يرينه باتّقاء
وقال الراجّز :
لم نرو حتى هجّرت ورين بي
ورين بالسّاقي الذي أمسّى معي
معنى الآية غلب على قلوبهم وأحاطت بها حتى غمرتها وغشيتها .
(10/153)
" صفحة رقم 154 "
2 ( ) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَاذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الاَْبْرَارِ لَفِى عِلِّيِّينَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الاَْبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ عَلَى الاَْرَآئِكِ يَنظُرُونَ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُواْ إِنَّ هَاؤُلاَءِ لَضَآلُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الاَْرَآئِكِ يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ ( 2
المطففين : ( 15 ) كلا إنهم عن . . . . .
) كلاّ إنهم عن ربّهم يومئذ لمحجوبون ( قال بعضهم : من كرامته ورحمته ممنوعون ، وقال قتادة : هو أن لا ينظر إليهم ولا يزكيهم ، وقال أكثر المفسرين : عن رؤيته ، قال الحسين بن الفضل : كما حجبهم في الدنيا عن توحيده حجبهم في الآخرة عن رؤيته .
أخبرنا الحسن بن محمد بن جعفر قال : حدّثنا أبو جعفر محمد بن صالح بن هاني قال : حدّثنا الحسين بن الفضل قال : حدّثنا عفان بن مسلم الصفار عن الربيع بن صبيح وعبدالواحد بن زيد قالا : قال الحسن : لو علم الزاهدون والعابدون أنهم لا يرون ربّهم في المعاد لزهقت أنفسهم في الدنيا ، وقال يحيى بن سليمان : بن نضلة : يُسئل مالك بن أنس عن هذه الآية قال : لها حجب أعداءه فلم يروه تجلّى لأوليائه حتى رآوه ، وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد يقول : سمعت أبا علي الحسن بن أحمد ( الشبوي ) بها يقول : سمعت أبا نعيم عبدالملك بن محمد بن عدي يقول : سمعت الربيع بن سليمان يقول : كنت ذات يوم عند الشافعي ح وجاءه كتاب من الصعيد يسألونه عن قول الله سبحانه : ) كلاّ إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ( فكتب فيه : لما حجب قوماً بالسخط دل على أن قوماً يرونه بالرضا ، فقلت له : أوتدين بهذا يا سيدي ؟ فقال : والله لو لم يوقن محمد بن إدريس أن يرى ربّه في المعاد لما عبده في الدنيا .
المطففين : ( 16 ) ثم إنهم لصالوا . . . . .
) ثم أنهم لصالوا الجحيم ( لداخلوا النار
المطففين : ( 17 - 18 ) ثم يقال هذا . . . . .
) ثم يقال هذا الذي كنت به تكذبون كلاّ إن كتاب الأبرار لفي عليين ( أخبرني الحسين قال : حدّثنا موسى قال : حدّثنا ابن علوية قال : حدّثنا إسماعيل قال : حدّثنا المسيّب عن الأعمش عن النهال عن زادان عن البراء بن عازب عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( عليين في السماء السابعة تحت العرش ) وقال ابن عباس هو لوح من زبزجدة خضراء معلق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيها ، وقال كعب وقتادة : هو قائمة العرش
(10/154)
" صفحة رقم 155 "
اليمنى ، مقاتل : ساق العرش ، علي ابن أبي طلحة وعطاء عن ابن عباس : هو الجنة ، عطية عنه : أعمالهم في كتاب الله في السماء ، الضحاك : سدرة المنتهى ، وقال أهل المعاني : علو بعد علو وشرف بعد شرف ، ولذلك جمعت بالياء والنون لجمع الرجال إذا لم يكن له نبأ من واحد ولا ثانية ، قال الفراء : هو اسم موضوع على صفة الجمع لا واحد له من لفظه كقولك عشرين وثلاثين ، وقال يونس النحوي : واحدها عليّ وعليّه .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا بن حمدان قال : حدّثنا أبو الحسن محمد بن إسحاق الملحمي قال : حدّثنا محمد بن يونس قال : حدّثنا عفان قال : حدّثنا حماد بن سلمة عن عصام ابن يهدله عن خيثمة عن عبدالله بن عمرو في قوله سبحانه : ) كلاّ إن كتاب الأبرار لفي عليين ( قال : إنّ أهل عليين لينظرون إلى أهل الجنة من كذا فإذا أشرف رجل أشرقت الجنة وقالوا : قد طلع علينا رجل من أهل عليين .
المطففين : ( 19 - 20 ) وما أدراك ما . . . . .
) وما أدرياك ما عليّون كتاب مرقوم ( رقم له بخير وفي الآية تقديم وتأخير ، مجازها : إنّ كتاب الأبرار مرقوم في عليين وهي محل الملائكة ، ومثله إن كتاب الفجّار كتاب مرقوم وهي سجين ، وهي محل إبليس وجنوده .
المطففين : ( 21 ) يشهده المقربون
) يشهده المقرّبون ( الملائكة
المطففين : ( 22 - 23 ) إن الأبرار لفي . . . . .
) إنّ الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون ( أي ما أعطاهم الله تعالى من الكرامة والنعمة ، الأرائك : كلّ ما يتكيء عليه ، وقيل : السرير في الحجلة ، وقال مقاتل : ينظرون إلى ( أعدائهم ) كيف يعذّبون ، وقال ابن عطاء : على أرائك المعرفة ينظرون إلى المعروف وعلى أرائك القربة ينظرون إلى الرؤوف .
المطففين : ( 24 ) تعرف في وجوههم . . . . .
) تعرفُ في وجوههم نضرة النعيم ( أي عصارته وبريقه ونوره يقال أنضر النبات إذا أزهر ونوّر ، وقراءة العامة ) تعرِف ( بفتح التاء وكسر الراء ) نضرة ( نصب ، وقرأ أبو جعفر ويعقوب بضم التاء وفتح الراء على غير تسمية الفاعل .
المطففين : ( 25 ) يسقون من رحيق . . . . .
) يُسقون من رحيق ( خمر صافية طيبة وقيل : هي الخمر العتيقة ، مقاتل : الخمر البيضاء . قال حسان :
يسقون من ورّد البريص عليهم
بردا يُصفّق بالرحيق السَلسَل
وقال آخر :
أم لا سبيل إلى الشباب وذكره
أشهى إليّ من الرحيق السلسل
(10/155)
" صفحة رقم 156 "
) مختوم ( ختمت ومُنعت عن أن يمسها ماس أو تنالها يد إلى أن يفكّ خَتْمها الأبرار يوم القيامة ، وقال مجاهد : مطيّن .
المطففين : ( 26 ) ختامه مسك وفي . . . . .
) ختامه ( طينة ) مسك ( قال ابن زيد : ختامه عند الله سبحانه : مسّك وختامها اليوم في الدنيا طين ، وقال ابن مسعود : مختوم ممزوج ، ختامه خلطو مسك ، وقال علقمة : طعمه وريحه مسك ، وقال الآخرون : عاقبته وآخر طعمه مسك ، قال قتادة : يمزج لهم بالكافور ويختم بالمسك ، وروى عبدالرحمن بن سابط عن أبي الدرداء في قوله سبحانه ) ختامه مسك ( قال : شراب أبيض مثل الفضة يختمون به شرابهم ولو أن رجلا من أهل الدنيا أدخل إصبعه فيه ثم أخرجها لم يبق ذو روح إلاّ وجد طيبها .
وختم كلّ شيء الفراغ منه ، ومنه ختم القرآن ، والأعمال بخواتيمها ، وقراءة العامة ( ختامه ) بتقديم التاء وقرأ الكسائي ( خاتمه ) وهي قراءة علي وعلقمة .
أخبرنا محمد بن عبدوس قال : حدّثنا محمد بن يعقوب قال : أخبرنا محمد بن الجهم قال : أخبرنا يحيى بن زرارة الفراء قال : حدّثني محمد بن الفضل عن عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن أنه قرأ خاتمه مسك .
وباسناده عن الفراء قال : حدّثني أبو الأحوص عن أشعث بن أبي الشعثاء المحاربي قال : قرأ علقمة بن قيس ( خاتمه مسك ) وقال : أما رأيت المرأة تقول للعطار : اجعل لي خاتمه مسكاً ، تريد آخره ، والخاتم والختام واحد كما يقال للرجل الكريم : الطابع والطباع ، وقال الفرزدق :
فبتن بجانبي مصّرعات
وبتّ أفضُ أغلاق الختام
) وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ( فليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة الله ، وقال مجاهد فليعمل العاملون ، نظيره قوله سبحانه : ) لمثل هذا فليعمل العاملون ( ، مقاتل بن سليمان : فليتنازع المتنازعون ، ابن حيان : فليتسارع المتسارعون ، عطا : فليستبق المتسابقون ، زيد بن أسلم : فليتشاح المتشاحون ، ابن جرير : فليجدوا في طلبه وليحرصوا عليه ، وأصله من الشيء النفيس ، وهو الذي تحرص عليه نفوس الناس ، ويطلبه ويتمناه ويريده كل واحد منهم لنفسه وينفس به على غيره أي يضنُ .
المطففين : ( 27 ) ومزاجه من تسنيم
) ومزاجه من تسنيم ( شراب ينصب عليه من علو ، ومنه سنام البعير وتسنيم القبور قال الضحاك : هو شراب اسمه تسنيم وهو أشرف الشراب ، مقاتل : يسمى تسنيماً ؛ لأنه يتسنّم فيصب عليه انصباباً من فوقهم في غرفهم ومنازلهم تجري من جنّة عدن إلى أهل الجنان ، قال ابن مسعود وابن عباس : هو خالص للمقربين يشربونها صرفاً ويمزج لساير أهل الجنة
(10/156)
" صفحة رقم 157 "
وأخبرنا عبدالله بن حامد في آخرين قالوا : أخبرنا مكيّ قال : حدّثنا عمار بن رجاء قال : حدّثنا سويد بن عمرو الكلبي قال : حدّثنا حماد بن سملة عن علي بن زيد عن يونس بن مهران عن ابن عباس ) ومزاجه من تسنيم ( قال : هذا مما قال الله سبحانه : ) فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين ( ، وعن بعضهم : أنها عين تجري في الهواء متسنماً فتصب في أواني أهل الجنّة على مقدار ملئها ، فإذا امتلأت أمسك الماء حتى لا يقع منه قطرة على الأرض فلا يحتاجون إلى الأستقاء وهو معنى قول قتادة ، وأصل الكلمة مأخوذ من علوّ المكان والمكانة ، فيقال للشيء المرتفع : سنام ، وللرجل الشريف : سنام وهو إسم معرفة مثل التنعيم وهو اسم جبل .
المطففين : ( 28 ) عينا يشرب بها . . . . .
) عيناً يشرب بها ( أي منها ، وقيل يشربها ) المقرّبون ( قال الحريري والواسطي : يشرب بها المقرّبون صرفاً على بساط القرب في مجلس الأُنس ورياض القُدس بكأس الرضا على مشاهدة الحقّ سبحانه وتعالى .
المطففين : ( 29 ) إن الذين أجرموا . . . . .
) إنّ الذين أجرموا ( اشركوا أبا جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأصحابهم من مترفي مكّة ) كانوامن الذين ( عمّار وخبّاب وصهيب وبلال وأصحابهم من فقراء المؤمنين . ) يضحكون ( وبهم يستهزؤون ومن إسلامهم يتعجبون .
وقال مقاتل والكلبي : نزلت في علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وذلك أنه جاء في نفر من المسلمين إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسخر منهم المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا : رأينا اليوم الأصلع فضحكنا منه فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآيات قبل أن يصل عليّ وأصحابه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( 111 ) .
المطففين : ( 30 ) وإذا مروا بهم . . . . .
) وإذا مرّوا بهم يتغامزون ( يغمز بعضاً ويشيرون بالأعين
المطففين : ( 31 - 32 ) وإذا انقلبوا إلى . . . . .
) وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين وإذا رأوهم قالوا إنّ هؤلاء لضالون ( حين يأتون محمد يرون أنهم على شيء
المطففين : ( 33 ) وما أرسلوا عليهم . . . . .
) وما أرسلوا ( يعني المشركين ) عليهم ( يعني على المؤمنين ) حافظين ( لأعمالهم موكلين بأحوالهم .
المطففين : ( 34 ) فاليوم الذين آمنوا . . . . .
) فاليوم ( يعني يوم القيامة ) الذين آمنوا من الكفار يضحكون ( كما ضحك الكفار منهم في الدنيا وذلك أنّه يفتح للكفار باب إلى الجنة فيقال لهم أخرجوا إليها فإذا وصلوا إليه أغلق دونهم يفعل بهم ذلك مراراً ويضحك المؤمنون منهم وهم
المطففين : ( 35 ) على الأرائك ينظرون
) على الأرائك ( من الدر والياقوت ) ينظرون ( إليهم كيف يعذبون ، قال كعب : بين الجنة والنار كوىً فإذا أراد المؤمن أن ينظر إلى عدو له كان في الدنيا اطلّع من بعض تلك الكوى ، دليله قوله سبحانه ) فاطلع فرآه في سواء الجحيم 2 )
المطففين : ( 36 ) هل ثوب الكفار . . . . .
) هل ثوّب ( جوزي ) الكفار ما كانوا يفعلون ( ثوّب وأثاب بمعنى واحد .
(10/157)
" صفحة رقم 158 "
( سورة الإنشقاق )
مكيّة . وهي خمس وعشرون آية ، ومائة وسبع كلمات ، وأربع مائة وأربع وثلاثون حرفاً
أخبرني سعيد بن محمد وكامل بن أحمد ومحمد بن القاسم قالوا : أخبرنا محمد بن مطر قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك قال : حدّثنا أحمد بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة انشقت أعاذه الله سبحانه أن يعطيه كتابه وراء ظهره ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
)
إذا السماء انشقت وأذنت لربّها إِذَا السَّمَآءُ انشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الاَْرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ ياأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً إِنَّهُ كَانَ فِىأَهْلِهِ مَسْرُوراً إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ وَالَّيْلِ وَمَا وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ الْقُرْءَانُ لاَ يَسْجُدُونَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (
الإنشقاق : ( 1 - 2 ) إذا السماء انشقت
) إذا السماء انشقت وأذنت لربها } أي سمعت أمر ربها بالإنشقاق وطاعته ) وحقت ( أي وحق لها أن تطيع ربّها وحق الله ذلك عليه .
الإنشقاق : ( 3 ) وإذا الأرض مدت
) وإذا الأرض مُدّت ( مدّ الأديم العكاظي وزيد في سعتها .
الإنشقاق : ( 4 ) وألقت ما فيها . . . . .
) وألقت ( أخرجت ) ما فيها ( من الموتى والكنوز ) وتخلّت ( وخلت فليس في باطنها شيء .
الإنشقاق : ( 5 ) وأذنت لربها وحقت
) وأذنت لربّها وحُقت ( ، واختلفوا في جواب قوله ) وإذا السماء انشقت ( فقيل جوابه متروك ؛ لأنّ المعنى مفهوم ، وقيل جوابه
الإنشقاق : ( 6 ) يا أيها الإنسان . . . . .
) يا أيها الإنسان إنّك كادح إلى ربّك كدحاً فملاقيه ( ومجازه : إذا السماء انشقت لقي كل كادح ما عمله ، قال المبّرد : فيه تقديم وتأخير تقديره ) يا أيّها الإنسان إنّك كادح إلى ربّك كدحا
(10/158)
" صفحة رقم 159 "
فملاقيه ( ) إذا السماء انشقت ( ، وقيل : جوابه ) وأذنت ( ، وحينئذ يكون الواو زائدة .
ومعنى قوله ) كادح إلى ربك كدحاً ( أي عامل واصل به إلى ربّك عملا فملاقيه ومجازى به خيراً كان أو شراً ، وقال القتيبي ناصب في معيشتك إلى لقاء ربك ، والكدح : السعي والجهد في الأمر حتى يكدح ذلك فيه ، أي يؤثّر ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سأل وله ما يغنيه جاءت مسلته يوم القيامة خدوشاً أو خموشاً أو كدوحاً في وجه ) أي أثر الخدش ، قال ابن مقبل :
وما الدهر إلاّ تارتان فمنهما
أموت وأُخرى أبتغي العيش أكدح
وأخبرني الحسين قال : حدّثنا موسى قال : حدّثنا ابن علوية قال : حدّثنا إسماعيل قال : حدّثنا إسحاق بن بشر عن سفيان الثوري عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( النادم ينتظر الرحمة والمعجب ينتظر المقت وكل عامل سيقدم على ما سلف ) .
الإنشقاق : ( 7 - 9 ) فأما من أوتي . . . . .
) فأمّا من أوتي كتابه ( ديوان أعماله ) بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسروراً ( . أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن مندة قال : حدّثنا محمد بن غالب قال : حدّثني سعيد بن سليمان قال : حدّثنا مبارك بن فضالة عن أيوب عن أبي مليكة عن عائشة قالت : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( من يحاسب يعذّب ) قالوا : يا رسول الله أليس قد قال الله سبحانه : ) فأمّا من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حساباً يسيراً ( قال : ( ذاكم العرض ولكن من نوقش الحساب عذّب ) .
الإنشقاق : ( 10 ) وأما من أوتي . . . . .
) وأمّا من أوتي كتابه وراء ظهره ( فتغُلّ يده اليمنى إلى عنقه وتجعل يده الشمال وراء ظهره فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره ، وقال مجاهد : يخلع يده وراء ظهره .
الإنشقاق : ( 11 ) فسوف يدعو ثبورا
) فسوف يدعوا ثبوراً ( ينادى بالويل والهلاك
الإنشقاق : ( 12 ) ويصلى سعيرا
) ويصلى سعيراً ( قرأ أبو جعفر وأيوب وكوفي غير الكسائي بفتح الياء والتخفيف واختاره أبو عبيد لقوله سبحانه : ) إلاّ من هو صال الجحيم ( ، وقوله ) يصلى النار الكبرى ( وقرأ الباقون بضم الياء وتشديد اللام ، واختاره أبو حاتم لقوله سبحانه ) ثم الجحيم صلُّوه ( ) وتصلية جحيم 2 )
الإنشقاق : ( 13 ) إنه كان في . . . . .
) إنه كان في أهله مسروراً (
(10/159)
" صفحة رقم 160 "
سمعت السلمي يقول : سمعت منصور بن عبدالله يقول : سمعت أبا القاسم المصري يقول : قال ابن عطاء لنفسه متابعاً ساعياً .
الإنشقاق : ( 14 ) إنه ظن أن . . . . .
) إنه ظن أن لن يحور ( يرجع إلينا قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أعوذ بك من الحور بعد الكور ) وقال ابن عباس : كنت لا أدري ما معنى يحور حتى سمعت إعرابية تدعوا بنيةً لها فتقول : حوري حوري أي أرجعي ، وقال الشاعر :
وما المرء إلاّ كالشهاب وضوءه
يحور رماداً بعد إذ هو ساطع
الإنشقاق : ( 15 - 16 ) بلى إن ربه . . . . .
ثم قال : ) بلى ( ، أي ليس كما ظن بلى يحور إلينا ويبعث .
) إن ربّه كان به بصيراً فلا أقسمُ بالشفق ( قال مجاهد وغيره : هو النهار كلّه ، عكرمة : ما بقى من النهار ، وقال ابن عباس وأكثر الناس : هو الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس وبغيبوبته يتعلّق أول وقت العشاء الآخرة وإليه ذهب من الصحابة ابن مسعودوابن الزبير وعمر وابنه وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس وأنس بن مالك وأبو قتادة الأنصاري وأبو هريرة وجابر بن عبدالله ومن التابعين سعيد بن المسيّب وسعيد بن جبير وطاووس وعبد الله بن دينار ومكحول ، ومن الفقهاء مالك والأوزاعي والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور وابن عبيد وأحمد وإسحاق ، وقال قوم : هو البياض ، وإليه ذهب عمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة ، والأختيار القول الأول ؛ لأجماع العبادلة عليه ، ولأن الشواهد في كلام العرب وأشعارهم تشهد له ، قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول : الثور أحمر كأنه الشقق ، وقال الشاعر :
أحمر اللون كمحمر الشقق
وقال آخر :
قم ياغلام أعني غير محتشم
على الزمان بكأس حشوها شفق
ويقال للحفرة الشفق ، وزعم الحكماء أنَّ البياض لا يغيب أصلا قال الخليل : صعدت منارة اسكندرية فرمقت البياض فرأيته يتردّد من أفق إلى أفق ولم أره يغيب ، والله أعلم بالصواب .
الإنشقاق : ( 17 ) والليل وما وسق
) والليل وما وسق ( أي جمع وجمل ، ويقال : وسقته أسقه وسقاً ، ومنه قيل للطعام المجتمع الكبير : وسق وهو ستون صاعاً ، وطعام موسّق أي مجموع في غرارة ووعاء ، وقال مجاهد : برواية ابن أبي بحج : وما آوي فيه من دابة ، منصور عنه : ومالفّ وأظلم عليه ودخل
(10/160)
" صفحة رقم 161 "
فيه ، عكرمة : وما جمع فيه منّ دوابة وعقاربة وحيّاته وظلمته ، ضحاك ومقاتل : وما ساق من ظلمه فاذا كان الليل ذهب كل شيء إلى مأواه ، وقال الأستاذ أبو القاسم بن حبيب : شيبه أن يكون على هذا القول من المقلوب ، لأن أصل ساق يسوق ، عثمان : حمل من الظلمة ، أبو حيان : أقبل من ظلمة أو كوكب ، سعيد بن جبير : وما عمل فيه ، وروى ابن أبي مليكة وابن جبير عن ابن عباس : وما جمع قال : ألم تسمع قول الشاعر :
أن لنا قلائصاً حقائقاً
مستوسقات لو يجدن سائقاً
الإنشقاق : ( 18 ) والقمر إذا اتسق
) القمر إذا اتسق ( أي أجتمع واستوى وتمّ نوره ، قتادة : إذا أستدار وقيل : سار ، مرّة الهمداني : أرتفع وهو في الأيام البيض ، ويقال : أتسق الشيء إذا تتابع ، واستوسق من الأبل إذا أجتمعت وأنضمت وهو أفتعل من الوسق .
الإنشقاق : ( 19 ) لتركبن طبقا عن . . . . .
) لتركبن ( قرأ أهل مكة والكوفة إلاّ عاصماً بفتح التاء ، وهي قراءة عمر بن الخطاب وابن مسعود وأصحابه وابن عباس وأبي العالية ، وقالوا : يعني لتركبن يامحمد سماء بعد سماء ودرجة بعد درجة ورتبة بعد رتبة ، وقيل : أراد به السماء تتغير لون بعد لون فتصير تارة كالدهان وتارة كالمهل وتشقق بالغمام مرّة ويطوي أخرى ، وقرأ الآخرون بضمّة وأختاره أبو عبيد قال : لأنَّ المعنى بالناس أشبه منه بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنَّما ذكر قبل الآية من يؤتى منهم كتابة بيمينه وشماله ثم قال : بعدّها فمالهم لا يؤمنون وذكر ركوبهم طبقاً بعد طبق بينهما .
واختلف المفسرون في معنى الآية فقال أكثرهم : حالاً بعد حال وأمراً بعد أمر في مواقف القيامة عن محمد بن مروان عن الكلبي ، حيان عنه : مرّة يعرفون ومرة يجهلون ، مقاتل : يعني الموت ثم الحياة ثم الموت ثم الحياة ، عطا : مرّة فقرأ ومرة غنى ، عمرو بن دينار عن ابن عباس : الشدائد والأهوال الموت ثم البعث ثم العرض ، والعرب تقول لمن وقع في أمر شديد : وقع في بنات طبق وفي أخرى بنات طبق ، أبو عبيدة : لتركبن سنن من كان قبلكم وأحوالكم ، عكرمة : حالا بعد حال ، رضيع ثم فطيم ثم غلام ثم شاب ثم شيخ ، قالت الحكماء : يشتمل الأنسان من كونه نطفة إلى أن يهرم ويموت على سبعة وثلاثين حالا من سبعة وثلاثين اسماً : نطفة ثم علقة ثم مضعة ثم خلقاً آخر ثم جنيناً ثم وليداً ثم رضيعاً ثم فطيماً ثم يافعاً ثم ناشئاً ثم مترعرعاً ثم حزوراً ثم مراهقاً ثم محتلماً ثم بالغاً ثم أمرد ثم طارداً ثم طارا ثم باقلا ثم مسيطراً ثم مطرخما ثم مختطاً ثم صملا ثم ملتحياً ثم مستوياً ثم مصعداً ثم مجتمعاً والشاب
(10/161)
" صفحة رقم 162 "
يجمع ذلك كلّه ثم ملهوزاً ثم كهلاً ثم أشمط ثم شيخاً ثم أشيب ثم حوقلاً ثم صفتاناً ثم هرماً ثم ميتاً ، فهذا معنى قوله سبحانه وتعالى : ) لتركبن ( ) طبقاً عن طبق ( والطبق في اللغة الحال ، قال الأقرع بن حابس :
إني أمرؤ قد حلبت الدهر أشطره
وساقني طبق منه إلى طبق
فلست أصبو إلى خل يفارقني
ولا تقبض أحشائي من الفرق
وأنشدني أبو القاسم عبد الله بن محمد البابي قال : أنشدني أبو سعيد عثمان بن جعفر بن نصره الموصلي قال : أنشدنا أبو يعلي أحمد بن علي المثنى :
الصبر أجمل والدنيا مفجعة
من ذا الذي لم يذق من عيشه رنقاً
إذا صفا لك من مسرورها طبق
أهدى لك الدهر من مكروهها طبقاً
وقال مكحول في هذه الآية : في كل عشرين عاماً يحدثون أمراً لم يكونوا عليه ، وهذا أدلّ دليل على حدث العالم وأثبات الصانع ، قالت الحكماء : من كان اليوم على حالة وغداً أخرى فليعلم أن يدبيره إلى سواه ، وقيل لأبي بكر الوراق : ما الدليل على أنَّ لهذا العالم صانع فقال : تحويل الحالات وعجز القوة وضعف الأركان وقهر المنّة وفسخ العزيمة . سمعت أبا القاسم المفّر يقول : سمعت أبا الفضل أحمد بن محمد بن حمدون النسّوي يقول : سمعت أبا عبد الرحمن الأرزياني يقول : دخل أبو الفم علي بن محمد بن زيد العلوي بطبرستان عائداً فأنشأ يقول :
إني أعتللت ولا كانت بك العلل
وهكذا الدَّهر فيه الصاب والعسل
إنَّ الذي لا تحل الحادثات به
ولا يغير فيه الله لا الرجل
الإنشقاق : ( 20 - 21 ) فما لهم لا . . . . .
) فمالهم لا يؤمنون وإذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون ( لا يخضعون ولا يستكينون له ، وقال الكلبي ومقاتل : لا يصلّون .
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن يوسف بقرأتي عليه قال : أخبرنا مكّي قرأةً عليه سنة تسع عشر وثُلثمائه قال : حدّثني محمد بن يحيى قال : وفيها قرأ علي بن عبد الله بن نافع المدّني وحدّثني مطرف بن عبد الله عن مالك بن أنس عن عبد الله بن زيد مولى الأسود بن سفيان عن أبي
(10/162)
" صفحة رقم 163 "
سلمة بن عبد الرحمن بن أحمد أنَّ أبا هريرة قرأ ) إذا السماء أنشقت ( فسجد فيها ، فلما انصرف أخبرهم أنَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سجد فيها .
وأخبرنا أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن نوح قرأه عليه سنة ست وثمانين وثلثمائة قال : أخبرنا أبو العباس السراج قال : حدثنا قتيبة عن الليث عن بكر عن نعيم بن عبد الله بن محمد قال : صليت مع أبي هريرة فوق هذا المسجد فقرأ ) إذا السماء أنشقت ( فسجد فيها وقال : رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سجد فيها .
الإنشقاق : ( 22 - 23 ) بل الذين كفروا . . . . .
) بل الذين كفروا يكذبون والله أعلم بما يوُعُون ( قال مجاهد : يكتمون ، قتادة : يوعون في صدورهم ، ابن زيد يجمعون من الأعمال الصالحة والسيئة .
الإنشقاق : ( 24 - 25 ) فبشرهم بعذاب أليم
) فبشِّرهم ( أخبرهم ) بعذاب أليم إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصحالحات لهم أجر غير ممنون ( . غير منقوص ولا مقطوع .
(10/163)
" صفحة رقم 164 "
( سورة البُروج )
مكية ، هي إثنان وعشرون آية ، كلمها مائة وتسع كلمه ، وحروفها أربع مائة وثمانية وخمسون حرفاً
أخبرني محمد بن القاسم قال : حدّثنا إسماعيل بن بخير قال : حدّثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد قال : حدّثنا سعيد بن حفص قال : قرأت على معقل بن عبد الله عن عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ ) والسماء ذات البروج ( أعطاه الله عز وجل من الأجر بعدد كل يوم جمعة وكلّ يوم عرفة يكون في دار الدنيا عشر حسنات ) .
وعن ابن الأنباري أنه قال : روي أن من قرأها أعطاه الله سبحانه وتعالى بعدد كل جمعة وعرفة ما سأل في الدنيا ويكونان مائة مائة حسنة ومائة درجة ويشفع يوم القيامة في عدد أهل منى حتّى يدخلهم الجنّة وله بعدد فرعون وعاد وثمود الذين كفروا منهم واللوح المحفوظ بعدد كل واحد منهم عتق رقبة مع ماله من المزيد .
بسم الله الرحمن الرحيم
( ) وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ( 2
البروج : ( 1 - 3 ) والسماء ذات البروج
) والسماء ذات البّروج واليوم الموعود وشاهد ومشهود ( :
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن الطيّب قال : أخبرنا أبو سعيد عمرو بن منصور قال : أخبرنا أبو بكر محمّد بن سليمان بن الحسن قال : حدّثنا عبد الله بن موسى .
وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا إبراهيم بن بهلويه قال : حدّثنا محمّد بن الصباح قال : أخبرنا مروان بن معاوية قال : أخبرنا موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد الأنصاري عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اليوم الموعود
(10/164)
" صفحة رقم 165 "
يوم القيامة ، والمشهود يوم عرفة ، والشاهد يوم الجمعة ، ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم أفضل من يوم الجمعة فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله فيها بخير إلاّ استجاب له ولا يستعيذه من سوء إلا أعاذه منه ) .
وأخبرنا أبو العباس سهل بن محمد بن سعيد قال : حدّثنا أبو محمد الحسن بن محمد بن حليم قال : أخبرنا أبو الموحة قال : أخبرنا عيدان قال : حدّثنا عبد الوارث عن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال : الشاهد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والمشهود يوم القيامة ، ثم تلا هذه الآية : ) فكيف إذا جئنا من كلّ أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ( ثم قال : ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود .
وأخبرني الحسين قال : حدّثنا محمد بن الحسن القطيني قال : أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يزيد العقيلي قال : حدّثنا صفوان بن صالح قال : حدّثنا الوليد بن مسلم قال : حدّثني سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( شاهد يوم الجمعة ومشهود يوم عرفة ) .
وأخبرنا الحسين قال : حدّثنا الكندي قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن النعمان قال : حدثنا أبو طاهر سهل بن عبد الله قال : حدّثنا عمرو بن سواد بن الأسود قال : حدّثنا ابن وهب عن عمرو بن الحرث عن سعيد بن أبي الهلال عن زيد بن أيمن عن عبادة بن نسيء عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة فأنَّه يوم مشهود تشهده الملائكة ، وإنَّ أحداً لا يصلّي عليَّ إلاّ عرضت عليّ صلاته حتى يفرغ منها ) .
قال : قلت : وبعد الموت قال : ( إنَّ الله سبحانه حرّم على الأرض أن يأكل أجساد الأنبياء فنبيَّ الله حيّ يرزق ) .
وأخبرني الحسين قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال : حدّثنا أحمد بن إبراهيم النورقي قال : حدّثنا أبو غسان مالك بن ضيغم الراسبي قال : حدّثنا أبو سهل المنذراني عن خبّاب عن رجل قال : دخلت مسجد المدينة فأذا أنا برجل يحّدث عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والناس حوله فقلت : أخبرني عن شاهد ومشهود قال : نعم أمّا الشاهد فيوم الجمعة وأما المشهود فيوم عرفة ، فجزته إلى آخر يحدث عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : أخبرني عن شاهد ومشهود . قال : الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم النحر ، فجزتهما إلى غلام كأنّ وجهه الدنيار
(10/165)
" صفحة رقم 166 "
وهو يحدّث عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : أخبرني عن شاهد ومشهود قال : نعم أما الشاهد فمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأمّا المشهود فيوم القيامة أما سمعته يقول : ) ياأيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً ( وقال عز وجل : ) ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ( فسألت عن الأول فقالوا : ابن عباس ، وسألت عن الثاني فقالوا : ابن عمر ، وسألت الثالث فقالوا : الحسن بن علي .
وأخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن علي الدورقي بقراءتي عليه فأقرّ به قال : أخبرنا عبد الله بن محمد بن الحسن الشرقي قال : حدّثنا عبد الرحمن بن بشر العبّدي قال : حدّثنا يزيد ابن هارون قال : أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان عن ابن أبي نجح عن مجاهد في قوله سبحانه ) وشاهد ومشهود ( قال : الشاهد آدم والمشهود يوم القيامة . ليث عنه : الشاهد ابن آدم والمشهود يوم القيامة .
وقال الوالي عن ابن عباس : الشاهد الله والمشهود يوم القيامة ، عكرمة : الشاهد الإنسان والمشهود يوم القيامة وعنه أيضاً : الشاهد الملك يشهد على آدم والمشهود يوم القيامة وتلا هاتين الآيتين ) وجاءت كلّ نفس معها سائق وشهيد وذلك يوم مشهود ( ، جابر بن عبد الله : الشاهد يوم القيامة والمشهود الناس .
محمد بن كعب : الشاهد أنت والمشهود هو الله ، عطاء بن يسار : الشاهد آدم وذريته والمشهود يوم القيامة ، الحسن : الشاهد الجمعة والمشهود يوم القيامة يشهده الأولون والآخرون ، أبو ملك : الشاهد عيسى والمشهود أمّته ، بيانه قوله سبحانه : ) وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ( عبدالعزيز بن يحيى : الشاهد محمّد والمشهود أمّته ، بيانه قوله سبحانه : ) وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ( . الحسين بن الفضل : الشاهد هذه الأمة والمشهود سائر الأمم ، بيانه قوله : ) وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ( . سعيد بن المسيب : الشاهد يوم التروية والمشهود يوم عرفة ، وقال سالم بن عبدالله : سألت سعيد بن حسن عن قوله سبحانه ) وشاهد ومشهود ( ، فقال : الشاهد هو الله والمشهود محمد بيانه قوله سبحانه : ) وكفى بالله شهيد ( ، وقوله سبحانه : ) قل أيُّ شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني
(10/166)
" صفحة رقم 167 "
وبينكم ( ، وقيل : الشاهد أعضاء ابن آدم والمشهود ابن آدم بيانه قوله سبحانه : ) يوم تشهد عليهم ألسنتهم ( الآية ، وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن نحيد القطان البلخي يقول : الشاهد الحجر الأسود والمشهود الحجاج ، وقيل : الشاهد الليالي والأيام والمشهود بنو آدم ، دليله الخبر المروي : ( ما من يوم إلاّ وينادي إني يوم جديد وإنّي على ما تفعل منّي شهيد فأغتنمني فلو غابت شمسي لم تدركني إلى يوم القيامة ) .
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا محمد عبدالله بن أحمد بن الصديق يقول : سمعت أبا وائلة عبدالرحمن الحسيني المزني يقول : سمعت مطرفاً يقول : سمعت مالك بن أنس يقول : خبّرت عن الحسن بن علي إنّه قال :
مضى أمسك الماضي شهيداً معدلا
وأصبحت في يوم عليك شهيد
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة
فثنِّ بأحسان وأنت حميد
ولا تُرج فعل الخير يوماً إلى غد
لعل غداً يأتي وأنت فقيدُ
فيومك إن أعتبته عاد نفعه
عليك وماضي الأمس ليس يعود
محمد بن علي الترمذي : الشاهد الحفظة والمشهود بني آدم ، أنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدني أبي ، قال : أنشدنا أبو بكر بن الأنباري ببغداد في كتاب الزاهر :
إنّ من يركب الفواحش سراً
حين يخلو بذنبه غير خالي
كيف يخلوا وعنده كاتباه
حافظاه وربه ذو المحال
وقيل : الشاهد الأنبياء والمشهود محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بيانه قوله سبحانه : ) وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ( إلى قوله : ) فاشهدوا وإنا معكم من الشاهدين ( ، وقيل : الشاهد الله عزّ وجل والملائكة وأولوا العلم والمشهود ) لا اله إلاّ الله ( بيان قوله سبحانه ) شهد الله أنه لا اله إلاّ هو ( ، وقيل : الشاهد الخلق والمشهود الحق وفيه يقول الشاعر :
أيا عجباً كيف يعصى الاله
أم كيف يجحده الجاحدُ
ولله في كل تحريكة
وفي كل تسكينة شاهد
(10/167)
" صفحة رقم 168 "
وفي كل شيء له آية
تدل على أنّه واحدُ
وقيل : الشاهد يوم الأثنين والمشهود يوم الجمعة ، وقيل : الشاهد الحق والمشهود الخلق ، وقيل : الشاهد أفعال العبد والمشهود العبد .
2 ( ) قُتِلَ أَصْحَابُ الاُْخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى تَكْذِيبٍ وَاللَّهُ مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ( 2
البروج : ( 4 ) قتل أصحاب الأخدود
) قُتِل ( لعن ، قال ابن عباس : كل شيء في القرآن قتل فهو لعن .
) أصحاب الأخدود ( : الشق واختلفوا فيهم فأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن بن جعفر قال : حدّثنا الحاكم أبو محمد يحيى بن منصور وأبو القاسم منصور بن العباس بنو شنج وأبو الحسن محمد بن محمود بن عبيدالله بمرو وأبو بكر أحمد بن محمد بن عبيدالله الطاهري ( . . . . . ) واللفظ له قالوا : حدّثنا الحسن بن شيبان بن عامر الشيباني أن هدية بن خالد القيسي حدثهم قال : حدّثنا حماد بن سلمة ، وحدثتُ عن محمد بن جرير قال : حدّثني محمد بن معمر قال : حدّثني حرمي بن عمارة قال : حدّثنا حماد بن سلمة قال : حدّثنا ثابت بن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن صهيب إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر الساحر قال للملك إني قد كبرت فابعث إليّ غلاماً أعلمه السحر فبعث إليه غلاماً يعلمه فكان في طريقه راهب فقعد إليه الغلام وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتي الساحر ضربه وإذا رجع من عند الساحر قعد إلى الراهب فسمع كلامه فإذا أتى أهله ضربوه ، فشكى ذلك إلى الراهب فقال : إذا احتبست على الساحر فقل : حبسني أهلي ، وإذا احتبست على أهلك فقل : حبسني الساحر ، فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال : اليوم أعلم الساحر خير أم الراهب ، فأخذ حجراً ثم قال : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذا الدابة حتى يمضي الناس ، فرمى بها فقتلها ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره فقال الراهب : أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما قد أرى وإنك ستبتلى فإذا ابتليت
(10/168)
" صفحة رقم 169 "
فلا تدل علي ، وكان الغلام يبري الأكمه والابرص ويداوي الناس من سائر الأدواء ، فسمع جليس للملك قد كان عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال : لك هذا إن أنت شفيتني فقال : إني لا أشفي أحداً إنما يشفي الله عز وجل ، فإن آمنت بالله دعوت الله عز وجل فشفاك ، فآمن بالله تعالى فشفاه الله فأتى الملك يمشي فجلس إليه كما كان يجلس ، فقال له الملك : وسأله بما شفيت قال : بدعاء الغلام ، فأرسل إلى الغلام فقال له الملك : أي بني قد بلغ من سحرك ما يبرئ الأكمه والابرص وتفعل وتفعل ، فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الراهب فجيء بالراهب فقيل له : ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ثم جيء بالغلام فقيل له ارجع عن دينك فأبي فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال لهم اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فاصعدوا به فاذا بلغ ذروته فإن رجع عن دينه وإلاّ فاطرحوه ، فذهبوا به فصعدوا به الجبل فقال : اللهم اكفنيهم كيف شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا ، وجاء يمشي إلى الملك فقال له : ما فعل أصحابك ؟ فقال : أكفانيهم الله عز وجل فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال احملوه في قرقور فتوسطوا به البحر فلجوا به فإن رجع عن دينه وإلاّ فاقذفوه فيه .
فذهبوا به فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت فأنكفأت بهم السفينة فغرقوا به ، فجاء يمشي إلى الملك فقال له الملك : ما فعل أصحابك ؟ قال : أكفانيهم الله عز وجل ، فقال للملك : إنّك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، قال : ما هو ؟ قل : تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ثم خذ سهماً من كنانتي ثم تضع السهم في كبد القوس ثم قل : بسم الله رب الغلام ، ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني ، فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ثم أخذ سهماً من كنانته ثم وضع السهم في صدغه فوضع الغلام يده في موضع السهم فمات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام آمنا برب الغلام ثلاثاً ثلاثاً ، فأُتي الملك فقيل له : أريت ما كنت تحذره قد والله نزل بك حذرك ، قد آمن الناس كلهم . فأمر ( بحفر ) الأُخدود بأفواه السكك وأضرم النيران وقال : من لم يرجع عن دينه فاقذفوه فيها ، أو قيل له اقتحم ، ففعلوا ذلك حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها فقال الغلام : يا أُمّه اصبري فإنك على حق ) .
محمد بن يحيى قال : حدّثنا مسلم بن قتيبة قال : حدّثنا جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة في قول الله سبحانه : ) قُتل أصحاب الأُخدود ( قال : كانوا من قومك من النبط ، وقال الكلبي : هم نصارى أهل نجران وذلك ان ملك نجران أخذ بها قوماً مؤمنين فخدّ لهم في الأرض سبعة أخاديد طول كل واحد أربعون ذراعاً وعرضه اثنتا عشرة ذراعاً ثم طرح فيها ( النفط ) والحطب ثم عرضهم عليها فمن أبى قذفوه في النار ، فبدأ برجل يقال له عمرو بن زيد فسأله
(10/169)
" صفحة رقم 170 "
ملكهم ، فقال : من علمك هذا يعني التوحيد فأبى أن يخبره فأتى الملك الذي علمه التوحيد فقال : أيّها الملك أنا علمته ، واسمه عبدالله بن شمر فقذفه في النار ، ثم عرض على النار واحداً واحداً حتى إذا أراد أن يتبع بقيّة المؤمنين فصنع ملكهم صنماً من ذهب ثم أمر على كل عشرة من المؤمنين رجلا يقول لهم إذا سمعتم صوت المزامير فأسجدوا للصنم فمن لم يسجد ألقوه في النار ، فلما سمعت النصارى بذلك سجدوا للصنم ، وأما المؤمنون فأبوا فخدّ لهم وألقاهم فيها ( فارتفعت ) النار فوقهم اثني عشرة ذراعاً .
قال مقاتل : كانت ( الأخاديد ) ثلاثة : واحدة بنجران باليمن ، والاخرى بالشام ، والاخرى بفارس ، حرّقوا بالنار أمّا التي بالشام فهو انطيّا خوس بن ميسر الرومي ، أمّا التي بفارس فهو بخت نصر ، وأما التي بأرض العرب فهو يوسف بن ذي نواس ، فأما التي بفارس والشام فلم ينزل الله سبحانه فيهما قرآناً وأنزل في التي كانت بنجران ، وذلك أن رجلين مسلمين ممّن يقرؤون الإنجيل أحدهما بأرض تهامة والآخر بنجران اليمن فأجّر أحدهما نفسه في عمل يعمله وجعل يقرأ الإنجيل ، فرأت بنت المستأجر النور يضيء في قراءة الإنجيل فذكرت ذلك لأبيها فرمقه حتى رآه ، فسأله فلم يخبره فلم يزل به حتى أخبره بالدين والإسلام فتابعه هو وسبعة وثمانون إنساناً بين رجل وامرأة وهذا بعد ما رفع عيسى إلى السماء ، فسمع ذلك يوسف بن ذي نواس بن شراحيل بن تبع بن اليسوح الحميري فخدّلهم في الأرض فأوقد فيها فعرضهم على الكفر فمن أبى منهم أن يكفر قذفه في النار ومن رجع عن دين عيسى لم يقذف في النار ، وإن امرأة جاءت ومعها ولد لها صغير لا يتكلم فلما قامت على شفير الخندق نظرت إلى ابنها فرجعت عن النار فضربت حتى تقدمت فلم تزل كذلك ثلاث مرات فلما كانت في الثالثة ذهبت ترجع فقال لها ابنها : يا أماه إني أرى أمامك ناراً لا تطفأ فلما سمعت ابنها يقول ذلك قذفا جميعاً أنفسهما في النار فجعلها الله وابنها في الجنة فقذف في النار في يوم واحد سبع وسبعون إنساناً .
قال ابن عباس : من أبى أن يقع في النار ضرب بالسياط ، فادخلت أرواحهم في الجنة قبل أن تصل أجسامهم إلى النار ، وذكر محمد بن إسحاق بن يسار ، عن وهب بن منبّه : إنّ رجلا كان بقي على دين عيسى فوقع إلى نجران فدعاهم فأجابوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنود من حمير وخيّرهم بين النار واليهودية فأبوا عليه فخدَّ الأخاديد وأحرق اثني عشر ألفاً ، وقال الكلبي :
كان أصحاب الاخدود سبعين ألفاً ، قال وهب : لما علت أرباط على اليمن خرج ذو نواس هارباً فاقتحم البحر بفرسه فغرق وفيه يقول عمرو بن معدي كرب :
(10/170)
" صفحة رقم 171 "
اتوعدني كأنك ذو رعين
بأنعم عيشه أو ذو نواس
وكائن كان قبلك من نعيم
وملك ثابت في الناس راسِ
قديم عهده من عهد عاد
عظيم قاهر الجبروت قاسِ
أزال الدّهر ملكهم فأضحى
ينقّل في أناس من أناسِ
قال الكلبي : وذو نواس هو الذي قتل عبدالله بن التامر وقد مضت القصّة في الحديث المرفوع إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومما يزيده وضوحاً ما روى عطاء عن ابن عباس إنّه قال : كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له يوسف ذو نواس بن شراحبيل بن شراحيل في الفترة قبل مولد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بتسعين سنة .
عبدالله بن يوسف قال : حدّثنا عمر بن محمد بن بحير قال : حدّثنا عبدالحميد بن حميد الكشي ، عن الحسن بن موسى قال : حدّثنا يعقوب بن عبدالله القمي قال : حدّثنا جعفر بن أبي المغيرة عن ابن ( ابري ) قال : لما هزم المسلمون أهل أسفندهان انصرفوا فجاءهم يعني عمر فاجتمعوا ، فقالوا : أي شيء تجري على المجوس من الأحكام فأنهم ليسوا بأهل كتاب وليسوا من مشركي العرب ، فقال : علي بن أبي طالب : بل هم أهل الكتاب وكانوا متمسكين بكتابهم وكانت الخمر قد أحلّت لهم فتناولها ملك من ملوكهم فغلبته على عقله فتناول اخته فوقع عليها فلما ذهب عنه السكر ندم وقال لها : ويحك ما هذا الذي أتيت وما المخرج منه ؟ .
قالت : المخرج منه أن تخطب الناس ، فتقول : يا أيّها الناس إنّ الله أحل نكاح الأخوات فإذا ذهب ( هذا ) في الناس وتناسوه خطبتهم فحرمته ، فقام خطيباً ، فقال : يا أيّها الناس إنّ الله أحلّ نكاح الأخوات فقال الناس جماعتهم : معاذ الله أن نؤمن بهذا أو نقرّ به ما جاءنا به نبي ولا أُنزل علينا في كتاب فرجع إلى صاحبته فقال : ويحك إنّ الناس قد أبوا عليّ قالت : إذا أُبّوا عليك فأبسط فيهم السوط قال : فبسط فيهم السوط ، فأبى الناس أن يقرّوا فرجع إليها فقال : قد بسطت فيهم السوط فأبوا أن يقرّوا قالت : فجرّد فيهم السيف ، قال : فجرّد فيهم السيف فأبوّا أن يقرّوا ، وقال لها : ويحك إنّ الناس قد أبوا أن يقرّوا ، قالت : خُدّ لهم أخدوداً ثم أوقد فيها النيران ثم اعرض عليها أهل مملكتك فمن تابعك فخلّ عنه ومن أبى فأقذفه في النار ، فخدّ لهم أخدوداً فأوقد فيها النيران وعرض أهل مملكته على ذلك فمن أبى قذف في النار ومن أجاب خلّى سبيله ، فأنزل سبحانه فيهم : ) قُتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود ( إلى قوله : ) عذاب الحريق ( .
(10/171)
" صفحة رقم 172 "
وقال الضحاك : أصحاب الأخدود من بني إسرائيل أُخِذوا رجالا ونساءاً فخدّ لهم أخدوداً ثم أوقد فيها النيران فأقاموا المؤمنين عليها ، فقال تكفرون أو نقذفكم في النار ، ويزعمون أنه دانيال وأصحابه ، وهذه رواية العوفي عن ابن عباس .
وأخبرنا عبدالله بن حامد قال : حدّثنا محمد بن عبدالله بن يوسف ، قال : حدّثنا عمر بن محمد بن بحير ، قال : حدّثنا عبد بن حميد ، عن يونس ، عن شيبان عن قتادة في قوله سبحانه : ) قتل أصحاب الأخدود ( قال : حُدّثنا أنّ علي بن أبي طالب كان يقول : هم أناس كانوا بمدراع اليمن اقتتل مؤمنوهم وكفارهم فظهر مؤمنوهم على كفارهم ثم اقتتلوا الثانية فظهر مؤمنوهم على كفارهم ثم أخذ بعضهم على بعض عهوداً ومواثيق لا يغدر بعضهم ببعض ، فغدر بهم كفارهم فأخذوهم ثمّ أنّ رجلا من المؤمنين قال لهم : هل لكم إلى ( خير ) توقدون ناراً ثم تعرضوننا عليه ، فمن تابعكم على دينكم فذلك الذي تشتهون ومن لا اقتحم النار فاسترحتم منه قال : فأججوا ناراً وعرضوهم عليها فجعلوا يقتحمونها حتى بقيت عجوز فكأنها تلكأت ، فقال لها طفلٌ في حجرها : أمضي ولا تنافقي فقص الله عليهم نبأهم وحديثهم .
وأخبرنا عبدالله بن حامد قال : أخبرنا أبو محمد المزني قال : حدّثنا مطين قال : حدّثنا عثمان قال : حدّثنا معاوية بن هشام ، عن شريك عن جابر عن أبي طفيل ، عن علي قال : كان أصحاب الأخدود نبيهم حبشي ، قال علي : بُعث نبي من الحبشة إلى قومه ، ثم قرأ عليّ : ) ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك ( ، فدعاهم النبي فتابعه أُناس فقاتلهم فقتل أصحابه وأُخذ فأوثق فأفلت منهم ، فخدّ أخدوداً فملأها ناراً فمن تبع النبي رُمي فيها ومن تابعهم تركوه فجاءوا بامرأة معها صبي رضيع فجزعت فقال : يا أماه مرّي ولا تنافقي . )
وبه عن مطين قال : حدّثنا أبو موسى وقال : وكان في بلاده غلام يقال له عبدالله بن تامر وكان أبوه سلّمه إلى معلم يعلّمه السحر فكره الغلام ذلك ولم يجد بُدّاً من طاعة أبيه فجعل يختلف إلى المعلم ، وكان في طريقه راهب حسن القراءة حسن الصوت فأعجبه ذلك وكان يأتي المعلم آخر الغلمان ويضربه المعلم ويقول : من الذي حبسك وإذا انقلب إلى أبيه دخل على الراهب فضربه أبوه ويقول : لما أبطأت ، فشكى الغلام ذلك إلى الراهب فقال له الراهب : إذا أتيت المعلم فقل حبسني أبي وإذا أتيت أباك فقل : حبسني المعلم ، وكان في تلك البلاد حيّة
(10/172)
" صفحة رقم 173 "
عظيمة قطعت الطريق على الناس فمر بها الغلام فرماها فقتلها فأحس الراهب بذلك فازداد به عجباً وقال أنت قتلتها قال : نعم قال : إنّ لك لشأناً ، وكان للملك ابنٌ مكفوف البصر ، فسمع بالغلام وقتله الحيّة فجاءه مع قائد فقال : أنت قتلت الحيّة ؟ قال : لا ، قال : ومن قتلها ؟
قال : الله ، قال : من الله ؟ قال : ربُّ السموات والأرض وما بينهما وربُّ الشمس والقمر والليل والنهار والدنيا والآخرة ، قال : فان كنت صادقاً فادع ربّك حتى يرد عليّ بصري ، قال : الغلام أرأيت إن ردّ الله سبحانه عليك بصرك أتؤمن به ؟
قال : نعم ، قال : اللهم إن كان صادقاً فاردد عليه بصره ، فردّ الله تعالى عليه بصره فرجع إلى منزله بلا قائد ، ثم دخل على الملك فلما رآه تعجب منه فقال : من صنع هذا ، قال : الله ، قال : ومن الله ؟
قال : ربُّ السموات والأرض وما بينهما وربُّ المشرق والمغرب وربّ الشمس والقمر والليل والنهار والدنيا والآخرة ، فقال له الملك : أخبرني من علّمك هذا ، ودلّه على الغلام فدعاه فكلّمهُ فاذا غلامٌ عاقل ، فسألهُ عن دينه فأخبره بالإسلام ومن آمن معه ، فهمّ الملك بقتلهم مخافة أن يبدل دينه فأرسل بهم إلى ذروة جبل وقال : ألقوهم من رأس الجبل ، فذهبوا بالغلام إلى أطول جبل فدعا الغلام ربَّه فأهلكهم الله سبحانه ، فغاظ الملك ذلك ، ثم أرسل معهم رجالا إلى البحر فقال : غرّقوهم فدعا الغلام ربَّه فأغرقهم ونجا هو وأصحابه ، فدخل على الملك فقال : ما فعل أصحابك الذين أرسلتهم معك ؟
فقال : أهلكهم الله ونجّاني فقال : اقتلوه بالسيف فنبا السيف عنه ، وفشا خبره بأرض اليمن وعرفه الناس فعظّموه وعلموا إنه وأصحابه على الحق فقال الغلام للملك : إنّك لا تقدر على قتلي إلاّ أن تفعل ما أقول ، قال : فكيف أقتلك ، قال : تجمع أهل مملكتك وأنت على سريرك فترميني بسهم باسم إلهي ، ففعل الملك ذلك ثم رماه باسم إله الغلام فأصابه فقتله ، فقال الناس : لا إله إلاّ إله عبدالله بن ثامر ولا دين إلاّ دينه ، فغضب الملك وأغلق الباب وأخذ أفواه السكك وخدّ أخدوداً وملأه ناراً ثم عرضهم رجلا رجلا فمن رجع عن الإسلام تركه ومن قال ديني دين عبدالله ألقاه في الأخدود فأحرقه ، وكان في مملكته امرأة أسلمت فيمن أسلم ولها أولاد ثلاثة أحدهم رضيع ، فقال لها الملك : إرجعي عن دينك وإلاّ ألقيك في النار وأولادك معك ، فأبت فأخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار ثم قال لها : إرجعي إلى دينك فأبت فألقى الثاني في النار ثم قال لها : إرجعي عن دينك فأبت فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمّت المرأة بالرجوع فقال الصبي : يا أماه لا ترجعي عن الإسلام فأنك على الحق ولا بأس عليك فأُلقي الصبي في النار وأُلقيت أمه على أثره فذلك قوله سبحانه ) قتل أصحاب الأخدود (
.
(10/173)
" صفحة رقم 174 "
وقال الضحاك : أحرق بخت نصر قوماً من المسلمين .
والأخدود : الحفرة والشق المستطيل في الأرض كالنهر وجمعه أخاديد وهو أفعول من الخد يقال خددتُ في الأرض خدّاً أي شققت وحفرت .
البروج : ( 5 ) النار ذات الوقود
) النار ذات الوقود ( قراءة العامة بفتح الواو وهو الخطب ، وقرأ أبو رجاء العطاردي بضم الواو على المصدر وقراءة العامة النار ذات بالكسر فهما على نعت الأخدود ، وقرأ أشهب العقيلي بالرفع فيهما على معنى أحرقتهم ) النار ذات الوقود ( .
قال الربيع بن أنس : كان أصحاب الاخدود قوماً مؤمنين اعتزلوا الناس في الفترة ، وأن جبّاراً من عبدة الأوثان أرسل إليهم فعرض عليهم الدخول في دينه فأبوا فخدّ أخدوداً وأوقد فيه ناراً ثم خيّرهم بين الدخول في دينه وبين إلقائهم في النار فأختاروا إلقاءهم في النار على الرجوع عن دينهم فألقوا في النار ، فنجّى الله المؤمنين الذين ألقوا في النار بأن قبض أرواحهم قبل أن تمسّهم النار وخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفار فأحرقتهم .
البروج : ( 6 - 7 ) إذ هم عليها . . . . .
) إذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ( : حضور ، وقال مقاتل : يعني يشهدون إنّ المؤمنين حين تركوا عبادة الصنم
البروج : ( 8 - 9 ) وما نقموا منهم . . . . .
) وما نقموا منهم ( : أي وما علموا فيهم عيباً ولا وجدوا لهم جرماً ولا رأوا منهم سوءاً . ) إلاّ أن يؤمنوا ( : يعني إلاّ لأن ومن أجل أن آمنوا ) بالله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض والله على كل شيء شهيد ( .
البروج : ( 10 ) إن الذين فتنوا . . . . .
) إن الذين فتنوا ( : عَذّبوا وأحرقوا ) المؤمنين والمؤمنات ( نظيره قوله سبحانه وتعالى : ) يوم هم على النار يفتنون ( ) ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ( في الآخرة ) ولهم عذاب الحريق ( في الدنيا وذلك إنّ الله سبحانه أحرقهم بتلك النار التي أحرقوا بها المؤمنين ، هذا قول ربيع وأصحابه ، وقال الآخرون : هما واحد .
أخبرني بن فنجويه قال : حدّثنا علي بن محمد بن لؤلؤ الوراق قال : حدّثنا أبو عبيد محمد ابن أحمد بن المؤمل الصيرفي قال : حدّثنا أبو جعفر محمد بن جعفر الأحول المعروف باللقوق قال : حدّثنا منصور بن عمّار قال : حدّثنا سعيد بن أبي توبة عن عبدالرحمن بن الجهم يبلغ به حذيفة بن اليمان قال : أسرَّ إليَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حديثاً في النار فقال : ( يا حذيفة إن في جهنم لسباعاً من نار وكلاباً من نار وكلاليب من نار وسيوفاً من نار وأنه يبعث ملائكة يعلّقون أهل النار بتلك الكلاليب بأحناكهم ويقطعونهم بتلك السيوف عضواً عضواً ويلقونها إلى تلك الكلاب والسباع كلما قطعوا عضواً عاد مكانه عضواً جديد )
(10/174)
" صفحة رقم 175 "
البروج : ( 11 ) إن الذين آمنوا . . . . .
) إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار وذلك الفوز الكبير ( واختلف العلماء في جواب القسم فقال بعضهم : جوابه ) قتل أصحاب الاخدود ( وفيه إضمار يعني لقد قُتل ، وقيل : فيه تقديم وتأخير تقديره : ) قتل أصحاب الأخدود ( ) والسماء ذات البروج ( .
البروج : ( 12 ) إن بطش ربك . . . . .
وقال قتادة : جوابه قوله : ) إن بطش ربّك لشديد ( أي أخذهُ بالعذاب والإنتقام .
البروج : ( 13 ) إنه هو يبدئ . . . . .
) إنّه هو يبدىءُ ويعيد ( : يعني الخلق عن أكثر العلماء ، وروى عطية العوفي عن ابن عباس : يبديء العذاب في الدنيا للكفار ثم يعيد عليهم العذاب في الآخرة .
البروج : ( 14 ) وهو الغفور الودود
) وهو الغفور الودود ( : قال ابن عباس : التودد إلى أوليائه بالمغفرة . علي عنه : الحبيب ، مجاهد : الواد ، ابن زيد : الرحيم ، وقيل : بمعنى المودود كالحلوب والركوب ، وقيل : معناه يغفر ويودُّ أن يغفر .
