الكتاب : الكشف والبيان ـ موافق للمطبوع
المؤلف: أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري
دار النشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان - 1422 هـ - 2002 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 10
تحقيق : الإمام أبي محمد بن عاشور
مراجعة وتدقيق الأستاذ نظير الساعدي
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ]
" صفحة رقم 221 "
عِنْدَ رَبّكَ فَلَبِثَ فِي السِجْنِ بِضْعَ سِنِيْن فَأَنْسَاهُ الشيطانُ ذِكْرَ رَبِّه ( ، وحين قال لهم : ) إنّكُمْ لَسارِقُوْنَ فَقَالوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أخٌ لَهُ مِن قَبْل ( .
2 ( ) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّىأَرَانِىأَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخَرُ إِنِّىأَرَانِىأَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذاَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبِّىإِنِّى تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالاَْخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ ءَابَآءِيإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَىْءٍ ذالِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ياصَاحِبَىِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ياصَاحِبَىِ السِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِى رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الاَْخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِىَ الاَْمْرُ الَّذِى فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ وَقَالَ لِلَّذِى ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِى عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِى السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّىأَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ياأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِى فِى رُؤْيَاىَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الاَْحْلَامِ بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِى نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِى سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّىأَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذالِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذالِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ الَّاتِى قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّى بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الئَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ذاَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّى لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِىإِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّى إِنَّ رَبِّى غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 2
يوسف : ( 36 ) ودخل معه السجن . . . . .
) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَان ( وهما غلامان كانا للملك الأكبر الوليد بن الريان ، أحدهما خبّازه صاحب طعامه واسمه مجلِث ، واالآخر ساقيه صاحب شرابه واسمه بنو غضب عليهما الملك فحبسهما ، وذلك أنّه بلغه أنّ خبازه يريد أن يسمّه وأنّ ساقيه مالا على ذلك ، وكان السبب أن جماعة من أهل مصر أرادوا المكر بالملك واغتياله فدسّوا إلى هذين ، وضمنوا لهما مالا ليسُمّا طعام الملك وشرابه فأجاباهم إلى ذلك ، ثمّ إنّ الساقي نكل عنه وقبل الخباز الرشوة فسمّ الطعام
(5/221)
" صفحة رقم 222 "
فلمّا حضر وقته وأحضر الطعام ، قال الساقي : أيّها الملك لا تأكل فإنّ الطعام مسموم ، فقال الخباز : لا تشرب أيّها الملك فإنّ الشراب مسموم ، فقال الملك للساقي : اشرب فشربه فلم يضرّه ، وقال للخباز : كل من طعامك ، فأبى ، فجرّب ذلك الطعام على دابّة من الدواب فأكلته فهلكت ، فأمر الملك بحبسهما .
وكان يوسف لمّا دخل السجن قال لأهله : إنّي أعبر الأحلام ، فقال أحد الفتيان لصاحبه : هلمّ فلنجرّب هذا العبد العبراني ، فتقرّبا له وسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئاً ، قال عبدالله بن مسعود : ما رأى صاحبا يوسف شيئاً ، إنّما كانا تحالفا أن يُجرّبا علمه .
روى عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أرى عينيه في المنام ما لم تَريا كُلِّف أن يعقد بين شعرتين يوم القيامة ، ومن استمع لحديث قوم وهم له كارهون صُبَّ في أُذنه الانك ) .
وقال قومٌ : كانا رأيا على صحّة وحقيقة ، قال مجاهد : لمّا رأى الفتيان يوسف قالا له : والله لقد أحببناك حين رأيناك فقال لهما يوسف : أنشدكما الله أن لا تحباني ؛ فإنّه ما أحبّني أحد قط إلاّ دخل عليَّ من حبّه بلاء .
لقد أحبتني عمّتي فدخل عليّ في حبّها بلاء ، ثمّ أحبّني أبي فدخل عليَّ بحبه بلاء ثمّ أحبتني زوجة الملك هذا ، فدخل عليّ بحبّها إيّاي بلاء ، فلا تحبّاني بارك الله فيكما ، قال : فأبيا إلاّ حبّه وأُلفته حيث كان ، وجعلا يُعجبهما ما يريان من فهمه وعقله ، وقد كانا رأيا حين دخلا السجن رؤيا فأتيا يوسف فقال له الساقي : أيّها العالم إنّي رأيتُ كأنّي غرستُ حبّة من عنب عليها ثلاث عناقيد من عنب فحبستها ، وكان كأس الملك بيدي فعصرتها فيه وسقيت الملك فشربه .
وقال الخبّاز : إنّي رأيتُ كأنّ فوق رأسي ثلاث سِلال فيها الخبز وألوان الأطعمة فإذا سباع الطير تنهش منه ، فذلك قوله تعالى : ) قال أَحَدُهما ( يعني بنو ) إنّي أرَانِي ( أي رأيتني ، ) أعْصِرُ خَمْراً ( يعني عنباً بلغة عمان ، ويدلّ عليه عليه قراءة ابن مسعود أعصرُ عنباً .
