الكتاب : الكشف والبيان ـ موافق للمطبوع
المؤلف: أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري
دار النشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان - 1422 هـ - 2002 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 10
تحقيق : الإمام أبي محمد بن عاشور
مراجعة وتدقيق الأستاذ نظير الساعدي
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ]
" صفحة رقم 32 "
فأبى المشركون وقاتلوهم فذلك بغيهم عليه ، وثبت المسلمون لهم فنُصروا عليهم ، فأنزل الله سبحانه هذه الآيات ، والعقاب الأول بمعنى الجزاء .
2 ( ) ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الاَْرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَّهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِى الاَْرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الاَْرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ وَهُوَ الَّذِىأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِى الاَْمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَآءِ وَالاَْرْضِ إِنَّ ذالِكَ فِى كِتَابٍ إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِى وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذالِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( 2
الحج : ( 61 ) ذلك بأن الله . . . . .
) ذَلِكَ ( يعني هذا الذي أنصر المظلوم بأنّي القادر على ما أشاء ، فمن قدرته أنّه ) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (
الحج : ( 62 ) ذلك بأن الله . . . . .
) ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ ( بالياء بصري كوفي غير أبي بكر ، الباقون : بالتاء ) مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ ( فلا شيء أعلى منه ولأنّه تعالى عن الأشباه والأشكال ) الْكَبِيرُ ( العظيم الذي كلّ شيء دونه فلا شيء أعظم منه .
الحج : ( 63 ) ألم تر أن . . . . .
) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الاْرْضُ مُخْضَرَّةً ( بالنبات ، رفع فتصبح لأن ظاهر الآية استفهام ومعناه الخبر ، مجازها : اعلم يا محمّد أن الله ينزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرّة ، وإن شئت قلت : قد رأيت أنَّ الله أنزل من السماء ماءً ، كقول الشاعر :
ألم تسألِ الربع القديم فينطق
وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق
معناه : قد سألته فنطق .
) إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (
الحج : ( 64 - 65 ) له ما في . . . . .
) لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الاْرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى
(7/32)
" صفحة رقم 33 "
الاْرْضِ ( يعني لكيلا تسقط على الأرض ) إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (
الحج : ( 66 ) وهو الذي أحياكم . . . . .
) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ( ولم تكونوا شيئاً ) ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ( عند انقضاء آجالكم وفناء أعماركم ) ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ( للثواب والعقاب ) إِنَّ الاْنسَانَ لَكَفُورٌ ( لجحود لما ظهر من الآيات والدلالات .
الحج : ( 67 ) لكل أمة جعلنا . . . . .
) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً ( مألفاً يألفونه وموضعاً يعتادونه لعبادة الله ، وأصل المنسك في كلام العرب الموضع المعتاد لعمل خير أو شرّ يقال : إن لفلان منسكاً أي مكاناً يغشاه ويألفه للعبادة ، ومنه مناسك الحج لتردّد الناس إلى الأماكن التي تعمل فيها أعمال الحج والعمرة . وقال ابن عباس : ) لكل أمة جعلنا منسكاً ( أي عيداً . وقال مجاهد وقتادة : موضع قربان يذبحون فيه ، غيرهم : أراد جميع العبادات .
) فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الاْمْرِ ( أي في أمر الذبح ، نزلت في بديل بن ورقاء وبشر بن سفيان ويزيد بن الخنيس قالوا لأصحاب رسول الله ( عليه السلام ) : ما لكم تأكلون ما تقتلون بأيديكم ولا تأكلون ما قتله الله ؟ ) .
) وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ ( دين ربّك ) إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيم (
الحج : ( 68 - 69 ) وإن جادلوك فقل . . . . .
) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلْ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( فتعرفون حينئذ المحقّ من المبطل والاختلاف ذهاب كلّ واحد من الخصمين إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر ، وهذا أدب حسنٌ علّم الله سبحانه فيمن جادل على سبيل التعنّت والمراء كفعل السفهاء أن لا يجادل ولا يناظر ، ويدفع بهذا القول الذي علّمه الله سبحانه لنبيّه ( عليه السلام )
الحج : ( 70 ) ألم تعلم أن . . . . .
) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالاْرْضِ إِنَّ ذَلِكَ ( كلّه ) فِي كِتَاب ( يعني اللوح المحفوظ ) إِنَّ ذَلِكَ ( يعني علمه تعالى بجميع ذلك ) عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (
الحج : ( 71 ) ويعبدون من دون . . . . .
) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ ( الكافرين ) مِنْ نَصِير ( يمنعهم من عذاب الله .
الحج : ( 72 ) وإذا تتلى عليهم . . . . .
) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَات تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ ( بيّن ذلك في وجوههم بالكراهة والعبوس .
) يَكَادُونَ يَسْطُونَ ( يقعون ويبطشون ) بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا ( وأصل السطو : القهر .
) قُلْ ( يا محمد لهم ) أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرّ مِنْ ذَلِكُمْ ( أي بشرّ لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون ) النَّارُ ( أي هي النار ) وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( .
2 ( ) ياأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ اللَّهُ يَصْطَفِى مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّه
(7/33)
" صفحة رقم 34 "
َ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاُْمُورُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ وَافْعَلُواْ الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَجَاهِدُوا فِى اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِى هَاذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلَواةَ وَءَاتُواْ الزَّكَواةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ( 2
الحج : ( 73 ) يا أيها الناس . . . . .
) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ ( معنى ضرب : جعل ، كقولهم : ضرب السلطان البعث على الناس ، وضرب الجزية على أهل الذمّة أي جعل ذلك عليهم ، ومنه قوله ) وضربت عليهم الذلة والمسكنة ( والمثل حالة ثابتة تشبه بالأُولى في الذكر الذي صار كالعلم ، وأصله الشبه ، ومعنى الآية : جعل لي المشركون الأصنام شركائي فعبدوها معي .
) فَاسْتَمِعُوا لَهُ ( حالها وصفتها التي بيّنت وشبّهتها بها ، ثم بيّن ذلك فقال عزَّ من قائل ) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ( قراءة العامة بالتاء ، وروى زيد عن يعقوب يدعون بالياء ) لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً ( في صغره وقلّته لأنّها لا تقدر على ذلك ) وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ ( لخلقه ، والذباب واحد وجمعها القليل أذبنة والكثير ذبّان ، مثل غراب وأغربة وغربان ) وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ ( يعني الأصنام ، أخبر عنها بفعل ما يعقل ، وقد مضت هذه المسألة ، يقول : وإن يسلبهم ) الذُّبَابُ شَيْئاً ( مما عليهم ) لاَ ( يقدرون أن ) يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ( .
قال ابن عباس : الطالب الذباب والمطلوب الصنم ، وذلك أن الكفّار كانوا يلطّخون أصنامهم بالعسل في كلّ سنة ثم يغلقون عليها أبواب البيوت فيدخل الذبّان في الكوى فيأكل ذلك العسل وينقيها منه فإذا رأوا ذلك قالوا : أكلت آلهتنا العسل .
الضحّاك : يعني العابد والمعبود .
ابن زيد وابن كيسان : كانوا يحلّون الأصنام باليواقيت واللآلي وأنواع الجواهر ويطيّبونها بألوان الطيب ، فربما يسقط واحد منها أو يأخذها طائر أو ذباب فلا تقدر الآلهة على استردادها ، فالطالب على هذا التأويل الصنم والمطلوب الذباب والطائر .
الحج : ( 74 ) ما قدروا الله . . . . .
) مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ( أي ما عظّموا الله حقّ تعظيمه ، ولا عرفوه حقّ معرفته ولا وصفوه حقّ صفته إذ أشركوا به مالا يمتنع من الذباب ولا ينتصف به .
) إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }
الحج : ( 75 ) الله يصطفي من . . . . .
) اللهُ يَصْطَفِي ( يختار ) مِنْ الْمَلاَئِكَةِ رُسُلا ( كجبرئيل وميكائيل وغيرهما ) وَمِنْ النَّاسِ ( أيضاً رسلاً مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وغيرهم من الأنبياء
(7/34)
" صفحة رقم 35 "
صلوات الله عليهم ، يقال : نزلت هذه الآية لمّا قال المشركون ) أألقي الذكر عليه من بيننا ( فأخبر أن الاختيار إليه ، يختار من يشاء من خلقه .
) إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ ( لقولهم ) بَصِيرٌ ( بمن يختاره لرسالته .
الحج : ( 76 ) يعلم ما بين . . . . .
) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ( يعني ما كان بين أيدي ملائكته ورسله قبل أن يخلقهم .
) وَمَا خَلْفَهُمْ ( ويعلم ما هو كائن بعد فنائهم .
وقال الحسن : ما بين أيديهم ماعملوه ، وما خلفهم ما هم عاملون ممّا لم يعملوه بعد .
الحج : ( 77 ) يا أيها الذين . . . . .
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( .
أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدَّثنا محمد بن يحيى قال : وفيما قرأت على عبد الله بن نافع ، وحدّثني مطرف بن عبد الله عن مالك عن نافع أنّ رجلاً من أهل مصر أخبر عبد الله بن عمر أنَّ عمر بن الخطاب ح قرأ سورة الحج فسجد فيها سجدتين ثمَّ قال : انَّ هذه السورة فضلّت بسجدتين .
وبإسناده عن مالك عن عبد الله بن دينار أنّه قال : رأيت عبد الله بن عمر سجد في الحج سجدتين .
وأخبرنا أبو بكر الجوزقي قال : أخبرنا أبو العباس الدعولي قال : حدَّثنا ابن أبي خيثمة قال : حدَّثنا أبو سلمة الخزاعي منصور بن سلمة قال : حدَّثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن صفوان بن مهران أن أبا موسى قرأ على منبر البصرة سورة الحج ، فنزل فسجد فيها سجدتين .
وحدَّثنا أبو محمد المخلّدي قال : أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم قال : حدَّثنا محمد ابن مسلم بن دارة قال : حدَّثنا محمد بن موسى بن أعين قال : قرأت على أبي عن عمرو بن الحرث عن ابن لهيعة ان شريح بن عاها حدّثه عن عقبة بن عامر قال : قلت : يا رسول الله في سورة الحج سجدتان ؟ قال : نعم إن لم تسجدهما فلا تقرأهما .
الحج : ( 78 ) وجاهدوا في الله . . . . .
) وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ ( يعني وجاهدوا في سبيل الله أعداء الله حق جهاده ، وهو استفراغ الطاقة فيه ، قاله ابن عباس ، وعنه أيضاً : لا تخافوا في الله لومة لائم وذلك حق الجهاد .
وقال الضحاك ومقاتل : يعني اعملوا لله بالحقّ حقّ عمله ، واعبدوه حقّ عبادته .
عبد الله بن المبارك : هو مجاهدة النفس والهوى وذلك حقّ الجهاد ، وهو الجهاد الأكبر
(7/35)
" صفحة رقم 36 "
على ما روي في الخبر أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال حين رجع من بعض غزواته : ( رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الاكبر ) .
) هُوَ اجْتَبَاكُمْ ( اختاركم لدينه ) وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج ( ضيق فلا يبتلي المؤمن بشيء من الذنوب إلاّ جعل له منه مخرجاً بعضها بالتوبة وبعضها بالقصاص وبعضها برد المظالم وبعضها بأنواع الكفّارات ، فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد سبيلاً إلى الخلاص من العقاب فيه ، ولا ذنب يذنبه المؤمن إلاّ وله منه في دين الإسلام مخرج ، وهذا معنى رواية علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه حين سأله عبد الملك بن مروان عن هذه الآية فقال : جعل الله الكفارات مخرجاً من ذلك ، سمعت ابن عباس يقول ذلك .
وقال بعضهم : معناه وما جعل عليكم في الدين من ضيق في أوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر والأضحى ووقت الحج إذا التبست عليكم وشكّ الناس فيها ، ولكنّه وسّع ذلك عليكم حتى تتيقّنوا محلها ) مِلَّةَ ( أبيكم أي كملّة ) أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ( نصب بنزع حرف الصفة ، عن الفرّاء ، غيره : نصب على الاغراء أي الزموا واتّبعوا ملّة أبيكم إبراهيم ، وإنّما أمركم باتباع ملّة إبراهيم لأنّها داخلة في ملّة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
وأمّا وجه قوله سبحانه ( ملّة أبيكم ) وليس جميعهم يرجع إلى ولادة إبراهيم فإنّ معناه : إنّ حرمة إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد ، كما قال سبحانه ) وأزواجه أُمهاتهم ( وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّما أنا لكم مثل الوالد ) ، وهذا معنى قول الحسن البصري ( رحمه الله ) .
) هُوَ ( يعني الله سبحانه وتعالى ) سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ ( يعني من قبل نزول القرآن في الكتب المتقدمة ) وَفِي هَذَا ( الكتاب هذا قول أكثر المفسرين .
وقال ابن زيد : هو راجع إلى إبراهيم ( عليه السلام ) يعني أنّ إبراهيم سمّاكم المسلمين من قبل أي من قبل هذا الوقت في أيام إبراهيم ) وفي هذا ( الوقت ، قال : وهو قول إبراهيم ) ربّنا واجعلنا مسلِمَين لك ومن ذريّتنا أمّة مسلمة لك ( والقول الأول أولى بالصواب .
) لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ ( أن قد بلّغكم ) وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ( أن رسلهم قد بلّغتهم ) فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ ( وثقوا بالله وتوكّلوا عليه .
وقال الحسن : تمسّكوا بدين الله الذي لطف به لعباده .
) هُوَ مَوْلاَكُمْ ( وليّكم وناصركم ومتولي أمركم ) فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (
.
(7/36)
" صفحة رقم 37 "
( سورة المؤمنون )
مكيّة ، وهي أربعة آلاف وثمانمائة وحرفان ، وألف وثمانمائة وأربعون كلمة ، ومائة وثماني عشرة آية
أخبرنا أبو الحسن الخباري قال : حدَّثنا ابن حبش قال : حدّثني أبو العباس محمد بن موسى الدقاق الرازي قال : حدَّثنا عبد الله بن روح المدائني قال : وحدَّثنا طفران قال : حدَّثنا ابن أبي داود قال : حدَّثنا محمد بن عاصم قال : حدَّثنا نسابة بن سوار الفزاري قال : حدَّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي بن زيد عن عطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَن قرأ سورة المؤمنين بشّرته الملائكة بالرَّوح والريحان وما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
2 ( ) قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَواةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَآءَ ذالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لاَِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَائِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 2
المؤمنون : ( 1 ) قد أفلح المؤمنون
) قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ( قد حرف تأكيد ، وقال المحققون : معنى قد تقريب بالماضي من الحال ، فدلَّ على أنّ فلاحهم قد حصل وهم عليه في الحال ، وهذا أبلغ في الصفة من تجريد ذكر الفلاح ، والفلاح : النجاح والبقاء .
أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن الحسن المفسّر بقراءته عليَّ في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة قال : أخبرنا أبو عمرو المعتزّ بن محمد بن الفضل القاضي قال : حدَّثنا أحمد بن الحسين الفريابي قال : حدَّثنا عبد الرحيم بن حبيب البغدادي عن إسحاق بن تجيح الملطي عن
(7/37)
" صفحة رقم 38 "
ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لمّا خلق الله سبحانه جنّة عدن خلق فيها ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ثمَّ قال لها : تكلّمي ، قالت : قد أفلح المؤمنون ثلاثاً ثمَّ قالت : أنا حرام على كلّ بخيل ومرائي ) .
وقرأطلحة بن مصرف : قد أُفلح المؤمنون على المجهول ، أي أُبقوا في الثواب .
المؤمنون : ( 2 ) الذين هم في . . . . .
) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ( اختلف المفسّرون في معنى الخشوع ، فقال ابن عباس : مخبتون أذلاّء ، الحسن وقتادة : خائفون .
مقاتل : متواضعون على الخشوع في القلب ، وأن تلين للمرء المسلم كنفك ولا تلتفت .
مجاهد : هو غضّ البصر وخفض الجناح وكان الرجل من العلماء إذا قام إلى الصلاة هاب الرَّحْمن أن يمدّ بصره إلى شيء أو أن يحدّث نفسه بشيء من شأن الدنيا .
عمرو بن دينار : ليس الخشوع الركوع والسجود ولكنّه السكون وحسن الهيئة في الصلاة .
ابن سيرين وغيره : هو أن لا ترفع بصرك عن موضع سجودك .
قالوا : وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء وينظرون يميناً ويساراً حتى نزلت هذه الآية ، فجعلوا بعد ذلك وجوههم حيث يسجدون ، وما رؤي بعد ذلك أحد منهم ينظر ألاّ إلى الأرض .
ربيع : هو أن لا يلتفت يميناً ولا شمالاً .
أخبرنا أبو عمرو الفراتي قال : أخبرنا أبو موسى قال : حدَّثنا السراج قال : حدَّثنا محمد بن الصباح قال : أخبرنا إسحاق بن سليمان قال : حدَّثنا إبراهيم الخوزي عن عطاء بن أبي رباح قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) انَّ العبد إذا قام إلى الصلاة فإنّه بين عينيّ الرَّحْمان عزّ وجلّ فإذا التفت قال له الربّ : إلى من تلتفت ؟ إلى من هو خير لك منّي ؟ ابن آدم أقبل إليَّ فأنا خيرٌ ممّن تلتفت إليه .
عطاء : هو أن لا تعبث بشيء من جسدك في الصلاة ، وأبصر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال : لو خشع قلب هذا خشعت جوارحه .
وأخبرنا محمد بن أحمد بن عقيل القطان قال : أخبرنا صاحب بن أحمد بن ترحم بن سفيان قال : حدَّثنا أبو عبد الرَّحْمن بن نبيت المروزي عبدان قال : حدَّثنا عبد الله بن المبارك عن
(7/38)
" صفحة رقم 39 "
معمّر أنه سمع الزهري يحدّث عن أبي الاحوص عن أبي ذر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإنّ الرحمة تواجهه فلا يحرّكن الحصى ) .
ويقال : نظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصى ويقول : اللهم زوّجني من الحور العين ، فقال : بئس الخاطب أنت تخطب وأنت تعبث .
خليد بن دعلج عن قتادة : هو وضع اليمين على الشمال في الصلاة .
بعضهم : هو جمع الهمّة لها وإلاعراض عمّا سواها .
أبو بكر الواسطي : هو الصلاة لله سبحانه على الخلوص من غير عوض .
سمعت ابن الإمام يقول : سمعت ابن مقسم يقول : سمعت أبا الفضل جعفر بن أحمد الصيدلي يقول : سمعت ابن أبي الورد يقول : يحتاج المصلي إلى أربع خلال حتى يكون خاشعاً : إعظام المقام ، وإخلاص المقال ، واليقين التمام ، وجمع الهمّة .
المؤمنون : ( 3 ) والذين هم عن . . . . .
) وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ( قال الحسن : عن المعاصي ، ابن عباس : الحلف الكاذب ، مقاتل : الشتم والأذى ، غيرهم : ما لا يحمل من القول والفعل ، وقيل : اللغو الفعل الذي لا فائدة فيه .
المؤمنون : ( 4 ) والذين هم للزكاة . . . . .
) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ ( الواجبة ) فَاعِلُونَ ( مؤدّون ، وهي فصيحة وقد جاءت في كلام العرب قال أُميّة بن أبي الصلت :
المطعمون الطعام في السنة
الأزمة والفاعلون للزكوات
المؤمنون : ( 5 - 6 ) والذين هم لفروجهم . . . . .
) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ ( أي من أزواجهم ، على بمعنى من ) أوْ مَا ( في محل الخفض يعني أو من ما ) مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ( على إتيان نسائهم وإمائهم .
المؤمنون : ( 7 ) فمن ابتغى وراء . . . . .
) فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ ( أي التمس وطلب سوى زوجته وملك يمينه ) فَأُولَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ ( من الحلال إلى الحرام ، فمن زنى فهو عاد .
المؤمنون : ( 8 ) والذين هم لأماناتهم . . . . .
) وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَانَاتِهِمْ ( التي ائتمنوا عليها ) وَعَهْدِهِمْ ( وعقودهم التي عاقدوا الناس عليها ) رَاعُونَ ( حافظون وافون .
وقرأ ابن كثير : لأمانتهم على الواحد لقوله : ( وعهدهم ) . الباقون : بالجمع لقوله ) انَّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها ( .
(7/39)
" صفحة رقم 40 "
المؤمنون : ( 9 ) والذين هم على . . . . .
) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( يداومون على فعلها ويراعون أوقاتها ، فأمر بالمحافظة عليها كما أمر بالخشوع فيها لذلك كرّر ذكر الصلاة .
المؤمنون : ( 10 ) أولئك هم الوارثون
) أُولَئِكَ ( أهل هذه الصفة ) هُمْ الْوَارِثُونَ ( يوم القيامة منازل أهل الجنة من الجنة .
وروى أبو هريرة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ما منكم من أحد إلاّ وله منزل في الجنة ومنزل في النار ، فإن مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله ، فذلك قوله تعالى ) أُولئك هم الوارثون ( .
وقال مجاهد : لكل واحد منزلان : منزل في الجنة ومنزل في النار ، فأمّا المؤمن فيبنى منزله الذي له في الجنة ، ويهدم منزله الذي هو في النار ، وأما الكافر فيهدم منزله الذي في الجنة ، ويبنى منزله الذي في النار .
وقال بعضهم : معنى الوراثة هو أنّه يؤول أمرهم إلى الجنة وينالونها كما يؤول أمر الميراث إلى الوارث .
المؤمنون : ( 11 ) الذين يرثون الفردوس . . . . .
) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ( أي البستان ذا الكرم ، قال مجاهد : هي بالرومية ، عكرمة : هي الجنة بلسان الحبش ، السدّي : هي البساتين عليها الحيطان بلسان الروم .
وفي الحديث : إن حارثة بن سراقة قُتل يوم بدر فقالت أُمّه : يا رسول الله إن كان ابني من أهل الجنة لم أبك عليه ، وإن كان من أهل النار بالغت في البكاء ، فقال : ( يا أُمّ حارثة إنّها جنان وإنّ ابنك قد أصاب الفردوس الأعلى من الجنة ) .
أخبرني أبو الحسن عبد الرَّحْمن بن إبراهيم بن محمد الطبراني بها قال : حدَّثنا أبو عبد الله محمد بن يونس بن إبراهيم بن النضر المقري قال : حدَّثنا العباس بن الفضل المقري قال : حدَّثنا أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم قال : حدَّثنا يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي قال : حدّثني عبد الله بن لهيعة الحضرمي قال : حدَّثنا عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله سبحانه ) قد أفلح المؤمنون ( يعني قد سعد المصدّقون بتوحيد الله سبحانه ، ثم نعتهم ووصف أعمالهم فقال عزَّ من قائل ) الذين هم في صلاتهم خاشعون ( يعني متواضعين لا يعرف من على يمينه ولا من على يساره ، ولا يلتفت من الخشوع لله ) والذين هم عن اللغو معرضون ( يعني الباطل والكذب ) والذين هم للزكوة فاعلون ( يعني الأموال كقوله سبحانه في الأعلى ) قد أفلح من تزكّى ( يعني من ماله ) والذين هم لفروجهم حافظون ( يعني عن الفواحش ، ثم قال ) إلا
(7/40)
" صفحة رقم 41 "
على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ( يعني ولائدهم ) فإنّهم غير ملومين ( لا يُلامون على جماع أزواجهم وولائدهم ) فمن ابتغى وراء ذلك ( فمن طلب الفواحش بعد الأزواج والولائد ما لم يحلّ ) فاولئك هم العادون ( يعني المعتدين في دينهم ) والذين هم لأماناتهم ( يعني ما ائتمنوا عليه فيما بينهم وبين الناس ) وعهدهم راعون ( يعني حافظين يؤدّون الأمانة ويوفون بالعهود ) والذين هم على صلوتهم يحافظون ( يعني يحافظون عليها في مواقيتها ، ثمَّ أخبر بثوابهم فقال ) اولئك هم الوارثون ( ثمَّ بين مايرثون فقال ) الذين يرثون الفردوس ( يعني الجنة بلسان الرومية ) هم فيها خالدون ( لا يموتون فيها .
أخبرنا محمد بن عقيل القطان قال : أخبرنا حاجب بن أحمد بن سفيان قال : حدَّثنا محمد بن حماد البيوردي قال : حدَّثنا عبد الرزاق قال : أخبرني يونس بن سليم قال أملى علىّ صاحب ايلة عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عبد الرَّحْمن بن عبد القاري قال : سمعت عمر بن الخطاب ح يقول : كان إذا نزل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الوحي يُسمع عند وجهه كدوىّ النحل ، فمكثنا ساعة فاستقبل ورفع يديه فقال : ( اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تُهنّا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وارض عنّا ، ثمَّ قال : لقد أُنزل علينا عشر آيات من أقامهن دخل الجنّة ، ثمَّ قرأ ) قد أفلح المؤمنون ( عشر آيات ) .
( ) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِى قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذالِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِى الاَْرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلأَكِلِيِنَ وَإِنَّ لَكُمْ فِى الاَْنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ ياَقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلَؤُا الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لاََنزَلَ مَلَائِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَاذَا فِىءَابَآئِنَا الاَْوَّلِينَ إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّى حِينٍ قَالَ رَبِّ انصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ (
(7/41)
" صفحة رقم 42 "
المؤمنون : ( 12 ) ولقد خلقنا الإنسان . . . . .
) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الاْنسَانَ ( يعني ابن آدم ) مِنْ سُلاَلَة مِنْ طِين ( أي من صفوة ماء آدم الذي هو من الطين ومنيّه والعرب تسمّي نطفة الشيء وولده سليله وسلالته لأنّهما مسلولان منه . قال الشاعر :
حملت به عَضب الأديم غضنفراً
سلالة فرج كان غير حصين
وقال آخر :
وهل كنت إلاّ مهرة عربية
سليلة أفراس تجلّلها بغل
المؤمنون : ( 13 ) ثم جعلناه نطفة . . . . .
) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَار مَكِين ( حريز مكين لاستقرارها فيه إلى بلوغ أمدها وهو الرحم .
المؤمنون : ( 14 ) ثم خلقنا النطفة . . . . .
) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً ( قرأ ابن عامر عظماً على الواحد في الحرفين ، ومثله روى أبو بكر عن عاصم لقوله لحماً ، وقرأ الآخرون بالجمع لأنّ إلانسان ذو عظام كثيرة .
) فَكَسَوْنَا ( فألبسنا ) الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ ( اختلف المفسرون فيه . قال ابن عباس ومجاهد والشعبي وعكرمة وأبو العالية والضحاك وابن زيد : نفخ الروح فيه .
قتادة : نبات الأسنان والشعر .
ابن عمر : استواء الشباب ، وهي رواية ابن أبي نجيح وابن جريج عن مجاهد .
وروى العوفي عن ابن عباس : إنّ ذلك تصريف أُحواله بعد الولادة ، يقول : خرج من بطن أُمّه بعد ما خلق فكان من بدو خلقه الآخر أن استهلّ ، ثمَّ كان من خلقه أن دُلّ على ثدي أُمّة ، ثمّ كان من خلقه أن عُلّم كيف يبسط رجليه ، إلى أن قعد ، إلى أن حبا ، إلى أن قام على رجليه ، إلى أن
(7/42)
" صفحة رقم 43 "
مشى ، إلى أن فطم ، فعلم كيف يشرب ويأكل من الطعام ، إلى أن بلغ الحلمَ ، إلى أن بلغ ان يتقلّب في البلاد .
وقيل : الذكورة والأُنوثية ، وقيل : إعطاء العقل والفهم .
) فَتَبَارَكَ اللهُ ( أي استحق التعظيم والثناء بأنّه لم يزل ولا يزال وأصله من البروك وهو الثبوت .
) أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( أي المصوّرين والمقدّرين ، مجاهد : يصنعون و يصنع الله والله خير الصانعين .
ابن جريج : إنما جمع الخالقين لأنّ عيسى كان يخلق ، فأخبر جلَّ ثناؤه أنّه يخلقُ أحسن ممّا كان يخلق .
وروى أبو الخليل عن أبي قتادة قال : لمّا نزلت هذه الآية إلى آخرها قال عمر بن الخطاب ح ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) فنزلت ) فتبارك الله أحسن الخالقين ( .
قال ابن عباس : كان ابن أبي سرح يكتب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأملى عليه هذه الآية ، فلمّا بلغ قوله ) خلقاً آخر ( خطر بباله ) فتبارك الله أحسن الخالقين ( فلمّا أملاها كذلك لرسول الله قال عبد الله : إن كان محمد نبيّاً يوحى إليه فانا نبىّ يوحى إليّ ، فلحق بمكة كافراً .
المؤمنون : ( 15 ) ثم إنكم بعد . . . . .
) ثمَّ إنكم بعد ذلك لميّتُونَ ( قرأ أشهب العقيلي لمايتون بالألف ، والميّت والمائت ، الذي لم يفارقه الروح بعد وهو سيموت ، والميْت بالتخفيف : الذي فارقه الروح ، فلذلك لم تخفف ههنا كقوله سبحانه وتعالى ) إنك ميت وإنهم ميتون 2 )
المؤمنون : ( 16 - 17 ) ثم إنكم يوم . . . . .
) ثمَّ إنّكم يوم القيامة تُبعثُونَ ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائقَ ( وإِنما قيل : طرائق لأن بعضهنّ فوق بعض ، فكلّ سماء منهنّ طريقة ، والعرب تسمّي كلّ شيء فوق شيء طريقة ، وقيل : لأنّها طرائق الملائكة .
) وما كنّا عن الخلق غافلين ( يعني عن خلق السماء ، قاله بعض العلماء ، وقال أكثر المفسرين : يعني عمّن خلقنا من الخلق كلّهم ماكنّا غافلين عنهم ، بل كنّا لهم حافظين من أن تسقط عليهم فتهلكهم .
وقال أهل المعاني : معنى الآية : إنّ من جاز عليه الغفلة عن العباد جاز عليه الغفلة عن الطرائق التي فوقهم فتسقط فالله عزّ وجلّ ) يمسك السموات أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه ( ولولا إمساكه لها لم تقف طرفة عين .
قال الحسن : وما كنّا عن الخلق غافلين أن ينزل عليهم ما يجيئهم من المطر .
المؤمنون : ( 18 ) وأنزلنا من السماء . . . . .
) وأنزلنا من السماء ماء بَقَدَر فأسكنّاه في الأرض ( ثمَّ أخرجنا منها ينابيع فماء الأرض هو من السماء .
) وإنّا على ذهاب به لقادرونَ ( حتى تهلكوا عطشاً وتهلك مواشيكم وتخرب أراضيكم .
المؤمنون : ( 19 ) فأنشأنا لكم به . . . . .
) فانشأنا لكم به ( بالماء ) جنّات من نخيل وأعناب لكم فيها ( يعني في الجنّات ) فواكه كثيرة ومنها تأكلون ( شتاء وصيفاً ، وإنّما خصّ النخيل والأعناب بالذكر لأنّهما كانا أعظم ثمار الحجاز وما والاها ، فكانت النخيل لأهل المدينة ، والأعناب لأهل الطائف ، فذكر القوم ما يعرفون من نعمه
(7/43)
" صفحة رقم 44 "
المؤمنون : ( 20 ) وشجرة تخرج من . . . . .
) وشجرة ( يعني وأنشأنا لكم أيضاً شجرة ) تخرجُ من طور سيناء ( وهي الزيتون ، واختلف القُرّاء في سيناء ، فكسر سينه أبو عمرو وأهل الحجاز ، وفتحه الباقون ، واختلف العلماء في معناه ، فقال مجاهد : معناه البركة ، يعني : إنه جبل مبارك ، وهي رواية عطية عن ابن عباس ، قتادة والحسن والضحّاك : طور سيناء بالنبطية : الجبل الحسن .
ابن زيد : هو الجبل الذي نودي منه موسى عليه السلام ، وهو بين مصر وأيلة ، معمر وغيره : جبل ذو شجر ، بعضهم : هو بالسريانية الملتفّة الاشجار ، وقيل : هو كلّ جبل ذي أشجار مثمرة ، وقيل : هو متعال من السّنا وهو الارتفاع .
قال مقاتل : خُصّ الطور بالزيتون لأن أول الزيتون نبت بها ، ويقال : إنّ الزيتون أول شجرة نبتت في الدنيا بعد الطوفان .
) تنبت بالدُّهن ( وأكثر القراء على فتح التاء الأَوّل من قوله تنبت وضم بائه ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بضم التاء وكسر الباء ولها وجهان :
أحدهما : أن الباء فيه زائدة كما يقال : أخذت ثوبه وأخذت بثوبه ، وكقول الراجز :
نحن بنو جعدة أصحاب الفلج
نضرب بالسيف ونرجو بالفرج
أي ونرجو الفرج .
والوجه الآخر : أنّهما لغتان بمعنى واحد نبت وأنبت ، قال زهير :
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم
قطينا لهم حتى إذا أنبت البقل
أي نبت ) وصبغ للآكلين ( أي إدام نصطبغ به
المؤمنون : ( 21 ) وإن لكم في . . . . .
) وإنّ لكم في الانعام لعبرة ( وهي الدلالة الموصلة إلى اليقين المؤدىّ به إلى العلم وهي من العبور كأنه طريق يُعبر إليه ويتوصل به إلى المراد .
) نسقيكم ممّا في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون }
المؤمنون : ( 22 - 23 ) وعليها وعلى الفلك . . . . .
) وعليها وعلى الفلك تحملون ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ( قال ابن عباس : سمّي بذلك لكثرة ماناح على نفسه ، واختلف في سبب نوحه ، فقال بعضهم : لدعوته على قومه بالهلاك حيث قال ) ربِّ لا تذرْ على الأرض من الكافرين ديّاراً ( وقيل : لمراجعته ربّه في شأن أُمته ، وقيل : لأنّه مرَّ بكلب مجذوم ، فقال : إخسأ يا قبيح فأوحى الله سبحانه إليه : أعبتني أم عبت الكلب ؟
(7/44)
" صفحة رقم 45 "
) فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيرهُ أفلا تتقون (
المؤمنون : ( 24 ) فقال الملأ الذين . . . . .
) فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلاّ بشرٌ مثلكم يريد أن يتفضل ( يتشرف ) عليكم ( فيكون أفضل منكم فيصير متبوعاً وأنتم له تبعاً .
) ولو شاء الله لأنزل ملائكةً ماسمعنا بهذا ( الذي يدعونا إليه نوح ) في آبائنا الأولين (
المؤمنون : ( 25 ) إن هو إلا . . . . .
) إنْ هو ( ما هو ) إلاّ رجل به جِنّةٌ ( جنون ، نظيرها قوله سبحانه ) ما بصاحبهم من جِنّة ( ويقال للجن أيضاً : جنّة ، قال الله سبحانه ) وجعلوا بينه وبين الجنّة نسباً ( وقال ) من الجنّة والناس ( يتفق الاسم والمصدر .
) فتربّصوا ( فانتظروا ) به حتى حين ( يعني إلى وقت ما ، وقيل : إلى حين الموت ،
المؤمنون : ( 26 ) قال رب انصرني . . . . .
فقال لمّا تمادوا في غيّهم وأصرّوا على كفرهم ) رَبّ انصرني ( أعني بإهلاكهم ) بما كذّبون ( يعني بتكذيبهم إياي .
2 ( ) فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَقُل رَّبِّ أَنزِلْنِى مُنزَلاً مُّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ إِنَّ فِى ذاَلِكَ لأَيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً ءَاخَرِينَ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ وَقَالَ الْمَلاَُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الاَْخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِى الْحَيواةِ الدُّنْيَا مَا هَاذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّ مْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ ( 2
المؤمنون : ( 27 ) فأوحينا إليه أن . . . . .
) فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التَنُّورُ فاسلك فيها ( فأدخل فيها ، يقال : سلكته في كذا وأسلكته فيه ، قال الشاعر :
وكنت لزاز خصمك لم أُعرّد
وقد سلكوك في يوم عصيب
وقال الهذلي :
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة
شلاًّ كما تطرد الجمّالة الشردا
(7/45)
" صفحة رقم 46 "
) من كل زوجين اثنين وأهلك إلاّ من سَبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنّهم مغرقون ( .
قال الحسن : لم يحمل نوح في السفينة إلاّ من يلد ويبيض ، فأما ما يتولد من الطين وحشرات الأرض والبق والبعوض فلم يحمل منها شيئاً .
المؤمنون : ( 28 ) فإذا استويت أنت . . . . .
) فإذا استويت ( اعتدلت في السفينة راكباً فيها ، عالياً فوقها ) أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجّانا من القوم الظالمين (
المؤمنون : ( 29 ) وقل رب أنزلني . . . . .
) وقل ربّ أنزلني منزلا مباركاً ( قرأه العامة بضم الميم على المصدر أي إنزالاً مباركاً ، وقرأ عاصم برواية أبي بكر بفتح الميم وكسر الزاي أي موضعاً .
) وأنت خيرُ المُنْزلين (
المؤمنون : ( 30 ) إن في ذلك . . . . .
) إنَّ في ذلك لآيات وإن كنّا ( وقد كنّا ، وقيل : وما كنا إلاّ مبتلين مختبرين إيّاهم بتذكيرنا ووعظنا لننظر ماهم عاملون قبل نزول العذاب بهم .
المؤمنون : ( 31 ) ثم أنشأنا من . . . . .
) ثمَّ أنشانا من بعدهم ( أي أهلكناهم وأحدّثنا من بعدهم ) قرناً آخرين (
المؤمنون : ( 32 ) فأرسلنا فيهم رسولا . . . . .
) فأرسلنا فيهم رسولا منهم ( قال المفسّرون يعني هوداً وقومه ) أن اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتّقون (
المؤمنون : ( 33 ) وقال الملأ من . . . . .
) قال الملأ من قومه الذين كفروا وكذّبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم ( نعّمناهم ووسّعنا عليهم ، والترفة : النعمة ، في الحياة الدنيا ) ما هذا ( الرسول ) إلاَّ بشرٌ مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون (
المؤمنون : ( 34 - 35 ) ولئن أطعتم بشرا . . . . .
) ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون أيعدكم أنّكم إذا مُتّم وكنتم تُراباً وعظاماً ( قد ذهبت اللحوم ) إنّكم مخرجون ( من قبوركم أحياءً ، وأعاد إنّكم لمّا طال الكلام ، ومعنى وكنتم تراباً وعظاماً إنكم مخرجون .
2 ( ) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِى بِمَا كَذَّبُونِ قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً ءَاخَرِينَ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَئْخِرُونَ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ( 2
المؤمنون : ( 36 ) هيهات هيهات لما . . . . .
) هيهات هيهات لما تُوعَدُونَ ( قال ابن عباس : هي كلمة بُعْد يقول : ما توعدون ، واختلف القرّاء فيه ، فقرأ أبو جعفر بكسر التاء فيهما ، وقرأ نصر بن عاصم بالضم ، وقرأ ابن حبوة الشامي بالضم والتنوين ، وقرأ الآخرون بالنصب من غير تنوين ، وكلّها لغات صحيحة ، فمن نصب جعل
(7/46)
" صفحة رقم 47 "
مثل أين وكيف ، وقيل : لأنهما أداتان فصارتا مثل خمسة عشر وبعلبك ونحوهما .
وقال الفرّاء : نصبهما كنصب قولهم ثمثّ وربّت ، ومن رفعه جعله مثل منذ وقط وحيث ، ومن كسره جعله مثل أمس وهؤلاء . قال الشاعر :
تذكرت أياما مضين من الصبا
وهيهات هيهات إليك رجوعها
وقال آخر :
لقد باعدت أُم الحمارس دارها
وهيهات من أُم الحمارس هيهاتا
واختلفوا في الوقف عليها ، فكان الكسائي يقف عليها بالهاء ، والفرّاء بالتاء ، وإنّما أُدخلت اللام مع هيهات في الاسم لأنها أداة غير مشتقّة من فعل فأدخلوا معها في الاسم اللام كما أدخلوها مع هلمّ لك .
المؤمنون : ( 37 ) إن هي إلا . . . . .
) إنْ هي ( يعنون الدنيا ) إلاّ حَياتُنا الدنيا نموتُ ونحيا ( يموت الآباء ويحيى الأبناء ) وما نحن بمبعوثين }
المؤمنون : ( 38 ) إن هو إلا . . . . .
) إنْ هو ( يعنون الرسول ) إلاّ رجل افترى على الله كذباً وما نحن له بمؤمنين }
المؤمنون : ( 39 - 40 ) قال رب انصرني . . . . .
) قال رب انصرني بما كذبون قال عمّا قليل ( عن قليل ، وما صلة ) ليصبحنّ نادمين ( على كفرهم
المؤمنون : ( 41 ) فأخذتهم الصيحة بالحق . . . . .
) فأخذتهم الصيحة ( يعني صيحة العذاب ) بالحق فجعلناهم غثاءً ( وهو ما يحمله السيل ) فبعداً للقوم الظالمين }
المؤمنون : ( 42 ) ثم أنشأنا من . . . . .
) ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين ( والقرن أهل العصر ، سمّوا بذلك لمقارنة بعضهم ببعض .
المؤمنون : ( 43 ) ما تسبق من . . . . .
) ما تسبق من أُمّة أجلها وما يستأخرون ( ومن صلة .
المؤمنون : ( 44 ) ثم أرسلنا رسلنا . . . . .
) ثمَّ أرسلنا رسلنا تترا ( مترادفين يتبع بعضهم بعضاً ، وقرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو تترى بالتنوين على توهّم أنَّ الياء أصليّة ، كما قيل : معزي بالياء ومعزىً وبهمي وبهما فأُجريت أحياناً وترك اجراؤها أحياناً ، فمَن نوَّن وقف عليها بالألف ، ومن لم ينوّن وقف عليها بالياء ، ويقال : إنها ليست بياء ولكن ألف ممالة ، وقرأه العامّة بغير تنوين مثل غضبى وسكرى ، وهو اسم جمع مثل شتّى ، وأصله : وترى من المواترة والتواتر ، فجعلت الواو تاء مثل التقوى والتكلان ونحوهما .
) كلّما جاء أُمةً رسولها كذّبوه فاتبعنا بعضهم بعضاً ( بالهلاك أي أهلكنا بعضهم في أثر بعض .
) وجعلناهم أحاديث ( أي مثلا يتحدّث بهم الناس ، وهي جمع أُحدوثة ، ويجوز أن يكون جمع حديث ، قال الأخفش : إنّما يقال هذا في الشّر ، فأمّا في الخير فلايقال : جعلتهم أحاديث وأُحدوثة وإنما يقال : صار فلان حديثاً .
(7/47)
" صفحة رقم 48 "
) فبعداً لقوم لايؤمنون ( نظيرها ) فجعلناهم أحاديث ومزقّناهم كلّ ممزّق ( ؟
2 ( ) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِئَايَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ فَقَالُواْ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ الْمُهْلَكِينَ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءَايَةً وَءَاوَيْنَاهُمَآ إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ياأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْرَاتِ بَل لاَّ يَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِئَايَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ ( 2
المؤمنون : ( 45 - 46 ) ثم أرسلنا موسى . . . . .
) ثمّ أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملائه فاستكبروا ( تعظّموا عن الإيمان ) وكانوا قوماً عالين ( متكّبرين ، قاهرين غيرهم بالظلم ، نظيرها ) إن فرعون علا في الأرض 2 )
المؤمنون : ( 47 ) فقالوا أنؤمن لبشرين . . . . .
) فقالوا ( يعني فرعون وقومه ) أنؤمن لبشرين مثلنا ( فنتّبعهما ) وقومهما لنا عابدون ( مطيعون متذللّون ، والعرب تسمّي كلّ من دان لملك عابداً له ، ومن ذلك قيل لأهل الحيرة : العباد لأنّهم كانوا أهل طاعة لملوك العجم .
المؤمنون : ( 48 ) فكذبوهما فكانوا من . . . . .
) فكذّبوهما فكانوا من المهلكين ( بالغرق
المؤمنون : ( 49 ) ولقد آتينا موسى . . . . .
) ولقد آتينا موسى الكتاب ( التوراة ) لعلّهم يهتدون ( لكي يهتدي بها قومه فيعملوا بما فيها
المؤمنون : ( 50 ) وجعلنا ابن مريم . . . . .
) وجعلنا ابن مريم وأُمّه آية ( دلالة على قدرتنا ، وكان حقّه أن يقول آيتين كما قال الله سبحانه ) وجعلنا الليل والنهار آيتين ( واختلف النحاة في وجهها ، فقال بعضهم : معناه : وجعلنا كل واحد منهما آية كما قال سبحانه ) كلتا الجنتين آتت أُكلها ( أي آتت كلّ واحدة أُكلها وقال ) إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس ( ولم يقل أرجاس ، وقال بعضهم : معناه : جعلنا شأنهما واحداً لأنّ عيسى ولد من غير أب ، وأُمّه ولدت من غير مسيس ذكر . ) وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين ( .
أخبرنا أبو صالح منصور بن أحمد المشطي قال : أخبرنا أبو محمد عبدالله بن محمد بن
(7/48)
" صفحة رقم 49 "
عبد الله الرازي قال : أخبرنا سلمان بن علي قال : أخبرنا هشام بن عمار قال : حدّثنا عبد المجيد عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن المسيب عن عبد الله بن سلام في قول الله سبحانه ) وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين ( قال : دمشق ، وقال أبو هريرة : هي الرملة ، قتادة وكعب : بيت المقدس ، قال كعب : وهي أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلاً . ابن زيد : مصر ، الضحّاك : غوطة دمشق ، أبو العالية : إيليا وهي الأرض المقدسة ، ويعني بالقرار الأرض المستوية والساحة الواسعة ، والمعين : الماء الظاهر لعين الناظر ، وهو مفعول من عانه يعينه إذا أدركه البصر ورآه ، ويجوز أن يكون فعيلاً مَعَنَ يمعن فهو مَعين من الماعون .
المؤمنون : ( 51 ) يا أيها الرسل . . . . .
) يا أيها الرسل كلوا من الطيبات ( يعني من الحلالات ، يعني : وقلنا لعيسى : كلوا من الطيبات ، وهذا كما يقال في الكلام للرجل الواحد : أيّها القوم كفّوا عنّا أذاكم ، ونظائرها في القرآن كثيرة . قال عمرو بن شريل : كان يأكل من غزل أُمّه ، وقال الحسن ومجاهد : المراد به محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
) واعملوا صالحاً إنّى بما تعملون عليم }
المؤمنون : ( 52 ) وإن هذه أمتكم . . . . .
) وإنّ هذه ( قرأه أهل الكوفة بكسر الألف على الابتداء ، وقرأ ابن عامر بفتح الألف وتخفيف النون جعل إنّ صلة مجازه : وهذه أُمتّكم ، وقرأ الباقون بفتح الألف وتشديد النون على معنى هذه ، ويجوز أن يكون نصباً بإضمار فعل ، أي واعلموا أنّ هذه ) أُمتكم أُمة واحدة ( أي ملّتكم ملّة واحدة وهي دين الإسلام .
) وأنا ربكم فاتقون }
المؤمنون : ( 53 ) فتقطعوا أمرهم بينهم . . . . .
) فتقطّعوا أمرهم بينهم زُبُراً ( قرأه العامة بضم الباء يعنى كتباً ، جمع زبور بمعنى : دان كلّ فريق منهم بكتاب غير الكتاب الذي دان به الآخر ، قاله مجاهد وقتادة ، وقيل : معناه فتفرقوا دينهم بينهم كتباً أحدثوها يحتجون فيها لمذاهبهم ، قاله قتادة وابن زيد ، وقرأ أهل الشام بفتح الباء أي قطعاً وفرقاً كقطع الحديد ، قال الله سبحانه ) آتوني زُبُر الحديد ( .
) كل حزب ( جماعة ) بما لديهم ( عندهم من الدين ) فرحون ( معجبون مسرورون
المؤمنون : ( 54 ) فذرهم في غمرتهم . . . . .
) فذرهم في غمرتهم ( قال ابن عباس : كفرهم وضلالتهم ، ابن زيد : عماهم ، ربيع : غفلتهم ) حتى حين ( إلى وقت مجيء آجالهم .
المؤمنون : ( 55 ) أيحسبون أنما نمدهم . . . . .
) أيحسبون إنما نمدّهم به ( نعطيهم ونزيدهم ) من مال وبنين ( في الدنيا
المؤمنون : ( 56 ) نسارع لهم في . . . . .
) نسارع ( نسابق ) لهم في الخيرات ( ومجاز الآية : أيحسبون ذلك مسارعة لهم في الخيرات ، وقرأ عبد الرَّحْمن ابن أبي بكر : يُسارَع على مالم يسم فاعله ، والصواب قراءة العامة لقوله سبحانه ) نمدّهم ( .
) بل لا يشعرون ( أنَّ ذلك استدراج لهم ، ثمَّ بيّن المسارعين إلى الخيرات فقال عزَّ من
(7/49)
" صفحة رقم 50 "
قائل
المؤمنون : ( 57 - 59 ) إن الذين هم . . . . .
) إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربّهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا ( يعطون ما أعطوا من الزكوات والصدقات ، هذه قراءة أهل الامصار وبه رسوم مصاحفهم .
أخبرنا عبد الخالق بن علي قال : أخبرنا إسماعيل بن نجية قال : حدّثنا محمد بن عمار بن عطية قال : حدَّثنا أحمد بن يزيد الحلواني قال : حدّثنا خلاد عن إبراهيم بن الزبرقان عن محمد ابن حمّاد عن أبيه عن عائشة خ أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقرأ ) والذين يأتون ما آتوا من المجيء ( .
وأخبرنا الحاكم أبو منصور حمد بن أحمد البورجاني قال : حدَّثنا علي بن أحمد بن موسى الفارسي قال : حدّثنا محمد بن الفضيل قال : حدّثنا أبو أُسامة قال : حدّثني ملك بن مغول قال : سمعت عبد الرَّحْمن بن سعيد الهمداني ذكر أنّ عائشة خ قالت : يا رسول الله :
2 ( ) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَائِكَ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ بَلْ قُلُوبُهُمْ فِى غَمْرَةٍ مِّنْ هَاذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذاَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ حَتَّى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْئَرُونَ لاَ تَجْئَرُواْ الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ قَدْ كَانَتْ ءَايَتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ الْقَوْلَ أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَآءَهُمُ الاَْوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالاَْرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَازِقِينَ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ( 2
المؤمنون : ( 60 ) والذين يؤتون ما . . . . .
) والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنّهم إلى ربهم راجعون ( أهو الذي يزني ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله ؟ قال : ( لا يا ابنة الصدّيق ولكن هو الذي يصوم ويصلي ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله سبحانه ) .
وأخبرنا عبد الله بن يوسف قال : حدَّثنا محمد بن حامد قال : حدَّثنا محمد بن الجهم قال : حدَّثنا عبد الله بن عمرو قال : أخبرنا وكيع عن ملك بن مغول عن عبد الرَّحْمن بن سعيد بن وهب عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله ) والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ( أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق قال : ( لا يا ابنة أبي بكر أو يا ابنة الصديق ، ولكنه الرجل يصوم ويصلّي ويتصدق ويخاف أن لا تقبل منه ) .
(7/50)
" صفحة رقم 51 "
المؤمنون : ( 61 ) أولئك يسارعون في . . . . .
) أُولئك يسارعون في الخيرات وهم لها ( يعني إليها ) سابقون ( كقوله ( لما نُهوا عنه ) و ( لما قالوا ) ونحوهما ، وكان ابن عباس يقول في معنى هذه الآية : سبقت لهم من الله السعادة ولذلك سارعوا في الخيرات .
المؤمنون : ( 62 ) ولا نكلف نفسا . . . . .
) ولا نكلف نفساً إلا وسعها ( يعني إلاّ ما يسعها ويصلح لها من العبادة والشريعة : ) ولدينا كتابٌ ( يعني اللوح المحفوظ ) ينطق بالحق ( يبيّن بالصدق ما عملوا وما هم عاملون من الخير والشر ، وقيل : هو كتاب أعمال العباد الذي تكتبه الحفظة وهو أليق بظاهر الآية .
) وهم لا يظلمون ( يعني يوفّون جزاء أعمالهم ولا ينقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم .
ثمَّ ذكر الكفار فقال عزَّ من قائل
المؤمنون : ( 63 ) بل قلوبهم في . . . . .
) بل قلوبهم في غمرة ( عمى وغفلة ) من هذا ( القرآن ) ولهم أعمال ( خبيثة لا يرضاها الله من المعاصي والخطايا ) من دون ذلك ( يعني من دون أعمال المؤمنين التي ذكرها الله سبحانه ، قيل : وهي قوله ) إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون ( ) هم لها عاملون ( لابد لهم من أن يعملوها فيدخلوا بها النار لما سبق لهم من الشقاوة .
المؤمنون : ( 64 ) حتى إذا أخذنا . . . . .
) حتى إذا اخذنا مترفيهم ( يعني اغنياءهم ورؤساءهم ) بالعذاب ( قال ابن عباس : بالسيوف يوم بدر ، وقال الضحّاك : يعني الجوع وذلك حين دعا عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف ، فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحرقة والقدّ والأولاد ) .
) إذا هم يجأرون ( يضجّون ويجزعون ويستغيثون ، وأصل الجؤار رفع الصوت بالتضرّع كما يفعل الثور ، قال الشاعر :
فطافت ثلاثا بين يوم وليلة
وكان النكير أن تضيف وتجأرا
يصف بقره . وقال أيضاً :
يراوح من صلوات المليك
فطوراً سجوداً وطوراً جؤارا
المؤمنون : ( 65 ) لا تجأروا اليوم . . . . .
) لاتجأروا اليوم إنّكم منّا لا تنصرون ( لا تمنعون ولا ينفعكم جزعكم وتضرّعكم .
المؤمنون : ( 66 ) قد كانت آياتي . . . . .
) قد كانت آياتي تتلى عليكم ( يعني القرآن ) فكنتم على أعقابكم ( أدباركم ) تنكصون (
(7/51)
" صفحة رقم 52 "
تدبرون وتستأخرون وترجعون القهقرى ، مكذّبين بها كارهين لها
المؤمنون : ( 67 ) مستكبرين به سامرا . . . . .
) مستكبرين به ( أي بالحرم تقولون : لا يظهر علينا أحد لأنّا أهل الحرم ، وهو كناية عن غير مذكور ) سامراً ( نصب على الحال يعني أنّهم يسمرون بالليل في مجالسهم حول االبيت ، ووحّد سامراً وهو بمعنى السمّار لأنّه وضع موضع الوقت ، أراد : تهجرون ليلاً ، كقول الشاعر :
من دونهم إنْ جئتهم سمراً
عزف القيان ومجلس غمر
فقال : سمراً لأن معناه : إنْ جئتهم ليلاً وهم يسمرون ، وقيل : واحد ومعناه الجمع كما قال ) ثمّ يخرجكم طفلاً ( ونحوه .
) تهجرون ( قرأ نافع بضم التاء وكسر الجيم أي تفحشون وتقولون الخنا ، يقال اهجر الرجل في كلامه أي أفحش ، وذكر أنّهم كانوا يسبّون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ، وقرأ الآخرون بفتح التاء وضم الجيم ولها وجهان :
أحدهما : تعرضون عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والقرآن والإيمان وترفضونها .
والآخر : يقولون سوءاً وما لا يعلمون ، من قولهم : هجر الرجل في منامه إذا هذى .
المؤمنون : ( 68 ) أفلم يدبروا القول . . . . .
) أفلم يدّبروا ( يتدبّروا ) القول ( القرآن ) أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ( فأنكروه وأعرضوا عنه ، ويحتمل أن يكون أم بمعنى بل ، يعني : بل جاءهم ما لم يأتِ آباءهم الأولين فكذلك أنكروه ولم يؤمنوا به ، وروي هذا القول عن ابن عباس .
المؤمنون : ( 69 ) أم لم يعرفوا . . . . .
) أم لم يعرفوا رسولهم ( محمداً وأنّه من أهل الصدق والأُمانة . ) فهم له منكرون }
المؤمنون : ( 70 ) أم يقولون به . . . . .
) أم يقولون به جنّةٌ ( جنون ، كذبوا في ذلك فإن المجنون يهذي ويقول ما لا يعقل ولا معنى له ، ) بل ( محمد ) جاءهم بالحق ( بالقول الذي لا يخفى صحته وحسنه على عاقل ) وأكثرهُم للحق كارهون }
المؤمنون : ( 71 ) ولو اتبع الحق . . . . .
) ولو اتبع الحقُ ( يعني الله سبحانه ) أهواءهم ( مرادهم فيما يفعل ) لفسدت السموات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم ( ببيانهم وشرفهم يعني القرآن .
) فهم عن ذكرهم معرضون }
المؤمنون : ( 72 ) أم تسألهم خرجا . . . . .
) أم تسئلهم ( على ما جئتهم به ) خرجاً ( أجراً وجعلاً وأصل الخرج والخراج الغلّة والضريبة والأتاوة كخراج العبد والأرض .
وقال النضر بن شميل : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخرج والخراج فقال : الخراج ما لزمك ووجب عليك أداؤه ، والخرج ما تبرّعت به من غير وجوب .
قال الله سبحانه : ) فخراج ربّك ( رزقه وثوابه ) خير وهو خير الرازقين }
المؤمنون : ( 73 ) وإنك لتدعوهم إلى . . . . .
) وإنّك لتدعوهم إلى صراط مستقيم ( وهو الإسلام .
(7/52)
" صفحة رقم 53 "
المؤمنون : ( 74 ) وإن الذين لا . . . . .
) وان الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون ( عادلون ، مائلون ، ومنه الريح النكباء .
) ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضرّ وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِى طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُواْ لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَهُوَ الَّذِىأَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاَْبْصَارَ وَالاَْفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ وَهُوَ الَّذِى ذَرَأَكُمْ فِى الاَْرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَهُوَ الَّذِى يُحْاىِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الاَْوَّلُونَ قَالُواْ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا هَاذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاَْوَّلِينَ قُل لِّمَنِ الاَْرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَاهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ قُل رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّى مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلاَ تَجْعَلْنِى فِى الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ادْفَعْ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ (
المؤمنون : ( 75 ) ولو رحمناهم وكشفنا . . . . .
) ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر } قحط وجدب ) للجُّوا ( لتمادوا ) في طغيانهم يعمهون }
المؤمنون : ( 76 ) ولقد أخذناهم بالعذاب . . . . .
) ولقد أخذناهم بالعذاب ( يعني القتل والجوع ) فما استكانوا لربّهم ( خضعوا ، وأصله طلب السكون ) وما يتضرّعون ( .
قال ابن عباس : لما أتى ثمامة بن أثال الحنفي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأسلم وهو أسير فخلّى سبيله فلحق باليمامة ، فحال بين أهل مكة وبين المسيرة من اليمامة وأخذ الله قريشاً بسنيّ الجدب حتى أكلوا العِلهز ، فجاء أبو سفيان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : أُنشدك بالله والرحم أليس تزعم أنك بُعثت رحمة للعالمين ؟ فقال : بلى ، فقال : قد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية :
المؤمنون : ( 77 ) حتى إذا فتحنا . . . . .
) حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد ( . قال ابن عباس : يوم بدر ، وقال مجاهد : القحط ، وقيل : عذاب النار في الآخرة . ) إذا هم فيه مبلسونَ ( متحيّرون ، آيسون من كلّ خير .
المؤمنون : ( 78 - 83 ) وهو الذي أنشأ . . . . .
) وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلاً ما تشكرون وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه
(7/53)
" صفحة رقم 54 "
تحشرون وهو الذي يحيى ويميت وله اختلاف الليل والنهار أفلا تعقلون بل قالوا مثل ما قال الأولون قالوا أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنّا لمبعوثون لقد وُعدنا نحن ( هذا الوعد ) وآباؤنا هذا من قبل ( ووعد آباءنا من قبلنا قومٌ ذكروا أنّهم انبياء لله فلم يُرَ له حقيقة .
) إنْ هذا إلاّ أساطير الأولين }
المؤمنون : ( 84 ) قل لمن الأرض . . . . .
) قل ( يا محمد مجيباً لهم ) لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون }
المؤمنون : ( 85 ) سيقولون لله قل . . . . .
) سيقولون لله ( ولا بدَّ لهم من ذلك ، فقل لهم إذا أقرّوا بذلك ) أفلا تذكّرون ( فتعلمون أنّ من قدر على خلق ذلك ابتداء فهو قادر على إحياءئم بعد موتهم ؟ .
المؤمنون : ( 86 - 87 ) قل من رب . . . . .
) قل من ربّ السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله ( .
قرأه العامة : لله ، ومثله ما بعده فجعلوا الجواب على المعنى دون اللفظ كقول القائل للرجل : من مولاك ؟ فيقول : لفلان ، أي أنا لفلان وهو مولاي وأنشد :
وأعلم أنّني سأكون رمساً
إذا سار النواعج لا يسير
فقال السائلون لمن حفرتم
فقال المخبرون لهم وزير
فأجاب المخفوض بمرفوع لأن معنى الكلام : فقال السائلون : مَن الميّت ؟ فقال المخبرون : الميّت وزير ، فأجاب عن المعنى . وقال آخر :
إذا قيل من ربّ المزالف والقرى
وربّ الجياد الجرد قيل لخالد
وقال الأخفش : اللام زائدة يعني الله ، وقرأ أهل البصرة كلاهما الله بالألف ، وهو ظاهر لا يحتاج إلى التأويل ، وهو في مصاحف أهل الأمصار كلّها لله إلاّ في مصحف أهل البصرة فإنه الله الله ، فجرى كلٌّ على مصحفه ، ولم يختلفوا في الأول أنّه لله لأنّه مكتوب في جميع المصاحف بغير ألف وهو جواب مطابق للسؤال في ) لمن الأرض ومن فيها ( فجوابه لله .
) أفلا تتقون ( الله فتطيعونه
المؤمنون : ( 88 ) قل من بيده . . . . .
) قل من بيده ملكوت كل شيء ( ملكه وخزائنه ) وهو يجير ولا يجارُ عليه ( يعني يؤمن من يشاء ولا يؤمن من أخافه ) إن كنتم تعلمون ( قال أهل المعاني : معناه أجيبوا إن كنتم تعلمون .
المؤمنون : ( 89 ) سيقولون لله قل . . . . .
) سيقولون لله قل فأنّى تسحرون ( أي تُخدعون وتُصرفون عن توحيده وطاعته .
المؤمنون : ( 90 ) بل أتيناهم بالحق . . . . .
) بل أتيناهم بالحق ( الصدق ) وإنهم لكاذبون }
المؤمنون : ( 91 ) ما اتخذ الله . . . . .
) ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ( فانفرد به لتغالبوا ، فعلا بعضهم على بعض وغلب القوىّ منهم الضعيف .
(7/54)
" صفحة رقم 55 "
) سبحانَ الله عما يصفون ( من الكذب
المؤمنون : ( 92 ) عالم الغيب والشهادة . . . . .
) عالم الغيب والشهادة ( بالجر ، ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو على نعت الله ، غيرهم : بالرفع على الابتداء أو على معنى هو عالم .
وروى رؤيس عن يعقوب أنّه كان إذا ابتدأ رفع وإذا وصل خفض .
) فتعالى عمّا يشركون (
المؤمنون : ( 93 ) قل رب إما . . . . .
) قل رب إما ترينّي ما يوعدون ( من العذاب
المؤمنون : ( 94 ) رب فلا تجعلني . . . . .
) رَبّ فلا تجعلني في القوم الظالمين ( فلا تهلكني بهلاكهم ، والفاء في قوله ) فلا ( جواب لأمّا لأنّه شرط وجزاء .
المؤمنون : ( 95 ) وإنا على أن . . . . .
) وإنّا على أن نريك ما نعدهم ( من العذاب فجعلناه لهم ( لقادرون ) .
المؤمنون : ( 96 ) ادفع بالتي هي . . . . .
) ادفع بالتي هي أحسن ( يعني بالخلّة التي هي أحسن ) السيئة ( أَذاهم وجفاهم يقول : أعرض عن أذاهم واصفح عنهم ، نسختها آية القتال .
) نحن أعلم بما يصفون ( فنجزيهم به
المؤمنون : ( 97 ) وقل رب أعوذ . . . . .
) وقل ربّ أعوذ بك ( استجير بك ) من همزات الشياطين ( أي نزغاتهم عن ابن عباس ، الحسن : وساوسهم ، مجاهد : نفخهم ونفثهم ، ابن زيد : خنقهم الناس .
وقال أهل المعاني : يعني دفعهم بالإغواء إلى المعاصي ، والهمز : شدّة الدفع ، ومنه قيل للحرف الذي يخرج من هواء الفم للدفع همزة .
المؤمنون : ( 98 ) وأعوذ بك رب . . . . .
) وأعوذ بك ربّ أن يحضرون ( في شيء من أُموري .
2 ( ) حَتَّى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّىأَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُوْلَائِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فِى جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ ءَايَاتِى تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُواْ أَنَّهُمْ هُمُ الْفَآئِزُونَ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى الاَْرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَآدِّينَ ( 2
المؤمنون : ( 99 ) حتى إذا جاء . . . . .
) حتى إذا جاء أحدهم الموت ( يعني هؤلاء المشركين ، وذلك حين ينقطع عن الدنيا ويعاين الآخرة قبل أن يذوق الموت .
) قال رب ارجعون ( ولم يقل ارجعني وهو خطاب الواحد على التعظيم كقوله ( إنّا نحن ) فخوطب على نحو هذا كما ابتدأ بلفظ التعظيم .
(7/55)
" صفحة رقم 56 "
وقال بعضهم : هذه المسألة إنما كانت منهم للملائكة الذين يقبضون روحه ، وإنما ابتدأ الكلام بخطاب الله سبحانه لأنهم استغاثوا أولاً بالله سبحانه ثم رجعوا إلى مسألة الملائكة الرجوع إلى الدنيا .
المؤمنون : ( 100 ) لعلي أعمل صالحا . . . . .
) لَعلِّي اعمل صالحاً فيما تركتُ ( صنعت ) كلاّ ( أي لا يرجع إليها ، وهي كلمة ردع وزجر ) إنّها ( يعني سؤاله الرجعة ) كلمةٌ هو قائلها ( ولا ينالها .
روت عائشة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا : نرجعك إلى الدنيا ؟ فيقول : إلى دار الهموم والأحزان ؟ بل قدما إلى الله عزَّ وجلّ ، وأمّا الكافر فيقول ) ربّ ارجعون ( الآية ) .
) ومن ورائهم ( أمامهم ) برزخ إلى يوم يبعثون ( أي حاجز بين الموت والرجوع إلى الدنيا عن مجاهد ، ابن عباس : حجاب ، السدّي : أجل ، قتادة : بقيّة الدنيا ، الضحّاك وابن زيد : ما بين الموت إلى البعث ، أبو أمامة : القبر ، وقيل : الإمهال لا يفتخرون بالأنساب في الآخرة كما كانوا يفتخرون .
المؤمنون : ( 101 ) فإذا نفخ في . . . . .
) فإذا نُفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ( .
قال أبو العالية : هو كقوله ) ولا يُسئل حميم حميماً ( .
وقال ابن جريج : معنى الآية لا يُسأل أحد يومئذ شيئاً بنسب ولا يتساءلون ، لا يمتّ إليه برحم ، واختلف المفسّرون في المراد بقوله ) فإذا نفخ في الصور ( أىّ النفختين عنى ؟ فقال ابن عباس : هي النفخة الأُولى .
أخبرني ابن فنجويه بقراءتي عليه قال : حدَّثنا عبد الله بن إبراهيم بن أيوب قال : حدَّثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الرَّحْمن بن أبي عوف قال : حدَّثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة الحّراني قال : حدَّثنا محمد بن سلمة بن أبي عبد الرحيم قال : حدّثني زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس ، قوله سبحانه ) فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ( فهذه في النفخة الاولى ) نفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ( ) فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ( ) ثم نفخ فيه أخرى فإذا
(7/56)
" صفحة رقم 57 "
هم قيام ينظرون ( ) وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ( .
وقال ابن مسعود : هي النفخة الثانية .
أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال : حدَّثنا عبيد الله بن محمد بن شيبة قال : حدَّثنا جعفر بن محمد الفريابي قال : حدَّثنا يزيد بن موهب الرملي قال : حدَّثنا عيسى بن يونس عن هارون بن أبي وكيع قال : سمعت زاذان أبا عمر يقول : دخلت على ابن مسعود فوجدت أصحاب الخز واليمنة قد سبقوني إلى المجالس ، فناديته ، يا عبد الله بن مسعود من أجل أنّي رجل أعجمي أدنيتَ هؤلاء وأقصيتني ؟ فقال : ادنُ ، فدنوت حتى ما كان بيني وبينه جليس ، فسمعته يقول : يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأوّلين والآخرين ثمَّ ينادي مناد : هذا فلان ابن فلان فمن كان له قِبَله حقّ فليأتِ إلى حقّه ، فتفرح المرأة أن يدور لها الحقّ على أبيها أو على زوجها أو على ابنها أو على أُختها ، ثم قرأ ابن مسعود ) فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون (
قال : فيقول الله سبحانه : آت هؤلاء حقوقهم ، فيقول : ربّ فنيت الدنيا ، فيقول للملائكة : خذوا من أعماله فأعطوا كلّ إنسان بقدر طلبته ، فإن كان ولياً لله عزَّ وجل و فضلت له من حسناته مثقال حبّة من خردل ضاعفها حتى يدخله بها الجنة ، ثم قرأ ابن مسعود : ) انَّ اللّه لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ( . وإن كان شقيّاً قالت الملائكة : ربّ فنيتْ حسناته وبقي طالبون ، فيقول : خذوا من أعمالهم السيئة فأضيفوها إلى سيئاته وصكّوا له صكاً إلى النار .
المؤمنون : ( 102 - 104 ) فمن ثقلت موازينه . . . . .
) فمن ثَقُلت موازينُه فأولئك هم المفلحون ومَن خفّت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون تَلفح ( تسفع ) وجوههم النار وهم فيها كالحون ( عابسون عن ابن عباس ، وقال غيره : الكلوح أن تتقلص الشفتان عن الإنسان حتى تبدو الأسنان .
قال ابن مسعود : ألم تر إلى الرأس المشيّظ بالنار قد بدت أسنانه وقلصت شفتاه .
قال الأعشى :
وله المقْدم لا مثل له
ساعة الشدق عن الناب كلح
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال : حدَّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله
(7/57)
" صفحة رقم 58 "
قال : حدَّثنا محمد بن إسحاق المسوحي قال : حدَّثنا يحيى الحماني قال : حدَّثنا ابن مبارك عن سعيد بن يزيد أبي شجاع عن أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله عزَّ وجلّ ) تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ( قال : ( تشويه النار فتتقلّص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته ) .
المؤمنون : ( 105 - 106 ) ألم تكن آياتي . . . . .
) ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون قالوا ربّنا غَلبت علينا شِقوتُنا ( التي كتبت علينا ، قرأ أهل الكوفة غير عاصم : شقاوتنا بالألف وفتح الشين ، غيرهم : شِقوتنا بغير ألف وكسر الشين وهما لغتان ، وهي المضرّة اللاحقة في العاقبة ، والسعادة هي المنفعة اللاحقة في العاقبة .
) وكنّا قوماً ضالين ( عن الهدى
المؤمنون : ( 107 ) ربنا أخرجنا منها . . . . .
) ربّنا أخرجنا منها ( أي من النار ) فإن عُدنَا ( لما تكره ) فإنّا ظالمون ( فيجابون بعد ألف سنة
المؤمنون : ( 108 ) قال اخسؤوا فيها . . . . .
) اخسئوا فيها ( أي ابعدوا ، كما يقال للكلب : اخسأ إذا طُرد وأُبعد ) ولا تكلّمون ( في رفع العذاب فإنّي لا أرفعه عنكم ولا أخفّفه عليكم ، وقيل : هو دلالة على الغضب اللازم لهم فعند ذلك أيس المساكين من الفرج .
قال الحسن : هو آخر كلام يتكلّم به أهل النار ثم لا يتكلّمون بعدها إلاّ الشهيق والزفير ويصير لهم عواء كعواء الكلب لا يُفهمون ولا يَفهَمون .
المؤمنون : ( 109 ) إنه كان فريق . . . . .
) إنّه ( هذه الهاء عماد وتسمّى أيضاً المجهولة ) كان فريق من عبادي ( وهم المؤمنون ) يقولون ربّنا آمّنا فاغفر لنا وارحمنا وانت خير الراحمين }
المؤمنون : ( 110 ) فاتخذتموهم سخريا حتى . . . . .
) فاتخذتموهم سُخريّاً ( قرأ أهل المدينة والكوفة إلاّ عاصماً بضم السين ههنا وفي سورة ص ، الباقون : بكسرها .
قال الخليل وسيبويه : هما لغتان مثل قول العرب : بحر لُجيٌّ ولِجّي ، وكوكب دُرّي ودِرِي ، وكُرسي وكِرسي .
وقال الكسائي والفرّاء : الكسر بمعنى الاستهزاء بالقول ، والضم بمعنى التسخير والاستعباد بالفعل ، ولم يختلفوا في سورة الزخرف أنّه بالضم لأنّه بمعنى التسخير والاستعباد إلاّ ما روي عن ابن محيص أنّه كسره قياساً على سائره وهو غير قوىّ .
) حتى أنسوكم ذكري ( أي أنساكم اشتغالكم بالاستهزاء بهم وتسخيرهم ذكري ) وكنتم منهم تضحكون ( نظيره قوله سبحانه ) إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ( .
المؤمنون : ( 111 ) إني جزيتهم اليوم . . . . .
) إني جزيتهم اليوم بما صبروا ( على استهزائكم بهم في الدنيا ، والجزاء : مقابلة العمل بما يستحقّ عليه من ثواب أو عقاب
(7/58)
" صفحة رقم 59 "
) إنّهم هم الفائزون ( قرأ حمزة والكسائي : إنهم بكسر الألف على الاستيناف ، والباقون : بفتحه على معنى لأنهم هم الفائزون ، ويُحتمل أن يكون نصباً بوقوع الجزاء عليه أنّي جزيتهم اليوم الفوز بالجنة .
( ) قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهَا ءَاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ وَقُل رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأنتَ خَيْرُ الرَاحِمِينَ ( 2
المؤمنون : ( 112 - 113 ) قال كم لبثتم . . . . .
) قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم ( نَسُوا لعظيم ما هم فيه من العذاب مدّة مكثهم في الدنيا ، وهذا توبيخ من الله تعالى لمنكري البعث وإلزام للحجّة عليهم .
قرأ حمزة والكسائي : قل كم ، على الأمر ، لأنّ في مصاحف أهل الكوفة قل بغير ألف ، ومعنى الآية : قولوا كم لبثتم ، فأخرج الكلام مخرج الأمر للواحد والمراد به الجماعة إذ كان مفهوماً معناه ، ويجوز أن يكون الخطاب لكلّ واحد منهم أي قل أيّها الكافر .
وقرأ الباقون : قال في الحرفين ، وكذلك هما في مصاحفهم بالألف على معنى قال الله تعالى ، وقرأ ابن كثير : قل كم ، على الأمر ، وقال : إن على الخبر وهي قراءة ظاهرة لأنّ الثانية جواب .
وقوله ) فسئل العادّين ( أي الحُسّاب عن قتادة ، وقال مجاهد : هم الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويحصونها عليهم .
المؤمنون : ( 114 ) قال إن لبثتم . . . . .
) قال إن لبثتم ( في الدنيا ) إلاّ قليلاً لو أنّكم كنتم تعلمون ( قدر لبثكم فيها
المؤمنون : ( 115 ) أفحسبتم أنما خلقناكم . . . . .
) أفحسبتُم أنما خلقناكم عَبَثاً ( أي لعباً وباطلاً لا لحكمة ، والعبث : العمل لا لغرض ، وهو نصب على الحال عن سيبويه وقطرب ، مجازه : عابثين ، أبو عبيد : على المصدر ، بعض نحاة الكوفة : على الظرف أُي بالعبث ، بعض نحاة البصرة : للعبث . ) وأنكم إلينا لا ترجَعُونَ ( .
قال أمير المؤمنين علىّ بن أبي طالب ح : ( يا أيّها الناس اتّقوا ربّكم فما خُلق امرؤ عبثاً فيلهو ولا أُهمل سُدىً فيلغو ) .
وأخبرني محمد بن القاسم بقراءتي عليه قال : حدَّثنا أبو بكر محمد بن محمد بن نصر قال
(7/59)
" صفحة رقم 60 "
حدّثنا محمد بن موسى قال : حدّثنا ابن شعيب الحرّاني قال : حدّثنا يحيى بن عبد الله ابن الضحاك قال : سمعت الأوزاعي يقول : بلغني أنّ في السماء ملكاً ينادي كل يوم : ألا ليت الخلق لم يخلقوا ، وياليتهم إذ خُلقوا عرفوا ما خُلقوا له وجلسوا فذكروا ما عملُوا .
فصل في ذكر وجوه الحكمة في خلق الله سبحانه الخلق
قال المحقّقون : خلق الله سبحانه الخلق ليدلّ بذلك على وجوده وكمال علمه وقدرته ، إذ لو لم يخلق لم يكن لوجوده معنى .
وأخبرني محمد بن القاسم قال : حدَّثنا محمد بن يزيد قال : حدَّثنا الحسن بن سفيان قال : حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدَّثنا ابن عُليّة عن منصور بن عبد الرَّحْمن قال : قلت للحسن البصري في قوله سبحانه ) ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك ( .
قال : الناس مختلفون على أديان شتّى إلاّ من رحم ربك ، ومن رحم ربك غير مختلف .
فقيل له : ولذلك خلقهم ؟ .
قال : نعم ، خلق هؤلاء لجنّته وخلق هؤلاء لناره ، وخلق هؤلاء لرحمته وخلق هؤلاء لعذابه .
وأخبرنا محمد بن القاسم الفقيه قال : أخبرنا أبو جعفر محمد بن موسى الفقيه قال : حدَّثنا أبي قال : حدَّثنا محمد بن خالد البرقي عن أبيه عن أحمد بن نصر قال : سئل جعفر بن محمد : لمَ خَلقَ الله الخلق ؟
قال : لأنّ الله سبحانه كان محسناً بما لم يزل فيما لم يزل ، إلى ما لم يزل فأراد سبحانه وتعالى أن يفوّض إحسانه إلى خلقه وكان غنيّاً عنهم ، لم يخلقهم لجرّ منفعة ، ولا لدفع مضّرة ، ولكن خلقهم وأحسن إليهم وأرسل إليهم الرسل حتّى يفصلوا بين الحق والباطل ، فمن أحسن كافأهُ بالجنة ، ومن عصى كافأه بالنار .
وقال محمد بن علي الترمذي : إنَّ الله سبحانه خلق الخلق عبيداً ليعبدوه فيثيبهم على العبودية ويعاقبهم على تركها ، فإن عبدوه فهم اليوم عبيد أحرار كرام ، وغداً أحرار وملوك في دار السلام ، وإن رفضوا العبودية فهم اليوم عبيد أُبّاق سفلة لئام ، وغداً أعداء في السجون بين أطباق النيران
(7/60)
" صفحة رقم 61 "
ومنهم من قال : خلق الله سبحانه الخلق كلّهم لأجل محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يدللّ عليه ما حدَّثنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الرومي قال : حدَّثنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد قال : حدّثنا هارون بن العباس الهاشمي قال : حدَّثنا محمد بن ياسين بن شريك قال : حدَّثنا جندل قال : حدّثنا عمرو بن أوس الأنصاري عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيّب عن ابن عباس قال : ( أوحى الله سبحانه إلى عيسى ( عليه السلام ) : يا عيسى آمن بمحمد ومُر أُمّتك أن يؤمنوا به ، فلولا محمد ما خلقت آدم ، ولولا محمد ما خلقت الجنة والنار ، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه : لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسكن ) .
وسمعت محمد بن القاسم الفارسي قال : سمعت محمد بن الحسن بن بهرام الفارسي يقول : سمعت القنّاد يقول : خلق الله سبحانه الملائكة للقدرة ، وخلق الاشياء للعبرة ، وخلقك للمحبة له ، ومن العلماء مَن لم يصرّح القول بذلك ولكنه قال : نبّه الله سبحانه في غير موضع من كتبه المنزلة أنّه خلقهم لخطر عظيم مغيّب عنهم لا يجلّيه حتى يحلّ بهم ما خلقهم له ، وهذا معنى قوله سبحانه ) أفحسبتم انّما خلقناكم عبثاً ( الآية .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدَّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي قال : حدَّثنا داود بن رشيد ، وأخبرني محمد بن القاسم قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن مريس قال : حدَّثنا الحسن بن سفيان قال : حدَّثنا هشام ابن عمار قال : حدَّثنا الوليد بن مسلم قال : حدَّثنا ابن لهيعة عن عبد الله بن هبيرة عن حنش ابن عبد الله الصنعاني عن عبد الله بن مسعود أنّه مرَّ بمصاب مبتلى فقرأ في أذنه ) أفحسبتم إنّما خلقناكم عبثاً ( حتى ختم السورة فبرئ ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ماذا قرأت في أُذنه ؟ ) فأخبره فقال : ( والذي نفسي بيده لو أنَّ رجلا موقناً قرأها على جبل لزال ) .
ثمَّ نَزَّه نفسه سبحانه عمّا وصفه به المشركون من اتخاذ الأنداد والأولاد ، ونسبه إليه الملحدون من السفه والعبث فقال عزَّ من قائل
المؤمنون : ( 116 ) فتعالى الله الملك . . . . .
) فتعالى الله الملك الحقُ لا إله إلاّ هو ربّ العرش الكريم ( يعني الحسن العظيم
المؤمنون : ( 117 - 118 ) ومن يدع مع . . . . .
) ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به ( قال أهل المعاني : فيه إضمار ، مجازه : فلا برهان له به ) فإنّما حسابهُ ( جزاؤه ) عند ربّه إنّه لا يفلح الكافرونَ وقل ربّ اغفر وارحم وأنت خير الراحمين ( .
(7/61)
" صفحة رقم 62 "
( سُورة النُور )
مدنيَّةٌ ، وهي خمسة آلاف وستمائة وثمانون حرفاً ، وألف وثلاثمائة وست عشرة كلمة ، وأربع وستّون آية
أخبرنا ( أبو الحسين ) الخبازي قال : حدَّثنا ابن حبان قال : أخبرنا محمد بن علي الفرقدي قال : حدَّثنا إسماعيل بن عمرو قال : حدَّثنا يوسف بن عطيّة قال : حدَّثنا هارون بن كثير قال : حدَّثنا زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَن قرأ سورة النور أُعطي من الأَجر عشر حسنات بعدد كلّ مؤمن فيما مضى وفيما بقي ) .
وأخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال : حدَّثنا عبيد الله بن محمد بن شيبة قال : حدَّثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم الكرابيسي قال : حدَّثنا سلمان بن توبة أبو داود الأنصاري قال : حدَّثنا محمد بن إبراهيم الشامي قال : حدّثنا شعيب بن إسحاق عن هشام بن عروة ، عن أبيه عن عائشه خ وعن أبيها قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تنزلوا النساء الغُرف ، ولا تعلّموهن الكتابة ، وعلّموهن المغزل ، وسورة النور ) .
بسم الله الرَّحْمن الرحيم
2 ( ) سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذالِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ( ) 2
(7/62)
" صفحة رقم 63 "
النور : ( 1 ) سورة أنزلناها وفرضناها . . . . .
) سورة أنزلناها ( قراءة العامة بالرفع : هذه سورة لأنّ العرب لا تبتدئ بالنكرة ، هذا قول الخليل ، وقال الأخفش : سورة ابتداء وخبره في أنزلناها ، وقرأ طلحة بن مصرف : سورةً بالنصب على معنى أنزلنا سورة ، والكناية صلة زائدة ، وقيل : اتّبعوا سورة أنزلناها ) وفرضناها ( أي أوجبنا ما فيها من الأحكام ، وقرأ الحسن ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو : وفرّضناها بالتشديد أي فصّلناها وبيّنّاها ، وقيل : هو من الفرض والتشديد على التكثير أي جعلناها فرائض مختلفة ، وأوجبناها عليكم وعلى من بعدكم إلى قيام الساعة ، وتصديق التخفيف قوله سبحانه ) إن الذي فرض عليك القرآن ( ) وأنزلنا فيها آيات بيّنات لعلكم تذكّرُونَ (
النور : ( 2 ) الزانية والزاني فاجلدوا . . . . .
) الزانية والزاني ( إذا كانا حُرّين بالغين بكرين غير محصنين ) فاجلدوا ( فاضربوا ) كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخُذكم بهما رأفةٌ ( رحمة ورقّة .
قال الأخفش : رحمة في توجّع وفيها ثلاث لغات : رأفة ساكنة الهمز وقد تخفف الهمزة ، وهي قراءة العامة ، ورأَفة بفتح الهمزة ، ورآفة مهموزة ممدودة مثل الكتابة ، وهما قراءة أهل مكة مثل الشناة والشنآة ، وقيل : القصر على الاسم والمدّ بمعنى المصدر مثل صؤل صآلةً ، وقبح قباحة ، ولم يختلفوا في سورة الحديد أنها ساكنة لأنّ العرب لا تجمع بين أكثر من ثلاث فتحات .
واختلف العلماء في معنى الآية فقال قوم : ولا تأخذكم بهما رأفة فتعطلّوا الحدود ولا تقيموها .
روى المعمّر عن عمران قال : قلت لأبي مخلد في هذه الآية : واللّه إنا لنرحمهم أن يجلد الرجل أو تقطع يده فقال : إنّما ذاك أنّه ليس للسلطان إذا رفعوا إليه أن يدعهم رحمة لهم حتى يقيم عليهم الحدّ ، وهذا قول مجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير والنخعي والشعبي وابن زيد وسليمان بن يسار ، يدلّ عليه من الآية أنّ اللّه سبحانه وتعالى أمر بالجلد ، وهو ضرب الجلد كالرأس لضرب الرأس فذكر الضرب بلفظ الجلد لئلاّ ينكأ ولا يبرح ولا تبلغ به اللحم .
وروى ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عبد الله أنَّ عبد الله بن عمر جلد جارية له فقال للجالد : اجلد ظهرها ورجليها وأسفلها وخفّفها ، قلت : فأين قول الله سبحانه ) ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ( ؟
(7/63)
" صفحة رقم 64 "
قال : أفأقتلها ؟ إنَّ الله أمرني أن أضربها وأؤدّبها ولم يأمرني أن أقتلها .
وقال الآخرون : بل معناها ولا يأخذكم بهما رأفة فتخففوا الضرب ولكن أوجعوهما ضرباً ، وهو قول سعيد بن المسيّب والحسن .
قال الزهري : يجتهد في حدّ الزنا والفرية ويخفّف في حدّ الشراب .
وقال قتادة : يخفّف في حدّ الشراب والفرية ويجتهد في الزنا .
وقال حمّاد : يُحدّ القاذف والشارب وعليهما ثيابهما ، وأمّا الزاني فيخلع ثيابه ، وتلا هذه الآية .
) في دين الله ( أي في حكم الله نظيره قوله سبحانه ) ماكان ليأخذ أخاه في دين الملك ( .
) إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابَهُمَا ( وليحضر حدّيهما إذا أُقيم عليهما ) طائفة من المؤمنين ( اختلفوا في مبلغ عدد الطائفة فقال النخعي ومجاهد : أقلّه رجل واحد فما فوقه ، واحتجّا بقوله ) وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ( الآية . عطاء وعكرمة : رجلان فصاعداً ، الزهري : ثلاثة فصاعداً ، ابن زيد : أربعة بعدد من يقبل شهادته على الزنى ، قتادة : نفر من المسلمين .
روى حفص بن غياث عن أشعث عن أبيه قال : أتيت أبا برزة الأسلمي في حاجة وقد أخرج جارية له إلى باب الدار وقد زنت وولدت من الزنا ، فألقى عليها ثوباً وأمر ابنه أن يضربها خمسين ضرباً غير مبرح ، ودعا جماعة ثم قرأ ) وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ( .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدَّثنا أبو علي بن حنش المقري قال : حدَّثنا محمد بن أحمد ابن عثمان قال : حدَّثنا إبراهيم بن نصره قال : حدَّثنا مسدّد قال : حدَّثنا إسماعيل قال : حدَّثنا يونس بن عبيد عن حريز بن يزيد البجلي عن أبي زرعة عن عمرو بن حريز عن أبي هريرة قال : إِقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة .
وأخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون قال : حدَّثنا أبو نعيم عبد الملك بن محمد ابن عدي قال : أخبرنا العباس بن الوليد بن مزيد البيروتي قال : أخبرني محمد بن شعيب قال : أخبرني معاوية بن يحيى عن سليمان الأعمش عن شقيق بن سلمة عن حذيفة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه قال : ( يا معشر الناس اتقوا الزنى فإنَّ فيه ست خصال ، ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة ،
(7/64)
" صفحة رقم 65 "
فأمّا اللاتي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر ، وأمّا اللاتي في الآخرة فيوجب السخطة وسوء الحساب والخلود في النار ) .
وأخبرنا أبو طاهر بن خزيمة قرأه عليه في شهور سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة قال : حدَّثنا عبد الله بن محمد بن مسلم قال : حدّثنا عطية بن بقية قال : حدَّثنا أبي قال : حدّثني عبّاد بن كثير عن عمران القصير عن أنس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنَّ أعمال أُمَتي تُعرض علىّ في كلّ جمعة مرّتين فاشتدّ غضب الله على الزناة .
وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال : حدَّثنا إبراهيم بن يزيد الحرّاني قال : حدَّثنا المغيرة ابن سقلاب قال : حدَّثنا النضر بن عدي عن وهب بن منبه قال : مكتوب في التوراة : الزاني لا يموت حتى يفتقر ، والقوّاد لا يموت حتى يعمى .
النور : ( 3 ) الزاني لا ينكح . . . . .
) الزاني لا ينكح إلاّ زانية أو مشركة ( الآية .
اختلف العلماء في معنى الآية وحكمها فقال قوم : قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء كثير ليست لهم أموال ولا عشائر ولا أهلون ، وبالمدينة نساء بغايا مسافحات يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة ، فرغب في كسبهن ناس من فقراء المسلمين فقالوا : إنّا لو تزوّجنا منهن فعشنا معهن إلى يوم يغنينا الله سبحانه عنهن ، فاستأذنوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك فنزلت هذه الآية وحُرَّم فيها نكاح الزانية صيانة للمؤمنين عن ذلك ، وأخبر سبحانه وتعالى أنّ الزانية إنّما ينكحها الزاني والمشرك لأنهنّ كنّ زانيات مشركات ، والآية وإن كان ظاهرها خبر فمجازها ينبغي أن يكون كذا كقوله ) ومن دخله كان آمناً ( وقوله سبحانه وتعالى ) انَّ الصلوة تنهى عن الفحشاء والمنكر ( يعني ينبغي أن تكون كذلك ، وهذا قول مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة والزهري والقاسم بن أبي برزه والشعبي وأبي حمزة الثمالي ورواية العوفي عن ابن عباس .
وقال عكرمة : نزلت في نساء بغايا متعالمات بمكة والمدينة وكنّ كثيرات ومنهن تسع صواحب رايات ، لهن رايات كرايات البيطار يُعرفن بها : أُمّ مهزول جارية السائب بن أبي السائب المخزومي ، وأُم عليط جارية صفوان بن أُمّية ، وحنّة القبطية جارية العاص بن وائل
(7/65)
" صفحة رقم 66 "
ومرية جارية مالك بن عميلة بن السباق ، وحلالة جارية سهيل بن عمرو ، وأُم سويد جارية عمرو ابن عثمان المخزومي ، وسريفة جارية زمعة بن الاسود ، وفرسة جارية هشام بن ربيعة بن حبيب ابن حذيفة ، وقرينة جارية هلال بن أنس بن جابر بن نمر ، وكانت بيوتهن تسمى المواخير في الجاهلية ، لا يدخل عليهن ولا يأتيهن إلاّ زان من أهل القبلة أو مشرك من أهل الأوثان وكان الرجل ينكح الزانية في الجاهلية يتخذها ماكله ، فأراد ناس من المسلمين نكاحهن على تلك الجهة ، واستأذن رجل من المسلمين نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) في نكاح أم مهزول اشترطت له ان تنفق عليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية ونهى المؤمنين عن ذلك وحرّمهُ عليهم .
وقال عمرو بن شعيب : نزلت في مرثد الغنوي وعناق ، وكان مرثد رجلا شديداً وكان يقال له دلدل وكان يأتي مكة فيحتمل ضعفه المسلمين إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكانت عناق صديقته في الجاهلية ، فلمّا أتى مكه دعته عناق إلى نفسها فقال مرثد : إنَّ الله حرَّم الزنا قالت : فأنكحني فقال : حتى أسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك فسأله عنه فأنزل الله سبحانه هذه الآية ، وقد مضت القصة في سورة البقرة .
وقال آخرون : أراد بالنكاح ههنا الجماع ومعنى الآية الزاني لا يزني إلاّ بزانية أو مشركة والزانية لا يزني بها إلاّ زان أو مشرك ، وهذا قول سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم وعبد الرَّحْمن بن زيد ورواية الوالبي عن ابن عباس ، أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله قال : حدَّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السُني قال : أخبرني محمد بن عمران قال : حدَّثنا سعيد بن عبد الرَّحْمن ومحمد بن عبد الله المقري قالا : حدَّثنا عبد الله بن الوليد العدني عن سفيان عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس : الزاني لا ينكح إلا زانية قال : ليس هذا بالنكاح ولكنه الجماع ، لا يزني بها إلاّ زان أو مشرك ، فكنّى .
وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدَّثنا أبو علي بن حبش قال : حدّثني الحسن بن علي بن زكريا قال : حدّثنا الحسن بن علي بن راشد قال : قال لنا يزيد بن هارون : هذا عندي إن جامعها وهو مستحل فهو مشرك ، وإن جامعها وهو محرم فهو زان .
وقال بعضهم : كان هذا حكم الله في كلّ زان وزانية حتى نسختها الآية التي بعدها ) وانكحوا الأيامى منكم ( فأحلّ نكاح كل مسلمة وكل مسلم ، وهو قول سعيد بن المسيّب أخبرنيه ابن فنجويه قال : حدَّثنا ابن شيبة قال : حدَّثنا الفريابي قال : حدَّثنا قتيبة قال : حدَّثنا الليث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنّه قال : يزعمون أن تلك الآية ) الزاني لا ينكح إلاّ زانية أو مشركة ( نسخت بالآية التي بعدها ) وأنكحوا الأيامى منكم ( فدخلت الزانية في أيامى المسلمين
(7/66)
" صفحة رقم 67 "
وقال الحسن : معناها المجلود لا ينكح إلاّ مجلودة .
النور : ( 4 ) والذين يرمون المحصنات . . . . .
) والذين يرمون المحصنات ( أي يشتمون المسلمات الحرائر العفائف فيقذفونهن بالزنى ) ثمَّ لم يأتوا ( على ما رموهن به ) بأربعة شهداء ( عدول يشهدون عليهنّ أنهم رأوهنّ يفعلن ذلك ) فاجلدوهم ( يعني القاذفين اضربوا كلّ واحد منهم ) ثمانين جلدةً ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأُولئك هم الفاسقون ( .
النور : ( 5 ) إلا الذين تابوا . . . . .
ثمَّ استثنى فقال عزَّ من قائل ) إلاّ الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ( واختلف العلماء في حكم هذا الاستثناء فقال قوم : هو استثناء من قوله ) ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً ( وقالوا : إذا تاب القاذف قبلت شهادته وزال عنه اسم الفسق وعادت ولايته حُد فيه أو لم يحدّ ، وهذا قول الشعبي ومسروق وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير وعطاء وطاووس ومجاهد وسعيد بن المسيب وعبد الله بن عتبة والضحّاك ، وهو قول أهل الحجاز وإليه ذهب الشافعي . واختلفوا في كيفيّة توبته ، فقال بعضهم : هو ان يرجع عن قوله ويكذّب نفسه ، وقال آخرون : هي الندم على ما سلف والاستغفار منه وترك العود فيما بقي ، فإذا أُقيم عليه الحدّأو عفا المقذوف عنه سقط الحد ، وذلك أن القذف حق للمقذوف كالقصاص والجنايات وبالعفو تسقط فإذا عفا عنه فلم يطالبه بالحد ، أو مات المقذوف قبل مطالبته بالحد ، أو لم يرفع إلى السلطان فلم يُحَدّ لأجل هذه ، أو حُدّ ثم تاب وأصلح العمل قبلت شهادته وعادت ولايته ، يدلّ عليه ما روى ابن إسحاق عن الزهري عن سعيد بن المسيّب أنّ عمر بن الخطاب رضى الله عنه ضرب الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة وهم أبو بكرة و شبل بن معبد ونافع بن الحرث بن كلّدة فحدَّهم ثمَّ قال لهم : من أكذب نفسه أجزتُ شهادته فيما استقبل ، ومن لم يفعل لم أُجز شهادته ، فأكذب شبل نفسه ونافع وتابا ، وأبى أبو بكرة أن يفعل فكان لا تقبل شهادته .
وروى ابن جريج عن عمران بن موسى قال : شهدت عمر بن عبد العزيز أجاز شهادة القاذف ومعه رجل .
وقال آخرون : هذا الاستثناء راجع إلى قوله ) وأولئك هم الفاسقون ( فأمّا قوله ) ولا تقبلوا لهم شهادة ( فقد وصل بالأبد ولا يجوز قبولها أبداً ، وهذا قول النخعي وشريح ورواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه .
روى الأشعث عن الشعبي قال : جاء خصمان إلى شريح فجاء أحدهما بشاهد قد قطع زناد يده ورجله في قطع الطريق ثم تاب وأصلح ، فأجاز شريح شهادته فقال المشهود عليه : أتجيز شهادته عليَّ وهو أقطع ؟ فقال شريح : كلّ صاحب حدّ إذا أُقيم عليه ثم تاب وأصلح فشهادته جائزة إلاّ القاذف ، فإنّه قضاء من اللّه أن لا تقبل شهادته أبداً وإنّما توبته فيما بينه وبين الله
(7/67)
" صفحة رقم 68 "
النور : ( 6 ) والذين يرمون أزواجهم . . . . .
) والذين يرمون أزواجهم ( أي يقذفونهنّ بالزنا .
) ولم يكن لهم شهداء ( يشهدون على صحة ما قالوا .
) إلاّ أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ( قرأ أهل الكوفة أربع بالرفع على الابتداء والخبر ، وقرأ الباقون بالنصب على معنى أن يشهد أربع شهادات .
النور : ( 7 - 8 ) والخامسة أن لعنة . . . . .
) والخامسة ( يعني والشهادة الخامسة ، قراءة العامة بالرفع على الابتداء وخبره في أن .
وقرأ حفص بالنصب على معنى ويشهد الشهادة الخامسة .
وقرأ نافع ويعقوب وأيوب : إن وأن خفيفتين ، لعنة وغضب مرفوعين ، وهي رواية المفضل عن عاصم ، وقرأ الباقون : بتشديد النونين وما بعدهما نصب .
) إن كان من الكاذبين ويَدْرَؤُا عنها العذاب ( ويدفع عن الزوجة الحد .
) أن تشهد أربع شهادات بالله إنّه ( يعني الزوج ) لمن الكاذبين 2 )
النور : ( 9 ) والخامسة أن غضب . . . . .
) والخامسةُ أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ( قرأ نافع : غضب الله مثل سمع الله على الفعل ، الباقون على الإسم .
النور : ( 10 ) ولولا فضل الله . . . . .
) ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله توابٌ حكيم ( جواب لولا محذوف يعني لعاجلكم بالعقوبة وفضحكم ولكنه ستر عليكم ورفع عنكم الحد باللعان حكمة منه ورحمة .
فأما سبب نزول الآية ، فروى عكرمة عن ابن عباس قال : لمّا نزلت ) والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ( الآية ، قال سعد بن عبادة : والله لو أتيت لكاع وقد تفخّذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أُحركّه حتى آتي بأربعة شهداء فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب ، فإن قلت ما رأيت ، إنّ في ظهري لثمانين جلدة ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيّدكم ) ؟ قالوا : لا تلمه فإنه رجل غيور ، ما تزوج امرأة قط إلاّ بكراً و لا طلّق امرأة له فاجترأ رجل منّا أن يتزوّجها .
فقال سعد بن عبادة : يا رسول الله بأبي أنت وأُمّي والله إنّي لأعرف أنّها من الله وأنّها حقّ ولكن عجبت من ذلك لما أخبرتك ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فإنّ الله يأبى إلاّ ذاك ) ، فقال : صدق الله ورسوله .
قال : فلم يلبثوا إلاّ يسيراً حتى جاء ابن عم له يقال له هلال بن أُميّة من حديقة له ، فرأى رجلا مع امرأته يزني بها فأمسك حتى أصبح ، فلمّا أصبح غدا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو جالس مع
(7/68)
" صفحة رقم 69 "
أصحابه فقال : يا رسول الله إنّي جئت أهلي عشاء فوجدت رجلا مع أهلي ، رأيت بعيني وسمعت بأُذني فكره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما أتاه به وثقل عليه جدّاً حتى عرف ذلك في وجهه .
فقال هلال : والله يا رسول الله إني لأرى الكراهية في وجهك مما أتيتك به ، والله يعلم أني صادق وما قلت إلاّ حقّاً وإنّي لأرجو أن يجعل الله فرجاً ، فهمَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بضربه .
قال : واجتمعت الأنصار فقالوا : ابتلينا بما قال سعد ، أيُجلد هلال وتبطل شهادته ؟ فإنّهم لكذلك ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يريد أن يأمر بضربه إذ نزل عليه الوحي فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أنَّ الوحي قد نزل حتى فرغ ، فأنزل الله سبحانه ) والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلاّ أنفسهم ( إلى آخر الآيات .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أبشر يا هلال فإنّ الله قد جعل لك فرجاً ) ، فقال : قد كنت أرجو بذلك من الله تعالى .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أرسلوا إليها ) ، فجاءت فلمّا اجتمعا عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قيل لها ، فكذّبت .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ الله يعلم أنّ أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب ؟ ) .
فقال هلال : يا رسول الله بأبي وأمّي لقد صدقتُ وما قلتُ إلاّ حقّاً .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لاعنوا بينهما ) ، فقيل لهلال : اشهد ، فشهد أربع شهادات بالله إنّه لمن الصادقين ، فقيل له عند الخامسة : يا هلال اتّق الله فإنَّ عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فقال هلال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين .
ثم قال للمرأة : اشهدي فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، ففرّق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بينهما وقضى أن الولد لها ولا يدعى لأب ولا يرمى ولدها ، ثمَّ قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن جاءت به كذا وكذا ) فهو لزوجها ، وإن جاءت به كذا وكذا ) فهو للذي قيل فيه )
(7/69)
" صفحة رقم 70 "
قال : فجاءت به غلاماً كأنه حمل أورق على الشبه المكروه ، وكان بعد أميراً بمصر لا يدرى من أبوه .
وأخبرنا محمد بن عبدوس قال : أخبرنا محمد بن الحسن قال : أخبرنا علي بن عبد العزيز قال : أخبرنا القاسم بن سلام قال : حدّثنا هيثم عن يونس بن عبيد عن الحسن قال : لمّا نزلت ) والذين يرمون المحصنات ثمَّ لم يأتوا بأربعة شهداء ( الآية ، قال سعد بن عبادة : يا رسول الله أرأيت إن رأى رجل مع امرأته رجلا فقتله يقتلونه ، وإن أخبر بما رأى جُلد ثمانين أفلا يضربه بالسيف ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كفى بالسيف شا . . . ، قال : أراد أن يقول شاهداً ثمَّ أمسك وقال : لولا ان يتتابع فيه الغيران والسكران ، وذكر الحديث .
وقال ابن عباس في سائر الروايات ومقاتل : لمّا نزلت ) والذين يرمون المحصنات ( الآية ، قرأها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم الجمعة على المنبر فقام عاصم بن عدي الأنصاري فقال : جعلني الله فداك إنْ رأى رجل منّا مع إمرأته رجلا فأخبر بما رأى جُلد ثمانين وسمّاه المسلمون فاسقاً ولا تقبل شهادته أبداً ، فكيف لنا بالشهداء ونحن إذا التمسنا الشهداء كان الرجل قد فرغ من حاجته ومرَّ ؟ وكان لعاصم هذا ابن عم له يقال له عويمر وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس بن محصن فأتى عويمر عاصماً فقال : لقد رأيت شريك بن السحماء على بطن امرأتي خولة ، فاسترجع عاصم وأتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الجمعة الأُخرى فقال : يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بالسؤال الذي سألت في الجمعة الماضية في أهل بيتي فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وما ذاك ؟ قال : أخبرني عويمر ابن عمّي أنه رأى شريك ابن السحماء على بطن امرأته خولة ، وكان عويمر وخولة شريك كلّهم بني عم عاصم ، فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بهم جميعاً فقال لعويمر : ( اتق الله في زوجتك وخليلتك وابنة عمك فلا تقذفها بالبهتان ، فقال : يا رسول الله أُقسم بالله إني رأيت شريكاً على بطنها وإني ما قربتها منذ أربعة اشهر وانها حبلى من غيري .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) للمرأة : ( اتقي الله ولا تخبري إلاّ بما صنعت ) ، فقالت : يا رسول الله إنَّ عويمراً رجل غيور ، وإنه رآني وشريكاً نطيل السَمَرَ ونتحدث فحملته الغيرة على ما قال .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لشريك : ( ما تقول ) ؟ قال : ما تقوله المرأة ، فأنزل الله سبحانه ) والذين يرمون أزواجهم ( الآية ، فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى نودي : الصلاة جامعة ، فصلّى العصر ثمَّ قال لعويمر : قم فقام فقال : أشهد بالله إنَّ خولة لزانية وإنّي لمن الصادقين ، ثمَّ قال في الرابعة : أشهد بالله إنّي ما قربتها منذ أربعة أشهر وإنّي لمن الصادقين ثمَّ قال في الخامسة : لعنة الله على عويمر يعني نفسه إن كان من الكاذبين فيما قال
(7/70)
" صفحة رقم 71 "
ثمَّ أمره بالقعود وقال لخولة : قومي فقامت فقالت : أشهد بالله ما أنا بزانية وإنّ عويمراً لمن الكاذبين ، ثمَّ قالت في الثانية : أشهد بالله إنه ما رأى شريكاً على بطني وإنه لمن الكاذبين ، ثمَّ قالت في الثالثة : أشهد بالله إني حبلى منه وإنّه لمن الكاذبين ، ثمَّ قالت في الرابعة : أشهد بالله إنه ما رآني قط على فاحشة وإنه لمن الكاذبين ، ثمَّ قالت في الخامسة : غضب الله على خولة تعني نفسها إن كان من الصادقين ، ففرق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بينهما وقال : ( لولا هذه الأيمان لكان لي في أمرهما رأيٌ ، ثمَّ قال : تحيّنوا بها الولادة فإن جاءت بأُصيهب أُثيبج يضرب إلى السواد فهو لشريك بن السحماء ، وإن جاءت بأورق جعد حمش حدلج الساقين فهو لغير الذي رميت به ) .
قال ابن عباس : فجاءت بأشبه خلق الله بشريك .
ذكر حكم الآية
إذا قذف الرجل زوجته بالزنا لزمه الحدّ وله التخلّص منه بإقامة البيّنة على زناها أو باللعان ، فإن أقام البيّنة حقّق الزنا ولزمها الحدّ ، وان التعن حقّق عليها الزنا ولها التخلص منه باللعان ، فإن التعنت وإلاّ لزمها الحدّ ، وللزوج ان يلتعن سواء كان متمكّنا من البيّنة أو غير متمكّن منها ، ويصح اللعان من كلّ زوج مكلّف حراً كان أو عبداً ، مسلماً كان أو كافرا ، فكلُّ مَن صحّت يمينه صحَّ قذفه ولعانه .
وقال أهل العراق : اللعان بين كلّ حرّين بالغين ولا يصحّ اللعان إلاّ عند الحاكم أو خليفته ، فإذا لاعن بينهما غلّظ عليهما بأربعة أشياء عدد الألفاظ ، والمكان ، والوقت ، وجمع الناس .
فأمّا اللفظ فأربع شهادات والخامسة ذكر اللعنة للرجل وذكر الغضب للمرأة ، وقد مضت كيفية ذلك ، وأمّا المكان فإنه يقصد أشرف البقاع بالبلدان إن كان بمكة فعند الركن والمقام ، وإن كان بالمدينة فعند المنبر ، وإن كان ببيت المقدس ففي مسجدها ، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها ، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان تعظيمه ، إن كانا يهوديين بالكنيسة وإن كانا نصرانيين فبالبيعة ، وإن كانا مجوسيين ففي بيت النار ، وإن كانا لا دين لهما مثل الوثنيين فإنه يلاعن بينهما في مجلس حكمه .
وأما الوقت ، فإنّه بعد صلاة العصر . وأمّا العدد ، فيحتاج أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعداً ، فاللفظ وجمع الناس مشروطان ، والمكان والزمان مستحبّان ، فإذا تلاعنا تعلّق باللعان
(7/71)
" صفحة رقم 72 "
أربعة أحكام : سقوط الحدّ ، ونفي الولد ، وزوال الفراش ، ووقوع التحريم المؤبّد ، وكلّ هذا يتعلّق بلعان الزوج ، فأمّا لعان المرأة فإنه يسقط به الحدّ فقط ، فإن أكذب الرجل نفسه فإنه يعود ما عليه ولا يعود ماله في الحدّ والنسب عليه فيعودان . وأما التحريم والفراش فإنهما له فلا يعودان ، وفرقة اللعان هي فسخ لأنه جاء بفعل من قبل المرأة .
وقال أبو حنيفة وسفيان : اللعان تطليقة بائنة لأنه من قبل الرجل بدءاً ، والله أعلم .
2 ( ) إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ لَّوْلاإِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَاذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ لَّوْلاَ جَآءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلَائِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِى الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِى مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلاإِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَاذَا سُبْحَانَكَ هَاذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الاَْيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِى الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ( 2
النور : ( 11 ) إن الذين جاؤوا . . . . .
) إنَّ الذين جاؤا بالإفك عصبةٌ منكُم ( الآية .
ذكر سبب نزول هذه الآيات وقصة الإفك .
أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن بن محمد بن إسحاق المهرجان بقراءتي عليه فأقرّ به قال : أخبرنا أبو عوانة سنة ست عشرة وثلاثمائة قال : حدَّثنا محمد بن يحيى قال : حدَّثنا عبد الرزاق وأخبرنا أبو نعيم قال : أخبرنا أبو عوانة قال : حدَّثنا إسحاق بن إبراهيم الصنعاني قال : قرأنا على عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن الزهري قال : أخبرني سعيد بن المسيّب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة زوج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين قال لها أهل الافك ما قالوا فبرّأها الله وكلّهم ، حدّثني بطائفة من حديثها وبعضهم كان أوعى له من بعض ، وقد وعيت عن كلّ واحد الحديث الذي حدَّثني ، وبعض حديثهم يصدّق بعضاً ، ذكروا أنّ عائشة زوج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وخ قالت : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيّتهنّ خرج سهمها خرج بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) معه .
قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي ، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسل
(7/72)
" صفحة رقم 73 "
وذلك بعد ما أنزل الله سبحانه الحجاب ، فأنا أُحمل في هودجي وأنزل منه مسيرنا حتى إذا فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من غزوه وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتّى جاوزت الجيش ، فلمّا قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عِقدي من جَزَع ظَفَار قد انقطع فرجعت فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت ، وهم يحسبون أنّي فيه .
قالت : وكانت النساء إذا ذاك خفافاً لم يُهبلهُنّ اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه ، وكنت جارية حديثة السنّ فبعثوا الجمل وساروا ، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فتيمّمت منزلي الذي كنت فيه وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إليَّ ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت وكان صفوان بن المعطّل السلمي ثمَّ الذكواني قد عرّس من وراء الجيش ، فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني ، وقد كان رآني قبل أن يضرب عليَّ الحجاب فما استيقظت إلاّ باسترجاعه حين عرفني ، فخمّرتُ وجهي بجلبابي ، فوالله ما كلّمني كلمة عند استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطيت على يدها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة ، فهلك من هلك في شأني ، وكان الذي تولّى كبره عبد الله بن أبي سلول فقدمت المدينة فاشتكيت من شدّة الحر حين قدمتها شهراً والناس يخوضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أن لا أعرف من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) اللطف الذي كنت أرى منه حين اشتكي ، إنما يدخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيسلّم ثمَّ يقول : كيف تيكم ؟ ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو مبترزنا فلا نخرج إلاّ ليلاً إلى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأُول التنزّه ، وكنّا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا ، فانطلقت أنا وأُم مسطح وهي عاتكة بنت أبي رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف وأُمّها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصدِّيق وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب فأقبلت أنا وابنة أبي رهم قِبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح فقلت لها : بئس ما قلتِ ، تسبّين رجلاً شهد بدراً قالت : أي هنْتاه أولم تسمعي ما قال ؟ .
قالت : قلت : وما ذي ؟ قالت : فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضاً إلى مرضي فلمّا ، رجعت إلى بيتي دخل عليَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسلّم ثمَّ قال : ( كيف تيكم ؟ ) قلت : أتأَذن لي أن آتي أبويّ ؟ قالت : وأنا أُريد حينئذ أن أتيقّن الخبر من قِبلهما ، فأذن لي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فجئت أبويّ فقلت لأُمّي : يا أُمّه ماذا يتحدّث الناس ؟ .
(7/73)
" صفحة رقم 74 "
فقالت : أي بنيّة هوّني عليك ، فوالله لقلّ ما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبّها ولها ضرائر إلاّ أكثرن عليها ، قلت : سبحان الله أو قد تحدّث الناس بهذا ؟ قالت : نعم ، قالت : فمكثت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، ثمَّ أصبحت أبكي ، ودعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علىّ بن أبي طالب وأُسامة بن زيد حين استلبث الوحي واستشارهما في فراق أهله .
فأمّا أُسامة فأشار على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الودّ ، فقال : يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلاّ خيراً ، وأمّا علىّ فقال : لم يضيّق الله عليك ، والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية تصدقك .
قالت : فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بريرة فقال : أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من أمر عائشة ؟ فقالت له بريرة : والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمراً قط أُغمضه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله .
قالت : فقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول قال وهو على المنبر : ( يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي ، فوالله ما علمت على أهلي إلاّ خيراً ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلاّ خيراً وما كان يدخل على أهلي إلاّ معي ) .
فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : أعذرك يا رسول الله ، إن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك .
قالت : فقال سعد بن عبادة وهو سيّد الخزرج ، وكان رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحميّة فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله ، فقال سعد : والله لنقتله فإنك منافق تجادل عن المنافقين .
قالت : فثار الأوس والخزرج حتّى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قائم على المنبر فلم يزل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يخفضهم حتى سكتوا وسكت .
قالت : ومكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم ، وأبواي يظنّان أنّ البكاء فالق كبدي .
قالت : فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت عليَّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي ، فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسلّم ثمَّ جلس ، قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل ، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني ، قالت : فتشهّد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين جلس ثمَّ قال : أما بعد يا عائشة فإنّه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك
(7/74)
" صفحة رقم 75 "
الله سبحانه ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بالذنب ثمَّ تابَ تاب الله عليه .
قالت : فلمّا قضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مقالته قلص دمعي حتى ما أحسّ منه قطرة ، فقلتُ لأبي : أجب عنّي رسول الله قال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقلتُ لأُمّي : أجيبي عنّي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيراً : إني والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا الأمر حتّى استقرّ في أنفسكم وصدقتم به ، فلئن قلت لكم إني بريئة والله سبحانه وتعالى يعلم أني بريئة لتصدقونني ، والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلاّ كما قال أبو يوسف وما أحفظ اسمه : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون .
قالت : ثمَّ تحوّلت واضطجعت على فراشي ، وأنا والله حينئذ أعلم أنّي بريئة وأن الله سبحانه مبرّئي ببراءتي ولكن ، والله ماكنت أظنُّ أن ينزل في شأني وحي يُتلى ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلّم الله فيَّ بأمر يُتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في النوم رؤيا يبرّئني الله بها .
قالت : فوالله مارام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أُنزل الله سبحانه على نبيّه ( صلى الله عليه وسلم ) فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنّه لينحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل الوحي الذي أُنزل عليه .
قالت : فلمّا سُرِّي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يضحك ، فكان أوّل كلمة تكلّم بها أن قال : ( أبشري يا عائشة أما والله فقد برّأك ) فقالت لي أُمّي : قومي إليه فقلت : والله لا أقوم إليه ولا أحمدُ إلاّ الله سبحانه هو الذي أنزل براءتي .
قالت : فأنزل الله سبحانه ) انَّ الذين جاؤا بالإفك عصبة منكم ( عشر آيات وأنزل الله سبحانه هذه الآية لبراءتي .
قالت : فقال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة ، فأنزل الله سبحانه ) ولا يأتل أُولوا الفضل منكم والسعة ( إلى قوله ) ألا تحبّون أن يغفر الله لكم ( .
فقال أبو بكرح : والله إني لأُحبّ أن يغفر اللّه لي ، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال : لا أنزعها منه أبداً
(7/75)
" صفحة رقم 76 "
قالت عائشة خ : وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سأل زينب بنت جحش زوج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما علمت أو ما رأيت ؟ فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلاّ خيراً .
قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فعصمها الله سبحانه وتعالى بالورع ، وطفقت أُختها حمنة بنت جحش تحارب لها فهلكت فيمن هلك .
قال الزهري : فهذا ما انتهى إلينا من هؤلاء الرهط .
وأخبرنا أبو نعيم قال : أخبرنا أبو عوانة قال : حدَّثنا محمد بن إسماعيل الصائغ بمكة ومحمد بن حرب المديني بالفسطاط قالا : حدَّثنا إسماعيل بن أبي أويس قال : حدّثني أبي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة خ ، قال أبو أويس : وحدَّثني أيضاً عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة قالت : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أراد أن يسافر سفراً أُقرع بين أزواجه فأيّتّهنَّ خرج سهمها خرج بها معه ، فخرج سهم عائشة في غزوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بني المصطلق من خزاعة ، وذكر الحديث بطوله بمثل معناه .
وقال عروة في سؤال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بريرة عن عائشة قال : فانتهرها بعض أصحابه وقال : أصدقي رسول الله ، قال عروة : فعيب ذلك على من قاله ، فقالت : لا والله ما أعلم عليها إلاّ ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر ، ولئن كانت صنعت ما قال الناس ليخبرنّك الله ، فعجب الناس من فقهها .
قال : وبلغ ذلك الذي قيل له فقال : سبحان الله ، والله ما كشفت كتف أُنثى قط ، فقتل شهيداً في سبيل الله ، وزاد في آخره قالت : وقعد صفوان بن المعطل لحسّان بن ثابت فضربه ضربة بالسيف وقال حين ضربه :
تلقَّ ذباب السيف عنّي فإنّني
غلامٌ إذا هُوجيت لست بشاعر
ولكنني أحمي حماي وانتقم
من الباهت الرامي البراء الظواهر
وصاح حسان بن ثابت واستغاث بالناس على صفوان ، ففرَّ صفوان وجاء حسّان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فاستعدى على صفوان في ضربته إياه فسأله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يهب له ضرب صفوان إياه فوهبها للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فعوّضه منها حائطاً من نخل عظيم وجارية روميّة ، ثمَّ باع حسان ذلك الحائط من معاوية بن أبي سفيان في ولايته بمال عظيم . قالت عائشة : فقيل في أصحاب الإفك أشعار .
قال أبو بكر الصدِّيق رضى الله عنه لمسطح في رميه عائشة رضى الله عنها وكان يُدعى عوفاً :
(7/76)
" صفحة رقم 77 "
يا عوف ويحك هلاّ قلت عارفة
من الكلام ولم تبغ به طمعا
فأدركتك حمياً معشر أنف
ولم يكن قاطعاً في عوف قطعا
لما رميت حصاناً غير مقرفة
أمينة الجيب لم نعرف لها خضعا
فيمن رماها وكنتم معشراً افكا
في سيّىء القول من لفظ الخنا شرعا
فأنزل الله عذراً في براءتها
وبين عوف وبين الله ما صنعا
فان أعش أجز عوفاً في مقالته
شرَّ الجزاء بما ألفيته تبعا
وقال حسّان بن ثابت الأنصاري ثم النجاري وهو يبرّئ عائشة ممّا قيل فيها ويعتذر إليها :
حصان رزان ما يزن برتبة
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
حليلة خير الناس ديناً ومنصباً
نبيّ الهدى والمكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤي بن غالب
كرام المساعي مجدها غير زايل
مهذبة قد طيّب الله خيمها
وطهّرها من كل شين وباطل
فان كان ما قد جاء عنّي قلته
فلا رفعت سوطي إليّ أناملي
وإنّ الذي قد قيل ليس بلائط
بك الدهر بل قول إمرئ غير ماحل
وكيف وودّي ما حييت ونصرتي
لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس فضلها
تقاصر عنها سورة المتطاول
قال : وأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالذين رموا عائشة فجلدوا الحدود جميعاً ثمانين ، فقال حسّان بن ثابت :
لقد دان عبد الله ما كان أهله
وحمته إذ قالوا هجيرا ومسطحُ
تعاطوا برجم القول زوج نبيّهم
وسخطة ذا الرب الكريم فأبرحوا
وآذوا رسول الله فيها فعمموا
مخازيَ ذُلَ جلّلوها وفضحوا
فهذا سبب نزول الآية وقصّتها . فأمّا التفسير فقوله عزَّ وجل ) إنَّ الذين جاؤا بالإفك ( بالكذب ) عُصبَةٌ ( جماعة ) مِنكم ( .
قال الفرّاء : العصبة ، الجماعة من الواحد إلى الأربعين .
) لا تحسبُوهُ شرّاً لكم ( يا عائشة وصفوان ) بل هو خيرٌ لكم ( لأنّ الله يأجركم على ذلك
(7/77)
" صفحة رقم 78 "
ويظهر براءتكم ) لكل امرئ منهم ( يعني من الذين جاؤا بالإفك ) ما اكتسب من الإثم ( جزاء ما اجترح من الذنب والمعصية .
) والذي تولّى كبرهُ ( والذي تحمّل معظمه فبدا بالخوض فيه ، وقراءة العامة ) كبره ( : بكسر الكاف ، وقرأ خليل والأعرج ويعقوب الحضرمي بضم الكاف .
قال أبو عمرو بن العلاء : هو خطأ لأن الكبر بضم الكاف في الولاء والسن ، ومنه الحديث : الولاء للكبر ، وهو أكبر ولد الرجل من الذكورة وأقربهم إليه نسباً .
وقال الكسائي : هما لغتان مثل صِفر وصُفر ، واختلف المفسّرون في المعنيّ بقوله ) والذي تولى كبره منهم ( ) له عذابٌ عظيم ( .
فقال قوم : هو حسّان بن ثابت .
روى داود بن أبي هند عن عامر الشعبي أنَّ عائشة خ قالت : ما سمعت بشيء أحسن من شعر حسّان ، وما تمثلت به إلاّ رجوت له الجنة ، قوله لأبي سفيان :
هجوتَ محمداً فأجبتُ عنه
وعند الله في ذاك الجزاء
فانّ أبي ووالدتي وعرضي
لعرض محمد منكم وقاء
أتشتمه ولست له بكفؤ
فشرّ كما لخيركما الفداء
لساني صارم لا عيب فيه
وبحري لا تكدّره الدلاء
فقيل : يا أم المؤمنين أليس الله يقول ) والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم ( .
قالت : أليس قد أصابه عذاب عظيم ؟ أليس قد ذهب بصره وكنع بالسيف .
وروى أبو الضحى عن مسروق قال : كنت عند عائشة فدخل حسّان بن ثابت فأمرتْ فأُلقي له وسادة ، فلمّا خرج قلت لعائشة : تدعين هذا الرجل يدخل عليكِ وقد قال ما قال ، وأنزل الله سبحانه فيه ) والذي تولّى كبره منهم له عذاب عظيم ( ؟ .
فقالت : وأىّ عذاب أشد من العمى ، ولعلّ الله يجعل ذلك العذاب العظيم ذهاب بصره ، وقالت : انه كان يدفع عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
وقال آخرون : بل هو عبد الله بن أبي سلول وأصحابه .
روى ابن أبي مليكة عن عروة عن عائشة قالت في حديث إلافك : ثمَّ ركبت وأخذ صفوان بالزمام فمررنا بملأ من المنافقين وكانت عادتهم أن ينزلوا منتبذين من الناس . فقال عبد الله بن
(7/78)
" صفحة رقم 79 "
أُبي رئيسهم : مَن هذه ؟ قالوا : عائشة : قال : والله ما نجت منه ولا نجا منها ، وقال : امرأة نبيّكم باتت مع رجل حتى أصبحت ، ثمَّ جاء يقودها ، وشرع في ذلك أيضاً حسّان ومسطح وحمنة فهم الذين تولّوا كبره ، ثمَّ فشا ذلك في الناس .
النور : ( 12 ) لولا إذ سمعتموه . . . . .
) لولا ( هلاّ ) إذ سمعتموه ظنَّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم ( بإخوانهم ) خيراً ( .
قال الحسن : بأهل دينهم لأن المؤمنين كنفس واحدة ، نظيره قوله ) ولاتقتلوا أنفسكم ( وقوله ) فسلّموا على انفسكم ( .
قال بعض أهل المعاني : تقدير الآية هلاّ ظننتم كما ظنّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً .
وقيل : أراد بأنفسهم أهاليهم وأزواجهم ، وقالوا : أراد بهذه الآية أبا أيوب الأنصاري وامرأته أم أيوب .
روى محمد بن إسحاق بن يسار عن رجاله أنّ أبا أيوب خالد بن يزيد قالت له امرأته أُم أيّوب : يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة ؟
قال : بلى وذلك الكذب أكنت ، فاعلة ذلك يا أم أيوب ؟
قالت : لا والله ما كنت لأفعله . قال : فعائشة والله خير منك ، سبحان الله هذا بهتان عظيم ، فأنزل الله سبحانه ) لولا إذ سمعتموه ظنَّ المؤمنون والمؤمنات ( الآيات ، أي كما فعل أبو أيوب وصاحبته وكما قالا .
وقوله ) وقالوا هذا إفك مبين ( أي كذب بيِّن
النور : ( 13 - 14 ) لولا جاؤوا عليه . . . . .
) لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسّكم فيما أفضتم ( خضتم ) فيه ( من الإفك ) عذاب عظيم إذ تلقوّنهُ بألسنتكم ( تأخذونه تروونه بعضكم عن بعض ، وقرأ ( أُبيّ وابن مسعود :
النور : ( 15 ) إذ تلقونه بألسنتكم . . . . .
) إذ تتلقّونه } بتاءين ) ، وقرأت عائشة : تَلِقُونه بكسر اللام وتخفيف القاف من الكذب ، والوَلَق والأَلق والالُق والليق الكذب .
قال الخليل : أصل الولق السرعة وأنشد :
جاؤوا بأسراب من الشام ولق
(7/79)
" صفحة رقم 80 "
أي تسرع ، يقال : ولق فلان في السير فهو يلق فيه إذا استمر وأسرع فيه ، فكان معنى قراءة عائشة : إذ تستمرّون في إفككم .
وقرأ محمد بن السميقع : إذ تُلْقُونه من الإلقاء ، نظيره ودليله قوله سبحانه ) فألقوا إليهم القول ( الآية .
) وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هيّناً ( وتظنّونه سهلاً ) وهو عند الله عظيم (
النور : ( 16 ) ولولا إذ سمعتموه . . . . .
) ولولا إذ سمعتموهُ قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك ( يحتمل التنزيه والتعجب .
) هذا بهتان عظيم (
النور : ( 17 ) يعظكم الله أن . . . . .
) يعظكم الله أن تعُودُوا ( أي ينهاكم ويخوّفكم أن تعودوا وقيل : يعظكم الله كيلا تعودوا ) لمثله ( إلى مثله ) أبداً إن كنتم مؤمنين (
النور : ( 18 ) ويبين الله لكم . . . . .
) ويُبيّن الله لكم الآيات والله عليم ( بأمر عائشة وصفوان ) حكيم ( حكم ببراءتها .
النور : ( 19 ) إن الذين يحبون . . . . .
) إنَّ الذين يحبُّون أن تشيع ( تظهر وتفشو وتذيع ) الفاحشة في الذين آمنوا لهُم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ( يعني عبد الله بن أُبيّ بن سلول وأصحابه المنافقين .
) واللهُ يعلمُ ( كذبهم ) وأنتم لا تعلمون (
النور : ( 20 ) ولولا فضل الله . . . . .
) ولولا فضل الله عليكم ورحمتُهُ وأنَّ الله رؤوف رحيم ( فيه إضمار لعاجلكم بالعقوبة .
( ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَاكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُواْ فِى الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلْطَّيِّبَاتِ أُوْلَائِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( 2
النور : ( 21 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيّها الذين آمنوا لا تتّبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته مازكى ( صلح وطهر من هذا الذنب ، وقرأ ابن محيص ويعقوب : زكّى بالتشديد أي طهّر ، دليلها قوله سبحانه وتعالى ) ولكن الله يزكّي ( يطهّر ) من يشاء ( من الإثم والذنب بالرحمة والمغفرة ) والله سميع عليم ( .
(7/80)
" صفحة رقم 81 "
أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال : حدَّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال : حدّثنا على بن زنجويه قال : حدَّثنا سعيد بن سيف التميمي قال : حدَّثنا غالب بن تميم السعدي قال : حدَّثنا خالد بن جميل عن موسى بن عقبة المديني عن أبي روح الكلبي عن حر بن نصير الحضرمي عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أيّما رجل شدّ عضد امرئ من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في ظلّ سخط الله سبحانه حتى ينزع ، وأيّما رجل حال في شفاعة دون حدّ من حدود الله تعالى أن يقام فقد كايد اللّه حقّاً وحرص على سخطه وأن عليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة ، وأيّما رجل أشاع على رجل مسلم كلمة وهو منها بريء يريد أن يشينه بها في الدنيا كان حقّاً على الله أن يذيبه في النار ، وأصله في كتاب الله سبحانه ) إنَّ الذين يحبُّون أن تشيع الفاحشة ( الآية .
النور : ( 22 ) ولا يأتل أولوا . . . . .
) ولا يَأتل ( ولا يحلف ، هذه قراءة العامة وهو يفتعل من الأليّة وهي القَسَم ، وقال الأخفش : وإن شئت جعلته من قول العرب : ما ألوت جهدي في شأن فلان أي ما تركته ، وقرأ أبو رجاء العطاردي وأبو مخلد السدوسي وأبو جعفر وزيد بن أسلم ( ولا يُتأل ) بتقديم التاء وتأخير الهمزة وهو يفتعل من الألية والالو .
) أولوا الفضل منكم والسعة ( يعني أبا بكر الصدّيق ) أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله ( يعني مسطحاً ، وكان مسكيناً مهاجراً بدرياً ، وكان ابن خالة أبي بكر ح .
) وليعفوا وليصفحوا ( عنهم خوضهم في أمر عائشة .
وروت أسماء بنت يزيد أنَّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ ) ولتعفوا ولتصفحوا ( بالتاء .
) ألا تحبّون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ( . فلمّا قرأها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أبي بكر قال : بلى أنا أُحب أن يغفر الله لي ، ورجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه وقال : والله لا أنزعها منه أبداً .
وقال ابن عباس والضحّاك : أقسم ناس من الصحابة فيهم أبو بكر أَلاّ يتصدقوا على رجل تكلّم بشيء من الإفك ولا ينفعونهم فأنزل الله سبحانه هذه الآية .
النور : ( 23 ) إن الذين يرمون . . . . .
) إنَّ الذين يرمون المحصنات الغافلات ( عن الفواحش وعما قذفن به كغفلة عائشة عمّا فيها ) المؤمنات لعنوا ( عُذبّوا ) في الدنيا ( بالجلد وفي الآخرة بالنار ) وَلهم عذابٌ عظيم (
(7/81)
" صفحة رقم 82 "
واختلف العلماء في حكم الآية ، فقال قوم : هي لعائشة وأزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة دون سائر المؤمنات .
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال : حدَّثنا هارون بن محمد بن هارون قال : حدَّثنا محمد بن عبد العزيز قال : حدّثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني قال : حدَّثنا هشام عن العوّام بن حوشب قال : حدّثنا شيخ من بني كاهل قال : فسّر ابن عباس سورة النور ، فلمّا أتى على هذه الآية ) انّ الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ( إلى آخر الآية ، قال : هذه في شأن عائشة وأزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة ، وهي مبهمة ليس فيها توبة ، ومن قذف امرأة مؤمنة فقد جعل الله سبحانه له توبة ، ثمَّ قرأ ) والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ( إلى قوله ) إلاّ الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا ( فجعل لهؤلاء توبة ولم يجعل لأُولئك توبة ، قال : فهّم رجل أن يقوم فيقبّل رأسه من حسن ما فسّره .
وقال آخرون : نزلت هذه الآية في أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فكان ذلك كذلك حتى نزلت الآية التي في أول السورة ) والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ( إلى ) فإنّ الله غفور رحيم ( فأنزل الله له الجلد والتوبة ، فالتوبة تُقبل والشهادة تُرَد .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حيّان قال : حدّثنا إسحاق بن محمد قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال : حدّثنا علي بن علي عن أبي حمزة الثمالي قال : بلغنا أنها نزلت في مشركي أهل مكة إذ كان بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عهد ، فكانت المرأة إذا خرجت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا : إنما خرجت تفجر .
النور : ( 24 ) يوم تشهد عليهم . . . . .
) يوم تشهد عليهم ( قرأه العامة بالتاء ، وقرأ أهل الكوفة إلاّ عاصماً بالياء لتقدّم الفعل .
) ألسنتهم ( وهذا قبل أن يختم على أفواههم ، وقيل : معناه : يشهد ألسنة بعضهم على بعض ) وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ( في الدنيا
النور : ( 25 ) يومئذ يوفيهم الله . . . . .
) يومئذ يوفيهم الله دينهم ( جزاءهم وحسابهم ) الحقّ ( قرأهُ العامة بنصب القاف ، وقرأ مجاهد الحقُّ بالرفع على نعت الله وتصديقه ، قراءة أبي يوفهم اللّه الحق دينهم .
) ويعلمونَ أن اللّه هو الحقّ المبين ( يبيّن لهم حقيقة ما كان يعدهم في الدنيا .
النور : ( 26 ) الخبيثات للخبيثين والخبيثون . . . . .
) الخبيثاتُ للخبيثينَ ( الآية . قال أكثر المفسّرين : الخبيثات من القول للخبيثين من الناس ) والخبيثون ( من الناس ) للخبيثات ( من القول ) والطيّبات ( من القول ) للطيبينَ ( من الناس ) والطيبّون ( من الناس ) للطيبّات ( من القول .
وقال ابن زيد : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء ، والطيّبات من النساء للطيّبين من الرجال ، والطيّبون من الرجال للطيّبات من النساء .
(7/82)
" صفحة رقم 83 "
) أولئك ( يعني عائشة وصفوان فذكرهما بلفظ الجمع كقوله ) فإن كان له إخوة ( والمراد أخَوَان .
) مُبَّرءوُنَ ( منزّهون ) ممّا يقولون لهم مغفرة ورزق كريم ( .
أخبرنا أبو نصر النعمان بن محمد بن النعمان الجرجاني بها قال : أخبرنا محمد بن عبد الكريم الباهلي قال : حدّثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن سفيان الترمذي قال : حدّثنا بشر بن الوليد الكندي قال : حدّثنا أبو حفص عن سليمان الشيباني عن علي بن زيد بن جدعان عن جدّته عن عائشة أنها قالت : لقد أُعطيت تسعاً ما أُعطيت امرأة ، لقد نزل جبرئيل ( عليه السلام ) بصورتي في راحته حين أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يتزوَّجني ، ولقد تزوّجني بكراً وما تزوّج بكراً غيري ، ولقد توفّي وإنّ رأسه لفي حجري ، ولقد قبر في بيتي ، ولقد حفّت الملائكة في بيتي ، وإنْ كان الوحي لينزل عليه في أهله فيتفرقون عنه ، وإنْ كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه ، وإنّي لابنة خليفته وصدّيقه ، ولقد نزل عذري من السماء ، ولقد خلقت طيّبة وعند طيّب ، ولقد وعدت مغفرة ورزقاً كريماً .
2 ( ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ذاَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذالِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِىإِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 2
النور : ( 27 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتِكُم ( الآية .
أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف قال : حدّثنا الحسين ابن يحيويه قال : حدّثنا عمرو بن ثور وإبراهيم بن أبي سفيان قالا : حدّثنا محمد بن يوسف الفريابي قال : حدّثنا قيس عن أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت قال : جاءت امرأة من الأنصار
(7/83)
" صفحة رقم 84 "
فقالت : يا رسول الله إنّي أكون في بيتي على حال لا أُحبّ أن يراني عليها أحد والد ولا ولد ، فيأتي الأب فيدخل عليَّ ، وإنّه لا يزال يدخل عليَّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال فكيف أصنع ؟ فنزلت هذه الآية ) يا أيّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلمُوا على أهلها ( الآية .
وقال بعض المفسّرين : حتى تستأنسوا أي تستأذنوا .
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنّه قال : إنّما هو حتى تستأذنوا ولكن اخطأ الكاتب ، وكان أُبيّ بن كعب وابن عباس والأعمش يقرأونها كذلك حتّى تستأذنوا ، وفي الآية تقديم وتأخير تقديرها : حتى تسلّموا على أهلها وتستأذنوا ، وكذلك هو في مصحف ابن مسعود وهو أن يقول : السلام عليكم أأدخل ؟
روى يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد الثقفي أنّ رجلا استأذن على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : أألجُ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لامرأة يقال لها روضة : قومي إلى هذا فعلّميه فإنّه لا يُحسن يستأذن فقولي له : تقول : السلام عليكم أأدخل ؟ فسمعها الرجل فقالها ، فقال : ادخل .
وقال مجاهد والسدّي : هو التنحنح والتنخّم .
روى الأعمش عن عمرو بن مرة عن يحيى بن الخزاز عن ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود عن زينب قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق كراهية أن يهجم منها على أمر يكرهه .
عكرمة : هو التسبيح والتكبير ونحو ذلك .
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال : حدّثنا أبو بكر بن خرجة قال : حدّثنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي قال : حدّثنا عبد الله بن عمر بن أبان قال : حدّثنا عبد الرحيم بن سليمان عن واصل بن السائب عن أبي أيوب الأنصاري قال : قلنا يا رسول الله ما الاستيناس الذي يريد الله سبحانه ) حتى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها ( قال : يتكلّم الرجل بالتكبيرة والتسبيحة والتحميدة ، يتنحنح يؤذن أهل البيت .
وقال الخليل : الاستيناس : الاستبصار من قوله ) آنست ناراً ( .
وقال أهل المعاني : الاستيناس : طلب الأُنس وهو أن ينظر هل في البيت أحد يؤذنه أنه
(7/84)
" صفحة رقم 85 "
داخل عليهم ، يقول العرب : اذهب فاستأنس هل ترى أحداً في الدار ؟ أي انظر هل ترى فيها أحداً ؟
ويروى أنّ أبا موسى الأشعري أتى منزل عمر بن الخطاب ذ فقال : السلام عليكم أأدخل ؟
فقال عمر : واحدة ، فقال أبو موسى : السلام عليكم أأدخل ؟ فقال عمر : ثنتان ، قال أبو موسى : السلام عليكم أأدخل ؟ ومرّ ، فوجّه عمر بن الخطاب رضى الله عنه خلفه من ردّه فسأله عن صنيعه فقال : إنّي سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( الاستيذان ثلاثة فإن أذنوا وإلاّ فارجع ) .
فقال عمر : لتأتيني بالبيّنة أو لاعاقبنّك ، فانطلق أبو موسى فأتاه بمن سمع ذلك معه .
وعن عطاء بن يسار أنَّ رجلاً قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أستأذن على اَمّي ؟ قال : ( نعم ) ، قال : ( إنها ليس لها خادم غيري أفأستأذن كلمّا دخلت ؟ قال : ( أتحبّ أن تراها عريانة ) ؟ قال الرجل : لا ، قال : ( فاستأذن عليها ) .
وأخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال : حدّثنا موسى بن محمد بن علي قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن وهب قال : حدّثنا محمد بن حميد قال : حدّثنا جرير بن عبد الحميد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من اطّلع في بيت بغير إذنهم فقد حلّ لهم ان يفقأوا عينه ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شبّه قال : حدّثنا الحضرمي قال : حدّثنا أبو بكر قال : حدّثنا ابن عيينة عن الزهري أنه سمع سهل بن سعد يقول : اطّلع رجل في حجرة من حجر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه مدرىً يحكّ به رأسه ، فقال : ( لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينيك ، إنّما الاستيذان من النظر ) .
النور : ( 28 ) فإن لم تجدوا . . . . .
) فان لم تجدوا فيها ( أي في البيوت ) أحداً ( يأذن لكم في دخولها ) فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وان قيل لكم ارجعوا فارجعوا ( ولا تقفوا على أبوابهم ولا تلازموها ) هو ( أي الرجوع ) أزكى ( أطهر وأصلح ) لكم والله بما تعملون عليم ( .
فلمّا نزلت هذه الآية قال أبو بكر : يا رسول الله أرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام
(7/85)
" صفحة رقم 86 "
ليس فيها ساكن ؟
النور : ( 29 ) ليس عليكم جناح . . . . .
فأنزل الله سبحانه ) ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة ( بغير استيذان ) فيها متاع ( منفعة ) لكم ( واختلفوا في هذه البيوت ما هي ؟ فقال قتادة : هي الخانات والبيوت المبنيّة للسائلة ليأووا إليها ويؤوا أمتعتهم إليها .
قال مجاهد : كانوا يضعون بطرق المدينة أقتاباً وأمتعة في بيوت ليس فيها أحد ، وكانت الطرق إذ ذاك آمنةً فأحلّ لهم أن يدخلوها بغير إذن .
محمد بن الحنفيّة : هي بيوت مكة ، ضحّاك : الخربة التي يأوي المسافر اليها في الصيف والشتاء ، عطاء : هي البيوت الخربة ، والمتاع هو قضاء الحاجة فيها من الخلاء والبول ، ابن زيد : بيوت التجّار وحوانيتهم التي بالأسواق ، ابن جرير : جميع ما يكون من البيوت التي لا ساكن لها على العموم لأنّ الاستيذان إنما جاء لئلاّ يهجم على مالا يحب من العورة ، فإذا لم يخف ذلك فلا معنى للاستيذان .
) والله يعلم ماتُبدون وما تكتمون }
النور : ( 30 ) قل للمؤمنين يغضوا . . . . .
) قل للمؤمنين يغضّوا ( يكفّوا ) من أبصارهم ( عن النظر إلى مالا يجوز ، واختلفوا في قوله ) من ( فقال بعضهم : هو صلة أي يغضّوا أبصارهم ، وقال آخرون : هو ثابت في الحكم لأنّ المؤمنين غير مأمورين بغضّ البصر أصلا ، وإنّما أُمروا بالغضّ عمّا لا يجوز .
) ويحفظوا فروجهم ( عمّن لا يحلّ ، هذا قول أكثر المفسّرين .
وقال ابن زيد : كلّ مافي القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلاّ في هذا الموضع فإنّه أراد الاستتار يعني : ويحفظوا فروجهم حتى لا ينظر إليها .
ودليل هذا التأويل إسقاط من ) ذلك أزكى لهم إنَّ الله خبير ( عليم ) بما يصنعون ( .
أخبرني ابن فنجويه في داري قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال : حدّثنا الحسن بن علي بن زكريا قال : حدّثنا أبو الربيع الزهراني قال : حدّثنا إسماعيل بن جعفر قال : حدّثنا عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن حنطب عن عبادة بن الصامت أنَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( اضمنوا لي ستّاً من أنفسكم اضمن لكم الجنة : اصُدقوا إذا حدّثتم ، وأوفوا إذا وعدتم ، وأدّوا ما ائتمنتم ، واحفظوا فروجكم ، وغضّوا أبصاركم ، وكفّوا أيديكم ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شيبة قال : حدّثنا الحضرمي قال : حدّثنا عبد الوارث قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا عنبسة بن عبد الرَّحْمن قال : حدّثنا أبو الحسن أنه سمع علي بن أبي طالب ح يقول : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( النظر إلى محاسن المرأة سهم من نبال إبليس مسموم
(7/86)
" صفحة رقم 87 "
فمن ردّ بصره ابتغاء ثواب الله عز وجل أبدله الله بذلك عبادة تسرُّه ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدَّثنا ابن شنبة قال : حدّثنا الحضرمي قال : حدّثنا سهل بن صالح الأنطاكي قال : حدّثنا أبو داود قال : حدّثنا أبان بن يزيد عن يحيى بن أبي كثير عن أبي جعفر عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( بينما رجل يصلّي إذ مرّت به امرأة فنظر إليها وأتبعها بصره فذهب عيناه ) .
النور : ( 31 ) وقل للمؤمنات يغضضن . . . . .
) وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ( عما لا يجوز ) ويحفظن فروجهن ( عمّا لا يحلّ ، وقيل : ويحفظن فروجهن أي يسترنها حتى لا يراها أحد .
) ولا يبدين زينتهنَّ ( ولا يظهرن لغير محرم زينتهن ، وهما زينتان : أحداهما ما خفي كالخلخالين والقرطين والقلائد والمعاصم ونحوها ، والأُخرى ما ظهر منها ، واختلف العلماء في الزينة الظاهرة التي استثنى الله سبحانه ورخّص فيها فقال ابن مسعود : هي الثياب ، وعنه أيضاً : الرداء ، ودليل هذا التأويل قوله سبحانه ) خذوا زينتكم عند كل مسجد ( أي ثيابكم . وقال ابن عباس وأصحابه : الكحل والخاتم والسوار والخضاب ، الضحّاك والأوزاعي : الوجه والكفّان ، الحسن : الوجه والثياب .
روت عائشة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت أن تظهر إلاّ وجهها ويدها إلى ههنا ) ، وقبض على نصف الذارع ، وإنّما رخّص الله سبحانه ورخّص رسوله في هذا القدر من بدن المرأة أن تبديها لأنّه ليس بعورة ، فيجوز لها كشفه في الصلاة ، وسائر بدنها عورة فيلزمها ستره .
) وليضربن ( وليلقين ) بخُمرهنّ ( أي بمقانعهن وهي جمع خمار وهو غطاء رأس المرأة ) على جيُوبهنّ ( وصدورهن ليسترن بذلك شعورهنّ وأقراطهنّ وأعناقهن .
قالت عائشة : يرحم الله النساء المهاجرات الأُوَل لمّا أنزل الله سبحانه هذه الآية شققن أكتف مروطهنّ فاختمرن به .
) ولا يبدين زينتهن ( الخفيّة التي أُمرن بتغطيتها ، ولم يبح لهنّ كشفها في الصلاة وللأجنبيين ، وهي ما عدا الوجه والكفّين وظهور القدمين ) إلاّ لبعولتهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهنَّ أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهنّ أو بني أخواتهنَّ أو نسائهنَّ ( أي نساء
(7/87)
" صفحة رقم 88 "
المؤمنين فلا يحلّ لامرأة مسلمة أن تتجرّد بين يدي امرأة مشركة إلاّ أن تكون أَمة لها فذلك قوله سبحانه ) أو ما ملكت أيمانهنّ ( .
عن ابن جريج : روى هشام بن الغار عن عبادة بن نُسيّ أنه كره أن تقبّل النصرانية المسلمة أو ترى عورتها ويتأوّل أو نسائهن .
وقال عبادة : كتب عمر بن الخطاب ح إلى أبي عبيدة بن الجراح : أما بعد فقد بلغني أنَّ نساء يدخلن الحمّامات معهنّ نساء أهل الكتاب فامنع ذلك وحُل دونه .
قال : ثم إنّ أبا عبيدة قام في ذلك المقام مبتهلاً : اللهم أيّما امرأة تدخل الحمّام من غير علّة ولا سقم تريد البياض لوجهها فسوّد وجهها يوم تبيّض الوجوه .
وقال بعضهم : أراد بقوله ) أو ما ملكت أيمانهن ( مماليكهنّ وعبيدهنّ فإنّه لا بأس عليهن أن يظهرن لهم من زينتهنّ ما يظهرن لذوي محارمهنّ .
) أو التابعين غير أُولي الإربة من الرجال ( وهم الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم ولا حاجة لهم في النساء ولا يستهوونهنَّ .
قال ابن عباس : هو الذي لا تستحيي منه النساء ، وعنه : الأحمق العنّين .
مجاهد : الأبله الذي لا يعرف شيئاً من النساء ، الحسن : هو الذي لا ينتشر ( زبه ) سعيد بن جبير : المعتوه ، عكرمة : المجبوب ، الحكم بن أبان عنه : هو المخنث الذي لا يقوم زبّه .
روى الزهري عن عروة عن عائشة خ قالت : كان رجل يدخل على أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مخنث ، وكانوا يعدّونه من غير أُولي الإربة فدخل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة فقال : ( إنّها إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان ) .
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا أرى هذا يعلم ما ههنا ، لا يدخلنّ هذا عليكم ) فحجبوه .
ابن زيد : هو الذي يتبع القوم حتى كأنه منهم ونشأ فيهم وليس له في نسائهم إربة ، وإنما يتبعهم لإرفاقهم إياّه ، والإربة والإرب : الحاجة يقال : أربتُ إلى كذا آرَبُ إرباً إذا احتجت إليه ، واختلف القرّاء في قوله ) غير ( فنصبه أبو جعفر وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر والمفضل ، وله وجهان :
أحدهما : الحال والقطع لأنّ التابعين معرفة وغير نكرة .
والآخر : الاستثناء ويكون ) غير ( بمعنى إلاّ . وقرأ الباقون بالخفض على نعت التابعين
(7/88)
" صفحة رقم 89 "
) أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ( أي لم يكشفوا عن عورات النساء لجماعهن فيطّلعوا عليها ، والطفل يكون واحداً وجمعاً .
) ولا يضربن بأرجُلهنّ ( يعني ولا يحرّكُنها إذا مشين ) ليعلم ما يخفينَ من زينتهنَّ ( يعني الخلخال والحلي ) وتوُبوا إلى الله جميعاً ( من التقصير الواقع في أمره ونهيه وقيل : معناه راجعوا طاعة الله فيما أمركم ونهاكم من الآداب المذكورة في هذه السورة .
2 ( ) وَأَنْكِحُواْ الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَءَاتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِىءَاتَاكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ اللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ ءَايَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ( 2
) أيها المؤمنون لعلكم تُفلحونَ (
النور : ( 32 ) وأنكحوا الأيامى منكم . . . . .
) وأنكحوا الأيامى منكم ( أي زوّجوا أيها المؤمنون مَن لا زوج له من أحرار رجالكم ونسائكم ) والصالحين من عبادكم وإمائكم ( وقرأ الحسن : من عبيدكم ، والأيامى جمع الأيّم وهو مَن لا زوج له من رجل وامرأة يقال : رجل أيّم وامرأة أيّم وأيّمة ، والفعل منه أمت المرأة تأيم أيمة أيوماً ، وتأيّمت تأيّماً ، قال الشاعر :
ألم تر أنّ الله أظهر دينه
وسعد بباب القادسيّة معصم
فأبنا وقد آمت نساء كثيرة
ونسوة سعد ليس منهن أيّم
وقال آخر :
فإن تنكحي أنكحْ وإنْ تتأيمّي
وإنْ كنت أفتى منكم أتأيّم
وفسّر بعض الفقهاء الآية على الحتم والإيجاب فأوجب النكاح على من استطاعه ، وتأوّلها الباقون على الندب والاستحباب وهو الصحيح المشهور والذي عليه الجمهور .
قال الشافعي ح : واجب للرجل والمرأة أن يتزوّجا إذا تاقت أنفسهما إليه لأنَّ الله جلَّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه أمر به ورَضيه وندب إليه ، وبلغنا أنّ النبّي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( تناكحوا تكثروا فإنّي أُباهي بكم الأُمم حتى بالسقط ) .
(7/89)
" صفحة رقم 90 "
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَن أحبّ فطرتي فليستنَّ بسنّتي وهي النكاح ، وقال : إنَّ الرجل ليُرفع بدعاء ولده من بعده .
قال ( الشافعي ) : ومن لم تُتق نفسه إلى ذلك فأحبّ إلىّ أن يتخلّى لعبادة الله عزَّ وجل ) .
وذكر الله سبحانه القواعد من النساء وذكر عبداً أكرمه فقال عزَّ من قائل ) وسيّداً وحصورا ( والحصور : الذي لا يأتي النساء . ولم يندبهم إلى النكاح ، فدلَّ أنّ المندوب إليه من يحتاج إليه .
باب ذكر بعض ما ورد من الأخبار في الترغيب في النكاح
أخبرنا أحمد بن أُبي قال : أخبرنا عبد الله بن إسحاق الجرجاني قال : حدّثنا أبو حامد محمد بن هارون الحضرمي قال : حدّثنا محمد بن يحيى الأزدي قال : حدّثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال : أخبرنا أشعث عن الحسن عن سمرة أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نهى عن التبتّل .
وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الحديثي قال : حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال : حدّثنا محمد بن صالح بن ذريح قال : حدّثنا جبارة بن المغلّس قال : حدّثنا جندل عن ابن جريح عن أبي المغلّس عن أبي نجيح السلمي قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَن كان له ما يتزوّج فلم يتزوج فليس منّا ) .
وأخبرني الحسين بن محمد قال : حدّثنا مخلد بن جعفر الباقرحي قال : حدّثنا أحمد بن يعقوب المقرى ابن أخي عوف قال : حدّثنا جبارة بن المغلس قال : حدّثنا مندل عن يحيى بن عبد الرَّحْمن عن أبيه عن جده قال : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَن أدرك له ولد وعنده ما يزوّجه فلم يزوّجه فأحدث فالإثم بينهما ) .
وأخبرني الحسين قال : حدّثنا عبد الله بن عبد الرَّحْمن الدقّاق قال : حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال : حدّثنا أبو يوسف الصيدلاني قال : حدّثنا خالد بن إسماعيل عن عبيد الله عن صالح
(7/90)
" صفحة رقم 91 "
مولى التومة قال : قال أبو هريرة : لو لم يبق من الدنيا إلاّ يوم واحد للَقيت الله بزوجة ، سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( شراركم عزّابكم ) .
وبإسناده عن صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا تزوّج أحدكم عجّ شيطانه ياويله : عصم ابن آدم منّي بثلثي دينه ) .
وأخبرني الحسن بن محمد قال : حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال : حدّثنا أبو زكريا يحيى بن علي بن خلف القطان قال : حدّثنا الحسين بن محمد قال : حدّثنا محمد بن ربيعة الكلابي قال : حدّثنا محمد بن ثابت العقيلي عن هارون بن رئاب عن أبي نجيح السلمي قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مسكين مسكين رجل ليست له امرأة ، مسكينة امرأة ليس لها زوج ) .
قالوا : يا رسول الله وان كانت غنيّة من المال ؟
قال : ( وإن كانت غنيّة من المال ) .
وأخبرني الحسين قال : حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن موسى قال : حدّثنا هشام بن عمار قال : حدّثنا حماد بن عبد الرَّحْمن قال : حدّثنا خالد بن الزبرقان عن سليمان بن حبيب عن أبي أمامة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أربع لعنهم الله من فوق عرشه وأمّنت عليه ملائكته : الذي يحصر نفسه عن النساء فلا يتزوج ولا يتسرّى لئلاّ يولد له ، والرجل يتشبّه بالنساء وقد خلقه الله ذكراً ، والمرأة تتشبّه بالرجال وقد خلقها الله أُنثى ، ومضلّل المساكين ) .
قال خالد : يعني الذي يهزأ بهم يقول للمسكين : هلّم أعطك ، فإذا جاء يقول : ليس معي شيء ، ويقول للمكفوف : اتّق الدابّة وليس بين يديه شيء ، والرجل يُسئل عن دار القوم فيجهله .
وأخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال : حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي قال : حدّثنا محمد بن عبد الله بن عبد السلام البيروتي قال : حدّثني أحمد بن سعيد بن يعقوب قال : أخبرنا بقية ابن الوليد قال : حدّثني معاوية بن يحيى عن سليمان بن موسى عن مكحول عن عفيف ابن الحارث عن عطيّة بن بشر المازني قال : أتى عكاف بن وادعة الهلالي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( يا عكاف ألك زوجة ؟ قال : لا يا رسول الله ، قال : ولا جارية ؟ قال : لا . قال : وانت صحيح موسر ؟ قال : نعم والحمد لله .
(7/91)
" صفحة رقم 92 "
قال : فإنّك إذاً بين إخوان الشياطين إمّا أن تكون من رهبان النصارى ، وإمّا أن تكون مؤمناً فاصنع كما نصنع فإنّ من سنّتنا النكاح ، شراركم عزّابكم وأراذل موتاكم عزّابكم ، ما للشيطان في نفسه سلاح أبلغ من النساء ألا إنّ المتزوّجين هم المطهّرون المبرّؤون من الخنا ، ويحك يا عكاف إنّهن صواحب داود وصواحب أيّوب وصواحب يوسف عليهم السلام وصواحب كرسُف .
قالوا : يا رسول الله ومن كرسُف ؟
قال : رجل كان يعبد الله سبحانه على ساحل من سواحل البحر ثلاثين عاماً ، يصوم النهار ويقوم الليل ، لا يفتر من صيام ولا قيام ، فكفر بالله العظيم من سبب امرأة عشقها وترك ما كان عليه من عبادة ربّه عزَّ وجل فتداركه الله سبحانه بما سلف منه ، ويحك يا عكاف تزوّج فإنّك من المذنبين .
قال : زوّجني من شئت قبل أن أبرح .
قال : فإنّي قد زوّجتك على اسم الله كريمة بنت كلثوم الحميري ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن المظفر البزاز قال : حدّثنا أبو عبد الله محمد ابن موسى بن النعمان بمصر قال : حدَّثنا علي بن عبد الرَّحْمن بن المغيرة قال : حدّثنا أبو صالح كاتب الليث قال : حدّثنا أبو يحيى بن قيس عن عبد الله بن مسعود أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا أتى على أُمّتي مائة وثمانون سنة فقد حلّت العزبة والعزلة والترهّب على رؤوس الجبال ) .