البروج : ( 15 ) ذو العرش المجيد
) ذو العرش المجيد ( : السرير العظيم وقال : ابن عباس وقتادة : الكريم ، واختلف القرّاء فيه فقرأ يحيى وحمزة والكسائي وخلف بجر الدال على نعت العرش . غيرهم بالرفع على صفة الغفور .
البروج : ( 16 - 17 ) فعال لما يريد
) فعّال لما يريد ، هل أتاك حديث الجنود ( ، خبر الجموع الهالكة ثم بين من هم فقال :
البروج : ( 18 - 19 ) فرعون وثمود
) فرعون وثمود بل الذين كفروا ( ، من قومك يا محمد . ) في تكذيب ( : [ واستجاب للتعذيب ) كدأب من قبلهم ،
البروج : ( 20 ) والله من ورائهم . . . . .
) والله من ورائهم مُحيط ( عالم بهم لا يخفى عليه شيءٌ من أحوالهم
البروج : ( 21 ) بل هو قرآن . . . . .
) بل هو قرآن مجيد ( كريم شريف كثير الخير وليس كما زعم المشركون ، وقال عبدالعزيز بن يحيى : مجيد يعني غير مخلوق ، وقرأ ابن السميقع : بل هو قرآن مجيد بالاضافة ، أي قرآن ربّ مجيد .
البروج : ( 22 ) في لوح محفوظ
) في لوح محفوظ ( .
قرأ يحيى بن يعمر : في لوح بضم اللام ، أي إنّه بلوح وهو ذو نور وعلو وشرف .
وقرأ الآخرون : بفتح اللام لوح محفوظ . قرأ نافع وابن مخيضر : بضم الظاء على نعت القرآن ، وقرأ الباقون : بالكسر على نعت اللوح .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا مخلد قال : حدّثنا ابن خلويه قال : حدّثنا إسماعيل قال : حدّثنا إسحاق بن بشر ، قال : أخبرني مقاتل وابن جريج عن مجاهد عن ابن عباس قال : إن في صدر اللوح لا إله إلاّ الله وحده ، ودينه الإسلام ومحمد عبده ورسوله ، فمن آمن بالله عزّوجل وصدق بوعده واتبع رسله أدخله الجنة . قال : فاللوح لوح من درة بيضاء طويلة طوله ما بين
(10/175)
" صفحة رقم 176 "
السماء والأرض وعرضه ما بين المشرق إلى المغرب ، وحافتاه الدر والياقوت ، ودفتاه ياقوتة حمراء ، وقلمه نور ، وكلامه بر معقود بالعرش ، وأصله في حجر ملك يقال له ما طريون محفوظ من الشياطين ، فذلك قوله ) بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ( لله عزّوجل فيه في كلّ يوم ثلاث مائة وستون لحظة يحيي ويميت ويعزّ ويذلُ ويفعل ما يشاء .
أخبرني عقيل إنّ المعافي أخبرهم عن محمد بن جرير قال : حدّثنا عمرو بن علي قال : سمعت قرّة بن سليمان قال : حدّثنا حرب بن سريح قال : حدّثنا عبدالعزيز بن صهّيب عن أنس بن مالك : في قوله ) هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ( . قال : إن اللوح المحفوظ الذي ذكره الله في جبهة إسرافيل . وقال مقاتل : اللوح المحفوظ عن يمين العرش .
(10/176)
" صفحة رقم 177 "
( سورة الطارق )
مكيّة ، وهي سبع عشرة آية ، واحدى وستون كلمة ، ومائتان وتسع وثلاثون حرفاً .
أخبرني أبو عثمان بن أبي بكر المقرئ قال : أخبرنا أبو عمرو بن أبي الفضل الشروطي قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك الأسدي قال : حدّثنا أبو عبدالله بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة الطارق أعطاه الله من الأجر بعدد كلّ نجم في السماء عشر حسنات ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن نصرويه قال : حدّثنا أبو العباس إسحاق بن الفضل الزيات قال : حدّثنا يوسف بن موسى القطان قال : حدّثنا الضحّاك بن مخلد عن عبدالله بن عبدالرحمن بن يعلي بن كعب عن عبدالرحمن بن خالد بن جبلة أو ابن أبي جبلة شك أبو عاصم عن أبيه قال : رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) متوكئاً على قوس في مشرقة ثقيف فقرأ : ) والسماء والطارق ( حتى ختمها ، فحفظتها في الجاهلية ، قال : فمررت في مجلس ثقيف وفيهم قوم من قريش فمنهم عتبة وشيبة وأبناء ربيعة فاستقرؤني فقرأتها عليهم فقال الثقفيون : ما نرى هذا إلاّ حقاً ، فقال القرشيون : نحن أعلم بصاحبنا لو علمنا أنه حق لتبعناه .
بسم الله الرحمن الرحيم
( ) وَالسَّمَآءِ وَالطَّارِقِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ( 2
الطارق : ( 1 ) والسماء والطارق
) والسماء والطارق ( .
نزلت في أبي طالب وذلك لأنه أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأتحفه بخبز ولبن فبينما هو جالس يأكل إذا بخط نجم فامتلأ ماءً ثمّ ناراً ففزع أبو طالب وقال : أي شيء هذا ، فقال رسول الله ( عليه السلام ) ( هذا نجم رمي به وهو آية من آيات الله تعالى ) .
(10/177)
" صفحة رقم 178 "
فعجب أبو طالب ، فأنزل الله سبحانه وتعالى ) والسماء والطارق ( ، والمعنى : يعني النجم يظهر ليلا ويخفى نهاراً ، أوكل ماجاء ليلا فقد طرق .
ومنه حديث نهي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يطرق الرجل أهله وقال : ( تستعد المغيبة وتمتشط الشعثة ) ، وقالت هند بنت عتبة يوم أحد :
نحن بنات طارق
نمشي على النمارق
تريد أن أبانا نجم في شرفه وعلوه .
وأنشدنا أبو القاسم المفسّر قال : أنشدني أبو الحسن محمد بن محمد بن الحسن قال : أنشدني أبو عبدالله محمد بن الرومي قال :
يا راقد الليل مسروراً بأوّله
إنّ الحوادث قد يطرقن أسحاراً
لا تفرحن بليل طاب أوّله
فرب آخر ليل أجج النارا
الطارق : ( 2 ) وما أدراك ما . . . . .
) وما أدرياك ما الطارق ( ثم فسره فقال عزّ من قائل :
الطارق : ( 3 ) النجم الثاقب
) النجم الثاقب ( أي المضيء المنير ، يقول العرب : أثقب نارك أي أضئها . مجاهد : المتوهج ، عطا : الثاقب الذي يرمي به الشياطين فيثقبهم : قال ابن زيد : كانت العرب تسمّي الثريا النجم ، وقيل : هو زحل سُمي بذلك لإرتفاعه ، وتقول العرب للطائر إذا لحق ببطن السماء ارتفاعاً : قد ثقب .
وروى أبو الحوراء عن ابن عباس قال : الطارق : نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم ، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها ثم رجع إلى مكانه من السماء السابعة ، وهو زحل فهو طارق حين ينزل وطارق حين يصعد .
الطارق : ( 4 ) إن كل نفس . . . . .
) إن كل نفس ( جواب القسم ) لما عليها حافظ ( قرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر وعاصم وحمزة ) لما ( بتشديد الميم ، يعنون ما كل نفس إلاّ عليها حافظ ، وهي لغة هذيل يقولون : يسديك الله لما قمت ، يعنون : إلاّ قمت ، وقرأ الآخرون : بالتخفيف جعلوا ( ما ) صلة مجازه : إنّ كل نفس لعليها حافظ .
أخبرنا محمد بن نعيم قال : أخبرنا الحسن بن أيوب قال : أخبرنا علي بن عبدالعزيز قال : حدّثنا أبو عبيد قال : حدّثنا معاذ عن ابن عون قال : قرأت عند ابن سيرين : ( إنّ كلَّ نفس لما ) فانكره وقال : سبحان الله سبحان الله فتأويل الآية كلُّ نفس عليها حافظ من ربِّها يحفظ عملها ويُحصي عليها ما يكتسب من خير وشر
(10/178)
" صفحة رقم 179 "
.
قال ابن عباس : هم الحفظة من الملائكة ، وقال قتادة : هم حفظة يحفظون عملك ورزقك وأجلك إذا توفيته يا ابن آدم قبضت إلى ربّك ، وقال الكلبي ( وحصين ) : حافظ من الله يحفظ قولها وفعلها ويحفظ حتى يدفعها ويسلمها إلى المقادير ثم تخلى عنها .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عمر بن الحطاب قال : حدّثنا عبدالله بن الفضل قال : حدّثنا سلمة بن شبيب قال : حدّثنا يحيى بن صالح قال : حدّثنا عمر بن معدان عن سلم بن عامر عن أبي أمامة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( وكّل بالمؤمن ستون ومائة ملك يذبّون عنه مالم يقدر عليه من ذلك للبصر سبعة أملاك يذبّون عنه كما يذّب عن قصعة العسل الذباب ( في اليوم الصائف ومالو بدا لكم لرأيتمونه على جبل وسهل كلهم باسط يديه فاغرفاه وما ) لو وكّل العبد إلى نفسه طرقه عين لاختطفته الشياطين ) .
2 ( ) فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَآئِبِ إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَآئِرُ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالاََرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هوَ بِالْهَزْلِ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ( 2
الطارق : ( 5 ) فلينظر الإنسان مم . . . . .
) فلينظر الإنسان ممَّ خُلق ( أي من أي شيء خلقه ربُّه ، ثم بيّن جل ثناؤه فقال سبحانه وتعالى :
الطارق : ( 6 ) خلق من ماء . . . . .
) خُلق من ماء دافق ( أي مدفوق مصبوب في الرحم وهو المني ، فاعل بمعنى مفعول كقولهم سرُّ كاتم ، وليلٌ نائم ، وهمّ ناصب ، وعيشةٌ راضية ، قال الفراء : أعان على ذلك أنها رؤوس الآيات التي معّهن .
والدفق : الصب ، تقول العرب للموج إذا علا وانحط : تدفق واندفق وأراد من مائين : ماء الرجل وماء المرأة ؛ لأن الولد مخلوق منهما ، ولكنه جعله ماء واحداً لامتزاجهما .
الطارق : ( 7 ) يخرج من بين . . . . .
) يخرج من بين الصلب والترائب ( يعني صلب الرجل وترائب المرأة ، واختلفوا في الترائب ، فقال ابن عباس : موضع القلادة ، الوالي عنه : بين ثدي المرأة ، وعن العوفي عنه : يعني بالترائب اليدين والرجلين والعينين ، وبه الضحاك ، وعن ابن عليّة عن أبي رجاء قال : سئل عكرمة عن الترائب فقال : هذه ووضع يده على صدره بين ثدييه . سعيد بن جبير : الجيد . ابن زيد : الصدر . مجاهد : ما بين المنكبين والصدر . سفيان : فوق الثديين . يمان : أسفل من التراقي . قتادة : النحر . جعفر بن سعيد : الأضلاع التي أسفل الصلب . ليث عن معمر بن أبي حبيبة المدني قال : عصارة القلب ، ومنه يكون الولد ، والمشهور من كلام العرب أنهما عظام النحر والصدر ، وواحدتها تربية . قال الشاعر
(10/179)
" صفحة رقم 180 "
وبدت كان ترائبا نحرها
جمر الغضا في ساعة يتوقّد
وقال آخر :
والزعفران على ترائبها
شرق به اللَّبات والصدر
وقال المثقب العبدي :
ومن ذهب يسن على تريب
كلون العاج ليس بذي غضون
الطارق : ( 8 ) إنه على رجعه . . . . .
) إنه على رجعهِ لقادر ( قال قتادة : إنّ الله سبحانه على بعث الإنسان واعادته بعد الموت قادر ، وقال عكرمة : إن الله سبحانه على ردِّ الماء إلى الصلب الذي خرج منه لقادر ، وعن مجاهد : على ردِّ النطفة في الإحليل ، وعن الضحاك : إنه على ردِّ الإنسان ماء كما كان قبل لقادر ، مقاتل بن حيان عنه : يقول : إنّ شئت ردرته من الكبر إلى الشباب ومن الشباب إلى الصبى ، ومن الصبى إلى النطفة ، وعن ابن زيد : أنه على حبس ذلك الماء لقادر حتى لا يخرج .
وأولى الأقاويل : بالصواب تأويل قتادة لقوله تعالى :
الطارق : ( 9 ) يوم تبلى السرائر
) يوم تبلى السرائر ( أي تظهر الخفايا ، وقال قتادة ومقاتل وسعيد بن جبير عن عطاء بن أبي رياح : السرائر : فرائض الأعمال كالصّوم والصلاة والوضوء وغسل الجنابة ، ولو شاء العبد أن يقول قد صمت وليس بصائم وقد صلّيت ولم يصلّ وقد أغتسلت ولم يغتسل لفعل .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا طلحة وابن البواب قال : حدّثنا أبو بكر بن مجاهد قال : حدّثنا إسماعيل عن عبدالله بن إسماعيل عن ابن زيد ) يوم تبلى السرائر ( قال : السرائر : الصلاة والصيام وغسل الجنابة ، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا الحسين قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال : أخبرني عروبة قال : حدّثنا هاشم بن القاسم الحراني قال : حدّثنا عبدالله بن وهب عن يحيى بن عبدالله عن أبي عبدالرحمن الجبلي عن عبدالله بن عمرو قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثلاث من حافظ عليها فهو وليّ الله حقاً ، ومن اختانهن فهو عدو الله حقاً ، الصلاة والصوم والغسل من الجنابة ) .
الطارق : ( 10 ) فما له من . . . . .
) فما له ( : يعني الإنسان الكافر ) من قوة ( تمنعه ) ولا ناصر ( : ينصره ) والسماء ذات الرجع ( أي ترجع بالغيث وأرزاق العباد كلّ عام ، لولا ذلك لهلكوا وهلكت معايشهم ، وقال ابن عباس : هو السحاب فيه المطر .
وأخبرنا ابن عبدوس قال : أخبرنا ابن محفوظ قال : حدّثنا عبدالله بن هاشم قال : حدّثنا
(10/180)
" صفحة رقم 181 "
عبدالرحمن بن مهدي عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس
الطارق : ( 11 ) والسماء ذات الرجع
) والسماء ذات الرجع ( قال : ذات المطر .
الطارق : ( 12 ) والأرض ذات الصدع
) والأرض ذات الصدع ( قال : النبات ، وقال أبو عبيدة : الرجع الماء ، وأنشد المنحل الهذلي في صفة السيف :
أبيض كالرجع رسوب إذا
ما ثاج في محتفل يختلي
وقال ابن زيد : يعني بالرجع ان شمسها وقمرها يغيب ويطلع ) والأرض ذات الصّدع ( ، أي ينصدع عن النبات والأشجار والثمار والأنهار ، نظيره قوله سبحانه ) شققنا الأرض شقا فانبتنا فيها حبا وعنبا ( إلى آخرها ، وقال مجاهد : هما السدّان بينهما طريق نافذ مثل ( ماري ) عرفة .
الطارق : ( 13 ) إنه لقول فصل
) إنّه ( : يعني القرآن ) لقول فصل ( : حق وجد وجزل يفصل بين الحق والباطل .
الطارق : ( 14 ) وما هو بالهزل
) وما هو بالهزل ( : باللعب والباطل .
الطارق : ( 15 ) إنهم يكيدون كيدا
) إنّهم ( : يعني مشركي مكّة . ) يكيدون كيدا 2 )
الطارق : ( 16 ) وأكيد كيدا
) وأكيدُ كيداً ( : وأريد بهم أمراً .
الطارق : ( 17 ) فمهل الكافرين أمهلهم . . . . .
) فمهّل الكافرين أمهلهم رويداً ( : قليلا فأخذوا يوم بدر .
(10/181)
" صفحة رقم 182 "
( سورة الأعلى )
مكيّة ، وهي : تسع عشرة آية ، واثنانوسبعون كلمة ، ومائتان واحدى وتسعون حرفاً .
أخبرني كامل بن أحمد وسعيد بن محمد بن القاسم قالوا : حدّثنا محمد بن مطر قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك قال : حدّثنا أحمد بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كبير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة الأعلى أعطاه الله من الأجر عشر حسنات ، بعدد كل حرف أنزل الله سبحانه على إبراهيم وموسى ومحمد ) .
وأخبرنا عبدالله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن عبدالله قال : حدّثنا محمد بن عبدالله قال : حدّثنا عبدالله بن عمر بن أبان قال : حدّثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا قرأ ) سبح اسم ربّك الأعلى ( قال : ( سبحان ربي الأعلى ) ، وكذلك روى عن علي وأبي وموسى وابن عمر وابن عباس وابن الزبير إنهم كانوا يفعلون ذلك ، وروي جويبر عن الضحاك أنه كان يقول ذلك ، وكان يقول من قرأها فليقرأها كذلك ، وروي عن علي بن أبي طالب إنه قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يحب هذه السورة ) سبح اسم ربك الأعلى ( وأول من قال سبحان ربي الأعلى ميكائيل . قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا جبريل أخبرني عن ثواب من قالها في صلوته أو في غير صلوته ) فقال : يا محمد ما من مؤمن ولا مؤمنة يقولها في سجوده أو في غير سجوده إلاّ كانت له في ميزانه أثقل من العرش والكرسي وجبال الدنيا ، ويقول الله سبحانه وتعالى : صدق عبدي أنا أعلى فوق كل شيء وليس فوقي شيء أشهدوا ملائكتي إنّي غفرت لعبدي وأدخلته جنتي ، فإذا مات زاره ميكائيل كل يوم فإذا كان يوم القيامة حمله على جناحه فيوقفه بين يدي الله سبحانه فيقول : يا ربّ شفّعني فيه فيقول : شفّعتك فيه اذهب به إلى الجنة .
(10/182)
" صفحة رقم 183 "
وقال عقبة بن عامر : لما نزلت ) فسبح باسم ربّك العظيم ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اجعلوها في ركوعكم ) فلما نزل ) سبح اسم ربّك الأعلى ( قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( اجعلوها في سجودكم ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الاََعْلَى الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِىأَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَآءً أَحْوَى سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الاَْشْقَى الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا ( 2
الأعلى : ( 1 ) سبح اسم ربك . . . . .
) سبح اسم ربّك الأعلى ( يعني قل : سبحان ربّي الأعلى ، وإلى هذا التأويل ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ، وقال قوم معناه : نزّه ربّك الأعلى عما يقول فيه الملحدون ويصفه به المبطلون ، وجعلوا الاسم صلة ، ويجوز أن يكون معناه ، نزّه ذات ربّك عما لا يليق به ، لأن الاسم والذات والنفس عبارة عن الوجود والإثبات .
وقال آخرون : نزّه تسمية ربّك وذكرك إياه إن تذكره إلاّ وأنت خاشع معظّم ولذكره محترم ، وجعلوا الاسم بمعنى التسمية ، وقال الفراء : سواء قلت سبح اسم ربّك أو سبح باسم ربّك إذا أردت ذكره وتسبحيه ، وقال ابن عباس : صلِّ بأمر ربّك الأعلى .
الأعلى : ( 2 ) الذي خلق فسوى
) الذي خلق فسوّى ( فعدل الخلق
الأعلى : ( 3 ) والذي قدر فهدى
) والذي قدّر ( خفّف عليّ والسلمي والكسائي داله ، وشدَّدها الآخرون .
) فهدى ( : قال مجاهد : هدى الإنسان لسبيل الخير والشر والسعادة والشقاوة وهدى الأنعام لمراتعها ، وقال مقاتل والكلبي : عرّف خلقه كيف يأتي الذكر الانثى ، وعن عطاء قال : جعل لكل دابة ما يصلحها وهذا حاله ، وقيل : هدى لإكتساب الأرزاق والمعاش ، وقيل : خلق المنافع في الأشياء وهدى الإنسان لوجه إستخراجها منه ، وقيل : هدى لدينه مَنْ يشاء من خلقه . قال السدي : قدر الولد في الرحم تسعة أشهر ، أقل ، أو أكثر ، وهدى للخروج من الرحم .
وقال الواسطي : قدّر السعادة والشقاوة عليهم ثم يسّر لكل واحد من الطالعين سلوك ما قدّر عليه ، وقيل : قدّر الأرزاق فهداهم لطلبها ، وقيل : قدّر الذنوب على عباده ثم هداهم إلى التوبة .
الأعلى : ( 4 ) والذي أخرج المرعى
) والذي أخرج المرعى ( النبات من بين أخضر وأصفر وأحمر وأبيض
(10/183)
" صفحة رقم 184 "
الأعلى : ( 5 ) فجعله غثاء أحوى
) فجعله غثاءً ( هشيماً بالياً ، ) أحوى ( أسود إذا هاج وعتق .
الأعلى : ( 6 - 7 ) سنقرئك فلا تنسى
) سنقرئك ( : سنعلمك ويقرأ عليك جبريل ، ) فلا تنسى إلاّ ما شاء الله ( أن تنساه وهو ما ننسخه من القرآن ، وهذا معنى قول قتادة ، وقال مجاهد والكلبي : كان النبي ( عليه السلام ) إذا نزل جبريل بالقرآن لم يفرغ من آخر الآية حتى يتكلم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأوله مخافة أن ينساها فأنزل الله تعالى : ) سنقرئك فلا تنسى ( فلم ينس بعد ذلك شيئاً ، ووجه الاستثناء على هذا التأويل ما قاله الفراء : لم يشأ أن ينسى شيئاً ، وهو كقوله سبحانه : ) خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلاّ ما شاء ربّك ( ، وأنت تقول في الكلام لأعطينّك كل ما سألت إلاّ ما شاء أن أمنعك والنية أن لا تمنعه ، وعلى هذا مجاري الأيمان يستثنى فيها ونية الحالف النمّام .
وسمعت محمد بن الحسن السلمي يقول : سمعت محمد بن الحسن البغدادي يقول : سمعت محمد بن عبدالله الفرغاني يقول : كان يغشي الجنيد في مجلسه أهل النسك من أهل العلوم وكان أحد مَنْ يغشاه ابن كيسان النحوي ، وكان في وقته رجلا جليلا فقال له يوماً : يا أبا القاسم ما تقول في قوله سبحانه : ) سنقرئك فلا تنسى ( فأجابه مسرعاً كأنه تقدم له السؤال قبل ذلك بأوقات : لا تنسى العمل به ، فأعجب ابن كيسان به إعجاباً شديداً وقال : لا يفضض الله فاك مثلك من يصدر عن رأيه .
) إنّه يعلم الجهر ( من القول والفعل ) وما يخفى ( : قال محمد بن حامد : يعلم إعلان الصدقة واخفاءها .
الأعلى : ( 8 ) ونيسرك لليسرى
) ونيسرك لليسرى ( لعمل الجنّة ، وقيل : هو متصل بالكلام الأول معناه : نعلم الجهر مما تقرأه يا محمد على جبريل إذا فرغ من التلاوة عليك ، وما يخفى ما تقرأه في نفسك مخافة ان تنساه . ثم وعده فقال : ) ونيسرك لليسرى ( أي يهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعلمه وتعمل به ، وقيل : ويوفقك للشريعة اليسرى ، وهي الحنفية السمحة .
الأعلى : ( 9 ) فذكر إن نفعت . . . . .
) فذّكر ( عظ بالقرآن ) إن نفعت الذكرى ( التذكر
الأعلى : ( 10 ) سيذكر من يخشى
) سيذكر ( سيتّعظ ) من يخشى ( الله سبحانه
الأعلى : ( 11 ) ويتجنبها الأشقى
) ويتجنيها ( يعني ويتجنب التذكرة ويتباعد عنها . ) الأشقى ( الشقي في علم الله سبحانه .
الأعلى : ( 12 - 13 ) الذي يصلى النار . . . . .
) الذي يصلى النار الكبرى ثم لا يموت فيها ( فيستريح ) ولا يحيى ( أي حياة تنفعه .
وسمعت السلمي يقول : سمعت منصور بن عبدالله يقول : سمعت أبا القاسم البزاز يقول : قال إبن عطا : لا يحيى فيستريح عن القطيعة ولا يحيا فيصل إلى روح الوصلة .
( ) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى
(10/184)
" صفحة رقم 185 "
إِنَّ هَاذَا لَفِى الصُّحُفِ الاُْولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ( 2
الأعلى : ( 14 ) قد أفلح من . . . . .
) قد أفلح من تزكى ( : أي تطهّر من الشرك وقال : لا إله إلاّ الله ، هذا قول عطاء وعكرمة ورواية الوالي عن ابن عباس وسعيد بن جبير عنه أيضاً ، وقال الحسن : من كان عمله زاكياً ، وعن قتادة : عمل صالحاً وورعاً ، وعن أبو الأحوص : رضح من ماله وادّى زكاة ماله ، وكان ابن مسعود يقول : رحم الله إمرءاً تصدّق ثم صلّى ثم يقرأ هذه الآية ، وقال آخرون : هو صدقة الفطر ، وروى أبو هارون عن أبي سعيد الخدري ، في قوله سبحان : ) قد أفلح من تزكى ( قال : أعطى صدقة الفطر .
الأعلى : ( 15 ) وذكر اسم ربه . . . . .
) وذكر اسم ربّه فصلّى ( قال : خرج إلى العيد فصلى .
وروى عبيدالله بن عمر عن نافع قال : كان ابن عمر إذا صلّى الغداة يعني من يوم العيد قال : يا نافع أخرجت الصدقة فإن قلت نعم مضى إلى المصلّى وإن قلت لا قال : فالآن فأخرج ، فإنما نزلت هذه الآية في هذا ) قد أفلح من تزّكى ( ) وذكر إسم ربّه فصلّى ( : وروى مروان بن معاوية عن أبي خالد قال : دخلت على أبي العالية فقال لي : إذا غدوت غداً إلى العيد فمرّ بي ، قال : فمررت به فقال : هل طمعت شيئاً ؟ قلت : نعم ، قال : أفضت على نفسك من الماء ، قلت : نعم ، قال : فأخبرني ما فعلت زكاتك ؟ قلت : قد وجهتها قال : إنما أردتك لهذا ثم قرأ ) قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلّى ( وقال : إنّ أهل المدينة لا يرون صدقة أفضل منها ومن سقاية الماء ، ودليل هذا التأويل ما أخبرني الحسين قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن علي الهمداني قال : حدّثنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن إسحاق الأصبهاني قال : حدّثنا حاتم بن يونس الجرجاني قال : حدّثنا دحيم قال : حدّثنا عبدالله بن نافع عن كثير بن عبدالله عن أبيه عن جدّه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله : ) قد أفلح من تزكى ( قال : ( أخرج زكاة الفطر ، وخرج إلى المصلى فصلّى ) .
قلت : ولا أدري ما وجه هذا التأويل ، لأن هذه السورة مكيّة بالإجماع ولم يكن بمكّة عيد ، ولا زكاة فطر والله أعلم .
) وذكر إسم ربّه ( : أي وذكر ربّه ، وقيل : وذكر تسمية ربّه ، وقيل : هو تكبير العيد ، فصلّى صلاة العيد ، وقيل : الصلوات الخمس . يدل عليه ما أخبرنا عبدالله بن حامد قال : أخبرنا أحمد ابن عبدالله قال : حدّثنا محمد بن عبدالله قال : حدّثنا عباد بن أحمد العمري قال : حدّثنا عمّي محمد بن عبدالرحمن عن أبيه عن عطاء بن السائب عن ابن سابط عن جابر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) قد أفلح من تزكى ( قال : ( من شهد أن لا إله إلاّ الله وخلع الأنداد وشهد أني رسول الله ) ) وذكر اسم ربّه فصلّى ( قال
(10/185)
" صفحة رقم 186 "
( هي الصلوات الخمس ، والمحافظة عليها حين ينادى بها ، والإهتمام بمواقيتها ، وقيل : الصلاة ههنا الدعاء .
الأعلى : ( 16 ) بل تؤثرون الحياة . . . . .
) بل تؤثرون ( ، قراءة العامة : بالتاء وتصديقهم قراءة أُبيّ بن كعب ، بل وأنتم تؤثرون ، وقرأ أبو عمرو بالياء ، يعني الاشقين . قال عرفجة الأشجعي : كنا عند إبن مسعود ، فقرأ هذه الآية ، فقال لنا : أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة . قلنا : لا ، قال : لأن الدنيا أحضرت لنا ، وعُجّل لنا طعامها وشرابها نساؤها ( ولذتها وبهجتها ، وإن الآخرة غيبت لنا وزويت عنا ، فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل ) .
الأعلى : ( 17 - 18 ) والآخرة خير وأبقى
) والآخرة خيرٌ وأبقى إنّ هذا ( الذي ذكرت في هذه السورة ، وقال الكلبي : يعني من قوله : ) قد أفلح من تزكّى ( إلى آخر السورة ، وقال ابن زيد يعني قوله : ) والآخرة خيرٌ وأبقى ( قال قتادة : تتابعت كتب الله كما تسمعون إنّ الآخرة خيرٌ وأبقى .
الضحّاك : إنّ هذا القرآن ، ) لفي الصُحُف ( الكتب ) الأُولى ( واحدتها صحيفة ،
الأعلى : ( 19 ) صحف إبراهيم وموسى
) صحف إبراهيم ومُوسى ( يقال : إنّ في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظاً للسانه عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه ، وقال أبو ذر : قلت : يا رسول الله كم الأنبياء ؟ قال : ( مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ) قال : قلت : يا رسول الله كم المرسلون منهم ؟
قال : ( ثلاثمائة وثلاثة عشر وبقيّتهم أنبياء ) قلت : أكان آدم نبياً ؟ قال : نعم كلمه الله سبحانه وخلقه بيده ، يا أبا ذر أربعة من الأنبياء عرب : هود وصالح وشعيب ونبيك . قلت : يا رسول الله كم أنزل الله من كتاب ؟
قال : ( مائة وأربع كتب ، منها على آدم عشر صحف ، وعلى شيث خمسين صحيفة ، وعلى أخنوح ، وهو إدريس ثلاثين صحيفة ، وهو أوّل من خطّ بالقلم ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان ) .
(10/186)
" صفحة رقم 187 "
( سورة الغاشية )
مكّية ، وهي ست وعشرون آية ، واثنتانوتسعون كلمة ، وثلاثمائة وأحد وثمانون حرفاً
أخبرني محمّد بن القاسم قال : حدّثنا إسماعيل بن مجيد قال : حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن سعيد قال : حدّثنا سعيد بن حفص قال : قرأت على معقل بن عبدالله عن عكرمة بن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة الغاشية حاسبه الله حساباً يسيراً ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
2 ( ) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ ءَانِيَةٍ لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِى مِن جُوعٍ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الاَْرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ( 2
الغاشية : ( 1 ) هل أتاك حديث . . . . .
) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ( يعني القيامة يغشي كلّ شيء إلاّ هو ، هذا قول أكثر المفسّرين .
وقال سعيد بن جبير ومحمّد بن كعب : الغاشية النار . دليله قوله سبحانه : ) وتغشى وجوههم النار ( .
الغاشية : ( 2 ) وجوه يومئذ خاشعة
) وُجُوهٌ يَوْمَئِذ ( يعني يوم القيامة ، وقيل : في النار ) خَاشِعَةٌ ( ذليلة
الغاشية : ( 3 ) عاملة ناصبة
) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ( قال بعضهم : يعني عاملة في النار ناصبة فيها ، قال الحسن وسعيد بن جبير : لم تعمل لله سبحانه وتعالى في الدنيا ، فأعملها وأنصبها في النار لمعالجة السلاسل والأغلال ، وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس قال قتادة : نكرت في الدنيا من طاعة فأعملها وأنصبها في النار .
وقال الكلبي : يُجرّون على وجوههم في النار . الضحّاك : يكلّفون ارتقاء جبل من حديد في النار ، والنصّب الدؤوب في العمل
(10/187)
" صفحة رقم 188 "
وقال عكرمة والسدّي : عاملة في الدنيا بالمعاصي ، ناصبة في النار يوم القيامة ، وقال سعيد ابن جبير وزيد بن أسلم : هم الرهبان وأصحاب الصوامع ، وهي رواية أبي الضحى عن ابن عبّاس .
الغاشية : ( 4 ) تصلى نارا حامية
) تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً ( قال ابن مسعود : تخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل .
قراءة العامّة بفتح التاء ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب وأبو بكر بضمّها اعتباراً بقوله :
الغاشية : ( 5 ) تسقى من عين . . . . .
) تُسْقَى مِنْ عَيْن آنِيَة ( حارّة . قال قتادة : قد أتى طبخها منذ خلق الله السماوات والأرض .
الغاشية : ( 6 ) ليس لهم طعام . . . . .
) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيع ( قال محمد وعكرمة وقتادة : وهو نبت ذو شوك لاطي بالأرض تسمّيه فرش الشرق ، فإذا هاج سمّوه الضريع ، وهو أخبث طعام وأبشعه ، وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس ، الوالي عنه : هو شجر من نار ، وقال ابن زيد : أمّا في الدنيا فإنّ الضريع الشوك اليابس الذي ليس له ورق ، تدعوه العرب الضريع ، وهو في الآخرة شوك من نار .
وقال الكلبي : لا تقربه دابّة إذا يبس ، ولا يرعاه شيء ، وقال سعيد بن جبير هو الحجارة ، عطاء عن ابن عبّاس : هو شيء يطرحه البحر المالح ، يسمّيه أهل اليمن الضريع ، وقد روي عن ابن عبّاس عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه قال : ( الضريع شيء يكون في النار شبه الشوك ، أمرّ من الصبر وأنتن من الجيفة وأشدّ حرّاً من النار ) سمّاه النبيّ ضريعاً ، وقال عمرو بن عبيد : لم يقل الحسن في الضريع شيئاً ، إلاّ أنّه قال : هو بعض ما أخفى الله من العذاب ، وقال ابن كيسان : هو طعام يضّرعون منه ويذلّون ويتضرّعون إلى الله سبحانه ، وعلى هذا التأويل يكون المعنى المضرّع .
وقال أبو الدرداء والحسن : يُقبّح الله سبحانه وجوه أهل النار يوم القيامة يشبهها بعملهم القبيح في الدنيا ، ويُحسن وجوه أهل الجنّة يشبّهها بأعمالهم الحسنة في الدنيا ، وأنّ الله سبحانه يرسل على أهل النار الجوع حتّى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب ، فيستغيثون فيُغاثون بالضريع ويستغيثون فيُغاثون بطعام ذي غصّة ، فيذكرون أنّهم كانوا يخبزون الغصص في الدنيا بالماء فيستسقون بعطشهم ألف سنة ، ثمّ يُسقون من عين آنية لا هنيّة ولا مريّة ، فكلّما أدنوه من وجوههم سلخ جلودَ وجوههم وشواها ، فإذا وصل إلى بطونهم قطّعها ، فذلك قوله سبحانه : ) وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم ( .
قال المفسِّرون : فلمّا نزلت هذه الآية قال المشركون : إنّ إبلنا لتسمن على الضريع ، فأنزل الله سبحانه :
الغاشية : ( 7 ) لا يسمن ولا . . . . .
) لاَ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِنْ جُوع ( ويقول : فإنّ الإبل ترعاهُ ما دام رطباً ، فإذا يبسَ فلا يأكلهُ شيء ورطبه يسمّى شبرقاً لا ضريعاً
(10/188)
" صفحة رقم 189 "
الغاشية : ( 8 - 9 ) وجوه يومئذ ناعمة
) وُجُوهٌ يَوْمَئِذ نَاعِمَةٌ لِسَعْيِهَا ( في الدنيا ) رَاضِيَةٌ ( في الآخرة حين أُعطيت الجنّة بعملها ومجازات لثواب سعيها في الآخرة راضية
الغاشية : ( 10 - 11 ) في جنة عالية
) فِي جَنَّة عَالِيَة لاَ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً ( لغو وباطل ، وقيل : حلف كاذب .
الغاشية : ( 12 - 15 ) فيها عين جارية
) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ وَنَمَارِقُ ( ووسائد ومرافق ) مَصْفُوفَةٌ ( بعضها بجنب بعض ، واحدتها نمرقة . قال الشاعر :
كهول وشبّان حسان وجوههم
على سرر مصفوفة ونمارق
الغاشية : ( 16 ) وزرابي مبثوثة
) وَزَرَابِيُّ ( يعني البسط العريضة . قال ابن عبّاس : هي الطنافس التي لها خمل رقيق ، واحدتها زريبة . ) مَبْثُوثَةٌ ( مبسوطة وقيل : متفرّقة في المجالس .
الغاشية : ( 17 ) أفلا ينظرون إلى . . . . .
) أَفَلاَ يَنْظُرُونَ ( الآية ، قال المفسِّرون لمّا نعت الله ما في الجنّة في هذه السورة عجب من ذلك أهل الكفر والضلالة وكذبوا بها ، فذكرهم الله سبحانه صنعهُ فقال عزَّ من قائل : ) أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الاْبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ( .
وكانت الإبل من عيش العرب ومن حولهم ، وتكلّمت الحكماء في وجه تخصيص الله سبحانه الإبل من بين سائر الحيوانات ، فقال مقاتل : لأنّهم لم يروا قط بهيمةً أعظم منها ، ولم يشاهدوا الفيل إلاّ الشاذّ منهم ، وقال الكلبي : لأنّها تنهض بحملها وهي باركة ؛ لأنّه وليس شيء من الحيوانات سابقها ولا سائقها غيرها ، وقال قتادة : ذكر الله سبحانه ارتفاع سرر الجنّة وفرشها فقالوا : كيف نصعد ؟ فأنزل الله سبحانه هذه الآية .
وسُئل الحسن عن هذه الآية وقيل له : الفيل أعظم في الاعجوبة ؟ فقال : أمّا الفيل فالعرب بعيدو العهد بها ، ثمّ هو خنزير لا يركب ظهرها ولا يأكل لحمها ولا يُحلب درها ، والإبل من أعزّ مال العرب وأنفسه .
وقال الحسن : إنّما يأكلون النوى والقت ويخرج اللبن ، وقيل : لأنّها في عظمة تلين للحمل الثقيل وتنقاد للقائد الضعيف حتّى أنّ الصبي الصغير يأخذ بزمامها فيذهب بها حيث يشاء .
وحكى الأُستاذ أبو القاسم بن حبيب أنّه رأى في بعض التفاسير أنّ فأرة أخذت بزمام ناقة ، فجعلت تجرّ بها والناقة تتبعها ، حتّى دخلت الجحر فجرّت الزمام فتحرّكت فجرّته فقربت فمها من جحر الفأر . فسبحان الذي قدّرها وسخّرها .
أخبرنا عبدالله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن عبدالله قال : حدّثنا محمد بن العلاء قال : حدّثنا وكيع عن يونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن شريح أنّه كان يقول : اخرجوا بنا إلى الكناسة حتّى ننظر إلى الإبل كيف خُلقت
(10/189)
" صفحة رقم 190 "
وقيل : الإبل هاهنا السحاب ، ولم أجد لذلك أصلاً في كتب الأئمّة
الغاشية : ( 18 - 20 ) وإلى السماء كيف . . . . .
) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الاْرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ( بسطت ، وقال أنس بن مالك : صلّيت خلف علي بن أبي طالب فقرأ ) أفلا تنظرون إلى الإبل كيف خلقت ( وكذلك رُفعت ونُصبت وسطّحت برفع التاء ، وقرأ الحسن سطّحت بالتشديد .
2 ( ) فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيْعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الاَْكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ( 2
الغاشية : ( 21 - 22 ) فذكر إنما أنت . . . . .
) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِر ( بمسلّط جبّار يكرههم على الإيمان ، ثمّ نسخ ذلك بآية القتال وقرأها هارون بمسيطَر ( بفتح الطاء ) وهي لغة تميم .
الغاشية : ( 23 ) إلا من تولى . . . . .
) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ ( اختلفوا في وجه هذا الاستثناء ، فقال بعضهم : هو راجع إلى قوله : ) فذكِّر ( ومجاز الآية : فذكّر قومك إلاّ من تولّى وكفر منهم ، فإنّه لا ينفعه التذكير ، وقيل معناه لست عليهم بمسيطر إلاّ على من تولّى وكفر ، فانّك تقاتله حتّى يسلم ، وقيل : هو راجع إلى ما بعده ، وتقديره : لكن من تولّى وكفر .
الغاشية : ( 24 ) فيعذبه الله العذاب . . . . .
) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذَابَ الاْكْبَرَ ( وهو النار ، وانّما قال : ) الأكبر ( لأنّهم عذّبوا في الدنيا بالجوع ، والقحط ، والقتل ، والأسر ، ودليل هذا التأويل قراءة ابن مسعود ( إلاّ من تولّى وكفر فإنّه يعذّبه الله العذاب الأكبر ) .
الغاشية : ( 25 ) إن إلينا إيابهم
) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ( رجوعهم ومعادهم ، وقرأ أبو جعفر بتشديد الياء ، قال أبو حاتم : لا يجوز ذلك ولو جاز فيه لجاز في الصيام والقيام .
الغاشية : ( 26 ) ثم إن علينا . . . . .
) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ( .
(10/190)
" صفحة رقم 191 "
( سورة الفجر )
مكّية ، وهي خمسمائة وسبعة وتسعون حرفاً ومائة وتسع وثلاثون كلمة ، وثلاثون آية .
أخبرني نافل بن راقم بن أحمد البابي قال : حدّثنا محمد بن محمد بن سادة قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن الحسن قال : حدّثنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا سلمة بن قتيبة عن شعبة عن عاصم بن هدله عن زر بن حبيش عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة والفجر في الليالي العشر غفر له ومن قرأها سائر الأيّام كانت له نوراً يوم القيامة ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
2 ( ) وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَالَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِى ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ ( 2
الفجر : ( 1 ) والفجر
) وَالْفَجْرِ ( قال ابن عبّاس : يعني النهار كلّه ، عطية عنه ، صلاة الفجر ، عثمان بن محصن عنه : فجر المحرّم ومثله قال قتادة : هو أوّل يوم من المحرّم تتفجر منه السنة . ضحاك : فجر ذي الحجّة ؛ لأنّ الله سبحانه قرن الأيّام بها . عكرمة وزيد بن أسلم : الصبح . مقاتل : عداهُ جميع كلّ سنة . القرظي : انفجار الصبح من كلّ يوم إلى انقضاء الدُّنيا . في بعض التفاسير : أنّ الفجر الصخور والعيون تتفجّر بالمياه .
الفجر : ( 2 ) وليال عشر
) وَلَيَال عَشْر ( قال مجاهد وقتادة والضحّاك والكلبي والحلبي : هي عشر ذي الحجّة ، عكرمة : ليالي الحجّ ، وقال مسروق : هي أفضل أيّام السنة . أبو روق عن الضحّاك : هي العشر الأُول من شهر رمضان ، أبو ظبيان عن ابن عبّاس قال : هي العشر الأواخر من شهر رمضان ، يمان بن رباب : العشر الأُولى من المحرّم التي عاشرها يوم عاشوراء .
أخبرني الحسن قال : حدّثنا بن حمدان قال : حدّثنا موسى بن إسحاق الأنصاري قال : حدّثنا منجاب بن الحرث قال : أخبرنا بشر بن عمارة قال : حدّثنا عمر بن حسّان عن عطية العوفي في قوله سبحانه : ) والفجر ( قال : هو الفجر الذي تعرفون ، قلت : ) وليال عشر ( قال :
(10/191)
" صفحة رقم 192 "
عشر الأضحى ، قلت :
الفجر : ( 3 ) والشفع والوتر
) وَالشَّفْعِ ( قال : خَلْقه ، يقول الله سبحانه : ) وخلقناكم أزواجاً ( ، قلت : ) وَالْوَتْرِ ( قال : الله وتر ، قلت له : هل تروي هذا الحديث عن أحد من أصحاب النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : نعم ، قلت : عمّن ؟ قال : عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( 140 ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن نصرويه قال : حدّثنا ابن وهب قال : حدّثنا أحمد بن يحيى بن سعيد القطان وعبدة بن عبدالله بن النعمان قالا : حدّثنا أبو الحسين زيد بن الحبّاب العكلي قال : حدّثنا عبّاس بن عقبة قال : حدّثني حسين بن نعيم الحضرمي عن أبي الزبير عن جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قول الله سبحانه : ) والفجر وليال عشر ( قال : ( عشر النحر ، والوتر يوم عرفة ، والشفع يوم النحر ) .
وبه عن ابن وهب قال : حدّثنا يوسف بن عبد الرحمن قال : حدّثنا سعيد بن مسلمة الأُموي قال : حدّثنا واصل بن السائب الرقاشي قال : حدّثني أبو سودة قال : حدّثني أبو أيّوب الأنصاري قال : سُئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن قوله سبحانه وتعالى : ) والشفع والوتر ( قال : ( الشفع يوم عرفة ويوم الأضحى ، والوتر ليلة النحر ) .
وأخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل الفهندري قال : حدّثنا أبو الطاهر المحمد آبادي قال : حدّثنا عثمان بن سعيد قال : حدّثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدّثنا خالد بن قيس وهمام بن يحيى قالا : حدّثنا قتادة عن عمران بن عاصم عن عمران بن حصين أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) سُئل عن الشفع والوتر فقال : ( هي الصلاة منها الشفع ومنها الوتر ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن لؤلؤ قال : حدّثنا الهيثم قال : حدّثنا الدوّرقي قال : حدّثنا حجّاج عن ابن جريح قال : أخبرني محمد بن المرتفع أنّه سمع ابن الزبير يقول : والشفع النفر الأوّل والوتر ( يوم ) النفر الآخر .
وأخبرني الحسن قال : حدّثنا محمّد بن علي بن الحسن الصوفي قال : حدّثنا أحمد بن كثير القيسي قال : حدّثنا محمد بن عبدالله المقرئ قال : حدّثنا مروان بن معاوية الفزاري عن أبي سعيد بن عوف قال : سمعت عبدالله بن الزبير يقول على المنبر : يا معشر الحاجّ إنّكم جئتم من القريب والبعيد على الضعيف والشديد ، فأسهرتم الأعين وأنصبتم الأنفس وأتعبتم الأبدان ، فلا يبطلنّ أحدكم حجّه وهو لا يشعر ، ينظر نظرة بعينه أو يبطش بطشة بيده ، أو يمشي مشية برجله
(10/192)
" صفحة رقم 193 "
يا أهل مكّة وسّعوا عليهم ما وسّع الله عليكم وأعينوهم ما استعانوكم عليه ، فإنّهم وفد الله وحاجّ بيت الله ولهم عليكم حقّ ، فاسألوني فعلينا كان التنزيل ، ونحن حصرنا التأويل ، فقام إليه رجل من ناحية زمزم فقال : دخلت فأرة جرابي وأنا محرم ؟ فقال : اقتلوا الفويسقة ، فقام آخر فقال : أخبرنا بالشفع والوتر والليالي العشر فقال : أمّا الشفع والوتر فقول الله سبحانه : ) فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه ( فهما الشفع والوتر ، وأمّا الليالي العشرة فالثمان وعرفة والنحر ، فقام آخر فقال : أخبرنا عن يوم الحجّ الأكبر ؟ فقال : هو يوم النحر ثلاث تتلوها .
وقال مجاهد ومسروق وأبو صالح : الشفع الخلق كلّه ، قال الله سبحانه : ) ومن كلّ شيء خلقنا زوجين ( الكفر والإيمان والشقاوة والسعادة والهدى والضلالة والليل والنهار والسماء والأرض والبرّ والبحر والشمس والقمر والجنّ والإنس ، والوتر الله سبحانه ، قال الله تعالى : ) قل هو الله حد ( .
الحسن وابن زيد : أراد بالشفع والوتر الخلق كلّه ، منه شفع ووتر .
عطية عن ابن عبّاس : الشفع صلاة الغداة والوتر صلاة المغرب . قتادة عن الحسن : هو العدد منه شفع ومنه وتر . مقاتل : الشفع هو آدم وحواء ، والوتر هو الربّ تبارك وتعالى ، وقيل : الوتر آدم شفّعه الله بزوجته حواء .
إبراهيم والقرظي : الزوج والفرد . الربيع عن أبي العالية : الشفع ركعتان من صلاة المغرب والوتر الركعة الثالثة ، وقيل : الشفع الصفا والمروة والوتر البيت ، الحسين بن الفضل : الشفع درجات الجنان ؛ لأنّها ثمان والوتر دركات النار ؛ لأنّها سبع ، كأنّه الله سبحانه وتعالى أقسم بالجنّة والنار .
مقاتل بن حيان : الشفع الأيّام والليالي ، والوتر اليوم الذي لا ليلة بعده وهو يوم القيامة .
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبا عبدالله محمد بن نافع الشجري يقول : سمعت أبا زيد حاتم بن محبوب السامي يقول : سمعت عبد الجبّار بن العلاء العطّار يقول : سمعت سفيان بن عيينة يقول : الوتر هو الله عزّوجلّ وهو الشفع أيضاً ؛ لقوله : ) ما يكون من نجوى ثلاثة إلاّ هو رابعهم ( وسمعت أبا القاسم يقول : سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن محمد ابن يزيد يقول : سمعت أبا عبدالله بن أبي بكر الورّاق يقول : سُئل أبو بكر عن الشفع والوتر فقال : الشفع تضاد أوصاف المخلوقين العزّ والذلّ والقدرة والعجز والقوّة والضعف والعلم
(10/193)
" صفحة رقم 194 "
والجهل والبصر والعمى ، والوتر انفراد صفات الله سبحانه عزٌّ بلا ذلّ ، وقدرة بلا ضعف ، وعِلم بلا جهل ، وبصر بلا عمى وحياة بلا موت وما إزاءها .
وقيل : الشفع مسجد مكّة والمدينة ، والوتر مسجد بيت المقدس ، وقيل : الشفع القرآن في الحجّ والتمتّع فيه ، والوتر الإفراد فيه ، وقال ابن عطاء ) والفجر ( محمّد صلّى الله عليه ؛ لأنّ به تفجّرت أنوار الإيمان وغابت ظُلَم الكفر .
) وليال عشر ( ليالي موسى التي أكمل بها ميعاده بقوله تعالى : ) وأتممناها بعشر ( ، والشفع : الخلق والوتر : الحقّ ، وقيل : الشفع الفرائض والوتر السنن ، وقيل : الشفع الأفعال والوتر النيّة ، وهو الإخلاص ، وقيل : الشفع العبادة التي تتكرّر ، كالصلاة والصوم والزكاة ، والوتر : العبادة التي لا تتكرّر كالحجّ ، وقيل : الشفع النفس والروح إذا كانتا معاً ، والوتر الروح بلا نفس والنفس بلا روح ، فكأنّ الله سبحانه أقسم بها في حالتي الاجتماع والافتراق .
واختلف القرّاء في الوتر ، فقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وخلف : بكسر الواو ، وهو اختيار أبي عبيد ، قال : لأنّها أكثر في العامّة وأفشى ، ومع هذا إنّا تدبّرنا الآثار التي جاء فيها ذكر وتر الصلاة فوجدنا كلّها بهذه اللغة ولم نسمع في شيء منه الوتر بالفتح ، ووجدنا المعنى في الوتر جميعاً الذي في الصلاة والذي في السورة ، وإن تفرّقا في الفرع فإنّهما في الأصل واحد إنّما تأويله الفرد الذي هو ضدّ الشفع ، وقرأ الباقون بفتح الواو ، وهي لغة أهل الحجاز واختيار أبي حاتم وهما لغتان مستفيضتان .
الفجر : ( 4 ) والليل إذا يسر
) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ( قال أكثر المفسّرين : يعني إذا سار فذهب ، وقال قتادة : إذا جاء وأقبل . قال مجاهد وعكرمة والكلبي : هي ليلة المزدلفة .
واختلف القرّاء في قوله : ) يسر ( فقرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعيسى بالياء في الوصل ، وهي اختيار أبي حاتم ورواية قتيبة ونصير والشرياني عن الكسائي قال أبو عبيد : كان الكسائي فترة يقول : أثبت الياء بالوصل واحذفها في الوقف لمكان الكتاب ، ثمّ رجع إلى حذف الياء في الحالين جميعاً ؛ لأنّها رأس آية ، وهي قراءة ابن عامر وعاصم واختيار أبي عبيد اتباعاً للخط ، وقرأ ابن كثير ويعقوب الياء في الحالين على الأصل ، قال الخليل بن أحمد : أسقط الياء منه وفاقاً لرؤوس الآي .
وقال أكثر أهل المعاني : يعني يسري فيه كقولهم : ليلٌ نائم ونهارٌ صائم وسر كاتم . قال الفراء : يحذف العرب الياء ويكتفي بكسر ما قبلها . أنشدني بعضهم
(10/194)
" صفحة رقم 195 "
كفّاك كفّ ما تلقي درهما
جوداً وأُخرى تعط بالسيف الدما
وقال آخر :
ليس يخفى سادتي قدر قوم
ولعل يخف سئمتي إعساري
وقال المؤرّخ : سألت الأخفش عن العلّة في سقوط الياء من يسر ، فقال : لا أُجيبك ما لم تبت على باب داري سنة . فبتُّ سنة على باب داره ثمّ سألته فقال : الليل لا يسري ، وانّما يُسرى فيه وهو مصروف فلمّا صرفه بخسه حظّه من الإعراب ، ألا ترى إلى قوله : ) وما كانت أُمّك بغيا ( ؟ ولم يقل بغية ؛ لأنّه صرّفه من باغية .
الفجر : ( 5 ) هل في ذلك . . . . .
) هَلْ فِي ذَلِكَ ( الذي ذكرت ) قَسَمٌ ( أي مقنع ومكتف في القسم ) لِذِي حِجْر ( عقل سمّي بذلك ؛ لأنّه يحجر صاحبه ممّا لا يحلّ ولا يجمل كما سمّي عقلاً ؛ لأنّه يعقله عن القبائح والفضائح ، ونهيٌ لأنّه نهى عمّا لا ينبغي ، وأصل الحجر المنع ، يقال للرجل إذا كان مالكاً قاهراً ضابطاً له : إنّه لذو حجر ، ومنه قولهم : حجر الحاكم على فلان .
2 ( ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِى لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِى الْبِلَادِ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ وَفِرْعَوْنَ ذِى الاَْوْتَادِ الَّذِينَ طَغَوْاْ فِى الْبِلَادِ فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّىأَكْرَمَنِ ( 2
الفجر : ( 6 - 7 ) ألم تر كيف . . . . .
) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَاد إِرَمَ ( قرأته العامّة بالتنوين وقرأ الحسن ( بعاد إرم ) على الإضافة وقرأت العامّة : ( اِرم ) بكسر الألف ، وقرأ مجاهد بفتحه ، قال المؤرّخ : من قرأ بفتح الألف شبههم بالآرام ، وهي الأعلام واحدها اِرم .
واختلف العلماء في معنى قوله ) اِرم ( فأخبرني بن فنجويه قال : حدّثنا موسى الباقرحي قال : حدّثنا ابن علوية قال : حدّثنا إسماعيل قال : حدّثنا إسحاق بن بشير عن محمد بن إسحاق عمّن يخبره أنّ سعيد بن المسيّب كان يقول : اِرم ذات العماد دمشق .
وأخبرني بن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا ابن مروان ، قال : حدّثنا علي بن حرب الطائي قال : حدّثنا أبو الأشهب هود عن عوف الإعرابي عن خالد الربعي ) اِرمَ ذات العماد ( قال : دمشق ، وبه قال عكرمة وأبو سعيد المقبري
(10/195)
" صفحة رقم 196 "
وقال القرظي : هي الإسكندرية ، وقال مجاهد : هي اِرمة ومعناها القديمة . قتادة : هم قبيلة من عاد ، وقال أبو إسحاق : هو جدّ عاد ، وهو عاد بن عوص بن اِرم بن سام بن نوح .
وقال مقاتل : اِرم قبيلة من قوم عاد كان فيهم الملك وكانوا موضع مهرة ، وكان عاد أباهم فنسبهم إليه ، وهو اِرم بن عاد بن شمر بن سام بن نوح .
وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حنش قال : حدّثنا أبو الطيّب المروزي قال : حدّثنا محمّد بن علي قال : أخبرنا فضل بن خالد قال : حدّثنا عبيد بن سليمان عن الضحّاك بن مزاحم أنّه كان يقرأ ) اِرم ذات العماد ( بفتح الألف والراء ، والإرم الهلاك فقال : اِرم بنو فلان أي هلكوا ، وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس .
وروي عن الضحّاك أنّه قرأ ) اِرم ذات العماد ( أي أهلكهم وجعلهم رميماً ، والصواب أنّها اسم قبيلة أو بلدة فلذلك لم يجرّ .
قوله : ) ذات العماد ( قال قوم : يعني ذات الطول والقوّة والشدّة .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حنش قال : حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال : حدّثنا أبو حاتم قال : حدّثنا أبو صالح كاتب الليث قال : حدّثني معاوية بن صالح عمّن حدّثه عن المقدام عن النبيّ صلّى الله عليه أنّه ذكر ( اِرم ذات العماد ) فقال : ( كان الرجل منهم يأتي بالصخرة فيحملها على ) كاهله فيلقيها على أي حي أراد ) فيهلكهم ) .
الفجر : ( 8 ) التي لم يخلق . . . . .
وقال الكلبي : كان طول الرجل منهم أربع مائة ذراع ، وقال ابن عبّاس : يعني طولهم مثل العماد ، ويقول العرب للرجل الطويل : معمّدا ، وقال مقاتل : كان طول أحدهم اثني عشر ذراعاً ، وقال آخرون : إنّما قيل لهم : ذات العماد ؛ لأنّهم كانوا أهل عمد سيارة ينتجعون الغيث وينتقلون إلى الكلأ ، حيث كان ثمّ يرجعون إلى منازلهم ولا يقيمون في موضع .
قال الكلبي : اِرم هو الذي يجتمع إليه نسب عاد وثمود وأهل السواد وأهل الجزيرة ، كان يقال : عاد اِرم وثمود اِرم ، فأهلك الله سبحانه عاداً ، ثمّ ثمود وبقي أهل السواد وأهل الجزيرة ، وكان أهل عمد وخيام وماشية في الربيع ، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم فكانوا أهل جنان وزروع ومنازلهم كانت بوادي القرى ، وهي التي يقول الله سبحانه : ) لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ ( .
وقيل : سمّوا ذات العماد لبناء بناه بعضهم ، فشيّد عمده ورفع بناءه ، والعماد والعُمد والعَمد جمع عمود ، وهو :
ما أخبرنا أبو القاسم المفسّر قال : أخبرنا أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن أحمد الصفّار
(10/196)
" صفحة رقم 197 "
الأصبهاني قال : أخبرنا أبو جعفر أحمد بن مهدي بن رستم الأصبهاني قال : حدّثنا عبدالله بن صالح المصري قال : حدّثني ابن لهيعة وأخبرنا أبو القاسم قال : أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدوس الطرايفي قال : أخبرنا عثمان بن سعيد الدارجي قال : أخبرنا عبدالله بن صالح قال : حدّثني ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن وهب بن منبه عن عبدالله بن قلابة أنّه خرج في طلب إبل له شردت ، فبينما هو في صحاري عدن إذا هو قد وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن ، وحول الحصن قصور كبيرة وأعلام طوال ، فلمّا دنى منها ظنّ أنّ فيها أحداً يسأله عن إبله فلم ير خارجاً ولا داخلاً فنزل عن دابته وعقلها وسلّ سيفه ودخل من باب الحصن ، فلمّا دخل في الحصن إذا هو ببابين عظيمين لم ير أعظم منهما ، والبابان مرصّعان بالياقوت الأبيض والأحمر فلمّا رأى ذلك دُهش وأعجبه ففتح أحد البابين ، فإذا هو بمدينة لم ير أحدٌ مثلها ، وإذا قصور كل قصر معلّق تحته أعمدة من زبرجد وياقوت وفوق كلّ قصر منها غرف :
( اعتبر يا أيها المغرور بالعمر المديد
أنا شداد بن عاد صاحب الحصن المشيد )
وأخو القوّة والبأساء والملك الحشيد
دار أهل الأرض لي من خوف وعيدي ووعيد
وملكت الشرق والغرب بسلطان شديد
وبفضل الملك والعدّة فيه والعديد
فأتى هود وكنّا في ضلال قبل هود
فدعانا لو قبلناه إلى الأمر الرشيد
وعصيناه ونادى هل من محيد
فأتتنا صيحة تهوي من الأُفق البعيد
فتوافينا كزرع وسط بيداء حصيد
الفجر : ( 9 ) وثمود الذين جابوا . . . . .
) وَثَمُودَ ( أي وثمود ) الَّذِينَ جَابُوا ( قطّعوا وخرقوا ) الصَّخْرَ ( الحجر واحدتها صخرة بِالْوَادِ يعني بوادي القرى ، فنحتوا منها بيوتاً كما قال الله سبحانه : ) وكان ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين ( .