قال الأصمعي : أخبرني المعتمر أنّه لقي أعرابياً معه عنب ، فقال : ما معك ؟ قال : خمر ، ومنه يُقال للخلّ العنبي خلُّ خمرة ، وهذا على قرب الجوار ، قال القتيبي : وقد تكون هي الخمر بعينها كما يُقال : عصرتُ زيتاً وإنّما عصر زيتوناً .
وقال الآخر : وهو مجلِث : ) إنّي أرَاني أحْمِلُ فوقَ رأسي خُبزاً تأكُلُ الطيرِ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتأوِيْلِه ( أخبرنا تفسيره وتعبيره وما يؤول إليه أمر هذه الرؤيا .
(5/222)
" صفحة رقم 223 "
) إنّا نَراكَ مِن المُحسِنِيْن ( أي العالِمين الذين أحسنوا ، قال الفرّاء وقال ابن اسحاق : إنّا نراك من المحُسنين إلينا إن فعلت ذلك وفسّرت رؤيانا ، كما يُقال : افعل كذا وأنت مُحسن .
وروى سلمة بن نبط عن الضحّاك بن مزاحم في قوله : ) إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسِنِيْن ( ما كان إحسانه ؟ قال كان إذا مرض رجل في السجن قام إليه ، وإذا ضاق وسع له ، وإن احتاج جمع له ، وسأل له .
قتادة : بلغنا أنّ إحسانه كان يُداوي مريضهم ، ويُعزّي حزينهم ، ويجتهد لربّه .
وقيل : لمّا انتهى يوسف إلى السجن وجد فيه قوماً قد انقطع رجاؤهم واشتدّ بلاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول : أبشروا واصبروا تؤجروا ، وإنّ لهذا لأجراً وثواباً ، فقالوا له : يا فتى بارك الله فيك ، ما أحسن وجهك وأحسن خلقك وأحسن حديثك لقد بورك لنا في جوارك بالحبس ، إنّا كُنا في غير هذا منذ حبسنا لما تخبرنا به من الأجر والكفارة والطهارة ، فمن أنت يا فتى ؟
قال : أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن إبراهيم خليل الله ، فقال له عامل السجن : يا فتى والله لو استطعت لخلّيت سبيلك ، ولكن ما أحسن جوارك وأحسن أخبارك فكنْ في أي بيوت السجن شئت .
فكره يوسف ( عليه السلام ) أن يعبر لهما ما سألاه لِما عَلِمَ في ذلك من المكروه على أحدهما ، فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره ،
يوسف : ( 37 ) قال لا يأتيكما . . . . .
قال لهما : ) لا يأتِيْكُما طَعامٌ تُرزَقانه ( في نومكما ) إلاّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيْلِه ( في اليقظة .
هذا قول أكثر المفسّرين ، وقال بعضهم : أراد به في اليقظة فقال : ) لا يأتيكما طعام تُرزقانه ( تطعمانه وتأكلانه ) إلاّ نبّأتُكُما بتأويله ( بتفسيرة قال : إنّه أيّ طعام أكلتم ومتى أكلتُم وكم أكلتُم ، فقالا له : هذا من فعل العَرّافين والكَهنة ، فقال لهما ( عليه السلام ) : ما أنا بكاهن وإنّما ) ذلِكُما ( العلم ) ممّا عَلّمَني رَبِّي إنّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قوم لا يُؤمِنُوْنَ بالله وَهُم بِالآخِرةِ هُمُ كافِرُوْن ( كرّرهُم على التأكيد . وقيل : هم الأوّل جماد كقوله تعالى : ) أيعدكم أنّكم إذا مُتّم وكُنتم تُراباً وَعِظاماً أنّكم مُخْرَجُون ( فصارت الأولى المُلغاة والثانية ابتداء ، وكافرون خبره .
يوسف : ( 38 ) واتبعت ملة آبائي . . . . .
) واتّبعتُ ملّة آبائي ( فتح ياءه قومٌ وسكّنها آخرون ، ( فما وفي ) أمثالها فالجزم على الأصل والفتح على موافقة الألف استقلّته لأنّها أُخت الفتحة وقرأها الأعمش آبَاي إبْرَاهِيْمَ دُعَاي إلاّ فِرَاراً مقصوراً غير مهموز وفتحَ ياءهما مثل ( . . . ) .
) إبْرَاهِيْمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوْبَ مَا كَانَ لَنا ( ما ينبغي ) أن نُشْرِكَ باللهِ مِنْ شَيء ( من صلة ، تقديره : أن نشرك بالله شيئاً .
(5/223)
" صفحة رقم 224 "
) ذلِكَ ( التوحيد والعلم ) مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وعلى الناسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُون ( فأراهما يوسف فطنته وعلمه ثمّ دعاهما إلى الإسلام ، فأقبل عليهما وعلى أهل السجن وكان بين أيديهم أصناماً يعبودنها فقال إلزاماً للحُجّة
يوسف : ( 39 ) يا صاحبي السجن . . . . .