فصل فيمن يستحبّ ويختار من النساء
أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله الثقفي بقراءتي عليه في داري قال : حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن عبد العزيز بن الجعد قال : حدّثنا عبد الله بن عمر القواريري قال : حدّثنا عمر بن الوليد قال : سمعت معاوية بن يحيى يحدّث عن يزيد بن جابر عن جبير بن نفير عن عياض بن غنم الأشعري قال : قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا عياض لا تزوّجنّ عجوزاً ولا عاقراً فإنّي مكاثر ) .
وأخبرني الحسن بن محمد قال : حدّثنا برهان بن علي الصوفي قال : حدّثنا أبو بكر مردك
(7/92)
" صفحة رقم 93 "
ابن أحمد البردعي قال : حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال : حدّثنا إسحاق بن بشر الكاهلي قال : حدّثني عبد الله بن إدريس المدني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( تزوّجوا الأبكار فإنّهنّ أعذب أفواهاً ، وأفتح أرحاماً ، وأثبت مودةّ ) .
وبإسناده قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا اراد أحدكم أن يتزوّج المرأة فليسأل عن شعرها كما يسأل عن وجهها فإنَّ الشعر أحد الجمالين ) .
وبه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( تزوّجوا الزرق فإن فيهنّ يُمناً ) .
وأخبرني الحسين بن محمد قال : حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن وهب قال : حدّثنا عبدان بن عبد الله بن عبد الحكم قال : حدّثنا عبد الله ابن صالح قال : حدّثنا محمد بن سليمان بن أبي كريمة قال : حدّثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة خ قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أعظم نساء أُمّتي بركة أصبحهنّ وجهاً وأقلّهنّ مهراً ) .
فصل في الآداب الواردة في النكاح والزفاف
أخبرنا أبو عمرو الفراتي قال : أخبرنا أبو موسى قال : أخبرنا أبو علي الشيباني قال : حدّثنا محمد بن رافع قال : حدّثنا يزيد بن هارون قال : أخبرنا عيسى بن ميمون عن القاسم بن محمد عن عائشة خ عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه قال : ( اعلنوا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليها بالدفاف وليولم أحدكم ولو بشاة ) .
وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان وعبد الله بن يوسف قالا : حدّثنا يوسف بن أحمد بن كركان القرماسيني قال : حدّثنا أبو الزنباع روح بن الفرج قال : حدّثنا أبو سلمة البصري العتكى القاسم بن عمر قال : حدّثنا بشر بن إبراهيم الأنصاري عن الأوزاعي عن مكحول عن عروة عن عائشة خ قالت : حدَّثني معاذ بن جبل قال : شهدت ملاك رجل من الأنصار مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فخطب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأملك الأنصاري ثمَّ قال : ( على الألفة والخير والطير الميمون دَفّفوا على رأس صاحبكم ، وأقبلت السلال فيها الفاكهة والسكّر فنُهب عليهم
(7/93)
" صفحة رقم 94 "
فأمسك القوم فلم ينتهبوا ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما أزين الحلم ألا تنتهبون ، فقالوا : يا رسول الله أنّك نهيتنا عن النهبة يوم كذا وكذا ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنّما نهيتكم عن نهبة العساكر ولم أنهكم عن نهبة الولائم ثم قال : ألا فانتهبوا ) .
قال معاذ بن جبل : فوالله لقد رأيتُ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يجُرّرنا ونُجرّره في ذلك النهاب .
وأخبرني الحسين بن محمد قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال : حدَّثنا أبو العباس عبد الله بن أحمد بن حشيش البغدادي قال : حدّثنا عثمان بن معبد قال : حدّثنا عبد الله بن إبراهيم عن سفيان بن عامر العامري عن صافية مولاتهم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَسُّوا بالإملاك فإنّه أفضل في اليمن وأعظم في البركة ) .
وأخبرني الحسين قال : حدّثنا طفران بن الحسين قال : حدّثنا أبو بكر بن أبي داود السجستاني قال : حدّثنا أحمد بن يوسف بن سالم الازدي السلمي قال : حدّثنا حفص بن عبد الله عن إبراهيم بن طهمان عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن إسحاق بن سهل بن أبي حنتمة عن أبيه عن عائشة خ أنها قالت : كانت عندي جارية من الأنصار في حجري فزوّجتها فدخل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يسمع غناء فقال : ( يا عائشة ألا تغنّون عليها ، فانَّ هذا الحىّ من الأنصار يحبّون الغناء ) .
وأخبرني الحسين قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف قال : حدّثنا أبو بكر محمد بن ظهير بن ثمامة البزّار قال : حدّثنا أبو موسى بن المثّنى الزمر قال : حدّثنا حفص بن غياث عن ليث عن عطاء أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مرَّ عليه بعروس فقال : ( لو كان مع هذا لهو ) .
(7/94)
" صفحة رقم 95 "
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن أبي قال : حدّثنا محمد بن علي بن سالم الهمذاني قال : حدّثنا الحسن بن الحسين الرازي الهسنخاني قال : حدّثنا سعيد بن منصور قال : حدّثنا مسكين بن ميمون قال : حدّثني عروة بن رويم قال : بينا عبد الرَّحْمن بن قرط ينعسّ بحمص إذ مرّت عروس وقد أوقدوا النيران ، فضربهم بدرّية حتى تفرقوا عنها ، فلمّا أصبح قعد على منبره وقال : إنّ أبا جندلة نكح فصنع جفنات من طعام فرحم الله أبا جندلة وصلّى على آبائه ، ولعن الله أصحاب عروسكم أوقدوا النيران وتشبّهوا بأهل الشرك والله مطفئ نورهم يوم القيامة . ) إن يكونوا فقراء يُغنهم الله مِن فضله والله واسع عليم ( .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا علي بن أحمد بن نصرويه قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن وهب قال : حدّثني أبو زرعة قال : حدّثنا إبراهيم بن موسى الفرّاء قال : أخبرنا مسلم بن خالد عن سعيد بن أبي صالح عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( التمسوا الرزق بالنكاح ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن الحسن بن بشر قال : حدّثنا أبو يوسف محمد ابن سفيان بن موسى الصفّار بالمصّيصة قال : حدّثنا أبو عبد الله أحمد بن ناصح قال : حدّثنا عبد العزيز الدراوردي عن ابن عجلان أنَّ رجلا أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فشكا إليه الحاجة فقال : ( عليك بالباءة ) ، وشكى رجل إلى أبي بكر ح بعد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فشكا إليه الحاجة فقال : عليك بالباءة ، وجاء رجل إلى عمر ح بعد أبي بكر فشكا إليه الحاجة فقال : عليك بالباءة ، كلّ يريد قوله سبحانه ) إن يكونوا فقراء يغنِهم الله من فضله ( . قال ابن عجلان : وقال أبو بكر وعمر ذ : ابتغوا الغنى في النكاح .
النور : ( 33 ) وليستعفف الذين لا . . . . .
) وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً ( عن الحرام ) حتى يغنيهم الله من فضله ( ويوسّع عليهم من رزقه .
) والذين يبتغون الكتاب ( أي المكاتبة وهي أن يقول الرجل لعبده أو أَمته : قد كاتبتك على أن تعطيني كذا وكذا في نجوم معلومة على أنّك إذا أدّيت ذلك فأنت حرّ ، فيرضى العبد بذلك فإن أدّى مال الكتابة بالنجوم التي سّماها كان حرّاً ، وإن عجز عن أداء ذلك كان لمولاه أن يردّه إلى الرّقّ كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( المكاتب عبد مابقي عليه درهم ) . وأصل الكلمة من الكتب وهو الضمّ والجمع ، ومنه الكتيبة وكتب البغل وكتب الكتاب ، فسمّي المكاتب مكاتباً لأنه يضم نجوم مال الكتابة بعضها إلى بعض .
) ممّا ملكت أيمانكم فكاتبوهم ( اختلف الفقهاء في حكم هذه الآية فقال قوم : هو أمر حتم وإيجاب فرض على الرجل أن يكاتب عبده الذي قد علم منه خيراً إذا سأله ذلك بقيمته وأُكثر ولو كان بدون قيمته لم يلزمه ، وهو قول عمرو بن دينار وعطاء ، وإليه ذهب داود بن علي ومحمد ابن جرير من الفقهاء وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، واحتّج من نصر هذا المذهب بما روى قتادة أن سيرين سأل أنس بن مالك أن يكاتبه فتلكأ عليه ، فشكاه إلى عمر فعلاه بالدّرة وأمره بالكتابة ، واحتجّوا أيضاً بأن هذه الآية نزلت في غلام لحويطب بن عبد العزّى يقال له صبح سأل
(7/95)
" صفحة رقم 96 "
مولاه أن يكاتبه فأبى عليه فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية ، فكاتبه حويطب على مائة دينار ووهب له منها عشرين فأدّاها وقتل يوم حنين في الحرب .
وروى عن عمر أنّه قال : هي عزمة من عزمات الله ، من سأل الكتابة كوتب .
وقال الآخرون : هو أمر ندب واستحباب ، ولا يلزم السيّد مكاتبة عبده سواء بذل له قيمته أو أكثر منها أو أقل ، وهو قول الشعبي والحسن البصري ، وإليه ذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة وسائر الفقهاء .
وأمّا قوله سبحانه ) إن علمتم فيهم خيراً ( فاختلفوا فيه ، فقال ابن عمر وابن زيد ومالك بن أنس : يعني قوّة على الاحتراف والكسب لأداء ما كوتب عليه ، وإليه ذهب الثوري .
وروى الوالبي عن ابن عباس قال : إن علمت أنّ لهم حيلة ولا يلقون مؤونتهم على المسلمين .
وقال الحسن ومجاهد والضحاك : مالاً ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، واستدلّوا بقوله ) إن ترك خيراً ( .
قال الخليل : لو أراد المال لقال : إن علمتم لهم خيراً .
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال : حدّثنا هارون بن محمد قال : حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال : حدّثنا يحيى الحماني قال : حدّثنا أبو خالدالأحمر عن الأعمش عن أبي إسحاق عن أبي ليلى الكندي عن سلمان قال : قال له عبد : كاتبني ، قال : لك مال ؟ قال : لا ، قال : تطعمني أوساخ الناس فأبى عليه ، وقال إبراهيم وعبيدة وأبو صالح وابن زيد : يعني صدقاً ووفاء وأمانة ، وقال طاوس وعمرو بن دينار : مالاً وأمانة .
وقال الشافعي : أظهر معاني الخير في هذه الآية الاكتساب مع الأمانة ، فأحبّ أن لايمتنع من مكاتبته إذا كان هكذا .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبة قال : حدّثنا أبو بكر محمد بن عبد العزيز العثماني وأبو النضر إسحاق بن إبراهيم قال : حدّثنا يحيى بن حمزة قال : أخبرني محمد بن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثلاثة حق على الله عونهم : رجل خرج في سبيل الله سبحانه ، ورجل تزوّج التماس الغنى عما حرّم الله عزّ وجلّ ، ورجل كاتب التماس الأداء ) .
(7/96)
" صفحة رقم 97 "
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا هارون بن محمد بن هارون قال : حدّثنا محمد بن عبد العزيز قال : حدّثنا يحيى الحماني قال : حدّثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن عبيدة في قوله سبحانه ) إن علمتم فيهم خيراً ( قال : إن أقاموا الصلاة . وقيل : هو أن يكون المكاتب بالغاً عاقلاً فأمّا المجنون والصبي فلا يصحّ كتابتهما لأنّهما ليسا من أهل الابتغاء ، ولأنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( رفع القلم عن ثلاث ) الحديث .
وقال أبو حنيفة : يصحّ كتابة الصبي إذا كان مراهقاً مميّزاً بناءً على أصله إذا كان مراهقاً كيّساً حراً فأذن له وليُّهُ في التصّرف نفذ تصرّفه ، كذلك السيّد مع عبده إذا كاتبه فقد أذن له في التصرّف فصحّت كتابته .
واختلف الفقهاء في مال الكتابة ، فقال مالك وأبو حنيفة وأصحابهُ : تصح الكتابة حالّة ومؤجلة لأنَّ الله سبحانه قال ) فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً ( ولم يشترط فيه أجلا ولأنّه عقد على عين فصحَّ حالاًّ ومؤجّلاً كالبيع .
وقال الشافعي : لا تصحّ الكتابة حالّة وإنّما تصحّ إذا كانت مؤجّلةً ، وأقلّه نجمان .
) وآتوُهُم من مال الله الذي آتياكم ( اختلفوا فيه فقال بعضهم : الخطاب للموالي وهو أن يحطّ له من مال كتابته شيئاً ، ثم اختلفوا في ذلك الشيء فقال قوم : هو ربع المال وهو قول علىّ ، وإليه ذهب الثوري .
روى شعبة عن عبد الأعلى عن أبي عبد الرَّحْمن السلمي أنّه كاتب غلاماً له على ألف ومائتين وترك الربع وأشهدني ثم قال لي : كان صديقك يفعل هذا ، يعني عليّاً كرم الله وجهه ، وقد روى ذلك مرفوعاً .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حنش المقري قال : حدّثنا أبو عبد الله محمد بن أحمد ابن موسى قال : حدّثنا يوسف بن سعيد بن مسلم قال : حدّثنا حجاج عن ابن جريج عن عطاء بن السائب عن عبد الله بن حبيب يعني أبا عبد الرَّحْمن السلمي عن علي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وآتوهم من مال الله الذي آتياكم ( قال : ( ربع المكاتبة ) .
وقال آخرون : ليس فيه حدّ إنّما هو إليه ، يحطّ عنه من مال كتابته شيئاً .
روى أسباط عن السدّي عن أبيه قال : كاتبتني زينب بنت قيس بن مخرمة وكانت قد صلّت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) القبلتين جميعاً على عشرة آلاف فتركت لي ألفاً ، وروى الجريري عن أبي
(7/97)
" صفحة رقم 98 "
نضرة عن أبي سعيد مولى ابن أُسيد قال : كاتبني أبو أسيد على ثنتي عشرة مائة فجئته بها فأخذ منها ألفاً وردّ علىّ مائتين .
وقال نافع : كاتب عبد الله بن عمر غلاماً له يقال له شرقي على خمسة وثلاثين ألف درهم فوضع من آخر كتابته خمسه آلاف درهم .
قال سعيد بن جبير : وكان ابن عمر إذا كاتب مكاتبه لم يضع عنه شيئاً من أوّل نجومه مخافة أن يعجز فيرجع إليه صدقته ، ولكنّه إذا كان في آخر مكاتبته وضع عنه ما أحبّ ، وعلى هذا القول قوله ) وآتوهم ( أمر استحباب .
وقال بعضهم : معناه وآتوهم سهمهم الذي جعله الله لهم من الصدقات المفروضات بقوله ) وفي الرقاب ( وهو قول الحسن وزيد بن أسلم وابنه وعلى هذا التأويل هو أمر إيجاب .
وقال بريدة وإبراهيم : هو حثّ لجميع الناس على معونتهم .
أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبة قال : حدّثنا جعفر بن محمد الفريابي قال : حدّثنا صفوان بن صالح قال : حدّثنا الوليد قال : حدّثني زهير عن عبد الله بن محمد ابن عقيل عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( مَن أعان مكاتباً في رقبته أو غازياً في عسرته أو مجاهداً في سبيله أظله الله سبحانه في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه ) .
وأخبرني ابن فنجوية قال : حدّثنا موسى بن محمد بن علي قال : حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال : حدّثنا علي بن أحمد الواسطي قال : حدّثنا إسحاق بن منصور عن عبد السلام بن حرب عن يزيد بن عبد الرَّحْمن الدالاني عن خارجة بن هلال عن أبي سعيد ورافع بن خديج وابن عمر قالوا : جاءنا غلام لعثمان ح يقال له كيّس فقال : قوموا إلى أمير المؤمنين فكلّموه أن يكاتبني فقلنا له : إنَّ غلامك هذا سألنا أن تكاتبه فقال : أخذته بخمسين ومائة يجيء بها وهو حر ، قال : فخرجنا فأعانه كل رجل منّا بشيء قال : كونوا بالباب ثم قال : ياكيّس تذكر يوم عركت أُذنك ، قلت : بلى يا سيّدي ، قال : ألم أنهك أن تقول يا سيدي ؟ قال : فلم يزل بي حتى ذكرت ، قال : قم فخذ بأذني قال : فأبيت فلم يزل بي حتى قمت فأخذت بأُذنه فعركتها وهو يقول : شُدّ شدّ حتى إذا رآني قد بلغت ما بلغ منّي قال : حسبك ثم قال : واهاً للقضاء في الدنيا ، أُخرج فأنت حرّ وما معك لك .
(7/98)
" صفحة رقم 99 "
) ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء ( الآية .
نزلت في معاذة ومُسيكة جاريتي عبد الله بن أُبي المنافق ، كان يكرههما على الزنا بضريبة يأخذ منهما وكذلك كانوا يفعلون في الجاهلية ، يؤاجرون إماءهم ، فلمّا جاء الإسلام قالت معاذة لمسيكة : إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يخلو من وجهين فإن يك خيراً فقد استكثرنا منه ، وإن يك شرّاً فقد آن لنا أن ندعه ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية .
وقال مقاتل : نزلت في ستّ جوار لعبد الله بن أُبىّ كان يكرههنّ على الزنا ويأخذ أُجورهن وهنّ معاذة ومسيكة وأُميمة وعمرة وأروى وقتيلة ، فجاءته إحداهنّ ذات يوم بدينار وجاءت أُخرى ببرد فقال لهما : ارجعا فازنيا فقالتا : والله لا نفعل قد جاءنا الله بالإسلام وحرّم الزنا ، فأتتا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وشكتا إليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية .
وروى معمر عن الزهري أنّ عبد الله بن أُبي أسر رجلاً من قريش يوم بدر ، وكان لعبد الله جارية يقال لها معاذة فكان القرشي الأسير يريدها على نفسها وكانت مسلمة ، فكانت تمتنع منه وكان ابن أُبىّ يكرهها على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل للقرشي فيطلب فداء ولده ، فأنزل الله سبحانه ) ولا تكرهوا فتياتكم ( إماءكم ) على البغاء ( أي الزنا .
) إن أردن تحصّناً ( يعني إذ وليس معناه الشرط لأنه لا يجوز إكراههنّ على الزنا إن لم يردن تحصُّناً ، ونظيره قوله سبحانه ) وذروا ما بقى من الربا ان كنتم مؤمنين ( وقوله ) وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ( أي إذ ، وقوله ) لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ( يعني إذ شاء الله والتحصّن : التعفّف .
وقال الحسين بن الفضل : في الآية تقديم وتأخير تقديرها ) وأنكحوا الأيامى منكم إن أردن تحصّناً ( ثم قال ) ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء لتبتغوا عرض الحياوة الدنيا ومَن يكرههنَّ ( بعد ورود النهي ) فإنَّ الله من بعد إكراههنَّ ( لهنّ ) غفورٌ رحيم ( والوزر على المكره ، وكان الحسن إذا قرأ هذه الآية قال : لهنّ والله لهن .
النور : ( 34 ) ولقد أنزلنا إليكم . . . . .
) ولقد أنزلنا إليكم آياتٍ مبيّناتٍ ومَثلاً ( خبراً وعبرة ) من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين ( .
) اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِى زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا
(7/99)
" صفحة رقم 100 "
كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِىءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِى اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الاَْمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلَيِمٌ فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالاَْصَالِ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَواةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَواةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاَْبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ( 2
النور : ( 35 ) الله نور السماوات . . . . .
) الله نور السموات والأرض ( .
قال ابن عباس : الله هادي أهل السموات والأرض لا هادي فيهما غيره ، فهم بنوره إلى الحقّ يهتدون ، وبهداه من حيرة الضلالة ينجون وليس يهتدي ملك مقرّب ولا نبىّ مرسل إلاّ بهدى منه . 6
الضحّاك والقرظي : منوّر السموات والأرض .
مجاهد : مدبر الأُمور في السموات والأرض .
أُبي بن كعب وأبو العالية والحسن : مزيّن السموات بالشمس والقمر والنجوم ، ومزيّن الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين .
وقال بعضهم : يعني الأنوار كلّها منه كما يقال : فلان رحمة وسخطة وهو لا يكون في نفسه رحمة ولا سخطة وإنما يكون منه الرحمة والسخطة .
وقال بعض أهل المعاني : أصل النور هو التبرئة والتصفية ، يقال : امرأة نوار ونساء نوار إذا كنّ متعرّيات من الريبة والفحشاء ، قال الشاعر :
نوارُ في صواحبها نوارُ
كما فاجاك سربٌ أو صوارُ
فمعنى النور هو المنزّه من كل عيب .
وقال بعض العلماء : النور على أربعة أوجه : نور متلألئ ، ونور متولّد ، ونور من جهة صفاء اللون ، ونور من جهة المدح ، فالنور المتلألئ مثل قرص الشمس والقمر والكواكب وشعلة السراج ، والمتولد هو الذي يتولد من شعاع الشمس والقمر والسراج فيقع على الأرض فيستنير به ، والذي هو من صفاء اللون مثل نور اللآلئ واليواقيت وسائر الجواهر ، وكلّ شيء له نور صاف ، والذي هو من جهة المدح قول الناس : فلان نور البلد وشمس العصر ، قال الشاعر :
فإنّك شمس والملوك كواكب
إذا ما بدت لم يبد منهنّ كوكب
(7/100)
" صفحة رقم 101 "
وقال آخر :
قمر القبائل خالد بن يزيد
وقال آخر :
إذا سار عبد الله من مرو ليلة
فقد سار منها نورها وجمالها
ويجوز أن يقال : الله سبحانه نور من جهة المدح ؛ لأنه واجد الأشياء ونور جميع الأشياء منه دون سائر الأوجه ؛ لأنّ النور المحسوس الذي هو ضدّ الظلمة لا يخلو من شعاع وارتفاع وسطوع ولموع وهذه كلّها منفيّة عن الله سبحانه لأنها من أمارات الحدث .
قالوا : ولا يجوز أن يقال : لله يا نور إلاّ أن يضمّ إليه شيء كما لا يجوز أن يقال : يا بديع إلاّ أن يضمّ إليه شيء كما قال الله سبحانه ) بديع السماوات والأرض ( ) نور السموات والأرض ( .
وقرأ علي بن أبي طالب : الله نور السموات والأرض على الفعل .
) مَثَلُ نورهِ ( اختلفوا في هذه الكناية فقال بعضهم : هي عائدة إلى المؤمن أي مثل نوره في قلب المؤمن حيث جعل الإيمان والقرآن في صدره .
روى الربيع عن أبي العالية عن أُبي بن كعب في هذه الآية قال : بدا بنور نفسه فذكره ثمَّ ذكر نور المؤمن فقال ) مثل نوره ( وهكذا كان يقرأ أُبي : مثل نور من آمن به ، وقال ابن عباس والحسن وزيد بن أسلم وابنه : أراد بالنور القرآن ، وقال كعب وسعيد بن جبير : هو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومثله روى مقاتل عن الضحاك ، أضاف هذه الأنوار إلى نفسه تفضيلاً ، وروى عطيّة عن ابن عباس قال : يعني بالنور الطاعة ، يسمّي طاعته نوراً ثمَّ ضرب لها مثلا .
) كمشكاوة ( قال أهل المعاني : هذا من المقلوب أي كمصباح في مشكوة وهي الكوّة التي لا منفذ لها ، وأصلها الوعاء يجعل فيها الشيء ، والمشكاة : وعاء من أدم يُبرَّد فيه الماء ، وهي على وزن مفعلة كالمقراة والمصفاة . قال الشاعر
(7/101)
" صفحة رقم 102 "
كأنّ عينيه مشكاتان في حجر
قيضا اقتياضاً بأطراف المناقير
وقيل : المشكوة : عمود القنديل الذي فيه الفتيلة .
وقال مجاهد : هي القنديل
) فيها مصباح ( أي سراج وأصله من الضوء ، ومنه الصبح ، ورجل صبيح الوجه ومصبّح إذا كان وضيئاً ، وفرّق قوم بين المصباح والسراج فقال الخليل : المصباح : نفس السراج وقيل : السراج أعظم من المصباح لأنّ الله سبحانه سمّى الشمس سراجاً فقال ) سراجاً وهّاجاً ( و ) وجعل فيها سراجاً ( وقال في غيرها من الكواكب ) ولقد زينّا السماء الدنيا بمصابيح ( .
) المصباح في زجاجة ( قرأ نصر بن عاصم : زجاجة بفتح الزاي ، الباقون بضمّه .
قال الأخفش : فيها ثلاث لغات : ضمّ الزاي وفتحه وكسره .
) كأنّها كوكب دُرّيّ ( أي ضخم مضيء ، ودراريّ النجوم عظامها ، واختلف القرّاء فيه فقرأ أبو عمرو والكسائي مكسورة الدال مهموزة الياء ممدودة وهو من قول العرب : درأ النجم إذا طلع وارتفع ، ومن مكان إلى آخر رجع ، وإذا انقضّ في اثر الشيطان فأسرع ، وأصله من الرفع ، ووزنه من الفعل فعيل ، وقرأ حمزة وأبو بكر مضمومة الدال مهموزة ممدودة .
قال أكثر النحاة : هي لحن لأنه ليس في الكلام فُعّيل بضم الفاء وكسر العين .
قال أبو عبيد : وأنا ارى لها وجهاً وذلك أنه درّو على وزن فُعّول من درأت مثل سبّوح وقدوّس ثمَّ استثقلوا كثرة الضمّات فيه فردوا بعضها إلى الكسرة كما قالوا عتيّاً وهو فعول من عتوت .
وقال بعضهم : هو مشتق على هذه القراءة من الدراة وهي البياض ويقال : منه ملح دَراني ، وقرأ سعيد بن المسيّب وأبو رجاء العطاردي بفتح الدال وبالهمز .
قال أبو حاتم : هو خطأ لأنّه ليس في الكلام فعيل وإن صحّ منهما فهما حجّة ، وقرأ
(7/102)
" صفحة رقم 103 "
الباقون بضم الدال وتشديد الياء من غير همز ، نسبوه إلى الدُرّ في صفائه وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، ثمَّ قال أبو عبيد : وإنما اخترنا هذه القراءة لعلل ثلاث :
إحداها : ما جاء في التفسير أنه منسوب إلى الدُرّ لبياضه .
والثانية : للخبر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنّ أهل الجنة ليرون أهل عليين كما ترون الكوكب الدرّي في أُفق السماء وإنّ أبا بكر وعمر منهم وأنعما .
والثالثة : إجماع أهل الحرمين عليها .
) يوقَدُ ( اختلف القرّاء فيه أيضاً فقرأ شيبة ونافع وأيوب وابن عامر وعاصم برواية حفص بياء مضمومة يعنون المصباح ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف برواية أبي بكر بتاء مضمومة أرادوا الزجاجة ، وقرأ بن محيص بتاء مفتوحة وتشديد القاف و رفع الدال على معنى تتوقد الزجاجة ، وقرأ الآخرون : بفتح التاء والقاف والدال على المضيء يعنون المصباح .
) من شجرة مباركة زيتونة لا شرقيّة ولا غربيّة ( .
قال عكرمة وجماعة : يعني لا يسترها من الشمس جبل ولا واد ، فإذا طلعت الشمس أصابتها وإذا غربت أصابتها ، فهي صاحبة للشمس طول النهار وليست شرقية وحدها حتى لا تصيبها الشمس إذا غربت ، ولا هي غربية وحدها فلا تصيبها الشمس بالغداة إذا طلعت ، بل تأخذ حظّها من الأمرين ، وإذا كان كذلك كان أجود وأضوأ لزينتها .
وقال السدىّ وجماعة : يعني ليست في مقنوة لا تصيبها الشمس ولا هي بارزة للشمس لا يصيبها الظل ، فهي لم يضرّها الشمس ولا الظلّ .
وقال بعضهم : هي معتدلة ليست من شرق فيلحقها الحرّ ، ولا في غرب فيضرّ بها البرد وهي رواية ابن ظبيان عن ابن عباس .
وقال ابن زيد : هي شاميّة لأنّ الشام لا شرقي ولا غربي ، تقول : هي شرقيّة وغربيّة وهذا كقولك : فلان لا مسافر ولا مقيم ، وليس هذا بأبيض ولا أسود إذا كان له من كلا الأمرين قسط ونصيب ، قال الشاعر :
بأيدي رجال لم يشيموا سيوفهم
ولم تكثر القتلى بها حين سُلّت
(7/103)
" صفحة رقم 104 "
يعني فعلوا هذا .
وقال الحسن : ليس هذه الشجرة من شجر الدنيا ، ولو كانت في الأرض لكانت شرقية أو غربية ، وإنّما هو مثل ضربه الله سبحانه لنوره ، وقد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا لأنها بدل من الشجرة فقال ) زيتونة ( وإنما خصّ الزيتونة من بين سائر الاشجار لأنّ دهنها أضوأ وأصفر .
وقيل : لأنّه يورق غصنها من أوله إلى آخره ولا يحتاج دهنه إلى عصّار يستخرجه .
وقيل : لأنّها أول شجرة نبتت من الدنيا ، وقيل : بعد الطوفان ، وقيل : لأنّ منبتها منزل الأنبياء والأولياء والأرض المقدّسة ، وقيل : لأنّهُ بارك فيها سبعون نبيّاً منهم إبراهيم ( عليه السلام ) قال : لذلك قال ) مباركة ( .
أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين الحافظ في داري قال : حدّثنا عبد الله ابن يوسف بن أحمد بن مالك قال : حدّثنا أحمد بن عيسى بن السكين البلدي قال : حدّثني هاشم ابن القاسم الحراني قال : حدّثنا يعلى بن الأشدق عن عمّه عبد الله بن حراد قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهَّم بارك في الزيت والزيتون ، اللهّم بارك في الزيت والزيتون ) .
وأخبرني الحسين بن محمد قال : حدّثنا محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال : حدّثنا أبو شعيب الحراني قال : حدّثني أحمد بن عبد الملك قال : حدّثنا زهير قال : حدَّثنا عبد الله بن عيسى عن عطاء عن أبي أُسيد قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كلوا الزيت وادّهنوا به فإنّه من شجرة مباركة ) .
وأخبرني الحسين قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال : حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال : حدّثنا محمد بن علي بن الحسن بن سفيق قال : سمعت أبي يقول : حدّثنا أبو حمزة عن جابر عن أبي الطفيل عن عبد الله بن ثابت الأنصاري قال : دعا بَنِيه ودعا بزيت فقال : ادهنوا رؤوسكم ، فقالوا : لا ندهن رؤوسنا بالزيت قال : فأخذ العصا وجعل يضربهم ويقول : أترغبون عن دهن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
وحدّثنا عبد الله بن يوسف بن ماموله قال : أخبرنا محمد بن عمر بن الخطاب الدينوري قال : حدّثنا أحمد بن عبد الله بن سنان قال : حدّثنا يحيى بن عثمان بن صالح قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر أنَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( عليكم بهذه الشجرة المباركة زيت الزيتون فتداووا به فإنّه مصحّة من الباسور ) .
(7/104)
" صفحة رقم 105 "
ثمَّ قال سبحانه ) يكاد زيتها تضيء ( من صفائه وضيائه . ) ولو لم تمسَسهُ نارٌ ( قيل : أن تصيبه نار ، واختلف العلماء في معنى هذا المثل والممّثل وفي المعنيّ بالمشكاة والزجاجة والمصباح ، فقال قوم : هذا مثل ضربه الله سبحانه لنبّيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقال شمر بن عطية : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال له : حدّثني عن قوله سبحانه وتعالى ) مثل نوره كمشكوة ( الآية فقال كعب : هذا مثل ضربه الله سبحانه لمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) فالمشكاة صدره ، والزجاجة قلبه ، والمصباح فيه النبوّة ، توقد من شجرة مباركة وهي شجرة النبوّة ، يكاد نور محمد وأمره يتبّين للناس ولو لم يتكلّم أنّه نبىّ كما يكاد ذلك الزيت يضيء ولو لم تمسَسه نار .
أخبرنا أبو بكر الجوزقي قال : حدّثنا أبو عثمان البصري قال : حدّثنا أحمد بن سلمة قال : حدّثنا الحسين بن منصور قال : حدّثنا أبان بن راشد الحرزي قال : حدّثنا الوراع بن نافع عن سالم عن ابن عمر في هذه الآية قال : المشكاة جوف محمد ، والزجاجة قلبه ، والمصباح النور الذي جعل الله فيه ، لا شرقية ولا غربية لا يهودي ولا نصراني ، توقد من شجرة مباركة إبراهيم ، نور على نور النور الذي جعل الله في قلب إبراهيم كما جعل في قلب محمد ( صلى الله عليه وسلم )
وقال محمد بن كعب القرظي : المشكوة إبراهيم ، والزجاجة إسماعيل ، المصباح محمد ( صلى الله عليه وسلم ) سمّاه الله مصباحاً كما سمّاه سراجاً فقال عزَّ من قائل ) وسراجاً منيراً ( ) يوقد من شجرة مباركة ( وهي إبراهيم ، سمّاه مباركاً لأنَّ أكثر الأنبياء كانوا من صلبه ، لا شرقية ولا غربية يعني إبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً ، وإنّما قال ذلك لأنّ اليهود تصلّي قِبل المغرب والنصارى قِبل المشرق ) يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسَسه نار ( يعني تكاد محاسن محمد تظهر للناس قبل أن أُوحي إليه ) نورٌ على نور ( أي نبيّ من نسل نبيّ .
وروى مقاتل عن الضحّاك قال : شبّه عبد المطّلب بالمشكاة وعبد الله بالزجاجة والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمصباح ، كان في صلبهما فورث النبوّة من إبراهيم ( عليه السلام ) ) يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية ( بل هي مكيّة لأنّ مكة وسط الدنيا .
ووصف بعض البلغاء هذه الشجرة فقال : هي شجرة التُقى والرضوان وشجرة الهدى والإيمان شجرة أصلها نبوّة ، وفرعها مروّة ، وأغصانها تنزيل ، وورقها تأويل ، وخدمها جبرئيل وميكائيل .
وقال آخرون : هذا مَثَل ضربه الله سبحانه للمؤمن .
روى الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أُبي بن كعب قال : هذا مثل المؤمن ، فالمشكاة نفسه ، والزجاجة صدره ، والمصباح ما جعل الله سبحانه من الإيمان والقرآن في قلبه ، توقد من
(7/105)
" صفحة رقم 106 "
شجرة مباركة وهي الإخلاص لله وحده لا شريك له ، فمثله مثل شجرة التفَّ بها الشجر فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أيّ حال كانت لا إذا طلعت ولا إذا غربت ، وكذلك المؤمن قد أُجير من أن يصيبه شيء من الفتن وقد ابتلي بها ، فيثبته الله تعالى فيها ، فهو بين أربع خلال : إن أُعطي شكر ، وإن ابتلي صبر ، وإن حكم عدل ، وإن قال صدق ، فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات .
ثمَّ قال : ) نورٌ على نور ( فهو ينقلب في خمسة من النور : فكلامه نور ، وعمله نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصيره إلى النور يوم القيامة إلى الجنة .
وقال ابن عباس : هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء قبل أن تمسّه النار ، فإن مسته النار ازداد ضوءاً على ضوئه كما يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم ، فإذا جاءه العلم ازداد هدىً على هدىً ونوراً على نور كقول إبراهيم ( عليه السلام ) قبل أن تجيئه المعرفة ) هذا ربّي ( حين رأى الكوكب من غير أن أخبره أحد أنّ له ربّاً ، فلمّا أخبره الله أنّه ربّه ازداد هدىً على هدىً ثم قال ) نور على نور ( يعني إيمان المؤمن وعمله .
وقال الحسن وابن زيد : هذا مَثَل للقرآن في قلب المؤمن ، فكما أنّ هذا المصباح يُستضاء به وهو كما هو لا ينقص فكذلك القرآن يُهتدى به و يؤخذ به ويعمل به ، فالمصباح هو القرآن ، والزجاجة قلب المؤمن ، والمشكاة لسانه وفمه ، والشجرة المباركة شجرة الوحي .
) يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسَسه نار ( يقول : تكاد حجّة القرآن تتّضح وإن لم تُقرأ ، وقيل : تكاد حجج الله على خلقه تضيء لمن فكّر فيها وتدبّرها ولو لم ينزل القرآن .
) نور على نور ( يعني أنّ القرآن نور من الله يخلقه مع ما قد أقام لهم من الدلائل والأعلام قبل نزول القرآن فازدادوا بذلك نوراً على نور .
ثمَّ أخبر أنّ هذا النور المذكور عزيز فقال عزَّ من قائل ) يهدي الله لنوره من يشاء ويضربُ اللهُ الأَمثال للناس ( تقريباً للشيء الذي أراده إلى الأفهام وتسهيلا لسبل الإدراك على الأنام ) والله بكل شيء عليم ( .
النور : ( 36 ) في بيوت أذن . . . . .
ثمَّ قال عزَّ من قائل ) في بيوت ( نظم الآية : ذلك المصباح في بيوت ويجوز أن يكون معناه : توقد في بيوت وهي المساجد ، عن أكثر المفسّرين .
أخبرني ابن فنجويه الدينوري قال : حدّثنا ابن حنش المقري قال : حدّثنا محمد بن أحمد
(7/106)
" صفحة رقم 107 "
ابن إبراهيم الجوهري قال : حدّثنا علىّ بن أشكاب قال : حدّثنا محمد بن ربيعة الكلابي عن بكير ابن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : المساجد بيوت الله عزّ وجلّ في الأرض ، وهي تضيء لأهل السماء كما تضئ النجوم لأهل الأرض .
وقال عمرو بن ميمون : أدركت أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم يقولون : المساجد بيوت الله وحقّ على الله أن يكرم من زاره فيها .
وأخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين قال : حدّثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان قال : حدّثنا عبيد الله بن ثابت الحريري قال : حدّثنا أبو سعيد الأشجّ قال : حدّثنا أبو أُسامة عن صالح بن حيّان عن ابن أبي بريدة في قوله سبحانه ) في بيوت أَذِن الله أن ترفع ( الآية . قال : إنّما هي أربع مساجد لم يبنها إلاّ نبيّ : الكعبة بناها إبراهيم وإسماعيل فجعلاها قبلة ، وبيت المقدس بناه داود وسليمان ، ومسجد المدينة بناه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومسجد قباء أُسّس على التقوى ، بناه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
وأخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الدينوري قال : حدّثنا أبو زرعة أحمد بن الحسين بن علي الرازي قال : حدّثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمذاني بالكوفة قال : حدّثنا المنذر بن محمد القابوسي قال : حدَّثني الحسين بن سعيد قال : حدّثني أبي عن أبان بن تغلب عن نفيع بن الحرث عن أنس بن مالك وعن بريدة قالا : قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية ) في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ( إلى قوله ) والأبصار ( فقام رجل فقال : أيّ بيوت هذه يا رسول الله ؟ قال : ( بيوت الأنبياء ) .
قال : فقام إليه أبو بكر فقال : يا رسول الله هذا البيت منها لبيت عليّ وفاطمة ؟
قال : ( نعم من أفاضلها ) .
الصادق : بيوت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) السدّي : المدينة .
وأولى الأقوال بالصواب أنّها المساجد لدلالة سياق الآية على أنها بيوت بنيت للصلاة والعبادة .
فإن قيل : ما الوجه في توحيده المشكاة والمصباح وجمع البيوت ، لا يكون مشكاة واحدة إلاّ في بيت واحد ؟
(7/107)
" صفحة رقم 108 "
قلنا : هذا من الخطاب المتلوّن الذي يفتح بالتوحيد ويختم بالجمع كقوله سبحانه ) يا أيها النبي إذا طلّقتم النساء ( ونحوها ، وقيل : رجع إلى كلّ واحد من البيوت ، وقيل : هو مثل قوله سبحانه ) وجعل القمر فيهن نوراً ( وإنّما هو في واحدة منها .
) أن ترفع ( أي تبنى عن مجاهد نظيره قوله سبحانه ) وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ( وقال الحسن : تعظيم ، ) ويذكر فيها اسمهُ ( قال ابن عباس : يتلى فيها كتابهُ ، ) يُسبِّحُ له فيها ( قرأ قتادة وأشهب العقيلي ونصر بن عاصم الليثي وابن عامر وعاصم بفتح الباء على غير تسمية الفاعل .
ثم قال ) رجالٌ ( أي هم رجال كما يقال : ضرب زيد وأكل طعامك فيقال : من فعل ؟ فيبيّن فيقول : فلان ، وفلان والوقف على هذه القراءة عند قوله ) والآصال ( . وقرأ الآخرون بكسر الباء جعلوا التسبيح فعلاً للرجال .
قال ابن عباس : كلّ تسبيح في القرآن صلاة يدلّ عليه قوله سبحانه ) بالغدوّ وَالآصال ( أي بالغداة والعشىّ .
قال المفسّرون : أراد الصلوات المفروضة ، فالصلاة التي تؤدّى بالغدوّ صلاة الفجر ، والتي تؤدّى في الآصال صلاة الظهر والعصر والعشاءين لأنّ اسم الأصيل لجميعها .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبة قال : حدّثنا عمير بن مرداس قال : حدّثنا إسماعيل بن أبي أُويس قال : حدّثنا عبد الرَّحْمن بن زيد عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ما من أحد يغدو ويروح إلى المسجد ويوثره على ما سواه إلاّ وله عند الله نزل معدّله في الجنّة كلّما غدا وراح ، كما لو أنّ أحدكم زارهُ من يحبّ زيارته في كرامته ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال : حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال : حدّثنا أبو سلمة يحيى بن المغيرة المخزومي قال : حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحسني عن إبراهيم المدني عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَن غدا إلى المسجد وراح ليتعلّم خيراً أو يعلّمه كان كمثل المجاهد في سبيل الله رجع غانماً ، ومن غدا إليه لغير ذلك كان كالناظر إلى الشيء ليس له ، يرى المصلين وليس منهم ، ويرى الذاكرين وليس منهم )
(7/108)
" صفحة رقم 109 "
النور : ( 37 ) رجال لا تلهيهم . . . . .
ثمَّ وصفهم فقال ) رجال ( قيل : وجه تخصيص الرجال بالذكر في هذه البيوت أنّه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المساجد ) لا تلهيهم تجارةٌ ( قال أهل المعاني : إنّما خصّ التجارات لأنّها أعظم ما يشتغل بها الإنسان عن الصلوات وسائر الطاعات ) ولا بيعُ ( إن قيل : إنّ التجارة اسم يقع على البيع والشراء ، فما معنى ضم ذكر البيع إلى التجارة ؟ فالجواب عنه ما قال الواقدي أنّه أراد بالتجارة الشراء نظيره قوله سبحانه ) وإذا رأوا تجارة ( يعني الشراء .
) عن ذكر اللّه وإقام الصلواة ( أي إقامة الصلاة فحذف الهاء الزائدة لأجل الإضافة ، لأنّ الخافض وما خفض عندهم كالحرف الواحد فاستغنوا بالمضاف إليه من الهاء إذ كانت الهاء عوضاً من الواو ، ولأنّ أصل الكلمة أقومت إقواما فاستثقلوا الضمّة على الواو فسكّنوها فاجتمع حرفان ساكنان فأسقطوا الواو ونقلوا حركته إلى القاف ، وأبدلوا من الواو المحذوفة هاء في آخر الحرف كالتكثير للحرف كما فعلوا في قولهم : عدة وزنة وأصلها وعدة ووزنة ، فلمّا أُضيفت حذفت الهاء وجعلت الإضافة عوضاً منها ، كقول الشاعر :
إنّ الخليط أجدّوا البين وانجردوا
وأخلفوك عِدَ الأمر الذي وعدُوا
أراد : عِدَة الأمر فأسقط الهاء منها لما أضافها .
) وإيتاء الزكاوة ( المفروضة عن الحسن .
وقال ابن عباس : الزكاة إخلاص الطاعة لله سبحانه وتعالى . قال ابن حيّان : هم أهل الصفّة .
وأخبرني ابن فنجويه قال : أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال : حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال : حدّثنا سلمة بن شبيب قال : حدّثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا جعفر بن سليمان قال : أخبرني عمرو بن دينار مولى لآل الزبير عن سالم عن ابن عمر أنّه كان في السوق فأُقيمت الصلاة ، فأغلقوا حوانيتهم فدخلوا المسجد فقال ابن عمر : فيهم نزلت ) رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ( .
وأخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الدينوري قال : حدّثنا أبو سعيد أحمد بن عمر بن حبيش الرازي قال : حدّثنا علي بن طيفور النسائي قال : حدّثنا قتيبة قال : حدّثنا ابن لهيعة عن دراج عن أبي حجير عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إنَّ للمساجد أوتاداً الملائكة جلساؤهم يتفقّدونهم ، وإن مرضوا عادوهم وإن كانوا في حاجة أعانوهم )
(7/109)
" صفحة رقم 110 "
وقال : جليس المسجد على ثلاث خصال : اخ مستفاد ، أو كلمة محكمة ، أو رحمة منتظرة .
) يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب ( من هوله بين طمع في النجاة وحذر من الهلاك .
) والأبصار ( أيّ ناحية يُؤخذ بهم أذات اليمين أم ذات الشمال ؟ ومن أين يؤتون كتبهم أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال ؟ وذلك يوم القيامة .
النور : ( 38 ) ليجزيهم الله أحسن . . . . .
) ليجزيهم اللهُ أحسن ما عملوا ( يعني أنّهم اشتغلوا بذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ) ليجزيهم الله أحسن ( أي بأحسن ) ما عملوا ( .
) ويزيدَهُم من فضله ( ما لم يستحقّوه بأعمالهم ) والله يرزق مَن يشاء بغير حساب (
.
) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِى بَحْرٍ لُّجِّىٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِى سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالاَْبْصَارِ يُقَلِّبُ اللَّهُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِى ذالِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِى الاَْبْصَارِ ( 2
النور : ( 39 ) والذين كفروا أعمالهم . . . . .
ثمَّ ضرب لأعمال الكافرين مثلا فقال عزَّ من قائل ) والذين كفروا أعمالهم كسراب ( وهو الشعاع الذي تراه نصف النهار في البراري عند شدّة الحرّ كأنّه ماء فإذا قرب منه الإنسان انفشّ فلم ير شيئاً ، وسمّي سراباً لأنّه ينسرب أي يجري كالماء .
) بقيعة ( وهو جمع القاع مثل جار وجيرة ، والقاع : المنبسط الواسع من الأرض وفيه يكون السراب .
) يحسَبه الظمآن ( يظنّه العطشان ) ماء حتى إذا جاءَهُ ( يعني ما قدّر أنّه ماء فلم يجده على ما قدّر ، وقيل : معناه جاء موضع السراب فاكتفى بذكر السراب عن موضعه ، كذلك الكافر يحسب أنّ عمله مغنى عنه أو نافعه شيئاً فإذا أتاه الموت واحتاج إلى عمله لم يجد عمله أغنى عنه شيئاً ولا نفعه ) ووَجد الله عندَهُ ( أي وجد الله بالمرصاد عند ذلك ) فوفاه حسابَهُ ( جزاء عمله ، ) والله سريع الحساب (
النور : ( 40 ) أو كظلمات في . . . . .
) أو كظلمات ( .
وهذا مثل آخر ضربه اللّه تعالى لأعمال الكفّار أيضاً يقول : مثل أعمالهم في خطائها
(7/110)
" صفحة رقم 111 "
وفسادها ، وضلالتهم وجهالتهم وحيرتهم فيها كظلمات ) في بحر لجّي ( وهو العميق الكثير الماء وذلك أشدّ ظلمة ، ولجّة البحر : معظمه ) يغشاهُ ( يعلوه ) موج من فوقه موج ( متراكم ) من فوقه سحاب ( قرأ ابن كثير برواية النبّال والفلنجي سُحاب بالرفع والتنوين ، ظلمات بالجرّ على البدل من قوله أو كظلمات . روى البّزي عنه ، سحاب ، ظلمات بالاضافة وقرأ الآخرون : سحاب ، ظلمات كلاهما بالرفع والتنوين ، وتمام الكلام عند قوله ) سحاب ( .
ثمَّ ابتدأ فقال ) ظلمات بعضها فوق بعض ( ظلمة السحاب وظلمة الموج وظلمة البحر .
قال المفسّرون : أراد بالظلمات أعمال الكافر ، وبالبحر اللجّي قلبه ، وبالموج ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة ، وبالسحاب الرَّين والختم والطبع على قلبه .
قال أُبي بن كعب في هذه الآية : الكافر ينقلب في خمس من الظلم : فكلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ومدخله ، ظلمة ومخرجه ظلمة ، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة إلى النار .
) إذا أخرج ( يعني الناظر ) يده لم يكد يراها ( أي لم يقرب من أن يراها من شدة الظلمات .
وقال الفرّاء : كادَ صلة أي لم يرها كما تقول : ما كدت أعرفه ، وقال المبرّد : يعني لم يرها إلاّ بعد الجهد كما يقول القائل : ما كدت أراك من الظلمة وقد رآه ولكن بعد يأس وشدّة ، وقيل : معناه قرب من الرؤية ولم يُرَ ، كما يقال : كاد العروس يكون أميراً ، وكاد النعام يطير .
) ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور ( يعني مَن لم يهده الله فلا إيمان له .
قال مقاتل : نزلت في عتبة بن ربيعة بن أُميّة ، كان يلتمس الدين في الجاهلية ولبس المسوح ثم كفر في الإسلام .
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد بن محمد بن إبراهيم العدل قال : حدّثنا أبو الحسين محمد بن منصور الواعظ قال : حدّثنا أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد قال : حدّثنا محمد ابن يونس الكديمي قال : حدّثنا عبيد الله بن عائشة قال : حدّثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أُنَّ الله تعالى خلقني من نوره ، وخلق أبا بكر من نوري ، وخلق عمر وعائشة من نور أبي بكر ، وخلق المؤمنين من أُمّتي من الرجال من نور عمر ، وخلق المؤمنات من أُمّتي من النساء من نور عائشة ، فمَن لم يحبّني ويحبّ أبا بكر وعمر وعائشة فما له من نور ، فنزلت عليه ) ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور ( ) .
النور : ( 41 ) ألم تر أن . . . . .
) ألم ترَ أنّ الله يسبّح له مافي السموات والأرض والطير صافّات ( أجنحتهنّ في الهواء
(7/111)
" صفحة رقم 112 "
) كلٌّ قد علم صلاتَهُ وتسبيحه ( قال المفسّرون : الصلاة لبني آدم ، والتسبيح عام لغيرهم من الخلق وفيه وجوه من التأويل :
أحدها : كلّ مصلّ ومسبّح قد علم الله صلاته وتسبيحه .
والثاني : كلّ مسبّح ومصلَ منهم قد علم صلوة نفسه وتسبيحه الذي كلّفه الله ، وقد علم كلّ منهم صلاة الله من تسبيحه . ) والله عليم بما يفعلون (
النور : ( 42 ) ولله ملك السماوات . . . . .
) ولله ملك السموات والأرض ( أي تقديرها وتدبير أُمورها وتصريف أحوالها كما يشاء ) وإلى الله المصير (
النور : ( 43 ) ألم تر أن . . . . .
) ألم تر أنّ الله يُزْجِي ( يسوق ) سحاباً ( إلى حيث يريد ) ثمَّ يؤلّفُ بينَهُ ( أي يجمع بين قطع السحاب المتفرّقة بعضها إلى بعض ، والسّحاب جمع ، وإنما ذكر الكناية على اللفظ ) ثم يجعله ركاماً ( متراكماً بعضه فوق بعض ) فترى الودق يخرج من خلاله ( وسطه وهو جمع خلل ، وقرأ ابن عباس والضحاك من خَللهِ .
) وينزّلُ من السماء من جبال فيها من برد ( أي البرد ، ومن صلة ، وقيل : معناه وينزل من السماء قدر جبال أو مثال جبال من برد إلى الأرض ، فمِن الأُولى للغاية لأنّ ابتداء الإنزال من السماء ، والثانية : للتبعيض لأنّ البرد بعض الجبال التي في السماء ، والثالثة : لتبيين الجنس لأنّ جنس تلك الجبال جنس البرد ) فيصيب به ( أي بالبرد ) من يشاء ( فيهلكه ويهلك زروعه وأمواله ، ) ويصرفه عمن يشاء يكاد سَنَا برقه ( أي ضوء برق السحاب ) يذهب بالأبصار ( من شدّة ضوئه وبريقه ، وقرأ أبو جعفر : يُذهب بضم الياء وكسر الهاء ، غيره : من الذهاب .
النور : ( 44 ) يقلب الله الليل . . . . .
) يقلّب اللّه الليل والنهار ( يصرفهما في اختلافهما ويعاقبهما ) إنَّ في ذلك ( الذي ذكرت من هذه الاشياء ) لعبرةً لأُولي الأَبصار ( لذوي العقول .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيعي قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا سفيان عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قال الله عزَّ وجل : يؤذيني ابن آدم بسبّ الدهر وأنا الدهر ، بيدي الأمر ، أُقلّب الليل والنهار ) .
( ) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ لَّقَدْ أَنزَلْنَآ ءَايَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَيِقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذالِكَ وَمَآ أُوْلَائِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ
(7/112)
" صفحة رقم 113 "
الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَآئِزُون وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الاَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِى ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِى لاَ يُشْرِكُونَ بِى شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذالِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ( 2
النور : ( 45 ) والله خلق كل . . . . .
) والله خلقَ كلّ دابّة ( خالق على الاسم كوفي غير عاصم ، الباقون : خَلَق كلّ دابّة على الفعل ) من ماء ( أي من نطفة ، وقيل : إنما قال ) من ماء ( لأنَّ أصل الخلق من الماء ، ثم قلب بعض الماء إلى الريح فخلق منها الملائكة ، وبعضه إلى النار فخلق منه الجن ، وبعضه إلى الطين فخلق منه آدم .
) فمنهم من يمشي على بطنه ( كالحيّات والحيتان ) ومنهم من يمشي على رجلين ( كالطير ) ومنهم من يمشي على أربع ( قوائم كالأنعام والوحوش والسباع ولم يذكر ما يمشي على أكثر من أربع لأنّه كالذي يمشي على أربع في رأي العين .
) يخلق الله مايشاء ( كما يشاء ) إنّ الله على كل شيء قدير }
النور : ( 46 - 47 ) لقد أنزلنا آيات . . . . .
) لقد أنزلنا آيات مبيّنات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ( يعني المنافقين ) ثمَّ يتولى فريق منهم من بعد ذلك ( ويدعو إلى غير حكم الله .
قال الله سبحانه وتعالى ) وما أولئك بالمؤمنين ( نزلت هذه الآيات في بشر المنافق وخصمه اليهودي حين اختصما في أرض فجعل اليهودي يجرّه إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليحكم بينهما ، وجعل المنافق يجرّه إلى كعب بن الأشرف ويقول : إنّ محمّداً يحيف علينا ، فذلك قوله
النور : ( 48 ) وإذا دعوا إلى . . . . .
) وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ( الرسول بحكم الله ) إذا فريق منهم معرضون }
النور : ( 49 ) وإن يكن لهم . . . . .
) وان يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين ( مطيعين منقادين لحكمه
النور : ( 50 ) أفي قلوبهم مرض . . . . .
) أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا ( يعني أنّهم كذلك فجاء بلفظ التوبيخ ليكون أبلغ في الذمّ ، كقول جرير في المدح :
ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
يعني أنتم كذلك .
) أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله ( أي يظلم ) بل اُولئك هم الظالمون ( لأنفسهم بإعراضهم عن الحق والواضعون المحاكمة في غير موضعها .
(7/113)
" صفحة رقم 114 "
النور : ( 51 ) إنما كان قول . . . . .
) إنّما كان قول المؤمنين إذا دُعوا إلى الله ( أي إلى كتاب الله ) ورسوله ليحكم بينهم ( نصب القول على خبر كان واسمه في قوله ) ان يقولوا سمعنا وأطعنا وأُولئك هم المفلحون (
النور : ( 52 - 53 ) ومن يطع الله . . . . .
) ومَن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فاولئك هم الفائزون وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجنّ ( وذلك أنّ المنافقين كانوا يقولون لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أينما كنت نكن معك ، إن أقمت أقمنا وإن خرجت خرجنا وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا ، فقال الله سبحانه ) قل لهم لا تقسمُوا طاعة معروفة ( أي هذه طاعة بالقول واللسان دون الإعتقاد فهي معروفة منكم بالكذب أنكم تكذبون فيها ، وهذا معنى قول مجاهد ، وقيل : معناه طاعة معروفة أمثل وأفضل من هذا القسم الذي تحنثون فيه .
) إنَّ اللهَ خبير بما تعملون ( من طاعتكم ومخالفتكم .
النور : ( 54 ) قل أطيعوا الله . . . . .
) قل أطيعُوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولّوا ( عن طاعة الله ورسوله والاذعان بحكمهما ) فإنّما عليه ( أي على الرسول ) ما حُمّل ( كُلّف وأُمر به من تبليغ الرسالة ) وعليكم ما حُمّلتم ( من طاعته ومتابعته ) وإن تطيعوه تهتدوا ( .
سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن عقيل الورّاق في آخرين قالوا : سمعنا أبا عمرو إسماعيل بن نجيد السلمي يقول : سمعت أبا عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري يقول : من أمّر السنّة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة ، ومن أمرّ الهوى على نفسه قولا وفعلا نطق بالبدعة لقول الله سبحانه ) وإن تطيعوه تهتدوا ( ) وما على الرسول إلاّ البلاغ المبين (
النور : ( 55 ) وعد الله الذين . . . . .
) وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض ( إنما أدخل اللام بجواب اليمين المضمر لأنّ الوعد قول ، مجازها وقال الله سبحانه ) الذين امنوا وعملوا الصالحات ( والله ليستخلفنّهم في الأرض أي ليورثنّهم أرض الكفّار من العرب والعجم ، فيجعلهم ملوكها وسائسيها وسكّانها .
) كما استخلف الذين من قبلهم ( يعني بني إسرائيل إذ أهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أرضهم وديارهم ، وقرأه العامة : كما استخلف بفتح التاء واللام لقوله سبحانه ) وعد الله ( وقوله ) ليستخلفنهم ( .
وروى أبو بكر عن عاصم بضم التاء وكسر اللام على مذهب ما لم يَسمَّ فاعله .
) وَليمكنّنّ ( وليوطّننّ ) لهم دينهم ( ملّتهم التي ارتضاها لهم وأمرهم بها ) وليبدلنّهم ( قرأ ابن كثير وعاصم ويعقوب بالتخفيف وهو اختيار أبي حاتم ، غيرهم : بالتشديد وهما لغتان . وقال بعض الأَئمة : التبديل : تغيير حال إلى حال ، والإبدال : رفع شيء وجعل غيره مكانه ) من بعد خوفهم أمناً يعبدُونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر ( بهذه النعمة ) بعد ذلك وآثر ( يعني الكفر بالله ) فأُولئك هم الفاسقون ( .
(7/114)
" صفحة رقم 115 "
روى الربيع عن أبي العالية في هذه الآية قال : مكث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عشر سنين خائفاً يدعو إلى الله سراً وعلانية ثم أُمر بالهجرة إلى المدينة ، فمكث بها هو وأصحابه خائفين يصبحون في السلاح ويمسون فيه ، فقال رجل : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنّا السلاح فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تغبرّون إلاّ يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليس فيه حديده ) . وأنزل الله سبحانه هذه الآية فأنجز الله وعده وأظهره على جزيرة العرب ، فآمنوا ثم تجبّروا وكفروا بهذه النعمة وقتلوا عثمان بن عفان ، فغيّر الله سبحانه ما بهم وأدخل الخوف الذي كان رفعه عنهم .
وقال مقاتل : لمّا رجع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الحديبيّة حزن أصحابه فأطعمهم اللّه نخل خيبر ، ووعدهم أن يدخلوا العام المقبل مكة آمنين ، وأنزل هذه الآية .
قلت : وفيها دلالة واضحة على صحّة خلافة أبي بكر الصدّيق ح وإمامة الخلفاء الراشدين ج .
روى سعيد بن جهمان عن سفينة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الخلافة من بعدي ثلاثون ثم يكون مُلكاً ) .
قال سفينة : أمسك خلافة أبي بكر سنتين ، وعمر عشراً ، وعثمان ثنتي عشرة ، وعليّ ستة .
وأخبرنا أبو عبد الله عبد الرَّحْمن بن إبراهيم بن محمد الطبراني بها قال : أخبرنا شافع بن محمد قال : حدّثنا ابن الوشّاء قال : حدّثنا ابن إسماعيل البغدادي قال : حدّثنا محمد بن الصباح قال : حدّثنا هشيم بن بشير عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الخلافة بعدي في أُمّتي في أربع : أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ ) .
2 ( ) وَأَقِيمُواْ الصَّلَواةَ وَآتُواْ الزَّكَواةَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِى الاَْرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُواْ الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلَواةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَواةِ الْعِشَآءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الاَْيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِذَا بَلَغَ الاَْطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَآءِ الَّلَاتِى لا
(7/115)
" صفحة رقم 116 "
يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عِلِيمٌ لَّيْسَ عَلَى الاَْعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاَْعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ ءَابَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الاَْيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَئْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَئْذِنُونَكَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَئْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَلاإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمُ ( 2
النور : ( 56 - 57 ) وأقيموا الصلاة وآتوا . . . . .
) وأقيموا الصلواة وآتوا الزكاوة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون لا تحسبنّ ( يا محمد ) الذين كفروا ( هذه قراءة العامة وقرأ ابن عامر وحمزة بالياء على معنى : لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم ) معجزين ( لأنّ الحسبان يتعدّى إلى مفعولين وقال الفرّاء : يجوز أن يكون الفعل للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أي لا يحسبنّ محمد الكافرين معجزين ) في الأَرض ومأوايهم النارُ ولبئس المصير يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم ( .
قال ابن عباس وجّه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غلاماً من الأنصار يقال له مدلج بن عمرو إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ليدعوه ، فدخل فرأى عمر بحالة كره عمر رؤيته ، فقال : يا رسول الله وددت لو أن الله أمرنا ونهانا في حال الاستيذان فأنزل الله سبحانه هذه الآية .
النور : ( 58 ) يا أيها الذين . . . . .
وقال مقاتل : نزلت في أسماء بنت مرثد ، كان لها غلام كبير فدخل عليها في وقت كرهته فأتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : إنّ خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها فأنزل الله سبحانه ) يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم ( اللام لام الأمر ) الذين ملكت أيمانكم ( يعني العبيد والإماء ) والذين لم يبلغوا الحلم منكم ( من الأحرار ) ثلاث مرات ( في ثلاثة أوقات ) مِن قبل صلواة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ( للقائلة ) ومن بعد صلواة العشاء ( .
روى عبد الرَّحْمن بن عوف ان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا تغلبنّكم الأعراب على اسم صلواتكم فإن الله سبحانه قال ) ومن بعد صلواة العشاء ( وإنّما العتمة عتمة الابل ، وإنّما خصّ هذه الأوقات لأنّها ساعات الغفلة والخلوة ووضع الثياب والكسوة ، فذلك قوله سبحانه ) ثلاث عورات لكم ( )
(7/116)
" صفحة رقم 117 "
قرأ أهل الكوفة ثلاث بالنصب ردّاً على قوله ) ثلاث مرات ( ورفعه الآخرون على معنى هذه ثلاث عورات ) ليس عليكم ولا عليهم ( يعني العبيد والخدم والأطفال ) جُناح ( على الدخول بغير إذن ) بعدهن ( أي بعد هذه الأوقات الثلاثة ) طوّافون ( أي هم طوّافون ) عليكم ( يدخلون ويخرجون ويذهبون ويجيؤون ويتردّدون في أحوالهم وأشغالهم بغير إذن ) بعضكم ( يطوف ) على بعض كذلك يبيّن الله لكم الآيات والله عليم حكيم ( واختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فقال قوم : هو منسوخ لا يعمل به اليوم .
أخبرنا أبو محمد الرومي قال : أخبرنا أبو العباس السراج قال : حدّثنا قتيبة قال : حدّثنا عبد العزيز عن عمرو عن عكرمة أنّ نفراً من أهل العراق قالوا لابن عباس : كيف ترى في هذه الآية ؟ أُمرنا فيها بما أُمرنا فلا يعمل بها أحد ، قول الله عزَّ وجل ) يا أيّها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ( الآية ، فقال ابن عباس : إنّ الله رفيق حليم رؤوف رحيم ، يحب الستر ، وكان الناس ليست لبيوتهم ستور ولا حجال ، فربمّا دخل الخادم والولد والرجل على أهله ، فأمرهم الله سبحانه وتعالى بالاستيذان في تلك العورات فجاءهم الله بالستور والخير فلم أر أحداً يعمل بذلك . وقال آخرون : هي محكمة والعمل بها واجب .
روى سفيان عن موسى بن أبي عائشة قال : سألت الشعبي عن هذه الآية ) ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ( قلت : أمنسوخة هي ؟ قال : لا والله ما نسخت ، قلت : إنّ الناس لا يعملون بها ؟ قال : الله المستعان .
وروى أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال : إن ناساً تقول : نسخت ، والله ما نسخت ولكنها ممّا يتهاون به الناس .
النور : ( 59 ) وإذا بلغ الأطفال . . . . .
) وإذا بلغ الأطفال منكم ( أي من أحراركم ) الحلم فليستأذنوا ( في جميع الأوقات في الدخول عليكم ) كما استأذن الذين مِن قبلكم ( يعني الأحرار الكبار .
) كذلك يبيّن الله آياته والله عليم حكيم }
النور : ( 60 ) والقواعد من النساء . . . . .
) والقواعد من النساء ( يعني اللاتي قعدن عن الولد من الكبر فلا يحضن ولا يلدن ، واحدتها قاعدة .
) التي لا يرجون نكاحاً ( لا يطمعن في التزوّج وأيسن من البعولة .
) فليس عليهنّ جناح أن يضعن ثيابهنّ ( عند الرجال يعني جلابيبهن والقناع الذي فوق الخمار ، والرداء الذي يكون فوق الثياب ، يدلّ على هذا التأويل قراءة أُبىّ بن كعب : أن يضعن من ثيابهن ) غير متبرّجات بزينة ( يعني من غير أن يردن بوضع الجلباب والثياب أن تُرى زينتهن
(7/117)
" صفحة رقم 118 "
والتبرّج هو أن تظهر المرأة محاسنها ممّا ينبغي لها أن تستره .
) وأن يستعففن ( فيلبيسن جلابيبهنّ ) خير لهنّ والله سميع عليم }
النور : ( 61 ) ليس على الأعمى . . . . .
) ليس على الأعمى حرج ( اختلف العلماء في تأويل هذه الآية وحكمها فقال ابن عباس : لمّا أنزل الله سبحانه وتعالى قوله ) يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( تحرّج المسلمون عن مؤاكلة المرضى والزمنى والعمي والعرج وقالوا : الطعام أفضل الأموال ، وقد نهانا الله سبحانه عن أكل المال بالباطل ، والاعمى لا يبصر موضع الطعام الطيّب ، والأعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام ، والمريض لا يستوفي الطعام ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية ، وعلى هذا التأويل يكون على بمعنى في ، يعني ليس عليكم في مواكله الأعمى والأعرج والمريض حرج .
وقال سعيد بن جبير والضحاك ومقسم : كان العرجان والعميان يتنزّهون عن مؤاكلة الأصحّاء لانّ الناس يتقزّزون منهم ويكرهون مؤاكلتهم ، وكان أهل المدينة لا يخالطهم في طعامهم أعمى ولا أعرج ولا مريض تقزّزاً فأنزل الله سبحانه هذه الآية .
وقال مجاهد : نزلت هذه الآية ترخيصاً للمرضى والزمنى في الأكل من بيوت من سمّى الله سبحانه في هذه الآية وذلك أن قوماً من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا إذا لم يكن عندهم ما يطعمونهم ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم وأُمهاتهم أي بعض من سمّى الله في هذه الآية ، فكان أهل الزمانة : يتحرجون من أن يطعموا ذلك الطعام لأنّه أطعمهم غير مالكيه ويقولون : إنما يذهبون بنا إلى بيوت غيرهم ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية .
وروى عبد الرزاق عن معمّر قال : سألت الزهري عن هذه الآية فقال : أخبرني عبيد الله بن عبد الله أنّ المسلمين كانوا إذا غزوا خلّفوا زمناهم وكانوا يدفعون إليهم مفاتيح أبوابهم ويقولون : قد أحللناكم أن تأكلوا ممّا في بيوتنا ، فكانوا يتحرّجون من ذلك ويقولون : لا ندخلها وهم غُيّب فأُنزلت هذه رخصة لهم .
وقال الحسن وابن زيد : يعني ليس على الأعمى حرج ) ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ( في التخلّف عن الجهاد في سبيل الله ، قالا : وههنا تمام الكلام .
وقوله ) ولا على أنفسكم ( الآية . كلام منقطع عمّا قبله .
قال ابن عباس : تحرّج قوم عن الأكل من هذه البيوت لمّا نزل قوله سبحانه ) يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( وقالوا : لا يحلّ لأحد مّنا أن يأكل عند أحد ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية ) ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أُمّهاتكم أو بيوت إخوانكم أو بيوت أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو بيوت عمّاتكم أو بيوت أخوالكم أو بيوت خالاتكم أو ما ملكتم مفاتحه ( .
(7/118)
" صفحة رقم 119 "
قال ابن عباس : عنى بذلك وكيل الرجل وقيّمه في ضيعته وماشيته ، لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته .
وقال الضحّاك : يعني من بيوت عبيدكم ومماليككم .
مجاهد وقتادة : من بيوت أنفسكم ممّا اخترتم وملكتم ، وقرأ سعيد بن جبير : مُلّكتم بالتشديد .
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في الحرث بن عمرو ، خرج مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غازياً وخلّف ملك بن زيد على أهله فلمّا رجع وجده مجهوداً فسأله عن حاله فقال : تحرّجت أن آكل من طعامك بغير إذنك ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية .
وكان الحسن وقتادة يريان دخول الرجل بيت صديقه والتحرّج من طعامه من غير استيذان بهذه الآية .
) أو صديقكم ليس عليكم جناح ان تأكلوا جميعاً أو أشتاتاً ( .
قال قوم : نزلت في حيّ من كنانة يقال لهم بنو ليث بن عمرو ، كانوا يتحرّجون أن يأكل الرجل الطعام وحده ، فربما قعد الرجل والطعام بين يديه من الصباح إلى المساء الرواح والشول جفل والأحوال منتظمة تحرجاً من أن يأكل وحده ، فإذا أمسى ولم يجد أحداً أكل فأنزل الله سبحانه هذه الآية وهذا قول قتادة والضحاك وابن جريج ، ورواية الوالبي عن ابن عباس .
وروى عطاء الخراساني عنه قال : كان الغنىّ يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه فيقول : والله إنّى لأحتج أن آكل معك أي أتحرّج وأنا غنىّ وأنت فقير ، فنزلت هذه الآية .
وقال عكرمة وأبو صالح : نزلت في قوم من الأنصار كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلاّ مع ضيفهم فرخّص لهم في أن يأكلوا حيث شاؤوا جميعاً مجتمعين ، أو أشتاتاً متفرقين .
) فإذا دخلتم بيوتاً فسلّموا على أنفسكم ( أي ليسلّم بعضكم على بعض كقوله سبحانه ) ولا تقتلوا أنفسكم ( .
عن الحسن وابن زيد حدّثنا ابن حبيب لفظاً في شهور سنة ثمان وثمانين وثلاث مائة قال : حدّثنا أبو حاتم محمد بن حيان البستي قال : حدّثنا محمد بن صالح الطبري قال : حدّثنا الفضل بن سهل الأعرج قال : حدّثنا محمد بن جعفر المدائني قال : حدّثنا ورقاء عن الأعمش
(7/119)
" صفحة رقم 120 "
عن زيد بن وهب عن ابن مسعود قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( السلام اسم من أسماء الله تعالى فأفشوه بينكم ، فإنّ الرجل المسلم إذا مرَّ بالقوم فسلّم عليهم فردّوا عليه كان له عليهم فضل درجة بذكره إيّاهم بالسلام ، فإن لم يردّوا عليه ردّ عليه من هو خير منهم وأطيب ) .
وحدّثنا أبو القاسم قال : أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن العباس البغوي قال : حدّثنا أبو محمد عبد الملك بن محمد بن عبد الوهاب البغوي قال : حدّثنا يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني ابن سمعان أن سعيد المقبري أخبره عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه قال : ( إذا وقف أحدكم على المجلس فليسلّم ، فإن بدا له أن يقعد فليقعد ، وإذا قام فليسلّم ، فإنّ الأُولى ليست بأحقّ من الآخرة ) .
وقال بعضهم : معناه : فإذا دخلتم بيوت أنفسكم فسلّموا على أهلكم وعيالكم ، وهو قول جابر بن عبد الله وطاووس والزهري وقتادة والضحاك وعمرو بن دينار ، ورواية عطاء الخراساني عن ابن عباس ، قال : فإن لم يكن في البيت أحد فليقل : السلام علينا من ربّنا وعلى عباد الله الصالحين ، السلام على أهل البيت ورحمة الله .
حدّثنا ابن حبيب لفظاً قال : حدّثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن موسى بن كعب العدل إملاءً قال : حدّثنا أبو نصر اليسع بن زيد بن سهل الرسّي بمكة سنة اثنتين وثمانين ومائتين قال : حدّثنا سفيان بن عيينة عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال : خدمت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فما قال لي لشيء فعلته : لم فعلته ؟ ولا قال لي لشيء كسرته : لِمَ كسرته ؟ وكنت واقفاً على رأسه أصبّ على يديه الماء فرفع رأسه فقال ( ألا أُعلّمك ثلاث خصال تنتفع بها ؟ قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله بلى ، قال : من لقيت من أُمّتي فسلّم عليه يَطُلْ عمرك ، وإذا دخلت فسلّم عليهم يكثر خير بيتك ، وصلّ صلاة الضُحى فإنّها صلاة الأَبرار ) .
وقال بعضهم : يعني فإذا دخلتم المساجد فسلّموا على مَن فيها .
أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبد الله بن حمدون قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد قال : حدّثنا محمد بن عبد الله بن مهل الصنعاني قال : حدّثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس في قوله ) فإذا دخلتم بيوتاً فسلّموا على أنفسكم ( الآية . قال : إذا دخلت المسجد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .
) تحيّةً من عند الله ( نصب على المصدر أي تحيّون أنفسكم بها تحيّةً ، وقيل : على الحال
(7/120)
" صفحة رقم 121 "
بمعنى تفعلونه تحيّة من عند الله ) مباركة طيّبة كذلك يُبيّن الله لكم الآيات لعلّكم تعقلون }
النور : ( 62 ) إنما المؤمنون الذين . . . . .
) إنّما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معهُ ( أي مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) على أمر جامع ( يجمعهم من حرب أو صلاة في جمعة أوجماعة أو تشاور في أمر نزل ) لم يذهبوا ( لم يتفرّقوا عنه ولم ينصرفوا عمّا اجتمعوا له من الأمر ) حتى يستأذنوه إنَّ الذين يستأذنونك ( يا محمد ) أُولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله ( .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن خلف قال : حدّثنا إسحاق بن محمد قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال : حدّثنا علي عن أبي حمزة الثمالي في هذه الآية قال : هو يوم الجمعة ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا صعد المنبر يوم الجمعة وأراد الرجل أن يقضي الحاجة ، والرجل به العلّة لم يخرج من المسجد حتى يقوم بحيال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حيث يراه ، فيعرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه إنّما قام ليستأذن ، فيأذن لمن شاء منهم .
) فإذا استأذنوك لبعض شأنهم ( أمرهم ) فأذنْ لمن شئت منهم ( في الانصراف ) واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم }
النور : ( 63 ) لا تجعلوا دعاء . . . . .
) لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً ( .
قال ابن عباس : يقول : احذروا دعاء الرسول عليكم إذا أسخطتموه ، فإنّ دعاءه موجب ليس كدعاء غيره .
وقال مجاهد وقتادة : لا تدعوه كما يدعو بعضكم بعضا : يا محمد ، ولكن فخّموهُ وشرّفوه وقولوا : يا نبيّ الله ، يا رسول الله ، في لين وتواضع .
) قد يعلم الله الذين يتسلّلون ( أي يخرجون ، ومنه : تسلّل القطا ) منكم ( أيُّها المنصرفون عن نبيّكم بغير إذنه ) لواذاً ( أي يستتر بعضكم ببعض ويروغ في خفّة فيذهب ، واللواذ مصدر لاوذ بفلان يلاوذ ملاوذة ولواذاً ، ولو كان مصدرا للذُتُ لقال : لياذاً مثل القيام والصيام .
وقيل : إنّ هذا في حفر الخندق ، كان المنافقون ينصرفون بغير أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لواذاً مختفين .
) فليحذر الذين يخالفون عن أمره ( أي أمره وعن صلة ، وقيل : معناه يعرضون عن أمره وينصرفون عنه بغير إذنه ) أن تصيبهم فتنة ( أي قتل عن ابن عباس ، عطاء : الزلازل والأَهوال ، جعفر بن محمد : سلطان جائر يسلّط عليهم ، الحسن : بلية تظهر ما في قلوبهم من النفاق ) أو يصيبهم عذاب أليم ( وجيع عاجل في الدنيا .
النور : ( 64 ) ألا إن لله . . . . .
) ألا إنّ لله ما في السموات والأرض ( عبيداً وملِكاً ومُلكاً وخلقاً ودلالةً على وجوده وتوحيده وكمال قدرته وحكمته .
) قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبّئهم بما عملوا والله بكلّ شيء عليم ( .
(7/121)
" صفحة رقم 122 "
( سورة الفرقان )
مكيّة ، وهي ثلاثة آلاف وسبعمائة وثلاثة وثلاثون حرفاً ، وثمانمائة واثنتان وتسعون كلمة ، وسبع وسبعون آية
أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن الحسن المقري غير مرّة قال : حدّثنا الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي والحافظ أبو الشيخ عبد الله بن محمد الاصفهاني قالا : حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك قال : حدّثنا أحمد بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَن قرأ سورة الفرقان بُعث يوم القيامة وهو يؤمن أنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث مَن في القبور ، ودخل الجنة بغير حساب ) .
بِسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
2 ( ) تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِى المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَىْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءْالِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لاَِنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَواةً وَلاَ نُشُوراً وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَاذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الاَْوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَّ فِى السَّمَاواَتِ وَالاَْرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَقَالُواْ مَا لِهَاذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى الاَْسْوَاقِ لَوْلاأُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاَْمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً تَبَارَكَ الَّذِىإِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذالِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً ( 2
الفرقان : ( 1 ) تبارك الذي نزل . . . . .
) تبارك ( تفاعل ، من البركة ، عن ابن عباس ، كأنّ معناه : جاء بكل بركة ، دليله قول
(7/122)
" صفحة رقم 123 "
الحسن : تجيء البركة من قبله ، الضحّاك : تعظّم ، الخليل : تمجّد ، وأصل البركة النّماء والزيادة .
وقال المحققون : معنى هذه الصفة ثبتَ ودام بما لم يزل ولا يزال ، وأصل البركة الثبوت يقال : برك الطير على الماء وبرك البعير ، ويقال : تبارك الله ولا يقال لله متبارك أو مبارك لأنّه ينتهى في صفاته وأسمائه إلى حيث ورد التوقيف .
) الذي نّزل الفرقان ( القرآن ) على عبده ( محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ليكون للعالمين ( الجنّ والإنس ) نذيراً ( .
قال بعضهم : النذير هو القرآن ، وقيل : هو محمد .
الفرقان : ( 2 ) الذي له ملك . . . . .
) الذي له مُلك السموات والأرض ولم يتّخذ وَلداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كلّ شيء ( ممّا يطلق له صفة المخلوق ) فقدّره تقديراً ( فسوّاه وهيّأه لما يصلح له ، فلا خلل فيه ولا تفاوت .
الفرقان : ( 3 - 4 ) واتخذوا من دونه . . . . .
) واتّخذوا ( يعني عبدة الأوثان ) من دونه آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يُخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرّاً ولا نفعاً ولا يملكون موتاً ولا حياوة ولا نشوراً وقال الذين كفروا ( يعني النضر بن الحرث واصحابه ) إن هذا ( ما هذا القرآن ) إلاّ إفك افترايه ( اختلقه محمد ) وأعانَهُ عليه قومٌ آخرون ( يعني اليهود عن مجاهد ، وقال الحسن بن عبيد بن الحضر : الحبشي الكاهن ، وقيل : جبر ويسار وعدّاس مولى حويطب بن عبد العزى ، قال الله سبحانه وتعالى ) فقد جاؤوا ( يعني ما يلي هذه المقالة ) ظلماً وزوراً ( بنسبتهم كلام الله سبحانه إلى الإفك والافتراء
الفرقان : ( 5 ) وقالوا أساطير الأولين . . . . .
) وقالوا ( أيضاً ) أساطير الأوّلين أكتتبها فهي تملى عليه ( تُقرأ عليه ) بكرةً وأصيلاً ( .
الفرقان : ( 6 - 7 ) قل أنزله الذي . . . . .
ثمَّ قال سبحانه وتعالى ردّاً عليهم وتكذيباً لهم ) قل أنزله الذي يعلم السرّ في السماوات والأرض إنّه كان غفوراً رحيماً وقالوا مالهذا الرسول ( يعنون محمّداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) يأكل الطعام ( كما نأكل ) ويمشي في الأَسواق ( يلتمس المعاش ) لولا أنزل إليه مَلَكٌ ( يصدّقه ) فيكون معه نذيراً ( داعياً
الفرقان : ( 8 ) أو يلقى إليه . . . . .
) أو يُلقى إِليه كنز ( ينفقه فلا يحتاج إلى التصرّف في طلب المعاش . ) أو تكون له جنّة ( بستان ) يأكل منها ( هو ، هذه قراءة العامة ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بالنون أي نأكل نحن .
) وقال الظالمون إن تتبعون إلاّ رجلاً مسحوراً ( نزلت هذه الآية في قصة ابن أبي أُميّة وقد مرّ ذكرها في بني إسرائيل .
الفرقان : ( 9 ) انظر كيف ضربوا . . . . .
) انظر ( يامحمد ) كيف ضربوا لك الأمثال فضَلّوا فلا يستطيعون سبيلاً ( إلى الهدى
(7/123)
" صفحة رقم 124 "
ومخرجاً من الضلالة فأخبر الله أنّهم متمسّكون بالجهل والضلال عادلون عن الرشد والصواب وهم مع ذلك كانوا مكلّفين بقبول الحق فثبت أنّ الاستطاعة التي بها الضلال غير الاستطاعة التي يحصل بها الهدى والإيمان .
الفرقان : ( 10 ) تبارك الذي إن . . . . .
) تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك ( أي ممّا قالوا ، عن مجاهد ، وروى عكرمة عن ابن عباس قال : يعني خيراً من المشي في الأسواق والتماس المعاش ، ثمَّ بيّن ذلك الخير ما هو فقال سبحانه وتعالى ) جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً ( أي بيوتاً مشيّدة ، وسُمّي قصراً لأنّه قُصر أي حُبس ومُنع من الوصول إليه . واختلف القرّاء في قوله ) ويجعل ( فرفع لامه ابن كثير وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر والمفضل ، وجزمهُ الآخرون على محلّ الجزاء في : قوله إن شاء جعل .
( أخبرنا ) أبو عمرو أحمد بن أبي أحمد بن حمدون النيسابوري قال : أخبرنا عبد الله بن محمد بن يعقوب البخاري قال : حدّثنا محمد بن حميد بن فروة البخاري قال : حدّثنا أبو حذيفة إسحاق بن بشر البخاري قال : حدّثنا جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : لما عيّر المشركون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالفاقة فقالوا : ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، حزن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لذلك ونزل عليه جبرئيل من عند ربه معزّياً له فقال : السلام عليك يا رسول الله ، ربّ العزة يقرئك السلام ويقول لك : ( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلاّ أنّهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ) ويتّبعون المعاش في الدنيا .
قال : فبينا جبرئيل ( عليه السلام ) والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتحدّثان إذ ذاب جبرئيل حتى صار مثل الهردة ، قيل : يا رسول الله وما الهردة ؟ قال : ( العدسة ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا جبرئيل مالك ذبت حتى صرت مثل الهردة ؟ قال : يا محمد فتح باب من أبواب السماء لم يكن فتح قبل ذلك ، فتحوّل الملك وأنّه إذا فُتح باب من السماء لم يكن فُتح قبل ذلك فتحوّل الملك ، إمّا ان يكون رحمة أو عذاباً وإنّي أخاف أن يعذب قومك عند تعييرهم إياك بالفاقة ، فأقبل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وجبرئيل ( عليه السلام ) يبكيان إذ عاد جبرئيل فقال : يا محمد أبشر ، هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضى من ربّك ، فأقبل رضوان حتى سلّم ، ثم قال : يا محمد ، ربّ العزة يقرئك السلام ومعه سفط من نور يتلألأ ويقول لك ربّك : هذه مفاتيح خزائن الدنيا مع ما لا ينتقص لك مما عندي في الآخرة مثل جناح بعوضة ، فنظر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى جبرئيل ( عليه السلام ) كالمستشير له فضرب جبرئيل بيده الأرض وقال : تواضع لله . فقال : ( يا رضوان لا حاجة لي فيها ، الفقر أحبّ اليّ ، وأن أكون عبداً صابراً شكوراً ) فقال رضوان : أصبت أصاب الله بك .
وجاء نداء من السماء فرفع جبرئيل رأسه فإذا السموات قد فتحت أبوابها إلى العرش
(7/124)
" صفحة رقم 125 "
وأوحى الله سبحانه وتعالى إلى جنة عدن أن تدلي غصناً من أغصانها عليه عذق عليه غرفة من زبرجدة خضراء لها سبعون ألف من ياقوتة حمراء ، فقال جبرئيل : يا محمد ارفع بصرك فرفع فرأى منازل الأنبياء وغرفهم وإذا منازله فوق منازل الأنبياء فضلاً له خاصة ومناد ينادي : أرضيت يا محمد ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( رضيت ، فاجعل ما اردت أن تعطيني في الدنيا ذخيرة عندك في الشفاعة يوم القيامة ) .
ويروون أنّ هذه الآية أنزلها رضوان ( تبارك الذي ان شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً ) .
2 ( ) بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً قُلْ أَذاَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِى وَعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَءَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَاؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِى لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ وَلَاكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِى الاَْسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً ( 2
الفرقان : ( 11 - 12 ) بل كذبوا بالساعة . . . . .
) بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذّب بالساعة سعيراً إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيُّظاً ( أي غلياناً وفوراناً كالغضبان إذا غلا صدره من الغضب ) وزفيراً ( ومعنى قوله : سمعوا لها تغيّظاً أي صوت التغيّظ من التلهّب و التوقّد ، وقال قطرب : التغيظ لا يُسمع وإنّما المعنى : رأوا لها تغيّظاً وسمعوا لها زفيراً . قال الشاعر :
ورأيت زوجك في الوغى
متقلّداً سيفاً ورمحا
أي حاملاً رمحاً .
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال : حدّثنا أبو بكر بن خرجة قال : حدّثنا أبو جعفر بن أبي شيبة قال : حدّثني عمي أبو بكر قال : حدّثنا محمد بن يزيد عن الأصبغ بن زيد الورّاق عن خالد بن كثير عن خالد بن دريك عن رجل من أصحاب رسول الله قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
(7/125)
" صفحة رقم 126 "
( مَن كذب عليّ متعمّداً فليتبّوأ بين عينَي جهنم مقعداً فقال : يا رسول الله وهل لها من عينين ؟ قال : نعم ألم تسمع إلى قول الله سبحانه ) إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا 2 )
الفرقان : ( 13 ) وإذا ألقوا منها . . . . .
) وإذا أُلقُوا منها مكاناً ضيّقاً ( قال ابن عباس : يضيق عليهم كما يضيق الزجّ في الرمح .
وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الثقفي قال : حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال : حدّثنا عبد الرَّحْمن بن أبي حاتم قال : قرئ على يونس بن عبد الأعلى قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني نافع عن يحيى بن أبي أسيد يرفع الحديث إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه سئل عن قول الله سبحانه ) وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا ( ) مُقرّنينَ ( قال : ( والذي نفسي بيده إنّهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط ، مقرّنين مصفّدين ، قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال ) . ومنه قيل للحبل قَرنٌ ، وقيل : مع الشياطين في السلاسل والأغلال .
) دَعَوا هُنَالك ثبوراً ( ويلاً عن ابن عباس ، هلاكاً عن الضحّاك .
روى حمّاد عن علي بن زيد عن أنس بن مالك أنَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : أوّل من يُكسى حُلّة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه ، وذريته من خلفه وهو يقول : يا ثبوره وهم ينادون ياثبورهم حتى يُصَفّوا على النار فيقال لهم
الفرقان : ( 14 - 15 ) لا تدعوا اليوم . . . . .
) لا تَدعُوا اليوم ثبوراً واحداً وادعوا ثبوراً كثيراً قل ذلك ( الذي ذكرت من صفة النار وأهلها ) خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاءً ومصيراً (
الفرقان : ( 16 ) لهم فيها ما . . . . .
) لهم فيها مايشاءون خالدين كان على ربّك وعداً مسؤولاً ( وذلك أنَّ المؤمنين سألوا ربّهم ذلك في الدنيا حين قالوا ) ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رُسلك ( فقال الله سبحانه كان إعطاء الله المؤمنين جنة الخلد وعداً وعدهم على طاعته إيّاه في الدنيا ومسألتهم إيّاه ذلك .
وقال بعض أهل العربية : يعني وعداً واجباً وذلك أنّ المسؤول واجب وإن لم يُسئل كالَّذين قال : ونظير ذلك قول : العرب لأُعطينّك ألفاً وعداً مسؤولاً بمعنى أنه واجب لك فتسأله .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو علي بن حنش المقري قال : حدّثنا أبو القاسم بن الفضل المقري قال : حدّثنا علي بن الحسين قال : حدّثنا جعفر بن مسافر قال : حدّثنا يحيى بن حسان قال : حدّثنا رشد بن عمرو بن الحرث ، عن محمد بن كعب القرظي في قوله سبحانه وتعالى ) كان على ربك وعداً مسؤولاً ( .
(7/126)
" صفحة رقم 127 "
قال : الملائكة تسأل لهم ذلك قولهم ) وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم 2 )
الفرقان : ( 17 ) ويوم يحشرهم وما . . . . .
) ويوم نحشرهُم ( بالياء أبو جعفر وابن كثير ويعقوب وأيوب وأبو عبيد وأبو حاتم وحفص ، والباقون بالنون ) وما يعبدون من دون الله ( من الملائكة والإنس والجنّ عن مجاهد ، وقال عكرمة والضحّاك : يعني الأصنام . ) فيقول ( بالنون ابن عامر ، غيره : بالياء ، لهؤلاء المعبودين من دون الله ) ءَأنتم أضللتُم عبادي هؤلاء أم هم ضلّوا السبيل }
الفرقان : ( 18 ) قالوا سبحانك ما . . . . .
) قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتّخذ من دونك من أولياء ( أي ما كان ينبغي لنا أن نوالي أعداءك بل أنت وليّنا من دونهم ، وقرأ الحسن وأبو جعفر : أن نُتَّخذ بضم النون وفتح الخاء .
قال أبو عبيد : هذا لا يجوز لأنَّ الله سبحانه ذكر ( مِن ) مرّتين ، ولو كان كما قالوا لقال : أن نتّخذ من دونك أولياء . وقال غيرهُ : ( من ) الثاني صِلة .
) ولكن متّعتهم وآباءهُم ( في الدنيا بالصحة والنعمة ) حتى نَسُوا الذِكرَ ( أي تركوا القرآن فلم يعملوا بما فيه ، وقيل : الرسول ، وقيل : الإسلام ، وقيل : التوحيد ، وقيل : ذكر الله سبحانه وتعالى .
) وكانوا قوماً بُوراً ( أي هلكى قد غلب عليهم الشقاية والخذلان ، وقال الحسن وابن زيد : البور : الذي ليس فيه من الخير شيء ، قال أبو عبيد : وأصله من البوار وهو الكساد والفساد ومنه بوار الأيم وبوار السلعة ، وهو اسم مصدر كالزور يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمؤنث والمذكر . قال ابن الزبعرى :
يا رسول المليك إنّ لساني
راتق ما فتقت إذ أنا بُور
وقيل : هو جمع البائر ، ويقال : أصبحت منازلهم بوراً أي خالية لا شيء فيها ، فيقول الله سبحانه لهم عند تبرّي المعبودين منهم
الفرقان : ( 19 ) فقد كذبوكم بما . . . . .
) فقد كذبوكم بما تقولون ( أنّهم كانوا آلهة ) فما تستطيعون ( قرأه العامة بالياء يعني الآلهة ، وقرأ حفص بالتاء يعني العابدين ) صرفاً ولا نصراً ( أي صرف العذاب عنهم ولا نصر أنفسهم .
وقال يونس : الصرف : الحيلة ومنه قول العرب : إنه ليتصرف أي يحتال .
وقال الأصمعي : الصرف : التوبة والعدل : الفدية .
) ومن يظلم ( أي يشرك ) منكم نذقه عذاباً كبيراً }
الفرقان : ( 20 ) وما أرسلنا قبلك . . . . .
) وما أرسلنا قبلك ( يا محمد ) من المرسلين إلاّ أنّهم ( قال أهل المعاني : إلاّ قيل أنّهم ) ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق (
(7/127)
" صفحة رقم 128 "
دليله قوله سبحانه ) ما يقال لك إلاّ ما قد قيل للرسل من قبلك ( وقيل : معناه إلاّ من أنّهم ، وهذا جواب لقول المشركين ) ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأَسواق ( .
) وجعلنا بعضكم لبعض فتنةً ( فالمريض فتنة للصحيح ، والمبتلى فتنة للمعافى ، والفقير فتنة للغني ، فيقول السقيم : لو شاء الله لجعلني صحيحاً مثل فلان ، ويقول الفقير : لو شاء الله لجعلني غنيّاً مثل فلان ، وقال ابن عباس : إنّي جعلت بعضكم بلاءً لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم وترون من خلافهم وتتبعوا الهدى بغير أن أُعطيهم عليه الدنيا ، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رُسلي فلا يخالفون لفعلت ، ولكن قدّرت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم .
أخبرنا أبو القاسم عبد الخالق بن علي قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن يوسف ببخارى قال : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن جمعان قال : حدّثنا محمد بن موسى قال : حدّثنا القاسم بن يحيى عن الحسن بن دينار عن الحسن عن أبي الدرداء أنّه قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( ويل للعالم من الجاهل ، ويل للجاهل من العالم ، وويل للمالك من المملوك ، وويل للمملوك من المالك ، وويل للشديد من الضعيف ، وويل للضعيف من الشديد ، وويل للسلطان من الرعية ، وويل للرعية من السلطان ، بعضهم لبعض فتنة فهو قوله سبحانه ) وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ( ) .
) أتصبرون وكان ربّك بصيراً ( قال مقاتل : نزلت هذه الآية في أبي جهل والوليد بن عقبة والعاص بن وائل والنضر بن الحرث وذلك أنّهم لما رأوا أبا ذر وابن مسعود وعمار وبلالا وصهيباً وعامر بن فهيرة ومهجع مولى عمر وجبر غلام ابن الحضرمي ودونهم قالوا : أنُسلم فنكون مثل هؤلاء فانزل الله سبحانه يخاطب هؤلاء المؤمنين ) أتصبرون ( يعني على هذه الحال من الشدّة والفقر ، وكان ربك بصيراً بمن يصبر ويجزع ، وبمن يؤمن وبمن لا يؤمن .
2 ( ) وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ فِىأَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَانِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يالَيْتَنِى اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ياوَيْلَتَا لَيْتَنِى لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً لَّقَدْ أَضَلَّنِى عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَآءَنِى وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنْسَانِ خَذُولاً وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبِّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً الَّذِينَ يُحْشَرُون
(7/128)
" صفحة رقم 129 "
عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَائِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً ( 2
الفرقان : ( 21 ) وقال الذين لا . . . . .
) وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أُنزل علينا الملائكة ( فتخبرنا أنَّ محمداً صادق محقّ ) أو نرى ربّنا ( فيخبرنا بذلك نظيرها قوله سبحانه ) وقالوا لن نؤمن لك إلى قوله والملائكة قبيلا ( .
قال الله تعالى ) لقد استكبروا في أنفسهم ( بهذه المقالة ) وَعَتوا عُتُواً كبيراً ( قال مقاتل : غلوّاً في القول ، والعتو : أشدّ الكفر وأفحش الظلم .
الفرقان : ( 22 ) يوم يرون الملائكة . . . . .
) يوم يرون الملائكة ( عند الموت وفي القيامة ) لا بشرى يومئذ للمجرمين ( للكافرين ) ويقولون ( يعني الملائكة للمجرمين ) حجراً محجوراً ( أي حراماً محرماً عليكم البشرى بخير ، وقيل : حرام عليكم الجنة ، وقال بعضهم : هذا قول الكفار للملائكة ، قال ابن جريج : كانت العرب إذا نزلت بهم شديدة أو رأوا ما يكرهون قالوا : حجراً محجوراً ، فقالوا حين عاينوا الملائكة هذا ، وقال مجاهد : يعني عوذاً معاذاً ، يستعيذون من الملائكة .
الفرقان : ( 23 ) وقدمنا إلى ما . . . . .
) وَقدمنا ( وعمدنا ) إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً ( باطلاً لا ثواب له لأنّهم لم يعملوه لله سبحانه وإنّما عملوه للشيطان ، واختلف المفسّرون في الهباء فقال بعضهم : هو الذي يرى في الكوى من شعاع الشمس كالغبار ولا يُمسّ بالأيدي ولا يُرى في الظلّ ، وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد .
وقال قتادة وسعيد بن جبير : هو ما تسفيه الرياح وتذريه من التراب وحطام الشجر ، وهي رواية عطاء الخراساني عن ابن عباس ، وقال ابن زيد : هو الغبار ، والوالبي عن ابن عباس : هو الماء المهراق ، مقاتل : ما يسطع من حوافر الدواب ، والمنثور : المتفرق .
الفرقان : ( 24 ) أصحاب الجنة يومئذ . . . . .
) أصحابُ الجنّة يومئذ خير مستقراً ( من هؤلاء المشركين المتكبرين المفتخرين بأموالهم ) وأحسَنُ مقيلاً ( موضع قائلة وهذا على التقدير ، قال المفسرون : يعني أنّ أهل الجنة لا يمر بهم في الآخرة إلاّ قدر ميقات النهار من أولّه إلى وقت القائلة حتى يسكنوا مساكنهم في الجنة .
قال ابن مسعود : لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار وقرأ : ثم ان مقيلهم لاَلى الجحيم ، هكذا كان يقرأها ، وقال ابن عباس في هذه الآية : الحساب من ذلك اليوم في أولّه ، وقال القوم حين قالوا في منازلهم في الجنة .
وروى ابن وهب عن عمرو بن الحرث أنّ سعيداً الصوّاف أو الصراف حدّثه أنّه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس وأنّهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس ، وقرأ هذه الآية .
الفرقان : ( 25 ) ويوم تشقق السماء . . . . .
) ويوم تشقّق السماءُ بالغمام ( قرأ أبو عمر وأهل الكوفة بتخفيف الشين على الحذف
(7/129)
" صفحة رقم 130 "
والتخفيف ههنا وفي سورة ق ، وقرأ الآخرون بالتشديد فيهما على معنى تنشق السماء بالغمام أي عن الغمام ، والباء وعن يتعاقبان كما يقال : رميت عن القوس وبالقوس بمعنى واحد .
وقال المفسّرون : وهو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة ولم يكن لبني إسرائيل في تيههم ، وهو الذي قال الله سبحانه وتعالى ) هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ( ) ونزّل الملائكة تنزيلاً ( هكذا قراءة العامة ، وقرأ ابن كثير ونُنزل بنونين الملائكة نصبٌ
الفرقان : ( 26 ) الملك يومئذ الحق . . . . .
) الملك يومئذ الحقُ للرحمن ( خالصاً وبطلت ممالك غيره ) وكان يوماً على الكافرين عسيراً ( صعباً شديداً نظيرها قوله سبحانه ) فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير ( والخطاب يدلّ على أنّه على المؤمنين يسير .
وفي الحديث : إنّه ليهوّن يوم القيامة على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة صلاّها في دار الدنيا .
الفرقان : ( 27 ) ويوم يعض الظالم . . . . .
) ويوم يعَضُّ الظالم على يديه ( الآية . نزلت في عقبة بن أبي معيط وأُبي بن خلف وكانا متحابّين وذلك أنّ عقبة كان لا يقدم من سفر إلاّ صنع طعاماً فدعا إليه أشراف قومه وكان يكثر مجالسة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاماً فدعا الناس ودعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى طعامه ، فلمّا قرّب الطعام ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلاّ الله وأني رسول الله ) فقال عقبة : أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنَّ محمداً رسول الله ، فأكل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من طعامه وكان أُبىّ بن خلف غائباً ، فلمّا أُخبر بالقصة قال : صبأت يا عقبة : قال : لا والله ما أصبأت ولكن دخل عليّ رجل فأبى أن يطعم من طعامي ألاّ أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم ، فشهدت له فطعم .
فقال أُبَىّ : ما أنا بالذي أرضى منك أبداً إلاّ أن تأتيه فتبزق في وجهه وتطأ عنقه ، ففعل ذلك عقبة وأخد رحم دابّة فألقاها بين كتفيه ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا ألقاك خارجاً من مكّة إلاّ علوت رأسك بالسيف ) . فقُتل عقبة يوم بدر صبراً ، وأما أُبىّ بن خلف فقتله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بيده يوم أُحد في المنابزة ، وأنزل الله فيهما هذه الآية .
وقال الضحّاك : لمّا بزق عقبة في وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عاد بزاقه في وجهه وانشعب شعبتين فأحرق خدّيه ، فكان أثر ذلك فيه حتّى الموت .
(7/130)
" صفحة رقم 131 "
وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس قال : كان أُبي بن خلف يحضر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويجالسه ويسمع إلى كلامه من غير أن يؤمن له فزجره عقبة بن أبي معيط عن ذلك ، فنزلت هذه الآية ، وقال الشعبي : كان عقبة بن أبي معيط خليلاً لأُميّة بن خلف فأسلم عقبة فقال أُميّة : وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمداً ، فكفر وارتدّ لرضا أُميّة فأنزل الله سبحانه ) ويوم يعضّ الظالم على يديه ( يعني الكافر عقبة بن أبي معيط لأجل طاعة خليله الذي صَدَّهُ عن سبيل ربّه ) يقول ياليتني ( وفتح تاءه أبو عمرو ) اتّخذتُ مع الرسول ( محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) سبيلاً }
الفرقان : ( 28 ) يا ويلتى ليتني . . . . .
) يا ويلتى ليتني لم اتّخذ فلاناً خليلاً ( يعني أُبي بن خلف الجمحي
الفرقان : ( 29 ) لقد أضلني عن . . . . .
) لقد أضلّني عن الذكر ( يعني القرآن والرسول ) بعد إذ جاءني وكان الشيطان ( وهو كلّ متمرّد عات من الجانّ ، وكلّ من صدَّ عن سبيل الله وأُطيع في معصيته فهو شيطان ) للإنسان خذولاً ( عند نزول البلاء والعذاب به .
وحكم هذه الآيات عامّ في كلّ متحابّين اجتمعا على معصية الله ، لذلك قال بعض العلماء : أنشدنيه أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر قال : أنشدني أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الصديق قال : أنشدنا أبو وائلة عبد الرحمن بن الحسين :
تجنّبْ قرين السوء واصرم حباله
فإن لم تجد عنه محيصاً فداره
وأحبب حبيب الصدق واحذر مراءه
تنل منه صفو الودّ ما لم تماره
وفي الشيب ما ينهى الحليم عن الصبا
إذا اشتعلت نيرانه في عذاره
وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدني أبو بكر محمد بن عبد الله الحامدي :
اصحبْ خيار الناس حيث لقيتهم
خير الصحابة من يكون عفيفاً
والناس مثل دراهم ميزّتها
فوجدت فيها فضّة وزيوفا
وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر المفسّر قال : حدّثنا أبو سعيد عبد الرَّحْمن ابن محمد بن حسكا قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال : حدّثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال : حدّثنا عبد الواحد بن زياد قال : حدّثنا عاصم عن أبي كبشة قال : سمعت أبا موسى يقول على المنبر : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مثل الجليس الصالح مثل العطار إنْ لم ينلك يعبقُ بك من ريحه ، ومثل الجليس السوء مثل القين إنْ لم يحرق ثيابك يعبق بك من ريحه .
وحدَّثنا أبو القاسم بن حبيب لفظاً سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة قال : أخبرنا أبو حاتم محمد
(7/131)
" صفحة رقم 132 "
ابن حيان بن أحمد قال : أخبرنا محمد بن أبي علي الخلادي قال : حدّثنا عبد الله بن الصقر السكري قال : حدّثنا وهب بن محمد النباتي قال : سمعت الحرث بن وجيه يقول : سمعت مالك ابن دينار يقول : إنك إن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل الخبيص مع الفجّار .
الفرقان : ( 30 ) وقال الرسول يا . . . . .
) وقال الرسول ( يعني ويقول الرسول في ذلك اليوم ) يا ربّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجوراً ( أي قالوا فيه غير الحق فزعموا أنّه سحر وشعر وسمر من الهجر ، وهو القول السيّىء ، عن النخعي ومجاهد .
وقال الآخرون : هو من الهجران أي أعرضوا عنه وتركوه فلم يؤمنوا به ولم يعملوا بما فيه .
أخبرنا أبو الطيب الربيع بن محمد الحاتمي وأبو نصر محمد بن علي بن الفضل الخزاعي قالا : حدّثنا أبو الحسن علي بن محمد بن عقبة الشيباني قال : حدّثنا أبو القاسم الخضر بن أبان القرشي قال : حدّثنا أبو هدية إبراهيم بن هدية قال : حدّثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَن تعلّم القرآن وعلّمه وعلّق مصحفاً لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلّقاً به يقول : يا ربّ العالمين عبدك هذا اتخذني مهجوراً اقض بيني وبينه ) .
الفرقان : ( 31 ) وكذلك جعلنا لكل . . . . .
) كذلك ( أي وكما جعلنا لك يا محمد أعداء ومن مشركي قومك كذلك ) جعلنا لكلّ نبي عدواً من المجرمين ( أي من مشركي قومه ، فاصبر لأمري كما صبروا فإني هاد بك وناصرك على من ناواك .
) وكفى بربك هادياً ونصيراً ( على الحال والتمييز
الفرقان : ( 32 ) وقال الذين كفروا . . . . .
) وقال الذين كفروا لولا نزّل عليه ( على محمد ) القرآن جُملةً واحدةً ( كما أُنزلت التوراة على موسى ، والزبور على داود ، والإنجيل على عيسى جملة واحدة قال الله سبحانه ) كذلك ( فعلنا ) لنثبّت به فؤادك ( لنقوّي بها قلبك فتعيه وتحفظه ، فإنّ الكتب نزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤون ، والقرآن أُنزل على نبيّ أُمّي ولأنّ من القرآن الناسخ والمنسوخ ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أُمور ، ففرّقناه ليكون أوعى لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأيسر على العالِم به .
) ورتّلناهُ ترتيلاً ( قال ابن عباس : ورسّلناه ترسيلاً ، وقال النخعي والحسن : فرّقناه تفريقاً آية بعد آية وشيئاً بعد شيء ، وكان بين أوله وآخره نحو ثلاث وعشرين سنة ، وقال ابن زيد : وفسّرناه تفسيراً ، والترتيل : التبيين في ترسّل وتثبّت .
الفرقان : ( 33 ) ولا يأتونك بمثل . . . . .
) ولا يأتُونكَ ( يا محمد يعني هؤلاء المشركين ) بمثل ( في إبطال أمرك ) إلاّ جئناك بالحق ( أي بما تردّ به ما جاؤوا به من المثل وتبطله . ) وأحسن تفسيراً ( بياناً وتفصيلاً ، ثمَّ وصف حال المشركين وبيّن حالهم يوم القيامة فقال
الفرقان : ( 34 ) الذين يحشرون على . . . . .
) الذين ( يعني هم الذين ) يُحشَرون على وجوههم ( فيساقون ويجرّون ) إلى جهنَّم أُولئك شَرٌّ مكاناً وأضل سبيلاً ( .
(7/132)
" صفحة رقم 133 "
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن خرجة قال : حدّثنا الحضرمي قال : حدّثنا عثمان قال : حدّثنا بشر بن المفضل عن علي بن يزيد عن أوس بن أوس عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يُحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاث : ثلث على الدوابّ ، وثلث على وجوههم ، وثلث على أقدامهم ينسلون نسلا ) .
2 ( ) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ ءَايَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَالِكَ كَثِيراً وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الاَْمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِىأُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَاذَا الَّذِى بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ ءَالِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً أَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَاهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالاَْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً وَهُوَ الَّذِىأَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً لِّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً ( 2
الفرقان : ( 35 ) ولقد آتينا موسى . . . . .
) ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاهُ هارون وزيراً ( أي معيناً وظهيراً
الفرقان : ( 36 ) فقلنا اذهبا إلى . . . . .
) فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذّبوا بآياتنا ( يعني القبط ، وفي الآية متروك استغنى عنه بدلالة الكلام عليه تقديرها : فكذّبوهما .
) فدمّرناهم تدميراً ( فأهلكناهم إهلاكاً
الفرقان : ( 37 ) وقوم نوح لما . . . . .
) وقوم نوح لمّا كذبُوا الرسُل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية ( عبرة ) وأعتدنا للظالمين ( في الآخرة ) عذاباً أليماً ( سوى ما حلّ بهم من عاجل العذاب .
الفرقان : ( 38 ) وعادا وثمود وأصحاب . . . . .
) وعاداً وثمود وأصحاب الرسّ ( اختلفوا فيهم ، فقال ابن عباس : كانوا أصحاب آبار ، وقال وهب بن منبه : كانوا أهل بئر قعوداً عليها وأصحاب مواشي ، وكانوا يعبدون الأصنام فوجّه الله إليهم شعيباً يدعوهم إلى الإسلام فأتاهم ودعاهم ، فتمادوا في طغيانهم وفي أذى شعيب
(7/133)
" صفحة رقم 134 "
فحذّرهم الله عقابه ، فبينا هم حول البئر في منازلهم انهارت البئر فانخسفت بهم وبديارهم ورباعهم فهلكوا جميعاً .
قتادة : الرس : قرية بفلج اليمامة قتلوا نبيّهم فأهلكهم الله ، وقال بعضهم : هم بقية هود قوم صالح ، وهم أصحاب البئر التي ذكرها الله سبحانه في قوله تعالى ) وبئر معطّلة وقصر مشيد ( .
قال سعيد بن جبير وابن الكلبي والخليل : كان لهم نبيّ يقال له حنظلة بن صفوان ، وكان بأرضهم جبل يقال له فتح ، مصعده في السماء ميل ، وكانت العنقاء تنتابه وهي أعظم ما تكون من الطير وفيها من كل لون ، وسمّوها العنقاء لطول عنقها ، وكانت تكون في ذلك الجبل تنقضّ على الطير تأكلها ، فجاعت ذات يوم فأعوزتها الطير فانقضّت على صبي فذهبت ، فسُمّيت عنقاء مغرب لأنها تغرب بما تأخذه وتذهب به ، ثم إنّها انقضّت على جارية حين ترعرعت فأخذتها فضمّتها إلى جناحين لها صغيرين سوى الجناحين الكبيرين ، فطارت بها فشكو إلى نبيّهم فقال : اللهم خذها واقطع نسلها ، فأصابتها صاعقة فاحترقت فلم ير لها أثر ، فضربتها العرب في أشعارهم ، ثم إنهم قتلوا نبيّهم فأهلكهم الله .
وقال كعب ومقاتل والسدي : هم أصحاب يس ، والرسّ بئر بأنطاكية قتلوا فيها حبيباً النّجار ، فنسبوا لها وهم الرسّ ، ذكرهم الله سبحانه في سورة يس ، وقيل : هم أصحاب الأُخدود والرسّ هو الأُخدود الذي حفروه ، وقال عكرمة : هم قوم رسّوا نبيهم في بئر ، دليله ما روى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنَّ أول الناس يدخل الجنة يوم القيامة لعبد أسود وذلك أن الله سبحانه بعث نبيّاً إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها أحد إلاّ ذلك الأسود ، ثمّ إنّ أهل القرية عدوا على ذلك النبي فحفروا له بئراً فألقوه فيها ، ثم أُطبق عليه بحجر ضخم ، وكان ذلك العبد الأسود يذهب فيحتطب على ظهره ، ثم يأتي بحطبه فيبيعه فيشري به طعاماً وشراباً ، ثم يأتي به إلى تلك البئر فيرفع تلك الصخرة يعينه الله عليها فيدلي إليه طعامه وشرابه ثم يردّها كما كانت .
قال : وكان كذلك ما شاء الله أن يكون ثم إنّه ذهب يوماً يحتطب كما كان يصنع فجمع حطبه وحزم حزمته وفرغ منها ، فلمّا أراد أن يحتملها وجد سِنة فاضطجع فنام فضرب اللّه على أُذنه سبع سنين ، ثم إنه هبّ فتمطّى فتحوّل لشقّه الآخر فاضطجع ، فضرب الله على أُذنه سبع سنين أُخرى ، ثم إنّه هبّ فاحتمل حزمته ولا يحسَبُ إلاّ أنه نام ساعة من نهار ، فجاء إلى القرية فباع حزمته ، ثم اشترى طعاماً وشراباً كما كان يصنع ، ثم ذهب إلى الحفرة في موضعها التي كانت فيه فالتمسه فلم يجده وقد كان بدا لقومه فيه بداء فاستخرجوه فآمنوا به وصدّقوه
(7/134)
" صفحة رقم 135 "
قال : وكان النبي يسألهم عن ذلك الأسود ما فعل ؟ فيقولون له : ماندري ، حتى قبض الله ذلك النبي فأهب الله الاسود من نومته بعد ذلك فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنّ ذلك الاسود لأول من يدخل الجنة ) .
قلت : قد ذكر في هذا الحديث انهم آمنوا بنبيهم واستخرجوه من حفرته فلا ينبغي ان يكونوا المعنيين بقوله ) وأصحاب الرسّ ( لأن الله سبحانه وتعالى أخبر عن أصحاب الرسّ أنهم دمّرهم تدميراً إلاّ أن يكونوا دُمروا بأحداث أحدثوها بعد نبيهم الذي استخرجوه من الحفرة وامنوا به فيكون ذلك وجهاً .
وقد ذُكر عن أمير المؤمنين علي ح في قصة أصحاب الرس ما يصدّق قول عكرمة وتفسيره ، وهو ما روى علي بن الحسين زين العابدين عن أبيه عن علي بن أبي طالب أنَّ رجلا من أشراف بني تميم يقال له عمرو أتاه فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن أصحاب الرسّ في أيّ عصر كانوا ؟ وأين كانت منازلهم ؟ ومن كان ملكهم ؟ وهل بعث الله سبحانه إليهم رسولاً ؟ وبماذا أُهلكوا ؟ فإنّي أجد في كتاب الله سبحانه ذكرهم ولا أجد خبرهم ، فقال له علي ح : لقد سألت عن حديث ما سألني عنه أحد قبلك ولا يحدّثك به أحد بعدي .
وكان من قصتهم يا أخا تميم أنهم كانوا قوماً يعبدون شجرة صنوبر يقال لها شاه درخت ، كان يافث بن نوح غرسها على شفير عين يقال لها دوشاب كانت أُنبتت لنوح عليه السلام بعد الطوفان ، وإنّما سُمّوا أصحاب الرسّ لأنهم رسّوا نبيهم في الأرض وذلك قبل سليمان بن داود ، وكان له إثنتا عشرة قرية على شاطئ نهر يقال له الرس من بلاد المشرق ، وبهم سمّي ذلك النهر ، ولم يكن يومئذ في الأرض أغزر منه ولا أعذب ، ولا قرى أكثر سكاناً ولا أعمر منها ، وكانت ، أعظم مداينهم اسفندماه وهي التي ينزلها ملكهم ، وكان يسمّى نركوز بن عانور بن ناوش بن سارن ابن نمرود بن كنعار ، وبها العين والصنوبرة وقد غرسوا في كل قرية منها حبة من طلع تلك الصنوبرة فنبتت الحبّة وصارت شجرة عظيمة ، وحرموا ماء العين والأنهار فلا يشربون منها هم ولا أنعامهم ، ومن فعل ذلك قتلوه ، ويقولون : هي حياة آلهتنا فلا ينبغي لأحد أن يقطف من حباتها ، ويشربون هم وأنعامهم من نهر الرس الذي عليه قراهم ، وقد جعلوا في كل شهر من السنة في كل قرية عيداً تجتمع إليه أهلها ويضربون على الشجرة التي بها كلّة من حرير فيها أنواع الصور ، ثم يأتون بشياه وبقر فيذبحونها قرباناً للشجرة ويشعلون فيها النيران بالحطب ، فإذا سطع دخان تلك الذبائح وقتاره في الهواء ، وحال بينهم وبين النظر إلى السماء ، خرّوا للشجرة سجّداً يبكون ويتضرعون إليها أن ترضى عنهم
(7/135)
" صفحة رقم 136 "
وكان الشيطان يجيىء فيحرّك أغصانها ويصيح من ساقها صياح الصبي : إني قد رضيت عنكم عبادي فطيبوا نفساً وقرّوا عيناً ، فيرفعون عند ذلك رؤوسهم ويشربون الخمر ويضربون بالمعازف فيكونون على ذلك يومهم وليلتهم ، ثم ينصرفون حتى إذا كان عيد قريتهم العظمى اجتمع إليه صغيرهم وكبيرهم فضربوا عند الصنوبرة والعين سرادقاً ، ويقرّبون لها الذبائح أضعاف ما قرّبوا للشجرة التي في قراهم ، فيجيء إبليس عند ذلك فيحرّك الصنوبرة تحريكاً شديداً ويتكلم من جوفها كلاماً جهورياً يعدهم ويمنيهم بأكثر مما وعد بهم الشياطين كلّها ، فيرفعون رؤوسهم من السجود وبهم من الفرح والنشاط ما لا يفيقون من الشرب والعزف ، فيكونون على ذلك اثنا عشر يوماً ولياليها بعدد أعيادهم سائر السنة ثم ينصرفون .
فلمّا طال كفرهم بالله سبحانه وعبادتهم غيره بعث الله سبحانه إليهم نبياً من بني إسرائيل من ولد يهودا بن يعقوب فلبث فيهم زماناً طويلاً يدعوهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى ومعرفة ربوبيته فلا يتبعونه ، فلمّا رأى شدّة تماديهم في الغي والضلال ، وتركهم قبول ما دعاهم إليه من الرشد والصلاح وحضر عند قريتهم العظمى قال : يا ربّ إنّ عبادك أبوا إلاّ أن يكذّبوني ويكفروا بك وغدوا يعبدون شجرة لا تنفع ولا تضر ، فأيبسْ شجرهم اجمع وأرِهم قدرتك وسلطانك ، فأصبح القوم وقد يبس شجرهم كلّه ، فهالهم ذلك وقطعوا بها وصاروا فرقتين : فرقة قالت سحر آلهتكم هذا الرجل الذي زعم أنه رسول ربّ السماء والأرض إليكم ليصرف وجوهكم عن آلهتكم إلى إلهه .
وفرقة قالت : لا بل غضبت آلهتكم حين رأت هذا الرجل يعيبها ويقع فيه ويدعوكم إلى عبادة غيرها ، فحجبت حسنها وبهاءها لكي تضبوا لها فينتصروا منه ، فأجمع رأيهم على قتله فاتخذوا أنابيب طوالاً من رصاص واسعة الأفواه ، ثم أرسلوها في قرار العين إلى أعلى الماء واحدة فوق الأخرى مثل البرابخ ، ونزحوا ما فيها من الماء ثم حفروا في قرارها بئراً ضيقة المدخل عميقة ، وأرسلوا فيها نبيّهم وألقموا فاها صخرة عظيمة ثم أخرجوا الأنابيب من الماء وقالوا : نرجو الآن أن ترضى عنّا آلهتنا إذ رأت أنّا قد قتلنا من كان يقع فيها ويصد عن عبادتها ودفنّاه تحت كبيرها يتشفى منه فيعود لها نورها ونضرتها كما كان ، فبقوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيّهم عليه السلام وهو يقول : سيّدي قد ترى ضيق مكاني وشدّة كربي فارحم ضعف ركني وقلة حيلتي ، وعجّل قبض روحي ولا تؤخّر إجابة دعوتي حتى مات عليه السلام .
فقال الله تعالى لجبرئيل : إنّ عبادي هؤلاء غرّهم حلمي وآمنوا مكري وعبدوا غيري وقتلوا رسولي ، وأنا المنتقم ممّن عصاني ولم يخش عقابي ، وإنّي حلفت لأجعلنهم عبرة ونكالا للعالمين ، فلم يرعهم وهم في عيدهم إلاّ ريح عاصف شديدة الحمرة قد عروا عنها وتحيروا فيها ، وانضم بعضهم إلى بعض ثم صارت الأرض من تحتهم حجر كبريت تتوقد وأظلّتهم سحابة سوداء فألقت عليهم كالقبّة حمراء تلتهب فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص في النار نعوّذ بالله من غضبه ودرك نقمته .
(7/136)
" صفحة رقم 137 "
وقال بعض أهل العلم بأخبار الماضين وسير المتقدمين : بلغني أنّه كان رسّان : أمّا احَدَهُمَا فكان أهله أهل بدو وعمود وأصحاب مواشي فبعث الله إليهم رسولاً فقتلوه ، ثم بعث إليهم رسولا آخر وعضده بولي فقُتل الرسول وجاهدهم الولي حتى أفحمهم وكانوا يقولون إلهنا في البحر وكانوا على شفيره ، وأنّه كان يخرج إليهم من البحر شيطان في كل شهر خرجة فيذبحون عنده ويجعلونه عيداً فقال لهم الولي : أرأيتكم إن خرج إلهكم الذي تعبدونه فدعوته فأجابني وأمرته فأطاعني أتجيبونني إلى مادعوتكم إليه ؟ قالوا : بلى فأعطوه عهودهم ومواثيقهم على ذلك فانتظروا حتى خرج ذلك الشيطان على صورة حوت راكباً أربعة أحوات وله عنق مستعلية ، وعلى رأسه مثل التاج ، فلمّا نظروا إليه خرّوا سجّدا وخرج الولي إليه فقال : ائتني طوعاً أو كرهاً باسم الله الكريم فنزل عند ذلك عن أحواته فقال له الولي : ائتني عليهن لئلاّ يكون من القوم في أمره شك ، فأتى الحوت وأتين به حتى أفضن إلى البر يجرّونه ويجرّهم ، فكذبوه بعد ذلك فأرسل الله عليهم ريحاً فقذفهم في البحر وقذف في البحر مواشيهم وما كانوا يملكون من ذهب وفضة وآنية ، فأتى الولي الصالح إلى البحر حتى أخذ الذهب والفضة والأواني فقسمها على أصحابه بالسويّة ، وانقطع نسل هؤلاء القوم .
وأما الآخر فهم قوم كان لهم نهر يدعى الرسّ ينسبون إليه فكان فيهم أنبياء كثيرة قل يوم يقوم فيهم نبيّ إلاّ قتل ، وذلك النهر بمنقطع أذربيجان بينهما وبين أرمينية فإذا قطعته مدبراً ذاهباً دخلت في حدّ أرمينية ، وإذا قطعته مقبلاً دخلت حدّ أذربيجان وكان من حولهم من أهل أرمينية يعبدون الأوثان ومن قدّامهم من أهل أذربيجان يعبدون النيران ، وهم كانوا يعبدون الحواري العذارى فإذا تمّت لأحداهن ثلاثون سنة قتلوها واستبدلوا غيرها .
وكان عرض نهرهم ثلاث فراسخ وكان يرتفع في كل يوم وليلة حتى بلغ أنصاف الجبال التي حوله ، وكان لا ينصب في بر ولا بحر ، إذا خرج من حدّهم يقف ويدور ثم يرجع ، إليهم فبعث الله سبحانه إليهم ثلاثين نبيّاً في شهر واحد فقتلوهم جميعاً ، فبعث اللّه إليهم نبيّاً وأيّده بنصره وبعث معه وليّاً فجاهدهم في الله حقَّ جهاده ونابذوه على سواء ، فبعث الله ميكائيل وكان ذلك في أوان وقوع الحَب في الزرع وكانوا إذ ذاك أحوج ما كانوا إلى الماء ففجر نهرهم في البحر ، فانصبّ ما في أسفله وأتى عيونها من فوق فسدّها .
وبعث الله أعوانه من الملائكة خمسمائة ألف ففرّقوا ما بقي في وسط النهر ، ثم أمر الله سبحانه جبرئيل ، فنزل فلم يدع في أرضهم عيناً لا ماء ولا نهر إلاّ أيبسه بإذن الله تعالى ، وأمر ملك الموت فانطلق إلى المواشي فأماتها ربضة واحدة ، وأمر الرياح الأربع الجنوب والشمال والصبا والديور فقصمت ما كان لهم من متاع ، وألقى الله عليهم السبات ثم خفقت الرياح الأربع بما كان من ذلك المتاع أجمع ، فنهبته في رؤوس الجبال وبطون الأودية .
(7/137)
" صفحة رقم 138 "
فأما ما كان من حليّ أو تبر أو آنية فإن الله سبحانه أمر الأرض فابتلعته فأصبحوا ولا ماشية عندهم ولا مال يعودون إليه ولا ماء يشربونه ، وأصبحت زروعهم يابسة فآمن بالله عند ذلك قليل منهم وهداهم الله سبحانه إلى غار في جبل له طريق إلى خلفه ، فنجوا وكانوا أحد وعشرين رجلاً وأربع نسوة وصبييّن ، وكان عدّة الباقين من الرجال والنساء والذراري ستمائة ألف فماتوا عطشاً وجوعاً ، ولم يبق منهم باقية ، ثم عاد القوم المؤمنون إلى منازلهم فوجدوها قد صار أعلاها أسفلها فدعوا الله عند ذلك مخلصين أن يجيئهم بزرع وماشية وماء ويجعله قليلاً لئلاّ يطغوا ، فأجابهم الله سبحانه إلى ذلك لما علم من صدقهم ، وأطلق لهم نهرهم وزادهم على ما سألوا .
فقام أُولئك بطاعة الله ظاهرة وباطنة حتى مضى أولئك القوم وحدث من نسلهم بعدهم قوم أطاعوا الله في الظاهر ونافقوا في الباطن فأملى الله لهم ، ثم كثرت معاصيهم فبعث الله سبحانه عليهم عدوّهم فأسرع فيهم القتل فبقيت شرذمة منهم ، فسلّط الله عليهم الطاعون فلم يُبقِ منهم أحداً ، وبقي نهرهم ومنازلهم مائتي عام لا يسكنها أحد .
ثم أتى الله سبحانه بقرن بعد ذلك فنزلوها فكانوا صالحين سنين ثم أحدثوابعد ذلك فاحشة جعل الرجل يدعو ابنته وأخته وزوجته فينيكها جاره وصديقه وأخوه يلتمس بذلك البر والصلة ، ثم ارتفعوا من ذلك إلى نوع آخر استغنى الرجل بالرجل وتركوا النساء حتى شبقن فجاءتهن شيطانة في صورة امرأة وهي الدلهاث بنت إبليس وهي أُخت الشيطان ، كانا في بيضة واحدة فشبهت إلى النساء ركوب بعضها إلى بعض وعلّمتهن كيف يصنعن ، فأصل ركوب النساء بعضهن بعضاً من الدلهاث ، فسلّط الله سبحانه على ذلك القرن صاعقة من أول الليل وخسفاً في آخر الليل وصيحةً مع الشمس ، فلم يبق منهم باقية وبادت مساكنهم .
ويشهد بصحّة بعض هذه القصة ما أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو الطيب بن حفصويه قال : حدّثنا عبد الله بن جامع قال : حدّثنا عثمان بن خرزاذ قال : حدّثنا سلمان بن عبد الرَّحْمن قال : حدّثنا الحكم بن يعلى بن عطاء قال : حدّثنا معاوية بن عمار الدهنى عن جعفر بن محمد عن أبيه في قوله ) وأصحاب الرس ( قال : السحاقات .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك قال : حدّثنا الحسن بن إسماعيل الدينوري قال : حدّثنا أحمد بن يحيى بن مالك السوسي قال : حدّثنا نصر بن حماد قال : حدّثنا عمر بن عبد الرَّحْمن عن مكحول عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أشراط الساعة أن يستكفي الرجال بالرجال والنساء بالنساء وذلك السحق )
(7/138)
" صفحة رقم 139 "
والرسّ في كلام العرب : كل محفور مثل البئر والمعدن والقبر ونحوها وجمعهُ رساس ، قال الشاعر :
سبقت إلى فرط بأهل تنابلة
يحفرون الرساسا
وقال أبو عبيد : الرسّ : كلّ ركية لم تطو بالحجارة والآجر والخشب .
) وقروناً بين ذلك كثيراً }
الفرقان : ( 39 ) وكلا ضربنا له . . . . .
) وكلاً ضربنا له الأمثال ( في إقامة الحجّة فلم نهلكهم إلاّ بعد الإعذار والإنذار ) وكلاً تبّرنا تتبيراً ( أهلكنا إهلاكاً ، وقال المؤرخ : قال الأخفش : كسّرنا تكسيراً .
الفرقان : ( 40 ) ولقد أتوا على . . . . .
) ولقد أتوا على القرية التي أُمطرت مطر السَّوء ( يعني الحجارة وهي قرية قوم لوط وكانت خمس قرى فأهلك الله سبحانه أربعاً وبقيت الخامسة ، واسمها صغر وكان أهلها لا يعملون ذلك العمل الخبيث .
) أفلم يكونوا يرونها ( إذا مرّوا بها في أسفارهم فيعتبرون ويتذكروا . قال الله سبحانه ) بل كانوا لا يرجون ( يخافون ) نُشُورَاً ( بعثاً
الفرقان : ( 41 ) وإذا رأوك إن . . . . .
) وإذا رأوك إن يتّخذونك إلاّ هزوا ( نزلت في أبي جهل كان اذا مرَّ بأصحابه على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال مستهزئاً ) أهذا الذي بعثَ اللهُ رَسولاً }
الفرقان : ( 42 ) إن كاد ليضلنا . . . . .
) إن كاد ليضلنا عن ألهتنا ( قد كاد يصدّنا عن عبادتها ) لولا أن صبرنا عليها ( لصرفنا عنها ) وسوف يَعلمون حين يرون العذاب من أضلّ سبيلاً ( وهذا وعيدٌ لهم
الفرقان : ( 43 ) أرأيت من اتخذ . . . . .
) أرأيت من اتّخذ إلهه هويه ( وذلك أنّ الرجل من المشركين كان يعبد الحجر أو الصنم ، فإن راى أحسن منه رمى به وأخذ الآخر فعبده ، قال ابن عباس : الهوى إله يعبد من دون الله .
) أفأنت تكون عليه وكيلاً ( حفيظاً من الخروج إلى هذا الفساد ، نسختها آية الجهاد
الفرقان : ( 44 ) أم تحسب أن . . . . .
) أم تحسب أن أكثرهم يسمعون ( ما يقول : سماع طالب للإفهام ) أو يعقلون ( ما يعاينون من الحجج والأعلام ) إن هم ( ما هم ) إلاّ كالأنعام بل هم أضلُّ سبيلاً ( لأنّ البهائم تهتدي لمراعيها ومشاربها وتنقاد لأربابها التي تعلفها وتعهدها ، وهؤلاء الكفار لا يعرفون طريق الحق ولا يطيعون ربّهم الذي خلقهم ورزقهم .
الفرقان : ( 45 ) ألم تر إلى . . . . .
) ألم تر إلى ربّك كيف مدّ الظل ( معناه ألم تر إلى مدِّ ربك الظل ، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وإنّما جعله ممدوداً لأنه لا شمس معه ، كما قال في ظل الجنة ( وظلَ ممدود ) إذ لم يكن معه شمس ، ) ولو شاء لجعله ساكناً ( دائماً ثابتاً لا يزول ولا تذهبه الشمس .
قال أبو عبيد : الظلّ ما نسخته الشمس وهو بالغداة والفيىء ما نسخ الشمس وهو بعد الزوال ، سُمّي فيئاً لأنه من جانب المشرق إلى جانب المغرب ) ثم جعلنا الشمس عليه ( أي على
(7/139)
" صفحة رقم 140 "
الظل ) دليلاً ( ومعنى دلالتها عليه أنه لو لم تكن الشمس لما عُرف الظل إذ الاشياء تعرف بأضدادها ، والظل يتبع الشمس في طوله وقصره كما يتبع السائر الدليل ، فإذا ارتفعت الشمس قصر الظل وان انحطّت طال
الفرقان : ( 46 ) ثم قبضناه إلينا . . . . .
) ثم قبضناه ( يعني الظل ) إلينا قبضاً يسيراً ( بالشمس التي يأتي بها فتنسخه ، ومعنى قوله يسيراً أي خفيفاً سريعاً ، والقبض : جمع الأجزاء المنبسطة ، وأراد ههنا النقل اللطيف .
الفرقان : ( 47 ) وهو الذي جعل . . . . .
) وهو الذي جعل لكم الليل لباساً ( أي ستراً تستترون وتسكنون فيه ) والنوم سباتاً ( راحة لأبدانكم وقطعاً لعملكم ، وأصل السبت القطع ومنه يوم السبت والنّعال السبتية ) وجعل النهار نشوراً ( أي يقظة وحياة تُنشرون فيه وتنتشرون لأشغالكم
الفرقان : ( 48 ) وهو الذي أرسل . . . . .
) وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهوراً ( وهو الطاهر في نفسه المطهّر لغيره
الفرقان : ( 49 ) لنحيي به بلدة . . . . .
) لنُحيي به بلدةً ميتاً ( ولم يقل ميتة لأنّه رجع به إلى المكان والموضع ، قال كعب : المطر روح الأرض ) ونسقيه ( قرأهُ العامة بضم النون ، وروى المفضل والبرجمي عن عاصم بفتح النون وهي قراءة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ح ) ممّا خلقنا أنعاماً واناسىّ كثيراً ( والأناسي جمع الإنسان ، وأصله أناسين مثل بستان وبساتين فجعل الباء عوضاً من النون ، وإن قيل : هو أيضاً مذهب صحيح كما يجمع القرقور قراقير وقراقر .
أخبرني الحسن بن محمد الفنجوي قال : حدّثنا مخلد بن جعفر الباقرحي ، حدّثنا الحسن ابن علوي ، حدّثنا إسحاق بن عيسى قال : حدّثنا إسحاق بن بشر قال : حدّثنا ابن إسحاق وابن جريج ومقاتل كلّهم قالوا وبلّغوا به ابن مسعود : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ليس من سنة بأَمطر من أُخرى ولكنّ الله قسّم هذه الأَرزاق فجعلها في السماء الدنيا في هذا القطر ، ينزل منه كلّ سنة بكيل معلوم ووزن معلوم ، ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي حوّل الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعاً صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار ) .
الفرقان : ( 50 ) ولقد صرفناه بينهم . . . . .
) ولقد صرّفناه ( يعني المطر ) بينهم ( عاماً بعد عام وفي بلدة دون بلدة ، وقيل : صرفناه بينهم وابلا وطشّاً ورهاماً ورذاذاً ، وقيل : التصريف راجع إلى الريح .
) ليذّكّروا فأبى أكثر الناس إلاّ كفوراً ( أى جحوداً ، وقيل : هو قولهم مطر كذا وكذا
الفرقان : ( 51 ) ولو شئنا لبعثنا . . . . .
) ولو شئنا لبعثنا في كلّ قرية نذيراً ( رسولاً ولقسّمنا النذير بينهم كما قسّمنا المطر ، فحينئذ يخفّ عليك أعباء النبوّة ، ولكنّا حمّلناك ثقل نذارة جميع القرى لتستوجب بصبرك عليه ما أعتدنا لك من الكرامة والهيبة والدرجة الرفيعة .
الفرقان : ( 52 ) فلا تطع الكافرين . . . . .
) فلا تطع الكافرين ( فيما يدعونك إليه من عبادة آلهتهم ومقاربتهم ومداهنتهم ) وجاهدهم به ( أي بالقرآن ) جهاداً كبيراً ( .
(7/140)
" صفحة رقم 141 "
2 ( ) وَهُوَ الَّذِى مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (
[ / مق ]
) وهو الذي مرج البحرين وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَانِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَانُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً تَبَارَكَ الَّذِى جَعَلَ فِى السَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاَْرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَائِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِئَايَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً أُوْلَائِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَاماً خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّى لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً (
الفرقان : ( 53 ) وهو الذي مرج . . . . .
) وهو الذي مرج البحرين ( أي خلطهما وحلّى وأفاض أحدهما في الآخر ، وأصل المرج : الخلط والإرسال ، ومنه قوله سبحانه ) فهم في أمر مريج ( وقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لعبد الله ابن عمر : ( كيف بك يا عبد الله إذا كنت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم وصاروا هكذا ) وشبّك بين أصابعه ، ويقال : مرجتُ دابّتي مرجها إذا أرسلتُها في المرعى وخلّيتها تذهب حيث شاءت ، ومنه قيل للروضة مرج ، قال العجاج :
رعى بها مرج ربيع ممّرجاً
(7/141)
" صفحة رقم 142 "
قال ابن عباس والضحاك ومقاتل : مرج البحرين أي خلع أحدهما على الآخر ) هذا عذبٌ فرات ( شديد العذوبة ) وهذا ملح أجاج ( شديد الملوحة ) وجعل بينهما برزخاً ( حاجزاً بقدرته وحكمته لئلاّ يختلطا ) وحجراً محجوراً ( ستراً ممنوعاً يمنعهما فلا يبغيان ولا يفسد الملح العذب .
الفرقان : ( 54 ) وهو الذي خلق . . . . .
) وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً ( قال علىّ بن أبي طالب : النسب ما لا يحلّ نكاحه ، والصهر ما يحلّ نكاحه ، وقال الضحّاك وقتادة ومقاتل : النسب سبعة والصهر خمسة ، وقرأوا هذه الآية ) حرّمت عليكم أمهاتكم وبناتكم ( إلى آخرها .
أخبرني أبو عبد الله ( القسايني ) قال : أخبرنا أبو الحسن النصيبي القاضي قال : أخبرنا أبو بكر السبيعي الحلبي قال : حدّثنا علي بن العباس المقانعي قال : حدّثنا جعفر بن محمد بن الحسين قال : حدّثنا محمد بن عمرو قال : حدّثنا حسين الأشقر قال : حدّثنا أبو قتيبة التيمي قال : سمعت ابن سيرين يقول في قول الله سبحانه وتعالى ) وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً ( قال : نزلت في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعلي بن أبي طالب ، زوج فاطمة عليّاً وهو ابن عمّه وزوج ابنته فكان نسباً وصهراً .
) وكان ربّك قديراً }
الفرقان : ( 55 ) ويعبدون من دون . . . . .
) ويعبدون ( يعني هؤلاء المشركين ) من دون الله ما لا ينفعهم ( إن عبدوه ) ولا يضرّهم ( إن تركوه ) وكان الكافر على ربه ظهيراً ( أي معيناً للشيطان على ربّه ، وقيل : معناه وكان الكافر على ربّه هيّناً ذليلاً من قول العرب : ظهرت به إذا جعلته خلف ظهرك فلم تتلفّت إليه .
الفرقان : ( 56 - 57 ) وما أرسلناك إلا . . . . .
) وما أرسلناك إلاّ مبشراً ونذيراً قل ما أسألكم عليه ( على تبليغ الوحي ) من أجر ( فيقولون : إنّما يطلب محمد أموالنا بما يدعونا إليه فلا نتّبعه كيلا نعطيه من أموالنا شيئاً ) إلاّ من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً ( .
قال أهل المعاني : هذا أمر الاستثناء المنقطع ، مجازه لكن من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلا بإنفاقه ماله في سبيله ،
الفرقان : ( 58 ) وتوكل على الحي . . . . .
) وتوكّل على الحيّ الذي لا يموت وسبّح بحمده ( أي اعبده وصلّ له شكراً منك له على نعمه ، وقيل : احمده منزّهاً له عمّا لا يجوز في وصفه ، وقيل : قل : سبحان الله والحمد لله ) وكفى به بذنوب عباده خبيراً ( فيجازيهم بها
الفرقان : ( 59 ) الذي خلق السماوات . . . . .
) الذي ( في محل الخفض على نعت الحي ) خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستّة أيام ( فقال بينهما وقد جمع السموات لأنه أراد الصنفين والشيئين كقول القطامي :
(7/142)
" صفحة رقم 143 "
ألم يحزنك أن حبال قيس
وتغلب قد تباينتا انقطاعا
أراد وحبال تغلب فثنّى والحبال جمع لأنّه أراد الشيئين والنوعين ، وقال آخر :
إنَّ المنيّة والحتوف كلاهما
توفي المخارم يرقبان سوادي
) ثم استوى على العرش الرحمن فاسئل به خبيراً ( أي فسل خبيراً بالرحمن ، وقيل : فسل عنه خبيراً وهو الله عز وجل ، وقيل : جبرئيل ( عليه السلام ) ، الباء بمعنى عن لقول الشاعر :
فإن تسألوني بالنساء فإنني
بصير بأدواء النساء طبيب
أي عن النساء .
الفرقان : ( 60 ) وإذا قيل لهم . . . . .
) وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان قالوا وما الرحمن ( ما نعرف الرحمن إلاّ رحمن اليمامة ) أنسجد لما تأمرنا ( قرأ حمزة والكسائي بالياء يعنيان الرحمن ، وقرأ غيرهما تأمرنا بالتاء يعنون لما تأمرنا أنت يا محمد ) وزادهم ( قول القائل لهم : اسجدوا للرحمن ) نفوراً ( عن الدين والإيمان ، وكان سفيان الثوري إذا قرأ هذه الآية رفع رأسه إلى السماء وقال : إلهي زادني خضوعاً ما زاد أعداءك نفوراً .
الفرقان : ( 61 ) تبارك الذي جعل . . . . .
) تبارك الذي جعل في السماء بروجاً ( يعني منازل الكواكب السبعة السيارة وهي اثنا عشر برجاً : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأَسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدي ، والدلو ، والحوت ، فالحمل والعقرب بيتا المريخ ، والثور والميزان بيتا الزهرة ، والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد ، والسرطان بيت القمر ، والأسد بيت الشمس ، والقوس والحوت بيتا المشتري ، والجدي والدلو بيتا زحل ، وهذه البروج مقسومة على الطبائع الاربع فيكون نصيب كل واحد منهما ثلاثة بروج تسمى المثلثات ، فالحمل والأسد والقوس مثلثة نارية ، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية ، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية ، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية . واختلفت أقاويل أهل التأويل في تفسير البروج .
فاخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني قال : حدّثني محمد بن الحسين بن أبي الشيخ قال : حدّثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال : حدّثنا عبد الله بن إدريس قال : حدّثني أبي عن عطية العوفي في قوله سبحانه ) تبارك الذي جعل في السماء بروجاً ( قال : قصوراً فيها الحرس ، دليله قوله ) ولو كنتم في بروج مشيّدة ( .
(7/143)
" صفحة رقم 144 "
وقال الأخطل :
كأنها برج رومي يشيِّده
بان بجصّ وآجرَ وأحجار
وقال مجاهد وقتادة : هي النجوم .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبة قال : حدّثنا علي بن محمد بن ماهان قال : حدّثنا علي بن محمد الطنافسي قال : حدّثنا خالي يعلى عن إسماعيل عن أبي صالح ) تبارك الذي جعل في السماء بروجاً ( قال : النجوم الكبائر . قال عطاء : هي الشرج وهي أبواب السماء التي تسمّى المجرّة .
) وجعل فيها سراجاً ( يعني الشمس ، نظيره قوله سبحانه ) وجعل الشمس سراجاً ( وقرأ حمزة والكسائي ( وجعل فيها سُرُجاً ) بالجمع يعنون النجوم وهي قراءة أصحاب عبد الله ) وقمراً منيراً }
الفرقان : ( 62 ) وهو الذي جعل . . . . .
) وهو الذي جعل الليل والنهارَ خلفة ( .
قال ابن عباس والحسن وقتادة : يعني عوضاً وخلفاً يقوم أحدهما مقام صاحبه فمن فاته عمله في أحدهما قضاه في الآخر .
قال قتادة : فأروا الله من أعمالكم خيراً في هذا الليل والنهار ؛ فإنهما مطيّتان تقحمان الناس إلى آجالهم ، وتقّربان كلّ بعيد ، وتبليان كلّ جديد ، وتجيئان بكل موعود إلى يوم القيامة .
روى شمر بن عطية عن شقيق قال : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب ح فقال : فاتتني الصلاة الليلة فقال : أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك ، فإنّ الله سبحانه وتعالى جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكّر .
وقال مجاهد : يعني جعل كلّ واحد منهما مخالفاً لصاحبه فجعل هذا أسود وهذا أبيض .
وقال ابن زيد وغيره : يعني يخلف أحدهما صاحبه ، إذا ذهب أحدهما جاء الآخر ، فهما يتعاقبان في الضياء والظلام والزيادة والنقصان ، يدلّ على صحّة هذا التأويل ، قول زهير :
بها العين والآدام يمشين خلفة
وأطلاؤها ينهضن من كلّ مجشم
وقال مقاتل : يعني جعل النهار خلفاً من الليل لمن نام بالليل ، وجعل الليل خلفاً بالنهار لمن كانت له حاجة أو كان مشغولاً ) لمن أراد أن يذّكّر ( قرأه العامة بتشديد الذال يعني يتذكر ويتعظ ، وقرأ حمزة وخلف بتخفيف الذال من الذكر ) أَو أراد شكوراً ( شكر نعمة الله سبحانه وتعالى عليه .
(7/144)
" صفحة رقم 145 "
الفرقان : ( 63 ) وعباد الرحمن الذين . . . . .
) وعباد الرحمن ( يعني أفاضل العباد ، وقيل هذه الإضافة على التخصيص والتفضيل ، وقرأ الحسن : وعبيد الرَّحْمن .
) الذين يمشون على الأرض هوناً ( أي بالسكينة والوقار والطاعة والتواضع غير أشرين ولا مرحين ولا متكبّرين ولا مفسدين .
أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا العباس بن محمد بن قوهبار قال : حدّثنا علي بن الحسن بن أبي عيسى قال : حدّثنا يحيى بن يحيى قال : حدّثنا هشيم بن عباد بن راشد عن الحسن في قوله سبحانه ) يمشون على الأرض هوناً ( قال : حلماً وعلماً ، وقال محمد بن الحنفية : أصحاب وقار وعفّة لا يسفهون ، وإنْ سفه عليهم حلموا .
الضحّاك : أتقياء أعفّاء لا يجهلون قال : وهو بالسريانية . الثمالي : بالنبطيّة ، والهون في اللغة : الرفق واللين ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما ، وابغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما ) .
) وإذا خاطبهم الجاهلون ( بما يكرهونه ) قالوا سلاماً ( سداداً من القول عن مجاهد .
ابن حيان : قولاً يسلمون فيه من الإثم .
الحسن : سلّموا عليهم ، دليله قوله سبحانه ) وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم ( .
قال أبو العالية والكلبي : هذا قبل أن يؤمروا بالقتال ، ثم نسختها آية القتال .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حنش المقري قال : حدّثنا محمد بن صالح ( الكيلسي ) بمكة قال : حدّثنا سلمة بن شبيب قال : حدّثنا الوليد بن إسماعيل قال : حدّثنا شيبان بن مهران عن خالد أبن المغيرة بن قيس عن أبي محلز لاحق بن حميد عن أبي برزة الأسلمي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( رأيت قوماً من أمتي ما خلقوا بعد ، وسيكونون فيما بعد اليوم أحبّهم ويحبّونني ، ويتناصحون ويتبادلون ، يمشون بنور الله في الناس رويداً في خفية وتقية ، يسلمون من الناس ، ويسلم الناس منهم بصبرهم وحلمهم ، قلوبهم بذكر الله يرجعون ، ومساجدهم بصلاتهم يعمرون ، يرحمون صغيرهم ويجلّون كبيرهم ويتواسون بينهم ، يعود غنيّهم على فقيرهم وقويّهم على ضعيفهم ، يعودون مرضاهم ويتبعون جنائزهم ) .
فقال رجل من القوم : في ذلك يرفقون برفيقهم ؟ فالتفت إليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( كلاّ ،
(7/145)
" صفحة رقم 146 "
إنّهم لا رفيق لهم ، هم خدّام أنفسهم ، هم أكرم على الله من أن يوسّع عليهم لهوان الدنيا عند ربهم ) ثمَّ تلا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية ) وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ( ) .
وروي أنّ الحسن كان إذا قرأ هاتين الآيتين قال : هذا وصف نهارهم .
الفرقان : ( 64 ) والذين يبيتون لربهم . . . . .
ثمَّ قال ) والذين يبيتون لربهم سجّداً وقياماً ( هذا وصف ليلهم .
قال ابن عباس : مَن صلّى بالليل ركعتين أو أكثر من ذلك فقد بات لله سبحانه وتعالى ساجداً وقائماً .
قال الكلبي : يقال : الركعتان بعد المغرب وأربع بعد العشاء الآخرة .
الفرقان : ( 65 ) والذين يقولون ربنا . . . . .
) والذين يقولون ربّنا اصرف عنّا عذاب جهنم إنّ عذابها كان غراماً ( أي ملحّاً دائماً لازماً غير مفارق من عذّب به من الكفار ، ومنه سمّي الغريم لطلبه حقّه وإلحاحه على صاحبه وملازمته إيّاه ، وفلانا مغرم بفلان إذا كان مولعاً به لا يصبر عنه ولا يفارقه ، قال الأعشى :
إن يعاقب يكن غراماً وإن
يعط جزيلاً فإنّه لا يبالي
قال الحسن : قد علموا أنّ كلّ غريم يفارق غريمه إلاّ غريم جهنم .
ابن زيد : الغرام الشرّ ، أبو عبيد : الهلاك ، قال بشر بن أبي حازم :
ويوم النسار ويوم الجفا
ركانا عذاباً وكانا غراما
أي هلاكاً .
الفرقان : ( 66 ) إنها ساءت مستقرا . . . . .
) إنها ( يعني جهنم ) ساءت مستقراً ومقاماً ( أي إقامة ، من أقام يقيم .
وقال سلامة بن جندل :
يومان يوم مقامات وأندية
ويوم سير إلى الاعداء تأويب
فإذا فتحت الميم فهو المجلس من قام يقوم ، ومنه قول عباس بن مرداس :
فأتي ما وأيك كان شرّاً
فقيد إلى المقامة لا يراها
(7/146)
" صفحة رقم 147 "
الفرقان : ( 67 ) والذين إذا أنفقوا . . . . .
) والذين إذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا ( واختلف القرّاء فيه فقرأ أهل المدينة والشام : يُقتروا بضم الياء وكسر التاء ، وقرأ أهل الكوفة بفتح الياء وضم التاء ، غيرهم بفتح الياء وكسر التاء وكلّها لغات صحيحة ، يقال : أقتَر وقَتَر يَقتِرُ ويَقتُر مثل يعرشون ويعكفون ، واختلف المفسرون في معنى الإسراف والإقتار ، فقال بعضهم : الإسراف : النفقة في معصية الله وإن قلّت ، والاقتار : منع حق الله سبحانه وتعالى ، وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جريج وابن زيد .
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري قال : حدّثنا محمد بن عمر بن إسحاق الكلوادي قال : حدّثنا عبد الله بن سليمان بن الأشعث قال : حدّثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء الرملي قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا سهيل بن أبي حزم عن كثير بن زياد أبي سهل عن الحسن في هذه الآية قال : لم يُنفقوا في معاصي الله ولم يمسكوا عن فرائض الله .
وقال بعضهم : الإسراف أن تأكل مال غيرك بغير حق .
قال عون بن عبد الله بن عتبة : ليس المسرف من أكل ماله ، إنما المسرف من يأكل مال غيره .
وقال قوم : السرف : مجاوزة الحد في النفقة ، والإقتار : التقصير عما ينبغي مما لابد منه ، وهذا الاختيار لقوله ) وكان بين ذلك ( أي وكان إنفاقهم بين ذلك ) قواماً ( عدلاً وقصداً وسطاً بين الإسراف والإقتار .
قال إبراهيم : لا يجيعهم ولا يعريهم ، ولا ينفق نفقة تقول الناس : قد أسرف .
مقاتل : كسبوا طيّباً ، وانفقوا قصداً ، وقدموا فضلاً ، فربحوا وأنجحوا .
وقال يزيد بن أبي حبيب في هذه الآية : أُولئك أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ، ولا يلبسون ثوباً للجمال ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسدُّ عنهم الجوع ويقويهم على عبادة ربّهم ، ومن الثياب ما يَسترُ عوراتهم ويكنّهم من الحرّ والقرّ .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حنش قال : حدّثنا ابن زنجويه قال : حدّثنا سلمة قال : حدّثنا عبد الرزاق عن أبي عيينة عن رجل عن الحسن في قوله سبحانه ) يسرفوا ولم يقتروا ( إنّ عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال : كفى سرفاً ان لا يشتهي رجل شيئاً إلا اشتراه فأكله .
الفرقان : ( 68 ) والذين لا يدعون . . . . .
) والذين لا يدعون مع اللهِ إلاهاً آخر ( الآية
(7/147)
" صفحة رقم 148 "
أخبرنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي قال : أخبرنا المؤمّل بن الحسن بن عيسى قال : حدّثنا الحسن بن محمد قال : حدّثنا حجاج عن أبي جريح قال : أخبرني يعلى يعني ابن مسلم عن سعيد بن جبير سمعه يحدّث عن ابن عباس أنّ ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ثم أتوا محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملناه كفارة فنزل ) والذين لا يدعون مع الله إلاهاً آخر ( ونزل ) يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ( وقيل : نزلت في وحشي غلام ابن مطعم .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن الحسين قال : حدّثنا أحمد بن يوسف السلمي قال : حدّثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر والثوري عن منصور والأعمش عن أبي وائل .
وأخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسن قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان وعبد الله بن عبد الرحمن قالا : حدّثنا يوسف بن عبد الله بن ماهان قال : حدّثنا محمد بن كثير قال : حدّثنا سفيان بن الأعمش ومنصور وواصل الأحدب عن أبي وائل .
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدّثنا عبد الله بن هاشم قال : حدّثنا عبد الله بن نمير قال : أخبرنا الأعمش عن شقيق عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود قال : قلت يا رسول الله أيّ الذنب أعظم ؟
قال : ( أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك ) ، قلتُ : ثم أي ؟ قال : أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك ، قلت : ثم أيّ ؟ قال : إن ترى حليلة جارك ، فأنزل الله سبحانه تصديق ذلك ) والذين لا يدعون مع الله إلاهاً آخر ( ) .
قال مسافع : ) ولا يقتلون النفس التي حرّم اللّه إلاّ بالحقّ ولا يزنون ( الآية .
أخبرنا ابن فنجويه قال : حدثنا ابن حنش ، قال : أخبرنا ابن زنجويه قال : أخبرنا سلمة بن عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : ذُكر لنا أنّ لقمان كان يقول : يا بُني إياك والزنا فإن أوله مخافة وآخره ندامة ) ومن يفعل ذلك ( الذي ذكرت ) يلق أثاماً ( قال ابن عباس : إثماً ، ومجازه : تلق جزاء الآثام .
وأخبرني ابن فنجويه ، قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن حفصويه ، قال : حدّثنا محمد بن موسى قال : حدّثنا زهير بن محمد ، قال : حدّثنا محمد بن زياد قال : حدّثنا الكلبي ، قال : حدّثنا شرقي القطامي ، قال : حدّثني لقمان بن عامر ، قال : حدّثني أبو أُمامة الباهلي صدي بن عجلان ، فقلت : حدّثني حديثاً سمعته من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : فدعا لي بطلاء ثم قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( لو أن صخرة زنة عشر عشروات قذف بها في شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين
(7/148)
" صفحة رقم 149 "
خريفاً ، ثم ينتهي إلى غيّ وأثام ، قال : قلت : وما غيّ وأثام ) ؟ قال : نيران يسيل فيها صديد أهل النار ، وهما اللتان قال اللّه سبحانه في كتابه ) فسوف يلقون غيّاً ( و ) يلق أثاماً ( .
وأخبرنا بو عمرو سعيد بن عبد اللّه بن إسماعيل الحيري قال : أخبرنا العباس بن محمد بن قوهباد قال : حدّثنا إسحاق بن عبد الله بن محمد بن زرين السلمي . قال : أخبرنا حفص بن عبد الرحمن ، قال : حدّثنا سعيد عن قتادة ، عن أبي أيوب عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص أن أثاماً واد فى جهنم ، وهو قول مجاهد ، وقال أبو عبيد : الأثام : العقوبة .
قال الليثي :
جزى الله ابن عروة حيث أمسى
عقوقاً والعقوق له اثاماً
أي عقوبة .
الفرقان : ( 69 ) يضاعف له العذاب . . . . .
) يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً ( قرأهُ العامة بجزم الفاء والدال ، ورفعهما ابن عامر وابن عباس على الابتداء .
الفرقان : ( 70 ) إلا من تاب . . . . .
ثمَّ قال ) إلاَّ مَن تابَ وآمن وعمل عملاً صالحاً ( الآية .
أخبرني الحسين بن محمد بن عبد الله قال : حدّثنا موسى بن محمد قال : حدّثنا موسى بن هارون الجّمال قال : حدّثنا إبراهيم بن محمد الشافعي قال : حدّثنا عبد الله بن رجاء عن عبيد الله ابن عمر بن علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس قال : قرأناها على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سنين ) والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ( الآية . ثمَّ نزلت ) إلاّ من تاب ( فما رأيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) رح بشيء قط فرحه بها وفرحه ب ) إنا فتحنا لك فتحاً مبينا ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر ( .
وأخبرني الحسين بن محمد الفنجوي قال : حدّثنا محمد بن الحسين بن علي اليقطيني قال : أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يزيد العقيلي قال : حدَّثنا صفوان بن صالح قال : حدّثنا الوليد بن مسلم قال : حدّثنا عبد العزيز بن الحصين عن ابن أبي نجيح قال : حدّثني القاسم بن أبي برة قال : قلت لسعيد بن جبير : أبا عبد الله أرأيت قول الله سبحانه وتعالى ) ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلاّبالحقّ ( إلى قوله ) إلاّ من تاب ( قال : سمعت ابن عباس يقول : هذه مكيّة نسختها الآية المدنية التي في سورة النساء ) ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤهُ جهنّم خالداً فيها ( ولا توبة له .