قال أهل السير : أوّل من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود ، فبنوا من الدور والمنازل ألفي ألف وسبع مائة ألف كلّها من الحجارة ، وأثبت أبو جعفر وأبو حاتم وورش الياء في الوادي وصلاً ، وأثبتها في الوصل والوقف ابن كثير برواية البزي والعواش ويعقوب على الأصل ، وحذفها الآخرون في الحالتين ؛ لأنّها رأس آية .
الفجر : ( 10 ) وفرعون ذي الأوتاد
) وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ ( اختلفوا فيه فقال بعضهم : أراد ذا الجنود والجموع الذين يقوّون أمره ويسدّدون مملكته ، وسمّي الأجناد أوتاداً لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها ويوتّدونها في أسفارهم ، وهي رواية عطية عن ابن عبّاس
(10/197)
" صفحة رقم 198 "
وقال قتادة : سمّي ذا الأوتاد ؛ لأنّه كانت له مظال وملاعب وأوتاد يُضرب له فتلعب له تحتها ، وقال محمد بن كعب : يعني ذا البناء المحكم ، وقال سعيد بن جبير : كان له منارات يعذّب الناس عليها ، وقال مجاهد وغيره : كان يعذّب الناس بالأوتاد ، وكان إذا غضب على أحد مدّهُ على الأرض وأوتد يديه ورجليه ورأسه على الأرض .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا مخلد قال : حدّثنا ابن علوية قال : حدّثنا إسماعيل قال : حدّثنا إسحاق بن بشير عن ابن سمعان عن عطاء عن ابن عبّاس أنّ فرعون لمّا قيل له : ذو الأوتاد أنّه كان امرأة وهي امرأة خازنه خربيل بن نوحابيل وكان مؤمناً كتم إيمانه مائة سنة ، وكان لقي من لقى من أصحاب يوسف ، وكانت امرأته ماشطة بنت فرعون فبينما هي ذات يوم تمشّط رأس بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها فقالت : تعس من كفر بالله ، فقالت بنت فرعون : وهل لكِ من إله غير أبي ؟ فقالت : إلهي وإله أبيك وإله السماوات والأرض واحدٌ لا شريك له . فقامت فدخلت على أبيها وهي تبكي قال : ما يبكيك ؟ قالت : الماشطة امرأة خازنك تزعم أنّ إلهك وإلهها وإله السماوات والأرض واحدٌ لا شريك له . فأرسل إليها فسألها عن ذلك ، فقالت : صدقت . فقال لها ويحك : اكفري بإلهك وأقري أني إلهك ، قالت : لا أفعل فمدها بين أربعة أوتاد ثم أرسل عليها الحيات والعقارب فقال لها : اكفري بالله وإلاّ عذبتك بهذا العذاب شهرين ، قالت : والله لو عذّبتني سبعين شهراً ما كفرت بالله تعالى .
قال : وكان لها ابنتان فجاء بابنتها الكبرى فذبحها على فيها ، وقال لها : اكفري بالله وإلاّ ذبحت ابنتك الصغرى على فيك ، وكانت طفلة رضيعة تجد بها وجداً شديداً فقالت : لو ذبحت من على الأرض على فيّ ما كفرتُ بالله تعالى .
قال : فأتى بابنتها فلمّا أن قُدّمت منها واضجعت على صدرها وأرادوا ذبحها جزعت المرأة ، فأطلق الله لسان ابنتها فتكلّمت وهي من الأربعة الذين تكلّموا أطفالاً ، فقالت : يا أُمّاه لا تجزعي فإنّ الله سبحانه قد بنى لكِ بيتاً في الجنّة ، اصبري فإنّك تمضين إلى رحمة الله سبحانه وكرامته ، قال : فذبحت فلم تلبث أن ماتت وأسكنها الله سبحانه الجنّة .
قال : وبعث في طلب زوجها خربيل فلم يقدروا عليه ، فقيل لفرعون : إنّه قد رُئي في موضع كذا وكذا في جبال كذا وكذا ، فبعث رجلين في طلبه فانتهيا إليه وهو يصلّي وثلاثة صفوف من الوحش خلفه يصلّون ، فلمّا رأيا ذلك انصرفا ، وقال خربيل : اللّهم إنّك تعلم أنّي كتمتُ إيماني مائة سنة ، ولم يظهر عليّ أحدٌ فأيّما هذين الرجلين كتم عليّ فاهده إلى دينك وأعطه من الدنيا سؤله ، وأيّما هذين الرجلين أظهر عليّ فعجّل عقوبته في الدُّنيا ، واجعل مصيره في العاقبة إلى
(10/198)
" صفحة رقم 199 "
النار ، فانصرف الرجلان إلى فرعون فأمّا أحدهما فاعتبر وآمن ، وأمّا الآخر فأخبر فرعون بالقصّة على رؤوس الملأ ، فقال له فرعون : وهل كان معكَ غيرك ؟ قال : نعم .
قال : ومَنْ كان معك ؟ قال : فلان . فدعى به . فقال : حقٌّ ما يقول هذا ؟ قال : لا ، ما رأيت ممّا قال شيئاً . فأعطاه فرعون وأجزل ، وأمّا الآخر فقتله ثمّ صلبه .
قال : وكان فرعون قد تزوّج امرأة من أجمل نساء بني إسرائيل يقال لها آسيا بنت مزاحم ، فرأت ما صنع فرعون بالماشطة فقالت : وكيف يسعني أن أصبر على ما أتى فرعون وأنا مسلمة وهو كافر ، فبينما هي كذلك تؤامر نفسها إذ دخل عليها فرعون فجلس قريباً منها فقالت : يا فرعون أنت شرّ الخلق وأخبثه عمدت إلى الماشطة فقتلتها ، فقال : فلعلّ بك الجنون الذي كان بها .
قالت : ما بي من جنون ، وإن إلهي وإلهها وإلهكَ وإله السماوات والأرض واحد لا شريك له فمزّق عليها وضربها وأرسل إلى أبويها فدعاهما فقال لهما الأمر ، بأنّ الجنون الذي كان بالماشطة أصابها فقالت : أعوذ بالله من ذلك ، إنّي أشهد أنّ ربّي وربّك وربّ السماوات والأرض واحد لا شريك له ، فقال أبوها : يا آسية ألست خير نساء العماليق وزوجك إله العماليق ؟ قالت : أعوذ بالله من ذلك إن كان ما تقول حقّاً ، فقولا له : يتوّجني تاجاً يكون الشمس أمامه والقمر خلفه والكواكب حوله ، فقال لهم فرعون : أخرجا عنّي فمدّها بين أربعة أوتاد يعذّبها ، وفتح الله سبحانه لها باباً إلى الجنّة ليهوّن عليها ما يصنع بها فرعون فعند ذلك قالت : ) ربِّ ابنِ لي عندك بيتاً في الجنّة ونجّني من فرعون وعمله ( يعني من جماع فرعون ) ونجّني من القوم الظالمين ( يعني من فرعون وشيعته ، فقبض الله سبحانه روحها وأسكنها الجنّة .
وقيل : الأوتاد عبارة عن ثبات مملكته وطول مدّته وشدّة هيبته ، كثبوت الأوتاد في الأرض كقول الأسود :
في ظل ملك ثابت الأوتاد
الفجر : ( 11 - 13 ) الذين طغوا في . . . . .
) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاَدِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَاب ( قال قتادة : يعني لوناً من العذاب صبّه عليهم ، وقال السّدي : كلّ يوم لون آخر من العذاب ، وقيل : وجع العذاب ، وقال أهل المعاني : هذا على الاستعارة ؛ لأنّ السوط عندهم غاية العذاب ، فجرى ذلك لكلّ عذاب . قال الشاعر
(10/199)
" صفحة رقم 200 "
ألم ترَ أنّ الله أظهر دينه
وصبّ على الكفّار سوط عذاب
الفجر : ( 14 ) إن ربك لبالمرصاد
) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ( قال ابن عبّاس : سبحانه يرى ويسمع ، وقال مقاتل : ترصد الناس على الصراط ، فجعل رصداً من الملائكة معهم الكلاليب والمحاجن والحسك ، وقال الضحّاك : بمرصد لأهل الظلم والمعصية ، وقيل : معناه مرجع الخلق ومصيرهم إلى حكمه وأمره ، وقال الحسن وعكرمة : ترصد أعمال بني آدم ، وعن مقاتل أيضاً : ممرّ الناس عليه . عطاء ابن أبي رياح : لا يفوته أحد . يمان : لا محيص عنه . السدي : أرصد النار على طرقهم حتّى تهلكهم ، والمرصاد والمرصد الطريق وجمع المرصاد مراصيد وجمع المرصد مراصد .
وروى مقسم عن ابن عبّاس قال : إنّ على جهنّم سبع مجاسر يسأل العبيد عند أوّلهنّ عن شهادة أن لا إله إلاّ الله ، فإن جاء بها تامّة جاز بها إلى الثاني ، فيسأل عن الصلاة ، فإن جاء بها تامّه جاز إلى الثالث ، فيُسئل عن الزكاة فإن جاء بها تامّة جاز إلى الرابع ، فيسأل عن الصوم ، فإن جاء به تامّاً جاز إلى الخامس ، فيسأل عن الحجّ فإن جاء به تامّاً جاز إلى السادس ، فيسأل عن العمرة فإن جاء بها تامّة جاز إلى السابع ، فيسأل عن المظالم فإن خرج منها وإلاّ يقال انظروا ، فإن كان له تطوّع أكمل به أعماله ، فإذا فرغ به انطلق به إلى الجنّة .
( ) وَأَمَّآ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّىأَهَانَنِ كَلاَّ بَل لاَّ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الاَْرْضُ دَكّاً دَكّاً وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً وَجِىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يالَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ياأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِى إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِى فِى عِبَادِى وَادْخُلِى جَنَّتِى ( 2
الفجر : ( 15 ) فأما الإنسان إذا . . . . .
) فَأَمَّا الإنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ ( امتحنه ) رَبُّهُ ( بالنعمة والوسعة . ) فَأَكْرَمَهُ ( بالمال ) وَنَعَّمَهُ ( بما وسّع عليه من الأفضال ) فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي ( فيفرح بذلك ويُسر ويحمد عليه ويشكر ،
الفجر : ( 16 ) وأما إذا ما . . . . .
و ) إِذَا مَا ابْتَلاَهُ ( بالفقر ) فَقَدَرَ ( وضيّق وقتّر ) عليه رزقه ( ) فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي ( أذلّني بالفقر ، ولم يشكر الله على ما أعطاه من سلامة الجوارح ورزقه من العافية والصحّة . قال قتادة : ما أسرع كفر ابن آدم .
وقراءة العامّة ) فقدر ( بتخفيف الدال ، وقرأ أبو جعفر وابن عامر بالتشديد ، وهما لغتان وكان أبو عمرو يقول : قدرَ بمعنى قتّر وقدر هو أن يعطيه ما يكفيه ولو فعل ذاك ما قال : ) ربي أهانني ( ، ثمّ ردّ عليه فقال :
الفجر : ( 17 ) كلا بل لا . . . . .
) كَلاَّ ( لم أبتلِهِ بالغنى لكرامته عليّ ولم ابتلِهِ بالفقر ؛ لهوانه علي
(10/200)
" صفحة رقم 201 "
ّ وأنّ الفقر والغنى من تقديري وقضائي . فلا أُكرم من أكرمته بالغنى وكثرة الدنيا ، ولا أُهين من أهنته بالفقر وقلّة الدنيا ، ولكني إنّما أكرم من أكرمته بطاعتي ، وأُهين من أهنته بمعصيتي ، وقال الفراء : معنى كلا لم ينبغِ له أن يكون هذا ولكن ينبغي أن يحمده على الأمرين على الغنى والفقر .
ثم قال : ) بَل لاَ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ ( يعني أهنت من أهنت من أجل أنّه لا يُكرم اليتيم .
واختلف القرّاء في هذه الآية فقرأ أهل البصرة يكرمون وما بعده كلّه بالياء ، وقرأها الآخرون بالتاء
الفجر : ( 18 ) ولا تحاضون على . . . . .
) وَلاَ تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ( قرأ أبو جعفر وأهل الكوفة ) تحاضّون ( بالألف وفتح التاء ، وروى الشذري عن الكسائي ( تُحاضون ) بضم التاء ، غيرهم ( تحضّون ) بغير الألف .
الفجر : ( 19 ) وتأكلون التراث أكلا . . . . .
) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ ( الميراث ) أَكْلا لَمّاً ( شديداً ، قال الحسن : يأكل نصيبه ونصيب غيره . بكر بن عبدالله : اللّمّ الاعتداء في الميراث يأكل ميراثه وميراث غيره . ابن زيد : الأكل اللمّ الذي يأكل كلّ شيء يجده ولا يسأل عنه أحلال أم حرام ، ويأكل الذي له والذي لغيره ، وذلك أنّهم كانوا لا يورثون النساء ولا الصبيان ، وقرأ ) يستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهنّ ( الآية قال أبو عبيدة يقال : لممّتُ ما على الخوان إذا أتيت على ما عليه وأكلته كلّه أجمع .
الفجر : ( 20 ) وتحبون المال حبا . . . . .
) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً ( كثيراً يقال جمّ الماء في الحوض إذا كثر واجتمع .
الفجر : ( 21 ) كلا إذا دكت . . . . .
) كَلاَّ ( ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر ثمّ أخبر ممن تلهّفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم فقال عزّ من قائل : ) إِذَا دُكَّتْ الاْرْضُ دَكّاً دَكّاً ( مرّة بعد مرّة فيكسر كلّ شيء على ظهرها .
الفجر : ( 22 ) وجاء ربك والملك . . . . .
) وَجَاءَ رَبُّكَ ( قال الحسن : أمره وقضاؤه ، وقال أهل الإشارة : ظهر قدرة ربّك وقد استوت الأُمور وأنّ الحقّ لا يوصف يتحوّل من مكان إلى مكان وأنّى له التجوّل والتنقّل ولا مكان له ولا أوان ولا تجري عليه وقت وزمان ؛ لأنّ في حرمان الوقت على الشيء فوت الأوقات ، ومن فاته شيء فهو عاجز ، والحقّ ينزّه أن تحوي صفاته الطبائع أو تحيط به الصدور .
) وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً }
الفجر : ( 23 ) وجيء يومئذ بجهنم . . . . .
) وَجِيىءَ يَوْمَئِذ بِجَهَنَّم ( أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن ماجه قال : حدّثنا يعقوب بن يوسف القروي قال : حدّثنا القاسم بن الحكم قال : حدّثنا عبيدالله بن الوليد قال : حدّثنا عطية عن أبي سعيد قال : لمّا نزلت هذه الآية ) وجيء يومئذ بجهنّم ( تغيّر لون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعرق في وجهه حتى اشتدّ على أصحابه ما رأوا من حاله فانطلق بعضهم إلى عليّ ح فقالوا : يا علي لقد حدث أمر قد رأيناه في نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) فجاء عليّ فاحتضنه من خلفه ثمّ قبَّل بين عاتقيه ثمّ قال : يا نبي الله بأبي أنت وأُمّي ما الذي حدث اليوم وما الذي غيّرك ؟ قال : ( جاء جبريل ( عليه السلام ) فأقرأني هذه الآية : ) كلاّ إذا دُكّت الأرض دكاً دكّا وجاء ربّك والملك صفّاً صفّا وجيء يومئذ بجهنّم ( قلت : فكيف يجاء بها
(10/201)
" صفحة رقم 202 "
قال : ( يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع ، ثمّ تعرض لي جهنّم فتقول : ما لي وما لك يا محمّد فقد حرّم الله لحمك ودمك عليّ ، فلا يبقى أحد إلاّ قال : نفسي نفسي وأنّ محمّداً يقول : أُمّتي أُمّتي ، فيقول الله سبحانه إلى الملائكة : ألا ترون الناس يقولون : ربِّ نفسي نفسي وأنّ محمّد يقول : أُمّتي أُمّتي ؟ ) .
وقال عبدالله بن مسعود ومقاتل في هذه الآية : تقاد جهنّم بسبعين ألف زمان كلّ زمام بيد سبعين ألف ملك ، لها تغيّظ وزفير حتّى تنصب على يسار العرش .
) يَوْمَئِذ يَتَذَكَّرُ الاْنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى }
الفجر : ( 24 ) يقول يا ليتني . . . . .
) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ ( في حياتي ) لِحَيَاتِي ( في الآخرة
الفجر : ( 25 - 26 ) فيومئذ لا يعذب . . . . .
) فَيَوْمَئِذ لاَ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ( قرأ العامّة بكسر الذال والثاء على معنى لا يعذّب أحد في الدنيا كعذاب الله يومئذ .
قال الفراء وقيل : إنّه رجل مسمّى بعينه وهو أُميّة بن خلف الجمحي : يعني لا يعذّب كعذاب هذا الكافر أحد ولا يوثق كوثاقه أحد ، واختار أبو عبيد وأبو حاتم هذه القراءة لما أخبرنا محمد بن نعيم قال : أخبرنا الحسين بن أيّوب قال : أخبرنا علي بن عبد العزيز قال : أخبرنا القاسم بن سلام قال : حدّثنا هيثم وعناد بن عباد عن خالد الحذّاء عن أبي قلابة عمّن أقرأه النبيّ صلّى الله عليه ) فيومئذ لا يعذّب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد ( يعني بنصب الذال والثاء .
ويروى أنّ أبا عمرو رجع في آخر عمره إلى قراءة النبيّ ( صلى الله عليه وسلم )
معنى الآية لا يبلغ أحد من الخلق كبلاغ الله في العذاب والوثاق ، وهو الإشارة في السلاسل والأغلال .
أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن مالك قال : حدّثنا ابن حنبل قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا محمد بن جعفر قال : حدّثنا شعبة عن خالد الحذّاء عن أبي قلابة عمّن سمع النبيّ صلّى الله عليه يقرأ ) فيومئذ لا يعذّب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد ( يعني يفعل به .
الفجر : ( 27 ) يا أيتها النفس . . . . .
) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ( إلى ما وعد الله المصدّقة بما قال .
مجاهد : المنيبة المخبتة التي قد أيقّنت أنّ الله سبحانه ربّنا ، وضربت لأمره جأشاً .
المسيّيب : سمعت الكلبي وأبا روق يقولان : هي التي يبيّض الله وجهها ويعطيها كتابها بيمينها فعند ذلك تطمئن . الحسن : المؤمنة الموقنة . عطية : الراضية بقضاء الله . حيّان عن
(10/202)
" صفحة رقم 203 "
الكلبي : الآمنة من عذاب الله تعالى .
أخبرني عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال : حدّثنا خلاّد بن أسلم قال : أخبرنا النضر عن هارون القارئ قال : حدّثني هلال عن أبي شيخ الهنائي قال : في قراءة أبي يا أيّتها النفس الآمنة المطمئنة .
وأخبرني أبو محمّد الحسين بن أحمد الشعبي قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا محمد بن إسحاق السراج قال : حدّثنا سوار بن عبدالله قال : حدّثنا المعمر بن سليمان عن إبراهيم بن إسماعيل عن ابن أبي نجاح عن مجاهد ) يا أيّتها النفس المطمئنة ( قال : الراضية بقضاء الله التي قد علمت أنّ ما أصابها لم يكن ليخطئها وأنّ ما أخطأها لم يكن ليصيبها ، وقال ابن كيسان : المخلصة . ابن عطاء : هي العارفة بالله سبحانه التي لا تصبر عنه طرفة عين ، وقيل : المطمئنة بذكر الله . بيانه : ) وتطمئن قلوبهم بذكر الله ( ، وقيل : هي المتوكّلة على الله تعالى الواثقة بما ضمن لها من الرزق .
الفجر : ( 28 ) ارجعي إلى ربك . . . . .
) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ ( اختلف العلماء في تأويل هذه الآية ، ووقت هذه المقالة فقال قوم : يقال ذلك لها عند الموت : ارجعي إلى ربّك وهو الله عزّوجلّ .
أخبرني الحسين قال : حدّثنا عبيدالله بن عبد الله بن أبي سمرة البغوي قال : حدّثنا محمّد ابن سهل العسكري قال : حدّثنا العطاردي قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا قيس بن الربيع عن إسماعيل عن أبي صالح في قوله سبحانه : ) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ( قال : هذا عند خروجها من الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قيل :
الفجر : ( 29 - 30 ) فادخلي في عبادي
) ادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ( .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا الفراتي قال : حدّثنا أحمد بن خالد قال : حدّثنا روح بن عبادة قال : حدّثنا زهير بن محمد قال : حدّثنا زيد ابن أسلم عن عبد الرحمن بن السيلماني عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال : إذا توفّي العبد المؤمن أرسل الله سبحانه ملكين وأرسل إليه تحفة من الجنّة فيقال لها : اخرجي أيّتها النفس المطمئنة ، اخرجي إلى روح وريحان وربّ عنك راض ، فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في نفسه قط ، والملائكة على أرجاء السماء .
فيقولون : قد جاء من الأرض روح طيّبة ونسمة طيّبة ، فلا يمرّ بباب إلاّ فتح له ولا ملك إلاّ صلّى عليه ، حتّى يؤتي به الرحمن ، ثمّ تسجد الملائكة ثمّ يقولون : ربّنا هذا عبدك فلأن توفيته كان يعبدك لا يشرك بك شيئاً فيقول : مروه فليسجد ، وتسجد النسمة ، ثمّ يدعى ميكائيل فيقول : اذهب بهذه فاجعلها مع أنفس المؤمنين حتّى أسألك عنها يوم القيامة ، ثمّ يؤمر فيوسع عليه قبره
(10/203)
" صفحة رقم 204 "
سبعون ذراعاً عرضه وسبعون ذراعاً طوله وينبت له فيه الريحان . إن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره ، وإن لم يكن معه جعل له مثل الشمس في قبره ، ويكون مثله كمثل العروس ، ينام فلا يوقظه إلاّ أحبّ أهله إليه ، فيقوم من نومته كأنّه لم يشبع منها ، وإذا توفّي الكافر أرسل الله سبحانه وتعالى ملكين وأرسل قطعة من سجّاد أنتن وأخشن من كلّ خشن ، فيقال : أيّها النفس الخبيثة اخرجي إلى حميم وعذاب أليم وربّ عليك غضبان .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا المسوحي قال : حدّثنا عمرو بن العلاء الحنفي قال : حدّثنا ابن يمان عن أشعث عن جعفر عن سعيد قال : قرأ رجل عند النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) يا أيّتها النفس المطمئنة ( قال أبو بكر : ما أحسن هذا فقال النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( أمّا أنّ الملك سيقولها لك ( عند الموت ) ) .
حدّثنا أحمد بن محمد بن يعقوب القصري بها قال : أخبرنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل ببغداد قال : حدّثنا الحسن بن عرفة قال : أخبرني مروان بن شجاع الجزري ، وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا محمد بن علي بن سالم قال : حدّثنا أحمد بن منبع قال : حدّثنا مروان عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال : مات ابن عبّاس بالطائف فجاء طائر لم ير على خلقه ، فدخل نعشه ثمّ لم يُر خارجاً منه فلمّا دفن تُليت هذه الآية على شفير القبر لا يرى من تلاها : ) يا أيّتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربّك راضيةً مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنّتي ( وقال آخرون : انّما يقال ذلك لها عند البعث : ارجعي إلى ربّك ، أي صاحبك وجسدك فيأمر الله سبحانه الأرواح أن ترجع إلى الأجساد ، وإلى هذا القول ذهب عكرمة وعطاء والضحّاك وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس .
ودليل هذا التأويل ما أخبرنا محمد بن نعيم قال : أخبرنا الحسين بن أيّوب قال : أخبرنا علي بن عبد العزيز قال : حدّثنا القاسم بن سلام قال : حدّثنا حجّاج عن هارون عن أبان بن أبي عيّاش عن سليمان بن قته عن ابن عبّاس أنّه قراها فأدخلي في عبدي على التوحيد .
وقال الحسن : معناه ارجعي إلى ثواب ربّك وكرامته . ابن كيسان : ارجعي إلى ربّك أي أمثالك من عباد ربّك الصالحين .
وقال بعض أهل الإشارة ) يا أيّتها النفس المطمئنة ( إلى الدنيا ارجعي إلى الله بتركها والرجوع إلى الله هو سلوك سبيل الآخرة . ) راضية ( عن الله بما أعدّ لها ) مرضية ( رضي عنها ربّها . ) فادخلي في عبادي ( قال بعضهم : يعني مع عبادي جنّتي في معنى الآية تقديم وتأخير ، وإليه ذهب مقاتل والقرظي وأبو عبيدة . ) وادخلي ( برحمتك في عبادك الصالحين يعني مع أنبيائنا في الجنّة ، وقال الأخفش : أي في حزبي ، وقال أمر الأرواح بعودها إلى أجسادها والله
(10/204)
" صفحة رقم 205 "
أعلم .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا موسى بن محمد قال : حدّثنا ابن علوية قال : حدّثنا إسماعيل قال : حدّثنا المسيّب قال : حدّثنا إبراهيم عن صالح بن حيان عن ابن بريدة في هذه الآية ) يا أيّتها النفس المطمئنة ( قال : نفس حمزة بن عبد المطّلب نزلت فيه يوم استشهد يوم أحُد ، بل نزلت نفسه عند ربّ العالمين ، مكرمة مشرفة على من عنده حتّى يردها الله سبحانه إلى حمزة في دعة ، وسكون وكرامة .
وقد نزلت في حبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكّة وجعلوا وجهه إلى المدينة ، فقال : اللّهمّ إن كان لي عندك خير فحوّل وجهي نحو قبلتك . فحوّل الله سبحانه وجهه نحو القبلة من غير أن يحوّله أحد ، فلم يستطيع أحد أن يحوّله وحكمها عام لجميع المؤمنين المطمئنين .
(10/205)
" صفحة رقم 206 "
( سورة البلد )
مكية ، وهي ثلاثمائة وعشرون حرفاً ، واثنتان وثمانون كلمة ، وعشرون آية .
أخبرنا نافل بن ارضم بن عبد الجبّار قال : أخبرنا عبدالله بن أحمد بن محمد الصفّار قال : حدّثنا عمرو بن محمد قال : حدّثنا سباط بن اليسع قال : حدّثنا يحيى بن عبدالله السلمي قال : حدّثنا أبو عصمة نوح بن أبي مريم عن عليّ بن زيد عن زرّ عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ ) لا أقسم بهذا البلد ( أعطاه الله الأمن من غضبه يوم القيامة ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنَ الرَّحِيمِ
( ) لاَ أُقْسِمُ بِهَاذَا الْبَلَدِ وَأَنتَ حِلٌّ بِهَاذَا الْبَلَدِ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِى كَبَدٍ أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ ( 2
البلد : ( 1 ) لا أقسم بهذا . . . . .
) لاَ أُقْسِمُ ( يعني أقسم ) بِهَذَا الْبَلَدِ ( يعني مكّة
البلد : ( 2 ) وأنت حل بهذا . . . . .
) وَأَنْتَ ( يا محمّد ) حِلٌّ ( حلال ) بِهَذَا الْبَلَدِ ( تصنع ما تريد من القتل والأسر ، وذلك أنّ الله سبحانه أحلّ لنبيّه ( صلى الله عليه وسلم ) مكّة يوم الفتح حتّى قاتل وقتل ، وأحلّ ما شاء وحرم ما شاء ، وقتل ابن خطل وهو متعلّق بأستار الكعبة ، ومقيّس بن صبابة وغيرهما ثمّ قال : ( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ) فأحلّ دم ابن خطل وأصحابه وحرّم دار أبي سفيان ، ثمّ قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ الله حرّم مكّة يوم خلق السماوات والأرض ، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة ، لم تحلّ لأحد قبلي ولا يحلّ لأحد بعدي ولم يحلّ لي إلاّ ساعة من نهار ، فلا يعضد شجرها ولا نختلي خلالها ولا نفر صيدها ولا يحلّ لقطتها إلاّ المنشد ) .
فقال العبّاس : يا رسول الله إلاّ الأذخر فإنّه لقيوتنا وقتورنا وبيوتنا ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إلاّ الأذخر ) .
(10/206)
" صفحة رقم 207 "
وقال شرحبيل بن سعد : معنى قوله : ) وأنت حلٌّ بهذا البلد ( قال : يحرّمون أن تقتلوا بها صيداً أو يعضدوا بها شجرة ، ويستحلّون إخراجك وقتلك . ) وَوَالِد وَمَا وَلَدَ ( قال عكرمة وسعيد ابن جبير : ( الوالد ) الذي يولد له ( وما ولد ) العاقر الذي لا يولد له ، وروياه عن ابن عبّاس وعلي ، هذا القول تكون ما بقيا ، وهو يُعبد ولا تصحّ إلاّ بإضمار . عطية عنه : الوالد وولده . مجاهد وقتادة والضحّاك وأبو صالح : ووالد آدم وما ولد ولده .
البلد : ( 3 ) ووالد وما ولد
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا برهان بن علي قال : حدّثنا عبدالله بن الوليد العكبري قال : حدّثنا محمد بن موسى الحرشي قال : حدّثنا جعفر بن سليمان قال : سمعت أبا عمران الخولي قرأ ) ووالدٌ وما ولد ( قال إبراهيم وما ولد .
البلد : ( 4 ) لقد خلقنا الإنسان . . . . .
) لَقَدْ خَلَقْنَا الاْنسَانَ فِي كَبَد ( أي نصّب . عن الوالبي عن ابن عبّاس الحسن : يكابد مصايب الدنيا وشدائد الآخرة . قتادة : في مشقّة فلا يلقاه إلاّ يكابد أمر الدنيا والآخرة . سعيد بن جبير : في شدّة ، وعن الحسن أيضاً : يكابد الشكر على السراء ، والصبر على الضرّاء فلا يخلو منهما . عطية عن ابن عبّاس : في شدّة خلق حمله وولادته ورضاعه وفصاله ومعاشه وحياته وموته . عمرو بن دينار عنه : نبات أسنانه . يمان : لم يخلق الله خلقاً يكابد ما يكابد ابن آدم وهو مع ذلك أضعف الخلق ، وعن سعيد بن جبير أيضاً في ضيق معيشته . ابن كيسان : المكابدة مقاساة الأمر وركوب معظمه ، وأصله الشدّة وهو من الكبد . قال لبيد :
عين هلا بكيت اربد
إذ قمنا وقام الخصوم في كبد
وقال مجاهد وإبراهيم وعكرمة وعبدالله بن شدّاد وعطية والضحّاك : يعني منتصباً قائماً معتدل القامة ، وهي رواية مقسم عن ابن عبّاس قال : خلق كلّ شيء يمشي على الأرض على أربعة إلاّ الإنسان ، فإنّه خُلق منتصباً قائماً على رجلين . مقاتل : في قوّة نزلت في ابن الاسدين واسمه أسيد بن كلده بن أسيد بن خلف ، وكان شديداً قويّاً يضع الادم العكاظي تحت قدميه ، فيقول : من أزالني عنه فله كذا وكذا ، فلا يطاق أن تنزع من تحت قدميه إلاّ قطعاً ويبقى موضع قدمه ، ويقال : هو شدّة الأمر والنهي والثواب والعقاب ، وقال ابن زيد : ) لقد خلقنا الإنسان ( يعني آدم في كبد أي وسط السماء وذلك حين رفع إلى الجنّة . أبو بكر الوراق : يعني لا يدرك هواه ولا يبلغ مناه . خصيف في معناه ومقاساة وانتقال أحوال نطفة ثمّ علقة إلى آخر تمام الخلق . ابن كيسان : منتصباً رأسه فإذا أذن الله سبحانه في إخراجه انقلب رأسه إلى رجلي أُمّه ، وقيل : جريء القلب غليظ الكبد مع ضعف خلقته ومهانة مادّته . جعفر : أي في بلاء ومحنة . ابن عطاء : في ظلمة وجهل
(10/207)
" صفحة رقم 208 "
محمد بن علي الترمذي : مضيّعاً لما يعنيه مشتغلاً بما لا يعنيه .
البلد : ( 5 ) أيحسب أن لن . . . . .
) أَيَحْسَبُ ( يعني بالأشدين من قوّته . ) أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ( يعني الله سبحانه وتعالى ، وقيل : هو الوليد بن المغيرة . أخبرني أبو الضحى عن ابن عبّاس .
البلد : ( 6 ) يقول أهلكت مالا . . . . .
) يَقُولُ أَهْلَكْتُ ( أنفقت ) مَالا لُبَداً ( بعضه على بعض ، وهو من التلبّد في عداوة محمّد .
وقال مقاتل : نزلت في الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ، وذلك أنّه أذنب ذنباً فاستفتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأمره أن يكفّر وقال : لقد ذهب مالي في الكفّارات والنفقات منذ دخلت في دين محمّد .
واختلف القرّاء في قوله ) لبدا ( فقرأ أبو جعفر بتشديد الباء على جمع لابد وراكع ، وقرأ مجاهد بضمّ اللام والباء مخفّفاً كقولك : أمر بكر ورجل جنب ، وقرأ الباقون بضمّ اللام وفتح الباء مخفّفين ، ولها وجهان : أحدهما جمع لبدة ، والثاني على الواحد ، مثل قُثم وحُطم وليس بمعدول .
البلد : ( 7 ) أيحسب أن لم . . . . .
) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ( يعني الله سبحانه وقيل : محمّد ( عليه السلام ) فيعلم مقدار نفقته ، وكان كاذباً لم ينفق جميع ما قال ، وقال سعيد بن جبير وقتادة : أيظنُّ أن لم يره أحد فيسأله عن هذا المال من أين اكتسبه وأين أنفقه ؟
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال : حدّثني الهيثم بن خلف الدوري قال : حدّثني محمد بن يزيد بن سليمان مولى بني هاشم قال : حدّثنا حسين بن الحسين يعني الأشقر قال : حدّثنا هشام بن شبر عن أبي هاشم عن مخالد عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتّى يُسئل عن أربع : عن عمره فيما أفناه ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه ، وعن علمه ماذا عمل فيه وعن حبّنا أهل البيت ) .
قال ابن خرجة : ما سمعت هذا الحديث إلاّ من الهيثم .
وأخبرنا الحسين قال : أخبرنا أبو الحسن علي بن هارون بن محمد قال : حدّثنا موسى بن هارون بن عبدالله قال : حدّثنا أبو الربيع الزهراني قال : حدّثنا نعيم بن ميسرة ، قال : أخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال : أخبرني رجل من بني عامر عن أبيه قال : صلّيت خلف النبيّ صلّى الله عليه فسمعته يقول : ) أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ( ) أيحسب أن لم يره أحد ( يعني بكسر السين .
البلد : ( 8 - 9 ) ألم نجعل له . . . . .
) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ ( قال قتادة : نعم والله متظاهرة لقهرك بها كتماً لشكر
(10/208)
" صفحة رقم 209 "
وأخبرنا عبدالله بن حامد قال : أخبرنا أبو القاسم عبدالله بن عامر السمرقندي قال : حدّثنا عمر بن يحيى قال : حدّثنا جيغويه قال : حدّثنا صالح بن محمد قال : حدّثنا عبد الحميد المدني عن أبي حازم قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ابن آدم إنْ نازعك لسانك فيما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق ، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق ، وإن نازعك فرجك إلى ما حرّمت عليك فقد أعنتك عليه بطبقين فأطبق ) .
البلد : ( 10 ) وهديناه النجدين
) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ( قال أكثر المفسّرين : يعني بيّنا له طريق الخير والشرّ والحقّ والباطل والهدى والضلالة كقوله : ) إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وامّا كفوراً ( .
ودليل هذا التأويل ما أخبرني عبدالله بن حامد إجازة قال : أخبرني أحمد بن يحيى قال : حدّثنا محمّد بن يحيى قال : حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي عن قرّة بن خالد عن الحسن قال : قال رسول الله صلّى الله عليه : ( إنّما هما نجدان نجد الخير ونجد الشرّ ، فما يجعل نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير ) .
وأخبرنا محمّد بن عبدالله بن حمدون قال : أخبرنا مكّي قال : حدّثنا عبد الرحمن بن بشر قال : حدّثنا عبد الرزاق قال : حدّثنا أبي عن عمرو بن أبي بكر القرشي عن محمّد بن كعب عن ابن عبّاس في قوله سبحانه : ) وهديناه النجدين ( قال : الثديين ، وإليه ذهب سعيد بن المسيب والضحّاك ، والنجد الطريق في ارتفاع . قال الشاعر :
غداة غدوا فسالك بطن نخلة
وآخر منهم جازع نجد كبكب
( ) فَلاَ اقتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْمَرْحَمَةِ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةُ ( 2
البلد : ( 11 ) فلا اقتحم العقبة
) فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ( يعني فلم يجاوز بهذا الإنسان العقبة فيأمر . قال الفراء أفرد قوله : ) فلا اقتحم العقبة ( بذكر لا مرّة واحدة ، والعرب لا تكاد تفرد لا مع الفعل الماضي ، وفي مثل هذا الموضع حتّى يعيدوها عليه في كلام آخر ، كما قال : ) فلا صدّق ولا صلّى ( ) ولا خوف
(10/209)
" صفحة رقم 210 "
عليهم ولا هم يحزنون ( ، وانّما فعل ذلك كذلك في هذا الموضع استغناء بدلالة آخر الكلام على معناه من إعادتها مرّة واحدة ، وذلك أنّه فسّر اقتحام العقبة بأشياء فقال : ) فَكُّ رَقَبَة ( الآية ، فكأنه قال في أوّل الكلام فلا فعل ذا ولا ذا ولا ذا .
وقال بعضهم : معنى الكلام الاستفهام ، تقديره أفلا اقتحم العقبة ، وإليه ذهب ابن زيد وجماعة من المفسِّرين ، يقول : فهلاّ أنفق ماله في فك الرقاب وإطعام السغبان ليتجاوز بها العقبة ويكون خيراً له من إنفاقه على عداوة محمّد ، ويقال : إنّه شبّه عظم الذنب وثقلها على مرتكبها بعقبة ، فإذا أعتق رقبة وعمل صالحاً كان مثله مثل من اقتحم تلك العقبة ، وهي الذنوب حتّى تذهب وتذوب ، كمن يقتحم عقبة فيستوي عليها ونحوها .
وذكر عن ابن عمران : أنّ هذه العقبة جبل في جهنّم ، وقال كعب : هي سبعون دركة في جهنّم ، وقال الحسن وقتادة : هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله سبحانه ، وقال مجاهد والضحّاك والكلبي : هي الصراط يضرب على جهنّم كحدّ السيف مسيرة ثلاثة آلاف سهلاً وصعوداً وهبوطاً ، وأنّ لجنبتيه كلاليب وخطاطيف كأنّها شوك السعدان ، فناج مسلم وناج مخدوس ومكردس في النار منكوس ، فمن الناس من يمرّ عليه كالبرق الخاطف ، ومنهم من يمرّ عليه كالريح العاصف ، ومنهم من يمرّ عليه كالفارس ، ومنهم من يمرّ عليه كالرجل يسير ، ومنهم من يزحف زحفاً ، ومنهم الزالّون والزالاّت ، ومنهم من يكردس في النار ، واقتحامه على المؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء .
وقال قتادة : هذا مثلٌ ضربه الله سبحانه يقول : إنّ المعتق والمطعم تقاحم نفسه وشيطانه مثل من يتلكّف صعود العقبة ، وقال ابن زيد يقول : فهلاّ سلك الطريق التي فيها النجاة والخير ثمّ بيّن ما هي فقال :
البلد : ( 12 ) وما أدراك ما . . . . .
) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ( قال سفيان بن عينية : كلّ شيء قال : ) وما أدراك ( فإنّه أخبره به ، وما قال : ( وما يدريك ) فإنّه لم يخبر به .
البلد : ( 13 ) فك رقبة
) فَكُّ رَقَبَة ( فمن أعتق رقبة كان فداه من النار ، قرأ أبو رجاء والحسن وابن كثير وأبو عمرو والكسائي بنصب الكاف والميم على الفعل كقوله : ثمّ كان ، وقرأ غيرهم بالإضافة على الاسم واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم لأنّه تفسير لقوله ( وما أدراك ) ، ثم أخبر ما هي فقال : ) فك رقبة 2 )
البلد : ( 14 ) أو إطعام في . . . . .
) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْم ذِي مَسْغَبَة ( مجاعة .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبيدالله بن أبي سمرة قال : حدّثنا محمّد بن عبدالله المستعيني قال : حدّثنا علي بن الحسين البصري قال : حدّثنا حجّاج قال : حدّثنا جرير بن حازم
(10/210)
" صفحة رقم 211 "
قال : سمعت الحسن وأبا رجاء يقرآن : ) فِي يَوْم ذِي مَسْغَبَة }
البلد : ( 15 - 16 ) يتيما ذا مقربة
) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَة أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَة ( قد لصق بالتراب من الفقر فليس له مأوى إلاّ التراب .
وسمعت أبا القاسم الحلبي يقول : سمعت أبا حامد الخازرجي يقول : المتربة هاهنا من التربة وهي شدّة الحال ، وأنشد الهذلي :
وكنّا إذا ما الضيف حلّ بأرضنا
سفكنا دماء البدْن في تربة المال
أخبرني الحسن قال : حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال : حدّثنا موسى بن إسحاق الأنصاري قال : حدّثنا عبد الحميد بن صالح قال : حدّثنا عيسى بن عبد الرحمن عن طلحة بن مصرف عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب قال : جاء أعرابي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله علّمني عملاً يدخلني الجنّة فقال : ( لئن اقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة اعتق النسمة وفكّ الرقبة ) ، قال : أوليسا واحداً ؟
قال : ( لا ، عتق النسمة أن تفرد بعتقها ، وفكّ الرقبة أن تعين في ثمنها ، والمنحة الوكوف والفيء على ذي الرحم الظالم ، فإن لم تطق ذاك فاطعم الجائع واسق الظمآن ، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ، فإن لم تطق ذاك فكفّ لسانك إلاّ من خير ) .
البلد : ( 17 ) ثم كان من . . . . .
) ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا ( قيل : ثمّ بمعنى الواو ) وَتَوَاصَوْا ( أوصى بعضهم بعضاً ) بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ( برحمة الناس .
البلد : ( 18 - 20 ) أولئك أصحاب الميمنة
) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤصَدَةٌ ( قرأ أبو عمرو وعيسى وحمزة ويعقوب بالهمزة ههنا ، وفي سورة الهُمزة وغيرهم بلا همزة ، وهما لغتان . المطبقة ، قال الفراء وأبو عبيدة يقال : أصدت وأوصدت إذا أطبقت وقيل : معنى الهمزة المطبقة وغير الهمزة المغلقة ، ومنه قيل للباب : وصيد .
(10/211)
" صفحة رقم 212 "
( سورة الشمس )
مكية ، وهي مائتان وسبعة وأربعون حرفاً وأربع وخمسون كلمة وخمس عشرة آية
أخبرني أبو الحسن محمد بن القاسم الفارسي قال : أخبرنا أبو محمد بن أبي حامد قال : حدّثنا أبو جعفر محمد بن الحسن الأصبهاني قال : حدّثنا المؤمل بن إسماعيل قال : حدّثنا سفيان الثوري قال : حدّثنا أسلم المنقري عن عبدالله بن عبد الرحمن بن ايزي عن أبيه عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة والشمس فكأنّما تصدّق بكلّ شيء طلعت عليه الشمس والقمر ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
2 ( ) وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا وَالاَْرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ( 2
الشمس : ( 1 ) والشمس وضحاها
) وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ( قال مجاهد : ضوؤها . قتادة : هو النهار كلّه . مقاتل : حرّها كقوله سبحانه في طه : ) ولا تضحى ( يعني ولا يؤذيك الحرّ .
الشمس : ( 2 ) والقمر إذا تلاها
) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا ( تبعها فأخذ من ضوئها وسار خلفها ، وذلك في النصف الأوّل من الشهر إذا أغربت الشمس تلاها القمر طالعاً .
الشمس : ( 3 ) والنهار إذا جلاها
) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا ( جلّى الشمس وكشفها بإضائتها ، وقال الفراء وجماعة من العلماء : يعني والنهار إذا جلى الظلمة ، فجازت الكناية عن الظلمة ولم ( تذكر في أوله ) ؛ لأنّ معناها معروف وهو ألا ترى أنّك تقول : أصبحت باردة وأمست عرية وهبّت شمالاً فكنّي عن مؤنثات لم يجر لهن ذكر ؛ لأنّ معناهنّ معروف .
(10/212)
" صفحة رقم 213 "
الشمس : ( 4 ) والليل إذا يغشاها
) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ( أي يخشى الشمس حتّى تغيب فتظلم الآفاق .
الشمس : ( 5 ) والسماء وما بناها
) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ( أي ومن خلقها ، وهو الله سبحانه وتعالى ، كقوله : ) فانكحوا ما طاب لكم ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم ( ، وقيل : هو ما المصدر أي وبنائها كقوله : ) بما غفر لي ربّي ( .
الشمس : ( 6 ) والأرض وما طحاها
) وَالاْرْضِ وَمَا طَحَاهَا ( خلق ما فيها ، عن عطية عن ابن عبّاس والوالبي عنه : قسمها . غيره بسطها .
الشمس : ( 7 ) ونفس وما سواها
) وَنَفْس وَمَا سَوَّاهَا ( عدل خلقها
الشمس : ( 8 ) فألهمها فجورها وتقواها
) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ( قال ابن عبّاس برواية الوالبي : يبيّن لها الخير والشرّ .
وقال العوفي عنه : علّمها الطاعة والمعصية . الكلبي : أعلمها ما يأتي وما ينبغي ، وقال ابن زيد وابن الفضل : جعل فيها ذلك يعني بتوفيقه إيّاها للتقوى وخذلانه إيّاها للفجور .
أخبرني الحسن قال : حدّثنا موسى قال : حدّثنا عبدالله بن محمد بن سنان قال : حدّثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدّثنا عزرة بن ثابت الأنصاري قال : حدّثنا يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الدؤلي قال ب قال لي عمران بن حصين : أرأيت ما يعمل فيه الناس ويتكادحون فيه ؟ أشيء قضى عليهم ومضى عليهم من قدر سبق أو فيما يستقبلون ممّا آتاهم به نبيّهم صلّى الله عليه وأكّدت عليهم الحجّة ؟ قلت : كلّ شيء قد قضى عليهم . قال : فهل يكون ذلك ظلماً ؟ قال : ففزعت منه فزعاً شديداً وقلت : إنّه ليس شيء إلاّ وهو خلقه وملك يده ) لا يسأل عمّا يفعل وهم يُسئلون ( . فقال لي : سدّدك الله ، أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون فيه ؟ أشيء قضى عليهم من قدر سبق أو فيما يستقبلون ممّا آتاهم به نبيّهم ( صلى الله عليه وسلم ) وأكّدت به عليهم الحجّة ؟
فقال : في شيء قد قضى عليهم . قال : فقلت فيتمّ العمل إذا قال من كان الله سبحانه خلقه لإحدى المنزلتين يهيئه الله لها وتصديق ذلك في كتاب الله عزّوجلّ : ) ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها 2 )
الشمس : ( 9 ) قد أفلح من . . . . .
) قَدْ أَفْلَحَ ( سعِد وفاز ، وهاهنا موضع القسم . ) مَنْ زَكَّاهَا ( أي أفلحت نفس زكّاها الله أي أصلحها وطهّرها من الذنوب ووفّقها للتقوى ،
الشمس : ( 10 ) وقد خاب من . . . . .
وقد : ) خَابَ ( خسرت نفس ) مَنْ دَسَّاهَا ( دسسها الله فأهملها وخذلها ووضع منها وأخفى محلّها حين عمل بالفجور وركب المعاصي ، والعرب تفعل هذا كثيراً فيبدّل في الحرف المشدّد بعض حروفه ياء أو واو كالنقضي والتظنّي وبابهما
(10/213)
" صفحة رقم 214 "
أخبرنا أبو بكر بن عيلوس قال : أخبرنا أبو الحسن المحفوظي قال : حدّثنا عبدالله بن هاشم قال : حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن خصيف عن سعيد بن جبير ومجاهد : ) قد أفلح من زكّاها ( قال : أحدها أصلحها ، وقال الآخر : طهّرها .
) وقد خاب من دسّاها ( قال أحدهما : أغواها ، وقال الآخر : أضلّها ، وقال قتادة : دسّها آثمها وأفجرها ، وقال ابن عبّاس : أبطلها وأهلكها ، وأخبرنا عبدالله بن حامد قال : أخبرنا أبو محمد المزني قال : حدّثنا الحضرمي قال : حدّثنا عثمان قال : حدّثنا أبو الأحوص عن محمد بن السائب عن أبي صالح : ) قد أفلح من زكّاها وقد خاب من دسّاها ( قد أفلحت نفس زكّاها الله ، وخابت نفس أفسدها الله عزّوجلّ .
وقال الحسن : معناه قد أفلح من زكّى نفسه فأصلحها وحملها على طاعة الله عزّوجلّ ، وقد خاب من دسّاها قال : من أهلكها وأضلّها وحملها على معصية الله عزّوجلّ ، فجعل الفعل للنفس .
أخبرني الحسين قال : حدّثنا اليقطني قال : أخبرنا أحمد بن عبدالله بن يزيد العقيلي قال : حدّثنا صفوان بن صالح قال : حدّثنا الوليد بن مسلم قال : حدّثنا ابن لهيعة عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا قرأ هذه الآية : ) قد أفلح من زكّاها ( وقف ثمّ قال : ( اللّهمّ آتِ نفسي تقواها أنت وليّها ومولاها وزكّها أنت خير من زكّاها ) .
2 ( ) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا ( 2
الشمس : ( 11 ) كذبت ثمود بطغواها
) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا ( بطغيانها وعداوتها .
وروى عطاء الخراساني عن ابن عبّاس قال : اسم العذاب الذي جاءهم الطغوى ، فقال : كذّبت ثموت بعذابها .
وقرأه العامّة بفتح الطاء ، وقرأ الحسن وحمّاد بن سلمة بطغواها بضمّ الطاء ، وهي لغة كالفتوى والفتُوى والفتيا
الشمس : ( 12 ) إذ انبعث أشقاها
) إِذْ انْبَعَثَ ( قام ) أَشْقَاهَا ( وهو قدار بن سالف عاقر الناقة وكان رجلاً أشقر أزرق قصيراً ملتزق الخلق واسم أُمّه قديرة .
أخبرنا محمد بن حمدون قال : أخبرنا مكّي قال : حدّثنا عبد الرحمن قال : حدّثنا سفيان قال : حدّثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عبدالله بن زمعة قال : ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عاقر الناقة
(10/214)
" صفحة رقم 215 "
وقال : ( انتدب لها رجل ذو عزّ ومنعة في قومه كأبي زمعة ) وذكر الحديث .
الشمس : ( 13 ) فقال لهم رسول . . . . .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ناقة الله ( إغراء وتحذير ، أي احذروا عقر ناقة الله ، كقولك : الأسد الأسد .
) وسقياها ( شربها وسقيها من الماء ، فلا تزاحموها فيه ، كما قال الله سبحانه : ) لها شرب ولكم شرب يوم معلوم 2 )
الشمس : ( 14 ) فكذبوه فعقروها فدمدم . . . . .
) فكذّبوه ( يعني صالحاً ( عليه السلام ) ، ) فعقروها ( يعني الناقة ) فدمْدمَ ( دمّر ) عليهم ( وأهلكهم ) ربُهم بذنبهم ( بتكذيبهم رسوله وعقرهم ناقته .
) فسوّاها ( فسوّى الدمدمة عليهم جميعاً ، عمّهم بها ، فلم يفلت منهم أحد . وقال المروج : الدمدمة : إهلاك باستئصال ، وقال بعض أهل اللغة : الدمدمة : الإدامة . تقول العرب : ناقة مدمومة أي سمينة مملوءة ، وقرأ عبدالله بن الزبير ( فدهدم عليهم ) بالهاء ، وهما لغتان ، كقولك امتقع لونه واهتقع إذا تغير .
الشمس : ( 15 ) ولا يخاف عقباها
) ولا يخاف ( قرأ أهل الحجاز والشام فلا بالفاء وكذلك هو في مصاحفهم ، الباقون بالواو ، وهكذا في مصاحفهم ) عقباها ( عاقبتها .
واختلف العلماء في معنى ذلك ، فقال الحسن : يعني ولا يخاف الله من أحد تبعة في إهلاكهم ، وهي رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وقال الضحّاك والسدي والكلبي : هو راجع إلى العاقر ، وفي الكلام تقديم وتأخير معناه : إذ انبعث أشقاها ولا يخاف عقباها .
(10/215)
" صفحة رقم 216 "
( سورة والليل )
مكية ، وهي ثلاثمائة وعشرة أحرف ، وإحدى وسبعون كلمة ، وإحدى وعشرون آية
أخبرني ( محمد بن القاسم ) بن أحمد قال : حدّثنا عبدالله بن أحمد بن جعفر قال : أخبرنا أبو عمرو وأبو عثمان البصري قال : حدّثنا محمد بن عبدالوهاب العبدي قال : حدّثنا أحمد بن عبدالله بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي أمامه ، عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة والليل أعطاه الله حتى يرضى ، وعافاه الله سبحانه من العسر ويسّر له اليسر ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالاُْنثَى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى وَمَا يُغْنِى عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلاَْخِرَةَ وَالاُْولَى ( 2
الليل : ( 1 ) والليل إذا يغشى
) والليل إذا يغشى ( النهار فيذهب بضوءه
الليل : ( 2 - 3 ) والنهار إذا تجلى
) والنهار إذا تجلّى وما خلق الذكر والأُنثى ( يعني ومن خلق .
أخبرنا محمد بن نعيم قال : أخبرنا الحسين بن أيوب قال : حدّثنا علي بن عبدالعزيز قال : أخبرنا أبو عبيد قال : حدّثنا حجاج ، عن هارون ، عن إسماعيل ، عن الحسن : أنه كان يقرأ : وما خلق الذكر والأنثى ، فيقول : والذي خلق ، قال هارون قال أبو عمر وأهل مكة : يقول للرعد : سبحان ما سبّحت له . وقيل : وخلق الذكر والأنثى ، وذكر أنّها في قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء : والذكر والأنثى .
أخبرنا عبدالله بن حامد قال : أخبرنا مكي قال : أخبرنا عبدالله بن هاشم قال : حدّثنا أبو معونة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : قدمنا الشام ، فأتانا أبو الدرداء ، فقال : أمنكم أحد يقرأ عليّ قراءة عبدالله ؟ قال : فأشاروا إليّ ، فقلت : نعم أنا ، فقال : فكيف سمعت
(10/216)
" صفحة رقم 217 "
عبدالله يقرأ هذه الآية ، ) والليل إذا يغشى ( ؟ قال : قلت : سمعته يقرأها ( والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلّى والذكر والأنثى ) .
قال لنا : والله هكذا سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقرؤها وهؤلاء يريدونني أن أقرأ ) وما خلق ( فلا أُتابعهم .
الليل : ( 4 ) إن سعيكم لشتى
) إنّ سعيكم لشتى ( إنّ عملكم لمختلف ( وقال عكرمة وسائر المفسرين : السعي : العمل ) ، فساع في فكاك نفسه ، وساع في عطبها ، يدل عليه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( والناس عاذيان فمبتاع نفسه فمعتقها ، وبائع نفسه فموبقها ) .
الليل : ( 5 ) فأما من أعطى . . . . .
) فأما من أعطى ( ماله في سبيل الله ) واتّقى ( ربّه واجتنب محارمه
الليل : ( 6 ) وصدق بالحسنى
) وصدّق بالحسنى ( اي بالخلف أيقن بأن الله سبحانه سيخلف هذه ، وهذه رواية عكرمة وشهر بن حوشب ، عن ابن عباس ، يدلّ عليه ما أخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم ، عن محمد بن جرير قال : حدّثني الحسن بن أبي سلمة بن أبي كبشة قال : حدّثنا عبدالملك بن عمرو قال : حدّثنا عباد بن راشد ، عن قتادة قال : حدّثنا خليل العصري ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من يوم غربت شمسه إلاّ وبعث بجنبتها ملكان يناديان ، يسمعهما خلق الله تعالى كلهم إلاّ الثقلين ، اللهم أعطِ منفقاً خلفا وأعطِ ممسكاً تلفاً ، فأنزل في ذلك القرآن ، فأما من أعطى واتقى وصدّق بالحسنى إلى قوله للعسرى ) .
وقال أبو عبدالرحمن السلمي والضحّاك : وصدّق بالحسنى ، ب ( لا إله إلاّ الله ) . وهي رواية عطية ، عن ابن عباس . وقال مجاهد : بالجنة ، ودليله قوله سبحانه ) للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ( ، وقال قتادة ومقاتل والكلبي : بموعود الله الذي وعده أن يثيبه .
الليل : ( 7 ) فسنيسره لليسرى
) فسنيسّره ( فسنهيّئه في الدنيا ، تقول العرب : يسّرت غنم فلان إذا ولدت أو تهيّأت للولادة ، قال الشاعر :
هما سيدانا يزعمان وإنما
يسوداننا إن يسّرت غنماهما
) لليسرى ( للخلّة اليسرى ، وهي العمل بما يرضاه الله سبحانه ، وقيل : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق ح
(10/217)
" صفحة رقم 218 "
الليل : ( 8 ) وأما من بخل . . . . .
) وأما من بخل ( بالنفقه في الخير ) واستغنى ( عن ربّه فلم يرغب في ثوابه
الليل : ( 9 - 10 ) وكذب بالحسنى
) وكذّب بالحسنى فسنيسرهُ للعسرى ( أي للعمل بما لا يرضى الله حتى يستوجب به النار ، فكأنه قال : نخذله ونؤذيه إلى الأمرّ العسير ، وهو العذاب . وقيل : سندخله جهنم ، والعسرى اسم لها .
فإنْ قيل : فأي تيسير في العسرى ؟ قيل : إذا جمع بين كلامين أحدهما ذكر الخير والآخر ذكر الشر جاز ذلك ، كقوله : ) فبشّرهم بعذاب أليم ( .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا ابن ماهان محمد بن صي قال : حدّثنا شعبة ، عن الأعمش ، عن سعد بن عبيدة ، عن أبي عبدالرحمن السلمي ، عن علي بن أبي طالب : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان في جنازة فأخذ عوداً فجعل ينكث في الأرض ، فقال : ( ما منكم من أحد إلاّ قد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار ) ، فقال رجل : يا رسول الله ، أفلا نتكّل ؟ فقال ( اعملوا فكلٌّ ميسّر ) ، ثم قرأ ) فأما من أعطى واتّقى ( الآيات .
الليل : ( 11 ) وما يغني عنه . . . . .
) وما يغني عنه ماله إذا تردّى ( قال مجاهد : مات ، وقال قتادة وأبو صالح : هو لحد في جهنم ، قال الكلبي : نزلت في أبي سفيان بن حرب .
الليل : ( 12 ) إن علينا للهدى
) إنّ علينا للهدى ( أي بيان الحق من الباطل ، وقال الفرّاء : يعني من سلك الهدى فعلى الله سبيله ، كقوله سبحانه : ) وعلى الله قصد السبيل ( ، يقول : من أراد الله فهو على السبيل القاصد . وقيل : معناه : إنّ علينا للهدى والإضلال ، كقوله : بيدك الخير وسرابيل تقيكم الحر .
الليل : ( 13 ) وإن لنا للآخرة . . . . .
) وإن لنا الآخرة والأُولى ( فمن طلبها من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق .
( ) فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى لاَ يَصْلَاهَآ إِلاَّ الاَْشْقَى الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى وَسَيُجَنَّبُهَا الاَْتْقَى الَّذِى يُؤْتِى مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لاَِحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الاَْعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى ( 2
الليل : ( 14 ) فأنذرتكم نارا تلظى
) فأنذرتكم ناراً تلظّى ( تتوقد وتتوهج ، وقرأ عبيد بن عمير ( تتلظى ) على الأصل ، وغيره على الحذف
الليل : ( 15 - 16 ) لا يصلاها إلا . . . . .
) لا يصليها إلاّ الأشقى الذي كذّب وتولى ( قرأ أبو هريرة : ليدخلنّ الجنة إلاّ من يأبى ، قالوا : يا أبا هريرة ، ومن يأبى أن يدخل الجنة ؟ فقرأ قوله سبحانه : ) الذي كذّب وتولى ( .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا برهان بن علي الصوفي قال : حدّثنا أبو خليفة قال : حدّثنا القعبني قال : حدّثنا مالك قال : صلّى بنا عمر بن عبدالعزيز المغرب ، فقرأ فيها ) والليل إذا
(10/218)
" صفحة رقم 219 "
غشى ( ، فلمّا أتى على هذه الآية ) فأنذرتكم ناراً تلظّى ( وقع عليه البكاء فلم يقدر أن ( يتعدّاها ) من البكاء ، وقرأ سورة أُخرى .
الليل : ( 17 - 18 ) وسيجنبها الأتقى
) وسيجنّبها الأتقى الذي يوتي ماله يتزكى ( قال أهل المعاني : أراد الشقي والتقي ، كقول طرفة :
تمنى رجال أن أموت ، فإن أمت
فتلك سبيل لست فيها بأوحد
أي بواحد .
أخبرني الحسين قال : حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي قال : حدّثنا عبدالرحمن ابن محمد بن عبدالله المقري قال : حدّثنا جدّي قال : حدّثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن سالم .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن يوسف قال : حدّثنا ابن عمران قال : حدّثنا أبو عبيدالله المخزومي قال : حدّثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه أنّ أبا بكرح اعتق من كان يعذّب في الله : بلال وعامر بن فهيرة والنهدية وبنتها وزنيرة وأم عميس وأمة بني المؤمّل .
فأما زنيرة فكانت رومية وكانت لبني عبدالدار ، فلمّا أسلمت عميت ، فقالوا : أعمتها اللاتِ والعزى .
فقالت : هي تكفر باللات والعزى ، فردّ الله إليها بصرها ، ومرّ أبو بكر بها وهي تطحن وسيّدتها تقول : والله لا أعتقك حتى يعتقك صُباتك ، فقال أبو بكر فحلى إذاً يا أم فلان فبكمْ هي إذاً ؟ قالت : بكذا وكذا أوقية ، قال : قد أخذتها ، قومي ، قالت : حتى أفرغ من طحني .
وأما بلال فاشتراه ، وهو مدفون بالحجارة ، فقالوا : لو أبيت إلاّ أوقية واحدة لبعناك ، فقال أبو بكر : لو أبيتم إلاّ مائة أوقية لأخذته ، وفيه نزلت يعني أبا بكر ، ) وسيُجنَّبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ( إلى آخرها ، وأسلم وله أربعون ألفاً فأنفقها كلّها ، يعني أبا بكر .
وأنبأني عبدالله بن حامد قال : أخبرني أبو سعيد الحسن بن أحمد بن جعفر اليزدي قال : أخبرنا أبو محمد عبدالله بن محمد بن أبي عبدالرحمن المقري قال : حدّثنا سفيان ، عن عتبة قال : حدّثني من سمع ابن الزبير على المنبر وهو يقول : كان أبو بكر يبتاع الضعفة فيعتقهم ، فقال له أبوه : يا بني لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك ، قال : ( إنما أريد ما أُريد ) فنزلت فيه ) وسيُجنَّبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ( إلى آخر السورة ، وكان اسمه عبدالله بن عثمان
(10/219)
" صفحة رقم 220 "
عن عطاء ، عن ابن عباس ، في هذه الآية أن بلالا لما أسلم ذهب إلى الأصنام فسلح عليها ، وكان المشركون وكلوا امراة تحفظ الأصنام ، فأخبرتهم المرأة ، وكان بلال عبداً لعبدالله ابن جدعان ، فشكوا إليه ، فوهبه لهم ومائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم ، فأخذوه وجعلوا يعذبونه في الرمضاء ، وهو يقول : أحداً أحد ، فمرّ به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ينجيك أحد أحد ، ثم أخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبا بكر أن بلالا يعذَّب في الله ، فحمل أبو بكر رطلا من ذهب فابتاعه به .
وقال سعيد بن المسيب : بلغني أن أُمية بن خلف قال لإبي بكر حين قال له أبو بكر : أتبيعه ؟ قال : نعم أبيعه بنسطاس ، وكان نسطاس عبداً لأبي بكر صاحب عشرة آلاف دينار وغلمان وجواري ومواشي ، وكان مشركاً ( وحمله ) أبو بكر على الإسلام على أن يكون ( له ) ماله ، فأبى فأبغضه أبو بكر ، فلمّا قال له أُمية : أتبيعه بغلامك نسطاس ؟ اغتنمه أبو بكر وباعه به ، فقال المشركون : ما فعل أبو بكر ذلك لبلال إلاّ ليد كانت لبلال عنده ، فأنزل الله سبحانه
الليل : ( 19 ) وما لأحد عنده . . . . .
) وما لأحد عنده ( من أُولئك الذين أعتقهم ) من نعمة تُجزى ( يد نكافئه عليها
الليل : ( 20 - 21 ) إلا ابتغاء وجه . . . . .
) إلاّ ( لكن ) ابتغاء وجه ربّه الأعلى ولسوف يرضى ( بثواب الله في العقبى عوضاً مما فعل في الدنيا .
وأخبرنا أبو القاسم يعقوب بن أحمد بن السري العروضي في درب الحاجب قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن عبدالله العماني الحفيد قال : حدّثنا أحمد بن نصر بن خفيف القلانسي الرقّاء قال : حدّثنا محمد بن جعفر بن سوّار بن سنان في سنة خمس وثمانين ومائتين قال : حدّثنا علي ابن حجر ، عن إسحاق بن نجح ، عن عطاء قال : كان لرجل من الأنصار نخلة ، وكان له جار ، فكان يسقط من بلحها في دار جاره ، فكان صبيانه يتناولون ، فشكا ذلك إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له النبي ( عليه السلام ) ( بعنيها بنخلة في الجنة ) ، فأبى قال : فخرج ، فلقيه أبو الدحداح ، فقال : هل لك أن تبيعها بجبس ؟ يعني حائطاً له ، فقال : هي لك ، قال : فأتى النبي ( عليه السلام ) ، فقال : يا رسول الله اشترها منّي بنخلة في الجنة ، قال : نعم ، قال : هي لك ، فدعا النبي ( عليه السلام ) جار الأنصاري ، فأخدها ، فأنزل الله سبحانه وتعالى ) والليل إذا يغشى ( إلى قوله : ) إن سعيكم لشتى ( أبو الدحداح والأنصاري صاحب النخلة .
) فأما من أعطى واتقى ( أبو الدحداح ) وصدّق بالحسنى ( يعني الثواب ) فسنيسّره لليسرى ( يعني الجنة .
) وأما من بخل واستغنى ( يعني الأنصاري ) وكذّب بالحسنى ( يعني الثواب ) فسنيسّره للعسرى ( يعني النار ، ) وما يغني عنه ماله إذا تردّى ( يعني به إذا مات كما في قوله : ) فأنذرتكم
(10/220)
" صفحة رقم 221 "
ناراً تلظى لا يصلها إلاّ الأشقى ( صاحب النخلة ) وسيُجنَّبها الأتقى ( يعني أبا الدحداح ) الذي يؤتي ماله يتزكى ( يعني أبا الدحداح ) وما لاحد عنده من نعمة تجزى ( يكافئه بها ، يعني أبا الدحداح ) إلاّ ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ( إذا أدخله الجنة . فكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يمر بذلك بجبس وعذوقه دانية ، فيقول : ( عذوق وعذوق لأبي الدحداح في الجنة ) .
(10/221)
" صفحة رقم 222 "
( سورة والضحى )
مكية ، وهي مائة واثنان وسبعون حرفاً ، وأربعون كلمة ، وإحدى عشرة آية
أخبرني محمد بن القاسم الفقيه قال : حدّثنا محمد بن يزيد المعدّل قال : حدّثنا أبو يحيى البزاز قال : حدّثنا محمد بن منصور قال : حدّثنا محمد بن عمران بن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال : حدّثنا أبي ، عن مخالد بن عبدالواحد ، عن الحجاج بن عبدالله ، عن أبي الخليل ، عن علي ابن زيد ، وعطاء بن أبي ميمونة ، عن زر بن حبيش ، عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة والضحى ، كان فيمن يرضاه الله عزّ وجلّ لمحمد أن يشفع له ، وعشر حسنات يكتبها الله له بعدد كل يتيم ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالضُّحَى وَالَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلاَْخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الاُْولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فَأَغْنَى ( 2
الضحى : ( 1 ) والضحى
) والضحى ( قال المفسّرون : سألت اليهود رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن ذي القرنين وأصحاب الكهف وعن الروح ، فقال : سأخبركم غداً ولم يقل : إن شاء الله ، فاحتبس عنه الوحي .
وقال زيد بن أسلم : كان سبب احتباس جبرائيل ( عليه السلام ) كون جرو في بيته ، فلمّا نزل عليه جبرائيل عاتبه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على إبطائه ، فقال : يا محمد أما علمت أنّا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ؟
واختلفوا في مدة احتباس الوحي عنه ، فقال ابن حريج : اثني عشر يوماً ، وقال ابن عباس : خمسة عشر يوماً ، وقيل : خمسة وعشرين يوماً ، وقال مقاتل : أربعين يوماً . قالوا : فقال
(10/222)
" صفحة رقم 223 "
المشركون : إنّ محمداً ودعّه ربّه وقلاه ، ولو كان أمره من الله لتتابع عليه كما كان يفعل بمن قبله من الأنبياء .
وقال المسلمون : يا رسول الله أما ينزل عليك الوحي ؟ فقال : ( وكيف ينزل عليّ الوحي وأنتم لا تنقون براجمكم ولا تقلّمون أظفاركم ) ، فأنزل الله سبحانه جبرائيل ( عليه السلام ) بهذه السورة فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا جبرائيل ما جئت حتى اشتقت إليك ) ، فقال جبرائيل ( عليه السلام ) : وأنا كنت إليك أشدّ شوقاً ولكني عبد مأمور وما ننزل إلاّ بأمر ربّك .
أخبرنا عبدالله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن يعقوب قال : حدّثنا الحسن بن علي بن عفان قال : حدّثنا أبو أُسامة ، عن سفيان ، عن الأسود بن قيس ، أنه سمع جندب بن سفيان يقول : رمي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بحجر في إصبعه ، فقال :
( هل أنتِ إلاّ إصبع دميتِ
وفي سبيل الله مالقيتِ )
فمكث ليلتين أو ثلاثاً لا يقوم ( الليل ) ، فقالت له امرأة : يا محمد ما أرى شيطانك إلاّ قد تركك ، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث ليال . وقيل : إنّ المرأة التي قالت ذلك أم جميل امرأة أبي لهب ، فأنزل الله سبحانه ) والضحى ( . يعني النهار كلّه ، دليله قوله ) والليل إذا سجى ( فقابله بالليل ، نظيره قوله ) أن يأتيهم بأسنا ضحى ( أي نهاراً ، وقال قتادة ومقاتل : يعني وقت الضحى ، وهي الساعة التي فيها ارتفاع الشمس ، واعتدال النهار من الحر والبرد في الشتاء والصيف ، وقيل : هي الساعة التي كلّم الله فيها موسى ، وقيل : هي الساعة التي أُلقي السحرة فيها سجّدا ، بيانه قوله سبحانه : ) وأن يحشر الناس ضحى ( وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله : بإضمار الربّ مجازه : وربّ الضحى .
الضحى : ( 2 ) والليل إذا سجى
) والليل إذا سجى ( قال الحسن : أقبل بظلامه ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، الوالبي عنه : إذا ذهب الضحّاك : غطّى كلّ شيء ، مجاهد وقتادة وابن زيد : سكن بالخلق واستقر ظلامه ، يقال : ليل ساج ، وبحر ساج إذا كان ساكناً ، قال الراجز :
يا حبذا القمراء والليل الساج
وطرق مثل ملاء النسَّاج
وقال أعشى بني ثعلبة :
فما ذنبنا إن جاش بحر ابن عمّكم
وبحرك ساج ما يواري الدّعامصا
(10/223)
" صفحة رقم 224 "
الضحى : ( 3 ) ما ودعك ربك . . . . .
) ما ودّعك ربّك وما قلى ( أي ما تركك منذ اختارك ، ولا أبغضك منذ أحبّك ، وهذا جواب القسم .
الضحى : ( 4 - 5 ) وللآخرة خير لك . . . . .
) وللآخرة خير لك من الأُولى ولسوف يعطيك ربّك ( من الثواب ، وقيل : من النصر والتمكن وكثرة المؤمنين ) فترضى ( .
أخبرنا عبدالله بن حامد قال : أخبرنا أبو عبدالله محمد بن عامر السمرقندي قال : حدّثنا عمر بن بحر قال : حدّثنا عبد بن حميد ، عن قتيبة ، عن سفيان ، عن الأوزاعي ، عن إسماعيل بن عبدالله ، عن علي بن عبدالله بن عباس ( عن أبيه ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رأيت ما هو مفتوح على أمتي من بعدي كفراً كفراً ) فسرّني ذلك ، فنزلت ) ولسوف يعطيك ربّك فترضى ( قال : أُعطي في الجنة ألف قصر من لؤلؤ ترابها المسك ، في كل قصر ما ينبغي له .
وأخبرني عقيل أن أبا الفرج ، أخبرهم عن ابن جرير قال : حدّثني عبّاد بن يعقوب قال : حدّثنا الحكم بن ظهر ، عن السدي ، عن ابن عباس : في قوله ) ولسوف يعطيك ربك فترضى ( قال : رضا محمد ان لا يدخل أحد من أهل بيته النار ، وقيل : هي الشفاعة في جميع المؤمنين .
أخبرنيه أبو عبدالله القنجوي قال : حدّثنا أبو علي المقري قال : حدّثنا محمد بن عمران بن أسد الموصلي قال : حدّثنا محمد بن أحمد المدادي قال : حدّثنا عمرو بن عاصم قال : حدّثنا حرب بن سريح البزاز قال : حدّثنا أبو جعفر محمد بن علي قال : حدّثني عمي محمد بن علي بن الحنفية ، عن أبيه علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أشفع لأمتي حتى ينادي ربي عزّ وجلّ : رضيت يا محمد ، فأقول : ربّ رضيت ) ثم قال لي : إنّكم معشر أهل العراق تقولون : إن أرجى آية في القرآن ) يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ( قلت : انا لنقول ذلك ، قال : ولكنّا أهل البيت نقول : إنّ أرجى آية في كتاب الله تعالى ) ولسوف يعطيك ربك فترضى ( وهي الشفاعة .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا أبو عامر بن سعدان قال : حدّثنا أحمد بن صالح المصري ، قال : حدّثنا عبدالله بن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدّثه عن عبدالرحمن بن جبير عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تلا قول الله سبحانه في إبراهيم : ) فمن تبعني فإنّه مني ومن عصاني فإنّك غفور رحيم ( وقول عيسى : ) إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ( فرفع يديه ثم قال : ( اللهمّ أُمّتي أُمّتي ) وبكى .
فقال الله سبحانه : يا جبرائيل إذهب إلى محمد وربّك أعلم فاسأله ما يبكيك ؟ فأتاه جبرائيل ، فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسل
(10/224)
" صفحة رقم 225 "
فقال الله سبحانه : يا جبرائيل اذهب إلى محمد ، فقل : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك .
ويروي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لمّا نزلت هذه الآية : ( إذاً لا أرضى وواحد من أمتي في النار ) .
وقال جعفر بن محمد : دخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على فاطمة خ وعليها كساء من جلد الإبل ، وهي تطحن بيدها ، وترضع ولدها ، فدمعت عينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لمّا أبصرها ، فقال : ( يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة ، فقد أنزل الله عليّ : ) ولسوف يعطيك ربك فترضى ( .
الضحى : ( 6 ) ألم يجدك يتيما . . . . .
ثم أخبر الله سبحانه ، عن حاله ( عليه السلام ) التي كان عليها قبل الوحي ، وذكّره نعمه ، فقال عزّ من قائل : ) ألم يجدك يتيماً فآوى ( .
أنبأني عبدالله بن حامد الأصبهاني قال : أخبرنا محمد بن عبدالله النيسابوري قال : حدّثنا محمد بن عيسى ، قال : حدّثنا أبو عمر الحوصي ، وأبو الربيع الزهراني ، عن حمّاد بن زيد ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( سألت ربي مسألة وددت أني لم أكن سألته ، قلت : يا ربّ إنك آتيت سليمان بن داود ملكاً عظيماً ، وآتيت فلاناً كذا ، وآتيت فلاناً كذا ، قال : يا محمد ألمْ أجدك يتيماً فآويتك ؟ قلت : بلى أي رب ، قال : ألمْ أجدك ضالا فهديتك ؟ قلت : بلى يا رب ، قال : ألمْ أجدك عائلا فأغنيتك ؟ قلت : بلى أي رب ) .
ومعنى الآية : ) ألم يجدك يتيماً ( صغيراً فقيراً ضعيفاً حين مات أبواك ، ولم يخلفا لك مالا ، ولا مأوى ، فجعل لك مأوى تأوي إليه ، ومنزلا تنزله ، وضمّك إلى عمّك أبي طالب حتى أحسن تربيتك ، وكفاك المؤونة .
سمعت الاستاذ أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا نصر منصور بن عبدالله الأصفهاني يقول : سمعت أبا القاسم الاسكندراني يقول : سمعت أبا جعفر الملطي يقول : سمعت أبي يقول : سمعت علي بن موسى الرضا يقول : سمعت أبي يقول : سئل جعفر بن محمد الصادق : لم أؤتم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عن أبويه ؟ فقال : لئلاّ يكون عليه حق لمخلوق
(10/225)
" صفحة رقم 226 "
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد بن عبدالله العنبري يحكي بإسناد له لا أحفظه ، عن عبدالوهاب بن مجاهد ، عن أبيه أنه قال في قوله تعالى : ) ألم يجدك يتيماً فآوى ( : هو من أقوال العرب : درة يتيمة إذا لم يكن لها مثل وقد جاء في الشعر :
لا ولا درّة يتيمة بحر
تتلالا في جونة البياع
فمجاز الآية : ) ألم يجدك ( واحداً في شرفك ، وفضلك ، لا نظير لك ، فآواك إليه .
وقرأ أشهب العقيلي ) فأوى ( بالقصر : أي رحمك . تقول العرب : آويت لفلان آية ومأواة أي رحمته .
الضحى : ( 7 ) ووجدك ضالا فهدى
) ووجدك ضالا ( عما أنت عليه اليوم ، فهداك إلى الذي أنت عليه اليوم .
قال السدي : كان على أمر قومه أربعين عاماً ، وقال الكلبي : وجدك في قوم ضلال فهداك إلى التوحيد ، والنبوة ، وقيل : فهداهم بك ، وقال الحسن والضحّاك وشهر بن حوشب وابن كيسان : ووجدك ضالا عن معالم النبوة ، وأحكام الشريعة غافلا عنها ، فهداك إليها ، نظيره ودليله قوله سبحانه ) وإن كنت من قبله لمن الغافلين ( وقوله تعالى : ) ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ( ، وقيل : ضالا في شعاب مكّة ، فهداك إلى جدّك عبدالمطلب ، وردّك إليه .
روى أبو الضحى ، عن ابن عباس قال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ضل ، وهو صبي صغير في شعاب مكّة ، فرآه أبو جهل ، منصرفاً من أغنامه ، فردّه إلى جدّه عبدالمطلب ، فمنّ الله سبحانه عليه بذلك ، حين ردّه إلى جدّه على يدي عدوّه .
وأخبرنا عبدالله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن عبدوس قال : حدّثنا عثمان بن سعيد قال : حدّثنا عمرو بن عوف قال : أخبرنا خالد ، عن داود بن أبي هند ، عن العباس بن عبدالرحمن ، عن بشر بن سعيد ، عن أبيه قال : حججت في الجاهلية ، فإذا أنا برجل يطوف بالبيت ، وهو يرتجز ، ويقول :
يا ربّ ردّ راكبي محمدا
ردّ إليّ واصطنع عندي يدا
فقلت : من هذا ؟ قيل : عبدالمطلب بن هاشم ، ذهبت أبل له فأرسل ابن ابنه في طلبها ، ولم يرسله في حاجة قط إلاّ جاء بها ، وقد احتبس عليه ، قال : فما برحتُ أنْ جاء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وجاء بالإبل ، فقال : يا بُنيّ لقد حزنت عليك حزناً لا يفارقني أبداً .
وفي حديث كعب الأحبار ، في مولد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبدء أمره أن حليمة لمّا قضت حق الرضاع ، جاءت برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لتردّه إلى عبدالمطلب ، قالت حليمة : فأقبلتُ أسير حتى أتيت
(10/226)
" صفحة رقم 227 "
الباب الأعظم من أبواب مكّة ، فسمعت منادياً ينادي : هنيئاً لكِ يا بطحاء مكة ، اليوم يرد عليك النور والدين والبهاء والجمال ، قالت : ثم وضعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأقضي حاجة وأصلح ثيابي ، فسمعت هدّة شديدة ، فالتفت فلم أره ، فقلت : معاشر الناس أين الصبي ؟ فقالوا : أي الصبيان ؟
قلت : محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب ، الذي نضرّ الله به وجهي ، وأغنى عيلتي ، ربيّته حتى إذا أدركت فيه سروري وأملي أتيت به لأردّه ، وأخرج هذا من أمانتي ، اختلس من بين يدي قبل أن يمس قدمه الأرض ، واللات والعزى لئن لم أره لأرمينّ بنفسي من شاهق الجبل ، فلأقطعنّ إرباً إرباً .
قالوا : ما رأينا شيئاً ، فلمّا آيسوني وضعت يدي على أم رأسي ، وقلت : وامحمداه واولداه ، فأبكيت الجواري الأبكار لبكائي ، وضجّ الناس معي بالبكاء حرقةً لي ، فإذا أنا بشيخ كالفاني يتوكأ على عصا ، قال : مالك أيتها السعدية ؟
قلت : فقدت ابني محمداً ، فقال : لا تبكي أنا أدلّك على من يعلم علمه ، وإن شاء أن يردّه فعل ، قلت : فدتك نفسي ، ومن هو ؟ قال : الصنم الأعظم هبل .
قالت : فدخل وأنا أنظر ، فطاف بهبل وقبّل رأسه وناداه : يا سيداه ، لم تزل منتك على قريش قديمة ، وهذه السعدية تزعم أن ابناً لها قد ضلّ ، فردّه إن شئت ، وأخرج هذه الوحشة عن بطحاء مكة ، فأنها تزعم أن ابنها محمداً قد ضلّ ، قال : فانكب هبل على وجهه ، وتساقطت الأصنام ، وقالت : إليك عنّا أيها الشيخ . إنما هلاكنا على يدي محمد .
قالت : فأقبل الشيخ أسمع لأسنانه اصطكاكاً ، ولركبته ارتعاداً ، وقد ألقى عكازته من يده وهو يقول : يا حليمة إن لابنك رباً لا يضيّعه فاطلبيه على مهل ، قالت : فخفت أن يبلغ الخبر عبدالمطلب قبلي ، فقصدته فلمّا نظر اليّ ، قال : أسعد نزل بكِ أم نحوس ؟ ، قلت : بل النحس الأكبر ، ففهمها منّي ، وقال : لعلّ ابنك ضلّ منك ، قالت : قلت : نعم فظنَّ أن بعض قريش قد اغتاله ، فسلّ عبدالمطلب سيفه لا يثبت له أحد من شدة غضبه ، ونادى بأعلى صوته : يا آل غالب ، يا آل غالب ، وكانت دعوتهم في الجاهلية فأجابته قريش بأجمعها ، وقالوا : ما قصتك ؟ ، قال : فُقد ابني محمد ، قالت قريش : اركب نركب معك ، فإنْ تسنّمت جبلا تسنماه معك ، وان خضت بحراً خضناه معك ، فركب وركبت قريش معه فأخذ على أعلى مكة وانحدر على أسفلها ، فلمّا أن لم ير شيئاً ترك الناس واتشح وارتدى بآخر ، وأقبل إلى البيت الحرام ، فطاف اسبوعاً ثم أنشأ يقول :
يا ربّ ردّ راكبي محمداً
ردّه ربي واتخذ عندي يدا
يا ربّ إنْ محمد لم يوجدا
مجمع قومي كلّهم مبدّدا
فسمعنا منادياً ينادي من الهواء : معاشر الناس لا تضجوا ، فان لمحمد ربّاً لا يخذله ولا
(10/227)
" صفحة رقم 228 "
يضيّعه ، قال عبدالمطلب : يا أيها الهاتف ومن لنا به وأين هو ؟ ، قال بوادي تهامة عند شجرة اليمن .
فأقبل عبدالمطلب راكباً متسلحاً ، فلمّا صار في بعض الطرق تلقّاه ورقة بن نوفل فصارا جميعاً يسيران ، فبينما هم كذلك إذ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قائم تحت شجرة يجذب الأغصان ويعبث بالورق ، قال له عبدالمطلب : من أنت يا غلام ؟
قال : أنا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب ، قال عبدالمطلب : فدتك نفسي وأنا جدّك ، ثم حمله على قربوس سرجه وردّه إلى مكة واطمأنت قريش بعد ذلك .
وقال سعيد بن المسيب : خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مع عمه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة ، فبينما هو راكب ذات ليلة ظلماء على ناقة إذ جاء إبليس ، وأخذ بزمام الناقة فعدل به عن الطريق ، فجاء جبرائيل فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى الحبشة وردّه إلى القافلة ، فمنّ الله عليه بذلك .
وقيل : وجدك ضالا ليلة المعراج حين انصرف عنك جبرائيل لا تعرف الطريق ، فهداك إلى ساق العرش .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثني ابن حبيش قال : قال بعض أهل الكلام في قوله : ) ووجدك ضالا فهدى ( : إن العرب إذا وجدت شجرة في فلاة من الأرض وحيدة ليس معها ثانية يسمونها : ضالة ، فيهتدون بها إلى الطريق .
قال : ) ووجدك ضالا فهدى ( أي وحيداً ليس معك نبي غيرك فهديت بك الخلق إليّ ، وقال عبدالعزيز بن يحيى ومحمد بن علي الترمذي : ووجدك خاملا لا تذكر ولا تُعرف من أنت ، فهداهم إليك حتى عرفوك ، وأعلمهم بما منّ به عليك .
قال بسام بن عبدالله : ووجدك ضالا نفسك لا تدري من أنت فعرّفك نفسك وحالك ، وقال أبو بكر الورّاق وغيره : ووجدك ضالا بحب أبي طالب فهداك إلى حبّه ، وغيره : وجدك محبّاً فهداك إلى محبوبك ، دليله قوله سبحانه ، إخباراً عن إخوة يوسف ) إن أبانا لفي ضلال مبين ( وقوله سبحانه : ) تالله إنك لفي ضلالك القديم ( اي فرط الحب ليوسف .
وقيل : وجدناك ناسياً شأن الاستثناء حين سُئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح ، دليله قوله ) أنْ تضلّ إحداهما ( أي تنسى ، وقال سهل : وجد نفسك نفس الشهوة
(10/228)
" صفحة رقم 229 "
والطبع ، فغيّره إلى سبيل المعرفة والشرع ، قال جنيد : وجدك متحيراً في بيان الكتاب المنزل عليك فهداك لبيانه ، لقوله ) وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ( وقوله ) لتبين لهم الذي اختلفوا فيه ( .
قال بندار بن الحسين : ليس قائما مقام الأستدلال فتعرفت إليك ، وأغنيتك بالمعرفة عن الشواهد والأدلة ، وقيل : وجدك طالباً لقبلتك ضالا عنها فهداك إليها .
الضحى : ( 8 ) ووجدك عائلا فأغنى
) ووجدك عائلا ( فقيراً عديماً فأغناك بمال خديجة ، ثم بالغنائم ، وقال مقاتل : فرضاك بما أعطاك من الرزق ، وقرأ ابن السميقع : وجدك عيّلا بتشديد الياء من غير ألف على وزن فيعل ، كقولك : طاب يطيب فهو طيّب . وعن ابن عطاء : وجدك فقير النفس ، وقيل : فقيراً إليه فأغناك به ، وقيل : غنياً بالمعرفة فقيراً عن أحكامها ، فأغناك بأحكام المعرفة حتى تم لك الغنى .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبيش ، عن بعضهم أنه قال : وجدك عائلا تعول الخلق بالعلم فأغناك بالقرآن والعلم والحكمة ، وقال الأخفش : وجدك ذا عيال . دليله قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وابدأ بمن تعول ( .
عن ابن عطاء : لم يكن معك كتاب ولا شريعة فأغناك بهما ، وقيل : وجدك عائلا عن الصحابة محتاجاً إليهم ، فأكثرنا لك الاخوان والأعوان ، وحذف الكاف من قوله فآوى واختيها لمشاكلة رؤوس الآي ، ولأن المعنى معروف .
2 ( ) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ( 2
الضحى : ( 9 ) فأما اليتيم فلا . . . . .
) فأمّا اليتيم فلا تقهر ( واذكر يتمك ، وقرأ النخعي والشعبي : فلا تكهر ، بالكاف ، وكذلك هو في مصحف عبدالله ، والعرب تعاقب بين القاف والكاف ، يدل عليه حديث معاوية بن الحكم الذي تكلّم في الصلاة قال : ما كهرني ، ولا ضربني .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن مالك قال : حدّثنا ابن حنبل قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا إسحاق بن عيسى قال : حدّثنا مالك ، عن ثور بن زيد الدبلي قال : سمعت أبا الغيث يحدّث ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنّة إذا اتقى الله سبحانه ) وأشار مالك بالسبابة والوسطى .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن ( يوسف ) قال : حدّثنا الحسن بن علي بن نصر
(10/229)
" صفحة رقم 230 "
الطوسي قال : حدّثنا جعفر بن محمد بن الفضل برأس العين قال : حدّثنا إبراهيم بن زكريا قال : حدّثنا الحسين بن أبي جعفر ، عن علي ، عن سعيد بن المسيب ، عن عمر بن الخطاب ح قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن ، فيقول الله سبحانه لملائكته : يا ملائكتي من أبكى هذا اليتيم الذي غيّب أباه في التراب ؟ فيقول الملائكة : ربنا أنت أعلم ، فيقول الله : يا ملايكتي فإني أشهدكم أنّ لمن أسكته وأرضاه أن أرضيه يوم القيامة ) فكان عمر إذا رأى يتيماً مسح رأسه ، وأعطاه شيئاً .
وأخبرني عبدالله بن حامد الأصفهاني ، حدّثنا صالح بن محمد قال : حدّثنا سليمان بن عمرو ، عن أبي حزم ، عن أنس بن مالك قال : من ضمّ يتيماً فكان في نفقته وكفاه مؤونته كان له حجاباً من النار يوم القيامة ، ومن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة .
الضحى : ( 10 ) وأما السائل فلا . . . . .
) وأما السائل فلا تنهر ( فلا تزجر لكن بدّل يسيراً ورُدَّ جميلا ، واذكر فقرك .
وأخبرنا عبدالله بن حامد فيما أجاز لي روايته عنه قال : أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم الحلواني قال : حدّثنا العباس بن عبدالله قال : حدّثنا سعيد أبو عمرو البصري قال : حدّثنا سهل ابن أسلم العنبري ، عن الحسن في قوله سبحانه وتعالى : ) وأمّا السائل فلا تنهر ( قال : أما انه ليس بالسائل الذي يأتيك لكن طالب العلم .
وأخبرني عبدالله بن حامد الأصفهاني قال : حدّثني العباس بن محمد بن قوهيال قال : حدّثنا حاتم بن يونس قال : حدّثني عبيد بن نعيش قال : سمعت يحيى بن آدم يقول : وأمّا السائل فلا تنهر ، قال : إذا جاءك الطالب للعلم فلا تنهره .
وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو حذيفة قال : حدّثنا أبو عروبة قال : حدّثنا يحيى بن حكيم والحسين بن سلمة بن أبي كبشة قالا : حدّثنا أبو قتيبة قال : حدّثنا الحسن بن علي الهاشمي ، عن عبدالرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يمنعن أحدكم السائل أن يعطيه إذا سأل وأن رأى في يده قلبين من ذهب ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا عبدالله بن أحمد الكسائي قال : حدّثنا أحمد بن ثابت بن غياث قال : حدّثنا إبراهيم بن الشماس قال : حدّثنا أحمد بن أيوب الضبي ، عن إبراهيم بن أدهم قال : نعم القوم السُّؤّال ، يحملون زادنا إلى الآخرة .
وقال إبراهيم : السائل يريد الآخرة يجيء إلى باب أحدكم فيقول : هل توجهون إلى أهليكم بشيء .
(10/230)
" صفحة رقم 231 "
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبدالله بن يوسف قال : حدّثنا الحسن بن علي بن زكريا القرشي قال : حدّثنا هدية بن خالد قال : حدّثنا صبان بن علي قال : حدّثنا طلحة بن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا رددت السائل ثلاثاً فلم يرجع فلا عليك أن تزبره ) .
الضحى : ( 11 ) وأما بنعمة ربك . . . . .
) وأما بنعمة ربّك فحدّث ( يعني النبوّة ، عن مجاهد ابن أبي نجيح عنه قال : القرآن ، وإليه ذهب الكلبي . وحكم الآية ( عام ) في جميع الإنعام .
أخبرني الغنجوي قال : حدّثنا القطيعي قال : حدّثنا ابن حنبل قال : حدّثني أبو عمرو الأزدي قال : حدّثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدّثنا نوح بن قيس قال : حدّثني نصر بن علي قال : كان عبدالله بن غالب إذا أصبح يقول : لقد رزقني الله البارحة خيراً ، قرأت كذا وصلّيت كذا ، وذكرت الله كذا وفعلت كذا ، فيقال له : يا أبا فراس إن مثلك لا يقول مثل هذا فيقول : الله سبحانه يقول : ) وأما بنعمة ربّك فحدّث ( وتقولان أنتم : لا تحدّث بنعمة ربك .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن مالك قال : حدّثنا شبر بن موسى قال : حدّثنا عبدالله ابن يزيد المقري قال : حدّثنا أبو معمر ، عن بكر بن عبدالله المزني أنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أعطي خيراً فلم ير عليه سُمّي بغيض الله معادياً لنعمه ) .
وأخبرنا الحسن قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال : حدّثنا أبو القاسم بن منيع قال : حدّثنا منصور بن أبي مزاحم قال : حدّثنا وكيع ، عن أبي عبدالرحمن يعني القاسم بن وليد ، عن الشعبي ، عن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول على المنبر : ( من لم يشكر القليل ، ومن لم يشكر الكثير ، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله ، والتحدث بنعمة الله شكر ، وتركها كفر ، والجماعة رحمة ، والفرقة عذاب ) .
(10/231)
" صفحة رقم 232 "
( سورة الشرح )
مكية ، وهي مائة وثلاثة أحرفوسبع وعشرون كلمة ، وثماني آيات
أخبرنا أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن أحمد بن علي الجرجاني قال : حدّثنا أبو القاسم عبدالله بن محمد بن إبراهيم قال : حدّثني أبو بكر أحمد بن إسحاق بن إبراهيم البصري قال : حدّثنا محمد بن عبدالملك بن أبي الشوارب قال : حدّثنا أبو عوانة ، عن عاصم بن بهدلة ، عن زرّ ابن حبيش ، عن عبدالله قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( من قرأ ) ألم نشرح لك صدرك ( فكأنما جاءني وأنا مغتم ففرّج عنّي ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
( ) أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِىأَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ( 2
الشرح : ( 1 ) ألم نشرح لك . . . . .
) ألم نشرح لك صدرك ( ألمْ نفتح ونوسّع ونليّن لك قلبك بالإيمان والنبوّة والعلم والحكمة .
الشرح : ( 2 - 3 ) ووضعنا عنك وزرك
) ووضعنا ( وحططنا ) عنك وزرك الذي أنقض ظهرك ( أثقل ظهرك فأوهنه ، ومنه قيل للبعير إذا كان رجيع سفر قد أوهنه وأنضاه : نقض . وقال الفرّاء : كسر ظهرك حين سمع نقيضه : أي صوته ، قال الحسن وقتادة والضحّاك : يعني ما سلف منه في الجاهلية ، وقال الحسين بن الفضل : يعني الخطأ والسهو ، وقيل : ذنوب أُمتك فأضافها إليه لاشتغال قلبه بها وإهتمامه لها ، وقال عبدالعزيز بن يحيى وأبو عبيدة : يعني خفّفنا عليك أعباء النبوة والقيام بأمرها ، وقيل : وعصمناك عن احتمال الوزر .
الشرح : ( 4 ) ورفعنا لك ذكرك
) ورفعنا لك ذكرك ( أخبرنا عبدالخالق بقراءتي عليه قال : حدّثنا ابن جنب قال : حدّثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل قال : حدّثنا صفوان يعني ابن صالح الثقفي أبو عبدالملك قال : حدّثنا الوليد يعني ابن مسلم قال : حدّثني عبدالله بن لهيعة ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي
(10/232)
" صفحة رقم 233 "
سعيد الخدري ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه سأل جبرائيل عن هذه الآية ورفعنا لك ذكرك ، قال : ( قال الله سبحانه : إذا ذكرتُ ، ذكرتَ معي ) .
وحدّثنا أبو سعيد عبدالملك بن أبي عثمان الواعظ قال : حدّثنا إسماعيل بن أحمد الجرجاني قال : أخبرنا عمران بن موسى قال : حدّثنا أبو معمر قال : حدّثنا عباد ، عن عوف ، عن الحسن في قوله ورفعنا لك ذكرك ، قال : إذا ذكرتُ ذكرتَ معي ، وقال قتادة : يرفع الله ذكره في الدنيا والآخرة ، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلاّ ينادي بها : أشهد ان لا إله إلاّ الله ، وأن محمداً رسول الله ، وقال مجاهد : يعني بالتأذين ، وفيه يقول حسان بن ثابت يمدح النبي ( صلى الله عليه وسلم )
أغرّ عليه للنبوةِ خاتم
من الله مشهورٌ يلوح ويشهدُ
وضمَّ الإله اسم النبي إلى اسمه
إذا قال في الخمس المؤذِّن أشهد
وقال ابن عطاء : يعني جعلت تمام الإيمان بي بذكرك ، وقيل : ورفعنا لك ذكرك عند الملائكة في السماء ، وقيل : بأخذ ميثاقه على النبيين وإلزامهم الإيمان به والإقرار بفضله ، وقال ذو النون : همم الأنبياء تجول حول العرش وهمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فوق العرش ، لذلك قال : ) ورفعنا لك ذكرك ( ، فذكره ذكره ، ومفزع الخلق يوم القيامة إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كمفزعهم إلى الله ، لعلمهم بجاهه عنده .
الشرح : ( 5 ) فإن مع العسر . . . . .
) فإنّ مع العسر يُسرا ( أي مع الشدّة التي أنت فيها من جهاد المشركين ، ومزاولة ما أنت بسبيله يسراً ورخاءً بأن يظهرك عليهم ، حتى ينقادوا للحق الذي جئتهم به طوعاً وكرها .
الشرح : ( 6 ) إن مع العسر . . . . .
) إن مع العسر يسراً ( كرّره لتأكيد الوعد وتعظيم الرجاء ، وقيل : فإن مع العسر يسراً : في الدنيا ، إن مع العسر يسراً : في الآخرة .
أخبرنا عبدالله بن حامد قال أخبرنا أحمد بن عبدالله قال : حدّثنا محمد بن عبدالله قال : حدّثنا عثمان قال : حدّثنا ابن عليّة ، عن يونس ، عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ابشروا فقد جاءكم اليسر لن يغلب عُسْرٌ يُسرَين ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عمر بن الخطاب قال : حدّثنا علي بن مرداراد الخياط قال : حدّثنا قطن بن بشير قال : حدّثنا جعفر بن سليمان ، عن رجل ، عن إبراهيم النخعي قال : قال ابن مسعود : والذي نفسي بيده ، لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه ، إنّه لن يغلب عسرٌ يسرين ، إنّه لن يغلب عسر يسرين
(10/233)
" صفحة رقم 234 "
قال العلماء في معنى هذا الحديث : لأنه عرّف العسر ونكّر اليسر ، ومن عادة العرب إذا ذكرت اسماً معرفة ثم أعادته فهو هو ، وإذا نكرّته ثم كررته فهما اثنان ، وقال الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني صاحب كتاب ( النظم ) وهو يكلم الناس في قوله ( عليه السلام ) : ( لن يغلب عسر يسرين ) : فلم يحصل غير قولهم : إن العسر معرفة واليسر نكرة مكررة ، فوجب أن يكون ( عسر ) واحد ويسران ، وهذا قول مدخول ( إذ ) لا يجب على هذا التدريج إذا قال الرجل : إنّ مع الفارس سيفاً إنّ مع الفارس سيفاً أن يكون الفارس واحداً والسيف اثنين ، ولا يصح هذا في نظم العربية .
فمجاز قوله : ( لن يغلب عسر يسرين ) إن الله بعث نبيّه ( عليه السلام ) مقلاّ مخففاً فعيّره المشركون لفقره ، حتى قالوا أنجمع لك مالا ؟ فاغتمّ ، فظنّ أنهم كذّبوه لفقره ، فعزّاه الله سبحانه وتعالى وعدد عليه نعماءه ووعده الغنى فقال : ) ألم نشرح لك صدرك ( إلى قوله ) ذكرك ( ، فهذا ذكر امتنانه عليه ، ثم ابتدأ ما وعده من الغنى ليسلّبه مما خامر قلبه ، فقال ) فإنّ مع العسر يسرا ( ، والدليل عليه دخول الفاء في قوله ( فإنّ ) ولا يدخل الفاء أبداً إلاّ في عطف أو جواب .
ومجازه : لا يحزنك ما يقولون فان مع العسر يسراً في الدنيا عاجلا ، ثم أنجزه ما وعده وفتح عليه القرى العربية ، ووسّع ذات يده ، حتى يهب المائتين من الإبل ، ثم ابتدأ فضلا آخر من الآخرة فقال تأسيةً له : ) إن مع العسر يسرا ( ، والدليل على ابتدائه تعرّيه من الفاء والواو وحروف النسق فهذا عام لجميع المؤمنين ، ومجازه : إنّ مع العسر في الدنيا للمؤمنين يسراً في الآخرة لا محالة ، فقوله : ( لن يغلب عسر يسرين ) أي لن يغلب عسر الدنيا اليسر الذي وعد الله المؤمنين في الدنيا ، واليسر الذي وعدهم في الآخرة ، إنما يُغلب أحدهما وهو يسر الدنيا ، فأمّا يسر الآخرة فدائم غير زايل ؛ اي لا يجمعهما في الغلبة ، كقوله ( عليه السلام ) ( شهرا عيد لا ينقصان ) اي لا يجتمعان في النقصان .
وقال أبو بكر الوراق : مع ( أختها ) بالدنيا جزاء الجنة ، قال القاسم : ( بردا هذه السعادة من أسحار ) الدنيا إلى رضوان العقبى ، وقراءة العامة بتخفيف السينين ، وقرأ أبو جعفر وعيسى ، بضمهما ، وفي حرف عبدالله : إنّ مع العسر يسراً ، مرة واحدة غير مكررة .
أخبرني أبو عبدالرحمن محمد بن الحسين بن محمد الرمجاري وأبو الحسن علي بن محمد ابن محمد البغدادي قالا : حدّثنا محمد بن يعقوب الأصم قال : حدّثنا أحمد بن شيبان الرملي قال : حدّثنا عبدالله بن ميمون القداح قال : حدّثنا شهاب بن خراش ، عن عبدالملك بن عمير ، عن ابن عباس قال : أُهدي للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بغلة ، أهداها له كسرى فركبها بحبل من شعر ،
(10/234)
" صفحة رقم 235 "
ثم أردفني خلفه ، ثم سار بي مليّاً ، ثم التفت اليّ فقال لي : ( يا غلام ) ، قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : ( احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده أمامك ، تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة ، وإذا سألتَ فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، قد مضى القلم بما هو كائن ، فلو جهد الخلائق أن ينفعوك بما لم يقضه الله لك ، لما قدروا عليه ، ولو جهدوا أن يضرّوك بما لم يكتبه الله عليك ما قدروا عليه ، فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل ، فإنّ لم تستطع فاصبر ، فإنّ في الصبر على ما يُكره خيراً كثيراً ، واعلم أنّ مع الصبر النصر ، وأنّ مع الكرب الفرج ) وإن مع العسر يسراً ( ) .
وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد بن الحسن النيسابوري يقول : سمعت أبا علي محمد ابن عامر البغدادي يقول : سمعت عبدالعزيز بن يحيى يقول : سمعت عمي يقول : سمعت العتبي يقول : كنت ذات يوم في البادية بحالة من الغم فأُلقي في روعي بيت شعر فقلت :
أرى الموت لن أصبح ولاح
مغموماً له أروح
فلمّا جنّ الليل سمعت هاتفاً يهتف ، من الهواء :
ألا يا أيّها المرءُ ال
ذي الهمُّ به برّح
وقد أنشد بيتاً لم
يزل في فكره يسنح
إذا اشتدّ بك العسر
ففكّرْ في ألمْ نشرح
فعسرٌ بين يسرين
إذا فكّرتها فافرح
قال : فحفظت الأبيات ، وفرّج الله غمّي .
وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدنا أبو محمد أحمد بن محمد بن إسحاق الجيزنجي قال : أنشدنا إسحاق بن بهلول القاضي :
فلا تيأسْ وإن أُعسرت يوماً
فقد أُيسرت في دهر طويلِ
ولا تظننّ بربك ظنّ سوء
فإنّ الله أولى بالجميل
فإنّ العسرَ يتبعه يسارٌ
وقول الله أصدق كلِّ قيل
وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدني محمد بن سليمان بن معاد الكرخي قال : أنشدنا أبو بكر الأنباري :
إذا بلغ العسر مجهوده
فثق عند ذاك بيسر سريع
(10/235)
" صفحة رقم 236 "
ألم تر بخس الشتاء القطيع
يتلوه سعد الربيع البديع
ولزيد بن محمد العلوي :
إن يكنْ نالك الزمان ببلوى
عظمت شدّةً عليك وجلّتْ
وتلتها قوارع باكيات
سئمت دونها الحياة وملّت
فاصطبر وانتظر بلوغ مداها
فالرزايا إذا توالت تولّت
وإذا أوهنت قواك وحلّت
كُشفتْ عنك جملة فتخلّت
وقال آخر :
إذا الحادثات بلغن المدى
وكادت تذوب لهنّ المهجْ
وحلّ البلاء وقلّ الرجاء
فعند التناهي يكون الفرجْ
وأنشدني أبو القاسم الحسن بن محمد السلوسي قال : أنشدني أبو الحسن عيسى بن زيد العقيلي النسابة قال : أنشدني سليمان بن أحمد الرقي :
توقع إذا ما عرتك الخطوب
سروراً ( يسيّرها ) عنك قسراً
ترى الله يخلف ميعاده
وقد قال : إنّ مع العسر يُسراً
الشرح : ( 7 ) فإذا فرغت فانصب
) فإذا فرغت فانصب ( قال ابن عباس : إذا فرغت من صلاتك فانصب إلى ربّك في الدعاء ، واسأله حاجتك وارغب اليه . ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إذا قمت إلى الصلاة فانصب في حاجتك إلى ربّك . الضحّاك : إذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربّك في الدعاء ، وأنت جالس قبل أن تسلم . قتادة : أمره أن يبالغ في دعائه إذا فرغ من صلاته . عن الحسن : إذا فرغت من جهاد عدوك ، فانصب في عبادة ربّك . عن زيد بن أسلم : إذا فرغت من جهاد العرب وانقطع جهادهم ، فانصب لعبادة الله وإليه فارغب . عن منصور ، عن مجاهد : إذا فرغت من أمر الدنيا فانصب في عبادة ربّك وصلِّ .
وأخبرنا محمد بن عبوس قال : حدّثنا محمد بن يعقوب قال : حدّثنا محمد بن الحميم قال : حدّثني الفراء قال : حدّثني قيس بن الربيع ، عن أبي حصين قال : مرّ شريح برجلين يصطرعان فقال : ليس بهذا أُمر الفارغ ، إنما قال الله عزّ وجلّ : ) فإذا فرغت فانصب وإلى ربّك فارغب ( . قال الفراء : فكأنّه في قول شريح : إذا فرغ الفارغ من الصلاة أو غيرها .
وقوله ) فانصب ( من النصب ، وهو التعب والدأب في العمل ، وقيل : أمره بالقعود للتشهد إذا فرغ من الصلاة والانتصاب للدعاء . عن حيان ، عن الكلبي : إذا فرغت من تبليغ الرسالة
(10/236)
" صفحة رقم 237 "
فانصب : أي استغفر لذنبك وللمؤمنين . عن جنيد : فإذا فرغت من أمر الخلق ، فاجتهد في عبادة الحق . عن أبو العباس بن عطاء : فإذا فرغت من تبليغ الوحي ، فانصب في طلب الشفاعة .
الشرح : ( 8 ) وإلى ربك فارغب
) وإلى ربّك فارغب ( في جميع أحوالك ( لا ) إلى سواه ، وقيل : إذا فرغت من أشغال الدنيا ، ففرّغ قلبك لهموم العقبى . عن جعفر : اذكر ربّك على فراغ منك عن كل ما دونه ، وقيل : إذا فرغت من العبادة ، فانصب إلى الإعراض عنها مخافة ردّها عليك ، وإلى ربّك فارغب ، والاستغفار لعملك كالخجل المستحيي .
أخبرنا الشيخ أبو الفضل محمد بن جعفر الخزاعي المقري قال : حدّثنا أبو محمد عبدالله ابن محمد المزني قال : حدّثنا الوليد بن بيان ويحيى بن محمد بن صاعد ومحمد بن أحمد السطوي قال : حدّثنا ابن أبي برة قال : حدّثنا عكرمة بن سليمان قال : قرأت على إسماعيل بن عبدالله ، فلمّا بلغت إلى والضحى قال : كبّر حتى نختم مع خاتمة كل سورة ، فإني قرأت على شبل بن عباد وعلي بن عبدالله بن كثير ، فأمراني بذلك .
قال : وأخبرني عبدالله بن كثير أنه قرأ على مجاهد ، فأمره بذلك ، وأخبره مجاهد أنه قرأ على ابن عباس ، فأمره بذلك وأخبره ابن عباس أنه قرأ على أُبي بن كعب ، فأمره بذلك ، وأخبره أُبيّ بن كعب أنه قرأ على النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فأمره بذلك .
(10/237)
" صفحة رقم 238 "
( سورة التين )
مكية ، وهي ثمانمائة وخمسون حرفاً ، وأربع وثلاثون كلمة ، وثماني آيات
أخبرني أبو الحسين الخبازي غير مرّة قال : حدّثنا أبو بكر أحمد بن أبي ميثم الجرجاني وأبو الشيخ قال : حدّثنا أبو إسحاق بن ميثم بن شريك قال : حدّثنا أحمد بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي أُمامة ، عن أُبيّ ابن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة والتين أعطاه الله سبحانه خصلتين : العافية واليقين ما دام في دار الدنيا ، فإذا مات أعطاه الله سبحانه من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة صيام يوم ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَاذَا الْبَلَدِ الاَْمِينِ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِىأَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ( 2
التين : ( 1 ) والتين والزيتون
) والتين والزيتون ( قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وإبراهيم وعطاء بن أبي رباح وجابر بن زيد ومقاتل والكلبي : هو تينكم هذا الذي تأكلون ، وزيتونكم هذا الذي تعصرون منه الزيت .
أخبرني الحسين قال : حدّثنا السُني قال : وجدت في كتاب أبي : حدّثنا القاسم بن أبي الحسين الزبيدي قال : حدّثنا سهل بن إبراهيم الواسطي ، عن عيسى بن يونس ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير قال : حدّثني الثقة عن أبي ذر قال : أُهدي للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه : ( كلوا ، ثم قال : لو قلت : إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت : هذه ، لأنّ فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير ، وتنفع من النقرس )
(10/238)
" صفحة رقم 239 "
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا يوسف بن أحمد أبو يعقوب قال : حدّثنا العباس بن أحمد بن علي قال : حدّثنا معلل بن نقيل الحداني قال : حدّثنا محمد بن محصن ، عن إبراهيم بن أبي عبلة ، عن عبدالله بن الديلمي ، عن عبدالرحمن بن غنم قال : سافرت مع معاذ بن جبل ، ( فكان يمرّ ) بشجرة الزيتون فيأخذ منها القضيب فيستاك به ويقول : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقول ) نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة ، يطيّب الفم ، ويذهب بالجفر سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( هي مسواكي ومسواك الأنبياء قبلي ) .
وقال كعب الأحبار وقتادة وابن زيد وعبدالرحمن بن غنيم : التين : مسجد دمشق ، والزيتون : بيت المقدس . عن الضحّاك : هما مسجدان بالشام . عن محمد بن كعب : التين : مسجد أصحاب الكهف ، والزيتون : مسجد إيليا ، ومجازه على هذا التأويل : منابت التين والزيتون . أبو مكين ، عن عكرمة : جبلان . عن عطية ، عن ابن عباس : التين : مسجد نوح الذي ( بناه ) على الجودي ، والزيتون : بيت المقدس . عن نهشل ، عن الضحّاك : التين : المسجد الحرام .
والزيتون : المسجد الأقصى .
وسمعت محمد بن عبدوس يقول : سمعت محمد بن الحميم يقول : سمعت الفرّاء يقول : سمعت رجلا من أهل الشام وكان صاحب تفسير قال : التين : جبال ما بين حلوان إلى همدان ، والزيتون : جبال الشام .
التين : ( 2 ) وطور سينين
) وطور سينين ( يعني جبل موسى ، قال عكرمة : السينين : الجسر بلغة الحبشة . الحكم والنضر عنه : كلّ جبل ينبت فهو طور سينين ، كما ينبت في السهل كذلك ينبت في الجبل ، وعن مجاهد : الطور الجبل ، وسينين : المبارك . وعن قتادة : المبارك الحسن .
عن مقاتل : كل جبل فيه شجرة مثمرة فهو سينين وسينا وهو بلغة النبط . عن الكلبي : يعني الجبل المشجر . عن شهر بن حوشب : التين : الكوفة ، والزيتون : الشام ، وطور سينين : جبل فيه ألوان الأشجار .
قال عبدالله بن عمر : أربعة أجبال مقدّسة بين يدي الله سبحانه ، طور تينا وطور زيتا وطور سينا وطور يتمانا ، فأما طور تينا فدمشق ، وأما طور زيتا فبيت المقدس ، وأما طور سينا فهو الذي كان عليه موسى ، وأما طور يتمانا فمكة .
أخبرنا أبو سفيان الحسين بن محمد بن عبدالله المقري قال : حدّثنا البغوي ببغداد قال : حدّثنا ابن أبي شيبة قال : حدّثنا يعقوب بن إبراهيم قال : حدّثنا وكيع عن أبيه وسفيان ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو قال : سمعت عمر بن الخطاب يقرأ بمكة في المغرب : والتين والزيتون وطور سيناء ، قال : فظننت أنه إنما يقرؤها ليعلم حرمة البلد
(10/239)
" صفحة رقم 240 "
التين : ( 3 ) وهذا البلد الأمين
) وهذا البلد الأمين ( الآمن ، يعني مكة ، وأنشد الفرّاء :
ألم تعلمي يا أسم ويحك أنني
حلفت يميناً لا أخون أميني
يريد آمني .
التين : ( 4 ) لقد خلقنا الإنسان . . . . .
) لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ( أعدل قامة وأحسن صورة ، وذلك أنه خلق كل شي منكبّاً على وجهه إلاّ الإنسان . وقال أبو بكر بن ظاهر : مزيناً بالعقل ، مؤدّباً بالأمر ، مهذّباً بالتمييز ، مديد القامة ، يتناول مأكوله بيده .
التين : ( 5 ) ثم رددناه أسفل . . . . .
) ثم رددناه أسفل سافلين ( يعني إلى أرذل العمر ، ينقص عمره ويضعف بدنه ويذهب عقله .
قال ابن عباس : ( إنّ ) نفراً ردوا إلى أرذل العمر على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله عذرهم وأخبر أن لهم أجرهم الذي عملوا قبل أن تذهب عقولهم .
قال عكرمة : لم يضرّ هذا الشيخ الهرم كبره إذا ختم الله تعالى له بأحسن ما كان يعمل . قال أهل المعاني : السافلون : الضعفى والهرمى والزمنى ، فقوله ( أسفل سافلين ) نكرة تعمّ الجنس ، كما تقول : فلان أكرم قائم ، فإذا عرّفت قلت : القائمين .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن عبدالله بن مهران قال : حدّثنا جعفر بن محمد الفراي قال : حدّثنا قتيبة بن سعيد قال : حدّثنا خالد الزيات قال : حدّثنا داوّد أبو سليمان ، عن عبدالله بن عبدالرحمن بن معمّر بن حزم الأنصاري ، عن أنس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( المولود حتى يبلغ الحنث ما عمل من حسنة كتبت لوالديه ، فإن عمل سيئة لم تكتب عليه ، ولا على والديه ، فإذا بلغ الحنث وجرى عليه القلم ، أمر الله الملكين اللذين معه يحفظانه ويسدّدانه ، فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام آمنه الله سبحانه من البلايا الثلاث : من الجنون والجذام والبرص ، فإذا بلغ خمسين خفف الله حسابه ، فإذا بلغ ستين رزقه الله الإنابة إليه فيما يحب ، فإذا بلغ سبعين أحبه أهل السماء ، فإذا بلغ الثمانين كتب الله حسناته وتجاوز عن سيئاته ، فإذا بلغ تسعين غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وشفّعه في أهل بيته ، وكان اسمه أسير الله في الأرض ، فإذا بلغ أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً ، كتب الله سبحانه له مثل ما كان يعمل في صحته من الخير ، وإن عمل سيئة لم تكتب عليه ) .
وقال الحسن ومجاهد وقتادة : يعني ثم رددناه إلى النار . وقال أبو العالية : يعني إلى النار في شر صورة ، في صورة خنزير
(10/240)
" صفحة رقم 241 "
أخبرنا عبدالله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن عبدالله قال : حدّثنا محمد بن عبدالله قال : حدّثنا أحمد بن حواس قال : حدّثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن هبيرة ، عن علي قال : أبواب جهنم بعضها أسفل من بعض ، فيبدأ بالأسفل فيُملأ ، فهي أسفل السافلين ، وفي مصحف عبدالله ، ( أسفل السافلين ) بالألف . ثم استثنى فقال
التين : ( 6 ) إلا الذين آمنوا . . . . .
) إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( يعني ثم رددناه أسفل سافلين ، فزالت عقولهم وانقطعت أعمالهم ، فلا تثبت لهم حسنة ) إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( منهم ، فأنه يكتب لهم في حال هرمهم وخرفهم مثل الذي كانوا يعملونه في حال شبابهم وصحتهم وقوّتهم ، فذلك قوله سبحانه ) فلهم أجر غير ممنون ( قال الضحّاك : أجر بغير عمل ، ثم قال : إلزاماً للحجة وتوبيخاً للكافر .
التين : ( 7 ) فما يكذبك بعد . . . . .
) فما يكذّبك ( أيها الإنسان بعد هذه الحجة والبرهان ) بالدين ( بالحساب والجزاء .
التين : ( 8 ) أليس الله بأحكم . . . . .
) أليس الله بأحكم الحاكمين ( قال قتادة : بلغنا أن نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا قرأ هذه الآية قال : ( بلى ، وأنا على ذلك من الشاهدين ) .
(10/241)
" صفحة رقم 242 "
( سورة العلق )
مكية ، وهي مائتان وثمانون حرفاً ، واثنتان وسبعون كلمة ، وتسع عشرة آية
أخبرنا الجباري قال : حدّثنا ابن حيّان قال : أخبرنا الفرقدي قال : حدّثنا إسماعيل بن عمرو قال : حدّثنا يوسف بن عطية قال : حدّثنا هارون بن كثير قال : حدّثنا زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي أُمامة ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ ) إقرأ باسم ربّك ( فكأنّما قرأ المفصّل كله ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
( ) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِى خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاَْكْرَمُ الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ( 2
العلق : ( 1 - 2 ) اقرأ باسم ربك . . . . .
) اقرأ باسم ربّك الذي خلق خلق الإنسان من علق ( أي الدم ، واحدتها علقة ، وإنما جمع ولفظ الإنسان واحد ، لأنه في معنى الجمع ، وهذه أول سورة نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من القرآن ، وأول ما نزل منها خمس آيات من أولها إلى قوله ) ما لم يعلم ( ، وعلى هذا أكثر العلماء .
أخبرنا محمد بن عبدالله بن حمدون وعبدالله بن حامد قال : أخبرنا ابن الشرقي قال : حدّثنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا عبدالرزاق ، عن معمر ، عن الزهري قال : أخبرني عروة عن عائشة أنها قالت : أوّل ما بدأ به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبّب ( الله ) إليه الخلاء ، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه ، وهو التعبد ( في ) الليالي ذوات العدد ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فتزوده بمثلها ، حتى فجأه الحق ، وهو في غار حراء .