وروى أبو الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت أنّه دخل على أبيه وعنده رجل من أهل
(7/149)
" صفحة رقم 150 "
العراق وهو يسأله عن هذه الآية التي في الفرقان والتي في سورة النساء ) ومن يقتل مؤمناً متعمداً ( ، فقال زيد بن ثابت : قد عرفت الناسخة من المنسوخة نسختها التي في النساء بعدها ستّة أشهر .
وروى حجاج عن أبي جريج قال : قال الضحّاك بن مزاحم : هذه السورة بينها وبين النساء ) ومن يقتل مؤمناً متعمداً ( ثماني حجج ، والصحيح أنّها محكمة .
روى جعفر بن سليمان عن عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء قال : اختلفتُ إلى ابن عباس ثلاث عشرة سنة فما شيء من القرآن إلاّ سألته عنه ورسولي يختلف إلى عائشة ، فما سمعته ولا أحد من العلماء يقول : إنّ الله سبحانه يقول لذنب : لا أغفره .
) فأولئك يبدّل الله سيّئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً ( .
قال ابن عباس وابن جبير والضحّاك وابن زيد : يعني فأُولئك يبدّلهم الله بقبائح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام ، فيبدّلهم بالشرك إيماناً ، وبقتل المؤمنين قتل المشركين ، وبالزنا عفة وإحصاناً ، وقال الآخرون : يعني يبدّل الله سيّئاتهم التي عملوها في حال إسلامهم حسنات يوم القيامة ، يدلّ على صحّة هذا التأويل ما أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين الحافظ في داري قال : حدّثنا أبو جعفر محمد بن عبد الله بن برزة قال : حدّثنا أبو حفص المستملي قال : حدّثنا محمد بن عبد العزيز أبي رزمة قال : حدّثنا الفضل بن موسى القطيعي عن أبي العنبس عن ابنه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليتمنّينّ أقوام أنّهم أكثروا من السيئات ) . قيل : مَن هم ؟ قال : الذين بدّل الله سيئاتهم حسنات ) .
وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيعي قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا وكيع قال : حدّثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضى الله عنه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال : أعرضوا عليه صغار ذنوبه قال : فيعرض عليه ويخفى عنه كبارُها فيقال : عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا ، وهو مقرّ لا ينكر وهو مشفق من الكبائر فيقال : أعطوه مكان كلّ سيئة عملها حسنة .
قال : فيقول إنّ لي ذنوباً ما أراها ، فلقد رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ضحك حتّى بدت نواجذه ) .
وأخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا عبيد الله عن عبد الله بن أبي سمرة البغوي ببغداد قال : حدّثنا محمد بن أحمد الطالقاني قال : حدّثنا محمد بن هارون أبو نشيط قال : حدّثنا أبو المغيرة
(7/150)
" صفحة رقم 151 "
قال : حدّثنا صفوان قال : حدّثني عبد الرحمن بن جبير عن أبي الطويل شطب الممدود أنّه أتى النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلّها ولم يترك منها شيئاً ، وهو في ذلك لم يترك حاجة ولا داجة إلاّ اقتطعها بيمينه ، فهل لذلك مِن توبة ؟
قال : ( هل أسلمت ؟
قال : أنا أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأنّك رسوله ، قال : نعم تفعل الخيرات وتترك الشهوات يجعلهنّ الله خيرات كلهن .
قال : وغدراتي وفجراتي
قال : نعم
قال : الله أكبر ، فما زال يكبّر حتى توارى ) .
الفرقان : ( 71 ) ومن تاب وعمل . . . . .
وأخبرني ابن فنجويه في عصبة قال : حدّثنا محمد بن علي بن الحسن قال : حدّثنا عبد الرَّحْمن بن أبي حاتم قال : حدّثنا أبو نشيط قال : حدّثنا أبو المغيرة قال : سمعت مبشر بن عبيد وكان عارفاً بالنحو والعربية يقول : الحاجة الذي يقطع على الحُجّاج إذا توجهوا ، والداجة الذي يقطع عليهم إذا قفلوا ) ومن تاب وعمل صالحاً فإنّه يتوبُ إلى الله متاباً ( رجوعاً حسناً .
الفرقان : ( 72 ) والذين لا يشهدون . . . . .
) والذين لا يشهدون الزور ( قال الضحاك : يعني الشرك وتعظيم الأنداد ، علي بن أبي طلحة : يعني شهادة الزور ، وكان عمر بن الخّطاب يجلد شاهد الزور أربعين جلدة ، ويسخم وجهه ، ويطوف به في السوق ، يحيى بن اليمان عن مجاهد : أعياد المشركين ليث عنه : الغناء وهو قول محمد بن الحنفية بإسناد الصالحي عن إبراهيم بن محمد بن المنكدر قال : بلغني انَّ اللّه تعالى يقول يوم القيامة : أين الذين كانوا ينزّهون أنفسهم وأسماعهم عن اللهو ومزامير الشيطان أدخلوهم رياض المسك ، أسمعوا عبادي تحميدي وثنائي وتمجيدي ، وأخبروهم أن لا خوف عليهم ولاهم يحزنون .
أخبرنا أبو بكر الجوزقي قال : حدّثنا عبد الواحد بن محمد الارعياني قال : حدّثنا الأحمسي قال : حدّثنا عمرو العبقري قال : حدّثنا مسلمة بن جعفر عن عمرو بن قيس في قوله سبحانه ) الذين لا يشهدون الزور ( قال : مجالس الخنا ، ابن جريج : الكذب ، قتادة : مجالس الباطل ، وأصل الزور تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته حتى يخيّل إلى مَن سمعه أو يراه أنّه بخلاف ما هو به ، فهو تمويه الباطل لما توهّم أنّه حقّ .
) وإذا مرّوا باللغو مرّوا كِراماً ( قال مقاتل : إذا سمعوا من الكفّار الشتم والأذى أعرضوا وصفحوا ، وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد ، نظيره ) وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه (
(7/151)
" صفحة رقم 152 "
الآية ، وقال السدّي : وهي منسوخة بآية القتال ، العوّام بن حوشب عن مجاهد : إذا أتوا على ذكر النكاح كنّوا عنه ، ابن زيد : إذا مرّوا بما كان المشركون فيه من الباطل مرّوا منكرين له معرضين عنه ، وقال الحسن والكلبي : اللغو : المعاصي كلّها ، يعني إذا مرّوا بمجالس اللهو والباطل مرّوا كراماً مسرعين معرضين ، يدل عليه ما روى إبراهيم بن ميسرة أنَّ ابن مسعود مرَّ بلهو مسرعاً فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن أصبح ابن مسعود لكريماً ) .
وقال أهل اللغة : أصله من قول العرب ناقة كريمة ، وبقرة كريمة ، وشاة كريمة إذا كانت تعرض عن الحليب تكرّماً كأنّها لا تبالي بما يحلب منها .
الفرقان : ( 73 ) والذين إذا ذكروا . . . . .
) والذين إذا ذكّروا بآيات رَبّهم لم يخرّوا ( لم يقعوا ولم يسقطوا ) عليها صماً وعمياناً ( كأنّهم صمّ عمي ، بل يسمعون ما يذكرون به فيفهمونه ويرون الحق فيه فيتبعونه .
قال الفرّاء : ومعنى قوله ) لم يخرّوا ( أي لم يقيموا ولم يصيروا ، تقول العرب : شتمتُ فلاناً فقام يبكي يعني فظلّ وأقبل يبكي ولا قيام هنالك ولعلّه بكى قاعداً ، وقعد فلان يشتمني أي أقبل وجعل وصار يشتمني ، وذلك جائز على ألسن العرب .
الفرقان : ( 74 ) والذين يقولون ربنا . . . . .
) والذين يقولون ربّنا هب لنا من أزواجنا وذريّاتنا ( بغير ألف أبو عمرو وأهل الكوفة ، الباقون : ذّرياتنا بالألف ) قرّة أعين ( بأن يراهم مؤمنين صالحين مطيعين لك ، ووحّد قرّة لأنها مصدر ، وأصلها من البرد لأنّ العرب تتأذّى بالحر وتستروح إلى البرد .
) واجعلنا للمتقّين إماماً ( أي أئمة يقتدى بها . قال ابن عباس : اجعلنا أئمة هداية كما قال ) وجعلناهم أئمّة يهدون بأمرنا ( ولا تجعلنا أئمة ضلالة كقوله ) وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ( .
قتادة : هُداة دعاة خير .
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن يوسف الفقيه قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون ابن خالد قال : حدّثني أبو جعفر أحمد بن عبد الله العازي الطبري المعروف بابن فيروز قال : حدّثنا الحكم بن موسى قال : حدّثنا يحيى بن حمزة عن عبد الرَّحْمن بن زيد بن جابر عن مكحول في قول الله عزَّ وجل ) واجعلنا للمتّقين إماماً ( قال : أئمّة في التّقوى يقتدي بها المتّقون ، وقال بعضهم : هذا من المقلوب واجعل المتّقين لنا إماماً واجعلنا مؤتمّين مقتدين بهم ، وهو قول مجاهد ، ولم يقل أئمة لأنّ الإمام مصدر ، يقال : أمّ فلان فلاناً مثل الصيام والقيام ، ومَن جعله أئمة فلأنّه قد كثر حتى صار بمعنى الصفة
(7/152)
" صفحة رقم 153 "
وقال بعضهم : أراد أئمة كما يقول القائل : أميرنا هؤلاء يعني أمراؤنا ، وقال الله سبحانه عزّ وجلّ ) فإنّهم عدوّ لي ( ، وقال الشاعر :
يا عاذلاتي لا تزدن ملامتي
إنّ العواذل لسن لي بأمين
أي أمناء .
الفرقان : ( 75 ) أولئك يجزون الغرفة . . . . .
) أُولئك يجزون الغرفة ( يثابون الدرجة الرفيعة في الجنة ) بما صبروا ( على أمر ربهم وطاعة نبيّهم ، وقال الباقر : على الفقر .
) ويلقّون ( قرأ أهل الكوفة بفتح الياء وتخفيف القاف ، واختاره أبو عبيد لقوله ) ولقّيهم نضرة وسروراً ( .
الفرقان : ( 76 - 77 ) خالدين فيها حسنت . . . . .
) خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً قل ما يعبؤا بكم ربّي ( أي ما يصنع وما يفعل ، عن مجاهد وابن زيد .
وقال أبو عبيد : يقال : ما عبأت به شيئاً أي لم أعدّه ، فوجوده وعدمه سواء ، مجازه : أي مقدار لكم ، وأصل هذه الكلمة تهيئة الشيء يقال : عبّأت الجيش وعبأت الطيب أُعبّئه عبؤاً وعبواً إذا هيّأته وعملته ، قال الشاعر :
كأن بنحره وبمنكبيه عبيراً بات يعبؤه عروس
) لولا دعاؤكُم ( إيّاه ، وقيل : لولا عبادتكم ، وقيل : لولا إيمانكم . واختلف العلماء في معنى هذه الآية فقال قوم : معناها قل ما يعبأ بخلقكم ربّي لولا عبادتكم وطاعتكم إيّاه ، يعني أنّه خلقكم لعبادته نظيرها قوله سبحانه ) وما خلقت الجنّ والإنس إلاّ ليعبدون ( وهذا معنى قول ابن عباس ومجاهد ، قال ابن عباس في رواية الوالبي : أخبر الله سبحانه الكفّار أنّه لا حاجة لربهم بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين ، ولو كان له بهم حاجة لحبّب إليهم الإيمان كما حبّب إلى المؤمنين .
وقال آخرون : قل ما يعبأ بعذابكم ربّي لولا دعاؤكم إيّاه في الشدائد ، بيانه ) فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ( ونحوها من الآيات
(7/153)
" صفحة رقم 154 "
وقال بعضهم : قل مايعبأ بمغفرتكم ربّي لولا دعاؤكم معه آلهة وشركاء ، بيانه قوله سبحانه وتعالى ) ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم ( وهذا المعنى قول الضحّاك .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبيش قال : حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال : حدّثنا أبو حاتم قال : حدّثنا أبو طاهر بن السرج قال : حدّثنا موسى بن ربيعة الجمحي قال : سمعت الوليد بن الوليد يقول : بلغني أنّ تفسير هذه الآية ) قل مايعبؤ بكم ربّي لولا دعاؤكم ( يقول : ما خلقتكم وبي إليكم حاجة إلاّ أن تسألوني فأغفر لكم ، وتسألوني فأعطيكم .
) فقد كذبتم ( يا أهل مكة .
وأخبرنا شعيب بن محمد قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدّثنا أحمد بن الأزهر قال : حدّثنا روح بن عبادة قال : حدّثنا شعبة بن عبد الحميد بن واصل قال : سمعت مسلم بن عمّار قال : سمعت ابن عباس يقرأ : فقد كذّب الكافرون ) فسوف يكون لزاماً ( .
وبه شعبة عن أدهم يعني السدوسي عن أنّه كان خلف بن الزبير يقرأ ) تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ( فلمّا أتى على هذه الآية قرأها : فقد كذّب الكافر فسوف يكون لزاماً ، ومعنى الآية فسوف يكون تكذيبهم لزاماً . قال ابن عباس : موتاً . ابن زيد : قتالاً ، أبو عبيدة : هلاكاً .
وأنشد :
فاماينجوا من حتف أرضي
فقد لقيا حتوفهما لزاما
وقال بعض أهل المعاني : يعني فسوف يكون جزاء يلزم كل عامل ما عمل من خير أو شر ، وقال ابن جرير : يعني عذاباً دائماً لازماً وهلاكاً مفنياً يلحق بعضكم بعضاً كقول أبي ذؤيب .
ففاجأه بعادية لزام
كما يتفجّر الحوض اللقيف
يعني باللزام الكثير الذي يتبع بعضه بعضاً وباللفيف الحجار المنهد ، واختلفوا في اللزام ههنا فقال قوم : هو يوم بدر قُتل منهم سبعون وأُسر سبعون ، وهو قول عبد الله بن مسعود وأُبي ابن كعب وأبي مالك ومجاهد ومقاتل .
روى الأعمش عن مسلم عن مسروق قال : قال عبد الله : خمس قد مضين : الدخان واللزام والبطشة والقمر والروم . وقال آخرون : هو عذاب الآخرة .
(7/154)
" صفحة رقم 155 "
( سورة الشعراء )
مكيّة ، إلاّ قوله ) والشعراء يتّبعهم الغاوون ( إلى آخر السورة فإنّها مدنية ، وهي خمسة آلاف وخمسمائة وإثنان وأربعون حرفاً ، وألف ومائتان وسبع وتسعون كلمة ومائتان وسبع وعشرون آية
أخبرنا أبو الحسين الخبازي قال : حدّثنا أبو الشيخ الاصفهاني قال : حدّثنا أبو العباس الطهراني قال : حدّثنا يحيى بن يعلى بن منصور قال : حدّثنا إسماعيل بن أبي أويس قال : حدّثنا أبي عن أبي بكر عن عكرمة عن ابن عباس أنَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : أُعطيت السورة التي يذكر فيها البقرة من الذكر الأوّل ، وأُعطيت طه والطواسين من ألواح موسى ( عليه السلام ) ، وأُعطيت فواتح القرآن وخواتيم السورة التي يذكر فيها البقرة من تحت العرش ، وأُعطيت المفصّل نافلة .
وأخبرني أبو الحسن محمد بن القاسم الماوردي الفارسي قال : حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم ابن منصور الخيزراني ببغداد قال : حدّثنا محمد بن أحمد بن حبيب قال : حدّثنا يعقوب بن يوسف قال : حدّثنا يحيى بن يحيى قال : أخبرنا خارجة عن عبد الله عن إسماعيل بن أبي رافع عن الرقاشي وعن الحسن عن أنس أنّه سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : إنّ الله أعطاني السبع مكان التوراة ، وأعطاني الطواسين مكان الزبور ، وفضّلني بالحواميم والمفصّل ما قرأهن نبيّ قبلي .
وأخبرني كامل بن أحمد النحوي وسعيد بن محمد المقري قالا : أخبرنا أحمد بن محمد ابن جعفر الشروطي قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك الكوفي قال : حدّثنا أحمد بن عبد الله اليربوعي قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه أبي أمامة عن أُبي بن كعب قال : قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَن قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم ، وبعدد مَن كذّب بعيسى وصدّق بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
(7/155)
" صفحة رقم 156 "
2 ( ) طسم تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السَّمَآءِ ءَايَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَانِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاؤُا مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الاَْرْضِ كَمْ أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 2
الشعراء : ( 1 ) طسم
) طسم ( اختلف القرّاء فيها وفي أُختَيها فكسر الطاء فيهن على الإمالة حمزة والكسائي وخلف وعاصم في بعض الروايات . وقرأ أهل المدينة بين الكسر والفتح وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وقرأ غيرهم بالفتح على التضخيم ، وأظهر النون في السين ههنا وفي سورة القصص أبو جعفر وحمزة للتبيين والتمكين ، وأخفاها الآخرون لمجاورتها حروف الفم . وأمّا تأويلها فروى الوالبي عن ابن عباس قال : طسم قسم وهو من اسماء الله سبحانه ، عكرمة عنه : عجزت العلماء عن علم تفسيرها . مجاهد : اسم السورة . قتادة وأبو روق : اسم من أسماء القرآن أقسم الله عزّ وجلّ به ، القرظي أقسم الله سبحانه بطَوله وسنائه وملكه .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حنش قال : حدّثني أحمد بن عبيد الله بن يحيى الدارمي قال : حدّثني محمد بن عبده المصّيصي قال : حدّثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي قال : حدّثنا محمد بن بشر الرقّي قال : حدّثنا أبو عمر حفص بن ميسرة عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب ح قال : لما نزلت هذه الآية طسم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الطاء طور سيناء والسين الاسكندرية والميم مكة ) .
وقال جعفر الصادق ( عليه السلام ) : الطاء طوبى والسين سدرة المنتهى والميم محمد المصطفى ( صلى الله عليه وسلم )
الشعراء : ( 2 - 3 ) تلك آيات الكتاب . . . . .
) تلك آيات ( أي هذه آيات ) الكتاب المبين لعلّك باخع ( قاتلٌ ) نفسك ألاّ يكونوا مؤمنين ( وذلك حين كذّبه أهل مكة فشق ذلك عليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية ، نظيرها في الكهف .
الشعراء : ( 4 ) إن نشأ ننزل . . . . .
) إن نشأ ننزّل عليهم من السماء آية فظلّت أعناقهم لها خاضعين ( ذليلين قال : لو شاء الله سبحانه لأنزل عليهم آية يذلّون بها فلا يلوي أحد منهم عنقه إلى معصية الله عزَّ وجل ، ابن جريج : لو شاء لأراهم أمراً من أمره لا يعمل أحد منهم بمعصية
(7/156)
" صفحة رقم 157 "
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبّان قال : حدّثنا إسحاق بن محمد قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا إبراهيم بن عيسى قال : حدّثنا علي بن علي قال : حدّثني أبو حمزة الثمالي في هذه الآية قال : بلغنا والله أعلم أنّها صوت يسمع من السماء في النصف من شهر رمضان يخرج له العواتق من البيوت .
وبه عن أبي حمزة قال : حدّثني الكلبي عن أبي صالح مولى أم هاني أنّ عبد الله بن عباس حدّثه قال : نزلت هذه الآية فينا وفي بني أُمّية قال : سيكون لنا عليهم الدولة فتذلّ لنا أعناقهم بعد صعوبة ، وهوان بعد عزة . وأمّا قوله سبحانه ) خاضعين ( ولم يقل خاضعة وهي صفة الأعناق ففيه وجوه صحيحة من التأويل : أحدها : فظل أصحاب الأعناق لها خاضعين فحذف الأصحاب وأقام الأعناق مقامهم لأنّ الأعناق إذا خضعت فأربابها خاضعون ، فجعل الفعل أوّلاً للأعناق ثم جعل خاضعين للرجال ، كقول الشاعر :
على قبضة مرجودة ظهر كفّه
فلا المرء مستحي ولا هو طاعم
فأنّث فعل الظهر لأنّ الكفّ تجمع الظهر وتكفى منه كما أنّك مكتف بأن تقول : خضعت للأمر أن تقول : خضعتْ لك رقبتي ، ويقول العرب : كلّ ذي عين ناظر إليك وناظرة إليك لأنّ قولك : نظرتْ إليك عيني ونظرتُ بمعنى واحد ، وهذا شائع في كلام العرب أن يترك الخبر عن الأول ويعمد إلى الآخر فيجعل له الخبر كقول الراجز :
طول الليالي أسرعت في نقضي
طوين طولي وطوين عرضي
فأخبر عن الليالي وترك الطول ، قال جرير :
أرى مرّ السنين أخذن منّي
كما أخذ السرار من الهلال
وقال الفرزدق :
نرى أرماحهم متقلّديها
إذا صدئ الحديد على الكماة
فلم يجعل الخبر للأرماح وردّه إلى هم لكناية القوم وإنما جاز ذلك لأنه لو أسقط من وطول والأرماح من الكلام لم يفسد سقوطها معنى الكلام ، فكذلك رد الفعل إلى الكناية في قوله أعناقهم ؛ لأنه لو أسقط الأعناق لما فسد الكلام ولأدّى ما بقى من الكلام عنها وكان فظلوا خاضعين لها واعتمد الفرّاء وأبو عبيد على هذا القول
(7/157)
" صفحة رقم 158 "
وقال قوم : ذكر الصفة لمجاورتها المذكر وهو قوله هم ، على عادة العرب في تذكير المؤنث إذا أضافوه إلى مذكر ، وتأنيث المذكر إذا أضافوه إلى مؤنّث ، كقول الأعشى :
وتشرق بالقول الذي قد أذعته
كما شرقت صدر القناة من الدم
وقال العجاج : لما رأى متن السماء ابعدت .
وقيل : لما كان الخضوع وهو المتعارف من بني آدم أخرج الأعناق مخرج بني آدم كقوله ) والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ( وقوله سبحانه ) يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ( ومنه قول الشاعر :
تمززتها والديك يدعو صباحه
إذا ما بنو نعش دنوا فتصوّبُوا
وقيل : إنما قال خاضعين فعبّر بالأعناق عن جميع الأبدان ، والعرب تعبّر ببعض الشئ عن كله كقوله ) بما قدمت يداك ( وقوله ) ألزمناه طائره في عنقه ( ونحوهما .
قال مجاهد : أراد بالاعناق ههنا الرؤساء والكبراء ، وقيل : أراد بالأعناق الجماعات والطوائف من الناس ، يقال : جاء القوم عنقاً أي طوائف وعصباً كقول الشاعر :
انَّ العراق وأهله عنق
إِليك فهيت هيتا
وقرأابن أبي عبلة : فظلّت أعناقهم لها خاضعة .
الشعراء : ( 5 ) وما يأتيهم من . . . . .
) وما يأتيهم من ذكر ( أي وعظ وتذكير ) من الرحمن محدث ( في الوحي والتنزيل ) إلاّ كانوا عنه معرضين }
الشعراء : ( 6 ) فقد كذبوا فسيأتيهم . . . . .
) فقد كذّبوا فسيأتيهم أنباء ( أخبار وعواقب وجزاء ) ما كانوا به يستهزؤون ( وهذا وعيد لهم
الشعراء : ( 7 ) أو لم يروا . . . . .
) أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كلّ زوج ( لون وصنف من النبات ممّا يأكل الناس والأنعام ) كريم ( حسن يكرم على الناس ، يقال : نخلة كريمة إذا طاب حملها وناقة كريمة إذا كثر لبنها .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف قال : حدّثنا الحسن بن محمد بن
(7/158)
" صفحة رقم 159 "
بختويه قال : حدّثنا عمرو بن ثور وإبراهيم بن أبي يوسف قالا : حدّثنا محمد بن يوسف الغزالي قال : حدّثنا سفيان عن رجل عن الشعبي في قوله ) أنبتنا فيها من كل زوج كريم ( قال : الناس من نبات الأرض فمن دخل الجنّة فهو كريم ، ومن دخل النار فهو لئيم .
الشعراء : ( 8 ) إن في ذلك . . . . .
) إنَّ في ذلك ( الذي ذكرت ) لآية ( لَدلالة على وجودي وتوحيدي وكمال قدرتي وحكمتي ) وما كان أكثرهم مؤمنين ( لما سبق من علمي فيهم ، قال سيبويه : ) كان ( ههنا صلة ، مجازه : وما أكثرهم مؤمنين
الشعراء : ( 9 ) وإن ربك لهو . . . . .
) وانَّ ربّك لهو العزيز ( بالنقمة من أعدائه ) الرحيم ( ذو الرحمة بأوليائه .
( ) وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتَ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّى أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِى وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِى فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ وَلَهُمْ عَلَىَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِئَايَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاإِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِىإِسْرَاءِيلَ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضَّآلِّينَ فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِى رَبِّى حُكْماً وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إِسْرَاءِيلَ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ الاَْوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِىأُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَاهَاً غَيْرِى لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَىءٍ مُّبِينٍ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ ( 2
الشعراء : ( 10 ) وإذ نادى ربك . . . . .
) وإذ نادى ( واذكر يا محمد إذ نادى ) ربّك موسى ( حين رأى الشجرة والنار ) أن ائت القوم الظالمين ( لأنفسهم بالكفر والمعصية ولبني إسرائيل باستعبادهم وسومهم سوء العذاب .
الشعراء : ( 11 ) قوم فرعون ألا . . . . .
) قوم فرعون ألا يتّقون ( وقرأ عبيد بن عمير بالتاء أي قل لهما : ألا تتّقون ؟
الشعراء : ( 12 - 13 ) قال رب إني . . . . .
) قال ربّ إنّي أخاف أن يكذّبون ويضيق صدري ( من تكذيبهم إيّاي ) ولا ينطلق ( ولا ينبعث ) لساني ( بالكلام والتبليغ للعقدة التي فيه ، قراءة العامة برفع القافين على قوله ) أخاف ( ونصبها يعقوب على معنى وأن يضيق ولا ينطلق ) فأرسل إلى هارون ( ليؤازرني ويظاهرني على تبليغ الرسالة ، وهذا كما تقول : إذا نزلت بي نازلة أرسلت إليك ، أي لتعينني
الشعراء : ( 14 ) ولهم علي ذنب . . . . .
) ولهم عليّ ذنب ( يعني القتل الذي قتله منهم واسمه ماثون ، وكان خباز فرعون ، وقيل : على معنى : عندي ولهم عندي ذنب ) فأخاف أن يقتلون ( به
الشعراء : ( 15 ) قال كلا فاذهبا . . . . .
) قال ( الله سبحانه ) كَلاّ ( أي لن يقتلوك ) فاذهبا بآياتنا إنّا معكم مستمعون (
(7/159)
" صفحة رقم 160 "
سامعون ما يقولون وما تجابون ، وإنّما أراد بذلك تقوية قلبيهما وإخبارهما أنّه يعينهما ويحفظهما
الشعراء : ( 16 ) فأتيا فرعون فقولا . . . . .
) فأتيا فرعون فقولا إنّا رسول ربّ العالمين ( ولم يقل رسولا لأنه أراد المصدر أي رسالة ومجازه : ذو رسالة رب العالمين ، كقول كثيّر :
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم
بسرَ ولا أرسلتهم برسول
أي برسالة . وقال العباس بن مرداس :
إلاّ مَنْ مبلغٌ عنّا خفافاً
رسولا بيت أهلك منتهاها
يعني رسالة فلذلك انتهاء ، قالهُ الفرّاء .
وقال أبو عبيد : يجوز أن يكون الرسول في معنى الواحد والاثنين والجمع ، تقول العرب : هذا رسولي ووكيلي ، وهذان رسولي ووكيلي ، وهؤلاء رسولي ووكيلي ، ومنه قوله ) فإنّهم عدوٌّ لي ( وقيل : معناه كل واحد منا رسول رَبّ العالمين .
الشعراء : ( 17 ) أن أرسل معنا . . . . .
) أن ( أي بأن ) أرسل معنا بني إسرائيل ( إلى فلسطين ولا تستعبدهم وكان فرعون استعبدهم أربعمائة سنة وكانوا في ذلك الوقت ستمائة وثلاثين ألفاً فانطلق موسى إلى مصر ، وهارون بها وأخبره بذلك فانطلقا جميعاً إلى فرعون ، فلم يؤذَنْ لهما سنة في الدخول عليه ، فدخل البوّاب فقال لفرعون : ههنا إنسان يزعم أنّه رسول رب العالمين ، فقال فرعون : ايذن له لعلّنا نضحك منه ، فدخلا عليه وأدّيا إليه رسالة الله سبحانه وتعالى فعرف فرعون موسى لأنّه نشأ في بيته
الشعراء : ( 18 ) قال ألم نربك . . . . .
فقال له ) ألم نربّك فينا وليداً ( صبيّاً ) ولبثت فينا من عمرك سنين ( وهي ثلاثون سنة
الشعراء : ( 19 ) وفعلت فعلتك التي . . . . .
) وفعلت فعلتك التي فعلت ( يعني قتل القبطي .
أخبرنا ابن عبدوس قال : حدّثنا محمد بن يعقوب قال : حدّثنا محمد بن الجهم قال : حدّثنا الفرّاء قال : حدّثني موسى الأنصاري عن السري بن إسماعيل عن الشعبي انه قرأ ) وفعلت فعلتك التي ( بكسر الفاء ولم يقرأ بها غيره .
) وأنت من الكافرين ( الجاحدين لنعمتي وحق تربيتي ، ربيناك فينا وليداً فهذا الذي كافأتنا أن قتلت منّا وكفرت بنعمتنا ، وهذه رواية العوفي عن ابن عباس ، وقال : إنَّ فرعون لم يكن يعلم ما الكفر بالربوبية .
الشعراء : ( 20 ) قال فعلتها إذا . . . . .
فقال موسى ) قال فعلتها إذاً وأنا من الضالّين ( أي الجاهلين قبل أن يأتيني عن الله شيء ، هذا قول أكثر المفسّرين وكذلك هو في حرف ابن مسعود وأنا من الجاهلين .
(7/160)
" صفحة رقم 161 "
وقيل : من الضالّين عن العلم بأن ذلك يؤدي إلى قتله .
وقيل : من الضالّين عن طريق الصواب من غير تعمّد كالقاصد إلى أن يرمي طائراً فيصيب إنساناً .
وقيل : من المخطئين نظيره ) إنك لفي ضلالك القديم ( ) إنَّ أبانا لفي ضلال مبين (
وقيل : من الناسين ، نظيره ) إن تضلّ إحدايهما ( .
الشعراء : ( 21 ) ففررت منكم لما . . . . .
) ففررت منكم لما خفتكم ( إلى مدين ) فوهب لي ربّي حكماً ( فهماً وعلماً ) وجعلني من المرسلين (
الشعراء : ( 22 ) وتلك نعمة تمنها . . . . .
) وتلك نعمة تمنُها عليَّ أن عبدت بني إسرائيل ( .
اختلف العلماء في تأويلها ، ففسّرها بعضهم على إقرار وبعضهم على الإنكار ، فمن قال : هو إقرار قال : عدّها موسى نعمة منه عليه حيث ربّاه ولم يقتله كما قتل غلمان بني إسرائيل ، ولم يستعبده كما استعبد وتركني فلم يستعبدني وهذا قول الفرّاء ، ومن قال هو إنكار قال : معناه وتلك نعمة على طريق الاستفهام كقوله ) هذا ربي ( وقوله ) فهم الخالدون ( وقول الشاعر : هم هم ، وقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة :
لم أنس يوم الرحيل وقفتها
ودمعها في جفونها عرق
وقولها والركب سائرة
تتركنا هكذا وتنطلق
وهذا قول مجاهد ، ثم اختلفوا في وجهها فقال بعضهم : هذا ردّ من موسى على فرعون حين امتنّ عليه بالتربية فقال : لو لم تقتل بني إسرائيل لربّاني أبواي فأىّ نعمة لك عليَّ ؟
وقيل : ذكره إساءته إلى بني إسرائيل فقال : تمنُّ عليَّ أن تربّيني وتنسى جنايتك على بني إسرائيل .
(7/161)
" صفحة رقم 162 "
وقيل : معناه كيف تمنُّ علي بالتربية وقد استعبدت قومي ؟ ومن أُهين قومه ذّل ، فتعبيدك بني إسرائيل قد أحبط إحسانك إليَّ .
وقال الحسن : يقول : أخذت أموال بني إسرائيل وأنفقت منها عليَّ واتّخذتهم عبيداً .
وقوله سبحانه ) أن عبدّت بني إسرائيل ( أي اتّخذتهم عبيداً ، يقال : عبّدته وأعبدته ، وأنشد الفرّاء :
علام يعبّدني قومي وقد كثرتْ
فيهم أباعر ما شاؤوا وعبدان
وله وجهان : أحدهما : النصب بنزع الخافض مجازه : بتعبيدك بني إسرائيل
والثاني : الرفع على البدل من النعمة .
الشعراء : ( 23 ) قال فرعون وما . . . . .
) قال فرعون وما ربُّ العالمين ( وأيّ شيء ربّ العالمين الذي تزعم أنّك رسوله إليَّ ؟
الشعراء : ( 24 ) قال رب السماوات . . . . .
) قال ( موسى ( عليه السلام ) ) ربّ السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ( إنّه خلقها عن الكلبي .
وقال أهل المعاني : إن كنتم موقنين أي ما تعاينونه كما تعاينونه فكذلك فأيقنوا أنّ ربّنا هو ربّ السموات والأرض .
)
الشعراء : ( 25 ) قال لمن حوله . . . . .
قال فرعون ( ) لمن حوله ( من أشراف قومه ، قال ابن عباس : وكانوا خمسمائة رجل عليهم الأسورة محيلا لقوم موسى معجباً لقومه ) ألا تستمعون ( فقال موسى مفهماً لهم وملزماً للحجة عليهم
الشعراء : ( 26 - 27 ) قال ربكم ورب . . . . .
) ربّكم وَرَبُّ آبائكم الأولين قال ( فرعون ) إنَّ رسولكم الذي أُرسل إليكم لمجنون ( يتكلّم بكلام لا يعقله ولا يعرف صحته .
الشعراء : ( 28 - 29 ) قال رب المشرق . . . . .
فقال موسى ) ربُّ المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون ( فقال فرعون حين لزمته الحجّة وانقطع عن الجواب تكبّراً عن الحق وتمادياً في الغي ) لئن اتخذت إلاهاً غيري لأجعلنك من المسجونين ( المحبوسين .
قال الكلبي : وكان سجنه أشدّ من القتل ؛ لأنه كان يأخذ الرجل إذا سجنه فيطرحه في مكان وحدهُ فرداً لا يسمع ولا يبصر فيه شيئاً ، يهوى به في الأرض .
الشعراء : ( 30 ) قال أولو جئتك . . . . .
فقال له موسى حين توعدهُ بالسجن ) أولو جئتك بشيء مبين ( يبيّن صدق قولي ، ومعنى الآية : أتفعل ذلك إنْ أتيتك بحجّة بيّنة ، وإنما قال ذلك موسى لأن من أخلاق الناس السكون إلى الإنصاف والإجابة إلى الحق بعد البيان .
الشعراء : ( 31 - 32 ) قال فأت به . . . . .
فقال له فرعون ) فأت به ( فإنّا لن نسجنك حينئذ ) إن كنت من الصادقين فألقى عصاه فإذا
(7/162)
" صفحة رقم 163 "
هي ثعبان مبين ( بيّن ظاهر أمرهُ ، فقال : وهل غير هذا ؟
الشعراء : ( 33 ) ونزع يده فإذا . . . . .
) ونزع ( موسى ) يده فإذا هي بيضاء للناظرين ( .
) قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِى الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لاََجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْن ُ الْغَالِبُونَ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلاَُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِىإِنَّكُم مّتَّبِعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِى الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَاؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِىإِسْرَاءِيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَآءَا الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِىَ رَبِّى سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الاَْخَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاَْخَرِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 2
الشعراء : ( 34 - 38 ) قال للملإ حوله . . . . .
فقال فرعون ) للملأ من حوله إنّ هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرونَ قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل ساحر عليم فجُمع السحرة لميقات يوم معلوم ( وهو يوم الزينة .
قال ابن عباس : وافق ذلك يوم السبت في أول يوم من السنة وهو يوم النيروز .
وقال ابن زيد : وكان اجتماعهم للميقات بالإسكندرية ، ويقال : بلغ ذَنَب الحيّة من وراء البُحيرة يومئذ .
الشعراء : ( 39 ) وقيل للناس هل . . . . .
) وقيل للناس هل أنتم مجتمعون ( تنظرون إلى ما يفعل الفريقان ولمن تكون الغلبة لموسى أو للسحرة ؟
الشعراء : ( 40 ) لعلنا نتبع السحرة . . . . .
) لعلّنا ( لكي ) نتّبع السحرة إن كانوا هم الغالبين ( موسى ، قيل : إنما قالوا ذلك على طريق الاستهزاء وأرادوا بالسحرة موسى وهارون وقومهما .
الشعراء : ( 41 - 52 ) فلما جاء السحرة . . . . .
) فلمّا جاء السحرة قالوا لفرعون أئنّ لنا لأجراً إن كنّا نحن الغالبين قال نعم وإنّكم إذاً لمن المقرّبين قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون فألقوا حبالهم وعصيّهم وقالوا بعزّة فرعون إنّا لنحن
(7/163)
" صفحة رقم 164 "
الغالبون فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون فأُلقي السحرة ساجدين قالوا آمنّا بربّ العالمين ربّ موسى وهارون قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علّمكم السحر فلسوف تعلمون لأُقطّعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلّبنكم أجمعين قالوا لا ضير ( لا ضرر ) إنّا إلى ربّنا لمنقلبون إنّا نطمع أن يغفر لنا ربّنا خطايانا أن ( لأن ) كنا أوّل المؤمنين ( من أهل زماننا ) وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنّكم متّبعون ( يتبعكم فرعون وقومه .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن لؤلؤ قال : أخبرنا الهيثم بن خلف قال : حدّثنا الدورقي عن حجاج بن جريح في هذه الآية قال : أوحى الله سبحانه إلى موسى أن اجمع بني إسرائيل كل أربعة أهل أبيات في بيت ، ثم اذبحوا أولاد الضّأن فاضربوا بدمائها على أموالكم فإنّي سآمر الملائكة فلا تدخل بيتاً على بابه دم ، وسآمرها فتقتل أبكار آل فرعون من أنفسهم وأموالهم ، ثم اخبزوا خبزاً فطيراً فإنه أسرع لكم ، ثم أسرِ بعبادي حتى تنتهي إلى البحر فيأتيك أمري ففعل ذلك ، فلمّا اصبحوا قال فرعون : هذا عمل موسى وقومه قتلوا أبكارنا من أنفسنا وأموالنا ، فأرسل في أمره ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسوّر مع كل ملك ألف ، وخرج فرعون في الكرسي العظيم .
الشعراء : ( 53 ) فأرسل فرعون في . . . . .
) فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ( يعني الشرط ليجمعوا السحرة وقال لهم :
الشعراء : ( 54 ) إن هؤلاء لشرذمة . . . . .
إن هؤلاء ) لشرذمة ( عصبة ، وشرذمة كل شيء بقيّته القليلة ، ومنه قول الراجز :
جاء الشتاء وقميصي أخلاق
شراذم يضحك منه التواق
قال ابن مسعود : كان هؤلاء الشرذمة ستّمائة وسبعون ألفاً .
وأخبرنا أبو بكر الخرمي قال : أخبرنا أبو حامد الأعمش قال : حدّثنا أبو جعفر محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي قال : حدّثنا يحيى بن آدم قال : حدّثنا إسحاق عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون الأودي في هذه الآية قال : كان أصحاب موسى ستّمائة ألف .
الشعراء : ( 55 ) وإنهم لنا لغائظون
) وإنهم لنا لغائظون ( يعني أعداء ، لمخالفتهم ديننا وقتلهم أبكارنا وذهابهم بأموالنا التي استعاروها ، وخروجهم من أرضنا بغير اذن منّا .
الشعراء : ( 56 ) وإنا لجميع حاذرون
) وإنّا لَجميعٌ حاذرون ( قرأ النخعي والأسود بن يزيد وعبيد بن عمر و سائر قرّاء الكوفة وابن عامر والضحاك حاذرون بالألف وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس واختيار أبي عبيد ، وقرأ الآخرون حذرون بغير ألف وهما لغتان .
وقال قوم : حاذرون : مؤدّون مقرّون ، شاكون في السلاح ، ذوو أرادة قوّة وكراع وحذرون
(7/164)
" صفحة رقم 165 "
فَرِقون متيقظون ، وقال الفرّاء : كأن الحاذر الذي يحذرك ، والحذِر المخلوق حذر ألاّ يلقاه إلاّ حذراً ، والحذر اجتنابُ الشيء خوفاً منه .
وقرأ شميط بن عجلان : حادرون بالدال غير معجمة ، قال الفرّاء : يعني عظاماً من كثرة الأسلحة ، ومنه قيل للعين العظيمة : حدرة وللمتورّم : حادر . قال امرؤ القيس :
وعين لها حدرة بدرة
وسقت مآقيها من أُخر
الشعراء : ( 57 - 58 ) فأخرجناهم من جنات . . . . .
) فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ( قال مجاهد : سمّاها كنوزاً لأنها لم تنفق في طاعة الله سبحانه ) ومقام كريم ( ومجلس حسن
الشعراء : ( 59 ) كذلك وأورثناها بني . . . . .
) كذلك ( كما وصفنا ) وأورثناها ( بهلاكهم ) بني إسرائيل }
الشعراء : ( 60 ) فأتبعوهم مشرقين
) فأتبعوهم مشرقين ( فلحقوهم في وقت إشراق الشمس وهو إضاءتها
الشعراء : ( 61 ) فلما تراءى الجمعان . . . . .
) فلمّا تراءى الجمعان ( أي تقابلا بحيث يرى كل فريق منهما صاحبه ، وكسر يحيى والأعمش وحمزة وخلف الراء تراءى الباقون بالفتح .
) قال أصحاب موسى إنّا لمدركون ( لملحقون ، وقرأ الأعرج وعبيد بن عمير لمدّركون بتشديد الدال والاختيار قراءة العامة كقوله ) حتى إذا أدركه الغرق ( .
الشعراء : ( 62 ) قال كلا إن . . . . .
) قال ( موسى ثقة بوعد اللّه ) كلاّ ( لا يدركونكم ) إنّ معي ربّي سيهدين ( طريق النجاة
الشعراء : ( 63 ) فأوحينا إلى موسى . . . . .
) فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر ( .
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الضنجوي قال : أخبرنا محمد بن الحسين بن علي اليقطيني قال : أخبرنا أحمد بن عبد الله العقيلي قال : حدّثنا صفوان بن صالح قال : حدّثنا الوليد قال : حدّثني محمد بن حمزة وعبد الله بن سلام أنّ موسى لمّا انتهى إلى البحر قال : يا مَن قبل كلّ شيء ، والمكوّن لكلّ شيء ، والكائن بعد كلّ شيء ، اجعل لنا مخرجاً ، فأوحى الله سبحانه أن اضرب بعصاك البحر ) فانفلق ( فانشقّ ) فكان كلّ فرق ( فرقة أي قطعة من الماء ) كالطود العظيم ( كالجبل الضخم .
قال ابن جريج وغيره : لما انتهى موسى إلى البحر هاجت الريح ، والبحر يرمي موجاً مثل الجبال فقال له يوشع : يا مكلّم الله أين أُمرت فقد غشينا فرعون ، والبحر أمامنا ؟ قال موسى : ههنا فخاض يوشع الماء وحار البحر يتوارى حتى أقرّ دابته الماء ، وقال الذي يكتم إيمانه : يا مكلّم الله أين أُمرت ؟ قال : ههنا فكبح فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقته ، ثم أقحمه البحر فارتسب الماء ، وذهب القوم يصنعون مثل ذلك فلم يقدرو ، فجعل موسى لا يدري كيف يصنع
(7/165)
" صفحة رقم 166 "
فأوحى الله سبحانه أن اضرب بعصاك البحر فضربه بعصاه فانفلق ، فإذا الرجل واقف على فرسه لم يبتل لبده ولا سرجه .
الشعراء : ( 64 ) وأزلفنا ثم الآخرين
) وأزلفنا ثَمّ الآخرين ( يعني قوم فرعون يقول قرّبناهم إلى الهلاك وقدّمناهم إلى البحر .
الشعراء : ( 65 - 66 ) وأنجينا موسى ومن . . . . .
) وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين ( فرعون وقومه
الشعراء : ( 67 - 68 ) إن في ذلك . . . . .
) إنّ في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين ( .
قال مقاتل : لم يؤمن من أهل مصر غير آسية امرأة فرعون وخربيل المؤمن ومريم بنت موساء التي دلّت على عظام يوسف .
) وإنَّ ربّك لهو العزيز الرحيم ( .
2 ( ) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لاَِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَءَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمُ الاَْقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِىإِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِىأَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ رَبِّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَل لِّى لِسَانَ صِدْقٍ فِى الاَْخِرِينَ وَاجْعَلْنِى مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لاَِبِىإِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ وَلاَ تُخْزِنِى يَوْمَ يُبْعَثُونَ ( 2
الشعراء : ( 69 - 71 ) واتل عليهم نبأ . . . . .
) واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناماً فنظلّ لها عاكفين ( .
قال بعض العلماء : إنّما قالوا : فنظل لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل .
الشعراء : ( 72 - 74 ) قال هل يسمعونكم . . . . .
) قال هل يسمعونكم ( قراءة العامة بفتح الياء أي : هل يَسمعون دعاءكم ، وقرأ قتادة يُسمعونكم بضم الياء ) إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرّون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون ( .
وفي هذه الآية بيان أنَّ الدين إنما يثبت بالحجة وبطلان التقليد فيه .
الشعراء : ( 75 - 77 ) قال أفرأيتم ما . . . . .
) قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون ( الأولون ) فإنّهم عدوّ لي ( وأنا منهم بريء ، وإنما وحّد العدو لأن معنى الكلام : فإنّ كل معبود لكم عدوّ لي لو عبدتهم يوم القيامة ، كما قال الله سبحانه وتعالى ) كلاّ سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدّاً ( .
(7/166)
" صفحة رقم 167 "
وقال الفرّاء : هو من المقلوب أراد فإنّي عدو لهم لأنّ مَن عاديَته عاداك .
ثم قال ) إلاّ رب العالمين ( نصب بالاستثناء يعني فإنهم عدو لي وغير معبود لي إلاّ ربّ العالمين فإنّي أعبده ، قاله الفرّاء ، وقيل : هو بمعنى لكن ، وقال الحسن بن الفضل : يعني الأمر عند رب العالمين .
الشعراء : ( 78 ) الذي خلقني فهو . . . . .
ثم وصفه فقال ) الذي خلقني فهو يهدين ( أخبر أن الهادي على الحقيقة هو الخالق لا هادي غيره .
قال أهل اللسان : الذي خلقني في الدنيا على فطرته فهو يهديني في الآخرة إلى جنته .
الشعراء : ( 79 ) والذي هو يطعمني . . . . .
) والذي هو يطعمني ويسقين ( يعني يرزقني ويربيني .
وقال أبو العباس بن عطاء : يعني يطعمني أيّ طعام شاء ، ويسقيني أيّ شراب شاء .
قال محمد بن كثير العبدي : صحبت سفيان الثوري بمكة دهراً فكان يستف من السبت إلى السبت كفّاً من رمل .
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبا الحسن محمد بن علي بن الشاه يقول : سمعت أبا عبد الله محمد بن علي بن حمدان يقول : سمعت الحجاج بن عبد الكريم يقول : خرجت من بلخ في طلب إبراهيم بن أدهم فرأيته بحمص في أتون يسجّرها فسلّمت عليه وسألته عن حاله ، فردّ عليَّ السلام وسألني عن حالي وحال أقربائه ، فكنت معه يومه ذلك فقال : لعلّ نفسك تنازعك إلى شيء من طعام ؟ فقلت : نعم فأخذ رماداً وتراباً فخلطهما وأكلهما ثمَّ أقبل بوجهه عليَّ وانشأ يقول :
اخلط الترب بالرماد وكُلْه
وازجر النفس عن مقام السؤالِ
فإذا شئت ان تقبّع بالذلّ
فرم ما حوته أيدي الرجال
فخرجت من عنده فمكثت أياماً لم أدخل عليه فاشتدّ شوقي إليه ، فدخلت عليه وكنت عنده فلم يتكلّم بشيء فقلت له : لِمَ لا تكلّم ؟ فقال :
مُنع الخطاب لأنه سبب االردى
والنطق فيه معادن الآفاتِ
فإذا نطقتَ فكن لربّك ذاكراً
وإذا سكتَّ فعدّ جسمك مات
قال أبو بكر الوراق : يطعمني بلا طعام ويسقيني بلا شراب ، ومجازها : يشبعني ويرويني من غير علاقة ، كقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّى أبيت يطعمني ربّي ويسقيني ) . يدلّ عليه حديث السقاء في عهد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حيث سمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثلاثة أيام يقرأ ) وما مِن دابة في الأرض إلاّ على
(7/167)
" صفحة رقم 168 "
الله رزقها ( فرمى بقربته ، فأتاه آت في منامه بقدح من شراب الجنّة فسقاه .
قال أنس : فعاش بعد ذلك نيّفاً وعشرين سنة لم يأكل ولم يشرب على شهوته .
وقال علي بن قادم : كان عبد الرَّحْمن بن أبي نعم لا يأكل في الشهر إلاّ مرَّة ، فبلغ ذلك الحجاج فدعاه وأدخله بيتاً وأغلق عليه بابه ثم فتحه بعد خمسة عشر يوماً ولم يشكّ أنّه مات فوجده قائماً يصلّي فقال : يا فاسق تُصلّي بغير وضوء فقال : إنّما يحتاج إلى الوضوء مَن يأكل ويشرب ، وأنا على الطهارة التي أدخلتني عليها هذا البيت .
وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد النيسابوري يقول : سمعت أبا نصر منصور بن عبد الله الاصبهاني يقول : سمعت أبا سعيد الخزاز بمكة يقول : كنت بطرسوس جائعاً ، فاشتدَّ بي الجوع فجلست على شاطئ النهر ووضعت رجلي في الماء فنوديت : أضجرت من جوعك ؟ هاك شبع الأبد .
قال : فعاش بعده سنين لم يشته طعاماً ولا شراباً ، وكان مع ذاك إذا أراد الاكل والشرب أمكنه .
وبلغني أنّ امرأة اسرت من حلب إلى الروم في أيام سيف الدولة علي بن حمدان ، فهربت منهم ومشت مائتي فرسخ لم تطعم شيئاً ، فقدمت إلى سيف الدولة فقال لها : كيف قويت على المشي وكيف عشت بلا طعام ؟
فقالت : كنتُ كلّما جعت أو أعييت أقرأ ) قل هو الله أحد ( ثلاث مرّات فأشبع وأروى وأقوى .
وسمعت أبا القاسم ؟ يقول : سمعت أبا القاسم النصرآبادي يقول : سمعت أبا بكر الشبلي يقول : في الخبز لطيفة تشبعك لا الخبز ، ولو شاء لأبقى فيك تلك اللطيفة حتى لا تحتاج إلى الخبز .
وقال ذو النون المصري : يطعمني طعام المحبّة ويسقيني شراب المحبّة . ثم أنشأ يقول :
شراب المحبّة خير الشراب
وكلّ شراب سواه سراب
وسمعت ابن حبيب يقول : سمعت أبا عبد الله محمد بن عبيد الله الجرجاني يقول : سمعت الحسن بن علوية الدامغاني يقول : سمعت عمّي يقول : سمعت أبا يزيد البسطامي يقول : إنَّ لله شراباً يقال له شراب المحبّة ادّخرهُ لأفاضل عباده ، فإذا شربوا سكروا ، فإذا سكروا
(7/168)
" صفحة رقم 169 "
طاشوا ، فإذا طاشوا طاروا ، فإذا طاروا وصلوا ، فإذا وصلوا اتصلوا ، فهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
وقال الجنيد : يُحشر الناس كلّهم عراة إلاّ من لبس لباس التقوى ، وغراثاً إلاّ من أكل طعام المعرفة ، وعطاشى إلاّ من شرب شراب المحبّة .
الشعراء : ( 80 ) وإذا مرضت فهو . . . . .
) وإذا مرضت ( أضاف إبراهيم ( عليه السلام ) المرض إلى نفسه وإن كان من الله سبحانه ؛ لأنّ قومه كانوا يعدّونه عيباً فاستعمل حسن الأدب ، نظيرها قصة الخضر حيث قال ) فأردت أن أعيبها ( وقال ) فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ( ) فهو يشفين ( يبرئني
يحكى أنّ أبا بكر الورّاق مرّ بطبيب يعطي الناس الأدوية فوقف عليه وقال : أيفعل دواؤك هذا أمرين ؟
قال : وما هما ؟
فقال : ردّ قضاء قاض وجرّ شفاء شاف ؟
فقال : لا
قال : فليس ( ذلك بشيء ) .
وقال جعفر الصادق : إذا مرضت بالذنوب شفاني بالتوبة .
سامر بن عبد الله : إذا أمرضتني مقاساة الخلق شفاني بذكره والأُنس به .
الشعراء : ( 81 ) والذي يميتني ثم . . . . .
) والذي يميتني ثم يحيين ( أدخل ههنا ) ثُمَّ ( للقطع والتراخي .
قال أهل اللسان والاشارة : يميتني بالعدل ويحييني بالفضل ، يميتني بالمعصية ويحييني بالطاعة ، يميتني بالفراق ويحييني بالتلاقي ، يميتني بالخذلان ويحييني بالتوفيق ، يميتني غنىً ويحييني به ، يميتني بالجهل ويحييني بالعلم .
الشعراء : ( 82 ) والذي أطمع أن . . . . .
) والذي أطمع ( أرجو ) أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ( قراءة العامّة بالتوحيد .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حنش قال : حدّثنا أبا القاسم بن الفضل قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا أحمد بن يزيد قال : حدّثنا روح عن أبي اليقظان قال : حدّثنا الحكم السلمي
(7/169)
" صفحة رقم 170 "
قال : سمعت الحسن يقرأ ( والذي أطمع أن يغفر لي خطاياي يوم الدين ) .
قال : إنّها لم تكن خطيئة ولكن كانت خطايا .
قال مجاهد ومقاتل : هي قوله ) إني سقيم ( وقوله ) بل فعله كبيرهم ( وقوله لسارة ( هي أُختي ) زاد الحسن ، وقوله للكواكب ) هذا ربّي ( .
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال : حدّثنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان قال : حدّثنا عبيد الله بن ثابت الحريري قال : حدّثنا أبو سعيد الأشج قال : حدّثنا أبو خالد عن داود عن الشعبي عن عائشة خ قالت : يا رسول الله إنّ عبد الله بن جدعان كان يقري الضيف ويصل الرحم ويفكّ العاني ، فهل ينفعه ذلك ؟
قال : لا ، لأنّه لم يقل يوماً قطّ : اغفر لي خطيئتي يوم الدين .
وهذا الكلام من إبراهيم ( عليه السلام ) احتجاج على قومه وإخبار أنّه لا يصلح للإلهية إلاّ من فعل هذه الأفعال .
الشعراء : ( 83 ) رب هب لي . . . . .
) ربّ هب لي حكماً ( وهو البيان على الشيء على ما توجبه الحكمة ، وقال مقاتل : فهماً وعلماً ، والكلبي : النبوّة .
) وألحقْني بالصالحين ( بمن قبلي من النبيين في الدرجة والمنزلة . وقال ابن عباس : بأهل الجنة .
الشعراء : ( 84 ) واجعل لي لسان . . . . .
) واجعل لي لسانَ صدق في الآخرين ( أي ذكراً جميلاً وثناءً حسناً وقبولاً عاماً في الأُمم التي تجيء بعدي ، فأعطاه الله سبحانه وتعالى ذلك ، فكلّ أهل الأديان يتولّونه ويبنون عليه .
قال القتيبي : ووضع اللسان موضع القول على الاستعارة ؛ لأن القول يكنى بها ، والعرب تسمّي اللغة لساناً . وقال أعشى باهله :
إنّي أتتني لسان لا أُسرُّ بها
من علو لا عجب منها ولا سخر
الشعراء : ( 85 - 87 ) واجعلني من ورثة . . . . .
) واجعلني من ورثة جنّة النعيم واغفر لأبي انّه كان من الضالين ( وقد بيّنا المعنى الذي من أجله استغفر إبراهيم ( عليه السلام ) لأبيه في سورة التوبة بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع
(7/170)
" صفحة رقم 171 "
) ولا تخزني يوم يبعثون (
) يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 2
الشعراء : ( 88 - 89 ) يوم لا ينفع . . . . .
) يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ مَن أتى الله بقلب سليم ( خالص من الشرك والشك ، فأمّا الذنوب فليس يسلم منها أحد هذا قول أكثر المفسّرين .
وقال سعيد بن المسيّب : القلب السليم هو الصحيح ، وهو قلب المؤمن لأنّ قلب الكافر والمنافق مريض ، قال الله سبحانه ) في قلوبهم مرض ( .
وقال أبو عثمان النيسابوري : هو القلب الخالي من البدعة ، المطمئن على السنّة .
وقال الحسين بن الفضل : سليم من آفة المال والبنين .
وقال الجنيد : السليم في اللغة اللديغ فمعناه : كاللّديغ من خوف الله .
الشعراء : ( 90 - 94 ) وأزلفت الجنة للمتقين
) وأُزلِفَت ( وقُرّبت ) الجنّة للمتقين وبرّزت ( وأُظهرت ) الجحيمُ للغاوين ( للكافرين ) وقيل لهم ( يوم القيامة ) أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أوينتصرون ( لأنفسهم ) فكبكبوا فيها ( .
قال ابن عباس : جمعوا ، مجاهد : ذهبوا ، مقاتل : قذفوا ، وأصله كببوا فكررت الكاف فيه مثل قولك : تهنهني وريح صرصر ونحوهما .
) هم والغاووُنَ ( يعني الشياطين ، عن قتادة ومقاتل ، الكلبي : كَفَرة الجن .
الشعراء : ( 95 - 99 ) وجنود إبليس أجمعون
) وجنودُ إبليسَ أجمعون ( وهم أتباعه ومن أطاعهُ من الجن والإنس قالوا للشياطين والمعبودين ) تالله إن كنّا لفي ضلال مُبين إذ نُسوّيكم ( نعدلكم ) بربّ العالمين ( فنعبدكم من دونه ) وما أضلّنا ( أي دعانا إلى الضلال وأمرنا به ) إلاّ المجرمون ( يعني الشياطين ، عن مقاتل ، والكلبي : أوّلونا الذين اقتدينا بهم ، أبو العاليه وعكرمة : يعني إبليس وابن آدم القاتل ؛ لأنه أوّل مَن سنَّ القتال وأنواع المعاصي
(7/171)
" صفحة رقم 172 "
الشعراء : ( 100 - 101 ) فما لنا من . . . . .
) فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ( قريب ينفعنا ويشفع لنا ، وذلك حين يشفع الملائكة والنبيّون والمؤمنون .
أخبرني الحسين بن محمد الفنجوي قال : حدّثنا محمد بن الحسين بن علي اليقطيني قال : أخبرنا أحمد بن عبد الله بن يزيد العقيلي قال : حدّثنا صفوان بن صالح قال : حدّثنا الوليد بن مسلم قال : حدّثنا من سمع أبا الزبير يقول : أشهد لسمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إنَّ الرجل ليقول في الجنة : ربّ ما فعل صديقي فلان وصديقه في الحميم ؟ فيقول الله سبحانه : أخرجوا له صديقه إلى الجنة فيقول مَنْ بقي ) فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ( .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبة قال : حدّثنا سمعان بن أبي مسعود قال : حدّثنا المضّاء بن الجارود قال : حدّثنا صالح المرّي عن الحسن قال : ما اجتمع ملأ على ذكر الله تعالى فيهم عبد من أهل الجنة إلاّ شفّعه الله فيهم وإنّ أهل الإيمان شفعاء بعضهم في بعض ، وهم عند الله شافعون مشفّعون .
الشعراء : ( 102 - 104 ) فلو أن لنا . . . . .
) فلو أنّ لنا كرّةً ( رجعة إلى الدنيا تمنّوا حين لم ينفعهم ) فنكون من المؤمنين إنَّ في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإنَّ ربّك لهو العزيز الرحيم ( .
2 ( ) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاَْرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِى بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّى لَوْ تَشْعُرُونَ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُرْجُومِينَ قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِى كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِى وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِى وَمَن مَّعِى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 2
الشعراء : ( 105 ) كذبت قوم نوح . . . . .
) كذّبت قوم نوح ( ادخلت ألتاء للجماعة كقوله ) قالت الأعراب ( .
) المُرسَلين ( يعني نوحاً وحده كقوله ) يا أيّها الرسل ( .
وأخبرني أبو عبد الله الدينوري قال : حدّثنا أبو علىّ المقري قال : حدّثنا أبو عبيد علي بن الحسين بن حرب قال : حدّثنا الحسن بن محمد الصباح قال : حدّثنا عبد الوهاب عن إسماعيل
(7/172)
" صفحة رقم 173 "
عن الحسين قال : قيل له : يا أبا سعيد أرأيت قوله عزَّ وجل ) كذّبت قوم نوح المرسلين ( و ) كذّبت عاد المرسلين ( و ) كذّبت ثمود المرسلين ( وانّما أرسل إليهم رسولاً واحداً ؟
قال : انّ الآخر جاء بما جاء به الأوّل ، فإذا كذّبوا واحداً فقد كذّبوهم أجمعين .
الشعراء : ( 106 - 107 ) إذ قال لهم . . . . .
) إذ قال لهم أخوهم ( في النسبة لا في الدين ) نُوحٌ ألا تتّقون إنّي لكم رسول أمين ( على الوحي
الشعراء : ( 108 - 111 ) فاتقوا الله وأطيعون
) فاتّقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين فاتّقوا الله وأطيعون قالوا أنؤمن لك واتّبعك ( قراءة العامة ، وقرأ يعقوب : وأتباعك ) الأرذلون ( يعني السفلة عن مقاتل وقتادة والكلبي . ابن عباس : الحاكة .
وأخبرني الحسين بن محمد الفنجوي قال : حدّثنا محمد بن الحسين الكعبي قال : حدّثنا حسين بن مزاحم عن ابن عباس في قول الله سبحانه ) واتّبعك الارذلون ( قال : الحاكة ، عكرمة : الحاكة والأسالفة .
)
الشعراء : ( 112 ) قال وما علمي . . . . .
قال نوح ( ) وما علمي بما كانوا يعملون ( إنما لي منهم ظاهر أمرهم ، وعليَّ أن أدعوهم وليس علىّ من خساسة أحوالهم ودناءة مكاسبهم شيء ، ولم أُكلّف ذلك إنّما كُلّفت أن أدعوهم .
الشعراء : ( 113 ) إن حسابهم إلا . . . . .
) إنْ حسابهم إلاّ على ربّي لو تشعرون ( وقيل : معناه أي لم أعلم أنّ اللّه يهديهم ويضلكم ، ويوفّقهم ويخذلكم .
الشعراء : ( 114 - 116 ) وما أنا بطارد . . . . .
) وما أنا بطارد المؤمنين إن أنا إلاّ نذير مبين قالوا لئن لم تنته يا نوح ( عمّا تقول وتدعو إليه ) لتكوننّ من المرجومين ( يعني المشؤومين عن الضحّاك ، قتادة : المضروبين بالحجارة .
قال ابن عباس ومقاتل : من المقتولين .
الثمالي : كلّ شيء في القرآن من ذكر المرجومين فإنّه يعني بذلك القتل إلاّ التي في سورة مريم ) لئن لم تنته لأرجُمنّك ( فإنّه يعني لاشتمنّك .
الشعراء : ( 117 - 119 ) قال رب إن . . . . .
) قال ربّ إنّ قومي كذّبون فافتح ( فاحكم ) بيني وبينهم فتحاً ونجّني ومن معي من المؤمنين فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون ( يعني الموقّر المجهّز عن ابن عباس . مجاهد : المملوء ، المفروغ منه ، عطاء : المُثقل ، قتادة : المُحمل .
(7/173)
" صفحة رقم 174 "
2 ( ) كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَاتَّقُواْ الَّذِىأَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ إِنِّىأَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَاذَا إِلاَّ خُلُقُ الاَْوَّلِينَ وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 2
الشعراء : ( 120 - 125 ) ثم أغرقنا بعد . . . . .
) ثمَّ أغرقنا بعد الباقين إنَّ في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإنّ ربّك لهو العزيز الرحيم كذّبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هُود ألا تتّقون إنّي لكم رسول أمين ( على الرسالة ، وقال الكلبي : أمين فيكم قبل الرسالة فكيف تتّهموني اليوم ؟
الشعراء : ( 126 - 128 ) فاتقوا الله وأطيعون
) فاتّقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين أتبنون بكل ريع ( .
قال الوالبي عن ابن عباس : بكل شرف .
قتادة والضحّاك ومقاتل والكلبي : طريق ، هي رواية العوفي عن ابن عباس .
ابن جريج عن مجاهد : هو الفجّ بين الجبلين .
ابن أبي نجيح عنه : هو الثقبة الصغيرة وعنه أيضاً عكرمة : واد .
مقاتل بن سليمان : كانوا يسافرون ولا يهتدون إلاّ بالنجوم فبنوا على الطرق أميالاً طوالاً عبثاً ليهتدوا بها ، يدلّ عليه قوله ) آية ( أي علامة .
وروي عن مجاهد أيضاً قال : الريع بنيان الحمام ، دليلهُ وقوله ) تعبثون ( أي تلعبون ، أبو عبيد : هو المكان المرتفع ، وأنشد لذي الرمّة :
طراق الخوافي مشرف فوق ريعه
ندى ليلة في ريشه يترقرق
وفيه لغتان رِيع ورَيع بكسر الراء وفتحها وجمعهُ أرياع وريعه .
الشعراء : ( 129 ) وتتخذون مصانع لعلكم . . . . .
) وتتخذون مصانع ( .
قال ابن عباس ومجاهد : قصور مشيّدة معمر عنه : الحصون .
ابن أبي نجيح عنه : بروج الحمام ، قتادة : مآخذ للماء ، الكلبي : منازل ، عبد الرزاق : المصانع عندنا بلغة اليمن : القصور العاديّة واحدتها مصنع
(7/174)
" صفحة رقم 175 "
) لعلّكم تخلدونَ ( قال ابن عباس وقتادة : يعني كأنكّم تبقون فيها خالدين ، ابن زيد : لعلّ استفهام ، يعني فهل تخلدون حين تبنون هذه الأشياء ؟ الفرّاء : كيما تخلدون .
الشعراء : ( 130 ) وإذا بطشتم بطشتم . . . . .
) وإذا بطشتم ( أي سطوتم وأخذتم ) بطشتُم جبّارين ( قتّالين من غير حقّ .
قال مجاهد : قتلاً بالسيف وضرباً بالسوط ، والجبّار : الذي يقتل ويضرب على الغضب .
الشعراء : ( 131 - 136 ) فاتقوا الله وأطيعون
) فاتّقوا الله وأطيعون واتقوا الذي أمدّكم بما تعلمونَ ( .
ثمَّ ذكر ما أعطاهم فقال ) أمدّكم بأنعام وبنين وجنّات وعيون إنّي أخاف عليكم عذاب يوم عظيم قالوا سواءٌ علينا أوعظت ( .
روى العباس عن ابن عمير ، وواقد عن الكسائي بإدغام الطاء في التاء ، الباقون : بالإظهار وهو الاختيار .
) أم لم تكن من الواعظين (
الشعراء : ( 137 ) إن هذا إلا . . . . .
) إنْ هذا إلاّ خلق الأَولين (
قرأ أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وأيّوب وأبي عبيد وأبي حاتم بفتح الخاء ، لقوله ) وتخلقون إفكاً ( وقوله ) إنّ هذا إلاّ اختلاق ( ومعناه : إن هذا إلاّ دأب الأوّلين وأساطيرهم وأحاديثهم ، وقرأ الباقون : بضم الخاء واللام أي عبادة الأوّلين من قبلنا ، يعيشون ماعاشوا ثمّ يموتون ولا بعث ولا حساب ، وهذا تأويل قتادة .
الشعراء : ( 138 - 140 ) وما نحن بمعذبين
) وما نحن بمعذّبين فكذّبوه فأهلكناهم إنّ في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإنّ ربّك لهو العزيز الرحيم ( .
) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِى مَا هَاهُنَآ ءَامِنِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلاَ تُطِيعُواْ أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِى الاَْرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِئَايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَاذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (
(7/175)
" صفحة رقم 176 "
الشعراء : ( 141 - 148 ) كذبت ثمود المرسلين
) كذّبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتّقون إنّي لكم رسول أمين فاتّقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين أتُتركون في ما ههنا ( أي في الدنيا ) آمنين في جنّات وعيون وزروع ونخل طلعها ( ثمرها ) هضيم ( .
قال ابن عباس : لطيف مادام في كفراه ، ومنه قيل : هضيم الكشح إذا كان لطيفاً ، وهضمَ الطعام إذا لطف واستحال إلى شكله ، عطيّة عنه : يانع نضيج ، قتادة وعكرمة : الرطب الليّن ، الحسن : رخو .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شبنة قال : حدّثنا ابن ماهان قال : حدّثنا الطنافسي قال : حدّثنا وكيع عن سلام عن أبي إسحاق عن أبي العلاء ، طلعها هضيم قال : مذنّب ، مجاهد : متهشم متفتت وذلك حين يطلع يفيض عليه فيهضمه ، وهو مادام رطباً فهو هضيم فإذا يبس فهو هشيم ، أبو العالية : يهشهش في الفم . الضحاك ومقاتل : متراكم ركب بعضه بعضاً حتى هضم بعضه بعضاً ، وأصله من الكسر .
الشعراء : ( 149 ) وتنحتون من الجبال . . . . .
) وتنحتون من الجبال بيوتاً فارهين ( قرأ أهل الشام والكوفة فارهين بالألف ، وهي قراءة أصحاب عبد الله واختيار أبي عبيد أي حاذقين بتخيّرها .
وقال عطيّة وعبد الله بن شداد : متخيرين لمواضع نحتها ، وقرأ الباقون : فرهين بغير ألف وهو اختيار أبي حاتم . واختلفوا في معناه فقال ابن عباس : أشرين ، الضحّاك : كيّسين ، قتادة : معجبين بصنعكم ، مجاهد : شرهين ، عكرمة : ناعمين ، السدّي : متحيرين ، ابن زيد : أقوياء ، الكسائي : بطرين ، أبو عبيدة : فرحين ، الأخفش : فرحين ، والعرب تعاقب بين الحاء والهاء مثل : مدحته ومدهته ، ويجوز أن يكون فرهين وفارهين بمعنى واحد مثل قوله ) عظاماً نخرة ( وناخرة ، ونحوها .
الشعراء : ( 150 - 151 ) فاتقوا الله وأطيعون
) فاتقوا الله واطيعون ولاتطيعوا أمر المسرفين ( المشركين
الشعراء : ( 152 - 153 ) الذين يفسدون في . . . . .
) الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون قالوا انّما أنت من المسحّرين ( أي المسحورين المخدوعين عن مجاهد وقتادة .
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : من المعلّلين بالطعام والشراب ، وأنشد الكلبي قول لبيد :
فإنْ تسألينا فيم نحن فإننّا
عصافير من هذا الأنام المسحّر
وقال آخر :
ويسحر بالطعام وبالشراب
(7/176)
" صفحة رقم 177 "
أي يعلّل ويخدع ، وهو على هذين القولين من السِّحر بكسر السين .
وقال بعضهم : من السَّحر بفتح السين أي أصحاب الرؤية ، يدلّ عليه قوله
الشعراء : ( 154 ) ما أنت إلا . . . . .
) ما أنت إلاّ بشر مثلنا فأت بآية ( على صحة ما يقول ) إن كنت من الصادقين (
الشعراء : ( 155 ) قال هذه ناقة . . . . .
) قال هذه ناقة لها شرب ( حظ ونصيب من الماء ) ولكم شرب يوم معلوم (
الشعراء : ( 156 ) ولا تمسوها بسوء . . . . .
) ولا تمسوها بسوء ( بعقر ) فيأخذكم عذاب يوم عظيم (
الشعراء : ( 157 ) فعقروها فأصبحوا نادمين
) فعقروها فأصبحوا نادمين ( على عقرها حين رأوا العذاب .
الشعراء : ( 158 - 159 ) فأخذهم العذاب إن . . . . .
) فأخذهم العذاب إنَّ في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإنَّ ربّك لهو العزيز الرحيم (.
) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ قَالَ إِنِّى لِعَمَلِكُمْ مِّنَ الْقَالِينَ رَبِّ نَّجِنِى وَأَهْلِى مِمَّا يَعْمَلُونَ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً فِى الْغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الاَْخَرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ( 2
الشعراء : ( 160 - 166 ) كذبت قوم لوط . . . . .
) كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتّقون إنّي لكم رسول أمين فاتّقوا اللّه وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربّكم من أزواجكم بل أنتم قوم عادون ( مجاوزون الحلال إلى الحرام .
الشعراء : ( 167 ) قالوا لئن لم . . . . .
) قالوا لئن لم تنته يالوط لتكونن من المخرجين ( من بلدنا
الشعراء : ( 168 ) قال إني لعملكم . . . . .
) قال إنّي لعملكم ( يعني اللواط
) من القالين ( المبغضين .
الشعراء : ( 169 - 170 ) رب نجني وأهلي . . . . .
ثمَّ دعا فقال ) رَبِّ نجّني وأهلي ممّا يعملون فنجّيناه وأهله أجمعين ( عند نزول العذاب
الشعراء : ( 171 ) إلا عجوزا في . . . . .
) إلاّ عجوزاً في الغابرين ( وهي امرأة لوط بقيت في العذاب والهلاك .
الشعراء : ( 172 - 173 ) ثم دمرنا الآخرين
) ثمَّ دمّرنا الآخرين وأمطرنا عليهم مطراً فساء مَطَرُ المنذرين ( فقال : سمعت وهب بن منبه يقول : الكبريت والنار .
الشعراء : ( 174 - 175 ) إن في ذلك . . . . .
) انَّ في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإنَّ ربّك لهو العزيز الرحيم ( .
(7/177)
" صفحة رقم 178 "
2 ( ) كَذَّبَ أَصْحَابُ لْئَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاَْرْضِ مُفْسِدِينَ وَاتَّقُواْ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الاَْوَّلِينَ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّىأَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ( 2
الشعراء : ( 176 ) كذب أصحاب الأيكة . . . . .
) كذبت أصحابُ الأيكة ( الغيضة وهم قوم شعيب والليكة والأيكة لغتان قرئتا جميعاً ) المرسلين ( .
قال أبو زيد : بعث الله سبحانه شعيباً إلى قومه وأهل مدين وإلى أهل البادية وهم أصحاب الأيكة .
الشعراء : ( 177 ) إذ قال لهم . . . . .
) إذ قال لهم شعيب ألا تتّقون ( ولم يقل أخوهم شعيب لأنّه لم يكن من أصحاب الأيكة في النسب ، فلمّا ذكر مدين قال : ) أخاهم شعيباً ( لأنه كان منهم .
الشعراء : ( 178 - 180 ) إني لكم رسول . . . . .
) إنّي لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين ( وإنّما دعوة هؤلاء الأنبياء كلّهم فيما حكى الله سبحانه عنهم على صيغة واحدة للإخبار بأنّ الحقّ الذي يدعون إليه واحد ، وأنّهم متّفقون على الأمر بالتقوى والطاعة والإخلاص في العبادة والامتناع من أخذ الأجر على الدعوة وتبليغ الرسالة .
الشعراء : ( 181 ) أوفوا الكيل ولا . . . . .
) أُوفُوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين ( الناقصين للكيل والوزن .
الشعراء : ( 182 - 184 ) وزنوا بالقسطاس المستقيم
) وزنوا بالقسطاس المستقيم ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين واتّقوا الذي خلقكم والجبلّة ( الخليقة ) الأوّلين ( . والجبلّ : الخلق ، قال الشاعر :
والموت أعظم حادث
مما يمرّ على الجبلّة
الشعراء : ( 185 - 188 ) قالوا إنما أنت . . . . .
) قالوا إنّما أنت من المسحّرين وما أنت إلاّ بشر مثلنا وإن نظنّك لمن الكاذبين فأسقط علينا كسفاً من السماء إن كنت من الصادقين قال ربّي أعلم بما تعملون ( وهو مُجازيكم به وما عليَّ إلاّالدعوة .
الشعراء : ( 189 - 191 ) فكذبوه فأخذهم عذاب . . . . .
) فكذّبوه فأخذهم عذاب يوم الظلّة ( وذلك أنّ الله سبحانه حبس عنهم الريح سبعة أيّام
(7/178)
" صفحة رقم 179 "
وسلّط عليهم الحرّ حتى أخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظلّ ولا ماء ، وكانوا يدخلون الأسراب ليتبرّدوا فيها فإذا دخلوها وجدوها أشدّ حراً من الظاهر ، فخرجوا هراباً إلى البرية فأظلّتهم سحابة وهي الظلّة ، فوجدوا لها برداً ونسيماً فنادى بعضهم بعضاً حتى إذا اجتمعوا تحتها أمطرت عليهم ناراً فاحترقوا .
قال قتادة : بعث الله سبحانه شعيباً إلى أُمّتين : أصحاب الأيكة وأهل مدين ، فأمّا أصحاب الأيكة فأُهلكوا بالظلّة وأمّا أهل مدين فأخذتهم الصيحة ، صاح بهم جبرئيل صيحة فهلكوا جميعاً .
أخبرني الحسين بن محمد قال : حدّثنا موسى بن محمد قال : حدّثنا الحسن بن علويه قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا المسيّب عن برد الجريري قال : سلّط الحرّ عليهم سبعة أيام ولياليهن ، ثم رفع لهم جبل من بعيد ، فأتاه رجل منهم فإذا تحته أنهار وعيون وماء بارد فتمكّن تحته وأخذ ما يكفيه ثم جاء إلى أهل بيته فآذنهم فجاؤوا فأخذوا ما يكفيهم وتمكّنوا ، ثم آذن بقيّة الناس فاجتمعوا تحته كلّهم فلم يغادر منهم أحداً ، فوقع ذلك الجبل عليهم فذلك قوله سبحانه ) فأخذهم عذاب يوم الظلّة إنّه كان عذاب يوم عظيم إنَّ في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإنَّ ربّك لهوَ العزيز الرحيم (
.
) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاَْمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِى زُبُرِ الاَْوَّلِينَ أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ ءَايَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِىإِسْرَاءِيلَ وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الاَْعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (
[ / مق ]
) وإنّه لتنزيل ربّ العالمين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاَْلِيمَ فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءَاخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (
الشعراء : ( 192 ) وإنه لتنزيل رب . . . . .
) وإنه لتنزيل رب العالمين ( يعني القرآن
الشعراء : ( 193 ) نزل به الروح . . . . .
) نزل به الروح الأمين ( قرأ الحجازيّون وأبو عمر بتخفيف الزاي ورفع الحاء والنون يعنون جبرئيل ( عليه السلام ) بالقرآن ، وقرأ الآخرون بتشديد الزاي وفتح الحاء والنون أي نزّل الله جبرئيل ( عليه السلام ) ، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لقوله ) وإنّه لتنزيل ( وهو مصدر نزّل ،
الشعراء : ( 194 - 196 ) على قلبك لتكون . . . . .
على قلبك يا محمد حتى وعيته .
(7/179)
" صفحة رقم 180 "
) لتكون من المنذرين بلسان ( يعني نزل بلسان ) عربي مبين وإنّهُ ( يعني ذكر القرآن وخبره عن أكثر المفسرين وقال مقاتل : يعني ذكر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونعته ) لفي زبر ( كتب ) الأولين ( وقرأ الأعمش زُبر بجزم الباء ، وغيره بالرفع .
الشعراء : ( 197 ) أو لم يكن . . . . .
) أو لم يكن لهم آية ( قرأ ابن عامر تكن بالتاء ) آية ( بالرفع ، غيره تكن بالتاء آيةً بالنصب ، ومعنى الآية أولم يكن لهؤلاء المنكرين دلالة وعلامة ) أن يعلمه ( يعني محمداً ) علماء بني إسرائيل ( .
عبد الله بن سلام وأصحابه قال ابن عباس : بعث أهل مكة إلى اليهود وهم بالمدينة فسألوهم عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : إن هذا لزمانه وإنّا نجد في التوراة نعته وصفته وكان ذلك آية لهم على صدقه .
الشعراء : ( 198 - 199 ) ولو نزلناه على . . . . .
) ولو نزّلناه ( يعني القرآن ) على بعض الأعجمين ( هو جمع الأعجم ، وهو الذي لا يفصح ولا يحسن العربية وإن كان منسوباً إلى العرب ، وتأنيثه عجماء ، وجمعه عجم ، ومنه قيل للبهائم عجم لأنها لا تتكلم .
قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( العجماء جرحها جُبار ) فإذا أردت أنه منسوب إلى العجم قلت : عجمي .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حنش قال : حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال : حدّثنا سهل بن علي قال : حدّثنا أبو عمر قال : حدّثنا شجاع بن أبي نصر عن عيسى بن عمر عن الحسن أنّه قرأ ( ولو نزّلناه على بعض الأعجميين ) مشدّدة بيائين ، جعله نسبة ومعنى الآية : ولو نزّلناهُ على رجل ليس بعربي اللسان فقرأهُ عليهم بغير لغة العرب لما كانوا به مؤمنين ، وقالوا : ما نفقه قولك نظيرهُ قوله سبحانه ) ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصّلت آياته ( ، وقيل معناه : ولو نزّلناه على رجل ليس من العرب لما آمنوا به أنفة من اتّباعه .
الشعراء : ( 200 ) كذلك سلكناه في . . . . .
) كذلك سلكناه ( أي أدخلنا القرآن ) في قلوب المجرمين ( لتقوم الحجة عليهم ، وقيل : يعني سلكنا الكفر في قلوب المجرمين
الشعراء : ( 201 ) لا يؤمنون به . . . . .
) لا يؤمنونَ به ( .
قال الفرّاء : من شأن العرب إذا وضعت ( لا ) موضع ( كي ) في مثل هذا ربّما جزمت ما بعدها وربّما رفعت فتقول : ربطت الفرس لا ينفلت جزماً ورفعاً ، وأوثقت العبد لا يأبق في الجزم على تأويل إن لم أربطه انفلت ، وإن لم أُوثقه فرَّ ، والرفع على أنّ الجازم غير ظاهر . أنشد بعض بني عقيل :
(7/180)
" صفحة رقم 181 "
وحتى رأينا أحسن الود بيننا
مساكنة لا يقرف الشر قارف
ينشد رفعاً وجزماً ، ومن الجزم قول الراجز :
لطال ما حلأتماها لا ترد
فخليّاها والسجال تبترد
) حتى يروُا العذاب الأليم }
الشعراء : ( 202 ) فيأتيهم بغتة وهم . . . . .
) فيأتيهم ( قراءة العامة بالياء يعنون العذاب .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حنش قال : أخبرنا أبو العباس عبد الرَّحْمن بن محمد ابن حماد الطهراني قال : أخبرنا أبو زكريا يحيى بن الفضل الحرمي قال : حدّثنا وهب بن عمرو النمري قال : أخبرنا هارون بن موسى العتكي قال : حدّثنا الحسام عن الحسن أنه قرأ ) فيأتيهم بغتة ( بالتاء فقال له رجل : يا أبا سعيد إنما يأتيهم العذاب بغتة فانتهره الحسن وقال : إنّما هي الساعة .
) وهم لا يشعرون }
الشعراء : ( 203 ) فيقولوا هل نحن . . . . .
) فيقولوا هل نحن منظرون ( .
قال مقاتل : فقال المشركون : يا محمد إلى متى توعدنا بالعذاب ؟ فأنزل الله عزَّ وجل
الشعراء : ( 204 - 205 ) أفبعذابنا يستعجلون
) أفبعذابنا يستعجلون أفرأيت إن متّعناهم سنين ( في الدنيا ولم نهلكهم
الشعراء : ( 206 ) ثم جاءهم ما . . . . .
) ثمَّ جاءهم ما كانوا يوعدون ( يعني العذاب
الشعراء : ( 207 - 208 ) ما أغنى عنهم . . . . .
) ما أغنى عنهم ما كانوا يُمتّعون وما أهلكنا من قرية إلاّ لها منذرون ( رُسل ينذرونهم
الشعراء : ( 209 ) ذكرى وما كنا . . . . .
) ذكرى ( أي ينذرونهم تذكرة محلّها نصب ، وقيل رفع أي تلك ذكرى .
) وما كنّا ظالمين ( في تعذيبهم حيث قدّمنا الحجّة عليهم وأعذرنا إليهم .
الشعراء : ( 210 ) وما تنزلت به . . . . .
) وما تنزّلت به الشياطين ( بل نزل به الروح الامين ، وقراءة العامّة الشياطين بالياء في جميع القرآن لأن نونه سنخية وهجاؤه واحد كالدهاقين والبساتين .
وقرأ الحسن البصري ومحمد بن السميدح اليماني : الشياطون بالواو
وقال الفراء : غلط الشيخ يعني الحسن فقيل : ذلك النضر بن شميل فقيل : إن جاز أن يحتج بقول العجاج ورؤبة ودونهما فهلاّ جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه ؟ مع إنّا نعلم أنهما لم يقرآ ذلك إلاّوقد سمعا فيه .
وقال المؤرّخ : إن كان اشتقاق الشياطين من شاط يشيط كان لقراءتهما وجه .
وأخبرني عمر بن شبّه قال : سمعت أبا عبيد يقول : لم نعب على الحسن في قراءته إلاّ قوله : وما تنزّلت به الشياطون .
وبإسناده عن عمر بن شبّه قال : حدّثنا أبو حرب البابي من ولد باب قال : جاء أعرابي إلى
(7/181)
" صفحة رقم 182 "
يونس بن حبيب فقال : أتانا شاب من شبابكم هؤلاء فأتى بنا هذا الغدير فأجلسنا في ذات جناحين من الخشب فأدخلنا بساتين من وراءها بساتون .
قال يونس : ما أشبه هذا بقراءة الحسن .
الشعراء : ( 211 ) وما ينبغي لهم . . . . .
) وما ينبغي لهم ( أن ينزلوا القرآن ) وما يستطيعون ( ذلك
الشعراء : ( 212 ) إنهم عن السمع . . . . .
) إنّهم عن السمع ( أي استراق السمع من السماء ) لمعزولون ( وبالشهب مرجومون
الشعراء : ( 213 - 214 ) فلا تدع مع . . . . .
) فلا تدع مع الله إلاهاً آخر فتكون من المعذّبين وأنذر عشيرتك الأقربين ( .
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال : حدّثنا موسى بن محمد بن علي بن عبد الله قال : حدّثنا الحسن بن علي بن شبيب المعمر قال : حدّثني عبّاد بن يعقوب قال : حدّثنا علي بن هاشم عن صباح بن يحيى المزني عن زكريا بن ميسرة عن أبي إسحاق عن البراء قال : لمّا نزلت ) وأنذر عشيرتك الأقربين ( جمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلاً ، الرجل منهم يأكل المسنّة ويشرب العس ، فأمر عليّاً برِجْل شاة فأدمها ثم قال : ادنُوا باسم الله فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا ، ثم دعا بقعب من لبن فجرع منه جرعة ثم قال لهم : اشربوا باسم الله ، فشرب القوم حتى رووا فبدرهم أبو لهب فقال : هذا ما يسحركم به الرجل ، فسكت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يومئذ فلم يتكلّم .
ثمَّ دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب ثم أنذرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( يا بني عبد المطلب إنّي أنا النذير إليكم من الله سبحانه والبشير لما يجيء به أحد منكم ، جئتكم بالدنيا والآخرة فأسلموا وأطيعوني تهتدوا ، ومَن يواخيني ويؤازرني ويكون وليّي ووصيي بعدي ، وخليفتي في أهلي ويقضي ديني ؟ فسكت القوم ، وأعاد ذلك ثلاثاً كلّ ذلك يسكت القوم ، ويقول علي : أنا فقال : ( أنت ) فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب : أطع ابنك فقد أُمِّر عليك .
وأخبرنا عبد الله بن حامد الاصفهاني ومحمد بن عبد الله بن حمدون قالا : أخبرنا أحمد ابن محمد بن الحسن قال : حدّثنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا أبو اليمان قال : أخبرنا شعيب عن الزهري قال : أخبرني سعيد بن المسيّب وأبو سلمة بن عبد الرَّحْمن أنَّ أبا هريرة قال : قام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين أنزل الله سبحانه ) وأنذر عشيرتك الاقربين ( قال : ( يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله ، لا أُغني عنكم من الله شيئاً ، يا بني عبد مناف لا أُغني عنكم من الله شيئاً ، يا عباس بن عبد المطلب لا أُغني عنكم من الله شيئاً ، يا فاطمة بنت محمد لا أُغني عنكِ من الله شيئاً ، يا صفيّة عمّة رسول الله لا أُغني عنك من الله شيئاً ، فسلوني من مالي ما شئتم ) .
وأخبرني عبد الله بن حامد قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدّثنا عبد الله بن هاشم
(7/182)
" صفحة رقم 183 "
قال : حدّثنا عبد الله قال : حدّثنا الأعمش عن عبد الله بن مرّة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لمّا أنزل الله سبحانه ) وأنذر عشيرتك الاقربين ( أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الصفا فصعد عليه ثم نادى يا صباحاه ، فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء وبين رجل يبعث رسولا فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا بني عبد المطلب ، يا بني فهر لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني ؟
قالوا : نعم
قال : فإني نذيركم بين يدي عذاب شديد
فقال أبو لهب : تبّاً لك سائر اليوم ، ما دعوتنا إلاّ لهذا ، فأُنزلت ) تبّت يدا أبي لهب وتب ( .
الشعراء : ( 215 - 216 ) واخفض جناحك لمن . . . . .
) واخفض جناحك ( فليّن جانبك ) لمن اتّبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون ( من عبادة الأوثان ومعصية الرحمن .
الشعراء : ( 217 ) وتوكل على العزيز . . . . .
) وَتَوكل ( بالفاء أهل المدينة والشام وكذلك هو في مصاحفهم ، وغيرهم بالواو أي وتوكل ) على العزيز الرحيم ( ليكفيك كيد أعدائك .
الشعراء : ( 218 ) الذي يراك حين . . . . .
) الذي يراك حين تقوم ( إلى صلاتك عن أكثر المفسّرين .
وقال مجاهد : الذي يراك أينما كنت
الشعراء : ( 219 ) وتقلبك في الساجدين
) وتقلبك ( ويرى تقلّبك في صلوتك في حال قيامك وقعودك وركوعك وسجودك .
قال عكرمة وعطيّة عن ابن عباس ، وقال مجاهد : ويرى تقلّبك في المصلّين أي إبصارك منهم من هو خلفك كما تبصر من هو أمامك .
قال : وكان يرى من خلفه كما يرى من بين يديه .
أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن أحمد بن الحسن قال : حدّثنا السلمي وأحمد بن حفص وعبد الله الفرّاء وقطن قالوا : حدّثنا حفص قال : حدّثنا إبراهيم بن طهمان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس أنَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : اتمّوا الركوع والسجود فوالله إنّي لأراكم من بعد ظهري إذا ركعتم وسجدتم .
وقال قتادة وابن زيد ومقاتل والكلبي : يعني وتصرّفك مع المصلّين في أركان الصلاة في الجماعة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً ، وهي رواية عطاء الخراساني عن ابن عباس .
(7/183)
" صفحة رقم 184 "
وقال سعيد بن جبير : وتصرّفك في أحوالك كما كانت الأنبياء من قبلك تفعله ، والساجدون في هذا القول : الأنبياء .
وقال الحسن : يعني وتصرّفك وذهابك ومجيئك في أصحابك والمؤمنين .
أخبرني أبو سهل عبد الملك بن محمد بن أحمد بن حبيب المقري قال : حدّثنا أبو بكر أحمد بن موسى ، قال : حدّثنا زنجويه بن محمد ، قال : حدّثنا علىّ بن سعيد النسوي
أبو عاصم عن صهيب عن عكرمة عن ابن عباس ) وتقلّبك في الساجدين ( قال : من نبي إلى نبيّ حتى أخرجك في هذه الأُمة .
وحدَّثنا أبو الحسن محمد بن علي بن سهل الماسرخسي الفقيه إملاءً قال : أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد البصري بمكة قال : حدّثنا الحسن بن بشر قال : حدّثنا سعدان بن الوليد عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس في قوله سبحانه ) وتقلّبك في الساجدين ( قال : ما زال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتقلب في أصلاب الأنبياء حتى ولدته أُمّهُ .
الشعراء : ( 220 ) إنه هو السميع . . . . .
) إنّه هو السميع ( لقراءتك ) العليم ( بعملك .
) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ إِلاَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ( 2
الشعراء : ( 221 - 222 ) هل أنبئكم على . . . . .
) هل أُنَبَّئكم على مَن تنزّل الشياطين ( ثمَّ بيَّن فقال ) تنزّل على كلّ أفّاك ( كذّاب ) أثيم ( فاجر ، وهم الكهنة .
وقال مقاتل : مثل مسيلمة وطلحة .
الشعراء : ( 223 ) يلقون السمع وأكثرهم . . . . .
) يلقون السمع ( يعني يستمعون من الملائكة مسترقين فيلقون إلى الكهنة .
) وأكثرهم كاذبون ( لانّهم يخلطون به كذباً كثيراً ، وهم الآن محجوبون والحمد لله ربّ العالمين .
الشعراء : ( 224 ) والشعراء يتبعهم الغاوون
) والشعراء يتّبعهم الغاوون ( .
أخبرنا أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الحربي قال : أخبرنا أبو حامد أحمد بن حمدون بن عمارة الأعمش قال : حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن قهزاد المروزي قال : حدّثنا حاتم بن العلاء قال : أخبرنا عبد المؤمن عن بريده عن ابن عباس في هذه الآية ) والشعراء يتّبعهم
(7/184)
" صفحة رقم 185 "
الغاوون ( قال : هم الشياطين ، يدل عليه قوله سبحانه وتعالى ) فأغويناكم إنّا كنّا غاوين ( .
وقال الضحّاك : تهاجى رجلان على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين ، ومع كل واحد منهم غواة من قومه وهم السفهاء ، فنزلت هذه الآية وهي رواية عطيّة عن ابن عباس .
عكرمة عنه : الرواة .
علي بن أبي طلحة عنه : كفّار الجنّ والإنس .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد قالا : حدّثنا أبو بكر بن مجاهد قال : أخبرني جعفر بن محمد قال : حدّثنا حسين بن محمد بن علي قال : حدّثنا أبي عن عبد الله بن سعيد بن الحر عن أبي عبد الله ) والشعراء يتّبعهم الغاوون ( قال : هم الذين يشعرون قلوب الناس بالباطل ، وأراد بهؤلاء شعراء الكفّار : عبد الله بن الزبعرى المخزومي ، وهبيرة بن أبي وهب ، ومسافع بن عبد مناف ، وعمرو بن عبد الله أبا عزّة الجمحي ، وأُميّة بن أبي الصلت كانوا يهجون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيتّبعهم الناس .
أخبرني الحسن بن محمد بن الحسين قال : حدّثنا عبيد الله بن محمد بن شنبة قال : حدّثنا محمد بن عمران بن هارون قال : حدّثنا علي بن سعيد النسوي قال : حدّثنا عبد السلام عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن مكحول عن أبي إدريس عن غضيف أو أبي غضيف من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَن أحدث هجاءً في الإسلام فاقطعوا لسانه ) .
وأخبرني الحسين بن محمد قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السُني قال : أخبرنا أبو يعلى قال : حدّثنا إبراهيم بن عرعرة قال : حدّثنا عبد الرَّحْمن بن مهدي قال : حدّثنا يعقوب القمي عن جعفر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لمّا فتح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يعني مكة رنّ إبليس رنّةً فاجتمعت إليه ذريّته فقال : ( آيسوا أن ترتد أُمة محمد على الشرك بعد يومكم هذا ، ولكن أفشوا فيها يعني مكة الشعر والنوح ) .
الشعراء : ( 225 ) ألم تر أنهم . . . . .
) ألم تر أنّهم في كلّ واد ( من أودية الكلام ) يهيمُون ( حائرين وعن طريق الحق والرشد جائرين .
قال الكسائي : الهائم الذاهب على وجهه .
أبو عبيد : الهائم المخالف للقصد
(7/185)
" صفحة رقم 186 "
قال ابن عباس في هذه الآية : في كل لغو يخوضون ، مجاهد : في كل فن يفتنون ، قتادة : يمدحون قوماً بباطل ، ويشتمون قوماً بباطل .
الشعراء : ( 226 ) وأنهم يقولون ما . . . . .
) وأنّهم يقولون ما لا يفعلون ( ثمَّ استثنى شعراء المؤمنين : حسّان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك ، وكعب بن زهير فقال عزَّ من قائل ) إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظُلِمُوا ( يعني ردّوا على المشركين الذين هجوا رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبة قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد الكسائي قال : حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال : حدّثنا يحيى بن واضح عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي الحسن البراد قال : لما نزلت هذه الآية ) والشعراء يتّبعهم الغاوون ( جاء عبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك ، وحسّان بن ثابت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم يبكون فقالوا : يا رسول الله أنزل الله سبحانه هذه الآية وهو يعلم أنّا شعراء ، فقال : إقرؤوا ما بعدها
الشعراء : ( 227 ) إلا الذين آمنوا . . . . .
) إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً ( أنتم ) وانتصُروا ( أنتم .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا القطيعي قال : حدّثنا ابن حنبل قال : حدّثني أبي قال : حدّثنا أبو اليمان قال : أخبرنا شعيب عن الزهري .
وأخبرنا ابن حمدون قال : أخبرنا ابن الشرقي قال : حدّثنا محمد بن يحيى قال : حدّثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن الزهري قال : حدّثنا عبد الرَّحْمن بن كعب بن مالك عن أبيه أنّه قال للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) حين أنزل الله سبحانه في الشعراء ما أنزل : يا رسول الله إنَّ الله سبحانه وتعالى قد أنزل في الشعراء ما قد علمت فكيف ترى فيه ؟
فقال النبىّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنَّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النبل ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عمر بن الخطاب قال : حدّثنا عبد الله بن الفضل قال : حدّثنا عمرو بن محمد الناقد قال : حدّثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة أنَّ عمر مرَّ بحسّان وهو ينشد الشعر في المسجد فلحظ إليه فقال : قد كنت أُنشد فيه وفيه من هو خير منك ، ثم التفت إلى أبي هريرة وقال : أُنشدك بالله أسمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( أجب عنّي ، اللهم أيّده بروح القدس ) ؟ قال : اللّهم نعم
(7/186)
" صفحة رقم 187 "
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبة قال : حدّثنا محمد بن علي بن سالم الهمداني قال : حدّثنا أحمد بن منيع قال : حدّثنا أبو معاوية قال : حدّثنا الشيباني عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لحسّان : ( اهجُ المشركين فإنَّ جبرئيل معك ) .
) وَسيعلم الذين ظلمُوا ( أشركوا ) أيَّ منقَلَب ينقلبون ( أيّ مرجع يرجعون إليه بعد مماتهم .
وروى نوفل بن أبي عقرب عن ابن عباس ح ( أيّ منقلب ينفلتون ) بالفاء والتاء ومعناهما واحد .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبة قال : حدّثنا الفريابي قال : حدّثنا عبيد الله بن معاذ قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا ابن عون عن إبراهيم قال : كان شريح يقول : سيعلم الظالمون حظّ من نقصُوا ، إنّ الظالم ينتظر العقاب ، وإنّ المظلوم ينتظر النصر .
(7/187)
" صفحة رقم 188 "
( سُورة النَّمل )
مكّيّة ، وهي أربعة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون حرفاً ، وألف وتسع وأربعون كلمة ، وثلاث وسبعون آية .
أخبرنا أبو الحسن محمد بن القاسم الفقيه قال : حدّثنا أبو عبد الله محمد بن يزيد المعدّل قال : حدّثنا أبو يحيى البزّاز قال : حدّثنا محمد بن منصور قال : حدّثنا محمد بن عمران بن عبد الرَّحْمن بن أبي ليلى قال : حدّثني أبي ، عن مجالد بن عبد الواحد ، عن الحجاج بن عبد الله ، عن أبي الخليل وعن علي بن زيد وعطاء بن أبي ميمونة ، عن زرّ بن حبيش ، عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَن قرأ طس سليمان كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بسليمان وكذّب به ، وهود وشعيب وصالح وإبراهيم ، ويخرج من قبره وهو ينادي : لا إله إلاّ الله ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) طستِلْكَ ءَايَاتُ الْقُرْءَانِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَهُم بِالاَْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِى الاَْخِرَةِ هُمُ الاَْخْسَرُونَ وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْءَانَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ ( 2
النمل : ( 1 ) طس تلك آيات . . . . .
) طَس ( قال ابن عباس : هو اسم من أسماء الله عزَّ وجل ، أقسم الله سبحانه به أن هذه السورة ) آيات القرآن وكتاب مبين ( يعني وآيات كتاب مبين ، وقيل : الطاء من اللطيف ، والسين من السميع ، وقال أهل الإشارة : هي إشارة إلى طهارة سرّ حبيبه .
النمل : ( 2 ) هدى وبشرى للمؤمنين
) هُدىً وبشرى للمؤمنين ( فيهما وجهان من العربية ، الرفع على خبر الابتداء أي هي هدىً ، وإنْ شئت على حرف جزاء الصفه في قوله ) للمؤمنين ( والنّصب على القطع والحال .
النمل : ( 3 - 4 ) الذين يقيمون الصلاة . . . . .
) الذين يُقيمون الصلواة ويؤتون الزكواة وهم بالآخرة هم يوقنون إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة زينّا لهم أعمالهم ( القبيحة حتى رأوها حسنة ، وتزيينه خذلانه إيّاهم
(7/188)
" صفحة رقم 189 "
) فهم يعمهون (
النمل : ( 5 ) أولئك الذين لهم . . . . .
) أُولئك الذين لهم سوء ( شدّة ) العذاب ( في الدّنيا القتل والأسر بيده .
) وهم في الآخرة هم الأخسرون ( بحرمان النجاة والمنع من دخول الجنّات .
النمل : ( 6 ) وإنك لتلقى القرآن . . . . .
) وإنّك لتُلقّى ( لتلقّن وتعطى ) القرآن ( نظيره قوله سبحانه وتعالى ) ولا يُلقّاها إلاّ الصابرون ( ) من لدن حكيم عليم (
.
) إِذْ قَالَ مُوسَى لاَِهْلِهِ إِنِّىآنَسْتُ نَاراً سَئَاتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ ءَاتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِىَ أَن بُورِكَ مَن فِى النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يامُوسَى لاَ تَخَفْ إِنِّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ الْمُرْسَلُونَ إَلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِى تِسْعِ ءَايَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ ءَايَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَاذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ( 2
النمل : ( 7 ) إذ قال موسى . . . . .
) إذ قال موسى لأهله ( في مسيره من مدين إلى مصر وقد أصلد زنده ) إنّي آنست ناراً ( فامكثوا مكانكم ) سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس ( قرأ أهل الكوفة ويعقوب : بشهاب منوّن على البدل ، غيرهم بالإضافة ، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، ومعناه : سآتيكم بشعلة نار اقتبسها منها .
) لعلّكم تصطلون ( تستدفئون
النمل : ( 8 ) فلما جاءها نودي . . . . .
) فلمّا جاءها نودي أن بورك من في النار ( .
قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن : يعني قُدّس مَن في النار وهو الله سبحانه عنى به نفسه عزَّ وجل ، وتأويل هذا القول أنّه كان فيها لا على معنى تمكُّن الأجسام لكن على معنى أنّه نادى موسى منها ، وأسمعه كلامه من جهتها وأظهر له ربوبيته من ناحيتها ، وهو كما روي أنّه مكتوب في التوراة : جاء الله عزّ وجلّ من سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران ، فمجيئه عزَّ وجلّ من سيناء بعثته موسى منها ، ومن ساعير بعثته المسيح بها ، واستعلامه من جبال فاران بعثه المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) وفاران مكة ، وقالوا : كانت النار نوره عزَّ وجلّ ، وإنّما ذكره بلفظ النّار لأنّ موسى حسبه ناراً ، والعرب تضع أحدهما موضع الآخر .
وقال سعيد بن جبير : كانت النار بعينها وهي إحدى حجب الله سبحانه وتعالى ، يدلّ عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن يعقوب قال : حدّثنا محمد بن إسحاق قال : حدّثنا هاشم القاسم بن القاسم قال : حدّثنا المسعودي عن عمرو بن مرّة عن أبي عبيدة ، موسى عن الأشعري قال : قام بيننا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأربع فقال : ( إنّ اللّه عزَّ وجل لا ينام ، ولا ينبغي له
(7/189)
" صفحة رقم 190 "
أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النار ، لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كلّ شيء أدركه بصره ) ، ثم قرأ أبو عبيدة ) أنْ بورك مَن في النار ومَن حولها وسبحان الله ربّ العالمين ( .
وقيل معناه : بورك مَن في النار سلطانه وقدرته وفيمن حولها .
وقال آخرون : هذا التبريك عائد إلى موسى والملائكة ، ومجاز الآية : بورك من في طلب النار وقصدها بالقرب منها ، وهذا كما يقال : بلغ فلان البلد إذا قرب منه ، وورد فلان الماء لا يريدون أنّه في وسطه ، ويقال : أعطِ مَن في الدار ، يريدون من هو فيها مقيم أو شريك وإن لم يكن في الوقت في الدار ، ونحوها كثير .
ومعنى الآية : بورك فيك يا موسى وفي الملائكة الذين حول النار ، وهذا تحيّة من الله سبحانه لموسى وتكرمة له كما حيّا إبراهيم على ألسنة الملائكة حين دخلوا عليه فقالوا : ) رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت ( .
وقال بعضهم : هذه البركة راجعة إلى النار نفسها .
روى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أنّه قال : معناه بوركت النار ، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن يحيى قال : حدّثنا أحمد بن نجدة قال : حدّثنا الحمّاني قال : حدّثنا هشيم قال : أخبرنا سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : سمعت أُبيّاً يقرؤها : أن بوركت النار ومن حولها ، وتقدير هذا التفسير أنَّ ( من ) تأتي في الكلام بمعنى ( ما ) ، كقوله سبحانه ) ومن لستم له برازقين ( وقوله ) فمنهم من يمشي على بطنه ( الآية و ( ما ) قد تكون صلة في كثير من المواضع كقوله ) جُنْدٌ ما هنالك ( و ) عما قليل ( فمعنى الآية بورك في النار وفيمن حولها وهم الملائكة وموسى ( عليه السلام ) ، فسمّى النار مباركة كما سمّى البقعة مباركة فقال في ) البقعة المباركة ( .
وأمّا وجه قوله ) بورك من في النار ( فإنّ العرب تقول : باركك الله ، وبارك فيك ، وبارك عليك وبارك لك ، أربع لغات ، قال الشاعر :
فبوركت مولوداً وبوركت ناشياً
وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب
(7/190)
" صفحة رقم 191 "
فأما الكلام المسموع من الشجرة فاعلم أنّ مذهب أهل الحق أنّ الله سبحانه وتعالى مستغن عن الحدّ والمكان والجهة والزمان لأنَّ ذلك كلّه من أمارات الحدث ، وهي خلقه وملكه وهو سبحانه أجلّ وأعظم من أن يوصف بالجهات ، أو تحدّه الصفات ، أو تصحبه الأوقات ، أو تحويه الأماكن والأقطار .
ولمّا كان كذلك استحال أن توصف صفات ذاته بأنّها متنقّلة من مكان أو حالّة في مكان ، وإذا ثبت هذا لم يجز أن يوصف كلامه بأنّه يحلّ موضعاً أو ينزل مكاناً ، كما لا يوصف بأنّه جوهر ولا عرض ولا حروف ولا صوت ، بل هو صفة يوصف بها الباري عزّ وجل فينتفى عنه بها آفات الخرس والبكم وما لا يليق به .
فأمّا الأفهام والأسماع فيجوز أن يكون في موضع دون موضع ومن مكان دون مكان ومن حيث لم تقع إحاطة واستغراق بالوقت على كنه صفاته ، قال اللّه سبحانه ) ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ( .
النمل : ( 9 - 10 ) يا موسى إنه . . . . .
) يا موسى أنه ( الهاء عماد وليست بكناية ) أنا اللّه العزيز الحكيم وألق عصاك فلمّا رآها تهتزُّ ( تتحرّك ) كانّها جانّ ( وهي الحيّة الخفيفة الصغيرة الجسم ، وقال الكلبي : لا صغيرة ولا كبيرة .
فإن قيل : كيف قال في موضع ) كأنها جانّ ( وفي موضع آخر ) فإذا هي ثعبان ( والموصوف واحد ؟
قلنا : فيه وجهان :
أحدهما : أنّها في أوّل أمرها جانّ وفي آخر الأمر ثعبان ، وذلك أنّها كانت تصير حية على قدر العصا ثم لا تزال تنتفخ وتربو حتى تصير كالثعبان العظيم .
والآخر : أنّها في سرعة الجانّ وخفّته وفي صورة الثعبان وقوّته .
فلمّا رآها موسى ( عليه السلام ) ) ولّى مُدبراً ولم يُعقّب ( ولم يرجع ، قال قتادة : ولم يلتفت .
فقال الله سبحانه ) يا موسى لا تخف إنّي لا يخاف لديّ المرسلون إلاّ من ظَلم ( فعمل بغير ما أمر ) ثمّ بدّل حسناً ( قراءة العامة بضم الحاء وجزم السين ، وقرأ الأعمش بفتح الحاء والسين ) بعد سوء فإنّي غفور رحيم ( .
(7/191)
" صفحة رقم 192 "
واختلف العلماء في حكم هذا الاستثناء ومعنى الآية ، فقال الحسن وابن جريج : قال الله سبحانه ( يا موسى إنّما أخفتك لقتلك ) .
قال الحسن : وكانت الأنبياء تذنب فتعاقب ، ثم تذنب والله فتعاقب .
قال ابن جريج : فمعنى الآية : لا يخيف الله سبحانه الأنبياء بذنب يصيبه أحدهم ، فإن أصابه أخافه حتى يتوب ، فقوله
النمل : ( 11 ) إلا من ظلم . . . . .
) إلاّ ( على هذا التأويل استثناء صحيح ، وتناهى الخبر عن الرسل عند قوله ) إلاّ من ظلم ( ثم ابتدأ الخبر عن حال من ظلم من الرسل وغيرهم من الناس ، وفي الآية استغنى عنه بدلالة الكلام عليه تقديرها ( فمن ظلم ثمّ بدّل حسناً بعد سوء فإنّي غفور رحيم )
وقال الفرّاء : يقول القائل : كيف صيّر خائفاً من ظلم ثم بدّل حُسناً بعد سوء وهو مغفور له ؟
فأقول له : في الآية وجهان :
أحدهما : أن تقول أنّ الرسل معصومة ، مغفور لها ، آمنة يوم القيامة ، ومن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً من سائر الناس فهو يخاف ويرجو ، فهذا وجه .
والآخر : أن يجعل الاستثناء من الذين تركوا في الكلمة لأنّ المعنى ) لا يخاف لديّ المرسلون ( إنما الخوف على غيرهم .
ثمَّ استثنى فقال عزَّ من قائل : ) إلاّ من ظَلم ( يقول : كان مشركاً فتاب من الشرك وعمل حسنةً مغفور له وليس بخائف .
قال : وقد قال بعض النحوييّن : ) إلاّ ( ههنا بمعنى الواو يعني : ولا من ظلم منهم كقوله سبحانه ( لئلاّ يكون للناس عليهم حجّة إلاّ الذين ظلموا منهم ) .
وقال بعضهم : قوله ) إلاّ ( ليس باستثناء من المرسلين لأنّه لا يجوز عليهم الظلم وإنّما معنى الآية : لكن من ظلم فعليه الخوف فإذا تاب أزال الله سبحانه وتعالى عنه الخوف .
النمل : ( 12 ) وأدخل يدك في . . . . .
) وأدخل يدك في جيبك ( وإنّما أمره بإدخال يده في جيبه لأنّه كان عليه في ذلك الوقت مدرعة من صوف ، ولم يكن لها كُمٌّ ، قاله المفسّرون .
) تخرج بيضاء من غير سوء ( برص وآفة ) في تسع آيات ( يقول هذه آية مع تسع آيات أنت مُرسَل بهنَّ .
) إلى فرعون وقومه ( فترك ذكر مرسل لدلالة الكلام عليه ، كقول الشاعر :
رأتني بحبليها فصدّت مخافةً
وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق
(7/192)
" صفحة رقم 193 "
أراد : راتني مقبلاً بحبليها ، فترك ذكره لدلالة الكلام عليه .
) إنّهم كانوا قوماً فاسقين (
النمل : ( 13 - 14 ) فلما جاءتهم آياتنا . . . . .
) فلمّا جاءتهم آياتنا مبصرةً ( مضيئة بيّنة يُبصر بها ) قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعُلوّاً فانظر كيف كان عاقبةُ المفسدين ( .
2 ( ) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ ياأَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَىْءٍ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْس وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَآ أَتَوْا عَلَى وَادِى النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِىأَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِىأَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَى وَالِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِى بِرَحْمَتِكَ فِى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَآئِبِينَ لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لاََذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّى بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّى وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَىْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الَّذِى يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( 2
النمل : ( 15 - 16 ) ولقد آتينا داود . . . . .
) ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضّلنا على كثير من عباده المؤمنين وورث سليمان داود ( نبوّته وعلمه وملكه دون سائر أولاده ، وكان لداود ( عليه السلام ) تسعة عشر ابناً .
قال مقاتل : كان سليمان أعظم مُلْكاً من داود وأقضى منه ، وكان داود أشدّ تعبّداً من سليمان ( عليهما السلام ) .
) وقال ( سليمان شاكراً لنعم الله سبحانه وتعالى عليه ) يا أيّها الناس عُلّمنا منطق الطير ( جعل ذلك من الطير كمنطق بني آدم إذ فهمه عنها ) وأُوتينا من كلّ شيء إنَّ هذا لهو الفضل المبين ( .
قال مقاتل في هذه الآية : كان سليمان ( عليه السلام ) جالساً إذ مرَّ به طائر يطوف فقال لجلسائه : هل تدرون ما يقول الطائر الذي مرَّ بنا ؟ قالوا : أنت أعلم ، فقال سليمان : إنّه قال لي : السلام عليك أيّها الملك المسلّط على بني إسرائيل ، أعطاك الله سبحانه وتعالى الكرامة وأظهرك على عدوّك ، إنّي منطلق إلى فروخي ثم أمرّ بك الثانية ، وإنّه سيرجع إلينا الثانية فانظروا إلى رجوعه .
قال : فنظر القوم طويلاً إذ مرَّ بهم فقال : السلام عليك أيّها الملك إن شئت أن تأذن لي كيما أكسب على فروخي حتى يشبّوا ثم آتيك فافعل بي ما شئت ، فأخبرهم سليمان بما قال وأذن له .
(7/193)
" صفحة رقم 194 "
وقال فرقد السخي : مرَّ سليمان على بلبل فوق شجرة يحرّك رأسه ويميل ذَنَبه فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول هذا البلبل ؟ قالوا : الله ونبيُّه أعلم ، قال : يقول : أكلتُ نصف تمرة فعَلى الدُنيا العَفا .
وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسن العَدل قال : حدّثنا عبيد الله بن محمد بن شنبة وأحمد ابن جعفر بن حمدان قالا : حدّثنا الفضل بن العباس الرازي قال : حدّثنا أبو عبيد قال : حدّثنا موسى ابن إبراهيم قال : حدّثنا عباد بن إبراهيم عن الكلبي عن رجل عن كعب قال : صاحت ورشان عند سليمان بن داود ( عليه السلام ) فقال : أتدرون ما تقول ؟
قالوا : لا .
قال : فإنّها تقول : ليت ذا الخلق لم يخلقوا .
وصاح طاوُس عند سليمان ( عليه السلام ) فقال : أتدرون ما يقول ؟
قالوا : لا .
قال : فإنّه يقول : مَن لا يَرحم لا يُرحَم .
وصاح صرد عند سليمان فقال : أتدرون ما يقول ؟
قالوا : لا .
قال : فإنّه يقول : استغفروا اللّه يا مذنبين ، فمن ثَمَّ نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن قتله .
قال : فصاحت طيطوى عند سليمان ( عليه السلام ) فقال : أتدرون ما تقول ؟
قالوا : لا .
قال : فإنّها تقول : كلّ حىّ ميّت ، وكلّ جديد بال .
وصاح خطّاف عند سليمان ( عليه السلام ) فقال : أتدرون ما يقول ؟
قالوا : لا .
قال : فإنّه تقول : قدّموا خيراً تجدوه ، فمن ثَمَّ نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن قتله .
وهدرت حمامة عند سليمان ( عليه السلام ) فقال : أتدرون ما تقول هذه الحمامة ؟
(7/194)
" صفحة رقم 195 "
قالوا : لا .
قال : فإنها تقول : سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه .
وصاح قُمريّ عند سليمان ( عليه السلام ) فقال : أتدرون ما يقول ؟
قالوا : لا .
قال : فإنّه يقول : سبحان ربّي الأعلى ، والغراب يدعو على العشّار ، والحدأة تقول : كلّ شيء هالك إلاّ الله . والقطاة تقول : من سكت سلم ، والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همّه ، والضفدع يقول : سبحان ربّي القدّوس ، والبازي يقول : سبحان ربي وبحمده ، والضفدعة تقول : سبحان المذكور بكلّ مكان .
وأخبرنا الحسين بن محمد قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال : حدّثنا الفضل بن العباس بن مهران قال : حدّثنا أبو عبيد قال : حدّثنا موسى بن إبراهيم قال : أخبرنا إسماعيل عن عياش عن زرّ عن مكحول قال : صاح درّاج عند سليمان بن داود ( عليه السلام ) فقال : أتدرون ما يقول ؟
قالوا : لا .
قال فإنّه يقول : الرَّحْمن على العرش استوى .
وبإسناده عن موسى بن إبراهيم قال : أخبرنا صالح الهروي عن الحسن قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الديك إذا صاح يقول : اذكروا الله يا غافلين ) .
وروى جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جدّه عن الحسن بن علي قال : إذا صاح النسر قال : يابن آدم عش ما شئت آخرهُ الموت ، وإذا صاح العقاب قال : في البعد من الناس أُنس ، وإذا صاح القبّر قال : الهي العن مبغضي آل محمد ، وإذا صاح الخطّاف قرأ : الحمد لله ربّ العالمين ، يمدّ الضالين كما يمد للقارئ .
النمل : ( 17 ) وحشر لسليمان جنوده . . . . .
) وَحشر ( وجُمع ) لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير ( في مسير لهم ) فهم يوُزعون ( أي يُحبَس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا ، وذلك أنّه جعل على كلّ صنف منهم وَزَعَةً ترد أُولاها على أُخراها لئلاّ يتقدّموا في المسير كما يصنع الملوك .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : يُوزعون : يدفعون . ابن زيد ومقاتل : يُساقون ، السدّي : يوقفون ، وأصل الوزع في كلام العرب الكفّ والمنع ، ومنه الحديث : مايزع السلطان أكثر ممّا يزع القرآن ويُقال للأمر أوزعه . وفي الخبر : لا بدّ للناس من وزعة . وقال الشاعر
(7/195)
" صفحة رقم 196 "
على حين عاتبت المشيب على الصبا
وقلت ألمّا أصحُ والشيب وازع
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد قالا : حدّثنا أبو بكر ابن مجاهد قال : حدّثنا أحمد قال : حدّثنا سنيد قال : حدّثنا حجاج عن أبي معشر عن محمد بن كعب في هذه الآية قال : بَلَغنا أنَّ سليمان ( عليه السلام ) كان عسكره مائة فرسخ ، خمسة وعشرون منها للإنس ، وخمسة وعشرون للجن ، وخمسة وعشرون للوحش ، وخمسة وعشرون للطير ، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة صريحة وسبعمائة سرية ، فأمر الريح العاصف فحملته وأمر الرخاء فسرت به ، فأوحي إليه وهو يسير بين السماء والأرض إنّي قد زدت في ملكك أنّه لا يتكلّم أحد من الخلائق بشيء إلاّ جاءت الريح فأخبرتك به .
وقال مقاتل : نسجت الشياطين لسليمان ( عليه السلام ) بساطاً فرسخاً في فرسخ ذهباً في إبريسم ، وكان يوضع له منبر من الذهب في وسط البساط فيقعد عليه ، وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفضة ، يقعد الأنبياء على كراسي الذهب ، والعلماء على كراسي الفضة ، وحولهم الناس ، وحول الناس الجنّ والشياطين ، وتظلّه الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس ، وترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرّواح ومن الرواح إلى الصباح .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو بكر بن مالك القطيعي قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن أيوب قال : حدّثنا أبو بكر يعني ابن عياش عن إدريس ابن وهب بن مُنبه قال : حدّثني أبي قال : إنّ سليمان ( عليه السلام ) ركب البحر يوماً فمرَّ بحرّاث فنظر إليه الحرّاث فقال : لقد أُوتي آل داود مُلكاً عظيماً ، فحملت الريح كلامه في أُذن سليمان فنزل حتى أتى الحرّاث فقال : إنّي سمعت قولك وإنّما مشيت إليك لأن لا تتمنى مالا تقدر عليه ، لَتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير ممّا أُوتي آل داود ، فقال الحرّاث : أذهب الله همّك كما أذهبت همّي .
النمل : ( 18 ) حتى إذا أتوا . . . . .
) حتى إذا أتوا على وادي النمل ( .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا مخلد بن جعفر قال : حدّثنا الحسن بن علوية قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا إسحاق بن بشر قال : أخبرنا أبو إلياس عن وَهب بن منبه عن كعب قال : إنَّ سليمان ( عليه السلام ) كان إذا ركب حمل أهله وسائر حشمه وخدمه وكتّابه تلك السقوف بعضها فوق بعض على قدر درجاتهم ، وقد اتّخذ مطابخ ومخابز تحمل فيها تنانير الحديد وقدور عظام تسع في قدر عشرة جزائر ، وقد اتّخذ ميادين للدوابّ أمامه ، فيطبخ الطبّاخون و يخبز الخابزون وتجري الدواب بين يديه بين السماء والأرض والريح تهوي بهم
(7/196)
" صفحة رقم 197 "
فسار بمن اصطحبه إلى اليمن ، فسلك المدينة مدينة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) فقال سليمان : هذه دار هجرة نبىّ في آخر الزمان ، طوبى لمن آمن به ، وطوبى لمن اتّبعه ، وطوبى لمن اقتدى به ، ورأى حول البيت أصناماً تُعبد من دون الله سبحانه ، فلمّا جاوز سليمان البيت بكى البيت فأوحى الله سبحانه إلى البيت : ما يبكيك ؟ فقال : يا ربّ أبكاني هذا نبيّ من أنبيائك وقوم من أولياءك مرّوا عليَّ ، فلم يهبطوا فيَّ ولم يصلّوا عندي ولم يذكروك بحضرتي ، والأصنام تعبد حولي من دونك ، فأوحى الله سبحانه إليه أن لا تبك وإنّي سوف أملأك وجوهاً سجّداً ، وأُنزل فيك قرآناً جديداً ، وأبعث منك نبيّاً في آخر الزمان أحبّ أنبيائي إليَّ ، وأجعل فيك عمّاراً من خلقي يعبدونني وأفرض على عبادي فريضة يرفّون إليك رفّة النّسور إلى وكرها و يحنّون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضتها ، وأُطهّرك من الأوثان وعبدة الشيطان .
قال : ثم مضى سليمان حتى مرَّ بوادي السدير ، واد من الطائف فأتى على وادي النمل فقالت نملة تمشي ، وكانت عرجاء تتكاوس ، وكانت مثل المذنب في العظم ، فنادت النملة ) يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان وَجُنوده وهم لا يشعرون ( يعني أنّ سليمان يفهم مقالتها وكان لا يتكلّم خلق إلاّ حملت الريح ذلك فألقته في مسامع سليمان ( عليه السلام ) .
النمل : ( 19 ) فتبسم ضاحكا من . . . . .
قال ) فتبسّم ضاحكاً مِن قولها وقال رَبّ أوزعني ( إلى قوله ) في عبادك الصالحين ( يعني مع عبادك الموحّدين .
وقال قتادة ومقاتل : وادي النمل بأرض الشام
قال نوف الحميري : كان نمل وادي سليمان مثل الذباب .
وقال الشعبي : النملة التي فقه سليمان كلامها كانت ذات جناحين .
قال مقاتل : سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال . واختلفوا في اسم تلك النملة .
فأخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الحسني الدينوري قال : حدّثنا أبو العباس أحمد ابن محمد بن يوسف الصرصري قال : حدّثنا الهيثم بن خلف الدوري قال : حدّثنا هارون بن حاتم البزاز قال : حدّثنا إبراهيم بن الزبرقان التيمي عن أبي روق عن الضحاك قال : كان اسم النملة التي كلّمت سليمان بن داود ( عليه السلام ) طاحية .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا طلحة وعبيد الله قالا : حدّثنا ابن مجاهد قال : حدّثني الفضل بن الحسن قال : حدّثنا أبو محمد النعمان بن شبل الباهلي قال : حدّثنا ابن أبي روق عن أبيه قال : كان اسم نملة سليمان حرمي ، وهو قول مقاتل .
ورأيت في بعض الكتب أنّ سليمان لمّا سمع قول النملة قال : ائتوني بها ، فأتوه بها فقال لها : لِمَ حَذّرتِ النمل ظلمي ؟ أما علمتِ أنّي نبي عدل ؟ فلِمَ قلتِ : لا يحطمنّكم سليمان وجنوده
(7/197)
" صفحة رقم 198 "
فقالت النملة : أما سمعت قولي : وهم لا يشعرون ؟ مع ما أنّي لم أُرد حطم النفوس وإنّما أردت حطم القلوب ، خشيت أن يتمنّين ما أُعطيت ويشتغلن بالنظر عن التسبيح ، فقال لها : عظيني ، فقالت النملة : هل علمت لِمَ سمّي أبوك داودَ ؟
قال : لا .
قالت : لأنّه داوى جرحه فردّ . هل تدري لم سمّيت سليمان ؟
قال : لا .
قالت : لأنّك سليم وكنت إلى ما أُوتيت لسلامة صدرك وإنّ لك أن تلحق بأبيك ثم قالت : أتدري لِمَ سخّر الله لك الريح ؟
قال : لا .
قالت : أخبَرك الله أنّ الدنيا كلّها ريح ، فتبسّم سليمان ضاحكاً متعجّباً من قولها ، وقال ) ربّ أوزعني ( إلى آخر الآية .
أخبرني ابن فنجويه قال : أخبرنا ابن شنبة قال : أخبرنا الحضرمي قال : حدّثنا حسن الخلاّل قال : حدّثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن قتل أربعة من الدواب : الهدهد والصرد والنحلة والنملة .
النمل : ( 20 ) وتفقد الطير فقال . . . . .
) وتفقّد الطير ( أي طلبها وبحث عنها ) فقال ما لي لا أرى الهُدهُد ( فتح ابن كثير وعاصم والكسائي وأيوّب ( لي ) ههنا وفي سورة يس ) وما لي لا أعبد ( وأرسل حمزة الياء فيهما جميعاً ، وأمّا أبو عمرو فكان يرسل الياء في هذه ويفتح في يس ، وفرّق بينهما فقال : لأنّ هذه للتي في النمل استفهام والأُخرى انتفاء .
) أم كانَ ( قيل : الميم صلة وقيل : أم بمعنى بل كان ) من الغائبين }
النمل : ( 21 ) لأعذبنه عذابا شديدا . . . . .
) لأُعذّبنه عذاباً شديداً ( وكان عذابه أن ينتف ريشه وذَنَبه فيدعه ممعطاً ثم يلقيه في بيت النمل فيلدغه ، وقال عبد الله بن شدّاد : نتفه وتشميسه .
الضحّاك : لأشدّن رجله ولأُشمسنّه .
مقاتل بن حيّان : لاطلينّه بالقطران ولأُشمسنّه .
وقيل : لأُودعنّه القفص ، وقيل : لأُفرّقنَّ بينه وبين إلفه ، وقيل : لأمنعنه من خدمتي ، وقيل : لأُبدّدنّ عليه ؟ .
(7/198)
" صفحة رقم 199 "
) أو لأذبحنّه أو ليأتيني بسُلطان مبين ( حجة واضحة ، وأما سبب تفقّده الهُدهد وسؤاله عنه من بين الطير إخلاله بالنوبة التي كان ينوبها واحتياج سليمان ( عليه السلام ) إلى الماء ، فلم يعلم من قصره بعد الماء ، وقيل له : عِلْم ذلك عند الهدهد ، فتفقدّه فلم يجده فتوعّده وكانت القِصّة فيه على ما ذكره العلماء بسيرة الأنبياء دخل حديث بعضهم في بعض :
إنَّ نبي الله سليمان ( صلى الله عليه وسلم ) لما فرغ من بناء بيت المقدس عزم على الخروج إلى أرض الحرم ، فتجهز للمسير واستصحب من الإنس والجنّ والشياطين والطيور والوحوش ما بلغ معسكره مائة فرسخ ، وأمر الريح الرخاء فحملتهم ، فلمّا وافى الحرم وأقام به ماشاء الله تعالى أن يقيم وكان ينحر كل يوم طول مقامه جملة خمسة آلاف ناقة ويذبح خمسة آلاف ثور وعشرين ألف شاة .
وقال لمن حضره من أشراف قومه : إنَّ هذا مكان يخرج منه نبيّ عربيّ صفته كذا وكذا ، يعطى النصر على جميع من ناواه ، وتبلغ هيبته مسيرة شهر بالقريب والبعيد عنده في الحق سواء لا تأخذه في الله لومة لائم .
قالوا : فبأي دين ندين يا نبي الله ؟ قال : بدين الحنيفية فطوبى لمن أدركه وآمن به وصدقه .
قالوا : وكم بيننا وبين خروجه يا نبي الله ؟ قال : زهاء ألف عام فليبلغ الشاهد منكم الغائب فإنه سيد الأنبياء وخاتم الرسل وإن إسمه محمد في زمر الأنبياء .
قال : فأقام بمكة حتى قضى نسكه ثم أحب أن ( يسعى ) إلى أرض اليمن فخرج من مكة صباحاً وسار نحو اليمن يوم نجم سهيل فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر فرأى أرضاً وأزهر خضرتها وأحب النزول بها ليصلي ويتغدى فطلبوا الماء فلم يجدوا وكان الهدهد دليله على الماء ، كان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى أحدكم كأسه بيده فينقر الأرض فيعرف موضع الماء وبُعده ثم يجيء الشياطين فيسلخونه كما يسلخ الإهاب ثم يستخرجون الماء .
قال سعيد بن جبير : ذكر ابن عباس هذا الحديث ، فقال له نافع بن الأزرق : فرأيت قولك الهدهد ينقر الأرض فيبصر الماء ، كيف يبصر هذا ولا يبصر ) حبتي القمح ) فيقع في عنقه ؟ .
فقال له ابن عباس : ويحك إن القدر إذا جاء حال دون البصر .
وروى قتادة عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم : ( لا تقتلوا الهدهد فإنه كان دليل سليمان على قرب الماء وبعده ، وأحب أن يعبد الله في الأرض حيث يقول ) وجئتك من سبأ بنبأ يقين إني وجدت إمرأة ( ) الآية .
(7/199)
" صفحة رقم 200 "
قالوا : فلما نزل سليمان قال الهدهد : إن سليمان قد إشتغل بالنزول فارتفع نحو السماء فانظر إلى طول الدنيا وعرضها ، ففعل ذلك فنظر يميناً وشمالا فرأى بستاناً فمال إلى الخضرة فوقع فيه فإذا هو بهدهد فهبط عليه ، وكان إسم هدهد سليمان بن داود عليه السلام : يعفور ، وإسم هدهد اليمن عنفر فقال عنفر ليعفور سليمان : من أين أقبلت ؟ وأين تريد ؟
قال : أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود عليه السلام .
فقال الهدهد : ومن سليمان بن داود ؟ قال : ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحوش والريح فمن أين أنت ؟ فقال : أنا من هذه البلاد . قال : ومن ملكها ؟ قال : إمرأة يقال لها : بلقيس ، وإن لصاحبكم سليمان مُلكاً عظيماً ولكن ليس ملك بلقيس دونه ، فإنها ملكت الشمس كلها وتحت يديها إثنا عشر ألف قائد ، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل .
فهل أنت منطلق معي حتى تنظر إلى ملكها ؟ قال : أخاف أن يتفقدني سليمان وقت الصلاة إذا أحتاج إلى الماء .
قال الهدهد اليماني : إن صاحبك ليسره أن تأتيه بخبر هذه الملكة . فإنطلق معه ونظر إلى بلقيس وملكها وما رجع إلى سليمان إلاّ وقت العصر .
قال : فلما نزل سليمان ودخل عليه وقت الصلاة طلب الهدهد وذلك أنه نزل على غير ماء فسأل الإنس عن الماء فقالوا : ما نعلم ههنا ماء . فسأل الجن والشياطين فلم يعلموا فتفقد الهدهد ففقده قال ابن عباس : في بعض الروايات : وتعب ) من تفحّصِه إلى ) الشمس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عريف الطير وهو النسر فسأله عن الهدهد فقال : أصلح الله الملك ما أدري أين هو وما أرسلته مكاناً ، فغضب عند ذلك سليمان عليه السلام وقال ) لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين ( .
روى عكرمة عن ابن عباس قال : كل سلطان في القرآن فهو حجة .
قالوا : ثم دعا بالعقاب سيد الطير فقال : عليَّ بالهدهد الساعة . فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى استقرَّ بالهواء فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم ثم التفت يميناً وشمالا فإذا هو بالهدهد مقبلا من نحو اليمن فانقض العقاب نحوه يريده ، فلما رأى الهدهد ذلك عَلم أن العقاب يقصده بسوء فناشده فقال : بحق الله الذي قواك فأقدرك عليَّ إلاّ رحمتني ولم تتعرض لي بسوء .
قال : فولَّ عنه العقاب وقال له : ويلك ثكلتك أمك إن نبي الله قد حلف أن يعذبك أو
(7/200)
" صفحة رقم 201 "
يذبحك ، ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلما إنتهى إلى العسكر تلقاه النسر والطير فقالوا له : ويلك أين غبت في نومك هذا ، فلقد توعدك نبي الله وأخبرّوه بما قال .
فقال الهدهد : أوما استثنى رسول الله ؟ قالوا : بلى ، قال : أو ليأتيني بعذر بيّن . ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان وكان قاعداً على كرسيه . فقال العقاب : قد أتيتك به يا نبي الله .
فلما قرب الهدهد منه رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض ؛ تواضعاً لسليمان ، فلمّا دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه وقال له : أين كنت ؟ لأُعذّبنك عذاباً شديداً ، فقال له الهدهد : يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله سبحانه ، فلمّا سمع ذلك سليمان ارتعد وعفا عنه .
أخبرني الحسن بن محمد الثقفي قال : حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال : حدّثنا محمد ابن إبراهيم بن أبي الرجال ببغداد قال : حدّثنا إبراهيم بن بسطام عن أبي قتيبة عن الحسن بن أبي جعفر الجعفري عن الزبير بن حريث عن عكرمة قال : إنّما صرف سليمان ( عليه السلام ) عن ذبح الهدهد لبرّه بوالديه .
النمل : ( 22 ) فمكث غير بعيد . . . . .
قالوا : ثم سأله فقال : ما الذي أبطا بك عنّي ؟ فقال الهدهد : ما أخبَر الله في قوله ) فمكث غير بعيد ( قراءة العامّة بضم الكاف ، وقرأ عاصِم ويعقوب وأبو حاتم بفتحه وهما لغتان مشهورتان .
) فقال أحطتُ بما لم تحط به ( علمتُ ما لم تعلم ) وجئتُك مِن سَبَأ ( قرأ الحسن وأبو عمرو وابن أبي إسحاق وحميد وابن كثير في رواية البزي من سَبأ ولسبأ مفتوحة الهمزتين غير مصروفة ، ردّوها إلى القبيلة ، وهي اختيار أبي عُبيد ، وقرأ الباقون بالجرّ ، جعلوه اسم رجل وبه نطق الخبر أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سُئل عن سبأ فقال : كان رجلاً له عشرة من البنين يتيامن من ستة ويتشاءم من أربعة ، وسنذكر أسماءهم وقصتهم في سورة سبأ إن شاء الله عزّ وجل ، وقال الشاعر :
الواردون وتيم في ذرى سبا
قد عضّ أعناقهم جلد الجواميس
) بنبأ ( بخبر ) يقين ( لا شكَّ فيه .
قال وهب : قال الهدهد : إنّي أدركت ملكاً لم يبلغه مُلكك .
النمل : ( 23 ) إني وجدت امرأة . . . . .
) إنّي وجَدتُ امرأةً تملكهم ( واسمها بلقيس بنت الشيرح ، وهو الهدهَاد وقيل : شراحيل ابن ذي حدن بن اليشرج بن الحرث بن قيس بن صفى بن سبأ بن يشخب بن يعرب بن قحطان ، وكان أبو بلقيس الذي يسمّى اليشرج ويلقّب بالهدهاد ملكاً عظيم الشأن قد ولد له أربعون ملكاً ،
(7/201)
" صفحة رقم 202 "
وكان يملك أرض اليمن كلّها وكان يقول لملوك الأطراف : ليس أحد منكم كفواً لي ، فأبى أن يتزوّج فيهم فزوّجوه امرأة من الجنّ يُقال لها ريحانة بنت السكن ، فولدت له تلمقة وهي بلقيس ولم يكن له وَلد غيرها .
ويصدّق هذا ما أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن الحسن بن بشر قال : حدّثنا محمد بن حريم بن مروان قال : حدّثنا هشام بن عّمار قال : حدّثنا الوليد بن مسلم عن سعيد بن بشير عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشر بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه قال : ( كان أحد أبوَي بلقيس جنّياً .
قالوا : فلمّا مات أبو بلقيس ولم يخلّف ولداً غيرها طمعت في الملك وطلبت من قومها أن يبايعوها فأطاعها قوم وعصاها آخرون ، فاختاروا عليها رجلاً فملّكوه عليهم ، وافترقوا فرقتين كلّ فرقة منها استولت بملكها على طرف من أرض اليمن .
ثمّ إنّ هذا الرجل الذي ملّكوه أساء السيرة في أهل مملكته حتى كان يمّد يده إلى حرم رعيّته ويفجر ، بهن وأراد أصحابه أن يخلعوه فلم يقدروا عليه ، فلمّا رأت بلقيس ذلك أدركتها الغيرة فأرسلت إليه تعرض نفسها عليه ، فأجابها الملك : والله ما منعني أن ابتديك بالخطبة إلاّ اليأس منك
فقالت : لا أرغب عنك فإنك كفؤ كريم ، فاجمع رجال قومي واخطبني إليهم فجمعهم وخطبها إليهم ، فقالوا : لا نراها تفعل هذا ، فقال لهم : إنّما هي ابتدأتني فأنا أحبّ أن تسمعوا قولها وتشهدوا عليها ، فلّما جاؤوها وذكروا لها ذلك قالت : نعم أحببت الولد ولم أزل ، كنت أرغب عن هذا فالساعة قد رضيتُ به فزوّجُوها منهُ ، فلمّا زُفّت إليه خرجت في ناس كثير من خدمها وحشمها حتى غصّت منازله ودوره بهم ، فلمّا جاءته سقته الخمر حتى سكر ثم حزّت رأسه وانصرفت من الليل إلى منزلها ، فلمّا أصبح الناس رأوا الملك قتيلاً ورأسه منصوباً على باب دارها ، فعلموا أنّ تلك المناكحة كانت مكراً وخديعة منها فاجتمعوا إليها وقالوا لها : أنتِ بهذا الملك أحقّ من غيرك ، فقالت : لولا العار والشنار ما قتلته ولكن عمَّ فساده وأخذتني الحميّة حتى فعلت ما فعلت فملّكوها واستتبّ أمرها ) .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن خديجة قال : حدّثنا ابن أبي الليث ببغداد قال : حدّثنا أبو كريب قال : حدّثنا أبو معاوية عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن أبي بكرة قال : ذكرت بلقيس عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يفلح قوم وَلّوا أمرهم امرأة ) .
(7/202)
" صفحة رقم 203 "
) وأُوتيت من كلّ شيء ( يحتاج إليه الملوك من الآلة والعدّة .
) ولها عرش عظيم ( سرير ضخم حسن ، وكان مقدّمه من ذهب مفصّص بالياقوت الأحمر والزمرد الأخضر ، ومؤخّره من فضّة مكلّل بألوان الجواهر وله أربع قوائم : قائمة من ياقوت أحمر وقائمة من زمرّد ، وقائمة من ياقوت أخضر ، وقائمة من درّ ، وصفائح السرير من ذهب ، وعليه سبعة أبواب كلّ بيت باب مغلق .
وقال ابن عباس : كان عرش بلقيس ثلاثين ذراعاً في ثلاثين ذراعاً ، وطوله في الهواء ثلاثون ذراعاً .
وقال مقاتل : كان ثمانين ذراعاً في ثلاثين ذراعاً وطوله في الهواء ثمانون ذراعاً مُكلّل بالجوَهر .
النمل : ( 24 - 25 ) وجدتها وقومها يسجدون . . . . .
) وجدتها وقومَها يسجدون للشمس من دون الله وزَين لهم الشيطان أعمالهم فصَدّهم عن السبيل وهم لا يهتدون ألاّ يسجدوا لله ( قرأ أبو عبد الرَّحْمن البلخي والحسن وأبو جعفر وحميد والأعرج والكسائي ويعقوب برواية رويس ( ألا اسجدوا ) بالتخفيف على معنى : ألا يا هؤلاء اسجدوا ، وجعلوه أمراً من الله سبحانه مستأنفاً ، وحذفوا هؤلاء بدلالة فاعلهما ، وذكر بعضهم سماعاً من العرب : ألا يا أرحمونا ، ألا يا تصدّقوا علينا ، يريدون ألا يا قوم كقول الأخطل :
ألا يا سلمى يا هند ، هند بني بدر
وإن كان حيانا عدى آخر الدهر
فعلى هذه القراءة ( اسجدوا ) في موضع جزم على الأمر والوقف عليه ألا ، ثمّ يبتدي اسجدوا .
قال الفرّاء : حدّثني الكسائي عن عيسى الهمذاني قال : ما كنت أسمع المشيخة يقرؤونها إلاّ بالتخفيف على نيّة الأمر ، وهي في قراءة عبد الله : هلاّ تسجدوا لله ، بالتاء ، وفي قراءة أُبي ألا يسجُدون لله ، فهاتان القراءتان حجة لمن خفّف ، وقرأ الباقون : ألاّ يسجدوا بالتشديد بمعنى وزين لهم الشيطان اعمالهم لئلاّ يسجدوا لله فأنْ موضع نصب ويسجدوا نصب بأن ، واختار أبو عبيد هذه القراءة وقال : للتخفيف وجه حسن إلاّ أنّ فيه انقطاع الخبر عن أمر سبأ وقومها ، ثم يرجع بعد إلى ذكرهم ، والقراءة بالتشديد خبر يتّبع بعضه بعضاً لا انقطاع في وسطه ، والوقف على هذه ألا ثمَّ يبتدي يسجِدُوا كما يصل
) الذي يخرج الخَبء ( الخفيّ المخبوّ ) في السموات والأرض ( يعني غيب السموات والأرض
(7/203)
" صفحة رقم 204 "
وقال أكثر المفسّرين : خبءَ السماء المطر ، وخبءَ الأرض النبات ، وفي قراءة عبد الله : يخرجُ الخبء من السموات ، ومن وفي يتعاقبان ، يقول العرب : لاستخرجنّ العلم فيكم ، يريد منكم ، قاله الفرّاء .
) ويعلم ما يخفون وما يعلنون ( قراءة العامة بالياء فيهما ، وقرأ الكسائي بالتاء وهي رواية حفص عن عاصم .
النمل : ( 26 ) الله لا إله . . . . .
) الله لا إله إلاّ هو ربّ العرش العظيم ( الذي كل عرش وإنْ عظم فدونه ، لا يشبهه عرش ملكة سبأ ولا غيره
قال ابن إسحاق وابن زيد : من قوله ) أحطت بما لم تحط به ( إلى قوله ) لا إله إلا هو ربّ العرش العظيم ( كلّه كلام الهُدهد .
2 ( ) قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَب بِّكِتَابِى هَاذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلأُ إِنَّىأُلْقِىَ إِلَىَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَىَّ وَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَتْ ياأَيُّهَا الْمَلاَُ أَفْتُونِى فِىأَمْرِى مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُواْ قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالاَْمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِى مَاذَا تَأْمُرِينَ قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُواْ أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وَكَذالِكَ يَفْعَلُونَ وَإِنِّى مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَآءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ ءَاتَانِى اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّآ ءَاتَاكُمْ بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ قَالَ ياأَيُّهَا الْمَلاَُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِى بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِى مُسْلِمِينَ قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ قَالَ الَّذِى عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَاذَا مِن فَضْلِ رَبِّى لِيَبْلُوَنِىأَءَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِىأَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لاَ يَهْتَدُونَ فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ قِيلَ لَهَا ادْخُلِى الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 2
النمل : ( 27 ) قال سننظر أصدقت . . . . .
) قال ( سليمان للهُدهد ) سننظر أصَدقتَ ( فيما أخبرت ) أم كنت من الكاذبين ( فَدَلّهم الهُدهد على الماء فاحتفروا الركايا ورَوَى الناس والدوابّ ، وكانوا قد عطشوا ، ثم كتب سليمان كتاباً من عبد الله سليمان بن داود ( عليه السلام ) إلى بلقيس ملكة سبأ ، السلام على مَن اتبّع الهُدى ، أمّا بعد فلا تعلوا عليَّ وأتوني مسلمين .
وقال ابن جُريج : لم يزد سليمان على ما قصّ الله في كتابه إنّه وإنّه
(7/204)
" صفحة رقم 205 "
قال منصور : كان يقال : كان سليمان أبلغ الناس في كتابه ، وأقلّه إملاءً ثم قرأ ) إنّه من سليمان وإنّه بسم الله الرَّحْمن الرحيم ( قال قتادة : وكذلك الأنبياء عليهم السلام كانت تكتب جملاً لا يطيلون ولا يكثرون ، فلمّا كتب الكتاب طبعهُ بالمسك ،
النمل : ( 28 ) اذهب بكتابي هذا . . . . .
وختمه بخاتمه وقال للهدهد ) اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثمَّ تولّ عنهم ( فكن قريباً منهم ) فانظر ماذا يرجعون ( يردّون من الجواب .
وقال ابن زيد : في الآية تقديم وتأخير مجازها : اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم وانظر ماذا يرجعون ثم تولَّ عنهم أي انصرف ، كقوله ) ثمَّ توَلّى إلى الظل ( أي انصرف إليه ، فأخذ الهدهد الكتاب وأتى به إلى بلقيس وكانت بأرض يقال لها مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام ، فوافاها في قصرها وقد غلّقت الأبواب ، وكانت إذا رقدت غلقّت الأبواب وأخذت المفاتيح فوضعتها تحت رأسها وآوت إلى فراشها ، فأتاها الهُدهد وهي نائمة مستلقية على قفاها فألقى الكتاب على نحرها ، هذا قول قتادة .
وقال مقاتل : حمل الهدهد الكتاب بمنقاره فطار حتى وقف على رأس المرأة ، وحولها القادة والجنود ، فرفرف ساعة والناس ينظرون حتى رفعت المرأة رأسها فألقى الكتاب في حجرها .
وقال ابن منبّه وابن زيد : كانت لها كوّة مستقبلة الشمس ، تقع الشمس فيها حين تطلع ، فإذا نظرت إليها سجدت لها ، فجاء الهُدهد تلك الكوّة فسدّها بجناحه فارتفعت الشمس ولم تعلم ، فلمّا استبطأت الشمس قامت تنظر فرمى بالصحيفة إليها .
قالوا : فأخذت بلقيس الكتاب وكانت كاتبة قارئةً عربيةً من قوم تبع بن شراحيل الحميري ، فلمّا رأت الخاتم ارتعدت وخضعت لأن ملك سليمان ( عليه السلام ) كان في خاتمه ، وعرفت أنّ الذي أرسل هذا الكتاب هو أعظم مُلْكاً منها ؛ لأن مَلِكاً رُسله الطير إنّه لمَلِك عظيم ، فقرأت الكتاب وتأخّر الهدهد غير بعيد فجاءت حتى قعدت على سرير ملكها وجمعت الملأ من قومها وهم اثنا عشر ألف قائد ، مع كلّ قائد مائة ألف مقاتل .
وقال قتادة ومقاتل والثمالي : كان أهل مشورتها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً كل رجل منهم على عشرة آلاف .
النمل : ( 29 ) قالت يا أيها . . . . .
قالوا : فجاؤوا وأخذوا مجالسهم فقالت لهم بلقيس : ) يا أيّها الملأ إنّي أُلقي إليَّ كتاب كريم ( .
قال قتادة : حسن ، نظيره قوله ) ومقام كريم ( .
(7/205)
" صفحة رقم 206 "
وقال ابن عباس : شريف بشرف صاحبه .
الضحاك : سمّته كريماً لأنّه كان مختوماً ، يدلّ عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن شاذان قال : حدّثنا جبعويه بن محمد قال : حدّثنا صالح بن محمد بن محمد بن مروان عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( كرامة الكتاب ختمهُ ) .
وأنبأني عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف قال : حدّثنا عمرو قال : حدّثني أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي قال : حدّثنا إسحاق بن منصور قال : حدّثنا معاذ بن هشام قال : حدّثني أبي عن قتادة عن أنس قال : لمّا أراد نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يكتب إلى العجم ، قيل له : أنّ العجم لا يقبلون إلاّ كتاباً عليه خاتم ، فاصطنع خاتماً ، فكأني انظر إلى بياضه في كفّه .
وقال ابن المقفّع : مَن كتب إلى أخيه كتاباً ولم يختمه فقد استخفّ به لأن الختم ختم ، وقيل : سمّته كريماً لأنّه كان مصدّراً ببسم الله الرَّحْمن الرحيم
النمل : ( 30 - 31 ) إنه من سليمان . . . . .
) إنّه مِن سليمان وانّه بسم الله الرحمن الرحيم أن لا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين ( وقرأ أشهب العقيلي : إلا تغلوا علىّ بالغين معجمة ، وأتوني مسلمين مؤمنين طائعين .
النمل : ( 32 ) قالت يا أيها . . . . .
) قالت يا أيّها الملأ ( قال ابن عباس : كان مع بلقيس مائة ألف قيل ، مع كلّ قيل مائة ألف ، والقيل تلك دون الملك الأعظم ) أفتوني في أمري ( أشيروا عليَّ فيما عرض لي وأجيبوني فيما أُشاوركم فيه ) ما كنت قاطعة ( قاضية وفاصلة ) أمراً حتى تشهدون ( تحضروني .
النمل : ( 33 ) قالوا نحن أولوا . . . . .
قالوا مجيبين لها ) نحن أولوا قوة ( في القتال ) وأُولُوا بأس شديد ( عند الحرب ) والأمر إليك ( أيتها الملكة ) فانظري ماذا تأمرين ( تجدينا لأمرك مطيعين .
النمل : ( 34 ) قالت إن الملوك . . . . .
فقالت بلقيس لهم حين عرضوا أنفسهم للحرب ) انّ الملوك إذا دخلوا قرية ( عنوة وغَلبة ) أفسدوها ( خرَّبوها ) وجعلوا أعزّة أهلها أذلة ( أي أهانوا أشرافها وكبراءها لكي يستقيم لهم الأمر ، وتناهى الخبر عنها هاهُنا فصدّق الله سبحانه قولها فقال ) وكذلك يفعلون ( .
أنشدني أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدني أبي رحمه الله :
انَّ الملوك بلاء حيث ما حلّوا
فلا يكن لك في أكنافهم ظل
ماذا تؤمّل من قوم إذا غضبوا
جاروا عليك وإن أرضيَتهم مَلّوا
وإن مدحتهمُ خالوك تخدعهم
واستثقلوك كما يُستثقل الكَلّ
فاستغن بالله عن أبوابهم أبداً
إنّ الوقوف على أبوابهم ذل
(7/206)
" صفحة رقم 207 "
النمل : ( 35 ) وإني مرسلة إليهم . . . . .
) وإنّي مرسلة إليهم بهديّة ( وذلك أنّ بلقيس كانت لبيبة قد سيست وساست ، فقالت للملأ من قومها : إنّي مرسلة إلى سليمان وقومه بهديّة أصانعه بذلك عن ملكي واختبرهُ بها أملك هو ؟ فإن يكن ملكاً قبل الهديّة وانصرف ، وإنْ يكن نبيّاً لم يقبل الهدية ولم يرضه منّا إلاّ أن نتّبعه على دينه ، فأهدت إليه وصيفاً ووصائف .
قال ابن عباس : ألبستهم لباساً واحداً حتى لا يعرف ذكر من أُنثى .
وقال مجاهد : أُلبس الغلمان لباس الجواري وأُلبس الجواري لبسة الغلمان ، واختلفوا في عددهم فقال مقاتل : مائة وصيف ومائة وصيفة . وقال مجاهد : مائتي غلام ومائتي جارية . وقال الكلبي : عشرة غلمان وعشر جواري . وقال وهب وغيره : خمسمائة غلام وخمسمائة جارية .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حنش قال : حدّثنا ابن فنجويه قال : حدّثنا سلمة قال : حدّثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن ثابت البناني في قوله ) وإني مرسلة إليهم بهدية ( قال : أهدت له صفائح ذهب في أوعية الديباج ، فلمّا بلغ ذلك سليمان أمر الجن فموّهوا له الآجرّ بالذهب ثم أمر به فأُلقي في الطريق ، فلمّا جاؤا رأوه ملقى في الطريق في كل مكان ، قالوا : قد جئنا نحمل شيئاً نراه ههنا ملقىً ما يُلتفت إليه ، فصغر في أعينهم ما جاؤوا به ، وقيل : كانت أربع لبنات من ذهب . وقال وهب وغيره من أهل الكتب : عمدت بلقيس إلى خمسمائة جارية وخمسمائة غلام فألبست الجواري لباس الغلمان ، الأقبية والمناطق ، وألبست الغلمان لباس الجواري ، وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب ، وفي أعناقهم أطواقاً من ذهب ، وفي آذانهم قُروطاً وشنوفاً مرصّعات بأنواع الجواهر ، وحُملَت الجواري على خمسمائة رَمكة والغلمان على خمسمائة برذون ، على كل فرس لجام من ذهب مرصّع بالجواهر وغواشيها من الديباج الملونة ، وبعثت إليه أيضاً خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة لبنة من فضة وتاجاً مكلّلاً بالدرّ والياقوت المرتفع وأرسلت إليه أيضاً المسك والعنبر وعود الالنجوج ، وعمدت إلى حقّة فجعلت فيها دّرة يتيمة غير مثقوبة وخرزة جزعية مثقوبة معرجة الثقب ، ودَعت رَجُلاً من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو وضمّت إليه رجالاً من قومها أصحاب رأي وعقل وكتبت معه كتاباً نسخة الهدية وقالت : إن كنت نبيّاً فميّز بين الوصفاء والوصيفات ، وأخبرْ بما في الحقّة قبل أن تفتحها وأثقب الدرّة ثقباً مستوياً وأدخل خيطاً .
الخرزة وأمرت بلقيس الغلمان فقالت : إذا كلّمكم سليمان فكلّموه بكلام فيه تأنيث وتخنيث شبه كلام النساء ، وأمرت الجواري أن يكلّمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال ، ثمَّ قالت للرسول : انظر إلى الرجل إذا دخلت عليه ، فإن نظر إليك نظرَ غَضَب فاعلم أنّه ملك ولا يهولنّك منظره فأنا أعزّ منه ، وإن رأيت الرجل بشّاً لطيفاً فاعلم أنّه نبي مُرسَل فتفهّم قوله وَرُدّ الجواب .
فانطلق الرسول بالهدايا وأقبل الهدهد مسرعاً إلى سليمان ( عليه السلام ) فأخبره الخبر كلّه ،
(7/207)
" صفحة رقم 208 "
فأمر سليمان ( عليه السلام ) الجنّ أن يضربوا لبنات الذهب والفضة ففعلوا ، ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى تسع فراسخ ميداناً واحداً بلبنات الذهب والفضة ، وأن يجعلوا حول الميدان حائطاً شُرفها من الذهب والفضة ففعلوا ، ثم قال : أيّ الدوابّ أحسن ممّا رأيتم في البرّ والبحر ؟ قالوا : يا نبي الله إنّا رأينا دوابّ في بحر كذا وكذا منمّرة منقطعة مختلفة ألوانها ، لها أجنحة وأعراف ونواصي . قال : عليَّ بها الساعة ، فأَتوا بها ، فقال : شدّوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضّة ، وألقوا لها علوفها .
ثم قال للجنّ : عليّ بأولادكم ، فاجتمع خلق كثير فأقامهم على يمين الميدان ويساره ، ثم قعد سليمان ( عليه السلام ) في مجلسه على سريره ووُضع له أربعون ألف كرسي عن يمينه ومثلها عن يساره ، وأمر الشياطين أن يصطفّوا صفوفاً فراسخ ، وأمر الإنس فاصطفّوا فراسخ ، وأمر الوحش والسباع والهوامّ والطير فاصطفّوا فراسخ عن يمينه ويساره .
فلمّا رأى القوم الميدان ونظروا إلى ملك سليمان ( عليه السلام ) ورأوا الدوابّ التي لم تر أعينهم مثلها تروث على لبنات الذهب والفضة ، تقاصرت إليهم أنفسهم وبقوا بما معهم من الهدايا .
وفي بعض الروايات أن سليمان ( عليه السلام ) لمّا أمر بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعاً على قدر موضع اللبنات التي معهم ، فلما رأى الرسل موضع اللبنات خالياً وكلّ الأرض مفروشة خافوا أن يتّهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان .
قالوا : ثم جاؤوا ، فلمّا رأوا الشياطين نظروا إلى موضع عجيب ففزعوا فقال لهم الشياطين : جوزوا فلا بأس عليكم ، فكانوا يمرّون على كردوس كردوس من الجن والإنس والطير والسباع والوحش حتى وقفوا بين يدي سليمان ( عليه السلام ) فنظر إليهم سليمان نظراً حسناً بوجه طَلِق وقال : ما وراءكم ؟ فأخبرهُ رئيس القوم بما جاؤوا له وأعطاه كتاب الملكة فنظر فيه فقال : أين الحُقّة فأتى به فحرّكها ، وجاءه جبرئيل ( عليه السلام ) فأخبره بما في الحُقّة فقال : إنَّ فيها درة يتيمة غير مثقوبة وجزعة مثقوبة معوجّة الثقب ، فقال الرسول : صدقت فاثقب الدّرة وأدخل الخيط في الخرزة فقال سليمان ( عليه السلام ) : من لي بثقبها ؟ فسأل سليمان الإنس فلم يكن عندهم علم ذلك ، ثمَّ سأل الجانّ فلم يكن عندهم علم ذلك ، ثم سأل الشياطين فقالوا : ترسل إلى الأرضة فجاءت الأرضة وأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر فقال لها سليمان ( عليه السلام ) : حاجتك ؟ فقالت : تصيّر رزقي في الشجرة فقال : لك ذاك ، ثمَّ قال : مَن لهذه الخرزة يسلكها ؟ الخيط فقالت دودة بيضاء : أنا لها يا رسول الله ، فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر ، فقال سليمان : حاجتك ؟ قالت : تجعل رزقي في الفواكه قال : لك ذاك ، ثمَّ ميز بين الجواري والغلمان بأن
(7/208)
" صفحة رقم 209 "
أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم فكانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعله على اليد الأُخرى ثم تضرب به على الوجه ، والغلام كان يأخذهُ من الآنية يضرب به وجهه ، وكانت الجارية تصبّ على باطن ساعدها ، والغلام على ظهر الساعد ، وكانت الجارية تصب الماء صبّاً ، وكان الغلام يحدر الماء على يده حدراً ، فميّز بينهنَّ بذلك ثم ردّ سليمان ( عليه السلام ) الهديّة .
النمل : ( 36 ) فلما جاء سليمان . . . . .
) وقال أتمدونني بمال ( اختلف القُرّاء فيه فقرأ حمزة ويعقوب أتمدّونّي بنون واحدة مُشدَّدة ، غيرهما بنونين خفيفتين وحذف الياء ، ابن عامر وعاصم والكسائي وخلف ، الباقون بإثباته .
) فما آتاني الله خيرٌ مما آتايكم بل أنتم بهديتكُم تفرحون ( لأنّكم أهل مفاخرة الدنيا والمكابرة بها ولا تعرفون غير ذلك ، وليست الدنيا من حاجتي لأن الله سبحانه قد مكّنني منها وأعطاني فيها ما لم يعط أحداً ومع ذاك أكرمني بالدين والنبوّة والحكمة ، ثمَّ قال للمنذر بن عمرو آمر الوفد
النمل : ( 37 ) ارجع إليهم فلنأتينهم . . . . .
) ارجع إليهم ( بالهدية ) فلنأتينّهم بجنود لا قِبَل ( لا طاقة ) لهم بها ولنخرجنهم منها ( أي من أرضها وملكها ) أذلّة وهم صاغرون ( ذليلون إن لم يأتوني مسلمين .
قال وهب وغيرهُ مِن أهل الكتب : لما رجعت رُسل بلقيس إليها من عند سليمان ( عليه السلام ) قالت : قد والله عرفت ما هذا بمَلِك ، وما لنا به طاقة ، وما نصنع بمكاثرته شيئاً ، فبعثت إلى سليمان : إنّي قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك ، ثم أمرت بعرشها فجُعل في آخر سبعة أبيات بعضها في بعض ، في آخر قصر من سبع قصور لها ، ثم أغلقت دونه الأبواب ووكلت به حرّاساً يحفظونه ثمَّ قالت لمن خلّفت على سلطانها : احتفظ بما قبلك وسرير ملكي ، فلا يخلص إليه أحد ولا يزيّنه حتى آتيك ، ثم أمرت منادياً فنادى في أهل مملكتها يؤذنهم بالرحيل ، وشخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن تحت يدي كل قيل أُلوف كثيرة .
قال ابن عباس : وكان سليمان رجلاً مهيباً لا يبتدئ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه ، فخرج يوماً فجلس على سرير ملكه فرأى رهجاً قريباً منه فقال : ما هذه ؟ .
قالوا : بلقيس يا رسول الله .
قال : ( وقد نزلت منّا بهذا المكان ؟ )
النمل : ( 38 ) قال يا أيها . . . . .
قال ابن عباس : وكان ما بين الكوفة والحيرة قدر فرسخ فأقبل حينئذ سليمان على جنوده فقال ) أيّكم يأتيني بعَرشها قبل أن يأتوني مسلمين ( أي مؤمنين . وقال ابن عباس : طائعين . واختلف أهل العلم في السبب الذي لأجله أمر سليمان ( عليه السلام ) بإحضار العرش فقال أكثرهم : لأن سليمان ( عليه السلام ) علم أنها إن أسلمت حُرم عليه ما لها فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يُحرم عليه أخذه بإسلامها
(7/209)
" صفحة رقم 210 "
وقال قتادة : لأنه أعجبته صفته لمّا وصفه الهدهد فأحبَّ أن يراه .
وقال ابن زيد : أراد أن يختبر عقلها فيأمر بتنكيره لينظر هل تثبته إذا رأته أم تنكره ؟ وقيل : قدرة الله سبحانه وعظيم سلطانه في معجزه يأتي بها في عرشها .
النمل : ( 39 ) قال عفريت من . . . . .
) قال عفريت من الجنّ ( وهو المارد القَوي ، وفيه لغتان : عفريت وعفريه ، فمَن قال عفريت جمعه عفاريت ، ومَن قال عفرية جمعَه عفارت .
قال وهب : اسمه كوذى ، وقال شعيب الجبائي : كان اسم العفريت ذكوان ، وقال ابن عباس : العفريت : الداهية ، وقال الضحّاك : هو الخبيث . ربيع : الغليظ . الفَراء : القوىّ الشديد . الكسائي : المنكر ، وأنشد :
فقال شيطان لهم عفريت
مالَكمُ مكث ولا تبييت
وقرأ أبو رجاء العطاردي قال : عفريه .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبيد الله بن عبد الله بن أبي سمرة البغوي قال : حدّثنا عبد الله بن محمد بن جعفر بن شاذان البغدادي قال : حدّثنا محمد بن الحسن بن سهل قال : حدّثنا عبد الرَّحْمن البحتري قال : حدّثنا عمرو بن عثمان قال : حدّثنا أبي عن عبد الله بن عبد العزيز القرشي عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبي بكر الصدّيق ح أنه كان يقرأ : قال عفريه من الجنّ والعفريه البكر بين البكرين لم يلد أبواه قبله شيئاً ولم يَلد هُوَ شيئاً .
) أنا اتيك به قبل أن تقوم من مقامك ( أي مجلسك الذي تقضي فيه ، قال ابن عباس : وكان له كلّ غداة مجلس يقضي فيه إلى منزع النهار .
) وإنّي عليه لقوي ( على حمله ) أمين ( على ما فيه من الجواهر ، فقال سليمان عليه السلام أُريد أسرع من هذا ،
النمل : ( 40 ) قال الذي عنده . . . . .
) قال الذي عنده علم من الكتاب ( واختلفوا فيه ، فقال بعضهم هو جبرئيل ( عليه السلام ) ملك من الملائكة أيّد الله عزّ وجلّ به نبيه سليمان عليه السلام .
وقال الآخرون : بل كان رجلاً من بني آدم .
ثمَّ اختلفوا فيه فقال أكثر المفسرين : هو آصف بن برخيا بن شمعيا بن ميكيا وكان صدّيقاً يعلم الاسم الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سُئل به أُعطي .
أخبرني ابن فنجويه قال : أخبرنا مخلد بن جعفر الباقرحي قال : حدّثنا الحسن بن علوية قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا إسحاق بن بشر قال : حدّثنا جويبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال : إنّ آصف قال لسليمان ( عليه السلام ) حين صلّى ودعا الله سبحانه
(7/210)
" صفحة رقم 211 "
مُدّ عينيك حتى ينتهي طرفك قال : فمدّ سليمان ( عليه السلام ) عينه فنظر نحو اليمن ودعا آصف ، فبعث الله الملائكة فحملوا السرير من تحت الأرض يخدّون الأرض خدّاً حتى انخرقت الأرض بالسرير بين يدي سليمان ( عليه السلام ) .
واختلف العلماء في الدعاء الذي دعا به آصف عند الإتيان بالعرش ، فروت عائشة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن اسم الله الأعظم الذي دعا به آصف ( يا حيّ يا قيّوم ) .
وروى عثمان بن مطر عن الزهري قال : دعاء الذي عنده علم من الكتاب ( يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلاّ أنت ائتني بعرشها ) قال : فمثل له بين يديه . وقال مجاهد : يا ذا الجلال والإكرام . وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا طلحة بن محمد بن جعفر وعبيد الله بن أحمدبن يعقوب قالا : حدّثنا أبو بكر بن مجاهد قال : حّدثنا إسماعيل عن عبد الله بن إسماعيل عن ابن زيد قال : الذي عنده علم من الكتاب رجل صالح كان في جزيرة من جزائر البحر فخرج ذلك اليوم ينظر مَن ساكن الأرض ؟ وهل يعبد الله عزَّوجل أم لا يعبد ؟ فوجد سليمان ( عليه السلام ) فدعا باسم من أسماء الله فإذا هو بالعرش حُمل فأتى به سليمان من قبل إنْ يرتدّ إليه طرفه .
وبه عن مجاهد قال : حدّثني البزي وابن حرب قال : حدّثنا أبو حذيفة قال : حدّثنا شبل قال : زعم ابن أبي بزة أن اسم الذي عنده علم من الكتاب اسطوم ، وقال بعضهم : كان رجل من حمير يقال له : ضبّة .
وقال قتادة : كان إسمه بليحا ، وقال محمد بن المنكدر : إنما هو سليمان أما إن الناس يرون أنّه كان معه اسم وليس ذلك كذلك ، إنّما كان رجل عالم من بني إسرائيل آتاه الله علماً وفقهاً فقال : أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك ، قال سليمان ( عليه السلام ) : هات ، فقال : أنت النبي ابن النبي وليس أحد أوجه عند الله منك ولا أقدر على حاجته فإن دعوت الله ، وطلبت إليه كان عندك .
قال : صدقت ففعل ذلك فجيء بالعرش في الوقت .
وقوله ) قبل أن يرتدّ إليك طرفك ( اختلفوا في معناه فقال سعيد بن جبير : يعني قبل أن يرجع إليك أقصى من تركت ، وهو أن يصل إليك من كان منك على مَدّ بصرك . قتادة : قبل أن يأتيك الشخص من مد البصر .
وهب : تمد عينيك فلا ينتهي طرفك إلى مداه حتى أُمثّله بين يديك .
مجاهد : يعني إدامة النظر حتى يرتد الطرف خاسئاً
(7/211)
" صفحة رقم 212 "
وعنه أيضاً قال : يعني مدّ بصرك ما بينك وبين الحيرة ، وهو يومئذ في كندة .
وعن قتادة : هو أن يبعث رسولاً إلى منتهى طرفه فلا يرجع حتى يؤتى به .
فلمّا رآه يعني رأى سليمان ( عليه السلام ) العرش ) مستقرّاً عنده ( محمولاً إليه من مأرب إلى الشام في قدر ارتداد الطرف ) قال هذا من فضل ربّي ليبلوني أأشكر ( نعمته ) أم أكفر ( ها فلا أشكرها ) ومَن شكر فإنما يشكر لنفسه ( لم ينفع بذلك غير نفسه حيث استوجب بشكره تمام النعمة ودَوامَها ؛ لأنَّ الشكر قيد للنعمة الموجودة وصيد للنعمة المفقودة .
) وَمَن كَفَرَ فإنَّ ربّي غنىّ كريم ( بالإفضال على من كفر نعمه .
النمل : ( 41 ) قال نكروا لها . . . . .
) قال نكِّروا ( غيّروا ) لها عرشها ( فزيدوا فيه وأنقصوا منه واجعلوا أعلاه أسفله وأسفله أعلاه ) ننظر أتهتدي ( إلى عرشها فتعرفه ) أم تكون من الجاهلين ( به الذين لا يهتدون إليه ، وإنما حمل سليمان ( عليه السلام ) على ذلك ، كما ذكره وهب ومحمد بن كعب وغيرهما من أهل الكتب : إنَّ الشياطين خافت أن يتزوجها سليمان فتفشي إليه أسرار الجن ، ولا ينفكّون من تسخير سليمان وذرّيته من بعده ، فأرادوا أن يزهِّدوه فيها فأساؤوا الثناء عليها وقالوا : إنَّ في عقلها شيئاً وإنّ رجلها كحافر الحمار ، فأراد سليمان ( عليه السلام ) أن يختبر عقلها بتنكير عرشها ، وينظر إلى قدميها ببناء الصرح ،
النمل : ( 42 ) فلما جاءت قيل . . . . .
فلمّا جاءت بلقيس ) قيل ( لها ) أهكذا عرشك قالت كأنّهُ هو ( شبّهتهُ به وكانت قد تركته خلفها في بيت خلف سبعة أبواب مغلقة والمفاتيح معها فلم تقرّ بذلك ولم تنكر ، فعلم سليمان ( عليه السلام ) كمال عقلها .
قال الحسن بن الفضل : شبّهوا عليها فشَبّهت عليهم وأجابتهم على حسب سؤالهم ، ولو قالوا لها : هذا عرشك لقالت : نعم
فقال سليمان ( عليه السلام ) ) وأُوتينا العلم ( بالله وبقدرته على ما شاء مِن قبل هذه المرأة ) وَكنّا مسلمين ( هذا قول مجاهد
وقال بعضهم : معناه وأُوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة وقبل مجيئها ، وكنّا مسلمين طائعين خاضعين .
وقال بعضهم : هذا من قول بلقيس لمّا رأت عرشها عند سليمان ( عليه السلام ) قالت : عرفت هذه ، وأُوتينا العلم بصحة نبوة سليمان ( عليه السلام ) بالآيات المتقدمة مِن قبل هذه الآية وذلك بما اختبرت من أمر الهديّة والرُسل ، وكنّا مسلمين أي منقادين لك مطيعين لأمرك مِن قبل أن جئناك .
النمل : ( 43 ) وصدها ما كانت . . . . .
) وصدَّها ( ومنعها ) ما كانت تعبد من دون الله ( وهو الشمس بأن تعبد الله ، وعلى هذا القول يكون ) ما ( في محل الرفع .
(7/212)
" صفحة رقم 213 "
وقال بعضهم : معناه وصدَّها سليمان ما كانت تعبد من دون الله أي منعها ذلك وحال بينها وبينه ، ولو قيل : وصدّها الله ذلك بتوفيقها للإسلام لكان وجهاً صحيحاً ، وعلى هذين التأويلين يكون محل ) ما ( نصباً .
) إنّها كانت من قوم كافرين }
النمل : ( 44 ) قيل لها ادخلي . . . . .
) قيل لها ادخلي الصَرح ( الآية . وذلك أنَّ سليمان ( عليه السلام ) لما اقبلت بلقيس تريدهُ أمَرَ الشياطين فبنوا له صرحاً أي قصراً من زجاج كأنّه الماء بياضاً ، وقيل : الصرح صحن الدار ، وأجرى من تحته الماء وألقى فيه كل شيء من دواب البحر ، السمك وغيره ، ثمَّ وضع له سريرهُ في صدرها فجلس عليه وحلقت عليه الطير والجن والإنس وإنّما أمر ببناء هذا الصرح لأنَّ الشياطين قال بعضهم لبعض : سخّر الله لسليمان عليه السلام ما سخّر وبلقيس ملكة سبأ ينكحها فتلد له غلاماً فلا ننفك من العبودية أبداً ، فأرادوا أن يزهّدوه فيها فقالوا : إنَّ رِجلها رِجل حمار وإنها شَعْراء الساقين لأنّ أُمّها كانت من الجن فأرادَ أن يعلم حقيقة ذلك وينظر إلى قدميها وساقيها .
وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب بن منبّه قال : إنّما بنى الصرح ليختبر عقلها وفهمها ، يعاينها بذلك كما فعلت هي من توجيهها إليه الوصفاء والوصائف ليمّيز بين الذكور والإناث ، تعاينه بذلك ، فلمّا جاءت بلقيس قيل لها : ادخلي الصرح ) فلمّا رأته حَسبَتهُ لجّة ( وهي معظم الماء وقال ابن جريج : يعني بحراً .
) وكشفت عن ساقيها ( لتخوضه إلى سليمان عليه السلام ، فنظر سليمان فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً إلاّ أنّها كانت شعْراء الساقين ، فلمّا رأى سليمان ذلك صرف بصره عنها وناداها ) إنّه صرح ممّرد ( مملّس مستو ) من قوارير ( وليس ببحر ، فلمّا جلست قالت : يا سليمان إنّي أُريد أن أسألك عن شيء .
قال : سلي .
قالت : أخبرني عن ما ماء رُواء ولا من أرض ولا من سماء . وكان سليمان إذا جاءه شيء لا يعلمه سأل الإنس عنه ، فإن كان عندهم علم ذلك وإلاّ سأل الجن ، فإن علموا وإلاّ سأل الشياطين ، فسأل الشياطين عن ذلك فقالوا له : ما أهون هذا من الخيل فلْتجرِ ثم املأ الآنية من عَرَقها .
فقال لها سليمان : عرق الخيل ، قالت : صدقت ، ثم قالت : أخبرني عن لون الربّ ، فوثب سليمان عليه السلام عن سريره وخرَّ ساجداً وصعق عليه فقامت عنه وتفرّقت جنودُه وجاءهُ الرسول فقال : يا سليمان يقول لك ربك : ما شأنك ؟
قال : يا رب أنت أعلم بما قالت ، قال : فإن الله يأمرك أن تعود ألى سريرك وترسل إليها وإلى مَن حضرها من جنودك وجنودها فتسألها وتسألهم عمّا سألتك عنه ، ففعل ذلك سليمان ( عليه السلام ) ، فلمّا دخلوا عليه قال لها : عمّاذا سألتِني ؟
(7/213)
" صفحة رقم 214 "
قالت : سألتك عن ماء رواء ليس من أرض ولا سماء فأجبتَ .
قال : وعن أيّ شيء سألتِني أيضاً ؟
قالت : ما سألتك عن شيء إلاّ هذا فاسأل الجنود فقالوا مثل قولها ، أنساهم الله تعالى ذلك وكفى سليمان ( عليه السلام ) الجواب ، ثمَّ إن سليمان دَعَاها إلى الإسلام وكانت قد رأت حال العرش والصرح فأجابت وقالت ) رَبّ إنّي ظلمتُ نفسي ( بالكفر ) وأسلمتُ مع سليمان لله رَبّ العالمين ( فحسن إسلامها .
واختلف العلماء في أمرها بعد إسلامها فقال أكثرهم : لمّا أسلمت أراد سليمان أن يتزوجها ، فلمّا همَّ بذلك كره ما رأى من كثرة شعر ساقيها وقال : ما أقبح هذا فسأل الإنس : ما يذهب هذا ؟
قالوا : الموسى فقالت المرأة : لم تمسّني حديدة قطّ ، فكره سليمان الموسى وقال : إنّها تقطع ساقيها ، فسأل الجن فقالوا : لا ندري ، ثمَّ سأل الشياطين فتلكأوا ثمّ قالوا : انّا نحتال لك حتى تكون كالفضة البيضاء فاتخذوا لها النورة والحمّام .
قال ابن عباس : فإنّه لأول يوم رؤيت فيه النورة واستنكحها سليمان عليه السلام .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن أحمد بن نصرويه قال : حدّثنا محمد بن عمران ابن هارون قال : حدّثنا محمد بن ميمون المكي قال : حدّثني أبو هارون العطار عن أبي حفص الأبّار عن إسماعيل بن أبي بردة عن أبي موسى يبلغ به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أول من اتخذ الحمامات سليمان بن داود عليه السلام ، فلمّا ألزق ظهره إلى الجدر فمسّهُ حرّها قال : آوه مِن عذاب الله ) .
قالوا : فلما تزوّجها سليمان أحبّها حبّاً شديداً وأقرّها على ملكها وأمر الجن فابتنوا لها بأرض اليمن ثلاثة حصون لم ير الناس مثلها ارتفاعاً وحسناً وهي : سلحون وسون وعمدان ، ثم كان سليمان عليه السلام يزورها في كل شهر مرَّة بعد أن ردها إلى ملكها ، ويقيم عندها ثلاثة أيّام يبتكر من الشام إلى اليمن ومن اليمن إلى الشام ، وولدت له فيما ذكر .
وروى ابن أبي إسحاق عن بعض أهل العلم عن وهب قال : زعموا أنّ سليمان بن داود عليه السلام قال لبلقيس لمّا أسلمت وفرغ من امرها : اختاري رجلاً من قومك أُزّوجكه .
قالت : ومثلي يا نبي الله ينكح الرجال وقد كان لي في قومي من الملك والسلطان ما كان .
قال : نعم إنّه لا يكون في الإسلام إلاّ ذلك ولا ينبغي لكِ أنْ تحرّمي ما أحل الله لكِ .
(7/214)
" صفحة رقم 215 "
فقالت : زوّجني إنْ كان لابدّ من ذلك ذا تبّع ملك همذان فزّوجه إيّاها ثم ردّها إلى اليمن وسلّط زوجها ذا تبّع على اليمن ، ودعا زوبعة أمير جن اليمن فقال : اعمل لذي تبّع ما استعملك فيه .
قال : فصنع لذي تبع الصنائع باليمن ثم لم يزل بها يعمل له فيها ما أراد حتى مات سليمان ابن داود ( عليه السلام ) ، فلمّا أنْ حال الحول وتبيّنت الجن موت سليمان ( عليه السلام ) أقبل رَجُلٌ منهم فسلك تهامة حتى إذا كان في جوف اليمن صرخ بأعلى صوته : يا معشر الجن إنَّ الملك سليمان قد مات فارفعوا أيديكم قال : فعمدت الشياطين إلى حجرين عظيمين فكتبوا فيها كتاباً بالمسند نحن بنينا سلحين دائبين ( سبعة وسبعين خريفاً ) ، وبنينا صرواح ومرواح ( وبنيون وحاضة وهند وهنيدة ، وسبعة أمجلة بقاعة ، وتلثوم بريدة ، ولولا صارخ بتهامة لتركنا بالبون إمارة ، وقال وسلحين وصرواح ومرواح وبينون وهند وهنيدة وتلثوم حصون كانت باليمن عملتها الشياطين لذي تبع ) ، ثم رفعوا أيديهم وانطلقوا وتفرّقوا وانقضى ملك ذي تبّع وملك بلقيس مع ملك سليمان ( عليه السلام ) .
2 ( ) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ قَالَ ياقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ قَالُواْ اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ وَكَانَ فِى الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِى الاَْرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُواْ إِنَّ فِى ذالِكَ لاََيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ( 2
النمل : ( 45 ) ولقد أرسلنا إلى . . . . .
) ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً أن ( يعني بأن ) اعبدوا الله ( وحده ) فإذا هم فريقان ( مؤمن وكافر ومصدّق ومكذّب ) يختصمون ( في الدين .
قال مقاتل : واختصامهم مُبَّين في سورة الأعراف وهو قوله ) قال الملأ الذين استكبروا من قومه ( إلى قوله ) يا صالح أئتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين ( .
النمل : ( 46 ) قال يا قوم . . . . .
فقال لهم صالح ) يا قوم لم تستعجلون بالسيّئة ( بالبلاء والعقوبة ) قبل الحسنة ( العافية والرحمة ، والاستعجال طلب التعجيل بالأمر ، وهو الإتيان به قبل وقته . ) لولا ( هلاّ ) تستغفرون الله ( بالتوبة من كفركم ) لعلّكم تُرحمون (
النمل : ( 47 ) قالوا اطيرنا بك . . . . .
) قالوا اطيّرنا ( تشاءمنا ، وأصله تطيّرنا ) بك
(7/215)
" صفحة رقم 216 "
وبمن معك ( وذلك أنّ المطر أمسك عنهم في ذلك الوقت وقحطوا فقالوا : أصابنا هذا الضرّ والشرّ من شؤمك وشؤم أصحابك ، وإنّما ذكر التطيّر بلفظ الشأم على عادة العرب ونسبتهم الشؤم إلى البارح ، وهو الطائر الذي يأتي من جانب اليد الشومى وهي اليسرى .
) قال طائركم ( من الخير والشر وما يصيبكم من الخصب والجدب ) عند الله ( بأمره وهو مكتوب على رؤوسكم ، لازم أعناقكم ، وليس ذلك إليَّ ولا علمه عندي .
) بل أنتم قوم تُفتنون ( قال ابن عباس : تُختبرون بالخير والشر ، نظيره ) ونبلوكم بالشرّ والخير فتنة ( .
الكلبي : تُفتنون حتى تجهلوا أنّه من عند الله سبحانه وتعالى .
محمد بن كعب : تُعذّبون بذنوبكم وقيل : تمتحنون بإرسالي إليكم لتثابوا على طاعتكم ومتابعتي ، وتعاقبوا على معصيتي ومخالفتي .
النمل : ( 48 ) وكان في المدينة . . . . .
) وكان في المدينة ( يعني مدينة ثمود وهي الحجر ) تسعة رهط ( من أبناء أشرافهم ) يُفسدون في الأرض ولا يصلحون ( وأسماؤهم قدار بن سالف ومصدع بن دهر وأسلم ورهمى وبرهم ودعمى وعيم وقتال وصَداف .
النمل : ( 49 ) قالوا تقاسموا بالله . . . . .
) قالوا تقاسموا ( تحالفوا ) باللّه ( أيّها القوم وموضع تقاسموا جزم على الأمر كقوله ) بعضهم لبعض ( وقال قوم من أهل المعاني : محله نصب على الفعل الماضي يعني انهم تحالفوا وتواثقوا ، تقديره : قالوا متقاسمين بالله ، ودليل هذا التأويل أنّها في قراءة عبد الله : ولا يصلحون تقاسموا بالله ، وليس فيها قالوا .
) لنبيتنّه وأهله ( من البيات فلنقتله ، هذه قراءة العامة بالنون فيهما واختيار أبي حاتم ، وقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي : لتبيّتنّه ولتقولنّ بالتاء فيهما وضم التاء واللام على الخطاب واختاره أبو عبيد ، وقرأ مجاهد وحميد بالتاء فيهما وضم التاء واللام على الخبر عنهم .
ثم ) ثم ليقولن ما شهدنا ( ما حضرنا ) مهلك أهله ( أي إهلاكهم ، وقرأ عاصم برواية أبي بكر مهلك بفتح الميم واللام ، وروى حفص عنه بفتح الميم وكسر اللام ، وهما جميعاً بمعنى الهلاك ) وإنّا لصادقون ( في قولنا : إنّا ما شهدنا ذلك .
النمل : ( 50 ) ومكروا مكرا ومكرنا . . . . .
) ومكروا مكراً ( وغدروا غدراً حين قصدوا تبييت صالح والفتك به ) ومكرنا مكراً ( وجزيناهم على مكرهم بتعجيل عقوبتهم ) وهم لا يشعرون }
النمل : ( 51 ) فانظر كيف كان . . . . .
) فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنّا ( قرأ الحسن والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي أَنّا بفتح الالف ولها وجهان :
(7/216)
" صفحة رقم 217 "
أحدهما : أن يكون أنّا في محلّ الرفع ردّاً على العاقبة .
والثاني : النصب على تكرير ( كان ) تقديره : كان عاقبة مكرهم التدمير ، واختار أبو عبيد هذه القراءة اعتبار الحرف أي أنْ دمرناهم ، وقرأ الباقون : إنّا بكسر الألف على الابتداء .
) دَمّرناهم ( يعني أهلكنا التسعة ، واختلفوا في كيفية هلاكهم .
فقال ابن عباس : أرسل سبحانه الملائكة فامتلأت بهم دار صالح فأتى التسعة الدار شاهرين سيوفهم فرمتهم الملائكة بالحجارة من حيث يرون الحجارة ولا يرون الملائكة فقتلتهم .
قال قتادة : خرجوا مسرعين إلى صالح فسلَّط الله عليهم صخرة فدمغتهم .
مقاتل : نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضا ليأتوا دار صالح ، فجثم عليهم الجبل فأهلكهم .
السدّي : خرجوا ليأتوا صالحاً فنزلوا خرقاً من الأرض يتمكنون فيه فانهار عليهم .
) وقومهم أجمعين ( بالصيحة وقد مضت القصة .
النمل : ( 52 ) فتلك بيوتهم خاوية . . . . .
) فتلك بيوتهم خاوية ( خالية ، قراءة العامّة بالنصب على الحال عن الفرّاء والكسائي وأبو عبيدة عن القطع مجازه : فتلك بيوتهم الخاوية ، فلمّا قطع منها الألف واللام نصبت كقوله سبحانه ) وله الدين واصباً ( وقرأ عيسى بن عمر ) خاوية ( بالرفع على الخبر ) بِمَا ظَلَمُوا ( أي بظلمهم ) إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ( لعبرة ) لِقَوْم يَعلَمونَ (
النمل : ( 53 ) وأنجينا الذين آمنوا . . . . .
) وأَنْجَيْنا الذين آمَنُوا وَكَانوا يَتَّقُوْن ( من صيحة جبريل ، والخراج الذي ظهر بأيديهم .
قال مقاتل : خرج أوّل يوم على أيديهم مثل الحمّصة أحمر ثمّ اصفرّ من الغد ، ثمّ اسودّ اليوم الثالث ، ثمّ تفقّأت ، وصاح جبريل ( عليه السلام ) في خلال ذلك فخمدوا ، وكانت الفرقة المؤمنة الناجية أربعة آلاف ، خرج بهم صالح إلى حضرموت ، فلمّا دخلها صالح مات ، فسمّي ( حضر موت ) .
قال الضحّاك : ثمّ بنى الأربعة آلاف مدينة يقال لها : ( حاضورا ) وقد مضت القصّة جميعاً .
2 ( ) وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ أَءِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن
(7/217)
" صفحة رقم 218 "
دُونِ النِّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُواْ ءَالَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ( 2
النمل : ( 54 ) ولوطا إذ قال . . . . .
) وَلُوطاً إذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أتَأتُونَ الفَاحِشَةَ ( وهي الفعلة القبيحة الشنيعة ) وَأ نْتُمْ تُبْصِرُون ( أنّها فاحشة ، وقيل : يرى بعضكم بعضاً . كانوا لا يتستّرون عتوّاً منهم وتمرّداً
النمل : ( 55 - 56 ) أئنكم لتأتون الرجال . . . . .
) أئِنَّكُمْ لَتَأتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إلاَّ أنْ قَالُوا أخْرِجُوا آلَ لُوط مِنْ قَرْيَتِكُمْ إنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ( من أدبار الرجال ، يقولونه استهزاءً منهم بهم
النمل : ( 57 ) فأنجيناه وأهله إلا . . . . .
) فَأنجَيْنَاهُ وَأهْلَهُ إلاَّ امْرَأتَهُ ( وأهله ) قدَّرناها ( قضينا عليها أنها ) مِنَ الغَابِرِينَ ( أي الباقين في العذاب وقال أهل المعاني : معنى ) قَدَّرْنَاهَا ( جعلناها ) مِنَ الغَابِرِينَ ( وإنّما قال ذلك لأنّ جرمها على مقدار جرمهم ، فلمّا كان تقديرها كتقديرهم في الشرك والرضى بأفعالهم القبيحة ، جرت مجراهم في إنزال العذاب بها
النمل : ( 58 - 59 ) وأمطرنا عليهم مطرا . . . . .
) وَأمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ ( أي على شذّادها ) مَطَرَاً ( وهو الحجارة ) فَسَاءَ مَطَرُ المُنذَرِينَ قُلِ الحَمْدُ للهِ ( قال الفرّاء : قيل للوط : ) قُلِ الحَمْدُ للهِ ( على هلاك كفار قومي .
وقال الباقون : الخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعني و ) قُلِ الحَمْدُ للهِ ( على هلاك كفّار الأُمم الخالية ، وقال مقاتل : على ما علّمك هذا الأمر . الآخرون : على جميع نعمه .
) وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ( لرسالاته وهم الأنبياء ( عليهم السلام ) ، عن مقاتل دليله قوله : ) وَسَلامٌ عَلَى المُرْسَلِيْن ( وأخبرني عبدالله بن حامد قال : أخبرنا السدي . قال : حدّثنا أحمد بن نجدة . قال : حدّثنا الحماني . قال : حدّثنا الحكم بن طهر ، عن السدّي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس ) وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ( قال : أصحاب محمّد ( عليه السلام ) . وأخبرني عبدالرحيم بن إبراهيم بن محمّد العدل بقراءتي عليه ، قال : أخبرني عبدالله بن محمّد بن مسلم ، فيما أجازه لي أنّ محمّد بن إدريس حدّثهم ، قال : حدّثنا الحميدي . قال : سمعت سفيان سُئل عن ) عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ( قال : هم أصحاب محمّد .
وقال الكلبي : هم أُمّة محمّد اصطفاهم الله لمعرفته وطاعته ، ثمّ قال إلزاماً للحجّة : ) ءَأَللهُ ( القراءة بهمزة ممدودة وكذلك كلّ إستفهام فيه ألف وصل ، مثل قوله : ( آلذين وآلآن ) جعلت المدّة علماً بين الاستفهام والخبر ، ومعنى الآية : الله الذي صنع هذه الأشياء ) خيرٌ أمّا يشركون ( من الأصنام ، وقرأ عاصم وأهل البصرة ( بالياء ) ، الباقون ( بالتاء ) ، وكان النبي ( عليه
(7/218)
" صفحة رقم 219 "
السلام ) إذا قرأ هذه الآية قال : ( بل الله خيرٌ وأبقى وأجلّ وأكرم ) .
2 ( ) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّن جَعَلَ الاَْرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَءِلاهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الاَْرْضِ أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِى ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والاَْرْضِ أَءِلَاهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَاواتِ والاَْرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ بَلِ ادَارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الاَْخِرَةِ بَلْ هُمْ فِى شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ ( 2
النمل : ( 60 ) أم من خلق . . . . .
) أَمّن ( قال أبو حاتم : فيه إضمار كأنّه قال : آلهتكم خير أم الذي ) خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَأنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأ نْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَة ( حُسْن .
) مَا كَانَ لَكُمْ أنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا ( هو ( ما ) النفي ، يعني ما قدرتم عليه ) أَءِلهٌ مَعَ اللهِ ( يعينه على ذلك ، ثمّ قال : ) بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُوْن ( يشركون
النمل : ( 61 ) أم من جعل . . . . .
) أمّن جَعَلَ الأَرضَ قَرَاراً ( لا تميد بأهلها ) وَجَعَلَ خِلاَلَها ( وسطها ) أَنْهاراً ( تطّرد بالمياه ) وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ ( جبالا ثوابت ) وَجَعَلَ بَيْنَ البَحْرَيْنِ ( العذب والملح ) حَاجِزاً ( مانعاً لئلاّ يختلطا ولا يبغي أحدهما على صاحبه ، وقيل : أراد الجزائر ) أَءِلَهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (
النمل : ( 62 ) أم من يجيب . . . . .
) أمَّنْ يُجِيبُ المُضطَرَّ إذَا دَعَاه ( أي المجهود ، عن ابن عباس وقال السدّي : المضطرّ الذي لا حول له ولا قوّة ، ذو النون هو الذي قطع العلائق عمّا دون الله ، أبو حفص وأبو عثمان النيسابوريّان : هو المفلس .
وسمعت أبو القاسم الحسن بن محمّد يقول : سمعت أبا نصر منصور بن عبدالله الأصبهاني يقول : سمعت أبا الحسن عمر بن فاضل العنزي يقول : سمعت سهل بن عبدالله التستري يقول : ) المضطرّ ( الذي إذا رفع يديه إلى الله داعياً لم يكن له وسيلة من طاعة قدّمها ) وَيَكْشِفُ السُّوْء ( أي الضرّ ) وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ ( يهلك قرناً وينشئ آخرين ) أإلَهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ (
النمل : ( 63 ) أم من يهديكم . . . . .
) أمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْر ( إذا سافرتم .
) وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِه ( قدّام رحمته ) أإلَهٌ مَعَ اللهِ تَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (
النمل : ( 64 ) أم من يبدأ . . . . .
) أمَّنْ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه ( للبعث ) وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاء ( المطر ) وَالأَرْضِ ( النبات ) أإلَهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُم ( حجّتكم على قولكم إنّ مع الله إلهاً آخر ) إنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (
النمل : ( 65 ) قل لا يعلم . . . . .
) قُل
(7/219)
" صفحة رقم 220 "
لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ الغَيْبَ إلاَّ اللهُ ( نزلت في المشركين حيث سألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن وقت قيام الساعة .
قال الفرّاء : وإنّما رفع ما بعد ) إلاّ ( لأنّ قبلها جحداً كما يقال : ما ذهب أحد إلاّ أبوك ) وَمَا يَشْعُرُونَ أيَّانَ ( متى ) يُبْعَثُون ( قالت عائشة : مَن زعم أنّه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية ، والله عزّ وجل يقول : ) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ الغَيْبَ إلاَّ الله ( .
أخبرنا أبو زكريا الحري قال : أخبرنا أبو حامد الأعمشي قال : حدّثنا علي بن حشرم قال : حدّثنا الفضل بن موسى ، عن رجل قد سمّاه قال : كان عند الحجّاج بن يوسف منجّم ، فأخذ الحجّاج حصيّات بيده قد عرف عددها فقال للمنجّم : كم في يدي ؟ فحسب ، فأصاب المنجّم ، ثمّ اعتقله الحجّاج فأخذ حصيات لم يعددهنّ ، فقال للمنجّم : كم في يدي ؟ فحسب ، فحسب ، فأخطأ ثمّ حسب أيضاً ، فأخطأ ، فقال : أيّها الأمير أظنّك لا تعرف عددها في يدك . قال : فما الفرق بينهما ؟ قال : إنّ ذاك أحصيته فخرج من حدّ الغيب ، فحسبت فأصبت ، وإنّ هذا لم تعرف عددها ، فصار غيباً ، ولا يعلم الغيب إلاّ الله عزّ وجل .
النمل : ( 66 ) بل ادارك علمهم . . . . .
) بَلِ ادّارَكَ ( اختلف القرّاء فيه ، فقرأ ابن عباس بلى بإثبات الياء ) ادّارَك ( بفتح الألف وتشديد الدال على الاستفهام .
روى شعبة عن أبي حمزة قال : قال لي ابن عبّاس : في هذه الآية ) بَلْ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَة ( أي لم يدرك ، قال الفرّاء : وهو وجه جيّد كأنّه يوجّهه إلى الاستهزاء بالمكذّبين بالبعث ، لقولك للرجل تكذّبه : بلى لعمري لقد أدركت السلف فأنت تروي ما لا تروي ، وأنت تكذّبه . وقرأ الحسن ويحيى بن وثاب والأعمش وشيبة ونافع وعاصم وحمزة والكسائي ) بل ادّارك ( بكسر اللام وتشديد الدال أي تدارك وتتابع ) عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَة ( هل هي كائنة أم لا ؟ وتصديق هذه القراءة أنّها في حرف أُبي أم تدارك ) عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَة ( والعرب تضع بل موضع أم ، وأم موضع بل إذا كان في أوّل الكلام استفهام كقول الشاعر :
فوالله ما أدري أسلمى تغوّلت
أم البوم أم كلٌّ إلي حبيب
أي بل كلٌّ إليّ حبيب ، ومعنى الكلام هل تتابع علمهم بذلك في الآخرة ، أي لم يتتابع فصل وغاب علمهم به فلم يبلغوه ولم يدركوه ؛ لأنّ في الاستفهام ضرباً من الجحد ، وقرأ أبو جعفر ومجاهد وحميد وابن كثير وأبو عمرو ) بل ادّارك ( من الادّراك أي لم يدرك علمهم علم في الآخرة ، وقال مجاهد : معناه يدرك علمهم في الآخرة ويعلمونها إذا عاينوها حين لا ينفعهم علمهم لأنّهم كانوا في ( الأنبياء ) مكذّبين ، وقيل بل ضلّ وغاب علمهم في الآخرة فليس فيها لهم علم ، ويقال : اجتمع علمهم في الآخرة أنّها كائنة وهم في شكّ من وقتهم .
(7/220)
" صفحة رقم 221 "
) بَلْ هُمْ فِي شَكَ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُوْن ( أي ( جهلة ) واحدها عمي ، وقرأ سليمان بن يسار وعطاء بن يسار ) تدارك ( غير مهموزة ، وقرأ ابن محيض ) بل أءدّرك ( على الاستفهام ، أي لم تدرك ، وحمل القول فيه أنّ الله سبحانه أخبر رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) أنّهم إذا بعثوا يوم القيامة استوى علمهم بالآخرة وما وعدوا فيه من الثواب والعقاب ، وإنْ كانت علومهم مختلفة في الدنيا وإنْ كانوا في شكّ من أمرها بل جاهلون به .
وسمعت بعض العلماء يقول في هذه الآية : إنّ حكمها ومعناها لو ادّارك علمهم في ما هم في شكّ منها حيث هم منها عمون على تعاقب الحروف .
( ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً وَءَابَآؤُنَآ أَءِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَاذَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاَْوَّلِينَ قُلْ سِيرُواْ فِى الاَْرْضِ فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُن فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِى تَسْتَعْجِلُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ فِى السَّمَآءِ وَالاَْرْضِ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ إِنَّ هَاذَا الْقُرْءَانَ يَقُصُّ عَلَى بَنِىإِسْرَاءِيلَ أَكْثَرَ الَّذِى هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ إِن رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ وَمَآ أَنتَ بِهَادِى الْعُمْىِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِئَايَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ ( 2
النمل : ( 67 ) وقال الذين كفروا . . . . .
) وقال الذين كفروا ( يعني مشركي مكة ) إذا كُنّا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرجون ( من قبورنا أحياء
النمل : ( 68 ) لقد وعدنا هذا . . . . .
) لقد وُعدنا هذا ( البعث ) نحن وآباؤنا مِن قبل ( وليس ذاك بشيء ) إن هذا إلاّ أساطير الأولين ( أحاديثهم وأكاذيبهم التي كتبوها .
النمل : ( 69 - 70 ) قل سيروا في . . . . .
) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ولا تحزن ( على تكذيبهم إيّاك عنك ) ولا تكن في ضيق ممّا يمكرون ( نزلت في المستهزئين الذين أقسموا بمكّه وقد مضت قصتّهم .
النمل : ( 71 - 72 ) ويقولون متى هذا . . . . .
) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل عسى أن يكون رَدِف لكم ( أي دَنا وقرب لكم ، وقيل : تبعكم .
وقال ابن عباس : حضركم ، والمعنى : ردفكم ، فأدخل اللام كما أُدخل في قوله : ) لربّهم يرهبون ( و ) للرؤيا تعبرون ( وقد مضت هذه المسألة .
قال الفرّاء : اللام صلة زائدة كما يقول تقديرها به ويقدر له ) بعض الذي تستعجلون ( من
(7/221)
" صفحة رقم 222 "
العذاب فحلّ بهم ذلك يوم بدر
النمل : ( 73 - 74 ) وإن ربك لذو . . . . .
) وإنَّ ربّك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون وإنَّ ربّك ليعلم ما تكن ( تخفي ) صدروهم وما يعلنون (
النمل : ( 75 ) وما من غائبة . . . . .
) وما من غائبة ( أي مكتوم سرّ وخفيّ أمر ، وإنما أدخل الهاء على الإشارة إلى الجمع .
) في السماء والأرض إلاّ في كتاب مبين ( وهو اللوح المحفوظ .
النمل : ( 76 ) إن هذا القرآن . . . . .
) انَّ هذا القرآن يقصّ على بني إسرائيل أكثر الذي فيهم يختلفون ( من أمر الدين
النمل : ( 77 - 78 ) وإنه لهدى ورحمة . . . . .
) وإنّه ( يعني القرآن ) لهدى ورحمة للمؤمنين إنّ ربك يقضي بينهم ( أي بين المختلفين في الدين يوم القيامة ) بحكمه وهو العزيز ( المنيع فلا يردّ له أمر ) العليم ( بأحوالهم فلا يخفى عليه شيء .
النمل : ( 79 ) فتوكل على الله . . . . .
) فتوكّل على الله إنّك على الحقّ المبين ( البيّن
النمل : ( 80 ) إنك لا تسمع . . . . .
) إنّك لا تسمع الموتى ( الكفار كقوله ) أفمن كان ميتاً فأحييناه ( وقوله ) ومايستوي الأحياء ولا الأموات ( .
) ولا تسمع الصم الدعاء اذا وَلوا مدبرين ( نظيره ) صمُّ بكم عمي ( .
النمل : ( 81 ) وما أنت بهادي . . . . .
) وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم ( قراءة العامة على الاسم ، وقرأ يحيى والأعمش وحمزة يهدي العمى بالياء ونصب الياء على الفعل ههنا وفي سورة النمل ) إنْ تُسمع ( وتفهم ) إلا من يؤمن بآياتنا ( بأدلّتنا وحجتنا ) فهم مسلمون ( في علم الله سبحانه وتعالى .
2 ( ) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَآبَّةً مِّنَ الاَْرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِئَايَاتِنَا لاَ يُوقِنُونَ ( 2
النمل : ( 82 ) وإذا وقع القول . . . . .
) وإذا وقع القول ( وَجَب العذاب والسخط ) عليهم أخرجنا لهم دابةَ من الأرض تكلّمهم ( قراءة العامة بالتشديد من التكلم وتصديقهم ، وقرأ أُبيّ : تنبئهم .
قال السدي : تكلّمهم ببطلان الاديان سوى دين الإسلام ، وقرأ أبو رجاء العطاردي : تكلمهم بفتح التاء وتخفيف اللام من الكلم وهو الحرج أي تسمهم .
قال أبو الجوزاء : سألت ابن عباس عن هذه الآية يكلّمهم أو تكلمهم فقال : كل ذلك يفعل تكلم المؤمن ويكلم الكافر . ) إنّ الناس ( قرأ ابن أبي إسحاق وأهل الكوفة بالنصب وقرأ الباقون بالكسر .
) كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ( قبل خروجها .
(7/222)
" صفحة رقم 223 "
ذكْر الأَخبار الواردة في صفة دابّة الأرض وكيفية خروجها
أخبرنا الشيخ أبو محمد عبدالله بن حامد الأصبهاني قال : أخبرنا محمد بن إسحاق ، قالحدّثنا عبدالله بن محمّد بن رسموية قال : حدّثنا الحكم بن بشير بن سليمان ، عن عمرو بن قيس الملائي ، عن عطية ، عن ابن عمر ) وَإذَا وَقَعَ القَوْلُ عَلَيْهِمْ أخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّمُهُمْ ( قال : حين لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر .
وأخبرنا عبدالله بن حامد الأصفهاني عن أحمد بن عبدالله بن سليمان قال : أخبرني أبو عبدالله بن فنجويه قال : أخبرنا أبو بكر بن خرجة حدّثنا محمّد بن عبدالله بن سليمان الحضرمي عن ميثم بن ميناء الجهني عن عمرو بن محمّد العبقري عن طلحة بن عمرو عن عبدالله بن عمير الليثي عن أبي شريحة الأنصاري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه قال : ( يكون للدّابة ثلاث خرجات من الدهر فتخرج خروجاً بأقصى اليمن فيفشو ذكرها بالبادية ولا يدخل ذكرها القرية يعني مكّة ثمّ يمرّ زماناً طويلا ثمّ تخرج خرجة أخرى قريباً من مكّة فيفشو ذكرها بالبادية ويدخل ذكرها القرية يعني مكّة فبينا الناس يوماً في أعظم المساجد على الله حرمة وأكرمها على الله سبحانه يعني المسجد الحرام لم ترعهم إلاّ وهي في ناحية المسجد تدنو تدنو كذا ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط من ذلك فيرفض الناس عنهم وتثبت لها عصابة عرفوا أنّهم لم يعجزوا الله فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت بهم فجلت عن وجوههم حتى تركتها كأنّها الكواكب الدرّية ثم ولّت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب ، حتى أنّ الرجل ليقوم فيتعوّذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول : يا فلان الآن تصلّي ، فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه ، ويتجاور الناس في ديارهم ويصلحون في أسفارهم ويشتركون في الأموال يُعرف الكافر من المؤمن فيقال : للمؤمن يا مؤمن وللكافر يا كافر ) .
وأخبرني ابن محمّد بن الحسين الثقفي عن عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي عن محمّد بن عبدالغفّار الزرقاني عن أحمد بن محمّد بن هاني الطائي عن محمّد بن النضر بن محمّد الأودي عن أبيه عن سفيان الثوري عن شهاب بن عبدربّه الرحمن عن طارق بن عبدالرحمن عن طارق بن عبدالرحمن عن ربعي بن خراش عن حذيفة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( دابّة الأرض طولها سبعون ذراعاً لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب تسمّ المؤمن بين عينيه وتكتب بين عينيه مؤمن وتسم الكافر
(7/223)
" صفحة رقم 224 "
بين عينيه وتكتب بين عينيه كافر ، ومعها عصا موسى وخاتم سليمان ( عليهما السلام ) ) .
وأخبرني الحسين بن محمّد قال : أخبرني أبو بكر مالك القطيعي عن عبدالله بن أحمد بن حنبل عن أبي عن بهز عن حمّاد عن علي بن زيد عن أوس بن خالد عن أبي هريرة إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( تخرج الدابّة معها عصا موسى وخاتم سليمان فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتختم أنف الكافر بالخاتم ، حتى أنّ أهل الخوان ليجتمعون فيقولون : هذا يا مؤمن ويقولون هذا يا كافر ) .
وأخبرنا الحسين بن محمّد عن عبدالله بن محمّد بن شِنبة عن الحسن بن يحيى عن ابن جريج عن أبي الزبير أنّه وصف الدّابة فقال : رأسها رأس الثور ، وعينها عين خنزير ، وأذنها أذن فيل ، وقرنها قرن أيّل ، وصدرها صدر الأسد ، ولونها لون نمر ، وخاصرتها خاصرة هرّة ، وذنبها ذنب كبش وقوائمها قوائم البعير ، وبين كلّ مفصلين إثنا عشر ذراعاً معها عصا موسى وخاتم سليمان ، ولا يبقي مؤمن إلاّ نكتته في مسجده بعصا موسى نكتة بيضاء فيفشو تلك النكتة حتى يضيء لها وجهه ، ولا يبقى كافر إلاّ وتنكت وجهه بخاتم سليمان فتفشو تلك النكتة فيسود لها وجهه ، حتى أنّ الناس يبتاعون في الأسواق بِكَمْ يا مؤمن وبكم يا كافر ، ثمّ تقول لهم الدّابّة : يا فلان أنت من أهل الجنّة ويا فلان أنت من أهل النار ، وذلك قول الله عزّ وجل : ) واذا وقع القول أخرجنا لهم دابّة . . ( الآية .
وأخبرنا الحسين بن محمّد عن ابن شنبة عن ابن عمر ، وعن سفيان بن وكيع عن الوليد بن عبدالله بن جميع عن عبدالملك بن المغيرة الطائفي عن أبي البيلماني عن ابن عمر قال : تخرج الدّابة ليلة جمع والناس يسيرون إلى منى قال : فتحمل الناس بين يديها وعجزها ، لا يبقى منافق إلاّ خطمته ولا مؤمن إلاّ مسحته .
وأخبرني الحسين بن محمّد عن عمر بن الخطاب عن عبدالله بن الفضل عن إبراهيم بن محمد بن عرعرة عن عبيدالله بن عبدالمجيد الحنفي عن فرقد بن الحجّاج القرشي قال : سمعت عقبة بن أبي الحسناء اليماني قال : سمعت أبا هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( تخرج دابّة الأرض من موضع جياد فيبلغ صدرها الركن ولما يخرج ذنبها بعد قال : وهي دابّة ذات وبر وقوائم )
(7/224)
" صفحة رقم 225 "
وأخبرني الحسن قال : حدّثنا علي بن محمّد بن لؤلؤ قال : أخبرنا أبو عبيد محمّد بن أحمد بن المؤمل قال : حدّثنا أبو جعفر محمّد بن جعفر الأحول قال : حدّثنا منصور بن عمّار قال : حدّثنا ابن لهيعة ، عن أبي قبيل ، عن عبدالله بن عمرو أنّه ضرب أرض الطائف برجله وقال : من هاهنا تخرج الدّابة التي تكلّم الناس ، وأخبرني عقيل بن محمّد الجُرجاني الفقيه قال : حدّثنا أبو الفرج المعافى بن زكريا البغدادى قال : أخبرنا أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري قال : حدّثنا أبو كريب قال : حدّثنا الأشجعي ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن ابن عمر قال : تخرج الدابة من صدع في الصفا كجري الفرس ثلاثة أيّام وما خرج ثلثها .
وبه عن محمّد بن جرير قال : حدّثني عصام بن بندار بن الجرّاح قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا سفيان بن سعيد قال : حدّثنا المنصور بن المعتمر ، عن ربعي بن خراش قال : سمعت حذيفة بن اليمان قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه الدابّة ، قلت : يا رسول الله من أين تخرج ؟ قال : ( من أعظم المساجد حُرمة على الله ، بينما عيسى يطّوف بالبيت ومعه المسلمون ؛ إذ تضطرب الأرض تحتهم من تحرّك القنديل وينشقّ الصفا ممّا يلي المسعى ، وتخرج الدابة من الصفا أوّل ما يبدو رأسها ملمعة ذات وبر وريش ، لن يدركها طالب ، ولا يفوتها هارب ، تسمّي الناس مؤمناً وكافراً ، أمّا المؤمن فتترك وجهه كأنّه كوكب دُرّي ، وتكتب بين عينيه : مؤمن ، وأمّا الكافر فتترك بين عينيه نكتة سوداء وتكتب بين عينيه : كافر ) .
وبه عن محمّد بن جرير قال : حدّثني أبو عبدالرحمن الرقي قال : حدّثنا ابن أبي مزينة قال : حدّثنا ابن لهيعة ويحيى بن أيوب قالا : حدّثنا ابن الهاد ، عن عمرو بن الحكم أنّه سمع عبدالله بن عمر يقول : تخرج الدابة من شعب ، فيمسّ رأسها السحاب ورجلاها في الأرض ماخرجتا ، فتمرّ بالإنسان يصلّي ، فتقول : ما الصلاة من حاجتك ، فتخطمه وقال وهب : وجهها وجه رجل وسائر خلقها كخلق الطير فتخبر من رآهها أنّ أهل مكّة كانوا بمحمّد والقرآن لا يوقنون ، وفي هذا تصديق لقراءة من فتح أنّ .
وقال كعب : صورتها صورة الحمار ، وروى ابن جريج روح ، عن هشام ، عن الحسن أنّ موسى ( عليه السلام ) سأل ربّه أن يريه الدّابة ، فخرجت ثلاثة أيّام ولياليهنّ تذهب في السماء ، وأشاره بيده لا يرى واحداً من طرفيها ، فرأى منظراً فظيعاً ، فقال : ربّ ردّها ، فردّها .
(7/225)
" صفحة رقم 226 "
2 ( ) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِّمَّن يُكَذِّبُ بِئَايَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا جَآءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِئَايَاتِى وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الَّيْلَ لِيَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاَْرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِىأَتْقَنَ كُلَّ شَىْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِى حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَىءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْءَانَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُنذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ سَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (
النمل : ( 83 ) ويوم نحشر من . . . . .
قوله عز وجل ) ويوم نحشر من كل أمة فوجا ( جماعة ) مِمَّن يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُم يُوزَعوْن ( يحبس أوّلهم على آخرهم ليجتمعوا ثمّ يُساقون إلى النار ، وقال ابن عباس : يوزعون : يدفعون
النمل : ( 84 ) حتى إذا جاؤوا . . . . .
) حَتَّى إذَا جَاءُوا ( يوم القيامة ) قالَ ( الله سبحانه لهم ) أكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً ( ولم تعرفوا حقّ معرفتها ) أم ماذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( فيها من تكذيب أو تصديق ، وقيل : هو توبيخ ، أي ماذا كنتم تعملون حين لم تبحثوا عنها ، ولم تتفكّروا فيها ؟
النمل : ( 85 ) ووقع القول عليهم . . . . .
) وَوَقَعَ القَوْلُ ( ووجب العذاب ) عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا ( أشركوا ) فَهُمْ لا يَنطِقُونَ ( لأنّ أفواههم مختومة . وقال أكثر المفسّرين : ) فَهُمْ لا يَنطِقُونَ ( بحجّة وعذر ، نظيره قوله سبحانه : ) هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون 2 )
النمل : ( 86 ) ألم يروا أنا . . . . .
) ألَمْ يَرَوْا أنَّا جَعَلْنَا ( خلقنا ) اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً ( مضيئاً يُبصَر فيه ) إنَّ فِي ذَلِكَ ( الذي ذكرت ) لآَيَات لِقَوْم يُؤْمِنُونَ ( يصدّقون فيعتبرون قوله تعالى :
النمل : ( 87 ) ويوم ينفخ في . . . . .
) وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ ( وهي النفخة الأولى .
أخبرنا محمّد عبدالله بن حامد الوزّان قال : أخبرنا محمّد بن جعفر بن يزيد الصيرفي قال : حدّثنا علي بن حرب قال : حدّثنا أسباط قال : حدّثنا سلمان التميمي ، عن أسلم العجلي ، عن بشر بن شغاف ، عن عبدالله بن عمرو قال : جاء إعرابي إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسأله عن الصُّور ، فقال : ( قرن ينفخ فيه ) .
وقال مجاهد : الصُّور كهيئة البوق ، وقيل : هو بلغة أهل اليمن ، وعلى هذا أكثر
(7/226)
" صفحة رقم 227 "
المفسّرين ، يدلّ عليه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن ، وحنى جبهته ينتظر متى يُؤمَر فينفخ ) .
وقال قتادة وأبو عبيدة : هو جمع صورة يقال : صورة وصور ، وصور : مثل سور البناء والمسجد ، وجمعها سور وسئور وأنشد أبو عبيدة :
سرت إليها في أعالي السور
فمعنى الآية : ونفخ في صور الخلق .
وقد ورد في كيفيّة نفخ الصور حديث جامع صحيح وهو ما أخبرنا الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن إبراهيم المهرجاني قراءة عليه أبو بكر محمّد بن عبدالله بن إبراهيم الشافعي ببغداد ، قال : أخبرني أبو قلابة الرقاشي قال : أخبرني أبو عاصم الضحّاك بن مخلد ، عن إسماعيل بن رافع ، عن محمّد بن كعب القرظي ، عن رجل من الأنصار ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنّ الله عزّ وجلّ لمّا فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور فأعطاه إسرافيل وهو واضعه على فيه ، شاخص بصره إلى العرض ينتظر متى ؟
قال : قلت يا رسول الله : وما الصور ؟ قال : القرن ، قال : قلت : كيف هو ؟ قال : عظيم ، والذي بعثني بالحقّ إنّ أعظم داره فيه كعرض السماء والأرض ، فينفخ فيه بثلاث نفخات : الأُولى نفخة الفزع ، والثانية نفخة الصعق ، والثالثة نفخة القيام لربّ العالمين ، فأمر الله عزّ وجل إسرافيل ( عليه السلام ) بالنفخة الأولى فيقول : انفخ نفخة الفزع فيفزع من في السموات والأرض إلاّ من شاء الله ، فيأمره فيمدّها ويطيلها وهو الذي يقول الله عزّ وجلّ : ) وما ينظر هؤلاء إلاّ صيحة واحدة ما لها من فواق ( فيسيّر الله عزّ وجلّ الجبال فيمرّ من السحاب فيكون سراباً ، وترجّ الأرض بأهلها رجّاً فيكون كالسفينة الموثّقة في البحر ، تضربها الأمواج وتلقيها الرياح ، أو كالقنديل المعلّق بالعرش يرجّحه الأرواح وهي التي يقول الله عزّ وجلّ : ) يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوبٌ يومئذ واجفة ( فتمتدّ الأرض بالناس على ظهرها فتذهل المراضع وتضع الحوامل ويشيب الولدان ، وتطير الشياطين هاربة من الفزع حتى يأتي الأقطار فتلقّاها الملائكة تضرب وجوهنا ، فيرجع ويولّي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضاً ، وهو الذي يقول الله عزّ وجلّ ) يوم التناد يوم يولّون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ( .
فبينا هم كذلك إذ تصدّعت الأرض من قطر إليّ قطروا أو أمراً عظيماً لم يروا مثله ، وأخذهم من الكرب والهول ما الله به عليمٌ ، ثمّ نظروا إلى السماء فهي كالمهل ، ثمّ انشقّت فتناثرت نجومها وانكشفت شمسها وقمرها
(7/227)
" صفحة رقم 228 "
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( والأموات يومئذ يعلمون بشيء من ذلك ) .
قال أبو هريرة : يا رسول الله فمن استثنى الله عزّ وجلّ حيث يقول ) ففزع من في السموات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله ( .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أُولئك هم الشهداء وإنّما يصل الفزع إلى الأحياء وهم أحياء عند ربّهم يرزقون ووقيهم الله فزع ذلك اليوم وآمنهم ، وهو عذاب بعثه الله تعالى إلى شرار خلقه ، وهو الذي يقول الله ) يا أيّها الناس اتّقوا ربّكم إنّ زَلزَلة الساعة شيءٌ عظيم ( إلى قوله ) وإنّ عذاب الله شديد ( فيمكثون في ذلك البلاء ما شاء الله إلاّ أنّه يطول عليهم ، ثمّ يأمر الله عزّ وجلّ إسرافيل فينفخ نفخة الصعق ) فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلاّ من شاء الله ( فإذا اجتمعوا جاء ملك الموت إلى الجبّار ويقول : قد مات أهل السماء والأرض إلاّ من شئت ، فيقول الله سبحانه وهو أعلم من بقي فقال : أي ربّ بقيت أنت الحيّ الذي لا تموت ، وبقي حملة العرش ، وبقي جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، وبقيت أنا فيقول الله عزّ وجل فيموت جبرائيل وميكائيل فينطق الله العرش فيقول : أي ربّ يموت جبرائل وميكائيل ، فيقول : اسكت إنّي كتب الموت على كلّ من تحت عرشي فيموتان .
ثمّ يأتي ملك الموت فيقول : أي ربّ قد مات جبرائيل وميكائيل فيقول وهو أعلم بمن بقي فيقول : بقيت أنتّ الحيّ الذي لا تموت وبقيتْ حملة عرشك فيقول ليمت حملة عرشي فيموتون ، فيأمر الله العرش فيقبض الصور من إسرافيل فيموت .
ثمّ يأتي ملك الموت فيقول : يا ربّ قد مات حملة عرشك فيقول وهو أعلم بمن بقي فيقول : بقيت أنت الحيّ الذي لا تموت وبقيت أنا فقال : أنت خلقٌ من خلقي خلقتك لما رأيت فمتْ فيموت فإذا لم يبق إلاّ الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد وكان آخراً كما كان أوّلا طوى السموات كطيّ السِجِلِّ للكتب .
ثمّ قال : أنا الجبّار ، لمن الملك اليوم ، ولا يجيبه أحد ، ثمّ يقول تبارك وتعالى جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه : لله الواحد القهّار ) يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسموات مطويّات فيبسطها بسطاً ( ثمّ يمدّها مدّ الأديم العكافي ) لا يرى فيها عوجاً ولا أمتاً ( .
ثمّ يزجر الله الخلق زجرة واحدة ، فإذا هم في هذه الأرض المبدّلة في مثل ما كانوا فيه من الأوّل ، من كان في بطنها ، كان في بطنها ومن كان على ظهرها كان على ظهرها ، ثمّ ينزل الله سبحانه عليهم ماء من تحت العرش كمني الرجال ، ثمّ يأمر السحاب أن تُنزل بمطر أربعين يوماً حتى يكون ) من فوقهم ) إثنا عشر ذراعاً ، ويأمر الله سبحانه الأجساد أن تنبت كنبات الطراثيث وكنبات البقل حتى إذا تكاملت أجسادهم كما كانت ، قال الله سبحانه : ليَحيَ حملة العرش ، فيحيون . ثمّ يقول الله تعالى : ليَحيَ جبريل وميكائيل . فيحييان ، فيأمر الله إسرافيل ، فيأخذ
(7/228)
" صفحة رقم 229 "
الصور فيضعه على فيه ، ثمّ يدعو الله الأرواح فيؤتى بها ، تتوهّج أرواح المؤمنين نوراً والأخرى ظلمة ، فيقبضها جميعاً ثمّ يلقيها على الصور ، ثمّ يأمر الله سبحانه إسرافيل أن ينفخ نفخة للبعث فتخرج الأرواح كأنّها النحل قد ملأت ما في السماء والأرض ، فيقول الله سبحانه : ليرجعنّ كلّ روح إلى جسده ، فتدخل الأرواح الخياشم ، ثمّ تمشي في الأجساد كما يمشي السمّ في اللديغ .
ثمّ تنشق الأرض عنهم سراعاً ، فأنا أوّل من ينشق عنه الأرض ، فتخرجون منها إلى ربّكم تنسلون عُراة حفاة عزّلا مهطعين إلى الداعي ، فيقول الكافرون : هذا يومٌ عَسِر ) .
قوله عزّ وجل : ) فَفَزِعَ ( أي فيفزع ، والعرب تفعل ذلك في المواضع التي يصلح فيها أذا ، لأنّ إذا يصلح معها فعل ويفعل كقولك : أزورك إذا زرتني ، وأزورك إذا تزورني . ) مَنْ فِي السَّماوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إلاَّ مَنْ شَاءَ اللهُ ( أن لا يفزع وقد ذكرنا في الخبر الماضي أنّهم الشهداء ) وَكُلٌّ أتَوْهُ داخرين ( قرأ الأعمش وحمزة وخلف وحفص ) أَتَوْه ( مقصوراً على الفعل بمعنى جاءوه عطفاً على قوله : ) وفزع ( و ) أتوه ( اعتباراً بقراءة ابن مسعود .
أخبرنا محمّد بن نعيم قال : حدّثنا الحسين بن أيّوب قال : حدّثنا علي بن عبدالعزيز قال : حدّثنا أبو عبيد قال : حدّثنا هشام ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، وأخبرنا محمّد بن عبدوس قال : حدّثنا محمّد بن يعقوب قال : حدّثنا محمّد بن الجهم قال : حدّثنا الفرّاء قال : حدّثني عدّة ، منهم المفضل الضبي وقيس وأبو بكر كلّهم عن جحش بن زياد الضبي كلاهما عن تميم بن حذلم قال : قرأت على عبدالله بن مسعود ) وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ ( بتطويل الألف ، فقال : ) وكلّ أتوه ( قصره وقرأ الباقون بالمدّ وضمّ التاء على مثال فاعلوه كقوله : ) وكلّهم آتيه يوم القيامة فرداً ( وهي قراءة عليح ) دَاخِرِيْن ( صاغرين .
النمل : ( 88 ) وترى الجبال تحسبها . . . . .
قوله تعالى : ) وَتَرَى الجِبَالَ ( يا محمّد ) تَحْسَبُهَا جَامِدَةً ( قائمة واقفة مستقرّة مكانها . ) وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ( حين تقع على الأرض فتستوي بها .
قال القتيبي : وذلك أنّ الجبال تجمع وتسير وهي في رؤية العين كالواقفة وهي تسير ، وكذلك كلّ شيء عظيم وكلّ جمع كثير يقصر عنه البصر لكثرته وعظمته ويُعْد ما بين أطرافه فهو في حسبان الناظر واقف وهو يسير ، وإلى هذا ذهب الشاعر في وصف جيش :
يأرعن مثل الطود تحسب أنّهم
وقوف لحاج والركاب تهملج
) صُنْعَ اللهِ ( نُصب على المصدر وقيل : على الإغراء أي اعلموا وابصروا ) الَّذِي أتْقَنَ كُلّ
(7/229)
" صفحة رقم 230 "
َ شَيْء ( أي أحكم ( كلّ شيء ، قتادة ) : أحسن . ) إنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ ( قرأ أهل الكوفة ) تَفْعَلُون ( بالتاء . غيرهم بالياء ، واختار أبو عبيدة بقوله : ) أَتَوْهُ ( إنّما هو خبر عنهم
النمل : ( 89 ) من جاء بالحسنة . . . . .
) مَن جَاءَ ( أي وافى الله ) بِالحَسَنة ( بالإيمان . قال أبو معشر : كان إبراهيم يحلف ما يستثني أنّ الحسنة : لا إلهَ إلاّ الله ، قتادة : بالإخلاص .
وأخبرني الحسين بن محمد ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد ابن شنبه قال : حدّثنا عبيد الله بن أحمد بن منصور قال : حدّثنا سهل بن بشر قال : حدّثنا عبدالله بن سليمان قال : حدّثنا سعد بن سعيد قال : سمعت علي بن الحسين يقول : رجل غزا في سبيل الله ، فكان إذا خلا المكان قال : لا إلهَ إلاّ الله وحده لا شريك له ، فبينما هو ذات يوم في أرض الروم في موضع في حلفاء وبرديّ رفع صوته يقول : لا إلهَ إلاّ الله وحده لا شريك له ، خرج عليه رجل على فرس عليه ثياب بيض ، فقال : يا عبدالله ما ذات قلت ؟ قال : قلت الذي سمعت ، والذي نفسي بيده إنّها الكلمة التي قال الله عزّ وجل : ) مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ ( .
) فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَع يَوْمَئِذ آمِنُونَ ( وأخبرني أبو عبدالله محمّد بن عبدالله العباسي قال : أخبرنا القاضي أبو الحسين محمّد بن عثمان ( النصيبي ببغداد ) قال : حدّثنا أبو بكر محمّد ابن الحسين السبيعي بحلب قال : حدّثني الحسين بن إبراهيم الجصّاص قال : أخبرنا حسين بن الحكم قال : حدّثنا اسماعيل بن أبان ، عن ( فضيل ) بن الزبير ، عن أبي داود السبيعي ، عن أبي عبدالله الهذلي قال : دخلت على علي بن أبي طالب ح ، فقال : يا عبدالله ألا أنبّئك بالحسنة التي من جاء بها أدخله الله الجنّة ، والسيّئة التي من جاء بها أكبّه الله في النار ، ولم يقبل معها عمل ؟
قلت : بلى ، قال : الحسنة حُبّنا والسيّئة بُغضنا ) فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ( أي فله من هذه الحسنة خير يوم القيامة ، وهو الثواب والأمن من العذاب ، قال ابن عباس : ) فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ( أي فمنها يصل إليه الخير ، الحسن : معناه له منها خير ، عكرمة وابن جريج : أمّا أن يكون له خير من الإيمان فلا ، وإنّه ليس شيء خير من لا إله إلاّ الله ولكن له منها خير ، وعن ابن عباس أيضاً ) فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ( يعني الثواب لأنّ الطاعة فعل العبد والثواب فعل الله سبحانه .
وقيل : هو إنّ الله عزّ وجل يقبل إيمانه وحسناته ، وقبول الله سبحانه خيرٌ من عمل العبد ، وقيل : ) فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا ( يعني رضوان الله سبحانه ، قال الله تعالى : ) وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَر ( .
وقال محمّد بن كعب وعبدالرحمن بن زيد ) فله خيرٌ منها ( يعني الإضعاف ، أعطاء الله
(7/230)
" صفحة رقم 231 "
الحسنة بالواحدة عشراً صاعداً ، فهذا خيرٌ منها ، وقد أحسن بن كعب وابن زيد في تأويلهما لأنّ للإضعاف خصائص منها أنّ العبد يُسئل عن عمله ولا يُسأل عن الإضعاف ، ومنها أنّ للشيطان سبيلا إلى عمله ولا سبيل له إلى الإضعاف ، ولأنّه لا مطمع للخصوم في الإضعاف ، ولأنّ دار الحسنة الدنيا ودار الإضعاف الجنّة ، ولأنّ الجنّة على استحقاق العبد ، والتضعيف كما يليق بكرم الربّ ) وَهُمْ مِن فزع يومئذ آمِنُون ( قرأ أهل الكوفة ) فزع ( منوناً ) يومئذ ( بنصب الميم وهي قراءة ابن مسعود ، وسائر القرّاء قرأوا بالإضافة واختاره أبو عبيد قال : لأنّه أعمّ التأويلين أن يكون الأمن من جميع فزع ذلك اليوم ، وإذا قال : ) مِن فزع يومئذ ( صار كأنّه فزع دون فزع ، وهو اختيار الفرّاء أيضاً ، قال : لأنّه فزع معلوم ، ألا ترى أنّه قال : ) لا يحزنهم الفزع الأكبر ( فصيّر معرفة ؟ فإذا أضفته كان معرفة فهو أعجب إلي
النمل : ( 90 ) ومن جاء بالسيئة . . . . .
) ومن جاء بالسيِّئة ( يعني الشرك .
أخبرنا عبدالله بن حامد الوزّان قال : أخبرنا مكّي بن عبدان قال : حدّثنا عبدالله بن هاشم قال : حدّثنا عبدالرحمن ، عن سفيان ، عن أبي المحجل ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ) من جاء بالحسنة ( قال : لا إلهَ إلاّ الله . ) ومن جاء بالسيِّئة ( قال : الشرك .
وأخبرنا عبد بن حامد قال : أخبرنا أبو الحسن محمّد بن شعيب البيهقي قال : حدّثنا بشر ابن موسى قال : حدّثنا روح ، عن حبيب بن الشهيد ، عن الحسن قال : ثمن الجنّة لا إلهَ إلاّ الله .
) فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّار ( قال ابن عباس : أُلقيت ، الضحّاك : طرحت ، أبو العالية : قلبت ، وقيل لهم : ) هَلْ تُجْزَوْنَ إلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إنَّمَا أُمِرْتُ ( يقول الله سبحانه لنبيّه محمّد ( عليه السلام ) قل :
النمل : ( 91 ) إنما أمرت أن . . . . .
) إنّما أُمرت ( ) أنْ أعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا ( يعني مكّة جعلها حرماً آمناً ، فلا يسفك فيها دم حرام ، ولا يظلم فيها أحد ، ولا يهاج ، ولا يصطاد صيدها ، ولا يختلي خلالها ، وقرأ ابن عباس ( التي حرمها ) إشارة إلى البلدة .
) وَلَهُ كُلُّ شَيْء ( خلقاً ومُلكاً ) وَأُمِرْتُ أنْ أكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ (
النمل : ( 92 ) وأن أتلو القرآن . . . . .
) وَأنْ أتْلُوَ القُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إنَّمَا أ نَا مِنَ المُنذِرِينَ ( ) وما علينا إلاّ البلاغ ( نسختها آية القتال
النمل : ( 93 ) وقل الحمد لله . . . . .
) وَقُلِ الحَمْدُ للهِ ( على نعمه ، ) سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ ( يعني يوم بدر ، نظيرها في سورة الأنبياء : ) سأُريكم آياتي فلا تستعجلون ( وقال مجاهد : ) سَيُرِيْكُم آياته ( في أنفسكم وفي السماء والأرض والرزق ، دليله قوله : ) سَنُرِيْهِمْ آيَاتُنا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسهم ( وقوله : ) وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم ( ) فَتَعْرِفُوْنَها وَمَا رَبُّكَ بِغَافِل عَمّا تَعْمَلُوْن ( .
(7/231)
" صفحة رقم 232 "
( سورة القصص )
مكية ، وهي خمسة آلاف وثمانمائة حرف ، وألف وأربعمائة وإحدى وأربعون كلمة ، وثمان وثمانون آية
أخبرنا أبو الحسين الخباري ، قال : حدّثنا ابن حنيش قال : حدّثني أبو العباس محمد بن موسى الدفاق ، قال : حدّثنا عبد الله بن روح المدائني ، وأخبرنا الخياري ، قال : حدّثنا طغران ، قال : حدّثنا ابن أبي داود ، قال : حدّثنا محمد بن عاصم ، قالا : حدّثنا شبابه بن سوار الفزاري ، قال : حدّثنا مخلد بن عبد الواحد ، عن علي بن زيد ، عن عطاء بن أبي ميمونة ، عن زيد بن حنيش ، عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ طسم القصص أُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بموسى وكذّب به ، ولم يبق ملك في السموات والأرض إلاّ شهد له يوم القيامة أنّه كان صادقاً ، إنّ كلّ شيء هالك إلاّ وجهه ، له الحكم وإليه ترجعون ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) طسم تِلْكَ ءَايَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِى الاَْرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْىِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ فِى الاَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِى الاَْرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ ( 2
القصص : ( 1 - 4 ) طسم
) طسم تلك آيات الكتاب المبين نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحقّ لقوم يؤمنون إنّ فرعون علا ( قال ابن عباس : استكبر ، السدّي قال : تجبر ، وقال قتادة : بغى
(7/232)
" صفحة رقم 233 "
وقال مقاتل : تعظّم ، ) في الأرض ( يعني أرض مصر ، ) وجعل أهلها شيعاً ( فرقاً وأصنافاً في الخدمة والسحر ، ) يستضعف طائفة منهم ( يعني بني إسرائيل ، ) يذبّح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنّه كان من المفسدين (
القصص : ( 5 ) ونريد أن نمن . . . . .
) ونريد أن نمنّ على الذين استُضعفوا في الأرض ( يعني بني إسرائيل .
) ونجعلهم أئمّة ( قال ابن عباس : قادة في الخير يقتدى بهم ، وقال قتادة : ولاة وملوكاً ، دليله قوله سبحانه : ) وجعلكم ملوكاً ( ، مجاهد دعاة إلى الخير ، ) ونجعلهم الوارثين ( بعد هلاك فرعون وقومه يرثونهم ديارهم وأموالهم ،
القصص : ( 6 ) ونمكن لهم في . . . . .
) ونمكّن لهم في الأرض ( يعني ويوطِّي لهم في أرض مصر والشام ويُنزلهم إياها ، ) ونُري فرعون وهامان وجنودهما ( قرأ حمزة ويحيى بن وثاب والأعشى والكسائي وخلف ) يري ( بالتاء ، وما بعده رفع على أنّ الفعل ) لهم ( ، وقرأ غيرهم ) ونري ( بنون مضمومة وياء مفتوحة ، وما بعده نصب بوقوع الفعل عليهم ، ) منهم ما كانوا يحذرون ( وذلك أنّهم أُخبروا أنّ هلاكهم على يدي رجل من بني إسرائيل ، فكانوا على وجل منهم ، فأراهم الله سبحانه ما كانوا يحذرون .
( ) وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى اليَمِّ وَلاَ تَخَافِى وَلاَ تَحْزَنِىإِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّى وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلاأَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىءَاتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ ( 2
القصص : ( 7 ) وأوحينا إلى أم . . . . .
) وأوحينا إلى أُمّ موسى ( قال قتادة : قذفنا في قلبها وليس نبوة ، واسم أُم موسى يوخابد بنت لاوي بن يعقوب ) أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليمّ ولا تخافي ( عليه ، ) ولا تحزني إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين ( .
(7/233)
" صفحة رقم 234 "
أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد قال : حدّثنا مخلد بن جعفر الباقرجي قال : حدّثنا الحسين بن علوية قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا إسحاق بن بشر قال : أخبرني ابن سمعان ، عن عطاء عن ابن عباس قال إسحاق : وأخبرني جويبر ومقاتل ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : إنّ بني إسرائيل لما كثروا بمصر استطالوا على الناس ، وعملوا بالمعاصي ، ورق خيارهم أشرارهم ، ولم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر ، فسلّط الله عليهم القبط ، فاستضعفوهم إلى أن نجّاهم الله تعالى على يدي نبيّه موسى ( عليه السلام ) .
قال وهب : بلغني أنّه ذبح في طلب موسى تسعين ألف وليد ، قال ابن عباس : إنّ أُم موسى لمّا تقارب ( ولادها ) ، وكانت قابلة من القوابل التي وكّلهن فرعون بحبالى بني إسرائيل مصافية لأُم موسى ، فلما ضربها الطلق أرسلت إليها ، فقالت : قد نزل بي ما نزل ، ولينفعني حبّك إياي اليوم ، قال : فعالجت قبالها ، فلمّا أن وقع موسى ( عليه السلام ) على الأرض هالها نورٌ بين عيني موسى ( عليه السلام ) ، فارتعش كلّ مفصل منها ودخل حبّ موسى ( عليه السلام ) قلبها ، ثم قالت لها : يا هذه ما جئت إليك حين دعوتني إلاّ ومن رأيي قتل مولودك وأخبر فرعون ، ولكن وجدت لابنك هذا حبّاً ما وجدت حبّ شيء مثل حبّه ، فاحفضي ابنك ، فإنّي أراه هو عدونا .
فلمّا خرجت القابلة من عندها أبصرها بعض العيون فجاء إلى بابها ليدخلوا على أم موسى ، فقالت أُخته : يا أُماه هذا الحرس بالباب ، فلفّت موسى في خرقة ، فوضعته في التنور وهو مسجور ، فطاش عقلها ، فلم تعقل ما تصنع ، قال : فدخلوا فإذا التنور مسجور ورأوا أم موسى لم يتغير لها لون ، ولم يظهر لها لبن ، فقالوا : ما أدخل عليك القابلة ؟ قالت : هي مصافية لي ، فدخلت عليّ زائرة ، فخرجوا من عندها ، فرجع إليها عقلها ، فقالت لأُخت موسى : فأين الصبي ؟ قالت : لا أدري ، فسمعت بكاء الصبي من التنور ، فانطلقت إليه ، وقد جعل الله سبحانه النار عليه برداً وسلاماً فاحتملته .
قال : ثم إنّ أُمّ موسى ( عليه السلام ) لما رأت إلحاح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها ، فقذف الله سبحانه في نفسها أن تتخذ له تابوتاً ، ثم تقذف بالتابوت في اليمّ وهو النيل ، فانطلقت إلى رجل نجار من أهل مصر من قوم فرعون ، فاشترت منه تابوتاً صغيراً ، فقال لها النجار : ما تصنعين بهذا التابوت ؟
(7/234)
" صفحة رقم 235 "
قالت : ابن لي أُخبِّئه في التابوت ، وكرهت الكذب ، قال : ولم ؟ قالت : أخشى عليه كيد فرعون ، فلمّا اشترت التابوت وحملته وانطلقت ، انطلق النجار إلى أُولئك الذبّاحين ليخبرهم بأمر أُمّ موسى ، فلمّا همّ بالكلام أمسك الله سبحانه لسانه فلم ينطق الكلام ، وجعل يشير بيده ، فلمّا يَدرِ الأُمناء ما يقول ، فلمّا أعياهم أمره قال كبيرهم : اضربوه ، فضربوه وأخرجوه .
فلمّا انتهى النجار إلى موضعه ردّ الله سبحانه عليه لسانه ، فتكلم ، فانطلق أيضاً يريد الأُمناء ، فأتاهم ليخبرهم وأخذ الله سبحانه لسانه وبصره ، فلم ينطق الكلام ، ولم يبصر شيئاً ، فضربوه وأخرجوه ، فوقع في واد تهوى فيه حيران ، فجعل لله عليه إن ردّ لسانه وبصره أن لا يدلّ عليه ، وأن يكون معه لحفظه حيث ما كان ، فعرف الله عزّ وجل منه الصدق ، فردّ عليه بصره ولسانه فخرّ لله ساجداً ، فقال : يا رب دُلّني على هذا العبد الصالح ، فدلّه الله عليه ، فخرج من الوادي ، فآمن به وصدّقه وعلم أنّ ذلك من الله .
فانطلقت أم موسى ، فألقته في البحر ، وكان لفرعون يومئذ بنت لم يكن له ولد غيرها ، وكانت من أكرم الناس عليه ، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى فرعون ، وكان بها برص شديد مسلخة برصاً ، فكان فرعون قد جمع لها أطباء مصر والسحرة ، فنظروا في أمرها ، فقالوا له : أيها الملك لا تبرأ إلاّ من قبل البحر يوجد منه شبه الإنسان ، فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك ، وذلك في يوم كذا وساعة كذا حين تشرق الشمس .
فلمّا كان يوم الاثنين غدا فرعون إلى مجلس كان له على شفير النيل ومعه آسية بنت مزاحم ، وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على شاطئ النيل مع جواريها تلاعبهنّ وتنضح بالماء على وجوههن ، إذ أقبل النيل بالتابوت تضربه الأمواج ، فقال فرعون : إنّ هذا الشيء في البحر قد تعلق بالشجرة ، ائتوني به ، فابتدروه بالسفن من كلّ جانب حتى وضعوه بين يديه ، فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه ، وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه .
قال : فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نوراً لم يره غيرها للذي أراد الله سبحانه أن يكرمها ، فعالجته ففتحت الباب ، فإذا هي بصبي صغير في مهده ، وإذا نور بين عينيه ، وقد جعل
(7/235)
" صفحة رقم 236 "
الله تعالى رزقه في إبهامه يمصّه لبناً ، فألقى الله سبحانه لموسى ( عليه السلام ) المحبة في قلب آسية ، وأحبّه فرعون وعطف عليه ، وأقبلت بنت فرعون ، فلمّا أخرجوا الصبي من التابوت عمدت بنت فرعون إلى ما كان يسيل من ريقه ، فلطخت به برصها ، فبرأت فقبّلته وضمّته إلى صدرها .
فقال الغواة من قوم فرعون : أيها الملك إنّا نظن إنّ ذلك المولود الذي نحذر منه من بني إسرائيل هو هذا ، رمي به في البحر فَرَقاً منك فاقتله ، فهمّ فرعون بقتله ، قالت آسية : قرة عين لي ولك ، لا تقتله عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً ، وكانت لا تلد ، فاستوهبت موسى من فرعون ، فوهبه لها ، وقال فرعون : أما أنا فلا حاجة لي فيه ، فقال رسول الله ( عليه السلام ) : ( لو قال فرعون يومئذ هو قرة عين لي كما هو لك مثل قالت امرأته لهداه الله سبحانه كما هداها ، ولكن أحب الله عز وجل أن يحرمه للذي سبق في علم الله ) .
فقيل لآسية : سمّيه ، قالت : سميته موشا لأنّا وجدناه في الماء والشجر ، ف ( مو ) هو الماء ، و ( شا ) : هو الشجر .
القصص : ( 8 ) فالتقطه آل فرعون . . . . .
فذلك قوله سبحانه : ) فالتقطه ( أي فأخذه ، والعرب تقول لما وردت عليه فجأة من غير طلب له ولا إرادة : أصبته التقاطاً ، ولقيت فلاناً التقاطاً ، ومنه قول الراجز :
ومنهل وردته التقاطاً
لم ألق إذ وردته فراطاً
ومنه اللقطة وهو ما وجد ضالاًّ فأخذ ، ) آل فرعون ليكون لهم ( هذه اللام تسمى لام العاقبة ، ولام الصيرورة ، لأنّهم إنما أخذوه ليكون لهم قرّة عين ، فكان عاقبة ذلك أنّه كان لهم ، ) عدوّاً وحزناً ( ، قال الشاعر :
فللموت تغذو الوالدات سخالها
كما لخراب الدور تُبنى المساكن
) عدوّاً وحزناً ( قرأ أهل الكوفة بضم الحاء وجزم الزاي ، وقرأ الآخرون بفتح الحاء والزاي ، واختاره أبو عبيد ، قال : للتفخيم ، واختلف فيه غير عاصم ، وهما لغتان مثل العدْم والعَدَم ، والسُقْم والسَقَم ) إنّ فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ( عاصين آثمين .
القصص : ( 9 ) وقالت امرأة فرعون . . . . .
) وقالت امرأت فرعون قُرّت عين ( أي هو قرّة عين ، ) لي ولك لا تقتلوه ( فإنّ الله أتانا به من أرض أُخرى وليس من بني إسرائيل ، ) عسى أن ينفعنا أو نتّخذه ولداً وهم لا يشعرون (
(7/236)
" صفحة رقم 237 "
بما هو كائن من أمرهم وأمره ، عن مجاهد ، قتادة ) وهم لا يشعرون ( إنّ هلاكهم على يديه ، محمد بن زكريا بن يسار ) وهم لا يشعرون ( إنّي أفعل ما أريد ولا أفعل ما يريدون .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا طلحة وعبيد الله قالا : حدّثنا أبو مجاهد قال : حدّثني أحمد بن حرب قال : حدّثنا سنيد قال : حدّثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن قيس ) وهم لا يشعرون ( يقول : لا يدري بنو إسرائيل إنّا التقطناه ، الكلبي ) وهم لا يشعرون ( إلاّ وإنّه ولدنا .
القصص : ( 10 ) وأصبح فؤاد أم . . . . .
) وأصبح فؤاد أُمّ موسى فارغاً ( أي خالياً لاهياً ساهياً من كلّ شيء إلاّ من ذكر موسى وهمه ، قاله أكثر المفسّرين ، وقال الحسن وابن إسحاق وابن زيد : يعني فارغاً من الوحي الذي أوحى الله سبحانه وتعالى إليها حين أمرها أن تلقيه في البحر ولا تخاف ولا تحزن ، والعهد الذي عهدنا إليه أن نردّه إليها ونجعله من المرسلين ، فجاءها الشيطان ، فقال : يا أُمّ موسى كرهتِ أنْ يقتل فرعونُ موسى فتكون لك أجره وثوابه ، وتولّيتِ أنت قتله ، فألقيتِهِ في البحر وغرّقته .
ولمّا أتاها الخبر بأنّ فرعون أصابه في النيل قالت : إنّه وقع في يدي عدوه والذي فررت به منه ، فأنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله سبحانه إليها ، فقال الله تعالى : ) وأصبح فؤاد أمّ موسى فارغاً ( من الوحي الذي أُوحي إليها ، وقال الكسائي : ) فارغاً ( أي ناسياً ، أبو عبيدة : ) فارغاً ( من الحزن لعلمها بأنّه لم يغرق ، وهو من قول العرب : دم فرغ إذا كان هدراً لا قِوَد فيه ولا دية . وقال الشاعر :
فإن تك أذواد أصبن ونسوة
فلن تذهبوا فرغاً بقتل حبال
(7/237)
" صفحة رقم 238 "
العلاء بن زيد ) فارغاً ( : نافراً ، وقرأ ابن محيض وفضالة بن عبيد : ) فَزِعاً ( بالزاي والعين من غير ألف ، ) إن كادت لتبدي به ( قال بعضهم : الهاء في قوله : ) به ( راجعة إلى موسى ومعنى الكلام : إنْ كادت لتبدي به أنّه ابنها من شدة وجدها .
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان ، قال : أخبرنا مكي بن عبدان ، قال : حدّثنا عبد الرحمن ابن بشر ، قال : حدّثنا سفيان ، عن أبي سعيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ) إن كادت لتبدي به ( قال : كادت تقول : وا ابناه ، وقال مقاتل : لما رأت التابوت يرفعه موج ويضعه آخر ، فخشيت عليه الغرق ، فكادت تصيح من شفقها عليه ، الكلبي : كادت تُظهر أنّه ابنها ، وذلك حين سمعت الناس وهم يقولون لموسى بعدما شبّ : موسى بن فرعون ، فشق عليها فكادت تقول : لا ، بل هو ابني ، وقال بعضهم : الهاء عائدة إلى الوحي أي ) إن كادت لتبدي ( بالوحي الذي أوحينا إليها أن نردّه عليها .
) لولا أن ربطنا على قلبها ( قوّينا قلبها فعصمناها وثبّتناها ) لتكون من المؤمنين ( المصدّقين الموقنين بوعد الله عزّوجل
القصص : ( 11 ) وقالت لأخته قصيه . . . . .
) وقالت ( أم موسى ) لأخته ( لأخت موسى واسمها مريم ) قُصّيه ( ابتغي أثره حتى تعلمي خبره ، ومنه القصص لأنّه حديث يتبع فيه الثاني الأول ، ) فبصرت به ( أبصرته ) عن جُنُب ( بُعد ، وقال ابن عباس : الجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى الشيء البعيد وهو إلى جنبه لا يشعر به .
وقال قتادة : جعلت تنظر إليها كإنّها لا تريده ، وكان يقرأ ) عن جنب ( بفتح الجيم وسكون النون ، وقرأ النعمان بن سالم عن جانب أي عن ناحية ) وهم لا يشعرون ( أنها أُخته
القصص : ( 12 ) وحرمنا عليه المراضع . . . . .
) وحرّمنا عليه المراضع ( وهي جمع المرضع ، ) من قبل ( أي من قبل مجيء أم موسى ، وذلك أنّه كان يؤتى بمرضع بعد مرضع فلا يقبل ثدي امرأة ، فهمَّهم ذلك ، فلمّا رأت أُخت موسى التي أرسلتها أُمّه في طلبه ذلك ، وما يصنع به ، فقالت لهم : ) هل أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لكم ( أي يضمنونه ويرضعونه ويضمّونه إليهم ، وهي امرأة قد قتل ولدها ، فأحبّ شيء إليها أن تجد صبياً صغيراً فترضعه ، ) وهم له ناصحون ( والنصح : إخلاص العمل من شائب الفساد ، وهو نقيض الغش ، قالوا : نعم ، فأتينا بها فانطلقت إلى أُمّها فأخبرتها ( بحال ابنها ) وجاءت بها إليهم ، فلمّا وجد الصبي ريح أمه قبل ثديها فذلك قوله :
القصص : ( 13 ) فرددناه إلى أمه . . . . .
) فرددناه إلى أُمّه كي تقرَّ عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكنّ أكثرهم لا يعلمون ( أنّ الله وعدها ردّه إليها .
قال السدي وابن جريج : لما قالت أخت موسى : ) هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم
(7/238)
" صفحة رقم 239 "
وهم له ناصحون ( أخذوها وقالوا : إنّكِ قد عرفتِ هذا الغلام ، فدلّينا على أهله ، فقالت : ما أعرفه ولكني إنّما قلت : هم للملك ناصحون ،
القصص : ( 14 ) ولما بلغ أشده . . . . .
) ولمّا بلغ أشدّه ( قال الكلبي : الأَشُدّ : ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة ، وقال سائر المفسّرين : الأشد ثلاث وثلاثون سنة ، ) واستوى ( أي بلغ أربعين سنة .
أخبرنا أبو محمد المخلدي ، قال : أخبرنا أبو الوفاء المؤمل بن الحسن بن عيسى ، قال : حدّثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، قال : حدّثنا يحيى بن سليم ، قال : أخبرني عبد الله بن عثمان بن خيثم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قول الله سبحانه : ) بلغ أشدّه واستوى ( قال : الأشدّ : ثلاث وثلاثون سنة ، والاستواء : أربعون سنة ، والعمر الذي أعده الله إلى ابن آدم ستون سنة ، ثم قرأ ) أو لم نعمّركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير ( .
) آتيناه حكماً ( عقلا وفهماً ، ) وعلماً ( قال مجاهد : قيل : النبوة ، ) وكذلك نجزي المحسنين ( .
2 ( ) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَاذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَاذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِى مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِى مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَاذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ قَالَ رَب إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِّلْمُجْرِمِينَ فَأَصْبَحَ فِى الْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِى اسْتَنْصَرَهُ بِالاَْمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِىٌّ مُّبِينٌ فَلَمَّآ أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِى هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يامُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِى كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالاَْمْسِ إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِى الاَْرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يامُوسَى إِنَّ الْمَلاََ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّى لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِى مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّىأَن يَهْدِيَنِى سَوَآءَ السَّبِيلِ ( 2
القصص : ( 15 ) ودخل المدينة على . . . . .
) ودخل ( يعني موسى ) المدينة ( قال السدي : يعني مدينة منف من أرض مصر ، وقال مقاتل : كانت قرية تدعى خانين على رأس فرسخين من مصر .
) على حين غفلة من أهلها ( قال محمد بن كعب القرظي : دخلها فيما بين المغرب والعشاء ، وقال غيره : نصف النهار عند القائلة ، واختلف العلماء في السبب الذي من أجله دخل
(7/239)
" صفحة رقم 240 "
موسى هذه المدينة في هذا الوقت ، فقال السدّي : كان موسى ( عليه السلام ) حين أمر بركب مراكب فرعون وبلبس مثل ما يلبس ، وكان إنّما يدعى موسى بن فرعون ، ثم إنّ فرعون ركب مركباً وليس عنده موسى ( عليه السلام ) ، فلمّا جاء موسى قيل له : إنّ فرعون قد ركب ، فركب في أثره ، فأدركه المقيل بأرض يقال لها : منف ، فدخلها نصف النهار وقد تقلّبت أسواقها ، وليس في طرقها أحد ، وهو الذي يقول الله سبحانه : ) ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها ( .
وقال ابن إسحاق : كانت لموسى من بني إسرائيل شيعة يسمعون منه ويقتدون به ويجتمعون إليه ، فلمّا اشتد رأيه وعرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه ، فخالفهم في دينه وتكلّم وعادى وأنكر حتى ذكر ذلك منه ، وحتى خافوه وخافهم ، حتى كان لا يدخل قرية إلاّ خائفاً مستخفياً ، فدخلها يوماً ) على حين غفلة من أهلها ( .
وقال ابن زيد : لمّا علا موسى فرعون بالعصا في صغره قال فرعون : هذا عدونا الذي قتلت فيه بني إسرائيل ، فقالت امرأته : لا بل هو صغير ، ثم دعت بالجمر والجوهر ، فلمّا أخذ موسى الجمرة وطرحها في فيه حتى صارت عقدة في لسانه ، ترك فرعون قتله وأمر بإخراجه من مدينته ، فلم يدخل عليهم إلاّ بعد أن كبر وبلغ أشدّه ، ) ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها ( عن موسى أي من بعد نسيانهم خبره وأمره لبُعد عهدهم به .
وقال علي بن أبي طالب ( ح ) : في قوله : ) حين غفلة من أهلها ( كان يوم عيد لهم قد اشتغلوا بِلَهْوِهِم ولعبهم ، ) فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته ( من أهل دينه من بني إسرائيل ، ) وهذا من عدوّه ( من مخالفيه من القبط ، قال المفسرون : الذي هو من شيعته هو السامري ، والذي من عدوّه طباخ فرعون واسمه فليثون .
وأخبرني ابن فنجويه ، قال : حدّثنا موسى بن محمد ، قال : حدّثنا الحسن بن علوية ، قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى ، قال : حدّثنا المسيب بن شريك قال : اسمه فاثون وكان خباز فرعون ، قالوا : يسخّره لحمل الحطب إلى المطبخ ، روى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لمّا بلغ موسى أشده ، وكان من الرجال لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا كل الامتناع ، فبينما هو يمشي ذات يوم في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان أحدهما من بني إسرائيل ، والآخر من آل فرعون ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فغضب موسى واشتد غضبه ؛ لأنّه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني إسرائيل وحفظه لهم ولا يعلم الناس إلاّ إنّما ذلك من قبل الرضاعة من أُمّ موسى ، فقال للفرعوني ، خلِّ
(7/240)
" صفحة رقم 241 "
سبيله ، فقال : إنّما أخذه ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك ، فنازع أحدهما صاحبه ، فقال الفرعوني لموسى : لقد هممت إلى أن أحمله عليك .
وكان موسى قد أوتي بسطة في الخلق وشدة في القوة والبطش ، ) فوكزه موسى ( بجمع كفّه ولم يتعمد قتله ، قال الفرّاء وأبو عبيدة : الوكز : الدفع بأطراف الأصابع ، وفي مصحف عبد الله ( فنكزه ) بالنون ، والوكز واللكز والنكز واحد ، ومعناها : الدفع ، ) فقضى عليه ( أي قتله وفرغ من أمره ، وكلّ شيء فرغت منه فقد قضيته ، وقضيت عليه ، قال الشاعر :
أيقايسون وقد رأوا حفاثهم
قد عضّه فقضى عليه الأشجع
أي قتله .
فلمّا قتله موسى ندم على قتله ، وقال : لم أومر بذلك ثم دفنه ) في الرمل ) ) قال هذا من عمل الشيطان إنّه عدوّ مضل مبين }
القصص : ( 16 - 17 ) قال رب إني . . . . .
) وقال ربّ إنّي ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنّه هو الغفور الرحيم قال ربّ بما أنعمت عليّ ( بالمغفرة فلم تعاقبني ) فلن أكون ظهيراً ( عوناً ونصيراً ) للمجرمين ( قال ابن عباس : لم يستثن فابتلى ، قال قتادة : يعني فلن أعين بعدها على خطيئة ، أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن خالد ، قال : حدّثنا داود بن سليمان ، قال : أخبرنا عبد بن حميد ، قال : حدّثنا عبيد الله بن موسى ، عن سلمة بن نبيط قال : بعث بعض الأمراء وهو عبد الرحمن بن مسلم إلى الضحاك بعطاء أهل بخارى ، وقال : أعطهم ، فقال : اعفني ، فلم يزل يستعفيه حتى أعفاه ، فقال له بعض أصحابه : وأنت لا ) ترزأ ) شيئاً ، فقال : لا أحب أن أعين الظلمة على شيء من أمرهم .
وبه عن عبد الله قال : حدّثنا يعلى ، قال حدّثنا عبيد الله بن الوليد الوصافي قال : قلت لعطاء بن أبي رياح : إنّ لي أخاً يأخذ بقلمه ، وإنّما يكتب ما يدخل وما يخرج ، قال : أخذ بقلمه كان ذلك غنىً وإن تركه احتاج ، وصار عليه دَين وله عيال ، فقال : من الرأس ؟ قلت : خالد بن عبد الله ، قال : اما تقرأ ما قال العبد الصالح : رب بما أنعمت عليَّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين ، فلا يعينهم فإن الله تعالى سيغنيه .
القصص : ( 18 ) فأصبح في المدينة . . . . .
) فأصبح في المدينة خائفاً ( من قتله القبطي أن يؤخذ فيُقتل به ، ) يترقّب ( ينتظر الأخبار ، ) فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه ( يستغيثه ، وأصل ذلك من الصراخ ، كما يقال : قال بني فلان : يا صاحباً .
(7/241)
" صفحة رقم 242 "
قال ابن عباس : أتى فرعون فقيل له : إن بني إسرائيل قد قتلوا رجلا منّا ، فخذ لنا بحقّنا ولا ترخص لهم في ذلك ، فقال : أبغوا لي قاتله ومن يشهد عليه ، فلا يستقيم أن يقضى بغير بيّنة ولا ثبت فاطلبوا ذلك ، فبينا هم يطوفون ( و ) لا يجدون ثبتا إذ مرّ موسى من الغد فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونياً آخر يريد أن يسخّره ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى ، وقد ندم على ما كان منه بالأمس من قتله القبطي ، فقال موسى للإسرائيلي : ) إنّك لغويّ مبين ( ظاهر الغواية حين قاتلت أمس رجلا وقتلته بسببك ، وتقاتل اليوم آخر وتستغيثني عليه .
وقيل : إنّما قال للفرعوني : ) إنّك لغوي مبين ( بتسخيرك وظلمك ، والقول الأول أصوب وأليق بنظم الآية .
قال ابن عباس : ثم مد موسى يده وهو يريد أن يبطش بالفرعوني ، فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعدما قال له : ) إنّك لغوي مبين (
القصص : ( 19 ) فلما أن أراد . . . . .
( فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس فخاف أن يكون بعدما قال له : إنك لغوي مبين أراده ) ، ولم يكن أراده ، إنّما أراد الفرعوني ، فقال : ) يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس إن تريد إلاّ أن تكون جباراً في الأرض ( بالقتل ظلماً ، قال عكرمة والشعبي : لا يكون الإنسان جباراً حتى يقتل نفسين بغير حق .
) وما تريد أن تكون من المصلحين ( ثم تتاركا ، فلمّا سمع القبطي ما قال الإسرائيلي علم أنّ موسى قتل ذلك الفرعوني ، فانطلق إلى فرعون ، فأخبره بذلك ، فأمر فرعون بقتل موسى ولم يكن ظهر على قاتل القبطي حتى قال صاحب موسى ما قال .
قال ابن عباس : فلمّا أرسل فرعون الذباحين لقتل موسى أخذوا الطريق الأعظم فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة أي آخرها ، واختصر طريقاً قريباً ) وسبقهم فأخبره وأنذره ) حتى أخذ طريقاً آخر فذلك قوله :
القصص : ( 20 ) وجاء رجل من . . . . .
) وجاء رجل ( واختلفوا فيه ، فقال أكثر أهل التأويل : هو حزقيل بن صبورا مؤمن آل فرعون ، وكان ابن عم فرعون ، فقال شعيب الجبائي : اسمه شمعون ، وقيل : شمعان .
) من أقصا المدينة يسعى ( قال الكلبي : يسرع في مشيه لينذره ، مقاتل : يمشي على رجليه ، ) قال يا موسى إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ( أي يهمّون بقتلك ويتشاورون فيك ، وقيل : يأمر بعضهم بعضاً نظيره قوله عز وجل : ) وأتمروا بينكم بمعروف ( ، وقال النمر بن تغلب :
أرى الناس قد أحدثوا سمة
وفي كلّ حادثة يؤتمر
) فاخرج ( من هذه المدينة ) إني لك من الناصحين }
القصص : ( 21 ) فخرج منها خائفا . . . . .
) فخرج ( موسى ) منها ( أي من مدينة فرعون ) خائفاً يترقّب ( ينتظر الطلب ) قال ربّ نجّني من القوم الظالمين }
القصص : ( 22 ) ولما توجه تلقاء . . . . .
) ولمّا توجّه تلقاء مدين (
(7/242)
" صفحة رقم 243 "
أي نحوها وقصدها ماضياً لها ، خارجاً عن سلطان فرعون ، يقال : داره تلقاء دار فلان إذا كانت محاذيتها ، وأصله من اللقاء ، ولم تصرف مدين لأنّها اسم بلدة معروفة . قال الشاعر :
رهبان مدين لو رأوك تنزّلوا
والعصم من شغف العقول القادر
وهو مدين بن إبراهيم نُسبتْ البلدة إليه كما نُسبتْ مدائن إلى أخيه مدائن بن إبراهيم ) قال عسى ربّي أن يهديني سواء السبيل ( قصد الطريق إلى مدين ، وإنّما قال ذلك لأنّه لم يكن يعرف الطريق إليها ، فلمّا دعا جاءه ملك على فرس بيده عنزة فانطلق به إلى مدين .
قال المفسّرون : خرج موسى من مصر بلا زاد ولا درهم ولا ظهر ولا حذاء إلى مدين وبينهما مسيرة ثماني ليال نحواً من الكوفة إلى البصرة ، ولم يكن له طعام إلاّ ورق الشجر ، قال ابن جبير : خرج من مصر حافياً ، فما وصل إلى مدين حتى وقع خف قدميه .
( ) وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَآءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّى لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى اسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأَبَتِ اسْتَئْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَئْجَرْتَ الْقَوِىُّ الأَمِينُ قَالَ إِنِّىأُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَىَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِىَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الاَْجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ( 2
القصص : ( 23 ) ولما ورد ماء . . . . .
) ولما ورد ماء مدين ( وهو بئر كانت لهم ) وجد عليه أمّة من الناس يسقون ( مواشيهم ) ووجد من دونهم امرأتين تذودان ( تحبسان وتمنعان أغنامهما عن أن تشذ وتذهب ، وقال الحسن : تكفان ( أغنامهما ) عن أن تختلط بأغنام الناس وترك ذكر الغنم اختصاراً ، قتادة : ( تذودان ) الناس عن شائهما ، أبو مالك وابن إسحاق : تحبسان غنمهما عن الماء حتى يصدر عنه مواشي الناس ويخلوا لهما البئر ، ثم يسقيان غنمهما لضعفهما ، وهذا القول أولى بالصواب لما بعده ، وهو قوله : ) قال ( يعني موسى ) ما خطبكما ( ما شأنكما لا تسقيان مواشيكما مع الناس ؟
) قالتا لا نسقي حتى يصدر ( قرأ أبو عبد الرحمن السلمي والحسن وابن عامر وابن جعفر
(7/243)
" صفحة رقم 244 "
وأيوب بن المتوكل : بفتح الياء وضم الدال ، جعلوا الفعل للرعاء أي حتى يرجعوا عن الماء ، وقرأ الآخرون بضم الياء وكسر الدال أي حتى يصرفوا مواشيهم عن الماء ، والرعاء : جمع راع مثل تاجر وتجار ، ومعنى الآية لا نسقي مواشينا حتى يصدر ) الرعاء ( لأنّا لا نطيق أن نسقي ، ولا نستطيع أن نزاحم الرجال فإذا صدروا سقينا مواشينا ما أفضلت مواشيهم في الحوض .
) وأبونا شيخ كبير ( لا يقدر أن يسقي مواشيه ، واختلفوا في اسم أبيهما ، فقال مجاهد والضحاك والسدي والحسن : هو شعيب النبي صلى اللّه عليه وعلى جميع الانبياء واسمه شعيب بن بويب بن مدين بن إبراهيم ، قال وهب وسعيد بن جبير وأبو عبيدة بن عبد الله : هو بثرون ابن أخي شعيب ، وكان شعيب قد مات قبل ذلك بعدما كفّ بصره ، فدفن بين المقام وزمزم .
القصص : ( 24 ) فسقى لهما ثم . . . . .
وروى حماد بن سلمة ، عن أبي حمزة الضبعي ، عن ابن عباس قال : اسم أبي امرأة موسى صاحب مدين بثرى ، قالوا : فلمّا سمع موسى ( عليه السلام ) قولهما رحمهما ، واقتلع صخرة على رأس بئر أخرى كانت بقربهما لا يطيق رفعها إلاّ جماعة من الناس . شريح : عشرة رجال ، وقيل : إنّه زاحم القوم عن الماء وأخذ دلوهما وسقى غنمهما ، عن ابن إسحاق ، فذلك قوله سبحانه : ) فسقى لهما ثم تولّى إلى الظل ( قال السدي : ظلّ شجرة ، وروى عمر بن ميمون ، عن عبد الله قال : أحييت على جمل لي ليلتين حتى صبّحت مدين ، فسألت عن الشجرة التي آوى إليها موسى فإذا شجرة خضراء ترق فما هوى إليها جملي ، وكان جائعاً ، فأخذها فعالجها ساعة فلم يقطعها ، فدعوت الله سبحانه لموسى ثم أنصرفت .
) فقال ربّ إنّي لما أنزلت إليّ ( قال قطرب : اللام ههنا بمعنى إلى تقول العرب : احتجت له ، واحتجت إليه بمعنى واحد ، ) من خير ( أي طعام ) فقير ( محتاج ، قال ابن عباس : لقد قال ذلك وإنّ خضرة البقل تتراءى في بطنه من الهزال ما يسأل الله سبحانه إلاّ أكله . قال الباقر : لقد قالها وإنّه لمحتاج إلى شق تمرة .
قالوا : فلمّا رجعتا إلى أبيهما سريعاً قبل الناس وأغنامهما حُفّل بطان ، قال لهما : ما أعجلكما ؟ قالتا : وجدنا رجلا صالحاً رحمنا ، فسقى لنا أغنامنا ( قبل الناس ) ، فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه لي .
القصص : ( 25 ) فجاءته إحداهما تمشي . . . . .
) فجاءته إحداهما تمشي على استحياء ( قال عمر بن الخطاب ( ح ) : مستترة بكم درعها لوف قد سترت وجهها بيدها ، روى قتادة ، عن مطرف ، قال : أما والله لو كان عند نبي الله شيء ما اتبع مذقتها ، ولكنّه حمله على ذلك الجهد
(7/244)
" صفحة رقم 245 "
) قالت إنّ أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا ( فانطلق موسى معها يتبعها ، فهبت الريح ، فألزقت ثوب المرأة بردفها ، فكره موسى أن يرى ذلك منها ، فقال لها : امشي خلفي ، وانعتي لي الطريق ، ودليّني عليها إن أخطأت ، فإنّا بني يعقوب لا ننظر إلى أعجاز النساء ) فلمّا جاءه ( يعني الشيخ ) وقصّ عليه القصص ( أخبره بأمره والسبب الذي أخرجه من أرضه ) قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين ( يعني فرعون وقومه لا سلطان له بأرضنا .
القصص : ( 26 ) قالت إحداهما يا . . . . .
) قالت إحداهما ( وهي التي تزوجها موسى ) يا أبتِ استئجره ( لرعي أغنامنا ) إنّ خير مَنِ استأجرت القويّ الأمين ( ، فقال لها أبوها : وما علمك بقوته وأمانته ؟ فقالت : أما قوته فإنّه لما رآنا حابسي أغنامنا عن الماء ، قال لنا : فهل بقربكما بئر ؟ قلنا : نعم ، ولكن عليها صخرة لا يرفعها إلاّ أربعون رجلا ، قال : انطلقا بي إليها ( فأخذ ) الصخرة بيده فنحّاها .
وأما أمانته فإنّه قال لي في الطريق : امشي خلفي ، وإن أخطأت فارمي قدامي بحصاة حتى أنهج نهجها .
القصص : ( 27 ) قال إني أريد . . . . .
) قال ( عند ذلك الشيخ لموسى ) إنّي أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين ( واسمهما صفورة ولباني ، قول شعيب الجبّائي قال : امرأة موسى صفورة ، وقال ابن إسحاق : صفورة وشرفا ، وغيرهما : الكبرى صفرا والصغرى صفيرا ) على أن تأجرني ( يعني آجرني ، وقالت الأئمة : على أن تثيبني من تزويجها رعيّ ماشيتي ) ثماني حِجَج ( سنين واحدتها حجة ، جعل صداقها ذلك ، قال : ( يقول العرب ) آجرك الله فهو يأجرك بمعنى أثابك ) فإن أتممت عشراً ( أي عشر سنين ) فمن عندك ( وأنت به متبرع متفضل وليس مما اشترطه عليك في عقد النكاح ) وما أريد أن أشق عليك ( .
) ستجدني إن شاء الله من الصالحين ( من الوافين بالعهد ، المحسنين الصحبة
القصص : ( 28 ) قال ذلك بيني . . . . .
) قال ذلك بيني وبينك أيّما الأجلين قضيتُ ( الثمان أو العشر ) فلا عدوان عليَّ والله على ما نقول وكيل ( شهيد وحفيظ .
وقالت العلماء بأخبار الأنبياء : أنّ موسى وصاحبه ( عليهما السلام ) لما تعاقدا بينهما هذا العقد أمر صهره احدى بنتيه أن تعطي موسى عصا يدفع بها السباع عن غنمه ، واختلفوا في حال تلك العصا ، فقال عكرمة : خرج بها آدم من الجنة وأخذها جبريل بعد موت آدم ، فكانت معه حتى لقي بها موسى ليلا فدفعها إليه ، وقال آخرون : لم يزل الأنبياء يتوارثونها حتى وصلت إلى شعيب وكانت عصيّ الأنبياء عنده ، فأعطاها موسى
(7/245)
" صفحة رقم 246 "
وقال السدي : كانت تلك العصا استودعها ملك في صورة رجل ، وأمر ابنته أن تأتيه بعصا ، فدخلت الجارية فأخذت العصا فأتته بها ، فلمّا رآها الشيخ قال لابنته ، آتيه بغيرها ، فلمّا رمتها تريد أن تأخذ غيرها فلا تقع في يدها إلاّ هي ، كلّ ذلك تطير في يدها حتى فعلت ذلك مرات ، فأعطاها موسى ، فأخرجها معه ، ثم إنّ الشيخ ندم ، وقال : كانت وديعة ، فخرج يتلقّى موسى ، فلمّا لقيه ، قال : أعطني العصا ، قال موسى : هي عصاي ، فأبى أن يعطيه ، فاختصما حتى رضيا أن يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما ، فأتاهما ملك يمشي ، فقضى بينهما ، فقال : ضعوها بالأرض فمن حملها فهي له ، فعالجها الشيخ فلم يطقها ، وأخذها موسى بيده فرفعها ، فتركها له الشيخ .
وروى حيان عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس أنّه قال : كان في دار يثرون بيت لا يدخله إلاّ يثرون وابنته التي زوجها موسى ، كانت تكنسه وتنظّفه ، وكان في البيت ثلاث عشرة عصا ، وكان ليثرون أحد عشر ولداً من الذكور ، فكلّما أدرك منهم ولد أمره بدخول البيت وإخراج عصا من تلك العصيّ ، فجعل يحترق الولد حتى هلك كلّهم ، فرجع موسى ذات يوم إلى منزله فلم يجد أهله ، واحتاج إلى عصا لرعيه ، فدخل ذلك البيت وأخذ عصا من تلك العصي وخرج بها ، فلمّا علمت بذلك امرأته انطلقت إلى أبيها ، وأخبرته بذلك ، فسُرَّ بها يثرون وقال لها : إنّ زوجك هذا نبي وإنّ له مع هذه العصا لشأناً .
وفي بعض الأخبار أنّ موسى ( عليه السلام ) لمّا أصبح من الغد بعد العقد وأراد الرعي قال له صهره شعيب : اذهب بهذه الأغنام ، فإذا بلغت مفرق الطريق فخذ على يسارك ولا تأخذ على يمينك وإنْ كان الكلأ بها أكثر ، فإنّ هناك تنيناً عظيماً أخشى عليك وعلى الأغنام منه . فذهب موسى بالأغنام ، فلمّا بلغ مفرق الطريق أخذت الأغنام ذات اليمين ، فاجتهد موسى على أن يصرفها إلى ذات الشمال فلم تطعه فسار موسى على أثرها ، فرأى عشباً وريفاً لم ير مثله ، ولم ير التنين ، فنام موسى والأغنام ترعى ، فإذا بالتنين قد جاء ، فقامت عصا موسى وحاربته حتى قتلته وعادت إلى جنب موسى وهي دامية .
فلمّا استيقظ موسى رأى العصا دامية والتنين مقتولا ، فارتاح لذلك وعلم أنّ لله سبحانه في تلك العصا قدرة وإرادة ، فعاد إلى شعيب ، وكان شعيب ضريراً فمس الأغنام ، فإذا هي أمثل حالا مما كانت ، فسأله ، فأخبره موسى بالقصة ، ففرح بذلك شعيب وعلم أنّ لموسى وعصاه شأناً ، فأراد شعيب أن يجازي موسى على حسن رعيه إكراماً له وصلة لابنته فقال له : إنّي قد وهبت لك ( من ) الجدايا التي تضعها أغنامي في هذه السنة كل أبلق وبلقاء فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك الماء الذي في مستقى الأغنام .
قال : فضرب موسى بعصاه الماء ثم سقى الأغنام منه ، فما أخطأت واحدة منها إلاّ وقد
(7/246)
" صفحة رقم 247 "
وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء ، فعلم شعيب أنّ ذلك رزق ساقه الله إلى موسى وامرأته ، فوفى له بشرطه وسلّم إليه الأغنام .
2 ( ) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الاَْجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ ءَانَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لاَِهْلِهِ امْكُثُواْ إِنِّىءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِّىءَاتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِىَ مِن شَاطِىءِ الْوَادِى الأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يامُوسَى إِنِّىأَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَءَاهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يامُوسَى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الاَْمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ وَأَخِى هَرُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّى لِسَاناً فَأَرْسِلْهِ مَعِىَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِى إِنِّىأَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِئْايَاتِنَآ أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ ( 2
القصص : ( 29 ) فلما قضى موسى . . . . .
) فلمّا قضى موسى الأجل ( أي أتمه وفرغ منه . أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون قال : أخبرنا مكي بن عبدان عن عبد الرحمن ، قال : حدّثنا عبد الرحمن بن بشر ، قال : حدّثنا موسى بن عبد العزيز ، قال : حدّثنا الحكم بن أبان ، قال : حدّثني عكرمة ، قال : قال ابن عباس : سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أي الأجلين قضى موسى ؟ قال : ( أبعدهما وأطيبهما ) .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني ، قال : حدّثنا محمد بن عبد الله بن سليمان ، قال : حدّثنا محمد بن عبد الجبار الهمذاني ، قال : حدّثنا يحيى بن بكير قال : حدّثنا ابن لهيعة ، عن الحارث بن زيد ، عن علي بن رباح ، عن عتبة بن التيب وكان من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يسكن الشام ، ومات في زمن عبد الملك قال : سئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أي الأجلين قضى موسى ؟ قال : ( أبرهما وأوفاهما ) .
وروى محمد بن إسحاق ، عن حكم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال لي يهودي بالكوفة وأنا أتجهز للحج : إنّي أراك رجلا تتبع العلم ، أخبرني أي الأجلين قضى موسى ؟ قلت : لا أعلم ، وأنا الآن قادم على حبر العرب يعني ابن عباس فسأسأله عن ذلك ، فلمّا قدمت مكة سألت ابن عباس عن ذلك ، فقال : قضى أكثرهما وأطيبهما ، إنّ النبي إذا وعد لم يخلف ، قال
(7/247)
" صفحة رقم 248 "
سعيد : فقدمت العراق ، فلقيت اليهودي فأخبرته ، فقال : صدق ، ما أنزل على موسى هذا والله العالم . وقال وهب : أنكحه الكبرى ، وقد روي أنّ النبي ( عليه السلام ) قال : ( تزوج صغراهما وقضى أوفاهما ) فإن صح هذا الخبر فلا معدل عنه .
وقال مجاهد : لما قضى موسى الأجل ومكث بعد ذلك عند صهره عشراً أخرى ، فأقام عنده عشرين سنة ، ثم إنّه استأذنه في العودة إلى مصر لزيارة والدته وأخيه ، فأذن له ، فسار بأهله وماله ، وكانت أيام الشتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام ، وامرأته في شهرها لا يدري أليلا تضع أم نهاراً ، فسار في البرية غير عارف بطرقها فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة شديدة البرد ، وأخذ امرأته الطلق ، فقدح زنداً فلم تور ( المقدحة شيئاً ) ، فآنس من جانب الطور ناراً ) قال لأهله امكثوا إنّي آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة ( قطعة وشعلة ) من النار ( وفيها ثلاث لغات : فتح الجيم وهي قراءة عاصم ، وضمها وهي قراءة حمزة ، وكسرها وهي قراءة الباقين ، وقال قتادة ومقاتل : الجذوة : العود الذي قد احترق بعضه ، وجمعها جُذيّ ، قال ابن مقبل :
باتت حواطب ليلى يلتمسن لها
جزل الجُذي غير خوار ولا دعر
) لعلكم تصطلون ( أي تستدفئون وتستحمّون بها من البرد
القصص : ( 30 ) فلما أتاها نودي . . . . .
) فلمّا أتاها نودي من شاطئ ( جانب ) الواد الأيمن ( عن يمين موسى ) في البقعة المباركة ( وقرأ أشهب العقيلي ) في البقعة ( بفتح الباء ) من الشجرة ( أي من ناحية الشجرة ) أن يا موسي إنّي أنا الله ربّ العالمين ( قال عبد الله بن مسعود : كانت الشجرة سمرة خضراء ترق ، قتادة ، عوسجة ، وهب : علّيق .
القصص : ( 31 ) وأن ألق عصاك . . . . .
) وأن ألقِ عصاك فلمّا رآها تهتز ( تتحرك ) كأنّها جانٌ ( وهي الحيّة الصغيرة من سرعة حركته ) ولّى مدبراً ( هارباً منها ) ولم يعقّب ( ولم يرجع ، فنودي ) يا موسى أقبل ولا تخف إنّك من الآمنين }
القصص : ( 32 ) اسلك يدك في . . . . .
) اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ( فخرجت كأنّها مصباح ) واضمم إليك جناحك من الرهب ( قرأ حفص بفتح الراء وجزم ( الهاء ) ، وقرأ أهل الكوفة والشام بضمّ ( الراء ) وجزم ( الهاء ) ، غيرهم بفتح ( الراء ) و ( الهاء ) ، دليلهم قوله سبحانه : ) ويدعوننا رغباً ورهباً ( وكلّها لغات بمعنى الخوف والفَرَق .
(7/248)
" صفحة رقم 249 "
ومعنى الآية إذا هالك أمر يدك وما ترى من شعاعها ، فأدخلها في جيبك تعد إلى حالتها الأولى ، وقال بعضهم : أمره الله سبحانه وتعالى أن يضم يده إلى صدره ليذهب الله عز وجل ما ناله من الخوف عند معاينة الحية ، وقيل : معناه سكّنْ روعك واخفض عليك جأشك لأنّ من شأن الخائف أن يضطرب قلبه ويرتعد بدنه ، وضم الجناح هو السكون ، ومثله قوله سبحانه ) واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ( يريد الرفق ، وقوله سبحانه : ) واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ( أي ارفق بهم وألن جانبك لهم ، وقال الفرّاء : أراد بالجناح عصاه .
وقال بعض أهل المعاني : الرهب ، الكُم بلغة حمير وبني حنيفة ، وحُكي عن الأصمعي أنّه سمع بعض الأعراب يقول لآخر : أعطني ما في رهبك ، قال : فسألته عن الرهب ؟ فقال : الكُم ، ومعناه على هذا التأويل : اضمم إليك يدك وأخرجها من الكُم ؛ لأنّه تناول العصا ويده في كُمّه .
) فذانك ( قراءة العامة بتخفيف ( النون ) ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتشديد ( النون ) وهي لغة قريش ، وفي وجهها أربعة أقوال : قيل : شدّد النون عوضاً من ( الألف ) الساقطة ولم يلتفت إلى التقاء الساكنين لأنّ أصله ) فذانك ( فحذفت الألف الأُولى لالتقاء الساكنين .
وقيل : التشديد للتأكيد كما أدخلوا اللام في ذلك . وقيل : شُدّدت فرقاً بينها وبين التي تسقط للإضافة ؛ لأنّ ذان لا تضاف . وقيل : للفرق بين تثنية الاسم المتمكن وبينها . قال أبو عبيد : وكان أبو عمرو يخص هذا الحرف بالتشديد دون كلّ تثنية في القرآن ، وأحسبه فعل ذلك لقلة الحروف في الاسم ، فقرأه بالتثقيل .
ومعنى الآية ) فذانك ( يعني العصا واليد البيضاء ) برهانان من ربّك إلى فرعون وملائه إنّهم كانوا قوماً فاسقين }
القصص : ( 33 - 34 ) قال رب إني . . . . .
) قال ربّ إنّي قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون وأخي هارون هو أفصح مني لساناً ( وأحسن بياناً ، وإنّما قال ذلك للعقدة التي كانت في لسانه ) فأرْسله معي ردءاً ( معيناً ، يقال : أردأته أي أعنته ، وترك همزه عيسى بن عمر وأهل المدينة طلباً للخفّة ) يصدّقني ( قرأه العامة بالجزم ، ورفعه عاصم وحمزة ، وهو اختيار أبو عبيد ، فمن جزمه فعلى جواب الدعاء ، ومن رفعه فعلى الحال ، أي ردءاً مصدقاً حاله التصديق كقوله سبحانه : ) ربّنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون ( أي كائنة حال صرف إلى الاستقبال .
) إنّي أخاف أن يكذّبون }
القصص : ( 35 ) قال سنشد عضدك . . . . .
) قال سنشد عضدك ( أن نقويك ونعينك ) بأخيك ( وكان هارون يومئذ بمصر ) ونجعل لكما سلطاناً ( قوة وحجة وبرهاناً ) فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون ( .
(7/249)
" صفحة رقم 250 "
2 ( ) فَلَمَّا جَآءَهُم مُّوسَى بِئَايَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَاذَا فِىءَابَآئِنَا الاَْوَّلِينَ وَقَالَ مُوسَى رَبِّىأَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بِالْهُدَى مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأَيُّهَا الْملاَُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَاهٍ غَيْرِى فَأَوْقِدْ لِى ياَهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّى صَرْحاً لَّعَلِّىأَطَّلِعُ إِلَى إِلَاهِ مُوسَى وَإِنِّى لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِى الاَْرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِى الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لاَ يُنصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُم فِى هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الاُْولَى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ( 2
القصص : ( 36 ) فلما جاءهم موسى . . . . .
) فلمّا جاءهم موسى بآياتنا بيّنات قالوا ما هذا إلاّ سحرٌ مفترىً وما سمعنا بهذا ( الذي تدعونا إليه ) في آبائنا الأوّلين (
القصص : ( 37 ) وقال موسى ربي . . . . .
) وقال موسى ( قراءة العامة بالواو ، وقرأ أهل مكة بغير واو ، وكذلك هو في مصاحفهم ) ربّي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ( بالمحق من المبطل ) ومن تكون له ( ( قرأ ) بالياء أهل الكوفة والباقون بالتاء . ) عاقبة الدار ( أي العقبى المحمودة في الدار الآخرة ) إنّه لا يفلح الظالمون ( لا ينجح الكافرون .
القصص : ( 38 ) وقال فرعون يا . . . . .
) وقال فرعون يا أيّها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين ( فاطبخ لي الآجر ، وقيل : إنّه أول من اتخذ الآجر وبنى به .
قال أهل التفسير : لمّا أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح ، جمع هامان العمال والفعلة حتى اجتمع خمسون ألف بنّاء سوى الأتباع والأُجَراء ومن يطبخ الآجر والجص ، وينجر الخشب والأبواب ، ويضرب المسامير ، فرفعوه وشيّدوه حتى ارتفع ارتفاعاً لم يبلغه بنيان أحد من الخلق منذ خلق الله السموات والأرض ، أراد الله سبحانه أن يفتنهم فيه ، فلمّا فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه ، فأمر بنشابه فرمى بها نحو السماء ، فردّت إليه وهي ملطّخة دماً .
فقال : قد قتلتُ إله موسى ، قالوا : لو كان فرعون يصعده على البراذين ، فبعث الله سبحانه جبريل ( عليه السلام ) ( عند ) غروب الشمس ، فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع ، فوقعت قطعة منها على عسكر فرعون فقتلت منهم ألف رجل ، ووقعت قطعة منها في البحر ، وقطعة في المغرب ، ولم يبق أحد ممن عمل فيه بشيء إلاّ هلك ، فذلك قوله تعالى : ) فأوقد لي يا هامان على الطين ( ، ) فاجعل لي صرحاً ( قصراً ) لعلي أطّلع إلى إله موسى ( أنظر إليه وأقف على حاله .
(7/250)
" صفحة رقم 251 "
) وإنّي لأظنّه ( يعني موسى ) من الكاذبين ( في ادعائه كون إله غيري وأنّه رسوله
القصص : ( 39 - 40 ) واستكبر هو وجنوده . . . . .
) واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنّوا أنّهم إلينا لا يرجعون فأخذناه وجنوده فنبذناهم ( فألقيناهم ) في اليمّ ( يعني البحر ، قال قتادة : هو بحر من وراء مصر يقال له : أساف ، غرّقهم الله فيه ) فانظر كيف كان عاقبة الظالمين 2 )
القصص : ( 41 ) وجعلناهم أئمة يدعون . . . . .
) وجعلناهم أئمّة ( قادة ورؤساء ) يدعون إلى النّار ويوم القيامة لا يُنصرون (
القصص : ( 42 - 43 ) وأتبعناهم في هذه . . . . .
) وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ( حزناً وعذاباً ) ويوم القيامة هم من المقبوحين ( الممقوتين ، وقال أبو عبيدة وابن كيسان : المهلكين ، وقال ابن عباس : يعني المشوّهين الخلقة بسواد الوجه وزرقة العيون ، قال أهل ( اللغة ) يقال : قبحه الله ، وقبّحه إذا جعله قبيحاً ) ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأُولى بصائر للناس وهدىً ورحمة لعلّهم يتذكّرون ( .
أخبرنا شعيب بن محمد قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدّثنا أحمد بن الأزهر ، قال : حدّثنا روح بن عبادة ، عن عوف ، عن أبي نصرة ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه قال : ( ما أهلك الله عز وجل قوماً ولا قرناً ولا أُمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء منذ أنزل الله سبحانه التوراة على وجه الأرض غير القرية التي مسخوا قردة ، ألم تر أنّ الله سبحانه قال : ) ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى ( الآية ) .
القصص : ( 44 ) وما كنت بجانب . . . . .
) وما كنت ( يا محمد ) بجانب الغربي ( أي غربي الجبل ) إذ قضينا إلى موسى الأمر ( أي أخبرناه بأمرنا ونهينا ، وألزمناه عهدنا ) وما كنت من الشاهدين ( الحاضرين هناك تذكرة من ذات نفسك
القصص : ( 45 ) ولكنا أنشأنا قرونا . . . . .
) ولكنّا أنشأنا ( أحدّثنا وخلقنا ) قروناً فتطاول عليهم العمر ( فنسوا عهد الله سبحانه وتركوا أمره ، نظيره ) فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ( ) وما كنت ثاوياً ( مقيماً ) في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنّا كنّا مرسلين ( يعني أرسلناك رسولا وأنزلنا عليك كتاباً فيه هذه الأخبار ، فتتلوها عليهم ولولا ذلك لما علمتها ولما أخبرتهم ) بما تشاهده ، وما كنت بجانب الطور إذ نادينا موسى : خذ الكتاب بقوة .
( ) وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِىِّ إِذْ قَضَيْنَآ إِلَى مُوسَى الاَْمْرَ وَمَا كنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ وَلَكِنَّآ أَنشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِياً فِىأَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَاكِن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَلَوْلاأَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلاأَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتِّبِعَ ءايَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا جَآءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لَوْلاأُوتِىَ
(7/251)
" صفحة رقم 252 "
مِثْلَ مَآ أُوتِىَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِىَ مُوسَى مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 2
قال وهب بن منبه : قال موسى يا رب أرني محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قال : إنّك ) لن تصل إلى ذلك ، وإن شئت ناديت أمّته فأسمعتك صوتهم ، قال : ( بلى يا رب ) ، فقال الله سبحانه : يا أُمّة محمد ، فأجابوه من أصلاب آبائهم .
وأخبرنا عبد الله بن حامد الأصفهاني ، قال أخبرنا محمد بن جعفر المطري ، قال : حدّثنا الحماد بن الحسن ، قال : حدّثنا أبو بكر ، قال : حدّثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي مدرك ، عن أبي زرعة يعني ابن عمرو بن جرير
القصص : ( 46 ) وما كنت بجانب . . . . .
) وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ( قال : قال : يا أُمّة محمد قد أجبتكم من قبل أن تدعوني ، وأعطيتكم من قبل أن تسألوني .
وأخبرني عبد الله بن حامد الوزان ، قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان ، قال : حدّثنا جيعويه بن محمد ، قال : حدّثنا صالح بن محمد ، قال : وأخبرنا عثمان بن أحمد ، قال : حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الجبلي ، قال : حدّثنا محمد بن الصباح بن عبد السلم ، قال : حدّثنا داود أبو سلمان كلاهما ، عن سلمان بن عمرو ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد الساعدي ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قول الله سبحانه : ) وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ( قال : ( كتب الله عزّوجل كتاباً قبل أن يخلق الخلق بألفي عام في ورقة آس ، ثم وضعها على العرش ، ثم نادى : يا أُمّة محمد إنّ رحمتي سبقت غضبي ، أعطيتكم قبل أن تسألوني ، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ، من لقيني منكم يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً عبدي ورسولي أدخلته الجنّة ) .
) ولكن رحمة من ربّك ( قراءة العامة بالنصب على الخبر ، تقديره : ولكن رحمناك رحمة ، وقرأ عيسى بن عمر ) رحمة ( بالرفع يعني ( ولكنه رحمة من ربك ) إذا أطلعك عليه وعلى الأخبار الغائبة عنك ) لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك ( يعني أهل مكة ) لعلّهم يتذكرون ( .
القصص : ( 47 ) ولولا أن تصيبهم . . . . .
) ولولا أن تصيبهم مصيبة ( عقوبة ونقمة ) بما قدّمت أيديهم ( من الكفر والمعصية
(7/252)
" صفحة رقم 253 "
) فيقولوا ربّنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتّبع آياتك ونكون من المؤمنين ( وجواب لولا محذوف أي لعاجلناهم بالعقوبة ، وقيل معناه : لما أرسلناك إليهم رسولا ، ولكنا بعثناك إليهم ) لئلاّ يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ( ،
القصص : ( 48 ) فلما جاءهم الحق . . . . .
) فلمّا جاءهم الحقّ من عندنا ( يعني محمد ( عليه السلام ) ) قالوا ( يعني كفار مكة ) لولا أُوتي ( محمد ) مثل ما أُوتي موسى ( كتاباً جملة واحدة .
قال الله تعالى : ) أولم يكفروا بما أُوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا ( قال الكلبي : وكانت مقالتهم تلك حين بعثوا الرهط منهم إلى رؤوس اليهود بالمدينة في عيد لهم ، فسألوهم عن محمد ( عليه السلام ) فأخبروهم أنّه نعته وصفته ، وأنّه في كتابهم التوراة ، فرجع الرهط إلى قريش ، فأخبروهم بقول اليهود ، فقالوا عند ذلك ) ساحران تظاهرا ( قرأ أهل الكوفة ) سحران ( بغير ألف وهي قراءة ابن مسعود ، وبه قرأ عكرمة ، واحتج بقوله :
القصص : ( 49 ) قل فأتوا بكتاب . . . . .
) قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما ( وقرأ الآخرون ) ساحران ( بالألف ، واختاره أبو حاتم وأبو عبيدة ، لأن معنى التظاهر بالناس وأفعالهم أشبه منه بالكتب ، فمن قرأ ) سحران ( أراد التوراة والقرآن ، ومن قرأ ) ساحران ( أراد موسى ومحمداً ( عليهما السلام ) .
) وقالوا إنّا بكل كافرون قل ( لهم يا محمد ) فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين (
القصص : ( 50 ) فإن لم يستجيبوا . . . . .
) فإن لم يستجيبوا لك ( ولم يأتوا به ) فاعلم أنّما يتبعون أهواءهم ومن أضلّ ممّن اتبع هواه بغير هدىً من الله إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين ( .
2 ( ) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ الَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءَامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ أُوْلَائِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً ءَامِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَىْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِىأُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَىْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( 2
(7/253)
" صفحة رقم 254 "
القصص : ( 51 ) ولقد وصلنا لهم . . . . .
) ولقد وصّلنا لهم القول ( ابن عباس ومجاهد : فصّلنا ، ابن زيد : وصلنا لهم خير الدنيا بخير الآخرة حتى كأنّهم عاينوا الآخرة في الدنيا ، وقال أهل المعاني : أي والينا وتابعنا ، وأصلة من وصل الجبال بعضها إلى بعض ، قال الشاعر :
فقل لبني مروان ما بال ذمّة
وحبل ضعيف ما يزال يوصّل
وقرأ الحسن ) وصّلنا ( خفيفة ، وقراءة العامة بالتشديد على التكثير ) لعلّهم يتذكّرون }
القصص : ( 52 ) الذين آتيناهم الكتاب . . . . .
) الذين آتيناهم الكتاب من قبله ( أي من قبل محمد ( عليه السلام ) ) هم به يؤمنون ( نزلت في مؤمني أهل الكتاب
القصص : ( 53 ) وإذا يتلى عليهم . . . . .
) وإذا يتلى عليهم ( يعني القرآن ) قالوا آمنّا به إنّه الحقّ من ربّنا إنّا كنّا من قبله مسلمين }
القصص : ( 54 ) أولئك يؤتون أجرهم . . . . .
) أُولئك يؤتون أجرهم مرتين ( لإيمانهم بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر ) بما صبروا ( على دينهم ، قال مجاهد : نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا فأُوذوا ) ويدرؤون ( ويدفعون ) بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون }
القصص : ( 55 ) وإذا سمعوا اللغو . . . . .
) وإذا سمعوا اللغو ( القبيح من القول ) أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلامٌ عليكم لا نبتغي الجاهلين ( أي دين الجاهلين عن الكلبي ، وقيل : محاورة الجاهلين ، وقيل : لا نريد أن نكون جهالا .
القصص : ( 56 ) إنك لا تهدي . . . . .
) إنّك لا تهدي من أحببت ( أي من أحببت هدايته ، وقيل : من أحببته ، نزلت في أبي طالب .
حدّثنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي إملاءً قال : أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ ، قال : حدّثنا عبد الرحمن بن بشر ، قال : حدّثنا يحيى بن سعيد ، عن زيد بن كيسان ، قال : حدّثني أبو حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لعمّه : ( قل لا إله إلاّ الله أشهد لك بها يوم القيامة ) قال : لولا أن تعيّرني نساء قريش يقلن : إنّه حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك ، فأنزل الله سبحانه ) إنّك لا تهدي من أحببت ( ، ) ولكنّ الله يهدي من يشاء ( .
(7/254)
" صفحة رقم 255 "
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال : أخبرنا مكي بن عبدان ، قال : حدّثنا محمد بن يحيى وأحمد بن يوسف قالا : حدّثنا عبد الرزاق قال : وأخبرنا محمد بن الحسين ، قال : حدّثنا أحمد بن يوسف السلمي ، قال : حدّثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا أبو سعيد بن حمدون ، قال : أخبرنا ابن الشرقي ، قال : حدّثنا محمد بن يحيى ، قال : حدّثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبيه ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه دخل على عمّه أبي طالب في مرضه الذي مات فيه وعنده أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية فقال : ( يا عمي قل : لا إله إلاّ الله كلمة أحاجّ لك بها عند الله ) .
فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أُمية : يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطلب ؟
فقال : بل على ملّة عبد المطلب . فأنزل الله سبحانه ) إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ( ) وهو أعلم بالمهتدين ( أخبرني ابن فنجويه ، قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد ابن مالك ، قال : حدّثنا محمد بن إبراهيم الطيالسي ، قال : حدّثنا الحسين بن علي بن يزيد المدايني ، قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا الفضل بن العباس الهاشمي ، قال : حدّثنا عبد الوهاب ابن عبد المجيد الثقفي ، قال : حدّثنا يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن الزهري ، عن محمد بن ( جبير عن ) مطعم ، عن أبيه قال : لم يستمع أحد الوحي يلقى على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلاّ أبو بكر الصديق ، فإنّه أتى إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فوجده يوحى إليه فسمع ) إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين 2 )
القصص : ( 57 ) وقالوا إن نتبع . . . . .
) وقالوا إن نتّبع الهدى معك ( الآية نزلت في الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف وذلك أنّه قال للنبي ( عليه السلام ) أنّا لنعلم إنّ الذي تقول حقّ ، ولكن يمنعنا إتباعك أنّ العرب
(7/255)
" صفحة رقم 256 "
تتخطّفنا من أرضنا ، لإجماعهم على خلافنا ولا طاقة لنا بهم ، فأنزل الله سبحانه ) وقالوا إن نتّبع الهدى معك نُتخطّف من أرضنا ( مكة .
قال الله سبحانه : ) أولم نمكّن لهم حرماً آمناً ( وذلك أنّ العرب في الجاهلية كان يغير بعضهم على بعض ، فيقتل بعضهم بعضاً ، وأهل مكة آمنون حيث كانوا لحرمة الحرم ) يُجبى إليه ثمرات ( يجلب ويجمع ، قرأ أهل المدينة ويعقوب ( تجبى ) بالتاء لأجل الثمرات واختاره أبو حاتم وقرأ غيرهم بالياء كقوله ) كلّ شيء ( واختاره أبو عبيد قال : لأنّه قد حال بين الاسم المؤنث والفعل حائل ) رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون 2 )
القصص : ( 58 ) وكم أهلكنا من . . . . .
) وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها ( ، أي أشرت وطغت ، فكفرت بربّها ، قال عطاء بن رياح : أي عاشوا في البطر والأشر وأكلوا رزق الله وعبدوا الأصنام ، وجعل الفعل للقرية وهو في الأصل للأهل ، وقد مضت هذه المسألة ) فتلك مساكنهم لم تُسكن من بعدهم إلاّ قليلا ( يعني فلم يعمر منها إلاّ أقلها ، وأكثرها خراب ، قال ابن عباس : لم يسكنها إلاّ المسافر ومار الطريق يوماً أو ساعة ) وكنّا نحن الوارثين ( نظيره قوله سبحانه : ) إنّا نحن نرث الأرض ومن عليها ( وقوله : ) ولله ميراث السموات والأرض ( .
القصص : ( 59 ) وما كان ربك . . . . .
) وما كان ربّك مُهلك القرى ( بكفر أهلها ) حتى يبعث في أُمّها ( يعني مكة ) رسولا يتلوا عليهم آياتنا وما كنّا مهلكي القرى إلاّ وأهلها ظالمون ( كافرون
القصص : ( 60 ) وما أوتيتم من . . . . .
) وما أتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خيرٌ وأبقى أفلا تعقلون ( بالياء أبو عمرو ، يختلف عنه الباقون بالتاء .
2 ( ) أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَاؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ وَقِيلَ ادْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الاَْنبَآءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ فَأَمَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ وَهُوَ اللَّهُ لاإِلَاهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِى الاُْولَى وَالاَْخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ وَمِن
(7/256)
" صفحة رقم 257 "
رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُواْ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ( 2
القصص : ( 61 ) أفمن وعدناه وعدا . . . . .
) أفمن وعدناه وعداً حسناً ( يعني الجنة ) فهو لاقيه ( مدركه ومصيبه ) كمن متّعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين ( في النار ، نظيره قوله سبحانه : ) ولولا نعمة ربّي لكنت من المحضرين ( قال مجاهد : نزلت في النبي ( عليه السلام ) وفي أبي جهل بن هشام . محمد بن كعب : في حمزة وعلي وفي أبي جهل . السدي : عمار والوليد بن المغيرة .
القصص : ( 62 ) ويوم يناديهم فيقول . . . . .
) ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ( في الدنيا أنّهم شركائي
القصص : ( 63 - 64 ) قال الذين حق . . . . .
) قال الذين حقّ عليهم القول ( وجب عليهم العذاب وهم الرؤوس عن الكلبي ، غيره : الشياطين ) ربّنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرّأنا إليك ( منهم ) ما كانوا إيّانا يعبدون وقيل ( لبني آدم الكفار ) ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنّهم كانوا يهتدون ( جواب ( لو ) مضمر ، أي لو كانوا يهتدون لما رأوا العذاب ، وقيل معناه : ودّوا إذا رأوا العذاب لو أنّهم كانوا يهتدون .
القصص : ( 65 - 66 ) ويوم يناديهم فيقول . . . . .
) ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين فعميت ( فخفيت واشتبهت ) عليهم الأنباء ( يعني الأخبار والأعذار والحجج ) يومئذ ( لأنّ الله سبحانه قد أعذر إليهم في الدنيا ، فلا يكون لهم حجة ولا عذر يوم القيامة ) فهم لا يتساءلون ( لا يجيبون ، قتادة : لا يحتجّون ، وقيل : يسكتون ، لا يسئل بعضهم بعضاً ، مجاهد : لا يتساءلون بالأنساب كما كانوا يفعلون في الدنيا ، نظيره قوله سبحانه : ) فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ( .
القصص : ( 67 - 68 ) فأما من تاب . . . . .
) فأمّا من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين وربّك يخلُقُ ما يشاء ويختار ( وهذا جواب لقول الوليد بن المغيرة : ) لولا نُزّل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ( أخبر الله سبحانه أنّه لا يبعث الرسل باختيارهم .
وهذا من الجواب المفصول ، وللقراء في هذه الآية طريقان :
أحدهما : أن يمرّ على قوله : ) ويختار ( ) ما كان لهم الخيرة ( ويجعل ( ما ) إثباتاً بمعنى الذي ، أي ويختار لهم ما هو الأصلح والخير
(7/257)
" صفحة رقم 258 "
والثاني : أن يقف على قوله : ) ويختار ( ويجعل ما نفياً أي ليس إليهم الاختيار ، وهذا القول أصوب وأعجب إليّ كقوله سبحانه : ) وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمْراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ( ، وأنشدني أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب ، قال : أنشدني أبو جعفر محمد بن صالح ، قال : أنشدنا حماد بن علي البكراوي لمحمود بن الحسن الوراق :
توكل على الرحمن في كلّ حاجة
أردت فإنّ الله يقضي ويقدر
إذا ما يردْ ذو العرش أمراً بعبده
يصبْه وما للعبد ما يتخيّر
وقد يهلك الإنسان من جه حذره
وينجو بحمد الله من حيث يحذر
وأنشدني الحسين بن محمد ، قال : أنشدني أبو الفوارس حنيف بن أحمد بن حنيف الطبري :
العبد ذو ضجر والربّ ذو قدر
والدهر ذو دول والرزق مقسوم
والخير أجمع فيما اختار خالقنا
وفي اختيار سواه اللؤم والشوم
روى سعيد بن المسيب ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إنّ الله عز وجل اختار أصحابي على جميع العالمين سوى النبيين والمرسلين ، واختار من أصحابي أربعة : أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ( رضوان الله عليهم أجمعين ) فجعلهم خير أصحابي ، وفي كلّ أصحابي خير ، واختار أُمتي على سائر الأمم ، واختار لي من أمتي أربعة قرون بعد أصحابي : القرون الأول والثاني والثالث تترى والرابع فردي ) .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شيبة ، قال : حدّثنا جعفر بن أحمد الواسطي ، قال : حدّثنا محمد بن عبيد قال : حدّثنا يوسف بن يعقوب السلمي ، قال : حدّثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن وهب بن منبه ، عن أخيه في قوله : ) وربّك يخلق ما يشاء ويختار ( قال : اختار من الغنم الضأن ومن الطير الحمام .
) سبحان الله وتعالى عمّا يشركون }
القصص : ( 69 - 71 ) وربك يعلم ما . . . . .
) وربّك يعلم ما تكنّ صدورهم وما يعلنون وهو الله لا إله إلاّ هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة ( دائماً لا نهار معه .
(7/258)
" صفحة رقم 259 "
) من إلهٌ غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون (
القصص : ( 72 - 75 ) قل أرأيتم إن . . . . .
) قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة ( لا ليل فيه ) من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون ونزعنا ( وأخرجنا وأحضرنا ) من كل أُمّة شهيداً فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا ( حينئذ ) أنّ الحقّ لله ( يعني التوحيد والصدق والحجة البالغة ) وضلّ عنهم ما كانوا يفترون ( .
) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَءَاتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُوْلِى الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الاَْخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِى الاَْرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِىأَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا يالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِىَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الاَْرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنتَصِرِينَ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالاَْمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاأَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ تِلْكَ الدَّارُ الاَْخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الاَْرْضِ وَلاَ فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ مَن جَآءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ إِنَّ الَّذِى فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّىأَعْلَمُ مَن جَآءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَمَا كُنتَ تَرْجُوأَن يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً لِّلْكَافِرِينَ وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءَايَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءَاخَرَ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَىْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 2
القصص : ( 76 ) إن قارون كان . . . . .
) إنّ قارون كان من قوم موسى ( كان ابن عمه لأنّه قارون بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب ، وموسى بن عمران بن فاهث ، هذا قول أكثر المفسرين ، وقال ابن إسحاق : تزوّج يصهر ابن فاهث شميت بنت تباويت بن بركيا بن يقشان بن إبراهيم فولدت له عمران بن يصهر وقارون ابن يصهر ، فنكح ( عمران ) نجيب بنت سمويا بن بركيا بن رمنان بن بركيا فولدت له هارون
(7/259)
" صفحة رقم 260 "
ابن عمران وموسى بن عمران ( عليهم السلام ) ، فموسى على قول ابن إسحاق : ابن اخي قارون وقارون عمه لأبيه وأُمه ، قال قتادة : وكان يسمّى المنوّر لحسن صورته ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة منه ، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري .
) فبغى عليهم ( أخبرني ابن فنجويه ، قال : حدّثنا موسى بن محمد ، قال : حدّثنا الحسن بن علوية ، قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى ، عن المسيّب أنّ قارون كان من قوم موسى ) فبغى عليهم ( قال : كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل وكان يبغي عليهم ويظلمهم ، قال ابن عباس : كان فرعون قد ملّكه على بني إسرائيل حين كان بمصر ، سعيد ، عن قتادة : ) بغى عليهم ( بكثرة ماله وولده ، سفيان عنه : بالكبر والبذخ ، عطاء الخراساني وشهر بن حوشب : زاد عليهم في الثياب شبراً ) وآتيناه من الكنوز ما إنّ مفاتحه ( وهي جمع المفتح ، وهو الذي يفتح به الباب ) لتنوأُ بالعصبة أولي القوة ( أي لتثقل بهم إذا حملوها لثقلها ، يقال : ناء ينوء نوْءاً إذا نهض بثقل ، قال الشاعر :
تنوء بأخراها فلأيا قيامها
وتمشي الهوينا عن قريب فتبهر
واختلفوا في مبلغ عدد العصبة في هذا الموضع ، فقال مجاهد : ما بين العشرة إلى خمسة عشر ، قتادة : ما بين العشرة إلى أربعين ، أبو صالح : أربعون رجلا ، عكرمة منهم من يقول : أربعون ، ومنهم من يقول : سبعون ، الضحّاك عن ابن عباس : ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وقيل : ستون .
روى جرير ، عن منصور ، عن خيثمة ، قال : وجدت في الإنجيل أنّ مفاتيح خزائن قارون توقر ستين بغلا غرّاء محجّلة ، ما يزيد منها مفتاح على أصبع ، لكل مفتاح منها كنز ، مجاهد : كانت المفاتيح من جلود الإبل ، ويقال : كان قارون ( أينما ) ذهب يحمل معه مفاتيح كنوزه ، وكانت من حديد ، فلمّا ثقلت عليه جعلت من خشب ، فثقلت عليه فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع ، وكانت تحمل معه إذا ركب على أربعين بغلا .
وقال بعضهم : أراد بالمفاتيح الحرَّاس وإليه ذهب أبو صالح . وروى حصين ، عن أبي زرين قال : لو كان مفتاح واحد لأهل الكوفة كان كافياً إنّما يعني كنوزه ، فإن قيل : فما وجه قوله : ) ما إنّ مفاتحه لتنوأُ بالعصبة ( وإنّما العصبة هي التي تنوء بها ، قيل فيه قولان : أحدهما
(7/260)
" صفحة رقم 261 "
يميل بهم ويثقلهم حملها ، والآخر قال أهل البصرة : قد يفعل العرب هذا ، تقول للمرأة : إنّها لتنوء بها عجيزتها ، وإنّما هي تنوء بعجيزتها كما ينوء البعير بحمله ، وقال الشاعر :
فديت بنفسه نفسي ومالي
وما آلوك إلاّ ما أطيق
والمعنى فديت بنفسي ومالي نفسه ، وقال آخر :
وتركب خيلا لا هوادة بينها
وتشقي الرماح بالضياطرة الحمر
وإنّما يشقي الضياطرة بالرماح ، والخيل هاهنا : الرجال .
) إذ قال له قومُه ( من بني إسرائيل ) لا تفرح ( لا تأشر ولا تمرح ، ومنه قول الله سبحانه : ) إنّه لفرح فخور ( ، وقال الشاعر :
ولست بمفراح إذا الدهر سرّني
ولا جازع من صرفه المتحول
أراد : لست بأشر ؛ لأن السرور غير مكروه ولا مذموم ) إنّ الله لا يحبّ الفرحين ( الأشِرين البطِرين المتكبِرين الذين لا يشكرون الله سبحانه على ما أعطاهم .
أخبرني ابن فنجويه ، قال : حدّثنا منصور بن جعفر النهاوندي ، قال : حدّثنا أحمد بن يحيى النهاوندي ، قال : حدّثنا أحمد بن يحيى بن الجارود ، قال : حدّثنا محمد بن عمرو بن حيان عن نفته قال : حدّثنا مبشر بن عبد الله في قول الله سبحانه وتعالى : ) لا تفرح ( قال : لا تفسد إنّ الله لا يحب الفرحين المفسدين ، وقال الشاعر :
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة
وتحمل أُخرى أفرحتك الودائع
يعني أفسدتك .
القصص : ( 77 ) وابتغ فيما آتاك . . . . .
) وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ( قال مجاهد وابن زيد : لا تترك أن تعمل في دنياك لآخرتك حتى تنجو من عذاب الله ، وهي رواية علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، وقال علي ( ح ) : لا تنس صحتك وقوتك وشبابك ونشاطك وغناك أن تطلب به الآخرة ، وقال الحسن : ولا تنس أن تطلب فيها كفايتك وغناك مما أحل الله لك منها .
وأنبأني عبد الله بن حامد قال : أخبرنا حامد بن محمد ، قال : حدّثنا أحمد بن علي
(7/261)
" صفحة رقم 262 "
الحران ، قال : حدّثنا سعيد بن سلمة ، قال : حدّثنا خلف بن خليفة ، عن منصور بن زادان في قوله : ) ولا تنس نصيبك من الدنيا ( قال : قوتك وقوة أهلك . وقيل : هو الكفن لأنّه حظه من الدنيا عند خروجه منها .
) وأحسِن ( إلى الناس ) كما أحسن الله إليك ولا تبغ ( ولا تطلب ) الفساد في الأرض إنّ الله لا يحبّ المفسدين }
القصص : ( 78 ) قال إنما أوتيته . . . . .
) قال ( قارون ) إنّما أوتيته على علم ( على فضل علم ) عندي ( علمنيه الله ، ورآني لذلك أهلا ، ففضلني بهذا المال عليكم لفضلي عليكم بالعلم وغيره ، وقيل : هو علم الكيمياء ، قال سعيد بن المسيب : كان موسى ( عليه السلام ) يعلم الكيمياء ، فعلّم يوشع بن نون ثلث ذلك العلم ، وعلّم كالب بن نوفيا ثلثه ، وعلم قارون ثلثه ، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه ، وفي خبر آخر أنّ الله سبحانه وتعالى علّم موسى علم الكيمياء ، فعلّم موسى أُخته ، فعلّمت أخته قارون ، فكان ذلك سبب أقواله ، وقيل : على علم عندي بالتصرف في التجارات والزراعات وسائر أنواع المكاسب والمطالب ، وقيل : في سبب جمعه تلك الأموال ، ما أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسين بن عبد الله قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد قال : حدّثنا محمد بن موسى الحلواني قال : حدّثنا خزيمة بن أحمد ، قال : حدّثنا أحمد بن أبي الجواري ، قال : سمعت أبا سلمان الداراني يقول : يبدي إبليس لقارون وكان قارون قد أقام في جبل أربعين سنة يتعبد حتى إذا غلب بني إسرائيل في العبادة بعث إليه إبليس شياطينه ، فلم يقدروا عليه ، فتبدى هو له وجعل يتعبد ، وجعل قارون وجعل إبليس يقهره بالعبادة ويفوقه ، فخضع له قارون ، فقال له إبليس : يا قارون قد رضينا بهذا الذي نحن فيه ، لا تشهد لبني إسرائيل جماعة ، ولا تعود مريضاً ، ولا تشهد جنازة ، قال : فحذره من الجبل إلى البيعة ، فكانوا يؤتون بالطعام ، فقال إبليس : يا قارون قد رضينا الآن أن يكون هكذا كلا على بني إسرائيل ، فقال له قارون : فأي شيء الرأي عندك ؟ قال : نكسب يوم الجمعة ونتعبد بقية الجمعة ، قال : فكسبوا يوم الجمعة وتعبدوا بقية الجمعة .