قال : فجاءه الملك وقال : اقرأ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فقلت له : ما أنا بقارئ قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني
(10/242)
" صفحة رقم 243 "
الثانية ، حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ فقلت : ما أنا بقاري ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال : اقرأ باسم ربّك الذي خلق ، حتى بلغ ، ما لم يعلم ) .
فرجع بها ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال : زمّلوني زمّلوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال : ( يا خديجة مالي ؟ ) وأخبرها الخبر وقال : قد خشيت عليّ ؟ قالت له : كلاّ ابشر ، فوالله لا يحزنك الله ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكَلّ ، وتُقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق .
ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزي بن قصي ، وهو ابن عم خديجة ، وكان امرأً تنصّر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ، وكان شيخاً كبيراً قد عمي ، فقالت خديجة : أي ابن عم اسمع من ابن أخيك ، فقال ورقة بن نوفل : يا بن أخي ما ترى ؟ فأخبره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أُنزل على موسى ، يا ليتني فيها جذع ، ليتني أكون حياً حين يخرجك قومك ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أومخرجي هم ؟ ) ، فقال ورقة : نعم لم يأت رجل قط بما جئتَ به إلاّ عُوديَ وأُوذيَ ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزّراً ، ثم لم ينشب ورقة ان توفي وفتر الوحي فترة ، حتى حزن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما بلغنا حزناً غدا منه مراراً كي يتردّى من رؤوس شواهق الجبال ، فكلّما أوفى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منها تبدّى له جبرائيل ( عليه السلام ) فقال : يا محمد إنك رسول الله حقاً ، فيسكن بذلك جأشه وتقر نفسه فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا بمثل ذلك ، فإذا أوفى بذروة جبل تبدّى له جبرائيل فقال له مثل ذلك .
قال الزهري : أخبرني أبو سلمة بن عبدالرحمن ، عن جابر بن عبدالله قال : سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يحدّث عن فترة الوحي فقال في حديثه : ( فبينما أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء فرفعت رأسي ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض ، فجثيت منه رعباً ، فرجعت فقلت : زمّلوني ، زمّلوني ، فدثّروني ) وأنزل الله سبحانه ) يا أيها المدّثر ( إلى قوله سبحانه ) والرجز فاهجر ( . قبل : أن تفرض للصلاة ، وهي الأوثان ، ثم كان ما نزل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من القرآن بعد اقرأ والمدثر ، ) ن والقلم ( إلى قوله : ) وإنك لعلى خلق عظيم ( ، ثم ) والضحى (
.
(10/243)
" صفحة رقم 244 "
أخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم ، عن ابن جرير قال : حدّثنا ابن أبي الشوارب قال : حدّثنا عبدالواحد قال : حدّثنا سليمان الشيباني قال : حدّثنا عبدالله بن شداد قال : نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) اقرأ باسم ربّك ( ، ثم أبطأ عليه جبرائيل ، فقالت له خديجة : ما أرى إلاّ قد قلاك ، فأنزل الله سبحانه ) والضحى والليل إذا سجى ما ودّعك ربّك وما قلى ( .
أخبرنا عبدالله بن حامد قال : أخبرنا مكي قال : حدّثنا عبدالرحمن بن بشير قال : حدّثنا سفيان ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : إن أول سورة نزلت ) اقرأ باسم ربّك ( .
أخبرنا عبدالله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن جعفر قال : حدّثنا علي بن حرب قال : حدّثنا أبو عامر العقدي ، عن قرّه بن خالد ، عن أبي رجاء العطاردي قال : كان أبو موسى يُقرئُنا القرآن في هذا المسجد فنقعد له حلقاً حلقاً ، كأني أنظرُ إليه الآن في ثوبين أبيضين ، فعنه أخذتُ هذه السورة : ) اقْرَأْ بِسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق ( .
وقال : كانت أول سورة نزلت على رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فاتحة الكتاب .
أخبرنا محمد بن حمدويه وعبد اللّه بن حامد قالا : حدّثنا محمد قال : حدّثنا أحمد بن عبدالجبار قال : حدّثنا يونس بن بكير عن يونس بن عمرو عن أبيه عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لخديجة : ( إني إذا خلوت وحدي سمعتُ نداءً وقد واللّه خشيتُ أن يكون هذا أمراً ) .
فقالت : معاذ اللّه ، ما كان اللّه عزّ وجلّ ليفعل بك ذاك ، فواللّه إنّك لتؤدّي الأمانة وتصل الرحم وتصدّق الحديث .
فلمّا دخل أبو بكر ح وليس رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( في الدار ) ثم ذكرت خديجة له وقالت : يا عتيق اذهب مع محمد إلى ورقة بن نوفل ، فلمّا دخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أخذ أبو بكر بيده وقال : انطلق بنا إلى ورقة ، فقال : ( من أخبرك ؟ ) فقال : خديجة . فانطلقا إليه فقصّ عليه فقال : ( إذا خلوت وحدي سمعت نداءً خلفي : يا محمد يا محمد فأنطلق هارباً في الأرض ) .
فقال له : لا تفعل ، إذا أتاك فاثبت حتى تسمع ما يقول ثم ائتني فأخبرني ، فلمّا خلا ناداه يا محمد قل : ) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ ( حتّى بلغ ) وَلا الضَّالِّينَ ( قل : لا إله إلاّ اللّه ، فأتى ورقة فذكر ذلك له ، فقال له ورقة : أبشر ثم أبشر فأنا
(10/244)
" صفحة رقم 245 "
أشهد أنّك الذي بشّر به ابن مريم ، وأنّك على مثل ناموس موسى ، وأنّك نبي مرسل ، وأنّك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا ، ولئن أدركني ذلك لأجاهدنّ معك ، فلمّا توفي ورقة قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( لقد رأيت القس في الجنة ، عليه ثياب الحرير لأنه آمن بي وصدّقني ) يعني ورقة ، قالوا : وقال ورقة :
فإن يك حقاً يا خديجة فاعلمي
حديثك إيّانا فأحمد مرسلُ
وجبريل يأتيه وميكال معْهما
من اللّه وحيٌ يشرح الصدرمنزل
يفوز به من فاز عزٌ لدينه
ويشقى به الغاوي الشقيّ المضلل
فريقان منهم فرقة في جنانه
وأُخرى بأغلال الجحيم تغلغل
العلق : ( 3 ) اقرأ وربك الأكرم
) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الاْكْرَمُ ( قال الكلبي : يعني الحليم عن جهل العبادة ولا يعجل عليهم بالعقوبة
العلق : ( 4 ) الذي علم بالقلم
) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ( يعني الخط والكتاب .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شيبة قال : حدّثنا ابن ماهان قال : حدّثنا محمد بن أيوب بن هشام المزني قال : حدّثنا أبو الحسن عاصم بن علي بن عاصم وعبد اللّه بن عاصم الجماني قالا : حدّثنا محمد بن راشد عن مسلم بن موسى قال : أخبرني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عن عبد اللّه بن عمر بن العاص قال : قلت : يا نبي اللّه أكتب ما أسمع منك من الحديث ؟ قال : ( نعم ، فاكتب فإنّ اللّه علّم بالقلم ) .
2 ( ) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءَاهُ اسْتَغْنَى إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى أَرَأَيْتَ الَّذِى يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى أَرَءَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَءَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ( 2
العلق : ( 5 ) علم الإنسان ما . . . . .
) عَلَّمَ الاْنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ( من البيان والعمل ، قال قتادة : العلم نعمة من اللّه ، لولا العلم لم يقم دين ولم يصلح عيش ) عَلَّمَ الاْنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ( من أنواع الهدى والبيان . وقيل : علّم آدم الأسماء كلّها ، وقيل : الإنسان ها هنا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بيانه ) وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ( .
(10/245)
" صفحة رقم 246 "
العلق : ( 6 ) كلا إن الإنسان . . . . .
) كَلاَّ إِنَّ الاْنسَانَ لَيَطْغَى ( ليتجاوز حدّه ويستكبر على ربّه
العلق : ( 7 ) أن رآه استغنى
) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ( قال الكلبي : يرتفع من منزلة إلى منزلة في اللباس والطعام وغيرهما ، وكان رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( أعوذ بك من فقر يُنسي ومن غنى يُطغي ) .
العلق : ( 8 ) إن إلى ربك . . . . .
) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ( المرجع في الآخرة
العلق : ( 9 - 10 ) أرأيت الذي ينهى
) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ( ) عَبْداً إِذَا صَلَّى ( نزلت في أبي جهل لعنه اللّه نهى النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) عن الصلاة حتى فرضت عليه .
أخبرنا عبد اللّه بن حامد فقال : أخبرنا أحمد بن عبد اللّه قال : حدّثنا محمد بن عبد اللّه ابن يعقوب بن إبراهيم الدورقي قال : حدّثنا معمر بن سليمان عن أبيه قال : حدّثنا نعيم بن أبي مهند عن أبي حازم عن أبي هريرة قال : قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم ؟
قالوا : نعم ، قال : فو الذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن رقبته .
قال فما ( فجأهم ) منه إلاّ يتقي بيديه وينكص على عقبيه ، قال : فقالوا له : ما ذاك يا أبا الحكم ؟ قال : إن بيني وبينه خندقاً من نار وهؤلاً وأجنحة ، ( فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً ) فأنزل اللّه سبحانه ) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى }
العلق : ( 11 - 13 ) أرأيت إن كان . . . . .
) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ ( أبو جهل لعنه اللّه ) وَتَوَلَّى }
العلق : ( 14 - 15 ) ألم يعلم بأن . . . . .
) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعا بِالنَّاصِيَةِ ( لنأخذن بمقدم رأسه فَلَنُذِلَّنّهُ ، ثم قال على البدل :
العلق : ( 16 ) ناصية كاذبة خاطئة
) نَاصِيَة كَاذِبَة خَاطِئَة ( .
قال ابن عباس : لمّا نهى أبو جهل رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) عن الصلاة انتهرهُ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وقال أبو جهل : أتُهدّدني ؟ فواللّه لأملأن عليك إن شِئت هذا خيلا جرداً أو رجالا مرداً ، فأنزل اللّه سبحانه
العلق : ( 17 ) فليدع ناديه
) فَلْيَدْعُ نَادِيَه ( أي قومه
العلق : ( 18 ) سندع الزبانية
) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ( قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لأخذته الزبانية عياناً ) .
العلق : ( 19 ) كلا لا تطعه . . . . .
) كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ( وصلّ واقترب من اللّه سبحانه وتعالى .
(10/246)
" صفحة رقم 247 "
( سورة القدر )
مدنيّة في قول أكثر المفسرين ، قال علي بن الحسين بن واقد : هي أوّلسورة نزلت بالمدينة ، وروى شيبان عن قتادة أنها مكيّة ، وهي رواية نوفلابن أبي عقرب عن ابن عباس وهي مائة واثنا عشر حرفاً وثلاثون كلمة وخمس آيات
أخبرنا الجنازي قال : حدّثنا ابن خنيس قال : حدّثني أبو العباس محمد بن موسى الدقّاق الرازي قال : حدّثنا عبد اللّه بن روح المدائني ) عن بكر ) بن سواد قال : حدّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد عن زر بن حبيش عن أُبي قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة القدر أُعطي من الأجر كمن صام رمضان ، وأُعطي إحياء ليلة القدر ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
2 ( ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِىَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ( 2
القدر : ( 1 ) إنا أنزلناه في . . . . .
) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ( يعني القرآن كنايةً عن غير مذكور ، جملةً واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، فوضعناه في بيت العزّة وأملاه جبرئيل على السَّفَرة ثم كان يُنزله جبرئيل على محمد ( عليهما السلام ) بنحو ما كان ، من أوّله إلى آخره بثلاث وعشرين سنة ، ثم عجَّب نبيّه ( عليه السلام ) فقال :
القدر : ( 2 ) وما أدراك ما . . . . .
) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ( .
والكلام في ليلة القدر على خمسة أبواب :
الباب الأوّل : في مأخذ هذا الاسم ومعناه ، واختلف العلماء ، فقال أكثرهم : هي ليلة الحكم والفصل يقضي اللّه فيها قضاء السنة ، وهو مصدر من قولهم : قدر اللّه الشيء قَدْراً وقَدَراً لغتان كالنَّهْر والنَّهَر والشَّعْر والشَّعَر ، وقدَّرهُ تقديراً له بمعنى واحد ، قالوا : وهي الليلة التي قال اللّه سبحانه : ) إنَّا أنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَة مُبَارَكَة إنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أمْر حَكِيم ( وإنّما سُمّيت ليلة القدر مباركة ؛ لأن اللّه سبحانه يُنزل فيها الخير والبركة والمغفرة
(10/247)
" صفحة رقم 248 "
وروى أبو الضحى عن ابن عباس أن اللّه عزّ وجلّ يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويُسلمها إلى أربابها في ليلة القدر .
روي أنه تعالى يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلاّ الكاهن أو الساحر أو مدمن خمر أو عاق لوالديه أو مصرّ على الزنا أو ( مشاحن ) أو قاطع رحم .
وقيل للحسين بن الفضل : أليس قد قدّر اللّه سبحانه المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض ؟ قال : نعم ، قال : فما معنى ليلةُ القدر ؟ قال : سَوقُ المقادير إلى المواقيت وتنفيذ القضاء المقدَّر .
أخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن ابن جُبير قال : حدّثنا ابن حميد قال : حدّثنا مهران عن سفيان عن محمد بن سوقة عن سعيد بن جبير قال : يؤْذن للحُجاج في ليلة القدر فيكتبون بأسمائهم وأسماء آبائهم ، فلا يُغادر منهم أحد ولا يزاد ولا ينقصُ منهم .
وقال الزهري : هي ليلة العظمة والشرف ، من قول الناس لفلان عند الأمير قدْر أي جاه ومنزلة ، يقال : قدرت فلاناً أي عظّمتهُ قال اللّه سبحانه : ) وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( أي ما عظّموا اللّه حق عظمتهِ وقال أبو بكر الورّاق : سُمِّيتْ بذلك لأنّ من لم يكن ذا قدر وخطر يصيرُ في هذه الليلة ذا قدر إذا أدركها وأحياها .
وقيل : إنّ كلّ عمل صالح يؤخذ فيها من المؤمن فيكون ذا قدر وقيمة عند اللّه لكونه مقبولا فيها .
وقيل : لأنّه أُنزل كتابٌ ذو قدر على رسول ذي قدر لأجل أُمّة ذاتِ قدر ، وقال سهل بن عبد اللّه : لأنّ اللّه سبحانه يقدّر الرحمة فيها على عباده المؤمنين .
وقيل : لأنه يُنزَّل فيها إلى الأرض ملائكة أُولو قدر وذوو خطر .
وقال الخليل بن أحمد : سُمِّيت بذلك لأنّ الأرض تضيق فيها بالملائكة من قوله : ) ويَقدِر ( ) ومن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ( .
الباب الثاني : اختلاف العلماء في وقتها ، وأي ليلة هي ، وذكر اختلاف الصحابة فيها .
فقال بعضهم : إنّما كانت على عهد رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ثم رفعت .
أخبرني عبد اللّه بن حامد إجازة قال : أخبرنا محمد بن الحسين بن الحسن قال : حدّثنا
(10/248)
" صفحة رقم 249 "
أحمد بن يوسف قال : حدّثنا عبد اللّه قال : أخبرنا سفيان عن الأوزاعي عن مرشد أو عن أبي مرشد قال : كنتُ جالساً مع أبي ذرّ عند خُمرة الوسطى فسُئل عن ليلة القدر فقال : كنت أسأل الناس عنها رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : قلت : يا رسول اللّه ليلة القدر هل هي تكون على عهد الأنبياء ( عليهم السلام ) ، فإذا مضوا رفعت ؟ قال : ( لا ، بل هي إلى يوم القيامة ) .
وأخبرنا عبد اللّه بن حاطب قال : أخبرنا محمد بن عامر السمرقندي قال : أخبرنا عمر بن الحسين قال : حدّثنا عبد بن حميد عن روح بن عبادة قال : حدّثنا ابن جريج قال : أخبرني داود ابن أبي عاصم عن عبد اللّه بن عيسى مولى معاوية قال : قلت لأبي هريرة زعموا أنّ ليلة القدر قد رفعتْ قال : كذب من قال ذلك ، قال : قلت هي في كلّ شهر رمضان استقبله ؟ قال : نعم .
وقال بعضهم : هي في ليالي السنة كلّها ، وإنّ من علّق طلاق امرأته أو عتق عبده ليلة القدر لم يقع الطلاق ولم ينفذ العتاق إلى مضي سنة من يوم حلف ، وهي إحدى الروايات عن ابن مسعود قال : من يُقِم الحول كلّه يصبْها .
قال : فبلغ ذلك عبد اللّه بن عمر ، فقال : يرحم اللّه أبا عبد الرحمن أما إنه علِمَ أنها في شهر مضان ؟ ولكن أراد أن لا يتّكل الناس ، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة أنها في جميع السنة ، وحُكي عنه أيضاً أنّه قال : رفعت ليلة القدر ، وروي عن ابن مسعود أيضاً أنه قال : إذا كانت السنة في ليلة كانت العام المقبل في ليلة أُخرى ، والجمهور من أهل العلم على أنها في شهر رمضان في كل عام .
أخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا محمد بن عامر قال : أخبرنا عمر بن يحيى قال : حدّثنا عبد بن حميد عن عبيد اللّه بن موسى عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن أبي عمير أنه سئل عن ليلة القدر : أفي كل رمضان هي ؟ قال : نعم .
وأخبرنا عقيل أن المعافى أخبرهم عن محمد بن جرير قال : حدّثني يعقوب قال : حدّثنا ابن عليّة قال : حدّثنا ابن ربيعة بن كلثوم قال : قال رجل للحسين وأنا أسمع : أرأيت ليلة القدر أفي كل رمضان هي ؟ قال : ( نعم واللّه الذي لا إله إلاّ هو إنها لفي كلّ رمضان ، وإنّها ليلة يفرق فيها كلّ أمر حكيم ، فيها يقضى كلّ أجل وعمل ، ورزق وخلق إلى مثلها ) . 0
واختلفوا في أول ليلة هي منها ، فقال أنور بن العقيلي : هي أول ليلة من شهر رمضان ، وقال الحسن : هي ليلة سبع عشرة ، وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر .
(10/249)
" صفحة رقم 250 "
والصحيح أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان ، وإليه ذهب الشافعي ح ، يدلّ عليه ما أخبرنا أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد الشيباني قال : أخبرنا عبد اللّه بن مسلم ، قال : حدّثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، وقال : أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن ابن مسلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أُريتُ ليلة القدر ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها ، فالتمسوها في العشر الغوابر ) .
وأخبرنا أبو بكر العباسي قال : أخبرنا أبو الحسن المحفوظي قال : حدّثنا عبد اللّه بن قاسم قال : حدّثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان وشعبة وإسرائيل عن ابن إسحاق عن هُبيرة عن علي ح أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يوقظ أهله في العشرة الأواخر من رمضان .
وأخبرنا أبو محمد المخلَّدي وعبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا مكي قال : حدّثنا عمار بن رجاء قال : حدّثنا أحمد بن أبي طيبة عن عنبسة بن الأزهر عن أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد قال : سمعت عليّاً ح يقول : ( كان رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) إذا دخل العشر الأواخر من رمضان دأب وأدأبَ أهله )
فدلَّت هذهِ الأخبار على أن ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان .
ثم اختلفوا في أي ليلة فيها فقال أبو سعيد الخدري : هي الليلة الحادية والعشرون ، واحتجّ في ذلك بما أخبرنا أبو نعيم الأزهري قال : حدّثنا أبو عوانة سنة ست عشرة وثلاثمائة ، قال : أخبرنا المزني قال : قال الشافعي : وأخبرنا أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن أحمد المطوعي ، وأبو علي السيوري ، وأبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه المصيبي قالوا : حدّثنا أبو العباس الأصمّ قال : أخبرنا الشافعي قال : أخبرنا مالك عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يعتكف العشر الوسط من شهر رمضان ، فلمّا كانت ( ليلة ) أحدى وعشرين وهي التي كان يخرج في صبيحتها من اعتكافه قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر ، فإني رأيت هذه الليلة ثم أُنسيتها وقال وأريتني أسجد في ماء وطين فالتمسوها في العشر الأواخر ، والتمسوها في كل وتر ) فأمطرت السماء في تلك الليلة وكان المسجد على عريش فوكف المسجد .
قال أبو سعيد ( فأبصرت عيناي ) رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) انصرف ، علينا وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين .
(10/250)
" صفحة رقم 251 "
وقال بعضهم هي الليلة الثالثة والعشرون منها .
أخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا عبد اللّه بن محمد الهمداني قال : أخبرنا الحسين بن عبد الأعلى قال : أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول اللّه إني رأيتُ في النوم كأن ليلة القدر سابعة تبقى ، فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( أرى رؤياكم قد تواطأت على ثلاث وعشرين ، من كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئاً فليقم ليلة ثلاث وعشرين ) .
قال معمر : كان أيوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين ويمسّ طيباً .
وأخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا مكّي قال : حدّثنا أحمد بن حفص قال : حدّثني أبي قال : حدّثني إبراهيم عن عبّاد وهو ابن إسحاق عن الزهري عن ضمرة بن عبد اللّه بن أنيس عن أبيه قال : كنت في مجلس من بني سلمة وأنا أصغرهم فقالوا : من يسأل لنا رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) عن ليلة القدر ؟ وذلك صبيحة إحدى وعشرين من رمضان ، قال : فخرجت فوافيت مع رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة المغرب ثم نمت بباب بيته فمرّ بي فقال : ( ادخل ) فدخلت فأُتيَ بعشائه فرأيتني أكفّ عنه من قلته ، فلمّا فرغ قال : ( ناولني نعلي ) فقام وقمت معه فقال : كان لك حاجة ؟ فقلت : أرسلني إليك رهط من بني سلمة يسألونك عن ليلة القدر فقال : ( كم الليلة ؟ ) فقلت : اثنان وعشرون ، فقال : ( هي الليلة ) ثم رجع فقال : ( أو الثالثة ) يُريد ليلة ثلاث وعشرين .
قال أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا طفران قال : حدّثنا الحسن بن إسماعيل المحاملي قال : حدّثنا يعقوب الدورقي قال : حدّثنا عبد اللّه بن إدريس قال : سمعت عاصم بن كليب يروي عن أبيه عن خاله قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( إني رأيت ليلة القدر ثم أُنسِيتُها ورأيت مسيح الضلالة ( فخرجت إليكم لأُبيّنها ) فرأيت رجلين يتلاحيان فحجزتُ بينهما فأنسيتهما وسأشدو لكم منها شدواً ، فأمّا ليلة القدر فاطلبوها في العشر الأواخر وتراً ، وأمّا مسيح الضلالة فرجل أجلى الجبهة ، ممسوح العين اليسرى ، عريض النحر ، فيه دمامة كأنّه فلان بن عبد العزى أو عبد العزى بن فلان ) .
قال : فذكرت هذا الحديث لابن عباس قال : وما عجبك ؟ سأل عمر بن الخطاب أصحاب
(10/251)
" صفحة رقم 252 "
رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وكان يسألني معهم مع الأكابر منهم ويقول لي : لا تتكلم حتى يتكلّموا ، فقال : علمتم أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ليلة القدر اطلبوها في العشر الأواخر وتراً ) ففي أي الوتر ترون ؟
قال : فأكثر القوم في الوتر ، فقال : مالك لا تكلّم ابن عباس ؟ قال : قلت : إن شئت تكلّمت ، قال : عن رأيك أسألك ؟ قال : قلت : رأيت اللّه سبحانه أكثر ذكر السبع ، وذكر السماوات سبعاً ، والأرضين والطواف سبعة ، والجمار سبعة ، وما شاء اللّه من ذلك ، خلق الإنسان من سبعة ، وجعل رزقه من سبعة .
قال : قلت : خلق الإنسان ، فقال : فكلّما ذكرت عرقت ، فما قولك خلق الإنسان من سبعة وجعل رزقه من سبعة ؟ قال : قلت : ) خَلَقْنَا الإنسَانَ مِنْ سُلالَة مِنْ طِين ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَار مَكِين ( إلى قوله : ) خَلْقاً آخَرَ ( .
ثم قرأت ) أنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَبّاً ( إلى قوله سبحانه : ) وَأبّاً ( والأبّ ما أنبتت الأرض ممّا لا تأكله الناس ، فما أراها إلاّ ليلة ثلاث وعشرين لسبع بقين ، فقال عمر : غلبتموني أن تأتوا بما جاء به هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه .
وأخبرنا عبد اللّه بن حامد عن صالح بن محمد قال : حدّثنا إبراهيم بن محمد عن مسلم الأعور عن مجاهد عن ابن عباس أنّ عمر بن الخطاب ح قال له : أخبرني برأيك في ليلة القدر ، قال : فقلت : إن اللّه سبحانه وتر يحب الوتر ، السماوات سبع ، والأرضون سبع ، وترزق من سبع ، وتخرج من سبع ، ولا أراها إلاّ في سبع بقين من رمضان ، فقال عمر : وافق رأيي رأيك ، ثم ضرب منكبي وقال : ما أنت بأقل القوم علماً .
وقال زيد بن ثابت وبلال : هي ليلة أربع وعشرين ، ودليلهما ما أخبرناه عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي سعيد قال : حدّثنا علي بن حرب قال : حدّثنا محمد بن معاوية قال : حدّثنا بن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن يزيد بن عبد اللّه عن الضابحي عن بلال قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليلة القدر ليلة أربع وعشرين ) .
وقيل : هي الليلة الخامسة والعشرون ، يدلّ عليها ما أخبرنا محمد بن عبد اللّه الحافظ في
(10/252)
" صفحة رقم 253 "
آخرين قالوا : حدّثنا محمد بن يعقوب قال : حدّثنا بحر بن نصر قال : فرأى علي ابن وهب أخبرك خبر أحد منهم مالك بن أنس عن حميد الطويل عن أنس بن مالك أن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة ) .
وقال قوم : هي الليلة السابعة والعشرون ، وإليه ذهب علي وأُبي وعائشة ومعاوية ، يدل عليه ما أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن عبدوس قال : أخبرنا أبو أحمد حمزة بن العباس ببغداد قال : حدّثنا أحمد بن الوليد الفحام قال : حدّثنا مسوّد بن عامر شاذان قال : أخبرنا شعبة قال : عبد اللّه بن دينار أخبرني قال : سمعت ابن عمر يحدّث عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في ليلة القدر قال : ( من كان متحرّياً فليتحرّها في ليلة سبع وعشرين ) .
وأخبرنا عبد اللّه بن حامد قراءةً عليه قال : أخبرنا محمد بن جعفر قال : حدّثنا الحسن بن علي بن عفّان قال : حدّثنا عمرو العنقري قال : حدّثنا سفيان عن عاصم عن زر بن حبيش قال : أتينا بن مسعود فسألناه عن ليلة القدر فقال : من يقم الحول يصبها ، فقال : يرحم اللّه أبا عبد الرحمن قد علم أنها في شهر رمضان وأنها في ليلة تسع وعشرين قال : فقال لنا أبا المنذر : إني قد علمت ذلك فقال : بالآية التي أنبأنا بها رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فحفظنا وعددنا ، قال : فواللّه فإنها لفي ما تستثني ، قال : فقلنا : أبا المنذر ما الآية ؟ قال : تطلع الشمس عندئذ كأنها طست ليس لها شعاع .
وروي عن أُبيّ بن كعب أيضاً أنّه قال : سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأُذنيَّ وإلاّ فصمتا أنّه قال : ( ليلة القدر ليلة سبع وعشرين ) .
وقال بعض الصحابة : قام بنا رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة الثالث والعشرين ثلث الليل ، فلمّا كانت ليلة الخامس والعشرين قام بنا نصف الليل ، فلمّا كانت الليلة السابعة والعشرون قام بنا الليل كلّه .
وقال أبو بكر الورّاق : إنّ اللّه سبحانه وتعالى قسّم كلمات هذه السورة على ليالي شهر رمضان ، فلما بلغ السابعة والعشرين أشار إليها فقال : ) هِيَ ( .
وقال بعضهم : هي ليلة التاسع والعشرين ، وروي عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ليلة القدر ليلة السابع والعشرين أو التاسع والعشرين وإن الملائكة في تلك الليلة بعدد الحصى )
(10/253)
" صفحة رقم 254 "
وأخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا مكّي قال : حدّثنا محمد بن سعيد القطان قال : حدّثنا عيينة بن عبد الرحمن قال : حدّثني أبي قال : ذكرت ليلة القدر عند أبي بكرة فقال : ما أنا بطالبها بعد شيء سمعته من رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) إلاّ في العشر الأواخر ، سمعت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( التمسوها في العشر الأواخر في تسع بقين ، أو سبع بقين ، أو خمس بقين أو ثلاث بقين أو آخر ليلة ) وكان أبو بكرة إذا دخل شهر رمضان ظلّ يُصلي في سائر السنة ، فإذا دخل العشر اجتهد .
وفي الجملة ، أخفى اللّه علم هذه الليلة على الأُمّة ليجتهدوا في العبادة ليالي رمضان طمعاً في إدراكها كما أخفى الصلاة الوسطى في الصلوات ، واسمه الأعظم في الأسماء ، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة ، وغضبه في المعاصي ، ورضاه في الطاعات ، وقيام الساعة في الأوقات ، رحمةً منه وحكمة ، واللّه أعلم .
الباب الثالث : في علامتها واماراتها
أخبرنا أبو عمر الفراتي قال : أخبرنا أبو نصر السرخسي قال : حدّثنا محمد بن الفضل قال : حدّثنا إبراهيم بن يوسف قال : حدّثنا النضر عن أشعث عن الحسين أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال في ليلة القدر : ( من أماراتها أنها ليلة بلجة سمحة ، لا حارة ولا باردة ، تطلع الشمس صبيحتها ليس لها شعاع ) .
وقال حميد بن عمر : كنت ليلة السابع والعشرين في البحر فأخذت من مائه فوجدته سلِساً .
الباب الرابع : في فضائلها وخصائصها .
حدّثنا أبو بكر محمد بن أحمد الجهني بها قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن سليمان بن الحسن ببغداد قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن عيسى قال : حدّثنا محمد بن كثير عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي ( عليه السلام ) قال : ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) .
وفي الحديث : ( إن الشيطان لا يخرج في هذه الليلة حتى يُضيء فجرها ، ولا يستطيع أن يصيب فيها أحد بخبل أو داء أو ضرب من ضروب الفساد ، ولا ينفذ فيها سحر ساحر ) .
(10/254)
" صفحة رقم 255 "
وروي عن ابن عباس أن النبي ( عليه السلام ) قال : ( إذا كانت ليلة القدر ينزل الملائكة الذين هم سكّان سدرة المنتهى ، ومنهم جبريل ، فينزل جبريل ومعه ألوية ينصب لواءً منها على قبري ، ولواءً منها على بيت المقدس ، ولواءً في المسجد الحرام ، ولواءً على طور سيناء ، ولا يدع فيها مؤمناً ولا مؤمنة إلاّ سلّم عليه إلاّ مُدمن الخمر وآكل الخنزير والمتضمخ بالزعفران ) .
الباب الخامس : في آدابها وفيما يستحب فيها .
حدّثنا أبو بكر بن عبدوس قال : حدّثنا محمد بن يعقوب قال : حدّثنا الحسين بن مكرم قال : حدّثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا كُهمس عن عبد اللّه بن بُريدة أنّ عائشة قالت للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنْ وافت ليلة القدر فما أقول ؟ قال : ( قولي : الّلهمّ إنّك عفوٌّ تحب العفو فاعف عنّي ) .
وروى شريح بن هانئ عن عائشة قالت : لو عرفت أيّ ليلة القدر ما سألت اللّه فيها إلاّ العافية .
وأخبرنا أبو عمر الفراتي قال : أخبرنا محمد بن إسحاق بن سهل قال : حدّثنا سعيد بن عيسى قال : حدّثنا فارس بن عمر قال : حدّثنا صالح قال : حدّثنا العمري عن عاصم بن عبيد اللّه عن عبد اللّه بن عامر بن ربيعة أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من صلّى المغرب والعشاء الآخرة من ليلة القدر ) في جماعة ) فقد أخذ حظه من ليلة القدر ) .
القدر : ( 3 ) ليلة القدر خير . . . . .
) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر ( أخبرنا أبو عمر الفراتي قال : أخبرنا أبو موسى قال : أخبرنا موسى بن عبد اللّه : قال : حدّثنا أبو مصعب عن ملك أنه سمع من يثق به أن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) أُري أعمار الناس تقاصر أعمار أُمّته ألاّ يبلغوا من الأعمال مثل الذي يبلغ غيره في طول العمر ، فأعطاه اللّه سبحانه : ) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر ( .
واختلفوا في الحكمة الموجبة لهذا العدد ، فأخبرني الحسين قال : حدّثنا الكندي قال : حدّثنا عبد الرحمن بن حاتم قال : قرئ على ( يونس ) بن عبد الأعلى : أخبرنا ابن وهبة قال : حدّثنا مسلمة عن علي بن لهيعة قال : ذكر رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً أربعة من بني إسرائيل عبدوا اللّه ثمانين عاماً ، لم يعصوه طرفة عين فذكر : أيّوب ، وزكريّا ، وحزقيل ابن العجوز ، ويوشع بن نون قال : فعجب أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من ذلك وأتاه جبريل فقال : ( يا محمد عجبت أُمّتك من عبادة
(10/255)
" صفحة رقم 256 "
هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوا اللّه طرفة عين ) ، فقال : ( أنزل اللّه تعالى عليك خيراً من ذلك ) ، ثم قرأ عليه : ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ( لأن هذا أفضل مما عجبت أنت وأُمّتك ) قال : فسرّ بذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والناس معه .
وأخبرنا أبو عمرو الفراتي قال : أخبرنا محمد بن إسحاق قال : حدّثنا سعيد بن عيسى قال : حدّثنا فارس بن عمرو قال : حدّثنا صالح قال : حدّثنا مسلم بن خالد بن أبي نجح أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل اللّه ألف شهر قال : فعجب المسلمون من ذلك فأنزل اللّه سبحانه : ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر ( الذي لبس ذلك الرجل السلاح في سبيل اللّه .
ويقال : إنّ ذلك الرجل كان شمشون ( عليه السلام ) ، وكانت قصته على ما ذكر وهب بن منبه أنّه كان رجلا مسلماً وكانت أُمّه قد جعلته نذيراً ، وكان من أهل قرية من قرى الروم كانوا يعبدون الأصنام ، وكان منزله منها على أميال غير كثيرة ، فكان يغزوهم وحده ، ويجاهدهم في اللّه فيصيب منهم وفيهم حاجته ، ويقتل ويسبي ويصيب الأموال ، وكان إذا لقيهم لقيهم بلحي بعير لا يلقاهم بغيره ، فإذا قاتلوه وقاتلهم وتعب وعطش انفجر له من الحجر الذي في اللحي ماء عذب فيشرب منه حتى يروى .
وكان قد أُعطي قوّة في البطش ، وكان لا يوثقه حديد ولا غيره ، فكان كذلك ، فجاهدهم في اللّه ، يصيب منهم حاجته لا يقدرون منه على شيء حتى قالوا : لن تأتوه إلاّ من قبل امرأته ، فدخلوا على امرأته فجعلوا لها جعلا فقالت : نعم ، أنا أوثقه لكم فأعطوها حبلا وثيقاً ، وقالوا لها : إذا نام فأوثقي يده إلى عنقه حتى نأتيه فنأخذه ، فلمّا نام أوثقت يده إلى عنقه بذلك الحبل ، فلما هبُّ جذبه بيده فوقع من عنقه .
فقال لها : لم فعلت ذلك ؟ فقالت : أُجرّب بها قوتك ، ما رأيت مثلك ، فأرسلتْ إليهم : إني قد ربطته بالحبل فلم أُغنِ شيئاً ، فأرسلوا إليها بجامعة من حديد ، وقالوا : إذا نام فاجعليها في عنقه ، فلمّا نام جعلتها في عنقه ، فلمّا هبَّ جذبها فوقعت من يده وعنقه ، فقال لها : لم فعلت هذا ؟ قالت : أجرّب بها قوتك ، ما رأيت مثلك في الدنيا يا شمشون ، أما في الأرض شيء يغلبك ؟ قال : إلاّ شيء واحد ، قالت : وما هو ؟ قال لها : ها أنا لمخبرك به ، فلم تزل تسأله عن ذلك وكان ذا شعر كثير ، فقال لها : ويحك إنّ أُمّي كانت جعلتني نذيراً فلا يغلبني شيء أبداً ، ولا يضبطني إلاّ شعري ، فلمّا نام أوثقت يده إلى عنقه بشعر رأسه ، فأوثقه ذلك وبعثت إلى القوم .
(10/256)
" صفحة رقم 257 "
فجاؤا فأخذوه فجدعوا أنفه وانفذوا أُذنيه وفقأوا عينيه ، ووقفوا بين ظهراني المدينة ، وكانت مدينة ذات أساطين ، وكان ملكهم قد أشرف عليها بالناس لينظروا إلى شمشون وما يُصنع به ، فدعا شمشون ربّه حين مثلوا ووقفوه أن يسلّطه عليهم ، فأمر أن يأخذ بعمودين من عمد المدينة التي عليها الملك والناس الذين معه فاجتذبهما جميعاً فجذبهما ، فردّ اللّه تعالى إليه بصره وما أصابوا من جسده ، ووقعت المئذنة بالملك ومن عليها من الناس ، فهلكوا فيها هدما .
وقيل : هو أن الرجل فيما مضى كان لا يستحق أن يقال له : عابد ، حتى يعبد اللّه ألف شهر وهي ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر ، فجعل اللّه سبحانه لأمّة محمد ( عليه السلام ) ليلةً خيراً من ألف شهر كانوا يعبدون فيها .
وقال أبو بكر الورّاق : كان ملك سليمان خمسمائة شهر وملك ذي القرنين خمسمائة شهر ، فيحتمل أن يكون معنى الآية : ليلة القدر خير لمن أدركها مما ملكه سليمان وذو القرنين ( عليهما السلام ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن الأشقر قال : حدّثنا زيد بن أخرم قال : حدّثنا أبو داود قال : حدّثنا علقمة بن الفضل عن يوسف بن مازن الراسبي قال : قام رجل إلى الحسن بن علي فقال : سوّدت وجوه المؤمنين ، عمدت إلى هذا الرجل فبايعته يعني معاوية فقال : ( لا تؤنّبني ( رحمك الله فإن ) رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قد أُري بني أُميّة يخطبون على منبره رجلاً رجلاً فساءه ذلك فنزلت ) إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ( ونزلت ) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر ( تملكه بنو أُميّة .
قال القاسم : اللّهمّ فحسبنا ملك بني أُميّة فإذا هو ألف شهر لا يزيد ولا ينقص ) .
وقال المفسّرون : عمل صالح في ليلة القدر خيرٌ من عمل ألف شهر ليس فيها ليلة القدر ، وروى الربيع عن أبي العالية قال : ليلة القدر خيرٌ من عمر ألف شهر ، وقال مجاهد : سلام الملائكة والروح عليك تلك الليلة خير من سلام الخلق عليك ألف شهر فذلك ) قوله ) سبحانه
القدر : ( 4 ) تنزل الملائكة والروح . . . . .
) تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ ( .
قرأ طلحة بن مصرف تَنزِلُ خفيفة ، من النزول ، والروح يعني جبرئيل في قول أكثر المفسّرين يدلّ عليه ما روى قتادة عن أنس أن رسول اللّه ( عليه السلام ) قال : ( إذا كان ليله القدر نزل جبرئيل في كبكبة من الملائكة يصلّون ويسلّمون على كلّ عبد قائم أو قاعد يذكر اللّه سبحانه )
(10/257)
" صفحة رقم 258 "
وقال كعب ومقاتل بن حيان : الروح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلاّ تلك الليلة ، ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر .
وقال الواقدي : هو مَلَك عظيم ( من أعظم الملائكة خلقاً ) يخلق من الملائكة .
) فيها ( أي في ليلة القدر ) بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْر ( قدّره اللّه سبحانه وقضاه في تلك السنة إلى قابل ، لقوله سبحانه في الرعد : ) يَحْفَظُونَهُ مِنْ أمْرِ اللهِ ( أي بأمر الله .
وقد أخبرنا محمد بن عبدوس قال : حدّثنا محمد بن يعقوب قال : أخبرنا محمد بن الجهم قال : حدّثنا يحيى بن زياد الفرّاء قال : حدّثني أبو بكر بن عباس عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنّه كان يقرأ من كل امرئ سلام ، ورويت هذه القراءة أيضاً عن علي بن أبي طالب وعكرمة ، ولها وجهان :
أحدهما : إنّه وجّه معناه إلى الملك أي من كلّ ملك سلام .
والثاني : أن يكون من بمعنى على تقديره : على كل امرئ من المسلمين سلام من الملائكة كقوله سبحانه : ) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القَوْمِ ( أي على القوم ، والقراءة الصحيحة ما عليه العامة ؛ لاجماع الحجّة من القراءة عليها ولموافقتها خطّ المصاحف ؛ لأنه ليس فيها ياء .
القدر : ( 5 ) سلام هي حتى . . . . .
وقوله : ) سَلاَمٌ هِيَ ( تمام الكلام عند قوله : ) مِنْ كُلِّ أَمْر ( ثم ابتدأ فقال سبحانه : ) سَلاَمٌ هِيَ ( أي ليلة القدر سلام وخير كلّها ليس فيها شر .
قال الضّحاك : لا يقدر اللّه سبحانه في تلك الليلة إلاّ السلامة ، فأمّا في الليالي الأُخر فيقضي اللّه تعالى فيهنّ البلاء والسلامة ، قال مجاهد : هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً ولا أن يحدث فيها أذى .
وقال الشعبي ومنصور بن زاذان : هو تسليم الملائكة ليلة القدر على أهل المساجد من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر ، يمرون على كلّ مؤمن ويقولون : السلام عليك يا مؤمن .
) حتى مطلع الفجر ( حتى حرف غاية ، مجازها إلى مطلع الفجر . قرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي وخلف بكسر اللام ، غيرهم بفتحه وهو الاختيار ؛ لأن المطلع بفتح اللام بمعنى الطلوع يقال : طلعت الشمس طلوعاً ومطلعاً ، فأمّا المطلع بكسر اللام فإنّه موضع الطلوع ، ولا معنى للاسم في هذا الموضع ، إنّما هو لمعنى المصدر ، واللّه أعلم .
(10/258)
" صفحة رقم 259 "
( سورة البيّنة ( المنفكّين )
مدنيّة ، وهي ثلاثمائة وتسعة وتسعون حرفاً وأربع وتسعون كلمة وثماني آيات
أخبرنا السلمي والخبازي قالا : أخبرنا محمد بن محمد بن يعقوب قال : أخبرنا محمد بن موسى بن النعمان قال : حدّثنا فهد بن سليمان قال : حدّثنا إسحاق بن بشير قال : حدّثنا مالك بن أنس عن محمد بن سعيد عن سعيد بن المسيّب عن أبي الهاد قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو يعلم الناس ما في ) الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ( لعطّلوا الأهل والمال وتعلّموها ) فقال رجل من خزاعة : ما فيها من الأجر يا رسول اللّه ؟ قال رسول اللّه ( عليه السلام ) : ( لا يقرأها منافق أبداً ولا رجل في قلبه شكّ في الله عزّوجل ، والله إن الملائكة المقرّبين ليقرأونها منذ خلق اللّه السماوات والأرض لا يفترون من قراءتها ، وما من عبد يقرأها بليل إلاّ بعث اللّه سبحانه ملائكة يحفظونه في دينه ودنياه ، ويدعون اللّه له بالمغفرة والرحمة ، فإنْ قرأها نهاراً أُعطيّ عليها من الثواب مثل ما أضاء عليه النهار وأظلم عليه الليل ) .
فقال رجل من قيس عيلان : زدنا من هذا الحديث فداك أبي وأُمّي يا رسول اللّه ، فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( تعلّموا ) عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ ( وتعلّموا ) ق وَالقُرْآنِ المَجِيدِ ( وتعلّموا ) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ ( وتعلّموا ) وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ ( وإنّكم لو تعلمون ما فيهن لعطّلتم ما أنتم فيه وتعلّمتموهنّ وتقرّبتم إلى اللّه سبحانه بهنّ فإن اللّه يغفر بهنّ كل ذنب إلاّ الشرك باللّه .
واعلموا أنّ ) تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ المُلْكُ ( ( تجادل عن صاحبها ) وتستغفر له من الذنوب ) .
وأخبرني الخبازي قال : حدّثنا ظفران قال : حدّثنا بن أبي داود قال : حدّثنا محمد بن
(10/259)
" صفحة رقم 260 "
عاصم قال : حدّثنا شبابة بن سوار قال : حدّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد عن زر عن أُبيّ قال : قال رسول اللّه ( عليه السلام ) : ( من قرأ سورة ) لَمْ يَكُنْ ( كان يوم القيامة مع خير البرية مسافراً أو مقيماً ) .
وأخبرني الحسين قال : حدّثنا محمد بن الحسن بن علي قال : حدّثنا أبو يعلى الموصلي قال : حدّثنا محمد بن المثنى قال : حدّثنا عبد ربّه قال : حدّثنا شعبة قال : سمعت قتادة يحدّث عن أنس قال : قال رسول اللّه ( عليه السلام ) لأُبيّ بن كعب : ( إن اللّه عزّ وجلّ أمرني أن أقرأ عليك ) لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا ( ) قال : وسمّاني ؟ قال : ( نعم ) فبكى .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
2 ( ) لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلَواةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَواةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَائِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَائِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ ( 2
البينة : ( 1 ) لم يكن الذين . . . . .
) لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ( وهم اليهود والنصارى ، والمشركون وهم عبدة الأوثان ، ) منفكّين ( منتهين عن كفرهم وشركهم ، وقال أهل اللغة : زائلين ، يقول : العرب : ما انفكّ فلان يفعل كذا ، أي ما زال ، وأصل الفكّ الفتح ، ومنه فكّ الكتاب ، وفكّ الخلخال ، وفكّ البيالم وهي خورنق العطر ، قال طرفة :
وآليت لا ينفك كشحي بطانة
لعضب رقيق الشفرتين منهد
) حَتَّى تَأْتِيَهُمْ الْبَيِّنَةُ ( الحجّة الواضحة وهي محمد ( عليه السلام ) أتاهم بالقرآن فبيّن لهم ضلالتهم وجهالتهم ، وهداهم إلى الإيمان ، وقال ابن كيسان معناه لم يكن هؤلاء الكفار تاركين صفة محمد ( عليه السلام ) حتى بعث ، فلمّا بعث تفرّقوا فيه .
البينة : ( 2 ) رسول من الله . . . . .
ثم فسّر البيّنة فقال : ) رَسُولٌ مِنْ اللهِ ( . فأبدل النكرة من المعرفة كقوله : ) ذُو العَرْشِ المَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ( .
(10/260)
" صفحة رقم 261 "
) يَتْلُوا ( يقرأ ) صُحُفاً ( كتباً ) مُطَهَّرَةً ( من الباطل
البينة : ( 3 ) فيها كتب قيمة
) فِيهَا كُتُبٌ ( من اللّه ) قَيِّمَةٌ ( مستقيمة عادلة
البينة : ( 4 ) وما تفرق الذين . . . . .
) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ ( في أمر محمد ( عليه السلام ) فكذّبوه ) إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ ( البيان في كتبهم أنه نبيٌّ مرسل .
قال العلماء : من أول السورة إلى قوله : ) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ( حكمها في من آمن من أهل الكتاب والمشركين ، ) وما تفرّق ( حكمه في من لم يؤمن من أهل الكتاب بعد قيام الحجج عليها .
قال بعض أئمّة أهل اللغة قوله : ) مُنفَكِّينَ ( أي هالكين من قوله انفك صلا المرأة عند الولادة وهو أن تنفصل ولا يلتئم فهلك ، ومعنى الآية : لم يكونوا هالكين أي معذّبين إلاّ بعد قيام الحجّة عليهم بإرسال الرسول وإنزال الكتب .
وقرأ الأعمش ( والمشركون ) رفعاً ، وفي مصحف عبد اللّه ( لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكّين ) وفي حرف أُبيّ ( ما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة رسولا من اللّه ) بالنصب على القطع والحال .
البينة : ( 5 ) وما أمروا إلا . . . . .
) وَمَا أُمِرُوا ( يعني هؤلاء الكفار ) إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ ( يعني إلاّ أن يعبدوا اللّه مخلصين له الدين التوحيد والطاعة ) حُنَفَاءَ ( مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام .
وقال ابن عباس : حجاجاً ، وقال قتادة : الحنيفية هي الختان وتحريم الأُمّهات والبنات والأخوات والعمّات والخالات ، وإقامة المناسك .
وقال سعيد بن حمزة : لا تسمي العرب حنيفاً إلاّ من حجّ واختتن ) وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وذلك ( الذي ذكرت ) دين القيّمة ( المستقيّمة فأضاف الدين إلى القيّمة وهو أمر فيه اختلاف اللفظين وأنّث القيّمة لأنّه رجع بها إلى الملّة والشريعة ، وقيل : الهاء فيه للمبالغة .
سمعت أبا القاسم الحنبلي يقول : سمعت أبا سهل محمد بن محمد بن الأشعث الطالقاني يقول : إن القيّمة هاهنا الكتب التي جرى ذكرها ، والدين مضاف إليها على معنى : وذلك دين الكتب القيّمة فيما يدعو إليه ويأمر به ، نظيرها قوله سبحانه : ) وَأنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيَما اخْتَلَفُوا فِيهِ ( .
وقال النضر بن شميل : سألت الخليل بن أحمد عن قوله سبحانه : ) وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ( فقال : القيّمة جمع القيّم ، والقيّم ( والقائم ) واحد ومجاز الآية : وذلك دين القائمين لك بالتوحيد
(10/261)
" صفحة رقم 262 "
البينة : ( 6 ) إن الذين كفروا . . . . .
) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ( الخليقة ، قرأ نافع البرئة بالهمزة في الحرفين ومثله روى ابن ذكوان عن أهل الشام على الأصل لأنه من قولهم : برأ اللّه الخلق يبرأهم برءاً ، قال اللّه سبحانه : ) من قبل نبرأها ( ، وقرأ الآخرون بالتشديد من غير همزة ، ولها وجهان :
أحدهما أنه ترك الهمزة وأدخل الشبه به عوضاً منه .
والآخر أن يكون ( فعيلة ) من البراء وهو التراب ، تقول العرب : بفيك البراء فمجازه : المخلوقون من التراب .
البينة : ( 7 - 8 ) إن الذين آمنوا . . . . .
) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْن تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ رَبَّهُ ( .
قال الصادق ح : بما كان سبق لهم من العناية والتوفيق ، ورضوا عنه بما منَّ عليهم بمتابعتهم لرسوله ، وقبولهم ما جاءهم به ، أي أن بيان رضا الخلق عن اللّه رضاهم بما يرد عليهم من أحكامه ورضاه عنهم أن يوفّقهم للرضا عنه ) .
محمد بن الفضيل : الرَّوح والراحة في الرضا واليقين ، والرضا باب اللّه الأعظم ومستراح العابدين . محمد بن حقيق : الرضا ينقسم قسمين : رضاً به ورضاً عنه ، فالرضا به ربّاً ومدبّراً ، والرضا عنه فيما يقضي ويقدّر .
وقيل : الرضا رفع الاختيار . ذي النون : الرضا : سرور القلب لمرِّ القضاء . حارث : الرضا سكون القلب تحت جريان الحكم . أبو عمرو الدمشقي : الرضا نهاية الصبر . أبو بكر بن طاهر : الرضا خروج الكراهية من القلب حتى لا يكون إلاّ فرح وسرور . الواسطي : هو النظر إلى الأشياء يعني الرضا حتى لا يسخطك شيء إلاّ ما يسخِط مولاك . ابن عطاء : هو النظر إلى قديم إحسان اللّه للعبد فيترك السخط عليه .
سمعت محمد بن الحسين بن محمد يقول : سمعت محمد بن أحمد بن إبراهيم يقول : سمعت محمد بن الحسين يقول : سمعت علي بن عبد الحميد يقول : سمعت السهمي يقول : إذا كنت لا ترضى عن اللّه فكيف تسأله الرضا عنك ؟ .
(10/262)
" صفحة رقم 263 "
( سورة الزلزلة )
مكّيّة ، وهي مائة وتسعة وأربعون حرفاً ، وخمس وثلاثون كلمة ، وثماني آيات
أخبرنا يعقوب بن أحمد بن السهمي العروضي في درب الحاجب قال : أخبرنا محمد بن عبد اللّه العثماني قال : حدّثنا أبا القاسم الطائي قال : حدّثني أبي قال : حدّثني علي بن موسى الرضا قال : حدّثني أبي موسى بن جعفر قال : حدّثني أبي جعفر بن محمد قال : حدّثني أبي محمد بن علي قال : حدّثني أبي علي بن الحسين قال : حدّثني أبي الحسين بن علي قال : حدّثني أبي علي بن أبي طالب قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ ) إِذَا زُلْزِلَتْ ( أربع مرّات كان كمن قرأ القرآن كلّه ) .
وأخبرني محمد بن القاسم قال : حدّثني أبو بكر محمد بن عبد اللّه قال : حدّثنا الحسن بن سفيان قال : حدّثنا علي بن حجر قال : حدّثنا يزيد بن هارون قال : حدّثنا اليمان بن المغيرة عن عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه ( عليه السلام ) : ( ) إِذَا زُلْزِلَتْ ( تعدل نصف القرآن ، و ) قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ( تعدل ثلث القرآن و ) قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ( تعدل ربع القرآن ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
2 ( ) إِذَا زُلْزِلَتِ الاَْرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ ( 2
الزلزلة : ( 1 ) إذا زلزلت الأرض . . . . .
) إِذَا زُلْزِلَتْ ( حُرّكت الأرض حركة شديدة لقيام الساعة ) زلزالها ( تحركها وقراءة العامّة بكسر الزاي .
(10/263)
" صفحة رقم 264 "
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ( الباقرجي ) قال : حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن ياسين البغدادي قال : حدّثنا جميل بن الحسن قال : حدّثنا أحمد بن موسى صاحب اللؤلؤ قال : سمعت عاصم الجحدري يقرأ : ) إِذَا زُلْزِلَتْ الاْرْضُ زِلْزَالَهَا ( الزاي مفتوحة وهو مصدر أيضاً كالوسواس والقلقال والجرجار ، وقيل : الكسر المصدر والفتح الاسم .
الزلزلة : ( 2 ) وأخرجت الأرض أثقالها
) وَأَخْرَجَت الاْرْضُ أَثْقَالَهَا ( موتاها وكنوزها فيقلبها على ظهرها
الزلزلة : ( 3 ) وقال الإنسان ما . . . . .
) وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا ( وقيل : في الآية تقديم وتأخير تقديره
الزلزلة : ( 4 ) يومئذ تحدث أخبارها
) يَوْمَئِذ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ( فيقول الإنسان : ما لها .
قال المفسّرون : تُخْبر الأرض بما عمل عليها من خير أو شرّ فتقول للمؤمن يوم القيامة : جدّ عليَّ وصام وصلّى واجتهد وأطاع ربّه ، فيفرح المؤمن بذلك ، وتقول للكافر : شرك عليَّ وزنى ( وسرق ) وشرب الخمر فيوبّخ بالمشهد ، وتشهد عليه الجوارح والملائكة مع علم اللّه سبحانه به حتى يودُّ أنه سيق إلى النار مما يرى من الفضوح .
حدّثنا أبو بكر محمد بن عبدوس المزكى إملاءً قال : أخبرنا أبو نصر محمد بن حمدويه بن سهل المروزي قال : حدّثنا عبد اللّه بن حمّاد الآملي قال : حدّثنا سعيد بن أبي مريم قال : حدّثنا رشد بن سعد قال : حدّثنا يحيى بن أبي سلمى عن أبي حازم عن أنس بن مالك أن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن الأرض لتخبر يوم القيامة بكل عمل عُمِلَ على ظهرها ) قال : وتلا رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( ) إِذَا زُلْزِلَتْ الاْرْضُ زِلْزَالَهَا ( ) حتى بلغ ( ) يَوْمَئِذ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ( ) قال : ( أتدرون ما أخبارها ؟ إذا كان يوم القيامة أخبرت بكل عمل عُمِلَ على ظهرها ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا علي بن الحسن بن مطرف الجراحي قال : حدّثنا أبو عيسى عبد الرحمن بن عبد اللّه الأنباري قال : حدّثنا أحمد بن إبراهيم قال : حدّثنا خالد بن يزيد العمري قال : حدّثنا شعبة عن يحيى بن سليم أبي بلج عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة أن النبي ( عليه السلام ) ذكر هذه الآية : ( ) يَوْمَئِذ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ( ) فقال : ( تدري ما أخبارها ؟ ) قال : اللّه ورسوله أعلم .
قال : ( فإن أخبارها أن تشهد على كلّ عبد وأَمة بما عمل على ظهرها من شيء ، تقول : عمل على ظهري كذا وكذا ، أو حملتُ على ظهري كذا وكذا يوم كذا لكذا وكذا ، فهذه أخبارها ) .
وفي حرف ابن مسعود يومئذ تنبيُ أخبارها .
أخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا المطرفي قال : حدّثنا بشر بن مطر قال : حدّثنا سفيان
(10/264)
" صفحة رقم 265 "
عن عبد اللّه بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن أبيه وكان أبوه يتيماً في حجر أبي سعيد الخدري قال : قال لي يعني أبا سعيد : يا بُنيَّ إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالأذان فإني سمعت النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( لا يسمعه جنّ ولا إنس ولا حجر إلاّ يشهد له ) .
أخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : حدّثنا محمد بن عامر السمرقندي قال : حدّثنا ابن الحسين قال : حدّثنا علي بن حميد عن إبراهيم عن أبيه قال : رأيت أبا أُميّة صلّى في المسجد الحرام المكتوبة ، ثم تقدم فجعل يصلي ها هنا وها هنا ، فلمّا فرغ قلت : يا أبا أُميّة ما هذا الذي رأيتك تصنع ؟ قال قرأت هذه الآية : ) يَوْمَئِذ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ( فاردت أن تشهد لي يوم القيامة .
الزلزلة : ( 5 ) بأن ربك أوحى . . . . .
) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ( أي أمرها بالكلام واذن لها فيه ، قال ( العجاج يصف الأرض ) :
أوحى لها القرار فاستقرّت
وشدّها بالراسيات الثُبَّت
أي أمرها بالقرار .
وقال ابن عباس والقرظي وابن زيد : أوحى إليها . ومجاز الآية : يوحي اللّه إليها .
الزلزلة : ( 6 ) يومئذ يصدر الناس . . . . .
) يَوْمَئِذ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً ( عن موقفِ الحساب ، أشتاتاً : متفرقين فآخذٌ ذات اليمين إلى الجنة ، وآخذ ذات الشمال إلى النار ) لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ( قيل : في هذه الآية تقديم وتأخير تقديرها ) يَوْمَئِذ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً ( وقراءة العامّة ليُروا بضم الياء ، وقرأ الحسن والأعرج بفتح الياء وروي ذلك عن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
( ) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ( 2
الزلزلة : ( 7 ) فمن يعمل مثقال . . . . .
) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَه ( أي يُرى ثوابه
الزلزلة : ( 8 ) ومن يعمل مثقال . . . . .
) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَه ( .
قال ابن عباس : ليس مؤمن ولا كافر عمل خيراً ولا شراً في الدنيا إلاّ أراه اللّه إياه ، أما المؤمن فيرى حسناته وسيّئاته ، فيغفر له سيئاته ويثيبه لحسناته ، وأما الكافر فتردُ حسناته ويعذبه بسيّئاته .
وقال محمد بن كعب في هذه الآية : فمن يعمل مثقال ذرة خيراً من كافر يرى ثوابه في نفسه وأهله وماله وولده حتى يخرج من الدنيا وليس له عند اللّه خير ، ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وأهله وماله وولده حتى يخرج من الدنيا ، وليس له عند اللّه شر .
ودليل هذا التأويل ما أخبرنا عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال : حدّثني أبو
(10/265)
" صفحة رقم 266 "
الخطاب الجنائي قال : حدّثنا الهيثم بن الربيع قال : حدّثنا سماك بن عطية عن أيوب عن أبي قُلابة عن أنس قال : كان أبو بكر يأكل مع النبي ( عليه السلام ) فنزلت هذه الآية : ) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَه ( فرفع أبو بكر رضي اللّه عنه يده وقال : يا رسول اللّه أنّى أخبر بما عملت من مثقال ذرة من شر ؟ فقال : ( يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذرّ الشرّ ، ويدّخر اللّه لك مثاقيل ذر الخير حتى تُوفّاه يوم القيامة ) .