فقال : إبليس لقارون : قد رضينا أن يكون هكذي . فقال له قارون : فأي شيء الرأي عندك ، قال : نكسب يوماً ونتعبد يوماً ونتصدق ونعطي ، قال : فلمّا كسبوا يوماً وتعبدوا يوماً خنس إبليس وتركه ، ففتحت على قارون الدنيا ، فبلغ ماله ، ما أخبرنا ابن فنجويه ، قال : أخبرنا موسى ، قال : حدّثنا الحسن ابن علويه ، قال : حدّثنا إسماعيل بن موسى ، عن المسيب بن شريك ) ما إنّ مفاتحه ( قال : أوعيته وكانت أربعمائة ألف ألف في أربعين جراباً .
قال الله سبحانه : ) أولم يعلم أنّ الله قد أهلك من قبله من القرون ( الكافرة ) من هو أشدّ
(7/262)
" صفحة رقم 263 "
منه قوّة وأكثر جمعاً ولا يُسئل عن ذنوبهم المجرمون ( قال قتادة : يدخلون النار بغير حساب ، مجاهد : يعني : إنّ الملائكة لا تسأل عنهم لأنّهم يعرفونهم بسيمائهم ، الحسن : لا يسأل عن ذنوبهم المجرمون ليعلم ذلك من قبلهم فأن سئلوا سؤال تقريع وتوبيخ .
القصص : ( 79 ) فخرج على قومه . . . . .
) فخرج على قومه في زينته ( قال جابر بن عبد الله : في القرمز ، النخعي والحسن : في ثياب حمراء ، مجاهد : على براذين بيض عليها سروج الأُرجوان ، عليهم المعصفرات ، قتادة : على أربعة ألف دابة عليهم وعلى دوابهم ( الأُرجوان ) ، ابن زيد : في سبعين ألفاً عليهم المعصفرات ، قال : وكان ذلك أول يوم رؤيتْ المعصفرات فيما كان يذكر لنا ، مقاتل : على بغلة شهباء عليها سرج من ذهب عليه الأُرجوان ومعه أربعة آلاف فارس وعلى دوابهم الأُرجوان ، ومعه ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحليّ والثياب الحمر على البغال الشهب .
) قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنّه لذو حظّ عظيم ( من المال
القصص : ( 80 ) وقال الذين أوتوا . . . . .
) وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خيرٌ لمن آمن وعمل صالحاً ولا يُلقّاها ( ولا يلقن ويوفق لهذه الكلمة ) إلاّ الصابرون ( على طاعة الله وعن زينة الدنيا .
القصص : ( 81 ) فخسفنا به وبداره . . . . .
) فخسفنا به وبداره الأرض ( قال العلماء بأخبار القدماء : كان قارون أعلم بني إسرائيل بعد موسى وهارون ، وأقرأهم للتوراة وأجملهم وأغناهم ولكنه نافق كما نافق السامري فبغى على قومه ، واختلف في معنى هذا البغي ، فقال ابن عباس : كان فرعون قد ملك قارون على بني إسرائيل حين كان بمصر ، وعن المسيب بن شريك : أنه كان عاملاً على بني إسرائيل وكان يظلمهم ، وقيل : زاد عليهم في الثياب شبرا ، وقيل : بغى عليهم بالكبر ، وقيل : بكثرة ماله ، وكان أغنى أهل زمانه وأثراهم . واختلف في مبلغ عدة العصبة في هذا الموضع فقال مجاهد : ما بين العشرة إلى خمسة عشر ، وقال قتادة : ما بين العشرة إلى أربعين ، وقال عكرمة : منهم من يقول أربعون ومنهم من يقول سبعون ، وقال الضحاك : ما بين الثلاثة إلى العشرة ، وقيل : هم ستون .
وروي عن خثيمة قال : وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلاً غراء محجلة ما يزيد منها مفتاح على إصبع لكل مفتاح منها كنز ، ويقال : كان أينما يذهب تحمل معه وكانت من حديد ، فلمّا ثقلت عليه جعلها من خشب فثقلت عليه فجعلها من جلود البقر على طول الأصابع ، فكانت تحمل معه على أربعين بغلا ، وكان أول طغيانه أنه تكبر واستطال على الناس بكثرة الأموال فكان يخرج في زينته ويختال كما قال تعالى ) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ ( .
قال مجاهد : خرج على براذين بيض عليها سروج الأرجوان وعليهم المعصفرات .
وقال عبد الرحمن : خرج في سبعين ألفا عليهم المعصفرات ، وقال مقاتل : على بغلة
(7/263)
" صفحة رقم 264 "
شهباء عليها سرج من الذهب عليها الأرجوان ومعه أربعة آلاف فارس عليهم وعلى دوابهم الأرجوان ومعه ثلاثة آلاف جارية بيض عليهن الحلي والثياب الحمر على البغال الشهب ، فتمنى أهل الجهالة مثل الذي أوتيه كما حكى الله فوعظهم أهل العلم بالله أن اتقوا الله فإن ثواب الله ( خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ) .
قال : ثم إن الله أوحى إلى نبيه موسى أن يأمر قومه أن يعلقوا في أرديتهم خيوطا أربعة في كل طرف خيطاً أخضر لونه لون السماء ، فدعا موسى بني إسرائيل وقال لهم : إن الله تعالى يأمركم أن تعلقوا في أرديتكم خيوطاً خضراً كَلَون السماء لكي تذكروا ربكم إذا رأيتموها ، وإنه تعالى ينزل من السماء كلامه عليكم ، فاستكبر قارون وقال : إنما تفعل هذه الأرباب بعبيدهم لكي يتميزوا من غيرهم .
ولما قطع موسى ( عليه السلام ) ببني إسرائيل البحر جعل الحبورة وهي رئاسة المذبح وبيت القربان لهارون فكان بنو إسرائيل يأتون بهديتهم ويدفعونه إلى هارون فيضعه على المذبح فتنزل نار من السماء فتأكله ، فوجد قارون في نفسه من ذلك وأتى موسى وقال : يا موسى لك الرسالة ولهارون الحبورة ولست في شيء من ذلك ، وأنا أقرأ للتوراة منكما لا صبر لي على هذا ، فقال موسى : والله ما أنا جعلتها في هارون بل الله تعالى جعلها له فقال قارون : والله لا أصدقك في ذلك حتى تريني بيانه ، قال : فجمع موسى ( عليه السلام ) رؤساء بني إسرائيل وقال : هاتوا عصيكم ، فجاءوا بها فحزمها وألقاها في قبته التي كان يعبد الله تعالى فيها وجعلوا يحرسون عصيهم حتى أصبحوا ، فأصبحت عصا هارون ( عليه السلام ) قد اهتز لها ورقٌ أخضر ، وكانت من ورق شجر اللوز ، فقال موسى : يا قارون ترى هذا ؟
فقال قارون : والله ما هذا بأعجب مما تصنع من السحر .
فذهب قارون مغاضباً واعتزل موسى بأتباعه وجعل موسى يداريه للقرابة التي بينهما ، وهو يؤذيه في كل وقت ولا يزيد كل يوم إلا كبراً ومخالفة ومعاداة لموسى ( عليه السلام ) حتى بنى داراً وجعل بابها من الذهب وضرب على جدرانها صفائح الذهب ، وكان الملأ من بني إسرائيل يغدون إليه ويروحون فيطعمهم الطعام ويحدثونه ويضاحكونه .
قال ابن عباس : ثم إن الله سبحانه وتعالى أنزل الزكاة على موسى ( عليه السلام ) فلمّا أوجب الله سبحانه الزكاة عليهم أبى قارون فصالحه عن كل ألف دينار على دينار ، وعن كل ألف درهم على درهم ، وعن كل ألف شاة على شاة ، وعن كل ألف شيء شيئاً ، ثم رجع إلى بيته فحسبه فوجده كثيرا فلم تسمح بذلك نفسه فجمع بني إسرائيل وقال لهم : يا بني إسرائيل إن موسى قد أمركم بكل شيء فأطعتموه وهو الآن يريد أن يأخذ أموالكم ، فقالوا له : أنت كبيرنا وسيدنا فمرنا بما شئت ، فقال : آمركم أن تجيئوا بفلانة البغي فنجعل لها جعلاً على أن تقذفه
(7/264)
" صفحة رقم 265 "
بنفسها فإذا فعلت ذلك خرج عليه بنو إسرائيل ورفضوه فاسترحنا منه ، فأتوا بها فجعل لها قارون ألف درهم وقيل : ألف دينار ، وقيل : طستا من ذهب ، وقيل : حكمها ، وقال لها : إني أُموّلك وأخلطك بنسائي على أن تقذفي موسى بنفسك غداً إذا حضر بنو إسرائيل ، فلمّا أن كان الغد جمع قارون بني إسرائيل ، ثم أتى موسى فقال له : إن بني إسرائيل قد اجتمعوا ينتظرون خروجك لتأمرهم وتنهاهم وتبين لهم أعلام دينهم وأحكام شريعتهم فخرج إليهم موسى و هم في براح من الأرض فقام فيهم خطيباً ووعظهم ( فكان ) فيما قال : يا بني إسرائيل من سرق قطعنا يده ومن افترى جلدناه ثمانين ، ومن زنا وليست له امرأة جلدناه مائة ، ومن زنا وله امرأة رجمناه حتى يموت ، فقال له قارون : وإن كنت أنت ؟ قال : وإن كنت أنا ، قال قارون : فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة قال : أنا ، قال : نعم ، قال : ادعوها فإن قالت فهو كما قالت ، فلمّا أن جاءت قال لها موسى : يا فلانة إنما أنا فعلت لك ما يقول هؤلاء ، وعظم عليها وسألها بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وأنزل التوراة على موسى إلا صدقت ، فلمّا ناشدها تداركها الله بالتوفيق وقالت في نفسها : لئن أحدث اليوم توبة أفضل من أن أوذي رسول الله ، فقالت : لا كذبوا ، ولكن جعل لي قارون جعلاً على أن أقذفك بنفسي ، فلمّا تكلمت بهذا الكلام سقط في يده قارون ونكس رأسه وسكت الملأ وعرف أنه وقع في مهلكة وخرّ ) موسى ساجداً يبكي ويقول : اللهم إن كنت رسولك ، فاغضب لي ، فأوحى الله سبحانه إليه : مُر الأرض بما شئت ، فإنها مطيعة لك ، فقال موسى : يا بني إسرائيل إنّ الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون ، فمن كان معه فليثبت مكانه ، ومن كان معي فليعتزل ، فاعتزل قارون ولم يبق معه إلاّ رجلان ، ثم قال موسى : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى الركَب ، ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى الأوساط ، ثم قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى الأعناق ، وقارون وأصحابه في كل ذلك لا يلتفت إليه لشدّة غضبه عليه .
ثم قال : يا أرض خذيهم ، فانطبقت عليهم الإرض ، وأوحى الله تعالى إلى موسى : يا موسى ماأفظك . استغاثوا بك سبعين مرة فلم ترحمهم ولم تغثهم ، أما وعزتي لو إياي دعوا لوجدوني قريباً مجيباً .
قال قتادة : وذكر ( لنا ) أنّه يخسف به كلّ يوم قامة وأنّه يتخلخل فيها لا يبلغ قعرها إلى يوم القيامة ، قالوا : وأصبحت بنو إسرائيل يتناجون فيما بينهم أنّ ( موسى ) إنّما دعا على قارون ليستبد بداره وكنوزه وأمواله ، فدعا اللهَ موسى حتى يخسف بداره وأمواله الأرض .
وأوحى الله سبحانه إلى موسى : إنّي لا أعبّد الأرض لأحد بعدك أبداً ، فذلك قوله تعالى : ) فخسفنا به وبداره الأرض ( ) فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من
(7/265)
" صفحة رقم 266 "
المنتصرين ( الممتنعين
القصص : ( 82 ) وأصبح الذين تمنوا . . . . .
) وأصبح الذين تمنّوا مكانه بالأمس ( العرب تعبّر بأضحى وأمسى وأصبح عن الصيرورة والفعل ، فتقول : أصبح فلان عاملا وأمسى حزيناً وأضحى معدماً ، إذا صاروا بهذه الأحوال وليس ثَمَّ من الصبح والمساء والضحى شيء .
) يقولون ويكأنّ الله ( اختلف العلماء في هذه اللفظة ، فقال مجاهد : معناه : ألم تعلم ؟ قتادة : ألم تر ؟ ، الفرّاء : هي كلمة تقرير كقول الرجل : أما ترى إلى صنع الله وإحسانه ؟ وذكر أنّه أخبره من سمع أعرابية تقول لزوجها : أين ابنك ؟ فقال : ويكأنّه وراء البيت ، يعني أما ترينه وراء البيت ؟ ابن عباس والحسن : هي كلمة ابتداء وتحقيق ، تقديره إنّ الله ) يبسط الرزق ( المؤرّخ : هو تعجّب ، قطرب : إنّما هو ويلك فأسقط منه اللام ، قال عنترة :
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها
قول الفوارس ويك عنتر أقدم
وقيل : هو تنبيه بمنزلة ألا وأما . قال بعض الشعراء :
ويكأن من يكن له نشب
يحبب ومن يفتقر يعشْ عيش ضرّ
وقال القتيبى : معناه رحمة بلغة حمير ، وقال سيبويه : سألت الخليل عنه ، فقال : وي كلمة تنبيه منفصلة من كأن فكأنْ في معنى الطب والعلم .
) يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر ( يقتَّر ) لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا ( قرأ يعقوب وبعض أهل الشام والكوفة بفتح الخاء والسين ، وقراءة العامة بضم الخاء وكسر السين ، ) ويكأنّه لا يفلح الكافرون }
القصص : ( 83 ) تلك الدار الآخرة . . . . .
) تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّاً في الأرض ( تكبراً وتجبراً فيها ، ) ولا فساداً ( عملا بالمعاصي عن ابن جريج ومقاتل وعكرمة ومسلم البطين : الفساد : أخذ المال بغير حق ، الكلبي : الدعاء إلى غير عبادة الله .
) والعاقبة ( المحمودة ) للمتقين ( قال قتادة : الجنة
القصص : ( 84 - 85 ) من جاء بالحسنة . . . . .
) من جاء بالحسنة فله خيرٌ منها ومن جاء بالسيّئة فلا يجزى الذين عملوا السيّئات إلاّ ما كانوا يعملون إنّ الذي فرض عليك القرآن ( أي أنزله عن أكثر المفسرين ، وقال عطاء بن أبي رباح : فرض عليك العمل بالقرآن ) لرادّك إلى معاد ( قال ( الضحاك و ) مجاهد : إلى مكة ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، قال ( ابن قتيبة ) : معاد الرجل : بلده لأنّه ينصرف ثم يعود إلى بلده .
قال مقاتل : خرج النبي ( عليه السلام ) من الغار ليلا ثم هاجر من وجهه إلى المدينة ، فسار
(7/266)
" صفحة رقم 267 "
في غير الطريق مخافة الطلب ، فلمّا أمن ورجع إلى الطريق نزل الجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة ، فاشتاق إليها وذكر مولده ومولد آبائه ، فأتاه جبريل ( عليهما السلام ) ، فقال : أتشتاق إلى بلدك ومولدك ؟
قال : ( نعم ) ، قال : فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول : ) إنّ الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد ( إلى مكة ظاهراً عليها .
قال مقاتل : قال الضحاك : قال ابن عباس : إنّما نزلت بالجحفة ليس بمكة ولا المدينة ، وروي جابر عن أبي جعفر ، قال : انطلقت أنا وأبي إلى أبي سعيد الخدري ، فسأله عن هذه الآية : ) لرادّك إلى معاد ( ، قال : إلى الموت . وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس ، قال الحسن والزهري وعكرمة : إلى يوم القيامة ، وقال أبو مالك وأبو صالح : إلى الجنة .
أخبرنا عبد الخالق بن علي ، قال : أخبرنا أبو بكر بن حبيب ، قال : حدّثنا يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا عمار بن كثير ، قال : أخبرنا فضيلة ، عن ليث ، عن مجاهد في قوله : ) لرادّك إلى معاد ( قال : إلى الجنة .
) قل ربّي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين }
القصص : ( 86 ) وما كنت ترجو . . . . .
) وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلاّ رحمة من ربّك ( قال بعض أهل المعاني : في الكلام تقديم وتأخير تقديره : إنّ الذي فرض عليك القرآن وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب لرادك إلى معاد .
) فلا تكوننّ ظهيراً للكافرين }
القصص : ( 87 - 88 ) ولا يصدنك عن . . . . .
) ولا يصدّنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك ( وهذا حين دعا إلى دين آبائه ) وادع إلى ربّك ولا تكوننّ من المشركين ولا تدع مع الله إلهاً آخر لا إله إلاّ هو كلُّ شيء هالكٌ إلاّ وجهه ( يعني إلاّ هو ، عن مجاهد ، الصادق : دينه ، أبو العالية : إلاّ ما أريد به وجهه .
أخبرنا ابن شاذان ، قال : أخبرنا جيعويه ، قال : حدّثنا صالح بن محمد ، عن جرير ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن شهر بن حوشب ، عن عبادة بن الصامت ، قال : يُجاء بالدنيا يوم القيامة ، فيقال : ميزوا ما كان لله منها ، قال : فيماز ما كان لله منها ، ثم يؤمر بسائرها فيلقى في النار .
وبه عن صالح ، عن سليمان بن عمرو ، عن سالم الأفطس ، عن الحسن وسعيد بن جبير ،
(7/267)
" صفحة رقم 268 "
عن علي بن أبي طالب ح أنّ رجلا سأله ، فلم يعطه شيئاً ، فقال : أسألك بوجه الله ، فقال له علي : كذبت ، ليس بوجه الله سألتني ، إنّما وجه الله الحق ، ألا ترى قوله سبحانه وتعالى : ) كلّ شيء هالك إلاّ وجهه ( يعني الحق ؟ ولكن سألتني بوجهك الخالق كلّ شيء هالك إلاّ الله والجنة والنار والعرش . ابن كيسان : إلاّ ملكه . ) له الحكم وإليه ترجعون ( .
(7/268)
" صفحة رقم 269 "
( سورة العنكبوت )
مكية ، وهي أربعة ألف ومائة وخمسة وتسعون حرفاً ، وألف وتسعمائة وإحدى وثمانون كلمة ، وتسع وستون آية .
أخبرنا الخباري قال : أخبرنا ابن حيان ، قال : أخبرنا محمد بن علي الفرقدي قال : حدثنا إسماعيل بن عمرو قال : حدثنا يوسف بن عطية قال : حدثنا هارون بن كثير قال : حدثنا زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي أمامة ، عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ المؤمنين والمنافقين ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِى الصَّالِحِينَ وَمِنَ النَّاسِ مَن يِقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَآ أُوذِىَ فِى اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِى صُدُورِ الْعَالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ( 2
العنكبوت : ( 1 - 2 ) الم
) ألم أحسب ( أظن وأصله من الحساب ) الناسُ ( يعني الذين جزعوا من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من أذى المشركين ) أن يُتركوا ( بغير اختبار ولا ابتلاء بأن قالوا : ) آمنا ( كلا لنختبرنهم لنتبين الصادق من الكاذب ، ( إن ) الأولى منصوبة ب ) أحسبت ( والثانية خفض بنزع الخافض ، أي لأن يقولوا ، والعرب لا تقول : تركت فلاناً أن يذهب ، إنّما تقول : تركته يذهب
(7/269)
" صفحة رقم 270 "
معه جوابان : أحدهما يشتركوا لأن يقولوا ، والثاني : على التكرير تقديره : ) أحسب الناس أن يتركوا ( أحسبوا ) أن يقولوا آمنّا وهم لا يُفتنون ( لا يبتلون ليظهر المخلص من المنافق ، وقيل : ) يفتنون ( يصابون بشدائد الدنيا ، يعني : أنّ البلاء لا يدفع عنهم في الدنيا لقولهم : ) آمنا ( .
واختلفوا في سبب نزول هذه الآية ، فقال ابن جريج وابن عمير : نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذّب في الله .
وقال الشعبي : نزلت هاتان الآيتان في أناس كانوا بمكة قد أقروا بالإسلام ، فكتب إليهم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من المدينة إنّه لا يقبل منكم إقرار بإسلام حتى تهاجروا ، فخرجوا عائدين إلى المدينة ، فاتبعهم المشركون فردوهم ، فنزلت فيهم هذه الآية ، فكتبوا إليهم إنّه قد نزلت فيكم آية كذا وكذا ، فقالوا : نخرج ، فإن اتبعنا أحد قاتلناه . فخرجوا ، فاتبعهم المشركون ، فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ومنهم من نجا ، فأنزل الله سبحانه فيهم هاتين الآيتين ، وقال مقاتل : نزلت في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب كان أول قتيل يوم بدر رماه عامر بن الحضرمي بسهم فقتله ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يومئذ سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة ) ، فجزع عليه أبواه وامرأته ، فأنزل الله سبحانه فيهم هذه الآية وأخبر أنّه لابد لهم من البلاء والمشقة في ذات الله تعالى ، وقيل : ) وهم لا يفتنون ( بالأوامر والنواهي .
ثم عزّاهم ،
العنكبوت : ( 3 ) ولقد فتنا الذين . . . . .
فقال عز من قائل : ) ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين ( والله تعالى عالم بهم قبل الإختبار ، وعلمه قديم تام ، وإنّما معنى ذلك : فليظهرنّ الله تعالى ذلك حتّى يوجد معلومة .
قال مقاتل : فليرين الله ، الأخفش : فليميزنّ الله .
وقال القتيبي : علم الله سبحانه نوعان : أحدهما : علم شيء كان يعلم إنّه كان ، والثاني : علم شيء يكون ، فعلم إنّه يكون وقت كذا ولا يعلمه كائناً واقعاً إلاّ بعد كونه ووقوعه ، بيانه قوله سبحانه : ) ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ( أي نعلم المجاهدين منكم مجاهدين ونعلم الصابرين صابرين ، فكذلك هاهنا فليعلمنّ الله ذاك موجوداً كائناً وهذا سبيل علم الله في الإستقبال .
العنكبوت : ( 4 ) أم حسب الذين . . . . .
) أم حسب الذين يعملون السيّئات ( الشرك ) أن يسبقونا ( يعجزونا ويقولوا ما بأنفسهم
(7/270)
" صفحة رقم 271 "
فلا يقدر على الإنتقام منهم ) ساء ما يحكمون ( أي ساء حكمهم الذي يحكمون
العنكبوت : ( 5 ) من كان يرجو . . . . .
) من كان يرجوا لقاء الله ( قال ابن عباس ومقاتل : من كان يخشى البعث . سعيد بن جبير : من كان يطمع في ثواب الله ) فإنّ أجل الله لآت ( يعني ما وعد الله من الثواب والعقاب الكائن ) وهو السميع العليم }
العنكبوت : ( 6 - 7 ) ومن جاهد فإنما . . . . .
) ومن جاهد فإنّما يجاهد لنفسه ( له ثوابه . ) إنّ الله لغنيٌ عن العالمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفّرنّ عنهم سيّئاتهم ولنجزينّهم أحسن الذي كانوا يعملون ( أي بأحسن أعمالهم وهو الطاعة .
العنكبوت : ( 8 ) ووصينا الإنسان بوالديه . . . . .
) ووصّينا الإنسان بوالديه حسناً ( اختلف النحاة في وجه نصب الحسن ، فقال أهل البصرة : على التكرير تقديره ووصيناه حسناً أي بالحسن ، كما يقول : وصيته خيراً ، أي بخير ، وقال أهل الكوفة : معناه ووصينا الإنسان أن يفعل حسناً ، فحذفه لدلالة الكلام عليه كقول الراجز :
عجبت من دهماء إذ تشكونا
ومن أبي دهماء إذ يوصينا
خيراً بها كأنّنا جافونا
أي يوصينا أن نفعل بها خيراً ، وهو مثل قوله : ) فطفق مسحاً ( أي يمسح مسحاً .
وقيل معناه : وألزمناه حسناً ، وقرأ العامة ) حسناً ( بضم الحاء وجزم السين ، وقرأ أبو رجاء العطاردي بفتح الحاء والسين .
وفي مصحف أبي ) إحساناً ( نزلت في سعد بن أبي وقاص الزهري . واسم أبي وقاص : مالك بن وهبان ، وذلك إنّه لما أسلم قالت له أمه جمنة بنت أبي سفيان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف : يا سعد بلغني إنّك صبوت فوالله لا يظلني سقف بيت من الضح والريح ولا آكل ولا أشرب حتى تكفر بمحمد وترجع إلى ما كنت عليه ، وكان أحب ولدها إليها ، فأبى سعد وصبرت هي ثلاثة أيام لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل بظل ، فأتى سعد النبي ( عليه السلام ) وشكا ذلك إليه فأنزل الله سبحانه هذه الآية والتي في لقمان والأحقاف ، فأمره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يترضاها ويحسن إليها ولا يطيعها في الشرك وذلك قوله سبحانه : ) وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم ( إنّه لي شريك ) فلا تطعهما إليّ مرجعكم فأنبّئكم بما كنتم تعملون ( .
أخبرنا عبد الله بن حامد قراءة قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدثنا عبد الله بن هاشم قال : حدثنا أبو أسامة قال : حدثنا نمير بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قلت : يا رسول الله من أبرّ ؟ قال : ( أمّك ) ، قلت : ثم من ؟ قال : ( أمّك ) ، قلت : ثم من ؟ قال : ( ثم أمّك ) ، قلت : ثم من ؟ قال : ( ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب )
(7/271)
" صفحة رقم 272 "
وأخبرنا عبد الله إجازة قال : أخبرنا عثمان بن أحمد قال : حدثنا علي بن إبراهيم الواسطي قال : حدثنا منصور بن مهاجر قال : حدثنا أبو النصر الأبار ، عن أنس بن مالك قال : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( الجنة تحت أقدام الأمهات ) .
العنكبوت : ( 9 ) والذين آمنوا وعملوا . . . . .
) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنُدخلنّهم في الصالحين ( أي في زمرتهم وجملتهم ، وقال محمد بن جرير : أي في مدخل الصالحين وهو الجنة ، وقيل : ) في ( بمعنى مع ، والصالحون هم الأولياء والأنبياء .
العنكبوت : ( 10 ) ومن الناس من . . . . .
) ومن الناس من يقول آمنّا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس ( أي أذاهم وعدائهم ) كعذاب الله ( في الآخرة فارتد عن إيمانه ) ولئن جاء نصرٌ من ربّك ليقولنّ ( هؤلاء المرتدون ) إنّا كنّا معكم ( وهم كاذبون ) أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين }
العنكبوت : ( 11 ) وليعلمن الله الذين . . . . .
) وليعلمنّ الله الذين آمنوا وليعلمنّ المنافقين ( أي ليميّزنهم ويظهر أمرهم بالإبتلاء والاختبار والفتن والمحن .
واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية :
فقال مجاهد : نزلت في ناس كانوا يؤمنون بألسنتهم ، فإذا أصابهم بلاء من الله ومصيبة في أنفسهم افتتنوا . الضحاك : نزلت في ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون ، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك . عكرمة عن ابن عباس : نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون معهم إلى بدر ، فارتدوا وهم الذين نزلت فيهم ) إنّ الذين توفهم الملائكة ظالمي أنفسهم ( . . . الآية ، وقد مضت القصة . قتادة : نزلت هذه الآية في القوم الذين ردهم المشركون إلى مكة .
وهذه الآيات العشر مدنية إلى هاهنا ، وسائرها مكي ، وقال مقاتل والكلبي : نزلت في العياش بن أبي ربيعة بن مغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي ، وذلك إنّه أسلم فخاف أهل بيته فهاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر النبي ( عليه السلام ) ، فحلفت أمه أسماء بنت مخرمة ابن أبي جندل بن نهشل التميمي أن لاتأكل ولا تشرب ولا تغسل لها رأساً ولا تدخل لبيتاً حتى يرجع إليها ، فلما رأى ابناها أبو جهل والحارث ابنا هشام وهما أخوا عيّاش لأُمّه جزعها وحلفها رهبا في ظلمة حتى أتيا المدينة فلقياه ، فقال أبو جهل لأخيه عياش بن أبي ربيعة : قد علمت أنّك أحبّ إلى أمّك من جميع ولدها وكنت بها باراً ، وقد حلفت أمك إنّها لا تأكل ولا تشرب ولا تغسل رأسها ولا تدخل بيتاً حتى ترجع إليها ، وأنت تزعم أنّ في دينك بر الوالدين ، فارجع إليها فإنّ ربّك الذي تعبده بالمدينة هو ربك بمكة فاعبده بها ، فلم يزالا به حتى أخذ
(7/272)
" صفحة رقم 273 "
عليهما المواثيق لا يحركاه ولا يصرفاه عن دينه ، فأعطياه ما سأل من المواثيق فتبعهما ، وقد صبرت أمه ثلاثة أيام ثم أكلت وشربت ، قالا : فلما خرجوا من أهل المدينة أخذاه فأوثقاه وجلده كلّ واحد منهما مائة جلدة حتى تبرأ من دين محمّد ( رحمهما الله ) جزعاً من الضرب وقال ما لا ينبغي ، فأنزل الله سبحانه فيه : ) ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي ( . . . الآية .
قالا : وكان الحارث أشدهما عليه وأسوأهما قولا ، فحلف عياش بالله لئن قدر عليه خارجاً من الحرم ليضربنّ عنقه ، فلما رجعوا إلى مكة مكثوا حيناً ثم هاجر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنون إلى المدينة ، فهاجر عياش وأسلم وحسن إسلامه .
ثم إنّ الله تعالى قذف الإيمان في قلب الحارث بن هشام ، فهاجر إلى المدينة وبايع النبي ( عليه السلام ) على الإسلام ولم يحضر عياش ، فلقيه عياش يوماً بظهر قباء ولم يشعر بإسلامه ، فضرب عنقه ، فقيل له : إنّ الرجل قد أسلم ، فاسترجع عياش وبكى ، ثم أتى النبي ( عليه السلام ) وأخبره بذلك ، فأنزل الله سبحانه وتعالى : ) وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً ( . . . الآية .
2 ( ) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَىْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ ءَايَةً لِّلْعَالَمِينَ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِىءُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُواْ فِى الاَْرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الاَْخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ ( 2
العنكبوت : ( 12 ) وقال الذين كفروا . . . . .
) وقال الذين كفروا ( من أهل مكة ) للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ( أوزاركم ، قال الفراء : لفظة أمر ومعناه : جزاء ، مجازه إن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم كقوله سبحانه : ) فليلقه اليمّ بالساحل ( وقوله سبحانه : ) لا يحطمنكم سليمان وجنوده ( لفظة نهي وتأويله جزاء . وقال الشاعر :
(7/273)
" صفحة رقم 274 "
فقلت ادعي وادع فإنّ أندى
لصوت أن ينادي داعيان
يريد إن دعوت دعوتُ .
فأكذبهم الله تعالى ، فقال : ) وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنّهم لكاذبون }
العنكبوت : ( 13 ) وليحملن أثقالهم وأثقالا . . . . .
) وليحملُنّ أثقالهم ( أوزار أنفسهم وأثقال من أضلوا وصدوا عن سبيل الله ) وأثقالا مع أثقالهم ( نظيرها ) وليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ( الآية .
روي عوف ، عن الحسن أنّ النبي ( عليه السلام ) قال : ( أيما داع دعا إلى هدى فاتبع عليه وعمل به فله مثل أجور الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً وأيما داع دعا إلى ضلالة ، فاتبع عليها وعمل بها فعليه مثل أوزار الذين اتبعوه ولا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً ) ثم قرأ الحسن ) وليحملنّ أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ( .
أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدثنا عبد الله بن هاشم قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن عبد الرحمن بن هلال العنسي ، عن جرير قال : خطبنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فحثّنا على الصدقة ، فأبطأ الناس حتى رُئي في وجهه الغضب ، ثم إنّ رجلا من الأنصار قام فجاء بصرّة وأعطاها ، فتتابع الناس ، فأعطوا حتى رُئي في وجهه السرور ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سن سنة حسنة كان له أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سنّ سنة سيّئة كان عليه وزرها ومثل وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ) .
) وليسئلنّ يوم القيامة عمّا كانوا يفترون }
العنكبوت : ( 14 ) ولقد أرسلنا نوحا . . . . .
) ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون ( .
قال ابن عباس : بعث نوح ( عليه السلام ) لأربعين سنة وبقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا .
العنكبوت : ( 15 - 17 ) فأنجيناه وأصحاب السفينة . . . . .
) فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون إنّما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً ( .
ويقولون كذباً ، وقال مجاهد : وتصنعون أصناماً بأيديكم فتسمونها آلهة ، نظيره قوله
(7/274)
" صفحة رقم 275 "
سبحانه : ) أتعبدون ما تنحتون ( ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ) وتخلقون إفكاً ( على المبالغة والكثرة . ) إنّ الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون (
العنكبوت : ( 18 ) وإن تكذبوا فقد . . . . .
) وإن تكذّبوا فقد كذّب أمم من قبلكم ( فاهلكوا ) وما على الرسول إلاّ البلاغ المبين (
العنكبوت : ( 19 ) أو لم يروا . . . . .
) أو لم يروا ( بالتاء كوفي غيرهم بالياء ) كيف يُبدىء الله الخلق ثم يعيده إنّ ذلك على الله يسيرٌ (
العنكبوت : ( 20 - 21 ) قل سيروا في . . . . .
) قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ ( الله ، ) الخلق ( يعني فانظروا إلى مساكن القرون الماضية وديارهم وآثارهم كيف بدأ خلقهم ولم يتعذر عليه مبدئاً فكذلك لا يتعذر عليه إنشائها معيداً .
) ثم الله يُنشىء النشأة ( أي يبدأ البدأة ) الآخرة ( بعد الموت .
وفيها لغتان : ) نشأة ( بالمد وهي قراءة ابن كثير والحسن وأبو عمر وحبيب كانت ، و ) نشأة ( بالقصر وتسكين السين وهي قراءة الناس ونظيرها الرأفة ، والرأفة ) إنّ الله على كلّ شيء قديرٌ يعذّب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون ( تردون .
( ) وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الاَْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ نَصِيرٍ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَائِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِى وَأُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِى ذالِكَ لاََيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ فَئَامَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّى مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّىإِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِى ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَءَاتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِى الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِى لاَْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( 2
العنكبوت : ( 22 ) وما أنتم بمعجزين . . . . .
) وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء ( اختلف أهل المعاني في وجهها ، فقال الفراء : معناه ولا من في السماء بمعجز ، وهو من غامض العربية الضمير الذي لم يظهر في الثاني . كقول حسان بن ثابت :
فمن يهجو رسول الله منكم
ويمدحه وينصره سواء
أراد ومن يمدحه وينصره فأضمر من وإلى هذا التأويل ذهب عبد الرحمن بن زيد قال : لا يعجزه أهل الأرض في الأرض ولا أهل السماء في السماء إن عصوا .
(7/275)
" صفحة رقم 276 "
وقال قطرب : ولا في السماء لو كنتم فيها ، كقولك : ما يفوتني فلان بالبصرة ولا هاهنا في بلدي ، وهو معك في البلد أي ولا بالبصرة لو صار إليها .
) وما لكم من دون الله من وليّ ولا نصير }
العنكبوت : ( 23 ) والذين كفروا بآيات . . . . .
) والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليمٌ ( فأعرض سبحانه بهذه الآيات تذكيراً وتحذيراً لأهل مكة ، ثم عاد إلى قصة إبراهيم ،
العنكبوت : ( 24 ) فما كان جواب . . . . .
فقال عز من قائل : ) فما كان جواب قومه ( قرأ العامة بنصب الباء على خبر كان وإن قالوا : في محل الرفع على اسم كان ، وقرأ سالم الأفطس ) جواب ( رفعاً على اسم كان ، وإن موضعه نصب على خبره ) ألاّ أن قالوا اقتلوه أو حرّقوه فأنجاه الله من النار ( وجعلها عليه برداً وسلاماً ، قال كعب : ما حرقت منه إلاّ وثاقه .
) إنّ في ذلك لآيات لقوم يؤمنون }
العنكبوت : ( 25 ) وقال إنما اتخذتم . . . . .
) وقال ( يعني إبراهيم ( عليه السلام ) لقومه : ) إنّما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودّة بينكم ( اختلف القرّاء فيها ، فقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب ) مودّة ( رفعاً ) بينكم ( خفضاً بالإضافة ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم على معنى : أنّ الذين اتخذتم من دون الله أوثاناً هي ) مودّة بينكم ( . ) في الحياة الدنيا ( لم تنقطع ولا تنفع في الآخرة كقوله : ( ) لم يلبثوا إلاّ ساعة من نهار ( ثم قال : ) بلاغ ( ) أي هذا بلاغ ، وقوله سبحانه : ( ) لا يفلحون ( ثم قال : ) متاع ( ) أي هو متاع ، فكذلك أضمروا هاهنا هي ويجوز أن تكون خبر إن .
وقرأ عاصم في بعض الروايات ) مودّة ( مرفوعة منونة ) بينكم ( نصباً وهو راجع إلى معنى القراءة الأولى ، وقرأ حمزة ) مودّة ( بالنصب ) بينكم ( بالخفض على الإضافة بوقوع الإتحاد عليها وجعل إنّما حرفاً واحداً وهي رواية حفص عن عاصم ، وقرأ الآخرون : ) مودّة ( نصباً منونة ) بينكم ( بالنصب وهي راجعة إلى قراءة حمزة ومعنى الآية أنكم اتخذتم هذه الأوثان مودة بينكم في الحياة الدنيا .
) مودّة بينكم في الحياة الدنيا ( تتوادون وتتحابون على عبادتها وتتواصلون عليها .
) ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ( وتتبرأ الأوثان من عابديها ) ومأواكم ( جميعاً العابدون والمعبودون ) النار وما لكم من ناصرين }
العنكبوت : ( 26 - 27 ) فآمن له لوط . . . . .
) فآمن لَهُ لوطٌ ( وهو أول من صدق إبراهيم ( عليه السلام ) حين رأى أنّ النار لم تضرّه .
) وقال إنّي مهاجر إلى ربّي ( فهاجر من كوتي من سواد الكوفة إلى حران ثم إلى الشام ومعه ابن أخيه لوط وامرأته سارة ، وهو أول من هاجر ، قال مقاتل : هاجر إبراهيم ( عليه السلام ) وهو ابن خمس وسبعين سنة
(7/276)
" صفحة رقم 277 "
) إنّه هو العزيز الحكيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذرّيته النبوّة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنّه في الآخرة لمن الصالحين (
.
) وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّ انصُرْنِى عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُوأَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِىءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرينَ إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَاذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ ءَايَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 2
العنكبوت : ( 28 - 29 ) ولوطا إذ قال . . . . .
) ولوطاً ( فأذكر لوطاً ) إذ قال لقومه إنّكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين أئنّكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم ( مجلسكم ) المنكر ( .
حدثنا أبو العباس سهل بن محمد بن سعيد المروزي ، قال : حدثنا جدي لأُمّي أبو الحسن المحمودي ، قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة : أنّ بشر بن معاذ العمقدي حدثهم قال : حدثنا يزيد بن زريع قال : حدثنا حاتم بن أبي صغيرة ، وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا ابن شنبه قال : حدثنا عمير بن مرداس الدونقي ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير الحميدي ، قال : حدثنا يحيى بن أبي الحجاج أبو أيوب البصري قال : حدثنا أبو يونس حاتم بن أبي صغيرة ، عن سماك بن حرب ، عن أبي مولى أم هانيء ، عن أم هانيء بنت أبي طالب قالت : سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن قوله سبحانه : ) وتأتون في ناديكم المنكر ( قلت : ما المنكر الذي كانوا يأتون ؟ قال : ( كانوا يخذفون أهل الطرق ويسخرون بهم ) .
وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين ، قال : حدثنا موسى بن محمد ، قال : حدثنا الحسن بن علوية ، قال : حدثنا إسماعيل بن عيسى ، قال : حدثنا المسيب ، قال : سمعت زياد بن أبي زياد يحدّث عن معاوية قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ قوم لوط كانوا يجلسون في مجالسهم وعند كلّ رجل منهم قصعة فيها حصى ، فإذا مر بهم عابر سبيل قذفوه ، فأيهم أصابه كان أولى به ) وذلك قول الله سبحانه : ) وتأتون في ناديكم المنكر ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إيّاكم
(7/277)
" صفحة رقم 278 "
والخذف فإنّه لا ينكأ العدو ولا يصيب الصيد ، ولكن يفقأ العين ويكسر السن ) .
وأخبرنا الحسين قال : أخبرنا أبو علي بن حنيش المقري قال : حدثني أبو جعفر محمد بن جعفر المقري ، قال : حدثنا إبراهيم بن الحسين الكسائي ، قال : حدثنا هارون بن حاتم ، قال : أخبرنا أبو بكر بن أوس المدني ، عن أبيه ، عن يزيد بن بكر بن دأب ، عن القاسم بن محمد ) وتأتون في ناديكم المنكر ( قال : الضراط ، كانوا يتضارطون في مجالسهم ، وقال مجاهد : كان يجامع بعضهم بعضاً في مجالسهم .
أخبرنا أبو جعفر الخلفاني قال : حدثنا أبو العباس التباني قال : حدثنا أبو لبيد السرخسي ، قال : حدثنا الحسن بن عمر بن شفيق ، قال : حدثنا سليمان بن ظريف عن مكحول ، قال : عشرة في هذه الأمة من أخلاق قوم لوط : مضغ العلك ، وتطويق الأصابع بالحناء ، وحل الأزار ، وتنقيص الأصابع والعمامة التي يلف بها على الرأس ، والسلينية ، ورمي الجلاهق ، والصفير ، والخذف ، واللوطية .
) فما كان جواب قومه إلاّ أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ( إنّه نازل بنا وذلك إنّه أوعدهم العذاب ،
العنكبوت : ( 30 - 31 ) قال رب انصرني . . . . .
) قال ( لوط ) ربّ انصرني على القوم المفسدين ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ( من الله سبحانه اسحاق ويعقوب : ) قالوا إنّا مهلكوا أهل هذه القرية ( يعني قوم لوط ) إنّ أهلها كانوا ظالمين (
العنكبوت : ( 32 - 33 ) قال إن فيها . . . . .
) قال ( إبراهيم للرسل : ) إنّ فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينّه وأهله إلاّ امرأته كانت من الغابرين ولما أن جاءت رسلنا لوطاً ( وحسب إنّهم من الإنس ) سيء بهم وضاق بهم ذرعاً وقالوا لا تخف ولا تحزن إنّا منجّوك وأهلك إلاّ امرأتك كانت من الغابرين (
العنكبوت : ( 34 - 35 ) إنا منزلون على . . . . .
) إنّا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً ( عذاباً ) من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بيّنة ( عبرة ظاهرة ) لقوم يعقلون ( وهي الخبر عما صنع بهم ، وقال ابن عباس : هي آثار منازلهم الخرباء . أبو العالية وقتادة : هي الحجارة التي ألقاها الله . مجاهد : الماء الأسود على وجه الأرض .
2 ( ) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ ياقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَارْجُواْ الْيَوْمَ الاَْخِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الاَْرْضِ مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِى دَارِهِمْ جَاثِمِينَ وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ
(7/278)
" صفحة رقم 279 "
وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ مُّوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُواْ فِى الاَْرْضِ وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الاَْرْضَ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( 2
العنكبوت : ( 36 ) وإلى مدين أخاهم . . . . .
) وإلى مدين أخاهم شعيباً فقال : يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ( وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثني ابن شنبه قال : حدثنا أبو حامد المستملي قال : حدثنا محمد بن حاتم الرمني قال : حدثنا محمد بن سلامة الجمحي قال : قال يوسف النحوي : ) وارجوا اليوم الآخر ( يعني اخشوا ) ولا تعثوا في الأرض مفسدين (
العنكبوت : ( 37 - 38 ) فكذبوه فأخذتهم الرجفة . . . . .
) فكذّبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين وعاداً وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم وزيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدّهم عن السبيل وكانوا مستبصرين ( في الضلالة ، قال مجاهد وقتادة : ) مستبصرين ( في ضلالهم معجبين بها . الفراء : عقلاء ذوي بصائر . ضحاك ومقاتل والكلبي : حسبوا إنّهم على الهدى والحق وهم على الباطل .
العنكبوت : ( 39 ) وقارون وفرعون وهامان . . . . .
) وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبيّنات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين ( فائتين من عذابنا
العنكبوت : ( 40 ) فكلا أخذنا بذنبه . . . . .
) فكلا أخذنا ( عاقبنا ) بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ( ريحاً تأتي في الحصباء ، وهي الحصى الصغار ، وهم قوم لوط ) ومنهم من أخذته الصيحة ( يعني ثموداً . ) ومنهم من خسفنا به الأرض ( قارون وأصحابه ) ومنهم من أغرقنا ( فرعون وقومه وقوم نوح .
) وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( .
2 ( ) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَتِلْكَ الاَْمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ الْعَالِمُونَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ اتْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَواةَ إِنَّ الصَّلَواةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ( 2
العنكبوت : ( 41 ) مثل الذين اتخذوا . . . . .
) مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء ( يعني : الأصنام يرجون نصرها ونفعها عند حاجتهم إليها ) كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً ( لنفسها كيما يكنّها فلم يغن عنها بناؤها شيئاً عند حاجتها إياه ، فكما أنّ بيت العنكبوت لا يدفع عنها برداً ولا حراً كذلك هذه الأوثان لا تملك لعابديها نفعاً ولا ضراً ولا خيراً ولا شراً .
(7/279)
" صفحة رقم 280 "
) وإنّ أوهن ( أضعف ) البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ( قال النحاة : العنكبوت مؤنثة التاء التي فيها ، وقد يذكّرها بعض العرب ، أنشد الفراء :
على هطالهم منهم بيوت
كأنّ العنكبوت هو ابتناها
وزنته فعللون .
أخبرني ابن فنجويه ، قال : حدثنا ابن شنبه ، قال : حدثنا أبو حامد المستملي ، قال : حدثنا محمد بن عمران الضبي ، قال : حدثني محمد بن سليمان المكي ، قال : حدثني عبد الله بن ميمون القداح ، قال : سمعت جعفر بن محمد يقول : سمعت أبي يقول : قال علي بن أبي طالب : طهّروا بيوتكم من نسيج العنكبوت ، فإنّ تركه في البيوت يورث الفقر ، قال : سمعت علياً يقول : منع الخميرة يورث الفقر .
العنكبوت : ( 42 ) إن الله يعلم . . . . .
) إنّ الله يعلم ما يدعون ( بالياء أهل البصرة واختاره أبو عبيد قال : لذكر الأمم قبلها . واختلف فيها عن عاصم ، غيرهم بالتاء .
) من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم }
العنكبوت : ( 43 ) وتلك الأمثال نضربها . . . . .
) وتلك الأمثال ( الأشياء والأوصاف ، والمثل : قول سائر يشبّه حال الثاني بالأول ) نضربها ( يبيّنها ) للناس وما يعقلها إلاّ العالمون ( . أخبرني ابن فنجويه ، قال : حدثنا ابن مندة قال : حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال : حدثنا داود بن المخبر قال : حدثنا عباد بن كثير ، عن أبي جريج ، عن عطاء وأبي الزبير ، عن جابر أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تلا هذه الآية : ) وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلاّ العالمون ( فقال : ( العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه ) .
العنكبوت : ( 44 - 45 ) خلق الله السماوات . . . . .
) خلق الله السموات والأرض بالحق إنّ في ذلك لآية للمؤمنين أتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ( قال ابن عمر : تغني . الفراء : أن تنهي عن الفحشاء والمنكر ودليل هذا التأويل قوله : ) ولا تجهر بصلاتك ( أي بقراءتك . وقال آخرون : هي الصلاة التي فيها الركوع والسجود .
قال ابن مسعود وابن عباس : يقول : في الصلاة : منتهى ومزدجر عن معاصي الله سبحانه وتعالى ، فمن لم تأمره صلاته بالمعروف وتنهاه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله إلاّ بعداً
(7/280)
" صفحة رقم 281 "
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا صلاة لمن لم يطع الصلاة ، وإطاعة الصلاة أن تنهي عن الفحشاء والمنكر ) .
وروى أبو سفيان عن جابر قال : قيل لرسول الله ( ( صلى الله عليه وسلم ) : إنّ فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل ، فقال : ( إنّ صلاته لتردعه ) .
وقال أنس بن مالك : كان فتى من الأنصار يصلي الصلاة مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم لا يدع شيئاً من الفواحش إلاّ ركبه ، فوصف لرسول الله ( عليه السلام ) حاله ، فقال : ( إنّ صلاته تنهاه يوماً ما ) ، فلم يلبث أن تاب وحسن حاله ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألم أقل لكم إنّ صلاته تنهاه يوماً ما ) .
وقال ابن عون : معناه أنّ الصلاة تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر ما دام فيها ، وقال أهل المعاني : ينبغي أن تنهاه صلاته كقوله : ) ومن دخله كان آمنا ( ) ولذكر الله أكبر ( اختلفوا في تأويله ، فقال قوم : معناه ) ولذكر الله ( إياكم أفضل من ذكركم إياه ، وهو قول عبد الله وسلمان ومجاهد وعطية وعكرمة وسعيد بن جبير ، ورواية عبد الله بن ربيعة عن ابن عباس ، وقد روى ذلك مرفوعاً :
أخبرناه الحسين بن محمد بن الحسين الدينوري ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق السني ، قال : حدثني أحمد بن علي بن الحسين ، قال : حدثنا إبراهيم بن أبي داود البزكي ، قال : حدثنا الحسين اللهبني ، قال : حدثنا صالح بن عبد الله بن أبي فروة ، عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة ، عن عمّه موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال في قول الله سبحانه : ) ولذكر الله أكبر ( قال : ( ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه ) .
قالت الحكماء : لأنّ ذكر الله سبحانه للعبد على حدّ الاستغناء ، وذكر العبد إياه على حدّ الافتقار ، ولأنّ ذكره دائم ، وذكر العبد مؤقت ، ولأنّ ذكر العبد بحد رفع أو دفع ضر ، وذكر الله سبحانه إياه للفضل والكرم . وقال ذو النون : لأنّك ذكرته بعد أن ذكرك ، وقال ابن عطاء : لأنّ ذكره لك بلا علة ، وذكرك مشوب بالعلل . أبو بكر الوراق : لأنّ ذكره تعالى للعبد أطلق لسانه بذكره له ، ولأنّ ذكر العبد مخلوق وذكره غير مخلوق . وقال أبو الدرداء وابن زيد وقتادة : معناه ولذكر الله أكبر مما سواه وهو أفضل من كل شيء .
(7/281)
" صفحة رقم 282 "
أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن محمد الثقفي الحافظ قال : حدثنا أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي قال : حدثنا زكريا بن يحيى بن يعقوب المقدسي ، قال : حدثنا عيسى بن يونس قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، عن جويبر عن الضحاك ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله : ) ولذكر الله أكبر ( قال : ( ذكر الله على كل حال أحسن وأفضل ، والذكر أن نذكره عند ما حرم ، فندع ما حرم ونذكره عند ما أحل فنأخذ ما أحل ) .
وأخبرني الحسين بن محمد قال : حدثنا ابن شنبه قال : حدثنا جعفر بن محمد الفرباني قال : حدثنا إسحاق بن راهويه قال : أخبرنا إسحاق بن سليمان الرازي قال : سمعت موسى بن عبيدة الزيدي يحدث أبي عبد الله القراظ ، عن معاذ بن جبل قال : بينما نحن مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نسير بالدف من حمدان إذ استنبه ، فقال : ( يا معاذ إن السابقين الذين يستهترون بذكر الله ، من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله سبحانه ) .
قال إسحاق بن سليمان : سمعت حريز بن عثمان يحدث ، عن أبي بحرية ، عن معاذ بن جبل ، قال : ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله سبحانه ، قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال : لا ولو ضرب بسيفه ، قال الله سبحانه : ) ولذكر الله أكبر ( . وأخبرني الحسين بن محمد ، قال : حدثنا ابن شنبه ، قال : حدثنا جعفر بن محمد الفرباني ، قال : حدثنا يحيى بن عمار المصيصي ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن صالح بن أبي غريب ، عن كثير بن مرة الحضرمي ، قال : سمعت أبا الدرداء يقول : ألا أخبركم بخير أعمالكم لكم وأحبها إلى مليككم وأتمها في درجاتكم ، وخير من أن تغزوا عدوكم فتضرب رقابكم وتضربون رقابهم ، وخير من إعطاء الدنانير والدراهم ، قالوا : وما هو يا أبا الدرداء ؟ قال : ذكر الله ، قال الله سبحانه : ) ولذكر الله أكبر ( .
وقيل لسلمان : أي العمل أفضل ؟ قال : أما تقرأ القرآن ) ولذكر الله أكبر ( لا شيء أفضل من ذكر الله سبحانه .
وأنبأني عبد الله بن حامد ، قال : أخبرنا محمد بن يعقوب ، قال : حدثنا حميد بن داود ،
(7/282)
" صفحة رقم 283 "
قال : حدثني يزيد بن خالد قال : حدثنا عبد الرحمن بن ثابت ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن جبير ابن هبير ، عن مالك بن عامر ، عن معاذ بن جبل قال : سألت رسول الله ( : أي الأعمال أحب إلى الله تعالى ؟
قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله ) .
وأنبأني عبد الله بن حامد ، قال : أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم ، قال : حدثنا سلمة بن محمد ابن أحمد بن مجاشع الباهلي ، قال : حدثنا خالد بن يزيد العمري ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن عطاء بن قرة ، عن عبد الله بن ضمرة ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها ، إلاّ ذكر الله عز وجل وما والاه أو عالم أو متعلم ) .
قالت الحكماء : وإنّما كان الذكر أفضل الأشياء لأنّ ثواب الذكر الذكر ، قال الله تعالى : ) فاذكروني أذكركم ( ويؤيد هذا ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا مكي بن عبدان ، قال : حدثنا عبد الله بن هشام ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، وإن اقترب إلي شبراً اقتربت إليه ذراعاً ، وإن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً ، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ) .
وأخبرنا عبد الله ، قال : أخبرنا علي ، قال : أخبرنا عبد الله بن هاشم ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن الأعز أبي مسلم ، قال : أشهد على أبي هريرة وأبي سعيد إنّهما شهدا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنّه قال : ( ما جلس قوم يذكرون الله سبحانه إلاّ حفّت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم فيمن عنده ) .
وأخبرني ابن فنجويه ، قال : حدثنا ابن شيبة ، قال : حدثنا الفرباني ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شنبه ، قال : حدثنا عبد الله ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي مالك ) ولذكر الله
(7/283)
" صفحة رقم 284 "
أكبر ( قال : ذكر الله العبد في الصلاة أكبر من الصلاة . ابن عون : معناه : الصلاة التي أنت فيها وذكرك الله فيها أكبر مما نهتك عنه الصلاة من الفحشاء والمنكر ، وقال ابن عطاء : ) ولذكر الله أكبر ( من أن تبقى معه بالمعصية .
) والله يعلم ما تصنعون (
.
) وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُواْ ءَامَنَّا بِالَّذِىأُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَاهُنَا وَإِلَاهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ ءَاتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَاؤُلاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِايَاتِنَآ إِلاَّ الْكَافِرونَ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ بَلْ هُوَ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِئَايَاتِنَآ إِلاَّ الظَّالِمُونَ وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الاَْيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِى ذالِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَالَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِاللَّهِ أُوْلَائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( 2
العنكبوت : ( 46 ) ولا تجادلوا أهل . . . . .
) ولا تجادلوا أهل الكتاب ( الجدال : فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج فيه ، وأصله شدة الفتل ومنه قيل للصقر : أجدل لشدة فتل بدنه وقوة خلقه ، وقيل : الجدال من الجدالة وهو أن يروم كل واحد من الخصمين قهر صاحبه وصرعه على الجدالة وهي الأرض .
) إلاّ بالتي هي أحسن ( ألطف وأرفق ، وهو الجميل من القول والدعاء إلى الله والبينة على آيات الله وحججه .
) إلاّ الذين ظلموا منهم ( قال مجاهد : يعني إن قالوا شراً فقولوا خيراً ) إلاّ الذين ظلموا منهم ( أي أبوا أن يعطوا الجزية ونصبوا الحرب ، فأولئك انتصروا منهم وجادلوهم بالسيف حتى يسلموا أو يقرّوا بالجزية . قال سعيد بن جبير : هم أهل الحرب من لا عهد لهم فجادلوهم بالسيف . ابن زيد : ) إلاّ الذين ظلموا منهم ( بالإقامة على كفرهم بعد قيام الحجة عليهم .
ومجاز الآية : إلاّ الذين ظلموكم لأنّ جميعهم ظالم . وقال قتادة ومقاتل : هذه الآية منسوخة بقوله : ) قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ( . . . الآية
(7/284)
" صفحة رقم 285 "
) وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ( أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون ، قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسن ، قال : حدثنا محمد بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، قال : أخبرني ابن أبي نملة الأنصاري : إنّ أبا نملة أخبره واسمه ( عمّار ) إنّه بينما هو عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جالس جاءه رجل من اليهود ومر بجنازة .
فقال : يا محمد هل تتكلم هذه الجنازة ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الله أعلم ) ، فقال اليهودي : إنّها تتكلم .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله ، فإن كان باطلا لم تصدقوهم وإن كان حقاً لم تكذبوهم ) .
وروى أبو سلمة عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ، فيفسرونها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ) ) وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ( . . . الآية ) .
وروى سفيان ومسعود ، عن سعد بن إبراهيم ، عن عطاء بن يسار قال : بينما رجل من أهل الكتاب يحدث أصحابه وهم يسبّحون كلما ذكر شيئاً من أمرهم ، قال : فأتوا رسول الله ( عليه السلام ) فأخبروه ، فقال : ( لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ولكن ) قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ( ) ( 160 ) .
) وإلاهنا وإلاهكم واحد ونحن له مسلمون }
العنكبوت : ( 47 ) وكذلك أنزلنا إليك . . . . .
) وكذلك ( أي وكما أنزلنا الكتاب عليهم . ) أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ( يعني مؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه .
) ومن هؤلاء ( الذين هم بين ظهرانيك اليوم من يؤمن به ) وما يجحد بآياتنا إلاّ الكافرون ( قال قتادة : إنّما يكون الجحود بعد المعرفة .
العنكبوت : ( 48 ) وما كنت تتلو . . . . .
) وما كنت تتلوا ( يا محمد ) من قبله ( أي من قبل هذا الكتاب الذي أنزلنا عليك ) من كتاب ولا تخطّه ( تكتبه ) بيمينك إذاً لارتاب المبطلون ( يعني : لو كنت تكتب أو تقرأ الكتب
(7/285)
" صفحة رقم 286 "
قبل الوحي إذاً لشك المبطلون أي المشركون من أهل مكة وقالوا : هذا شيء تعلّمه محمد وكتبه ، قاله قتادة .
وقال مقاتل : ) المبطلون ( هم اليهود ، ومعنى الآية : إذا لشكّوا فيك واتهموك يا محمد ، وقالوا : إنّ الذي نجد نعته في التوراة هو أمي لا يقرأ ولا يكتب .
العنكبوت : ( 49 ) بل هو آيات . . . . .
) بل هو ( يعني القرآن ) آياتٌ بيّناتٌ ( عن الحسن ، وقال ابن عباس وقتادة : بل هو يعني محمد ( صلى الله عليه وسلم ) والعلم بأنّه أمي ) آيات بينات في صدور ( أهل العلم من أهل الكتاب يجدونها في كتبهم . ودليل هذا التأويل قراءة ابن مسعود وابن السميقع ) بل هي آيات ( .
) وما يجحد بآياتنا إلاّ الظالمون }
العنكبوت : ( 50 ) وقالوا لولا أنزل . . . . .
) وقالوا لولا أنزل عليه آياتٌ من ربّه ( كما أنزل على الأنبياء قبلك ، قرأ ابن كثير والأعمش وحمزة والكسائي وخلف وأيوب وعاصم برواية أبي بكر ) آية ( على الواحد ، الباقون ) آيات ( بالجمع واختاره أبو عبيد لقوله : ) قل إنّما الآيات عند الله ( حتى إذا شاء أرسلها ، وليست عندي ولا بيدي .
) وإنّما أنا نذيرٌ مبينٌ }
العنكبوت : ( 51 ) أو لم يكفهم . . . . .
) أو لم يكفهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم إنّ في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ( هذا جواب لقولهم ) لولا أنزل عليه آيات من ربه ( ، وروى حجاج ، عن ابن جريج ، عن عمرو بن دينار ، عن يحيى بن جعدة أنّ أناساً من المسلمين أتوا نبي الله ( عليه السلام ) بكتب قد كتبوها فيها بعض ما يقول اليهود فلما أن نظر فيها ألقاها ثم قال : ( كفى بها حماقة قوم أو ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم إلى قوم غيرهم ) ، فنزلت ) أو لم يكفهم ( . . . الآية .
العنكبوت : ( 52 - 53 ) قل كفى بالله . . . . .
) قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً ( أني رسوله ، وأن هذا القرآن كتابه . ) يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون ويستعجلونك بالعذاب ( نزلت في النضر بن الحارث حين قال : فأمطر علينا حجارة من السماء وقال : عجل لنا قطنا .
) ولولا أجل مسمّى ( في نزول العذاب ، وقال ابن عباس : يعني ما وعدتك أن لا أعذب قومك ولا أستأصلهم وأؤخر عذابهم إلى يوم القيامة ، بيانه قوله : ) بل الساعة موعدهم ( . . . الآية ، وقال الضحاك : يعني مدة أعمارهم في الدنيا . وقيل : يوم بدر .
(7/286)
" صفحة رقم 287 "
) لجاءهم العذاب وليأتينّهم ( يعني العذاب وقيل : الأجل ) بغتةً وهم لا يشعرون (
العنكبوت : ( 54 ) يستعجلونك بالعذاب وإن . . . . .
) يستعجلونك بالعذاب وإنّ جهنّم لمحيطة بالكافرين ( لا يبقى منهم أحد إلاّ دخلها ، وقيل : هو متصل بقوله :
العنكبوت : ( 55 ) يوم يغشاهم العذاب . . . . .
) يوم يغشاهم ( يصيبهم ) العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ( يعني : إذا غشيهم العذاب أحاطت بهم جهنّم .
) ويقول ( بالياء كوفي ونافع وأيوب ، غيرهم بالنون ) ذوقوا ما كنتم تعملون ( .
2 ( ) ياَعِبَادِىَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فَاعْبُدُونِ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٍ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الاَْرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمَا هَاذِهِ الْحَيَواةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الاَْخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ( 2
العنكبوت : ( 56 ) يا عبادي الذين . . . . .
) يا عبادي الذين آمنوا ( بإرسال الياء عراقي غير عاصم ، سائرهم بفتحها ) إنّ أرضي ( مفتوحة الياء ابن عامر ، غيره ساكنة ) واسعةٌ فإيّاي فاعبدون ( توحدون من غير طاعة مخلوق في معصيتي ، قال سعيد بن جبير : إذا عُمِل في أرض بالمعاصي ، فاهربوا فإنّ أرضي واسعة .
مجاهد : ) إنّ أرضي واسعةٌ ( فهاجروا وجاهدوا ، وقال مقاتل والكلبي : نزلت في المستضعفين المؤمنين الذين كانوا بمكة لا يقدرون على إظهار الإيمان وعبادة الرحمن ، يحثهم على الهجرة ويقول لهم : إنّ أرض المدينة واسعة آمنة . وقال مطرف بن عبد الله بن الشخير : ) أرضي واسعة ( أي رزقي لكم واسع ، أُخرج من الأرض ما يكون بها
(7/287)
" صفحة رقم 288 "
أخبرنا عبد الله بن حامد ، قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان ، قال : حدثنا جيغويه ابن محمد الترمذي ، قال : حدثنا صالح بن محمد ، عن سليمان ، عن عباد بن منصور الناجي ، عن الحسين قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من فرّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد ( عليهما السلام ) ) .
العنكبوت : ( 57 ) كل نفس ذائقة . . . . .
) كلُّ نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون ( فلا تقيموا بدار المشركين .
العنكبوت : ( 58 ) والذين آمنوا وعملوا . . . . .
) والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنّهم من الجنة غرفاً ( علالي ، قرأ حمزة والكسائي وخلف بالتاء ، غيرهم بالياء أي لينزلنّهم ) تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين }
العنكبوت : ( 59 - 60 ) الذين صبروا وعلى . . . . .
) الذين صبروا وعلى ربّهم يتوكّلون وكأيّن ( وكم ) من دابّة لا تحمل رزقها ( وذلك إنّ رسول الله ( عليه السلام ) قال للمؤمنين الذين كانوا بمكة وقد آذاهم المشركون : ( أخرجوا إلى المدينة وهاجروا ولا تجاوروا الظلمة فيها ) .
فقالوا : يا رسول الله كيف نخرج إلى المدينة ليس لنا بها دار ولا عقار ولا مال ، فمن يطعمنا بها ويسقينا ؟ فأنزل الله سبحانه : ) وكأيّن من دابة ( ذات حاجة إلى غذاء لا تحمل رزقا فيرفعه لغذائها يعني الطير والبهائم .
) الله يرزقها وإيّاكم ( يوماً بيوم ) وهو السميع ( لأقوالكم : نخشى لفراق أوطننا العيلة . ) العليم ( بما في قلوبكم وما إليه صائرة أموركم .
أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد الثقفي ، قال : حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الرقاق ، وقال : حدثنا محمد بن عبد العزيز ، قال : حدثنا إسماعيل بن زرارة الرقي ، قال : حدثنا أبو العطوف الجراح بن المنهال الجوزي ، عن الزهري ، عن عطاء بن أبي رياح ، عن ابن عمر قال : دخلت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حائطاً من حياطان الأنصار ، فجعل رسول الله ( عليه السلام ) يلقط الرطب بيده ويأكل فقال : ( كل يابن عمر ) ، قلت : لا أشتهيها يا رسول الله ، قال : ( لكنّي أشتهيه وهذه صبحة رابعة لم أزق طعاماً ولم أجده ) .
فقلت : إنّا لله ، الله المستعان ، قال : ( يا بن عمر لو سألت ربّي لأعطاني مثل ملك
(7/288)
" صفحة رقم 289 "
كسرى وقيصر أضعافاً مضاعفة ، ولكني أجوع يوماً وأشبع يوماً فكيف بك يابن عمر إذا عمرت وبقيت في حثالة من الناس يخبّؤون رزق سنة ويضعف اليقين ) ، فنزلت على رسول الله ( عليه السلام ) : ) وكأيّن من دابة لا تحمل رزقها ( . . . الآية .
أخبرني ابن فنجويه ، حدثنا ابن حنيش ، حدثنا أبو يعلى الموصلي ، حدثنا يحيى من معين ، حدثنا يحيى بن اليمان ، عن سفيان ، عن علي بن الأرقم ) وكأيّن من دابة لا تحمل رزقها ( قال : لا تدخر شيئاً لغد .
قال سفيان : ليس شيء مما خلق الله يخبّيء إلاّ الإنسان والفأرة والنملة .
العنكبوت : ( 61 - 64 ) ولئن سألتهم من . . . . .
) ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخّر الشمس والقمر ليقولنّ الله فأنّى يؤفكون الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إنّ الله بكل شيء عليمٌ ولئن سألتهم من نزّل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولنّ الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون وما هذه الحياة الدنيا إلاّ لهو ولعب وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان ( يعني الدائمة الباقية التي لا زوال لها ولا موت فيها . ) لو كانوا يعلمون ( ولكنهم لا يعلمون ذلك .
العنكبوت : ( 65 - 66 ) فإذا ركبوا في . . . . .
) فإذا ركبوا في الفلك ( وخافوا الغرق والهلاك ) دعوا الله مخلصين له الدين فلمّا نجّاهم إلى البرّ إذا هم يشركون ليكفروا بما آتيناهم ( ليجحدوا نعمه في إنجائه إياهم وسائر الآية ) وليتمتّعوا ( جزم لامه الأعمش وحمزة والكسائي وخلف وأيوب ، واختلف فيه عن عاصم ونافع وابن كثير ، الباقون بكسر اللام واختاره أبو عبيد ليكفروا لكون الكلام نسقاً . ومن جزم احتج بقراءة أبي بن كعب ) يمتعوا ( . ) فسوف يعلمون ( .
أخبرني أبو محمد عبد الله بن حامد فيما أذن لي روايته عنه قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن أبي سعيد ، قال : حدثنا محمد بن الحسن بن أسكت ، قال : حدثنا عقال ، قال : حدثنا جعفر بن سلمان قال : حدثنا ملك بن دينار ، قال : سمعت أبو العالية قرأ ) ليكفروا بما أتيناهم فتمتعوا فسوف يعلمون ( بالياء ، فالكسر على كي والجزم على التهديد .
العنكبوت : ( 67 ) أو لم يروا . . . . .
) أولم يروا أنّا جعلنا حرماً آمناً ويتخطّف الناس من حولهم أفبالباطل ( بالأصنام ) يؤمنون وبنعمة الله ( يعني الإيمان ) يكفرون }
العنكبوت : ( 68 ) ومن أظلم ممن . . . . .
) ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً ( فزعموا أنّ لله شريكاً ، وقالوا إذا فعلوا فاحشة ، ) قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها ( .
(7/289)
" صفحة رقم 290 "
) أو كذّب بالحقّ ( بمحمد والقرآن ) لمّا جاءه أليس في جهنّم مثوىً ( منزل ) للكافرين }
العنكبوت : ( 69 ) والذين جاهدوا فينا . . . . .
) والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبُلنا ( أي والذين قاتلوا لأجلنا أعداءنا لنصرة ديننا لنثبتهم على ما قاتلوا عنه .
قال أبو سورة : ) والذين جاهدوا ( في الغزو ) لنهدينهم ( سبيل الشهادة أو المغفرة .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا ابن شنبه ، قال : حدثنا عبد الله بن محمد بن وهب ، قال : حدثنا إبراهيم بن سعيد ، قال : سمعت سفيان بن عيينة يقول : إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغر فإنّ الله سبحانه وتعالى يقول : ) والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا ( .
وقال الفضيل بن عياض : والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينّهم سبل العمل به .
وأخبرني أبو الحسن محمد بن القاسم بن أحمد ، قال : حدثني أبو الطيب محمد بن أحمد ابن حمدون ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن الحسين ، قال : حدثنا محمد بن إدريس ، قال : حدثنا أحمد بن أبي الجواري ، قال : قال أبو أحمد يعني عباس الهمداني وأبو سليمان الداراني في قوله سبحانه : ) والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا ( قال : الذين يعملون بما يعلمون يهديهم ربّهم إلى ما لا يعلمون .
وعن عمر بن عبد العزيز إنّه تكلم بكلمات وعنده نفر من العلماء ، فقال له الوضين بن عطاء : بِمَ أوتيت هذا العلم يا أبا مروان ؟ قال : ويحك يا وضين إنّما قصر بنا من علم ما جهلنا بتقصيرنا في العمل بما علمنا ، ولو أنّا عملنا ببعض ما علمنا لأورثنا علماً لا تقوم به أبداننا .
وعن عبد الله بن الزبير قال : تقول الحكمة : من طلبني فلم يجدني فليطلبني في موضعين : أن يعمل بأحسن ما يعلمه ، أو يدع أسوأ ما يعلمه .
وروي عن ابن عباس : والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا . ضحاك : والذين جاهدوا بالهجرة لنهدينّهم سبل الثبات على الإيمان ، وقيل : والذين جاهدوا بالثبات على الإيمان لنهدينهم سبل دخول الجنان ، سهل بن عبد الله : والذين جاهدوا في إقامة السنّة لنهدينّهم سبل الجنة ثم قال : مثل السنّة في الدنيا كمثل الجنة في العقبى ، من دخل الجنة في العقبى سلم ، فكذلك من لزم السنّة في الدنيا سلم ، وقال الحسين بن الفضل : فيه تقديم وتأخير مجازه : والذين هديناهم سبيلنا جاهدوا فينا ) وإنّ الله لمع المحسنين ( بالنصر والمعونة في دنياهم ، وبالثواب والمغفرة في عقباهم .
(7/290)
" صفحة رقم 291 "
( سورة الروم )
مكّية ، وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفاً ، وثمانمائة وتسع عشرة كلمة ، وستّون آية
أخبرنا المغازي غير مرّة ، قال : حدّثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الجرجاني ، وأبو الشيخ عبدالله بن أحمد الأصبهاني قالا : حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك الكوفي ، قال : حدّثنا أحمد بن يونس اليربوعي ، قال : حدّثنا سلام بن سليمان المدائني ، قال : حدّثنا هارون بن كثير ، عن زيد بن أسلم عن أبيه ، عن أبي أمامة ، عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلّى الله عليه : ( مَن قرأ سورة الرّوم كان له من الأجر ، عشر حسنات بعدد كلّ ملك سبَّحَ لله بين السماء والأرض وأدرك ما ضيّع في يومه وليلته ) .
بسم اللّه الرحمن الرحيم
2 ( ) الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِىأَدْنَى الاَْرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِى بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الاَْمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الاَْخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ( 2
الروم : ( 1 - 2 ) الم
قوله عزّ وجلّ : ) الم غُلِبَتِ الرُّوم ( الآية .
قال المفسِّرون : كانت في فارس امرأة لا تلد إلاّ الملوك والأبطال بسم الله الرحمن الرحيم ، فدعاها كسرى فقال : إنّي أُريد أن أبعث إلى الروم جيشاً وأستعمل عليهم رجلاً من بنيكِ فأشيري عليَّ أيّهم أستعمل ؟ فقالت : هذا فلان ، أروغ من ثعلب ، وأحذر من صقر ، وهذا فرخان أنفذ من سنان ، وهذا شهريراز هو أحلم من كذا ، فاستعمل أيّهم شئت . قال : فإنّي
(7/291)
" صفحة رقم 292 "
استعملتُ الحليم ، فاستعمل شهريراز ، فسار إلى الروم بأهل فارس وظهر عليهم فقتلهم وخرّب مدائنهم وقطع زيتونهم ، وكان قيصر بعث رجلاً يدعى يحنس وبعث كسرى شهريراذ فالتقيا بأذرعات وبصرى وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم فَغَلَبت فارسُ الرومَ ، فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وأصحابه بمكّة فشقّ عليهم ، وكان النبيّ صلّى الله عليه يكره أنْ يظهر الأمّيّون من المجوس على أهل الكتاب من الروم .
وفرح كفّار مكّة وشمتوا ولقوا أصحاب النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : إنّكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أُمّيون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم . فإنّكم إنْ قاتلتمونا لنظهرنّ عليكم .
فأنزل الله عزّ وجلّ : ) الم غُلِبتْ الرُّومُ . . . ( إلى آخر الآيات .
فخرج الصّدّيق ح إلى الكفّار فقال : فرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا فلا تفرحوا ولا يقرّنَ الله أعينكم ، فوالله ليظهرنّ الروم على فارس ، أخبرنا بذلك نبيُّنا ، فقام إليه أُبيّ بن خلف الجمحي فقال : كذبت يا أبا فضيل ، فقال له أبو بكر : أنتَ أكذب يا عدوّ الله ، فقال : اجعل بيننا أجلاً أُناحبُكَ عليه ، والمناحبة : المراهنة على عشر قلائص منّي وعشر قلائص منك ، فإنْ ظهرت الروم على فارس غرمتُ ، وإنْ ظهرت فارس غرمتَ ، ففعل ذلك وجعلوا الأجل ثلاث سنين .
فجاء أبو بكر إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبره وذلك قبل تحريم القمار ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما هكذا ذكرتُ ، إنّما البضع ما بين ثلاث إلى التسع فزايدهُ في الخطر ومادّه في الأجل ، فخرج أبو بكر فلقي أُبيّاً فقال : لعلَّك ندمت قال : لا ، قال : فتعال أزايدك في الخطر وأُمادّك في الأجل فاجعلها مائة قلوص ومائة قلوص إلى تسع سنين ، قال : قد فعلت فلمّا خشي أُبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه فقال : إنّي أُخاف أن تخرج من مكّة فأقم لي كفيلاً ، فكفل له ابنه عبدالله بن أبي بكر .
فلمّا أراد أُبي بن خلف أن يخرج إلى أحُد أتاه عبدالله بن أبي بكر فلزمه قال : والله لا أدعك حتّى تعطيني كفيلاً فأعطاه كفيلاً ثمّ خرج إلى أحُد ، ثمّ رجع أُبيّ بن خلف فمات بمكّة من جُراحتِهِ التي جرحه رسول الله صلّى الله عليه حين بارزه .
وظهرت الروم على فارس يوم الحُديبيّة وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم . هذا قول أكثر المفسِّرين
(7/292)
" صفحة رقم 293 "
وقال أبو سعيد الخدري ومقاتل : لمّا كان يوم بدر غلب المسلمون كفّار مكّة وأتاهم الخبر أنّ الروم قد غلبوا فارس ففرح المؤمنون بذلك . قال الشعبي : لم تمضِ تلك المدّة التي عقدوا المناحبة بينهم ، أهل مكّة وصاحب قمارهم أبيّ بن خلف ، والمسلمون وصاحب قمارهم أبو بكر ، وذلك قبل تحريم القمار حتّى غلَبت الرومُ فارسَ وربطوا خيولهم بالمدائن وبنوا الرومية فَقَمَر أبو بكر أُبيّاً ، وأخذ مال الخطر من ورثته وجاء به يحمله إلى النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( تصدّق به ) .
وكان سبب غلبة الروم فارسَ على ما قال عكرمة وغيره أنّ شهريراز بعدما غلب الروم لم يزل يطأهم ويخرّب مدائنهم حتّى بلغ الخليج ، فبينا أخوه فرخان جالس ذات يوم يشرب فقال لأصحابه : لقد رأيت كأنّي جالس على سرير كسرى ، فبلغت كلمته كسرى فكتب إلى شهريراز : إذا أتاك كتابي فابعث إليّ برأس فرخان .
فكتب إليه : أيّها الملك إنّك لم تجد مثل فرخان ، إنّ له نكاية وصوتاً في العدوّ فلا تفعل ، فكتب إليه : إنَّ في رجال فارس خَلَفاً منه فعجّل إليّ برأسهِ ، فراجعه فغضب كسرى ولم يجبه ، وبعث بريداً إلى أهل فارس إنّي قد نزعت عنكم شهريراز واستعملت عليكم فرخان . ثمّ دفع إلى البريد صحيفة صغيرة وأمره فيها بقتل شهريراز وقال : إذا وليَ فرخان الملك وانقاد له أخوه فأعطهِ ، فلمّا قرأ شهريراز الكتاب قال : سمعاً وطاعة ونزل عن سريره وجلس فرخان فدفع إليه الصحيفة فقال : ائتوني بشهريراز فقدَّمه ليضرب عنقه .
قال : لا تعجل حتّى أكتب وصيّتي ، قال : نعم ، قال : فدعا بالسفط فأعطاه ثلاث صحائف ، وقال : كلّ هذا راجعت فيه كسرى وأنت أردت أن تقتلني بكتاب واحد ، فَردَّ المُلْكَ إلى أخيه . فكتب شهريراز إلى قيصر ملك الروم : إنّ لي إليك حاجة لا يحملها البريد ولا تبلغها الصحف فألقني ولا تلقني إلاّ في خمسين روميّاً فأنّي ألقاك في خمسين فارسيّاً .
فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق وخاف أن يكون قد مُكرَ بهِ حتّى أتاه عيونه أنّه ليس معه إلاّ خمسون رجلاً ثمّ بسط لهما والتقيا في قبّة ديباج ضربت لهما ومع كلّ واحد منهما سكين ، فدعيا بترجمان بينهما فقال شهريراز : إنّ الذين خرّبوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا ومكرنا وشجاعتنا ، وإنّ كسرى حسدنا وأراد أنْ أقتل أخي فأَبيت .
ثمّ أمر أخي أن يقتلني . فقد خلعناه جميعاً فنحن نقاتله معك ، قال : قد أصبتما ثمّ أشار أحدهما إلى صاحبه أنّ السرّ بين اثنين فإذا جاوز اثنين فشا ، فقتلا الترجمان جميعاً بسكّينيهما ( فأُديلت ) الروم على فارس عند ذلك فأتبعوهم يقتلونهم ومات كسرى .
وجاء الخبر إلى رسول الله صلّى الله عليه يوم الحديبية ففرح ومن معه ، فذلك قوله عزّ
(7/293)
" صفحة رقم 294 "
وجلّ : ) الم غُلِبَتِ الرُّوم }
الروم : ( 3 ) في أدنى الأرض . . . . .
) في أدنى الأَرْضِ ( يعني أدنى الأرض من أرض الشام إلى أرض فارس وهي أذرعات .
قال ابن عبّاس : طرف الشام . مجاهد : أرض الجزيرة . مقاتل : الأردن وفلسطين ، عكرمة : أذرعات وكسكر . مقاتل بن حبان : هي ريف الشام .
) وَهُمْ مِنْ بَعدِ غَلَبهِمْ ( أي غلبتهم فحذفت التاء منه كما حذفت من قوله : ) وَإِقام الصَلوةَ ( وانّما هو إقامته .
وقرأ أبو حيوة الشامي ( غَلْبِهمْ ) بسكون اللام وهما لغتان مثل الطّعْن والطَعَن .
) سَيَغلِبُونَ ( فارس
الروم : ( 4 ) في بضع سنين . . . . .
) فِي بِضْعِ سِنِينَ ( وقرأ عبدالله بن عمرو وأبو سعيد الخدري والحسن وعيسى بن عمر ) غُلِبتْ ( بفتح الغين واللام ) سَيغلِبُون ( بضم الواو وفتح اللام .
قالوا : نزلت هذه الآية حين أخبر الله عزّ وجلّ نبيّه ( صلى الله عليه وسلم ) عن غلبة الروم فارسَ ، ومعنى الآية : الم غلبت الروم فارس في أدنى الأرض إليكم . وقرأ سعيد بن جبير وطلحة بن مصرف في أداني الأرض بالجمع ) وهم من بعد غلبهم ( سيغلبهم المسلمون . ) في بضع سنين ( وعند انقضاء هذه المدّة أخذ المسلمون في جهاد الروم .
أخبرنا محمد بن عبدالله بن حمدويه ، عن الحسين بن الحسن بن أيّوب ، عن علي بن عبدالعزيز قال : أخبرني أبو عبيد عن حمّاد بن خالد الخيّاط عن معاوية بن صالح عن مرتد بن سمي قال : سمعت أبا الدرداء يقول : سيجيء قوم يقرأون : ) الم غَلَبت الروم ( وإنّما هي ) غُلِبت الرُّوم ( . قال أبو عبيد بضم الغين يعني الأخيرة .
قوله : ) لِلّهِ الأمر من قَبلُ وَمِن بَعدُ ( يعني من قبل دولة الروم على فارس ومن بعد وهما مرفوعان على الغاية . ) ويومئذ يفرحُ المؤمنون }
الروم : ( 5 ) بنصر الله ينصر . . . . .
) بنصر الله ( الرومَ لأنّهم أهل كتاب ، وبنصر الله المؤمنين على الكافرين ) يَنصُرُ مَنْ يشاءُ وَهُوَ العَزيزُ الرَّحِيمُ ( .
أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه عن عبدالله بن محمد بن شنبه ، عن علي بن محمد ابن هامان ، عن علي بن محمد الطّنافسي عن النعمان بن محمد عن أبي إسحاق الفزاري ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فارس نطحة أو نطحتان ) ثمّ قال : ( لا فارس بعدها أبداً ، والروم ذات القرون أصحاب بحر وصخر ، كلّما ذهب قرن خلف قرن ، هيهات إلى آخر الأبد ) .
(7/294)
" صفحة رقم 295 "
الروم : ( 6 - 7 ) وعد الله لا . . . . .
) وَعدَ اللهِ ( نصب على المصدر ) لاَ يُخلِفُ اللهُ وَعدَهُ وَلَكِنَّ أكثرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ يَعلَمُونَ ظاهراً مِنَ الحيَاةِ الدُّنَيا ( يعني أمر معايشهم كيف يكتسبون ويتّجرون ومتى يغرسون ويحصدون وكيف يبنون ويعيشون .
) وهم عن الآخرة هُمْ غافِلون ( وبها جاهلون ولها مضيّعون ، لا يتفكّرون فيها ولا يعملون لها . فعمّروا دنياهم وخرّبوا آخرتهم .
( ) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِىأَنفُسِهِمْ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى الاَْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُواْ الاَْرْضَ وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ السُّوءَى أَن كَذَّبُواْ بِئَايَاتِ اللَّهِ وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مِّن شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ كَافِرِينَ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا وَلِقَآءِ الاَّخِرَةِ فَأُوْلَائِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ ( 2
الروم : ( 8 ) أو لم يتفكروا . . . . .
) أَوَلَم يتفكّروا في أنفسهم ما خلق الله السّموات والأرض وما بينهما إلاّ بالحقّ وأجل مُسمّى ( يعني ولوقت معلوم إذا انتهت إليه فُنيت ، وهو يوم القيامة .
) وإنّ كثيراً من الناس بلقاء ربِّهم لكافرون (
الروم : ( 9 ) أو لم يسيروا . . . . .
) أَوَلَم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلهم كانوا أشدّ منهم قوّة وأثاروا الأرض ( حرثوها وقلّبوها للزراعة والعمارة . ) وعمروها أكثر ممّا عمروها وجاءتهم رسلهم بالبيّنات ( فلم يؤمنوا وأهلكهم الله عزّ وجلّ .
) فما كان الله ليظلَمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون (
الروم : ( 10 ) ثم كان عاقبة . . . . .
) ثمّ كان عاقبة الذين أساؤا ( العمل ) السُوأى ( يعني الخلّة التي تسوؤهم وهي النار . وقيل : ( السّوأى ) اسم لجهنّم كما أنّ ( الحسنى ) اسم للجنة .
) أنْ كذّبوا ( يعني لأن كذّبوا . وقيل : تفسير ( السّوأى ) ما بعدها وهو قوله : ) أَن كذّبوا ( يعني : ثمّ كان عاقبة المسيئين التكذيب حملهم تلك السيئات على أنْ كذَّبوا ) بآيات اللهِ وكانوا بها يستهزءون ( استهزءوا بها .
الروم : ( 11 - 12 ) الله يبدأ الخلق . . . . .
) اللهُ يبدؤا الخلقَ ثمّ يُعيدُه ثمّ إليه ترجعون ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ( .
روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : ( يبلس ) يكتئب . أبو يحيى عنه : يفتضح . قتادة
(7/295)
" صفحة رقم 296 "
ومقاتل والكلبيّ : بياءين ، ابن زيد : المبلس الذي قد نزل به البلاء والشّرّ . الفرّاء : ينقطع كلامهم وحججهم . أبو عبيدة : يندمون ، وأنشد :
يا صاح هل تعرف رسماً مكرسا
قال نعم أعرفه وأبلسا
وقرأ السلمي ) يبلس ( بفتح اللاّم ، والأوّل أجود .
الروم : ( 13 ) ولم يكن لهم . . . . .
) ولم يكن لهم من شركائهم ( أوثانهم التي عبدوها من دون الله ليشفعوا لهم ) شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين ( جاحدين وعنهم متبرّين .
الروم : ( 14 - 15 ) ويوم تقوم الساعة . . . . .
) ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرّقون فأمّا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة ( بستان ) يحبرَون ( قال ابن عبّاس : يكرمون . مجاهد وقتادة : ينعمون . أبو عبيدة : يسرّون ، ومنه قيل : كلّ حبرة تتبعها عبرة . وقال العجاج :
فالحمدُ لله الذي أعطى الحبر
موالي الحقّ إن المولى شكر
أي السرور . وقال بعضهم : الحبرة في اللغة كلّ نعمة حسنة . والتّحبير : التحسين . ومنه قيل للمداد : حبر لأنّه يُحسّن به الأوراق . والعالم : حِبْر لأنّه متخلّق بأخلاق حسنة ، وقال الشاعر : يحبرها الكاتب الحميري . وقيل : يحبرون يلذّذون بالسّماع .
أخبرنا عبدالله بن حامد ، عن حامد بن محمد بن عبدالله عن محمد بن يونس ، عن روح عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ) فهم في روضة يحبرون ( قال : السماع في الجنّة .
أخبرني الحسين بن محمد بن عبدالله عن ابن شنبه ، عن عمير بن مرداس عن سلمة بن شبيب عن عبد القدّوس بن الحجّاج قال : سمعت الأوزاعي يقول : ) في روضة يحبرون ( قال : السّماع . وقال : إذا أخذ في السّماع لم يبق في الجنّة شجرة إلاّ وَرّدَت . وبه عن سلمة بن شبيب عن داود بن الجرّاح ، العسقلاني قال : سمعت الأوزاعي يقول : ليس أحد ممّن خلق الله أحسن صوتاً من إسرافيل ؛ فإذا أخذ في السّماع قطع على أهل سبع سماوات صلاتهم وتسبيحهم .
وأخبرنا الحسين بن محمد الدينوري ، عن أحمد بن الحسن بن ماجه القزويني ، عن الحسن ابن أيّوب ، عن عبدالله بن عراد الشيباني قالا : أخبرنا القاسم بن مطيب العجلي ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الجنّة مائة درجة ، ما بين كلّ درجتين منها كما بين السماء والأرض ، والفردوس أعلاها سموّاً وأوسطها محلّه ، ومنها تنفجر أنهار الجنّة ، وعليها يوضع العرش يوم القيامة ) .
فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله إنّي رجل حُبّب إليّ الصّوت ، فهل في الجنّه صوت حسن ؟ قال : إي والذي نفسي بيده ، إنَّ الله سبحانه ليوحي إلى شجرة في الجنّة أن أسمعي
(7/296)
" صفحة رقم 297 "
عبادي الذين اشتغلوا بعبادتي وذكري عن عَزف البرابط والمزامير ، فترفع صوتاً لم يسمع الخلائق مثله قط من تسبيح الرّبّ وتقديسه .
وأخبرني الحسين بن محمد عن هارون ، عن محمّد بن هارون العطّار ، عن حازم بن يحيى الحلواني ، عن الوليد بن عبد الملك ، عن مسروح الحرّاني ، عن سليمان بن عطاء ، عن سلمة بن عبدالله الجهني ، عن عمّه ، عن أبي الدرداء قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يذكّر الناس فذكر الجنّة وما فيها من الأزواج والنعيم وفي ( آخر ) القوم أعرابي فجثا لركبتيه وقال : يا رسول الله هل في الجنّة من سماع ؟ قال : ( نعم يا إعرابي إنّ في الجنّة لنهراً حافتاه الأبكار من كلّ بيضاء خوصانية ، يتغنّين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها ، فذلك أفضل نعيم أهل الجنّة ) .
قال : فسألت أبا الدرداء بِمَ يتغنّين ؟ قال : بالتسبيح إن شاء الله . قال : والخوصانية : المرهفة الأعلى الضخمة الأسفل . وأخبرني الحسين بن محمد عن أحمد بن محمد بن علي الهمداني عن علي بن سعيد العسكري قال : أخبرني أبو بدر عبّاد بن الوليد الغُبري ، عن محمّد ابن موسى الخراساني عن عبدالله بن عرادة الشيباني ، عن القاسم بن مطيب عن مغيرة عن إبراهيم قال : ( إنّ في الجنّة لأشجاراً عليها أجراس من فضّة فإذا أراد أهل الجنّة السماع بعث الله عزّ وجلّ ريحاً من تحت العرش فتقع في تلك الأشجار فتحرّك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الأرض لماتوا طرباً ) .
وأخبرني الحسين ، عن أبي شنبه وعبدالله بن يوسف قالا : قال محمد بن عمران ، عن محمد بن منصور ، قال : أخبرني يحيى بن أبي الحجّاج ، عن عبدالله بن مسلم عن مولى لبني أُميّة يقال له : سليمان ، قال : سمعت أبا هريرة يسأل : هل لأهل الجنّة من سماع ؟
قال : نعم ، شجرة أصلها من ذهب وأغصانها فضّة وثمرها اللؤلؤ والزّبرجد والياقوت يبعث الله سبحانه وتعالى ريحاً فيحكّ بعضها بعضاً ، فما سمع أحد شيئاً أحسن منه .
الروم : ( 16 - 17 ) وأما الذين كفروا . . . . .
قوله : ) وأمّا الذين كفروا وكذّبوا بآياتنا ولقاء الآخرةِ فأُولئك في العذاب محضرون فسبحان الله ( فصلّوا لله ) حين تمسون ( وهو صلاة العصر والمغرب ) وحين تصبحون ( صلاة الصبح
الروم : ( 18 ) وله الحمد في . . . . .
) وله الحمد في السموات والأرض وعشياً ( وهو صلاة العشاء الآخرة . أيّ وسبّحوه عشياً ) وحين تظهرون ( صلاة الظهر .
أخبرنا عبدالله بن حامد الوزّان عن أحمد بن محمد بن الحسين الحافظ ، عن محمد بن
(7/297)
" صفحة رقم 298 "
يحيى ، عن عبدالرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن أبي رزين قال نافع بن الأزرق لابن عبّاس : هل تجد الصلوات الخمس في القرآن ؟ قال : نعم ) فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ( . . . إلى قوله : ) وحين تظهرون ( .
حدّثنا أبو بكر بن عبدوس قال : حدّثني أبو بكر الشرقي قال : حدّثني أبو حاتم الرازي قال : حدّثني أبو صالح كاتب الليث ، حدّثني الليث ، عن سعيد بن بشير ، عن محمد بن عبد الرحمن السلماني ، عن أبيه ، عن ابن عبّاس ، عن النبيّ صلّى الله عليه قال : ( من قال حين يصبح ) فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ( . . . إلى قوله : ) وكذلك يخرجون ( أدرك ما فاته في يومهِ ، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته ) .
وأخبرني محمد بن القاسم بن أحمد قال : كتب إليّ عمر بن أحمد بن عثمان البغدادي أنّ زيد بن محمد بن خلف القرشي حدّثهم عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب عن عمي ، عن الماضي بن محمد عن جويبر ، عن الضحّاك عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قال : ) سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ( هذه الآيات الثلاث من سورة الروم وآخر سورة الصافات دبر كلّ صلاة يصلّيها كُتِبَ له من الحسنات عدد نجوم السماء وقطر المطر وعدد ورق الشجر وعدد تراب الأرض ، فإذا مات أُجري له بكلّ حسنة عشر حسنات في قبره ) .
وأخبرني عبدالله بن فنجويه ، عن ابن شنبه وأحمد بن جعفر بن حمدان والفضل بن الفضل قالوا : أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن بهرام الزنجاني ، عن الحجّاج بن يوسف بن قتيبة بن مسلم ، عن بشر بن الحسين ، عن الزبير بن عدي ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سرّه أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل : ) سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ( . . . إلى قوله : ) وكذلك تخرجون ( ) سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون ( . . . إلى قوله : ) والحمدُ لله ربّ العالمين ( ) .
وأخبرني ابن فنجويه عن عمر بن أحمد بن القاسم عن محمد بن عبد الغفّار عن حبارة بن المغلس عن كثير عن الضحاك قال : من قال : ) سبحان الله حين تمسون ( إلى آخر الآية كان له من الأجر كعدل مائتي رقبة من ولد إسماعيل ( عليه السلام ) .
وأخبرني ابن فنجويه عن ابن شنبه عن علي بن محمد الطيالسي ، عن يحيى بن آدم عن
(7/298)
" صفحة رقم 299 "
إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن زيد العمي ، عن محمد بن واسع ، عن كعب قال : من قال حين يصبح : ) سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ( إلى آخر الآية ، لم يفتهُ خير كان في يومه ولم يدركه شرّ كان فيه ، ومن قالها حين يمسي لم يدركه شرّ كان في ليلِهِ ولم يفتهُ خير كان في ليلِهِ ، وكان إبراهيم خليل الله صلّى الله عليه يقولها في كلّ يوم وليلة ست مرّات .
( ) يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَيُحْىِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ وَمِنْ ءايَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِى ذالِكَ لأَيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ وَمِنْ ءايَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ ءايَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَيُحْىِ بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَآءُ وَالاَْرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الاَْرْضِ إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ وَلَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 2
الروم : ( 19 - 20 ) يخرج الحي من . . . . .
) يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ ويُحيي الأَرضَ بَعْدَ مَوتِها وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَمِنْ ءاَيتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِن تُراب ( يعني آدم ( عليه السلام ) .
) ثُمَّ إذا أَنْتُم بَشَرٌ تَنْتَشِرُون ( يعني ذُريته .
الروم : ( 21 ) ومن آياته أن . . . . .
) وَمِنْ ءَايتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجَاً ( من جنسكم ولم يجعلهنّ من الجِنّ ، وقيل : من ضلع آدم وقيل : من نطف الرجال .
) وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَودَّةً ( أُلفة ومحبّة ) ورحمة إنَّ في ذَلِكَ لاايت لِقَوم يَتَفَكَّروُنَ (
أخبرني الحسين بن محمد ، عن موسى بن محمد بن علي قال : أخبرني أبو شعيب الحراني ، عن يحيى بن عبدالله البابلي ، عن صفوان بن عمرو ، عن المشيخة أنَّ رجلاً أتى النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا نبيّ الله لقد عجبتُ من أمر وإنَّه لعجب ، إنّ الرجل ليتزوّج المرأة وما رآها وما رأتهُ قط حتى إذا ابتنى بها اصطحبا وما شيء أحبّ إليهما من الآخر .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وجعل بينكم مودة ورحمة 2 )
الروم : ( 22 ) ومن آياته خلق . . . . .
) وَمِنْ ءاَيتِهِ خَلْقُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ وَاخِتلاَفُ أَلسِنَتِكُمْ ( فعربي وأعجمي .
(7/299)
" صفحة رقم 300 "
) وَأَلوانِكُمْ ( أبيض وأسود وأحمر وأنتم وُلْد رجل واحد وامرأة واحدة .
) إنَّ في ذلكِ لآيات للعَالَمِينَ ( بكسر اللاّم حفص ، والياقوت بفتحها .
الروم : ( 23 - 24 ) ومن آياته منامكم . . . . .
) وَمِنْ ءَاَياتِهِ مَنَامُكُمُ بِالَّليلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضلِهِ إِنَّ في ذَلِكَ لاايت لِقَوم يَسمَعُونَ ومن ءَآياتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفَاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحيي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوتِها إِنَّ فِي ذَلِكَ لايات لِقَوْم يَعقِلُونَ ( وحذف أنْ من قوله ( يريكم ) لدلالة الكلام عليه ، كقول طرفه :
ألا أيهذا الزاجري احضر الوغى
وإن اشهد اللذات هل أنت مخلدي
أراد أنْ أَحضَر . وقيل : هو على التقدّيم والتأخير تقديره : ويريكم البرق خوفاً ، من آياته .
الروم : ( 25 ) ومن آياته أن . . . . .
) وَمِنْ ءَآيتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ والأَرْضُ بِأَمرِهِ ثُمَّ إذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرضِ ( أي من قبوركم ، عن ابن عبّاس ) إذَا أَنْتُمْ تَخرجُونَ ( منها ، وأكثر العلماء على أنَّ معنى الآية ثمّ إذا دعاكم دعوةً من الأرض إذا أنتم تخرجون من الأرض .
الروم : ( 26 - 27 ) وله من في . . . . .
) وَلَهُ مَن فِي السَّمَواتِ وَالأَرضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ وَهوَ الَّذِي يُبدَؤُا الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُه ( فقرأ ابن مسعود : يبدي ، ودليله قوله : ) إنّه هو يُبدِي ويُعِيدُ ( .
ودليل العامّة ) كَما بَدَأَكُمْ تَعُودونَ ( ) وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ( قال الربيع بن خيثم والحسن : وهو هيّن عليه وما شيء عليه بعزيز ، وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس ، وهذا كقول الفرزدق :
إنّ الذي سمك السماء بنا لها
بيتاً دعائمُهُ أعزّ وأطولُ
أي عزيزة طويلة .
وقال آخر :
لعمركَ إنَّ الزبرقان لباذل معروفه
عند السنين وأفضلُ
أي فاضل .
وقال مجاهد وعكرمة : الإعادة أهون عليه من البدأة أي أيسر . وهي رواية الوالبي عن ابن عبّاس : ووجه هذا التأويل أنّ هذا مَثَل ضربه الله تعالى ، يقول : إعادة الشيء على الخلق أهون من
(7/300)
" صفحة رقم 301 "
ابتدائه فينبغي أن يكون البعث أهون عليه عندكم من الإنشاء . وقال قوم : وهو أهون عليه ، أي على الخلق ، يُصاح بهم صيحة فيقومون ، ويقال لهم : كونوا فيكونون أهون عليهم من أن يكونوا نطفاً ثمّ علقاً ثمّ مضغاً إلى أن يصيروا رجالاً ونساء . وهذا معنى رواية حسان ، عن الكلبي ، عن أبي صالح عن ابن عبّاس واختيار قطرب .
) وَلَهُ المَثَلُ الأَعْلى ( أي الصفة العليا ) فِي السَّمَواتِ وَالأَرْضِ ( قال ابن عبّاس : ليس كمثله شيء . وقال قتادة : مثله أنّه لا إله إلاّ هو ولا ربّ غيره . ) وهو الَعزيزُ الحَكِيم (
.
) ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِى مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الاَْيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِى مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ الصَّلواةَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءَاتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ ( 2
الروم : ( 28 ) ضرب لكم مثلا . . . . .
قوله تعالى : ) ضَرَبَ لَكُم مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِن مَا مَلَكَتْ أَيْمنُكُم ( مِنْ عبيدكم وإمائكم ) مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُم ( من المال ) فأَنْتُم ( وهم ) فيهِ ( شرع ) سَوآء تخافُونَهُمُ كَخيفَتِكُم أَنْفُسَكُم ( قال ابن عبّاس : تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضاً ، وقيل : تخافون هؤلاء الشركاء أن يقاسموكم أموالكم كما يقاسم بعضكم بعضاً ، وهذا معنى قول أبي محلز ، فإذ لم تخافوا هذا من مماليككم ولم ترضوا بذلك لأنفسكم فكيف رضيتم أن تكون آلهتكم التي تعبدونها لي شركاء ؟ وأنتم وهم عبيدي وأنا مالككم جميعاً ، فكما لا يجوز استواء المملوك مع سيّده فكذلك لا يجوز استواء المخلوق مع خالقه .
ثمّ قال : ) كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الأَيتِ لِقَوم يَعْقِلُونَ (
الروم : ( 29 - 30 ) بل اتبع الذين . . . . .
) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْواءهُم بِغَيْرِ عِلْم فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ ( .
دين الله وهو نصب على المصدر أي فطر فطرة . ومعنى الآية : إنّ الدّين الحنيفية ، فطرة الله ) الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ( وقيل : نصب على الإغراء . ) لاَ تَبدِيلَ لِخَلقِ الله ( لدين الله ، أي لا يصلح ذلك ولا ينبغي أن يفعل ، ظاهره نفي ومعناه نهي ، هذا قول أكثر العلماء والمفسِّرين . وقال عكرمة ومجاهد : لا تغيير لخلق الله من البهائم بالخصاء ونحوه .
أخبرنا محمد بن عبدالله بن حمدون ، عن أحمد بن محمد بن الحسن ، عن محمد بن
(7/301)
" صفحة رقم 302 "
يحيى ، عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري ، عن ابن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كلّ مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه كما تنتج البهيمة بهيمة هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ) قال : ثمّ يقول أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم ) فِطْرَة اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ( الآية .
وأخبرني عبدالله بن حامد قال : أخبرني أبو بكر محمد بن جعفر المطيري ، عن أحمد بن عبدالله بن يزيد المؤدّب عن عبد الرزاق ، وأخبرنا أبو سعيد التاجر قال : أخبرني أبو حامد الشرقي ، وحدّثنا محمد بن يحيى وعبد الرحمن بن بشر والسلمي ، قالوا : قال عبد الرزّاق عن معمر عن همام ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلّى الله عليه قال : ( ما من مولود إلاّ يولد على هذه الفطرة ، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه كما تنتجون البهيمة فهل تجدون فيها من جدعاء حتّى تكونوا أنتم تجدعونها ؟ قالوا : يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير ؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين ) .
وقال الأسود بن سريع : غزوت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أربع غزوات وأنّ قوماً تناولوا الذرّية بالقتل ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما بال أقوام قتلوا المقاتلة ثمّ تناولوا الذرّية ؟ ) ، فقال رجل : يا رسول الله إنّما هم أولاد المشركين ، فقال ( عليه السلام ) : ( إنّ خياركم أولاد المشركين ، والذي نفسي بيده ما من مولود إلاّ يولد على الفطرة فما يزال عليها حتّى يبيّن عنه لسانه فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ) .
وروى قتادة عن مطرف بن عبدالله بن الشخير عن عياض بن حمار المجاشعي قال : قال رسول الله صلّى الله عليه : ( إنّ الله أمرني أن أعلّمكم ما جهلتم ممّا علّمني في يومي هذا وأنّه قال : إن كلّ مال نحلته عبادي فهو لهم حلال وإنّي خلقت عبادي كلّهم حنفاء فأتتهم الشياطين فاحتالتهم عن دينهم وحَرَّمتْ عليهم ما أحللتُ لهم وأَمَرتُهُم أنْ يشركوا بي ما لم أُنزّلْ به سلطاناً ) . وذكر الحديث
(7/302)
" صفحة رقم 303 "
قال أبو بكر الورّاق : فطرة الله التي فطر النّاس عليها هي الفقر والفاقة . ) ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّم ( المستقيم ) وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ( .
الروم : ( 31 - 32 ) منيبين إليه واتقوه . . . . .
قوله تعالى : ) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَلاَ تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعَاً ( فرقاً كاليهود والنصارى .
أخبرني الحسين بن محمد بن عبدالله الدينوري ، عن محمد بن عمر بن إسحاق بن حبيش الكلواذي ، عن عبدالله بن سليمان بن الأشعث ، عن محمد بن مصفى ، عن بقية بن الوليد عن شعبة أو غيره ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن شريح ، عن عمر بن الخطّاب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لعائشة : ( يا عائشة إنّ الّذين فارقوا دينهم وكانوا شيعاً هم أهل البدع والضّلالة من هذه الأمّة ، يا عائشة إنَّ لكلّ صاحب ذنب توبة إلاّ صاحب البدع والأهواء ليست لهم توبة ، أنا منهم بريء وهم منّي براء ) .
) كُلُّ حِزب بِمَا لَدَيهِمْ فَرِحُونَ (
الروم : ( 33 - 35 ) وإذا مس الناس . . . . .
قوله : ) وَإذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوا رَبَّهُم مُنِيبِينَ إِلَيهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِنْهُ رَحْمَةً . . . ( خصباً ونعمة ) إذا فَرِيقٌ مِنْهُم بِرَبِهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا ءَاتَيْنَهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( وفي مصحف عبدالله وليتمتّعوا ) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانَاً ( . قال ابن عبّاس والضحّاك : حجّةً وعذراً . قتادة والربيع : كتاباً .
) فَهُوَ يَتَكَلَّمُ ( ينطق ) بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ ( يعذرهم على شركهم ويأمرهم به .
( ) وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فَئَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَآ ءَاتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ وَمَآ ءاتَيْتُمْ مِّن زَكَواةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَىْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِى النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِى عَمِلُواْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُواْ فِى الاَْرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ الْقِيِّمِ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلاَِنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَات
(7/303)
" صفحة رقم 304 "
ِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِىَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ اللَّهُ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِى السَّمَآءِ كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانظُرْ إِلَىءَاثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْىِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْىِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ وَمَآ أَنتَ بِهَادِ الْعُمْىِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِئَايَاتِنَا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ ( 2
الروم : ( 36 - 38 ) وإذا أذقنا الناس . . . . .
) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَات لِقَوْم يُؤْمِنُونَ فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُوْلائِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ( .
الروم : ( 39 ) وما آتيتم من . . . . .
قوله تعالى : ) وَمَاءَ ءَاتَيْتُمْ مِن رِّباً ( . قرأ ابن كثير ( ءَاتَيتُم ) مقصور غير ممدود ) لِيَرْبُوا فِي أَمْوالِ النَّاسِ ( . قرأ الحسن وعكرمة وأهل المدينة ) لِتَرْبُوَا ( بضمّ التاء وجزم الواو وعلى الخطاب أي لتربوا أنتم ، وهي قراءة ابن عبّاس واختيار يعقوب وأيّوب وأبي حاتم .
وقرأ الآخرون ( لِّيَرْبُوَا ) بياء مفتوحة ونصب الواو وجعلوا الفعل للربا . واختاره أبو عبيد لقوله : ) فَلاَ يَرْبُواْ عِنْدَ اللهِ ( ولم يقل فلا يربى . واختلف المفسِّرون في معنى الآية . فقال سعيد ابن جبير ومجاهد وطاووس وقتاده والضحاك : هو الرجل يعطي الرجل العطية ويهدي الهدية ليثاب أكثر منها ، فهذا رباً حلال ليس فيه أجر ولا وزر ، وهذا للناس عامّة ، فأمّا النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) خاصّة فكان هذا عليه حراماً لقوله عزّ وجلّ ) وَلاَ تَمنن تَستَكثر ( . وقال الشعبي : هو الرجل يلزق بالرجل فيحف له ويخدمه ويسافر معه فيجعل له ربح ماله ليجزيه وإنّما أعطاه التماس عونه ولم يرد به وجه الله . وقال النخعي : هذا في الرجل يقول للرجل : لأمولنّك فيعطيه مراعاةً ، وكان الرجل في الجاهلية يعطي ذا القرابة له المال ليكثر ماله ، وهي رواية أبي حسين عن ابن عبّاس . وقال السدي : نزلت في ثقيف كانوا يعطون الربا .
) فَلاَ يَرْبُوا ( يزكو ) عِنْدَ اللهِ ( لأنّه لم يرد به وجه الله . ) وما ءَاتَيْتُم مِنْ زَكاواة تُرِيدُونَ وَجهَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضعِفُونَ ( قال قتادة : هذا الذي يقبله الله ويضاعفه له عشر أمثالها وأكثر من ذلك . ومعنى قوله : ( المضعفون ) . أهل التضعيف . كقول العرب : أصبحتم مسمنين ، إذا
(7/304)
" صفحة رقم 305 "
سمنت إبلهم ، ومعطشين إذا عطشت . ورجل مقو إذا كانت إبله قويّة ، ومضعف إذا كانت ضعيفة ، ومنه الخبيث المخبِّث أي أصحابه خبّثاً .
الروم : ( 40 ) الله الذي خلقكم . . . . .
) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (
الروم : ( 41 ) ظهر الفساد في . . . . .
قوله تعالى : ) ظَهَرَ الْفَسَادُ ( أي قحط المطر ونقص الغلاّت وذهاب البركة ) في البَرِّ والْبَحْرِ ( تقول : أجدبت البرّ وانقطعت مادّة البحر ) بِمَا كَسَبَتْ أَيدي النّاسِ ( بشؤم ذنوبهم .
قال قتادة : هذا قبل أَنْ يبعث الله نبيّه ( عليه السلام ) امتلأت الأرض ظلماً وضلالة ، فلمّا بعث الله عزّ وجلّ محمّداً ( ( صلى الله عليه وسلم ) رجع راجعون من الناس . فالبرّ أهل العمود والمفاوز والبراري ، والبحر أهل الرّيف والقرى . قال مجاهد : أما والله ما هو بحركم هذا ولكن كلّ قرية على ماء جار فهو بحر . وقال عكرمة : العرب تسمّي الأمصار بحراً . وقال عطية وغيره : البرّ ظهر الأرض ، الأمصار وغيرها ، والبحر هو البحر المعروف . وقال عطية : إذا قلّ المطر قلّ الغوص . وقال ابن عبّاس : إذا مطرت السماء تفتح الأصداف فمها في البحر فما وقع فيها من ماء السماء فهو لؤلؤ . وقال الحسن : البحر القرى على شاطئ البحر . قال ابن عبّاس وعكرمة ومجاهد : ) ظَهَرَ الفَسادُ فِي البَرِّ ( بقتل ابن آدم أخاه ) والبَحرِ ( بالمِلك الجائر الذي كان يأخذ كلّ سفينة غصباً واسمه الجلندا ، رجل من الأزد .
) لِيُذِيقَهُم ( قرأ السلمي بالنون وهو اختيار أبي حاتم . الباقون بالياء ) بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ ( أي عقوبة بعض الذي عملوا من ذنوبهم ) لَعَلَّهُمْ يَرجِعُونَ ( عن كفرهم وأعمالهم الخبيثة .
الروم : ( 42 - 43 ) قل سيروا في . . . . .
) قُلْ سِيرُوا فِي الاْرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَ مَرَدَّ لَهُ مِنْ اللهِ يَوْمَئِذ يَصَّدَّعُونَ ( يتفرّقون ، فريق في الجنّة وفريق في السعير
الروم : ( 44 ) من كفر فعليه . . . . .
) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ( يفرشون ويسوّون المضاجع في القبور .
الروم : ( 45 ) ليجزي الذين آمنوا . . . . .
) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْ فَضْلِهِ ( ثوابه ) إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ( .
الروم : ( 46 ) ومن آياته أن . . . . .
قوله : ) وَمِن ءَاياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِياحَ مُبَشِّرات وَلِيُذِيقَكُم مِنْ رَحْمَتِهِ ( نعمته المطر . ) وَلِتَجرِيَ الْفُلْكَ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ( رزقه ) وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
الروم : ( 47 ) ولقد أرسلنا من . . . . .
) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنْ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ( أشركوا ) وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ( في العاقبة ، فكذلك نحن ناصروك ومظفروك على مَن عاداك وناواك . قال الحسن : يعني أنجاهم مع الرسل من عذاب الأمم .
أخبرني أبو عبدالله الحسين بن محمد بن عبدالله الدينوري ، قال أبو العبّاس أحمد بن محمد بن يوسف الصرصري ، عن الحسين بن محمد المطبقي ، عن الربيع بن سليمان ، عن علي
(7/305)
" صفحة رقم 306 "
ابن معبد عن موسى بن أعين ، عن بشير بن أبي سليمان ، عن عمرو بن مرّة عن شهر بن حوشب ( عن أُمّ الدرداء ) عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( ما مِن امرئ يردُّ عن عرضِ أخيه إلاّ كان حقّاً على الله سبحانه أنْ يردَّ عنهُ نار جهنّم يوم القيامة ) ، ثمّ تلا هذه الآية : ) وكان حقا علينا نصر المؤمنين 2 )
الروم : ( 48 ) الله الذي يرسل . . . . .
) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيح فَتُثِيرُ سَحَابَاً ( أخبرني ابن فنجويه عن مخلد الباقر حي ، عن الحسن بن علوية ، عن إسماعيل بن عيسى ، عن إسحاق بن بشر ، أخبرنا إدريس أبو الياس ، عن وهب بن منبه : أنّ الأرض شكت إلى الله عزّ وجلّ أيّام الطوفان لأنّ الله عزّ وجلّ أرسل الماء بغير وزن ولا كيل فخرج الماء غضباً لله عزّ وجلّ فخدش الأرض وخدّدها فقالت : ياربّ إنّ الماء خدّدني وخدشني ، فقال الله عزّ وجلّ فيما بلغني والله أعلم إنّي سأجعل للماء غربالاً لا يخدّدك ولا يخدشكِ ، فجعل السّحاب غربال المطر . ) فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيفَ يَشَاءُ ( ردّ الكناية إلى لفظ السحاب لذلك ذكرها . والسحاب جمع كما يُقال : هذا تمر جيّد ) وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً ( قطعاً متفرّقة . ) فَتَرَى الْوَدقَ يَخْرُجُ مِن خِلالِهِ ( وسطه . وقرأ ابن عبّاس مِن خِلَلِهِ . ) فَإِذَا أَصَابَ بِهِ ( أي بالودق ) مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }
الروم : ( 49 ) وإن كانوا من . . . . .
) وَإِن كَانُوا ( وقد كانوا ) مِن قَبلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِن قَبلِهِ لَمُبلِسِينَ ( وقيل : وما كانوا إلاّ . قال قطرب والفائدة في تكرار قبل هاهنا أنّ الأُولى للأنزال والثّانية للمطر ، وقيل على التأكيد ، كقول الله عزّ وجلّ : ) لاَ تَحِسَبَنَّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما آتُوا ويُحِّبُونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلوا فَلا تَحسَبَنَّهُم ( كرّر تَحسَبنَّ للتأكيد . وقال الشاعر :
إذا أنا لم أؤمن عليك ولم يكن
لقاؤك إلاّ من وراء وراء
وفي حرف ابن مسعود ) لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا بِمَفَازَة مِنْ الْعَذَابِ ( غير مكرّر ، وفي حرفه أيضاً : ) وَإنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِم لَمُبلِسِينَ ( غير مكرّر .
الروم : ( 50 ) فانظر إلى آثار . . . . .
قوله عزّ وجلّ : ) فَانظُر إِلَىءاَثار ( بالألف على الجمع أهل الشام والكوفة . واختلف فيه عن أصم ، غيرهم : أثر على الواحد ) رَحْمَتِ اللهِ ( يعني المطر ) كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوتِهَا إنَّ ذَلِكَ لَمُحِيْ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ ( من البعث وغيره .
الروم : ( 51 ) ولئن أرسلنا ريحا . . . . .
) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحَاً ( باردةً مضرّةً فأفسدت ما أنبتَ الغيث ) فَرَأَوْهُ ( يعني الزرع والنبات كناية عن غير مذكور ) مُصْفَرّاً ( يابساً بعد خضرته ونضرته ) لَّظَّلُّواْ مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ( وقد رأوا هذه الآيات الواضحات ، ثمّ ضرب لهم مثلاً فقال :
الروم : ( 52 - 53 ) فإنك لا تسمع . . . . .
) فإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا
(7/306)
" صفحة رقم 307 "
وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْىِ عَنْ ضَلاَلَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (
.
) اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِى كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَاذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَاكِنَّكُمْ كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِئَايَةٍ لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ كَذَالِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ ( 2
الروم : ( 54 ) الله الذي خلقكم . . . . .
قوله تعالى : ) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِن ضَعْف ( نطفة ) ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْف قُوَّةً ( شباباً ) ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعدَ قُوّة ضُعْفَاً ( هرماً ) وَشَيبَة ( . قرأ يحيى وعاصم والأعمش وحمزة ( بفتح ) الضاد من الضعف ، غيرهم بالضمّ فيها كلّها ، واختارها أبو عبيد لأنّها لغة النبي ( صلى الله عليه وسلم )
أخبرنا عبدالله بن حامد الوزان ، عن حامد بن محمد ، عن علي بن عبد العزيز قال أبو نعيم ، عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية العوفي قال : قرأت على ابن عمر ) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْف ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْف قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّة ضَعْفَاً ( يعني بالضم ، ثمّ قال : إنّي قرأتها على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخذها عليَّ كما أخذتها عليك ، وكان عاصم الحجدري يقرأ ) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْف ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضُعْف ( بالضم قُوّةً ثُمَّ مِنْ بَعْدِ قُوّة ضَعْفَاً بالفتح أراد أن يجمع بين اللغتين . قال الفرّاء : الضمّ لغة قريش والنصب لغة تميم ) يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ( .
الروم : ( 55 ) ويوم تقوم الساعة . . . . .
وقوله : ) وَيَوْمَ تَقُوُمُ السَّاعَةُ يُقسِمُ الْمُجْرِمُونَ ( يحلف المشركون ) مَا لَبِثُوا ( في الدنيا ) غَيْرَ سَاعَة ( استقلَّ القوم أجل الدنيا لمّا عاينوا الآخرة . وقال مقاتل والكلبي : يعني ما لبثوا في قبورهم غير ساعة ، استقلّوا ذلك لما استقبلوا من هول يوم القيامة ، نظيرها قوله عزّ وجلّ : ) كَأَنْ لَمْ يَلْبِثُوا إلاّ ساعَة ( من النهار ومن نهار ) كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ ( يكذّبون في الدُّنيا .
الروم : ( 56 ) وقال الذين أوتوا . . . . .
) وَقَالَ الَّذِينَ أُتُواْ العِلْمَ والاْيَمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللهِ ( أي فيما كتب الله لكم في سابق علمه . وقيل : في حكم الله ، كقول الشاعر :
(7/307)
" صفحة رقم 308 "
ومال الولاء بالبلاء فملتمُ
وما ذاكَ قال الله إذ هو يكتبُ
أي يحكم . وقال قتادة ومقاتل : هذا من مقاديم الكلام تأويلها : وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوْا الْعِلْمَ في كتاب اللهِ والإيمانَ لقد لبثتُم ) إلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهاذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ( في الدنيا أنّه يكون وأنّكم مبعوثون ومجزيّون فكنتم به تكذِّبون .
الروم : ( 57 ) فيومئذ لا ينفع . . . . .
) فَيَوْمَئِذ لاَ يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوْا مَعْذِرَتُهُمْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( يسترجعون .
الروم : ( 58 - 60 ) ولقد ضربنا للناس . . . . .
) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَل وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَة لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ ( ما أنتم إلاّ على باطل ) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ ( في نصرك وتمكينك ) حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخفَّنَّك ( يستزلنّك ويستخفنَّ رأيك عن حكمك ) الَّذِينَ لاَ يُوْقِنُونَ ( .
(7/308)
" صفحة رقم 309 "
( سورة لقمان )
مكيّة ، وهي ألفان ومائة وعشرة أحرف ، وخمسمائة وثمان وأربعون كلمة ، وأربع وثلاثون آية
أخبرني أبو الحسن محمد بن القاسم بن أحمد الفقيه قال : أخبرني أبو عبدالله محمد بن يزيد المعدل قال : أخبرني أبو يحيى البزار ، عن محمد بن منصور ، عن محمد بن عمران بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، حدّثني أبي ، عن مخالد بن عبدالواحد ، عن الحجّاج بن عبدالله ، عن أبي الخليل ، عن علي بن زيد وعطاء بن أبي ميمونة ، عن زر بن حبيش ، عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة لقمان كان له لقمان رفيقاً في يوم القيامة وأُعطي من الحسنات عشراً بقَدَر من عمل المعروف ، وعمل بالمنكر ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
2 ( ) الم تِلْكَ ءاَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَهُمْ بِالاَْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِىأُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِى الاَْرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ هَاذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِى مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ ( 2
لقمان : ( 1 - 3 ) الم
) الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَرَحْمَةً ( قرأ العامة بالنصب على الحال والقطع ، وقرأ حمزة ( ورحمةٌ ) بالرفع على الابتداء ) لِلْمُحْسِنِينَ (
لقمان : ( 4 - 5 ) الذين يقيمون الصلاة . . . . .
) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالاْخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ( .
(7/309)
" صفحة رقم 310 "
لقمان : ( 6 ) ومن الناس من . . . . .
قوله : ) وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ( .
قال الكلبي ومقاتل : نزلت في النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد الدار بن قصي ، كان يتجر فيخرج إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم فيرويها ويحدِّث بها قريشاً ويقول لهم : إنَّ محمّداً يحدّثكم بحديث عاد وثمود ، وأنا أُحدّثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأعاجم والأكاسرة ، فيستملحون حديثه ويتركون استماع القرآن ، وقال مجاهد : يعني شراء ( القيان ) والمغنّين ، ووجه الكلام على هذا التأويل يشتري ذات أو ذا لَهْو الْحَدِيثِ .
أخبرنا أبو طاهر محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق المزكى سنة ثلاث وثمانين ، حدّثني جدّي محمد بن إسحاق بن خزيمة ) عن علي بن خزيمة ) عن علي بن حجرة ، عن مُستمغل بن ملجان الطائي ، عن مطرح بن يزيد ، عن عبيدالله بن زجر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يحلّ تعليم المغنيات ولا بيعهن ، وأثمانهن حرام ، وفي مثل هذا نزلت هذه الآية : ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ( . . . ) إلى آخر الآية .
وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلاّ بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتّى يكون هو الذي يسكت . وقال آخرون : معناه يستبدل ويختار اللهو والغناء والمزامير والمعازف على القرآن وقال : سبيل الله : القرآن .
وقال أبو الصهباء البكري : سألت ابن مسعود عن هذه الآية ، فقال : هو الغناء والله الذي لا إله إلاّ هو يردّدها ثلاث مرّات ، ومثله روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس . ابن جريج : هو الطبل . عبيد عن الضحّاك : هو الشرك . جويبر عنه : الغناء ، وقال : الغناء مفسدة للمال ، مسخطة للربّ مفسدة للقلب . وقال ثوير بن أبي فاخته عن أبيه عن ابن عبّاس : نزلت هذه الآية في رجل اشترى جارية تغنّيه ليلاً ونهاراً . وكلّ ما كان من الحديث مُلهياً عن سبيل الله إلى ما نهى عنه فهو لهو ومنه الغناء وغيره . وقال قتادة : هو كلّ لهو ولعب . قال عطاء : هو الترّهات والبسابس . وقال مكحول : مَنْ اشترى جارية ضرّابة ليمسكها لغناها وضَرْبِها مقيماً عليه حتّى يموت لم أُصلِّ عليه ، إنّ الله عزّ وجلّ يقول : ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ( . . . إلى آخر الآية .
وروى علي بن يزيد عن القاسم بن أبي أمامه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ الله تعالى بعثني رحمةً وهدىً للعالمين وأمرني بمحق المعازف والمزامير والأوتار والصّلب وأمر الجاهلية ، وحلفَ ربّي بعزّته لا يشرب عبد من عبيدي جرعة من خمر متعمّداً إلاّ سقيته من الصديد مثلها
(7/310)
" صفحة رقم 311 "
يوم القيامة مغفوراً له أو معذّباً ، ولا يسقيها صبيّاً صغيراً ضعيفاً مسلماً إلاّ سقيته مثلها من الصديد يوم القيامة مغفوراً له أو معذّباً ، ولا يتركها من مخافتي إلاّ سقيته من حياض القدس يوم القيامة . لا يحلّ بيعهن ولا شرائهن ولا تعليمهن ولا التجارة بهن وثمنهنّ حرام ) . يعني الضوارب . وروى حمّاد عن إبراهيم قال : الغناء ينبت النفاق في القلب . وكان أصحابنا يأخذون بأفواه السكك يحرقُون الدفوف .
أخبرنا عبدالله بن حامد ، عن ابن شاذان ، عن جيغويه ، عن صالح بن محمد ، عن إبراهيم ابن محمد ، عن محمد بن المنكدر قال : بلغني أنَّ الله عزّ وجلّ يقول يوم القيامة : أين الذين كانوا ينزّهون أنفسهم وأسماعهم عن اللّهو ومزامير الشيطان ؟ أدخلوهم رياض المسك ، ثمّ يقول للملائكة : أسمعوا عبادي حمدي وثنائي وتمجيدي وأخبروهم أنْ لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
قوله : ) لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْم وَيَتَخِذَهَا هُزُواً ( قرأ الأعمش وحمزة والكسائي وخلف ويعقوب ) وَيَتَّخِذَهَا ( بنصب الذال عطفاً على قوله : ) لِيُضِلَّ ( وهو اختيار أبي عبيد قال : لقربه من المنصوب ، وقرأ الآخرون بالرفع نسقاً على قوله : ) يَشْتَري ( .
) أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (
لقمان : ( 7 - 11 ) وإذا تتلى عليه . . . . .
) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ ( إخبرهُ ) بِعَذَاب أَلِيم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللهِ حَقّاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خَلَقَ السَّماوَاتِ بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الاْرْضِ رَوَاسِىَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّة وَأَنزَلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْج كَرِيم ( أي نوعاً حسناً ) هذا ( الذي ذكرت ممّا يعاينون ) خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ( من آلهتكم التي تعبدونها ) بَلِ الظالِمُونَ فِي ضَلَل مُبِين ( .
) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ للَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ حَمِيدٌ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ ياَبُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِى وَلِوَالِدَيْكَ إِلَىَّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِى الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ يابُنَىَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى السَّمَاوَاتِ أَوْ فِى الاَْرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ يابُنَىَّ أَقِمِ الصَّلَواةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاُْمُورِ وَلاَ
(7/311)
" صفحة رقم 312 "
تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى الاَْرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَاقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الاَْصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ( 2
لقمان : ( 12 ) ولقد آتينا لقمان . . . . .
قوله : ) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا لُقْمنَ الْحِكْمَةَ ( يعني العقل والعلم والعمل به والإصابة في الأُمور .
قال محمّد بن إسحاق بن يسار : وهو لقمان بن باعور بن باحور بن تارخ وهو آزر ، وقال وهب : كان ابن أُخت أيّوب . وقال مقاتل : ذُكر أنَّ لقمان كان ابن خالة أيّوب .
قال الواقدي : كان قاضياً في بني إسرائيل ، واتّفق العلماء على أنّه كان حكيماً ولم يكن نبيّاً إلاّ عكرمة فإنّه قال : كان لقمان نبيّاً ، تفرّد بهذا القول .
حدّثنا أبو منصور الجمشاذي قال : حدّثني أبو عبدالله محمد بن يوسف ، عن الحسين بن محمد ، عن عبدالله بن هاشم ، عن وكيع عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عكرمة قال : كان لقمان نبيّاً . وقال بعضهم : خُيِّر لقمان بين النبوّة والحكمة ، فاختار الحكمة .
وروى عبدالله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه يقول : ( حقّاً أقول لم يكن لقمان نبيّاً ولكن عبد صمصامة كثير التفكير ، حسن اليقين ، أحبَّ الله فأحبّه وضمن عليه بالحكمة ) .
( وروي أنّ لقمان في ابتداء أمره ) كان نائماً نصف النهار إذ جاءهُ نداء : يا لقمان هل لك أنْ يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحقّ ؟ فأجاب الصوت فقال : إنْ خيّرني ربّي قبلت العافية ولم أقبل البلاء ، وإنْ عزم عليَّ فسمعاً وطاعة . فإنّي أعلم إنْ فعل ذلك بي عصمني وأعانني ، فقالت الملائكة بصوت لا يراهم : لِمَ يا لقمان ؟ قال : لأنّ الحاكم بأشدّ المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كلّ مكان إن ( وفى فبالحري ) أن ينجو ، وإن أخطأ أخطأ طريق الجنّة ، ومن يكن في الدنيا ذليلاً ( وفي الآخرة شريفاً ) خير من أن يكون ) في الدنيا ) شريفاً ( وفي الآخرة ذليلاً ) .
ومن تخيّر الدنيا على الآخرة تفتهُ الدنيا ولا يصيب الآخرة ، فعجبت الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأُعطي الحكمة . فانتبه يتكلّم بها .
(7/312)
" صفحة رقم 313 "
ثمّ نودي داود بعده فقبلها ولم يشرط ما شرط لقمان فهوى في الخطيئة غير مرّة كلّ ذلك يعفو الله عزّ وجلّ عنه ، وكان لقمان يؤازره بحكمته ، فقال له داود : طوبى لك يا لقمان أُعطيت الحكمة وصُرفتْ عنك البلوى . وأُعطي داود الخلافة وأُبتلي بالبليّة والفتنة .
وحدّثنا الإمام أبو منصور بن الجمشاذي لفظاً قال : حدّثني أبو عبدالله بن يوسف عن الحسن بن محمد ، عن عبدالله بن هاشم ، عن وكيع ، عن محمّد بن حسّان ، عن خالد الربعي قال : كان لقمان عبداً حبشيّاً نجّاراً . وأخبرنا أبو عبدالله بن فنجويه قال : حدّثني أبو بكر بن مالك القطيعي ، عن عبدالله بن أحمد بن حنبل ، عن أبي عن أسود بن عامر ، عن حمّاد ، عن علي بن يزيد ، عن سعيد بن المسيب أنّ لقمان كان خيّاطاً .
) أنِ اشْكُرْ لِلّهِ ( يعني وقلنا له : أن اشكر لله .
) وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنيٌّ حَمِيدٌ ( .
قال مجاهد : كان لقمان عبداً أسود عظيم الشفتين ، متشقّق القدمين . وروى الأوزاعي عن عبد الرحمن بن حرملة قال : جاء أسود إلى سعيد بن المسيب يسأله فقال له سعيد : لا تحزن من أجل أنّك أسود ، فإنّه كان من أخيَر الناس ثلاثة من السودان : بلال ومهجع مولى عمر بن الخطّاب ولقمان الحكيم كان أسود نوبيّاً من سودان مصر ذا مشافر .
لقمان : ( 13 ) وإذ قال لقمان . . . . .
قوله تعالى : ) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ ( واسمه أنعم ) وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }
لقمان : ( 14 ) ووصينا الإنسان بوالديه . . . . .
) وَوَصَّيْنَا الاْنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْن ( قال ابن عبّاس : شدّة بعد شدّة . الضحاك : ضعف على ضعف . قتادة : جهداً على جهد . مجاهد وابن كيسان : مشقّة على مشقّة .
) وَفِصَالُهُ ( فطامه . وروي عن يعقوب : وفصله ) فِي عَامَيْنِ أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَىَّ الْمَصِيرُ ( أنبأني عبدالله بن حامد الأصفهاني ، عن الحسين بن محمد بن الحسين البلخي قال : أخبرني أبو بكر محمّد بن القاسم البلخي ، عن نصير بن يحيى ، عن سفيان بن عيينة في قول الله عزّ وجلّ : ) أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ( قال : مَنْ صلّى الصلوات الخمس فقد شكر الله ، ومن دعا للوالدين في أدبار الصلوات فقد شكر للوالدين .
لقمان : ( 15 ) وإن جاهداك على . . . . .
) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ( عِشْرة جميلة ، وتقديره : بالمعروف .
) وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ( واسلك طريق محمّد وأصحابه .
) ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( نزلت هاتان الآيتان في سعد بن أبي وقّاص وأُمّه ، وقد مضت القُصّة .
(7/313)
" صفحة رقم 314 "
لقمان : ( 16 ) يا بني إنها . . . . .
) يَبُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة مِنْ خَرْدَل ( قال بعض النحاة : هذه الكناية راجعة إلى الخطيئة والمعصية ، يعني : إنَّ المعصية إنْ تَكُ . يدلّ عليه قول مقاتل : قال أنعم بن لقمان لأبيه : يا أبة إنْ عملت بالخطيئة حيث لا يراني أحد كيف يعلمها الله ؟ فقال له : يا بُني إنّها إنْ تَكُ . وقال آخرون : هذه الهاء عماد ، وإنّما أنّث لإنّه ذهب بها إلى الحبّة ، كقول الشاعر :
ويشرق بالقول الذي قد اذعته
كما شرقت صدر القناة من الدم
ويرفع المثقال وينصب ، فالنّصب على خبر كان والرّفع على اسمها ومجازه : إنْ تقع وحينئذ لا خبر له : ) فَتَكُنْ فِي صَخْرَة ( قال قتادة : في جبل ، وقال ابن عبّاس : هي صخرة تحت الأرضين السبع وهي التي يكتب فيها أعمال الفجّار ، وخضرة السماء منها ، وقال السدي : خلق الله الأرض على حوت وهو النون الذي ذكره الله عزّ وجلّ في القرآن ) ن وَالقَلَمِ ( والحوت في الماء ، والماء على ظهر صفاة ، والصفاة على ظهر ملك والملك ، على صخرة ، وهي الصخرة التي ذكر لقمان ليست في السماء ولا في الأرض ، والصخرة على الرّيح .
) أَوْ فِي السَّماوَاتِ أَوْ فِي الاْرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ ( باستخراجها ) خَبِيرٌ ( عالم بمكانها . ورأيت في بعض الكتب أنّ لقمان ( عليه السلام ) قال لابنه : يا بُني ) إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّة . . ( إلى آخر الآية . فانفطر من هيبة هذه الكلمة فمات فكانت آخر حكمته .
لقمان : ( 17 ) يا بني أقم . . . . .
قوله : ) يابُنَيَّ أَقِمْ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الاْمُورِ (
أي الأُمور الواجبة التي أمر الله بها ، وقال ابن عبّاس : حزم الأُمور . مقاتل : حقّ الأُمور .
لقمان : ( 18 ) ولا تصعر خدك . . . . .
) وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ ( قرأ النخعي ونافع وأبو عمرو وابن محيص ويحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي تصاعر بالألف .
أخبرني أبو عبدالله بن فنجويه قال : أخبرني أبو حبش قال أبو القاسم بن الفضل قال أبو زرعة : حدّثني نضر بن علي قال : أخبرني أبي عن معلى الورّاق عن عاصم الجحدري ) وَلاَ تُصْعِرْ خَدَّكَ ( بضم التاء وجزم الصاد من أصعر . الباقون ) تُصَعِّرْ ( من التّصعير . قال ابن عبّاس : يقول لا تتكبّر فتحقر الناس وتعرض عنهم بوجهك إذا كلّموك . مجاهد : هو الرجل يكون بينه وبينك إحنة فتلقاه فيعرض عنك بوجهه . عكرمة : هو الذي إذا سُلّم عليه لوى عنقه تكبّراً . الربيع وقتادة : لا تحقّر الفقراء ، ليكن الفقير والغني عندك سواء .
عطاء : هو الذي يلوي شِدقه . أخبرنا عبدالله بن حامد ، عن حامد بن محمد ، عن محمد
(7/314)
" صفحة رقم 315 "
ابن صالح ، عن عبد الصمد ، عن خارجة بن مصعب ، عن المغيرة ، عن إبراهيم في قوله : ) وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ للنّاسِ ( قال : التشديق في الكلام . وقال المؤرّخ : لا تعبس في وجوه الناس . وأصل هذه الكلمة من المَيل ، يقال : رجل أصعَر إذا كان مائل العنق . وجمعُهُ صُعر ، ومنه ، الصِّعر : وهو داء يأخذ الإبل في أعناقها ورؤوسها حتى يلفت أعناقها ، فشُبّه الرجل المتكبّر الذي يعرض عن الناس احتقاراً لهم بذلك . قال الشاعر يصف إبلاً :
وردناه في مجرى سهيل يمانياً
بصعر البري من بين جمع وخادج
أي مائلات البري . وقال آخر :
وكنّا إذا الجبّار صعّر خدّه
أقمنا له من ميله فتقوّما
) وَلاَ تَمْشِ فِي الاْرْضِ مَرَحاً ( أي خيلاءَ . ) إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَال ( في مشيته ) فَخُور ( على الناس .
أخبرني عبدالله بن حامد الوزان ، عن أحمد بن محمد بن شاذان ، عن جيغويه ، عن صالح ابن محمد ، عن جرير بن عبد الحميد ، عن عطاء بن السائب ، عن أبيه ، عن عبدالله بن عمرو قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خرج رجل يتبختر في الجاهلية عليه حُلّة ، فأمر الله عزّ وجلّ الأرضَ فأخذتْه ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة .
لقمان : ( 19 ) واقصد في مشيك . . . . .
) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ( أي تواضع ولا تتبختر وليكن مشيك قصداً لا بخيلاء ولا إسراع .
أخبرنا الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين بن مهران المقرئ سنة إحدى وثمانين وثلثمائة قال : أخبرني أبو العبّاس محمد بن إسحاق السرّاج وأبو الوفا ، المؤيّد بن الحسين بن عيسى قالا : قال عبّاس بن محمد الدوري ، عن الوليد بن سلمة قاضي الأردن ، عن عمر بن صهبان ، عن نافع عن ابن عمران أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( سرعة المشي يذهب بهاء المؤمن ) .
) وَاغْضُضْ ( واخفض ) مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الاْصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ( قال مجاهد وقتادة والضحاك : أقبح ، أوّله زفير وآخره شهيق ، أمره بالاقتصاد في صوته . عكرمة والحكم بن عيينة : أشدّ . ابن زيد : لو كان رفع الصوت خيراً ما جعله للحمير .
أخبرنا أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الحري قال : أخبرني أبو حامد أحمد بن عبدون بن عمارة الأعمش قال : أخبرني أبو حاتم محمد بن إدريس الحنظلي ، عن يحيى بن صالح
(7/315)
" صفحة رقم 316 "
الوحاضي ، عن موسى بن أعين قال : سمعت سفيان يقول في قوله عزّ وجلّ : ) إِنَّ أَنكَرَ الاْصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ( يقول : صياح كلّ شيء تسبيح لله عزّ وجلّ إلاّ الحمار . وقيل : لأنّه ينهق بلا فائدة .
أخبرني الحسين بن محمد بن فنجويه عن محمد بن الحسين بن بشر قال : أخبرني أبو بكر ابن أبي الخصيب ، عن عبدالله بن جابر ، عن عبدالله بن الوليد الحراني ، عن عثمان بن عبد الرحمن ، عن عنبسة بن عبد الرحمن ، عن محمد بن زادان ، عن أُمّ سعد قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنَّ الله عزّ وجلّ يبغض ثلاثة أصوات : نهقة الحمار ، ونباح الكلب ، والداعية بالحرب ) .
فصل في ذِكْر بعض ما رُوي مِنْ حِكَمِ لُقمان
أخبرنا عبدالله بن حامد الوزّان الأصفهاني ، عن أحمد بن شاذان ، عن جيغويه بن محمد ( عن صالح بن محمد ) عن إبراهيم بن أبي يحيى ، عن محمد بن عجلان قال : قال لقمان : ليس مال كصحّة ، ولا نعيم كطيب نفس .
وأخبرنا أبو عبدالله الحسين بن محمد الدينوري ، عن عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي ، عن محمد بن عبد الغفّار الزرقاني ، عن أبو سكين زكريا بن يحيى بن عمر بن ( حفص ) عن عمّه أبي زجر بن حصن ، عن جدّه حميد بن منهب قال : حدّثني طاووس ، عن أبي هريرة قال : مرَّ رجل بلقمان والناس مجتمعون عليه فقال : ألستَ بالعبد الأسود الذي كُنتَ راعياً بموضع كذا وكذا ؟ قال : بلى . قال : فما بلغ بك ما أرى ؟ قال : صدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وترك ما لا يعنيني .
وأخبرني الحسين بن محمد قال : أخبرني أبو الحسين بكر بن مالك القطيعي ، عن عبدالله ابن أحمد بن حنبل ، عن أُبيّ ، عن وكيع قال : أخبرني أبو الأشهب ، عن خالد الربعي قال : كان لقمان عبداً حبشيّاً نجّاراً ، فقال له سيّده : اذبح لنا شاة ، فذبح له شاة ، فقال له : ائتني بأطيب المضغتين فيها ، فأتاه باللسان والقلب . فقال : ما كان فيها شيء أطيب من هذا ؟ قال : لا ، قال : فسكت عنه ما سكت ، ثمّ قال له : اذبح لنا شاة ، فذبح شاة ، فقال : ألقِ أخبثها مضغتين ، فرمى باللسان والقلب ، فقال : أمرتك أنْ تأتيني بأطيبها مضغتين فأتيتني باللّسان والقلب وأمرتك أنْ تلقي أخبثها مضغتين فألقيتَ اللسان والقلب ؟ فقال : لأنّه ليس شيء بأطيب منهما إذا طابا وأخبث منهما إذا خبثا .
(7/316)
" صفحة رقم 317 "
وأخبرني الحسين بن محمد ، عن أحمد بن جعفر بن حمدان ، عن يوسف بن عبدالله عن موسى ابن إسماعيل ، عن حمّاد بن سلمة ، عن أنس أنّ لقمان كان عند داود ( عليه السلام ) وهو يسرد درعاً فجعل لقمان يتعجّب ممّا يرى ، ويريد أن يسأله ، ويمنعه حكمه عن السؤال ، فلمّا فرغ منها وجاء بها وصبها قال : نِعمَ درع الحرب هذهِ فقال لقمان : إنّ من الحكم الصمت وقليل فاعله .
( وأخبرني الحسين بن محمد بن ماهان عن علي بن محمد الطنافسي ) قال : أخبرني أبو أُسامة ووكيع قالا : أخبرنا سفيان ، عن أبيه ، عن عكرمة قال : كان لقمان من أهون مملوكيه على سيّده . قال : فبعثه مولاه في رقيق له إلى بستان له ليأتوه من ثمره ، فجاؤوا وليس معهم شيء ، وقد أكلوا الثمر ، وأحالوا على لقمان . فقال لقمان لمولاه : إنّ ذا الوجهين لا يكون عند الله أميناً ، فاسقني وإيّاهم ماءً حميماً ثمّ أرسِلنا فلْنعدُ ، ففعل ، فجعلوا يقيئون تلك الفاكهة وجعل لقمان يقيء ماءً ، فعرف صدقه وكذبهم .
قال : أوّل ما روي من حكمته ، أنّه بينا هو مع مولاه ، إذ دخل المخرج فأطال فيه الجلوس ، فناداه لقمان : إنّ طول الجلوس على الحاجة ينجع منه الكبد ، ويورث الباسور ، ويصعد الحرارة إلى الرأس ، فاجلس هوناً ، وقم هوناً ، قال : فخرج وكتب حكمته على باب ( الحش ) .
قال : وسكر مولاه يوماً فخاطر قوماً على أن يشرب ماء بحيرة ، فلمّا أفاق عرف ما وقع فيه فدعا لقمان فقال : لمثل هذا كنتُ اجتبيتك ، فقال : اخرج كرسيّك وأباريقك ثمّ اجمعهم ، فلمّا اجتمعوا قال : على أيّ شيء خاطرتموه ؟ قالوا : على أن يشرب ماء هذه البحيرة ، قال : فإنّ لها موادَّ إحبسوا موادّها عنها ، قالوا : وكيف نستطيع أن نحبس موادها عنها ؟ قال لقمان : وكيف يستطيع شربها ولها موادّ ؟
وأخبرني الحسين بن محمد ، عن عبيدالله بن محمد بن شنبه ، عن علي بن محمد بن ماهان ، عن علي بن محمد الطنافسي قال : أخبرني أبو الحسين العكلي ( عن عبدالله بن أحمد بن حنبل ، عن داود بن عمر ، عن إسماعيل بن عياش عن عبدالله بن دينار أنّ لقمان قدم من سفر ، ) فلقي غلامه في الطريق ، فقال : ما فعل أبي ؟ قال : مات ، قال : الحمد لله ، ملكت
(7/317)
" صفحة رقم 318 "
أمري . قال : ما فعلت امرأتي ؟ قال : ماتت . قال : جدَّدَ فراشي ، قال : ما فعلت أُختي ؟ قال : ماتت ، قال : ستَرَ عورتي ، قال : ما فعل أخي ؟ قال : مات ، قال : انقطع ظهري .
وأخبرني الحسين بن محمد قال : أخبرني أبو بكر بن مالك ، عن عبدالله بن أحمد بن حنبل ، عن أبي ، عن سفيان قال : قيل للقمان : أيّ الناس شرّ ؟ قال : الذي لا يبالي أنْ يراه الناس مسيئاً . وقيل للقمان : ما أقبح وجهك قال : تعيب بهذا على النقش أو على النقّاش ؟
لقمان : ( 20 ) ألم تروا أن . . . . .
قوله تعالى : ) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماوَاتِ وَمَا فِي الاْرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ( .
قرأ نافع وشيبه وأبو جعفر وأبو رجاء العطاردي وأبو محلز وأبو عمرو والأعرج وأيّوب وحفص ) نِعَمَهُ ( بالجمع والإضافة ، واختاره أبو عبيد وأبو معاذ النحوي وأبو حاتم ، وقرأ الآخرون منُوّنة على الواحد ومعناها جمع أيضاً ، ودليله قول الله عزّ وجلّ : ) وإِنْ تَعِدُوا نِعْمَةَ اللهِ لا تَحصوها ( وقال مجاهد وسفيان : هي لاَ إِلهَ إِلاّ الله ، وتصديقه أيضاً ما أخبرني أبو القاسم ( الحبيبي ) أنّه رأى في مصحف عبدالله ) نِعْمَتَهُ ( بالأضافة والتوحيد ) ظَاهِرَةً وَباطِنَةً ( اختلفوا فيها فأكثروا . فقال ابن عبّاس : أمّا الظاهرة فالدين والرياش ، وأمّا الباطنة فما غاب عن العباد وَعَلِمَهُ الله .
مقاتل : الظاهرة تسوية الخَلق والرّزق والإسلام ، والباطنة ما ستر من ذنوب بني آدم فلم يعلم بها أحد ولم يعاقب عليها . الضحّاك : الظاهرة حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء ، والباطنة المغفرة . القرظي : الظاهرة محمّد ( عليه السلام ) والباطنة المعرفة . ربيع : الظاهرة بالجوارح والباطنة بالقلب . عطاء الخراساني : الظاهرة تخفيف الشرائع ، والباطنة الشفاعة . مجاهد : الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء ، والباطنة الإمداد بالملائكة .
أخبرنا الحسين بن محمد بن إبراهيم النيستاني ، قال : أخبرنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم ابن محمش ، قال : أخبرني أبو يحيى زكريا بن يحيى بن الحرب ، عن محمد بن يوسف بن محمد ابن سابق الكوفي قال : أخبرني أبو مالك الجبنى ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : سألت ابن عبّاس عن قول الله عزّ وجلّ : ) وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَباطِنَةً ( فقال : هذا من محرزي الذي سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قلت : يا رسول الله ما هذه النعمة الظاهرة والباطنة ؟ قال : أمّا الظاهرة فالإسلام وما حسن من خلقك وما أفضل عليك من الرزق ، وأمّا الباطنة ما ستر من سوء عملك ، يابن عبّاس يقول الله تعالى : إنّي جعلت للمؤمن ثلثا صلاة المؤمنين عليه بعد انقطاع عمله أُكفّر
(7/318)
" صفحة رقم 319 "
به عن خطاياه ، وجعلت له ثلث ماله ليكفّر به عنه من خطاياه وسترت عليه سوء عمله الذي لو قد أبديته للناس لنبذه أهله فما سواهم .
وقال محمّد بن علي الترمذي : النعمة الظاهرة : ) الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ( والباطنة قوله : ) وَرَضِيتُ لَكُمْ الاْسْلاَمَ دِينَاً ( .
( الحرث بن أسد المحاسبي ) : الظاهرة نعيم الدنيا ، والباطنة نعيم العقبى . عمرو بن عثمان الصدفي : الظاهرة تخفيف الشرائع والباطنة تضعيف الصنائع .
وقيل : الظاهرة الجزاء ، والباطنة الرضا . سهل بن عبدالله : الظاهرة إتباع الرسول ، والباطنة محبّته . وقيل : الظاهرة تسوية الظواهر والباطنة تصفية السرائر . وقيل : الظاهرة التبيين ، بيانه قوله تعالى : ) يبين الله لكم أن تضلوا ( ) وَيُبيّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاس ( والباطنة التزين قوله : ) وَزَيَّنَهُ فِي قُلوبِكُمْ ( وقيل : الظاهرة الرزق المكتسب ، والباطنة الرزق من حيث لا يُحتسب .
وقيل : الظاهرة المدخل للغذاء ، والباطنة المخرج للأذى . وقيل : الظاهرة الجوارح ، والباطنة المصالح . وقيل : الظاهرة الخَلق ، والباطنة الخُلق . وقيل الظاهرة التنعيم ، بيانه قوله : ) أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ( والباطنة التعليم . قوله : ) وَيُعَلِّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ ( وقيل : الظاهرة ما أعطى وحبا من النعماء ، وقيل الباطنة : ما طوي وزوي من أنواع البلاء ، وقيل : الظاهرة الدعوة ، بيانه قوله : ) والله يدعوا اِلى دار السَّلاَم ( والباطنة الهداية . بيانه قوله : ) وَيَهْدِي مَنْ يَشاء ( .
وقيل : الظاهرة الإمداد بالملائكة ، والباطنة إلقاء الرعب في قلوب الكفّار ، وقيل : الظاهرة تفصيل الطاعات ، وهو أنّه ذكَر طاعتك واحدة فواحدة وأثنى عليك بها وأثابك عليها ، بيانه قوله : ) التائبون ( وقوله : ) قد أفلَحَ الْمُؤمِنونَ ( وقوله : ) إنَّ المُسلِمِينَ والمُسلمات ( إلى آخر الآية . والباطنة إجمال المعاصي وذلك أنّه دعاك منها إلى التوبة باسم الإيمان من غير عدّها وتفصيلها ، بيانه قوله : ) وتوبوا إلى الله جَميعاً أَيُّها المُؤْمِنون ( وقيل : الظاهرة إنزال الأقطار والأمطار ، والباطنة إحياء الأقطار والأمصار
(7/319)
" صفحة رقم 320 "
وقيل : الظاهرة التوفيق للعبادات ، والباطنة الإخلاص والعصمة من المراءات ، وقيل : الظاهرة ذكر اللسان ، والباطنة ذكر الجنان ، وقيل : الظاهرة تلاوة القرآن والباطنة معرفته . وقيل : الظاهرة ضياء النهار للتصرّف والمعاش ، والباطنة ظلمة الليل للسكون والقرار . وقيل : الظاهرة النطق ، والباطنة العقل ، وقيل : الظاهرة نِعَمَهُ عليك بعدما خرجت من بطن أُمّك ، والباطنة : نِعَمَهُ عليك وأنت في بطن أُمّك .
وقيل : الظاهرة الشهادة الناطقة ، والباطنة السعادة السابقة . وقيل : الظاهرة ألوان العطايا ، والباطنة غفران الخطايا . وقيل : الظاهرة وضع الوزر ورفع الذّكر ، والباطنة شرح الصدر .
وقيل : الظاهرة فتح المسالك والباطنة نزع الممالك ممّن خالفك ، وقيل : الظاهرة المال والأولاد ، والباطنة الهدى والارشاد ، وقيل : الظاهرة القول السديد والباطنة التأييد والتسديد ، وقيل : الظاهرة ما يكفِّر الله به الخطايا من الرزايا والبلايا ، والباطنة ما يعفو عنه ولا يؤاخذ به في الدنيا والعقبى ، وقيل : الظاهرة ما بينك وبين خلقه من الأنساب والأصهار ، والباطنة ما بينك وبينه من القرب والأسرار والمناجاة في الأسحار ، وقيل : الظاهرة العلوّ بيانه قوله : ) وَأَنْتُمْ الأَعْلَونَ ( والباطنة الدنوّ بيانه قوله : ) أُولئِكَ المُقرّبُونَ ( .
قوله : ) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَدِلُ فِي اللهِ بغَيِرِ عِلْم ( نزلت في النضر بن الحرث حين زعم أنّ الملائكة بنات الله ) وَلاَ هُدَىً وَلاَ كِتَبٌ مُنير (
لقمان : ( 21 ) وإذا قيل لهم . . . . .
) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ( .
قال الله تعالى : ) أَوَلَوْ كَانَ ( قال الأخفش : لفظه استفهام ومعناه تقرير ، وقال أبو عبيدة : لو هاهنا متروك الجواب مجازه أَوَلَو كَانَ ) الشَّيْطَنُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذَابِ السَّعِيرِ ( أي موجباته فيتبعونه .
2 ( ) وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الاَْمُورِ وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ لِلَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ وَلَوْ أَنَّمَا فِى الاَْرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِىإِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّه
(7/320)
" صفحة رقم 321 "
َ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِّنْ ءَايَاتِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِئَايَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ وَاخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الاَْرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ ( 2
لقمان : ( 22 ) ومن يسلم وجهه . . . . .
قوله : ) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ ( أي يخلص دينه لله ويفوّض أمره إليه ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ( يُسلِّمْ ) بالتشديد ، وقراءة العامّة بالتخفيف من الإسلام وهو الاختيار لقوله : ) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ ( وأشباه ذلك .
) وَهُوَ مُحْسِنٌ ( في عمله ) فَقَدِ استَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ( أي : اعتصم بالطريق الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه . وقال ابن عبّاس : هي : ) لا إله إلا الله ( ) وَإِلَى اللهِ عَاقِبَةُ الاْمُورِ ( يعني مرجعها .
لقمان : ( 23 - 24 ) ومن كفر فلا . . . . .
) وَمَنْ كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ ( نعمّرهم ونمهلهم ) قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ ( نُلجئهم ، ونردّهم ) إلى عذاب غليظ 2 )
لقمان : ( 25 - 26 ) ولئن سألتهم من . . . . .
) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماوَاتِ وَالاْرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ للهِ مَا فِي السَّماوَاتِ وَالاْرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ ( .
لقمان : ( 27 ) ولو أنما في . . . . .
قوله عزّ وجلّ : ) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الاْرْضِ مِنْ شَجَرَة أَقْلاَمٌ ( الآية . قال المفسِّرون : سألت اليهود رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن الرّوح فأنزل الله بمكّة : ) ويسألونكَ عن الروح ( الآية ، فلمّا هاجر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة أتاه أحبار اليهود ، فقالوا : يا محمّد بلغنا عنك أنّك تقول : وما أُوتيتم من العلم إلاّ قليلاً ، أفعنيتنا أم قومك ؟ فقال ( عليه السلام ) : كلاًّ قد عنيت . قالو : ألستَ تتلوا فيما جاءَك : إنّا قد أُوتينا التّوراة وفيها علم كلّ شيء ؟
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هي في علم الله قليلٌ وقد آتاكم الله ما إنْ عملتم به انتفعتم . قالوا : يا محمّد كيف تزعم هذا وأنت تقول : ) وَمَنْ يُؤتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرَاً كَثِيرَاً ( فكيف يجتمع هذا قليل وخير كثير ؟ فأنزلَ الله : ) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الاْرْضِ مِنْ شَجَرَة أَقْلاَمٌ ( أي بريت
(7/321)
" صفحة رقم 322 "
أقلاماً ) وَالْبَحْرُ ( بالنصب ابن أبي إسحاق وأبو عمرو ويعقوب . غيرهم بالرّفع ، وحجّتهم : قراءة عبدالله وبحر ) يَمُدُّه ( أي يزيده وينصب عليه ) مِنْ بَعْدِهِ ( من خلفه ) سَبْعَةُ أَبْحُر مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ ( وفي هذه الآية اختصار تقديرها : ولو أنَّ ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمدُّهُ من بعده سبعة أبحر يكتب بها كلام الله ما نفدت كلمات الله ، وهذه الآية تقتضي أنّ كلامه غير مخلوق ؛ لأنّه لا نهاية له ولما يتعلّق به من معناه فهو غير مخلوق .
) إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( هذه الآية على قول عطاء بن يسار : مدنيّة ، قال : نزلت بعد الهجرة كما حكينا . وعلى قول غيره : مكّيّة ، قالوا : إنّما أمرَ اليهود وفد قريش أنْ يسألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عنه ويقولوا له ذلك وهو بعد بمكّة ، والله أعلم .
لقمان : ( 28 ) ما خلقكم ولا . . . . .
قوله : ) مَا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْس وَاحِدَة ( يعني إلاّ كخلق نفس واحدة وبعثها لا يتعذر عليه شيء وهذا كقوله : ) تَدُورُ أعيُنَهُم كَالّذِي يَغْشَى عَلَيهِ مِنَ المَوت ( أي كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت .
) إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ }
لقمان : ( 29 - 30 ) ألم تر أن . . . . .
) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَل مُسَمّىً وَأَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ذَلِكَ ( الذي ذكرتُ لتعلموا : ) بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ }
لقمان : ( 31 ) ألم تر أن . . . . .
) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللهِ ( برحمة الله ، ) لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لِكُلِّ صَبَّار ( على أمر الله ) شَكُور ( على نِعَمِهِ . قال أهل المعاني : أراد لكلّ مؤمن ، لأنّ الصّبر والشكر من أفضل خصال المؤمنين .
لقمان : ( 32 ) وإذا غشيهم موج . . . . .
) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ ( قال مقاتل : كالجبال . وقال الكلبي : كالسحاب ( وَالظُّلَلِ ) جمع ظلّه شَبَّهَ الموجَ بها في كثرتها وارتفاعها كقول النّابغة في صفة بحر :
يماشيهن أخضر ذو ظلال
على حافاته فلق الدنان .
وإنّما شبّه الموج وهو واحد بالظلل وهي جمع ، لاِنَّ الموج يأتي شيء بعد شيء ويركب بعضه بعضاً كالظلل . وقيل : هو بمعنى الجمع ، وإنّما لم يجمع لأنّه مصدر ، وأصله من الحركة والازدحام .
) دَعَوْا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ( قال ابن عبّاس : موف بما عاهد الله عليه في البحر . ابن كيسان : مؤمن . مجاهد : مقتصد في القول مضمر للكفر . الكلبي : مقتصد في القول من الكفّار لأنَّ بعضهم أشدّ قولاً وأغلى في الافتراء من بعض . ابن
(7/322)
" صفحة رقم 323 "
زيد : المقتصد الذي على صلاح من الأمر . ) وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّار ( غدّار ) كَفُور ( جحود ، والختر أسوأ الغدر . وقال عمرو بن معدي كرب :
وإنّك لو رأيت أبا عمير
ملأت يديك من غدر وختر
لقمان : ( 33 ) يا أيها الناس . . . . .
قوله : ) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لاَ يَجْزِي ( لا يقضي ولا يُغني ولا يكفّر ) وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَاز عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ ( . قراءة العامّة : بفتح الغين هاهنا وفي سورة الملائكة والحديد وقالوا : هو الشيطان . وقال سعيد بن جبير : هو أن يعمل بالمعصية ويتمنّى المغفرة . وقرأ سماك بن حرب : بضم الغين ومعناه لا تغتروا
لقمان : ( 34 ) إن الله عنده . . . . .
) إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ( الآية . نزلت في الوارث بن عمرو بن حارثة بن محارب بن خصفة من أهل البادية ، أتى النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فسأله عن الساعة ووقتها وقال : إنّ أرضنا أجدبت فمتى ينزل الغيث ؟ وتركتُ امرأتي حبلى فما تلد ؟ وقد علمتُ أين وُلدتْ فبأيّ أرض تموت ؟ فأنزل الله هذه الآية .
أخبرنا أبو سعيد محمد بن عبدالله بن حمدون ، عن أحمد بن محمد بن الحسن ، عن محمد بن يحيى ، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، عن أبي عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبدالله ابن عمر ، عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه قال : ( مفاتيحُ الغيب خمسة ) إنَّ اللهَ عِنْدَهُ علْمُ السَّاعَةِ ( الآية ) .
وروى يونس بن عبيد عن عمرو بن سعيد أنَّ رجلاً قال : يا رسول الله هل من العلم علم لم تؤته ؟ فقال : لقد أُوتيتُ علماً كثيراً أو علماً حسناً ( أو كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثمّ تلا رسول الله هذه الآية ) إنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ( إلى قوله : ) خَبِيرٌ ( فقال : هؤلاء خمسة لا يعلمهنّ إلاّ الله تبارك وتعالى .
وأخبرنا أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الحربي قال : أخبرني أبو حامد أحمد بن حمدون بن عمارة الأعمش ، عن علي بن حشرم ، عن الفضل بن موسى ، عن رجل سمّاه قال : بلغ ابن عبّاس أنَّ يهودياً خرج من المدينة يحسب حساب النجوم فأتاه فسأله . فقال : إنْ شئت أنبأتك عن نفسك وعن ولدك . فقال : إنّك ترجع إلى منزلك وتلقى لك بابن محموم ، ولا تمكث عشرة أيّام حتّى يموت الصبي ، وأنت لا تخرج من الدُّنيا حتى تعمى ، فقال ابن عبّاس : وأنت يا يهودي ؟ قال : لا يحول عليَّ الحول حتى أموت ، قال : فأين موتك ؟ قال : لا أدري . قال ابن عبّاس :
(7/323)
" صفحة رقم 324 "
صدق الله ) وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْض تَمُوتُ ( . قال : فرجع ابن عبّاس فتلقّى بابن محموم فما بلغَ عشراً حتّى مات الصبي ، وسأل عن اليهودي قبل الحول فقالوا : مات ، وما خرجَ ابن عبّاس من الدنيا حتّى ذهب بصره . قال علي : هذا أعجب حديث .
قوله : ) بِأَيِّ أَرْض تَمُوتُ ( كان حقه بأيّة أرض ، وبه قرأ أُبيّ بن كعب ، إلاّ أنّ مَن ذَكَّر قال : لاِنّ الأرض ليس فيها من علامات التأنيث شيء . وقيل : أراد بالأرض المكان فلذلك ذَكَّر ، وأحتجُ بقول الشاعر :
فلا مزنة ودقت ودقها
ولا الأرض ابقل ابقالها
(7/324)
" صفحة رقم 325 "
( سورة السجدة )
مكّية ، وهي ألف وخمسمائة وثمانية عشر حرفاً ، وثلاثمائة وثمانون كلمة ، وثلاثون آية
أخبرنا أبو عمرو أحمد بن أبي الفراتي ، عن عمران بن موسى ، عن مكي بن عبدان ، عن سليمان بن داود ، عن أحمد بن نصر قال : أخبرني أبو معاد ، عن أبي عصمة نوح بن أبي مريم ، عن زيد العمي عن أبي نضرة ، عن ابن عبّاس ، عن أُبيّ بن كعب أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من قرأ سورة الم تَنْزِيل أُعطي من الأجر كأنَّما أحيا ليلة القدر ) .
وأخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل الفهنرزي بها ، عن حمزة بن محمد بن العبّاس ببغداد ، عن عبدالله بن روح عن شبابة ) بن سوار ) عن المغيرة بن مسلم ، عن ابن الزبير ، عن جابر ، عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه كان لا ينام حتّى يقرأ ) الم تنزيل ( السجدة و ) تبارك الذي بيده الملك ( ويقول : ( هما تفضلان كلّ سورة في القرآن سبعين حسنة ، ومن قرأهما كتبت له سبعون حسنة ، ومحي عنه سبعون سيئة ، ورفع له سبعون درجة ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
2 ( ) الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الاَْمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الاَْرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ذاَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَىْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالاَْبْصَارَ وَالاَْفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ وَقَالُواْ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِى الاَْرْضِ أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ( 2
(7/325)
" صفحة رقم 326 "
السجدة : ( 1 - 3 ) الم
قوله عزّ وجلّ : ) الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ ( . أي ، بل يقولون وقيل : الميم صلة ، أي أيقولون استفهام توبيخ . وقيل : هو بمعنى الواو يعني ويقولون . وقيل : فيه إضمار مجازه : فهل يؤمنون به ، أَمْ يقولون : ) افْتَرَيهُ ( ثمّ قال : ) بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِير ( أي لم يأتهم ) مِنْ نَذِير مِنْ قَبْلِكَ ( .
قال قتادة : كانوا أُمّةً أُمّيّة لم يأتهم نذير قبل محمّد ( عليه السلام ) . قال ابن عبّاس ومقاتل : ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ومحمّد ( عليهما السلام ) .
) لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ اللهُ }
السجدة : ( 4 - 5 ) الله الذي خلق . . . . .
) الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّام ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيع أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الاْمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الاْرْضِ ( أي ينزل الوحي مع جبرائيل من السماء إلى الأرض ) ثُمَّ يَعْرُجُ ( يصعد ) إِلَيْهِ ( جبرائيل بالأمر في يوم واحد من أيّام الدُّنيا ، وَقَدْرُ مسيرِهِ ألف سنة ، خمسمائة نزوله من السماء إلى الأرض ، وخمسمائة صعوده من الأرض إلى السماء . وما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمسمائة سنة يقول : لو ساره أحد من بني آدم لم يسره إلاّ في ألف سنة ، والملائكة يقطعون هذه المسافة بيوم واحد ، فعلى هذا التأويل نزلت الآية في وصف مقدار عروج الملائكة من الأرض إلى السماء ، ونزولهم من السماء إلى الأرض ، وأمّا قوله : ) تَعُرجُ الملائِكَةُ وَالرُوحُ إِليهِ فِي يَوم كَانَ مِقدَارهُ خَمْسِينَ أَلفَ سَنَة ( فإنّه أراد مدّة المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي فيها مقام جبرائيل ( عليه السلام ) .
يقول : يسير جبرائيل والملائكة الذين معه من أهل مقامهِ مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيّام الدنيا ، وهذا كلّه معنى قول مجاهد وقتادة والضحّاك ، وأمّا معنى قوله : ) إِليه ( على هذا التأويل فإنّه يعني إلى مكان الملك الذي أمره الله أنْ يعرج إليه ، كقول إبراهيم ( عليه السلام ) ) إِنْي ذَاهِبٌ إِلَى رَبّي ( وإنّما أراد أرض الشام . وقال : ) وَمَنْ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِرَاً إِلَى اللهِ ( أي إلى المدينة ، ولم يكن الله تعالى بالمدينة ولا بالشام .
أخبرني ابن فنجويه ، عن هارون بن محمد بن هارون ، عن حازم بن يحيى الحلواني ، عن محمد بن المتوكل ، عن عمرو بن أبي سلمة ، عن صدقة بن عبدالله عن موسى بن عقبة ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أتاني ملك برسالة من الله عزّ وجلّ ، ثمّ رفع رجله فوضعها فوق السماء ، والاُخرى في الأرض لم يرفعها ) . وقال بعضهم معناه
(7/326)
" صفحة رقم 327 "
يُدَّبِرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إلى الأرض مدّة أيّام الدنيا ، ثمّ يَعْرُجُ إليه الأمر والتدبير ، ويرجع يعود إليه بعد انقضاء الدنيا وفنائها ) فِي يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَة مِمَّا تَعُدُّونَ ( وهو يوم القيامة .
وأمّا قوله : ) خَمْسِينَ أَلفَ سَنَة ( فإنّه أراد على الكافر ، جعل الله ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف سنة ، وعلى المؤمن كقدر صلاة مكتوبة صلاّها في دار الدنيا . ويجوز أن يكون ليوم القيامة أوّل وليس له آخر وفيه أوقات شتّى بعضها ألف سنة وبعضها خمسين ألف سنة . ويجوز أن يكون هذا إخبار عن شدّتهِ وهوله ومشقّته لاِنّ العرب تصف أيّام المكروه بالطّول وأيّام السرور بالقصر ، وإلى هذا التأويل ذهب جماعة من المفسِّرين .
وروي عبد الرزاق عن ابن جريح قال : أخبرني ابن أبي مليكة قال : دخلت أنا وعبدالله بن فيروز مولى عثمان بن عفّان على ابن عبّاس فسأله ابن فيروز عن هذه الآية ، فقال له ابن عبّاس : مَنْ أنت ؟ قال : أنا عبدالله بن فيروز مولى عثمان بن عفّان ، فقال عبدالله بن عبّاس : أيّام سمّاها الله لا أدري ما هي ، وأكره أنْ أقول في كتاب الله ما لا أعلم . قال ابن أبي مليكة : فضرب الدهر حتّى دخلتُ على سعيد بن المسيّب فسئل عنها فلم يدر ما يقول ، فقلت له : ألا أخبرك ما حضرتُ مِن ابن عبّاس ، فأخبرته ، فقال ابن المسيب للسائل : هذا ابن عبّاس قد اتّقى أنْ يقول فيها وهو أعلم منّي .
السجدة : ( 6 - 7 ) ذلك عالم الغيب . . . . .
قوله : ) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْء خَلَقَهُ ( قرأ نافع وأهل الكوفة ( خَلَقه ) بفتح اللاّم على الفعل ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ثمّ قالا : لسهولتها في المعنى وهي قراءة سعيد بن المسيب . وقرأ الآخرون بسكون اللام . قال الأخفش : هو على البدل ومجازه : الذي أحسَنَ خلقَ كلِّ شيء .
قال ابن عبّاس : أتقنه وأحكمه ، ثمّ قال : أما إنَّ أست القرد ليست بحسنة ولكنّه أحكم خلقها . وقال قتادة : حسنُه . مقاتل : علم كيف يخلق كلّ شيء ، من قولك فلان يحسن كذا إذا كان يعلمه .
) وَبَدَأَ خَلْقَ الاْنسَانِ ( يعني آدم ( عليه السلام ) ) مِنْ طِين }
السجدة : ( 8 ) ثم جعل نسله . . . . .
) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ ( ذريته ) مِنْ سُلاَلَة ( من نطفة ، سمّيت بذلك لاِنّها تنسل من الإنسان ، أي تخرج ، ومنه قيل للولد : سلالة . وقال ابن عبّاس : وهي صفو الماء ) مِنْ مَاء مَهِين ( ضعيف
السجدة : ( 9 - 10 ) ثم سواه ونفخ . . . . .
) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالاْبْصَارَ وَالاْفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ وَقَالُوا ( يعني منكري البعث ، ) أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الاْرْضِ ( أي أُهلكنا وبطلنا وصرنا تراباً ، وأصله من قول العرب : ضلّ الماء في اللبن إذا ذهب ، ويقال : أضللت الميّت أي دفنته . قال الشاعر
(7/327)
" صفحة رقم 328 "
وأب مُضلوهُ بغيرِ جَلية
وغُودر بالجولان جرم ونائل
وقرأ ابن محيصن بكسر اللام ( ضللنا ) وهي لغة . وقرأ الحسن والأعمش ) ضللنا ( ( بالصاد ) غير معجمة أي أَنتنّا ، وهي قراءة عليّ ح .
أخبرنا ابن فنجويه عن ابن شنبه قال : أخبرني أبو حامد المستملي ، عن محمد بن حاتم ( الكرخي ) أبو ( عثمان ) النحوي ، عن المسيب بن شريك ، عن عبيدة الضبي ، عن رجل ، عن علي أنّه قرأ أَءِذَا ضللنا أي أنتنّا . قال محمّد بن حاتم : يقال : صلَّ اللّحم وأصل إذا أنتن .
) أَءِنَّا لَفِي خَلْق جَدِيد ( قال الله : ) بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ( .
السجدة : ( 11 ) قل يتوفاكم ملك . . . . .
قوله عزّ وجلّ : ) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ ( بقبض أرواحكم ) مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ( قال مجاهد : حويت له الأرض فجُعلت له مثل طست يتناول منها حيث يشاء ، وقال مقاتل والكلبي : بلغنا أنَّ اسم ملك الموت عزرائيل وله أربعة أجنحة : جناح له بالمشرق ، وجناح له بالمغرب ، وجناح له في أقصى العالم من حيث يجيء ريح الصبا ، وجناح من الأفق الآخر . ورجل له بالمشرق ، والأخرى بالمغرب ، والخلق بين رجليه ، ورأسه وجسده كما بين السماء والأرض ، وجُعلت له الدنيا مثل راحة اليد ، صاحبها يأخذ منها ما أَحبّ في غير مشقة ولا عناء ، أي مثل اللّبنة بين يديه فهو يقبض أنْفُس الخلق في مشارق الأرض ومغاربها ، وله أعوان من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب .
وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين عن عبدالله بن يوسف بن أحمد بن مالك عن الخطّاب بن أحمد بن عيسى قال : أخبرني أبو نافع أحمد بن كثير ، عن كثير بن هشام ، عن جعفر بن برقان ، عن يزيد بن الأصم عن ابن عبّاس قال : إنّ خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب .
وأخبرنا الحسين بن محمد ، عن عبدالله بن يوسف ، عن عبد الرحيم بن محمد ، عن سلمة ابن شبيب ، عن الوليد بن سلمة الدمشقي ، عن ثور بن يزيد عن خالد بن ( معد ) ، عن معاذ بن جبل قال : إنّ لملك الموت حربة تبلغ ما بين المشرق والمغرب ، وهو يتصفّح وجوه الناس ، فما من أهل بيت إلاّ وملك الموت يتفحّصهم في كلّ يوم مرّتين ، فإذا رأى إنساناً قد انقضى أجله ضرب رأسه بتلك الحربة ، وقال : الآن يزار بك عسكر الأموات
(7/328)
" صفحة رقم 329 "
وأخبرنا الحسين بن محمد قال : أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي ، عن عبدالله بن أحمد ابن حنبل ، عن أَبي ، عن عبدالله بن نميرة عن الأعمش عن خيثمة وعن شهر بن حوشب قال : دخل ملك الموت على سليمان ، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم إليه النظر ، فلمّا خرج قال الرجل : من هذا ؟ قال : هذا ملك الموت ، قال : لقد رأيته ينظر إليَّ كأنّه يريدني ، قال : فما تريد ؟ قال : أريد أن تحملني على الريح فتلقيني بالهند ، فدعا بالريح فحملته عليها فألقته بالهند ، ثمّ أتى ملك الموت سليمان ( عليه السلام ) فقال : إنّك كنت تديم النظر إلى رجل من جلسائي ، قال : كنتُ أعجبُ منه إنّي أُمرت أنْ أقبضَ روحه بالهند وهو عندك .
فإن قيل : ما الجامع بين قوله : ) توفته رسلنا و ( ) تتوفهُمُ الملائكة ( و ) قُلْ يَتَوَفَّكُم مَلَكُ الْمَوْتِ ( وقوله : ) اللَّهُ يَتَوَفّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ( و ) هُوَ الَّذِي يَتَوَفكُم باللّيْلِ ( .
قيل : تَوفّي الملائكة : القبض والنزع . وتوفّي ملك الموت : الدعاء والأمر ، يدعو الأرواح فتجيبه ثمّ يأمر أعوانه بقبضها ، وتوفّي الله سبحانه : خلق الموت ، والله أعلم .
( ) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ وَلَوْ شِئْنَا لاََتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَاكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لاََمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَاذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِئَايَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُواْ فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ الْعَذَابِ الاَْدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاَْكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِئَايَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ ( 2
السجدة : ( 12 ) ولو ترى إذ . . . . .
قوله تعالى : ) وَلَوْ تَرَى إِذْ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ ( أي مطأطئوا رؤوسهم ) عِنْدَ رَبِّهِمْ ( حياءً منه للذي سلف من معاصيهم في الدنيا يقولون : ) رَبَّنَا أَبْصَرْنَا ( ماكنّا بِهِ مكذِّبين ) وَسَمِعْنَا (
(7/329)
" صفحة رقم 330 "
منك تصديق ما أتتنا به رسلك ) فَارْجِعْنَا ( فأرددنا إلى الدنيا ) نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ( وجواب لو مضمر مجازه : لرأيت العجب
السجدة : ( 13 ) ولو شئنا لآتينا . . . . .
) وَلَوْ شِئْنَا لأَتَيْنَا كُلَّ نَفْس هُدَاهَا ( رشدها وتوفيقها للإيمان ) وَلَكِنْ حَقَّ ( وجب وسبق ) الْقَوْلُ مِنِّي لأامْلاانَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( وهو قوله لأبليس ) لأملأنّ جهنّم منك وممّن تبعك منهم أجمعين ( . ثمّ يقال لأهل النار :
السجدة : ( 14 ) فذوقوا بما نسيتم . . . . .
) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ( أي تركتم الإيمان به ) إِنَّا نَسِيناكُمْ ( تركناكم في النار ) وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( .
أخبرنا الحسين بن محمد بن فنجويه ، عن أحمد بن الحسن بن ماجة القزويني ، عن الحسن ابن أيّوب القزويني ، عن عبدالله بن أبي زياد القطواني ، عن سيار حماد الصفار ، عن حجاج الأسود ، عن جبلة ، عن مولى له ، عن كعب قال : إذا كان يوم القيامة يقوم الملائكة فيشفعون ، ثمّ يقوم الأنبياء فيشفعون ، ثمّ يقوم الشهداء فيشفعون ثمّ يقوم المؤمنون فيشفعون . حتّى انصرمت الشفاعة كلّها فلم يبق أحد ، خرجت الرحمة ، فتقول : ياربِّ أنا الرحمة فشفّعني ، فيقول : قد شفّعتكِ ، فتقول : ياربّ فيمَن ؟ فيقول : في مَن ذكرني في مقام وخافني فيه أو رجاني أو دعاني دعوة واحدة خافني أو رجاني فأخرجيه ، قال : فيخرجون فلا يبقى في النار أحد يعبأ الله به شيئاً ، ثمّ يعظم أهلها بها ، ثمّ يأمر بالنار فتقبض عليهم فلا يدخل فيها رَوح أبداً ، ولا يخرج منها غمٌّ أبداً وقيل : ) اليَوْمَ نَنسَكُمْ كَمَا نَسَيْتُم لِقاءِ يَومِكُم هذا ( .
السجدة : ( 15 ) إنما يؤمن بآياتنا . . . . .
) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ ( عن الإيمان به والسجود له .
السجدة : ( 16 ) تتجافى جنوبهم عن . . . . .
) تَتَجَافَى ( أي ترتفع وتنتحي ، وهو تفاعل من الجفا ، والجفا : التبوّء والتباعد ، تقول العرب : جاف ظهرك عن الجدار ، وجفت عين فلان عن الغمض إذا لم تنم . ) جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ ( .
أخبرني أبو عبدالله الحسين بن محمد بن الحسن قال : أخبرني أبو عمرو عثمان بن أحمد ابن سمعان الوزان ، عن عبدالله بن قحطبة بن مرزوق ، عن محمد بن موسى الحرشي ، عن الحرث بن وحيه الراسبي قال : سمعت مالك بن دينار يقول : سألت أنس بن مالك عن قول الله تعالى : ) تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ ( ، فقال أنس : كان أُناس من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يُصلّون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة ، فأنزل الله تعالى : ) تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ ( .
أخبرني الحسين بن محمد ( عن موسى بن محمد ، عن الحسن بن محمد ، عن موسى بن محمد ) عن الحسن بن علويه ، عن إسماعيل بن عيسى ، عن المسيب ، عن سعيد بن أبي عروبة
(7/330)
" صفحة رقم 331 "
عن قتاده ، عن أنس بن مالك قال : نزلت فينا معاشر الأنصار : ) تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ ( الآية ، كنّا نصلّي المغرب ، فلا نرجع إلى رحالنا حتّى نصلّي العشاء مع النبي صلّى الله عليه وآله .
وأخبرنا الحسين بن محمد عن عبدالله بن إبراهيم بن علي بن عبدالله ، عن عبدالله بن محمد بن وهب ، عن محمد بن حميد ، عن يحيى بن الضريس ، عن النضر بن حميد ، عن سعيد ، عن الشعبي عن ابن عمر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من عقّب ما بين المغرب والعشاء بُني له في الجنّة قصران ( ما بينهما ) مسيرة ( مائة ) عام ، وفيهما من الشجر ، ما لو نزلها أهل المشرق وأهل المغرب لأوسعتهم فاكهة ، وهي صلاة الأوّابين وغفلة الغافلين ، وإنّ من الدعاء المستجاب الذي لا يرد الدعاء ما بين المغرب والعشاء ) .
وقال عطاء : يعني يصلّون صلاة العتمة لا ينامون عنها ، يدلّ عليها ما أنبأني عبدالله بن حامد ، عن عبدالصمد بن الحسن بن علي بن مكرم ، عن السري بن سهل ، عن عبدالله بن رشيد قال : أنبأني أبو عبيدة مجاعة بن الزبير ، عن أبان قال : جاءت امرأة إلى أنس بن مالك ، فقالت : إنّي أنام قبل العشاء . فقال : لا تنامي . فإنّ هذه الآية نزلت في الذين لا ينامون قبل العشاء الآخرة ) تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ ( . وقال أبو العالية والحسن ومجاهد وابن زيد : هو التهجّد وقيام الليل ، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو عبدالله بن فنجويه عن أبي بكر بن مالك القطيعي ، عن عبدالله بن أحمد بن حنبل عن أَبي عن زيد بن الحبّاب ، عن حمّاد بن سلمة ، عن عاصم ، عن شهر بن حوشب ، عن معاذ ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) تتجافى جنوبهم عن المضاجع ( ) يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ( قال : قيام العبد في الليل .
وأخبرنا عبدالله بن حامد الأصفهاني ، عن محمّد بن عبدالله بن عبد الواحد الهمداني ، عن إسحاق بن إبراهيم الدبري ، عن عبد الرزاق بن معمر ، عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل ، عن معاذ قال : كنت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في سفر فأصبحت قريباً منه ونحن نسير ، فقلت : يا نبيّ الله ألا تخبرني بعمل يدخلني الجنّة ، ويباعدني من النار ؟ قال : يا معاذ ، لقد سألت عن عظيم ، وإنّه ليسير على من يسّرهُ الله عليه ، تعبد الله لا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحجّ البيت . ثمّ قال : ألاَ أدلُّك على أبواب الخير . الصوم جُنّة من النار والصدقة تطفئ غضب الربّ وصلاة الرجل في جوف الليل ثمّ قرأ ) تَتَجَافَى جُنُوبُهُم عَنِ
(7/331)
" صفحة رقم 332 "
المَضَاجِعِ ( حتّى بلغ ) جزاءً بما كانوا يعملون ( ثمّ قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كلّه . فقلتُ : بلى يا رسول الله . فأخذ بلسانه . فقال : ( اكفف ، عليك هذا ) .
فقلت : يا رسول الله وإنّا لمؤاخذون بما نتكلّم ؟ فقال : ( ثكلتك أُمّك يا معاذ وهل يكبّ الناس في النّار على وجوههم أو على مناخرهم إلاّ حصائد ألسنتهم ) .
وقال الضحّاك : هو أنْ يصلّي الرجل العشاء والغداة في جماعة .
أخبرني الحسين بن فنجويه عن أحمد بن الحسين بن ماجة قال : أخبرني أبو عوانة الكوفي بالري عن منجاب بن الحرث عن علي بن مسهر عن عبدالرحمن بن إسحاق عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إذا جمع الله الأوّلين والآخرين يوم القيامة جاء مناد فنادى بصوت يُسمع الخلائق كلّهم : سيعلمُ أهل الجمع اليوم مَنْ أولى بالكرم ، ثمّ يرجع فينادي : ليقم الذين كانت تَتَجافَى جُنُوبُهُم عَنِ المَضَاجِعِ فيقومون وهم قليل ، ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانوا يحمدون الله في البأساء والضراء . فيقومون وهم قليل ، فيسرحون جميعاً إلى الجنّة ثمّ يحاسب سائر الناس ) .
) يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفَاً وَطَمَعَاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ }
السجدة : ( 17 ) فلا تعلم نفس . . . . .
) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُن ( أي خُبّئ لهم ، هذه قراءة العامّة . وقرأ حمزة ويعقوب أُخفي مرسلة الياء أي : أنا أخفي وحجّتهما قراءة عبدالله : نُخفي بالنون . وقرأ محمّد بن كعب : أخْفى بالألف يعني : أخفى الله من قرّة أعين ، قراءة العامّة على التوحيد .
أخبرنا عبدالله بن حامد الوزان ، عن مكي بن عبدان ، عن عبدالله بن هاشم قال : أخبرني أبو معاوية عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقول الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، قال أبو هريرة : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومن بله ما ( قد ) أطلعتكم عليه ، اقرأوا إن شئتم فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِي لَهُمْ مِنْ قُرَّاتَ أَعْيُن ) . ) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (
قال : وكان أبو هريرة يقرأ . هكذا : قرّات أعين . وقال ابن مسعود : إنّ في التوراة مكتوباً : لقد أعد الله للّذين تَتَجَافَى جُنوُبُهُم عَنِ المَضَاجِع ما لم تَرَ عين ولم تسمع أُذن ولا يخطر على
(7/332)
" صفحة رقم 333 "
قلب بشر وما لا يعلمه ملك مقرّب ، وإنّه لفي القرآن ) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِىَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُن ( الآية .
السجدة : ( 18 ) أفمن كان مؤمنا . . . . .
قوله : ) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ ( الآية نزلت في عليّ بن أبي طالب والوليد بن عقبة بن أبي معيط أخي عثمان لأُمِّهِ وذلك أنّه كان بينهما تنازع وكلام في شيء ، فقال الوليد لعلي : أُسكت فإنّك صبيّ ، وأنا والله أبسط منك لساناً وأَحَدُّ منك سناناً ، وأشجع جناناً ، وأملأُ منك حشواً في الكتيبة ، فقال له علي : اسكت فإنّك فاسق ، فأنزل الله عزّ وجلّ : ) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ ( ولم يقل يستويان ، لأنّه لم يرد بالمؤمن مؤمناً واحداً ، وبالفاسق فاسقاً واحداً ، وإنّما أراد جميع الفسّاق وجميع المؤمنين . قال الفرّاء : إنّ الاثنين إذا لم يكونا مصمودَين لهما ذُهب بهما مذهب الجمع .
السجدة : ( 19 - 21 ) أما الذين آمنوا . . . . .
ثمّ ذكر حال الفريقين ومآلهما ، فقال عزّ من قائل : ) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الاْدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاْكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (
قال أُبي بن كعب وأبو العالية والضحّاك والحسن وإبراهيم : العذاب الأَدنى مصائب الدنيا وأسقامها وبلاؤها ممّا يبتلي الله به العباد حتّى يتوبوا ، وهذه رواية الوالبي عن ابن عبّاس . عكرمة عنه : الحدود . عبدالله بن مسعود والحسن بن علي وعبدالله بن الحرث : القتل بالسيف يوم بدر . مقاتل : الجوع سبع سنين بمكّة حتّى أكلوا الجيف والعظام والكلاب . مجاهد : عذاب القبر . قالوا : والْعَذابِ الاْكْبَرِ ، يوم القيامة ) لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( عن كفرهم .
السجدة : ( 22 ) ومن أظلم ممن . . . . .
قوله تعالى : ) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ ( المشركين ) مُنتَقِمُونَ ( قال زيد بن رفيع : عنى بالمجرمين هاهنا أصحاب القَدَر ثمّ قرأ ) إِنَّ الْمُجرِمِينَ فِي ضَلاَل وَسُعر ( إلى قوله : ) إِنَّا كُلَّ شَيء خَلَقْنَاهُ بِقَدر ( وأخبرنا الحسين بن محمد ، عن أحمد ابن محمد بن إسحاق السني قال : أخبرني جماهر بن محمد الدمشقي ، عن هشام بن عمّار ، عن إسماعيل بن عياش ، عن عبد العزيز بن عبدالله ، عن عبادة بن سني ، عن جنادة بن أبي أمية ، عن معاذ بن جبل قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( ثلاث من فعلهن فقد أجرم : من اعتقد لواء في غير حقّ ، أو عَقَّ والديه ، أو مشى مع ظالم لينصره فقد أجرم . يقول الله تعالى : إِنَّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ ) .
(7/333)
" صفحة رقم 334 "
2 ( ) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِئَايَاتِنَا يُوقِنُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقَيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الاَْرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ ( 2
السجدة : ( 23 ) ولقد آتينا موسى . . . . .
) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُنْ فِي مِرْيَة مِنْ لِقَائِهِ ( ليلة المعراج . عن ابن عبّاس ، وقال السدّي : من تلقّيه كتاب الله تعالى بالرضا والقبول . قال أهل المعاني : لم يرد باللقاء الرؤية وإنّما أراد مباشرته الحال وتبليغه رسالة الله عزّ وجلّ وقبول كتاب الله . وقيل : من لقاء الله الخطاب للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد به غيره .
) وَجَعَلْنَاهُ ( ( يعني الكتاب ، وقال قتادة : موسى ) ) هُدىً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (
السجدة : ( 24 ) وجعلنا منهم أئمة . . . . .
) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً ( قادة في الخير يقتدى بهم ) يَهْدُونَ ( يدعون ) بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ( قرأ حمزة والكسائي ( لَمَّا ) بكسر اللام وتخفيف الميم أي لصبرهم ، واختاره أبو عبيد اعتباراً بقراءة عبدالله ) لما صَبَرُوا ( وقرأ الباقون بفتح اللام وتشديد الميم أي حين صبروا .
) وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ( يقضي بينهم . ويُسمّي أهل اليمن القاضي الفيصل ) يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (
السجدة : ( 25 - 26 ) إن ربك هو . . . . .
) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَات أَفَلاَ يَسْمَعُونَ ( آيات الله وعظاته فيتّعظون بها .
السجدة : ( 27 ) أولم يروا أنا . . . . .
قوله : ) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلَى الاْرْضِ الْجُرُزِ ( أي اليابسة المغبرة : الغليظة التي لا نبات فيها . وأصله من قولهم : ناقةٌ جراز إذا كانت تأكل كلّ شيء تجده ، ورجل جروز ، إذا كان أكولاً . قال الراجز :
خبّ جروز وإذا جاع بكى
ويأكل التمر ولا يلقي النوى
وسيفٌ جراز أي قاطع ، وجَرزِت الجراد الزرع إذا استأصلته ، فكأن الجرز هي الأرض التي لا يبقى على ظهرها شيء إلاّ أفسدته ، وفيه أربع لغات : جُرز وجَرُز وجَرْزَ وجَرَز .
قال ابن عبّاس : هي أرض باليمن . قال مجاهد : هي أبين ) فَنُخْرِجُ ( فننبت ) بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ (
السجدة : ( 28 ) ويقولون متى هذا . . . . .
) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( قال بعضهم : أراد
(7/334)
" صفحة رقم 335 "
بيوم الفتح يوم القيامة الذي فيه الثواب والعقاب والحكم بين العباد .
قال قتادة : قال أصحاب النبيّ صلّى الله عليه : إنّ لنا يوماً ننعم فيه ونستريح ويحكم بيننا وبينكم ، فقال الكفّار استهزاءً : متى هذا الفتح ؟ أي القضاء والحكم .
قال الكلبي : يعني فتح مكّة . وقال السدي : يعني يوم بدر ، لاِنَّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه كانوا يقولون لهم : إنّ الله ناصرنا ومُظهرنا عليكم .
السجدة : ( 29 ) قل يوم الفتح . . . . .
) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ ( يوم القيامة ) لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ ( وَمَن تأوّل النصر قال : لا ينفعهم إيمانُهم إذا جاءهم العذاب وقتلوا .
السجدة : ( 30 ) فأعرض عنهم وانتظر . . . . .
) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنتَظِرُونَ ( قراءة العامّة ) مُنْتَظِرُون ( بكسر الظاء . وقرأ محمد بن السميقع بفتح الظاء ، قال الفرّاء : لا يصحّ هذا إلاّ بإضمار مجازه : إنّهم منتظرون ربّهم ، قال أبو حاتم : الصحيح كسر الظاء لقوله : ) فَارتَقِبْ إِنَّهُم مُرْتَقِبُونَ (
.
) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُن فِى مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِىإِسْرَاءِيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِئَايَاتِنَا يُوقِنُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقَيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَاتٍ أَفَلاَ يَسْمَعُونَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الْمَآءَ إِلَى الاَْرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ ( 2
) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُنْ فِي مِرْيَة مِنْ لِقَائِهِ ( ليلة المعراج . عن ابن عبّاس ، وقال السدّي : من تلقّيه كتاب الله تعالى بالرضا والقبول . قال أهل المعاني : لم يرد باللقاء الرؤية وإنّما أراد مباشرته الحال وتبليغه رسالة الله عزّ وجلّ وقبول كتاب الله . وقيل : من لقاء الله الخطاب للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد به غيره .
) وَجَعَلْنَاهُ ( ( يعني الكتاب ، وقال قتادة : موسى ) ) هُدىً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً ( قادة في الخير يقتدى بهم ) يَهْدُونَ ( يدعون ) بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ( قرأ حمزة والكسائي ( لَمَّا ) بكسر اللام وتخفيف الميم أي لصبرهم ، واختاره أبو عبيد اعتباراً بقراءة عبدالله ) لما صَبَرُوا ( وقرأ الباقون بفتح اللام وتشديد الميم أي حين صبروا .
) وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ( يقضي بينهم . ويُسمّي أهل اليمن القاضي الفيصل ) يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَات أَفَلاَ يَسْمَعُونَ ( آيات الله وعظاته فيتّعظون بها .
قوله : ) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلَى الاْرْضِ الْجُرُزِ ( أي اليابسة المغبرة : الغليظة التي لا نبات فيها . وأصله من قولهم : ناقةٌ جراز إذا كانت تأكل كلّ شيء تجده ، ورجل جروز ، إذا كان أكولاً . قال الراجز :
خبّ جروز وإذا جاع بكى
ويأكل التمر ولا يلقي النوى
وسيفٌ جراز أي قاطع ، وجَرزِت الجراد الزرع إذا استأصلته ، فكأن الجرز هي الأرض التي لا يبقى على ظهرها شيء إلاّ أفسدته ، وفيه أربع لغات : جُرز وجَرُز وجَرْزَ وجَرَز .
قال ابن عبّاس : هي أرض باليمن . قال مجاهد : هي أبين ) فَنُخْرِجُ ( فننبت ) بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( قال بعضهم : أراد بيوم الفتح يوم القيامة الذي فيه الثواب والعقاب والحكم بين العباد .
قال قتادة : قال أصحاب النبيّ صلّى الله عليه : إنّ لنا يوماً ننعم فيه ونستريح ويحكم بيننا وبينكم ، فقال الكفّار استهزاءً : متى هذا الفتح ؟ أي القضاء والحكم .
قال الكلبي : يعني فتح مكّة . وقال السدي : يعني يوم بدر ، لاِنَّ أصحاب رسول الله صلّى الله عليه كانوا يقولون لهم : إنّ الله ناصرنا ومُظهرنا عليكم .
) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ ( يوم القيامة ) لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ ( وَمَن تأوّل النصر قال : لا ينفعهم إيمانُهم إذا جاءهم العذاب وقتلوا .
) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنتَظِرُونَ ( قراءة العامّة ) مُنْتَظِرُون ( بكسر الظاء . وقرأ محمد بن السميقع بفتح الظاء ، قال الفرّاء : لا يصحّ هذا إلاّ بإضمار مجازه : إنّهم منتظرون ربّهم ، قال أبو حاتم : الصحيح كسر الظاء لقوله : ) فَارتَقِبْ إِنَّهُم مُرْتَقِبُونَ (.
(7/335)
" صفحة رقم 5 "
( سورة الأحزاب )
مدنية ، وهي خمسة آلاف وسبعمائة وتسعون حرفاً ، وألف ومائتان وثمانون كلمة ، وثلاث وسبعون آية .
أخبرني محمد بن القاسم بن أحمد بقراءتي عليه قال : حدّثنا عبدالله بن أحمد بن جعفر قال : أخبرني أبو عمرو الحميري وعمرو بن عبدالله البصري قالا : قال محمد بن عبد الوهاب العبدي ، عن أحمد بن عبدالله بن يونس ، عن سلام بن سليم ، عن هارون بن كثير ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن ( أبي أُمامة ) عن أُبَي بن كعب قال : قال رسول الله صلّى الله عليه : ( من قرأ سورة الأحزاب وعلَّمها أهله وما ملكت يمينه أُعطي الأمان من عذاب القبر ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
2 ( ) ياأَيُّهَا النَّبِىِّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِى جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاَّئِى تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لاَِبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُواْ ءَابَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِى الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَاكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( 2
الأحزاب : ( 1 ) يا أيها النبي . . . . .
قوله عزّ وجلّ : ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ ( الآية نزلت في أبي سفيان بن حرب ، وعكرمة بن أبي جهل ، وأبي الاعور عمرو بن ( أبي ) سفيان السلمي ، وذلك أنّهم قدموا المدينة فنزلوا على عبدالله بن أُبي رأس المنافقين بعد قتال أحُد ، وقد أعطاهم النبيّ صلّى الله عليه الأمان على أنْ يُكلّموه ، فقام معهم عبدالله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق ، فقال للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وعنده عمر ابن الخطّاب : ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزّى ومنات وقل : إنّ لها شفاعة ومنفعة لمن عَبَدَها وندعك وربّك ، فشقّ على النبي صلّى الله عليه قولهم ، فقال عمر بن الخطّاب : ائذن لنا يارسول
(8/5)
" صفحة رقم 6 "
الله في قتلهم ، فقال النبي ( عليه السلام ) : ( إنّي قد أعطيتهم الأمان ) ، فقال عمر بن الخطّاب : اخرجوا في لعنة الله وغضبه ، فأمر النبيّ صلّى الله عليه عمر أنْ يُخرجهم من المدينة فأنزل الله عزّ وجلّ ) يا أيها النبي اتق الله ( ) وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ ( من أهل مكّة يعني أبا سفيان وأبا الأعور وعكرمة ) وَالْمُنَافِقِينَ ( عبدالله بن أُبي وعبدالله بن سعد وطعمة بن أبيرق .
) إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (
الأحزاب : ( 2 ) واتبع ما يوحى . . . . .
) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرَاً ( بالياء . أبو عمرو ، وغيره بالتاء .
الأحزاب : ( 3 ) وتوكل على الله . . . . .
) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلا ( أخبرني ابن فنجويه ، عن موسى بن علي ( عن الحسن ابن علويه ) ، عن إسماعيل بن عيسى ، عن المسيب ، عن شيخ من أهل الشام قال : قدم على رسول الله صلّى الله عليه وفد من ثقيف فطلبوا إليه أن ( يمتعهم ) باللات والعزّى سنة وقالوا : لتعلم قريش منزلتنا منك ، فَهَمَّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك ، فأنزل الله تعالى : ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ ( الآيات .
الأحزاب : ( 4 ) ما جعل الله . . . . .
قوله : ) مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُل مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ( نزلت في أبي معمر جميل ( بن معمر ) بن حبيب بن عبدالله الفهري ، وكان رجلاً لبيباً حافظاً لما يسمع ، فقالت قريش : ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلاّ وله قلبان . وكان يقول : إنّ لي قلبين أعقل بكلّ واحد منهما أفضل من عقل محمّد ، فلمّا كان يوم بدر وهُزم المشركون وفيهم يومئذ أبو معمر تلقّاه أبو سفيان بن حرب ، وهو معلِّق إحدى نعليه بيده والأُخرى في رِجله ، فقال له : يا أبا معمر ما حال الناس ؟ قال : انهزموا ، قال : فما بالك إحدى نعليك في يدك والأُخرى في رجلك ، فقال له أبو معمر : ما شعرت إلاّ أنّهما في رجلي ، فعرفوا يومئذ أنّه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده .
وقال الزهري ومقاتل : هذا مثل ضربه الله للمُظاهر من امرأته ، وللمتبنّي ولد غيرهِ ، يقول : فكما لا يكون لرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أُمّه حتى يكون له أُمّان ، ولا يكون ولد أحد ابن رجُلين .
قوله : ) وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللاَّئِي ( قرأ أبو جعفر وأبو عمر ووَرش ) اللاّئِى ( بغير مدّ ولا همز ، ممدودة مهموزة بلا ياء ، نافع غير ورش وأيّوب ويعقوب والأعرج ، وأنشد
(8/6)
" صفحة رقم 7 "
من اللاّءِ لم يحججن يبغين حسبة
ولكن ليقتلن البريء المغفّلا
وقرأ أهل الكوفة والشام بالمدّ والهمز وأثبات الياء واختاره أبو عبيد للاشباع واختلف فيه ، عن ابن كثير وكلّها لغات معروفة ) تُظَاهِرُونَ ( بفتح التاء وتشديد الظاء شامي . بفتح التاء وتخفيف الظاء كوفي غير عاصم ، واختاره أبو عبيد بضمّ التاء وتخفيف الظاء وكسر الهاء عاصم والحسن .
قال أبو عمرو : هذا منكر لأنّ المظاهرة من التعاون والآية نزلت في أوس بن الصامت بن قيس بن أصرم أخي عبادة ، وفي امرأته خولة بنت ثعلبة بن مالك يقول الله تعالى : مَا جَعَلَ نساءكم اللاتي تقولون : هنّ علينا كظهور أمّهاتنا في الحرام كما تقولون ، ولكنّها منكم معصية وفيها كفّارة وأزواجكم لكم حلال ، وسنذكر القصّة والحكم في سورة المجادلة إن شاء الله .
قوله : ) وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ ( يعني من تبنّيتموه ) أَبْنَاءَكُمْ ( نزلت في زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي من بني عبد ودّ ، كان عبداً لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأعتقه وتبنّاه قبل الوحي ، وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطّلب في الإسلام ، فجعل الفقير أخاً للغني ليعود عليه ، فلمّا تزوّج النبي صلّى الله عليه زينب بنت جحش الأسدي وكانت تحت زيد بن حارثة ، فقالت اليهود والمنافقون : تَزَوج محمّد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عنها ، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآيات وقال : ) ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ ( ولا حقيقة له ، يعني قولهم : زيد ابن محمّد ) وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ }
الأحزاب : ( 5 ) ادعوهم لآبائهم هو . . . . .
) ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ ( الذين ولدوهم ) هُوَ أَقْسَطُ ( أعدل ) عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ( أي فهم إخوانكم ) فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ( إنْ كانوا محرريكم وليسوا ببنيكم .
أنبأني عقيل بن محمد الجرجاني ، عن المعافى بن زكريا ، عن محمد بن جرير قال : حدّثني يعقوب بن إبراهيم ، عن ابن علية عن عيينة بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، قال : قال أبو بكر : قال الله تعالى : ) ادْعُوهُمْ لأَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ( فأنا ممّن لا يُعرف أبوه ، وأنا من إخوانكم في الدين . قال : قال أُبي إنّي لأظنّه لو علم أنَّ أباه كان حماراً لانتمى إليه ) وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ ( قبل النهي ، فنسبتموه إلى غير أبيه ، وقال قتادة : يعني أنْ تدعوه لغير أبيه وهو يرى أنّه كذلك ) وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ( فنسبتموه إلى غير أبيه بعد النهي ، وأنتم تعلمون أنّه ليس بابنهِ . ومحلّ ما في قوله : ) مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ( خفض ردّاً على ( ما ) التي في قوله : ) فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ ( ومجازهُ : ولكن فيما تعمّدت قلوبكم ) وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ( قال النبييّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَن ادّعى إلى غير أبيه أو إلى غير أهل نعمته فعليهِ لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين ) .
(8/7)
" صفحة رقم 8 "
وأخبرنا محمد بن عبدالله بن حمدون ، عن أحمد بن محمد بن الحسن ، عن محمد بن يحيى قال : أخبرني أبو صالح ، حدّثني الليث ، حدّثني عبد الرحمن بن خالد ، عن ابن شهاب ، عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة أنّ أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس كان ممّن شهد بدراً مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تبنّى سالماً وأنكحهُ ابنة أخيه هند بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وهو مولى لامرأة من الأنصار فتبنّاه ، كما تبنّى رسول الله صلّى الله عليه زيداً وكان مَن تبنّى رجلاً في الجاهلية دعاه الناس إليه وورث من ميراثه حتّى نزلت ) ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ ( الآية .
( ) النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الاَْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِى كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى الْكِتَابِ مَسْطُوراً وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقًا غَلِيظاً لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً ( 2
الأحزاب : ( 6 ) النبي أولى بالمؤمنين . . . . .
قوله عزّ وجلّ : ) النَّبِيُّ أَوْلَى ( أحقّ ) بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ( أنْ يحكم فيهم بما شاء فيجوز حكمه عليهم .
قال ابن عبّاس وعطا : يعني إذا دعاهم النبيّ ( عليه السلام ) إلى شيء ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبيّ أولى بهم من طاعة أنفسهم ، وقال مقاتل : يعني طاعة النبي ( عليه السلام ) أولى من طاعة بعضكم لبعض ، وقال ابن زيد : النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ كما أنتَ أولى بعبدك ، فما قضى فيهم من أمر ، جار ، كما أنّ كلّ ما قضيت على عبدك جار . وقيل : إنّه ( عليه السلام ) أولى بهم في امضاء الأحكام وإقامة الحدود عليهم لما فيه من مصلحة الخلق والبعد من الفساد . وقيل : إنّه أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه ، وقالت الحكماء : النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، لاِنَّ أنفسهم تدعوهم إلى ما فيه هلاكهم ، والنبيّ يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم ، وقال أبو بكر الورّاق : لأنّ النبيّ يدعوهم إلى العقل ، وأنفسهم تدعوهم إلى الهوى ، وقال بسام بن عبدالله العراقي : لأنَّ أنفسهم تحترس من نار الدُّنيا ، والنبيّ يحرسهم من نار العُقبى .
وروى سُفيان عن طلحة عن عطاء عن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ ) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ( وهو أب لهم .
وروى سفيان عن عمرو عن بجالة أو غيره قال : مَرَّ عمر بن الخطّاب بغلام وهو يقرأ في المصحف ) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وأزواجُه أُمّهاتهم ( وهو أب لهم . فقال : يا غلام حُكّها . قال : هذا مصحف أبي ، فذهب إليه فسأله ، فقال : إنّه كان يلهيني القرآن ويُلهيكَ الصفق
(8/8)
" صفحة رقم 9 "
في الأسواق . وقال عكرمة : أُخبرت أنّه كان في الحرف الأوّل : وهو أبوهم .
أخبرني أبو عبدالله بن فنجويه الدينوري قال : أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي ، عن عبدالله بن أحمد بن حنبل ، عن أبي قال : أخبرني أبو عامر وشريح قالا : قال ( فليح ) بن سليمان ، عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عميرة ، عن النبيّ صلّى الله عليه ، قال : ( ما من مؤمن إلاّ وأنا أولى به في الدنيا والآخرة ، اقرؤا إن شئتم ) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ( فأيّما مؤمن هلك وترك مالاً فليرثه عصبته مَنْ كانوا ، وإن ترك دَيناً أو ضياعاً فليأتني فإنّي أنا مولاه ) .
) وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ( يعني كأُمّهاتهم في الحرمة ، نظيره قوله تعالى : ) وَجَنَّة عَرضها السَّماوات والأَرْض ( أي كالسماوات ، وإنّما أراد الله تعالى تعظيم حقّهن وحرمتهن ، وإنّه لا يجوز نكاحهن لا في حياة النبيّ صلّى الله عليه إنْ طلّق ولا بعد وفاته ، هنّ حرام على كلّ مؤمن كحرمة أُمّهِ ، ودليل هذا التأويل أنَّه لا يحرم على الولد رؤية الأُمّ ، وقد حرّم الله رؤيتهنّ على الأجنبيين ، ولا يرثنّهم ولا يرثونهنّ ، فعلموا أنّهن أُمّهات المؤمنين من جهة الحرمة ، وتحريم نكاحهنّ عليهم .
روى سفيان ، عن خراش ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : قالت امرأة لعائشة : يا أُمّاه ، فقالت : أنا لستُ بأُمَ لكِ إنّما أنا أُمّ رجالكم .
قوله : ) وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض ( يعني في الميراث .
قال قتادة : كان المسلمون يتوارثون بالهجرة ، وكان لا يرث الأعرابي المسلم من المهاجر شيئاً ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وخلط المؤمنين بعضهم ببعض فصارت المواريث بالملك والقرابات .
وقال الكلبي : آخى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بين الناس ، وكان يؤاخي بين الرجلين ، فإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته وأهله ، فمكثوا بذلك ما شاء الله حتّى نزلت هذه الآية : ) وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض ( ) فِي كِتَابِ اللهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ( الذين آخى رسول الله بينهم ) وَالْمُهَاجِرِينَ ( فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة ، وصارت للأدنى فالأدنى من القرابات ، وقيل : أراد إثبات الميراث بالإيمان والهجرة .
ثمّ قال : ) إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً ( يعني : إلاّ أَنْ توصوا لذوي قرابتكم من
(8/9)
" صفحة رقم 10 "
المشركين فتجوز الوصية لهم ، وإنْ كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة ، وهذا قول محمد بن الحنفية وقتادة وعطاء وعكرمة . وقال ابن زيد ومقاتل : يعني : إلاّ أنْ توصوا لاِوليائكم من المهاجرين . وقال مجاهد : أراد بالمعروف النُصرة وحفظ الحرمة لحقّ الإيمان والهجرة ) كَانَ ذَلِكَ ( الذي ذكرت من أنَّ أُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض ، وأنَّ المشرك لا يرث المسلم ) فِي الْكِتَابِ ( في اللوح المحفوظ ) مَسْطُوراً ( مكتوباً . وقال القرظي : في التوراة .
الأحزاب : ( 7 - 8 ) وإذ أخذنا من . . . . .
قوله : ) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ ( على الوفاء بما حُمّلوا ، وَأَنْ يبشر بعضهم ببعض ويصدّق بعضهم بعضاً . ) وَمِنْكَ ( يا مُحمّد ) وَمِنْ نُوح وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ( وإنّما خَصّ هؤلاء الخمسة بالذكر في هذه الآية لأنّهم أصحاب الشرائع والكتب وأُولو العزم من الرسل وأئمّة الأُمم .
) وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثقَاً غَلِيظاً ( أخبرنا الحسين بن محمد ، عن عبيدالله بن أحمد بن يعقوب المقرئ ، عن محمد بن محمد بن سليمان الباغندي ، عن هارون بن محمد بن بكار ، عن أبيه عن سعيد يعني ابن بشير ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه قال : ( كنت أوّل النّبيّين في الخلق ، وآخرهم في البعث ) ، قال : وذلك قول الله تعالى : ) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوح وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ( فبدأ به صلّى الله عليه قبلهم . ) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً ( .
) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الاَْبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَاْ هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ ياأَهْلَ . يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِىَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لاََتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الاَْدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُمْ مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً قُلْ مَن ذَا الَّذِى يَعْصِمُكُمْ مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ( 2
الأحزاب : ( 9 ) يا أيها الذين . . . . .
قوله : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ ( الآية ، وذلك حين حوصر المسلمون مع رسول الله صلّى الله عليه أيّام الخندق ) إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ ( يعني الأحزاب ، قريش وغطفان
(8/10)
" صفحة رقم 11 "
ويهود بني قريظة والنضير ) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً ( يعني الصبا . قال عكرمة : قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب : انطلقي بنصر رسول الله صلّى الله عليه ، فقالت الشمال : إنّ الحرة لا تسري بالليل ، فكانت الريح التي أُرسلت عليهم هي الصبا .
قال رسول الله صلّى الله عليه : نُصرتُ بالصبا ، وأُهلكتْ عاد بالدبور .
) وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا ( وهم الملائكة ولم تقاتل يومئذ ) وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً ( قال المفسِّرون : بعث الله تعالى عليهم بالليل ريحاً باردة ، وبعث الملائكة فقلعت الأوتاد ، وقطعت أطناب الفساطيط ، وأطفأت النيران ، وأكفأت القدور ، وجالت الخيل بعضها في بعض ، فأرسل الله عليهم الرعب ، وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم ، حتّى كان سيّد كلّ حيّ يقول : يا بني فلان هلمّ إليّ فإذا اجتمعوا عنده قال : النجا النجا أتيتم ، لما بعث الله عليهم من الرعب فانهزموا من غير قتال .
أنبأني محمد بن القاسم الفارسي قال : أخبرني أبو الحسن السليطي قال : أخبرني المؤمل ابن الحسن ، عن الفضل بن محمد الأشعراني عن عمرو بن عون ، عن خالد بن عبدالله ، عن أبي سعد سعيد بن عبد الرحمن البقّال ، عن إبراهيم التيمي ، عن أبيه وأنبأني عقيل بن محمد ، عن المعافى بن زكريا ، عن محمد بن جرير الطبري ، عن محمد بن حميد الرازي ، عن سلمة ، حدّثني محمد بن يسار ، عن يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرطي قالا : قال فتى من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان : يا أبا عبدالله ، رأيتم رسول الله صلّى الله عليه وصحبتموه ؟ قال : نعم يابن أخي ، قال : وكيف كنتم تصنعون ؟ قال : والله لقد كنّا نجهد ، قال الفتى : والله لو أدركناه ما تركناه يمشي على الأرض ، ولحملناه على أعناقنا ، ولخدمناه وفعلنا وفعلنا .
فقال حذيفة : يابن أخي والله لقد رأيتني ليلة الأحزاب مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالخندق في ليلة باردة ، لم أجد قبلها ولا بعدها برداً أشدّ منه ، فصلّى رسول الله صلّى الله عليه هوناً من الليل ثمّ التفتَ إلينا فقال : ( مَنْ يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله الجنّة ) .
فما قام منّا رجل ، ثمّ صلّى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هوناً من الليل ، ثمّ التفت إلينا فقال مثله ، فسكت القوم وما قام منّا رجل . ثمّ صلّى رسول الله صلّى الله عليه هوناً من الليل ، ثمّ التفت إلينا فقال : مَن رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم على أنْ يكون رفيقي في الجنّة ؟ فما قام رجل من شدّة الخوف وشدّة الجوع وشدّة البرد ، فلمّا لم يقم أحد ، دعاني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : يا حذيفة ، فلم يكن لي بُدّ من القيام حين دعاني ، فقلت : لبّيك يارسول الله ، وقمت حتى أتيته وإن
(8/11)
" صفحة رقم 12 "
جنبيّ لتضطربان ، فمسح رأسي ووجهي ثمّ قال : ائت هؤلاء القوم حتّى تأتيني بخبرهم ، ولا تحدثنّ شيئاً حتّى ترجع إليّ .
ثمّ قال : اللّهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته ، فأخذت سهمي وشددت على أصلابي ، ثمّ انطلقت أمشي نحوهم كأنّي أمشي في حمّام ، فذهبت فدخلت في القوم ، وقد أرسل الله عليهم ريحاً فقطّعت أطنابهم وقلعت أبنيتهم وذهبت بخيولهم ، ولم تدع شيئاً إلاّ أهلكته ، وأبو سفيان قاعد يصطلي ، فأخذتُ سهمي فوضعته في كبد قوسي ، فذكرت قول النبيّ صلّى الله عليه : لا تحدثنّ حدثاً حتى ترجع ، فرددت سهمي في كنانتي .
فلمّا رأى أبو سفيان ما تفعل الريحُ وجنودُ الله بهم ، لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء قام فقال : يا معشر قريش ليأخذ كلّ رجل منكم بيد جليسه فلينظر مَنْ هو ؟ فأخذت بيد جليسي فقلت مَنْ أنت ؟ قال : سبحان الله أما تعرفني أنا فلان بن فلان ، فإذا هو رجل من هوازن .
فقال أبو سفيان : يا معشر قريش إنّكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخُفّ وأخلفتنا بنو قريظة ، وبلغنا عنهم الذي نكره ، ولقينا من هذه الريح ما ترون ، فارتحلوا فإنّي مرتحل ثمّ قام إلى جَملِهِ وهو معقول فجلس عليه ثمّ ضربه فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلاّ وهو قائم .
وسمعتْ غطفان بما فعلت قريش فاستمروا راجعين إلى بلادهم ، وهزم الله الأحزاب فذلك قوله : ) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحَاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا ( قال : فرجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه كأني أمشي في حمّام ، فأخبرته الخبر فضحك عليه السلام حتّى بدت أنيابه في سواد الليل قال : وذهب عنّي الدفء فأدناني النبيّ عليه السلام فأنامني عند رجليه وألقى عليَّ طرف ثوبه ، وألزق صدري ببطن قدمه .
الأحزاب : ( 10 ) إذ جاؤوكم من . . . . .
قوله تعالى : ) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ ( يعني من فوق الوادي من قبل المشرق ، وعليهم مالك بن عوف النضيري وعيينة بن حصن الفزاري في ألف من غطفان ومعهم طليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد وحُيي بن أخطب في يهود بني قريضة ) وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ( يعني من بطن الوادي من قبل المغرب ، وهو أبو سفيان بن حرب في قريش ومن تبعه ، وأبو الأعور عمرو بن سفيان السلمي من قِبَل الخندق . وكان الذي جر غزوة الخندق ، فيما قيل إجلاء رسول الله صلّى الله عليه بني النضير عن ديارهم .
قال محمد بن إسحاق : حدّثني يزيد بن رومان مولى آل الزبير ، عن عروة بن الزبير ومَن لا أتّهم ، عن عبيدالله بن كعب بن مالك ، وعن الزهري ، وعن عاصم بن قتادة وعن عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، وعن محمد بن كعب القرظي ، وعن غيرهم من علمائنا ، دخل
(8/12)
" صفحة رقم 13 "
حديث بعضهم في بعض ، قالوا : كان من حديث الخندق أنّ نفراً من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس وأبو عمّار الوائلي في نفر من بني النضير ونفر من بني وايل وهم الذين حزّموا الأحزاب على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خرجوا حتى قدموا على قريش بمكّة ، فدعوهم إلى حرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا : إنّا سنكون معكم عليه حتّى نستأصله ، فقالت لهم قريش : يا معشر اليهود ، إنّكم أهل الكتاب الأوّل والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد ، فديننا خيرٌ أم دينه ؟
قالوا : بل دينكم خيرٌ من دينه ، وأنتم أولى بالحقّ منهم ، قال : فهُم الذين أنزل الله فيهم : ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبَاً مِنَ الكِتبِ يُؤْمِنُونَ بِالجِبْتِ وَالْطاغُوتِ ( إلى قوله : ) وَكَفَى بجَهَنَّمَ سَعِيراً ( فلمّا قالوا ذلك لقريش سرّهم ما قالوا ، ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأجمعوا لذلك ، واستعدّوا له ، ثمّ خرج أولئك النفر من اليهود حتّى جاءوا غطفان من قيس بن غيلان فدعوهم إلى حرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبروهم أنّهم سيكونون معهم عليه ، وأنَّ قريشاً قد بايعوهم على ذلك ، وأجمعوا فيه ، فأجابوهم ، فخرجت قريش وقائدها أبو سفيان بن حرب ، وخرجت غطفان وقائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في بني فزارة ، والحرث بن عون بن أبي جارية المرّي في بني مرّة ، ومسعود بن جبلة بن نويرة بن طريف بن شحمة بن عبدالله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن زيد بن غطفان فيمن تابعه من قومه من أشجع ، فلمّا سمع بهم رسول الله صلّى الله عليه وبما أجمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة وكان الذي أشار على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالخندق سلمان الفارسي ، وكان أوّل مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلّى الله عليه ، وهو يومئذ حُرّ . وقال : يارسول الله إنَّا كنّا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا ، فعمل فيه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمون معه حتى أحكموه .
وقد ذكرنا حديث سلمان في صفة حفر الخندق في سورة آل عمران قالوا : فلمّا فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الخندق أقبلت قريش حتّى نزلت بمجتمع الأسيال من دونه من الجرف والغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة ، وأقبلت غطفان ومن تابعهم من أهل نجد حتى نزلوا ( بذنب نقمى ) إلى جانب أحد .
وخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمون حتّى جعلوا ظهورهم إلى سلع في ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هنالك عسكره ، والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالنساء والذراري فرفعوا في الآطام ، وخرج عدوّ الله حيي بن أخطب النضيري حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم ، وكان قد وادع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على قومه وعاهده على ذلك ، فلمّا سمع كعب بحيي بن أخطب غلق دونه حصنه فاستأذن عليه فأبى أن يفتح له فنادى حيي : يا كعب افتح
(8/13)
" صفحة رقم 14 "
لي ، فقال : ويحك يا حيي ، إنّك امرؤ ميشوم ، إنّي قد عاهدت محمّداً فلست بناقض ما بيني وبينه ، ولم أَرَ منه إلاّ وفاءً وصدقاً .
قال : ويحك افتح لي أُكلّمك . قال : ما أنا بفاعل . قال : والله إن غلقت دوني إلاّ على حشيشتك أن آكل معك منها ، فاحفظ الرجل ففتح له . فقال : يا كعب ، ويحك جئتك بعزّ الدهر ، وبحر طم ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دونه ، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب مقمي إلى جانب أُحد ، قد عاهدوني وعاقدوني أنْ لا يبرحوا حتى يستأصلوا محمّد ومن معه .
فقال له كعب بن أسد : جئتني والله بذلّ الدهر ، بمجهام قد اهراقَ ماؤه يرعد ويبرق وليس فيه شيء ، فدعني ومحمّداً وما أنا عليه ، ولم أَرَ من محمّد إلاّ صدقاً ووفاءً .
فلم يزل حُيي بن أخطب بكعب يقبله في الذروة والغارب حتى يسمح له على أنْ أعطاه عهداً من الله وميثاقاً ، لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمّداً أنْ أدخل معك في حصّتك حتى يصيبني ما أصابك ، فنقض كعب بن أسد عهده وبرئ ممّا كان عليه فيما بينه وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
فلمّا انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه الخبر وإلى المسلمين ، بعث رسول الله صلّى الله عليه سعد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس أحد بني عبد الأشهل وهو يومئذ سيّد الأوس وسعد بن عبادة بن دليم أحد بني ساعدة بن كعب بن الخزرج وهو يومئذ سيّد الخزرج ، ومعهما عبدالله بن رواحة أخو الحارث بن الخزرج ، وخوات بن جبير أخو بني عمرو بن عوف .
فقال : انطلقوا حتى تنظروا أحقٌّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم ؟ فإن كان حقّاً فالحنوا إليَّ لحناً نعرفه ولا تفتّوا أعضاد الناس ، وإنْ كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس ، فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم وقالوا : مَنْ رسول الله ؟ وقالوا : لا عقد بيننا وبين محمّد ولا عهد ، فشاتمهم سعد بن عبادة وشاتموه ، وكان رجلاً فيه حدّ فقال له سعد بن معاذ : دع عنك مشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة ، ثمّ أقبل سعد وسعد ومن معهما إلى رسول الله صلّى الله عليه فسلّموا عليه ثمّ قالوا : عضل والقارة أي كغدر عضل والقارة بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه أصحاب الرجيع خبيب بن عدي وأصحابه .
فقال رسول الله صلّى الله عليه : الله أكبر ، أبشروا يا معشر المسلمين . وعظم عند ذلك البلاء واشتدّ الخوف وأتاهم عدوّهم من فوقهم ومن أسفل منهم حتى ظنّ المؤمنون كلّ ظنّ ، ونَجَم النفاق من بعض المنافقين حتى قال لهم معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يقدر على أنْ يذهب إلى الغائط ) ما
(8/14)
" صفحة رقم 15 "
وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُوله إِلاَّ غُرُوراً } ) حتى قال أوس بن قبطي أحد بني حارثة : يا رسول الله إنَّ بُيُوتَنَا بعورة من العدو وذلك على ملأ من رجال قومه ، فأْذن لنا فلنرجع إلى ديارنا فإنّها خارجة من المدينة .
فأقام رسول الله صلّى الله عليه وأقام المشركون عليه بضعاً وعشرين ليلة قريباً من شهر ، ولم يكن بين القوم حرب إلاّ الرمي بالنبل والحصى ، فلمّا اشتدّ البلاء على الناس ، بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى عيينه بن حصين وإلى الحارث بن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أنْ يرجعا بمَنْ معهما عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ، تجرى بينهم وبينه الصلح حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ، فذكر ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لسعد بن معاذ وسعد بن عبادة واستشارهما فيه . فقالا : يارسول الله أشيء أمرك الله به لابدّ لنا من العمل به أم أمر تحبّه فتصنعه أم شيء تصنعه لنا ؟ قال : لا بل لكم والله ما أصنع ذلك ، إلاّ إنّي رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحد وكالبوكم من كلّ جانب ، فأردتُ أنْ أكسر عنكم شوكتهم .
فقال له سعد بن معاذ : يا رسول الله قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على شرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم ولا يطمعون أنْ يأكلوا منها ثمرة إلاّ قري أو بيعاً ، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزّنا بك نعطيهم أموالنا ؟ ما لنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلاّ السيف حتّى يحكم الله بيننا وبينهم ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه : فأنت وذاك ، فتناول سعد الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ثمّ قال : ليجهدوا علينا .
فأقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمون على حالهم والمشركون يحاصروهم ولم يكن بينهم قتال إلاّ أنَّ فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ودّ بن أبي قيس أخو بني عامر بن لؤي وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان ونوفل بن عبدالله وضرار بن الخطاب ومرداس أخو بني محارب بن فهر قد تلبّسوا للقتال وخرجوا على خيلهم ، ومرّوا على بني كنانة .
فقال : بنو الحارث : يا بني كنانة ، فستعلمون اليوم من الفرسان ، ثمّ أقبلوا حتى وقفوا على الخندق ، فلمّا رأوه قالوا : والله إنّ هذه لمكيدة ، ما كانت العرب تكيدها ثمّ تيمّموا مكاناً من الخندق ضيّقاً فضربوا خيولهم فاقتحموا منه فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع .
وخرج علي بن أبي طالب ح في نفر من المسلمين حتى أخذَ عليهم الثغرة التي أقحموا منها خيلهم وأقبلت الفرسان نحوهم ، وقد كان عمرو بن عبد ود قاتَل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد أحُداً ، فلمّا كان يوم الخندق خرج مُعَلماً ليُري مكانه ، فلمّا وقف هو وخيله قال له علي : يا عمرو ، إنّك كنت تعاهد الله ، لا يدعوك رجل من قريش إلى خلّتين إلاّ أخذتَ منه إحداهما . قال : أجل . قال : فإنّي أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام . قال : لا حاجة لي بذلك . قال : فإنّي أدعوك إلى النزال . قال : ولِمَ يابن أخي ؟ فإنّي والله ما أحبّ أنْ أقتلك
(8/15)
" صفحة رقم 16 "
قال علي ح : ولكنّي والله أحبّ أنْ أقتلك ، فحمي عمرو عند ذلك فاقتحم عن فرسه فعقره أو ضرب وجهه وأقبل على عليّ فتناولا وتجاولا وقتله عليّ ح .
وخرجت خيله منهزمة حتى اقتحمت من الخندق هاربة ، وقُتل مع عمرو رجلان : منبه بن عثمان بن عبيد بن السباق بن عبد الدار ، أصابه سهم فمات منه بمكّة ، ونوفل بن عبدالله بن المغيرة المخزومي ، وكان قد اقتحم الخندق فتورّط فيه فرموه بالحجارة ، فقال : يا معشر العرب قتلة أحسن من هذه ، فنزل إليه عليّ فقتله فغلب المسلمون على جسده ، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه أن يبيعهم جسده فقال رسول الله صلّى الله عليه : لا حاجة لنا في جسده ولا ثمنِهِ فشأنكم به ، فخلّى بينهم وبينه .
قالت عائشة أُمّ المؤمنين : كنّا يوم الخندق في حصن بني حارثة ، وكان من أحرز حصون المدينة ، وكانت أُمّ سعد بن معاذ معنا في الحصن ، وذلك قبل أن يُضرب علينا الحجاب فمرّ سعد بن معاذ وعليه درع مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلّها وفي يده حربته وهو يقول :
لبّثْ قليلاً يشهد الهيجا حمل
لا بأس بالموت إذا حان الأجل
فقالت أُمّهُ : الحقْ يا بني فقد والله أخرتَ ، قالت عائشة : فقلتُ لها : يا اُمّ سعد والله لوددت أنَّ درع سعد كانت أسبغ ممّا هي ، وخفت عليه حيث أصاب السهم منه ، قالت : فرمي سعد يومئذ فقطع منه الأكحل ، وزعموا أنّه لم ينقطع من أحد قطع إلاّ لم يزل يفيض دماً حتى يموت ، رماه حيان بن قيس بن الغرقة أحد بني عامر بن لؤي ، فلمّا أصابه قال : خذها فأنا ابن الغرقة فقال سعد : غرق الله وجهك في النار ، ثمّ قال سعد : اللّهم إنْ كنت أبقيت من حرب قريش شيئاً فأبقني لها ، فإنّه لا قوم أحبّ إليّ من أنْ أُجاهدهم من قوم آذوا رسولك ، فكذّبوه وأخرجوه ، وإنْ كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادة ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة ، وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية .
وروى محمد بن إسحاق بن يسار ، عن يحيى بن عبادة بن عبدالله بن الزبير ، عن أبيه عبادة قال : كانت صفية بنت عبد المطّلب في قارع حصن حسّان بن ثابت قالت : وكان حسّان معنا فيه مع النساء والصبيان .
قالت صفية : فمرّ بنا رجل من اليهود فجعل يطوف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت
(8/16)
" صفحة رقم 17 "
ما بينها وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنّا ، ورسول الله والمسلمون في ( نحور ) عدوّهم لا يستطيعون أنْ ينصرفوا إلينا عنهم إذا أتانا آت . قالت : فقلت : يا حسّان إنّ هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وإنّي والله ما آمنه أنْ يدلّ على عورتنا مَن ورائنا من اليهود ، وقد شغل عنّا رسول الله صلّى الله عليه وأصحابه فانزل إليه فاقتله .
فقال : يغفر الله لكِ يا بنت عبد المطلب ، والله لقد عرفتِ ما أنا بصاحب هذا . قالت : فلمّا قال ذلك لي ولم أَرَ عنده شيئاً احتجزت ثمّ أخذتُ عموداً ثمّ نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتّى قتلته فلمّا فرغتُ منه ، رجعت إلى الحصن فقلت : يا حسّان انزل إليه فاسلبه فإنّه لم يمنعني من سلبه إلاّ أنّه رجل ، قال : ما لي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب .
قالوا : وأقام رسول الله صلّى الله عليه وأصحابه في ما وصف الله عزّ وجلّ من الخوف والشدّة لتظاهر عدوّهم عليهم وإتيانهم مِنْ فَوْقِهم ومن أسفل منهم ، ثمّ إنّ نعيم بن مسعود بن عامر بن ( أنيف ) بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن حلاوة بن أشجع بن زيد بن غطفان أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله إنّي قد أسلمت وإنَّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه : إنّما أنت فينا رجل واحد ، فخَذِّل عنّا إنْ استطعت فإنّ الحرب خدعة .
فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بني قريظة ، وكان لهم نديماً في الجاهلية ، فقال لهم : يا بني قريظة ، قد عرفتم ودّي إيّاكم وخاصّة ما بيني وبينكم ، قالوا : صدقت لست عندنا بمتّهم ، فقال لهم : إنّ قريشاً وغطفان جاءوا لحرب محمّد ، وقد ظاهرتموهم عليه ، وإنّ قريشاً وغطفان ليسوا ( كهيئتكم ) ، البلد بلدكم به أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم لا تقدرون على أنْ تحولوا عنه إلى غيره ، وإنّ قريشاً وغطفان أموالهم وأبناؤهم ونساؤهم بغيره ، وإنْ رأوا نهزة وغنيمة أصابوها ، وإنْ كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ، والرجل ببلدكم لا طاقة لكم به إنْ خلا بكم ، فلا تقاتلوا القوم حتى تأخذوا رهناً من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أنْ يقاتلوا معكم محمّداً حتى تناجزوه ، فقالوا : لقد أشرتَ برأي ونصح . ثمّ خرج حتى أتى قريشاً فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش : يا معشر قريش قد عرفتم ودّي إيّاكم وفراقي محمّداً ، وقد بلغني أمر رأيت أنَّ حقّاً عليَّ أنْ أبلّغكموه نصحاً لكم فاكتموا عليَّ . قالوا : نفعل .
قال : تعلمُون أنَّ معشر اليهود قد ندموا على ما صنعوا في ما بينهم وبين محمد ، وقد أرسلوا إليه ، أنْ قد ندِمنا على ما فعلنا ، فهل يرضيك عنّا أنْ نأخذ من القبيلتين من قريش وغطفان رجالاً من أشرافهم ( فنعطيكم ) فتضرب أعناقهم ، ثمّ نكون معك على من بقي منهم ؟
فأرسل إليهم أنْ نَعَم ، فإن بعث إليكم اليهود يلتمسون منكم رهناً من رجالكم فلا تدفعوا
(8/17)
" صفحة رقم 18 "
إليهم منكم رجلاً واحداً ، ثمّ خرج حتّى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان أنتم أصلي وعشيرتي وأحبّ الناس إليَّ ولا أراكم تتّهموني ، قالوا : صدقت ، قال : فاكتموا عليَّ قالوا : نفعل ، ثمّ قال لهم مثل ما قال لقريش وحذّرهم ما حذّرهم ، فلمّا كانت ليلة السبت في شوّال سنة خمس ، وكان ممّا صنع الله برسوله ، أرسل أبو سفيان ورؤوس غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل في نفر من قريش وغطفان ، فقالوا لهم : إنّا لسنا بدار مقام ، قد هلك الخف والحافر ، فاغدوا للقتال حتّى نناجز محمّداً ونفرغ ممّا بيننا وبينه .
فأرسلوا إليهم : إنّ اليوم السبت ، وهو يوم لا يُعمل فيه شيئاً ، وكان قد أحدث بعضنا فيه حدثاً فأصابه ما لم يخفَ عليكم ولسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمّداً ، فإنّا نخشى إنْ ( ضرستكم ) الحرب واشتدّ عليكم القتال تسيروا إلى بلادكم ، وتتركونا والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك من محمّد .
فلمّا رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة ، قالت قريش وغطفان : تعلمون والله إنّ الذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ ، فأرسلوا إلى بني قريظة ، إنّا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا ، فإن كنتم تريدون القتال ، فاخرجوا فقاتلوا .
فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا : إنّ الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقّ ، ما يريد القوم إلاّ أنْ تقاتلوا ، فإنْ وجدوا فرصة انتهزوها ، وإنْ كان غير ذلك إنشمروا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل في بلادكم ، فأرسلوا إلى قريش وإلى غطفان : إنّا والله لا نقاتل معكم حتّى تعطونا رهناً ، فأبوا عليهم وخذل الله بينهم ، وبعث الله تعالى عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد ، حتّى انصرفوا راجعين والحمد لله ربّ العالمين .
قال الله تعالى : ) وَإِذْ زَاغَتِ ( مالت ) الأَبْصَارُ ( وشخصت ) وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ( فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحلوق من الفزع ) وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونا ( فأمّا المنافقون فظنّوا أنَّ محمّداً وأصحابه سيُغلبون ويُستأصلون ، وأمّا المؤمنون فأيقنوا أنّ ما وعدهم الله حقّ ( من ) أنّه سيظهر دينه على الدين كلّه ولو كره المشركون .
واختلف القرّاء في قوله : الظُّنُونَا والرسولا والسبيلا ، فأثبت الألفات فيها وصلاً ووقفاً ، أهل المدينة والشام وأيّوب وعاصم برواية أبي بكر ، وأبو عمر برواية ابن عبّاس . والكسائي برواية قتيبة ، قالوا : إنّ ألفاتها ثابتة في مصحف عثمان وسائر مصاحف البلدان . وقرأها أبو عمرو في سائر الروايات وحمزة ويعقوب بغير ( ألف ) في الحالين على الأصل .
وقرأ الباقون بالألف في الوقف دون الوصل ، واحتجّوا بأنّ العرب تفعل ذلك في قوافي
(8/18)
" صفحة رقم 19 "
أشعارهم ومصاريعها فتلحق بالألف في موضع الفتح عند الوقوف ولا تفعل ذلك في حشو الأبيات ، فحسن إثبات الألف في هذه الحروف لأنّها رؤوس الآي تمثيلاً لها بالقوافي .
الأحزاب : ( 11 ) هنالك ابتلي المؤمنون . . . . .
قوله عزّ وجلّ : ) هُنَالِكَ ابْتُلِىَ الْمُؤْمِنُونَ ( أي أُختبروا ومحّصوا ليعرف المؤمن من المنافق ) وَزُلْزِلُوا ( وحُرّكوا وخوّفوا ) زِلْزَالا ( تحريكاً ) شَدِيداً ( وقرأ عاصم الحجدري ( زلزالاً ) بفتح الزاي وهما مصدران .
الأحزاب : ( 12 ) وإذ يقول المنافقون . . . . .
) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ ( يعني معتب بن قشير وأصحابه ) وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ( شكّ وضعف اعتقاد ) مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً }
الأحزاب : ( 13 ) وإذ قالت طائفة . . . . .
) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ( أي من المنافقين وهم أوس بن قبطي وأصحابه ، وقال مُقاتل : هم من بني سالم ) يَا أَهْلَ يَثْرِبَ ( يعني المدينة . وقال أبو عبيدة : يثرب اسم أرض ، ومدينة الرسول ( عليه السلام ) في ناحية منها . ) لاَ مقَامَ لَكُمْ ( قراءة العامّة بفتح الميم ، أي لا مكان لكم تقيمون فيه . وقرأ السّلمي بضم الميم ، أي لا إقامة لكم ، وهي رواية حفص عن عاصم ) فَارْجِعُوا ( إلى منازلكم أمروهم بالهرب من عسكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
قال ابن عبّاس : قالت اليهود لعبد الله بن أُبي وأصحابه من المنافقين : ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيدي أبي سفيان وأصحابه فارجعواإلى المدينة فرجعوا ) وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ ( في الرجوع إلى منازلهم وهم بنو حارثة بن الحرث ) يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ( أي هي خالية ( ضائعة ( وهي ممّا يلي العدوّ ، وإنّا نخشى عليها العدوّ والسرّاق . وقرأ ابن عبّاس وأبو رجاء العطاردي عورة ، بكسر الواو يعني قصيرة الجدران فيها خلل وفرجة ، والعرب تقول : دار فلان عورة ، إذا لم تكن حصينة ، وقد اعور الفارس إذا بدا فيه خلل الضرب ، قال الشاعر :
متى تلقهم لا تلقى في البيت معوراً
ولا الضيف مفجوعا ولا الجار مرملا
قال الله تعالى : ) وَمَا هِيَ بِعَوْرَة إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً }
الأحزاب : ( 14 ) ولو دخلت عليهم . . . . .
) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ ( يقول لو دخل عليهم هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم المدينة ) مِنْ أَقْطَارِهَا ( جوانبها ونواحيها ، واحدها قطر وفيه لغة أخرى قطرٌ وأقطار .
) ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ ( الشرك ) لآاتَوْهَا ( قراءة أهل الحجاز بقصر الألف ، أي لجاؤوها وفعلوها ورجعوا عن الإسلام وكفروا ، وقرأ الآخرون بالمدّ ، أي لأعطوها . وقالوا : إذا كان سؤال كان إعطاء ) وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا ( وما احتبسوا عن الفتنة ) إِلاَّ يَسِيراً ( ولأسرعوا الإجابة إليها طيبة بها أنفسهم ، هذا قول أكثر المفسِّرين ، وقال الحسن والفراء : وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلاّ قليلاً حتى يهلكوا
الأحزاب : ( 15 ) ولقد كانوا عاهدوا . . . . .
) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ ( أي من قبل غزوة الخندق
(8/19)
" صفحة رقم 20 "
) لاَ يُوَلُّونَ ( عدوّهم ) الأَدْبَارَ ( .
وقال يزيد بن دومان : هم بنو حارثة همّوا يوم أحُد أنْ يفشلوا مع بني سلمة ، فلمّا نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أنْ لا يعودوا لمثلها أبداً ، فذكر الله لهم الذي أعطوه من أنفسهم ، وقال قتادة : هم ناس كانوا قد غابوا عن واقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة فقالوا : لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلنّ ، فساق الله ذلك إليهم في ناحية المدينة .
وقال مقاتل والكلبي : هم سبعون رجلاً بايعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة العقبة ، وقالوا له : اشترط لربّك ولنفسك ما شئت ، فقال النبي ( عليه السلام ) : ( اشترط لربّي أنْ تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأشترط لنفسي أَنْ تمنعوني ممّا تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم وأموالكم ، قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا يارسول الله ؟ قال : لكم النصر في الدّنيا والجنّة في الآخرة )
قالوا : قد فعلنا ، فذلك عهدهم .
) وَكَانَ عَهْدُ اللهِ مَسْئُولا (
الأحزاب : ( 16 ) قل لن ينفعكم . . . . .
قوله عزّ وجلّ : ) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ ( الذي كُتب عليكم ) وَإِذاً لاَ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلا ( إلى آجالكم ، والدنيا كلّها قليل .
الأحزاب : ( 17 ) قل من ذا . . . . .
) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنْ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً ( هزيمة ) أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً ( نصرة ) وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ( .
2 ( ) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآئِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَآءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِى يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أوْلَائِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً يَحْسَبُونَ الاَْحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ وَإِن يَأْتِ الاَْحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى الاَْعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الاَْخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الاَْحْزَابَ قَالُواْ هَاذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيماً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً لِّيَجْزِىَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيراً ( 2
(8/20)
" صفحة رقم 21 "
الأحزاب : ( 18 ) قد يعلم الله . . . . .
) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ ( المثبّطين ) مِنْكُمْ ( الناس عن رسول الله صلّى الله عليه ) وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ ( تعالوا ) إِلَيْنَا ( ودُعوا محمّداً فلا تشهدوا معه الحرب فإنّا نخاف عليكم الهلاك .
) وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلا ( دفعاً وتغديراً . قال قتادة : هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يقولون لإخوانهم : ما محمّد وأصحابه إلاّ أكلة رأس ولو كانوا لحماً لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه ، دعوا هذا الرجل فإنّه هالك .
قال مقاتل : نزلت في المنافقين ، وذلك أنَّ اليهود أرسلوا إلى المنافقين ، فقالوا : ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه فإنّهم إنْ قدروا عليكم هذه المرّة لم يستبقوا منكم أحداً ، وإنَّا نشفق عليكم ، أنتم إخواننا وجيراننا هلمَّ إلينا ، فأقبل عبدالله بن أُبيّ وأصحابه على المؤمنين يعوّقونهم ويخوّفونهم بأبي سفيان ومن معه وقالوا : لئن قدروا عليكم هذه المرّة لم يستبقوا منكم أحداً ، ما ترجون من محمّد ؟ فوالله ما يريدنا بخير وما عنده خير ، ما هو إلاّ أنْ يقتلنا هاهنا ، انطلقوا بنا إلى إخواننا وأصحابنا ، يعني اليهود ، فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلاّ إيماناً واحتساباً .
وقال ابن زيد : هذا يوم الأحزاب ، انطلق رجل من عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فوجد أخاه ، وبين يديه شواء ورغيف ونبيذ ، فقال له : أنت هاهنا في الشواء والنبيذ والرغيف ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بين الرماح والسيوف ، فقال له ( أخوه ) : هلمَّ إلى هذا فقد ( تبع ) بك وبصاحبك ، والذي تحلف به لا يستقيلها محمّدٌ أبداً ، فقال : كذبت والذي تحلف به ، وكان أخوه من أبيه وأُمّه ، أما والله لأخبرنَّ النبي صلّى الله عليه أمرك ، فذهب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليخبره فوجده قد نزل جبرائيل ( عليه السلام ) بهذه الآية .
الأحزاب : ( 19 ) أشحة عليكم فإذا . . . . .
قوله : ) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ( أي بخلاء بالخير والنفقة في سبيل الله وعند قَسم الغنيمة ، وهي نصب على الحال والقطع من قوله : ) وَلاَ يَأْتُون الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً ( وصفهم الله بالجبن والبخل .
) فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ ( في رؤوسهم من الخوف والجبن ) كَالَّذِي ( أي كدوران عين الذي ) يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ ( عصوكم ورموكم ) بِأَلْسِنَة حِدَاد ( ذربة جمع حديد ، ويقال للخطيب الفصيح اللسان الذرب اللسان ، مسلق ومصلق وسلاق وصلاق وأصل السلق الضرب .
وقال قتادة : يعني بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسم الغنيمة ، يقولون : أعطونا أعطونا فإنّا قد شهدنا معكم القتال فلستم بأحقّ بالغنيمة منّا ، فأمّا عند الغنيمة فأشحّ قوم وأسوأ مقاسمة ، وأمّا
(8/21)
" صفحة رقم 22 "
عند البأس فأجبن قوم وأخذلهم للحقّ .
) أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ( يعني الغنيمة ) أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ( .
الأحزاب : ( 20 ) يحسبون الأحزاب لم . . . . .
قوله : ) يَحْسَبُونَ ( يعني هؤلاء المنافقين ) الأَحْزَابَ ( يعني قريشاً وغطفان واليهود الذين تحزبوا على عداوة رسول الله صلّى الله عليه ومخالفته أي اجتمعوا ، والأحزاب الجماعات واحدهم حزب . ) لَمْ يَذْهَبُوا ( ولم ينصرفوا عن قتالهم وقد انصرفوا منهم جماعةً وفرقاً . ) وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ ( إن يرجعوا إليكم كرّةً ثانية .
) يَوَدُّوا ( من الخوف والجبن ) لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ ( خارجون إلى البادية ) فِي الأَعْرَابِ ( أي معهم ) يَسْأَلُونَ ( قراءة العامّة بالتخفيف ، وقرأ عاصم الحجدري ويعقوب في رواية رويس وزيد مشدّدة ممدودة بمعنى يتساءلون أي يسأل بعضهم بعضاً .
) عَنْ أَنْبَائِكُمْ ( أخباركم وما آل إليه أمركم ) وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ ( يعني هؤلاء المنافقين ) مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلا ( رياءً من غير حسبة ، ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيراً .
الأحزاب : ( 21 ) لقد كان لكم . . . . .
قوله تعالى : ) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ ( محمّد صلّى الله عليه ) أُسْوَةٌ ( قدوة ) حَسَنَةٌ ( قرأ عاصم هاهنا وفي سورة الامتحان ( أُسْوَةٌ ) بضمّ الألف وقرأهما الآخرون بالكسر وهما لغتان مثل عُدوة وعِدوة ورُشوة ورِشوة وكُسوة وكِسوة . وكان يحيى بن ثابت يكسرها هنا ويضمّ الأُخرى .
قال أبو عبيد : ولا نعرف بين ما فَرَّقَ يحيى فرقاً .
قال المفسِّرون : يعني ) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ( سنّة صالحة أنْ تنصروه وتؤازروه ولا تتخلّفوا عنه ولا ترغبوا بأنفسكم عن نفسه وعن مكان هواه ، كما فعل هو إذ كسرت رباعيته ، وجرح فوق حاجبة وقتل عمّه حمزة ، وأُوذي بضروب الأذى فواساكم مع ذلك بنفسه ، فافعلوا أنتم أيضاً كذلك واستنّوا بسنّته .
) لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً ( في الرخاء والبلاء . ثمّ ذكر المؤمنين وتصديقهم بوعود الله تعالى فقال :
الأحزاب : ( 22 ) ولما رأى المؤمنون . . . . .
) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا ( تسليماً لأمر الله وتصديقاً لوعده ) هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ ( .
ووعد الله تعالى إيّاهم قوله : ) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدخُلُوا الجَّنَةَ وَلَمَّا يَأتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوا مِنْ قَبْلِكُمْ ( إلى قوله : ) ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيب ( .
) وَمَا زَادَهُمْ ( ذلك ) إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً ( .
(8/22)
" صفحة رقم 23 "
الأحزاب : ( 23 ) من المؤمنين رجال . . . . .
قوله : ) مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ( فوفوا به ) فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ( يعني فرغ من نذره ووفى بعهده فصبر على الجهاد حتى استشهد ، والنحب النذر ، والنحب أيضاً الموت . قال ذو الرمّة :
عشية فر الحارثيون بعدما
قضى نحبه من ملتقى القوم هوبر
أي مات . قال مقاتل : قضى نحبه يعني أجله ، فقتل على الوفاء ، يعني حمزة وأصحابه . وقيل : قضى نحبه أي ( أجهده ) في الوفاء بعهده من قول العرب : نحبَ فلان في سيره يومه وليلته أجمع ( إذا مد ) فلم ينزل . قال جرير :
( بطخفة ) جالدنا الملوك وخيلنا
عشية بسطام جرين على نحب
) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ( الشهادة ) وَمَا بَدَّلُوا ( قولهم وعهدهم ونذرهم ) تَبْدِيلا ( .
أخبرنا عبدالله بن حامد قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدّثنا عبدالله بن هاشم قال : حدّثنا نهر بن أسد عن سليمان بن المغيرة عن أنس قال : وأخبرنا أحمد بن عبدالله المرني ، عن محمد بن عبدالله بن سليمان ، عن محمد بن العلاء عن عبدالله بن بكر السهمي ، عن حميد عن أنس قال : غاب عمّي أنس بن النضر وبه سميت أنس عن قتال بدر فشقّ عليه لما قدم وقال : غبت عن أوّل مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه ، والله لئن أشهدني الله عزّ وجلّ قتالاً ليرينّ الله ما أصنع .
قال : فلمّا كان يوم أحُد انكشف المسلمون فقال : اللّهم إنّي أبرءُ إليك ممّا جاء به هؤلاء المشركون ، وأعتذر إليك ممّا صنع هؤلاء ، يعني المسلمين ، ثمّ مشى بسيفه فلقيه سعد بن معاذ ، فقال : أي سعد والذي نفسي بيده إنّي لأجد ريح الجنّة دون أُحد .
قال سعد : فما استطعت يا رسول الله ما صنع أنس ، فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة من بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم ، وقد مثّلوا به ، وما عرفناه حتى عرفته أُخته بثناياه ، ونزلت هذه الآية ) مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ( .
قال : فكنا نقول : نزلت فيه هذه الآية وفي أصحابه . وأخبرنا عبدالله بن حامد عن أحمد ابن محمد بن شاذان عن جيغويه بن محمد الترمذي ، عن صالح بن محمد ، عن سليمان بن
(8/23)
" صفحة رقم 24 "
حرب ، عن حزم ، عن عروة عن عائشة في قوله : مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ قالت : منهم طلحة بن عبيدالله ثبت مع رسول الله صلّى الله عليه حتى أُصيبت يده ، فقال رسول الله صلّى الله عليه : أوجب طلحة الجنّة .
وبإسناده عن صالح عن مسلم بن خالد عن عبدالله بن أبي نجيح أنَّ طلحة بن عبيدالله يوم أحُد كان محتصناً للنبيّ ( عليه السلام ) في الخيل وقد بُهر النبيّ صلّى الله عليه قال : فجاء سهم عابر متوجّهاً إلى النبيّ صلّى الله عليه فاتّقاه طلحة بيده فأصاب خنصره فقال : ( حَس ) ثمّ قال : بسم الله ، فقال النبيّ ( عليه السلام ) : ( لو أنَّ بها بدأت لتخطفتك الملائكة حتى تدخلك الجنّة ) .
وروى معاوية بن إسحاق ، عن عائشة بنت طلحة ، عن عائشة أُمّ المؤمنين قالت : إنّي لفي بيتي ورسول الله صلّى الله عليه وأصحابه في الفناء وبيني وبينهم الستر إذ أقبل طلحة فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سرّه أنْ ينظر إلى رجل يمشي على الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة ) .
وأخبرني أبو عبدالله بن فنجويه قال : أخبرني أبو محمد عبدالله بن محمد بن سليمان بن بابويه بن قهرويه قال : أخبرني أبو عبدالله أحمد بن الحسين بن عبدالجبّار الصوفي ، عن محمد ابن عبّاد الواسطي ، عن مكي بن إبراهيم ، عن الصلت بن دينار ، عن ابن نضر ، عن جابر ، عن أبي عبدالله قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه يقول : ( مَنْ سرّه أنْ ينظر إلى شهيد يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله ) .
الأحزاب : ( 24 - 25 ) ليجزي الله الصادقين . . . . .
) لِيَجْزِىَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ( من قريش وغطفان ) بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً ( نصراً وظفراً ) وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ( بالملائكة والريح ) وَكَانَ اللهُ قَوِيّاً عَزِيزاً ( .
قوله عزّ وجلّ : ) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ ( يعني عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأهل الإيمان وهم بنو قريظة ، وذلك أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لمّا أصبح من الليلة التي انصرف الأحزاب راجعين إلى بلادهم ، وانصرف ( عليه السلام ) والمسلمون من الخندق راجعين إلى المدينة ، ووضعوا السلاح ، فلمّا كان الظهر أتى جبرائيل رسول الله صلّى الله عليه ( معتماً ) بعمامة من استبرق على بغلة عليها رحالة ، عليها قطيفة من ديباج ، ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عند زينب بنت جحش ، وهي تغسل رأسه وقد غسلت شقّة فقال : قد وضعتَ السلاح يا رسول الله ؟ قال
(8/24)
" صفحة رقم 25 "
نعم ، قال جبرائيل : عفا الله عنك ، ما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين ليلة ، وما رجعت الآن إلاّ من طلب القوم ، إنّ الله يأمرك يا محمّد بالسير إلى بني قريظة ( وأنا عامدٌ إلى بني قريظة ) فانهض إليهم ، فإنّي قد قطعت أوتارهم وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبلبال ، فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) منادياً ، فأذَّن إنَّ من كان سامعاً مطيعاً لا يصلّين العصر إلاّ في بني قريظة .
وقدّم رسول الله صلّى الله عليه عليّ بن أبي طالب برايته إليهم وابتدرها الناس ؛ فسار علي ابن أبي طالب حتّى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة ( على ) رسول الله صلّى الله عليه منهم ، فرجع حتّى لقي رسول الله صلّى الله عليه بالطريق وقال : يارسول الله لا عليك أنْ لا تدنو من هؤلاء الأخابث .
قال : لِمَ ؟ أظنّك سمعت لي منهم أذى . قال : نعم يارسول الله ، قال : لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً ، فلمّا دنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من حصونهم قال : يا إخوان القردة والخنازير هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته ؟ قالوا : يا أبا القاسم ما كنت جهولاً .
ومرّ رسول الله صلّى الله عليه على أصحابه بالصورين قبل أنْ يصل إلى بني قريظة فقال : هل مرَّ بكم أحد ؟ فقالوا : يا رسول الله لقد مرَّ بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذاك جبرائيل بُعث إلى بني قريظة ، يزلزل بهم حصونهم ، ويقذف الرعب في قلوبهم ، فلمّا أتى رسول الله صلّى الله عليه بني قريظة نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم يقال لها يراقا ، فتلاحق به الناس فأتاه رجال من بعد العشاء الآخرة ولم يصلّوا العصر ، لقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يصلّين أحدكم العصر إلاّ في بني قريظة ، فصلّوا العصر بها بعد صلاة العشاء الآخرة ، فما عابهم الله بذلك في كتابه ، ولا عنّفهم به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
قال : وحاصرهم رسول الله خمساً وعشرين ليلة حتّى جهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب ، وقد كان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان ، وقال كعب بن أسد بما كان عاهده ، فلمّا أيقنوا بأنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غير منصرف عنهم حتّى يناجزهم ، قال كعب بن أسد لهم : يا معشر اليهود إنّه قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإنّي عارض عليكم خِلالاً ثلاث ، فخذوا أيّها شئتم ، فقالوا : وما هنّ ؟ قال : نتابع هذا الرجل ونصدّقه فوالله لقد تبيّن لكم أنّه نبيّ مرسل ، وأنّه لَلذي كنتم تجدونه في كتابكم ، فتأمنوا على دياركم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم ، قالوا : لا نفارق حكم التوراة أبداً ولا نستبدل به غيره .
قال : فإذا أبيتم هذه فهلمّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثمّ نخرج إلى محمّد وأصحابه رجالاً
(8/25)
" صفحة رقم 26 "
مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلاً يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئاً نخشى عليه ، وإنْ نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء ، فقالوا : نقتل هؤلاء المساكين فلا خير في العيش بعدهم .
قال : فإنْ أبيتم على هذه فإنّ الليلة ليلة السبت ، وأنّه عسى أنْ يكون محمّد وأصحابه قد أمنوا فيها ، فانزلوا لعلّنا أنْ نصيب من محمّد وأصحابه غرّة ، قالوا : نفسد سبتنا ونُحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا ممّن قد علمت ، فأصابهم من المسخ ما لم يَخْفَ عليك . قال : ما بات رجل منكم منذ ولدته أُمّه بليلة واحدة من الدهر حازما . قال : ثمّ إنّهم بعثوا إلى رسول الله صلّى الله عليه أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا ، فأرسله رسول الله صلّى الله عليه إليهم ، فلمّا رأوه قام إليه الرجال ونهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه ، فَرَقَّ لهم ، وقالوا : يا أبا لبابة أترى أنْ ننزل على حكم محمّد ؟ قال : نعم ، وأشار بيده إلى حلقه ، إنّه الذبح .
قال أبو لبابة : فوالله ما زالت قدماي حتّى عرفت أنّي قد خنت الله ورسوله ، ثمّ انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأتِ رسول الله صلّى الله عليه حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده ، وقال : لا أبرح مكاني حتّى يتوب الله عليَّ ممّا صنعت ، وعاهد الله لا يطأ بني قريظة ، ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبداً .
فلمّا بلغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خبره وأبطأ عليه ، قال : أما لو جاءني لاستغفرت له ، فأمّا إذ فَعَل فما أنا بالذي أُطلقه من مكانه حتّى يتوب الله عليه ، ثمّ إنّ الله تعالى أنزل توبة أبي لبابة على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو في بيت أُمّ سلمة وقالت أُمّ سلمة : فسمعت رسول الله صلّى الله عليه من السَّحَر يضحك فقلت : مِمَّ ضحكت يارسول الله أضحك الله سنّك ؟
قال : تيب على أبي لبابة ، فقالت : ألا أُبشّره بذلك يارسول الله ؟ قال : بلى إنْ شئت قال : فقامت على باب حجرتها ، وذلك قبل أن يضرب الحجاب عليهن . فقالت : يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك ، قال : فسار إليه الناس ليطلقوه ، فقال : لا والله حتّى يكون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو الذي يطلقني بيده . فلمّا مرَّ عليه خارجاً إلى الصبح أطلقهُ .
قال : ثمّ إنَّ ثعلبة بن شعبة وأسيد بن شعبة وأسيد بن عبيد وهم نفر من بني هزل ليسوا من بني قريظة ولا النضير ، نسبهم فوق ذلك وهم بنو عم القوم ، أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها قريظة على حكم رسول الله صلّى الله عليه وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدي القرظي ، فمرّ بحرس رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعليها محمد بن مسلمة الأنصاري في تلك الليلة ، فلمّا رآه قال : مَنْ هذا ؟ قال : عمرو بن سعدي ، وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلّى الله عليه وقال : لا أغدر بمحمّد أبداً ، فقال محمّد بن مسلمة حين عرفه : اللهمّ لا تحرمني
(8/26)
" صفحة رقم 27 "
عثرات الكرام ، ثمّ خلّى سبيله ، فخرج على وجهه ، حتّى بات في مسجد رسول الله صلّى الله عليه بالمدينة تلك الليلة ، ثمّ ذهب فلا يُدرى أين ذهب من أرض الله إلى يومه هذا ، فذُكر لرسول الله صلّى الله عليه شأنه فقال : ذاك رجل نجّاه الله بوفائه .
وبعض الناس يزعم أنّه أُوثق برمّة فيمن أُوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه ، فأصبحت رمَّته ملقاة لا يُدرى أين ذهب ، فقال رسول الله صلّى الله عليه تلك المقالة والله أعلم .
فلمّا أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وتواثبت الأوس ، فقالوا : يا رسول الله إنّهم موالينا دون الخزرج ، وقد فعلت في موالي الخزرج بالأمس ما قد علمت ، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه قبل بني قريظة حاصر بني قينقاع ، وكانوا حلفاء الخزرج ، فنزلوا على حكمه فسألهم إيّاه عبدالله بن أبي سلول فوهبهم له ، فلمّا كلّمته الأوس قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا ترضون يا معشر الأوس أنْ يحكم فيهم رجل منكم ) ؟ قالوا : بلى .
قال : ( فذلك إلى سعد بن معاذ ) ) . وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في خيمة امرأة من المسلمين ، يقال لها ( رفيدة ) في مسجده ، وكانت تداوي الجرحى ، وتحبس نفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين . وكان رسول الله صلّى الله عليه قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق : ( اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب ) .
فلمّا حكّمه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في بني قريظة ، أتاه قومه فاحتملوه على حمار ، وقد وطئوا لهُ بوسادة من أدم ، وكان رجلاً جسيماً ، ثمّ أقبلوا معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وهم يقولون : يا أبا عمرو أحسن في موإليك ، فإنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنّما ولاّك ذاك لتحسن فيهم ، فلمّا أكثروا عليه قال : قد أتى لسعد أنْ لا تأخذه في الله لومة لائم ، فرجع بعض من كان معه إلى دار بني عبد الأشهل فنعي لهم رجال بني قريظة قبل أنْ يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه .
فلمّا انتهى رسول الله صلّى الله عليه قال : قوموا إلى سيّدكم فأنزلوه . فقاموا إليه فقالوا : يا أبا عمرو إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد ولاّكَ مواليك لتحكم فيهم ، فقال سعد : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أنّ الحكم فيها ما حكمت ؟ قالوا : نعم ، قال : وعليّ من هاهنا في الناحية التي فيها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو معرض عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إجلالاً له ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نعم .
قال سعد : فإنّي أحكم فيهم ، أنْ يُقتل الرجال ، وتُقسم الأموال ، وتسبى النساء والذراري ،
(8/27)
" صفحة رقم 28 "
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لسعد : لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ، ثمّ استنزلوا فحبسهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في دار بنت الحارث امرأة من بني النجّار ، ثمّ خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم ، فخندق بها خندقاً ثمّ بعث إليهم فضرب أعناقهم ، فهم في تلك الخنادق يخرج بهم إليه أرسالاً وفيهم عدوّ الله حيي بن أخطب ، وكعب بن أسد رأس القوم وهم ستمائة أو سبعمائة والمكثر لهم يقول : كانوا من الثمانمائة إلى التسعمائة .
وقيل : قالوا لكعب بن أسد وهو يذهب بهم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أرسالاً : يا كعب ما ترى أنْ يُصنع بنا ؟ فقال كعب : في كلّ موطن لا تعقلون ألا ترون أنّ الداعي لا ينزع وأنَّ مَن يذهب به منكم لا يرجع ، هو والله القتل . فلم يزل ذلك دأبهم حتى فرغ منهم رسول الله صلّى الله عليه وأُتي بحيي بن أخطب عدوّ الله وعليه حلة تفاحية قد شققها عليه من كلّ ناحية كموضع الأنملة ( أنملة أنملة ) لئلاّ يسلبها ، مجموعه يداه إلى عنقه بحبل ، فلمّا نظر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : أما والله ما لمتُ نفسي في عداوتك ، ولكنّه مَن يخذل الله يُخذلِ ، ثمّ أقبل على الناس ، فقال : أيّها الناس ، إنّه لا بأس بأمر الله ، كتاب الله وقدره ، وملحمة كتبت على بني إسرائيل ، ثمّ جلس فضربت عنقه فقال هبل بن حواس ( الثعلبي ) :
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه
ولكنه من يخذل الله يخذل
يجاهد حتى أبلغ النفس عذرها
وقلقل يغبي العز كل مقلقل
وروى عروة بن الزبير عن عائشة قالت : لم يقتل من نساء بني قريظة إلاّ امرأة واحدة ، قالت : والله إنّها لعندي تتحدّث معي وتضحك ظهراً ، ورسول الله صلّى الله عليه يقتل رجالهم بالسوق ؛ إذ هتف هاتف باسمها : أين فلانة ؟ قالت : أنا والله . قالت : قلت : ويلك ما لك ؟ قالت : أُقتل . قلت : ولِمَ ؟ قالت : حدثٌ أحدثته . قال : فانطلق بها فضربت عنقها ، وكانت عائشة تقول : ما أنسى كذا عجباً منها طيب نفس ، وكثرة ضحك ، وقد عرفت أنّها تُقتل .
قال الواقدي : واسم تلك المرأة بنانة امرأة الحكم القرظي ، وكانت قد قتلت خلاّد بن سويد ، رمت عليه رحا ، فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بها وضربت عنقها بخلاّد بن سويد ، وكان علي والزبير يضربان أعناق بني قريظة ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جالس هناك .
وروى محمد بن إسحاق عن الزهري أنَّ الزبير بن باطا القرظي وكان يكنى أبا عبد الرحمن كان قد مَنَّ على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية يوم بغاث أخذه فجرّ ناصيته ، ثمّ خلّى سبيله ، وجاءه يوم قريظة ، وهو شيخ كبير فقال : يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني ؟
(8/28)
" صفحة رقم 29 "
فقال : وهل يجهل مثلي مثلك ؟ قال : إنّي قد أردت أن أجزيك بيدك عندي ، قال : إنّ الكريم يجزي الكريم ، قال : ثمّ أتى ثابت رسول الله صلّى الله عليه فقال : يا رسول الله قد كان للزبير عندي يد وله عليَّ مِنَّة ، وقد أحببتُ أنْ أجزيه بها فَهَبْ لي دمه ، فقال رسول الله صلّى الله عليه : ( هو لك ) .
فأتاه فقال له : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد وهب لي دمك . فقال : شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة ؟ فأتى ثابتُ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يارسول الله أهله وولده ؟ فقال : ( هم لك ) . فأتاه فقال : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد أعطاني امرأتك وولدك فهم لك . فقال : أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك ؟ فأتى ثابت رسول الله فقال : يا رسول الله ماله . فقال : هو لك ، فأتاه فقال : إنّ رسول الله قد أعطاني مالك فهو لك . فقال أي ثابت : ما فعل الذي كأنّ وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي كعب بن أسد قال : قتل . قال : فما فعل سيد الحاضر والبادي حُيّي بن أخطب ؟ قال : قتل . قال : فما فعل مقدمنا إذا شددنا ، وحامينا إذا كررنا أعزال ابن سموأل ؟ قال : قتل . قال : فما فعل المجلسان ؟ يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة ، قال : ذهبوا قتلوا ، قال : وإنّي اسألك بيدي عندك يا ثابت إلاّ ألحقتني بالقوم ، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير ، فها أنا صابر لله حتى ألقى الأحبّة ، فقدّمه ثابت فضرب عنقه ، فلمّا بلغ قوله أبا بكر ألقى الأحبّة ، فقال : يلقاهم والله في نار جهنّم خالداً فيها مخلّداً أبداً ، فقال ثابت بن قيس في ذلك :
وفت ذمّتي إني كريم وإنّني
صبور إذا ما القوم حادوا عن الصبرِ
وكان زبير أعظم الناس منّةٌ
عليَّ فلما شد كوعاه بالأسرِ
أتيت رسول الله كي ما أفكّه
وكان رسول الله بحراً لنا يجري
قالوا : وكان رسول الله صلّى الله عليه قد أمر بقتل من أُسر منهم ، فسألته سليمى بنت قيس أُمّ المنذر أُخت سليط بن قيس وكانت إحدى خالات رسول الله صلّى الله عليه وكانت قد صلّت معه القبلتين وبايعته بيعة النساء رفاعةً بن سموأل القرظي وكان رجلاً قد بلغ ، فَلاذَ بها وكان يعرفها قبل ذلك فقالت : يا نبي الله بأبي أنت وأُمّي هب لي رفاعة بن سموأل ، فإنّه زعم أنّه سيصلّي ويأكل لحم الجمل ، فوهبه لها ( فاستحيته ) قالوا : ثمّ إنَّ رسول الله صلّى الله عليه قَسَّم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين ، وأعلم في ذلك اليوم سهمان للخيل وسهمان للرجال ، وأخرج منها الخمس ، وكان للفارس ثلاثة أسهم : للفرس سهمان وللفارس سهم ، وللرّاجل ممّن ليس له فرس سهم ، وكانت الخيل يوم بني قريظة ستّة وثلاثون فرساً ،
(8/29)
" صفحة رقم 30 "
وكان أوّل فيء وقع فيه السهمان ، وأخرج منه الخمس فعلى سنتها وما مضى من رسول الله فيها وقعت المقاسم ومضت السنّة في المغازي ، ثمّ بعث رسول الله صلّى الله عليه سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الأشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع له بهم خيلاً وسلاحاً .
وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن حنافة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة فكانت عند رسول الله صلّى الله عليه حتى توفّي عنها وهي في ملكه ، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه يحرص أنْ يتزوّجها ويضرب عليها الحجاب ، فقالت : يارسول الله بل تتركني في ملكك فهو أخفّ عليَّ وعليك فتركها ، وقد كانت حين سباها كرهت الإسلام وأبتْ إلاّ اليهودية ، فعزلها رسول الله صلّى الله عليه ووجد في نفسه بذلك من أمرها ، فبينا هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه ، فقال : إنّ هذا لثعلبة بن شعبة يبشِّرني بإسلام ريحانة ، فجاءَه فقال : يا رسول الله قد أسلمت ريحانة فسرّه ذلك .
فلمّا انقضى شأن بني قريظة الفجر خرج سعد بن معاذ ، وذلك أنّه دعا بعد أنْ حكم في بني قريظة ما حكم فقال : اللّهمّ إنّك قد علمت أنّه لم يكن قوم أحبّ إليَّ من أنْ أجاهدهم من قوم كذّبوا رسولك ، اللّهمّ إنْ كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئاً فأبقني لها ، وإنْ كنت قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك فانفجر كلمه فرجعه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى خيمته التي ضرب عليه في المسجد .
قالت عائشة : فحضره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر وعمر ، فوالذي نفس محمّد بيده إنّي لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإنّي لفي حجرتي ، قالت : وكانوا كما قال الله عزّ وجلّ : ) رُحَمَاءَ بَيْنَهُمُ ( .
قال علقمة : ( أي أمّه ) كيف كان يصنع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قالت : كانت عينه لا تدمع على أحد ، ولكنّه كان إذا اشتدّ وجده فإنّما هو آخذ بلحيتهِ ، قال محمّد بن إسحاق : لم يقتل من المسلمين يوم الخندق إلاّ ستّة نفر ، وقتل من المشركين ثلاثة نفر ، وقتل يوم قريظة من المسلمين خلاّد بن سويد بن ثعلبة طرحت عليه رحى فشدخته فقط .
ولمّا انصرف رسول الله صلّى الله عليه من الخندق وقريظة قال : الآن نغزوهم يعني قريشاً ولا يغزوننا ، فكان كذلك حتّى فتح الله على رسوله مكّة ، وكان فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس للهجرة فذلك قوله الله عزّ وجلّ :
الأحزاب : ( 26 ) وأنزل الذين ظاهروهم . . . . .
) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظهَرُهُم مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب
(8/30)
" صفحة رقم 31 "
مِنْ صَيَاصِيهِمْ ( أي حصونهم ومعاقلهم ، واحدها صيصية ، ومنه قيل لقرن البقر صيصية ، ولشوكة الديك والحاكة صيصية ، وقال الشاعر :
كوقع الصياصي في النسيج الممدد
) وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ ( وهم الرجال ) وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً ( وهم النساء والذراري
الأحزاب : ( 27 ) وأورثكم أرضهم وديارهم . . . . .
) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا ( بعد . قال يزيد بن رومان وابن زيد ومقاتل : يعني خيبر . قتادة : كنّا نُحدّث أنّها مكّة . قال الحسن : فارس والروم . عكرمة : كلّ أرض تفتح إلى يوم القيامة . ) وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيراً ( .
) ياأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاَْزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الاَْخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً يانِسَآءَ النَّبِىِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً يانِسَآءَ النَّبِىِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ( 2
الأحزاب : ( 28 - 29 ) يا أيها النبي . . . . .
قوله : ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ ( متعة الطلاق ) وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلا وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ ( فأطعتنهما ) فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ( قال المفسِّرون : كان أزواج النبي صلّى الله عليه سألنه شيئاً من عرض الدنيا وآذينه بزيادة النفقة والغيرة ، فهجرهن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وآلى أنْ لا يقربهن شهراً ، ولم يخرج إلى أصحابه صلوات ، فقالوا : ما شأنه ؟ فقال عمر : إنْ شئتم لأعلمن لكم ما شأنه ، فأتى النبي ( عليه السلام ) فجعل يتكلّم ويرفع صوته حتى أذن له ، قال : فجعلت أقول في نفسي : أيّ شيء أُكلِّم به رسول الله صلّى الله عليه لعلّه ينبسط ؟ فقلت : يا رسول الله لو رأيت فلانة وسألتني النفقة ، فصككتها صكّة فقال : ذلك أجلسني عنكم .
فأتى عمر حفصة فقال : لا تسألي رسول الله شيئاً ما كانت لكِ من حاجة فإليّ ، قال : ثمّ تتبّع نساء النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فجعل يكلِّمهنّ ، فقال لعائشة : أيعزّك أنّكِ امرأة حسناء وأنّ زوجك يحبّكِ لتنتهن أو لينزلن فيكنّ القرآن ، قال : فقالت له أُمّ سلمة : يابن الخطّاب أوما بقي لك إلاّ أنْ تدخل بين رسول الله وبين نسائه ؟ مَن يسأل المرأة إلاّ زوجها ؟ فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآيات .
وكانت تحت رسول الله صلّى الله عليه يومئذ تسع نسوة ، خمس من قريش عائشة بنت أبي
(8/31)
" صفحة رقم 32 "
بكر ، وحفصة بنت عمر ، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأمّ سلمة بنت أبي أمية ، وصفية بنت حيي الخيبرية ، وميمونة بنت الحرث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحرث المصطلقية ، فلمّا نزلت آية التخيير بدأ رسول الله صلّى الله عليه بعائشة ، وكانت أحبّهنّ إليه ، فخيّرها وقرأ عليها القرآن ، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة ، فَرؤيَ الفرح في وجه رسول الله صلّى الله عليه وتابعنها على ذلك .
قال قتادة : فلمّا اخترن الله ورسوله ، شكرهنّ الله على ذلك ، وقصره عليهن وقال : ( لا يحلّ لك النساء من بعد ) الآية .
أخبرنا عبدالله بن حامد عن محمد بن الحسين عن أحمد بن يوسف عن عبدالرزّاق عن معمر ، أخبرني الزهري عن عروة عن عائشة قالت : لمّا مضت تسع وعشرون ليلة دخل عليَّ رسول الله صلّى الله عليه فقلت : يا رسول الله ، إنّك أقسمت أن لا تدخل علينا شهراً وإنّك قد دخلت عليَّ من تسع وعشرين أعدّهن ، فقال : إنّ الشهر تسع وعشرون ، ثمّ قال : يا عائشة إنّي ذاكر لك أمراً فلا عليكِ أنْ لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ، قالت : ثمّ قرأ عليَّ هذه الآية : ) يا أيُّها النَّبيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا ( حتى بلغ ) أجراً عظيماً ( .
قالت عائشة : قد علم والله إنّ أبويّ لم يكونا ليأمراني بفراقه ، قالت : في هذا أستامر أبويّ ؟ فإنّي أُريد الله ورسوله والدار الآخرة . قال معمر : فحدّثني أيّوب أنّ عائشة قالت : لا تخبر أزواجك انّي اخترتك ، فقال النبي صلّى الله عليه : إنّما بعثني الله مبلِّغاً ولم يبعثني متعنّتاً .
وأخبرنا محمّد بن عبدالله بن حمدون عن ( أحمد بن محمّد بن الحسن ) عن محمد بن يحيى عن عثمان بن عمر عن يونس عن الزهري عن ( أبي ) سلمة أنّ عائشة قالت : لمّا أُمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بتخيير أزواجه بدأ بي ، فقال : إنّي مخبركِ خبراً فلا عليك أنْ لا تعجلي حتّى تستأمري أبويكِ ، ثمّ قال : إنّ الله عزّ وجلّ قال : ) يا أيُّها النَّبيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا ( حتّى بلغ ) أَجْرَاً عَظِيمَاً ( .
فقلت : أفي هذا أستأمر أبويّ ؟ فإنّي أُريد الله ورسوله والدار الآخرة . قالت : ثمّ فعل أزواج النبيّ صلّى الله عليه مثل ما فعلتُ .
الأحزاب : ( 30 ) يا نساء النبي . . . . .
قوله : ) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ ( قرأ الجحدري بالتاء . غيره بالياء . ) بِفَاحِشَة مُبَيِّنَة ( بمعصية ظاهرة ) يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ( في الآخرة ) ضِعْفَيْنِ ( وقرأ ابن عامر وابن كثير : ) نُضَعِّف ( بالنون وكسر العين مشدّداً من غير ألف ( العذاب ) نصباً
(8/32)
" صفحة رقم 33 "
وقرأ أبو عمرو ويعقوب ) يُضعَّف ( بالياء وفتح العين مشدّداً ) العذاب ( رفعاً . قال أبو عمرو : إنّما قرأت هذه وحدها بالتشديد لقوله : ) ضِعْفَيْنِ ( وقرأ الباقون نضاعف بالألف ورفع الباء من ) العذابُ ( وهما لغتان مثل باعد وبعد .
وقال أبو عمرو وأبو عبيدة : ضعفت الشيء إذا جعلته مثله ، ومضاعفته جعلته أمثاله .
) وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (
الأحزاب : ( 31 ) ومن يقنت منكن . . . . .
قوله : ) وَمَنْ يَقْنُتْ ( يطع .
قال قتادة : كلّ قنوت في القرآن فهو طاعة ( وقراءة العامة ) تقنت ( بالتاء ) وقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي وخلف ( تَعمَل ) ( نِؤْتِها ) بالياء . غيرهم بالتاء .
قال الفراء : إنّما قال ( يأتِ ) ( ويقنت ) لاِنّ مَنْ أداة تقوم مقام الاسم يعبّر به عن الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث . قال الله تعالى : ) وَمِنْهُم مَنْ يَنظرُ إليَكَ ( . وقال : ) وَمِنْهُم مَنْ يَسْتَمِعُونَ إليَكَ ( ، وقال : ) وَمَنْ يَقْنُت مِنْكُنَّ لِلّهِ ( . وقال الفرزدق في الاثنين :
تعال فإنْ عاهدتني لا تخونني
تكن مثل من يا ذئب يصطحبانِ
) مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ ( أي مثلَي غيرهن من النساء . ) وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً ( يعني الجنّة .
أخبرني أبو عبدالله بن فنجويه ، عن عبدالله بن يوسف بن أحمد بن مالك ، عن محمد بن عمران بن هارون ، عن أحمد بن منيع ، عن يزيد ، عن حمّاد بن سلمة ، عن ثابت عن أبي رافع قال : كان عمر يقرأ في صلاة الغداة بسورة يوسف والأحزاب ، فإذا بلغ
الأحزاب : ( 32 ) يا نساء النبي . . . . .
: ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ ( رفع بها صوته ، فقيل له ، فقال : أُذكّرهنّ العهد .
واختلف العلماء في حكم التخيير ، فقال عمر وابن مسعود : إذا خيّر الرجل امرأته فاختارت زوجها فلا شيء عليه ، وإنْ اختارت نفسها ( طُلّقت ) وإلى هذا ذهب مالك .
وقال الشافعي : إنْ نوى الطلاق في التخيير كان طلاقاً وإلاّ فلا . واحتجّ مَنْ لم يجعل التخيير بنفسه طلاقاً ، بقوله : ) وَأُسَرّحكُنَّ سَراحَاً جَمِيلاً ( ، وبقول عائشة : خيّرنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاخترناه ، فلم نعدّهُ طلاقاً .
(8/33)
" صفحة رقم 34 "
قوله : ) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَد مِنْ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ ( الله فأطعتنه . قال الفرّاء : لم يقل كواحدة ، لأنّ الأحد عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكّر والمؤنث . قال الله تعالى : ) لاَ نُفَرِقُ بَيْنَ أَحَد مِنْ رُسلِهِ ( وقال : ) فما منكم من أحد عنه حاجزين ( ) فَلاَ تَخْضَعْنَ ( تلنَّ ) بِالْقَوْلِ ( للرجال ) فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ( أي فجور وضعف إيمان ) وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفاً ( صحيحاً جميلاً .
( ) وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الاُْولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَواةَ وَءَاتِينَ الزَّكَواةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ( 2
الأحزاب : ( 33 ) وقرن في بيوتكن . . . . .
) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ( قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم بفتح القاف . غيرهم بالكسر ، فَمَن فتح القاف فمعناه واقررن ، أي الْزَمن بيوتكنّ ، من قولك قررتُ في المكان ، أقرّ قراراً . وقررتُ أقرُّ لغتان فحذفت الراء الأُولى التي هي عين الفعل ونقلت حركتها إلى القاف فانفتحت كقولهم في ظللت وظلْت .
قال الله تعالى : ) فظلتم تفكهون ( ) ظَلتَ عَلَيِهِ عَاكِفَاً ( والأصل ظللت فحذفت إحدى اللاّمين ، ودليل هذا التأويل قراءة ابن أبي عبلة واقررن بفتح الراء على الأصل في لغة من يقول : قررت أقرّ قراراً .
وقال أبو عبيدة : وكان أشياخنا من أهل العربية ينكرون هذه القراءة وهي جائزة عندنا مثل قوله : ) فظَلتُم ( ومن كسر القاف فهو أمر من الوقار كقولك من الوعد : عِدن ومن الوصل صِلن ، أي كنَّ أهل وقار أي هدوء وسكون وتؤدة من قولهم : وقر فلان يقر وقوراً إذا سكن واطمأن .
أخبرني أبو عبدالله بن فنجويه الدينوري قال : أخبرني أبو بكر بن مالك ، عن عبدالله بن أحمد بن حنبل قال : حدّثني أبي ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن الأعمش عن أبي الضحى قال : حدّثني من سمع عائشة تقرأ ) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ( فتبكي حتّى تبلّ خمارها .
أخبرنا عبدالله بن حامد عن محمد بن خالد ، عن داود بن سليمان ، عن عبدالله بن حميد ، عن يزيد بن هارون ، عن هشام ، عن محمد قال : نُبئت أنَّه قيل لسودة زوج النبي ( عليه السلام ) : مالكِ لا تحجّين ولا تعتمرين كما يفعلنَّ أخواتك ؟ فقالت : قد حججت واعتمرت ، وأمرني الله تعالى أنْ أقرَّ في بيتي ، فوالله لا أخرج من بيتي حتّى أموت .
(8/34)
" صفحة رقم 35 "
قال : فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أُخرجت جنازتها . قوله : ) وَلاَ تَبَرَّجْنَ ( قال مجاهد وقتادة : التبرّج التبختر التكبّر والتغنّج وقيل : هو إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال ) تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ( واختلفوا فيها . قال الشعبي : هي ما بين عيسى ومحمّد ( عليهما السلام ) . أبو العالية : هي زمن داود وسليمان وكانت المرأة تلبس قميصاً من الدرّ غير مخيط الجانبين فيرى خلفها فيه .
الكلبي : الجاهلية التي هي الزمان الذي فيه ولد إبراهيم ( عليه السلام ) ، وكانت المرأة من أهل ذلك الزمان تتّخذ الدّرع من اللؤلؤ فتلبسه ثمّ تمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره ، وتعرض نفسها على الرجال ، وكان ذلك في زمان نمرود الجبّار ، والناس حينئذ كلّهم كفّار . الحكم : هي ما بين آدم ونوح ثمانمائة سنة ، وكان نساؤهم أقبح ما يكون من النساء ورجالهم حسان . فكانت المرأة تريد الرجل على نفسها .
وروى عكرمة عن ابن عبّاس أنّه قرأ هذه الآية فقال : إنّ الجاهلية الأُولى فيما بين نوح وإدريس ( عليهما السلام ) ، وكانت ألف سنة ، وإنّ بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل ، وكان رجال الجبل صِباحاً وفي النساء دمامة وكان نساء السهل صِباحاً وفي الرجال دمامة ، وإنّ إبليس أتى رجلاً من أهل السهل في صورة غلام ، فآجَرَ نفسه منه ، فكان يخدمه ، واتّخذ إبليس شيئاً مثل الذي يزمر فيه الرّعاء ، فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله فبلغ ذلك مَن حولهم ، فانتابوه يستمعون إليه ، واتّخذوا عيداً يجتمعون إليه في السنة ، فتتبرّج النساء للرجال وتتزيّن الرجال لهنّ ، وإنّ رجلاً من أهل الجبل هجم عليهم ، وهم في عيدهم ذلك فرأى النساء وصباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك فتحوّلوا إليهم فنزلوا معهم ، فظهرت الفاحشة فيهنّ . فهو قول الله عزّ وجلّ : ) وَلاَ تَبَرَّجنَ تَبَرُّجَ الجَهِلِيَّةِ ( .
وقال قتادة : هي ما قبل الإسلام ) وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ ( الإثم الذي نهى الله النساء عنه . قاله مقاتل . وقال قتادة : يعني السوء . وقال ابن زيد : يعني الشيطان .
) أَهْلَ الْبَيْتِ ( يعني يا أهل بيت محمّد ) وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ( من نجاسات الجاهلية . وقال مجاهد ( الرِّجْسَ ) الشكّ ( وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيراً ) من الشرك .
واختلفوا في المعنيّ بقوله سبحانه ) أَهْلَ الْبَيْتِ ( فقال قوم : عنى به أزواج النبي ( عليه السلام ) خاصّة ، وإنّما ذَكّرَ الخطاب لأنّ رسول الله صلّى الله عليه كان فيهم وإذا اجتمع المذكّر والمؤنّث غُلبَ المذكّر .
أخبرنا عبدالله بن حامد ، عن محمّد بن جعفر ، عن الحسن بن علي بن عفّان قال : أخبرني أبو يحيى ، عن صالح بن موسى عن خصيف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس قال : أُنزلت
(8/35)
" صفحة رقم 36 "
هذه الآية : ) إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ ( الآية في نساء النبيّ صلّى الله عليه . قال : وتلا عبدالله : ) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ ( .
وأخبرنا عبدالله بن حامد ، عن أحمد بن محمد بن يحيى العبيدي ، عن أحمد بن نجدة عن الحماني عن ابن المبارك عن الأصبغ بن علقمة . وأنبأني عقيل بن محمد قال : أخبرني المعافى ابن زكريا عن محمّد بن جرير قال : أخبرني ( ابن ) حميد عن يحيى بن واضح عن الأصبغ بن علقمة ، عن عكرمة في قول الله تعالى : ) إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ( قال : ليس الذي تذهبون إليه ، إنّما هو في أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خاصّة .
قال : وكان عكرمة ينادي بهذا في السوق . وإلى هذا ذهب مقاتل قال : يعني نساء النبي صلّى الله عليه كلّهن ليس معهنّ رجل .
أقوال المفسِّرين والعلماء باختصاصها بأصحاب الكساء
قال أبو بكر النقّاش في تفسيره : أجمع أكثر أهل التّفسير أنّها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم ( جواهر العقدين : 198 الباب الأول ، وتفسير آية المودّة : 112 ) .
وقال سيدي محمّد بن أحمد بنيس في شرح همزيّة البوصيري : ( إنّمَا يُرِيْدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيْرَا ) أكثر المفسِّرين أنّها نزلت في عليّ وفاطمة والحسنين رضي الله عنهم ( لوامع أنوار الكوكب الدرّي : 2 86 ) .
وقال العلاّمة سيدي محمّد جسوس في شرح الشمائل : ( . . . ثمّ جاء الحسن بن عليّ فأدخله ، ثمّ جاء الحسين فدخل معهم ، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها ، ثمّ جاء عليّ فأدخله ثمّ قال : ( إنّمَا يُرِيْدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيْرَا ) ) وفي ذلك إشارة إلى أنّهم المراد بأهل البيت في الآية ) ( شرح الشمائل المحمدية : 1 107 ذيل باب ما جاء في لباس رسول الله ) .
وقال السمهودي : وقالت فرقة ، منهم الكلبيّ : هم عليّ وفاطمة والحسن والحسين خاصّة ، للأحاديث المتقدمة ( جواهر العقدين : 198 الباب الأول ) .
وقال الطّحاوي في مشكل الآثار بعد ذكر أحاديث الكساء : فدلّ ما روينا في هذه الآثار ممّا كان من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أمّ سلمة ممّا ذكرنا فيها ، لم يرد أنّها كانت
(8/36)
" صفحة رقم 37 "
ممّا اريد به ممّا في الآية المتلوّة في هذا الباب ، وأنّ المراد بما فيها هم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين دون ما سواهم ( مشكل الآثار : 1 230 ح 782 باب 106 ما روي عن النبيّ في الآية ) .
وقال بعد ذكر أحاديث تلاوة النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) الآية على باب فاطمة : في هذا أيضاً دليل على أنّ هذه فيهم ( مشكل الآثار : 1 231 ح 785 باب 106 ما روي عن النبيّ في الآية ) .
وقال الفخر الرازي : وأنا أقول : آل محمّد ( صلى الله عليه وسلم ) هم الذين يؤول أمرهم إليه ، فكلّ من كان أمرهم إليه أشدّ وأكمل كانوا هم الآل ، ولا شكّ أنّ فاطمة وعليّاً والحسن والحسين كان التعلّق بينهم وبين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أشدّ التعلّقات ، وهذا كالمعلوم بالنّقل المتواتر ؛ فوجب أن يكونوا هم الآل .
أيضاً اختلف النّاس في الآل ، فقيل : هم الأقارب ، وقيل : هم امّته ، فإن حملناه على القرابة فهم الآل ، وإن حملناه على الأمّة الذين قبلوا دعوته فهم أيضاً آل ؛ فثبت أنّ على جميع التقديرات هم الآل ، وأمّا غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل ؟
فمختلف فيه ، وروى صاحب الكشاف أنّه لمّا نزلت هذه الآية ( المودّة ) قيل : يا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ مَن قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم ؟
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( عليّ وفاطمة وابناهما ) ، فثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ وإذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التّعظيم ويدلّ عليه وجوه . . ) الخ ( تفسير الفخر الرازي : 27 166 مورد آية المودّة من سورة الشورى ) .
وقال في موضع آخر : واختلفت الأقوال في أهل البيت ، والأولى أن يقال : هم أولاده وأزواجه والحسن والحسين منهم وعليّ منهم ؛ لأنّه كان من أهل بيته بسبب معاشرته بنت النبيّ وملازمته للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( تفسير الفخر الرازي : 25 209 ) .
وقال أبو بكر الحضرمي في رشفة الصادي : ( والذي قال به الجماهير من العلماء ، وقطع به أكابر الأئمّة ، وقامت به البراهين وتظافرت به الأدلّة أنّ أهل البيت المرادين في الآية هم سيّدنا عليّ وفاطمة وابناهما . . . وما كان تخصيصهم بذلك منه صلّى الله عليه وآله وسلّم إلاّ عن أمر إلهيّ ووحي سماويّ . . . والأحاديث في هذا الباب كثيرة ، وبما أوردته منها يعلم قطعاً أنّ المراد بأهل البيت في الآية هم عليّ وفاطمة وابناهما رضوان الله عليهم ، ولا التفات إلى ما ذكره صاحب روح البيان من أنّ تخصيص الخمسة المذكورين عليهم السلام بكونهم أهل البيت من أقوال الشيعة ، لأنّ ذلك محض تهوّر يقتضي بالعجب ، وبما سبق من الأحاديث وما في كتب أهل السنّة السنيّة يسفر الصبح لذي عينين إلى أن يقول وقد أجمعت الأُمّة على ذلك فلا حاجة
(8/37)
" صفحة رقم 38 "
لإطالة الاستدلال له ) ( رشفة الصادي من بحر فضائل بني النبيّ الهادي : 13 14 16 ط . مصر و 23 و 40 ط . بيروت الباب الأول ذكر تفضيلهم بما أنزل الله في حقّهم من الآيات ) .
وقال ابن حجر : ) إنّمَا يُرِيْدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِرَكُمْ تَطْهِيْرَا ( ( الأحزاب : 33 ) أكثر المفسّرين على أنها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين ( الصواعق المحرقة : 143 ط . مصر ، وط . بيروت : 220 الباب الحادي عشر ، في الآيات الواردة فيهم ، الآية الاولى ) .
وقال في موضع آخر بعد تصحيح الصلاة على الآل : . . فالمراد بأهل البيت فيها وفي كلّ ما جاء في فضلهم أو فضل الآل أو ذوي القربى جميع آله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم مؤمنو بني هاشم والمطّلب ، وبه يعلم أنّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال ذلك كلّه ( مراده الروايات التي حذفت الآل كما في الصحيحين ، والروايات التي اثبتت الآل ) فحفظ بعض الرواة مالم يحفظه الآخر ، ثمّ عَطْف الأزواج والذرّيّة على الآل في كثير من الروايات يقتضي أنّهما ليسا من الآل ، وهو واضح في الأزواج بناءً على الأصحّ في الآل أنّهم مؤمنو بني هاشم والمطّلب ، وأمّا الذرّيّة فمن الآل على سائر الأقوال ، فذكرهم بعد الآل للإشارة إلى عظيم شرفهم ( الصواعق المحرقة : 146 ط . مصر و 224 225 ط . بيروت ، باب 11 ، الآيات النازلة فيهم الآية الثانية ) .
وقال النووي في شرح صحيح مسلم : وأمّا قوله في الرواية الاخرى : ( نساؤه مِن أهل البيت ولكن أهل بيته من حرم الصدقة ) .
قال : وفي الرواية الاخرى : ( فقلنا : من أهل بيته ؟ نساؤه ؟ قال : لا ) .
فهاتان الروايتان ظاهرهما التناقض ، والمعروف في معظم الروايات في غير مسلم أنّه قال : ( نساؤه لسن من أهل بيته ) ، فَتُتَأول الرواية الاولى على أنّ المراد أنهنّ من أهل بيته الذين يسكنونه ويعولهم . . . ولا يدخلن فيمن حرم الصدقة ( صحيح مسلم بشرح النووي : 15 175 ح 6175 كتاب الفضائل فضائل عليّ ) .
وقال السمهودي : وحكى النووي في شرح المهذّب وجهاً آخر لأصحابنا : أنّهم عترته الذين ينسبون إليه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : وهم أولاد فاطمة ونسلهم أبداً ، حكاه الأزهري وآخرون عنه . انتهى .
وحكاه بعضهم بزيادة أدخل الأزواج ( جواهر العقدين : 211 الباب الأول ، وبهامشه : شرح المهذب : 3 448 ) .
وقال الإمام مجد الدين الفيروز آبادي : المسألة العاشرة : هل يدخل في مثل هذا الخطاب ( الصلاة على النبيّ ) النّساء ؟ ذهب جمهور الأُصوليين أنّهنّ لا يدخلن ، ونصّ عليه
(8/38)
" صفحة رقم 39 "
الشافعي ، وانتُقد عليه ، وخطىء المنتقد ( الصلات والبشر في الصلاة على خير البشر : 32 الباب الأول ) .
وقال الملاّ عليّ القاري : الأصحّ أنّ فضل أبنائهم على ترتيب فضل آبائهم إلاّ أولاد فاطمة رضي الله تعالى عنها فإنّهم يفضّلون على أولاد أبي بكر وعمر وعثمان ؛ لقربهم من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ؛ فهم العترة الطاهرة والذرّيّة الطيّبة الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيرا ( شرح كتاب الفقه الأكبر لأبي حنيفة : 210 مسألة في تفضيل أولاد الصحابة ) .
وقال السمهودي بعد ذكر الأحاديث في إقامة النبيّ آله مقام نفسه وذكر آية المباهلة وأنّها فيهم : وهؤلاء هم أهل الكساء ، فهم المراد من الآيتين ( المباهلة والتطهير ) ( جواهر العقدين : 204 الباب الأول ) .
وقال الحمزاوي : واستدلّ القائل على عدم العموم بما روي من طرق صحيحة : ( أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جاء ومعه عليّ وفاطمة والحسن والحسين . . ) وذكر أحاديث الكساء ، إلى أن قال : ويحتمل أنّ التّخصيص بالكساء لهؤلاء الأربع لأمر إلهيّ يدلّ له حديث أمّ سلمة ، قالت : ( فرفعت الكساء لأدخل معهم ، فجذبه من يدي ) ( مشارق الأنوار للحمزاوي : 113 الفصل الخامس من الباب الثالث فضل أهل البيت ) .
وقال القسطلاني : ان الراجح أنّهم من حرمت عليهم الصدقة ، كما نص عليه الشافعي واختاره الجمهور ويؤيده قوله صلّى الله عليه وسلّم للحسن بن عليّ : إنّا آل محمّد لا تحل لنا الصدقة ، وقيل المراد بآل محمّد أزواجه وذرّيّته .
ثمّ ذكر بعد ذلك كلام ابن عطيّة فقال : الجمهور على أنّهم عليّ وفاطمة والحسن والحسين وحجتهم ( عنكم ويطهِّركم ) بالميم ( المواهب اللدنية : 2 517 529 الفصل الثاني من المقصد السابع ) .
وقال أبو منصور ابن عساكر الشافعي : بعد ذكر قول أُمّ سلمة : ( وأهل البيت رسول الله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ) هذا حديث صحيح . . . والآية نزلت خاصّة في هؤلاء المذكورين ( كتاب الأربعين في مناقب أمّهات المؤمنين : 106 ح 36 ذكر ما ورد في فضلهنّ جميعاً ) .
وقال ابن بلبان ( المتوفى 739 ه ) في ترتيب صحيح ابن حبّان : ذكر الخبر المصرّح بأنّ هؤلاء الأربع الذين تقدّم ذكرنا لهم هم أهل بيت المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) ثمّ ذكر حديث نزول الآية فيهم عن واثلة ( الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان : 9 61 ح 6937 كتاب المناقب ، ويأتي الحديث بتمامه ) .
(8/39)
" صفحة رقم 40 "
وقال ابن الصبّاغ من فصوله : أهل البيت على ما ذكر المفسِّرون في تفسير آية المباهلة ، وعلى ما روي عن أُمّ سلمة : هم النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ( مقدّمة المؤلف : 22 ) .
وقال الحاكم النيشابوري بعد حديث الكساء والصلاة على الآل وأنّه فيهم : إنّما خرّجته ليعلم المستفيد أنّ أهل البيت والآل جميعاً هم ( المستدرك : 3 148 كتاب المعرفة ذكر مناقب أهل البيت ( عليهم السلام ) ) .
وقال الحافظ الكنجي : الصحيح أنّ أهل البيت عليّ وفاطمة والحسنان ( كفاية الطالب : 54 الباب الأول ) .
وقال القندوزي في ينابيعه : أكثر المفسِّرين على أنّها نزلت في عليّ وفاطمة والحسن والحسين لتذكير ضمير عنكم ويطهِّركم ( ينابيع المودّة : 1 294 ط . اسلامبول 1301 ه و 352 ط . النجف ، باب 59 الفصل الرابع ) .
وقال محبّ الدّين الطبري : باب في بيان أنّ فاطمة والحسن والحسين هم أهل البيت المشار إليهم في قوله تعالى : ) إنّمَا يُرِيْدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيْرَا ( وتجليله ( صلى الله عليه وسلم ) إيّاهم بكساء ودعائه لهم ( ذخائر العقبى : 21 ) .
وقال السخاوي في القول البديع في بيان صيغة الصلاة في التشهّد : فالمرجع أنّهم من حرمت عليهم الصدقة ، وذكر أنّه اختيار الجمهور ونصّ الشافعي ، وأنّ مذهب أحمد أنّهم أهل البيت ، وقيل : المراد أزواجه وذرّيّته . . . ( عن هامش الصواعق المحرقة لعبد الوهاب عبد اللطيف : 146 ط . مصر 1385 ه ) .
وقال القاسمي : ولكن هل أزواجه من أهل بيته ؟ على قولين هما روايتان عن أحمد : أحدهما أنّهنّ لسن من أهل البيت ، ويروى هذا عن زيد بن أرقم ( تفسير القاسمي المسمّى محاسن التأويل : 13 4854 مورد الآية ط . مصر عيسى الحلبي ) .
وقال الآلوسي : وأنت تعلم أنّ ظاهر ما صحّ من قوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إنّي تارك فيكم خليفتين وفي رواية ثقلين كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض وعترتي أهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض ) . يقتضي أنّ النّساء المطهَّرات غير داخلات في أهل البيت الذين هم أحد الثّقلين ( تفسير روح المعاني : 12 24 مورد الآية ) .
وقال الشاعر الحسن بن عليّ بن جابر الهبل في ديوانه : آل النّبيّ همُ أتباع ملّته من مؤمني رهطه الأدنون في النّسبِهذا مقال ابن إدريس الذي روت ال أعلام عنه فمِل عن منهج الكذبِوعندنا أنّهم أبناء فاطمة وهو الصحيح بلا شكّ ولا ريب . ( جناية الأكوع : 28 ) وقال
(8/40)
" صفحة رقم 41 "
الحافظ البدخشاني : وآل العباء عبارة عن هؤلاء لأنّه صحّ عن عائشة وأُمّ سلمة وغيرهما بروايات كثيرة أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) جلّل هؤلاء الأربعة بكساء كان عليه ، ثمّ قال : ) إنّمَا يُرِيْدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيْرَا ( .
وقال توفيق أبو علم : فالرأي عندي أنّ أهل البيت هم أهل الكساء : عليّ وفاطمة والحسن والحسين ومن خرج من سلالة الزهراء وأبي الحسنين رضي الله عنهم أجمعين ( أهل البيت : 92 ذيل الباب الأول ، و : 8 المقدّمة ) .
وقال في موضع الردّ على عبد العزيز البخاري : أمّا قوله : إنّ آية التطهير المقصود منها الأزواج ، فقد أوضحنا بما لا مزيد عليه أنّ المقصود من أهل البيت هم العترة الطاهرة لا الأزواج ( أهل البيت : 35 الباب الأول ) .
وقال : وأمّا ما يتمسك به الفريق الاعم والاكبر من المفسّرين فيتجلى فيما روي عن أبي سعيد الخدريّ قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( نزلت هذه الآية في خمسة فيّ وفي عليّ وحسن وحسين وفاطمة ) ( أهل البيت : 13 الباب الأول ) .
وقال الشوكاني في إرشاد الفحول في الردّ على من قال أنّها مختصة بالنّساء : ويجاب عن هذا بأنّه قد ورد بالدليل الصحيح أنّها نزلت في عليّ وفاطمة والحسنين ( إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق في علم الاصول : 83 البحث الثامن من المقصد الثالث ، وأهل البيت لتوفيق أبو علم : 36 الباب الأول ) .
وقال أحمد بن محمّد الشامي : وقد أجمعت امّهات كتب السنّة وجميع كتب الشيعة على أنّ المراد بأهل البيت في آية التطهير النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ؛ لأنّهم الذين فسرّ بهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المراد بأهل البيت في الآية ، وكلّ قول يخالف قول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من بعيد أو قريب مضروبٌ به عرض الحائط ، وتفسير الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) أولى من تفسير غيره ؛ إذ لا أحد أعرف منه بمراد ربّه ( جناية الأكوع : 125 الفصل السادس ) .
وقال الشيخ الشبلنجي : هذا ويشهد للقول بأنّهم عليّ وفاطمة والحسن والحسين ما وقع منه ( صلى الله عليه وسلم ) حين أراد المباهلة ، هو ووفد نجران كما ذكره المفسِّرون ( نور الأبصار : 122 ط . الهند و 223 ط . قم ، الباب الثاني مناقب الحسن والحسين ) .
وقال الشيخ السندي في كتابه ( دراسات اللبيب في الاسوة الحسنة بالحبيب ) : وهذا التحقيق في تفسير ( أهل البيت ) يعيّن المراد منهم في آية التطهير ؛ مع نصوص كثيرة من الأحاديث الصحاح المنادية على أنّ المراد منهم الخمسة الطاهرة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ؛ ولنا وريقات في تحقيق ذلك مجلّد في دفترنا يجب على طالب الحقّ الرجوع إليه ( عنه
(8/41)
" صفحة رقم 42 "
عبقات الأنوار : 1 350 ط . قم ، و 911 ط . إصبهان قسم حديث الثّقلين ) .
وقال الرفاعي : وقيل عليّ وفاطمة وابناهما ، وهو المعتمد الذي عليه جمهور العلماء ( المشرع الروي : 1 17 ) .
وقال الدكتور عبّاس العقاد : واختلف المفسرون فيمن هم أهل البيت :
أمّا الفخر الرازي في تفسيره ( 6 783 ) ، والزمخشري في كشافه ، والقرطبي في تفسيره ، وفتح القدير للشوكاني ، والطبري في تفسيره ، والسيوطي في الدر المنثور ( 5 169 ) ، وابن حجر العسقلاني في الاصابة ( 4 407 ) ، والحاكم في المستدرك ، والذّهبي في تلخيصه ( 3 146 ) ، والإمام أحمد في الجزء الثالث صفحة : 259 ؛ فقد قالوا جميعاً : إنّ أهل البيت هم عليّ والسيدة فاطمة الزهراء والحسن والحسين رضي الله عنهم . وأخذ بذكر الأدلة . ( فاطمة الزهراء للعقاد : 70 ط . مصر دار المعارف الطبعة الثالثة . ) .
وقال آخرون : عنى به رسول الله صلّى الله عليه علياً وفاطمة والحسن والحسين ج .
وأخبرني عقيل بن محمّد الجرجاني عن المعافى بن زكريا البغدادي ، عن محمّد بن جرير ، حدّثني بن المثنى عن بكر بن يحيى بن ريان الغبري ، عن مسدل ، عن الأعمش ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( نزلت هذه الآية فيَّ وفي علي وحسن وحسين وفاطمة ) إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ( ) .
وأخبرنا أبو عبدالله بن فنجويه قال : أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي ، عن عبدالله بن أحمد بن حنبل ، عن أبيه ، عن أبي عبدالله بن نمير ، عن عبدالملك يعني ابن أبي سليمان ، عن عطاء بن أبي رباح ، حدّثني من سمع أُمّ سلمة تذكر أنّ النبييّ ( صلى الله عليه وسلم ) كان في بيتها فأتته فاطمة ببرمة فيها حريرة فدخلت بها عليه ، فقال لها : ادعي زوجكِ وابنَيْكِ ، قالت : فجاء علي وحسن وحسين فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون من تلك الحريرة وهو على منامة له على دكان تحته كساء خيبري ، قالت : وأنا في الحجرة أُصلّي فأنزل الله تعالى هذه الآية : ) إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِرَكُمْ تَطْهِيرَاً ( .
قالت : فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به ثمّ أخرج يده فألوى بها إلى السماء ثمّ قال : اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي وحامتي فأذهبْ عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً . قالت : فأدخلت رأسي البيت فقلت : وأنا معكم يا رسول الله ؟ قال : إنّك إلى خير ، إنَّكِ إلى خير .
وأخبرني الحسين بن محمد بن عبدالله الثقفي ، عن عمر بن الخطّاب ، عن عبدالله بن الفضل ، عن الحسن بن علي ، عن يزيد بن هارون ، عن العوّام بن حوشب ، حدّثني ابن عمّ لي
(8/42)
" صفحة رقم 43 "
من بني الحرث بن تيم الله يقال له : ( مجمع ) ، قال : دخلت مع أُمّي على عائشة ، فسألَتها أُمّي ، فقالت : أرأيت خروجك يوم الجمل ؟ قالت : إنّه كان قدراً من الله سبحانه ، فسألتها عن علي ، فقالت : تسأليني عن أحبّ النّاس كان إلى رسول الله صلّى الله عليه ، وزوج أحبّ الناس كان إلى رسول الله ، لقد رأيت عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً جمع رسول الله صلّى الله عليه بثوب عليهم ثمّ قال : اللّهم هؤلاء أهل بيتي وحامّتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً .
قالت : فقلت : يا رسول الله أنا مِن أهلك ؟ قال : تنحّي فإنّكِ إلى خير .
وأخبرني الحسين بن محمّد عن أبي حبيش المقرئ قال : أخبرني أبو القاسم المقرئ قال : أخبرني أبو زرعة ، حدّثني عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة ، أخبرني ابن أبي فديك حدّثني ابن أبي مليكة عن إسماعيل بن عبدالله بن جعفر الطيّار عن أبيه ، قال : لمّا نظر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الرحمة هابطة من السماء قال : من يدعو ؟ مرّتين ، فقالت زينب : أنا يارسول الله ، فقال : أُدعي لي عليّاً وفاطمة والحسن والحسين . قال : فجعل حسناً عن يمناه وحسيناً عن يسراه وعليّاً وفاطمة وجاهه ثمّ غشاهم كساءً خيبريّاً . ثمّ قال : اللّهم لكلّ نبيّ أهل ، وهؤلاء أهلي ، فأنزل الله عزّ وجلّ : ) إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ( الآية .
فقالت زينب : يا رسول الله ألا أدخل معكم ؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه : ( مكانكِ فإنّكِ إلى خير إن شاء الله ) .
وأخبرني الحسين بن محمد عن عمر بن الخطّاب عن عبدالله بن الفضل قال : أخبرني أبو بكر بن أبي شيبة عن محمّد بن مصعب عن الأوزاعي ، عن عبدالله بن أبي عمّار قال : دخلت على وائلة بن الأسقع وعنده قوم فذكروا عليّاً فشتموه فشتمته ، فلمّا قاموا قال لي : أشتمت هذا الرجل ؟ قلت : قد رأيت القوم قد شتموه فشتمته معهم .
فقال : ألا أخبرك ما سمعت من رسول الله صلّى الله عليه ؟ قلت : بلى ، قال : أتيت فاطمة أسألها عن علي فقالت : توجّه إلى رسول الله صلّى الله عليه فجلست فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه علي والحسن والحسين كلّ واحد منهما آخذ بيده حتى دخل ، فأدنى علياً وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسناً وحسيناً كلّ واحد منهما على فخذه ، ثمّ لفَّ عليهم ثوبه أو قال كساءه ، ثمّ تلا هذه الآية : ) إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِرَكُمْ تَطْهِيرَاً ( ثمّ قال : اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحقّ .
(8/43)
" صفحة رقم 44 "
وقيل : هم بنو هاشم . أخبرني ابن فنجويه عن ابن حبيش المقرئ عن محمّد بن عمران قال : حدّثنا أبو كريب قال : أخبرني وكيع عن أبيه عن سعيد بن مسروق عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أُنشدكم الله في أهل بيتي مرّتين ، قلنا لزيد بن أرقم ومَنْ أهل بيته ؟ قال : الذين يحرمون الصدقة آل علي وآل عبّاس وآل عقيل وآل جعفر .
وأخبرني أبو عبدالله ، قال : أخبرني أبو سعيد أحمد بن علي بن عمر بن حبيش الرازي عن أحمد بن عبد الرحمن الشبلي أبو عبد الرحمن قال : أخبرني أبو كريب عن معاوية بن هشام عن يونس بن أبي إسحاق عن نفيع أبي داود عن أبي الحمراء قال : أقمت بالمدينة تسعة أشهر كيوم واحد ، وكان رسول الله صلّى الله عليه يجيء كلّ غداة فيقوم على باب علي وفاطمة فيقول الصلاة ) إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِرَكُمْ تَطْهِيرَاً ( .
وأخبرني أبو عبدالله ، حدّثني عبدالله بن يوسف بن أحمد بن مالك ، عن محمّد بن إبراهيم ابن زياد الرازي ، عن الحرث بن عبدالله الخازن ، عن قيس بن الربيع ، عن الأعمش ، عن عباية ابن الربعي ، عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قسّم الله الخلق قسمين فجعلني في خيرهما قسماً ، فذلك قوله عزّ وجلّ : ) وَأَصْحَاب اليَمينِ مَا أَصْحَابُ اليَمين ( فأنا خير أصحاب اليمين ) .
ثمّ جعل القسمين أثلاثاً فجعلني في خيرها ثلثاً ، فذلك قوله : ) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ( فأنا من السابقين ( وأنا من خير السابقين ) ثمّ جعل الأثلاث قبائل فجعلني في خيرها قبيلة فذلك قوله : ) وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبَاً وَقَبائِلَ ( الآية ، وأنا أتقى ولد آدم وأكرمهم على الله ولا فخر .
ثمّ جعل القبائل بيوتاً فجعلني في خيرها بيتاً فذلك قوله : ) إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِرَكُمْ تَطْهِيرَاً (
.
) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِى بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ
(8/44)
" صفحة رقم 45 "
وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِىأَنعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِى فِى نِفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَىْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِىأَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً مَّا كَانَ عَلَى النَّبِىِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً ( 2
الأحزاب : ( 34 ) واذكرن ما يتلى . . . . .
) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءَايَتِ اللهِ ( يعني القرآن ) وَالحِكْمَةِ ( السنّة ، عن قتادة ، وقال مقاتل : أحكام القرآن ومواعظه ) إِنَّ اللهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً ( .
الأحزاب : ( 35 ) إن المسلمين والمسلمات . . . . .
وقوله : ) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ( الآية . وذلك أنّ أزواج النبي صلّى الله عليه قلن : يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير فما فينا خير نذكر به ، إنّا نخاف أن لا تقبل مِنّا طاعة ، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية . وقال مقاتل : قالت أُمّ سلمة بنت أبي أمية وأنيسة بنت كعب الأنصارية للنبي صلّى الله عليه : ما بال ربنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه ؟ نخشى أنْ لا يكون فيهنّ خير ولا لله فيهنّ حاجة ، فنزلت هذه الآية .
روى عثمان بن حكم عن عبد الرحمن بن شيبة قال : سمعت أُمّ سلمة زوج النبي ( عليه السلام ) تقول : قلت للنبي ( عليه السلام ) : يا رسول الله ما لنا لا نُذكر في القرآن كما يُذكر الرجال ؟
قلت : فلم يرعني ذات يوم ظهراً إلاّ بدواة على المنبر وأنا أسرح رأسي فلفقت شعري ثمّ خرجت إلى حجرة من حجر بيتي فجعلت سمعي عند الجريدة ، فإذا هو يقول على المنبر : يا أيّها الناس إنَّ الله عزّ وجلّ يقول في كتابه : ) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ( . . . إلى قوله : ) وَأَجْرَاً عَظِيمَاً ( .
وقال مقاتل بن حيان : بلغني أنّ أسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب ، فدخلت على نساء رسول الله صلّى الله عليه فقالت : هل نزل فينا شيء من القرآن ؟ قلن : لا ، فأتت رسول الله صلّى الله عليه فقالت : يا رسول الله إنّ النساء لفي خيبة وخسار ، قال رسول الله صلّى الله عليه : ومِمَّ ذلك ؟ قالت : لأنّهنّ لا يُذكرن بخير كما يذكر الرجال ، فأنزل الله عزّ وجلّ : ) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ( إلى آخر الآية .