له عن محمد بن جرير قال : حدّثني يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا بن وهب قال : حدّثني حُيي بن عبد اللّه عن أبي عبد الرحمن الجيلي عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أنه قال : نزلت ) إِذَا زُلْزِلَتْ الاْرْضُ زِلْزَالَهَا ( وأبو بكر الصديق رضي اللّه عنه قاعد فبكى حين أُنزلت ، فقال له رسول اللّه ( عليه السلام ) : ( ما يبكيك يا أبا بكر ؟ ) قال : أبكتني هذه السورة ، فقال له رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( واللّه لو أنكم لا تُخطِئُونَ ولا تُذْنِبونَ ويغفر اللّه لكم لخلق اللّه أُمّةً يخطئون ويذنبون فيغفر لهم ) .
وقراءة العامّة يره بفتح الياء في الحرفين ، وقرأ خالد بن نشيط وعاصم الجحدري بضم اليائين لقوله : ) لِيُرَوْا ( .
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في رجلين وذلك أنه لما نزل ) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ( كان أحدهما يأتيه السائل فيستقلّ أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة ونحوها ويقول : ما هذا بشيء إنّما نُؤجر على ما نعطي ونحن نحبه يقول اللّه سبحانه : ) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ ( فما أحب لنا هذا فردهُ غفران ، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير ، الكذبة والغيبة والنظرة وأشباه ذلك ويقول : ليس عليَّ من هذا شيء إنّما وعد اللّه سبحانه النار على الكبائر ، وليس في هذا إثم ، فأنزل اللّه سبحانه يرغّبهم في القليل من الخير أن يعطوه ، فإنّه يوشك أن يكثر ، ويحذّرهم اليسير من الذنب فإنّه يوشك أن يكبر ، فالإثم الصغير في عين صاحبه يوم القيامة أعلى من الجبال ، وجميع محاسنه أقل في عينه من كل شيء فقال : ) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَه ( .
سُئل ثعلبة عن الذرّة قال : إن مائة مثل وزن حبّة والذرّة واحد منها . وقال يزيد بن ( مروان ) : زعموا أن الذرّة ليس لها وزن ، ومعنى المثقال الوزن ، وهو مفعال من الثقل ، وقال
(10/266)
" صفحة رقم 267 "
ابن مسعود : أحكم آية في القرآن ) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَه ( وكان رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يسمّيها ( الجامعة الفاذة ) ، وتصدق سعد بن أبي وقّاص بتمرتين وقبض السائل يده فقال سعد : ويحك تقبل اللّه منّا مثقال الذرّة والخردلة وكأين في هذه من مثاقيل .
وتصدّق عمر بن الخطّاب وعائشة بحبة من عنب وقالا فيها مثاقيل ذرّ كُثر .
وروى المطّلب بن ( عبدالله عن عائشة ) أن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قرأ في مجلس ومعهم أعرابي جالس فقال رسول اللّه ( عليه السلام ) : ( ) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَه ( ) فقال الأعرابي : يا رسول اللّه مثقال ذرّة ؟ قال له : ( نعم ) ، فقال الأعرابي : يا رسول اللّه مثقال ذرّة ؟ قال له ( نعم ) ، فقال الأعرابي : واسوأتاه منّا إذاً ، ثم قام وهو يقولها فقال رسول اللّه ( عليه السلام ) : ( لقد دخل قلب الأعرابي الإيمان ) .
وأخبرنا عبد اللّه بن حاطب قال : أخبرنا محمد بن عامر السمرقندي قال : حدّثنا عمر بن يحيى قال : حدّثنا عبد بن حميد عن وهب بن جرير عن أبيه قال : سمعت الحسن يقول : ( قدم صعصعة عمّ الفرزدق على النبي ( عليه السلام ) فلمّا سمع ) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَه ( قال : حسبي ما أبالي ولا أسمع من القرآن غير هذا ) .
وقال الربيع بن صبيح : مرّ رجل بالحسن وهو يقرأ هذه السورة ، فلمّا بلغ آخرها قال : ( حسبي قد أتممت الموعظة ) فقال الحسن : ( لقد فقه الرجل ) .
أنشدنا أبو القاسم الحسن بن محمد المفسّر قال : أنشدني أبو الفضل أحمد بن محمد بن حمدون الفقيه قال : أنشدني أبو بكر أحمد بن محمد بن إبراهيم الحواربي بواسط :
إنّ من يعتدي ويكسب إثماً
وزن مثقال ذرّة سيراه
ويجازى بفعله الشر شرّاً
وبفعل الجميل أيضاً جزاه
هكذا قوله تبارك ربّي
في إذا زلزلت جلّ ثناه
(10/267)
" صفحة رقم 268 "
( سورة العاديات )
مكّيّة ، وهي مائة وثلاثة وستون حرفاً ، وأربعون كلمة ، وإحدى عشرة آية
أخبرنا الجنازي قال : حدّثنا ابن حبيش قال : أخبرنا أبو العباس الدقّاق قال : حدّثنا عبد اللّه بن روح قال : حدّثنا شبابة قال : حدّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن يزيد عن زر عن أبي قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة العاديات أُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من بات بالمزدلفة وشهد جمعاً ) .
بسم اللّه الرحمن الرحيم
2 ( ) وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالمُورِيَاتِ قَدْحاً فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ( 2
العاديات : ( 1 ) والعاديات ضبحا
) وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً ( قال ابن عباس وعطاء ومجاهد وعكرمة والحسن والكلبي وأبو العالية والربيع وعطية وقتادة ومقاتل وابن كيسان : هي الخيل التي تعدو في سبيل اللّه وتضبح وهو صوت أنفاسها إذا أجهدت في الجري فيكثر الربو في أجوافها من شدة العدو ، قال ابن عباس : ليس شيء من الدواب يضج غير الفرس والكلب والثعلب .
قال أهل اللغة : أصل الضبح والضباح للثعالب فاستُعير في الخيل ، وهو من قول العرب : ضبحته النار إذا غيّرت لونه ، وإنّما تضبح هذه الحيوانات إذا تغيّرت حالها من تعب أو فزع أو طمع ، ونصب قوله : ) ضَبْحاً ( على المصدر ومجازه : والعاديات تضبح ضبحاً قال الشاعر :
لستُ بالتُبِّع اليماني إن لم
تضبح الخيل في سواد العراقِ
وقال آخر :
والعاديات أسابي الدماء بها
كأن أعناقها أنصاب ترجيب
(10/268)
" صفحة رقم 269 "
يعني الخيل .
قال مقاتل : بعث رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) سرية إلى حي من كنانة واستعمل عليهم المنذر بن عمر الأنصاري أحد النقباء فتأخر خبرهم ، وقال المنافقون : قتلوا جميعاً فأخبره اللّه سبحانه عنها فقال : ) وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً ( يعني تلك الخيول غدت حتى ضبحت ، وهو صوت ليس بصهيل ولا حمحمة ، وقال الحكماء : هو تقلقل الجرذان في القُنب . وقيل : هو صوت إرخاء مشافرها إذا عدت ، قال أبو الضحى : وكان ابن عباس يقول : ضباحها أُج أُج . وقال قوم : هي الإبل .
أنبأني عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي سعيد قال : حدّثنا الحسن بن محمد بن الصباح قال : حدّثنا مروان بن معاوية قال : حدّثنا إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح في قوله سبحانه : ) وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً ( قال : ما رأى فيه عكرمة ؟ فقال عكرمة : قال ابن عباس : هي الخيل في القتال ، فقلت أنا : ( قال علي : هي الإبل في الحجّ ) ، وقلت : مولاي أعلم من مولاك .
وقال الشعبي تمارى علي بن عباس في قوله : ) وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً ( فقال ابن عباس : هي الخيل ، ألا تراه يقول : ) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً ( فهل تُثير إلاّ بحوافرها ، وهل تضبح الإبل ؟ وإنما تضبح الخيل ، فقال علي : ليس كما قلت لقد رأيتنا يوم بدر وما معنا إلاّ فرس أبلق للمقداد بن الأسود . وفي رواية أُخرى وفرسٌ لمرثد بن أبي مرثد الغنوي .
وأخبرني عقيل بن أبي الفرج ، أخبرهم عن أبي جرير قال : حدّثني يونس قال : أخبرنا بن وهب قال : حدّثنا أبو صخر عن أبي لهيعة البجلي عن سعيد بن حسين عن ابن عباس حدّثه قال : بينما أنا في الحجر جالس أتاني رجل فسأل عن العاديات ضبحاً ، فقال له : الخيل حين تغير في سبيل اللّه ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم ، فانفتل عني وذهب إلى علي بن أبي طالب وهو تحت سقاية زمزم وسأله عن العاديات ضبحاً فقال : ( سألت عنها أحداً قبلي ) .
قال : نعم ، سألت عنها ابن عباس وقال : هي الخيل تغير في سبيل اللّه قال : ( اذهب فادعه لي ) ، فلمّا وقف على رأسه قال : ( تفتي الناس بما لا علم لك به ، واللّه إن كانت لأول غزوة في الإسلام بدر ، وما كان معنا إلاّ فَرَسان : فرس للزبير وفرس للمقداد بن الأسود ، فكيف تكون العاديات الخيل ، بل العاديات ضبحاً الإبل من عرفة إلى المزدلفة ، ومن المزدلفة إلى مِنى ) .
قال ابن عباس : فنزعت عن قولي ورجعت إلى الذي قال علي ، وإلى قول علي ذهب ابن مسعود ومحمد بن عمير ومحمد بن كعب والسدي .
(10/269)
" صفحة رقم 270 "
وقال بعضهم : من قال : هي الإبل قال ضبحاً يعني ضبعاً بمدّ أعناقها في السير وضبحت وضبعت بمعنى واحد ، قالت صفية بنت عبد المطّلب :
فلا والعاديات غداة جمع
بأيديها إذا سطع الغبار
العاديات : ( 2 ) فالموريات قدحا
) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً ( قال عكرمة وعطاء والضّحاك : هي الخيل توري النار بحوافرها إذا سارت في الحجارة والأرض المحصبة .
وقال مقاتل والكلبي : والعرب تُسمي تلك النار نار أبي حباحب .
وكان أبي حباحب شيخاً من مُضر في الجاهلية وكان من أبخل الناس ، وكان لا يوقد ناراً لخبز ولا غيره حتى تنام كل ذي عين ، فإذا نام أصحابه وقَدَ نويرة تقد مرّة وتخمد مرّة ، فإذا استيقظ بها أحد أطفأها كراهية أن ينتفع بها أحد ، فشبّهت العرب هذه النار بناره ، أي لا ينتفع به كما لا يُنتفعُ بنار أبي حباحب .
ومجاز الآية : والقادحات قدحاً فخالف بين الصدر والمصدر .
وقال قتادة : هي الخيل تهيج للحرب ونار العداوة بين أصحابها وفرسانها .
وروى سعيد بن حسن عن ابن عباس قال : هي الخيل تغير في سبيل اللّه ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ويورون نارهم .
مجاهد وزيد بن أسلم : هي مكر الرجل والعرب تقول إذا أراد الرجل أن يمكر لصاحبه قال : أما واللّه لأقدحنّ لك ثم لأُورينَّ لك .
سعيد بن جُبير : يعني رجال الحرب . عكرمة : هي ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلّم به .
ابن جريج عن بعضهم : فالمنجّحات عملا كنجاح الوتد إذا أُوريَّ . محمد بن كعب : هي النيران بجمع .
العاديات : ( 3 ) فالمغيرات صبحا
) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً ( يعني الخيل ، تغير بفرسانها على العدو وقت الصبح ، هذا قول أكثر المفسّرين .
قال القرظي : هي الأبل تدفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى ، والسنّة أن لا يدفع حتى يصبح ، والإغارة سرعة السير ، ومنه قولهم : أشرق ثبير كما نغير .
العاديات : ( 4 ) فأثرن به نقعا
) فَأَثَرْنَ ( فيهيَّجنَ . وقرأ أبو حيوة فأثرن بالتشديد من التأثير به أي بذلك المكان الذي انتهين إليه كناية عن غير مذكور ؛ لأن المعنى مفهوم مشهور .
) نَقْعاً ( أي غباراً
العاديات : ( 5 ) فوسطن به جمعا
) فَوَسَطْنَ بِهِ ( أي دخلن به وسطهم يقال : وسطت القوم ، بالتخفيف
(10/270)
" صفحة رقم 271 "
ووسطّتهم بالتشديد ، وتوسطتهم كلّها بمعنى واحد ، وقرأ قتادة فوسّطن ، بالتشديد ) جَمْعاً ( أي جمع العدو وهم الكتيبة ، وقال القرظي : يعني جمع منى .
( ) إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِى الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِى الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ ( 2
العاديات : ( 6 ) إن الإنسان لربه . . . . .
) إِنَّ الاْنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ( قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع : لكفور جحود لنِعم اللّه تعالى . قال الكلبي : هو بلسان كندة وحضرموت ، وبلسان معد كلهم : العاصي ، وبلسان مضر وربيعة وقضاعة : الكفور ، وبلسان بني مالك البخيل .
وروى شعبة عن سماك أنه قال : إنما سميت كندة ؛ لأنها قطعت أباها .
وقال ابن سيرين : هو اللوّام لربه . وقال الحسن : هو الذي يعدّ المصائب وينسى النعم ، أخذه الشاعر فقال :
يا أيها الظالمُ في فعله
والظلم مردودٌ على من ظَلَمْ
إلى متى أنت وحتى متى
تشكو المصيبات وتنسى النِّعم
وأخبرنا أبو القمر بن حبيب في صفر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة قال : أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن سعد الرازي قال : حدّثنا العباس بن حمزة قال : حدّثنا أحمد بن محمد قال : حدّثنا صالح بن محمد قال : حدّثنا سلمة عن جعفر بن الزبير عن القميّ عن أبي أمامة عن رسول اللّه ( عليه السلام ) في هذه الآية : ) إِنَّ الاْنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ( قال رسول اللّه ( عليه السلام ) : ( أتدرون ما الكنود ؟ ) ، فقالوا : اللّه ورسوله أعلم ، قال : ( الكنود ( قال : هو الكفور الذي ) يأكل وحده ، ويمنع رفده ، ويضرب عبده ) .
وقال عطاء : الكنود الذي لا يعطي في النائبة مع قومه . وقال أبو عبيدة : هو قليل الخير ، والأرض الكنود التي لا تنبت شيئاً قال أبو ذبيان :
إن نفسي ولم أطب عنك نفساً
غير أنّي أُمنى بدهر كنود
وقال الفضيل بن عياض : الكنود الذي أنسته الخصلة الواحدة من الإحسان الخصال الكثيرة من الإساءة
(10/271)
" صفحة رقم 272 "
وقال أبو بكر الورّاق : الكنود الذي يرى النعمة من نفسه وأعوانه . محمد بن علي الترمذي : هو الذي يرى النعمة ولا يرى المنعم ، وقال أبو بكر الواسطي : هو الذي ينفق نعم اللّه سبحانه في معاصي اللّه ، وقال بسّام بن عبد اللّه : هو الذي يجادل ربّه على عقد العوض . ذو النّون : تفسير الهلوع والكنود قوله : ) إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإذَا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعاً ( .
وقيل : هو الذي يكفر باليسير ولا يشكر الكثير ، وقيل : الحقود ، وقيل : الحسود . وقيل : جهول القدر . وفي الحكمة من جهل قدره هتك ستره . وقال بعضهم والحسن : رأسه على وسادة النعمة وقلبه في ميدان الغفلة . وقيل : يرى مامنهُ ولا يرى ما إليه ، وجمع الكنود كُند . قال الأعشى :
أحدث لها ( تحدث ) لوصلك أنّها
كند لوصل الزائر المعتاد
العاديات : ( 7 ) وإنه على ذلك . . . . .
) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ( قال أكثر المفسّرين : وإن اللّه على كنود هذا الإنسان وصنيعه لشاهد ، وقال ابن كيسان : ال ( هاء ) راجعة إلى الإنسان ، يعني أنّه شاهد على نفسه بما يصنع ،
العاديات : ( 8 ) وإنه لحب الخير . . . . .
و ) أنّه ( يعني الإنسان ) لِحُبِّ الْخَيْرِ ( أي المال .
وقال ابن زيد : سمّى اللّه المال خيراً وعسى أن يكون خبيثاً وحراماً ولكن الناس يعدّونه خيراً فسمّاه اللّه خيراً ؛ لأن الناس يسمّونه خيراً وسمي الجهاد سوءاً فقال : ) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَة مِنَ اللهِ وَفَضْل لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ ( أي قتال . وليس هو عند اللّه بسوء ولكن سمّاه اللّه سوءاً ؛ لأنّ الناس يسمّونه سوءاً .
ومعنى الآية وإنه من أجل حبّ المال ) لَشَدِيدٌ ( بخيل ، ويقال للبخيل : شديد ومتشدّد ، قال طرفة :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي
عقيلة مال الفاحش المتشدّد
والفاحش : البخيل أيضاً قال اللّه سبحانه : ) وَيَأمُرُكُمْ بِالفَحْشَاءِ ( أي البخل ، وقيل : معناه : وإنّه لحب الخير لقويّ ، وقال الفرّاء : كان موضع الحب أن يكون بعد شديد وأن يضاف شديد إليه فيقال : وإنّه لشديد الحبّ للخير ، فلمّا يقدم الحبّ قبل شديد وحذف من آخره لمّا جرى ذكره في أوله ، ولرؤوس الآيات كقوله سبحانه : ) فِي يَوْم عَاصِف ( والعصوف لا يكون
(10/272)
" صفحة رقم 273 "
للأيّام إنّما يكون للريح ، فلمّا جرى ذكر الريح قبل اليوم طرحت من آخره كأنه قيل : في يوم عاصف الريح .
العاديات : ( 9 ) أفلا يعلم إذا . . . . .
) أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ ( يُحث وأثير ، قال الفرّاء : وسمعت بعض أعراب بني أسد يقرأ : بُحثر بالحاء وقال : هما لغتان .
) مَا فِي الْقُبُورِ ( فأُخرجوا منها
العاديات : ( 10 ) وحصل ما في . . . . .
) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ( أي مُيَّز وأُبرز ما فيها من خير أو شرّ ، وقرأ عبيد بن عمير وسعيد بن جُبير حَصَل بفتح الحاء وتخفيف الصاد أي ظهر .
العاديات : ( 11 ) إن ربهم بهم . . . . .
) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ ( جمع الكناية لانّ الإنسان اسم الجنس .
) يَوْمَئِذ لَخَبِيرٌ ( عالم ، والقراءة بكسر الألف لأجل اللام ، ولولاها لكانت مفتوحة بوقوع العلم عليها . وبلغني أن الحجاج بن يوسف قرأ على المنبر هذه السورة يحضُّ الناس على الغزو فجرى على لسانه : أنّ ربهم بفتح الألف ثم استدركها من جهة العربية فقال : خبير ، وأسقط اللام .
(10/273)
" صفحة رقم 274 "
( سورة القارعة )
مكّيّة ، وهي مائة واثنان وخمسون حرفاً ، وست وثلاثون كلمة ، واحدى عشرة آية
أخبرني ابن المقري قال : أخبرنا ابن مطر قال : حدّثنا ابن شريك قال : حدّثنا ابن يونس قال : حدّثنا ابن سليم قال : حدّثنا ابن شبر عن ابن أسلم عن أبيه عن أبي أُمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ القارعة ثقَّل اللّه سبحانه بها ميزانه يوم القيامة ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
2 ( ) الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ ( 2
القارعة : ( 1 - 4 ) القارعة
) الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ( وهي الطير التي تتساقط في النار ، المبثوث : المتفرّق . قال الفرّاء : الغوغاء : الجراد يركب بعضه بعضاً من الهول .
القارعة : ( 5 ) وتكون الجبال كالعهن . . . . .
) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ ( كالصوف المصبوغ المبلل .
القارعة : ( 6 - 7 ) فأما من ثقلت . . . . .
) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَة رَاضِيَة ( مرضيّة في الجنة .
القارعة : ( 8 - 9 ) وأما من خفت . . . . .
) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ( مسكنه ومأواه النار . قال قتادة : هي كلمة عربية ، كان الرجل إذا وقع في أمر شديد قال : هوت أُمّه ، وقال بعضهم : أرَادَ أُمّ رأسه ، يعني أنهم يهوون في النار على رؤوسهم ، وإلى هذا التأويل ذهب قتادة وأبو صالح .
القارعة : ( 10 ) وما أدراك ما . . . . .
) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ( أي مَنْ ؟ فقال :
القارعة : ( 11 ) نار حامية
) نَارٌ حَامِيَةٌ ( .
(10/274)
" صفحة رقم 275 "
وأخبرنا ابن حامد قال ( حدّثنا ) صالح بن محمد قال : حدّثنا إبراهيم بن محمد عن جعفر ابن زيد عن أنس بن مالك قال : إن ملكاً من ملائكة اللّه عزّ وجلّ موكّل يوم القيامة بميزان ابن آدم ، فيجاء به حتى يوقف بين كفتي الميزان ، فيوزن عمله فإنْ ثقل ميزانه نادى الملائكة بصوت يسمع جميع الخلق باسم الرجل : ألا سَعُدَ فلان سعادة لا شقاوة بعدها ، وإن خفّت موازينه ينادي الملائكة : ألا شقيَ فلان شقاوة لا سعادة بعدها .
(10/275)
" صفحة رقم 276 "
( سورة التكاثر )
مكّيّة ، وهي مائة وعشرون حرفاً ، وثمان وعشرون كلمة ، وثماني آيات
أخبرني محمد بن القثم قال : حدّثنا محمد بن مطر قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك قال : حدّثنا أحمد بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( من قرأ ألهاكم التكاثر لم يحاسبه بالنعيم الذي أنعم عليه في دار الدنيا ، وأُعطي من الأجر كأنما قرأ ألف آية ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
2 ( ) أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ( 2
التكاثر : ( 1 ) ألهاكم التكاثر
) أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ ( يقول : شغلتكم المباهاة والمفاخرة بكثرة المال والعدد عن طاعة ربّكم وما ينجيكم من سخطه عليكم
التكاثر : ( 2 ) حتى زرتم المقابر
) حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ ( أي مُتُّم فدفنتم فيها .
قال قتادة : نزلت في اليهود قالوا : نحن أكثر من بني فلان ، وبنو فلان أكثر من بني فلان ، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضُلاّلا . وقال ابن بريدة : نزلت في فخذ من الأنصار تفاخروا . مقاتل والكلبي : نزلت في حيّين من قريش : بني عبد مناف وبني قصي ، وبني سهم بن عمرو بن هصيص ابن كعب ، كان بينهم لحاء فتعادّوا السادة والأشراف أيّهم أكثر فقال بنو عبد مناف : نحن أكثر سيّداً وأعزّ عزيزاً وأعظم نفراً وأكثر عدداً .
وقال بنو سهم مثل ذلك فكثرهم بنو عبد مناف ثم قالوا : نعدّ موتانا حتى زاروا القبور فعدّوهم ، وقالوا : هذا قبرُ فلان وهذا قبرُ فلان ، فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات ؛ لأنهم كانوا أكثر عدداً في الجاهلية فأنزل اللّه سبحانه هذه الآية .
(10/276)
" صفحة رقم 277 "
أخبرنا أبو القاسم عبد الرحمن بن أحمد بن جعفر ، وأبو بكر أحمد بن الحسن بن أحمد الحبربان قالا : أخبرنا أبو محمد حاجب بن أحمد بن ( سفيان ) قال : حدّثنا عبد الرحمن بن مسيّب قال : حدّثنا النضر بن شميل قال : أخبرنا شعبة عن قتادة عن مطرف بن عبد اللّه عن النخير عن أبيه قال : انتهيت إلى رسول اللّه ( عليه السلام ) وهو يقرأ هذه الآية : ) أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ ( قال : يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك إلاّ ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدّقت فأمضيت .
وروى زر بن حبيش عن علي بن أبي طالب قال : ما زلنا نشكّ في عذاب القبر حتى نزلت ) أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ ( إلى ) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ( يعني في القبر .
التكاثر : ( 3 ) كلا سوف تعلمون
) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ( وعيد لهم
التكاثر : ( 4 ) ثم كلا سوف . . . . .
) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ( والتكرير على التأكيد ، وقال الضحّاك : ) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ( يعني الكفّار ) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ يَعْلَمُونَ ( يعني المؤمنين ، وكذلك كان يقرأها : الأُولى بالتاء والثانية بالياء ثم
التكاثر : ( 5 ) كلا لو تعلمون . . . . .
) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ( أي علماً يقيناً فأضاف العلم إلى اليقين لقوله سبحانه : ) إنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ اليَقِينِ ( قال قتادة : كنّا نحدّث أن علم اليقين أن يعلم أن اللّه باعثه بعد الموت .
التكاثر : ( 6 - 7 ) لترون الجحيم
) ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ( يصلح أن يكون في معنى المضي جواباً ل ( لو ) ، تقديره : لو تعلمون العلم اليقين لرأيتم الجحيم بقلوبكم ، ثم رأيتموها بالعين اليقين .
وقيل : معناه لو تعلمون علم اليقين لشغلكم عن التكاثر والتفاخر ، ثم استأنف ) لترونّ الجحيم ( على نيّة القَسَم ، وإلى هذا ذهب مقاتل ، وقيل : معناه : لو علمتم يقيناً أنكم ترون النار لشغلكم ذلك عما أنتم فيه .
وقيل : ذكر ( كلاّ ) ثلاث مرّات أرادَ : تعلمون عند النزوع ، وتعلمون في القبر ، وتعلمون في القيامة ، ثم ذكر في الثالثة علم اليقين ؛ لأنّه صار عياناً ما كان مُغيّباً .
وقراءة العامّة لتُرونّ بضم التاء في الحرفين ، وضَمَّ الكسائي التاء في الأُولى منهما وفتح الأُخرى ، ورواه عن علي ح .
أخبرنا محمد بن عبدوس قال : حدّثنا محمد بن يعقوب قال : حدّثنا محمد بن الجهم قال : حدّثنا الفرّاء قال : أخبرني محمد بن الفضل عن عطاء عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي أنه قرأ ) لترونّ الجحيم ثم لترونّها ( بضم التاء الأُولى وفتح الثانية ، وقال الفرّاء : الأول أشبه بكلام العرب ؛ لأنّه تغليظ فلا ينبغي أن يختلف لفظه .
(10/277)
" صفحة رقم 278 "
التكاثر : ( 8 ) ثم لتسألن يومئذ . . . . .
) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذ عَنْ النَّعِيمِ ( اختلفوا فيه وأكثروا ، فأخبرنا أبو علي الحسين بن محمد ابن علي بن إبراهيم السراج بقراءتي عليه في الجامع يوم الجمعة في المحرم سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة قال : حدّثنا أبو بكر محمد بن علي بن مهران الخشّاب ، قال حدّثنا علي بن سعيد العسكري قال : حدّثنا الحسين بن معاذ الأخفش مُستملي أبي حفص الفلاس قال : حدّثنا إبراهيم ابن أبي سويد الذارع قال : حدّثنا سويد أبو حاتم عن قتادة عن عبد اللّه بن سفيان عن أبي هريرة عن النبي ( عليه السلام ) ) لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذ عَنْ النَّعِيمِ ( قال : ( عن الماء البارد ) .
وحدّثنا أبو الحسن محمد بن علي بن الحسين بن القيّم الحسني السُّني قال : حدّثنا أحمد ابن علي بن مهدي بن صدقة بالرملة قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا علي بن موسى الرضا قال : حدّثني أبي موسى بن جعفر قال : حدّثني أبي جعفر بن محمد قال : حدّثني أبي محمد بن علي ، قال حدّثني أبي علي بن الحسين قال : حدّثني أبي الحسين بن علي قال : حدّثني أبي علي بن أبي طالب قال : قال رسول اللّه ( عليه السلام ) في قول سبحانه : ) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذ عَنْ النَّعِيمِ ( قال : ( الرطب والماء البارد ) .
وقال عبد اللّه بن عمر : هو الماء البارد في الصيف ، ودليل هذا التأويل الخبر المأثور : ( أن أول ما يسأل اللّه سبحانه العبد يوم القيامة أن يقول له : ألم أصحّ جسمك وأروك من الماء البارد ) .
وقال أنس بن مالك : ضاف رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المقداد بن الأسود فقدم إليه طعاماً فأكله ثم سقاه ماءً بارداً فاستطابه وقال : ( يا بردها على الكبد ) ، ثم قال : ( إذا شرب أحدكم الماء فليشرت أبرد ما يقدر عليه ) قيل ولم ؟ قال ( أطيب للمعدة ، وأنفع للعلّة ، وأبعث على الشكر ) .
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا زكريّا العنبري يقول : سمعت أبا العباس الأزهري يقول : سمعت أبا حاتم يقول : الماء البارد العذب يستخرج الحمد من جوف القلب .
وقال مالك بن دينار : قال رجل للحسن : إنّ لنا جاراً لا يأكل الفالود ويقول : لا أقوم بشكره ، فقال : ما أجهل جاركم بنعمة اللّه عليه بالماء البارد أكثر من نعمة بجميع الحلاوي
وأخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى قال : أخبرنا أبو محمد عبد اللّه بن أحمد ( بن محمد الرومي ) قال : حدّثنا أبو حفص محمد بن حفص البصري قال : حدّثنا
(10/278)
" صفحة رقم 279 "
عبد اللّه بن سلمة بن عياش قال : حدّثنا الأشعث بن نزار عن قتادة عن عبد اللّه بن شقيق عن أبي هريرة أن النبي ( عليه السلام ) في قول اللّه جلّ ثناؤه ) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذ عَنْ النَّعِيمِ ( قال : ( من أكل خبز البُرّ ، وشرب الماء المبرّد ، وكان له ظل ، فذلك النعيم الذي يُسأل عنه ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا بن مالك قال : حدّثنا ابن حنبل قال : حدّثني الوليد بن شجاع قال : حدّثنا محمد بن سعيد الأصبهاني عن ابن أبي ليلى عن الشعبي عن عبد اللّه بن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذ عَنْ النَّعِيمِ ( قال : ( الأمن والصحة ) .
وأخبرني بن فنجويه قال : حدّثنا ابن برزة قال : حدّثنا محمد بن غالب بن حرب قال : حدّثني زكريّا بن يحيى الرقاشي المنقري قال : حدّثنا عبد اللّه بن عيسى بن خلف قال : حدّثنا يونس بن عبد عن عكرمة عن ابن عباس أنّه سمع عمر بن الخطاب يقول : خرج علينا رسول اللّه ( عليه السلام ) عند الظهيرة فوجد أبا بكر في المسجد فقال : ( يا أبا بكر ما أخرجك في هذه الساعة ؟ ) قال : يا رسول اللّه أخرجني الذي أخرجك .
قال : وجاء عمر فقال له رسول اللّه : ( يا أبا الخطّاب ما أخرجك ؟ ) قال : يا رسول اللّه الذي أخرجكما . وقعد معهما عمر قال : فأقبل رسول اللّه ( عليه السلام ) يحدّثهما ثم قال : ( هل لكما من قوّة فتنطلقان إلى هذا النخل فتصيبان طعاماً وشراباً وظلاًّ ؟ ) قلنا : نعم ، قال : ( مرّوا بنا إلى أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري ) فتقدّم رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) بين أيدينا فاستأذن وسلّم عليهم ثلاث مرّات ، وأُمّ الهيثم تسمع الكلام من وراء الباب ، وتريد أن يزيدهم رسول اللّه ( عليه السلام ) ، فلمّا أراد رسول اللّه ( عليه السلام ) أن ينصرف خرجت أُمّ الهيثم تسعى خلفهم فقالت : يا رسول اللّه لقد سمعت تسليمك ولكنّي أردت أن تزيدنا من سلامك .
فقال لها رسول اللّه ( عليه السلام ) : ( أين أبو الهيثم ؟ ) قالت : يا رسول اللّه هو قريب ، ذهب يستعذب لنا من الماء ، ادخلوا فإنه يأتي الساعة إن شاء اللّه .
وبسطت لهم بساطاً تحت شجرة حتى جاء أبو الهيثم ، ففرح بهم أبو الهيثم وقرّت عينه ، وصعد أبو الهيثم على نخلة يصرم لهم عذقاً ، فقال له رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( حسبك يا أبا الهيثم ) قال : يا رسول اللّه تأكلون من بسره ومن رطبه وتذنوبه ثم أتاهم فشربوا عليه فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( هذا من النعيم الذي تُسألون عنه ) .
(10/279)
" صفحة رقم 280 "
ثم قام أبو الهيثم إلى شاة لهم ليذبحها ، فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( إياك واللبون ) وقامت أُمّ الهيثم تعجن لهم وتخبز فوضع رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر وعمر رؤوسهم للقائلة ، فانتبهوا وقد أدرك طعامهم فوضع بين أيديهم الطعام فأكلوا وشبعوا وحمدوا اللّه عزّ وجلّ ، ثم ردّ عليهم أبو الهيثم بقية الأعذاق فأكلوا من رطبه ( ومن تذنوبه ) فسلّم عليهم رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ودعا لهم بخير .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا الفريابي قال : حدّثنا منصور بن أبي مزاحم قال : حدّثنا أبو سعيد المؤذّن وهو محمد بن مسلم بن أبي للوضّاح عن محمد بن عمر عن صفوان بن سليم عن محمود بن لبيد قال : لمّا نزلت هذه الآية : ) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذ عَنْ النَّعِيمِ ( قالوا : يا رسول اللّه عن أيّ نعيم نُسأل وإنّما هما هذان الأسودان التمر والماء ، وسيوفنا على عواتقنا ؟ قال : ( إنّ ذاك لكائن ) .
وأخبرنا الفنجوي قال : حدّثنا القطيعي قال : حدّثنا ابن حنبل قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا عنّان قال : حدّثنا يزيد بن إبراهيم قال : أخبرنا يوسف ابن أخت ابن سيرين عن أبي قلابة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قول اللّه سبحانه : ) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذ عَنْ النَّعِيمِ ( قال : ( ناس من أُمّتي يعقدون السمن والعسل بالنقي فيأكلونه ) .
وأخبرنا بن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا الفريابي قال : حدّثنا إبراهيم بن عبد اللّه قال : أخبرنا هيثم قال : أخبرنا منصور بن زاذان عن ابن سيرين عن ابن عمر قال : لا يدخل الحمّام فإنّه ممّا أحدثوا من النعيم ، قال : وكان منصور لا يدخل الحمّام .
وأخبرني الحسين قال : حدّثنا ( أحمد بن جعفر بن حمدان ) قال : حدّثنا محمود بن الفرج قال : حدّثنا ابن أبي الشوارب قال : حدّثنا أبو عوانة عن إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن عبد اللّه عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : ( إن اللّه سبحانه ليعدد نعمه على العبد في المصدر : ( يوم القيامة حتى يعد عليه ) : سألتني فلانة أن أزوجكها ، يسمّيها باسمها فزوجتكها ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا بن صقلاب قال : حدّثنا ابن أبي الخصيب قال : حدّثني محمد بن عيسى قال : حدّثنا فضل بن سهل قال : حدّثنا حفص بن عمر قال : حدّثنا الحكم بن أبان عن عكرمة قال : لمّا نزلت ) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذ عَنْ النَّعِيمِ ( قالت الصحابة : يا رسول اللّه
(10/280)
" صفحة رقم 281 "
وأي نعيم نحن فيه . وإنما نأكل في أنصاف بطوننا الشبع ؟ فأوحى اللّه سبحانه إلى نبيّه : قل لهم : ( أليس تحتذون النعال ، وتشربون الماء البارد ؟ فهذا من النعيم ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال حدّثنا أبو زرعة الرازي قال : حدّثنا أبو الحسن الأشناني القاضي قال : حدّثنا أحمد بن الحسن بن سعيد الخراز قال : حدّثني أبي قال : حدّثني محمد بن مروان عن أبان بن تغلب عن أنس بن مالك قال : لما نزلت ) لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذ عَنْ النَّعِيمِ ( جاء رجل محتاج فقال : يا رسول اللّه هل عليّ من النعمة شيء ؟ قال : ( نعم ، النعلان ، والظل ، والماء البارد ) .
وأخبرنا محمد بن محمد بن هانئ قال : حدّثنا أبو عبد اللّه محمد بن محمد الرواساني قال : حدّثنا أبو سعيد الأشجّ قال : حدّثنا ابن نمير عن ابن جريج عن مجاهد ) لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذ عَنْ النَّعِيمِ ( قال : عن كل لذّة من لذات الدنيا .
وأنبأني عبد اللّه بن حامد ، قال : أخبرنا محمد بن الحسن قال : حدّثنا علي بن الحسن بن أبي عيسى قال : حدّثنا يحيى بن يحيى قال : حدّثنا أبو عامر بن أُساف اليمامي عن يحيى وهو عبد لابن أبي كثير قال : قرأ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ ( على أصحابه فلمّا بلغ ) لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذ عَنْ النَّعِيمِ ( قال : ( هل تدرون ما ذاك النعيم ؟ ) قالوا : اللّه ورسوله أعلم . قال : ( بيت يقلّك ، وخرقة تواري عورتك ، وكسرة تشدُ بها صلبك ما سوى ذلك نعيم ) .
وأخبرنا عبد اللّه بن حامد إجازة قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن يحيى المكّي قال : حدّثني أبو بكر محمد بن جعفر المقري بشمشاط قال : حدّثنا أحمد بن سفيان بن علقمة بن عبد اللّه المقدمي قال : حدّثنا عمرو بن خالد قال : حدّثنا النضر بن عربي عن عكرمة عن ابن عباس قال : قرأ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ) أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ ( قال : ( تكاثر الأموال : جمعها من غير حقّها ، ومنعها عن حقّها ، وشدّها في الأوعية ، ) حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ ( حتى دخلتم قبوركم ) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ( لو قد دخلتم قبوركم ) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ( لو قد خرجتم من قبوركم إلى محشركم ) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ( لو قد تطايرت الصُحف فشقيٌّ وسعيد ) لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ ( ) ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ( قال : وذلك حين يؤتى بالصراط فينصب بين حفرتي جهنم ) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذ عَنْ النَّعِيمِ ( قال عن خمس : عن شبع البطون ، وبارد الشراب ، ولذّة النوم ، وظلال المساكن ، واعتدال الخلق ) .
(10/281)
" صفحة رقم 282 "
وأخبرنا عبد اللّه بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن عبد اللّه قال : حدّثنا محمد بن عبد اللّه قال : حدّثنا الحسن بن زياد قال : حدّثنا أبو خلد الأحمر عن مفضل عن مغيرة عن إبراهيم قال : من أكل فسمّى اللّه وفرغ فحمد اللّه لم يسئل عن نعيم ذلك الطعام .
وقال ابن عباس : النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار ، قال : يسأل اللّه العباد فيما استعملوها وهو أعلم بذلك منهم ، وهو قوله سبحانه : ) إنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا ( ، أبو جعفر : العافية .
وأنبأني عقيل قال : أخبرنا المعافى قال : أخبرنا ابن جرير قال : أخبرنا بن حميد قال : حدّثنا مهران عن إسماعيل بن عياش عن عبد الرحمن بن الحرث التميمي عن ثابت البناني عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( النعيم المسؤول عنه يوم القيامة : كسرة تقوّيه ، وماء يرويه ، وثوب يواريه ) .
وبه عن مهران عن سفيان عن بكر بن ( عتيق ) العامري قال : أُتي سعيد بن جبير بشربة عسل فقال : أما إنّ هذا من النعيم الذي يُسئل عنه .
وقال محمد بن كعب : يعني عمّا أنعم عليكم بمحمد ( عليه السلام ) ، ودليل هذا التأويل قوله سبحانه ) يعرفون نعمة اللّه ثم ينكرونها ( ، عكرمة : عن الصحة والفراغ .
سعيد بن جبير : عن الصحة والفراغ والمال ، ودليله ما روى ابن عباس عن النبي ( عليه السلام ) أنّه قال : ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ ) .
وقال عروة بن محمد : كنّا مع وهب بن منبه فرأينا رجلا أصمّ أعمى مقعداً مجذوماً مصاباً فقلنا : هل بقي على هذا شيءٌ من النعيم ؟ قال : نعم ، أعظمه بشبعه ما يأكل ويشرب ويسهل عليه إذا خرج لذلك .
قال بكر عن عبد اللّه المزني : يالها من نعمة يأكل لذّة ويخرج سرجاً . أبو العالية : عن الإسلام والستر . الحسين بن الفضل : تخفيف الشرايع وتيسير القرآن . أبو بكر الورّاق : عن الآلاء والنعماء .
(10/282)
" صفحة رقم 283 "
( سورة العصر )
مكّيّة ، وهي ثمانية وستون حرفاً ، وأربع عشرة كلمة ، وثلاث آيات
أخبرنا كامل بن أحمد قال : أخبرنا محمد بن مطر قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك قال : حدّثنا أحمد بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير ، عن زيد بن مسلم ، عن أُمّه ، عن أبي أُمامة ، عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة ) وَالْعَصْرِ ( ختم اللّه له بالصبر ، وكان مع أصحاب الحق يوم القيامة ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( ) وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِالصَّبْرِ ( 2
العصر : ( 1 ) والعصر
) وَالْعَصْرِ ( قال ابن عباس : والدهر . ابن كيسان : الليل والنهار ويقال لهما : العصران وللغداة والعشي أيضاً : عصران . قال حميد بن ثور :
ولن يلبث العصران يوم وليلة
إذا طلبا أن يُدركا ما تيمما
الحسن : بعد زوال الشمس إلى غروبها . قتادة : آخر ساعة من ساعات النهار . مقاتل : صلاة العصر وهي الوسطى .
العصر : ( 2 - 3 ) إن الإنسان لفي . . . . .
) إِنَّ الاْنسَانَ لَفِي خُسْر إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ( فانّهم ليسوا في خُسر .
) وَتَوَاصَوْا ( وتحاثّوا وأوصى بعضهم بعضاً . ) بِالْحَقِّ ( بالقرآن عن الحسن وقتادة . مقاتل : بالإيمان والتوحيد . وقيل : على العمل بالحق .
) وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ( على أداء الفرائض وإقامة أمر اللّه ، وروى ابن عون عن إبراهيم قال : أراد أن الإنسان إذا عمّر في الدنيا وهرم لفي نقص وضعف وتراجع إلاّ المؤمنين فإنّهم يكتب لهم أجورهم والمحاسن التي كانوا يعملونها في حال شبابهم وقوّتهم وصحّتهم ، وهي مثل قوله
(10/283)
" صفحة رقم 284 "
سبحانه : ) لَقَدْ خَلَقْنَا الاْنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا ( الآية قال : ( كان علي ح يقرأ ذلك ) : إِنَّ الاْنسَانَ لَفِي خُسْر وإنه فيه إلى آخر الدهر ، وكذلك هي في قراءة ابن مسعود ، وكان علي يقرأها : والعصر ، ونوائب الدهر ، إن الإنسان لفي خسر ، وإنّه فيه إلى آخر الدهر .
والقراءة الصحيحة ما عليه العامّة والمصاحف .
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد بن حمدان الخطيب قراءة عليه في رجب سنة ست وثمانين وثلاثمائة قال : حدّثنا أبو حامد أحمد بن محمد بن دُلان قال : أخبرنا القاضي منصور بن محمد قال : حدّثنا محمد بن أحمد البزاز قال : حدّثنا أبو بكر محمد بن إبراهيم بن داود بن سليمان الدينوري قال : حدّثنا علي بن إسماعيل قال : حدّثنا الحسن بن علقمة قال : حدّثنا سباط بن محمد عن القاسم بن رفيعة عن أبي أُمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قرأت على رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والعصر فقلت : بأبي وأُمّي يا رسول اللّه وما تفسيرها ؟
فقال : ( ) وَالْعَصْرِ ( قسمٌ من اللّه أقسم لكم بآخر النهار ) ) إِنَّ الاْنسَانَ لَفِي خُسْر ( قال : ( أبو جهل بن هشام ) ) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا ( ( أبو بكر الصديق ) ) وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ( ( عمر بن الخطّاب ) ) وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ( ( عثمان بن عفّان ) ) وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ( ( علي بن أبي طالب ) .
وأخبرنا عبد الخالق ( بن علي ) قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن يوسف بن حاتم بن نضر قال : حدّثنا الحسن بن عثمان قال : حدّثنا أبو هشام محمد بن يزيد بن رفاعة قال : حدّثنا عمّي علي بن رفاعة عن أبيه رفاعة قال : حججت فوافيت علي بن عبد اللّه بن عباس يخطب على منبر رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فقرأ : ) بِسْمِ اللهِ الرَّحْمانِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْر ( أبو جهل ابن هشام ) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا ( أبو بكر الصديق ) وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ( عمر بن الخطّاب ) وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ ( عثمان بن عفّان ) وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ( علي بن أبي طالب .
(10/284)
" صفحة رقم 285 "
( سورة الهمزة )
مكّيّة ، وهي مائة وثلاثون حرفاً ، وثلاث وثلاثون كلمة ، وتسع آيات
أخبرني محمد بن القاسم قال : حدّثنا إسماعيل بن نحيل قال : حدّثنا أبو عبد اللّه محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي قال سعيد بن حفص قال : قرأت على معقل بن عبد اللّه عن عكرمة ابن خالد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( من قرأ سورة ) ويل لكل همزة ( أُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من استهزأ بمحمد وأصحابه ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( ) وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ الَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِى الْحُطَمَةِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِى تَطَّلِعُ عَلَى الاَْفْئِدَةِ إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ فِى عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ ( 2
الهمزة : ( 1 ) ويل لكل همزة . . . . .
) وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَة لُمَزَة ( قال ابن عباس : هم المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الأحبّة ، الباغون ، البراء : العنت . سعيد بن جبير وقتادة : الهمزة الذي يأكل لحوم الناس ويغتابهم ، واللمزة : الطعّان عليهم . مجاهد : الهمزة : الطعّان في الناس ، واللمزة : الطعّان في أنساب الناس .
وقال أبو العالية والحسن وعطاء بن أبي رباح : الهمزة الذي يغيب ويطعن في وجه الرجل إذا أقبل ، واللمزة الذي يغتابه من خلفه إذا أدبر وغاب . ضده مقاتل . مرّة : يعني كل طعّان عيّاب مغتاب للمرء إذا غاب ، دليله قول زياد بن الأعجم :
إذا لقيتكَ عن شحط تكاشرني
وإن تغيّبتُ كنتَ الهامز اللمزة
ابن زيد : الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضربهم ، واللمزة الذي يلمزهم بلسانه ويغيبهم .
(10/285)
" صفحة رقم 286 "
سفيان الثوري : يهمز بلسانه ويلمز بعينه . ابن كيسان : الهمزة الذي يؤذي جليسه بسوء اللفظ ، واللمزة الذي يكسر عينه على جليسه ، ويُشير برأسه ، ويومض بعينه ، ويرمز بحاجبه ، وهما لغتان للفاعل نحو سَخَرة وضَحَكة للذي يسخر ويضحك من الناس .
وروي عن أبي جعفر والأعرج بسكون الميم فيهما ، فإن صحّت القراءة فهي في معنى المفعول ، وهو الذي يتعرّض للناس حين يهمزوه ويضحكون منه ، ويحملهم على الاغتياب .
وقرأ عبد اللّه والأعمش ويلٌ للهمزة اللمزة ، وأصل الهمز الكسر والعض على الشيء بالعنف ، ومنه همز الحرف ، ويُحكى أنّ أعرابيّاً قيل له : أتهمز الفارة ؟ فقال : الهرّة تهمزها ، وقال الحجاج :
ومن همزنا رأسه تهشما
واختلف المفسّرون فيمن نزلت هذه الآية ، فقال قوم : نزلت في جميل بن عامر الجمحي ، وإليه ذهب ابن أبي الجمح ، وقال الكلبي : نزلت في الأخنس بن شريق ووهب بن عمرو الثقفي وكان يقع في الناس ويغتابهم مقبلين ومدبرين .
وقال محمد بن إسحاق بن مسار : ما زلنا نسمع أن سورة الهمزة نزلت في أُميّة بن خلف الجمحي .
وقال مقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة وكان يغتاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويطعن في وجهه .
وقال مجاهد وغيره : ليست بخاصّة لأحد ، بل كل من كانت هذه صفته .
الهمزة : ( 2 ) الذي جمع مالا . . . . .
) الَّذِي جَمَعَ مَالا ( قرأ شيبة ونافع وعاصم وابن كثير وأبو عمرو وأيّوب بتخفيف الميم ، واختاره أبو حاتم ، غيرهم بالتشديد واختاره أبو عبيد ، واختلف فيه عن يعقوب .
) وَعَدَّدَهُ ( أحصاه وقال مقاتل : أستعدّه وذخره وجعله عتاداً له ، وقرأ الحسن وعدده بالتخفيف وهو بعيد ، وقد جاء مثل ذلك في الشعر لمّا أبرزوا التضعيف خفّفوه ، قال الشاعر :
مهلا أعاذل قد جربت من خلقي
إني أجود الأقوام وإن ضننوا
الهمزة : ( 3 ) يحسب أن ماله . . . . .
) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ( في الدنيا
الهمزة : ( 4 ) كلا لينبذن في . . . . .
) كلاّ ( ردٌ عليه .
أخبرني بن فتحوية قال : حدّثنا خُنيس قال : حدّثنا أبو الهيثم بن الفضل قال : حدّثنا أبو زرعة قال : حدّثنا ابن السرح قال : أخبرنا ابن وهب قال : حدّثني حرملة بن عمر أنه سمع عمر
(10/286)
" صفحة رقم 287 "
ابن عبد اللّه مولى غفرة يقول : إذا سمعت اللّه سبحانه يقول : ) كَلاَّ ( فإنما يقول : كذبت .
) لَيُنْبَذَنَّ ( ليقذفنّ ويطرحنّ ، وقرأ الحسن لينبذان بالألف على التثنية يريد هو وماله ) فِي الْحُطَمَةِ ( وهي النار سُمّيت بذلك ؛ لأنّها تحطم أي تكسر
الهمزة : ( 5 - 7 ) وما أدراك ما . . . . .
) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الاْفْئِدَةِ ( يعني يبلغ ألمها ووجعها القلوب ، والاطلاع والبلوغ قد يكونان بمعنى ، وحكي عن بعض العرب سماعاً : متى طلعت أرضنا بمعنى بلغت ، ومعنى الآية أنها تأكل شيئاً منه حتى تنتهي إلى فؤاده .
الهمزة : ( 8 ) إنها عليهم مؤصدة
قال القرظي والكلبي : ) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤصَدَةٌ ( مطبقة مغلقة
الهمزة : ( 9 ) في عمد ممددة
) في عَمَد ( ، قرأ أهل الكوفة بضمّتين ، غيرهم بالنصب ، واختاره أبو حاتم لقوله : ) رَفَعَ السَّماوَاتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا ( وهما جمعان للعمود مثل أديم وأدم ، وأفيق وأفق ، وقضيم وقضم ، قال الفرّاء : وقال أبو عبيد : هو جمع عماد مثل أهاب وأُهُب وأَهَب .
) مُمَدَّدَة ( قراءة العامّة بالخفض على نعت العمد ، وقرأ عاصم الجحدري ممدّدةٌ بالرفع جعلها نعتاً للموصدة .
واختلفوا في معنى الآية ، فقال ابن عباس : أدخلهم في عمد ، فمدّت عليهم بعماد وفي أعناقهم السلاسل ، فسدّت عليهم بها الأبواب .
وقال قتادة : بلغنا أنّها عمد يعذّبون بها في النار ، وقيل : هي عمد موتّدة على أبوابها ( ليتأكد أياسهم ) منها ، وقيل : معناه أنّها عليهم مؤصدة بعمد ، وكذلك هي في قراءة عبد اللّه : بعمد ، بالباء .
عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( المؤمن كيّس فطن حذر وقاف ثبت ، لا يعجل ، عالم ورع ، والمنافق همزة لمزة حطمة ، ( لا يقف عند شبهة ولا عند محرم ) كحاطب الليل لا يبالي من أين كسب ولا فيما أنفق ) .
(10/287)
" صفحة رقم 288 "
( سورة الفيل )
مكّيّة ، وهي ستة وتسعون حرفاً ، وعشرون كلمة ، وخمس آيات
أخبرنا ناقل بن راقم قال : حدّثنا محمد بن شادة قال : حدّثنا أحمد بن الحسن قال : حدّثنا محمد بن يحيى قال حدّثنا سالم بن قتيبة عن شعبة عن عاصم عن زر عن أُبيّ قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة الفيل عافاه اللّه عزّ وجلّ أيام حياته في الدنيا من القذف والمسخ ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
2 ( ) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ ( 2
الفيل : ( 1 ) ألم تر كيف . . . . .
) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ( .
القصة وباللّه التوفيق .
قال محمد بن إسحاق : كان من قصة أصحاب الفيل فيما ذكر بعض أهل العلم عن سعيد ابن جُبير وعكرمة عن ابن عباس ، وعمّن لقي من علماء أهل اليمن وغيرهم أن ملكاً من ملوك حمير يقال له زرعة ذو نواس كان قد تهوّد واستجمعت معه حمير على ذلك ، إلاّ ما كان من أهل نجران ، فإنّهم كانوا على النصرانيّة على أصل حكم الإنجيل ، ولهم رأس يقال له عبد اللّه بن التامر ، فدعاهم إلى اليهوديّة فأبوا فخيّرهم فاختاروا القتل فخدّ له أخدوداً وصنّف لهم أصناف القتل .
فمنهم من قتل صبراً ، ومنهم من خدّ لهم فألقاه في النار إلاّ رجلا من أهل سبأ يقال له دوس بن ثعلبان ، فذهب على فرس له فركض حتى أعجزهم في الرمل ، فأتى قيصر فذكر له ما بلغ منهم واستنصره فقال : بعدت بلادك عنّا ولكنّي سأكتب لك إلى مَلِك الحبشة ، فإنّه على ديننا فينصرك ، فكتب إلى النجاشي يأمره بنصره .
فلمّا قدم على النجاشي بعث معه رجلا من أهل الحبشة يقال له : ارياط ، فلمّا بعثه قال
(10/288)
" صفحة رقم 289 "
إنْ دخلت اليمن فاقتل ثلث رجالها ، واضرب ثلث بلادها وابعث إليّ بثلث سباياها ، فلمّا دخلها ناوش شيئاً من قتال فتفرّقوا عن ذي نواس وخرج به فرسه ، فاستعرض به البحر فضربه فهلكا جميعاً فكان آخر العهد ، ودخلها أرياط فعمل بما أمر به النجاشي ، فقال ذو حدر الحميري فيما أصاب أهل اليمن وترابهم :
وعيني لا أباً لك لم تُطيقي
نجاك اللّه قد أنزفت ريقي
لدى عزف القيان إذ انتشينا
وإذ نسقى من الخمر الرحيق
وشرب الخمر ليس عليّ ( عاراً )
إذا لم يشكني فيها رفيقي
وغمدان الذي حدثت عنه
بنوه ممسكاً في رأس نيق
مصابيح السليط تلوح فيه
إذا يمسي كتوماضِ البروقِ
فأصبح بعد جدّتهِ رماداً
وغيّر حسنه لهب الحريق
واسلم ذو نواس مستميتاً
وحذّر قومه ضنك المضيق
قال : فأقام أرياط باليمن ، وكتب إليه النجاشي : أن اثبت بجندك ومن معك ، فأقام حيناً ثم إنّ إبرهة بن الصباح ساخطه في أمر الحبشة حتى انصدعوا صدعين فكانت معه طائفة ومع إبرهة طائفة ، ثم تراجفا ، فلمّا دنا بعضهم من بعض أرسل إبرهة إلى أرياط : لا تصنع بأن تلقى الحبشة بعضها بعضاً شيئاً حتى تلقاني ، ولكن اخرج إليّ فأيّنا قتل صاحبه انضمّ إليه الجند ، فأرسل إليه : إنّك قد أنصفت .
وكان أرياط جسيماً عظيماً وسيماً ، في يده حربته ، وكان إبرهة رجلا قصيراً حاذراً لحيماً ، وكان ذا دين في النصرانيّة وخلّف إبرهة ( فيها غلام ) يقال له : عتودة ، فلمّا دنوا رفع أرياط الحربة فضرب بها رأس إبرهة فوقعت على جبينه فشرمت عينه وجبينه وأنفه وشفته فبذلك سُمّي الأشرم .
وحمل عتودة على أرياط فقتله ، فاجتمعت الحبشة لإبرهة وقال عتودة : أنا عتودة من خلفه ارده لا أب ولا أُم بحده ، وقال إبرهة : ما كان لك قبله يا عتودة ولا ديته قال : فبلغ النجاشي ما صنع إبرهة فغضب وحلف لا يدع إبرهة حتى يجرُّ ناصيته ويطأ بلاده ، وكتب إلى إبرهة : إنّك عدوت على أميري فقتلته بغير أمري .
وكان إبرهة رجلا مارداً ، فلمّا بلغه ما كان من قول النجاشي حلق رأسه وملأ جراباً من تراب أرضه وكتب إلى النجاشي : أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك ، اختلفنا في أمرك وكنت أعلم بالحبشة وأسوس لها ، وقد كنت أردته أن يعتزل وأكون أنا أسوسه فأبى فقتلته ، وقد بلغني الذي حلف عليه الملك ، وقد حلقت رأسي فبعثت به إليه ، وبعثت إليه بجراب من تراب
(10/289)
" صفحة رقم 290 "
أرضه ؛ ليضعه تحت قدمه ( ومن يهينه ) ، فلمّا انتهى إليه ذلك رضي عنه فأقرّه على عمله ، وكتب إليه أن يثبت بمن معه من الجند .
ثم إن إبرهة بنى كنيسة بصنعاء يقال لها : الفليس ، وكتب إلى النجاشي : قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يُبنَ لملك مثلها قط ، ولستُ منتهياً حتى أصرف إليها حجيج العرب . فسمع بذلك رجل من بني مالك بن كنانة فخرج إلى القليس فدخلها ليلا وقعد فيها ، فبلغ إبرهة ذلك ، ويقال : إنه أتاها ناظراً إليها فدخلها أبرهة فوجد تلك العذرة ، فقال : من اجترأ عليّ ؟ فقيل صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت ، سمع بالذي قلت فصنع هذا ، فحلف إبرهة عند ذلك ليسيرنّ إلى الكعبة حتى يهدمها .
فخرج سائراً في الحبشة وخرج معه بالفيل ، فسمعت بذلك العرب فأعظموه ( وفظعوا به ) ورأوا جهاده حقّاً عليهم ، فخرج ملك من ملوك حمير يقال له : ذو نفر بمن أطاعه من قومه ، فقابله فهزمه وأخذ ذو نفر فأتى به ، فقال : أيها الملك لا تقتلني فإنّ استبقائي خير لك من قتلي ، فاستبقاه وأوثقه .
وكان إبرهة رجلا حليماً ، ثم خرج سائراً حتى دنا من بلاد خثعم فخرج نفيل بن حبيب الخثعمي في قبيلتي خثعم شهدان وأهش ومن اجتمع إليه من قبايل اليمن فقاتلوه فهزمهم وأخذ النفيل ، فقال نفيل : أيّها الملك إني دليل بأرض العرب فلا تقتلني وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة ، فاستبقاه ، وخرج معه يدلّه حتى ( إذا ) مرّ بالطائف خرج إليه مسعود بن مغيث في رجال من ثقيف فقال : أيّها الملك إنّما نحن عبيدك ليس لك عندنا من خلاف ، وليس بيتنا هذا البيت الذي تريد يعنون اللاّت إنما تريد البيت الذي بمكّة ، نحن نبعث من يدلّك عليه ، فبعثوا أبا رغال مولى لهم فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال ، وهو الذي يرجم قبره .
وبعث إبرهة من المغمس رجلا من الحبس يقال له : الأسود بن مقصود على مقدّمة خيله فجمع إليه أموال الحرم وأصاب لعبد المطّلب مائتي بعير ، فقال عبد اللّه بن عمر بن مخزوم :
اللهم اخز الاسود بن مقصود
الآخذ الهجمة فيها التقليد
بين حراء وبثير فالبيد
يحبسها وهي أُولات التطريد
فضمها إلى طماطم سود
قد أجمعوا أو يكون معبود
ويهدموا البيت الحرام المعمود
والمروتين والمشاعر السود
أضفره يا رب وأنت محمود
(10/290)
" صفحة رقم 291 "
ثم إن أبرهة بعث حائلة الحميري إلى أهل مكّة فقال : سل عن شريفها ، ثم أبلغه ما أرسلك به إليه ، أخبره أني لم آتِ لقتال وإنّما لأهدم هذا البيت ، فانطلق حتى دخل مكّة فلقي عبد المطّلب بن هاشم فقال : إنّ الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأتِ لقتال إلاّ أن تقاتلوه ، وإنّما جاء لهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم .
فقال عبد المطّلب : ماله عندنا ومالنا به نزال ، سنخلّي بينه وبين ما جاء له ، فإن هذا بيت اللّه الحرام ، وبيت خليله إبراهيم ( عليه السلام ) ، فإن يمسّه فهو بيته وحرمه وإن يخلّ بينه وبين ذلك فواللّه ما لنا به قوّة ، قال : فانطلقْ معي إلى الملك ، فزعم بعض العلماء أنه أردفه على بغلة له كان عليها وركب معه بعض بنيه حتى قدم العسكر .
وكان ذو نفر صديقاً لعبد المطلب فأتاه فقال : يا ذا نفر هل عندك من غناء فيما نزل بنا ؟ فقال : ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يُقتل بكرة وعشية ، ولكنّي سأبعث لك إلى أنيس سائس الفيل فإنّه لي صديق فاسأله أن يصنع لك مثل الملك ما استطاع من خير ، ويعظّم خطرك ومنزلتك عنده .
قال : فأرسل إلى أنيس فأتاه فقال له : إن هذا سيّد قريش وصاحب عير مكّة ، يُطعم الناس في السهل والوحوش وفي رؤوس الجبل ، وقد أصاب له الملك مائتي بعير فإن استطعت أن تنفعه عنده فانفعه ، فإنه صديق لي أحبّ ما يوصل إليه من الخير ، فدخل أنيس على إبرهة فقال : أيّها الملك هذا سيّد قريش وصاحب عير مكّة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال ، يستأذن عليك ، وأنا أحب أن تأذن له فيكلّمك ، وقد جاء غير ناصب لك ولا مخالفٌ عليك فأْذن له .
وكان عبد المطّلب جسيماً وسيماً عظيماً ، فلمّا رآه إبرهة أعظمه وأكرمه وكره أن يجلس معه على سريره وأن يجلس تحته ، فهبط إلى البساط فجلس عليه ، ثم دعاه فأجلسه معه ، ثم قال لترجمانه قل له : حاجتك إلى الملك ؟ فقال له الترجمان ذلك .
فقال عبد المطّلب : حاجتي إلى الملك أن يردّ علي مائتي بعير أصابها لي ، فقال إبرهة لترجمانه : أعْجَبْتَنِي حين رأيتك ، ولقد زهدت فيك . قال : لِمَ ؟ قال : جئتُ إلى بيت هو دينك ودين آبائك وعصمتكم لأهدمه لم تكلّمني فيه ، وتكلّمني في مائني بعير أصبتها ؟ قال عبد المطّلب : أنا ربّ هذه الإبل ولهذا البيت ربّ سَيمنَعَهُ .
قال : ما كان ليمنعه منّي ، قال : فأنت وذاك . فأمرَ بإبله فرُدّت عليه .
قال ابن إسحاق : وكان فيما زعم بعض أهل العلم قد ذهب إلى إبرهة بعمر بن ناثة بن
(10/291)
" صفحة رقم 292 "
عدي بن الويل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ، وهو يومئذ سيد بني كنانة ، وخويلد بن وائلة الهذلي وهو يومئذ سيد بني هُذيل ، فعرضوا على إبرهة ثلث أموال أهل تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت ، فأبى عليه ، فلمّا رُدت الإبل على عبد المطّلب خرج فأخبر قريش الخبر ، وأخبرهم أن يتفرّقوا في الشعاب ، وتحرزوا في رؤوس الجبال تخوّفاً عليهم من معرّة الجيش إذا دخل ، ففعلوا وأتى عبد المطّلب الكعبة فأخذ بحلقة الباب وجعل يقول :
ياربّ لا أرجو لهم سواكا
يا ربّ فامنع منهم حكاكا
لا يغلبنّ صليبهم
ومحالهم غدواً محالك
جروا جموع بلادهم
والفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم
جهلا وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وكعب
تنا فأمر ما بدالك
ثم ترك عبد المطّلب الحلقة وتوجّه في بعض تلك الوجوه مع قومه ، وأصبح إبرهة بالمغمس قد تهيّأ للدخول وعبّأ جيشه وهيّأ فيله وكان اسم الفيل محمود ، وكان فيل النجاشي بعثه إلى إبرهة ، وكان فيلا لم يُر مثله في الأرض عظماً وجسماً وقوّةً .
ويقال : كانت معه اثنا عشر فيلا ، فأقبل نفيل إلى الفيل الأعظم ثم أخذ بأذنه وقال : ابرك محمود وارجع راشداً من حيث جئت ، فإنك في بلد اللّه الحرام فبرك الفيل فبعثوه فأبى ، فضربوه بالمعول على رأسه فأبى ، فأدخلوا محاجنهم تحت مراقه ومرافقه فنزعوه ليقوم فأبى ، فوجّهوه راجعاً إلى اليمن فقام يهرول ، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ، فصرفوه إلى الحرم فبرك وأبى أن يقوم ، وخرج الفيل يشتد حتى أُصعد في الجبل .
وأرسل اللّه طيراً من البحر أمثال الخطاطيف مع كل طاير منها ثلاثة أحجار : حجران في رجليه وحجر في منقاره أمثال الحمّص والعدس ، فلمّا أغشين أرسلها عليهم ، فلم تصب تلك الحجارة أحداً إلاّ هلك .
وليس كلّ القوم أصابت وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاءوا ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلّهم على الطريق إلى اليمن ، فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل اللّه بهم من نقمته :
أين المفر والإله الطالب
والأشرم المغلوب غير الغالب ؟
(10/292)
" صفحة رقم 293 "
وقال نفيل أيضاً في ذلك :
ألا حييت عنا ياردّينا
نعمنا كم مع الإصباح عينا
ردُيّنة لو رأيت ولم تريه
لدى جنب المحصّب ما رأينا
إذاً لغذرتني وحمدت رأيي
ولم تأسي على مافات بينا
حمدت اللّه إذ عاينت طيراً
وخفت حجارةً تُلقى علينا
فكلّ القوم يسألُ عن نفيل
كأن عليَّ للحبشانِ دينا
ونفيل ينظر إليهم من بعض الجبال وقد صرخ القوم وهاج بعضهم في بعض ، وخرجوا يتساقطون بكلّ طريق ويهلكون على كل منهل ، وبعث على إبرهة داءً في جسده ، فجعل تتساقط أنامله ، كلّما سقطت أُنملة اتبعتها مدة من قيح ودم ، فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطير فيمن بقي من أصحابه ، ومامات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم هلك .
وزعم مقاتل بن سليمان أنّ السبب الذي جرّ حديث أصحاب الفيل هو أنّ قبيلة من قريش خرجوا تجّاراً إلى أرض النجاشي ، فساروا حتى دنوا من ساحل البحر وفي حقف من أحقافها بِيْعَة النصارى يسمّيها قريش : الهيكل ، ويسمّى النجاشي وأهل أرضة : اطاسر حنان ، فبرك القوم في سدّها فجمعوا حطباً ثم أجّجوا ناراً فاشتووا ، فلمّا ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف ، فعجّت الرياح فاضطرم الهيكل ناراً ، فانطلق الصريخ إلى النجاشي فأخبره فاسف عند ذلك غضباً للبيعة ، فبعث إبرهة لهدم الكعبة ( وما لقيه ) .
وكان بمكّة يومئذ أبو مسعود الثقفي ، وكان مكفوف البصر يصيّف بالطائف ويشتو بمكّة ، وكان رجلا نبيهاً نبيلا يستسقم الأمور برأيه ، وهو أول راتق وأول فاتق ، وكان خليلا لعبد المطّلب ، فقال عبد المطلب : يا أبا مسعود ماذا عندك ؟ هذا يوم لا يستغنى فيه عن رأيك .
فقال أبو مسعود لعبد المطّلب : اعمد إلى مائة من الإبل فاجعلها حرماً للّه ، وقلّدها نعلا ثم أثبتها في الحرم لعلّ بعض هذه السودان تعقُر منها فيغضب ربُّ هذا البيت فيأخذهم ، ففعل ذلك عبد المطّلب ، فعمد القوم إلى تلك الإبل فحملوا عليها وعقروا بعضها فجعل عبد المطلب يدعو .
فقال أبو مسعود : ( قال عبد المطلب ) : إنّ لهذا البيت لربّاً يمنعه ، فقد نزل تبع ملك اليمن بصخر هذا البيت وأراد هدمه ، فمنعه اللّه وابتلاه وأظلم عليه ثلاثة أيام ، فلمّا رأى ذلك تبّع كساه القباطي البيض وعظّمه ونحر له جزراً ، فانظر نحو البيت .
(10/293)
" صفحة رقم 294 "
فنظر عبد المطّلب فقال : أرى طيراً بيضاً نشأت من شاطئ البحر قال : ارمقها ببصرك أين قرارها ؟ قال : أراها قد أزرّت على رؤوسنا . قال : هل تعرفها ؟ قال : واللّه ما أعرفها ما هي نجديّة ولا تهاميّة ولا عربية ولا شامية وإنها لطير بأرضنا غير مؤنسة .
قال : ما قدّها ؟ قال : أشباه اليعاسيب في منقارها حصى كأنها حصى الحذق قد أقبلت كاليلل تكسع بعضها بعضاً ، أمام كل طير ، يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق ، فجاءت حتى إذا حاذت بعسكر القوم ركدت فوق رؤوسهم .
فلمّا توافت الرعال كلها أهالت الطير ما في مناقيرها على من تحتها ، مكتوب في كلّ حجر اسم صاحبه ، ثم إنها انصاعت من حيث جاءت ، فلمّا أصبحا انحطّا من ذروة الجبل ، فمشيا رتوة فلم يؤنسا أحداً ثم دنيا رتوة فلم يسمعا حسّاً فقالا : بات القوم سامدين فاصبحوا نياماً ، فلمّا دنيا من عسكر القوم فإذا هم خامدون .
وكان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها حتى تقع في دماغه وتخرق الفيل والدّابة ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه ، فعمد عبد المطّلب فأخذ فأساً من فؤوسهم فحفر حتى أعمق في الأرض فملأه من الذهب الأحمر والجوهر الجيّد ، وحفر لصاحبه فملأه ثم قال لأبي مسعود : هات خاتمك فاختر ، إن شئت أخذت حفرتي وإن شئت أخذت حفرتك وإن شئت فهما لك معاً .
فقال ابن مسعود : اخترتني على نفسك ، فقال عبد المطّلب : إني لم آل أن أجعل أجود المتاع في حفرتي فهو لك ، وجلس كل واحد منهم على حفرته ونادى عبد المطّلب في الناس فتراجعوا وأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا به ذرعاً ، وساد عبد المطّلب بذلك قريش ، وأعطته المقادة فلم يزل عبد المطّلب وأبو مسعود في أهلهما في غنًى من ذلك المال ، ودفع اللّه عن كعبته وقبلته ، فسلّط جنوداً لا قبَلَ لهم بها .
وقال الواقدي بأسانيده : وجّه إبرهة أرياط أبا ضخمة في أربعة آلاف إلى اليمن فغلب عليها ؛ فأكرم الملوك واستذلّ الفقراء ، فقام رجل من الحبشة يقال له : إبرهة الأشرم أبو يكسوم فدعا إلى طاعته فأجابوه ، فقتل أرياط وغلب على اليمن ، فرأى الناس يتجهّزون للحجّ فقال : أين يذهب الناس ؟ قال : يحجّون بيت اللّه بمكّة .
قال مما هو ؟ قال : من حجارة . قال فما كسوته ؟ قال مما يأتي من هنا وهناك .
قال : والمسيح لأبنينّ لكم خيراً منه فبنى لهم بيتاً عمله بالرخام الأبيض والأحمر والأصفر والأسود ، وحلاّه بالذهب والفضة ، وحفّه بالجواهر وجعل فيها ياقوتة حمراء عظيمة ، وجعل له حُجّاباً ، وكان يوقد بالمندلي ويلطخ جدره بالمسك فيسودها حتى تغيب الجواهر ، وأمر الناس بحجّه ، فحجّه كثير من قبائل العرب سنين ، ومكث فيه رجال يتعبّدون ويتألّهون ونسكوا له .
(10/294)
" صفحة رقم 295 "
وكان نفيل الخثعمي يورّض له ما يكره فأمهل ، فلمّا كان ليلة من الليالي لم يَر أحداً يتحرّك ، فقام فجاء بعذرة فلطّخ بها جبهته ، وجمع جيفاً وألقاها فيه ، فأُخبر إبرهة بذلك فغضب غضباً شديد وقال : إنما فعلت العرب غضباً لبيتهم ، لأنقضنّه حجراً حجراً ، وكتب إلى النجاشي يخبره بذلك ويسأله أن يبعث إليه بفيله محمود ، وكان فيلا لم يُر مثله في الأرض عظماً وجسماً وقوةً ، فبعث به إليه .
فلمّا قدم عليه الفيل سار إبرهة بالناس ومعه ملك حمير ونفيل بن حبيب الخثعمي ، فلمّا دنا من الحرم أمر أصحابه بالغارة على نِعَم الناس ، فأصابوا إبلا لعبد المطّلب ، وكان نفيل صديقاً لعبد المطّلب فكلّمه في إبله ، فكلّم نفيل إبرهة فقال : أيّها الملك قد أتاك سيّد العرب وأفضلهم قدراً وأقدمهم شرفاً ، يحمل على الجياد ، ويعطي الأموال ، ويُطعم الناس ، فأدخله على إبرهة ، فقال : حاجتك ؟ قال : تردُّ عليّ إبلي . فقال ما أرى ما بلغني عنك إلاّ الغرور ، وقد ظننت أن تكلّمني في بيتكم الذي هو شرفكم . فقال عبد المطّلب : اردد عليَّ إبلي ودونك البيت فإن له ربّاً سيمنعه .
فأمر بردّ إبله عليه ، فلمّا قبضها قلّدها النعال وأشعرها وجعلها هدياً وثبتها في الحرم لكي يصاب منها شيء ، فيغضب ربّ الحرم ، وأوفى عبد المطّلب على خيل ومعه عمرو بن عابد بن عمران بن مخزوم بن مطعم بن عدي ، وأبو مسعود الثقفي ، فقال عبد المطّلب : اللهم إن المرء يمنع رحله وحلاله فامنع حلالك .
قال : فأقبلت الطير من البحر أبابيل ، مع كل طير ثلاثة أحجار : حجران في رجليه وحجر في منقاره ، وقذفت الحجارة عليهم ، لا تصيب شيئاً إلاّ هشمته إلاّ فقط ذلك الموضع ، فكان ذلك أوّل ما رؤي من الجدري والحصبة والأشجار المرّة فأهمدتهم الحجارة ، وبعث اللّه سيلا عاتياً فذهب بهم إلى البحر فألقاهم فيه ، وولّى إبرهة ومن بقي معه هرابا ، فجعل إبرهة يسقط عضواً عضواً .
وأما محمود فيل النجاشي فربض ولم يشجع على الحرم فنجا ، وأمّا الفيل الآخر فشجع فحصب ، ويقال : كانت اثني عشر فيلا .
قال ابن إسحاق : ولمّا ردّ اللّه الحبشة عن مكّة عظمت العرب قريشاً وقالوا : أهل اللّه ، قاتل عنهم وكفاهم مؤونة عدوّهم ، وقال عبد اللّه بن عمر بن مخزوم في قصة أصحاب الفيل :
أنت الجليل ربنا لم تدنسِ
أنت حبست الفيل بالمغمَّس
من بعد ما هم بشر مبلس
حبسته في هيئة المكركس
وما لهم من فرج ومنفس
(10/295)
" صفحة رقم 296 "
والمكركس : المنكوس المطروح . وقال أبو الصلت بن أُميّة بن مسعود في ذلك أيضاً :
إن آيات ربنا باقياتٌ
ما يُماري فيهنّ إلاّ الكفورُ
حبس الفيل بالمغمس حتى
ظلّ يحبو كأنه معقور
حوله من ملوك كندة ( أبطال )
ملاويث في الحروب صقور
غادروه ثم انذعروا سراعاً
كلّهم عظم ساقه مكسور
وقال الكلبي ومقاتل : كان صاحب الجيش إبرهة ، وكان أبو يكسوم من وزرائه وندمائه ، فلمّا أهلكهم اللّه سبحانه بالحجارة لم يفلت منهم إلاّ أبو يكسوم ، فسار وطاير يطير فوقه ولم يشعر به حتى دخل على النجاشي فأخبره بما أصابهم ، فلمّا استتمّ كلامه رماه الطائر فسقط فمات ، فأرى اللّه النجاشي كيف كان هلاك أصحابه .
وقال الآخرون : أبو يكسوم هو إبرهة بن الصباح . وقال الواقدي : كان إبرهة جدّ النجاشي الذي كان في زمن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم )
واختلفوا في تاريخ عام الفيل ، فقال مقاتل : كان أمر الفيل قبل مولد رسول اللّه ( عليه السلام ) بأربعين سنة ، وقال الكلبي وعبيد بن عمير : كان قبل مولد النبي ( عليه السلام ) بثلاث وعشرين سنة .
وروي أنّه كان في العام الذي ولد فيه رسول اللّه ( عليه السلام ) ، وعليه أكثر العلماء ، يدل عليه ما أخبرنا أبو بكر الخورقي قال : أخبرنا أبو العباس الدعولي قال : أخبرنا أبو بكر بن أبي خيثمة ، قال : حدّثنا إبراهيم بن المنذر الجراحي قال : حدّثنا عبد العزيز بن أبي ثابت قال : حدّثنا الزبير بن موسى عن أبي الحويرث قال : سمعت عبد الملك بن مروان يقول لقباث بن أشيم الكناني الليثي : يا قباث ، أنت أكبر أم رسول اللّه ؟ قال : رسول اللّه أكبر منّي ، وأنا أسنّ منه ، ولد رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) عام الفيل ، ووقفتْ بي أمّي على روث الفيل .
وقالت عائشة : رأيت قائد الفيل وسائسه بمكّة عميين مقعدين يستطعمان .
التفسير :
) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ( قال مقاتل : كان معهم فيل واحد ، وقال الضّحاك : كانت ثمانية ، وإنّما وجد على هذا التأويل لوفاق رؤوس الآي ، أو يقال : نسبهم إلى الفيل الأعظم واسمه محمود
(10/296)
" صفحة رقم 297 "
الفيل : ( 2 ) ألم يجعل كيدهم . . . . .
) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيل ( عما أرادوا من تخريب الكعبة : وقيل : في بطلان وأباطيل ، وقال مقاتل : في خسار .
الفيل : ( 3 ) وأرسل عليهم طيرا . . . . .
) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ ( من البحر ) طَيْراً أَبَابِيلَ ( كثيرة متفرقة ، يتبع بعضها بعضاً .
قال عبد الرحمن بن ايزي : أقاطيع كالابل المقبلة . قال الأعشى :
طريق وجبار رواء أصوله
عليه أبابيل من الطير تنعب
وقال امرؤ القيس :
تراهم إلى الداعي سراعاً كأنهم
أبابيل طير تحت دجن مسخن
وقال آخر :
كادت تُهدُّ من الأصوات راحلتي
أنْ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
واختلفوا في واحدها ، فقال الفرّاء : لا واحد لها مثل الشماطيط والعباديد والشعارير ، كل هذا لا يفرد له واجد ، قال : وزعم أبو الرواسي وكان ثقة مأموناً أنه سمع واحدها إبالة ولقد سمعتُ من العرب من يقول : ضغث على إبالة يُريدون خصب على خصب .
قال : ولو قال قائلٌ : واحدها إبالة كان صواباً مثل دينار ودنانير ، ويقال : للفضلة التي تكون على حمل الحمار أو علف البعير إبالة ، وقال الكسائي : كنت أسمع النحويين يقولون : واحدها أبوَّل مثل عجوَّل وعجاجيل . وحكى محمد بن جرير عن بعض النحويين أن واحدها أبيل ، يُقال : جاءت الخيلُ أبابيل من ههنا وههنا .
قال ابن عباس : لها خراطيم كخراطيم الطير وأكفٌ كأكفّ الكلاب .
عكرمة : لها رؤوس كرؤس السباع لم تُر قبل ذلك ولا بعده .
ربيع : لها أنياب كأنياب السباع ، وقالت عائشة : أشبه شيء بالخطاطيف .
سعيد بن جبير : طيرٌ خضر لها مناقير صفر ، قال أبو الجوزاء : أنشأها اللّه سبحانه في الهواء في ذلك الوقت .
الفيل : ( 4 ) ترميهم بحجارة من . . . . .
) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَة ( قراءة العامة بالتاء للطير ، وقرأ طلحة وأشهب العقيلي يرميهم بالياء ، وهو اختيار أبي حنيفة ، يعنون اللّه سبحانه ، كقوله : ) وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى ( ويجوز أن يكون راجعاً إلى الطير لخلوّها من علامات التأنيث
(10/297)
" صفحة رقم 298 "
) مِنْ سِجِّيل ( قال ابن مسعود : صاحب الطير وترميهم بالحجارة ، وبعث اللّه سبحانه ريحاً فضربت الحجارة فزادتها شدّة ، فما وقع منها حجر على رجل إلاّ خرج من الجانب الآخر ، وإنْ وقع على رأسه خرج من دبره .
الفيل : ( 5 ) فجعلهم كعصف مأكول
) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْف مَأْكُول ( كزرع أكلته الدواب فراثته فيبس وتفرّقت أجزاؤه ، شبّه تقطّع أوصالهم يفرق أجزاء الروث .
قال مجاهد : العصف : ورق الحنطة . قتادة : هو التبن ، قال الحسن : كنا ونحن غلمان بالمدينة نأكل الشعير إذا قصّب وكان يُسمّى العصف . سعيد بن جبير : هو الشعير النابت الذي يؤكل ورقه .
الفرّاء : أطراف الزرع قبل أن يُسنبل ويُبتك . عكرمة : كالجبل إذا أُكل فصار أجوف . ابن عباس : هو القشر الخارج الذي يكون على حبّ الحنطة كهيئة الغلاف له .
المؤرّخ : هو ما يقصف من الزرع فسقطت أطرافه ، وقال ابن السكّيت : هو العصف والعصيفة والجل ، وقيل : كزرع قد أكل حبّه وبقي تبنه ، وقال الضحّاك : كطعام مطعوم .
(10/298)
" صفحة رقم 299 "
( سورة قريش )
مكّيّة ، وهي ثلاثة وسبعون حرفاً ، وسبع عشرة كلمة ، وأربع آيات
أخبرني نافل بن راقم بن أحمد بن عبد الجبار البابي قال : حدّثنا عبد اللّه بن أحمد بن محمد البلخي قال : حدّثنا عمر بن محمد بن محمد الكرمي قال : حدّثنا أسباط بن اليسع قال : حدّثنا يحيى بن عبيد اللّه السلمي قال : حدّثنا نوح بن أبي مريم عن علي بن زيد عن زر بن حبيش عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة ) لإِيلاَفِ قُرَيْش ( أُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها ) .
وأخبرني الحسين قال : حدّثنا حازم بن يحيى الحلواني قال : أخبرنا أبو مصعب عن إبراهيم بن يحيى بن ثابت قال : أخبرني عبد اللّه بن أبي عتيق عن سعيد بن عمر بن جعدة عن أبيه عن جدته أُمّ هانئ بنت أبي طالب قالت : إن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( فضَّل اللّه قريشاً بسبع خصال لم يعطها أحداً قبلهم ، ولا يعطاها أحداً بعدهم : فضلَّ اللّه قريشاً أني منهم ، وأنّ النبوة فيهم وأنّ الحجابة فيهم ، والسقاية فيهم ، ونصرهم على الفيل ، وعبدوا اللّه سبحانه عشرين سنة لا يعبدهُ غيرهم ، وأنزل اللّه سبحانه فيهم سورة لم يذكر فيها أحدٌ غيرهم .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( ) لإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَاذَا الْبَيْتِ الَّذِىأَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم مِّنْ خوْفٍ ( 2
قريش : ( 1 - 2 ) لإيلاف قريش
) لإِيلاَفِ قُرَيْش إِيلاَفِهِمْ ( .
اختلفت القرّاء فيها فقرأ عبد اللّه بن عامر ( لألاف ) مهموزاً مختلساً بلا ياء ، وقرأ أبو جعفر ( ايلاف ) بغير همز وإنما ذهب إلى طلب الخفّة ( لايلاف ) بالياء مهموزة مشبعة ، وأما قولهم : ( إيلاف ) فروى العمري عن أبي جعفر والبلخي عن ابن كثير ( إلفهمْ ) ساكنة اللام يغير ياء وتصديق
(10/299)
" صفحة رقم 300 "
هذه القراءة ما أخبرنا الحسين بن فنجويه قال : حدّثنا ابن خنيس قال : حدّثنا أبو خديجة أحمد ابن داود قال : حدّثنا محمد بن حميد قال : حدّثنا مهران عن سفيان بن ليث عن شمر بن حوشب عن أسماء قالت : سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقرأ ) : ( إلفهم رحلة الشتاء والصيف ) .
وروى الفضل بن شاذان بإسناده عن أبي جعفر ، والوليد عن أهل الشام ( إلافهم ) مهموزة مختلسة بلا ياء ، وروى محمد بن حبيب الحموي عن أبي يوسف الأعشى عن أبي بكر عن عاصم ( إلأفْهم ) بهمزتين الأُولى مكسورة والثانية ساكنة الباقون ( إيلافهم ) .
وأخبرني سعيد بن المعافى ، أخبرهم عن محمد بن جرير قال : حدّثنا أبو كرنب قال : حدّثنا وكيع عن أبي مكّي عن عكرمة أنه كان يقرأ ( إليالف قريش الفهم ) .
وعدّ بعضهم السورتين واحدة منهم أُبيّ بن كعب ولافصل بينهما في مصحفه .
وقال سفيان بن عيينة : كان لنا امام لا يفصل بينهما ويقرأهما معاً ، وقال عمرو بن ميمون الاودي صلّيت المغرب خلف عمر بن الخطاب ح فقرأ في الأُولى والتين والزيتون ، وفي الثانية ألم تّر ولإيلاف قريش .
واختلفوا في العلّة الجالبة لهذه اللام فقال الفرّاء : هي متّصلة بالسورة الأُولى وذلك أنه ( تعالى ) ذكّر أهل مكّة عظيم نعمته عليهم في ما صنع بالحبشة ، ثم قال : ) لإِيلاَفِ قُرَيْش ( فعلنا ذلك بأصحاب الفيل نعمةً منّا على قريش أي نعمتنا عليهم في رحلتهم الشتاء والصيف ، فكأنّه قال : نعمةٌ إلى نعمة فتكون اللام بمعنى ( إلى ) .
وقال الرازي والأخفش : هي لام التعجب يقول : عجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف ، وتركهم عبادة ربّ هذا البيت ، ثم أمرهم بعبادته .
وهذا كما يقول في الكلام : لزيد وإكرامنا إيّاه ، على وجه التعجب أي : أعجبُ لذلك ، والعرب إذا جاءت بهذه اللام اكتفوا بها دليللا على التعجّب لإظهار الفعل فيه كقول الشاعر :
أغرَّكَ أن قالوا لقرة شاعرٌ
افياك أباه من عريف وشاعرٌ
أي أعجبوا لقرة شاعراً .
وقيل هي لام ( كي ) مجازها ) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْف مَأْكُول ( ليؤلف قريشاً ، فكان هلاك أصحاب الفيل سبباً لبقاء إيلاف قريش ، ونظام حالهم واقوام ما لهم ، وقال الزجّاج : هي مردودة إلى ما بعدها ، تقديرهُ : فليعبدوا رب هذا البيت لإيلاف رحلة الشتاء والصيف .
(10/300)
" صفحة رقم 301 "
وقريش هم ولد النضر بن كنانة ، فمن وَلَده النضر فهو قرشي ، ومن لم يلده النضر فليس بقرشي .
قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمّنا ، ولا ننتفي من أبينا ) .
وأخبرنا أبو بكر الجوزي قال : أخبرنا الرعولي قال : حدّثنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا أبو المغيرة قال : حدّثنا الأوزاعي قال : حدّثنا أبو عمار شداد عن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول اللّه ( عليه السلام ) : ( إن اللّه عزّ وجلّ اصطفى بني كنانة من بني إسماعيل ، واصطفى من بني كنانة قريشاً ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم ) .
وسمّوا قريشاً من التقرش ، وهو التكسّب والتقلّب والجمع والطلب ، وكانوا قوماً على المال والإفضال حراصاً .
وسأل معاوية عبد اللّه بن عباس : لِمَ سمّيت قريش قريشاً ؟ فقال : لدابّة في البحر يقال لها : القرش ، تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعلا . قال : وهل يعرف العرب ذلك في أشعارهم ؟ قال : نعم :
وقريش هي التي تسكن البحر بها
سميت قريش قريشا
سلطت بالعلو في لجّةِ الب
حر على ساير البحور جيوشا
تأكل الغثّ والسمين ولا تترك فيه
لذي جناحين ريشا
هكذا في البلاد حي قريش
يأكلون البلاد أكلا كميشا
ولهم آخر الزمان نبيٌّ
يُكثر القتل فيهمُ والخموشا
يملأ الأرض خيله ورجالا
يحسرون المطيّ حسراً كشيشا
وقوله : ) إِيلاَفِهِمْ ( بدل من الإيلاف الأوّل ويرخمه له ، ومن أسقط الياء من الايلاف احتجَ بقول أبي طالب يوصي أبا لهب برسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم )
ولا تتركنه ما حييت لمعظم
وكن رجلا ذا نجدة وعفافِ
تذود العدا عن عصبة هاشمية
إلافهم في الناس خيرُ إلاف
(10/301)
" صفحة رقم 302 "
) رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ( اختلفوا في وجه انتصاب الرحلة فقيل : نصبت على المصدر أي ارتحالهم رحلة ، وإنْ شئت نصبته بوقوع إيلافهم عليه ، وإنْ شئت على الظرف بمعنى : على رحلة ، وإنْ شئت جعلتهما في محل الرفع على معنى هما رحلتا الشتاء والصيف ، والأول أعجب وأحبّ إليّ لأنّها مكتوبة في المصاحف بغير ياء .
وأمّا التفسير : فروى عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كانوا يشتون بمكّة ويصيفون بالطائف ، فأمرهم اللّه سبحانه أن يشتوا بالحرم ويعبدوا ربّ البيت .
وقال أبو صالح : كانت الشام فيها أرضٌ باردة وفيها أرض حارة ، وكانوا يرتحلون في الشتاء إلى الحارة ، وفي الصيف إلى الباردة وكانت لهم رحلتان كلّ عام للتجارة : أحدهما في الشتاء إلى اليمن ؛ لأنها أدفأ ، والأُخرى في الصيف إلى الشام ، وكان الحرم وادياً جدباً لازرع فيه ولا ضرع ، ولا ماء ولا شجر ، وإنّما كانت قريش تعيش بها بتجارتهم ورحلتهم ، وكانوا لا يُتعرض لهم بسوء .
وكانوا يقولون : قريش سكان حرم اللّه وولاة بيته ، فلولا الرحلتان لم يكن لأحد بمكّة مقام ، ولولا الأمن بجوار البيت لم يقدروا على التصرّف ، فشقّ عليهم الاختلاف إلى اليمن والشام ، وأخصبت تبالة وجرش والجند من بلاد اليمن ، فحملوا الطعام إلى مكّة ، أهل الساحل في البحر على السفن ، وأهل البر على الإبل والحمر ، فألقى أهل الساحل بجدّة وأهل البرّ بالمحصّب ، وأخصبت الشام فحملوا الطعام إلى مكّة ، فحمل أهل الشام إلى الأبطح ، وحمل أهل اليمن إلى الجدّة ، فامتاروا من قريب وكفاهم اللّه مؤونة الرحلتين وأمرهم بعبادة ربّ البيت .
أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد قال : أخبرنا أبو الوليد حسان بن محمد قال : حدّثنا القاسم بن زكريّا المطرّز قال : حدّثنا محمد بن سليمان قال : حدّثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جُبير قال : مرَّ رسول اللّه ( عليه السلام ) ومعه أبو بكر بملَئِهم ينشدون :
يا ذا الذي طلب السماحة والندى
هلاّ مررت بآل عبد الدارِ
هلاّ مررت بهم تريد قِراهمُ
منعوك من جهد ومن إقتار
فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) لأبي بكر : ( أهكذا قال الشاعر يا أبا بكر ؟ ) قال : لا ، والذي بعثك بالحق ، بل قال :
يا ذا الذي طلب السماحة والندى
هلاّ مررت بآل عبد منافِ
لو أنْ مررت بهم تريد قِراهمُ
منعوك من جهد ومن إيجاف
الرائشين وليس يوجد رائش
والقائلين هلُمَّ للأضياف
(10/302)
" صفحة رقم 303 "
والخالطين غنَّيهم بفقيرهم
حتى يصير فقيرُهم كالكافي
والقائلين بكل وعد صادق
ورجال مكّة مسنتين عجاف
سفرين سنّهما له ولقومه
سفر الشتاء ورحلة الأصياف
قال الكلبي : وكان أوّل من حمل السمراء من الشام ورحل اليها الإبل هاشم بن عبد مناف .
قريش : ( 3 - 4 ) فليعبدوا رب هذا . . . . .
) فَلْيَعْبُدُوا ( لام الأمر ) رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوع ( .
أخبرنا أبو عبد اللّه الحسين بن محمد قال : حدّثنا أبو الفضل عبيد اللّه بن عبد الرحمن بن محمد قال : حدّثنا جعفر قال : سمعت ابن ملك بن دينار يقول : ما سقطت أُمة من عين اللّه سبحانه إلاّ ضرب أكبادها بالجوع .
) وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْف ( وذلك أنهم كانوا يقولون : نحن قُطّان حرم اللّه سبحانه ، فلا يعرض لهم أحد في الجاهلية ، وإنْ كان الرجل ليصاب في الحي من أحياء العرب فقال : حرمي حرمي فيُخلّى عنه وعن ماله تعظيماً للحرم ، وكان غيرهم من قبائل العرب إذا خرج أُغير عليه .
وقال الضحّاك والربيع وشريك وسفيان : وآمنهم من الجذام ، فلا يصيبهم ببلدهم الجذام .
وأخبرنا أيضاً أبو الحسن المقري قال : حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عيسى المقري البروجردي ببغداد قال : حدّثنا أبو سعيد عمر بن مرداس قال : حدّثنا محمد بن بكير الحضرمي قال : حدّثنا القاسم بن عبد الله عن ( أبي ) بكر بن محمد عن سالم قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( غبار المدينة يُبرئ من الجذام ) .
وقال علي كرم الله وجهه : وآمنهم من ( خوف ) أن تكون الخلافة إلاّ فيهم .
(10/303)
" صفحة رقم 304 "
( سورة الماعون )
مكية ، وهي مائة وخمسة وعشرون حرفاً ، وخمس وعشرون كلمة ، وسبع آيات
أخبرني محمد بن القاسم الفقيه قال : حدّثنا أبو محمد بن أبي حامد قال : حدّثنا أبو جعفر محمد بن الحسن الأصفهاني قال : حدّثنا مؤمل بن إسماعيل قال : حدّثنا سفيان الثوري ، قال : حدّثنا أسلم المنقري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبذي عن أبيه عن أُبي بن كعب قال : قال رسول ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة أرأيت غفر الله له إن كان للزكاة مؤدياً ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) أَرَءَيْتَ الَّذِى يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِى يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَآءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ ( 2
الماعون : ( 1 ) أرأيت الذي يكذب . . . . .
) أرأيت الذي يكذِّب بالدين ( قال مقاتل والكلبي : نزلت في العاص بن وائل السهمي ، السدي ومقاتل بن حيان وابن كيسان : يعني الوليد بن المغيرة ، الضحاك : في عمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم ، وقيل : هيبرة بن أبي وهب المخزومي ، ابن جريح : كان أبو سفيان بن حرب ينحر كل أسبوع جزورين فأتاه يتيم فسأله شيئاً فقرعه بعصاه ، فأنزل الله سبحانه فيه ) أرأيت الذي يكذب بالدين (
الماعون : ( 2 ) فذلك الذي يدع . . . . .
) فذلك الذي يدع اليتيم ( أي يقهره ويزجره ويدفعه عن حقّه ، الدع : الدفع في جفوة .
الماعون : ( 3 - 4 ) ولا يحض على . . . . .
قرأ أبو رجاء يدع اليتيم أي يتركه ويقصر في حقه ) ولا يحضّ على طعام المسّكين فويل للمصلين الذين عن صلاتهم ساهون ( حدّثنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا ابن الشرقي قال : حدّثنا محمد ابن إسحاق الصعالي ببغداد قال : حدّثنا عمرو بن الربيع بن طارق قال : حدّثنا عكرمة بن إبراهيم عن عبد الملك بن عمير عن مصعب بن سعيد عن سعيد قال : سألت رسول
(10/304)
" صفحة رقم 305 "
الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن قوله سبحانه :
الماعون : ( 5 - 7 ) الذين هم عن . . . . .
) الذين هم عن صلاتهم ساهون ( قال ابن عباس : هم المنافقون يتركون الصلاة في السرّ إذا غاب الناس ويصلونها في العلانية إذا حضروا . بيانه قوله سبحانه : ) وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤن الناس ( الآية ، مجاهد : لاهون غافلون عنها متهاونون بها ، وقال قتادة : ساه عنها لا يبالي صلى أم لم يصل .
وأخبرني عقيل أن أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال : حدّثنا أبو كريب قال : حدّثنا معاوية بن هشام عن شيبان النحوي عن جابر الجعفي قال : حدّثني رجل عن أبي بردة الأسلمي قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما نزلت هذه الآية ) الذين هم عن صلاتهم ساهون ( : ( الله أكبر هذه خير لكم من أن لو أعطى كل رجل منكم مثل جميع الدنيا هو الذي إن صلى لم يرج خير صلواته وأن تركها لم يخف ربه ) وبه عن ابن جرير قال : حدّثني أحمد بن عبد عبد الرحيم البرقي قال : حدّثنا عمرو بن أبي مسلمة قال سمعت عمر بن سليمان يحدّث عن عطاء بن دينار أنه قال : الحمد لله الذي قال : ) والذين هم عن صلاتهم ساهون ( ولم يقل في صلاتهم ، الحسن : هو الذي إن صلاّها صلاها رياء وأن فاتته لم يندم ، أبو العالية : لا يصلونها لمواقيتها ولا يتمّون ركوعها ولا سجودها ، وعنه أيضاً : هو الذي إذا سجد قال برأسه هكذا وهكذا ملتفتاً ، الضحاك : هم الذين يتركون الصلاة . ) ويمنعون الماعون ( أخبرنا أبو بكر الجمشادي حدّثنا أبو بكر القطيعي قال : حدّثنا إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال : حدّثنا أبو عمر الضرير قال : حدّثنا أبو عوانة عن إسماعيل السهمي عن أبي صالح عن عليح ) ويمنعون الماعون ( قال : هي الزكاة ، وإليه ذهب ابن عمر والحسن وقتادة وابن الحنفية والضحاك .
وأخبرنا الجمشادي قال : أخبرنا العطيفي قال : حدّثنا إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال : حدّثنا أبو عمر الضرير قال : حدّثنا حماد عن عاصم عن زر عن عبد الله في الماعون قال : الفاس والدلو والقدر وأشباه ذلك وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس ، مجاهد عنه : هو العارية ومتاع البيت ، عطية عنه : هو الطاعة ، محمد بن كعب والكلبي : الماعون المعروف كله الذي يتعاطاه الناس فيما بينهم ، سعيد بن المسيب والزهري ومقاتل : الماعون : المال بلغة قريش ، قال الأعشى :
بأجود منه بماعونه
إذا ما سماؤهم لم تغم
وأخبرنا محمد بن عبدوس في آخرين قالوا : حدّثنا محمد بن يعقوب قال : حدّثنا محمد بن الجهم قال : حدّثنا الفراء قال : سمعت بعض العرب يقول : الماعون هو الماء ، وأنشدني فيه :
(10/305)
" صفحة رقم 306 "
يمج صَبيْرة الماعون صباً
والصبير : المنجاب .
وقال أبو عبيد والمبرد : الماعون في الجاهلية : كلّ منفعة وعطية وعارية ، وهو في الإسلام : الطاعة والزكاة ، قال حسان بن قحافة : لا يحرم الماعون منه الخابطاً ، ويقول العرب : ( ولقد نزلنا لصنعت بناقتك صنيعاً ) تعطيك الماعون ، أي الطاعة والإنقياد ، قال الشاعر :
متى يجاهدهن بالبرين
يخضعن أو يعطين بالماعون
وحكى الفراء أيضاً عن بعضهم أنه قال : ماعون من الماء المعين ، وقال قطرب : أصل الماعون من القلّة ، يقول العرب : ماله سعنة ولا معنة أي شيء قليل ، فسمّى الزكاة والصدقة والمعروف ماعوناً ، لأنه قليل من كثير ، وقيل : الماعون ما لا يحل منعه مثل الماء والملح والنار ، يدلّ عليه ما أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا عمرو بن مرداس قال : حدّثنا محمد بن بكر قال : حدّثنا عثمان بن مطر عن الحسن بن أبي جعفر عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيّب عن عائشة أنّها قالت : يا رسول الله ما الذي لا يحلّ منعه قال : ( الماء والملح والنار ) .
فقالت : يارسول الله هذا الماء فما بال النار والملح ؟ فقال لها : يا حميراء ( من أعطى ناراً فكأنما تصدّق بجميع ما طبخ بذلك النار ، ومن أعطى ملحاً فكأنما تصدق بجميع ما طيّب بذلك الملح ، ومن سقى شربة من الماء حيث يوجد الماء فكأنما أعتق ( ستين نسمة ) ، ومن سقى شربه ماء حيث لا يوجد الماء فكأنما إحيا نفساً ) قال الراعي :
قومٌ على الاسلام لمّا يمنعوا
ماعونهم ويمنعوا التهليلا
(10/306)
" صفحة رقم 307 "
( سورة الكوثر )
مكية وهي أثنان وأربعون حرفاً ، وعشر كلمات ، وثلاث آيات
أخبرني الأستاذ أبو الحسين الفارسي الماوردي قال : حدّثنا أبو محمد الشيباني قال : حدّثنا أبو عمرو الحبري وأبو عثمان البصري قالا : حدّثنا محمد بن عبد الوهاب العبدي قال : حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ ) انَّا أعطيناك الكوثر ( سقاه الله من أنهار الجنة وأعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل قربان قرّبة العباد في يوم عيد ويقربون من أهل الكتاب والمشركين ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا أبو علي حمزة بن محمد الكاتب قال : حدّثنا نعيم بن حماد قال : حدّثنا نوح بن أبي مريم عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن مكحول قال : قال رسول ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ ) إنَّا أعطيناك الكوثر ( كان له ما بين المشرق والمغرب أبعرة على كل بعير كراريس ، كل كراسة مثل الدنيا وما فيها كتب له بدقة الشعر ليس فيها إلاّ صفة قصوره ومنازله في الجنة .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الاَْبْتَرُ ( 2
الكوثر : ( 1 ) إنا أعطيناك الكوثر
) إنا أعطيناك الكوثر ( قال ابن عباس : نزلت هذه السورة في العاص بن وائل ابن هشام بن سعيد بن سهم أنه رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يخرج من المسجد وهو يدخل فالتقيا عند باب بني سهم وتحدّثا وأناس من صناديد قريش في المسجد جلوس ، فلما دخل العاص قالوا له : من الذي كنت تحدث ؟ قال : ذاك الأبتر ، يعني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكان قد توفى قبل ذلك عبد الله ابن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان من خديجة ، وكانوا يسمّون من ليس له ابن أبتر ، فسمّته قريش عند موت إبنه أبتر وصنبوراً فأنزل الله سبحانه ) إنا أعطيناك الكوثر ( .
(10/307)
" صفحة رقم 308 "
قراءة العامة بالعين ، وقرأ الحسن وطلحة بن مصرف ( أنطيناك ) بالنون ، وروى ذلك عن النبي ( صلى الله عليه وسلم )
أخبرناه أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن أحمد بن علي المطوعي بقرأتي عليه قال : حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار الأصفهاني قال : أخبرنا أبو المثنى معادين المثنى بن معاد ابن نصر العبيدي قال : حدّثنا عمرو بن المحرّم أبو قتادة البصري قال : حدّثنا عبد الوارث بن عمرو عن الحسن عن أمّه عن أم سلمة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ : إنّا أنطيناك الكوثر .
والكوثر فوعل من الكثرة كنوفل من النفل وحوقر من الحقر ، والعرب يسمي كل شيء كثير في العدد أو كثير في المقدار الخطر : كوثراً . قال سفيان بن عيينة : قيل لعجوز رجع ابنها من السفر بم آب أبنك ؟ قالت آب بكوثر ، يعني بمال كثير .
وأختلفوا في المراد به ها هنا فحدّثنا أبو محمد المخلدي قال : أخبرنا أبو العباس الثقفي قال : حدّثنا أبو همام الوليد بن شجاع السكوني وعبد الله بن عمر بن أبان قالا : حدّثنا عبد الرحمن بن سلمان عن المختار بن فلفل عن أنس بن مالك قال : بينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) معنا إذا غفى أغفاءة أو أغمى عليه ، فرفع رأسه مبتسماً فقال : ( هل تدرون ممن ضحكت ) فقالوا الله ورسوله أعلم ، قال : ( إنه نزل عليّ سورة ) فقرأ ) بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر ( فقرأ حتى ختم السورة فلما قرأها قال : ( أتدرون ما الكوثر ؟ أنه نهر في الجنة وعدنيه ربّي عز وجلّ فيه خير كثير ، لذلك النهر حوض يرد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد الكواكب ( فيختلج ) منهم فأقول : ربِّ إنَّه من أمتي فيقال : أنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ) .
وأخبرنا أبو سعيد بن حمدون قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد قال : حدّثنا أبو عتبة أحمد بن الفرج الحمصي قال : حدّثنا أيوب بن سويد قال : حدّثنا محمد بن إبراهيم عن عمّه العباس بن عبد الله بن معيد عن ابن عباس قال : لما نزلت ) إنا أعطيناك الكوثر ( صعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقرأها على الناس ، فلما نزل قالوا : يا رسول الله ما هذا الذي قد أعطاكه الله سبحانه ؟ قال : ( نهر في الجنة أشدّ بياضاً من اللبن ، وأشد أستقامة من القدح حافتاه قباب الدر الدر والياقوت ترده طير خضر لها أعناق كأعناق البخت ) قالوا : يارسول الله ما أنعم هذا لطائر ؟ قال ( أفلا أخبركم بأنعم منه ؟ ) قالوا بلى : قال : ( من أكل الطائر وشرب الماء فاز برضوان الله سبحانه ) .
(10/308)
" صفحة رقم 309 "
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن جعفر المطيري قال : حدّثنا علي بن حرب قال : حدّثنا ابن فضيل قال : حدّثنا عطاء عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( الكوثر نهر في الجنة حافتاه من الذهب ومجراه على الدر والياقوت وتربته أطيب من المسك وماءُه أحلى من العسل وأشد بياضاً من الثلج ) وقالت عائشة رضى الله عنها : الكوثر نهر في الجنّة يخرخر في الحوض فمن أحب أن يسمع خريره فليجعل أصبعيه في أذنيه .
وقال بعضهم : هو الحوض بعينه ، وصفته على ما جاء في الأخبار أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وصف حوض الكوثر فقال : ( حصباؤه الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر والدر والمرجان وحمأتهُ المسك الأذفر وترابه الكافور ، وماءه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل وأبرد من الثلج ، يخرج : من أصل السدرة عرضه وطوله ما بين المشرق والمغرب ، حافتاه الزعفران وقباب الدر والمرجان ، من دخله أمن من الغرق ، ولا يشرب منه أحد فيظمأ ، ولا يتوضأ منه أحد فيشعث ، فيه طيور أعناقها كأعناق الجزر ) فقال أبو بكر وعمر : إنها لناعمة فقال : ( أُكلُها أنعم منها ) .
وفي خبر آخر : ( لتزدحمنّ هذه الأمة على الحوض أزدحام واردات الحمر ) .
وأخبرنا أبو القاسم بن حبيب في سنة ست وثلثمائة : قال : حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد الصفار الأصفهاني قال : أخبرنا أبو عبد الله العمري الكوفي بالكوفة قال : حدّثنا بشر بن داود القرشي قال : حدّثنا مسعود بن سابور عن علي بن عاصم عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنَّ لحوضي أربعة أركان : فأول ركن منها في يد أبي بكر والثاني في يد عمر والثالث في يد عثمان والرابع في يد علي ، فمن أحب أبا بكر وأبغض عمر لم يسقه أبو بكر ومن أحب عمر وأبغض أبا بكر لم يسقه عمر ومن أحب عثمان وأبغض علياً لم يسقه عثمان ومن أحب علياً وأبغض عثمان لم يسقه علي ، ومن أحسن القول في أبي بكر فقد أقام الدين ، ومن أحسن القول في عمر فقد أوضح السبيل ، ومن أحسن القول في عثمان فقد أستنار بنور الله ، ومن أحسن القول في علي فقد أستمسك بالعروة الوثقى ، من أحسن القول في أصحابي فهو مؤمن ومن أساء القول في أصحابي فهو منافق ) .
وقال قطر بن خليفة : سألت عطاء عن الكوثر ونحن نطوف في البيت فقال : حوض أعطي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عليه وسلم في الجنة ، وروى حميد عن أنس قال : دخلنا على عبيد الله بن زياد وهم يتذاكرون الحوض فقلت : ماكنت أرى أن أعيش حتى أرى أمثالكم يتمارون في الحوض ،
(10/309)
" صفحة رقم 310 "
لقد تركت خلفي عجائز ما تصلي امرأة منهن إلا سألت الله أن يسقيها من حوض محمد وفيه يقول الشاعر :
يا صاحب الحوض من يدانيكا
وأنت حقاً حبيب باريكا
وقال سعيد بن جبير ومجاهد : هو الخير الكثير ، وقال الحسن : هو القرآن العظيم ، عكرمة : النبوة والكتاب ، محمد بن إسحاق هو العظيم من الأمر وذكر بيت لبيد
صاحب ملحوب فجعنا بفقده
وعند الرداع بيت آخر كوثر
يقول : أي عظيم .
وقال أبو بكر بن عباس ويمان بن ذياب : هو كثرة الأصحاب والاشياع ، ابن كيسان : هو كلمة من الكتب الأولى ومعناها الإيثار ، الحسين بن الفضل : الكوثر شيئان تيسير القرآن وتخفيف الشرائع ، جعفر الصادق : الكوثر نور في قبلك دّلك عليّ ، وقطعك عما سواي ، وعنه أيضاً : الشفاعة ، وقيل : معجزات أكثرت بها أهل الإجابة لدعوتك ، هلال بن يساق : هو قول لا اله الله محمد رسول الله ، وقيل : الفقه في الدين ، وقيل : الصلوات الخمس .
الكوثر : ( 2 ) فصل لربك وانحر
) فصل لربك وانحر ( قال محمد بن كعب : يقول : إن ناساً يصلّون لغير الله وينحرون لغير الله فإنَّا أعطيناك الكوثر فلا تكن صلاتك ونحرك إلاّ لي ، وقال عكرمة وعطاء وقتادة : فصلِّ لربك صلاة العيد يوم النحر ، قال سعيد بن جبير ومجاهد : فصل لربّك صلاة الغداة المفروضة بجَمْع وأنحر البدن بمنى .
وقال بعضهم : نزلت هذه الآية يوم الحديبية حين حضر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه وصدّوا عن البيت فأمره الله سبحانه أن يصلي وينحر البدن وينصرف ، وفعل ذلك ، وهو رواية أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن الحسين قال : حدّثنا أحمد بن يوسف قال : حدّثنا حجاج قال : حدّثنا حماد عن عاصم الحجدري عن أبيه عن عقبة بن طبيان عن علي ابن أبي طالب ح أنه قال في هذه الآية ) فصل لربك وانحر ( قال : وضع اليد اليمنى على ساعده اليسرى ثم وضعها على صدره .
وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا علي ابن إبراهيم بن أحمد العطار قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال : حدّثنا هاشم بن الحرث المروزي قال : حدّثنا محمد بن ربيعة قال : حدّثنا يزيد بن ذياب بن أبي السعد عن عاصم الحجدري عن عقبة بن ظهير عن علي بن أبي
(10/310)
" صفحة رقم 311 "
طالب في قوله ) فصل لربك وانحر ( قال : وضع اليمين على الشمال في الصلاة .
وأخبرنا عبد الخالق قال : حدّثنا ابن جنب قال : حدّثنا يحيى بن أبي طالب قال : أخبرنا يزيد بن هارون قال : حدّثنا روح بن المسيّب قال : أخبرني عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس في قوله الله سبحانه ) فصل لربك وانحر ( قال : وضع اليمين على الشمال في الصلاة عند النحر .
يدلّ عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن جعفر قال : حدّثنا علي بن حرب قال : حدثنا المعافى بن داود قال : حدثنا إسرائيل عن سماك بن حرب عن قبيصة بن هلب عن أبيه قال : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يضرب بأحدى يديه على الأخرى في الصلاة .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا مكي قال : حدّثنا عبد الله بن هاشم قال : حدّثنا عبد الرحمن قال : أخبرنا سفيان عن سماك عن قبيصة بن هلب عن أبيه قال : رأيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) واضعاً يمينه على شماله في الصلاة ، هلب لقب وأسمه يزيد بن قتادة .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا مكي قال : حدّثنا إبراهيم بن الحرث قال : حدّثنا يحيى بن أبي بكر قال : حدّثنا زهير بن معاوية قال : حدّثنا أبو إسحاق عن عبد الجبار بن وائل عن وائل بن حجر قال : رأيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يضع يده اليمنى على اليسرى في الصلاة قريباً من الرفع ، ويرفع يديه حتى يبلغا أذنيه .
وأخبرنا عبد الله قال : أخبرنا محمد بن الحسين قال : حدّثنا أحمد بن يوسف قال : حدّثنا حجاج قال : حدّثنا هشيم عن الحجاج بن أبي زينب السلمي قال : حدّثنا أبو عثمان النهدي عن ابن مسعود أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رأى رجلا وهو يصلي واضعاً يده اليسرى على اليمنى فنزع اليسرى عن اليمنى ووضع اليمنى على اليسرى .
وأخبرنا أبو محمد المخلدي قال : أخبرنا أبو الفضل يعقوب بن يوسف بن عاصم البخاري الفقيه قال : حدّثنا الحسين بن الفضل النصراني قال : حدّثنا وهب بن إبراهيم الرازي قال : حدّثنا أبو عبد الله إسرائيل بن حاتم المروزي وكان ثقة مأموناً قال : أخبرنا مقاتل بن حيان عن أصبغ ابن نباتة عن علي بن أبي طالب ح قال : لما نزلت هذه السورة ) إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر ( قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لجبرائيل : ( ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي ؟ ) قال : ليست بنحيرة ولكنه يأمرك اذا تحرمت للصلاة أن ترفع يدك إذ ا كبرت ، وإذا ركعت ، وإذا رفعت رأسك من الركوع ، وإذا سجدت ، فإنه صلاتنا وصلاة الملائكة الذين في السموات السبع وإن لكل شيء زينة وأن زينة الصلاة رفع الأيدي عند التكبيرة
(10/311)
" صفحة رقم 312 "
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رفع الأيدي في الصلاة من الأستكانة ) قلت : فما الاستكانة ؟ قال : ( ألا تقرأ هذه الآية : ) فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ( ) قال : هو الخضوع .
يدل عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال قال : حدّثنا أبو زرعة الرازي قال : حدّثنا عبد الجبار بن سعيد بن سليمان بن نوفل بن مساحق العامري قال : حدّثنا ابن أبي الزياد عن موسى بن عقبة عن عبد الله بن الفضل عن عبد الرحمن الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنَّه كان إذا قام إلى الصلاة المكتوبة كبّر ورفع يديه حذو منكبيه ويصنع مثل ذلك إذا قضى قراءته وأراد أن يركع ويضعه إذا رفع من الركوع ، ولا يرفع يديه في شيء من صلاته وهو قاعد .
وأخبرنا الشيخ الصالح أبو الحسن أحمد بن إبراهيم بن علوية بن سلوس العبدوي في رجب سنة أربع وثمانين وثلاثمائة قال : أخبرنا أبو العباس أحمد بن محمد بن الأزهر الأزهري وعبد الله بن يحيى بن أحمد بن مهران المذكر قالا : سمعنا أبا إسماعيل الترمذي وحدّثنا أبو محمّد المخلدي إملاء قال : أخبرنا أبو محمّد عبدالله بن يحيى بن أحمد المذكر قال : حدّثنا أبو اسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي قال : صليّت خلف أبي عارم أي النعمان فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع ، فقلت ما هذا ؟ فقال : صليت خلف حماد بن زيد فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع ، فقلت له : ما هذا ؟ فقال : صليت خلف أيوب السجستاني فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع ، فقلت له : ماهذا ؟ قال : صلّيت إلى جنب عطاء بن أبي رياح فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع ، فقلت له : ما هذا ؟ قال : صليت خلف أبي بكر الصديق فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع ، فقلت له : ما هذا ؟ قال : صلّيت خلف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فرأيته يرفع يديه حين أفتتح الصلاة وحين ركع وحين رفع رأسه من الركوع .
وأنبأني عقيل قال : أخبرنا المعافى قال : أخبرنا ابن جرير قال : حدّثنا أبو كريب قال : حدّثنا وكيع عن أسرائيل عن جابر عن أبي جعفر ) فصل لربك وانحر ( قال : يرفع يديه أول ما يكبّر في الإفتتاح إلى النحر .
وأخبرنا محمد بن عبدوس قال : حدّثنا محمد بن يعقوب قال : أخبرنا محمد بن الجهم قال : حدّثنا الفراء قال : يقال : ) فصل لربّك وانحر ( أي أستقبل القبلة بنحرك ، سمعت بعض العرب يقول : منازلنا تتناحر ، أي هذا ينحر هذا ، أي قبالته ، وأنشدني بعض أسد
(10/312)
" صفحة رقم 313 "
أبا حكم هل أنت عم مجالد
وسيّد أهل الأبطح المتناحر
أي ينحر بعضه بعضاً ، وإليه ذهب الضحاك والكلبي ، وقال واصل بن السائب : سألت عطاء عن قوله سبحانه ) وانحر ( قال : أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يستوي بين السجدتين جالساً حتى يبدوا نحره ، سليمان التيمي : يعني وأرفع يديك بالدعاء إلى نحرك ، ذو النون : أي أذبح هواك في قلبك .
الكوثر : ( 3 ) إن شانئك هو . . . . .
) إنَّ شانئك هو الأبتر ( يعني أن عدوك ومبغضك هو الأقل الأذلّ المنقطع دابره ، نزلت في العاص بن وائل ، وقال شمر بن عطية : هو عقبة بن أبي معيط ، وقال عكرمة عن ابن عباس : نزلت في كعب بن الأشرف وجماعة من قريش ، وذلك أنه لما قدم كعب مكّة قالت له قريش : نحن أهل السقاية والسدانة وأنت سيّد أهل المدينة فنحن خير أم هذا الصنبور المنبتر من قومه ؟ فقال : بل أنتم خير منه . فنزلت في كعب ) ألم تر إلى الذين أُتوا نصيباً من الكتاب ( الآية ونزلت في الذين قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أبتر .
) إنَّ شانئك هو الأبتر ( يعني المنقطع من كل خير ، قال الجنيد : المنقطع عن بلوغ أمله فيك .
(10/313)
" صفحة رقم 314 "
( سورة الكافرون )
مكية . وهي أربعة وتسعون حرفاً ، وست وعشرون كلمة ، وست آيات
أخبرني محمد بن القاسم قال : حدّثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر قال : أخبرنا أبو عمر الحرشي قال : حدّثنا إسحاق بن إبراهيم قال : حدّثنا يعقوب بن حميد قال : حدّثنا إسماعيل بن داود عن سليمان بن بلال عن أبي جبير عن الحكم بن عبد الله بن سعد أن محمد ابن سعيد بن جبير بن مطعم حدّثهم أنه سمع جبير بن مطعم يقول : قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أتحب ياجبير أن تكون إذا خرجت سفراً من أمثل أصحابك هيئة وأكثرهم زاداً ) ؟ قال : قلت : نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، قال : ( فاقرأ بهذه السور : ) قل يا أيها الكافرون ( و ) إذا جاء نصر الله ( و ) قل هو الله أحد ( و ) قل أعوذ برب الفلق ( و ) قل أعوذ برب الناس ( وأفتح قراءتك ببسم الله الرحمن الرحيم ) قال : فقال جبير : وكنت غنياً كثير المال وكنت أخرج مع من شاء الله أن أخرج معه في السفر فأكون أبذّهم هيئة وأقلّهم زاداً فمازالت منذ علمنيهن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقرأتهن أكون من أحسنهم هيئة وأكثرهم زاداً حتى أرجع من سفري ذلك .