أخبرني ابن فنجويه عن ابن شبّه عن الفراتي عن إبراهيم بن سعيد ، عن عبيدالله عن شيبان ، عن الأعمش ، عن علي بن الأرقم ، عن الأغر أبي مسلم ، عن أبي سعيد وأبي هريرة
(8/45)
" صفحة رقم 46 "
قالا : قال رسول الله صلّى الله عليه : مَن استيقظ من الليل وأيقظ امرأته فصلّيا جميعاً ركعتين كُتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات .
وأخبرنا عبدالله بن حامد الوزان ، عن أحمد بن محمد بن شاذان عن جيغويه بن محمد ، عن صالح بن محمد عن سليمان بن عمرو ، عن حنظلة التميمي ، عن الضحّاك بن مزاحم ، عن ابن عبّاس قال : جاء إسرافيل إلى النبيّ صلّى الله عليه فقال : قلْ يا محمّد : سُبحان الله والحمدُ لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله عَدد ما علم وزنة ما علم وملء ما علم ، من قالها كتبت له ستّ خصال ، كتب من الذاكرين الله كثيراً ، وكان أفضل ممّن ذكره الليل والنهار ، وكان له غرس في الجنّة ، وتحاتت عنه ذنوبه كما تتحات ورق الشجر اليابسة ، ونظر الله إليه ، ومن نظر الله إليه لم يعذّبه .
وقال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله تعالى قائماً وقاعداً ومضطجعاً . قال عطاء بن أبي رباح : مَن فوّض أمره إلى الله فهو داخل في قوله : ) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ ( ومن أقرّ بأنّ الله ربّه ، وأنَّ محمّداً رسوله ، ولم يخالف قلبه لسانه ، فهو داخل في قوله : ) وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ( ومن أطاع الله في الفرض والرسول في السنّة فهو داخل في قوله : ) وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ ( ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله : ) وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ ( ومن صلّى فلم يعرف مَن عن يمينه ويساره فهو داخل في قوله : ) وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعات ( ومن صبر على الطاعة وعن المعصية وعلى الرزيّة فهو داخل في قوله : ) وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ ( ومن تصدّق في كلّ اسبوع بدرهم فهو داخل في قوله : ) وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ ( ومن صام في كلّ شهر أيّام البيض ، الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر فهو داخل في قوله : ) وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ ( ومن حفظ فرجه عمّا لا يحلّ فهو داخل في قوله : ) وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ ( ومن صلّى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله : ) وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ( .
الأحزاب : ( 36 ) وما كان لمؤمن . . . . .
قوله عزّ وجلّ : ) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة ( الآية . نزلت في زينب بنت جحش بن رئاب ابن النعمان بن حبرة بن مرّة بن غنم بن دودان الأسدية ، وأخيها عبدالله بن جحش ، وكانت زينب بنت آمنة بنت عبد المطلب عمّة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فخطبها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على مولاه زيد بن حارثة ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) اشترى زيداً في الجاهلية من عكاظ ، وكان من سبي الجاهلية فأعتقه وتبنّاه ، فكان زيد عربيّاً في الجاهلية مولى في الإسلام .
فلمّا خطب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) زينب رضيت ، ( ورأت ) أنّه يخطبها على نفسه فلمّا علمت أنّه يخطبها على زيد أبت وأنكرت وقالت : أنا أتمّ نساء قريش وابنة عمّتك ، فلم أكن لأفعل يا رسول الله ولا أرضاه لنفسي ، وكذلك قال أخوها عبدالله ، وكانت زينب بيضاء جميلة ، وكانت فيها حدة فأنزل الله عزّ وجلّ : ) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن وَلاَ مُؤْمِنَة ( يعني عبدالله بن جحش وزينب أُخته
(8/46)
" صفحة رقم 47 "
) إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ ( قرأ أهل الكوفة وأيّوب بالياء واختاره أبو عبيد قال : للحائل بين التأنيث والفعل ، وكذلك روى هشام عن أهل الشام وقرأ الباقون بالتاء .
) لَهُمْ الْخِيَرَةُ ( أي الاختيار وقراءة العامّة ( الخِيرَة ) بكسر الخاء وفتح الياء ، وقرأ ابن السميقع بسكون الياء وهما لغتان ) مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلا مُبِيناً ( فلمّا نزلت هذه الآية قالت : قد رضيت يا رسول الله ، وجعلت أمرها بيد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكذلك أخوها فأنكحها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) زيداً ، فدخل بها ، وساق إليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشرة دنانير وستين درهماً وخماراً وملحفة ودرعاً وأزاراً وخمسين مُدّاً من طعام وثلاثين صاعاً من تمر .
وقال ابن زيد : نزلت هذه الآية في أُمّ كثلوم بنت عقبة بن أبي معيط ، وكانت أوّل من هاجر من النساء ، فوهبت نفسها للنبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : قد قبلتُ ، فزوّجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها وقالا : إنّما أردنا رسول الله صلّى الله عليه فزوّجنا عبده فأنزل الله عزّ وجلّ :
الأحزاب : ( 37 ) وإذ تقول للذي . . . . .
) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ ( الآية .
وذلك أنَّ زينب مكثت عند زيد حيناً ، ثمّ إنّ رسول الله صلّى الله عليه أتى زيداً ذات يوم لحاجة ، فأبصرها قائمة في درع وخمار فأعجبته ، وكأنّها وقعت في نفسه فقال : سبحان الله مقلِّب القلوب وانصرف .
فلمّا جاء زيدٌ ، ذكرت ذلك له ففطن زيد ، كرهت إليه في الوقت ، فألقي في نفس زيد كراهتها ، فأراد فراقها ، فأتى رسول الله صلّى الله عليه فقال : إنّي أُريد أنْ أُفارق صاحبتي . قال : ما لكَ ؟ أرابك منها شيء ؟ قال : لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلاّ خيراً ، ولكنّها تتعظّم عليَّ بشرفها وتؤذيني بلسانها ، فقال له النبي ( عليه السلام ) : أمسك عليك زوجك واتّقِ الله ، ثمّ إنَّ زيداً طلّقها بعد ذلك ، فلمّا انقضت عدّتُها ، قال رسول الله صلّى الله عليه لزيد : ما أجد أحداً أوثق في نفسي منك . أئت زينب فاخطبها عَليّ .
قال زيد : فانطلقت ، فإذا هي تخمّر عجينها ، فلمّا رأيتها ، عظمت في صدري حتى ما أستطيع أنْ أنظر إليها حين علمت أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذكرها فولّيتها ظهري ، وقلت : يا زينب أبشري فإنّ رسول الله يخطبك ، ففرحت بذلك وقالت : ما أنا بصانعة شيئاً حتّى أوامر ربي ، فقامت إلى مسجدها وأُنزل القرآن ) زَوَّجْنَكهَا ( فتزوّجها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ودخل بها ، وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها ، ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللّحم حتّى امتد النهار ، فذلك قوله عزّ وجلّ : ) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ ( بالإسلام ) وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ( بالإعتاق وهو زيد بن حارثة ) أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ( يعني زينب بنت جحش وكانت ابنة عمّة النبي صلّى الله عليه .
(8/47)
" صفحة رقم 48 "
) وَاتَّقِ اللهَ ( فيها ) وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ ( أنْ لو فارقها تزوّجتها .
قال ابن عبّاس : حبّها . وقال قتادة : ودَّ أنّه لو طلّقها . ) وَتَخْشَى النَّاسَ ( قال ابن عبّاس والحسن : تستحيهم ، وقيل : وتخاف لائمة الناس أنْ يقولوا أمر رجلاً بطلاق امرأته ثمّ نكحها حين طلّقها . ) وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ( قال عمر وابن مسعود وعائشة : ما نزلت على رسول الله صلّى الله عليه آية هي أشدّ عليه من هذه الآية .
وأخبرني الحسين بن محمد الثقفي عن الفضل بن الفضل الكندي قال : أخبرني أبو العبّاس الفضل بن عقيل النيسابوري ، عن محمد بن سليمان قال : أخبرني أبو معاوية عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : لو كتم النبييّ ( صلى الله عليه وسلم ) شيئاً ممّا أُوحي إليه لكتم هذه الآية ) وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ ( .
وقد روي عن زين العابدين في هذه الآية ما أخبرني أبو عبدالله بن فنجويه عن طلحة بن محمد وعبدالله بن أحمد بن يعقوب قالا : قال أبو بكر بن مجاهد عن بن أبي مهران ، حدّثني محمد بن يحيى أبي عمر العرني ، عن سفيان بن عيينة قال : سمعناه من علي بن زيد بن جدعان يبديه ويعيده قال : سألني علي بن الحسين : ما يقول الحسن في قوله عزّ وجلّ : ) وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَاللَّهُ أَحَقُّ أنْ تَخْشاهُ ( ؟
فقلت يقول : لما جاء زيد إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا نبي الله إنّي أُريد أن أُطلّق زينب ، فأعجبه ذلك ، قال : ) أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ ( قال علي بن الحسين : ليس كذلك ، كان الله عزّ وجلّ قد أعلمه أنّها ستكون من أزواجه فإنّ زيداً سيطلّقها فلمّا جاء زيد قال : إنّي أُريد أن أطلقّ زينب ، فقال : أمسك عليك زوجك واتّق الله . يقول : فلِمَ قلت : أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوجَكَ ، وقد أعلمتك أنّها ستكون من أزواجكَ . وهذا التأويل مطابق للتلاوة وذلك أنّ الله عزّ وجلّ حكم واعلم ابداء ما أخفى ، والله لا يخلف الميعاد ، ثمّ لم نجده عزّ وجلّ أظهر من شأنه غير التزويج بقوله : ) زَوَّجْنَكَهَا ( .
فلو كان أضمر رسول الله صلّى الله عليه محبّتها ، أو أراد طلاقها ، لكان لا يجوز على الله تعالى كتمانه مع وعده أنْ يظهره ، فدلّ ذلك على أنّه ( عليه السلام ) إنّما عوتب على قوله : ) أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ( مع علمه بأنّها ستكون زوجته ، وكتمانه ما أخبره الله سبحانه به حيث استحيى أن يقول لزيد : إنّ التي تحتك ستكون امرأتي والله أعلم .
وهذا قولٌ حَسن مرضي قوي ، وإن كان القول الآخر لا يقدح في حال النبيّ صلّى الله عليه ، لاِنّ العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه من مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه لمأثم .
قوله : ) فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً ( أي حاجته من نكاحها ) زَوَّجْنَاكَهَا ( فكانت زينب تفخر على نساء النبي ( عليه السلام ) فتقول : أنا أكرمكنَّ وليّاً ، وأكرمكنَّ سفيراً ، زوجكن أقاربكن وزوّجني الله عزّ وجلّ
(8/48)
" صفحة رقم 49 "
وأخبرنا أبو بكر الجوزقي قال : أخبرنا أبو العبّاس الدغولي قال : أخبرني أبو أحمد محمد ابن عبد الوهاب ومحمد بن عبيدالله بن قهراذ جميعاً ، عن جعفر ( بن محمّد ) بن عون ، عن المعلى بن عرفان عن محمّد بن عبدالله بن جحش قال : تفاخرت زينب وعائشة ، وقالت زينب : أنا التي نزل تزوّجي من السماء ، فقالت عائشة : أنا التي نزل عذري في كتابه حين حملني ابن المعطل على الراحلة ، فقالت زينب : وما قلتِ حين ركبتها ؟ قالت : قلت : حسبي الله ونعم الوكيل قالت : كلمة المؤمنين .
وأنبأني عقيل بن محمد أنّ المعافى بن زكريا أخبره عن محمد بن جرير ، عن ابن حَميد عن جرير عن مغيرة عن الشعبي قال : كانت زينب تقول للنبيّ ( عليه السلام ) : إنّي لأدلّ عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدلّ بهن : جدّي وجدّك واحد ، وإنّي أنكحنيك الله في السماء ، وإنّ السفير لجبرائيل .
قوله : ) لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ ( الذين تبنوه ) إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً ( بالنكاح وطلقوهن أو ماتوا عنهن . قال الحسن : كانت العرب تظنّ أنّ حرمة المتبنى مشبّكة كاشتباك الرحم ، فميّز الله تعالى بين المتبنى وبين الرحم فأراهم أنّ حلائل الأدعياء غير محرّمة عليهم لذلك قال : ) وَحَلاَئِل أَبْنَائَكُم الَّذينَ مِنْ أَصْلاَبَكُمْ ( فقيَّد ) وَكَانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولا ( كائناً لا محالة ، وقد قضى في زينب أنْ يتزوّجها رسول الله صلّى الله عليه .
الأحزاب : ( 38 ) ما كان على . . . . .
قوله : ) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَج فِيمَا فَرَضَ اللهُ ( أحل الله ) لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ( أي كسنّةِ الله ، نصب بنزع حرف الخافض ، وقيل : فَعَلَ سُنَّةَ اللهِ ، وقيل : على الإغراء ، أي ابتغوا سنّة الله في الأنبياء الماضين ، أي لا يؤاخذهم بما أحلّ لهم .
وقال الكلبي ومقاتل : أراد داود ( عليه السلام ) ، حين جمع الله بينه وبين المرأة التي هواها ، فكذلك جمع بين محمد وزينب حين هواها ، وقيل : الإشارة بالسنة إلى النكاح ، وإنَّه من سنّة الأنبياء وقيل : إلى كثرة الأزواج مثل قصة داود وسليمان ( عليهما السلام ) .
) وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً ( ماضياً كائناً . وقال ابن عبّاس : وكان من قدره أن تلد تلك المرأة التي ابتلى بها داود ابنا مثل سليمان وتهلك من بعده .
( ) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رِّجَالِكُمْ وَلَاكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ
(8/49)
" صفحة رقم 50 "
اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِى يُصَلِّى عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ياأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كِبِيراً وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ياأَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِىءَاتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللاَّتِى هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِىُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِىأَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً تُرْجِى مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِىإِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ ءَاتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِى قلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً لاَّ يَحِلُّ لَكَ النِّسَآءُ مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ رَّقِيباً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِىِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِى النَّبِىِّ فَيَسْتَحْيِى مِنكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْىِ مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذاَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُواْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذاَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِىءَابَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآئِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَآءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَآئِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيداً ( 2
الأحزاب : ( 39 ) الذين يبلغون رسالات . . . . .
قوله تعالى : ) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ ( محلّ الذين خفض على النعت على الذين خلوا ) وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ ( لا يخشون قالة الناس ولائمتهم فيما أحلّ الله لهم وفرض عليهم ) وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً ( حافظاً لأعمال خلقه ومحاسبتهم عليها ، ثمّ نزلت في قول الناس إنّ محمّداً تزوّج امرأة ابنه
الأحزاب : ( 40 ) ما كان محمد . . . . .
) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَد مِنْ رِجَالِكُمْ ( الذين لم يلده فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إيّاها ، يعني زيداً ، وإنّما كان أبا القاسم والطيب والمطهر وإبراهيم .
) وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ( أي آخرهم ختم الله به النبوّة فلا نبيّ بعده ، ولو كان لمحمّد ابن لكان نبيّاً .
أخبرنا عبدالله بن حامد الوزان عن مكي بن عبدان ، عن عبدالرحمن عن سفيان ، عن
(8/50)
" صفحة رقم 51 "
الزهري ، عن محمد بن جبير ، عن أبيه ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبيّ .
واختلف القرّاء في قوله ) خَاتَمَ النَّبِيِّينَ ( فقرأ الحسن وعاصم بفتح التاء على الاسم ، أي آخر النَّبِين . كقوله : خاتمه مسك ، أي آخره . وقرأ الآخرون بكسر التاء على الفاعل ، أي أنّه خاتم النبيّين بالنبوّة .
) وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْء عَلِيماً }
الأحزاب : ( 41 ) يا أيها الذين . . . . .
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (
قال ابن عبّاس : لم يفرض الله تعالى على عباده فريضة إلاّ جعل لها حدّاً معلوماً ، ثمّ عذر أهلها في حال العذر ، غير الذكر ، فإنّه لم يجعل له حدّاً يُنتهى إليه ، ولم يعذر أحداً في تركه إلاّ مغلوباً على عقله ، وأمرهم بذكره في الأحوال كلّها فقال : ) فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَامَاً وَقُعُودَاً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ( وقال : ) اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرَاً كَثِيراً ( بالليل والنهار وفي البر والبحر والسفر والحضر والغنى والفقر والصحّة والسقم والسرّ والجهر وعلى كلّ حال . وقال مجاهد : الذكر الكثير أنْ لا تنساه أبداً .
أخبرني ابن فنجويه عن ابن شبّه عن الفراتي ، عن عمرو بن عثمان ، عن أَبي ، عن أبي لهيعة ، عن دُراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : أكثروا ذكر الله حتّى يقولوا مجنون
الأحزاب : ( 42 ) وسبحوه بكرة وأصيلا
) وَسَبِّحُوهُ ( وصلّوا له ) بُكْرَةً ( يعني صلاة الصبح ) وَأَصِيلا ( يعني صلاة العصر عن قتادة .
وقال ابن عبّاس : يعني صلاة العصر والعشاءين . وقال مجاهد : يعني قولوا : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، فعبّر بالتسبيح عن أخواته ، فهذه كلمات يقولها الطاهر والجنب والمحدث .
الأحزاب : ( 43 ) هو الذي يصلي . . . . .
قوله : ) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ( بالرحمة . قال السدي : قالت بنو إسرائيل لموسى : أيصلّي ربُّنا ؟ فكبر هذا الكلام على موسى فأوحى الله إليه أنْ قُل لهم : إنّي أُصلّي ، وإنّ صلاتي رحمتي ، وقد وسعت رحمتي كلّ شيء .
وقيل : ( يصلّي ) يشيع لكم الذكر الجميل في عباده . وقال الأخفش : يبارك عليكم ) وَمَلاَئِكَتُهُ ( بالاستغفار والدعاء ) لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ( .
(8/51)
" صفحة رقم 52 "
قال أنس بن مالك : لمّا نزلت ) إنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتهِ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ ( الآية ، قال أبو بكر : ما خصّك الله بشرف إلاّ وقد أشركتنا فيه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
الأحزاب : ( 44 ) تحيتهم يوم يلقونه . . . . .
) تَحِيَّتُهُمْ ( أي تحية المؤمنين ) يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ ( أي يرون الله عزّ وجلّ ) سَلاَمٌ ( أي يسلّم عليهم ويسلّمهم من جميع الآفات والبليّات .
أخبرني ابن فنجويه ، عن ابن حيان ، عن ابن مروان عن أبي ، عن إبراهيم بن عيسى ، عن علي بن علي ، حدّثني أبو حمزة الثمالي في قوله عزّ وجلّ : ) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ ( قال : تسلّم عليهم الملائكة يوم القيامة وتبشِّرهم حين يخرجون من قبورهم . وقيل : هو عند الموت والكناية مردودة إلى مَلك الموت كناية عن غير مذكور .
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين ، عن عبدالله بن يوسف بن أحمد بن مالك ، عن إسحاق بن محمد بن الفضل الزيّات ، عن محمد بن سعيد بن غالب ، عن حمّاد بن خالد الخيّاط ، عن عبدالله بن وافد أبو رجاء ، عن محمد بن مالك ، عن البراء بن عازب في قوله عزّ وجلّ : ) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ ( قال : يوم يلقون ملك الموت لا يقبض روح مؤمن إلاّ سلّمَ عليه .
وأخبرني الحسين بن محمد عن ابن حبيش المقرئ ، حدّثني عبد الملك بن أحمد بن إدريس القطان بالرقة ، عن عمر بن مدرك القاص قال : أخبرني أبو الأخرص محمد بن حيان البغوي ، عن حمّاد بن خالد الخيّاط ، عن خلف بن خليفة ، عن أبي هاشم ، عن أبي الأخوص ، عن ابن مسعود قال : إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال : ربّك يُقرئك السلام .
) وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ( وهو الجنّة .
الأحزاب : ( 45 - 46 ) يا أيها النبي . . . . .
قوله : ) يَا أَيُّهَا النَّبِىُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً ( يستضيء به أهل الدين . قال جابر بن عبدالله : لمّا نزلت ) إِنَّا فَتَحنَا ( الآيات ، قال الصحابة : هنيئاً لك يا رسول الله هذه العارفة ، فما لنا ؟ فأنزل الله تعالى :
الأحزاب : ( 47 - 48 ) وبشر المؤمنين بأن . . . . .
) وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنْ اللهِ فَضْلا كَبِيراً وَلاَ تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ ( اصبر عليهم ولا تكافئهم . نسختها آية القتال ) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلا ( .
الأحزاب : ( 49 ) يا أيها الذين . . . . .
قوله : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ( تجامعوهن ) فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّة تَعْتَدُّونَهَا ( تحصونها عليهن بالأقراء والأشهر ) فَمَتِّعُوهُنَّ ( أي أعطوهن ما يستمتعن به . قال ابن عبّاس : هذا إذا لم يكن سمّى لها صداقاً ، فإذا فرض لها صداقاً فلها نصفه ، وقال قتادة : هذه الآية منسوخة بقوله : ) فَنِصفِ ما فَرَضْتُم ( وقيل : هو أمر ندب
(8/52)
" صفحة رقم 53 "
فالمتعة مستحبّة ونصف المهر واجب ) وَسَرِّحُوهُنَّ ( وخلّوا سبيلهن ) سَرَاحاً جَمِيلا ( بالمعروف ، وفي الآية دليل على أنّ الطلاق قبل النكاح غير واقع خصَّ أو عمَّ خلافاً لأهل الكوفة .
أخبرني الحسين بن محمّد بن فنجويه ، عن ابن شنبه ، عن عبدالله بن أحمد بن منصور الكسائي ، عن عبدالسلام بن عاصم الرازي ، قال : أخبرني أبو زهير ، عن الأحلج ، عن حبيب بن أبي ثابت قال : كنت قاعداً عند علي بن الحسين ، فجاءه رجل فقال : إنّي قلت : يوم أتزوّج فلانة بنت فلان فهي طالق . قال : اذهب فتزوّجها ، فإنّ الله عزّ وجلّ بدأ بالنكاح قبل الطلاق ، وقال : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ( ولم يقل إذا طلقتموهن ثمّ نكحتموهن ولم يرهُ شيئاً . والدليل عليه ما أخبرنا الحسين بن محمّد بن الحسين ، عن عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال : أخبرني أبو بكر محمد بن إبراهيم المنذر النيسابوري بمكّة ، عن الربيع بن سليمان ، عن أيّوب بن سويد ، عن ابن أبي ذيب عن عطاء ، عن جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا طلاق قبل نكاح ) .
الأحزاب : ( 50 ) يا أيها النبي . . . . .
قوله : ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ( مهورهن ) وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللهُ عَلَيْكَ ( مثل صفية وجويرية ومارية ) وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ ( من نساء عبد المطلب ) وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ ( من نساء بني زهرة ) اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ ( فمن لم تهاجر منهنّ فليس له نكاحها . وقرأ ابن مسعود : ) وَالَّلاتِي هَاجَرْنَ ( ، بواو .
أنبأني عقيل بن محمد عن المعافى بن زكريا عن محمد بن جرير قال : أخبرني أبو كريب ، عن عبدالله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن السدي ، عن أبي صالح ، عن أُمّ هاني قالت : خطبني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاعتذرت إليه فعذرني ثمّ أنزل الله عزّ وجلّ : ) إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ( . . . إلى قوله : ) الّتِي هَاجَرنَ مَعَكَ ( قالت : فلم أحلّ له لأني لم أُهاجر ، معه كنتُ من الطلقاء .
) وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً ( أي وأحللنا لك امرأة مؤمنة ) إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ( بغير مهر . وقرأ العامة إِن بكسر الألف على الجزاء والاستقبال ، وقرأ الحسن بفتح الألف على المضي والوجوب ، ) إِنْ أَرَادَ النَّبِىُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا ( فله ذلك ) خَالِصَةً ( خاصّةً لك ، ) مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ( فليس لامرأة أنْ تهب نفسها لرجل بغير شهود ولا وليّ ولا مهر إلاّ النبيّ ( عليه السلام ) ، وهذا من خصائصه في النكاح ، كالتخيير والعدد في النساء ، وما روي انّه أعتق صفيّة وجعل عتقها صداقها ولو تزوّجها بلفظ الهبة لم ينعقد النكاح ، هذا قول سعيد بن المسيب والزهري ومجاهد وعطاء ومالك والشافعي وربيعة وأبي عبيد وأكثر الفقهاء .
وقال النخعي وأهل الكوفة : إذا وهبت نفسها منه وقبلها بشهود ومهر فإنَّ النكاح ينعقد
(8/53)
" صفحة رقم 54 "
والمهر يُلزَم به ، فأجازوا النكاح بلفظ الهبة . وقالوا : كان اختصاص النبي ( عليه السلام ) في ترك المهر . والدليل على ما ذهب الشافعي إليه : إنّ الله تعالى سمّى النكاح باسمين التزويج والنكاح ، فلا ينعقد بغيرهما .
واختلف العلماء في التي وهبت نفسها لرسول الله ، وهل كانت امرأة عند رسول الله صلّى الله عليه كذلك ؟ فقال ابن عبّاس ومجاهد : لم يكن عند النبي صلّى الله عليه امرأة وهبت نفسها منه ، ولم يكن عنده ( عليه السلام ) امرأة إلاّ بعقد النكاح أو ملك اليمين ، وإنّما قال الله تعالى ) إنْ وَهَبَت ( على طريق الشرط والجزاء .
وقال الآخرون : بل كانت عنده موهوبة ، واختلفوا فيها . فقال قتادة : هي ميمونة بنت الحرث . قال الشعبي : زينب بنت خزيمة أُمّ المساكين امرأة من الأنصار . قال علي بن الحسين والضحّاك ومقاتل : أُمّ شريك بنت جابر من بني أسد . قال عروة بن الزبير : خولة بنت حكيم بن الأوقص من بني سليم .
) قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ ( يعني أوجبنا على المؤمنين ) فِي أَزْوَاجِهِمْ ( قال مجاهد : يعني أربعاً لا يتجاوزونها .
قتادة : هو أنْ لا نكاح إلاّ بوليّ وشاهدين ) وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ( يعني الولائد والإماء ) لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ( في نكاحهن ) وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ( .
الأحزاب : ( 51 ) ترجي من تشاء . . . . .
قوله : ) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ ( أي تؤخّر ) وَتُؤْوِي ( وتضمّ ) إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ ( واختلف المفسِّرون في معنى الآية ، فقال أبو رزين وابن زيد : نزلت هذه الآية حين غارت بعض أُمّهات المؤمنين على النبييّ ( صلى الله عليه وسلم ) وطلب بعضهنّ زيادة النفقة ، فهجرهنّ رسول الله صلّى الله عليه شهراً حتى نزلت آية التخيير ، وأمره الله عزّ وجلّ أنْ يخيّرهنّ بين الدنيا والآخرة ، وأن يخلّي سبيلَ مَنْ اختارت الدُّنيا ، ويمسك من اختارت الله ورسوله على أَنّهنّ أُمّهات المؤمنين ولا يُنكحن أبداً ، وعلى أنّه يُؤوي إليه من يشاء ويرجي مِنهنّ من يشاء فيرضين به ، قسم لهنّ أو لم يقسم ، أو قسم لبعضهنّ ولم يقسم لبعضهنّ ، أو فضّل بعضهنّ على بعض في النفقة والقسمة والعشرة أو ساوى بينهنّ ، ويكون الأمر في ذلك كلّه إليه ، يفعل ما يشاء ، وهذا من خصائصه ( عليه السلام ) . فرضين بذلك كلّه واخترنه على هذا الشرط ، وكان رسول الله صلّى الله عليه مع ما جعل الله له من ذلك ساوى بينهنّ في القسم إلاّ امرأة منهنّ أراد طلاقها فرضيت بترك القسمة لها وجعل يومها لعائشة وهي سودة بنت زمعة .
وروى منصور عن أبي رزين قال : لمّا نزلت آية التخيير أشفقن أنْ يطلَّقن فقلن : يا نبيّ الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت ، ودعنا على حالنا ، فنزلت هذه الآية ، فكان ممّن أُرجي منهن سودة وجويرية وصفيّة وميمونة وأُمّ حبيبة ، فكان يقسم لهنّ ما شاء كما شاء ، وكانت ممّن
(8/54)
" صفحة رقم 55 "
آوى إليه عائشة وحفصة وأُمّ سلمة وزينب رحمة الله عليهنّ ، كان يقسم بينهن سواء لا يفضِّل بعضهنّ على بعض ، فأرجأ خمساً وآوى أربعاً .
وقال مجاهد : يعني تعزل مَنْ تشاء منهنّ بغير طلاق ، وترد إليك من تشاء منهنّ بعد عزلك إيّاها بلا تجديد مهر وعقد .
وقال ابن عبّاس : تطلّق من تشاء منهنّ وتمسك من تشاء .
وقال الحسن : تترك نكاح من شئت وتنكح من شئت من نساء امّتك . قال : وكان النبي ( عليه السلام ) إذا خطب امرأة لم يكن لرجل أنْ يخطبها حتى يتزوّجها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أو يتركها .
وقيل : وتقبل من تشاء من المؤمنات اللاّتي يهبن أنفسهن لك ، فتؤويها إليك ، وتترك من تشاء فلا تقبلها .
روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنّها كانت تعيّر النساء اللاّتي وهبن أنفسهن لرسول الله صلّى الله عليه وقالت : أما تستحي امرأة أن تهب أو تعرض نفسها على رجل بغير صداق ، فنزلت هذه الآية ، قالت عائشة : فقلت لرسول الله إنَّ ربَّك ليسارع لك في هواك .
) وَمَنْ ابْتَغَيْتَ ( أي طلبت وأردت إصابته ) مِمَّنْ عَزَلْتَ ( فأصبتها وجامعتها بعد العزل ) فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ( فأباح الله تعالى له بذلك ترك القسم لهنّ حتّى إنَّه ليؤخّر من شاء منهنّ في وقت نوبتها ، فلا يطأها ويطأ من شاء منهنّ في غير نوبتها ، فله أن يردَّ إلى فراشه من عزلها ، فلا حرج عليه فيما فعل تفضيلاً له على سائر الرّجال وتخفيفاً عنه . وقال ابن عبّاس : يقول : إنَّ مَن فات من نسائك اللاّتي عندك أجراً وخلّيت سبيلها ، فقد أحللت لك ، فلا يصلح لك أنْ تزداد على عدد نسائك اللاّتي عندك .
) ذَلِكَ ( الذي ذكرت ) أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ ( أطيب لأنفسهنّ وأقلّ لحزنهنّ إذا علمن أنَّ ذلك من الله وبأمره ، وأنَّ الرخصة جاءت من قِبَله ) وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ ( من التفضيل والايثار والتسوية ) كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ( من أمر النساء والميل إلى بعضهنّ ) وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً ( .
الأحزاب : ( 52 ) لا يحل لك . . . . .
قوله تعالى : ) لاَ يَحِلُّ لَكَ ( بالتاء أهل البصرة ، وغيرهم بالياء ) النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ( أي من بعد هؤلاء النساء التسع اللاّتي خيّرتهنّ فاخترنك لما اخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، قصره عليهنّ ، وهذا قول ابن عبّاس وقتادة . وقال عكرمة والضحاك : لا يحلّ لك من النساء إلاّ اللاّتي أحللناها لك وهو قوله : ) إِنّا أحللنا لك أزواجك . . . ( ثمّ قال : ) لا يحلّ لك النساء من بعد ( التي أحللنا لك بالصفة التي تقدّم ذكرها .
(8/55)
" صفحة رقم 56 "
روى داود بن أبي هند عن محمّد بن أبي موسى عن زياد رجل من الأنصار قال : قلت لأُبيّ بن كعب : أرأيت لو مات نساء النبي صلّى الله عليه أكان يحلّ له أنْ يتزوّج ؟ فقال : وما يمنعه من ذلك وما يُحرّم ذلك عليه ؟ قلت : قوله : ) لا يحلّ لك النساء من بعد ( فقال : إنّما أحلّ الله له ضرباً من النساء فقال : ) يا أيّها النبي إنّا أحللنا لك أزواجك . . . ( ثمّ قال : ) لا يحلّ لك النساء من بعد ( .
وقال أبو صالح : أُمر أنْ لا يتزوّج أعرابية ولا عربية ويتزوّج بعد من نساء قومه من بنات العمّ والعمّة والخال والخالة إنْ شاء ثلاثمائة . وقال سعيد بن جبير ومجاهد : معناه لا يحلّ لك النساء من غير المسلمات فأمّا اليهوديّات والنصرانيّات والمشركات فحرامٌ عليك ، ولا ينبغي أنْ يكنَّ من أُمّهات المؤمنين .
وقال أبو رزين : ) لا يحلّ لك النساء من بعد ( يعني الإماء بالنكاح . ) وَلاَ أنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاج ( قال مجاهد وأبو رزين : يعني ولا أنْ تبدّل بالمسلمات غيرهنّ من اليهود والنصارى والمشركين ) وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ( من السبايا والإماء الكوافر .
وقال الضحّاك : يعني ولا تبدّل بأزواجك اللاّتي هنّ في حبالك أزواجاً غيرهنّ ، بأن تطلّقهنّ وتنكح غيرهن ، فحرّم على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) طلاق النساء اللّواتي كنّ عنده ، إذ جعلهنّ أُمّهات المؤمنين ، وحرّمهن على غيره حين اخترنه ، فأمّا نكاح غيرهنّ فلم يُمنع منه ، بل أُحلّ له ذلك إنْ شاء . يدلّ عليه ما أخبرناه عبدالله بن حامد الوزان ، عن أحمد بن محمد بن الحسين ، عن محمّد بن يحيى قال : أخبرني أبو عاصم عن جريح عن عطاء عن عائشة قالت : ما مات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أحلَّ له النساء .
وقال ابن زيد : كانت العرب في الجاهلية يتبادلون بأزواجهم يعطي هذا امرأته هذا ويأخذ امرأة ذاك فقال الله : ) وَلاَ أنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاج ( يعني تُبادل بأزواجك غيرك أزواجه ، بأنْ تعطيه زوجتك وتأخذ زوجته إلاّ ما ملكت يمينك لا بأس أن تبادل بجاريتك ما شئت فأمّا الحرائر فلا .
أخبرنا أبو محمد عبدالله بن حامد الاصفهاني ، عن أحمد بن محمد بن يحيى العبيدي ، عن أحمد بن نجدة ، عن الحماني ، عن عبد السلام بن حرب ، عن إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة قال : كان البدل في الجاهلية أن يقول الرجل للرجل : بادلني امرأتك وأُبادلك بامرأتي ، تنزل لي عن امرأتك وأنزل لك عن امرأتي ، فأنزل الله عزّ وجلّ : ) وَلاَ أنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاج . . . ( قال : فدخل عيينة بن حصين على النبي صلّى الله عليه وعنده عائشة فدخل بغير إذن ، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه : ( يا عيينة فأين الاستئذان ؟ ) قال : يا رسول الله ما استأذنت على رجل من مضر منذ أدركت ، ثمّ قال : مَنْ
(8/56)
" صفحة رقم 57 "
هذه الحميراء إلى جنبك ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( هذه عائشة أُمّ المؤمنين ) . قال عيينة : أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق ، قال رسول الله صلّى الله عليه : ( إنَّ الله عزّ وجلّ قد حرّم ذلك ) ، فلمّا خرج ، قالت عائشة : مَنْ هذا يا رسول الله ؟ قال : ( هذا أحمق مطاع وإنّهُ على ما ترين لسيّد قومه ) .
قال ابن عبّاس في قوله : ) ولو أعجبك حسنهنّ ( يعني أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب ، وفيه دليل على جواز النظر إلى من يريد أن يتزوّج بها ، وقد جاءت الأخبار بإجازة ذلك .
وأخبرنا عبدالله بن حامد ، عن محمد بن جعفر المطيري ، عن عبد الرحمن بن محمد بن منصور ، عن عبدالرحمن بن مهدي ، عن سفيان عن عاصم الأحول ، عن بكير بن عبدالله المزني أنَّ المغيرة بن شعبة أراد أنْ يتزوّج بامرأة ، فقال النبيّ ( عليه السلام ) : ( فانظر إليها فإنّه أجدر أن يودم بينكما ) .
وأخبرنا عبدالله بن حامد ، عن محمد بن جعفر ، عن علي بن حرب قال : أخبرني أبو معاوية ، عن الحجّاج بن أرطأة ، عن سهل بن محمد بن أبي خيثمة ، عن عمّه سليمان بن أبي خيثمة قال : رأيت محمد بن سلمة يطارد نبيتة بنت الضحّاك على إجار من أياجير المدينة قلت : أتفعل هذا ؟ قال : نعم ، إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه يقول : ( إذا ألقى الله في قلب امرئ خطبة امرأة فلا بأس أنْ ينظر إليها ) .
وأخبرنا عبدالله بن حامد بن محمد عن بشر بن موسى ، عن الحميدي عن سفيان ، عن يزيد ابن كيسان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة أنّ رجلاً أراد أن يتزوّج امرأة من الأنصار ، فقال له النبي صلّى الله عليه : ( أُنظر إليها فإنَّ في أعين نساء الأنصار شيئاً ) . قال الحميدي : يعني الصّغَر . ) وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْء رَقِيباً ( حفيظاً .
الأحزاب : ( 53 ) يا أيها الذين . . . . .
قوله تعالى : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ . . . ( قال أكثر المفسِّرين : نزلت هذه الآية في شأن وليمة زينب . قال أنس بن مالك : أنا أعلم الناس بآية الحجاب ، ولقد سألني عنها أُبيّ بن كعب لمّا بنى رسول الله صلّى الله عليه بزينب بنت جحش أولم عليها بتمر وسويق وذبح شاة ، وبعثت إليه أُمّي أُمّ سليم بحيس في تور من حجارة ، فأمرني النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنْ أدعو أصحابه إلى الطعام ، فدعوتهم فجعل القوم يجيئون ويأكلون ويخرجون ، ثمّ يجيء القوم فيأكلون ويخرجون
(8/57)
" صفحة رقم 58 "
فقلت : يا نبيّ الله قد دعوت حتى ما أجد أحداً أدعوه ، فقال : ارفعوا طعامكم فرفعوا وخرج القوم ، وبقي ثلاثة نفر يتحدّثون في البيت ، فأطالوا المكث ، فقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقمت معه لكي يخرجوا ، فمشى رسول الله صلّى الله عليه منطلقاً نحو حجرة عائشة فقال : ( السلام عليكم أهل البيت ) ، فقالوا : وعليك السلام يا رسول الله ، كيف وجدت أهلك ؟
ثمّ رجع فأتى حجر نسائه فسلّم عليهنّ ، فدعون له ربّه ، ورجع إلى بيت زينب ، فإذا الثلاثة جلوس يتحدّثون في البيت ، وكان النبيّ ( عليه السلام ) شديد الحياء ، فرجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلمّا رأوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولّى عن بيته خرجوا ، فرجع رسول الله ( عليه السلام ) إلى بيته وضرب بيني وبينه ستراً ، ونزلت هذه الآية .
وقال قتادة ومقاتل : كان هذا في بيت أُمّ سلمة ، دخلت عليه جماعة في بيتها فأكلوا ، ثمّ أطالوا الحديث ، فتأذّى بهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاستحيى منهم أن يأمرهم بالخروج ، والله لا يستحيي من الحقّ ، فأنزل الله عزّ وجلّ : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ ( إلاّ أنْ تُدعوا ) إِلَى طَعَام ( فيؤذن لكم فتأكلوه ) غَيْرَ نَاظِرِينَ ( منظرين ) إِنَاهُ ( إدراكه ووقت نضجه ، وفيه لغتان أنىً وإنىً بكسر الألف وفتحها ، مثل أَلّى وإِلّى ومَعاً ومِعاً ، والجمع إناء ، مثل آلاء وامعاء ، والفعل منه أنى يأنى إنىً بكسر الألف مقصور ، وآناء بفتح الألف ممدود . قال الحطيئة :
وأنيت العشا إلى سهيل
أو الشعرى فطال بي الأنا
وقال الشيباني :
تمخضت المنون له بيوم
أَنى ولكل حاملة تمام
وفيه لغة أُخرى : آن يأين أيناً . قال ابن عبّاس : نزلت في ناس من المؤمنين كان يتحيّنون طعام رسول الله صلّى الله عليه ، فيدخلون عليه قبل الطعام إلى أن يدرك ، ثمّ يأكلون ولا يخرجون ، وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتأذّى بهم ، فنزلت هذه الآية . و ) غير ( نصب على الحال ) وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ ( أكلتم الطعام ) فَانْتَشِرُوا ( فتفرّقوا واخرجوا من منزله ) وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيث ( طالبين الأنس بحديث ، ومحله خفض مردود على قوله : ) غير ناظرين ( ولا غير ) مستأنسين لحديث ( ) إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ ( أي لا يترك تأديبكم وحملكم على الحقّ ولا يمنعه ذلك منه .
حدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب لفظاً قال : أخبرني أبو موسى عمران بن
(8/58)
" صفحة رقم 59 "
موسى بن الحصين قال : أخبرني أبو عوانة يعقوب بن إسحاق قال : أخبرني أبو عمرو عثمان بن خرزاد الأنطاكي ، عن عمرو بن مرزوق ، عن جويرية بن أسماء قال : قرئ بين يدي إسماعيل ابن أبي حكيم هذه الآية فقال : هذا ( أدب ) أدّبَ الله به الثقلاء .
وسمعت الحسن بن محمد بن الحسن يقول : سمعت محمد بن عبدالله بن محمد يقول : سمعت الغلابي يقول : سمعت ابن عائشة يقول : حسبك في الثقلاء أنّ الله تعالى لم يحتملهم وقال : ) فإذا طعمتم فانتشروا ( .
قوله : ) وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب ( أخبرنا عبدالله بن حامد ، عن محمّد بن يعقوب ، عن محمد بن سنان الفزار ، عن سهيل بن حاتم ، عن ابن عون ، عن عمرو بن سعيد ، عن أنس بن مالك قال : كنت مع النبي صلّى الله عليه وكان يمرّ على نسائه ، فأتى امرأة عرس بها حديثاً فإذا عندهم قوم ، فانطلق النبي صلّى الله عليه أيضاً فاحتبس فقضى حاجته ، ثمّ جاء وقد ذهبوا ، فدخل وأرخى بينه وبيني ستراً قال : فحدّثت أبا طلحة فقال : إن كان كما تقول لينزلنّ شيء في هذا ، فنزلت آية الحجاب .
وأنبأني عبدالله بن حامد الوزان أنّ الحسين بن يعقوب حدّثه عن يحيى بن أبي طالب عن عبد الوهاب عن حميد عن أنس قال : قال عمر : يا رسول الله ، تدخل عليك البرّ والفاجر ، فلو أمرت أُمّهات المؤمنين بالحجاب . فنزلت آية الحجاب .
وأخبرنا محمد بن عبدالله بن حمدون ، عن أحمد بن محمد الشرقي ، عن محمد بن يحيى عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، عن أبي ، عن صالح بن شهاب ، عن عروة بن الزبير : أنّ عائشة قالت : كان عمر بن الخطّاب يقول لرسول الله صلّى الله عليه : احجب نساءك ، فلم يفعل ، وكان أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يخرجن ليلاً إلى ليل قبل المناصع وهو صعيد أقبح ، فخرجت سودة بنت زمعة ، وكانت امرأة طويلة فرآها عمر وهو في المجلس فقال : قد عرفتكِ يا سودة حرصاً على أن ينزل الحجاب ، فأنزل الله الحجاب .
وأخبرنا عبدالله بن حامد إجازة ، عن محمد بن يعقوب ، عن الحسين بن علي بن عفان قال : أخبرني أبو أُسامة ، عن مخالد بن سعيد ، عن عامر قال : مرَّ عمر على نساء النبي صلّى الله عليه وهو مع النساء في المسجد فقال لهنّ : احتجبن ، فإنَّ لكنَّ على النساء فضلاً ، كما انّ لزوجكنَّ على الرجال الفضل ، فلم يلبثوا إلاّ يسيراً حتى أنزل الله آية الحجاب .
وروى عطاء بن أبي السائب عن أبي وائل عن ابن مسعود قال : أمر عمر بن الخطاب نساء
(8/59)
" صفحة رقم 60 "
النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالحجاب فقالت زينب : يابن الخطّاب إنّك لتغار علينا والوحي ينزل في بيوتنا ، فأنزل الله تعالى : ) وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ( ) ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ( .
وقيل في سبب نزول الحجاب ما أخبرنا أحمد بن محمد أنّ المعافى حدّثه عن محمّد بن جرير قال : حدّثني يعقوب بن إبراهيم ، عن هشام ، عن ليث ، عن مجاهد : أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يطعم ومعه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد عائشة وكانت معهم ، فكره النبي ذلك ، فنزلت آية الحجاب .
أخبرنا أبو عبدالله محمد بن أحمد بن علي المزكى قال : أخبرني أبو العبّاس أحمد بن محمد بن الحسين الماسرخسي ، عن شيبان بن فروخ الابلي ، عن جرير بن حازم ، عن ثابت البنائي ، عن أنس بن مالك قال : كنت أدخل على رسول الله صلّى الله عليه بغير إذن ، فجئت يوماً لأدخل فقال : مكانك يا بني ، قد حدث بعدك أنْ لا يدخل علينا إلاّ بإذن .
قوله : ) وَمَا كَانَ لَكُمْ ( يعني وما ينبغي وما يصلح لكم ) أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً ( نزلت في رجل من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : لئن قبض رسول الله صلّى الله عليه لأنكحنّ عائشة بنت أبي بكر .
أنبأني عقيل بن محمد ، عن المعافى بن زكريا ، عن محمد بن جرير ، عن محمد بن المثنى ، عن عبد الوهاب ، عن داود عن عامر أنّ النبي صلّى الله عليه مات وقد ملك قتيلة بنت الأشعث بن قيس ولم يجامعها ، فتزوّجها عكرمة بن أبي جهل بعد ذلك ، فشقّ على أبي بكر مشقّة شديدة ، فقال له عمر : يا خليفة رسول الله إنّها ليست من نسائه ، إنّها لم يخيّرها رسول الله صلّى الله عليه ولم يحجبها ، وقد برّأها منه بالردّة التي ارتدّت مع قومها قال : فاطمأنَّ أبو بكر وسكن .
وروى معمر عن الزهري : أنَّ العالية بنت طيبان التي طلّقها النبيّ صلّى الله عليه تزوّجت رجلاً وولدت له ، وذلك قبل أنْ يحرّم على الناس أزواج النبي ( عليه السلام ) .
الأحزاب : ( 54 - 55 ) إن تبدوا شيئا . . . . .
) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْء عَلِيماً ( قوله تعالى : ) لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ . . . ( .
قال ابن عبّاس : لمّا نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ونحن أيضاً نكلّمهنّ من وراء حجاب ؟ فأنزل الله تعالى : ) لا جناح عليهن في آبائهن ( ) وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلاَ أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ( في ترك الاحتجاب من هؤلاء وأن يروهن . وقال مجاهد : لا جناح عليهن في وضع جلابيبهن عندهم .
) وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيداً ( .
(8/60)
" صفحة رقم 61 "
2 ( ) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىِّ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُواْ فَقَدِ احْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً ياأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاَِزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذالِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِى الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النَّارِ يَقُولُونَ يالَيْتَنَآ أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ رَبَّنَآ ءَاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ( 2
الأحزاب : ( 56 ) إن الله وملائكته . . . . .
) إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ ( قراءة العامة بنصب التاء وقرأ ابن عبّاس : ) وملائكته ( بالرفع عطفاً على محلّ قوله : الله قبل دخول إنّ ، نظيره قوله : ) إنَّ الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى ( وقد مضت هذه المثلة . ) يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ( أي يثنون ويترحّمون عليه ويدعون له . وقال ابن عبّاس : يتبرّكون . ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ ( ترحّموا عليه وادعو له ) وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ( وحيّوه بتحية الإسلام .
أخبرنا عبدالله بن حامد ، عن المطري ، عن علي بن حرب ، عن ابن فضيل ، عن يزيد بن أبي زياد ، وأخبرنا أبو الحسن بن أبي الفضل العدل ، عن إسماعيل بن محمد الصفّار ، عن الحسين بن عروة ، عن هشيم بن بشير ، عن يزيد بن أبي زياد ، وحدّثنا عبد الرحمن بن أبي ليلى ، حدّثني كعب بن عجرة قال : لمّا نزلت ) إنَّ الله وملائكته يصلّون على النّبي . . . ( قلنا : يا رسول الله قد علمنا السلام عليك ، فكيف الصلاة عليك ؟ قال : ( قل : اللّهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد ) .
وأخبرنا عبدالله بن حامد الوزّان ، عن مكي بن عبدان ، عن عمّار بن رجاء عن ابن عامر ، عن عبدالله بن جعفر ، عن يزيد بن مهاد ، عن عبدالله بن خباب ، عن أبي سعيد الخدري قال : قلنا : يا رسول الله هذا السلام قد علمنا ، فكيف الصلاة عليك
(8/61)
" صفحة رقم 62 "
قال : ( قولوا اللّهم صلِّ على محمّد عبدك ورسولك كما صلّيت على إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم ) .
وأخبرنا أحمد بن محمد بن يوسف الفقيه ، عن مكي بن عبدان عن محمد بن يحيى قال : فيما قرأت على ابن نافع ، وحدّثني مطرف ، عن مالك ، عن عبدالله بن أبي بكر ، عن محمد بن عمرو بن حرم ، عن أبيه ، عن عمرو بن سليمان الزرقي ، أخبرني أبو حميد الساعدي أنّهم قالوا : يارسول الله كيف نصلّي عليك ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قولوا : اللّهم صلِّ على محمّد وأزواجه وذرّيته كما صلّيت على آل إبراهيم ، وبارك على محمّد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد ) .
وبإسناده عن مالك عن نعيم ، عن عبدالله بن المجمر ، عن محمد بن عبدالله بن زيد الأنصاري ، عن أبي مسعود الأنصاري أنّه قال : أتانا رسول الله صلّى الله عليه ونحن جلوس في مجلس سعد بن عبادة ، فقال له بشير بن ( سعد ) : أمرنا الله أنْ نصلّي عليك يا رسول الله ، فكيف نصلّي عليك ؟ فسكت رسول الله صلّى الله عليه حتّى تمنّينا أنّه لم يسأله ، ثمّ قال : ( قولوا اللّهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميدٌ مجيد ، والسلام كما قد علمتم ) .
وأخبرنا عبدالله بن حامد بقراءتي عليه قال : أخبرنا محمّد بن خالد بن الحسن ، عن داود ابن سليمان ، عن عبد بن حميد قال : أخبرني أبو نعيم عن المسعودي ، عن عون ، عن أبي فاختة ، عن الأسود قال : قال عبدالله : إذا صلّيتم على النبي صلّى الله عليه فأحسنوا الصلاة عليه ، فإنّكم لا تدرون لعلّ ذلك يعرض عليه ، قالوا : فعلِّمْنا ، قال : قولوا : اللّهم اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على سيّد المرسلين وإمام المتّقين وخاتم النبيّين محمد عبدك ورسولك ، إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة ، اللّهم ابعثه مقاماً محموداً يغبطه به الأوّلون والآخرون ، اللّهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم إنَّك حميد .
أخبرنا عبد الخالق بن علي قال : أخبرني أبو بكر بن جنب عن يحيى بن أبي طالب عن يزيد بن هارون قال : أخبرني أبو معاوية ، عن الحكم بن عبدالله بن الخطّاب ، عن أُمّ الحسن ،
(8/62)
" صفحة رقم 63 "
عن أبيها قالوا : يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى : ) إنَّ الله وملائكته يصلّون على النبيّ ( فقال النبي ( عليه السلام ) : هذا من العلم المكنون ، ولو أنّكم سألتموني عنه ما أخبرتكم به ، إنَّ الله تعالى وكَّلَ بي ملكين فلا أذكر عند عبد مسلم فيصلّي عليَّ إلاّ قال ذانك الملكان : غفر الله لك ، وقال الله تعالى وملائكته جواباً لذينك الملكين : آمين ، ولا أُذكر عند عبد مسلم فلا يصلّي عليَّ إلاَّ قال ذانك الملكان ، لا غفر الله لك ، وقال الله وملائكته جواباً لذينك الملكين : آمين .
الأحزاب : ( 57 ) إن الذين يؤذون . . . . .
قوله تعالى : ) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ ( يعني بمعصيتهم إيّاه ومخالفتهم أمره . وقال عكرمة : هم أصحاب التصاوير الذين يرومون تكوين خلق مثل خلق الله عزّ وجلّ ، وفي بعض الأخبار يقول الله جلّ جلاله : ومَن أظلم ممّن أراد أنْ يخلق مثل خلقي فليخلق حبّة أو ذرّة ، وقال ( عليه السلام ) : لعن الله المصوّرين . وقال ابن عبّاس : هم اليهود والنصارى والمشركون ، فأمّا اليهود فقالوا : يد الله مغلولة وقالوا : إنَّ الله فقير . وقالت النصارى : المسيح ابن الله وثالث ثلاثة . وقال المشركون : الملائكة بنات الله ، والأصنام شركاؤه .
قال قتادة : في هذه الآية ما زال أناس من جهلة بني آدم حتى تعاطوا أذى ربّهم ، وقيل : معنى ) يؤذون الله ( يلحدون في أسمائه وصفاته ، وقال أهل المعاني : يؤذون أولياء الله مثل قوله : ) وسْئل القرية ( وقول رسول الله صلّى الله عليه حين قفل من تبوك فبدا له أُحد : هذا جبل يحبّنا ونحبّه ، فحُذف الأهل ، فأراد الله تعالى المبالغة في النهي عن أذى أوليائه فجعل أذاهم أذاهُ .
) وَرَسُولَهُ ( قال ابن عبّاس : حين شج في وجهه وكسرت رباعيته وقيل له : شاعر وساحر ومعلّم مجنون . وروى العوفي عنه : أنّها نزلت في الذين طعنوا على النبي ( عليه السلام ) في نكاحه صفيّة بنت حيي بن أخطب ، وقيل : بترك سنّته ومخالفة شريعته .
) لَعَنَهُمْ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً }
الأحزاب : ( 58 ) والذين يؤذون المؤمنين . . . . .
) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ( من غير أن عملوا ما أوجب الله أذاهم ) فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً ( .
قال الحسن وقتادة : إيّاكم وأذى المؤمن فإنّه حبيب ربّه ، أحبَّ الله فأحبّه ، وغضب لربّه فغضب الله له ، وإنَّ الله يحوطه ويؤذي من آذاه . وقال مجاهد : يعني يقفونهم ويرمونهم بغير ما عملوا . وقال مقاتل : نزلت في عليّ بن أبي طالب ح ، وذلك أنَّ ناساً من المنافقين كانوا يؤذونه ويسمعونه . وقيل : في شأن عائشة . وقال الضحّاك والسدي والكلبي : نزلت في الزّناة الذين كانوا يمشون في طرق المدينة يتّبعون النساء إذا تبرزنَّ بالليل لقضاء حوائجهنّ ، فيرون
(8/63)
" صفحة رقم 64 "
المرأة فيدنون منها ، فيغمزونها ، فإنْ سكتت اتّبعوها ، وإنْ زجرتهم انتهوا عنها ، ولم يكونوا يطلبون إلاّ الأماء ، ولم يكن يومئذ تُعرف الحرّة من الأمَة و لأنَّ زيّهن كان واحداً ، إنّما يخرجن في درع واحد وخمار الحرّة والأَمَة ، فشكون ذلك إلى أزواجهنّ فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه . فأنزل الله تعالى : ) والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات . . . ( ثمّ نهى الحرائر أن يتشبهنّ بالإماء ،
الأحزاب : ( 59 ) يا أيها النبي . . . . .
فقال تعالى : ) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ( أي يرخين أرديتهن وملاحفهن فيتقنّعن بها ، ويغطّين وجوههن ورؤوسهن ليُعلم أنّهنّ حرائر فلا يُتعرّض لهنَّ ولا يؤذين .
قوله : ) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً ( لما سلف منهن من ترك السنن ) رَحِيماً ( بهنّ إذ سترهنّ وصانهنّ . قال ابن عبّاس وعبيدة : أمر الله النساء المؤمنات أنْ يغطّين رؤوسهنّ ووجوههنّ بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة . قال أنس : مرّت جارية بعمر بن الخطّاب متقنّعة فعلاها بالدرّة وقال : يا لكاع أتشبهين بالحرائر ؟ ألقي القناع .
الأحزاب : ( 60 ) لئن لم ينته . . . . .
قوله عزّ وجلّ : ) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ( فجور ، يعني الزناة ) وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ ( بالكذب والباطل ، وذلك أنّ ناساً منهم كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله صلّى الله عليه يوقعون في الناس أنّهم قُتلوا وهزموا ، وكانوا يقولون : قد أتاكم العدوّ ونحوها .
وقال الكلبي : كانوا يحبّون أنْ يفشوا الأخبار ، وأنْ تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ) لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ( لنولعنّك ونحرشنّك بهم ، ونسلطنّك عليهم . ) ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلا ( أي لا يساكنونك في المدينة إلاّ قليلاً حتّى يخرجوا منها
الأحزاب : ( 61 ) ملعونين أينما ثقفوا . . . . .
) مَلْعُونِينَ ( مطرودين ، نصب على الحال ، وقيل : على الذم ) أَيْنَمَا ثُقِفُوا ( أُصيبوا ووجُدوا ) أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا ( . قال قتادة : ذُكر لنا أنَّ المنافقين أرادوا أنْ يظهروا لما في قلوبهم من النفاق ، فأوعدهم الله في هذه الآية فكتموه .
وأنبأني عبدالله بن حامد الأصفهاني عن عبدالله بن جعفر النساوي ، عن محمد بن أيّوب عن عبدالله بن يونس ، عن عمرو بن شهر ، عن أبان ، عن أنس قال : كان بين رجل وبين أبي بكر شيء ، فنال الرجل من أبي بكر ، فغضب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتّى غمر الدمّ وجهه ، فقال : ( ويحكم ، ذروا أصحابي وأصهاري ، احفظوني فيهم لأنَّ عليهم حافظاً من الله عزّ وجلّ ، ومن لم يحفظني فيهم تخلّى الله منه ، ومن تخلّى الله منه يوشك أنْ يأخذه ) .
) ملعونين أينما ثقفوا أُخذوا وقتّلوا تقتيلاً ( .
الأحزاب : ( 62 - 65 ) سنة الله في . . . . .
) سُنَّةَ اللهِ ( أي كسُنّة الله ) فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلا يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنْ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً إِنَّ اللهَ لَعَن
(8/64)
" صفحة رقم 65 "
الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ( .
الأحزاب : ( 66 ) يوم تقلب وجوههم . . . . .
قوله : ) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ ( ظهراً لبطن حين يسحبون عليها . وقراءة العامّة بضمّ التاء وفتح اللام على المجهول . وروي عن أبي جعفر بفتح التاء واللام على معنى يتقلّب . وقرأ عيسى بن عمر ( نُقلِب ) بضم النون وكسر اللاّم . ) وجوههم ( نصباً .
) يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ ( في الدنيا
الأحزاب : ( 67 ) وقالوا ربنا إنا . . . . .
) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا ( قادتنا ورؤسانا في الشرك والضلالة . وقرأ الحسن وابن عامر وأبو حاتم ( ساداتِنا ) جمع بالألف وكسر التاء على جمع الجمع ) فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ (
الأحزاب : ( 68 ) ربنا آتهم ضعفين . . . . .
) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ ( أي مثلي عذابنا ) وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ( قرأ يحيى بن وثاب وعاصم ) كبيراً ( بالباء وهي قراءة أصحاب عبدالله . وقرأ الباقون بالثاء ، وهي اختيار أبي حاتم وأبي عبيد ، ثمّ قالا : إنّا اخترنا الثاء لقوله : ) ويلعنهم اللاعنون ( وقوله : ) أُولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ( فهذا يشهد للكثرة .
وأخبرني أبو الحسين عبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى قال : سمعت أبا الحسن عبدالله بن محمد بن جعفر بن شاذان البغدادي من حفظه إملاء يقول : سمعت محمد بن الحسن ابن قتيبة العسقلاني بعسقلان ورملة أيضاً يقول : سمعت محمد بن أبي السري يقول : رأيت في المنام كأنّي في مسجد عسقلان وكان رجلاً يناظرني وهو يقول : ) والعنهُم لَعناً كبيراً ( وأنا أقول كثيراً فإذا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكان في وسط المسجد منارة لها باب ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقصدها فقلت : هذا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : السلام عليك يا رسول الله ، استغفر لي ، فأمسك عنّي فجئت عن يمينه فقلت : يا رسول الله ، استغفر لي فأعرض عنّي ، فقمت في صدره فقلت : يا رسول الله حدّثنا سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله : أنّك ما سئلت شيئاً قط فقلت : لا ، فتبسّم ، ثمّ قال : ( اللّهمّ اغفر له ) ، فقلت : يا رسول الله ، إنّي وهذا نتكلّم في قوله : ) والعنهم لعناً كبيراً ( وهو يقول : ) كبيراً ( وأنا أقول : ( كثيراً ) ، قال : فدخل المنارة وهو يقول : كثيراً إلى أن غاب صوته عنّي . ، يعني بالثاء .
( ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ ءَاذَوْاْ مُوسَى فَبرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهاً ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً إِنَّا عَرَضْنَا الاَْمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً لِّيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (
(8/65)
" صفحة رقم 66 "
الأحزاب : ( 69 ) يا أيها الذين . . . . .
قوله : ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ ( فطهّره الله سبحانه ) مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً ( كريماً مقبولاً ذا جاه ، واختلفوا فيما آذوا به موسى .
فأخبرنا محمّد بن عبدالله بن حمدون قال : أخبرني أبو حامد بن الشرفي ، عن محمد ويحيى بن عبد الرحمن بن بشير وأحمد بن يوسف قالوا : أخبرنا عبدالله بن حامد قال : أخبرني أبو بكر المطيري قال : أخبرني أبو جعفر أحمد بن عبدالله بن يزيد المؤدب ، عن عبد الرزاق ، عن معمر عن همام بن منبه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلّى الله عليه قال : ( كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض ، وكان موسى ( عليه السلام ) يغتسل وحده ، فقالوا : والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلاّ أنّه آدر ، فذهب مرّة يغتسل وحده فوضع ثوبه على الحجر ففرّ الحجر بثوبه فجمح في أثره يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر حتى نظر بنو إسرائيل إلى سوأة موسى فقالوا : والله ما بموسى من بأس ، فقام الحجر من بعدما نظروا إليه ، فأخذ ثوبه وطفق بالحجر ضرباً ) .
قال أبو هريرة : إنّ بالحجر ندباً ستّة أو سبعة أثر ضرب موسى ( عليه السلام ) .
وروى الحسن وابن سيرين عن أبي هريرة في هذه الآية قال : قال رسول الله صلّى الله عليه : ( إنَّ موسى كان رجلاً حيّياً ستيراً لا يكاد يُري من جلده شيئاً يستحيي منه ، فآذاه مَن آذاه من بني إسرائيل فقالوا : ما يستر هذا الستر إلاّ من عيب بجلده ، إمّا برص وإمّا أدرة ، فأراد الله أن يبرءه ممّا قالوا : وإنّ موسى خلا يوماً وحده ، فوضع ثوبه على حَجر ثمّ اغتسل ، فلمّا فرغ من غسله أقبل على ثوبه ليأخذه بَعُد الحجر بثوبه ، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر ، وجعل يقول : ثوبي حجر ثوبي حجر ، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل ، فنظروا إلى أحسن الناس خلقاً وأعدلهم صورة ، وإنّ الحجر قام فأخذ ثوبه فلبسه ، فطفق بالحجر ضرباً ، وقال الملأ : قاتل الله أفّاكي بني إسرائيل فكانت براءته التي برّأه الله منها ) .
وقال قوم : كان إيذاؤهم إيّاه ادّعاءهم عليه قتل أخيه هارون .
أخبرني عقيل بن محمد بن أحمد الفقيه أنّ المعافى بن زكريا القاضي أخبره عن محمد بن جرير بن يزيد الطبري ، حدّثني علي بن مسلم الطوسي ، عن عبّاد عن سفيان بن حصين ، عن الحكم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس ، عن علي بن أبي طالب في قول الله تعالى : ) كالذين آذوا موسى . . . ( قال : صعد موسى وهارون الجبل فمات هارون ، فقال بنو إسرائيل : أنت قتلته ، وكان أشدّ حبّاً لنا منك وألين لنا منك ، فآذوه بذلك ، فأمر الله الملائكة فحملته حتى مرّوا به على
(8/66)
" صفحة رقم 67 "
بني إسرائيل ، وتكلّمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إسرائيل أنّه مات ، فبرّأه الله من ذلك ، فانطلقوا به فدفنوه ، فلم يطّلع على قبره أحد من خلق الله إلاّ الرّخم فجعله الله أصمّ أبكم .
وقال أبو العالية : هو أنّ قارون استأجر مومسة لتقذف موسى ( عليه السلام ) بنفسها على رأس الملأ ، فعصمها الله منه وبرّأ موسى من ذلك وأهلك هارون . وقد مضت هذه القصّة .
الأحزاب : ( 70 ) يا أيها الذين . . . . .
) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيداً ( أي حقّاً قصداً . ابن عبّاس : صواباً . قتادة ومقاتل : عدلاً . المؤرخ : مستقيماً . عكرمة : هو قول : لا إله إلاّ الله . ابن حيان : يعني قولوا في شأن زينب وزيد سديداً ولا تنسبوا رسول الله صلّى الله عليه إلى ما لا يحمل .
الأحزاب : ( 71 ) يصلح لكم أعمالكم . . . . .
) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ( .
الأحزاب : ( 72 ) إنا عرضنا الأمانة . . . . .
قوله : ) إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ ( قيل : كان العَرْض على أعيان هذه الأشياء ، فأفهمهنّ الله خطابه وأنطقهنّ . وقيل : عرضها على من فيها من الملائكة . وقيل : عرضها على أهلها كلّها دون أعيانها ، وهذا كقوله : ) وسْئل القرية ( ( أي أهلها ) .
) فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا ( مخافةً وخشيةً لا معصية ومخالفة ، وكان العَرض تخييراً لا إلزاماً ) وَحَمَلَهَا الأِنْسَانُ ( واختلفوا في الأمانة ، فقال أكثر المفسّرين : هي الطاعة والفرائض التي فرضها الله على عباده ، عَرَضها على السماوات والأرض والجبال ، إنْ أدّوها أثابهم وإنْ ضيّعوها عذّبهم ، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية ، ولكن تعظيماً لدين الله أن لا يقوموا بها وقالوا : لا ، نحن مسخّرات لأمرك لا نريد ثواباً ولا عقاباً .
فقال الله تعالى لآدم : إنّي عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها ، فهل أنت آخذها بما فيها ؟ قال : يا ربّ وما فيها ؟ قال : إنْ أحسنت جُزيت ، وإنْ أسأت عوقبت ، فتحمّلها آدم صلوات الله عليه وقال : بين أُذني وعاتقي ، فقال الله تعالى : أمّا إذا تحمّلت فسأُعينك فاجعل لبصرك حجاباً ، فإذا خشيت أنْ تنظر إلى ما لايحلّ لك فأرخِ عليه حجابه واجعل للسانك لحيين وغلقاً ، فإذا خشيت فاغلق ، واجعل لفرجك لباساً فلا تكشفه على ما حرَّمتُ عليك .
قالوا : فما لبث آدم إلاّ مقداراً ما بين الظهر والعصر حتى أُخرج من الجنّه . وقال مجاهد : الأمانة الفرائض وحدود الدين . وأبو العالية : هي ما أُمروا به ونُهوا عنه . وقال زيد بن أسلم وغيره : هي الصوم والغسل من الجنابة وما يخفى من شرائع الدين .
أنبأني عقيل بن محمد ، عن المعافى بن زكريا ، عن محمد بن جرير الطبري ، عن محمد بن خالد العسقلاني عن عبدالله بن عبد المجيد الحنفي قال : أخبرنا أبو العوام القطان عن قتادة
(8/67)
" صفحة رقم 68 "
وأبان بن أبي عبّاس عن خليد العصري عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلّى الله عليه : خمس مَنْ جاء بهنّ يوم القيامة مع إيمان دخل الجنّة : من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهنّ ومواقيتهنّ ، وأعطى الزكاة من ماله عن طيب نفس وكان يقول : ( وأيم ) الله لا يفعل ذلك إلاّ مؤمن وأدّى الأمانة .
قالوا : يا أبا الدرداء ، وما أداء الأمانة ؟ قال : الغسل من الجنابة . قال : الله عزّ وجلّ لم يأتمن ابن آدم على شيء من دينه غيره .
وبه عن ابن جرير عن ابن بشّار ، عن عبد الرحمن ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن أُبيّ بن كعب قال : من الأمانة أنّ المرأة أُئتمنت على فرجها .
وقال عبد الله بن عمر بن العاص : أول ما خلق الله تعالى من الإنسان فرجه ، وقال : هذه أمانة استودعتكها . فالفرج أمانة ، والأُذن أمانة ، والعين أمانة ، واليد أمانة ، والرجل أمانة ، ولا إيمان لمن لا أمانة له .
وقال بعضهم : هي أمانات الناس ، والوفاء بالعهد ، فحق على كل مؤمن ألاّ يغش مؤمناً ، ولا معاهداً في شيء قليل ولا كثير ، وهي رواية الضحاك عن ابن عباس ، وقال السدي بإسناده : هي ائتمان آدم ابنه قابيل على أهله وولده ، وخيانته إياه في قتل أخيه وذكر القصة إلى أن قال : قال الله عز وجل لآدم : يا آدم هل تعلم أنّ لي في الأرض بيتاً ؟ قال : اللهم لا .
قال : فإن لي بيتاً بمكة فأته . فقال آدم للسماء : ( احفظي ولدي بالأمانة ) ، فأبت ، وقال للأرض فأبت ، وقال للجبال فأبت ، وقال لقابيل فقال : نعم تذهب وترجع تجد أهلك كما يسرك . فانطلق آدم ( عليه السلام ) ، فرجع وقد قتل قابيل هابيل ، فذلك قوله عز وجل : ) إنا عرضنا الأمانة ( يعني قابيل حين حمل أمانة آدم ثم لم يحفظ له أهله .
وقال الآخرون : ) وحملها الإنسان ( يعني آدم . ثم اختلفت عباراتهم في معنى ( الظلوم ) و ( الجهول ) ؛ فقال ابن عباس والضحاك : ) ظلوماً ( لنفسه ) جهولاً ( غِرّاً بأمر الله وما احتمل من الأمانة . قتادة : ) ظلوماً ( للأمانة ) جهولاً ( عن حقها . الكلبي : ) ظلوماً ( حين عصى ربه ، ) جهولاً ( لا يدري ما العقاب في تركه الأمانة . الحسين بن الفضل : ) إنه كان ظلوماً جهولاً ( عند الملائكة لا عند الله .
الأحزاب : ( 73 ) ليعذب الله المنافقين . . . . .
) ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفوراً رحيماً ( .
(8/68)
" صفحة رقم 69 "
( سورة سبأ )
أخبرنا ابن المقرئ عن ابن مطيرة عن إبراهيم بن شريك عن أحمد بن يونس عن سلام بن سليم عن هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أُمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة سبأ لم يبقَ نبي ولا رسول إلاّ كان يوم القيامة له رفيقاً ومصافحاً ) .
بسم الله الرَّحْمن الرحيم
2 ( ) الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الاَْخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِى الاَْرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاَْرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ لِّيَجْزِىَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِىءَايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ الَّذِىأُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِىإِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ فِى الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السَّمَآءِ وَالاَْرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الاَْرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ( 2
سبأ : ( 1 ) الحمد لله الذي . . . . .
قوله : ) الحمد لله ( وهو الوصف بالجميل على جهة التعظيم ) الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة ( كما هو له فى الدنيا ؛ لأنّ النعم كلها في الدارين منه ، ) وهو الحكيم الخبير ( .
سبأ : ( 2 ) يعلم ما يلج . . . . .
قوله : ) يعلم ما يلج في الأرض ( يدخل ويغيب فيها من الماء والموادّ والحيوانات ، ) وما
(8/69)
" صفحة رقم 70 "
يخرج منها ( من النبات ، ) وما ينزل من السماء ( من الأمطار ، ) وما يعرج ( يصعد ) فيها ( : من الملائكة وأعمال العباد ، ) وهو الرحيم الغفور ( .
سبأ : ( 3 ) وقال الذين كفروا . . . . .
) وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم ( الساعة ، ثم عاد جلّ جلاله إلى تمجيده والثناء على نفسه ، فقال عز من قائل : ) عالم الغيب ( ، اختلف القراء فيها ، فقرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي : ( علاّمِ الغيب ) بخفض الميم على وزن فعال ، وهي قراءة عبد الله وأصحابه . قال الفراء : وكذلك رأيتها في مصحف عبد الله ( علاّمِ ) .
وقرأ أهل مكة والبصرة وعاصم بجر الميم على مثال فاعل رداً على قوله ، وهي اختيار أبي عبيد فيه ، وفي أمثاله يؤثر النعوت على الابتداء .
وقرأ الآخرون ( عالمُ ) رفعاً بالاستئناف ؛ إذ حال بينهما كلام .
) لا يعزب ( يغيب ويبتعد ) عنه مثقال ذرة ( : وزن نملة ، وهذا مثل ؛ لأنه سبحانه لا يخفى عليه ما هو دون الذرة . ) في السماوات والأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلاّ في كتاب مبين (
سبأ : ( 4 - 5 ) ليجزي الذين آمنوا . . . . .
) ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أُولئك لهم مغفرةٌ ورزق كريم والذين سعوا في آياتنا ( عملوا في إبطال أدلّتنا والتكذيب بكتابنا ) معاجزين ( : مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا .
قال ابن زيد : جاهدين ، وقرأ : ) لا تسمعوا لهذا القرآن ( ) أُولئك لهم عذابٌ من رجز أليم ( ، قرأ ابن كثير ويعقوب وعاصم برواية حفص والمفضل ) أليم ( بالرفع على نعت ال ( عذاب ) . غيرهم بالخفض على نعت ال ( رجز ) . قال قتادة : الرجز أسوأ العذاب ، ومثله في الجاثية
سبأ : ( 6 ) ويرى الذين أوتوا . . . . .
) ويرى ( يعني : وليرى ) الذين أُوتوا العلم ( يعني : مؤمني أهل الكتاب : عبد الله بن سلام وأصحابه ، وقال قتادة : هم أصحاب محمد ( عليه السلام ) .
) الذي أُنزل إليك من ربك ( يعني : القرآن ) هو الحق ويهدي ( يعني : القرآن ) إلى صراطِ العزيز الحميد ( وهو الإسلام .
سبأ : ( 7 ) وقال الذين كفروا . . . . .
) وقال الذين كفروا ( منكرين للبعث متعجبين منه : ) هل ندلكم على رجل ينبئكم ( : يخبركم ، يعنون : محمداً ( عليه السلام ) ) إذا مزّقتم ( : قطعتم وفرقتم ) كل ممزّق ( وصرتم رفاتاً ) إنكم ( بالكسر على الابتداء والحكاية ، مجازة يقول لكم : ) إنكم لفي خلق جديد ( .
سبأ : ( 8 ) أفترى على الله . . . . .
) أفترى ( ألف الاستفهام دخلت على ألف الوصل لذلك نُصب ) على الله كذباً أم به جِنة ( : جنون ؟ قال الله تعالى : ) بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد (
(8/70)
" صفحة رقم 71 "
سبأ : ( 9 ) أفلم يروا إلى . . . . .
) أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ( فيعلموا أنهم حيث كانوا ، فإن أرضي وسمائي محيطة بهم ، لا يخرجون من أقطارها ، وأنا لقادر عليهم ولا يعجزونني ؟
) إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء ( قطعة . قراءة العامة بالنون في الثلث ، وقرأ الأعمش والكسائي كلها بالياء وهو اختيار أبي عبيد قال : لذكر الله عز وجل قبله .
) إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ( تائب مقبل على ربه راجع إليه بقلبه .
( ) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً ياَجِبَالُ أَوِّبِى مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِى السَّرْدِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( 2
سبأ : ( 10 ) ولقد آتينا داود . . . . .
قوله تعالى : ) ولقد آتينا داوُد منا فضلاً يا جبال ( مجازه وقلنا : يا جبال ) أوّبي معه ( : سبحي معه إذا سبح . قال أبو ميسرة : هو بلسان الحبشة ، وقال بعضهم : هو التفعيل من الإياب ، أي ارجعي معه بالتسبيح . فهذا معنى قول قتادة وأبي عبيد ، وقال وهب بن منبّه : نوحي معه . ) والطير ( تساعدك على ذلك ، قال : وكان إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها وعكفت الطير عليه من فوقه ، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس من ذلك اليوم .
ويقال : إن داود كان إذا سبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح . ثم إنه قال ليلة من الليالي في نفسه : ( لأعبدن الله تعالى عبادة لم يعبده أحد بمثلها ) ، فصعد الجبل ، فلما كان في جوف الليل وهو على الجبل دخلته وحشة ، فأوحى الله سبحانه إلى الجبال أن آنسي داوُد قال : فاصطكت الجبال بالتسبيح والتهليل ، فقال داوُد في نفسه : ( كيف يسمع صوتي مع هذه الأصوات ؟ ) فهبط عليه ملك فأخذ بعضده حتى انتهى به إلى البحر ، فركله برجله فانفرج له البحر ، فانتهى به إلى الأرض فركلها برجله فانفرجت له الأرض ، حتى انتهى به إلى الحوت فركلها برجله فتنحت عن صخرة فركل الصخرة برجله فانفلقت فمزجت منها دودة تنشز ، فقال له الملك : إن ربك يسمع نشيز هذه الدودة في هذا الموضع .
وقال القتيبي : أصله من التأويب في السير ، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلاً .
قال ابن مقبل :
لحقنا بحي أوّبوا السيرَ بعدما
دفعنا شعاعَ الشمسِ والطرفُ مجنحُ
كأنه أراد ادأبي النهار كله بالتسبيح معه ، وقيل : سيري معه كيف يشاء : ) والطير ( قراءة العامة بالنصب ، وله وجهان
(8/71)
" صفحة رقم 72 "
أحدهما بالفعل ، مجازه : وسخرنا له الطيرَ ، مثل قولك : ( أطعمته طعاماً وماء ) تريد : وسقيته ماء ، والوجه الآخر النداء كقولك : يا عمرو والصلت أقبلا ، نصبت الصلت ؛ لأنه إنما يُدعى بيائها فإذا فقدتها كان كالمعدول عن جهته ، فنصب ، وقيل : مع الطير ، فتكون الطير مأمورة معه بالتأويب .
وروي عن يعقوب بالرفع ؛ رداً على ) الجبال ( أي أوبي معه أنتِ والطير ، كقول الشاعر :
ألا يا عمرو والضحاك سيرا
فقد جاوزتما خمر الطريق
يجوز نصب الضحاك ورفعه .
قوله : ) وألنا له الحديد ( فذكر أن الحديد كان في يده كالطين المبلول والعجين والشمع ، يصرفه بيده كيف يشاء من غير إدخال نار ولا ضرب بحديد ، وكان سبب ذلك على ما رُوي في الأخبار أن داوُد ( عليه السلام ) لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج للناس متنكراً ، فإذا رأى رجلاً لا يعرفه ، تقدم إليه يسأله عن داوُد ، فيقول له : ( ما تقول في داوُد واليكم هذا ؛ أي رجل هو ؟ ) فيثنون عليه ويقولون : خيراً فينا هو .
فبينا هو في ذلك يوماً من الأيام إذ قيّض الله ملكاً في صورة آدمي ، فلما رآه داوُد تقدم إليه على عادته فسأله ، فقال له الملك : نِعمَ الرجل هو لولا خصلة فيه . فراع داوُد ذلك وقال : ( ما هي يا عبد الله ؟ ) قال : إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال . قال : فتنبه لذلك ، وسأل الله تعالى أن يسبب له سبباً يستغني به عن بيت المال فيتقوت منه ويطعم عياله ، فألان الله له الحديد فصار في يده مثل الشمع ، وعلمه صنعة الدروع ، وكان يتخذ الدروع وإنه أول من اتخذها .
فيُقال : إنه كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف ، فيأكل ويطعم عياله منها ويتصدق منها على الفقراء والمساكين ، ويقال أيضاً : إنما ألان الحديد في يده لما أُعطي من القوّة .
سبأ : ( 11 ) أن اعمل سابغات . . . . .
) أن اعمل سابغات ( دروعاً كوامل واسعات ) وقدر في السرد ( ، أي لا تجعل المسامير دقاقاً فتغلق ولا غلاظاً فتكسر الحلق . فكان يفعل ذلك : وهو أول من اتخذ الدروع ، وكانت قبل ذلك صفائح ، والسرد : صنعة الدرع ، ومنه قيل لصانعها : السراد والزراد والدرع المسرودة ، قال أبو ذويب :
وعليهما مسرودتان قضاهما
داوُد أو صنع السوابغ تُبّع
وأصله الوصل والنظم ، ومنه قيل للخرز : سرد وللأشفى مسرد وسراد . قال الشماخ :
كما تابعت سرد العنان الخوارز
(8/72)
" صفحة رقم 73 "
وسرد الكلام .
) واعملوا ( يعني داوُد وآله ) صالحاً إني بما تعملون بصير ( .
2 ( ) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُواْ ءَالَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الاَْرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِى الْعَذَابِ الْمُهِينِ ( 2
سبأ : ( 12 ) ولسليمان الريح غدوها . . . . .
قوله : ( ولسليمان الريح قراءة العامة بنصب الحاء ، أي وسخرنا لسليمان الريح ، وروى أبو بكر والمفضل عن عاصم بالرفع على جر حرف الصفة . ) غدوها شهرٌ ورواحها ( من انتصاف النهار إلى الليل مسير ) شهر ( ، فجعل ( ما ) تسير به في يوم واحد مسيرة شهرين ، وقال وهب : ذُكر لي أن منزلاً بناحية دجلة مكتوب فيه كتابة ( كتبها ) بعض صحابة سليمان ( عليه السلام ) ، إما منَ الجن وإما من الإنس بحرّ نزلناه وما بنيناه ، مبنياً وجدناه غدوناه من إصطخر فقلناه ونحن رائحون منه إن شاء الله فبائتون بالشام .
قال الحسن : لما شغلت نبي الله سليمان بن داوُد الخيل حتّى فاتته صلاة العصر غضب لله فعقر الخيل ، فأبدله الله تعالى مكانها خيراً وأسرع له ، تجري بأمره كيف يشاء ) غدوها شهر ورواحها شهر ( وكان يغدو من إيليا فيقيل بإصطخر ثم يروح منها فيكون رواحها بكابل .
وقال ابن زيد : كان له ( عليه السلام ) مركب من خشب ، وكان فيه ألف ركن في كل ركن ألف بيت يركب معه فيه من الجن والإنس تحت كل ركن ألف شيطان يرفعون ذلك المركب ، فإذا ارتفع أتت الريح الرخاء فسارت به وبهم ، يقيل عند قوم بينه وبينهم شهر ويمسي عند قوم بينه وبينهم شهر ، فلا يدري القوم إلاّ وقد أظلهم معه الجيوش .
ويروى أن سليمان ( عليه السلام ) سار من أرض العراق غادياً فقال بمدينة مرو ، وصلّى العصر بمدينة بلخ تحمله وجنوده الريح ويظلهم الطير ، ثم سار من مدينة بلخ متخللاً بلاد الترك ، ثم جازهم إلى أرض الصين يغدو على مسيرة شهر ويروح على مثله . ثم عطف يمنة عن مطلع الشمس على ساحل البحر حتى أتى أرض القندهار ، وخرج منها إلى مكران وكرمان ثم جازها حتى أتى أرض فارس فنزلها أياماً وغدا منها فقال بكسكر ، ثم راح إلى الشام ، وكان مستقره
(8/73)
" صفحة رقم 74 "
بمدينة تدمر ، وقد كان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق ، فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأصفر ، وفي ذلك يقول النابغة :
ألا سليمان إذ قال الإله له
قم في البرية فاحددها عن الفندِ
وخيس الجن إني قد أذنت لهم
يبنون تدمر بالصفاح والعمدِ
ووجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض كسكر ، أنشأها بعض أصحاب سليمان بن داوُد ( عليهما السلام ) :
ونحن ولا حول سوى حول ربنا
نروح إلى الأوطان من أرض تدمرِ
إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا
مسيرة شهر والغدوّ لآخر
أُناس شروا لله طوعاً نفوسهم
بنصر ابن داوُد النبي المطهّرِ
لهم في معالي الدين فضل ورفعة
وإن نسبوا يوماً فمن خير معشرِ
متى يركبوا الريح المطيعة أسرعت
مبادرة عن شهرها لم تقصّرِ
تظلهمُ طير صفوف عليهم
متى رفرفت من فوقهم لم تنفرِ
قوله : ) وأسلنا له عين القطر ( : وأذبنا له عين النحاس أُسيلت له ثلاثة أيام كما يسيل الماء ، وكانت بأرض اليمن ، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان .
) ومن يزغ ( : يملْ ويعدل ) عن أمرنا ( الذي أمرناه به من طاعة سليمان ) نذقه من عذاب السعير ( في الآخرة . عن أكثر المفسرين ، وقال بعضهم : في الدنيا ، وذلك أن الله تعالى وكّل بهم ملكاً بيده سوط من نار فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه ضربة أحرقته .
سبأ : ( 13 ) يعملون له ما . . . . .
) يعملون له ما يشاء من محاريب ( : مساجد ومساكن وقصور ، والمحراب : مقدم كل مسجد ، ومجلس وبيت . قال عدي :
كدُمى العاج في المحاريب أو كال
بيض في الروض زهره ( مستنير )
وكان مما عملوا له من ذلك بيت المقدس ، وقصته وصفته على ما ذكره أهل البصر بالسير أن الله تعالى بارك في نسل إبراهيم ( عليه السلام ) حتى جعلهم في الكثرة غاية لا يُحصون ، فلما كان زمن داوُد ( عليه السلام ) لبث فيهم ثلاثين سنة بأرض فلسطين ، وهم كل يوم يزدادُون كثرة ، فأُعجب داوُد بكثرتهم فأمر بعدّهم ، فكانوا يعدون زماناً من الدهر حتى أيسوا وعجزوا أن يحيط علمُهُم بعدد بني إسرائيل ، فأوحى الله إلى داوُد : ( إني قد وعدت أباك إبراهيم يوم أمرته بذبح
(8/74)
" صفحة رقم 75 "
ولده فصدقني وائتمر أمري أن أُبارك له في ذريته ، حتى يصيروا أكثر من عدد نجوم السماء وحتى لا يحصيهم العادّون ، وإني قد أقسمت أن أبتليهم ببلية يقل منها عددهم ويذهب عنك إعجابك بكثرتهم ) وخيرّه بين أن يعذبهم بالجوع والقحط ثلاث سنين ، وبين أن يُسلط عليهم عدوهم ثلاثة أشهر ، وبين أن يُرسل عليهم الطاعون ثلاثة أيام .
فجمع داوُد بني إسرائيل وأخبرهم بما أوحى الله إليه وخيره فيه ، فقالوا : أنت أعلم بما هو أيسر لنا وأنت نبينا فانظر لنا ، غير أن الجوع لا صبر لنا ( عليه ) وتسليط العدو أمر فاضح ، فإن كان لابد فالموت . فأمرهم داوُد عليه السلام أن يتجهزوا للموت ، فاغتسلوا وتحنطوا ولبسوا الأكفان وبرزوا إلى الصعيد بالذراري والأهلين ، وأمرهم أن يضجّوا إلى الله تعالى ويتضرعوا إليه لعله يرحمهم ، وذلك في صعيد بيت المقدس قبل بناء المسجد . قال : وارتفع داوُد ( عليه السلام ) فوق الصخرة فخرّ ساجداً يبتهل إلى الله تعالى فأرسل الله فيهم الطاعون . فأهلك منهم في يوم وليلة ما لم يتفرغوا من دفنهم إلاّ بعد مدة شهرين . فلما أصبحوا من اليوم الثاني سجد داوُد وسجدوا معه إلى طلوع الشمس فلم يرفعوا رؤوسهم حتى كشف الله عنهم الطاعون .
قالوا : فلما أن شفّع الله تعالى داوُد في بني إسرائيل في ذلك المكان جمع داوُد بني إسرائيل بعد ثلاثة فقال لهم : ( إن الله سبحانه قد منّ عليكم ورحمكم فجددوا له شكراً ) . فقالوا : كيف تأمرنا . قال : ( آمركم أن تتخذوا من هذا الصعيد الذي رحمكم فيه مسجداً لا يزال فيه منكم وممن بعدكم ذاكر ) .
فلما أرادوا البناء جاء رجل صالح فقير يختبرهم ليعلم كيف إخلاصهم في ثبوتهم فقال لبني إسرائيل : إنّ لي فيه موضعاً أنا محتاج إليه ولا يحل لكم أن تحجبوني عنه . فقالوا له : يا هذا ما أحد في بني إسرائيل إلاّ وله في هذا الصعيد حق مثل حقك ، فلا تكن أبخل الناس ولا تضايقنا فيه . فقال : أنا لا أعرف حقي وأنتم لا تعرفون . فقالوا له : إما إن ترضى وتطيب نفساً ، وإلاّ أخذناه كرهاً . فقال لهم : أوتجدون ذلك في حكم الله وفي حكم داوُد ؟
قال : فرفعوا خبره إلى داوُد فقال : ( أرضوه ) . فقالوا : بكم نأخذه يا نبي الله ؟ قال : ( خذوه بمائة شاة ) . فقال الرجل : زد . فقال داوُد : ( بمائة بقر ) . قال : زد . قال : ( مائة إبل ) . قال : زدني فإنّ ما تشتريه لله تعالى . فقال داوُد : ( أما إذا قلت هذا ، فاحتكم أُعطكه ) فقال : تشتري مني بحائط مثله زيتوناً ونخلاً وعنباً . قال : ( نعم ) . فقال : تشتريه لله فلا تبخل . قال : ( سل ما شئت أُعطكه ، وإن شئت أُؤاجرك نفسي ) قال : وتفعل ذلك يا نبي الله ؟ قال : ( نعم إذا شئت ) . قال : أنت أكرم على الله من ذلك ، ولكنك تبني حوله جداراً مشرفاً ثم تملؤه ذهباً ، وإن شئت ورقاً . قال داوُد : ( هو هين ) .
(8/75)
" صفحة رقم 76 "
فالتفت الرجل إلى بني إسرائيل وقال : هذا هو التائب المخلص . ثم قال لداوُد : يا نبي الله لئن يغفر الله لي ذنباً واحداً أحبُّ إلي من كل شيء وهبته لي ، ولكني كنت أُجرّبكم .
فأخذوا في بناء بيت المقدس ، وكان داوُد ( عليه السلام ) ينقل لهم الحجارة على عاتقه وكذلك خيار بني إسرائيل حتى رفعوه قامة . فأوحى الله تعالى إلى داوُد ( عليه السلام ) : ( إنّ هذا بيت مقدّس وإنك رجل سفاك للدماء فلست ببانيه إذا لم أقضي ذلك على يدك ، ولكن ابن لك أُملكه بعدك اسمه سليمان ، أُسلّمه من سفك الدماء وأقضي إتمامه على يده ، وذلك صيته وذكره لك باقياً ) .
فصلوا فيه زماناً ، وداوُد يومئذ ابن سبع وعشرين ومئة سنة ، فلما صار من أبناء أربعين ومئة سنة توفّاه الله واستخلف سليمان . فأحبّ بناء بيت المقدس ، فجمع الجن والشياطين وقسم عليهم الأعمال فخص كل طائفة منهم بعمل يستصلحها له . فأرسل الجن والشياطين في تحصيل الرخام والمها الأبيض الصافي من معادنه ، وأمر ببناء المدينة بالرخام والصفاح ، وجعلها اثني عشر ربضاً ، وأنزل كل ربض منها سبطاً من الأسباط وكانوا اثني عشر سبطاً .
فلما فرع من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد ، فوجّه الشياطين فرقاً ، فرقاً يستخرجون الذهب والفضة والياقوت من معادنها والدر الصافي من البحر ، وفرقاً يقلعون الجواهر والحجارة من أماكنها ، وفرقاً يأتونه بالمسك والعنبر ، فأُتي من ذلك بشيء لا يُحصيه إلاّ الله تعالى ، ثم أحضر الصنّاعين وأمرهم بنحت تلك الحجارة المرتفعة وتصييرها ألواحاً ، وإصلاح تلك الجواهر وثقب اليواقيت واللآلىء فكانوا يعالجونها ، فتصوّت صوتاً شديداً لصلابتها ، فكره سليمان تلك الأصوات . فدعا الجن وقال لهم : ( هل عندكم حيلة في نحت هذه الجواهر من غير تصويت ؟ ) .
فقالوا : يا رسول الله ، ليس في الجن أكثر تجارب ، ولا أكثر علماً من صخر العفريت ، فأرسل إليه من يأتيك به . فطبع سليمان خاتمه طابعاً وكان يطبع للشياطين بالنحاس ، ولسائر الجن بالحديد وكان إذا طبع أحدهما بخاتمه لمع ذلك كالبرق الخاطف ، فكان لا يراه أحد : جني ولا شيطان إلاّ انقاد له بإذن الله عزّت قدرته .
فأرسل الطابع مع عشرة من الجن فأتوه وهو في بعض جزائر البحور ، فأروه الطابع ، فلما نظر إليه كاد يصعق خوفاً ، فأقبل مسرعاً مع الرسل حتى دخل على سليمان ( عليه السلام ) . فسأل سليمان رسله عما أحدث العفريت في طريقه . فقالوا : يا رسول الله إنه كان يضحك بعض الأحايين من الناس . فقال له سليمان ( عليه السلام ) : ( ما رضيت بتمردك عليّ في ترك المجيء إليّ طائعاً حتى صرت تسخر بالناس ؟ ) .
(8/76)
" صفحة رقم 77 "
فقال : يا نبي الله إني لم أسخر منهم غير أن ضحكي كان تعجّباً مما كنت أسمع وأرى في طريقي . فقال سليمان : ( وما ذاك ؟ ) .
قال : اعلم أني مررت برجل على شط نهر ومعه بغلة يريد سقيها ومعه جرة يريد أن يستقي فيها ، فسقى البغلة وملأ الجرة ، ثم أراد أن يقضي حاجته فشد البغلة بإذن الجرة فنفرت البغلة وجرت الجرة فكسرتها ، فضحكت من حمق الرجل حيث توهم أن الجرة تحبس البغلة .
ومررت برجل وهو جالس عند إسكاف يستعمله في إصلاح خف له ، فسمعته يشترط معه أن يصلحه بحيث يبقى معه أربع سنين ونسي نزول الموت به قبله ، فضحكت من غفلته وجهله .
ومررت بعجوز تتكهن وتخبر الناس بما لا يعلمون من أمر السماء ، وقد كنت عهدت رجلاً دفن في موضع فراشها ذهباً كثيراً في الدهور الخالية ، فرأيتها تموت جوعاً وتحت فراشها ذهب كثير لا تعلم بمكانه ، ثم تخبر الناس عن أمر السماء فضحكت منها .
ومررت برجل في بعض المدن ، وقد كان به داء فيما قيل فأكل البصل فبرأ من دائه ، فصار يتطبّب للناس ، فكان لا يأتيه أحد يسأله عن علّة إلاّ أمره بأكل البصل وإنه لأضرّ شيء ، حتى إنّ ضره ليصل إلى الدماغ ، فضحكت منه .
ومررت ببعض الأسواق فرأيت الثوم وهو أفضل الأدوية كلّها يكال كيلاً ، ورأيت الفلفل وهو أحد السموم القاتلة يوزن وزناً فضحكت من ذلك .
ومررت بناس قد جلسوا يبتهلون إلى الله تعالى ويسألونه المغفرة والرحمة ، فملَّ منهم قوم وقاموا ، وجاء آخرون وجلسوا فرأيت الرحمة قد نزلت عليهم ، فأخطأت الذين كانوا من أهل المجلس ، وغشيت الذين جاؤوا فجلسوا ، فضحكت ؛ تعجباً للقضاء والقدر .
قالوا : فقال سليمان له : هل عرفت في كثرة تجاربك وجولاتك في البر والبحر شيئاً تنحت به هذه الجواهر فتلين فيسهل نحتها وثقبها فلا تصوت ؟ فقال : نعم يا نبي الله ، أعرف حجراً أبيض كاللبن يقال له السامور غير أني لا أعرف معدنه الذي هو فيه ، وليس في الطير شيء هو أحيل ولا أهدى من العقاب . فمر بعقاب أن تجعل فراخه في صندوق حجر معه ليلة ، ثم تسرّح ذلك العقاب وتترك فراخه في الصندوق فإنه سيأتي بذلك الحجر فيضرب به ظهر الصندوق حتى يُنقبه به ليصل إلى فراخه .
قال : فأمر سليمان بعقاب مع فراخه فجعله في صندوق من حجر يوماً وليلة ، ثم سرح العقاب دون الفراخ ، فمرّ العقاب وجاء بذلك الحجر بعد يوم وليلة ، وثقب به الصندوق حتى
(8/77)
" صفحة رقم 78 "
وصل إلى فراخه . فوجه سليمان مع العقاب نفراً من الجن حتى أتوه به منه قدر ما علم أن فيه كفاية ، واستعمل ذلك في أدوات الصناعين ، فسهل عليهم نحتها من غير تصويت وهو الحجر الذي يستعمل في نقش الخواتيم وثقب الجواهر إلى اليوم ، وهو حجر عزيز ثمين .
قال : فبنى سليمان ( عليه السلام ) المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر ، وعمّده بأساطين المها الصافي ، وسقفه بألواح الجواهر الثمنية وفصّص سقوفه وحيطانه باللآلىء واليواقيت وسائر الجواهر ، وبسط أرضه بألواح الفيروزج ، فلم يكن يومئذ بيت في الأرض أبهى ولا أنور من ذلك المسجد ، كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر .
فلما فرغ منه جمع إليه أخيار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه لله وأنّ كل شيء فيه خالص لله ، واتخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيداً .
وقالوا : من أعاجيب ما اتخذ سليمان عليه السلام ببيت المقدس أنْ بنى بيتاً وطيّن حائطه بالخضرة وصقله ، فكان إذا دخله الورِع البرّ استبان خياله في ذلك الحائط أبيض ، وإذا دخله الفاجر استبان فيه خياله أسود . فارتدع عند ذلك كثير من الناس عن الفجور والخيانة .
ونصب في زاوية من زوايا المسجد عصا أبنوس ، فكان من مسها من أولاد الأنبياء لم يضره مسها ، ومن مسها من غيرهم احترقت يده .
وروى الأوزاعي عن ربيعة بن يزيد عن عبد الله بن الديلمي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً فأعطاه اثنين وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه الله الثالثة : سأله حكماً يصادف حكمه فأعطاه إياه ، وسأله مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه ، وسأله أنْ لا يأتي هذا البيت أحد يصلي فيه ركعتين إلاّ خرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أُمه وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك ) .
قالوا : فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان ( عليه السلام ) حتى غزا نبوخذ نصر فخرب المدينة وهدمها ، ونقض المسجد ، وأخذ ما كان في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضة والدر والياقوت وسائر الجواهر ، فحمله معه إلى دار مملكته من أرض العراق .
قال سعيد بن المسيب : لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس تغلّقت أبوابه ، فعالجها سليمان فلم تنفتح ، حتى قال في دعائه : ( بصلوات أبي داوُد إلاّ فتحت الأبواب ) .
ففتحت ففرغ له سليمان عشرة آلاف من قرّاء بني إسرائيل : خمسة آلاف بالليل ، وخمسة آلاف بالنهار ، فلا تأتي ساعة من ليل ولا نهار إلاّ والله يعبد فيها .
(8/78)
" صفحة رقم 79 "
) وتماثيل ( أي صور ، كانوا يعملون التماثيل من نحاس وصفر وشبه وزجاج ورخام في المساجد تماثيل الملائكة والنبيين الصالحين ؛ لكي إذا رآهم الناس مصورين عبدوا عبادتهم . ) وجفان ( أي قصاع ، واحدها جفنة ) كالجواب ( كالحياض التي يجبى فيها الماء ، أي يجمع ، واحدها جابية .
قال الأعشى ميمون بن قيس :
تروح على آل مخلق جفنة
كجابية الشيخ العراقي تفهق
أخبرنا أبو بكر الحمشاوي قال : أخبرني أبو بكر القطيعي إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم قال : حدثنا سهل السرّاج قال : سمعت الحسن يقول : ( وجفان كالجواب ) مثل حياض الإبل ، ويقال : إنه كان يجتمع على جفنة واحدة ألف رجل يأكلون بين يديه .
) وقدور راسيات ( : ثابتات لا يحوّلن ولا يحركن من أماكنهن لعظمتهن ، ولا ينزلن ولا يعطلن وكانت باليمن ، ومنه قيل للجبال : رواسي ) اعملوا ( أي وقلنا : اعملوا ) آل داوُد شكراً ( مجازه : اعملوا بطاعة الله يا آل داوُد شكراً له على نعَمه ، و ) شكراً ( في محل المصدر . ) وقليل من عبادي الشكور ( أرسل حمزة ( الياء ) وفتحها الباقون . قال القرظي : الشكر : تقوى الله والعمل بطاعته .
وحدثونا عن محمد بن يعقوب قال : حدثنا الحصر بن أبان قال : حدّثنا سيار قال : حدّثنا جعفر بن سليمان قال : سمعت ثابتاً يقول : كان داوُد نبي الله ( عليه السلام ) قد جزّأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم يكن بأي ساعة من ساعات الليل والنهار إلاّ وإنسان من آل داوُد قائم يصلي ، فعمهم الله تعالى في هذه الآية ) اعملوا آل داود شكرا 2 )
سبأ : ( 14 ) فلما قضينا عليه . . . . .
) فلما قضينا عليه الموت ( قال المفسرون : كان سليمان ( عليه السلام ) يتحرز في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين ، وأقل من ذلك وأكثر ، يُدخل فيه طعامه وشرابه ، فأدخله في المرة التي مات فيها وكان بدوّ ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلاّ نبتت في بيت المقدس شجرة فيسألها : ( ما اسمك ؟ ) فتقول الشجرة : اسمي كذا وكذا ، فيقول لها : ( لأيّ شيء أنت ؟ ) فتقول : لكذا وكذا ، فيأمر بها فتقطع . فإن كانت نبتت لغرس غرسها وإن كانت لدواء كتب .
فبينما هو يُصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه ، فقال لها : ( ما اسمك ؟ ) . قالت : الخروبة . قال : ( ولأيّ شيء نبتّ ؟ ) قالت : لخراب هذا المسجد . فقال سليمان : ( ما كان الله ليخربه وأنا حي ، أنت التي على وجهكِ هلاكي ، وخراب بيت المقدس ) . فنزعها وغرسها في حائط له ثم قال : ( اللهم عمِّ على الجن موتي حتى يعلم الإنس أنّ الجن لا يعلمون الغيب )
(8/79)
" صفحة رقم 80 "
وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء وإنهم يعلمون ما في غد ثم دخل المحراب فقام يُصلي متكئاً على عصاه فمات .
قال ابن زيد : قال سليمان لملك الموت : ( إذا أُمرت بي فاعلمني ) . قال : فأتاه فقال : ( يا سُليمان قد أُمرتُ بك ، وقد بقيت لك سويعة ) .
فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحاً من قوارير ليس له باب ، فقام يُصلي واتكأ على عصاه ، فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متّكىء على عصاه .
وفي رواية أُخرى : أنّ سليمان ( عليه السلام ) قال ذات يوم لأصحابه : ( قد آتاني الله من الملك ما ترون ، وما مرّ عليّ يوم في ملكي بحيث صفا لي من الكدر ، وقد أحببت أن يكون لي يوم واحد يصفو لي إلى الليل ، ولا أغتم فيه ولكن ذلك اليوم غداً ) .
فلما كان من الغد دخل قصراً له وأمر بإغلاق أبوابه ، ومنع الناس من الدخول عليه ، ورفع الأخبار إليه لئلا يسمع ذلك اليوم شيئاً يسوؤه ، ثم أخذ عصاه بيده ، وصعد فوق قصره واتكأ على عصاه ينظر في ممالكه ، إذ نظر إلى شاب حسن الوجه عليه ثياب بيض قد خرج عليه من جانب من جوانب قصره ، فقال : ( السلام عليك يا سليمان ) . فقال : ( وعليك السلام ، كيف دخلت هذا القصر ، وقد منعت من دخوله ؟ أما منعك البوّاب والحُجّاب ؟ أما هِبتني حيث دخلت قصري بغير إذني ؟ ) فقال : ( أنا الذي لا يحجبني حاجب ، ولا يدفعني بوّاب ولا أهاب الملوك ، ولا أقبل الرشا وما كنت لأدخل هذا القصر بغير إذن ) قال سُليمان : ( فمن أذن لك في دخوله ؟ ) قال : ( ربه ) .
فارتعد سُليمان وعلم أنه ملك الموت ، فقال له : ( أنت ملك الموت ؟ ) قال : ( نعم ) ، قال : ( فبمّ جئت ؟ ) .
قال : ( جئت لأقبض روحك ) . قال : ( يا ملك الموت هذا يوم أردت أن يصفو لي ولا أسمع فيه ما يغمني ) . قال : ( يا سُليمان ، إنك أردت يوماً يصفو لك فيه عيشك حتى لا تغتم فيه ، ذلك اليوم لم يخلق في أيام الدنيا فارضَ بقضاء ربك فإنه لا مرد له ) .
قال : ( فامضِ لما أُمرتَ به ) .
فقبض ملك الموت روحه وهو متكىء على عصاه . قالوا : وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه ومصلاه أينما كان ، فكان للمحراب كُوَى بين يديه وخلفه ، وكان الشيطان الذي يُريد أن يخرج يقول : ألست جليداً إن دخلت فخرجت من ذلك الجانب ، فيدخل حتى يخرج من الجانب الآخر . فدخل شيطان من أُولئك فمر ولم يسمع صوت سُليمان ، ثم رجع فلم يسمع ، ثم رجع فوقع في البيت فلم يحترق فنظر إلى سليمان وقد سقط ميتاً ، فخرج فأخبر الناس أن سُليمان قد مات ، ففتحوا عنه فأخرجوه ووجدوا منسأته وهي العصا بلسان الحبشة قد أكلتها الأرضة ،
(8/80)
" صفحة رقم 81 "
ولم يعلموا مذ كم مات ، فوضعوا الأرضة على العصا ، فأكلت منها يوماً وليلة ، ثم حسبوا على ذلك النحو فوجدوه قد مات من سنة ، وكانت الجن تعمل بين يديه ينظرون إليه ويحسبون أنه حيّ ولا ينظرون احتباسه عن الخروج إلى الناس لطول صلاته قبل ذلك .
وهي في قراءة ابن مسعود : فمكثوا يدأبون له من بعد موته حولاً كاملاً ، فأيقن الناس أنّ الجن كانوا يكذبونهم ، ولو أنهم علموا الغيب لعلموا بموت سُليمان ولم يلبثوا في العذاب سنة يعملون له . ثم إنّ الشياطين قالوا للأرضة : لو كنتِ تأكلين الطعام أتيناك بأطيب الطعام ، ولو كنتِ تشربين الشراب سقيناكِ أطيب الشراب ، ولكنا سننقل إليكِ الطين والماء . فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت . قال : ألم ترَ إلى الطين الذي يكون فوق الخشب فهو ممّا يأتيها به الشياطين تشكراً لها ، فذلك قوله تعالى : ) فلما قضينا عليه الموت ما دلّهم على موته إلاّ دابةُ الأرض ( وهي الأرضة ، ويُقال لها : القادح أيضاً وهي دويبة تأكل العيدان .
) تأكل منسأته ( أي عصاه ، فأصلها من نسأت الغنم إذا زجرتها وسقتها ، وقال طرفة :
أمون كألواح الأران نسأتها
على لاحب كأنه ظهر بُرجُدِ
أي سقتها ، وهمزها أكثر القراء ، وترك همزها أبو عمرو وأهل المدينة ، وهما لغتان ، وقال الشاعر في الهمز :
ضربنا بمنسأة وجهه
فصار بذاك مهيناً ذليلاً
وقال الآخرون في ترك الهمز :
إذا دببت على المنساة من هرم
فقد تباعد عنك اللهو والغزل
قوله : ) فلما خرّ تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ( ، و ) أن ( في محل الرفع ؛ لأن معنى الكلام : فلما خر تبين وانكشف أنْ لو كان الجن أي ظهر أمرهم ، وفي قراءة ابن مسعود أنْ لو كان الجن يعلمون الغيب مالبثوا في العذاب المهين ، وقيل : ) أنْ ( في موضع نصب أي علمت وأيقنت الجن أنْ لو كانوا يعلمون .
وقال أهل التاريخ : كان عمر سليمان ( عليه السلام ) ثلاثاً وخمسين سنة وكان مدة ملكه أربعين سنة ، وملك يوم ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، وابتدأ في بناء بيت المقدس لأربع سنين مضين من ملكه والله أعلم .
(8/81)
" صفحة رقم 82 "
2 ( ) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِى مَسْكَنِهِمْ ءَايَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّاتِهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَىْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجْزِىإِلاَّ الْكَفُورَ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِىَ وَأَيَّاماً ءَامِنِينَ فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالاَْخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَفُيظٌ قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاَْرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ قُل لاَّ تُسْئَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ قُلْ أَرُونِىَ الَّذيِنَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحْكِيمُ ( 2
سبأ : ( 15 ) لقد كان لسبإ . . . . .
قوله تعالى : ) لقد كان لسبأ ( ، روى أبو سبرة النخعي عن فروة بن مُسيك الغطيفي قال : قال رجل : يا رسول الله ، أخبرني عن سبأ ما كان ؛ رجلاً أو امرأة ، أو أرضاً أو جبلاً أو وادياً ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليست بأرض ولا امرأة ولكنه كان رجلاً من العرب ولد له عشرة من الولد ، فتيامن منهم ستة وتشاءم أربعة ؛ فأما الذين تيامنوا ، فكندة والأشعريون والأزد ومذحج وأنمار وحمير ) .
فقال رجل : وما أنمار ؟ قال : ( الذين منهم خثعم وبجيلة ، وأما الذين تشاءموا فعاملة وجذام ولخم وغسان ) .
والإجراء وترك الإجراء فيه سائغ ، وقد قرىء بهما جميعاً فالإجراء على أنه اسم رجل معروف ، وترك الإجراء على أنه اسم قبيلة نحو ( هذه تميم ) .
واختاره أبو عبيد لقوله :
) في مساكنهم ( ، واختلف القراء فيه ، فقرأ حمزة والنخعي : ( مسكنهم ) بفتح الكاف على الواحد ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي وخلف بكسر الكاف على الواحد . الباقون : ) مساكنهم ( جمع .
) آية ( دلالة على وحدانيتنا وقدرتنا ، ثم فسرها فقال : ) جنتان ( أي هي جنتان : بستانان
(8/82)
" صفحة رقم 83 "
) عن يمين ( من أتاهما ) وشمال ( وعن شماله ) كلوا ( : وقيل لهم : كلوا ) من رزق ربكم واشكروا له ( على ما أنعم عليكم ، وإلى ها هنا تم الكلام ثم ابتدأ فقال : ) بلدةٌ ( أي هذه بلدة أو بلدتكم بلدة ) طيبة ( ليست بسبخة . قال ابن زيد : لم يكن يرى في بلدتهم بعوضة قط ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية ، وإن كان الركب ليأتون وفي ثيابهم القمل والدواب فما هو إلاّ أنْ ينظروا لى بيوتهم فتموت الدواب ، وإن كان الإنسان ليدخل الجنتين فيمسك القفة على رأسه فيخرج حين يخرج وقد امتلأت تلك القفة من أنواع الفواكه ولم يتناول منها شيئاً بيده فذلك قوله سبحانه : ) بلدةٌ طيبة ( الهواء ، ) وربٌ غفورٌ ( الخطأ كثير العطاء .
سبأ : ( 16 ) فأعرضوا فأرسلنا عليهم . . . . .
قوله تعالى : ) فأعرضوا ( ، قال وهب : بعث الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبياً فدعوهم إلى الله ، وذكروهم نعَمه عليهم ، وأنذروهم عقابه ، فكذبوهم وقالوا : ما نعرف لله علينا نعمة . فقولوا لربكم الذي تزعمون فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع ، فذلك قوله عز وجل : ) فأعرضوا ( .
) فأرسلنا عليهم سيل العرم ( ، والعرم : السد والمسناة التي تحبس الماء واحدتها عرمة ، وأصلها من العرامة وهي الشدة والقوة .
وقال ابن عباس ووهب وغيرهما : كان هذا السد يسقي جنتيهم ، وكان فيما ذُكر بنته بلقيس وذلك أنها لما ملكت جعل قومها يقتتلون على ماء واديهم فجعلت تنهاهم فلا يطيعونها ، فتركت ملكها وانطلقت إلى قصر لها فنزلته ، فلما كثر الشر بينهم وندموا أتوها فأرادوها على أن ترجع إلى ملكها فأبت ، فقالوا : لترجِعنَّ أو لنقتلنّكِ . فقالت : إنكم لا تطيعونني وليست لكم عقول . قالوا : فإنا نطيعكِ فإنا لم نجد فينا خيراً بعدكِ . فجاءت فأمرت بواديهم فسد بالعرم وهو المسناة بلغة حمير ، فسدت ما بين الجبلين بالصخر والقار ، وجعلت له أبواباً ثلاثة بعضها فوق بعض ، وبنت من دونه بركة ضخمة ، فجعلت فيها اثني عشر مخرجاً على عدة أنهارهم ، فلما جاء المطر اجتمع إليه ماء الشجر وأودية اليمن ، فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة وأمرت بالبعر فأُلقي فيها ، فجعل بعض البعر يخرج أسرع من بعض ، فلم تزل تضيق تلك الأنهار وترسل البعر في الماء حتى خرجت جميعاً معاً فكانت تقسمه بينهم على ذلك ، حتى كان من شأنها وشأن سُليمان ما كان .
وبقوا على ذلك بعدها ، وكانوا يسقون من الباب الأعلى ، ثم من الباب الثاني ، ثم من الباب الأسفل ولا ينفد الماء ، حتى يؤوب الماء من السنة المقبلة .
فلما طغوا وكفروا ، سلط الله عليهم جرذاً يسمى الخَلَد فنقب من أسفله ، فغرّق الماء جناتهم وخرب أرضهم .
وقال وهب : وكانوا فيما يزعمون يجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم ذلك فأرة ، فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلاّ ربطوا عندها هرة ، فلما جاء زمان وما أراد الله بهم من التفريق
(8/83)
" صفحة رقم 84 "
أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء إلى هرة من تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة ، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت في السد فنقبت وحفرت حتى وهنته للسيل وهم لا يعلمون ذلك . فلما جاء السيل وجد خللاً فدخل فيه حتى قلع السد وفاض على أموالهم فغرّقها ودفن بيوتَهم الرملُ ، وفرّقوا ومزقوا حتى صاروا مثلاً عند العرب ( فقالوا ) : تفرقوا أيادي سبأ ، وأيدي سبأ ، فذلك قوله تعالى : ) فأرسلنا عليهم سيل العرم ( .
وقيل : العرم هو المطر الشديد من العرامة وهي التمرّد والعصيان .
) وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أُكل خمط ( قراءة العامة بالتنوين ، وقرأ أبو عمرو ويعقوب بالإضافة ، وهما متقاربتان كقول العرب : في بستان فلان أعنابُ كرم وأعنابٌ كرمٌ ، فتضيف أحياناً الأعناب إلى الكرم ؛ لأنه منه ، وتنون أحياناً الأعناب ، ثم يترجم بالكرم عنها ؛ إذ كانت الأعناب ثمر الكرم .
والأكل : الثمر ، والخمط : الأراك في قول أكثر المفسرين ، وقيل : كل شجرة ذات شوك ، وقيل : شجرة الغضا ، وقيل : هو كل نبت قد أخذ طعماً من المرارة حتى لا يمكن أكله ، ) وأثل ( وهو الطرفاء ، عن ابن عباس ، وقيل : هو شجر شبيه بالطرفاء إلاّ أنه أعظم منه ، وقال الحسن : الإثل الخشب . قتادة : ضرب من الخشب ، وقيل : هو السمر . أبو عبيدة : هو النضار . ) وشيء من سدر قليل ( ، قال قتادة : بينما شجر القوم من خير الشجر إذ صيره الله من شر الشجر بأعمالهم . قال الكلبي : فكانوا يستظلون بالشجر ويأكلون البربر وثمر السدر وأبوا أن يجيبوا الرُسل
سبأ : ( 17 ) ذلك جزيناهم بما . . . . .
) ذلك ( الذي جعلنا بهم ، ) جزيناهم بما كفروا ( أي بكفرهم ، ومحل ذلك نصب بوقوع المجازاة عليه ، تقديره جزيناهم ذلك بما كفروا : ) وهل نجازي إلاّ الكفور ( قرأ أهل الكوفة بالنون وكسر الزاي ونصب الراء ، واختاره أبو عبيدة قال : ( لقوله ) : ) جزيناهم ( ، ولم يقل : جُوزوا ، وقرأ الآخرون بياء مضمومة وفتح الزاي ورفع الراء ، ومعنى الآية : وهل يُجازى مثل هذا الجزاء إلاّ الكفور ، وقال مجاهد : يجازي أي يُعاقب .
سبأ : ( 18 ) وجعلنا بينهم وبين . . . . .
) وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها ( وهي الشام ) قرىً ظاهرةً ( أي متواصلة تظهر الثانية من الأُولى لقربها منها . قال الحسن : كان أحدهم يغدوا فيقيل في قرية ويروح فيأوي إلى أُخرى ، وكانت المرأة تخرج معها مغزلها وعلى رأسها مكتلها ثم تمتهن بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من الثمار ، وكان ما بين اليمن والشام كذلك .
وقال ابن عباس : قرئ ظاهرة يعني : قرئ عربيّة بين المدينة والشام . سعيد بن جُبير : هي القرى التي ما بين مأرب والشام . مجاهد : هي السروات ، وهب بن منبه : هي قرى صنعاء .
(8/84)
" صفحة رقم 85 "
) وقدرنا فيها السير ( أي جعلنا السير بين قراهم والقرى التي باركنا فيها سيراً مقدراً من منزل إلى منزل ، ومن قرية إلى قرية ، لا ينزلون إلاّ في قرية ، ولا يغدون إلاّ في قرية ، وقلنا لهم : ) سيروا فيها ليالي وأياماً ( وقت شئتم ) آمنين ( : لا تخافون عدوّاً ولا جوعاً ولا عطشاً ، ولا تحتاجون إلى زاد ولا ماء ، فبطروا وطغوا ولم يصبروا على العافية وقالوا : لو كان جَنْيُ جِنانِنا أبعد مما هي كان أجدر أن نشتهيه .
سبأ : ( 19 ) فقالوا ربنا باعد . . . . .
) فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا ( : فاجعل بيننا وبين الشام فلوات ومفاوز لنركب فيها الرواحل ، ونتزود الأزواد . فجعل الله لهم الإجابة ، واختلف القراء في هذه الآية ؛ فقرأ ابن كثير وأبو عمرو : ( ربنا بعّد ) ، على وجه الدعاء والسؤال من ( التبعيد ) ، وهي رواية هشام عن قرّاء الشام ، وقرأ ابن الحنفية ويعقوب : ) ربُنا ( برفع الباء ) بَاعَدَ ( بفتح الباء والعين والدال على الخبر ، وهي اختيار أبي حاتم ، استبعدوا أسفارهم بطراً منهم وأشراً ، وقرأ الباقون : ) ربَّنا ( بفتح الباء ، ) باعِدْ ( بالألف وكسر العين وجزم الدال على الدعاء ، ففعل الله ذلك بهم ، فقال : ) وظلموا أنفسهم ( بالكفر والبطر والطغيان ، ) فجعلناهم أحاديث ( : عظة وعبرة يتمثل بهم ، ) ومزقناهم كل ممزق ( ، قال الشعبي : أما غسان فلحقوا بالشام ، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب ، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة ، وأما الأزد فلحقوا بعمان .
وقال ابن إسحاق : يزعمون أنّ عمران بن عامر وهو عم القوم كان كاهناً فرأى في كهانته أنّ قومه سيمزقون ويباعد بين أسفارهم ، فقال لهم : إني قد علمت أنكم ستمزقون ، فمن كان منكم ذا همَ بعيد وحمل شديد ومزاد جديد فليلحق بكاسن أو كرود ، قال : فكان وادعة بن عمرو .
ومن كان منكم يُريد عيشاً هانئاً وحرماً آمناً فليلحق بالأردن فكانت خزاعة ، ومن كان منكم يُريد الراسيات في الرجل والمطعمات في المحل ، فليلحق بيثرب ذات النخل ، فكان الأوس والخزرج ، ومن كان منكم يُريد خمراً وخميراً وذهباً وحريراً وملكاً وتأميراً ، فليلحق بكوثى وبصرى ، فكانت غسان بنو جفنة ملوك الشام ، ومن كان منهم بالعراق .
) إنّ في ذلك لآيات لكلّ صبار شكور ( قال مطرف : هو المؤمن الذي إذا أُعطي شكر وإذا ابتلي صبر .
سبأ : ( 20 ) ولقد صدق عليهم . . . . .
قوله : ) ولقد صدق عليهم ( ، قرأ أهل الكوفة : بتشديد الدال وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيد ، أي ظن فيهم ظناً حيث قال : ) فبعزتك لأُغوينَّهم أجمعين ( ، وقال : ) ولا تجد أكثرهم شاكرين ( ، فصدّق ظنه وحقّقه لفعله ذلك بهم واتّباعهم إياه ، وقرأ الآخرون : ) صدَق ( بالتخفيف أي صدق عليهم في ظنه بهم .
(8/85)
" صفحة رقم 86 "
) عليهم ( أي على أهل سبأ ، وقال مجاهد : على الناس كلّهم إلاّ من أطاع الله ) فاتّبعوه إلاّ فريقاً من المؤمنين }
سبأ : ( 21 ) وما كان له . . . . .
) وما كان له عليهم من سلطان ( إلاّ تسليطنا إياه عليهم ) لنعلم ( : لنرى ونميز ، ونعلمه موجوداً ظاهراً كائناً موجباً للثواب والعقاب ، كما علمناه قبل مفقوداً معدوماً بعد ابتلاء منا لخلقنا .
قال الحسن : والله ما ضربهم بسيف ولا عصا ولا سوط إلاّ أماني وغروراً دعاهم إليها .
) من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك ( الآية .
سبأ : ( 22 ) قل ادعوا الذين . . . . .
) قل ( يا محمد لهؤلاء المشركين الذين أنت بين ظهرانيهم : ) ادعوا الذين زعمتم ( أنهم آلهة ) من دون الله ( ، ثم وصفها فقال : ) لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ( من خير وشر وضرّ ونفع ، فكيف يكون إلهاً من كان كذلك ؟ ) وما لهم فيهما ( أي في السماوات والأرض ) من شرك ( شركة ) وما له ( أي لله ) منهم من ظهير ( : عون .
سبأ : ( 23 ) ولا تنفع الشفاعة . . . . .
) ولا تنفع الشفاعة عنده إلاّ لمن أذِن له ( تكذيباً منه لهم حيث قالوا : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة والكسائي : ( أُذن ) بضم الألف ، واختلف فيها عن عاصم ، وقرأ غيرهم : بالفتح .
) حتى إذا فزع ( قرأ ابن عامر ويعقوب بفتح الفاء والزاي ، ( وقرأ ) غيرهما : بضم الفاء وكسر الزاي ، أي كشف الفزع ، وأخرج ) عن قلوبهم ( ، وأخبرني ابن فنجويه قال : أخبرني أبو علي بن حبيس المقرئ قال : حدثنا أبو عبيد القاضي قال : أخبرني الحسين بن محمد الصباغ عن عبد الوهاب عن موسى الأسواري عن الحسن أنه كان يقرؤها حتى ( إذا فرع عن قلوبهم ) بالراء والعين يعني : فرعت قلوبهم من الخوف .
واختلفوا في هذه الكناية والموصوفين بهذه الصفة ؛ من هم ؟ وما السبب الذي من أجله فزع عن قلوبهم ؟
فقال قوم : هم الملائكة ، ثم اختلفوا في سبب ذلك ، فقال بعضهم : إنما يُفزع عن قلوبهم غشية تصيبهم عند سماعهم كلام الله سبحانه .
أخبرنا عبد الله بن حامد عن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل عن الحسن بن علي بن عفان قال : حدثنا ابن نمير عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله قال : إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان فيصعقون عند ذلك ويخرون سجداً ، فإذا علموا أنه وحي فزع عن قلوبهم . قال : فيُرد إليهم ، فينادي أهل السماوات بعضهم بعضاً : ) ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ( فرفعه بعضهم .
(8/86)
" صفحة رقم 87 "
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرني أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي سعيد البزاز قال : حدثنا علي بن أشكاب قال : أخبرني أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن مسروق عن عبد الله قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله عز وجل إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجر السلسلة على الصفاء ، فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبرائيل ( عليه السلام ) ، فإذا جاءهم جبرائيل عليه السلام فزع عن قلوبهم فيقولون : يا جبرائيل ماذا قال ربك ؟ قال : يقول : الحق ، فينادون : الحق الحق ) .
والشاهد لهذا الحديث والمفسر له ما أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد الفقيه قال : أخبرني أبو بكر أحمد بن إسحاق بن أيوب قال : أخبرنا بشر بن موسى قال : حدثنا الحميدي قال : حدّثنا سفيان عن عمرو بن دينار قال : سمعت عكرمة يقول : سمعت أبا هريرة يقول : إنّ نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا قضى الله عز وجل الأمر في السماء ، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : للذي قال : الحق وهو العلي الكبير ) .
وأنبأني عقيل بن محمد عن المعافى بن زكريا عن محمد بن جرير الطبري عن زكريا بن أبان المصري عن نعيم عن الوليد بن مسلم عن عبد الرَّحْمن بن يزيد بن جابر عن أبي زكريا عن رجاء بن حبوة عن النواس بن سمعان قال : قال رسول الله ( : ( فإذا سمع بذلك أهل السماوات ، صعقوا وخرّوا لله سجداً ، فيكون أول من يرفع رأسه جبرائيل ، فيكلمه الله من وحيه بما أراده ، ثم يمر جبرائيل على الملائكة ، كلما مرّ بسماء سأله ملائكتها ماذا قال ربنا يا جبرائيل ؟ فيقول جبرائيل : قال الحق وهو العلي الكبير . قال : فيقولون كلهم مثلما ما قال جبرائيل ، فينتهي جبرائيل بالوحي حيث أمر الله ) .
وبه عن ابن جرير عن يعقوب عن ابن علية عن أيوب عن هشام عن عروة قال : قال الحرث ابن هشام لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كيف يأتيك الوحي ؟ قال : ( يأتيني في صلصلة كصلصلة الجرس فيفصم عني حين يفصم وقد وعيته ، ويأتيني أحياناً في مثل صورة الرجل فيكلمني به كلاماً وهو أهون عليّ ) .
وقال بعضهم : إنما يفزعون حذراً من قيام الساعة .
وقال الكلبي : كان بين عيسى ومحمد ( عليهما السلام ) فترة زمان طويلة لا يجري فيها
(8/87)
" صفحة رقم 88 "
الرسل خمسمائة وخمسين عاماً ، فلما بعث الله محمداً ( عليه السلام ) كلّم الله جبرائيل بالرسالة إلى محمد ، فلما سمعت الملائكة الصوت ظنوا أنها الساعة قد قامت فصعقوا مما سمعوا . فلما انحدر جبرائيل جعل يمر بأهل كلّ سماء فيكشط عنهم فيرفعون رؤوسهم ، فيقول بعضهم لبعض : ماذا قال ربكم ؟ فلم يدروا ما كان ولكنهم قالوا : قال الحق وهو العلي الكبير ؛ وذلك أنّ محمداً عند أهل السماوات من أشراط الساعة ، فلما بعثه الله تعالى فزع أهل السماوات لا يشكون إلاّ أنها الساعة .
وقال الضحاك : إنّ الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض يكتبون أعمالهم ، إذا أرسلهم الرب فانحدروا سمع لهم صوت شديد ، فيحسب الذين هم أسفل من الملائكة أنه من أمر الساعة فيخرون سجداً ويصعقون ، حتى يعلموا أنه ليس من أمر الساعة ، وهذا تنبيه من الله سبحانه وإخبار أنّ الملائكة مع هذه الصفة لا يمكنهم أنْ يشفعوا لأحد إلاّ أنْ يؤذن لهم ، فإذا أذن الله لهم وسمعوا وحيه كان هذا حالهم . فكيف تشفع الأصنام ؟
وقال آخرون : بل الموصوفون بذلك المشركون .
قال الحسن وابن زيد يعني : حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين عند نزول الموت بهم إقامة للحجة عليهم ، قالت لهم الملائكة : ماذا قال ربكم في الدنيا ؟ قالوا : الحق ، فأقرّوا به حين لم ينفعهم الإقرار ، ودليل هذا التأويل قوله تعالى في آخر السورة : ) ولوترى إذا فُزعوا فلا فوت ( .
سبأ : ( 24 ) قل من يرزقكم . . . . .
) قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين ( هذا على جهة الإنصاف في الحجاج كما يقول القائل : أحدنا كاذب وهو يعلم أنه صادق وأنّ صاحبه كاذب .
والمعنى : ما نحن وأنتم على أمر واحد ، إنّ أحد الفريقين لمهتد والآخر ضال . فالنبيّ ومن معه على الهدى ومن خالفه في ضلال ، فكذبهم بأحسن من تصريح التكذيب .
وقيل هذا على جهة الاستهزاء بهم وهو غير شاك في دينه ، وهذا كقول الشاعر وهو أبو الأسود :
يقول الأرذلون بنو قُشير :
طوالَ الدهر لا تنسى عليّا
بنو عم النبي وأقربوه
أحبُّ الناس كلّهمُ إلَيّا
فإن يك حبهم رشداً أصبْهُ
وليس بمخطئ إن كان غياً
(8/88)
" صفحة رقم 89 "
فقاله من غير شك ، وقد أيقن أن حبهم رشد .
وقال بعضهم : ) أو ( بمعنى الواو ، يعني : إنا لعلى هدىً وإنكم إياكم لفي ضلال مبين ، كقول جرير :
أثعلبة الفوارس أو رياحا
عدلت بهم طُهيّة والخشابا
يعني ثعلبة ورياحا .
سبأ : ( 25 - 27 ) قل لا تسألون . . . . .
) قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون قل يجمع بيننا ربنا ( يوم القيامة ) ثم يفتح بيننا ( : يقضي بيننا ) بالحق وهو الفتاح العليم قل أروني الذين ألحقتم به شركاء ( يعني الأصنام هل خلقوا من الأرض شيئاً أم لهم شرك في السماوات : وتفسيرها في سورة ( الملائكة ) و ( الأحقاف ) .
ثم قال تعالى ) كلا بل هو الله العزيز الحكيم ( ، وهو القاهر القوي الذي يمنع من يشاء ولا يمنعه مانع ، فهو العزيز المنتقم ممن كفر به وخالفه ، الحكيم في تدبيره لخلقه ، فأنّى يكون له شريك في ملكه ؟
( ) وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَئَخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَاذَا الْقُرْءَانِ وَلاَ بِالَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ اْلَعَذَابَ وَجَعَلْنَا الاَْغْلَالَ فِىأَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ وَمَآ أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِى تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ ءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَائِكَ لَهُمْ جَزَآءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِى الْغُرُفَاتِ ءَامِنُونَ وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِىءَايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَائِكَ فِى الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَىْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَاؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ فَالْيَوْمَ لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُم
(8/89)
" صفحة رقم 90 "
ْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ النَّارِ الَّتِى كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُواْ مَا هَاذَا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هَاذَآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ وَمَآ ءَاتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ ءَاتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُواْ رُسُلِى فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٍ قُلْ إِنَّ رَبِّى يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ( 2
سبأ : ( 28 ) وما أرسلناك إلا . . . . .
قوله عز وجل : ) وما أرسلناك إلاّ كافة ( عامة ) للناس ( كلهم ؛ العرب والعجم وسائر الأُمم . أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن جعفر قال : حدثنا علي بن حرب قال : حدثنا ابن فضيل قال : حدثنا ( يزيد بن أبي زياد عن مجاهد ومقسم عن ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أعطيتُ خمساً ولا أقول فخراً : بُعثت إلى الأحمر والأسود ، وجُعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ، وأُحل لي المغنم ولم يحل لأحد كان قبلي ، ونُصرت بالرعب فهو يسير أمامي مسيرة شهر وأُعطيت الشفاعة فادّخرتها لأُمتي يوم القيامة ، وهي إن شاء الله نائلة من لم يشرك بالله شيئاً ) .
وقيل : معناه كافّ للناس . يكفّهم عما هم عليه من الكفر ، ويدعوهم إلى الإسلام ، والهاء فيه للمبالغة .
) بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون }
سبأ : ( 29 - 31 ) ويقولون متى هذا . . . . .
) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعةً ولا تستقدمون وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ( من الكتب ، ثم أخبر حالهم في مآلهم ، فقال : ) ولوترى إذ الظالمون ( : الكافرون ) موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول ( يتلاومون ويحاور بعضهم بعضاً ) يقول الذين استُضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين }
سبأ : ( 32 - 33 ) قال الذين استكبروا . . . . .
) قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين وقال الذين استُضعفوا للذين استكبروا بل مكر الليل والنهار ( أي مكركم بنا . فهما كما يُقال : عزم الأمر وفلان نهاره صائم وليله قائم .
قال الشاعر :
ونمت وما ليل المطي بنائم
وقيل : مكر الليل والنهار بهم طول السلامة فيهما كقوله : ) وطال عليهم الأمد (
(8/90)
" صفحة رقم 91 "
، ونحوه . ) إذ تأمروننا أن نكفر بالله ، نجعل له أنداداً وأسرّوا ( : أظهروا ) الندامة ( ، وهو من الأضداد ؛ يكون بمعنى الإخفاء ، والإبداء ) لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال ( : الجوامع من النار ) في أعناق الذين كفروا ( : الأتباع والمتبوعين ، ) هل يجزون إلاّ ما كانوا يعملون ( في الدنيا ؟
سبأ : ( 34 ) وما أرسلنا في . . . . .
) وما أرسلنا في قرية من نذير ( : رسول ) إلاّ قال مترفوها ( : رؤساؤها وأغنياؤها ) إنا بما أُرسلتم به كافرون }
سبأ : ( 35 ) وقالوا نحن أكثر . . . . .
) وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً ( منكم ، ولو لم يكن راضياً بما نحن عليه من الدين والعمل لم يخوّلنا الأموال والأولاد .
) وما نحن بمعذبين }
سبأ : ( 36 ) قل إن ربي . . . . .
) قل إنّ ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ( ، وليس يدل ذلك على العواقب والمنقلب ، ) ولكن أكثر الناس لا يعلمون ( أنها كذلك .
سبأ : ( 37 ) وما أموالكم ولا . . . . .
) وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلاّ من آمن ( : لكن من آمن ) وعمل صالحاً فأُولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا ( من الثواب بالواحد عشرة ، و ) من ( يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون محله نصباً بوقوع ) تقرب ( عليه ، والآخر : رفع تقديره : وما هو إلاّ من آمن . ) وهم في الغرفات ( الدرجات ) آمنون ( .
وقراءة العامة : ) جزاء الضعف ( بالإضافة ، وقرأ يعقوب : ( جزاءً ) منصوباً منّوناً . الضعف رفع مجازه : فأُولئك لهم الضعف جزاء على التقديم والتأخير ، وقراءة العامة : الغرفات بالجمع ، واختاره أبو عبيد قال : لقوله : ) لنبوّئنهم من الجنة غُرفاً ( ، وقرأ الأعمش وحمزة : ( في الغرفة ) على الواحدة .
سبأ : ( 38 ) والذين يسعون في . . . . .
) والذين يسعون ( : يعملون ) في آياتنا ( بإبطال حججنا وكتابنا ، ) ومعاجزين ( معاونين معاندين يحسبون أنهم يفوتوننا بأنفسهم ويعجزوننا ، ) أُولئك في العذاب محضرون (
سبأ : ( 39 ) قل إن ربي . . . . .
) قل إنّ ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ( . قال سعيد بن جبير : ما كان من غير إسراف ولا تقتير فهو يخلفه ، وقال الكلبي : ما تصدقتم من صدقة وأنفقتم في الخير والبر من نفقة فهو يخلفه إما أن يعجله في الدنيا وإما أن يدخر له في الآخرة . أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال : حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله قال : حدثنا أبي قال : حدثنا علي بن داوُد القنطري قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثنا الليث بن سعد ، عن عمرو بن الحرث عن أبي يونس مولى أبي هريرة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( إنّ الله عزّ وجل قال لي : أنفق أُنفق عليك ) .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا ابن شاذان عن جعونة بن محمد قال : حدثنا صالح
(8/91)
" صفحة رقم 92 "
ابن محمد عن سُليمان بن عمرو عن ابن حزم عن أنس بن مالك أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يُنادي مناد كلّ ليلة : لدوا للموت وينادي مناد : ابنوا للخراب ، ويُنادي مُناد : اللهمّ هب للمنفق خلفاً ، ويُنادي مناد : اللهم هب للممسك تلفاً ، وينادي مناد : ليت الناس لم يخلقوا ، وينادي مناد : ليتهم إذ خُلقوا فكروا فيما له خُلقوا ) .
وأخبرني الحسين بن محمد الحافظ قال : حدثنا موسى بن محمد قال : حدثنا الحسن بن علويه قال : حدثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدثنا المسيب ، قال : حدثنا محمد بن عمرو عن يحيى بن عبد الرَّحْمن عن أبيه قال : قال عمر لصهيب : إنك رجل لا تمسك شيئاً ، قال : إني سمعت الله عز وجل يقول : ) ما أنفقتم من شيء فهو يُخلفه ( .
) وهو خير الرازقين ( ، وأخبرني أبو سُفيان الثقفي قال : حدثنا الفضل بن الفضل الكندي قال : حدثنا الحسن بن داوُد الخشاب قال : حدثنا سُويد بن سعيد قال : حدثنا عبد الحميد بن الحسن عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كل معروف صدقة وما أنفق الرجل على نفسه وأهله فهو له صدقة وما وقى به عرضه فهو صدقة ، وما أنفق المؤمن من نفقة فإنّ خلفها على الله ضامن إلاّ ما كان نفقة في بنيان أو معصية ) .
قال عبد الحميد : فقلت لمحمد : ما معنى ( ما يقي به الرجل عرضه ) ؟ قال : يُعطي الشاعر أو ذا اللسان المتّقى .
وقال مجاهد : إذا كان في يد أحدكم شيء فليقتصد ولا يتأول هذه الآية ) وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ( فإنّ الرزق مقسوم ، فلعل رزقه قليل وهو يُنفق نفقة الموسع عليه ، ومعنى الآية ( ما كان من خلف فهو منه ) ، وربما أنفق الإنسان ماله أجمع في الخير ثم لم يزل عائلاً حتى يموت ، ولكن ما كان من خلف فهو منه ، ودليل تأويل مجاهد ما أخبرني أبو سُفيان الحسين بن محمد بن عبد الله قال : حدثنا محمد بن الحسين بن بشير قال : أخبرني أبو بكر بن أبي الخصيب قال : حدثنا معاذ بن المثنى قال : حدثنا عمرو بن الحصين قال : حدثنا ابن علانة وهو محمد عن الأوزاعي عن ابن أبي موسى عن أبي أُمامة قال : إنكم تؤوّلون هذه الآية على غير تأويلها ) وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ( .
وسمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول وإلاّ فصُمتا : ( إياكم والسّرف في المال والنفقة ، وعليكم بالاقتصاد ، فما افتقر قوم قط اقتصدوا ) .
(8/92)
" صفحة رقم 93 "
وقال ( عليه السلام ) : ( ما عال من اقتصد ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم بن هاشم البغوي قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا عاصم بن خالد قال : أخبرني أبو بكر قال : حدثنا حمزة عن أبي الدرداء عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من فقه الرجل رفقه في معيشته ) .
) وهو خير الرازقين ( وإنما جاز الجمع ؛ لأنه يُقال : رزق السلطان الجند ، وفلان يرزق عياله ، كأنه قال : وهو خير المعطين .
سبأ : ( 40 ) ويوم يحشرهم جميعا . . . . .
) ويوم يحشرهم جميعاً ( يعني هؤلاء الكفّار ) ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ( في الدُّنيا ؟ فتتبرأ منهم الملائكة فتقول :
سبأ : ( 41 ) قالوا سبحانك أنت . . . . .
) سبحانك ( : تنزيهاً لك . ) أنت ولينا ( : ربنا ) من دونهم بل كانوا يعبدون الجن ( أي يطيعون إبليس وذريته وأعوانه في معصيتك . ) أكثرهم بهم مؤمنون ( : مصدقون .
قال قتادة : هو استفهام تقديره كقوله لعيسى : ) أأنت قلت للناس اتخذوني . . . ( .
سبأ : ( 42 ) فاليوم لا يملك . . . . .
) فاليوم لا يملك بعضكم لبعض نفعاً ولا ضراً ( : شفاعة ولا عذاباً ، ) ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون ( في الدُّنيا فقد وردتموها .
سبأ : ( 43 ) وإذا تتلى عليهم . . . . .
) وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا ( يعني محمداً ( عليه السلام ) ) إلاّ رجلٌ يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلاّ إفكٌ مفترىً ( يعنون القرآن ) وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إنْ هذا إلاّ سحرٌ مبين }
سبأ : ( 44 ) وما آتيناهم من . . . . .
) وما آتيناهم ( هؤلاء المشركين ) من كتب يدرسونها ( يقرؤونها ) وما أرسلنا إليهم قبلك من نذير }
سبأ : ( 45 ) وكذب الذين من . . . . .
) وكذب الذين من قبلهم ( من الأُمم رسلنا وتنزيلنا ) وما بلغوا ( يعني هؤلاء المشركين ) معشار ما آتيناهم ( يعني مكذبي الأُمم الخالية من القوة والنعمة وطول العمر ) فكذبوا رُسلي فكيف كان نكير ( : إنكاري وتغيري عليهم ، يحذر كفار هذه الأُمة عذاب الأُمم الماضية .
سبأ : ( 46 ) قل إنما أعظكم . . . . .
قوله تعالى : ) قل إنما أعظكم ( آمركم وأُوصيكم ) بواحدة ( بخصلة واحدة وهي ) أن تقوموا لله ( لأجل الله و ) أن ( في محل الخفض على البيان من ) واحدة ( والترجمة عنها ) مثنى ( يعني اثنين اثنين متناظرين ، ) وفرادى ( واحداً واحداً متفكرين ) ثم تتفكروا ( جميعاً ، والفكر : طلب المعنى بالقلب ، فتعلموا ، ) ما بصاحبكم ( محمد ) من جنة ( جنون كما تقولون ، و ) ما ( جحْد ونفي . ) إنْ هو إلاّ نذير لكم بين يدي عذاب شديد }
سبأ : ( 47 ) قل ما سألتكم . . . . .
) قل ما سألتكم ( على تبليغ
(8/93)
" صفحة رقم 94 "
الرسالة والنصيحة ) من أجر فهو لكم إن أجري إلاّ على الله ( أي ما ثوابي إلاّ على الله ) وهو على كل شيء شهيد (
سبأ : ( 48 ) قل إن ربي . . . . .
) قل إن ربي يقذف ( : يرمي ويأتي ) بالحق ( ينزله من السماء إلى خير الأنبياء ، ) علام الغيوب ( رفع بخبر ) إنّ (
.
) قُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِىءُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَى نَفْسِى وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبِّى إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ وَقَالُواْ ءَامَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِى شَكٍّ مُّرِيبِ ( 2
سبأ : ( 49 ) قل جاء الحق . . . . .
) قل جاء الحق ( القرآن والإسلام ، وقال الباقر : يعني السيف . ) وما يبدئ الباطل وما يُعيد ( يعني ذهب الباطل وزهق فلم تبقَ له بقية يبدي بها ولا يعيد ، وهذا كقوله : ) بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ( .
وقال الحسن : و ) مايُبدئ ( الباطل ، وهو كل معبود من دون الله لأهله خيراً في الدنيا و ) مايُعيد ( في الآخرة .
وقال قتادة : الباطل إبليس ، أي ما يخلق إبليس أحداً ولا يبعثه ، وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين عن عبد الله بن إبراهيم بن علي عن محمد بن عمران بن هارون عن سفيان بن وكيع عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر عن عبد الله بن مسعود قال : دخل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها بعود معه ويقول : ) جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ( ) جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يُعيد ( .
سبأ : ( 50 ) قل إن ضللت . . . . .
) قل إن ضللت فإنما أضلُ على نفسي ( وآخذ بجنايتي ) وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب ( .
سبأ : ( 51 ) ولو ترى إذ . . . . .
) ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت ( يعني من عذاب الدنيا ، فلا نجاة ) وأُخذوا من مكان قريب ( يعني عذاب الدُّنيا ، وقال الضحاك وزيد بن أسلم : هو يوم بدر . الكلبي : من تحت أقدامهم .
وأخبرنا محمد بن نعيم عن محمد بن يعقوب عن الحسن بن علي بن عفان عن الحسن بن عطية عن يعقوب الأصفهاني عن ابن أبزي : ) ولوترى إذ فزعوا فلا فوت ( قال : خسف بالبيداء .
أخبرني عقيل بن محمد أنّ المعافى بن زكريا البغدادي أخبرهم قال : أخبرنا محمد بن
(8/94)
" صفحة رقم 95 "
جرير قال : حدّثني عصام بن رواد بن الجراح قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا سُفيان بن سعيد قال : حدّثنا منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش قال : سمعت حذيفة بن اليمان يقول : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذكر فتنة تكون بين أهل الشرق والمغرب : ( فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم السفياني من الوادي اليابس في فورة ذلك حتى ينزل دمشق ، فيبعث جيشين : جيشاً إلى المشرق ، وجيشاً إلى المدينة حتى ينزلوا بأرض بابل في المدينة الملعونة والبقعة الخبيثة ، فيقتلون أكثر من ثلاثة آلاف ، ويبقرون بها أكثر من مئة امرأة ، ويقتلون بها ثلاثمائة كبش من بني العباس ، ثم ينحدرون إلى الكوفة فيخربون ما حولها ، ثم يخرجون متوجهين إلى الشام ، فتخرج راية هدىً من الكوفة ، فتلحق ذلك الجيش منها على ليلتين فيقتلونهم ولا يفلت منهم مخبر ويستنقذون ما في أيديهم من السبي والغنائم ، ويحل جيشه الثاني بالمدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ولياليها . ثم يخرجون متوجهين إلى مكة حتى إذا كانوا بالبيداء بعث الله سبحانه جبرائيل ( عليه السلام ) فيقول : يا جبرائيل اذهب فأبدهم . فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم ، فذلك قوله عز وجل في سورة سبأ : ) ولوترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب ( فلا ينفلت منهم إلاّ رجلان : أحدهما بشير والآخر نذير وهما من جهينة ) . .
فلذلك جاء القول : ( وعند جهينة الخبر اليقين ) .
وقال قتادة : ذلك حين يخرجون من قبورهم ، وقال ابن معقل : إذا عاينوا عذاب الله يوم القيامة وأُخذوا من مكان قريب ؛ لأنهم حيث كانوا فهم من الله قريب لا يبعدون عنه ولا يفوتونه .
سبأ : ( 52 ) وقالوا آمنا به . . . . .
) وقالوا ( حين عاينوا العذاب في الدنيا والآخرة وقت البأس ) آمنا به وأنّى ( : من أين ) لهم التناوش ( تناول التوبة ونيل ما يتمنون ؟
قال ابن عباس : يسألون الراد وليس يحين الرد ، وقرأ أبو عمرو والأعمش وحمزة والكسائي وخلف : ( التناؤش ) : بالهمز والمد ، وهو الإبطاء والبعد . يُقال : تناشيت الشيء أي أخذته من بعيد ، والنيش الشيء البطيء .
قال الشاعر :
تمنى نئيشاً أن يكون أطاعني
وقد حدثت بعد الأُمور أُمور
وقال آخر :
وجئت نئيشاً بعدها فاتك الخبر
(8/95)
" صفحة رقم 96 "
وقرأ الباقون : بغير همز ، من التناول . يُقال : نشته نوشاً إذا تناولته .
قال الراجز :
فهي تنوش الحوض نوشاً من علا
نوشاً به تقطع أجواز الفلا
وتناوش القوم في الحرب إذا تناول بعضهم بعضاً وتدانوا ، واختار أبو عبيد : ترك الهمز ؛ لأنّ معناه : التناول ، وإذا همز كان معناه البعد . فكيف يقول : أنى لهم البعد ) من مكان بعيد ( : من الآخرة ؟ فكيف يتناولون التوبة ، وإنما يقبل التوبة في الدُّنيا وقد ذهبت الدُّنيا فصارت بعيدة من الآخرة ؟
سبأ : ( 53 ) وقد كفروا به . . . . .
) وقد كفروا به من قبل ( ، أي من قبل نزول العذاب ) ويقذفون بالغيب من مكان بعيد ( ، يعني يرمون محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) بالظنون لا باليقين ، وهو قولهم : إنه ساحر ، بل شاعر ، بل كاهن ، هذا قول مجاهد ، وقال قتادة : يعني يرجمون بالظن ، يقولون : لا بعث ولا جنّة ولا نار .
سبأ : ( 54 ) وحيل بينهم وبين . . . . .
) وحيل بينهم وبين ما يشتهون ( ، يعني التوبة والإيمان والرجوع إلى الدُّنيا ) كما فُعِل بأشياعهم ( أي أهل دينهم وموافقهم من الأُمم الماضية حين لم يقبل منهم الإيمان والتوبة في وقت البأس ) إنهم كانوا في شك مريب ( .
(8/96)
" صفحة رقم 97 "
( سورة فاطر )
أخبرني محمد بن القاسم الفارسي قال : أخبرنا محمد بن جعفر بن مطير النيسابوري قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك الكوفي قال : حدّثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال : حدّثنا سلام بن سليم المدائني قال : حدّثنا هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أُمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثلاث أبواب من الجنّة أنِ ادخل من أي الأبواب شئت ) .
بسم الله الرَّحْمن الرحيم
2 ( ) الْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُوْلِىأَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَآءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ياأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ وَالاَْرْضِ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاُْمُورُ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ( 2
فاطر : ( 1 ) الحمد لله فاطر . . . . .
قوله عز وجل : ) الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رُسلاً أُولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء ( يعني في أجنحة الملائكة .
أخبرنا عبد الله بن حامد قال : حدّثنا ابن شاذان قال : حدّثنا جعونة بن محمد قال : حدّثنا صالح بن محمد قال : حدثنا مسلم بن اياس عن عبد الله بن المبارك عن ليث بن سعد عن عقيل عن ابن شهاب أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سأل جبرائيل ( عليه السلام ) : أن يتراءى لهُ في صورته ، فقال له جبرائيل ( عليه السلام ) . ( إنك لن تطيق ذلك ) . قال : ( إني أُحبُّ أن تفعل )
(8/97)
" صفحة رقم 98 "
فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المصلّى في ليلة مقمرة ، فأتاه جبرائيل ( عليه السلام ) في صورته ، فغشي على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين رآه ، فلما أفاق وجبرائيل ( عليه السلام ) مسنده واضعاً إحدى يديه على صدره والأُخرى بين كتفيه ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( سبحان الله ما كنت أرى أنّ شيئاً من الخلق هكذا ) . فقال جبرائيل عليه السلام : ( فكيف لو رأيت إسرافيل عليه السلام ؟ إنّ له لاثني عشر جناحاً ؛ جناح منها بالمشرق وجناح بالمغرب ، وإنّ العرش على كاهله وإنه ليتضاءل الأحايين لعظمة الله عز وجل حتى يعود هذا الوصع والوصع عصفور صغير حتى ما يحمل عرشه إلاّ عظمته ) .
وأخبرني أبو الحسن الساماني قال : أخبرني أبو حامد البلالي عن العباس بن محمد الدوري قال : أخبرني أبو عاصم النبيل عن صالح التاجي عن ابن جريج عن ابن شهاب في قول الله عز وجل : ) يزيد في الخلق ما يشاء ( قال : حسن الصورة .
وأخبرني الحسين بن محمد عن أحمد بن جعفر بن حمدان عن عبد الله بن محمد بن سنان عن سلمة بن حبان عن صالح التاجي عن الهيثم القارئ قال : رأيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في المنام فقال : أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك ؟ جزاك الله خيراً ، وقيل : الخطّ الحسن .
أخبرنا ابن فنجويه عن ابن شيبة عن ابن زنجويه عن سلمة عن يحيى بن أحمد الفزار ويحيى ابن أكثم قالا : أخبرنا أبو اليمان عن عاصم بن مهاجر الكلاعي عن أبيه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الخط الحسن يزيد الحق وضحاً .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف قال : حدّثني الحسن بن علي بن يزيد الوشاء عن علي بن سهل الرملي قال : أخبرني الوليد بن مسلم عن خليد بن دعلج عن قتادة في قول الله عز وجل : ) يزيد في الخلق ما يشاء ( قال : الملاحة في العينين .
) إنّ الله على كل شيء قدير ( من الزيادة والنقصان .
فاطر : ( 2 ) ما يفتح الله . . . . .
) ما يفتح الله للناس من رحمة ( نعمة ، ) فلا ممسك لها ( : لا يستطيع أحد حبسها ) وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز ( فيما أمسك ) الحكيم ( فيما أرسل .
فاطر : ( 3 ) يا أيها الناس . . . . .
) يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله ( . قرأ سفيان بن سلمة وأبو جعفر وحمزة والأعمش والكسائي : ) غير ( بالخفض وهو اختيار أبي عبيد . الياقوت : بالرفع .
وهذه الآية حجة على القدرية ؛ لأنه نفى خالقاً غيره وهم يثبتون معه خالقين كثيرين .
) يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلاّ هو فأنى تؤفكون }
فاطر : ( 4 ) وإن يكذبوك فقد . . . . .
) وإنْ يكذبوك فقد كُذبت رُسل
(8/98)
" صفحة رقم 99 "
ٌ من قبلك ( فعزى نبيه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ) وإلى الله تُرجع الأُمور }
فاطر : ( 5 ) يا أيها الناس . . . . .
) يا أيها الناس إنّ وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنّكم بالله الغرور ( ، قراءة العامة بفتح الغين ، وهو الشيطان ، وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبيش قال : حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا أحمد بن يزيد المقري عن محمد بن المصفى عن أبي حياة ، قرأ : ) ولا يغرنكم بالله الغرور ( برفع الغين ، وهي قراءة ابن السماك العدوي يدل عليه وماحدثنا .
قال : أخبرناعبد الله بن حامد محمد بن خالد قال : أخبرنا داوُد بن سليمان قال : أخبرنا عبد بن حميد عن يحيى بن عبد الحميد عن ابن المبارك عن عبد الله بن عقبة عن عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير : ) فلا يغرنّكم بالله الغرور ( قال : أن يعمل المعصية ويتمنّى العفو .
فاطر : ( 6 ) إن الشيطان لكم . . . . .
) إنّ الشيطان لكم عدوٌ فاتخذوه عدواً ( : فعادوه ولا تطيعوه ) إنما يدعو حزبه ( : أشياعه وأولياءه ) ليكونوا من أصحاب السعير ( ليسوقهم إلى النار ، فهذه عداوته ثم بيّن حال موافقيه ومخالفيه فقال عزّ من قائل :
فاطر : ( 7 ) الذين كفروا لهم . . . . .
) الذين كفروا لهم عذابٌ شديدٌ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرةٌ وأجرٌ كبير ( .
فاطر : ( 8 ) أفمن زين له . . . . .
قوله : ) فمن زين له ( أي شُبّة وموّه وحُسّنَ له ) سوء ( : قبح عمله وفعله ) فرآه حسناً ( زين ذلك الشيطان بالوسواس ونفسه تميله إلى الشبهة وترك النظر في الحجة المؤدية إلى الحق ، والله سبحانه وتعالى يخلقه ذلك في قلبه ، وجوابه محذوف مجازه : أفمن زين له سُوء عمله كمن لم يزين له سوء عمله ورأى الحق حقاً والباطل باطلاً ؟ نظيره قوله : ) أفمن هو قائمٌ على كل نفس بما كسبت ( ، وقوله ) أمن هو قانت ( ونحوها .
وقيل : معناه : أفمن زين له سوء عمله فأضلّه الله كمن هداه ؟ دليله قوله : ) فإن الله يُضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء ( .
وقيل : معناه تحت قوله : ) فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ( ، فيكون معناه : أفمن زُيّن له سوء عمله فأضله الله ذهبت نفسك عليه حسرة ، أي تتحسف عليه ؟ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، وقال الحسين بن الفضل : فيه تقديم وتأخير ، مجازه : أفمن زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً فلا تُذهب نفسك عليهم حسرات فإنّ الله يُضلّ من يشاء ويهدي من يشاء ، والحسرة : شدة الحزن على ما فات من الأمر .
وقراءة العامة : ( تذهَبَ نفسُك ) : بفتح الباء والهاء وضم السين ، وقرأ أبو جعفر بضم التاء وكسر الهاء وفتح السين ، ومعنى الآية : لا تغتم بكفرهم وهلاكهم إذ لم يؤمنوا ، نظيره ) لعلك باخعٌ نفسك ( .
(8/99)
" صفحة رقم 100 "
) إنّ الله عليم بما يصنعون ( .
) وَاللَّهُ الَّذِىأَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَائِكَ هُوَ يَبُورُ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وَمَا يَسْتَوِى الْبَحْرَانِ هَاذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَابُهُ وَهَاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ يُولِجُ الَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لاَِجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ( 2
فاطر : ( 9 ) والله الذي أرسل . . . . .
) والله الذي أرسل الرياح فتُثير سحاباً فسُقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور ( من القبور .
أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن خالد عن داوُد بن سليمان عن عبد بن حميد عن المؤمل بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن يعلى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين قال : قلت يا رسول الله : كيف يحيي الله الموتى ؟ وما آية ذلك في خلقه ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( هل مررت بواد أهلك محلاً ثم مررت به يهتز خضرا ؟ ) قلت : نعم .
قال : ( فكذلك يحيي الله الموتى ، وتلك آيته في خلقه ) .
فاطر : ( 10 ) من كان يريد . . . . .