وأخبرنا أبو العباس السليطي قال : أخبرنا ابن الشرقي قال : حدثنا أحمد بن يوسف قال : حدثنا عبد الرزاق ومحمد بن يوسف قالا : حدّثنا سفيان عن أبي إسحاق عن فروة بن نوفل الأشجعي يرفعه إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال لرجل : ( إقرأ عند منامك ) قل يا أيها الكافرون ( فإنها براءة من الشرك ) .
وأخبرنا أحمد بن أبي قال : أخبرنا منصور بن محمد قال : حدّثنا محمد بن أيوب قال : حدّثنا القصيني قال : حدّثنا سلمة بن وردان قال سمعت أنساً يقول : قال ( صلى الله عليه وسلم ) ) قل يا أيها الكافرون ( ربع القرآن )
(10/314)
" صفحة رقم 315 "
وأخبرنا محمد بن القاسم قال : حدّثنا محمد بن زيد المعدل قال : حدّثنا أبو يحيى البزاز قال : حدّثنا محمد بن منصور قال : حدّثنا محمد بن عمران بن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال : حدّثني أبي عن مخالد عن الحجاج بن عبد الله عن أبي الجليل عن زر عن أبي قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة ) يا أيها الكافرون ( فكأنما قرأ ربع القرآن ، وتباعدت عنه مردة الشياطين ، وبرئ من الشرك ويعافى من الفزع الأكبر ) .
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مروا صبيانكم فليقرؤها عند المنام فلا يعرض لهم شيء ) .
وقال ابن عباس : ليس في القرآن سورة أشد لغيظ إبليس من هذه السورة لأنها توحيد وبراءة من الشرك .
بسم الله الرحمن الرحيم
( ) قُلْ ياأَيُّهَا الْكَافِرُونَ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ ( 2
الكافرون : ( 1 ) قل يا أيها . . . . .
) قل يا أيها الكافرون ( إلى آخر السورة نزلت في رهط من قريش منهم الحرث بن قيس السهمي والعاص بن وائل والوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب بن أسد وأميّة بن خلف قالوا : يا محمد هلم فاتبع ديننا ونتبع دينك ونشركك في أمرنا كلّه تعبد آلهتنا سنة ونعبد ألهك سنة فأن كان الذي جئت به خيراً مما بأيدينا كنا قد شركناك فيه وأخذنا بحظنا منه ، وأن كان الذي بأيدينا خيراً مما في يديك كنت قد شركتنا في أمرنا وأخذت بحظك منه ، فقال : ( معاذ الله أن أشرك به غيره ) .
فقالوا : فأستلم بعض آلهتنا نصدّقك ونعبد الهك فقال : حتى أنظر ما يأتي من عند ربي فانزل الله سبحانه : ) قل يا أيها الكافرون ( إلى آخر السورة فغدا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش فقام على رؤوسهم ثم قرأها عليهم حتى فرغ من السورة ، فيئسوا عنه عند ذلك وآذوه وآذوا أصحابه .
الكافرون : ( 2 - 5 ) لا أعبد ما . . . . .
وأما وجه تكرار الكلام فأن معنى الآية ) لا أعبد ما تعبدون ( في الحال ) ولا أنتم عابدون ما أعبد ( في الحال ) ولا أنا عابدٌ ما عبدتم ( في الأستقبال ) ولا أنتم عابدون ما أعبد ( في الأستقبال وهذا خطاب لمن سبق في علم الله سبحانه أنهم لا يؤمنون ، وقال أكثر أهل المعاني : نزل القرآن بلسان العرب وعلى مجاري خطابهم ومن مذاهبهم التكرار إرادة التوكيد والإفهام
(10/315)
" صفحة رقم 316 "
كما أن مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز لإن إتيان المتكلّم والخطيب وخروجه من شيء إلى شيء آخر أفضل من اقتصاره في المقام على شيء واحد ، قال الله تعالى : ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( ) ويل يومئذ للمكذبين ( في غير موضع من سورة واحدة وقال سبحانه : ) كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون ( وقال : تعالى ) وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين ( وقال : ) فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً ( كل هذا أراد به التأكيد ، ويقول القائل : ارم ارم ، عجّل عجل ، ومنه الحديث أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صعد المنبر ذات يوم فقال : ( إن بني مخزوم استأذنوا أن ينكحوا فتاتهم علياً فلا اذن ثم لا آذن ، لأنَّ فاطمة بضعة مني يسرّها ما يسرّني ويسوءها ما يسوءني ) .
ومنه قول الشاعر :
هلا سألت جموع كندة
يوم ولوا أين أينا
وقال آخر :
يا علقمه يا علقمه يا علقمه
خير تميم كلّها وأكرمه
وقال آخر :
قربا مربط النعامة مني
لقحت حرب وائل عن حيان
ثم قال في عدة أبيات من هذه القصيدة :
لقحت حرب وائل عن حيان
وأنشدني أبو القاسم بن حبيب قال : أنشدني أبو القاسم عبد الرحمن بن المظفر الأنباري قال : أنشدنا أبو بكر محمد بن أحمد بن القاسم الأنباري لبعض نساء الإعراب .
يقول رجال زوجها لعلها
تقر وترضى بعده بحليل
فأخفت في النفس التي ليس دونها
رجاء وان الصدق أفضل قيل
أبعد ابن عمي سيد القوم مالك
أزَّف إلى بعل ألدّ كليل
(10/316)
" صفحة رقم 317 "
وحدّثني أصحابه أن مالكاً
أقام ونادى صحبه برحيل
وحدّثني أصحابه أن مالكاً
صروم كماضي الشفرتين صقيل
وحدّثني أصحابه أن مالكاً
جواد بما في الرحل غير بخيل
وقال القتيبي : وفيه وجه آخر وهو أنَّ قريشاً قالوا : إن سرّك أن ندخل في دينك عاماً فأدخل في ديننا عاماً فنزلت هذه السورة ، فتكرار الكلام لتكرار الوقت ، وقال : فيه وجه آخر وهو أن القرآن نزل شيء بعد شيء وآية بعد آية فكانهم قالوا اعبد آلهتنا سنة فقال الله سبحانه : ) لا أعبد ما تعبدون ( ثم قالوا بعد ذلك : استلم بعض آلهتنا فانزل الله تعالى : ) ولا أنا عابد ما عبدتم ولا أنتم عابدون ما أعبد (
الكافرون : ( 6 ) لكم دينكم ولي . . . . .
) لكم دينكم ( الشرك ) ولي دين ( الإسلام .
وهذه الآية منسوخة بآية السيف ، وقرأ أهل المدينة وعيسى بن عمر ) ولي دين ( بفتح الياء ومثله روى حفص عن عاصم وهشام عن أهل الشام ، غيرهم بجزمه وأبو حاتم بجر .
(10/317)
" صفحة رقم 318 "
( سورة النصر )
مدنيّة وهي سبعة وتسعون حرفاً ، وست عشر كلمة ، وثلاث آيات
أخبرني أبو الحسين الحياري عن مرة قال : أخبرنا الإمام أبو بكر الإسماعيلي الجرجاني وأبو الشيخ الحافظ الأصبهاني قالا : حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن أبي شريك قال : حدّثنا أبو عبد الله اليربوعي قال : حدّثنا سلام قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة الفتح فكأنما شهد مع محمد فتح مكّة ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَواِبَا ( 2
النصر : ( 1 ) إذا جاء نصر . . . . .
) إذا جاء نصر الله ( على من عاداك وناوءك ) والفتح ( قال يمان : فتح المدائن والقصور ، وقال عامة المفسرين : فتح مكة ، وكانت قصته على ماذكره محمد بن إسحاق بن بشار والعلماء من أصحاب الأخبار : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما صالح قريش عام الحديبية كان فيما أشترطوا أنه من أحب أن يدخل في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعقده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه ، فدخلت بنو بكر في عقد قريش ودخلت خزاعة في عقد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان بينهما شرّ قديم ، وكان السبب الذي هاج ما بين بكر وخزاعة أن رجلا من يلحضرمي يقال له مالك بن عماد خرج تاجراً ، فلما توسّط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه ، فعدت خزاعة قبيل الإسلام على بني الأسود بن رزين الديلي وهم من أشراف بكر فقتلوه بعرفة عند أنصاب الحرم ، فبينا بكر وخزاعة على ذلك من الشر حجز بينهم الإسلام وتشاغل الناس به ، فلما كان صلح الحديبيّة ووقعت تلك الهدنة أغتنمها بنو الديل من بني بكر من خزاعة وأرادوا أن يصيبوا منهم بأؤلئك النفر الذين أصابوا منهم بني الأسود بن رزين ، فخرج نوفل بن معونة الديلي في بني الديل ، وهو يومئذ قائدهم حتى بيّت خزاعة وهم على الوتير ماء لهم بأسفل مكة ، فأصابوا
(10/318)
" صفحة رقم 319 "
منهم رجلا وتحاوروا واقتتلوا ، ورفدت قريش بني بكر بالسلاح وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفياً حتى جاوزوا خزاعة إلى الحرم ، وكان ممن أعان من قريش بني بكر على خزاعة ليلتين بأنفسهم مشتكرين صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو ومع عبيدهم قالوا : فلما أنتهوا إلى الحرم قالت بنو بكر : يانوفل إنا دخلنا الحرم ، إلهك الهك ، فقال كلمة عظيمة : أنه لا إله اليوم ( يا بني بكر ) أصيبوا ثأركم فيه فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم أفلا تصيبون ثأركم فيه .
فلما دخلت خزاعة مكة لجأوا إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي ودار مولى لهم يقال له رافع ، فلما تظاهرت قريش على خزاعة وأصابوا منهم ما أصابوا ونقضوا ما بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من العهد لما أستحلّوا من خزاعة ، وكانوا في عقدة ، خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان ذلك مما هاج فتح مكة فوقف عليه وهو في المسجد جالس بين ظهراني الناس فقال لهم : إني بايعت محمداً وذكر الأبيات كما ذكرها في سورة التوبة إلى قوله :
هم بيتونا بالوتير هجّدا
فقتلونا ركعاً وسجدا
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد نصرت ياعمرو بن سالم ، ثم عرض لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عنان من السماء فقال : ( إن هذه السحابة لتستهلّ بنصر بني كعب ) ( وأمر رسول الله الناس بالجهاز وكتمهم مخرجه ) ) .
وقد قال حسن : بلغه إسلام أم هاني بنت أبي طالب وأسمها هند :
أشاقتك هند أم ناك سؤالها
كذاك النوى أسبابها وأنفتالها
القصيدة .
قال ابن إسحاق ، وكان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف من بني غفار أربعمائة ومن أسلم أربعمائة ومن مزينة ألف ومن بني سلم سبعمائة ومن جهينة ألف وأربعمائة رجل وسائرهم من قريش والأنصار وحلفائهم وطوائف العرب من تميم وقيس واسد .
قالوا : وكان فتح مكة لعشر ليال بقين من شهر رمضان سنة ثمان وأقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بمكة بعد فتحها خمس عشر ليلة يقصر الصلاة ، ثم خرج إلى هوازن وثقيف وقد نزلوا حنين .
النصر : ( 2 ) ورأيت الناس يدخلون . . . . .
) ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً ( زمراً وأرسالا القبيلة بأسّرها ، والقوم بأجمعهم من غير قتال
(10/319)
" صفحة رقم 320 "
قال الحسن : لمّا فتح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مكة قالت العرب بعضها لبعض : أما إذ ظفر محمد بأهل الحرم وقد كان الله سبحانه أجارهم من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان ، فكانوا يدخلون في دين الله أفواجاً ، وقال عكرمة ومقاتل : أراد بالناس أهل اليمن ، قال ابن عباس وأبو هريرة : لما نزلت هذه السورة قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الله أكبر جاء نصر الله والفتح )
وجاء أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم لينة طاعتهم الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شبنة قال : حدّثنا محمد بن مصفر قال : حدّثنا بقيّة بن الوليد قال : حدّثنا الأوزاعي قال : حدّثنا شدّاد أبو عمار قال : حدّثني جار لجابر قال : غدا جابر ليسلم عليّ فجعل يسألني عن حال الناس فجعلت أخبره نحواً مما رأيت من أختلافهم وفرقتهم فجعلت أخبره وهو يبكي فقال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( أن الناس دخلوا في دين الله أفواجاً وسيخرجون من دين الله أفواجاً ) .
النصر : ( 3 ) فسبح بحمد ربك . . . . .
) فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً ( فأنك حينئذ لاحق به وذائق الموت كما ذاق من قبلك من الرسل ، وعند الكمال يرتقب الزوال كما قيل .
إذا تم أمرٌ نقصه
توقع زوالا إذا قيل تم
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب كان يأذن لأهل بدر ويأذن لي معهم فقال عبد الرحمن بن عوف : أتأذن لهذا الفتى معنا ومن أبنائنا من هو مثله ، فقال : إنه ممن قد علمتم ، قال ابن عباس : فأذن لهم ذات يوم وأذن لي معهم فسألهم عن قول الله سبحانه : ) إذا جاء نصر الله والفتح ( الآية ولا أراه سألهم إلاّ من أجلي ، فقال بعضهم : أمر الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) إذا فتح عليه أن يستغفره ويتوب إليه ، فسألني فقلت : ليس كذلك ولكن أخبر نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) بحضور أجله ونعيت إليه نفسه ، فذلك علامة موته . فقال عمر : ما أعلم منها إلاّ مثل ما تعلم ، ثم قال : كيف تلومونني عليه بعد ما ترون .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن جعفر المطيري قال : حدّثنا ابن فضل قال : حدّثنا عطاء عن سعيد عن ابن عباس قال : لما نزلت ) إذا جاء نصر الله والفتح ( قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( نعيت إليّ نفسي ) بأنّه مقبوض في تلك السنة ، وقال مقاتل وقتادة : عاش النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعد نزول هذه السورة سنتين
(10/320)
" صفحة رقم 321 "
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن جعفر قال : حدّثنا علي بن حرب قال : حدّثنا أبو عامر العقدي عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي عبدة عن عبد الله قال : لما نزلت ) فسبح بحمد ربك واستغفره إنَّه كان تواباً ( كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يكثر أن يقول ( سبحانك اللهم وبحمدك أغفر لي إنك أنت التواب ) .
وأخبرنا عبد الله قال : أخبرني مكي قال : حدّثنا عبد الله بن هاشم قال : حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عائشة رضى الله عنها قالت : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يكثر أن يقول قبل أن يموت : ( سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك ) فقلت : يا رسول الله ما هؤلاء الكلمات التي أراك قد أحدثتها بقولها ؟ قال : ( جعلتها علامة في أمتي أذا رأيتها قلتها إذا جاء نصر الله والفتح ) إلى آخر السورة .
وبه عن ابن هاشم قال : حدّثنا عبد الله بن نمير قال : أخبرنا الأعمش عن مسلم وهو ابن صبيح عن مسروق عن عائشة رضى الله عنها وعن أبيها قالت : لما نزلت ) إذا جاء نصر الله والفتح ( إلى آخرها ما رأيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلّى صلاة ألا قال : ( سبحانك اللهم وبحمدك اللّهم أغفر لي ) .
وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدثنا إبراهيم بن سهلويه قال : حدثنا علي بن محمد الطنافسي قال : حدّثنا حفص بن غياث عن عاصم الأحول عن الشعبي عن أم سلمة قالت : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بآخره لا يقوم ولا يقعد ولا يجيء ولا يذهب إلا قال : ( سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه ) فقلنا : يارسول الله لا تقوم ولا تقعد ولا تجيء ولا تذهب إلا قلت : سبحان الله أستغفر الله وأتوب إليه قال : ( فإني أُمرت بها ) ثم قرأ ) إذا جاء نصر الله والفتح ( حتى ختمها .
وقال : مقاتل : لما نزلت هذه الآية قرأها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أصحابه وفيهم أبو بكر وعمر وسعيد بن أبي العاص ففرحوا واستبشروا ، وسمعها العباس فبكى فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( وما يبكيك ياعم ) قال : نعيت إليك نفسك قال : ( إنه لكما تقول ) فعاش بعدها سنتين ما رُئي فيهما ضاحكاً مستبشراً ، وهذه السورة تسمّى سورة التوديع
(10/321)
" صفحة رقم 322 "
أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف قال : حدّثنا محمد بن عمران قال : حدّثنا أبو الدرداء عبد العزيز بن منيب قال : حدّثنا إسحاق بن عبد الله بن كيسان قال : حدّثني أبي عن عكرمة عن ابن عباس قال : أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من غزوة حنين فنزل عليه ) إذا جاء نصر الله والفتح ( السورة ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا علي ويا فاطمة بنت محمد قد جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً سبحان ربي وبحمده وأستغفره أنه كان توباً ويا علي بن أبي طالب إنه يكون من بعدي في المؤمنين الجهاد ) ، فقال علي : ما نجاهد المؤمنين الذين يقولون آمنا ؟ قال : ( على الإحداث في الدين إذا عملوا بالرأي ، ولا رأي في الدين إنَّما الدين من الرب أمره ونهيه ) .
فقال علي : يا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أرأيت إن عرض لنا أمر لم يبيّن الله فيه قرآناً ولم ينصّ فيه سنّة منك ؟ قال : ( تجعلونه شورى بين العابدين ولا تقضون برأي خاصة ولو كنت مستخلفاً أحداً لم يكن أحد أحق منك لقدمك في الإسلام وقرابتك من رسول الله وصهرك وعندك فاطمة سيدة نساء المؤمنين ، وقبل ذلك ما كان من بلاء أبي طالب إياي حين نزل القرآن فأنا حريص على أن أرعى ذلك في ولده ) .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا مكّي قال : حدّثنا أحمد بن منصور المروزي أبو صالح قال : حدّثني أحمد بن المصعب المروزي قال : حدّثنا عمر بن إبراهيم قال : حدّثنا عيسى ابن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده قال : لما نزلت ) إذا جاء نصر والفتح ( جاء العباس إلى عليح فقال : أدخل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإن كان هذا الأمر من بعده لنا لم تشاحنا عليه قريش ، وإن كان للغير سألته الوصاة بنا ، قال : سأفعل ، قال : فدخل العباس على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مسّراً فذكر ذلك له فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا عباس يا عم رسول الله إن الله جعل أبا بكر خليفتي على دين الله سبحانه ووحيه فأسمعوا له تفلحوا وأطيعوه تُرشدوا ) .
قال ابن عباس : فقعدوا والله فرشدوا .
(10/322)
" صفحة رقم 323 "
( سورة تبت ( المسد )
مكية ، وهي سبعة وسبعون حرفاً ، وعشرون كلمة ، وخمس آيات
أخبرنا الحراثي قال : حدّثنا أبو الشيخ الحافط قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك قال : حدّثنا أحمد بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة تبّت رجوت أن لا يجمع الله سبحانه بينه وبين أبي لهب في دار واحدة ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ مَآ أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ ( 2
المسد : ( 1 ) تبت يدا أبي . . . . .
) تبّت يدا أبي لهب ( .
أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا مكي قال : حدثنا عبد الله بن هاشم قال : حدثنا عبد الله بن نمير قال : حدّثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما أنزل الله سبحانه : ) وأنذر عشيرتك الأقربين ( أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الصفا فصعد عليه ثم نادى : يا صباحاه ، فأجتمع إليه الناس بين رجل يجيء وبين رجل يبعث رسوله فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا بني عبد المطلب يا بني فهر يا بني عدي أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذ الجبل يريد أن تغير عليكم صّدقتموني ؟ ) قالوا : نعم ، قال : ( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) فقال أبو لهب : تباً لكم سائر هذا اليوم ، وما دعوتموني إلا لهذا ؟ فأنزل ) تبّت ( أي خابت وخسرت ، ) يدا أبي لهب ( أي تب هو أخبر عن يديه والمراد به نفسه على عادة العرب في التعبير ببعض الشيء عن كلّه كقوله سبحانه : ) فبما كسبت أيديكم و ( ) قدمت
(10/323)
" صفحة رقم 324 "
أيديهم ( ونحوها ، وقيل : اليد صلة يقول العرب : يد الدّهر ويد الرزايا والمنايا ، قال الشاعر :
لما أكبّت يد الرزايا
عليه نادى ألا مجير
وقيل : المراد به ماله وملكه يقال : فلان قليل ذات اليد ، يعنون به المال .
والتباب الخسار والهلاك ، سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت محمد بن مسعود السوري قال : سمعت نفطويه قال : سمعت المنقري عن الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال : لما قتل عثمان ح سمعوا صوت هاتف من الجن يبكي .
لقد خلّوك وأنصرفوا
فما عطفوا ولا رجعوا
ولم يوفوا بنذرهم
فتبّاً للذي صنعوا
وأبو لهب هو ابن عبد المطلب واسمه عبد العزي فلذلك لم يسمّه ، وقيل اسمه كتيبة ، قال : مقاتل كنّي أبا لهب لحسنه وأشراق وجهه ، وكانت وجنتاه كأنهما تلتهبان .
) وتب ( أبو لهب الواو فيه واو العطف ، وقرأ عبد الله وأُبي ( وقد تب ) فالأول دعاء والثاني كما يقال غفر الله لك ، وقد فعل وأهلكه الله وقد فعل ، والواو فيه واو الحال .
وقراءة العامة ) أبي لهب ( بفتح الهاء ، وقرأ أهل مكة بجزمها ، ولم يختلفوا في قوله : ) ذات لهب ( أنه مفتوح الهاء ؛ لأنهم راعو فيه روس الأي .
أخبرنا الحسين بن محمد قال : حدّثنا السني قال : حدّثنا حامد بن محمد بن شعيب البلخي قال : حدّثنا شريح بن يونس قال : حدّثنا هشيم قال : أخبرنا منصور عن الحكم عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال : لما خلق الله القلم قال : أكتب ما هو كائن فكتب فمما كتب : ) تبت يدا أبي لهب ( .
وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن قال : أخبرنا أبو الطيب محمد بن عبد الله ابن المبارك الثعيري قال : حدّثنا محمد بن أشرس السلمي قال : حدّثنا عبد الصمد بن حسان المروِّ الروذيّ عن سفيان عن منصور قال : سئل الحسن عن قوله : ) تبت يدا أبي لهب ( هل كان في أم الكتاب وهل كان يستطيع أبو لهب أن لا يصلى النار ؟ فقال الحسن : والله ما كان يستطيع أن لا يصليها وإنها لفي كتاب الله قبل أن يخلق أبو لهب وأبواه .
(10/324)
" صفحة رقم 325 "
ويؤيد هذا ما أخبرنا أبو طاهر بن خزيمة في شعبان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة قال : أخبرنا جدّي أمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة قال حدّثنا محمد بن يحيى قال : حدثنا معاوية بن عمرو قال : حدثنا زائدة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( احتج آدم وموسى فقال موسى : يا آدم أنت الذي خلقك الله سبحانه بيده ونفخ فيك من روحه أغويت الناس وأخرجتهم من الجنة ، فقال آدم : وأنت موسى الذي أصطفاك الله بكلامه تلومني على عمل أعمله كتبه الله عليّ قبل أن يخلق السموات والأرض ، قال : فحج آدم موسى ) .
وأخبرنا محمد بن الفضل قال : أخبرنا جدي قال : حضر مجلس إسحاق بن إبراهيم وأنا على نمير الركاب فقرأ علينا قال : أخبرنا النظر بن شميل قال : حدّثنا حماد بن سلمة عن عمار ابن أبي عمار مولى بني هاشم عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لقي موسى آدم فقال : أنت آدم الذي خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وأسكنك جنته فأخرجت ولدك من الجنة ، قال له : يا موسى أنت الذي أصطفاك برسالته وكلّمك ، فأنا أقدّم أم الذكر ؟ قال : الذكر ، فحجّ آدم موسى فحج آدم موسى ) .
وأخبرنا محمد بن الفضل قال : أخبرنا جدّي قال : حدّثنا عبد الله بن محمد الزهري قال : حدّثنا سفيان قال : حدّثنا أبو الزياد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أحتج آدم وموسى فقال موسى : يا آدم أنت أبونا خيّبتنا وأخرجتنا من الجنة قال : آدم : ياموسى أصطفاك الله بكلامه وخط لك بيده أتلومني على أمر قدّره الله تعالى قبل أن يخلقني بأربعين سنة ، فحج آدم موسى فحج آدم موسى ) .
المسد : ( 2 ) ما أغنى عنه . . . . .
) ما أغنى عنه ماله وما كسب ( قال : ابن مسعود : لما دعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أقرباءه إلى الله سبحانه قال أبو لهب لأصحابه : إن كان ما يقول ابن أخي حقاً فأني أفتدي نفسي وملكي وولدي ، فأنزل الله سبحانه ) ما أغنى ( أي ما يغني ، وقيل : أي شيء أغنى عنه ماله من عذاب الله .
قال : أبو العالية : يعني أغنامه ، وكان صاحب سائمة ومواش ، وماكسب : يعني ولده .
قرأ الأعمش ( وما أكتسب ) ، ورواه عن ابن مسعود .
أخبرنا الحسين بن محمد قال : حدّثنا أحمد بن حنبل قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا
(10/325)
" صفحة رقم 326 "
معمر عن ابن خيثم عن أبي الطفيل قال : كنت عند ابن عباس يوماً فجاء بنو أبي لهب يختصمون في شيء بينهم فاقتتلوا عنده في البيت فقام يحجز بينهم فدفعه بعضهم فوقع على الفراش فغضب ابن عباس فقال : أخرجوا عني الكسب الخبيث ، يعني ولده أنهم كسبة .
دليل هذا التأويل ما أخبرني ابن فنجويه ( . . . . . . . . . . . . . . ) .
أبو حمزة قال : حدّثني عمارة بن عمير التميمي عن عمته سودة قال : قالت لعائشة آكل من مال ولدي فقالت : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إن أطيب ما أكل أحدكم من كسبه وأن ولده من كسبه ) .
المسد : ( 3 ) سيصلى نارا ذات . . . . .
) سيصلى ( هو سين سوف وقيل سين الوعد .
وقراءة العامة بفتح الياء الاولى وقرأ أبو رجاء بضم الياء ، وقرأ شهب العقيلي بضم الياء وتشديد اللام .
) ناراً ذات لهب ( .
2 ( ) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِى جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ( 2
المسد : ( 4 ) وامرأته حمالة الحطب
) وامرأته ( أم جميل بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان ، وكانت عوراء . ) حمالة الحطب ( يقال : الحديث والكذب قال : ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي : كانت تمشي بالنميمة ، يقول العرب : فلان يحطب على فلان إذا ورشى وأغزى ، قال : شاعرهم :
من البيض لم يصطد على ظهر لامة
ولم تمش بين الحي بالحطب الرطب
يعني لم يمش بالنمائم ، وقال آخر :
فلسنا كمن يرجى المقالة شطره
يفرق العصاه الرطب والغيل اليبس
وروى معمر عن قتادة قال : كانت تعيّر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالفقر وكانت تحتطب فعيّرت
(10/326)
" صفحة رقم 327 "
بذلك ، وهذا قول غير قوي ، لأن الله سبحانه وصفهم بالمال والولد وحمل الحطب ليس بعيب ، وقال : الضحاك وابن زيد : كانت تأتي بالشوك والعصاة فتطرحها بالليل في طريق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليعقرهم ، وهي رواية عطية عن ابن عباس ، قال الربيع بن أنس : كانت تنشر السعدان على طريق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيطأه كما يطأ الحرير والفرند .
مرة الهمداني : كانت أم جميل تأتي كل يوم بأبالة من الحسك فتطرحه على طريق المسلمين فبينما هي ذات يوم حاملة حزمة أعيت فقعدت على حجر تستريح فأتاها ملك فحدّثها من خلفها فأهلكها .
وقال سعيد بن جبير : حمالة الخطايا . دليله قوله سبحانه : ) وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ( ، وقول العرب : فلان يحطب على ظهره إذا أساء ، فلان حاطب قريته إذا كان الجاني فيهم ، وفلان محطوب عليه إذا كان مجنياً عليه .
وقراءة العامة بالرفع فيهما وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم ولها وجهان : أحدهما : سيصلى ناراً هو وامرأته حمالة الحطب ، والثاني : وامرأته حمالة الحطب في النار أيضاً .
وحجّة الرافعين ما أخبرنا محمد بن نعيم قال : أخبرنا الحسين بن أيوب قال : أخبرنا علي ابن عبد العزيز قال : أخبرنا أبو عبيد قال : حدّثنا حجاج بن هارون قال : في قراءة عبد الله وامرأته حمالة للحطب ، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن محتضر والأعرج وعاصم ) حمالة ( بالنصب ولها وجهان : أحدهما الحال والقطع لأن أصله وامرأته الحمالة الحطب فلما القيت الألف واللام نصب الكلام ، والثاني على الذم والشتم كقوله سبحانه : ) ملعونين ( .
وروى ابن أبي الزياد عن أبيه قال : كان عامة العرب يقرؤون حمالة الحطب وقرأ أبو قلابة وامرأته حمالة الحطب على فاعله ، والحطب جمع واحدتها حطبة .
وقال : بعض أهل اللغة : الحطب ها هنا جمع الحاطب وهو الجانب المذنب يعني أنَّها كانت تحملهم بالنميمة على معاداته ، ونظيره من الكلام راصد و رصد و حارس وحرس وطالب وطلب وغائب وغيب ، والعلة في تشبيههم النميمة بالحطب هي أن الحطب يوقد ويضرم كذلك النميمة ، قال : أكثم بن صيفي لبنيه : أياكم والنميمة فأنَّها نار محرقة وأن النمام ليعمل في ساعة مالا يعمل الساحر في شهر ، فاخذه الشاعر فقال :
أن النميمة نار ويك محرقة
فعد عنها وحارب من تعاطاها
(10/327)
" صفحة رقم 328 "
ولذلك قيل : نار الحقد لا تخبوا .
والعلة الثانية : أن الحطب يصير ناراً والنار سبب التفريق فكذلك النميمة ، وأنشدني وأبو القاسم ( الحبيبي ) قال : أنشدني أبو محمد الهاراني الجويني قال :
إنّ بني الأدرم حمالوا الحطب
هم الوشاة في الرضا وفي الغضب
عليهم اللعنة تترى والحَرَبَ .
المسد : ( 5 ) في جيدها حبل . . . . .
) في جيدها ( عنقها ، قال ذو الرمة :
فعينك عينها ولونك لونها
وجيدك الا أنها غير عاطل
وجمعها أجياد ، قال : الأعمش :
وبيداء تحسب آرامها
رجال إياد بأجيادها
) حبل من مسد ( أختلفوا فيه فقال ابن عباس وعروة بن الزبير : سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعاً يدخل من فيها فيخرج من دبرها ويلوى سائرها في عنقها ، وقال السدي : خلق الحديد وهي السلسلة تختلف في جهنم كما يختلف الحبل والدلو في البئر ، وروى الأعمش عن مجاهد : من حديد ، منصور عنه : المسد : الحديدة التي تكون في البكرة ، ويقال له المحور ، وإليه ذهب عطاء وعكرمة ، الشعبي ومقاتل : من ليف ، ضحاك وغيره : في الدنيا من ليف وهو الحبل الذي كانت تحطب به فخنقها الله تعالى به فأهلكها ، وفي الآخرة من نار ، قتادة : قلادة من ردع ، الحسن : إنما كانت خرزات في عنقها ، سعيد بن المسيب : كانت لها قلادة في عنقها فاخرة فقالت لأنفقها في عداوة محمد ، ابن زيد : حبال من شجر ينبت في اليمن يقال لها : المسد وكانت تفتل ، المروج من شهر الحرم والسلم والمسد في كلام العرب كل حبل غيروا أمر ليفاً كان أو غيره ، وأصله من المسد وهو الفتل ، ودابة ممسودة الخلق إذا كانت شديدة الأسر ، قال : الشاعر :
مسد أمر من أيانق
ليس بأنياب ولا حقائق
وجمعها أمساد قال : الأعشى :
تمسي فيصرف بابها من دوننا
غلقاً صريف محالة الأمساد
(10/328)
" صفحة رقم 329 "
وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد النيسابوري يقول : سمعت أبا نصر أحمد بن محمد ابن ملجان البصري يقول : سمعت بشر بن موسى الأسدي يقول : سمعت الأصمعي يقول : صلّى أربعة من الشعراء خلف أمام اسمه يحيى فقرأ ) قل هو الله أحد ( فيتعتع فيها فقال أحدهم :
أكثر يحيى غلطاً
في ) قل هو الله أحد (
فقال الثاني :
قام طويلا ساكتاً
حتى إذا أعيا سجد
فقال الثالث :
يزجر في محرابه
زجير حبلى لولد
فقال الرابع :
كأنّما لسانه
شدّ بحبل من مسد
وفي هذه السورة دلالة واضحة على نبوة نبينا محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك أن الله سبحانه أخبر عن مصير أبي لهب وامرأته إلى النار وكانا من أحرص الناس على تكذيب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يحملهما ذلك على اظهار الإيمان حتى يكذبا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بل داما على كفرهما حتى علم أن وعيد الله سبحانه إياهما وإخباره عن مصيرهما إلى النار حق وصدق .
(10/329)
" صفحة رقم 330 "
( سورة الإخلاص )
مكية ، وهي سبعة وأربعون حرفاً ، وخمس عشر كلمة ، وأربع آيات
أخبرنا الإمام أبو بكر محمد بن الحسن الأصبهاني بقرائتي عليه قال : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس قال : حدّثنا يونس بن حبيب قال : حدّثنا أبو داود الطيالسي قال : حدّثنا شعبة عن قتادة قال : سمعت سالم بن أبي الجعد يحدث عن معد ابن أبي طلحة عن أبي الدرداء أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة ) قلت : يارسول الله ومن يطيق ذاك ؟ قال : ( إقرؤوا ) قل هو الله أحد ( ) .
وأخبرني أبو عبد الله الحسين محمد بن الفرج قال : حدّثنا محمد بن الزيرقان قال : حدّثنا مروان بن سالم عن أبي عمر مولى جرير بن عبد الله قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ حين يدخل منزله نفت الفقر عن أهل ذلك المنزل والجيران )
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن صقلاب قال : حدّثنا ابن أبي الخصيب قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا سعيد بن المغيرة قال : حدّثنا محمد بن مروان عن أبان عن أنس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ ) قل هو الله أحد ( مرة بورك عليه ، ومن قرأها مرّتين بورك عليه وعلى أهله ، فإن قرأها ثلاث مرات بورك عليه وعلى أهله وعلى جميع جيرانه ، فإن قرأها أثنتي عشر مرة بني له أثنتي عشر قصراً في الجنة ويقول الحفظة : أنطلقوا بنا ننظر إلى قصر أخينا ، فإن قرأها مائة كفّر عنه ذنوب خمس وعشرون سنة ما خلا الدماء والأموال ، فإن قرأها أربع مائة مرة كفّرت عنه ذنوب أربعمائة سنة ما خلاء الدماء والأموال ، فإن قرأها ألف مرة لم يمت حتى يرى مكانه في الجنة أو يرى له ) .
وأخبرنا أبو عمر وأحمد بن أبي الفراتي قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب قال : حدّثنا عبد الله بن جامع الحلواني قال : حدّثنا محمد بن العباس قال : حدّثنا عمر بن سعد العطار الفلزمي قال : حدّثنا ابن أبي ذئب قال : حدّثنا محمد بن غيلان عن أبي حازم عن سهل
(10/330)
" صفحة رقم 331 "
ابن سعد قال : جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فشكا إليه الفقر وضيق المعاش فقال له : رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا دخلت بيتك فسلم إن كان فيه أحد وان لم يكن فيه أحد فسلّم ( عليّ ) وأقرأ ) قل هو الله أحد ( مرة واحدة ) ففعل الرجل فأدرّ الله عليه رزقاً حتى أفاض على جيرانه .
وأخبرنا أبو الحسين عبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم بن يحيى قال : حدّثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد بن بشر قال : حدّثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني قال : حدّثنا يزيد بن هارون قال : حدّثنا العلاء أبو محمد الثقفي قال : سمعت أنس بن مالك قال : كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بتبوك فطلعت الشمس بضياء وشعاع ونور لم أرها طلعت فيما مضى فأتى جبريل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا جبريل مالي أرى الشمس اليوم طلعت بضياء ونور وشعاع لم أرها طلعت فيما مضى فقال : ذاك أن معاوية بن معاوية الليثي مات بالمدينة اليوم فبعث الله سبحانه إليه سبعين ألف ملك يصلّون عليه قال : وفيم ذاك ؟ قال : كان يكثر قراءة ) قل هو الله أحد ( بالليل والنهار وفي ممشاه وقيامه وقعوده ، فهل لك يارسول الله أن أقبض لك الأرض فتصلي عليه قال : ( نعم ) فصلى عليه ثم رجع .
وأخبرنا أحمد بن أبي قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن يعقوب قال : حدّثنا محمد بن عيسى بن يزيد قال : حدّثنا سليمان بن داود المنقري قال : حدّثنا عبد العزيز بن محمد عن عبد الله بن عمر عن ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رجلا كان يصلي على عهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فكان لا يقرأ في الصلاة إلا قرأ في أثرها ) قل هو الله أحد ( فذكر ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما حملك على لزومها ) ؟ فقال : يارسول الله ، إني أحبها .
فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( حبك إياها يدخلك الجنة ) .
وأخبرنا ناقل بن راقم بن أحمد البابي قال : حدّثنا علي بن الحسن بن بختيار قال : حدّثنا أبو إبراهيم القطان قال : حدّثنا عثمان بن عبد الله القرشي قال : حدّثنا سلمة بن سنان عن محمد ابن المنكدر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( نزل ملك من السماء السابعة وخرج من الأرض السابعة ملك فالتقيا على هذه الأرض فقال الذي نزل من السماء : قد رفعت اليوم عملا لم أرفع مثله ، قال : الذي خرج من تحت الأرض : ما ذاك ؟ قال : قرأ رجل ) قل هو الله أحد ( مائة مرة قال : ما صُنع به ؟ قال : غفر الله له ) .
وأخبرني محمد بن القاسم قال : حدّثنا محمد بن يزيد قال : حدّثنا أبو يحيى البزاز قال :
(10/331)
" صفحة رقم 332 "
حدّثنا محمد بن الأزهر قال : حدّثنا أبو عامر العقدي عن مالك بن أنس عن عبد الله بن عبد الرحمن عن ابن جبير عن أبي هريرة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سمع رجلا يقرأ ) قل هو الله أحد ( فقال : ( وجبت ) قيل : يارسول الله وما وجبت ؟ قال : ( وجبت له الجنة ) .
وأخبرني محمد بن القاسم قال : حدّثنا أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن الدشت قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن الحسن بن قريش قال : حدّثنا معاذ بن يوسف التاجر قال : حدّثنا مُسدد ابن مُسرهد قال : حدّثنا حمدان بن رزام قال : حدّثنا محمد بن عبد الله عن مالك بن دينار عن أنس بن مالك قال : قال : رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ ) قل هو الله أحد ( مرة واحدة أعطاه الله من الثواب ما يحمل ثوابه سبعين قنطاراً من ياقوت فيفوح منه الروح يحملون كتبه كتباً واحداً أشد تقرطاً من شعر الزنجي وأرق من الشعر ) .
وأخبرني محمد بن القاسم قال : حدّثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر قال : أخبرنا أبو حسان العثماني قال : حدثنا أحمد بن عبد الرحمن قال : حدثنا عمي عبد الله بن وهب قال : حدثنا ابن لهيعة عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن مكحول عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي ابن كعب قال : سئل النبي ( عليه السلام ) عن ثواب ) قل هو الله أحد ( فقال : ( من قرأ ( قل هو الله أحد ) تناثر الخير على مفرق رأسه من عنان السماء ، ونزلت عليه السكينة وتغشّاه الرحمن وازدوي حول العرش ، ونظر الله سبحانه إلى قارئها فلا يسأله شيء إلا أعطاه إياه ويجعله فى كلائه وحرزه ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
( ) قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ ( 2
الإخلاص : ( 1 ) قل هو الله . . . . .
) قل هو الله أحد ( أخبرنا الشيخ أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق المزكى قال : أخبرنا الإمام أبو بدر محمد بن إسحاق بن خزيمة قال : حدثنا أحمد بن منيع ومحمود بن خداش قالا : حدثنا أبو سعد الصغاني قال : حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أُبي بن كعب أن المشركين قالوا لرسول الله ( عليه السلام ) : انسب لنا ربك ، فأنزل الله سبحانه ) قل هو الله أحد ( إلى آخر السورة .
وروى أبو ضبيان وأبو صالح عن ابن عباس أن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة أتيا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عامر : إلى ماتدعونا يا محمد ؟ قال : ( إلى الله سبحانه ) فقالا : صفه لنا ، أذهب
(10/332)
" صفحة رقم 333 "
هو أم فضة أم حديد أم من خشب ؟ فنزلت هذه السورة ، فأرسل الله سبحانه الصاعقة إلى أربد فأحرقته وطعن عامر في خنصره فمات ، وقد ذكرت قصتهما في سورة الرعد .
وقال الضحاك وقتادة ومقاتل : جاء ناس من أحبار اليهود إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : يا محمد صف لنا ربّك لعلنا نؤمن بك فإن الله أنزل نعته في التوراة فأخبرنا به من أي شيء هو من أي جنس أمن ذهب هو أو نحاس أم صفر أم حديد أم فضة ؟ وهل يأكل ويشرب ؟ وممّن ورث الدنيا ؟ ومن يورثها ؟ فأنزل الله سبحانه هذه السورة وهي نسبة الله خاصة .
وأخبرني عقيل أن أبا فرج البغدادي أخبرهم عن أبي جعفر الطرفي قال : حدّثنا ابن حميد قال : حدّثنا سلمة قال : حدّثني ابن إسحاق عن محمد بن سعيد قال : أتى رهط من اليهود للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا : يا محمد هذا الله خلق الخلق فمن خلقه ؟ فغضب النبي حتى أمتقع لونه ثم ساورهم غضباً لربه ، فجاءه جبرائيل فسكّنه وقال : أخفض عليك جناحك يا محمد ، وجاءه من الله سبحانه بجواب ما سألوه ) قل هو الله أحد ( السورة ، فلما تلا عليهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا له : صف لنا ربك كيف خلق وكيف عضده وذراعه ؟ فغضب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أشد من غضبه الأوّل وساورهم ، فأتاه جبرائيل فقال : له مثل مقالته وأتاه بجواب ما سألوه ) ما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة ( .
وقال الضحاك عن ابن عباس : إنَّ وفد نجران قدموا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سبعة أساقفة من بني الحرث بن كعب فيهم السيد والعاقب ، فقالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) صف لنا ربك من أي شيء هو ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنَّ ربي ليس من شيء وهو بائن من الأشياء ) فأنزل الله سبحانه ) قل هو الله أحد ( أي واحد .
ولا فرق بين الواحد والأحد عند أكثر أصحابنا يدل عليه قراءة عبد الله ) قل هو الله ( ( . . . . . . . ] .
وفرق قوم بينهما فقال بعضهم : الواحد للفصل والأحد للغاية ، وقيل : واحد بصفاته أحد بذاته ، وقيل : إنَّ الواحد يدلّ على أزليته وأوّليته ، لأنَّ الواحد في الأعداد ركنها وأصلها وميدانها ، والأحد يدل على بينونته من خلقه في جميع الصفات ، ونفي أبواب الشرك عنه ، فالأحد بني لنفي ما يذكر معه من العدد ، والواحد أسم لمفتتح العدد ، فأحد صلح في الكلام في موضع الجحود ، والواحد في موضع الإثبات تقول : لم يأتني منهم أحد وجاءني منهم واحد ،
(10/333)
" صفحة رقم 334 "
فالمعنى أنه لم يأتني أثنان ، وقال ابن الأنباري : أجد في الأصل واحد كما قالوا للمرأة أناة والأصل ونأة من الوني وهو الفتور قال الشاعر :
رمته أناة من ربيعة عامر
نؤوم الضحى في مأتم أي مأتم
وقال النابغة في الواحد :
كأن رحلي وقد زال النهار بنا
بذي الجليل على مستأنس وحد
سمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول : سمعت منصور بن عبد الله يقول : سمعت أبا القاسم البزاز يقول : سمعت ابن عطاء يقول في قوله سبحانه ) قل هو الله أحد ( : هو المنفرد بإيجاد المفقودات والمتحّد بأظهار الخفيّات .
وقراءة العامة ) أحد ( بالتنوين ، وقرأ الحسن ونصر بن عاصم وابن إسحاق وأبان بن عثمان وهارون بن عيسى ) أحد الله ( بلا تنوين طلباً للخفة وفراراً من التقاء الساكنين كقراءة من قرأ ) عزير ابن الله ( بغير تنوين .
الإخلاص : ( 2 ) الله الصمد
وأما قوله : ) الله الصمد ( فأختلفوا فيه فقال ابن عباس ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير : الذي لا جوف له ، وأما سعيد بن المسيب : الذي لا حشو له ، الشعبي : الذي لا يأكل ولا يشرب ، وإليه ذهب الفرضي ، وقيل : يفتره ما بعده .
أخبرنا محمد بن الفضل قال : أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة قال : حدثنا أحمد بن منبع ومحمود بن خراش قال : حدّثنا أبو سعد الصعالي قال : حدّثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب قال : الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت وليس يرث إلا سيورث وأن الله لا يموت ولا يورث .
وقال أبو وائل شفيق بن سلمة : وهو السيّد الذي قد أنتهى سؤدده ، وهي رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : هو السيد الذي قد كمل في جميع أنواع الشرف والسؤدد .
غيره : هو السيد المقصود في الحوائج ، يقول العرب : صمّدت فلاناً أصمده وأصمُده صمْداً بسكون الميم إذا قصدته ، والمصمود صمد كالقبض والنفض ، ويقال : بيت مصمود ومصمّد إذا قصده الناس في حوائجهم قال طرفة :
وأن يلتقي الحي الجميع تلاقني
إلى ذروة البيت الرفيع المصمد
(10/334)
" صفحة رقم 335 "
وأنشد الأئمة في الصمد :
ألا بكر الناعي بخيري بني أسد
بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
وقال قتادة : الصمد : الباقي بعد خلقه ، عاصم ومعمر : هو الدائم ، علي بن موسى الرضا : هو الذي أيست العقول عن الإطلاع على كيفيته ، محمد بن علي الترمذي : هو الأزلي بلا عدد ، والباقي بلا أمد ، والقائم بلا عمد ، الحسين بن الفضل : هو الأزلي بلا أبتداء ، وقيل : هو الذي جلّ عن شبه المصورين وقيل : هو بمعنى نفي التجزؤ والتأليف عن ذاته ، ميسرة : المصمت ، ابن مسعود : الذي ليست له أحشاء ، أبو إسحاق الكوفي عن عكرمة : الصمد الذي ليس فوقه أحد ، وهو قول علي ج .
السدي : هو المقصود إليه في الرغائب المستغاث به عند المصائب ، يمان : الذي لاينام ، كعب الأحبار : الذي لا يكافئه من خلقه أحد . ابن كيسان : الذي لا يوصف بصفته أحد ، مقاتل ابن حيان : الذي لا عيب فيه ، ربيع : الذي لا تعتريه الآفات ، سعيد بن جبير أيضاً : الكامل في جميع صفاته وأفعاله ، الصادق : وهو الغالب الذي لا يغلب ، أبو هريرة : المستغني عن كل أحد والمحتاج إليه كل أحد ، مرّة الهمداني : الذي لا يبلى ولا يغنى ، الحسين بن الفضل أيضاً : هو الذي يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء لا معقّب لحكمه ولا راد لقضائه .
محمد بن علي : الصمد : الذي لا تدركه الأبصار ولا تحويه الأفكار ولا تبلغه الأقطار وكل شي عنده بمقدار .
ابن عطاء : الصمد : الذي لم يتبّين عليه أثر فيما أظهر ، جعفر : الذي لم يعط لخلقه من معرفته الا الاسم والصفة ، جنيد : الذي لم يجعل لأعدائه سبيلا إلى معرفته ، وقيل : هو الذي لا يدرك حقيقة نعوته وصفاته فلا يتسع له اللسان ولا يشير إليه البيان ، ابن عطاء : هو المتعالي عن الكون والفساد ، وقال الواسطي : الذي لا يسحر ولا يستغرق ولا تعترض عليه القواطع والغلل .
وقال جعفر أيضاً : الصمد خمس حروف : فالألف دليل على أحديّته ، واللام دليل على الهيته وهما مدغمان لا يظهران على اللسان ويظهران في الكتابة ، فدلّ على أحديته والهيّته خفية لا يدرك بالحواس ، وأنّه لا يقاس بالناس فخفاءه في اللفظ دليل على أن العقول لا تدركه ولا تحيط به علماً ، وأظهاره في الكتابة دليل على أنه يظهر على قلوب العارفين ، ويبدو لأعين المحبين في دار السلام ، والصاد دليل على صدقه ، فوعده صدق وقوله صدق وفعله صدق ودعا عباده إلى الصدق ، والميم دليل على ملكه فهو الملك على الحقيقة ، والدال علامة دوامه في أبديته وأزليته .
(10/335)
" صفحة رقم 336 "
الإخلاص : ( 3 - 4 ) لم يلد ولم . . . . .
) لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً ( أختلف القراء فيه ، فقرأ حمزة ويعقوب ساكنة الفاء مهموزة ومثله روى العباس عن أبي عمرو وإسماعيل عن نافع ، وقرأ شيبة مشبعة غير مهموزة ومثله روى حفص عن عاصم ، وقرأ الآخرون مثقلاً مهموزاً وكلّها لغات صحيحة فصيحة ومعناه المثل .
) أحد ( أي هو واحد ، وقيل : على التقديم والتأخير مجازه : ) ولم يكن له أحد كفواً ( .
وقال عبد خير : سأل رجل علي بن أبي طالب ج عن تفسير هذه السورة قال : قل هو الله أحد بلا تأويل عدد ، الله الصمد لا يتبعض بدد ، لم يلد فيكون هالكاً ، ولم يولد فيكون إلهاً مُشارَكاً ، ولم يكن له من خلقه كفؤاً أحد .
وأخبرنا أبو عبدالرحمن السلمي بقراءتي قال : سمعت أبا بكر الرازي يقول : سمعت أبا علي الروذباري يقول : وجدنا أنواع الشرك ثمانية : النقص والتقلّب والكثرة والعدد وكونه علّة أو معلولاً ، والأشكال والأضداد ، فنفى الله تعالى عن صفته نوع الكثرة والعدد بقوله : ) قل هو الله أحد ( ونفى التنقّص والتقلّب بقوله : ) الله الصمد ( ونفى العلل والمعلول بقوله : ) لم يلد ولم يولد ( ونفى الأشكال والأضداد بقول : ) ولم يكن له كفواً أحد ( فحصلت الوحدانية البحت لذلك سمّيت سورة الإخلاص .
(10/336)
" صفحة رقم 337 "
( سورة الفلق ) والناس والمعوذتين )
مدنية ، وهي أربع وسبعون حرفاً ، وثلاث وعشرون كلمة ، وخمس آيات
( سورة الفلق )
أخبرنا أبو عمرو الفراتي قال : أخبرنا أبو موسى قال : أخبرنا مكي بن عيدان قال : حدّثنا سليمان بن داود قال : حدّثنا أحمد بن نصر قال : حدّثنا أبو معاذ عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم عن زيد العمي عن أبي نصرة عن ابن عباس عن أُبيّ بن كعب عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من قرأ المعوذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تعالى كلّها ) .
وأخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد العدل قال : حدّثنا أبو العباس محمد ابن يعقوب قال : أخبرنا العباس بن الوليد بن مريد قال : أخبرني أبي قال : حدّثنا الأوزاعي قال : حدّثني يحيى بن أبي كثير قال : حدّثني محمد بن إبراهيم بن الحرث التيمي عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال له : ( ألا أخبرك بأفضل ما تعوذت ) قلت : بلى ، قال : ( قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس ) .
وأخبرنا الحباري قال : حدّثنا ابن عدي قال : حدّثنا إبراهيم بن رحيم قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا الوليد بن مسلم قال : حدّثنا هشام بن الغانم عن يزيد بن يزيد بن جابر عن القاسم أبي عبد الرحمن عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا عقبة ألا أعلمك سورتين هما أفضل القرآن أو من أفضل القرآن ) قلت : بلى يارسول الله ، فعلّمني المعوذتين ثم قرأهما في صلاة الغداة ، وقال : لي ( إقرأهما كلما قمت ونمت ) .
وأخبرنا أبو العباس أحمد بن عمرو العصفري قال : حدّثنا عمر بن عبد المجيد قال : حدّثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح بن أبي غريب عن كثير بن مرّة عن عبد العزيز بن مروان قال : سمعت عقبة بن عامر الجهني يقول : سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إنك لن تقرأ سورة أحب إلى الله
(10/337)
" صفحة رقم 338 "
عزّ وجلّ ولا أقرب عنده من قل أعوذ برب الفلق فأن أستطعت أن لا تدعها في صلاة فأفعل ) .
وأخبرنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب المزكى قال : أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفي قال : حدّثنا معاذ بن نجدة بن العريان قال : حدّثنا خلاد يعني ابن يحيى قال : حدّثنا سفيان عن إسماعيل عن قيس بن أبي حازم عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنزل علي الله سورتان لم أسمع لمثلهن ولم أرى مثلهن : المعوذتين ) .
القصة : قال ابن عباس وعائشة رضى الله عنهما دخل حديث بعضهما في بعض : كان غلام اليهود يخدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فدّبت إليه اليهود فلم يزلوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعدّة أسنان من مشطه فاعطاها اليهود ، فسحروه فيها ، وكان الذي تولى ذلك رجل منهم يقال له لبيد بن أعصم ثم دسّها في بئر لبني زريق يقال له ذروان ، فمرض رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأنتثر شعر رأسه ، ولبث ست أشهر يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ، وجعل يذوب ولا يدري ما عراه ، فبينما هو نائم إذ أتاه ملكان فقعد أحدهم عند رأسه والآخر عند رجليه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : ما بال الرجل ؟ قال : طُب قال : وما طُب ؟ قال : سُحر ، قال : ومن سحره ؟ قال : لبيد ابن أعصم اليهودي ، قال : وبم طبّه ؟ قال : بمشط ومشاطة قال : وأين هو ؟ قال في ( جفّ طلعة ذكر ) تحت راعوفة في بئر ذروان .
والجُف : قشر الطلع ، والراعوفة : حجر في أسفل البئر ناتئ يقوم عليه الماتح ، فانتبه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مذعوراً وقال : ( يا عائشة أما شعرت أن الله سبحانه أخبرني بدائي ) ثم بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علياً والزبير وعمار بن ياسر فنزحوا ماء تلك البئر كأنه نقاعة الحنّاء ، ثم رفعوا الصخرة وأخرجوا الجف فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان من مشطة وإذا فيه وتر معقود فيه إثنا عشر عقدة مغروزة بالإبر فأنزل الله سبحانه هاتين السورتين فجعل كلّما يقرأ آية أنحلت عقدة ، ووجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خفّة حين أنحلت العقدة الأخيرة فقام كأنما أنشط من عقال ، وجعل جبرائيل ( عليه السلام ) يقول : بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من حاسد وعين والله يشفيك ، قال : فقالوا : يا رسول الله أفلا نأخذ الخبيث فنقلته ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أما أنا فقد شفاني الله وأكره أن أُثير على الناس شراً ) .
(10/338)
" صفحة رقم 339 "
قالت عائشة : ما غضب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غضباً ينتقم من أحد لنفسه قط إلاّ أن يكون شيئاً هو لله سبحانه ، فيغضب لله سبحانه وتعالى وينتقم .
التفسير :
2 ( ) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِن شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِى الْعُقَدِ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ( 2
الفلق : ( 1 ) قل أعوذ برب . . . . .
) قل أعوذ بربِّ الفلق ( قال ابن عباس : هو سجن في جهنم ، وحدّثنا يعقوب عن هشيم قال : أخبرنا العوام عن عبد الجبار الجولاني قال : قدم رجل من أصحاب النبي عليه السلام الشام فنظر إلى دور أهل الذمة وما فيها من العيش والنضارة ، وما وسع عليهم في دنياهم فقال : لا أُبالي ، أليس من ورائهم الفلق ؟ قال : قيل : وما الفلق ؟ قال : بيت إذا انفتح صاح جميع أهل النار من شدُّة حرَّه .
وقال أبو عبد الرحمن الحبلي : الفلق هي جهنم ، وقال جابر بن عبد الله والحسن وسعيد ابن جبير ومجاهد وقتادة والقرظي وابن زيد : الفلق : الصبح ، وإليه ذهب ابن عباس ، ودليل هذا التأويل قوله تعالى : ) فالق الإصباح ( .
الضحّاك والوالبي عن ابن عباس : معنى الفلق : الخلق . وهب : هو باب في جهنم .
الكلبي : هو واد في جهنم ، وقال عبد الله بن عمرو : شجرة في النار ، وقيل : الفلق الجبال والصخور تنفلق بالمياه أي تتشقق ، وقيل : هو الرحم تنفلق عن الحيوان ، وقيل : الحبَّ والنوى تنفلق عن التراب ، دليله قوله سبحانه وتعالى : ) فالق الحبِّ والنوى ( والأصل فيه الشق .
وقال محمد بن علي الترمذي في هذه : كشف الله تعالى على قلوب خواص عباده فقذف النور فيها ، فانفلق الحجاب وانكشف الغطاء .
الفلق : ( 2 - 3 ) من شر ما . . . . .
) من شرِّ ما خلق ومن شرِّ غاسق اذا وقب ( .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو برزة أو أحد بني شريك البزار قال : حدّثنا آدم بن أبي أياس قال : حدّثنا ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبد الرحمن عن عائشة قالت : أخذ رسول الله عليه السلام بيدي فأشار إلى القمر فقال : ( يا عائشة استعيذي بالله من شرِّ هذا ؛ فإنّ هذا الغاسق إذا وقب ) .
(10/339)
" صفحة رقم 340 "
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا عبد الرحمن بن خرزاد البصري بمكة قال : حدّثنا نصر بن علي قال : حدّثنا بكار بن عبد الله قال : حدّثنا ابن عمر بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله سبحانه وتعالى : ) ومن شرِّ غاسق إذا وقب ( قال : النجم إذا طلع .
وقال ابن عباس والحسن ومجاهد والقرظي والفرّاء وأبو عبيدة وابن قتيبة والزجّاج : الليل .
قال ابن زيد : يعني والثريا إذ سقطت ، قال : وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها ، وأصل الغسق الظلمة والوقوف ( . . . . ) إذا دخل وقال : أمان سكن نظلامه .
وقيل : سُمّي الليل غاسقاً لأنه أبرد من النهار ، والغاسق : البارد ، والغسق : البرد .
الفلق : ( 4 ) ومن شر النفاثات . . . . .
) ومن شرِّ النفاثات في العقد ( يعني الساحرات اللائي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها ، والنفث : وشبه النفخ كما يعمل من يرقي . قال عنترة :
فإن يبرأ فلم أنفث عليه
وإنَّ يفقد محقّ له العقود
وقرأ عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن سابط : من شرِّ النافثات في وزن : فاعلات .
الفلق : ( 5 ) ومن شر حاسد . . . . .
) من شرِّ حاسد إذا حسد ( قال الحسين بن الفضل : إنَّ الله جمع الشرور في هذه الآية وختمها بالحسد ليعلم أنه أخسّ الطبائع .
(10/340)
" صفحة رقم 341 "
( سورة الناس )
مدنية ، وهي سبعة وسبعون حرفاً ، وعشرون كلمة ، وست آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَاهِ النَّاسِ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِى يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ( 2
الناس : ( 1 - 4 ) قل أعوذ برب . . . . .
) قل أعوذ بربِّ الناس ملك الناس إله الناس من شرِّ الوسواس ( يعني الشيطان ، ويكون مصدراً واسماً.
(10/341)