قوله عز وجل ) من كان يريد العزة ( ، يعني علِم العزة لمن هي ، ) فلله العزةُ جميعاً ( ، وذلك أنّ الكفار عبدوا الأصنام وطلبوا بها التعزز كما أخبر الله تعالى عنهم بقوله : ) الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإنّ العزة لله جميعاً ( ، وقال سبحانه : ) واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزّا ( ، كلاّ ، وردّ الله عليهم : من آراد أن يعلم لمن العزّة الحقيقية فآية العزّة لله ، ومن أراد أن يكون في الدراين عزيزاً فليطع الله فإنّ العزّة لله جميعاً .
(8/100)
" صفحة رقم 101 "
) إليه ( أي إلى الله ، ومعناه : إلى محل القبول وإلى حيث لا يملك فيه الحكم إلاّ الله عز وجل ، وهو كما يُقال : ارتفع أمرهم إلى القاضي . ) يصعد الكلم الطيب ( يعني : ( لا إله إلاّ الله ) وكل ذكر مرضي لله تعالى ، وقرأ أبو عبد الرَّحْمن : ( الكلام الطيب ) ، وأخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن عبد الله الدينوري قال : حدثنا أبو جعفر محمد بن محمد بن أحمد الهمداني قال : أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد المسكين البصري عن أحمد بن محمد المكي عن علي بن عاصم عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قول الله تعالى : ) إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ( قال : ( هو قول الرجل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ، إذا قالها العبد عرج بها ملك إلى السماء فحيا بها وجه الرَّحْمن عزّ وجل ، فإذا لم يكن عمل صالح لم يقبل منه ) .
واختلف العلماء في حكم هذه الكناية ومعنى الآية ، فقال أكثر المفسرين : الهاء في قوله : ) يرفعه ( راجعة إلى ) الكلم الطيب ( ، يعني أنّ العمل الصالح يرفع الكلم فلا يقبل القول إلاّ بالعمل ، وهذا اختيار نحاة البصرة ، وقال الحسن وقتادة : ) الكلم الطيب ( : ذكر الله ) والعمل الصالح ( أداء فرائضه . فمن ذكر الله ولم يؤدِّ فرائضه زاد كلامه على عمله ، وليس الإيمان بالتمنّي ولا بالتحلي ، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال . فمن قال حسناً وعمل غير صالح ردّ الله عليه قوله ، ومن قال حسناً وعمل صالحاً رفعه العمل ذلك ؛ فإن الله يقول : ) إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ( .
ودليل هذا التأويل قوله ( عليه السلام ) : ( لا يقبل الله قولاً إلاّ بعمل ، ولا يقبل قولاً وعملاً إلاّ بنية ( ولا يقبل قولاً ونية إلاّ باصابة السنة ) ) .
وجاء في الخبر : ( الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب ) .
وفي هذا المعنى يقول الشاعر :
لا ترضَ من رجل حلاوة قوله
حتى يزيّنُ ما يقول فعالُ
فإذا وزنت فعالَهُ بمقالهِ
فتوازنا فإخاءُ ذاك جمال
قال ابن المقفع : قول بلا عمل كثريد بلا دسم ، وسحاب بلا مطر ، وقوس بلا وتر ، وفيه قيل :
لا يكونُ المقالُ إلاّ بفعل
إنما القول زينة في الفعالِ
(8/101)
" صفحة رقم 102 "
كل قول يكون لا فعلَ فيه
مثلَ ماء يُصبُّ في غربالِ
وأنشدني أبو القاسم الحبيشي لنفسه :
لا يكون المقال إلاّ بفعل
وكلُّ قول بلا فعال هباء
إنّ قولاً بلا فعال جميل
ونكاحاً بلا ولي سواء
وقال بعض أهل المعاني على هذا القول : معنى ) يرفعه ( ، أي يجعله رفيعاً ذا وزن وقيمة ، كما يُقال : طود رفيع ومرتفع ، وقيل : العمل الصالح هو الخالص ، يعني أنّ الإخلاص سبب قبول الخيرات من الأقوال والأعمال ، دليله قوله : ) فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ( أي خالصاً ثم قال : ) ولا يُشرك بعبادة ربه أحداً ( ، فجعل نقيض الصالح الشرك والرياء ، وقال قوم : هذه الكناية راجعة إلى العمل ، يعني أنّ الكلم الطيب يرفع العمل ؛ فلا يرفع ولا يقبل عمل إلاّ أن يكون صادراً عن التوحيد وعائد الذكر يرفع وينصب ، وهذا التأويل اختيار نُحاة الكوفة وقال آخرون : الهاء كناية عن العمل ، والرفع من صفة الله سبحانه ، أي يرفعه الله .
) والذين يمكرون السيئات ( أي يعملون ، قال مقاتل : يعني الشرك ، وقال أبو العالية : يعني الذين مكروا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في دار الندوة ، وقال الكلبي : ) الذين يمكرون ( يعني يعملون السيئات في الدُّنيا ، وقال ابن عباس ومجاهد وشهر بن حوشب : هم أصحاب الرياء . ) لهم عذابٌ شديدٌ ومكرُ أولئكَ هو يَبُور ( أي يكسد ويفسد ويضل ويضمحل في الآخرة .
فاطر : ( 11 ) والله خلقكم من . . . . .
) والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجاً وما تحملُ من أُنثى ولا تضع إلاّ بعلمه وما يعمُر من معمر ولا ينقص من عمره إلاّ في كتاب إنّ ذلك على الله يسير ( قراءة العامة : ( يُنقص ) بضم الياء ، وقرأ الحسن وابن سيرين وعيسى ( ينقُص ) بفتح الياء وضم القاف ، وقرأ الأعرج : ) من عُمُرِهِ ( بالتخفيف .
قال سعيد بن جبير : مكتوب في أول الكتاب عمره كذا وكذا سنة ، ثم يكتب أسفل من ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى ينقطع عمره .
فاطر : ( 12 ) وما يستوي البحران . . . . .
) وما يستوي البحران هذا عذبٌ فُراتٌ ( : طيب ) سائغٌ ( : جائز هني شرابه .
وقرأ عيسى : ( سيّغ ) مثل : ميّت وسيّد . ) وهذا ملحٌ أُجاج ( شديد الملوحة ، عن : ابن عباس ، وقال الضحاك : هو المرّ مزاجه كأنه يحرق من شدة المرارة والملوحة . ) ومن كل تأكلون لحماً طرياً ( : طعاماً شهياً ، يعني : السمك من العذب والملح ، ) وتستخرجون منه (
(8/102)
" صفحة رقم 103 "
: من الملح دون العذب ) حلية تلبسونها ( يعني اللؤلؤ ، وقيل : فيه عيون عذبة ، ومما بينهما يخرج اللؤلؤ . ) وترى الفلك فيه مواخر ( : جواري ، وقال مقاتل : هو أنْ يرى سفينتين إحداهما مقبلة والأُخرى مدبرة ، وهذه تستقبل تلك وتلك تستدبر هذه ، يجريان بريح واحدة ، ) لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون ( الله على نعمه .
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال : أخبرنا ابن شاذان قال : حدثنا جيفويه بن محمد قال : حدثنا صالح بن محد عن القاسم بن عبد الله عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( كلم الله البحرين فقيل للبحر الذي بالشام : يا بحر إني قد خلقتك وأكثرت فيك من الماء ، وإني حامل فيك عباداً يسبحونني ويحمدونني ويهللونني ويكبرونني فما أنت صانع بهم ؟ قال : أُغرقهم . قال الله عز وجل : فإني أحملهم على ظهرك وأجعل بأسك في نواحيك ( وحاملهم على يدي ) .
وقال للبحر الذي باليمن : إني قد خلقتك وأكثرت فيك من الماء وإني حامل فيك عباداً لي يسبحونني ويحمدونني ويهللوني ويكبرونني فما أنت صانع بهم ؟ قال : أُسبحك وأحمدك وأُهللك وأُكبرك معهم ، وأحملهم على ( ظهري ) بطني . قال الله سبحانه : فإني أُفضلك على البحر الآخر بالحلية والطري ) .
فاطر : ( 13 ) يولج الليل في . . . . .
قوله : ) يولج الليل في النهار ويولجُ النهار في الليل وسخر الشمس والقمر كلٌ يجري لأجل مسمى ذلكم الله ربكم له الملك والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير ( وهي القشرة الرقيقة البيضاء التي بين التمرة والنواة ، عن أكثر المفسرين . وقال ابن عباس : هو شق النواة ، وقال السدي : هو ما ينقطع به القمع .
فاطر : ( 14 ) إن تدعوهم لا . . . . .
) إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ( : يتبرؤون منكم ومن عبادتكم إياها ، ) ولا ينبئك مثلُ خبير ( يعني نفسه تعالى .
2 ( ) ياأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ وَمَا يَسْتَوِى الاَْعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلاَ الظُّلُمَاتُ وَلاَ النُّورُ وَلاَ الظِّلُّ وَلاَ الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِى الاَْحْيَآءُ وَلاَ الاَْمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى الْقُبُورِ إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ
(8/103)
" صفحة رقم 104 "
وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَآبِّ وَالاَْنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ وَالَّذِىأَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِىأَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِىأَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ( 2
فاطر : ( 15 - 18 ) يا أيها الناس . . . . .
) يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يُذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ولا تزروا وازرةٌ وُزر أُخرى ( ، سئل الحسين بن الفضل عن الجمع بين هذه الآية وبين قوله سبحانه وتعالى : ) وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم ( فقال : ) ولا تزر وازرةٌ وزر أُخرى ( طوعاً ) وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم ( كرهاً .
) وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه ( يعني وإن تدع نفس مثقلة بذنوب غيرها إلى حملها ، أي حمل ما عليها من الذنوب ) لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى ( : ولو كان المدعوّ ذا قربى له : ابنه أو أُمه أو أباه أو أخاه .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا عن أحمد بن محمد بن رزمة القزويني عن محمد بن عبد ابن عامر السمرقندي قال : حدّثنا إبراهيم بن الأشعث قال : سمعت الفضيل بن عياض يقول : قوله سبحانه : ) لا يحمل منه شيء لو كان ذا قربى ( قال : يعني الوالدة تلقي ولدها يوم القيامة فتقول : يا بني ألم تكن بطني لك وعاء ؟ ألم يكن لك ثديي سقاء ؟ فيقول : بلى يا أُماه . فتقول : يا بُني قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني ذنباً واحداً . فيقول : يا أُماه إليكِ عني ، فإني اليوم عنكِ مشغول .
) إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب ( أي يخافونه ولم يروه ، ) وأقاموا الصلاة ومن تزكى ( صلح عمل خيراً وصالحاً ) فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير ( .
فاطر : ( 19 ) وما يستوي الأعمى . . . . .
) وما يستوي الأعمى والبصير ( يعني : الجاهل والعالم ،
فاطر : ( 20 ) ولا الظلمات ولا . . . . .
) ولا الظلمات ولا النور (
(8/104)
" صفحة رقم 105 "
يعني : الكفر والإيمان ،
فاطر : ( 21 ) ولا الظل ولا . . . . .
) ولا الظل ولا الحرور ( يعني : الجنة والنار ، والحرور : الريح الحارة بالليل ، والسموم بالنهار ، وقال بعضهم : الحرور : بالنهار مع الشمس ،
فاطر : ( 22 ) وما يستوي الأحياء . . . . .
) وما يستوي الأحياء ولا الأموات ( يعني : المؤمنين والكفار . ) إنّ الله يُسمعُ من يشاء ( ، حتى يتعظ ويجيب ) وما أنت بمسع من في القبور ( يعني : الكفار شبههم بالأموات ، وقرأ أشهب العقيلي : ( بمسمع من في القبور ) بلا تنوين على الإضافة .
فاطر : ( 23 - 25 ) إن أنت إلا . . . . .
) إن أنت إلاّ نذيرٌ إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً وإن من أُمة إلاّ خلا فيها نذيرٌ وإن يكذبوك فقد كذبَ الذين من قبلهم جاءتهم رسلهم بالبينات والزُبر وبالكتاب المنير ( كرر وهما واحد لاختلاف اللفظين .
فاطر : ( 26 ) ثم أخذت الذين . . . . .
) ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير ( .
فاطر : ( 27 ) ألم تر أن . . . . .
) ألم تر أنّ الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ( قدم النعت على الاسم فلذلك نصب . ) ومن الجبال جُدد ( : طرق ، واحدها جُدّة نحو مدة و ( مدد ) ، وأما جمع الجديد فجدُد ( بضم الدال ) مثل : سرير وسُرُر ) بيضٌ وحمرٌ مختلف ألوانها وغرابيب سود ( ، قال الفراء : فيه تقديم وتأخير ، مجازه : سود غرابيب ، وهي جمع غربيب ، هو الشديد السواد يشبّهها بلون الغراب قال الشاعر يصف كرماً :
ومن تعاجيب خلق الله غاطية
البعضُ منها ملاحيٌّ وغربيب
فاطر : ( 28 ) ومن الناس والدواب . . . . .
) ومن الناس والدواب والأنعام مختلفٌ ألوانه ( قال : المؤرخ : إنما ) ألوانه ( لأجل ) من ( ، وسمعت أُستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبا بكر محمّد بن عياش يقول : إنما قال : ) ألوانه ( ؛ لأجل أنها مردودة إلى ( ما ) في الإضمار ، مجازه : ومن الناس والدوابّ والأنعام ما هو مختلف ألوانه .
) كذلك ( تمام الكلام هاهنا ، أي ومن هذه الأشياء مختلف ألوانه باختلاف الثمرات ، ثم ابتدأ فقال سبحانه وتعالى : ) إنما يخشى الله من عباده العلماء ( روى عن عمر بن عبد العزيز أنه قرأ ( إنما يخشى اللهُ ) رفعاً و ( العلماءَ ) نصباً ، وهو اختيار أبي حنيفة على معنى يعلم الله ، وقيل : يختار ، والقراءة الصحيحة ما عليه العامة .
وقيل : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق ح أخبرني ابن فنجويه قال : حدثنا ابن شنبه عن إسحاق بن صدقة قال : حدّثنا عبد الله بن هاشم عن سيف بن عمر قال : حدّثنا عباس بن
(8/105)
" صفحة رقم 106 "
عوسجة عن عطاء الخراساني رفع الحديث قال : ظهر من أبي بكر خوف حتى عرف فيه فكلمه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في ذلك فأنزل الله سبحانه تعالى : ) إنما يخشى الله من عباده العلماء ( في أبي بكر ح وفي الحديث : ( أعلمهم بالله أشدهم له خشية ) .
وقال مسروق : كفى بالمرء علماً أنْ يخشى الله ، وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بعلمه .
وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الثقفي قال : حدثنا محمد بن إبراهيم الربيعي قال : حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن أيوب المحرمي قال : حدثنا صالح بن مالك الأزدي قال : حدّثنا عبيد الله بن سعد عن صالح بن مسلم الليثي قال : أتى رجل الشعبيَّ فقال : أفتني أيها العالم ؟ فقال : العالم من خشي الله عز وجل .
) إنّ الله عزيزٌ غفور }
فاطر : ( 29 ) إن الذين يتلون . . . . .
) إنّ الذين يتلون كتاب الله ( الآية قال مطرف بن عبد الله بن الشخير : هذه آية القراء ، ) وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ( .
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال : حدّثنا ابن شاذان قال : حدثنا جيعويه قال : حدّثنا صالح بن محمد عن عبد الله بن عبد الله عن عبيد الله بن الوليد الوصافي عن عبد الله بن عبيد الله بن عمير الليثي أنه قال : قام رجل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله ، ما لي لا أُحبُّ الموت ؟ قال : ( ألك مال ؟ ) . قال : نعم . قال : ( فقدمه ) . قال : لا أستطيع . قال : ( فإنّ قلب المرء مع ماله إن قدمه أحب أن يلحق به ، وإن أخّره أحب أن يتأخر معه ) .
) يرجون تجارة لن تبور ( ، قال الفراء : قوله ) يرجون ( جواب لقوله : ) إنّ الذين يتلون ( .
فاطر : ( 30 - 32 ) ليوفيهم أجورهم ويزيدهم . . . . .
) ليوفيهم أُجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفورٌ شكورٌ والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقاً لما بين يديه إنّ الله بعباده لخبيرٌ بصير ثم ( مردود إلى ما قبله من كتب الله في قوله : ) لما بين يديه ( ، أي قبله من الكتب السالفة ، أي أنزلنا تلك الكتب ، ) ثم أورثنا ( هذا ) الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ( ، ويجوز أن تكون ) ثم ( بمعنى الواو أي ( وأورثنا ) كقوله : ) ثم كان من الذين آمنوا ( أي وكان ومعنى و ) أورثنا ( : أعطينا ؛ لأنّ الميراث عطاء ، قاله مجاهد ، وقال بعض أهل المعاني : ) أورثنا ( أي أخرنا ، ومنه الميراث ؛ لأنه تأخر عن الميت ومعناه : أخرنا القرآن عن الأُمم السالفة وأعطيناكموه وأهّلناكم له ، و قال عنترة :
وأورثت سيفي عن حصين بن معقل
إلى جده إني لثأري طالب
أي أخرت ، وفي هذا كرامة لأُمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حيث قال لهم : ) أورثنا ( وقال : لسائر الأُمم ) ورثوا الكتاب ( الآية يعني القرآن .
(8/106)
" صفحة رقم 107 "
) الذين اصطفينا من عبادنا ( وهم أمة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . ثم قسمهم ثلاث طبقات ورتبهم على ثلاث درجات فقال الله تعالى : ) فمنهم ظالمٌ لنفسه ( قيّد اللفظ وعَلّق الظلم بالنفس ؛ فلذلك ساغ أن يكون من أهل الاصطفاء مع ظلمه .
فإن قيل : ما وجه الحكمة في تقديم الظالم وتأخير السابق وإنما يقدم الأفضل ؟
فالجواب عنه أن نقول : إنما أُخر السابق ليكون أقرب إلى الجنان والثواب ، كما قدم الصوامع والبيع والصلوات في سورة الحج على المساجد التي هي أفضل بقاع الأرض ، فتكون الصوامع أقرب إلى الهدم والخراب وتكون المساجد أقرب إلى ذكر الله تعالى .
ومنهم من قال : إنما جعل ذلك ؛ لأن الملوك إذا أرادوا الجمع بين الأشياء بالذكر قدموا الأدنى على الأفضل . كقوله تعالى : ) إنّ ربك لشديد العقاب وإنه لغفورٌ رحيم ( ، وقال : ) يولج الليل في النهار ( ، وقال : ) يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور ( وقال : ) خلق الموت والحياة ( .
وقيل : قدم الظالم لئلا ييأس من رحمته وأخر السابق لئلا يعجب بعمله .
وقال جعفر الصادق ( عليه السلام ) : ( بدأ بالظالم إخباراً أنه لا يتقرب إليه إلاّ بصرف رحمته وكرمه ، وأنّ الظلم لا يؤثّر في الاصطفائية ثم ثنى بالمقتصدين ؛ لأنهم بين الخوف والرجاء ، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكر الله وكلّهم في الجنة بحرمه كلمة الإخلاص ) .
وقال بعضهم : قدم الظالم ؛ لأنه لم يكن له شيء يتكل عليه إلاّ رحمة الله فاعتمد على الله واتكل على رحمته واتكل المقتصد على حسن ظنه بربه واتكل السابق على حسناته وطاعته .
وقال محمد بن علي الترمذي : جمعهم في الاصطفاء إزالة للعلل عن العطاء ؛ لأنّ الاصطفاء أوجب الإرث لا الإرث أوجب الاصطفاء ؛ لذلك قيل : صحح النسبة ثم اطمع في الميراث .
وقال أبو بكر الوراق : إنما رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس ؛ لأنّ أحوال العبد ثلاث : معصية ، وغفلة ، ثم توبة وقربة . فإذا عصى دخل في حيّز الظالمين ، وإذا تاب دخل في
(8/107)
" صفحة رقم 108 "
جملة المقتصدين وإذا صحت التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة اتصل بالله ودخل في عداد السابقين .
واختلف المفسرون والمتأوّلون في معنى الظالم والمقتصد والسابق فأكثروا ، وأنا ذاكر نصوص ما قالوا وبالله التوفيق :
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمّد بن الحسين بن عبد الله الحافظ ، قال : حدّثنا برهان ابن علي الصوفي والفضل بن الفضل الكندي قالا : أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب قال : حدثنا محمد بن كثير قال : أخبرنا سفيان عن الأعمش عن أبي ثابت أنّ رجلاً دخل المسجد فقال : اللهم ارحم غربتي وآنس وحشتي ويسر لي جليساً صالحاً . قال أبو الدرداء : لئن كنت صادقاً لأنا أسعد بذلك منك ، سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ هذه الآية ) ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابقٌ بالخيرات بإذن الله ( ، فقال : ( أما السابق فيدخل الجنة بغير حساب ، وأما المقتصد فيُحاسب حساباً يسيراً ، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام ثم يدخل الجنة ، فهم ( الذين ) قالوا : ) الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إنّ ربنا لغفورٌ شكور . . . ( إلى قوله : ) لغوب ( .
قال الكندي والأعمش عن رجل عن أبي ثابت : وأخبرني الحسين بن محمد قال : أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل حدّثني أبي عن إسحاق بن عيسى حدّثني أنس بن عياض الليثي أبو ضمرة عن موسى بن عتبة عن علي بن عبد الله الأزدي عن أبي الدرداء قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( قال الله عز وجل : ) ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مقتصدٌ ومنهم سابقٌ بالخيرات بإذن الله ( ، فأما الذين سبقوا بالخيرات فأُولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، وأما الذين اقتصدوا فأُولئك يحاسبون حساباً يسيراً ، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأُولئك الذين يحبسون في طول المحشر ثم هم الذين تلقّاهم الله برحمته فهم الذين يقولون : ) الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن . . . ( إلى قوله : ) لغوب (
وأخبرني الحسين قال : حدّثنا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن سمعان الذرار قال : حدّثنا يوسف بن يعقوب بن الحسن المقرئ بواسط قال : حدّثنا محمّد بن خالد بن عبد الله المزني قال : حدّثنا فرج بن فضالة عن أزهر بن عبد الله الحرازي قال : حدّثني من سمع عثمان بن عفان تلا هذه الآية : ) ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ( الآية ، فقال : سابقنا : أهل جهادنا ، ومقتصرنا : أهل حضرنا ، وظالمنا : أهل بدونا
(8/108)
" صفحة رقم 109 "
وأخبرني الحسين قال : حدّثنا عمر بن الخطاب قال : حدّثنا محمد بن إسحاق قال : حدّثنا إسماعيل بن يزيد قال : حدّثنا داوُد عن الصلت بن دينار قال : حدّثنا عقبة بن صهبان قال : دخلت على عائشة فسألتها عن قول الله عز وجل : ) ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ( . . ( فقالت لي : يا بني كلّهم في الجنة ؛ أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) شهد له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالجنة ، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به ، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم فجعلت نفسها معنا .
وقال مجاهد والحسن وقتادة : ) فمنهم ظالم لنفسه ( قالوا : هم أصحاب المشأمة ، ) ومنهم مقتصد ( هم أصحاب الميمنة ) ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ( هم السابقون المقربون من الناس كلهم .
قال قتادة : فهذا في الدنيا على ثلاث منازل وعند الموت قال الله تعالى : ) وأمّا إن كان من أصحاب اليمين ( إلى قوله : ) وتصلية جحيم ( ، وفي الآخرة أيضاً ، قال عز وجل : ) وكنتم أزواجاً ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة ( إلى قوله : ) المقربون ( .
وقال ابن عباس : السابق : المؤمن المخلص ، والمقتصد : المرائي ، والظالم : الكافر بنعمة الله غير الجاحد لها ؛ لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة فقال :
فاطر : ( 33 ) جنات عدن يدخلونها . . . . .
) جنات عدن يدخلونها ( ، وسمعت أبا محمد شيبة بن محمد بن أحمد الشعبي يقول : سمعت أبا بكر بن عبد يقول : قالت عائشة : السابق : الذي أسلم قبل الهجرة ، والمقتصد : الذي أسلم بعد الهجرة ، والظالم : نحن .
وقال بكر بن سهل الدمياطي : الظالم لنفسه : الذي مات على كبيرة ولم يتب منها ، والمقتصد : الذي لم يصب كبيرة ، والسابق بالخيرات : الذي لم يعصِ الله والتائب من الذنب كمن لا ذنب له .
وعن الحسن أيضاً قال : السابق : من رجحت حسناته ، والمقتصد : من استوى حسناته وسيئاته ، والظالم : الذي ترجح سيئاته على حسناته .
سهل بن عبد الله : السابق : العالم ، والمقتصد : المتعلم ، والظالم : الجاهل ، وعنه أيضاً : السابق : الذي اشتغل بمعاده ، والمقتصد : الذي اشتغل بمعادة عن معاشه ، والظالم : الذي اشتغل بمعاشه عن معاده .
وقيل : الظالم : طالب الدنيا ، والمقتصد : طالب العقبى ، والسابق ، طالب المولى .
وقيل : الظالم : المسلم ، والمقتصد : المؤمن ، والسابق : المحسن .
(8/109)
" صفحة رقم 110 "
وقيل : الظالم : المرائي في جميع أعماله ، والمقتصد : من تكون أعماله بعضها رياءً وبعضها إخلاصاً ، والسابق : المخلص في أفعاله كلها ، وقيل : الظالم : من أخذ الدنيا حلالاً كان أو حراماً ، والمقتصد : من يجتهد في طلب الحلال ، والسابق : الذي ترك الدنيا جملةً وأعرض عنها .
أبو عثمان الحبري : الظالم : من وجد الله بلسانه ولم يوافق فعله قوله ، والمقتصد : من وجده بلسانه وأطاعه بجوارحه ، والسابق : من وجده بلسانه وأطاعه بجوارحه وأخلص في عمله ، وقيل : السابقون : هم المهاجرون الأولون ، والمقتصدون : عامة الصحابة ، والظالمون : التابعون .
وسمعت محمد بن الحسين السلمي يقول : سمعت منصور بن عبد الله يقول : سمعت أبا القاسم البزاز بمصر يقول : قال ابن عطا : الظالم : الذي تحبه من أجل الدُّنيا ، والمقتصد : الذي تحبه من أجل العقبى ، والسابق : الذي أسقط مراده بمراد الحق ، فلا يرى لنفسه طلباً ولا مراداً لغلبة سلطان الحق عليه ، وقيل : الظالم : من كان ظاهره خيراً من باطنه ، والمقتصد : الذي استوى ظاهره وباطنه ، والسابق : الذي باطنه خيرٌ من ظاهره .
وقيل : الظالم : الذي يعبد الله خوفاً من النار ، والمقتصد : الذي يعبده طمعاً في الجنة ، والسابق : الذي يعبده لا لسبب ، وقيل : الظالم : الزاهد ، والمقتصد : العارف ، والسابق : المحب ، وقيل : الظالم : الذي يجزع عند البلاء ، والمقتصد : الذي يصبر عند البلاء ، والسابق : الذي يتلذذ بالبلاء ، وقيل : الظالم : الذي يعبده على الغفلة والعادة ، والمقتصد : الذي يعبده على الرغبة والرهبة ، والسابق : الذي يعبده على الهيبة ورؤية المنة ، وقيل : الظالم : الذي أُعطي فمنع ، والمقتصد : الذي أُعطي فبذل ، والسابق : الذي مُنع فشكر ، وقيل : الظالم : غافل ، والمقتصد : طالب ، والسابق واجد ، وقيل : الظالم : من استغنى بماله ، والمقتصد : من استغنى بدينه ، والسابق : من استغنى بربه ، وقيل : الظالم التالي للقرآن ، والمقتصد : القارئ له والعالم به ، والسابق : القارئ لكتاب الله العالم بكتاب الله العامل به ، وقيل : السابق : الذي يدخل المسجد قبل تأذين المؤذن ، والمقتصد : الذي يدخل المسجد وقد أذن ، والظالم : الذي يدخل المسجد وقد أُقيم ، وقيل : الظالم : الذي يحب نفسه ، والمقتصد : الذي يحب ربه ، والسابق : الذي يحبه ربه ، وقيل : الظالم : مريد ، والمقتصد : مُراد ، والسابق : مطلوب ، وقيل : الظالم : مدعو ، والمقتصد مأذون له ، والسابق : مقرب ، وقيل : الظالم : عيوف ، والمقتصد : ألوف ، والسابق : حليف .
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : الظالم : ينتصف ولا ينصف ، والمقتصد : ينصف وينتصف ، والسابق ينصف ولا ينتصف .
(8/110)
" صفحة رقم 111 "
ذو النون المصري : الظالم : الذي لا يذكر الله بلسانه ، والمقتصد : الذي يذكره بقلبه ، والسابق : الذي لا ينسى ربه .
أحمد بن عاصم الأنطاكي : الظالم : صاحب الأقوال ، والمقتصد : صاحب الأفعال ، والسابق : صاحب الأحوال .
ثم جمعهم الله سبحانه وتعالى في دخول الجنة فقال سبحانه وتعالى : ) جناتُ عدن يدخلونها ( . أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن زرعة قال : حدّثنا يوسف بن عاصم الرازي قال : حدّثنا أبو أيُّوب سليمان بن داوُد المنقري المعروف بالشاذكوي عن حصين ابن نمير أبو محصن عن ابن أبي ليلى عن أخيه عن أبيه عن أُسامة بن زيد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) فمنهم ظالمٌ لنفسه ( الآية قال : ( كلهم في الجنة ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا علي بن محمد بن علي بن الحسين الفأفاء القاضي قال : حدّثنا بكر بن محمد المروزي قال : حدّثنا أبو قلابة قال : حدّثنا عمرو بن الحصين عن الفضل بن عميرة عن ميمون الكردي عن أبي عثمان الهندي قال : سمعت عمر بن الخطاب قرأ على المنبر : ) ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ( الآية فقال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( سابقنا سابق ، ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفورٌ له ) . قال أبو قلابة : فحدثت به يحيى بن معين فجعل يتعجب منه .
) يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير ( أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال : حدّثنا محمد بن الحسن بن بشير قال : حدثنا أبو الحرث أحمد بن سعيد بن أُمِّ سعيد قال : حدّثنا الربيع بن سليمان المرادي قال : حدّثنا أسيد بن موسى عن ابن ثومان عن عطاء ابن قرة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو أن أدنى أهل الجنة حلية عدلت حليته بحلية أهل الدنيا جميعاً لكان ما يحليه الله سبحانه به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعاً ) .
فاطر : ( 34 ) وقالوا الحمد لله . . . . .
) وقالوا ( أي يقولون إذا دخلوا الجنة ) الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ( أخبرني الحسين بن محمد العدل قال : حدّثنا محمد بن المظفر قال : حدّثنا علي بن إسماعيل بن حماد البغدادي قال : حدّثنا عمرو بن علي الفلاس قال : حدّثنا معاذ بن هشام ، قال حدّثني أبي عن
(8/111)
" صفحة رقم 112 "
عمرو بن مالك عن ابن أبي الجوزاء عن ابن عباس في قول الله عز وجل : ) الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ( قال : حزن النار .
وأخبرني الحسين بن محمد عن محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال : حدثنا أبو شعيب الحراني قال : حدّثنا عبد العزيز بن أبي داوُد الحراني قال : حدّثنا جرير عن أشعث بن قيس عن شمر بن عطية في قول الله عز وجل : ) الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ( قال حزن الخبز .
عكرمة : حزن الذنوب والسيئات وخوف رد الطاعات ، وقيل : حزن الموت ، وقيل : حزن الجنة والنار لا يُدرى إلى أيهما يصير . الثمالي : حزن الدنيا . الضحاك : حزن إبليس ووسوسته . ذو النون : حزن القطيعة .
الكلبي : يعني الحزن الذي يحزننا في الدنيا من يوم القيامة ، وقيل : حزن العذاب والحساب ، وقيل : حزن أهوال الدنيا وأوجالها ، وقال القاسم : حزن زوال النعم وتقليب القلب وخوف العاقبة .
وسمعت السلمي يقول : سمعت النصرآبادي يقول : ما كان حزنهم إلاّ تدبير أحوالهم وسياسة أنفسهم ، فلما نجوا منها حمدوا ) وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إنّ ربنا لغفورٌ شكورٌ ( ، أخبرني أبو عبد الله الدينوري قال : أخبرني أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي عن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن عبد الرَّحْمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال : سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( ليس على أهل ( لا إله إلاّ الله ) وحشة في قبورهم ولا في محشرهم ولا في منشرهم ، وكأني بأهل ( لا إله إلاّ الله ) يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن وجوههم ويقولون : ) الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إنّ ربنا لغفورٌ شكور ( .
فاطر : ( 35 ) الذي أحلنا دار . . . . .
) الذي أحلنا دار المقامة ( أي الإمامة ) من فضله لا يمسنا فيها نصبٌ ولا يمسنا فيها لغوبٌ ( أي كلال وإعياء وفتور ، وقراءة العامة بضم اللام ، وقرأ السلمي بنصب اللام وهو مصدر أيضاً كالولوع ، وقال الفراء : كأنه جعله ما يلغب مثل لغوب .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الجوزقي قال : أخبرنا أبو الحسين محمد بن محمد بن مهدي قال : أبو عبد الله محمد بن زكريا بن محمدويه الرجل الصالح عن عبد الله بن عبد الوهاب الخوارزمي قال : حدّثنا عاصم بن عبد الله قال : حدّثني إسماعيل عن ليث بن أبي سليم عن الضحاك بن مزاحم في قول الله سبحانه : ) الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن ( قال
(8/112)
" صفحة رقم 113 "
إذا دخل أهل الجنة استقبلهم الولدان والخدم كأنهم اللؤلؤ المكنون . قال : فيبعث الله ملكاً من الملائكة معه هدية من رب العالمين وكسوة من كسوة الجنة فيلبسه . قال : فيُريد أن يدخل الجنة فيقول الملك : كما أنت فيقف ومعه عشرة خواتيم من خواتيم الجنة هدية من رب العالمين فيضعها في أصابعه . مكتوب في أول خاتم منها : ) طبتم فادخلوها خالدين ( ، وفي الثاني مكتوب : ) ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود ( ، وفي الثالث مكتوب : ( رفعت عنكم الأحزان والهموم ) ، وفي الرابع مكتوب : ( زوجناكم الحور العين ) ، وفي الخامس مكتوب : ( ادخلوها بسلام آمنين ) ، وفي السادس مكتوب : ) إني جزيتهم اليوم بما صبروا ( ، وفي السابع مكتوب : ( إنهم هم الفائزون ) ، وفي الثامن : ( صرتم آمنين لا تخافون ) ، وفي التاسع مكتوب : ( رافقتم النبيين والصديقين والشهداء ) ، وفي العاشر مكتوب : ( سكنتم في جوار من لا يؤذي الجيران ) . ثم تقول الملائكة : ( ادخلوها بسلام آمنين ) .
فلما دخلوا بيوتاً ترفع ) قالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن . . ( إلى قوله : ) لغوب (
.
) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ هُوَ الَّذِى جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِى الاَْرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلاَ يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الاَْرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السَّمَاوَاتِ أَمْ ءَاتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الاُْمَمِ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً اسْتِكْبَاراً فِى الاَْرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّىءِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلاَْوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاَْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَىْءٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِى الاَْرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَاكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً (
(8/113)
" صفحة رقم 114 "
فاطر : ( 36 ) والذين كفروا لهم . . . . .
) والذين كفروا لهم نارُ جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ( أي لا يقبضون فيستريحون .
وذكر عن الحسن : فيموتون ، و ) لا ( يكون حينئذ جواباً للنفي ، والمعنى : لا يقضى عليهم ولا يموتون . كقوله : ) لا يؤذن لهم فيعتذرون ( ) ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور ( قراءة العامة بنصب النون واللام وقرأ أبو عمرو بضم الياء واللام وفتح الزاي على غير تسمية الفاعل .
فاطر : ( 37 ) وهم يصطرخون فيها . . . . .
) وهم يصطرخون ( : يدعون ويستغيثون ويصيحون فيها ، وهو افتعال من الصراخ ، ويُقال للمغيث : صارخ وللمستغيث : صارخ . ) ربنا أخرجنا ( من النار ) نعمل صالحاً غير الذي كُنا نعمل ( في الدُّنيا ، فيقول الله عز وجل : ) أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ( . اختلفوا في هذه المدة ، فقال قتادة والكلبي : ثماني عشرة سنة ، وقال الحسن : أربعون سنة ، وقال ابن عباس : ستون سنة .
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه وأحمد بن جعفر بن حمدان قالا : حدّثنا إبراهيم بن سهلويه قال : حدّثنا أبو سلمة يحيى بن المغيرة حدّثنا ابن أبي فديك عن عبد الله بن عبد الرَّحْمن بن أبي حصين عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : ( إذا كان يوم القيامة نُودي أين أبناء الستين ؟ وهو الذي قال الله عز وجل فيه : ) أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر ( ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو بكر بن حرجة قال : حدّثنا محمد بن أيوب قال : حدّثنا الحجبي عن عبد العزيز بن أبي حازم قال : سمعت أبي يُحدث عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : ( من عمّره الله ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر ) .
وأخبرني ابن فنجويه عن أحمد بن جعفر بن حمدان عن إبراهيم بن سهلويه عن الحسين بن عرفة ، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أعمار أُمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك ) .
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( معترك منايا أُمتي ما بين الستين إلى السبعين )
(8/114)
" صفحة رقم 115 "
) وجاءكم النذير ( أي الرسول ، وقال زيد بن علي : القرآن ، وقال عكرمة وسفيان بن عيينة ووكيع والحسين بن الفضل : يعني الشيب ، وفيه قيل :
رأيت الشيب من نُذُر المنايا
لصاحبها وحسبك من نذيرِ
فحدّ الشيبِ أُهبة ذي وقار
فلا خلفٌ يكون مع القتير
وقال آخر :
وقائلة تبيض والغواني
نوافر عن معاينة القتير
فقلت لها المشيب نذير عمري
ولستُ مسوداً وجه النذير
) فذوقوا ( أي العذاب ) فما للظالمين من نصير }
فاطر : ( 38 - 40 ) إن الله عالم . . . . .
) إن الله عالم غيب السماوات والأرض إنه عليم بذاتِ الصدور هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلاّ مقتاً ( غضباً ) ولا يزيد الكافرين كفرهم إلاّ خساراً قل أرأيتم شركاءكم الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض ( أي في الأرض ) أم لهم شرك في السماوات أم آتيناهم كتاباً ( يأمرهم بذلك ) فهم على بينة منه ( .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو والأعمش وحمزة ) بينة ( على الواحد ، وقرأ غيرهم ( بينات ) بالجمع ، وهو اختيار أبي عبيد قال : لموافقة الخط . فإني قد رأيتها في بعض المصاحف بالألف والتاء . ) بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضاً إلاّ غروراً }
فاطر : ( 41 ) إن الله يمسك . . . . .
) إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحدً من بعده إنه كان حليماً غفوراً ( ، روى مغيرة عن إبراهيم قال : جاء من أصحاب عبد الله بن مسعود إلى كعب ليتعلم من علمه ، فلما رجع قال عبد الله : هات الذي أصبت من كعب . قال : سمعت كعباً يقول : إنّ السماء تدور في قطبة مثل قطبة الرحا في عمود على منكب ملك . فقال عبد الله : وددت أنك انفلتّ من رحلتك براحلتك ورحلها ، كذب كعب ما ترك يهوديته بعدُ ، إنّ الله عز وجل يقول : ) إنّ الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا ( الآية ، إن السماوات لاتدور ، ولو كانت تدور لكانت قد زالت .
فاطر : ( 42 ) وأقسموا بالله جهد . . . . .
) وأقسموا بالله جهد أيمانهم ( وذلك أنّ قريشاً لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا : لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم ، فوالله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى ديناً منهم ، وهذا قبل قدوم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلما بُعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كذبوه فأنزل الله عز وجل : ) وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذيرٌ ليكونن أهدى من إحدى الأُمم ( ، يعني اليهود والنصارى ، ) فلما جاءهم نذيرٌ ( : محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ما زادهم إلاّ نفوراً ( بعداً ونفاراً
(8/115)
" صفحة رقم 116 "
فاطر : ( 43 ) استكبارا في الأرض . . . . .
) استكباراً في الأرض ( ونصب ) استكباراً ( على البدل من النفور ، قاله الأخفش ، وقيل : على المصدر ، وقيل : نزع الخافض . ) ومكر السيّئ ( يعني العمل القبيح ، وقال الكلبي : هو إجماعهم على الشرك وقتل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ) ولا يحيق المكر السَّيِّئ إلاّ بأهله ( ، أي لا يحل ولا ينزل ، ويحيط ويلحق فقتلوا يوم بدر ، وقراءة العامة : ) السيّئ ( بإشباع الإعراب فيها ، وجزم الأعمش وحمزة ( ومكر السَّيْ ) تخفيفاً وكراهة لالتقاء الحركات ولم يعملا ذلك في الأُخرى ، والقراءة المرضية ما عليه العامة .
وفي الحديث أنّ كعباً قال لابن عباس : قرأت في التوراة : من حفر حفرة وقع فيها . فقال ابن عباس : أنا أوجد لك ذلك في القرآن ، ثم قرأ قوله سبحانه وتعالى : ) ولا يحيق المكر السيئ إلاّ بأهله ( .
وأخبرني أبو عبد الله الحسين بن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا محمد بن الحسن البلخي قال : حدّثنا عبد الله بن المبارك قال : أخبرنا يونس بن يزيد عن الزهري قال : بلغنا أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا تمكر ولا تعن ماكراً ؛ فإن : الله سبحانه وتعالى يقول : ) ولا يحيق المكر السيّئ إلاّ بأهله ( ، ولا تبغ ولا تعن باغياً ، بقول الله سبحانه وتعالى : ) إنما بغيكم على أنفسكم ( ولا تنكث ولا تعن ناكثاً فإنّ الله سبحانه يقول : ) ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ( )
) فهل ينظرون إلاّ سنة الأولين ( يعني العذاب إذا كفروا ) فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا 2 )
فاطر : ( 44 - 45 ) أو لم يسيروا . . . . .
) أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليماً قديراً ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ( من الجرائم ) ما ترك على ظهرها ( ، يعني الأرض كناية عن غير مذكور ) من دابة ( .
قال الأخفش والحسين بن الفضل : أراد بالدابة : الناس دون غيرهم ، وأجراها الآخرون على العموم . أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه ( عن ) الفربابي قال : حدّثني أبو مسعود أحمد بن الفرات قال : أخبرنا أبو عوانة قال : حدّثنا عبد الله بن المبارك عن يونس بن يزيد عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا أصاب الله عز وجل قوماً بعذاب أصاب به من بين ظهرانيهم ثم يبعثون على أعمالهم يوم القيامة ) .
(8/116)
" صفحة رقم 117 "
وقال قتادة في هذه الآية : قد فعل الله ذلك في زمن نوح فأهلك الله ما على ظهر الأرض من دابة إلاّ ما حُمل في سفينة نوح ، وقال ابن مسعود : كاد الجعل يُعذب في جحره بذنب ابن آدم ثم قرأ هذه الآية ، وقال أنس : إنّ الضب ليموت هزلاً في جحره بذنب ابن آدم ، وقال يحيى ابن أبي كثير : أمر رجل بمعروف ونهى عن منكر ، فقال له رجل : عليك نفسك فإنّ الظالم لا يضر إلاّ نفسه . فقال أبو هريرة : كذبت والذي نفسي بيده ، إنّ الحباري لتموت هزلاً في وكرها بظلم الظالم .
وقال أبو حمزة الثمالي في هذه الآية : يحبس المطر فيهلك كل شيء .
) ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمىً فإذا جاء أجلهم فإنّ الله كان بعباده بصيراً (
.
(8/117)
" صفحة رقم 118 "
( سورة يس )
مكيّة ، وهي ثلاثة آلاف حرف وسبعمائة وتسع وعشرون كلمة وثلاث وثمانون آية
في فضلها :
أخبرنا أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد الناقد قال : أخبرني أبو العباس محمد بن إسحاق السراج قال : حدّثنا حميد بن عبد الرَّحْمن عن الحسين بن صالح عن هارون أبي محمد عن مقاتل بن حيان عن قتادة عن أنس : أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لكل شيء قلب وإنّ قلب القرآن ( ياس ) ومن قرأ ( ياس ) كتب الله له بقراءتها قراءة القرآن عشر مرات ) .
وأخبرني محمد بن الحسين بن محمد قال : حدّثنا محمد بن محمد بن يعقوب قال : حدّثنا محمد بن عبد الله بن محمد بن مسلم الملطي بمصر قال : حدّثنا إسماعيل بن محمود النيسابوري قال : حدّثنا أحمد بن عمران الرازي عن محمد بن عمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ في القرآن لسورة تشفع لقرائها ويُغفر لمستمعها ، ألا وهي سورة يس ) .
وأخبرنا أبو الحسن عبد الرَّحْمن بن محمد بن إبراهيم الطبراني بها قال : حدّثنا العباس بن محمد بن قوهيار قال : حدّثنا الفضل بن حماد وأخبرنا أحمد بن أبي الفراتي قال : أخبرنا أبو نصر السرخسي قال : حدّثنا محمد بن أيوب قالا : حدّثنا إسماعيل بن أبي أُوس عن محمد بن عبد الرَّحْمن بن أبي بكر الجدعاني عن سُليمان بن مرقاع عن هلال بن الصلت أنّ أبا بكر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يس تدعى المعمة ) . قيل : يا رسول الله وما المعمة ؟ قال : ( تعم صاحبها : خير الدنيا وتدفع عنه أهاويل الآخرة ، وتُدعى الدافعة والقاضية ) قيل : يارسول الله وكيف ذلك ؟
قال : ( تدفع عنه كل سوء وتقضي له كل حاجة ، ومن قرأها عُدلت له عشرون حجة ، ومن سمعها كان له ألف دينار في سبيل الله ، ومن كتبها وشربها أدخلت ( جوفه ) ألف دواء وألف
(8/118)
" صفحة رقم 119 "
يقين وألف زلفى وألف رحمة ، ونزع عنه كل داء وغل ) .
وأخبرنا أبو الحسن بن أبي إسحاق المزكي قال : حدّثنا أبو الأحرز محمد بن عمر بن جميل قال : حدّثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم وهو أبو بسطام البغدادي قال : حدّثنا إسماعيل ابن إبراهيم قال : حدّثنا يوسف بن عطية عن هارون بن كثير عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أُمامة عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ ( ياس ) يُريد بها الله عز وجل غفر الله له وأُعطي من الأجر كأنما قرأ القرآن اثنتي عشرة مرة ، وأيما مريض قرئت عنده سورة ( باس ) نزل عليه بعدد كل حرف عشرة أملاك يقومون بين يديه صفوفاً فيصلون ويستغفرون له ويشهدون قبضه وغسله ويتبعون جنازته ويصلون عليه ويشهدون دفنه ، وأيما مريض قرأ سورة يس وهو في سكرات الموت لم يقبض ملك الموت روحه حتى يجيئه رضوان خازن الجنان بشربة من الجنة فيشربها وهو على فراشه فيموت وهو ريان ويبعث وهو ريان ويُحاسب وهو ريان ولا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء حتى يدخل الجنة وهو ريان ) .
وحدّثنا أبو الفضل علي بن محمّد بن أحمد بن علي الشارعي الخوارزمي إملاء قال : حدّثنا أبو سهل بن زياد القطان قال : حدّثنا ابن مكرم قال : حدّثنا مصعب بن المقدّم قال : حدّثنا أبو المقدام هشام عن الحسن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة ( ياس ) في ليلة أصبح مغفوراً له ) .
وأخبرني الحسين بن محمد الثقفي قال : حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال : حدّثنا حمزة بن الحسين بن عمر البغدادي قال : حدّثنا محمد بن أحمد الرياحي قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا أيوب بن مدرك عن أبي عبيدة عن الحسن عن أنس بن مالك عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من دخل المقابر فقرأ سورة ( ياس ) خفف عنهم يومئذ وكان له بعدد من فيها حسنات ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا علي بن ماهان عن علي بن محمد الطنافسي قال : حدّثنا عبد الرَّحْمن المحاربي قال : حدّثنا عامر بن يساف اليمامي عن يحيى بن كثير قال : بلغنا أنه من قرأ ( ياس ) حين يصبح لم يزل في فرح حتى يمسي ، ومن قرأها حين يمسي لم يزل في فرح حتى يُصبح ، وقد حدّثني من جربها .
بسم الله الرَّحْمن الرحيم
(8/119)
" صفحة رقم 120 "
2 ( ) يس وَالْقُرْءَانِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ إِنَّا جَعَلْنَا فِىأَعْناقِهِمْ أَغْلَالاً فَهِىَ إِلَى الاَْذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَءَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخشِىَ الرَّحْمانَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَءَاثَارَهُمْ وَكُلَّ شىْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِىإِمَامٍ مُّبِينٍ ( 2
يس : ( 1 ) يس
) يس ( اختلف القُراء فيه ، فقرأ حمزة والكسائي وخلف في أكثر الروايات ) يس ( بكسر الياء بين اللفظين قراءة أهل المدينة ، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم .
الباقون : بفتح الياء ، وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو وحمزة وأيوب وأبو حاتم وعاصم في أكثر الروايات ، ( يسين ) ، بإظهار النون والسكون .
واختلف فيه عن نافع وابن كثير ، فقرأ عيسى بن عمر : ( ياس ) بالنصب ، شبهه ب ( أين ) و ( كيف ) ، وقرأ ابن أبي إسحاق بكسر النون ، شبهه بأمسِ ورقاشِ وحذامِ وقرأ هارون الأعور : بضم النون ، شبهه بمنذُ وحيثُ وقطُّ . الآخرون : بإخفاء النون .
واختلف المفسرون في تأويله ، فقيل : قسم ، وقال ابن عباس : يعني يا إنسان بلغة طيىء عطا : بالسريانية ، وقال أبو العالية : يا رجل ، وقال سعيد بن جبير : يا محمّد ، دليله قوله : ) إنك لمن المرسلين ( .
وقال السيد الحميري :
يا نفس لا تمحضي بالنصح جامدة
على المودة إلاّ آل ياسينا
وقال أبو بكر الوراق : يا سيد البشر .
فإن قيل : لم عدّ ) يس ( آية ولم يعد ) طس ( آية ؟
فالجواب أنّ ) طس ( أشبه قابيل من جهة الزنة والحروف الصحاح و ) يس ( أوله حرف علة وليس مثل ذلك في الأسماء المفردة ، فأشبه الجملة والكلام التام وشاكل ما بعده من رؤوس الآي .
يس : ( 2 - 3 ) والقرآن الحكيم
) والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين ( وهو جواب لقول الكفار : لستَ مرسلاً .
(8/120)
" صفحة رقم 121 "
يس : ( 4 - 5 ) على صراط مستقيم
) على صراط مستقيم تنزيل ( قرأ ابن عامر وأهل الكوفة بنصب اللام على المصدر كأنه قال : نزل تنزيلاً ، وقيل : على الخروج من الوصف ، وقرأ الآخرون بالرفع أي هو تنزيلُ ) العزيز ( : الشديد المنع على الكافرين ) الرحيم ( : ب ( عباده ) وأهل طاعته .
يس : ( 6 ) لتنذر قوما ما . . . . .
) لتُنذر قوماً ما أُنذر آباؤهم ( في الفترة ، وقيل : بما أُنذر آباؤهم ) فهم غافلون ( عن الإيمان والرشد .
يس : ( 7 - 8 ) لقد حق القول . . . . .
) لقد حق القول ( وجب العذاب ) على أكثرهم فهم لا يؤمنون إنا جعلنا ( ، نزلت في أبي جهل وأصحابه المخزوميين ، وذلك أنّ أبا جهل كان قد حلف لئن رأى محمداً يُصلّي ليرضخن برأسه . فأتاه وهو يُصلي ومعه حجر ليدمغه فلما رفعه أثبتت يده إلى عنقه ولزق الحجر بيده . فلما عاد إلى أصحابه وأخبرهم بما رأى سقط الحجر ، فقال رجل من بني مخزوم : أنا أقتله بهذا الحجر .
فأتاه وهو يُصلي ليرميه بالحجر فأعمى الله بصره فجعل يسمع صوته ولا يراه ، فرجع إلى أصحابه فلم يرهم حتى نادوه وقالوا له : ما صنعت ؟ فقال : ما رأيته ، ولقد سمعت صوته وحال بيني وبينه كهيئة الفحل يخطر بذنبه لو دنوت منه لأكلني ، فأنزل الله عز وجل : ) إنا جعلنا ( .
) في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ( : مغلولون ، وأصل الإقماح غض البصر ورفع الرأس ، يُقال : بعير مقمح إذا رفع رأسه وغض بصره ، وبعير قامح إذا أروى من الماء فأقمح . قال الشاعر يذكر سفينة كان فيها :
ونحن على جوانبها قعود
نغضّ الطرف كالإبل القماح
وقال أبو عبيدة : هذا على طريق المثل ، ولم يكن هناك غل ، إنما أراد : منعناهم عن الإيمان وعما أرادوا بموانع ، فجعل الأغلال مثلاً لذلك ، وفي الخبر أنّ أبا ذؤيب كان يهوى امرأة في الجاهلية ، فلما أسلم أتته المرأة واسمها أمُ مالك فراودته عن نفسه ، فأبى وأنشد يقول :
فليس كعهد الدار يا أُمّ مالك
ولكن أحاطت بالرقاب السلاسلُ
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل
سوى العدل شيئاً فاستراح العواذل
أراد منعنا : بموانع الإسلام عن تعاطي الزنا والفسق ، وقال عكرمة : ) إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً ( يعني ظلمات وضلالات كانوا فيها .
(8/121)
" صفحة رقم 122 "
يس : ( 9 ) وجعلنا من بين . . . . .
) وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم ( : فأعميناهم ، العامة بالغين .
أخبرني الحسن بن محمد الثقفي قال : حدّثنا البغوي ببغداد قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن أبي شنبه البغدادي قال : حدّثنا أبو القاسم عثمان بن صالح الحناط قال : حدّثنا عثمان بن عمر عن شعبة عن علي بن نديمة قال : سمعت عكرمة يقول : ) فأعشيناهم ( بالعين غير معجمة وروى ذلك عن ابن عباس .
) فهم لا يبصرون }
يس : ( 10 ) وسواء عليهم أأنذرتهم . . . . .
) وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ( أخبرنا ابن فنجويه الدينوري عن عبد الله بن محمد بن شنبه قال : حدّثنا عمير بن مرداس قال : حدّثنا سلمة بن شبيب قال : حدّثنا الحسين بن الوليد قال : حدّثنا حنان بن زهير العدوي عن أبيه عن عمر بن عبد العزيز ، وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه عن الفربابي قال : حدّثنا عبيد الله بن معاذ قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا محمد بن عمرو الليثي أنّ الزهري حدثه قال : دعا عمر بن عبد العزيز غيلان القدري فقال : يا غيلان بلغني أنك تكلم في القدر ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، إنهم يكذبون عليّ . قال : يا غيلان اقرأ أول سورة ( يس ) فقرأ : ) يس والقرآن الحكيم ( إلى قوله : ) وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ( . فقال غيلان : يا أمير المؤمنين والله لكأني لم أقرأها قط قبل اليوم ، أُشهدك يا أمير المؤمنين أني تائب مما كنت أقول في القدر . فقال عمر بن عبد العزيز : اللهم إن كان صادقاً فتب عليه ، وإن كان كاذباً فسلط عليه من لا يرحمه واجعله آية للمؤمنين .
قال : فأخذه هشام فقطع يديه ورجليه .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه عن الفربابي قال : حدّثنا عبد الله بن معاذ قال : حدّثنا أبي عن بعض أصحابه قال : حدث محمد بن عمير بهذا الحديث ابن عون ، فقال ابن عون : أنا رأيته مصلوباً على باب دمشق .
يس : ( 11 ) إنما تنذر من . . . . .
) إنما تُنذر من اتبع الذكر ( يعني إنما ينفع إنذارك لأنه كان ينذر الكل ) من اتبع الذكر ( : القرآن فعمل به ) وخشي الرَّحْمن بالغيب فبشره ( : أخبره ) بمغفرة وأجر كريم }
يس : ( 12 ) إنا نحن نحيي . . . . .
) إنا نحن نُحيي الموتى ( عند البعث ) ونكتب ما قدموا ( من الأعمال ) وآثارهم ( ما استُن به بعدهم ، نظيره قوله : ) ينبّأ الإنسان يؤمئذ بما قدّم وأخر ( ، وقوله : ) علمت نفسٌ ما قدمت وأخرت ( .
وقال المغيرة بن شعبة والضحاك : نزلت في بني عذرة ، وكانت منازلهم بعيدة عن المسجد فشق عليهم حضور الصلوات ، فأنزل الله عز وجل : ) ونكتب ما قدموا وآثارهم ( يعني خُطاهم إلى المسجد .
أخبرنا ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا جعفر بن محمد الفربابي قال : حدّثنا
(8/122)
" صفحة رقم 123 "
حنان بن موسى قال : حدّثنا عبد الله بن المبارك عن سعيد الحريري عن أبي نضرة عن جابر عن عبد الله قال : أردنا النقلة إلى المسجد والبقاع حول المسجد خالية فبلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأتانا في ديارنا فقال : ( يا بني سلمة ، بلغني أنكم تريدون النقلة إلى المسجد ؟ ) فقالوا : يا رسول الله ، بعد علينا المسجد ، والبقاع حول المسجد خالية . فقال : ( يا بني سلمة ، دياركم فإنما تكتب آثاركم ) . قال : فما وددنا بحضرة المسجد لمّا قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عليه الذي قال . .
أخبرنا أبو علي الروزباري قال : حدّثنا أبو بكر محمد بن مهرويه الرازي قال : حدّثنا أبو حاتم الرازي قال : حدّثنا قرة بن حبيب قال : حدّثنا عتبة بن عبد الله عن ثابت عن أنس في قوله سبحانه : ) ونكتب ما قدموا وآثارهم ( قال : الخُطى يوم الجمعة .
) وكل شيء أحصيناه ( علمناه وعدّدناه وبيناه ) في إمام مبين ( وهو اللوح المحفوظ .
( ) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا الْمُرْسَلُونَ إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُواْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرَّحْمَانُ مِن شَىْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ قَالُواْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَءِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ ياقَوْمِ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِى فَطَرَنِى وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أَءَتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّى شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ إِنِّىإِذاً لَّفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِنِّىءَامَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يالَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِينَ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ياحَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ وَءَايَةٌ لَّهُمُ الاَْرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ سُبْحَانَ الَّذِى خَلَق الاَْزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الاَْرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِى لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِى لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ (
(8/123)
" صفحة رقم 124 "
يس : ( 13 ) واضرب لهم مثلا . . . . .
) واضرب لهم مثلاً أصحاب القرية ( وهي أنطاطية ) إذ جاءها المرسلون ( يعني رُسل عيسى : قالت العلماء بأخبار الأنبياء : بعث عيسى ( عليه السلام ) رسولين من الحواريين إلى أنطاكية ، فلما قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنيمات وهو حبيب صاحب ( ياس ) ، فسلما عليه ، فقال الشيخ : من أنتما ؟ قالا : رسولا عيسى يدعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرَّحْمن . فقال : أمعكما آية ؟ قالا : نعم ، نشفي المرضى ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله . فقال الشيخ : إنّ لي ابناً مريضاً صاحب فراش منذ سنين . قالا : فانطلق بنا إلى منزلك نتطلع حاله .
فأتى بهما إلى منزله ، فمسحها ابنه فقام في الوقت بإذن الله صحيحاً ، ففشا الخبر في المدينة وشفى الله على يديهما كثيراً من المرضى ، وكان لهم ملك يقال له سلاحين ، وقال : وهب اسمه ابطيحيس ، وكان من ملوك الروم يعبد الأصنام ، قالوا : فانتهى الخبر إليه فدعاهما ، فقال لهما : من أنتما ؟ قالا : رسولا عيسى . قال : وما آيتكما ؟ قالا : نبرئ الأكمه والأبرص ، ونُشفي المرضى بإذن الله . قال : وفيم جئتما ؟ قالا : جئناك ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يُبصر إلى عبادة من يسمع ويُبصر . فقال الملك : أو لنا إله سوى آلهتنا ؟ قالا : نعم من أوجدك وآلهتك . قال : قوما حتى أنظر في أمركما . فتتبعهما الناس فأخذوهما وضربوهما في السوق .
وقال وهب بن منبه : بعث عيسى ( عليه السلام ) هذين الرسولين إلى أنطاكية فأتياها ولم يصلا إلى ملكها فطالت مدة مقامهما ، فخرج الملك ذات يوم : فكبرا وذكرا الله ، فغضب الملك وأمر بهما فأُخذا وحُبسا وجلد كل واحد منهما مئة جلدة . قالوا : فلما كُذب الرسولان وضُربا ، بعث عيسى رأس الحواريين شمعون الصفا على أثرهما لينصرهما .
فدخل شمعون البلدة متنكراً وجعل يُعاشر حاشية الملك حتى أنَسوا به فرُفع خبره إلى الملك فدعاه فرضى عشرته ، وآنس به وأكرمه . ثم قال له ذات يوم : أيها الملك بلغني أنك حبست رجلين في السجن وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك ، فهل كلمتهما وسمعت قولهما ؟ فقال الملك : حال الغضب بيني وبين ذلك . قال : فإذا رأى الملك دعاهما حتى نتطلع ما عندهما .
فدعاهما الملك فقال لهما شمعون : من أرسلكما إلى ها هنا ؟ قالا : الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك . فقال لهما شمعون : فصِفاهُ وأوجزا . فقالا : إنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يُريد . قال شمعون : وما آيتكما ؟ قالا له : ما تتمناه . فأمر الملك حتى جاؤوا بغلام مطموس العينين موضع عينيه كالجبهة . فما زالا يدعوان ربّهما حتى انشق موضع البصر ، فأخذا بندقتين من الطين فوضعاهما في حدقتيه فصارتا مقلتين فبصر بهما ، فتعجب الملك ، فقال شمعون للملك : أرأيت ( لو ) سألت إلهك حتى يصنع صنيعاً مثل هذا فيكون لك الشرف ولإلهك .
(8/124)
" صفحة رقم 125 "
فقال له الملك : ليس عندي سر إنّ إلهنا الذي نعبده لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع ، وكان شمعون إذا دخل الملك على الصنم يدخل بدخوله ويُصلّي كثيراً ويتضرع ، حتى ظنوا أنه على ملتهم .
وقال الملك للرسولين : إن قدر إلهكما الذي تعبدانه على إحياء ميت آمنا به وبكما . قالا : إلهنا قادر على كل شيء . فقال الملك : إنّ ها هنا ميتاً مات منذ سبعة أيام ابناً لدهقان وأنا أخرته فلم أدفنه حتى يرجع أبوه وكان غائباً .
فجاؤوا بالميت وقد تغيّر وأروح ، فجعلا يدعوان ربهما علانية ، وجعل شمعون يدعو ربه سراً . فقام الميت وقال : إني قد مُتُ منذ سبعة أيام ، ووُجدت مشركاً فأُدخلت في تسعة أودية من النار ، وأنا أُحذركم ما أنتم فيه ، فآمنوا بالله .
ثم قال : فتحت أبواب السماء فنظرت فرأيت شاباً حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة . قال الملك : ومن الثلاثة ؟ قال : شمعون وهذان ، وأشار إلى صاحبيه . فتعجب الملك ، فلما علم شمعون أنّ قوله أثر في الملك أخبره بالحال ودعاه ، فآمن قوم وكان الملك فيمن آمن ، وكفر آخرون .
يس : ( 14 ) إذ أرسلنا إليهم . . . . .
وقال ابن إسحاق عن كعب ووهب : بل كفر الملك ، وأجمع هو وقومه على قتل الرسل ، فبلغ ذلك حبيباً وهو على باب المدينة الأقصى فجاء يسعى إليهم ويذكرهم ويدعوهم إلى طاعة المرسلين فذلك قوله سبحانه : ) إذ أرسلنا إليهم اثنين ( .
واختلفوا في اسميهما ، فقال ابن عباس : تاروص وماروص ، وقال وهب : يحيى ويونس ، ومقاتل : تومان ومانوص .
) فكذبوهما فعززنا بثالث ( أي فقوّينا برسول ثالث . قرأ طلحة بن مصرف وعاصم عن حفص : ) فعززنا ( مخففاً ، أي فغلبناهم ، من عزيز برسول ثالث وهو شمعون .
وقال مقاتل : شمعان ، وقال كعب : الرسولان صادق وصدوق والثالث شلوم وإنما أضاف الإرسال إليه لأن عيسى ( عليه السلام ) إنما بعثهم بأمره عزّ وجل ، وكانوا في جملة الرُسل ، فقالوا جميعاً لأهل أنطاكية : ) إنا إليكم مرسلون }
يس : ( 15 ) قالوا ما أنتم . . . . .
) قالوا ما أنتم إلاّ بشرٌ مثلنا وما أنزل الرَّحمان من شيء إن أنتم إلاّ تكذبون ( : ما أنتم إلاّ كاذبون .
يس : ( 16 - 18 ) قالوا ربنا يعلم . . . . .
) قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلاّ البلاغ المبين قالوا إنا تطيرنا ( تشاءمنا .
) بكر ( ، قال مقاتل : حبس عنهم المطر فقالوا : هذا بشؤمكم ) لئن لم تنتهوا لنرجمنكم ( ، قال قتادة : بالحجارة ، وقال آخرون : لنقتلنكم ، ) وليمسنكم منا عذابٌ أليم }
يس : ( 19 ) قالوا طائركم معكم . . . . .
) قالوا طائركم ( : شؤمكم ) معكم ( بكفركم ، وقال ابن عباس والضحاك : حظّكم من الخير والشر . قال قتادة : أعمالكم ، وقرأ الحسن والأعرج : طيركم
(8/125)
" صفحة رقم 126 "
) أئن ذكرتم ( وعظتم ، وقرأ أبو جعفر بالتخفيف ، يعني من حيث ذكرتم ، وجوابه محذوف مجازه : أئن ذكرتم قلتم هذا القول ، ) بل أنتم قومٌ مسرفون ( : مشركون مجاوزون الحد .
يس : ( 20 ) وجاء من أقصى . . . . .
قوله : ) وجاء من أقصى المدينة رجلٌ يسعى ( وهو حبيب بن مري ، وقال ابن عباس ومقاتل : حبيب بن إسرائيل النجار ، وقال وهب : وكان رجلاً سقيماً قد أسرع فيه الجذام ، وكان منزله عند أقصى باب من أبواب المدينة ، وكان مؤمناً ذا صدقة يجمع كسبه إذا أمسى فيقسمه نصفين : فيطعم نصفاً عياله ويتصدق بنصفه ، فلما بلغه أنّ قومه قصدوا قتل الرسل جاءهم فقال : ) يا قوم اتبعوا المرسلين }
يس : ( 21 ) اتبعوا من لا . . . . .
) اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون ( ، قال قتادة : لما انتهى حبيب إلى الرسل قال لهم : تسألون على هذا من أجر ؟ قالوا : لا . فقال ذلك . قال : وكان حبيب في غار يعبد ربه ، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وما هو عليه من التوحيد وعبادة الله ، فقيل له : وأنت مخالف لديننا وتابع دين هؤلاء الرسل ومؤمن بإلههم ؟ فقال :
يس : ( 22 - 25 ) وما لي لا . . . . .
) وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردني الرَّحْمان بضر لا تُغنِ عني شفاعتهم شيئاً ولا يُنقذون إني ( إن فعلت ذلك ) إذاً لفي ضلال مبين إني آمنت بربكم فاسمعون ( فلما قال لهم ذلك وثبوا إليه وثبة رجل واحد فقتلوه ولم يكن أحد يدفع عنه .
يس : ( 26 ) قيل ادخل الجنة . . . . .
قال عبد الله بن مسعود : وطئوه بأرجلهم حتى خرج قضيبه من دبره ، وقال السدّي : كانوا يرمونه بالحجارة وهو يقول : اللهم اهدِ قومي حتى قطعوه وقتلوه ، وقال الحسن : خرقوا خرقاً في حلقة فعلقوه من سوق المدينة ، وقبره في سور أنطاكية فأوجب الله له الجنة ، فذلك قوله : ) قيل ادخل الجنة ( .
فلما أفضى إلى جنة الله وكرامته ، ) قال يا ليت قومي يعلمون }
يس : ( 27 ) بما غفر لي . . . . .
) بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ( . أخبرنا أبو بكر عبد الرَّحْمن بن عبد الله بن علي بن حمشاد المزكى بقراءتي عليه في شعبان سنة أربعمئة فأقرّ به قال : أخبرنا أبو ظهير عبد الله بن فارس بن محمد بن علي ابن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب في شهر ربيع الأول سنة ست وأربعن وثلاثمئة قال : حدّثنا إبراهيم بن الفضل بن مالك قال : حدّثنا عن أخيه عيسى عن عبد الرَّحْمن ابن أبي ليلى عن أبيه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( سبّاق الأُمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين : علي بن أبي طالب ، وصاحب آل يس ، ومؤمن آل فرعون ، فهم الصديقون وعلي أفضلهم ) .
قالوا : فلما قُتل حبيب غضب الله له وعجّل لهم النقمة ، فأمر جبرئيل ( عليه السلام ) فصاح
(8/126)
" صفحة رقم 127 "
بهم صيحة ماتوا عن آخرهم ، فذلك قوله عز وجل :
يس : ( 28 - 29 ) وما أنزلنا على . . . . .
) وما أنزلنا على قومه من جند من السماءِ وما كُنا منزلين إن كانت إلاّ صيحة واحدةً ( ، وفي مصحف عبد الله : ( إن كانت إلاّ زقية واحدة ) ، وهي الصحيحة أيضاً وأصلها من الزقا ، وقرأ أبو جعفر : ) صيحة ( بالرفع ، جعل الكون بمعنى الوقوع ) فإذا هم خامدون ( ميتون .
يس : ( 30 ) يا حسرة على . . . . .
) يا حسرة على العباد ( قال عكرمة : يعني على أنفسهم ، وفيه قولان :
أحدهما : أنّ الله يقول : ) يا حسرة على العباد ( وكآبة عليهم حين لم يؤمنوا .
والآخر : أنه من قول الهالكين . قال أبو العالية : لما عاينوا العذاب قالوا : ) يا حسرة على العباد ( يعني الرسل الثلاثة حين لم يؤمنوا ، بهم فتمنوا الإيمان حين لم ينفعهم ، وقرأ عكرمة : ) يا حسرة على العباد ( بجزم الهاء ) ما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يستهزؤون ( وكان خبر الرسل الثلاثة في أيام ملوك الطوائف .
يس : ( 31 ) ألم يروا كم . . . . .
) ألم يروا ( يعني أهل مكة ) كم أهلكنا قبلهم من القرون ( ؟ والقرن : أهل كل عصر ؛ سموا بذلك لاقترابهم في الوجود ) أنهم إليهم لا يرجعون }
يس : ( 32 ) وإن كل لما . . . . .
) وإن كلٌ لمّا ( بالتشديد ، ابن عامر والأعمش وعاصم وحمزة . الباقون : بالتخفيف . فمن شدد جعل ) إن ( بمعنى الجحد ، و ) لمّا ( بمعنى ( إلاّ ) ، تقديره : وما كل إلا جميع ، كقولهم : سألتك لما فعلت ، أي إلاّ فعلت ، ومن خفف جعل ) إنْ ( للتحقيق وحققه ، وما صلة ، مجازه : وكل ) جميعٌ لدينا محضرون }
يس : ( 33 ) وآية لهم الأرض . . . . .
) وآية لهم الأرض الميتةُ أحييناها ( بالمطر ، ) وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون }
يس : ( 34 ) وجعلنا فيها جنات . . . . .
) وجعلنا فيها جنات ( : بساتين ) من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون }
يس : ( 35 ) ليأكلوا من ثمره . . . . .
) ليأكلوا من ثمره ( ، قرأ الأعمش : بضم الثاء وجزم الميم ( ثُمْره ) ، وقرأ ( خلف ) ويحيى وحمزة والكسائي بضم الثاء والميم ، وقرأ الآخرون بفتحهما ) وما عملته أيديهم ( قرأ العامة بالهاء ، وقرأ عيسى بن عمر وأهل الكوفة : ( عملت ) بلا هاء ، ويجوز في ) ما ( ثلاثة أوجه :
الوجه الأوّل : الجحد ، بمعنى ولم تعمله أيديهم ، أي وجدوها معمولة ولا صنع لهم فيها ، وهذا معنى قول الضحاك ومقاتل .
والوجه الثاني معنى المصدر ، أي ومن عمل أيديهم .
والوجه الثالث معنى الذي ، ( أي وما عملت أيديهم ) من الحرث والزرع والغرس ، وهو معنى قول ابن عباس . ) أفلا يشكرون ( نعمه ؟
يس : ( 36 ) سبحان الذي خلق . . . . .
) سبحان الذي خلق الأزواج ( : الأشكال والأصناف ) كلها مما تنبت الأرض ومن
(8/127)
" صفحة رقم 128 "
أنفسهم ومما لا يعلمون }
يس : ( 37 ) وآية لهم الليل . . . . .
) وآية لهم الليل نسلخ ( : ننزع ونخرج ) منه النهار ( ، وقال الكلبي : نذهب به ) فإذا هم مظلمون ( : داخلون في الظلام .
يس : ( 38 ) والشمس تجري لمستقر . . . . .
) والشمس تجري لمستقر لها ( يعني إلى مستقر لها . قال ابن عباس : لا تبلغ مستقرها حتى ترجع إلى منازلها ، وقال قتادة : إلى وقت واحد لها لا تعدوه ، وقيل : إلى انتهاء أمرها عند انقضاء الدنيا ، وقيل : إلى أبعد منازلها في الغروب .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا عمر بن الخطاب وأحمد بن جعفر قالا : حدّثنا إبراهيم ابن سهل قال : حدّثنا محمد بن بكار العيسي قال : حدّثنا إسماعيل بن علية قال : حدّثنا يونس بن عبيد عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله : ) والشمس تجري لمستقر لها ( قال : ( مستقرها تحت العرش ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبيش قال : حدّثني أبو الطيب أحمد بن عبد الله بن يحيى الدارمي قال : حدّثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد السمرقندي بدمياط قال : حدّثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال : حدّثنا مروان بن معاوية عن محمد بن أبي حسان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قرأ : ( والشمس تجري لامستقر لها ) ، وهي قراءة ابن مسعود أيضاً ، أي لا قرار لها ، فهي جارية أبداً .
) ذلك تقديرُ العزيز العليم }
يس : ( 39 ) والقمر قدرناه منازل . . . . .
) والقمر ( بالرفع ، نافع وابن كثير وأبو عمرو وأيوب ويعقوب غير ورش ، واختاره أبو حاتم قال : لأنك شغلت الفعل عنه فرفعته للابتداء ، وقرأ الباقون بالنصب ، واختاره أبو عبيد ، قال : للفعل المتقدم قبله والمتأخر بعده ، فأما المتقدم فقوله : ) نسلخ منه النهار ( وأما المتأخر فقوله : ) قدرناه ( ، أي قدرنا له المنازل .
) منازل ( ، أي قدرنا له المنازل وهي ثمانية وعشرون منزلاً ينزل القمر كل ليلة بمنزل منها ، وأسماؤها : الشرطان ، والبطين ، والثريا ، والدبران ، والهقعة ، والهنعة ، والذراع ، والنثرة ، والطرف ، والجبهة والزبرة ، والصرفة ، والعوّا ، والسماك ، والغفر ، والزبانى ، والإكليل ، والقلب ، والشولة ، والنعائم ، والبلدة ، وسعد الذابح ، وسعد بلع ، وسعد السعود ، وسعد الأخبية ، وفرغ الدلو المقدم ، وفرغ الدلو المؤخر ، وبطن الحوت .
فإذا صار إلى آخر منازله ) عاد كالعرجون القديم ( ، وهو العذق الذي فيه الشماريخ ، فإذا أقدم وعتق يبس وتقوّس واصفر فشبه القمر في دقته وصفرته به ، ويُقال لها أيضاً الأهان .
يس : ( 40 ) لا الشمس ينبغي . . . . .
) لا الشمس ينبغي لها أن تُدرك القمر ( بل هما يسيران دائبين ولكلَ حدٌّ لا يعدوه ولا
(8/128)
" صفحة رقم 129 "
يقصر دونه ، فإذا جاء سلطان هذا ذهب ذلك وإذا جاء سلطان ذلك ذهب هذا ، فذلك قوله : ) ولا الليل سابق النهار ( . فإذا اجتمعا وأدرك كل واحد صاحبه قامت القيامة وذلك قوله سبحانه : ) وجمع الشمس والقمر ( .
) وكلٌ في فلك يسبحون ( : يجرون .
يس : ( 41 ) وآية لهم أنا . . . . .
) وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفُلكِ المشحون ( الموقر المملوء ، وهي سفينة نوح ؛ الآباء في السفينة ، والأبناء في الأصلاب ، والحمل : منع الشيء أن يذهب إلى جهة السفل .
يس : ( 42 ) وخلقنا لهم من . . . . .
) وخلقنا لهم من مثله ( أي مثل سفينة نوح ) ما يركبون ( وهي السفن كلها .
أخبرنا عبيد بن محمد بن محمّد بن مهدي قال : حدّثنا أبو العباس الأصم قال : حدّثنا أحمد بن حازم قال : حدّثنا عبد الله بن موسى عن سفيان عن السدي عن أبي مالك في قوله : ) وخلقنا لهم من مثله ما يركبون ( قال : السفن الصغار ، وقال ابن عباس : الإبل سفن البر .
يس : ( 43 - 44 ) وإن نشأ نغرقهم . . . . .
) وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون ( : ينجون من الغرق ) إلاّ رحمةً منا ومتاعاً إلى حين ( يعني انقضاء آجالهم .
( ) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُواْ مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ ءَايَةٍ مِّنْ ءَايَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأُخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلاَ إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الاَْجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ قَالُواْ ياوَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ فَالْيَوْمَ لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ اليَوْمَ فِى شُغُلٍ فَاكِهُونَ هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِى ظِلَالٍ عَلَى الاَْرَآئِكِ مُتَّكِئُونَ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ وَامْتَازُواْ الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ ( 2
يس : ( 45 ) وإذا قيل لهم . . . . .
) وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم ( أي ما بين أيديكم من الآخرة فاعملوا لها ) وما خلفكم ( من أمر الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بها . قاله ابن عباس ، وقال مجاهد : ) ما بين أيديكم ( : ما يأتي من الذنوب ، ) وما خلفكم ( : ما مضى من الذنوب .
الحسن . ) مابين أيديكم ( يعني وقائع الله فيمن كان قبلكم من الأُمم ) وما خلفكم ( من أمر الساعة
(8/129)
" صفحة رقم 130 "
مقاتل : ) ما بين أيديكم ( عذاب الأُمم الخالية ، ) وما خلفكم ( : عذابُ الآخرة .
) لعلكم تُرحمون ( ، والجواب محذوف تقديره : إذا قيل لهم هذا ، أعرضوا ، دليله ما بعده :
يس : ( 46 - 47 ) وما تأتيهم من . . . . .
) وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلاّ كانوا عنها معرضين وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم ( : الرزق ) من لو يشاء الله أطعمه ( يتوهمون أنّ الله تعالى لما كان قادراً على إطعامه وليس يِشاء إطعامه ، فنحن أحق بذلك . نزلت في مشركي مكة حين قال لهم فقراء أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) اعطونا ما زعمتم من أموالكم أنها لله ، وذلك قوله : ) وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً ( فحرموهم ، وقالوا : لو شاء الله أطعمكم فلا نُعطيكم شيئاً حتى ترجعوا إلى ديننا .
) إن أنتم إلاّ في ضلال مبين ( في اتباعكم محمداً ومخالفكتم ديننا . عن مقاتل بن حيان ، وقال غيره : هو من قول أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لهم .
يس : ( 48 ) ويقولون متى هذا . . . . .
) ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ( أنا نُبعث ؟
يس : ( 49 ) ما ينظرون إلا . . . . .
فقال الله تعالى : ) ما يُنظرون إلاّ صيحةً واحدةً ( وهي نفخة إسرافيل ) تأخذهم وهم يخصمون ( أي يختصمون ويُخاصم بعضهم بعضاً .
واختلفت القراء فيه ؛ فقرأ ابن كثير وورش وأبو عبيد وأبو حاتم بفتح الخاء وتشديد الصاد ومثله روى هشام عن أهل الشام : لما أدغموا نقلوا حركة التاء إلى الخاء .
وقرأ أبو جعفر وأيوب ونافع غير ورش ساكنة الخاء مخففة الصاد ، وقرأ أبو عمرو : بالإخفاء ، وقرأ حمزة : ساكنة الخاء مخففة الصاد ، أي يغلب بعضهم بعضاً بالخصام ، وهي قراءة أُبي بن كعب ، وقرأ الباقون : بكسر الخاء وتشديد الصاد .
يس : ( 50 ) فلا يستطيعون توصية . . . . .
) فلا يستطيعون توصيةً ( : فلا يقدرون على أنْ يوصي بعضهم بعضاً ، ) ولا إلى أهلهم يرجعون }
يس : ( 51 ) ونفخ في الصور . . . . .
) ونُفخ في الصور ( وهي النفخة الأخيرة : نفخة البعث ، وبين النفختين أربعون سنة ، ) فإذا هم من الأجداث ( أي القبور ، واحدها جدث ) إلى ربهم ينسلون ( يخرجون ، ومنه قيل للولد : نسلاً ؛ لأنه يخرج من بطن أُمّه ، والنسلان والعسلان : الإسراع في السير .
يس : ( 52 ) قالوا يا ويلنا . . . . .
) قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا ( أي منامنا قال أُبي بن كعب وابن عباس وقتادة : إنما يقولون هذا ؛ لأن الله رفع عنهم العذاب فيما بين النفختين فيرقدون ، وقال أهل المعاني : إنّ الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها صار ماعذبوا في القبور في جنبها كالنوم ، فقالوا : ) من بعثنا من مرقدنا ( ؟ ثم قال : ) هذا ما وعد الرَّحْمان وصدق المرسلون ( : أقرّوا حين لم ينفعهم
(8/130)
" صفحة رقم 131 "
الإقرار ، وقال مجاهد : يقول الكفار : ) من بعثنا من مرقدنا ( ؟ ويقول المؤمنون : ) هذا ما وعد الرَّحْمان وصدق المرسلون ( .
يس : ( 53 - 54 ) إن كانت إلا . . . . .
) إن كانت إلاّ صيحةً واحدة فإذا هم جميعٌ لدينا محضرون فاليوم لا تُظلمُ نفسٌ شيئاً ولا تُجزون إلاّ ما كنتم تعملون ( ، محل ) ما ( نصب من وجهين :
أحدهما : مفعول ما لم يسمَّ فاعله .
والثاني : بنزع حرف ( الخفض ) ، أي ب ( ما ) .
يس : ( 55 ) إن أصحاب الجنة . . . . .
) إنّ أصحاب الجنة اليوم في شُغل ( ، قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وشيبة بجزم الغين ، واختاره أبو حاتم ، وقرأ الآخرون : بضم الغين ، واختاره أبو عبيد ، وهما لغتان مثل السُّحْت والسُّحُت ونحوهما .
واختلف المفسرون في معنى الشغل . فأخبرنا محمد بن حمدون قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدّثنا أبو الأزهر قال : حدّثنا أسباط بن محمد عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله تعالى : ) إنّ أصحاب الجنة اليوم في شُغل فاكهون ( قال : افتضاض الأبكار .
وأخبرني فنجويه قال : حدّثنا عبد الله بن يوسف قال : حدّثنا أحمد بن الوليد الشطوي قال : حدّثنا محمد بن موسى قال : حدّثنا معلى بن عبد الرَّحْمن قال : حدّثنا شريك عن عاصم الأحول عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عادوا أبكاراً ) .
وقال الكلبي والثمالي والمسيب : يعني في شُغل عن أهل النار وعما هم فيه ، لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم ، وقال وكيع بن الجراح : يعني في السماع ، سئل يحيى بن معاذ : أي الأصوات أحسن ؟ قال : مزامير أُنس في مقاصير قدس بألحان تجميل في رياض تمجيد في مقعد صدق عند مليك مقتدر .
وقال ابن كيسان : يعني في زيارة بعضهم بعضاً ، وقيل : في ضيافة الله وقيل : في شغلهم بعشرة أشياء : ملك لا عزل معه ، وشباب لا هرم معه ، وصحة لا سقم معها ، وعزّ لا ذل معه ، وراحة لا شدة معها ، ونعمة لا محنة معها ، وبقاء لا فناء معه ، وحياة لا موت معها ، ورضا لا سخط معه ، وأُنس لا وحشة معه .
وقيل : شغلهم في الجنة بسبعة أنواع من الثواب لسبعة أعضاء : فأما ثواب الرِجل فقوله :
(8/131)
" صفحة رقم 132 "
) ادخلوها بسلام آمنين ( ، وثواب اليد قوله : ) يتنازعون فيها كأساً ( ، وثواب الفرج قوله : ) وحورٌ عين ( ، وثواب البطن قوله : ) كلوا واشربوا هنيئاً ( الآية ، وثواب اللسان قوله : ) وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ( وثواب الأُذن قوله : ) لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلاّ قيلاً سلاماً سلاماً ( ، وثواب العين قوله : ) وتلذ الأعين ( .
قال طاووس : لو علم أهل الجنة عمّن شغلوا ما هنّأهم ما اشتغلوا به ، وسئل بعض الحكماء عن قوله ( عليه السلام ) : ( أكثر أهل الجنة البله ) قال : لأنهم في شغل بالنعيم عن المنعم ، ثم قال : من رضي بالجنة عن الله فهو أبله .
) فاكهون ( قرأ العامة : بالألف ، وقرأ أبو جعفر ( فكهون وفكهين ) بغير ألف حيث كانا ، وهما لغتان : كالحاذر والحذر والفارهِ والفرهِ ، وقال الكسائي : الفاكه والفاكهة مثل شاحم ولاحم ولابن وتامر ، واختلف العلماء في معناهما ، فقال ابن عباس : فرحون . مجاهد والضحاك : معجبون . السدي : ناعمون .
يس : ( 56 ) هم وأزواجهم في . . . . .
) هم وأزواجهم ( : حلائلهم ) في ظلال ( قرأ العامة بالألف وكسر الظاء على جمع ( ظلّ ) ، وقرأ ابن مسعود وعبيد بن عمير وحمزة والكسائي وخلف : ( ظلل ) على جمع ( ظلة ) .
) على الأرائك ( يعني السُرر في الحجال ، واحدتها أريكة ، مثل سفينة وسفن وسفائن وقيل : هي الفرش ، ) متكئون }
يس : ( 57 ) لهم فيها فاكهة . . . . .
) لهم فيها فاكهةٌ ولهم ما يدعون ( قال ابن عباس : يسألون . قال مقاتل : يتمنون ويريدون ، وقيل : معناه . من ادّعى منهم شيئاً فهو له بحكم الله عز وجل ؛ لأنهم لا يدعون إلاّ ما يحسن .
يس : ( 58 ) سلام قولا من . . . . .
) سلامٌ ( قرأ العامة بالرفع ، أي لهم سلام ، وقرأ النخعي : بالنصب على القطع والمصدر .
أخبرني الحسن بن محمّد بن عبد الله الحافظ قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال : حدّثنا أحمد بن الفرج المقرئ قال : حدّثنا محمد بن عبد الملك أبي الشوارب قال : حدّثنا أبو عاصم عبد الله بن عبد الله العباداني قال : حدّثنا الفضل بن عيسى الرقاشي ، وأخبرنا عبد الخالق بن علي بن عبد الخالق المؤذن قال : حدّثني أبو بكر أحمد بن محمد بن موسى الملحمي الأصفهاني قال : حدّثنا الحسن بن أبي علي الزعفراني قال : حدّثنا ابن أبي الشوارب قال
(8/132)
" صفحة رقم 133 "
حدّثنا أبو عاصم قال : حدّثنا الفضل الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر قال : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور ، فرفعوا رؤوسهم ، فإذا الربّ عزّ وجل قد أشرف عليهم من فوقهم ، فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة . فذلك قوله عز وجل ) سلامٌ قولاً من رب رحيم ( فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ماداموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم ، فيبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم ) .
يس : ( 59 ) وامتازوا اليوم أيها . . . . .
) وامتازوا اليوم أيها المجرمون ( قال ابن عباس : تفرقوا . أبو العالية : تميزوا . السدي : كونوا على حدة . قتادة : اعدلوا عن كل خير . الضحاك : إنّ لكل كافر في النار بيتاً ، يدخل ذلك البيت ويردم به بالنار فيكون فيه أبد الآبدين فلا يرى ولا يُرى .
2 ( ) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابَنِىءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِى هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ هَاذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُواْ الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِى الْخَلْقِ أَفَلاَ يَعْقِلُونَ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِى لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُّبِينٌ لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ ءَالِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مٌّ حْضَرُونَ فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مٌّ بِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِىَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِىأَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِى جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الاَْخْضَرِ نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ أَوَلَيْسَ الَذِى خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالاَْرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( 2
يس : ( 60 - 62 ) ألم أعهد إليكم . . . . .
) ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن ألا تعبدوا الشيطان ( أي لا تطيعوه في معصية الله . ) إنه لكم عدوٌ مبين وأن اعبدوني هذا صراطٌ مستقيم ولقد أضل منكم ( أي أغوى بالدعاء إلى المعصية ) جبلاً كثيراً ( قرأ علي ح ( جبلاً ) بالباء مخففاً ، وقرأ أهل المدينة وعاصم وأيوب
(8/133)
" صفحة رقم 134 "
وأبو عبيد وأبو حاتم بكسر الجيم والباء ، وتشديد اللام ، وقرأ يعقوب بضم الجيم والباء ، وتشديد اللام ، وبه قرأ الحسن وعبيد بن عمير وعيسى بن عمر والأشهب ، وقرأ ابن عامر وأبو عمرو بضم الجيم وجزم الباء مخففاً ، وقرأ الباقون : بضم الجيم والباء وتخفيف اللام ، وكلها لغات .
معناه : الخلق والأُمة ، وإنما اختار أبو عبيد وأبو حاتم ضم الجيم والباء والتشديد ؛ لقوله تعالى ) والجبلة الأولين ( ) أفلم تكونوا تعقلون (
يس : ( 63 - 65 ) هذه جهنم التي . . . . .
) هذه جهنم التي كنتم توعدون ( تحذرون ، ) اصلوها ( : ادخلوها ) اليوم بما كنتم تكفرون اليوم نختم على أفواههم ( فلا يتكلمون . قال قتادة : جرى بينهم خصومات وكلام فكان هذا آخرها .
أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قا : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال : حدّثنا أبو عامر حامد بن سعدان قال : حدّثنا أحمد بن صالح قال : حدّثنا عبد الله بن وهب قال : حدّثني عمرو بن الحرث عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله ، فجحد وخاصم ، فيقال له : هؤلاء جيرانك يشهدون . فيقول : كذبوا . فيُقال : أهلك وعشيرتك . فيقول : كذبوا . فيُقال : احلفوا ، فيحلفون . ثم يصمتهم الله عز وجل ويشهد عليهم ألسنتهم ثم يدخلهم النار ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا الفربابي قال : حدّثنا هشام بن عمار قال : حدّثنا إسماعيل بن عياش قال : حدّثني ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن عقبة بن عامر أنه سمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرِجْل الشمال ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا القطيعي قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال : حدّثنا أُبي قال : حدّثنا يزيد قال : أخبرنا الحريري أبو مسعود عن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يجيئون يوم القيامة على أفواههم الفدام وإنّ أول ما يتكلم من الآدميين فخذه وكفه ) .
) وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون (
يس : ( 66 ) ولو نشاء لطمسنا . . . . .
) ولو نشاء لطمسنا على أعينهم
(8/134)
" صفحة رقم 135 "
فاستبقوا الصراط ( : فتبادروا إلى الطريق ، ) فأنّى يبصرون ( وقد طمسنا أعينهم ؟ قال ابن عباس ومقاتل وعطاء وقتادة : يعني ولو نشاء لتركناهم عمياً يترددون ، فكيف يُبصرون الطريق حينئذ ؟
يس : ( 67 ) ولو نشاء لمسخناهم . . . . .
) ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم ( ، أي أقعدناهم في منازلهم قردة وخنازير ، والمسخ تحويل الصورة ، ) فما استطاعوا مضياً ولا يرجعون ( إلى ما كانوا عليه ، وقيل : لا يستطيعون الذهاب ولا الرجوع .
يس : ( 68 ) ومن نعمره ننكسه . . . . .
) ومن نعمره ننكسه ( ، قرأ الأعمش وعاصم وحمزة بالتشديد . غيرهم بفتح النون وضم الكاف مخففاً . أي يرده إلى أرذل العمر شبه حال الصبي الذي هو أول الخلق ، وقيل : يصيّره بعد القوة إلى الضعف ، وبعد الزيادة إلى النقصان ، وبعد الحدة والطراوة إلى البلى والخلوقة ، فكأنه نكس حاله .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبيش المقرئ قال : حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال : حدّثنا محمد بن حميد قال : حدّثنا مهران بن أبي عمر عن سفيان : ) ومن نعمره ننكسه في الخلق ( قال : إذا بلغ ثمانين سنة تغيّر جسمه . ) أفلا يعقلون }
يس : ( 69 ) وما علمناه الشعر . . . . .
) وما علمناهُ الشعر وما ينبغي له ( لأنه يُورث الشبهة .
أخبرني ابن فنجوية قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال : حدّثنا حامد بن شعيب عن شريح بن يونس قال : حدّثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي عيينة عن أبيه عن الحكم قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتمثل بقول العباس بن مرداس : ( أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة ) . قالوا : يا رسول الله إنما قال : بين عيينة والأقرع . فأعادها وقال : ( بين الأقرع وعيينة ) . فقام إليه أبو بكرح فقبل رأسه وقال : ) وما علمناه الشعر وما ينبغي له ( .
وأخبرنا الحسين بن محمد الحديثي قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال : حدّثنا يوسف بن عبد الله بن هامان قال : حدّثنا موسى بن إسماعيل قال : حدّثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يتمثل بهذا البيت : ( كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً ) .
فقال أبو بكر : يا نبي الله ، إنما قال الشاعر :
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً
فقال أبو بكر أو عمر : أشهد أنك رسول الله ، يقول الله عز وجل : ) وما علمناه الشعر وما ينبغي له (
(8/135)
" صفحة رقم 136 "
أخبرني الحسين قال : حدّثنا أحمد بن محمد بن إسحاق المسيبي قال : حدّثنا حامد بن شعيب قال : حدّثنا شريح بن يونس قال : حدّثنا أبو سفيان عن معمر عن قتادة : ) وما علمناه الشعر ( قال : بلغني أنّ عائشة سُئلت هل كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتمثل بشيء من الشعر ؟ فقالت : كان الشعر أبغض الحديث إليه ، قالت : ولم يتمثل بشيء من الشعر إلاّ ببيت أخي بني قيس طرفة :
ستبدي لك الأيام ما كنتَ جاهلاً
ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
فجعل يقول : ( من لم تزود بالأخبار ) ، فقال أبو بكر : ليس هكذا يا رسول الله . فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( إني لستُ بشاعر ، وما ينبغي لي ) .
) إن هُوَ ( يعني القرآن ) إلاّ ذكرٌ وقرآنٌ مبين }
يس : ( 70 ) لينذر من كان . . . . .
) ليُنذر ( بالتاء ( وهي قراءة ) أهل المدينة والشام والبصرة إلاّ أبا عمرو ، والباقون بالياء ؛ قال : التاء للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والياء للقرآن . ) من كان حياً ( أي عاقلاً مؤمناً في علم الله ؛ لأن الكافر والجاهل ميّت الفؤاد ، ) ويحقَّ القول على الكافرين }
يس : ( 71 ) أو لم يروا . . . . .
) أولم يروا أنّا خلقنا لهم مما عملت أيدينا ( يعني عملناه من غير واسطة ولا وكالة ولا شركة ، ) أنعاماً فهم لها مالكون ( : ضابطون وقاهرون .
يس : ( 72 ) وذللناها لهم فمنها . . . . .
) وذللناها لهم ( : سخرناها ) فمنها ركوبهم ( قرأ العامة بفتح الراء أي مركوبهم ، كما يُقال : ناقة حلوب ، أي محلوب ، وقرأ الأعمش والحسن : بضم الراء على المصدر .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا ابن هامان قال : حدّثنا موسى بن إسماعيل قال : حدّثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن عروة قال : في مصحف عائشة : ( ركوبتهم ) ، والركوب والركوبة واحد مثل : الحمول والحمولة . ) ومنها يأكلون ( لحمانها .
يس : ( 73 ) ولهم فيها منافع . . . . .
) ولهم فيها منافع ( من أصوافها ولحومها وغير ذلك من المنافع . ) ومشارب ( يعني ألبانها ) أفلا يشكرون }
يس : ( 74 ) واتخذوا من دون . . . . .
) واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم يُنصرون ( أي لتمنعهم من عذاب الله ، ولا يكون ذلك قط .
يس : ( 75 ) لا يستطيعون نصرهم . . . . .
) لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جندٌ محضرون ( في النار ؛ لأنهم مع أوثانهم في النار فلا يدفع بعضهم عن بعض النار .
يس : ( 76 ) فلا يحزنك قولهم . . . . .
) فلا يُحزنك قولهم ( يعني تكذيبهم وأذاهم وجفاهم . تم الكلام ها هنا ثم استأنف فقال
(8/136)
" صفحة رقم 137 "
) إنا نعلم ما يسرون وما يُعلنون }
يس : ( 77 ) أو لم ير . . . . .
) أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيمٌ ( جدل بالباطل ) مبينٌ ( .
واختلفوا في هذا الإنسان من هو ؟ فقال ابن عباس : هو عبد الله بن أُبيّ ، وقال سعيد بن جبير : هو العاص بن وائل السهمي ، وقال الحسن : هو أُمّية بن خلف ، وقال قتادة : أُبي بن خلف الجمحي ؛ وذلك أنه أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعظم حائل قد بلي فقال : يا محمد أترى الله يُحيي هذا بعدما قد رمّ ؟ فقال صلّى الله عليه وسلم : ( نعم ، ويبعثك ويدخلك النار ) فأنزل الله هذه الآية :
يس : ( 78 ) وضرب لنا مثلا . . . . .
) وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه ( بدء أمره ، ) قال من يُحيي العظام وهي رميم ( بالية ، وإنما لم يقل رميمة ؛ لأنه معدول من فاعله وكل ما كان معدولاً عن وجهه ووزنه كان مصروفاً عن إعرابه كقوله : ) وما كانت أُمّك بغياً ( أسقط الهاء ؛ لأنها مصروفة عن باغية .
يس : ( 79 ) قل يحييها الذي . . . . .
) قل يُحييها الذي أنشأها ( : خلقها ) أول مرة وهو بكل خلق عليم }
يس : ( 80 ) الذي جعل لكم . . . . .
) الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً ( ، وإنما لم يقل الخضر ، والشجر جمع الشجرة لأنه ردّه إلى اللفظ .
قال ابن عباس : هما شجرتان يُقال لإحداهما مرخ ، والأُخرى العفار . فمن أراد منهم النار قطع منها غصنين مثل السواكين ، وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار أُنثى فتخرج منهما النار بإذن الله عز وجل .
يقول العرب : في كل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار ، وقال الحكماء : كل شجر فيه نار إلاّ العناب . ) فإذا أنتم منه توقدون ( النار فذلك زادهم .
يس : ( 81 - 83 ) أو ليس الذي . . . . .
) أو ليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر ( قرأ العامة بالألف ، وقرأ يعقوب ( بقدر ) على الفعل ) على أن يخلق مثلهم ( ، ثم قال : ) بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئاً ( أي وجود شيء ، ) أن يقول له كُن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كلّ شيء وإليه تُرجعون ( .
(8/137)
" صفحة رقم 138 "
( سورة الصافات )
مكية ، وهي ثلاثة آلاف وثمانمئة وستة وعشرون حرفاً ، وثمانمئة وستون كلمة ، ومئة واثنتان وثمانون آية
أخبرنا كامل بن أحمد المفيد قال : أخبرنا محمد بن جعفر الوراق قال : حدّثنا إبراهيم بن الفضل قال : حدّثنا أحمد بن يونس قال : حدّثنا سلام بن سليم قال : حدّثنا هارون بن كثير الآملي عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أُمامة عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ ) والصافات ( أُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ جنّي وشيطان ، وتباعد عنه مردة الشياطين وبرئ من الشرك ، وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمناً بالمرسلين ) .
بسم الله الرَّحْمن الرحيم
( ) وَالصَّافَّاتِ صَفَّا فَالزَاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً إِنَّ إِلَاهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الاَْعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ وَإِذَا رَأَوْاْ ءَايَةً يَسْتَسْخِرُونَ وَقَالُواْ إِن هَاذَآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ ءَابَآؤُنَا الاَْوَّلُونَ قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ وَقَالُواْ ياوَيْلَنَا هَاذَا يَوْمُ الدِّينِ هَاذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ( 2
الصافات : ( 1 ) والصافات صفا
) والصافات صفّاً ( قال ابن عباس ومسروق والحسن وقتادة : يعني صفوف الملائكة في السماوات كصفوف الخلق في الدُّنيا للصلاة ، وقيل : هم الملائكة تصف أجنحتها في الهواء واقفة فيه حتى يأمرها بما يريد ، وقيل : هي الطير ، دليله قوله : ) والطير صافات ( وقوله : ) أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ( .
(8/138)
" صفحة رقم 139 "
والصف : ترتيب الجمع على خط كالصف في الصلاة والحرب .
الصافات : ( 2 ) فالزاجرات زجرا
) فالزاجرات زجراً ( يعني الملائكة تزجر السحاب وتسوقه ، وقال قتادة : هي زواجر القرآن .
الصافات : ( 3 ) فالتاليات ذكرا
) فالتاليات ذِكراً ( يعني جبرائيل والملائكة تتلو كتب الله ، عن مجاهد والسدي ، وقيل : هي جماعة قرّاء القرآن ، وهي كلها جمع الجمع ، فالصافة جمع الصاف ، والصافات جمع الصافة وكذلك أُختاها ، وقيل : هو قسم بالله تعالى على تقدير : وربّ الصافات .
الصافات : ( 4 ) إن إلهكم لواحد
) إنّ إلهكم لواحد ( موضع القسم قال مقاتل : لأنّ كفار مكة قالوا : أجعل الآلهة إلهاً واحداً ؟ فأقسم الله تعالى بهؤلاء : ) إنّ الاهكم لواحد ( ، وقرأ الأعمش وأبو عمرو وحمزة كلّهم بالإدغام ، والباقون بالبيان .
الصافات : ( 5 ) رب السماوات والأرض . . . . .
) رب السماوات والأرض وما بينهما وربّ المشارق ( أي مطالع الشمس ؛ وذلك أنّ الله تعالى خلق للشمس ثلاثمئة وستين كوة في المشرق ، وثلثمائة وستين كوة في المغرب على عدد أيام السنة تطلع كل يوم من كوة منها وتغرب في كوة منها فهي المشارق والمغارب .
حدّثنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي إملاءً قال : حدّثنا أبو العباس محمّد بن إسحاق بن إبراهيم الثقفي إملاءً قال : حدّثني إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرَّحْمن بن عمر بن منيع صدوق ثقة قال : حدّثنا ابن عليه عن عمارة بن أبي حفصة عن عكرمة قال : قال ابن عباس : إنّ الشمس تطلع كل سنة في ثلاثمائة وستين كوة تطلّع كل يوم في كوة ولا ترجع إلى تلك الكوة إلاّ ذلك اليوم من العام القابل ، ولا تطلع إلاّ وهي كارهة ، فتقول : ربّ لا تطلعني على عبادك ؛ فإني أراهم يعصونك ويعملون بمعاصيك أراهم . قال : أولم تسمعوا إلى ما قال أُمية بن أبي الصلت : حتى تجر وتجلد ؟
قلت : يا مولاي وتجلد الشمس ؟ قال : عضضت بهن أبيك ، إنما اضطره الروي إلى الجلد .
وقيل : وكل موضع شرقت عليه الشمس فهو مشرق ، وكل موضع غربت عليه فهو مغرب ، كأنه أراد ربّ جميع ما شرقت عليه الشمس .
الصافات : ( 6 ) إنا زينا السماء . . . . .
) إنّا زينا السماء الدُّنيا بزينة الكواكب ( قرأ عاصم برواية أبي بكر ( بزينة ) منونة ( الكواكب ) نصباً ، يعني بتزييننا الكواكب ، وقيل : أعني الكواكب ، وقرأ حمزة وعاصم في سائر الروايات ( بزينة منونة . ) الكواكب ( خفضاً على البدل ، أي بزينة الكواكب
(8/139)
" صفحة رقم 140 "
وقرأ الباقون ) بزينة الكواكب ( مضافة . قال ابن عباس : يعني بضوء الكواكب .
الصافات : ( 7 ) وحفظا من كل . . . . .
) وحفظاً ( أي وحفظناها حفظاً ، أو وجعلناها أيضاً حفظاً ، وذلك شائع في اللغة ) من كل شيطان مارد ( : خبيث خال عن الخير .
الصافات : ( 8 ) لا يسمعون إلى . . . . .
) لا يسمعون إلى الملأ الأعلى ( كأنه قال : فلا يسمعون . قرأ أهل الكوفة ) يسّمعون ( بالتشديد ، أي يتسمعون ، قال مجاهد : كانوا يتسمعون ولكن لا يسمعون ، وهو اختيار أبي عبيد ، وقرأ الآخرون بالتخفيف ، وهو اختيار أبي حاتم ، ) إلى الملأ الأعلى ( يعني الكتبة من الملائكة في السماء ) ويقذفون ( ، ويرمون ) من كل جانب ( من آفاق السماء .
الصافات : ( 9 ) دحورا ولهم عذاب . . . . .
) دُحوراً ( يبعدونهم عن مجالس الملائكة ، والدحر والدحور : الطرد والإبعاد ، ) ولهُم عذابٌ واصبٌ ( : دائم ، نظيره قوله سبحانه : ) وله الدين واصباً ( ، وقال ابن عباس : شديد . الكلبي : موجع ، وقيل : خالص .
الصافات : ( 10 ) إلا من خطف . . . . .
) إلاّ من خطف الخطفة ( : مسارق فسمع الكلمة ، ) فأتبعه شهابٌ ثاقبٌ ( : تبعه ولحقه كوكب مضيء قوي لا يخطئه يقتل أو يحرق أو يحيل ، وإنما يعودون إلى استراق السمع مع علمهم بأنهم لا يصلون إليه ؛ طمعاً في السلامة ونيل المراد كراكب البحر .
الصافات : ( 11 ) فاستفتهم أهم أشد . . . . .
) فاستفتهم ( فسلهم ، يعني : أهل مكة ) أهم أشدُّ خلقاً أم مّن خلقنا ( يعني : من الأُمم الخالية ، وقد أهلكناهم بذنوبهم ، وقيل : يعني السماوات والأرض وما بينهما .
نزلت في أبي الأسد بن كلدة ، وقيل : أُبيّ بن أسد ، وسُمّي بالأسدين ؛ لشدة بطشه وقوته ، نظيرها : ) لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ( وقوله سبحانه ) أأنتم أشد خلقا أم السماء ( ) إنا خلقناهم من طين لازب ( أي جيد حر يلصق ويعلق ، باليد ومعناه اللازم تبدل الميم كأنه يلزم اليد ، وقال السدي : خالص . قال مجاهد والضحاك : ( الرمل ) .
الصافات : ( 12 ) بل عجبت ويسخرون
) بل عجِبتَ ( قرأ حمزة والكسائي وخلف ( عجبتُ ) بضم التاء وهي قراءة ابن مسعود وابن عباس على معنى أنهم قد حلّوا محل من تعجّب منهم ، وقال الحسين بن الفضل : العجب من الله ، إنكار الشيء وتعظيمه وهو لغة العرب ، وقد جاء في الخبر : عجب ربكم من إلّكم وقنوطكم والخبر الآخر : إنّ الله ليعجب من الشاب إذا لم يكن له صبوة ونحوها ، وسمعت أبا
(8/140)
" صفحة رقم 141 "
القاسم الحسن بن محمد النيسابوري يقول : سمعت أبا عبد الله محمد بن علي البغدادي يقول : سُئل جنيد عن هذه الآية فقال : إنّ الله لا يعجب من شيء ، ولكنّ الله وافق رسوله لمّا عجب رسوله ، فقال : ) فإن تعجب فعجب قولهم ( . أي هو لما يقوله .
وقرأ الآخرون بفتح التاء على خطاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهي قراءة شريح القاضي . قال : إنما يعجب من لا يعلم ، والله عنده علم كلّ شيء ، ومعناه ، بل عجبت من تكذيبهم إياك . ) ويسخرون ( وهم يسخرون من تعجبّك .
الصافات : ( 13 ) وإذا ذكروا لا . . . . .
) وإذا ذُكّروا لا يذكرون ( وإذا وعظوا لا يتعظون .
الصافات : ( 14 ) وإذا رأوا آية . . . . .
) وإذا رأوا آيةً ( يعني انشقاق القمر ) يستسخرون ( يسخرون وقيل : يستدعي بعضهم بعضاً إلى أن يسخر .
الصافات : ( 15 - 17 ) وقالوا إن هذا . . . . .
) وقالوا إن هذا إلاّ سحرٌ مبين أإذا متنا وكنُا تراباً وعِظاماً أءِنا لمبعوثون أو آباؤنا ( يعني : وآباؤنا ) أو ( بمعنى الواو ) الأولون }
الصافات : ( 18 ) قل نعم وأنتم . . . . .
) قل نعم وأنتم داخرون ( : صاغرون .
الصافات : ( 19 ) فإنما هي زجرة . . . . .
) فإنما هي ( يعني : النفخة والقيامة ) زجرة ( : صيحة ) واحدة فإذا هم ينظرون ( أحياء .
الصافات : ( 20 - 22 ) وقالوا يا ويلنا . . . . .
) وقالوا يا ويلنا هذا يوم الدين هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ( أخبرني الحسن بن محمد المدني قال : حدّثنا محمد بن علي الحسن الصوفي قال : حدّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال : حدّثنا عمّي أبو بكر قال : حدّثنا وكيع عن سفيان عن سماك ، عن النعمان بن بشير عن عمر بن الخطاب ح قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ) احشروا الذين ظلموا وأزواجهم ( قال : ( ضرباءهم ) ، وقال ابن عباس : أشباههم . ضحاك ومقاتل : قرناءهم من الشياطين ، كل كافر معه شيطانه في سلسلة . قتادة والكلبي : كل من عمل مثل عملهم ، فأهل الخمر مع أهل الخمر ، وأهل الزنا مع أهل الزنا ، وقال الحسن : وأزواجهم المشركات .
) وما كانوا يعبدون }
الصافات : ( 23 ) من دون الله . . . . .
) من دون الله ( في الدنيا ) فاهدوهم ( : فادعوهم ، قاله الضحاك ، وقال ابن عباس : دلّوهم ، وقال ابن كيسان : فدلوهم ، والعرب تسمي السائق هادياً ، ومنه قيل : الرقية هادية السائق ، قال امرؤ القيس :
كأن دماء الهاديات بنحره
عصارة حنا بشيب مرجّل
) إلى صراط الجحيم ( : طريق النار .
(8/141)
" صفحة رقم 142 "
2 ( ) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالُواْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِى الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَاهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَءِنَّا لَتَارِكُوءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ بَلْ جَآءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو الْعَذَابَ الاَْلِيمِ وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ أُوْلَائِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّى كَانَ لِى قَرِينٌ يَقُولُ أَءِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَدِينُونَ قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ فَاطَّلَعَ فَرَءَاهُ فِى سَوَآءِ الْجَحِيمِ قَالَ تَاللَّهِ إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّى لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الاُْولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لِمِثْلِ هَاذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ( 2
الصافات : ( 24 ) وقفوهم إنهم مسؤولون
) وقفوهم ( واحبسوهم ، يُقال : وقفته وقفاً فوقف وقوفاً . ) إنهم مسؤولون ( قال ابن عباس : عن لا إله إلاّ الله . ضحاك : عن خطاياهم . القرظي : عن جميع أقوالهم وأفعالهم . أخبرني الحسين بن محمد الدينوري قال : حدّثنا عمر بن أحمد بن القاسم النهاوندي قال : حدّثنا محمد بن أيوب قال : أخبرنا محمد بن عقبة قال : حدّثنا أبو حصين بن نمير الهمداني قال : حدّثنا حسين بن قيس الرحبي وزعم أنه شيخ صدوق قال : حدّثنا عطاء عن أبي عمر عن عبد الله بن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس خصال : عن شبابه فيما أبلاه ، وعن عمره فيما أفناه ، وعن ماله من أين كسبه ، وفيما أنفقه ، وما عمِلَ فيما علم ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن الحسن بن صقلاب قال : حدّثنا محمد بن أحمد بن عبد الرَّحْمن بطرسوس قال : حدّثنا أحمد بن خليد قال : حدّثنا يوسف بن يونس الأخطف الأقطس قال : حدّثنا سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا كان يوم القيامة دعا الله سبحانه بعبد من عبيده فيوقفه بين يديه فيسائله عن جاهه كما يسائله عن ماله ) .
(8/142)
" صفحة رقم 143 "
الصافات : ( 25 ) ما لكم لا . . . . .
) مالكم لا تناصرون ( أي لا تنتقمون ولا ينصر بعضهم بعضاً ، يقوله خزنة النار للكفار ، وهذا جواب أبي جهل حين قال يوم بدر : نحن جميع منتصر .
الصافات : ( 26 ) بل هم اليوم . . . . .
قال الله سبحانه وتعالى : ) بل هم اليوم مستسلمون ( قال ابن عباس : خاضعون . الحسن : منقادون . الأخفش : ملقون بأيديهم ، وقال أهل المعاني : مسترسلون لما لا يستطيعون له دفعاً ولا منه امتناعاً كحال الطالب السلامة في نزل المنازعة .
الصافات : ( 27 ) وأقبل بعضهم على . . . . .
) وأقبل بعضهم على بعض ( يعني : الرؤساء والأتباع ) يتساءلون ( : يتخاصمون .
الصافات : ( 28 ) قالوا إنكم كنتم . . . . .
) قالوا ( يعني : الأتباع للرؤساء : ) إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ( أي من قِبَل اليمين فتضلوننا عنه ، قاله الضحاك ، وقال مجاهد : عن الصراط الحق : وقال أهل المعاني : أي من جهة النصيحة والبركة والعمل الذي يتيمن به ، والعرب تتيمن بما جاء عن اليمين ، وقال بعضهم : أي عن القوة والقدرة كقول الشماح .
إذا ماراية رفعت لمجد
تلقاها عرابة باليمين
أي بالقوة وغرابة اسم ملك اليمن .
الصافات : ( 29 - 31 ) قالوا بل لم . . . . .
) قالوا ( يعني : الرؤساء ) بل لم تكونوا مؤمنين وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوماً طاغين فحقّ علينا ( وعليكم ) قول ربنا ( يعنون قوله سبحانه : ) لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ( .
) إنّا ( جميعاً ) لذائقون ( العذاب .
الصافات : ( 32 ) فأغويناكم إنا كنا . . . . .
) فأغويناكم ( : فأضللناكم لأنا كنّا ) غاوين ( ضالين ،
الصافات : ( 33 - 36 ) فإنهم يومئذ في . . . . .
قال الله سبحانه : ) فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون إنا كذلك نفعل بالمجرمين إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلاّ الله يستكبرون ويقولون أإنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون ( يعني النبي صلّى الله عليه وآله . قال الله سبحانه رداً عليهم :
الصافات : ( 37 - 41 ) بل جاء بالحق . . . . .
) بل جاء بالحق وصدّق المُرسَلين إنكم لذائقو العذاب الأليم وما تُجزون إلاّ ما كنتم تعملون إلاّ عباد الله الُمخلَصين أُولئك لهم رزقٌ معلوم ( يعني : بكرة وعشية ، كقوله : ) ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا 2 )
الصافات : ( 42 ) فواكه وهم مكرمون
) فواكه ( : جمع الفاكهة ، وهي كلّ طعام يُؤكل للتلذذ لا للقوت الذي يحفظ الصحة ، يُقال : فلان يتفكّه بهذا الطعام ، ) وهم مُكرمون }
الصافات : ( 43 - 45 ) في جنات النعيم
) في جنات النعيم على سُرر متقابلين يُطاف عليهم بكأس ( : إناء فيه شراب ، ولا يكون كأساً حتى يكون فيه شراب ، وإلاّ فهو إناء
(8/143)
" صفحة رقم 144 "
قال الأخفش : كل كأس في القرآن فهو خمر ) من معين ( : خمر جارية في أنهار طاهرة العيون ، ويجوز أن يكون فعيلاً من ( المعن ) وهو الإسراع والشدة من ( أمعن في الأمر ) إذا اشتدّ دخوله فيه . يعني : خمراً شديدة الجري سريعته .
الصافات : ( 46 ) بيضاء لذة للشاربين
) بيضاء ( أي صافية في نهاية اللطافة ) ولذة ( : لذيذة ) للشاربين }
الصافات : ( 47 ) لا فيها غول . . . . .
) لا فيها غول ( أي إثم عن الكلبي ، نظيره ) لا لغوٌ فيها ولا تأثيم ( . قتادة : وجع البطن . الحسن : صداع . مجاهد : داء . ابن كيسان : مغص . الشعبي : لا تغتال عقولهم فتُذهب بها ، وقال أهل المعاني : الغول : فساد يلحق في خفاء ، يُقال : اغتاله اغتيالاً إذا فسد عليه أمره في خفية ، ومنه الغول والغيلة وهو القتل خفية .
) ولا هم عنها ينزفون ( قرأ حمزة والكسائي وخلف : بكسر الزاي هاهنا وفي سورة الواقعة ، وافقهم عاصم في الواقعة . الباقون : بفتح الزاي فيهما . فمن فتح الزاي ، فمعناه : لا تغلبهم على عقولهم ولا يسكرون ، يقال : نزف الرجل فهو منزوف ونزيف ، إذا سكر وزال عقله ، قال الشاعر :
فلثمتُ فاها آخذاً بقرونها
شرب النزيف ببرد ماء الحشرج
أي السكران ، ومن كسر الزاي فمعناه : لا ينفد شرابهم . يُقال : أنزف الرجل فهو منزوف إذا فنيت خمره .
قال الحطيئة :
لعمري لئن أنزفتمُ أو صحوتمُ
لبئس الندامى كنتمُ آل أبجرا
الصافات : ( 48 ) وعندهم قاصرات الطرف . . . . .
) وعندهم قاصراتِ الطرف ( : حابسات الأعين ، غاضّات الجفون ، قصرن أعينهن عن غير أزواجهن ، فلا ينظرن إلاّ إلى أزواجهنّ ) عين ( نجل العيون حسانها ، واحدتها : عيناء ، يُقال : رجل أعين وامرأة عيناء ورجال ونساء عين .
الصافات : ( 49 ) كأنهن بيض مكنون
) كأنهنّ بيضٌ ( : جمع البيضة ) مكنون ( مستور مصون . قال الحسن وابن زيد شبههن ببيض النعامة تكنها بالريش من الريح والغبار ، وقيل : شبههن ببطن البيض قبل أن يُقشر ، وهو معنى قول ابن عباس ، وإنما ذكّر المكنون والبيض جمع ؛ لأنه ردّه إلى اللفظ .
الصافات : ( 50 ) فأقبل بعضهم على . . . . .
) فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ( في الجنة .
الصافات : ( 51 ) قال قائل منهم . . . . .
) قال قائلٌ منهم إنّي كان لي قرين ( في
(8/144)
" صفحة رقم 145 "
الدنيا . قال مجاهد : كان شيطاناً ، وقال آخرون : كان من الإنس . قال مقاتل : كانا أخوين ، وقال الباقون : كانا شريكين : أحدهما فطروس وهو الكافر ، والآخر يهوذا وهو المؤمن ، وهما اللذان قصّ الله حديثهما في سورة الكهف .
الصافات : ( 52 ) يقول أئنك لمن . . . . .
) يقولُ أإنك لمن المُصدّقين ( بالبعث ؟
الصافات : ( 53 ) أئذا متنا وكنا . . . . .
) أإذا متنا وكنّا تُراباً وعِظاماً أإِنا لمدينون ( : مجزيون ومحاسبون ومملوكون
الصافات : ( 54 ) قال هل أنتم . . . . .
) قال ( الله سبحانه لأهل الجنة : ) هل أنتم مطّلعون ( إلى النار ؟ أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حبيش قال : حدّثنا أبو القاسم بن الفضل قال : حدّثنا أحمد ابن يزيد المقرئ عن جلاد عن الحكم بن طاهر ، عن السدي ، عن أبي ملك عن ابن عباس أنه قرأ ) هل مطلعون }
الصافات : ( 55 ) فاطلع فرآه في . . . . .
) فاطّلع ( بخفضهما وبكسر اللام ، قال : رافعون فرفع ، قال ابن عباس : وذلك أنّ في الجنة كوىً فينظر أهلها منها إلى النار وأهلها .
) فاطّلع ( هذا المؤمن ) فرآه في سواء الجحيم ( فرأى قرينه في وسط النار .
الصافات : ( 56 ) قال تالله إن . . . . .
) قال تالله إن كدتَ لتُردين ( ما أردت إلاّ أن تهلكوا وأصله من التردّي .
الصافات : ( 57 ) ولولا نعمة ربي . . . . .
) ولولا نعمة ربي ( : عصمته ورحمته ) لكنتُ من المحضرين ( معك في النار .
الصافات : ( 58 - 59 ) أفما نحن بميتين
) أفما نحن بميتين إلاّ موتتنا الأُولى وما نحنُ بمعذّبين ( ، فتقول لهم الملائكة : لا ، وقيل : إنما يقولونه على جهة الحديث بنعمة الله سبحانه عليهم في أنّهم لا يموتون ولا يعذّبون ، وقيل : يقوله المؤمن على جهة التوبيخ لقرينه بما كان ينكره .
الصافات : ( 60 - 61 ) إن هذا لهو . . . . .
) إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون
أَذَالِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِىأَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ فَإِنَّهُمْ لاََكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الْجَحِيمِ إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءَابَآءَهُمْ ضَآلِّينَ فَهُمْ عَلَىءَاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الاَْوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ إِلاَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاَْخِرِينَ ( 2
الصافات : ( 62 ) أذلك خير نزلا . . . . .
) أذلكَ خيرٌ نزلاً ( : رزقاً ) أم شجرةُ الزقوم ( ، والزقوم ثمرة شجرة كريهة الطّعم جداً ، من قولهم : يزقم هذا الطعام ، إذا تناوله على كره ومشقة شديدة .
الصافات : ( 63 ) إنا جعلناها فتنة . . . . .
) إنا جعلناها فتنةً للظالمين ( : للكافرين ، وذلك أنهم قالوا : كيف يكون في النار شجرة
(8/145)
" صفحة رقم 146 "
والنار تحرق الشجر ؟ وقال ابن الزبعرى لصناديد قريش : إنّ محمداً يخوفنا بالزقوم وإنّ الزقوم بلسان بربر وأفريقية الزبد والتمر ، فأدخلهم أبو جهل بيته وقال : يا جارية زقّمينا . فأتتهم بالزبد والتمر ، فقال : تزقّموا فهذا ما يوعدكم به محمد ،
الصافات : ( 64 ) إنها شجرة تخرج . . . . .
فقال الله سبحانه : ) إنها شجرةٌ تخرجُ في أصل الجحيم ( : قعر النار . قال الحسن : أصلها في قعر جهنم ، وأغصانها ترتفع إلى دركاتها .
الصافات : ( 65 ) طلعها كأنه رؤوس . . . . .
) طلعها ( ثمرها ، سمّي طلعها لطلوعه ) كأنه رؤوس الشياطين ( قال بعضهم : ) ^ هم الشياطين بأعيانهم ، شبهّه بها لقبحه ؛ لأن الناس إذا وصفوا شيئاً بعاهة القبح قالوا : كأنه شياطين ، وإن كانت الشياطين لا تُرى ؛ لأن قبح صورتها متصوّر في النفس ، وهذا معنى قول ابن عباس والقرظي ، وقال بعضهم : أراد بالشياطين الحيّات ، والعرب تُسمي الحية القبيحة الخفيفة الجسم شيطاناً ، قال الشاعر :
تلاعب مثنى حضرمّي كأنه
تعمج شيطان بذي خروع قفر
وقال الراجز :
عنجرد تحلف حين أحلف
كمثل شيطان الحماط أعرف
والأعرف : الذي له عرق ، وقيل : هي شجرة قبيحة خشنة مرة منتنة ، تنبت في البادية تسميها العرب رؤوس الشياطين .
الصافات : ( 66 ) فإنهم لآكلون منها . . . . .
) فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون ( ، والملء : حشو الوعاء بما لا يحتمل زيادة عليه ،
الصافات : ( 67 ) ثم إن لهم . . . . .
) ثم إنّ لهم عليها لشوباً ( : خلطاً ومزاجاً ، وقال مقاتل : شراباً ) من حميم ( : ماء حار شديد الحرارة ،
الصافات : ( 68 ) ثم إن مرجعهم . . . . .
) ثم إن مرجعهُم لإلى الجحيم ( ثم بمعنى قبل ، مجازه : وقبل ذلك مرجعهم لإلى الجحيم ، كقول الشاعر :
إنّ من ساد ثم ساد أبوه
ثم قد ساد قبل ذلك جده
أي قبل ذلك ساد أبوه ، ويجوز أن تكون بمعنى الواو .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا أبو علي المقري قال : حدّثني علي بن الحسن بن سعد الهمداني قال : حدّثنا عباس بن يزيد بن أبي حبيب قال : حدّثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا سفيان عن ميسرة عن المنهال عن أبي عبيدة عن عبد الله أنه قرأ ( ثم إنّ مقتلهم لإلى الجحيم ) .
الصافات : ( 69 - 70 ) إنهم ألفوا آباءهم . . . . .
) إنهم ألفوا ( : وجدوا ) آباءهم ضالين فهم على آثارهم يُهرعون ( يسرعون .
الصافات : ( 71 - 75 ) ولقد ضل قبلهم . . . . .
) ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ولقد أرسلنا فيهم منذرين ( : مرسلين ) فانظر كيف كان
(8/146)
" صفحة رقم 147 "
عاقبة المنذرين إلاّ عباد الله الُمخْلَصين ولقد نادانا نوحٌ ( ، نظيره : ) ونوحاً إذ نادى من قبل ( ، وهو قوله : ) فدعا ربه أنّي مغلوبٌ فانتصر ( .
) فلنعمَ المُجيبون ( على التعظيم ،
الصافات : ( 76 ) ونجيناه وأهله من . . . . .
) ونجّيناه وأهله من الكرب العظيم ( ، وهو الغرق ، ) وجعلنا ذريته هم الباقين ( ، أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال : حدّثنا زكريا بن يحيى الساجي قال : حدّثنا بندار قال : حدّثنا محمد بن خالد بن غيمة قال : ) ^ حدّثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله
الصافات : ( 77 ) وجعلنا ذريته هم . . . . .
) وجعلنا ذريته هم الباقين ( قال : ( سام وحام ويافث ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا محمد بن عمران بن هارون قال : حدّثنا أبو عبد الله المخزومي قال : حدّثنا سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيّب قال : كان وُلْد نوح ثلاثة : سام وحام ويافث ، فسام أبو العرب وفارس وروم ، وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب ، ويافث أبو الترك ويأجوج ومأجوج وما هنالك .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا مخلد بن جعفر الباقرحى قال : حدّثنا الحسن بن علوية قال : حدّثنا إسماعيل بن عيسى قال : حدّثنا إسحاق بن بشر قال : أخبرنا جويبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس قال : لما خرج نوح عليه السلام من السفينة مات مَن معه من الرجال والنساء إلاّ ولده ونساءهم ، فذلك قوله : ) وجعلنا ذريته هم الباقين ( .
الصافات : ( 78 ) وتركنا عليه في . . . . .
) وتركنا عليه في الآخرين ( ، أي لقينا له ثناء حسناً وذكراً جميلاً فيمن بعده من الأنبياء والأُمم .
2 ( ) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِى الْعَالَمِينَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الاَْخَرِينَ وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لاَِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَءِفْكاً ءَالِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النُّجُومِ فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَرَاغَ إِلَىءَالِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ فَأَقْبَلُواْ إِلَيْهِ يَزِفُّونَ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ قَالُواْ ابْنُواْ لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الاَْسْفَلِينَ ( 2
الصافات : ( 79 - 83 ) سلام على نوح . . . . .
) سلامٌ على نوح في العالمين إنا كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين
(8/147)
" صفحة رقم 148 "
ثم أغرقنا الآخرين وإنّ من شيعته ( : أهل دينه وسنته ) لإبراهيم }
الصافات : ( 84 ) إذ جاء ربه . . . . .
) إذ جاء ربه بقلب سليم ( : مُخلص من الشرك والشك ، وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا الفربابي قال : حدّثنا محمد بن العلا قال : حدّثنا عصام بن علي عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال : يا بنيّ لا تكونوا لعّانين أو لم يروا إلى إبراهيم لم يلعن شيئاً قط فقال الله سبحانه : ) إذ جاء ربه بقلب سليم ( ؟
الصافات : ( 85 - 88 ) إذ قال لأبيه . . . . .
) إذ قال لأبيه وقومه ماذا ( : ماالذي ) تعبدون أإفكاً آلهةً دون الله تُريدون فما ظنكم برب العالمين ( إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره ؟ ) فنظر نظرةً في النُّجوم ( ، قال ابن عباس : كان قومه يتعاطون علم النجوم فعاملهم حيث كانوا ؛ لئلاّ ينكروا عليه ؛ وذلك أنه كان لهم من الغد عيد ومجمع ، وكانوا يدخلون على أصنامهم ويقرّبون لهم القرابين ويصنعون بين أيديهم الطعام قبل خروجهم إلى عيدهم زعموا التبّرك عليه ، فإذا انصرفوا من عيدهم أكلوه . قال مقاتل : وكانت الأصنام اثنين وسبعين صنماً من خشب وحديد ورصاص وشبه وفضّة وذهب ، وكان كبيرهنّ من ذهب في عينيه ياقوتتان ، وقالوا لإبراهيم ( عليه السلام ) : لا تخرج غداً معنا إلى عيدنا . فنظر إلى النجوم ،
الصافات : ( 89 ) فقال إني سقيم
) فقال إني سقيم ( ، قال ابن عباس : مطعون ، وقال الحسن : مريض ، وقال الضحاك : سأسقم ؛ لقوله سبحانه ) إنك ميتٌ وإنهم ميّتون ( .
وقيل : سقيم بما في عنقي من الموت ، وقيل : سقيم بما أرى من أحوالكم القبيحة ، وقيل : سقيم بعلة عرضت له ، وإنّه إنما نظر في النجوم مستدلاً بها على وقت حمّى كانت تأتيه ، والصحيح أنه لم يكن سقيماً ؛ لما رُوي عن النبي ( عليه السلام ) أنه قال : ( لقد كذب إبراهيم ثلاث كذبات ، ما منها واحدة إلاّ وهو بماحل وناصل بها عن دينه : قوله : ) إني سقيم ( ، وقوله : ) بل فعلهُ كبيرُهم ( وقوله لسارة : هذه أُختي ) .
الصافات : ( 90 ) فتولوا عنه مدبرين
) فتولوا عنه مُدبرين ( إلى عيدهم ، فدخل إبراهيم إلى الأصنام فكسرها ووضع الفأس على عاتق الصنم الكبير ، وكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على أصنامهم قبل أن يرجعوا إلى منازلهم ، فدخلوا عليها فإذا هي مكسورة ، فذلك قوله سبحانه :
الصافات : ( 91 ) فراغ إلى آلهتهم . . . . .
) فراغ ( : فمال ) إلى آلهتهم فقال ( إظهاراً لضعفهم وعجزهم : ) ألا تأكلون }
الصافات : ( 92 - 93 ) ما لكم لا . . . . .
) مالكم لا تنطقون فراغ عليهم ضرباً باليمين ( ؛ لأنها أقوى على العمل من الشمال ، وهذا قول الربيع بن أنس قال : يعني يده اليمنى ، وقيل : بالقسم الذي سبق منه ، وذلك قوله : ) وتالله لأكيدنّ أصنامكم ( وقال الفراء : بالقوة
(8/148)
" صفحة رقم 149 "
الصافات : ( 94 ) فأقبلوا إليه يزفون
) فأقبلوا إليه ( : إلى إبراهيم ) يزفُّون ( ، أي يُسرعون عن الحسن . مجاهد : يزفون زفيف النعام وهو حالٌ بين المشي والطيران . الضحاك : يسعون ، وقرأ يحيى والأعمش وحمزة ) يزفُّون ( بضم الياء ، وهما لغتان :
الصافات : ( 95 - 96 ) قال أتعبدون ما . . . . .
فقال لهم إبراهيم على وجه الحِجاج : ) أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون ( ؟ وفي هذه الآية دليل على أنّ أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه وتعالى حيث قال : ) وما تعملون ( على ( أنها ) مكتسبة للعباد حيث أثبت لهم عملاً ، فأبطل مذهب القدرية والجبرية بهذه الآية ، وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ الله خالق كلّ صانع وصنعته ) .
الصافات : ( 97 ) قالوا ابنوا له . . . . .
) قالوا ابنوا له بُنياناً فألقوه في الجحيم ( : معطم النار . قال مقاتل : بنوا له حائطاً من الحجر طوله ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرون ذراعاً وملؤوه من الحطب وأوقدوا فيه النار .
الصافات : ( 98 ) فأرادوا به كيدا . . . . .
) فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأسفلين ( : المقهورين .
( ) وَقَالَ إِنِّى ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّى سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّالِحِينِ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يابُنَىَّ إِنِّىأَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ ياأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِىإِن شَآءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ ( 2
الصافات : ( 99 ) وقال إني ذاهب . . . . .
) وقال ( إبراهيم : ) إني ذاهبٌ إلى ربي ( ، أي إلى مرضاة ربي ، وهو المكان الذي أُمر بالذهاب إليه . نظيره قوله : ) وقال إني مهاجرٌ إلى ربي ( ، وقيل : ذاهب إلى ربي بنفسي وعملي ) سيهدين (
الصافات : ( 100 ) رب هب لي . . . . .
) رب هب لي من الصالحين ( مختصر . أي رب هب لي ولداً صالحاً من الصالحين .
الصافات : ( 101 - 102 ) فبشرناه بغلام حليم
) فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه السّعي ( ذلك الغلام ، ) قال يابني إني أرى في المنام أنّي أذبحُك ( الآية ، واختلف السّلف من علماء المسلمين في الذي أُمر إبراهيم بذبحه من ابنيه بعد إجماع ( أهل الخاص ) على أنه كان إسحاق ، فقال قوم : الذبيح إسحاق ، وإليه ذهب من الصحابة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود والعباس بن عبد المطلب ، ومن الباقين وأتباعهم كعب الأحبار وسعيد بن جبير وقتادة ومسروق وعكرمة والقاسم بن أبي بزة وعطاء ومقاتل وعبد الرَّحْمن بن سابط والزبيري والسدّي .
وهي رواية عكرمة وابن جبير عن ابن عباس . أخبرني الحسن بن محمد بن عبد الله قال
(8/149)
" صفحة رقم 150 "
حدّثنا طلحة بن محمّد ، وعبيد الله بن أحمد قالا : حدّثنا أبو بكر بن مجاهد قال : حدّثنا أحمد ابن حرب قال : حدّثنا سنيد بن داوُد قال : حدّثني حجاج عن ليث بن سعد عن صفوان بن عمرو عن عمر بن الخطاب ح قال : هو إسحاق .
وأخبرني الحسن قال : حدّثنا عبيد الله بن أحمد بن يعقوب قال : حدّثنا رضوان بن أحمد الصيدلاني قال : حدّثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي قال : حدّثنا أبو معاوية عن حجاج عن القاسم بن نافع عن أبي الطُفيل ، عن علي قال : ( الذي أراد إبراهيم ( عليه السلام ) ذبحه إسحاق ) .
وروى شبعة عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص قال : افتخر رجل عند ابن مسعود فقال : أنا فلان ابن فلان ابن الأشياح الكرام . فقال عبد الله : ذاك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله ( عليه السلام ) .
وأخبرنا الحسين محمد قال : حدّثنا أحمد بن جعفر بن حمدان قال : حدّثنا يوسف بن عبد الله قال : حدّثنا موسى بن إسماعيل قال : حدّثنا المبارك عن الحسن عن الأحنف بن قيس عن العباس بن عبد المطلب قال : الذي فداه الله بذبح عظيم إسحاق .
وأخبرنا الحسين قال : حدّثنا ابن حبيش قال : حدّثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي قال : حدّثنا أبو عبد الله محمد بن بكار قال : حدّثنا خالد بن عبد الله الواسطي عن داوُد ابن أبي هند عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : الذي أراد إبراهيم ذبحه إسحاق ( عليهما السلام ) .
وأخبرنا الحسن قال : أخبرنا أحمد بن جعفر بن حمدان بن عبد الله قال : حدّثنا يوسف بن عبد الله قال : حدّثنا موسى بن إسماعيل قال : حدّثنا حمّاد قال : أخبرنا عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : الذي أراد إبراهيم ذبحه هو إسحاق .
وأخبرني الحسن قال : حدّثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد قالا : حدّثنا أبو بكر بن مجاهد قال : حدّثنا عباس الدوري قال : حدّثنا أبو سلمة يعني المنقري قال : حدّثنا محمد بن ثابت العبدي عن موسى مولى أبي بكر الصديق عن سعيد بن جبير قال : ( لمّا ) أُري إبراهيم ذبح إسحاق في المنام سار به مسيرة شهر في غداة واحدة حتى أتى به المنحر بمنى ، فلما صرف الله عنه الذبح وأمره أن يذبح الكبش فذبحه فسار به مسيرة شهر في روحة واحدة ، طويت له الأودية والجبال .
وروى سفيان عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عمر عن أبيه قال : قال موسى : ( يا رب
(8/150)
" صفحة رقم 151 "
يقولون : إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فبم قالوا ذلك ؟ ) قال : ( إن إبراهيم لم يعدل بي شيئاً قط إلاّ اختارني عليه ، وإن إسحاق جاد لي بالذبح وهو بغير ذلك أجود ، وإن يعقوب كلّما زدته بلاء زاد بي حسن ظنّ ) .
وروى حمزة الزيات عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال : قال يوسف : للملك : ( ترغب أن تأكل معي أو تنكف وأنا والله يوسف بن يعقوب نبيّ الله ابن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله ( عليهم السلام ) ؟ ) .
وقال الآخرون : هو إسماعيل ، وإلى هذا القول ذهب عبد الله بن عمر وأبو الطُفيل عامر ابن واثلة وسعيد بن المسيب والشعبي والحسن البصري ويوسف بن مهران ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي وهي رواية عطاء بن أبي رباح وأبي حمرة نصر بن عمران الضبعي ويوسف بن ماهك عن ابن عباس قال : المفدى إسماعيل ، وزعمت اليهود أنه إسحاق ، وكذبت اليهود .
وقد رُوي عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كلا القولين ، ولو كان فيهما صحيح بالإجماع لم يعزه إلى غيره ، وأمّا الرواية التي رويت عنه صلّى الله عليه أنّ الذبيح إسحاق ما أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا طلحة بن محمد وعبيد الله بن أحمد ( قالا ) : حدّثنا ابن مجاهد قال : حدّثنا موسى بن إسحاق قال : حدّثنا عبد الله بن أبي شنبه قال : أخبرنا الأشيب قال : حدّثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن الحسن عن الأحنف بن قيس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الذي أراد إبراهيم أن يذبح إسحاق ) .
أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن علي بن لؤلؤ قال : أخبرنا الهيثم بن خلف قال : حدّثنا أحمد بن إبراهيم قال : حدّثنا حجاج عن ابن جريح قال : أخبرت عن صفوان بن سليم وزيد بن أسلم عن النبي ( عليه السلام ) أنه قال : ( إنّ إسحاق الذي أراد إبراهيم أن يذبحه ) .
وأخبرنا أبو طاهر بن خزيمة في شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة ( فأقرأنيه ) قال : أخبرنا جدي قال : حدّثنا علي بن حجر قال : حدّثنا عمر بن حفص عن أبان عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه : ( يشفع إسحاق بعدي فيقول : يا رب صدّقت نبيّك وجدتُ بنفسي
(8/151)
" صفحة رقم 152 "
للذبح فلا تُدخل النار من لم يشرك بك شيئاً ) . قال : ( فيقول تبارك وتعالى : وعزتي لا أُدخل النار من لا يُشرك بي شيئاً ) .
وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا محمد بن أحمد بن نصرويه قال : حدّثنا أبو حفص عمر بن محمد بن عيسى الجوهري قال : حدّثنا عيسى بن مساور الجوهري قال : حدّثنا الوليد بن مسلم قال : حدّثنا عبد الرَّحْمن بن زيد بن أسلم عن أبيه ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ الله عزَّ وجل خيّرني بين أن يغفر لنصف أُمّتي أو شفاعتي فاخترت شفاعتي ورجوت أن تكون أعم لأُمتي ، ولولا الذي سبقني إليه العبد الصالح لتعجّلت منها دعوتي ؛ إنَّ الله سبحانه لما فرّج عن إسحاق كرب الذبح قيل : يا إسحاق سل تُعط . فقال : أما والذي نفسي بيده لأُتعجّلنها قبل نزغة الشيطان ، اللهم من مات لا يُشرك بك شيئاً فاغفر له وأدخله الجنة ) .
وأما ما رُوي عنه صلّى الله عليه أنّ الذبيح إسماعيل فروى عمر بن عبد الرَّحْمن ، عن عبيد الله بن محمد العتبي من ولد عتبة بن أبي سفيان عن أبيه قال : حدّثني عبد الله بن سعيد عن الصنايجي قال : كنا عند معاوية بن أبي سفيان فذكروا الذبيح إسماعيل أو إسحاق ، فقال : على الخبير سقطتم ، كنت عند النبي صلّى الله عليه فجاء رجل فقال : يا رسول الله عُد عليّ مما أفاء الله عليك يابن الذبيحين فضحك رسول الله صلّى الله عليه ، فقيل له : يا أمير المؤمنين وما الذبيحان ؟ فقال : إنّ عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله عز وجل لئن سهل الله عز وجل له أمرها ليذبحنّ أحد ولده ، قال : فخرج السهم على عبد الله ، فمنعه أخواله وقالوا : افد ابنك بمئة من الإبل ففداه بمئة من الإبل والثاني إسماعيل ( عليه السلام ) .
فهذا ما ورد من الأخبار في هذا الباب ، فأما حجة القائلين بإنه إسحاق من القرآن فهو أنّ الله سبحانه أخبر عن خليله إبراهيم ( عليه السلام ) حين فارق قومه مهاجراً إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط وقال : ) إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين ( إنه دعا فقال : ) رب هب لي من الصالحين ( وذلك أنه قبل أن يعرف هاجر ، وقبل أن تصير له أُم إسماعيل . ثم اتبع ذلك الخبر عن إجابته ودعوته وتبشيره أتاه بغلام حليم ثم عن رؤيا إبراهيم أن يذبح ذلك الغلام الذي بشر به حين بلغ معه السعي وليس في ( كتاب الله بشير لإبراهيم بولد ذكر ) إلاّ بإسحاق .
واحتج من قال : إنه إسماعيل من القرآن بما روى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول : إنّ الذي أمر الله سبحانه إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل ، وإنا لنجد ذلك
(8/152)
" صفحة رقم 153 "
في كتاب الله سبحانه ، وذلك أن الله عز وجل يقول حين فرغ من قصة المذبوح : ) وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين ( .
وقال عز من قائل : ) فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ( يقول : بابن وبابن ابن ، فلم يكن يأمره بذبح إسحاق وله فيه من الله سبحانه وتعالى الموعود . فلما لم يذكر الله تعالى إسحاق إلاّ بعد انقضاء قصّة الذبح ، ثم بشّره بولد إسحاق علمنا أنّ الذبيح إسماعيل .
قال القرظي : فذكرت ذلك لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة ، إذ كنت معه بالشام ، فقال لي عمر : إنّ هذا الشيء ما كنت أنظر فيه ، وإني لأراه كما قلت . ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام ، وكان يهودياً فأسلم وحسن إسلامه ، وكان يرى أنه من علماء اليهود ، فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك وأنا عنده فقال : أيُّ ابني إبراهيم أُمر بذبحه ؟ فقال : إسماعيل . ثم قال : والله يا أمير المؤمنين إنّ اليهود لتعلم ذلك ولكنهم ليحسدونكم معشر العرب على أن يكون أنّ أباكم الذي كان من أمر الله سبحانه وتعالى فيه والفضل الذي ذكره الله سبحانه منه لصبره على ما أُمر به ، فهم يجحدون ذلك ويزعمون أنه إسحاق ؛ لأن إسحاق أبوهم .
واحتجوا أيضاً بأن قرني الكبش كانا منوطين بالكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت واحترق القرنان في أيام ابن الزبير والحجاج ، قال الشعبي : رأيتُ قرني الكبش منوطين بالكعبة ، وكان القرنان ميراثاً لولد إساعيل عن أبيهم ، فلم يزاحمهم على ذلك ولد إسحاق وهم الروم ، وكانوا أكبر وأعزّ وأمنع من العرب : وهذا أدل دليل على أن الذبيح إسماعيل .
وقال الأصمعي : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح إسحاق كان أو إسماعيل ؟ فقال لي : يا أصمع أين ذهب عنك عقلك ؟
ومتى كان إسحاق عليه السلام بمكة ؟ وإنما كان إسماعيل بمكة ، وهو الذي بنى البيت مع أبيه إبراهيم ( عليهما السلام ) ، كما قال الله سبحانه ) وإذ يرفعُ إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ( ، والمنحر بمكة لا شكّ فيه .
وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا بكر محمد بن المنذر الضرير يقول : سمعت أبا محمد الزنجاني المؤدّب يقول : سُئل أبو سعيد الضرير عن الذبيح فأنشد :
إنّ الذبيح هُديت إسماعيلُ
نطق الكتاب بذاك والتنزيل
(8/153)
" صفحة رقم 154 "
شرفٌ به خَصّ الإلهُ نبيَّنا
وأتى به التفسير والتأويلُ
إن كنت أمّته فلا تنكر له
شرفاً به قد خصّه التفضيلُ
وأما قصة الذبح فقال السدي بإسناده : لمّا فارق إبراهيم الخليل ( عليه السلام ) قومه مهاجراً إلى الشام هارباً بدينه ، كما قال الله سبحانه وتعالى : ) وقال إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين ( دعا الله سبحانه وتعالى أن يهب له ابناً صالحاً من سارة فقال : ) ربّ هب لي من الصالحين ( . فلما نزل به أضيافه من الملائكة المرسلين إلى المؤتفكة وبشرّوه بغلام حليم ، قال إبراهيم لما بُشّر به : فهو إذن لله ذبيح . فلما وُلد الغلام وبلغ معه السّعي ، قيل : أوفِ بنذرك الذي نذرت . فكان هذا هو السبب في أمر الله تعالى رسوله إبراهيم بذبح ابنه ، فقال إبراهيم عند ذلك لإسحاق : ( انطلق نقرّب قرباناً لله تعالى ) ، وأخذ سكّينا وحبلاً ثم انطلق معه حتى إذا ذهب به بين الجبال قال له الغلام : يا أبتِ أين قربانك ؟ فقال ) يا بُني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذاترى قال يا أبت افعل ما تُؤمر ستجدني إنْ شاء الله من الصابرين ( .
وقال محمد بن إسحاق بن يسار : كان إبراهيم إذا زار هاجر وإسماعيل حُمل على البراق فيغدو من الشام فيصلي بمكة ، ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام . حتى إذا بلغ إسماعيل معه السعي وأخذ بنفسه ورجاه لما كان يأمل فيه من عبادة ربه وتعظيم حرماته ، أُري في المنام أن يذبحه ، فلما أُمر بذلك قال لابنه : ( يا بني خذ الحبل والمدية ثم انطلق بنا إلى هذا الشعب لنحتطب ) . فلما خلا إبراهيم بابنه في شعب ( ثبير ) ، أخبره بما أُمر ، كما ذكر الله تعالى ، قالوا : فقال له ابنه الذي أراد أن يذبحه : ( يا أبتِ اشدد رباطي حتى لا أضطرب ، وأكفف عنّي ثيابك حتى لا ينضح عليها من دمي شيء ، فينقص أجري وتراه أُمّي فتحزن ، واشحذ شفريك ، وأسرع مرّ السكين على حلقي ليكون أهون للموت عليّ ، فإنّ الموت شديد ، وإذا أتيت أُمي فاقرأ عليها السلام مني ، وإن رأيت أن ترد قميصي على أُمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسلى لها عنّي ) . فقال له إبراهيم ( عليه السلام ) : ( نعم العون أنت يا بُني على أمر الله ) .
ففعل إبراهيم ما أوصاه به ابنه ، ثم أقبل عليه يقبّله ، وقد ربطه وهو يبكي والابن يبكي حتى استنقع الدموع تحت خده ، ثم إنه وضع السكين على حلقه فلم تنحر السكين . قال السدي : ضرب الله صفحة من النحاس على حلقه . قالوا : فقال الابن عند ذلك : ( يا أبتِ كبّني لوجهي على جبيني ، فإنّك إذا نظرت في وجهي رحمتني ، وأدركتك رقّة تحول بينك وبين أمر الله وأنا لا أنظر إلى الشفرة فأجزع ) . ففعل ذلك إبراهيم ، ووضع السكين على قفاه فانقلب السكين ، ونُودي : ( يا إبراهيم مه ، قد صدّقت الرّؤيا ، هذه ذبيحتك فداءً لابنك فاذبحها دونه ) ، فنظر إبراهيم فإذا هو بجبرائيل ومعه كبش أقرن أملح فكبّر جبرائيل فكبّر الكبش فكبّر إبراهيم فكبّر ابنه وأخذ إبراهيم الكبش وأتى به المنحر من منى فذبحه
(8/154)
" صفحة رقم 155 "
قال ابن عباس : فوالذي نفسي بيده ، لقد كان أوّل الإسلام ، وإنّ رأس الكبش لمعلّق بقرنيه في ميزاب الكعبة .
قال السدّي : فلما أخذ إبراهيم ( عليه السلام ) الكبش خلّى عن ابنه ، وأكبّ عليه وهو يقبّله ويقول : ( يا بني وهبت لي ) ، ثم رجع إلى سارة فأخبرها الخبر ، فجزعت سارة وقالت : يا إبراهيم ، أردت أن تذبح ابني ولا تعلمني ؟ .
وروى أبو هريرة عن كعب الأحبار وابن إسحاق عن رجاله قالوا : لما أُري إبراهيم ( عليه السلام ) ذبح ابنه قال الشيطان : والله لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم ، لا أفتن منهم أحداً أبداً . فتمثل لهم الشيطان رجلاً وأتى أُمّ الغلام فقال لها : هل تدرين أين ذهب إبراهيم بابنك ؟ قالت : ذهب به يحطبنا من هذا الشعب . قال : لا والله ما ذهب به إلاّ ليذبحه . قالت : كلا هو أرحم به وأشدّ حبّاً له من ذلك . قال : إنه يزعم أنّ الله أمره بذلك . قالت : فإنْ كان ربه أمره بذلك فقد أحسن أن يطيع ربه ، وسلّمْنا لأمر الله عز وجل .
فخرج الشيطان من عندها حتى أدرك الابن وهو يمشي على إثر أبيه فقال له : يا غلام هل تدري أين يذهب أبوك ؟ قال : ( يحطب أهلنا من هذا الشعب ) . قال : والله ما يُريد إلاّ أن يذبحك . قال : ( ولِمَ ) .
قال : زعم أنّ ربه أمره بذلك ، قال : ( فليفعل ما أمره به ربه ، فسمعاً وطاعة ) .
فلما امتنع منه الغلام أقبل على إبراهيم ، فقال له : أين تُريد أيّها الشيخ ؟ قال : ( أُريد هذا الشعب لحاجة لي فيه ) . فقال : والله إني لأرى الشيطان قد جاءك في منامك ، فأمرك بذبح بُنيَّك هذا . فعرفه إبراهيم فقال : ( إليك عنّي يا عدوَّ الله ، فوالله لأمضينَّ لأمر الله ) .
وروى أبو الطفيل عن ابن عباس أنّ إبراهيم لما أُمر بذبح ابنه ، عرض له الشيطان بهذا المشعر فسابقه فسبقه إبراهيم ، ثم ذهب إلى جمرة العقبة فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم أدركه عند الجمرة الكُبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم مضى بأمر الله عز وجل في ذلك .
وقال أُمية بن أبي الصلت :
ولإبراهيم الموفي بالنذر
احتساباً وحامل الأحدال
بكره لم يكن ليصبر عنه
لو يراه في معشر أقتال
يا بني إني نذرتك لل
ه شحيطاً فاصبر فدىً لك حالي
(8/155)
" صفحة رقم 156 "
واشدد الصفد لا أحيد عن السك
ين حيد الأسير ذي الأغلال
وله مدية تخايل في اللح
م هذام حنية كالهلال
بينما يخلع السرابيل عنه
فكّه ربُّه بكبش حلال
قال خذه ذا وأرسل ابنك إني
للذي قد فعلتما غير قالِ
ربما تجزع النفوس من الأم
ر له فرجة كحل العقالِ
فهذه قصة الذبح كما قال الله سبحانه : ) فلما بلغ معه السّعي ( قال ابن عباس : يعني المشي مع أبيه إلى الحيل . قال الحسن ومقاتل بن حيان : يعني العقل الذي يقوم به الحجة ، وقال الضحاك : يعني الحركة ، وقال ابن زيد : ( هو السعي في ) العبادة .
) يا بُني إني أرى في المنام ( : رأيت في المنام ) أنّي أذبحك ( لنذر عليّ فيك أُمرت بذلك ، وذلك أنّ إبراهيم ( عليه السلام ) رأى ليلة التروية كأن قائلاً يقول له : إنّ الله يأمرك بذبح ابنك هذا . فلما أصبح روّى في نفسه أي فكّر من الصباح إلى الرواح أمِن الله هذا الحكم أو من الشيطان ؟ فمن ثم سُمّي يوم التروية . فلما أمسى رأى في المنام ثانياً ما رآه من ذبح الولد ، فلما أصبح عرف أنّ ذلك الحكم من الله ، فمن ثم سمّيَ يوم عرفة .
وقال : مقاتل : رأى ذلك إبراهيم ثلاث ليال متتابعات ، وقال عطاء ومقاتل : أُمر إبراهيم أن يذبح ابنه ببيت المقدس فلما تيقّن ذلك أخبر ابنه فقال لابنه ) فانظر ماذا ترى ( ؟ قرأ العامة بفتح التاء ، وقرأ حمزة والكسائي ( تري ) بضم التاء وكسر الراء أي ماذا تشير ؟ وإنما جاز أن يؤامر ابنه في المضي لأمر الله ؛ لأنه أحبّ أن يعلم صبره على أمر الله وعزمه على طاعته فقال له ابنه : ) يا أبتِ افعل ما تُؤمر ستجدني إن شاء من الله من الصابرين ( .
الصافات : ( 103 ) فلما أسلما وتله . . . . .
) فلما أسلما ( أي انقادا وخضعا لأمر الله سبحانه وتعالى ورضيابه ، وقرأ ابن مسعود ( فلما سلّما ) أي فوّضا ، وقرأ ابن عباس ( استسلما ) . قال قتادة : أسلم هذا ابنه وهذا نفسه ) وتلّه للجبين ( أي صرعه وأضجعه وكبّه على وجهه للذّبح
الصافات : ( 104 - 106 ) وناديناه أن يا . . . . .
) وناديناه ( ، قال أهل المعاني : ( الواو ) مقحمة صلة ، مجازه : ناديناه ، كقوله : ) وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا ( يعني : أوحينا ، وقوله : ) وهم من كلّ حدب ينسلون واقتربَ الوعد ( وقال امرؤ القيس :
فلما أجزنا ساحة الحيّ وانتحى
(8/156)
" صفحة رقم 157 "
وقال الشاعر :
حتى إذا قملت بطونكمُ
ورأيتم أبناءكم شبّوا
وقلبتم ظهر المجن لنا
إنّ اللئيم العاجز الخب
أراد : قلبتم .
) أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إنّ هذا لهو البلاء المبين ( : الاختبار المظهر فيما يوجب النعمة أو النقمة ، ولذلك قيل للنعم : بلاء وللمحنة بلاء ؛ لأنها سُمّيت باسم سببها المؤدّى به إليها ، كما قيل لأسباب الموت : هذا الموت بعينه .
( ) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِى الاَْخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُواْ هُمُ الْغَالِبُونَ وَءَاتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِى الاَْخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ( 2
الصافات : ( 107 ) وفديناه بذبح عظيم
) وفديناه بذبح عظيم ( ، والذِّبح : المهيأ لأن يُذبح ، والذَّبح بالفتح المصدر ، وقد اختلفوا في هذا الذَّبح وسبب تسميته عظيماً ؛ فأخبرنا أبو الحسن الفهندري قال : حدّثنا أبو العباس الأصم قال : حدّثنا إبراهيم بن مرزوق البصري قال : حدّثنا أبو عامر العقدي عن سفيان ابن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : الكبش الذي ذبحه إبراهيم هو الذي قرّبه ابن آدم ، وقال سعيد بن جبير : حق له أن يكون عظيماً وقد رعى في الجنة أربعين خريفاً ، وقال مجاهد : سمّاه عظيماً لأنه متقبل ، وقال الحسين بن الفضيل : لأنه كان من عند الله ، وقال أبو بكر الورّاق : لأنه لم يكن عن نسل وإنما كان بالتكوين ، وقيل : لأنه فداء عبد عظيم ، وقال أهل المعاني : قيل له : عظيم ؛ لأنه يصغر مقدار غيره من الكباش بالإضافة إليه ، وأكثر المفسرين على أنه كان كبشاً من الغنم أعين أقرن أملح ، وروى عمر بن عبيد عن الحسن أنه كان يقول : ما فدى إسماعيل إلاّ تيس من الأروى ، وأهبط عليه من ( السماء ) ، وهي رواية أبي صالح عن ابن عباس قال : وكان وعلاً .
الصافات : ( 108 - 112 ) وتركنا عليه في . . . . .
) وتركنا عليه في الآخرين سلامٌ على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق نبيّاً من الصّالحين ( ، أخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا طلحة وعبيد
(8/157)