) يَا صَاحِبَيِ السِجنِ ( جعلهما صاحبي السجن لكونهما فيه كقوله تعالى لسكّان الجنّة ) أصْحاب الجنّة ( ولسكّان النار : ) أصحاب النار ( ) أأربابٌ مُتَفَرِّقُوْنَ ( آلهة شتى لا تنفع ولا تضرّ ) خَيرٌ أمِ اللهِ الواحد ( الذي لا ثاني له ) القَهّار ( قد قهر كلّ شيء ، نظيرها ، قوله : ) الله خيرٌ أمَّا يُشرِكُوْن ( ثمّ بين الحجر والأصنام وضعفها فقال :
يوسف : ( 40 ) ما تعبدون من . . . . .
) ما تَعْبُدُوْنَ مِن دُوْنِه ( أي ممّن دون الله ، وإنّما قال ما تعبدون وقد ابتدأ الكلام بخطاب الإثنين لأنّه قصد به جميع من هو على مثل حالهما من الشرك ، ) إلاّ أَسْماءً سَمّيتُموها ( وذلك تسميتهم أوثانهم آلهةً وأرباباً من غير أن تكون تلك التسمية حقيقة ، ) أَنْتُم وآباؤكُم ما أنزلَ اللهُ بِها مِن سُلْطان ( حجّة وبرهان ) إنِ الحُكْمُ ( القضاء والأمر والنهي ، ) إلاّ لله أمَرَ ألاّ تَعْبُدوا إلاّ إيّاه ( نظيره ) وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ( ) ذلك ( الذي دعوتكم إليه من التوحيد وترك الشرك ، ) الديّنُ القيّم ( المُستقيم ، ) ولكنّ أكثَرَ الناسِ لا يعلمون ( .
يوسف : ( 41 ) يا صاحبي السجن . . . . .
ثمّ فسّر رؤياهما فقال : ) يا صاحِبَيِ السِجْنِ أمّا أحدكما ( وهو الساقي ، ) فيسقي رَبّه ( سيّده يعني الملك ) خَمْرَاً ( وأمّا العناقيد الثلاثة التي رآها فإنّها ثلاثة أيّام ، يبقى في السجن ثمّ يُخرجه الملك ويكون على ما كان عليه ، ) وأمّا الآخَرُ فَيُصْلَب ( وأمّا السلال الثلاث التي رآها فإنّها ثلاثة أيّام ، يبقى في السجن ثمّ يخرجه الملك ( في ) اليوم الرابع فيصلبه ، فتأكل الطير من رأسه .
قال ابن مسعود : لمّا سمعا قول يوسف قالا : ما رأينا شيئاً إنّما كنا نلعب ، فقال يوسف ( عليه السلام ) : ) قُضِيَ الأمرُ الذي فِيْه تَسْتَفْتِيان ( أي فُرغ من الأمر الذي عنه تسألان ، ووجب حكم الله عليكما بالذي أخبرتكما به .
معلّى بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين العقيلي قال : سمعتُ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إنّ الرؤيا على رجل طائر ما لم تُعبر فإذا عُبِّرت وقعت ، وإنّ الرؤيا جزء من ستة و أربعين جزءً من النبوة ، فأحسبه قال : لا تقصّه إلاّ على ذي رأي ) .
وأخبرنا عبدالله بن حامد عن إسماعيل بن محمد عن الحسن بن علي بن عفان عن ابن نمير
(5/224)
" صفحة رقم 225 "
عن الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الرؤيا لأول عابرة ) .
يوسف : ( 42 ) وقال للذي ظن . . . . .
) وقال ( يوسف عند ذلك ، ) للذِي ظَنّ ( علم ، ) أنّه ناج منهما ( وهو الساقي ، هذا قول أكثر المفسّرين ، وفسّره قتادة على الظن الذي هو خلاف اليقين ، وقال : إنّما عبارة الرؤيا بالظنّ ويخلق الله ما يشاء ، والقول الأوّل أولى وأشبه بحال الأنبياء ، ) اذْكُرْني عِنْدَ رَبِّك ( سيّدك يعني الملك ، وقيل له : إنّ في السجن غلاماً محبوساً ظُلماً ) فأنساهُ الشيطانُ ذِكْرَ ربّه ( يعني أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه عزّ وجل حتى ابتغى الفرج من غيره واستعان بالمخلوق ، وتلك غفلة عرضت ليوسف من قبل الشيطان ، ونسي لهذا ربّه عزّ وجلّ الذي لو به استغاث لأسرع خلاصه ولكنّه ( غفل ) وطال من أجلها حبسه .
وقال محمد بن إسحاق : الهاء راجعة في قوله ) أنساه الشيطان ( إلى الساقي فنقول : أنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف للملك وعلى هذا القول يكون معنى الآية : فأنساه الشيطانُ ذكره لربه كقوله : خوف ) يُخَوِّف أوْلِياءه ( أي يخوّفكم بأوليائه .
) فَلَبِثَ ( مكث ، ) في السجْنِ بِضْعَ سِنِيْن ( اختلف العُلماء في معنى بضع فقال أبو عُبيدة : هو ما بين الثلاثة إلى الخسمة ، ومجاهد : ما بين الثلاث إلى التسع ، الأصمعي : ما بين الثلاث إلى التسع ، وابن عباس : ما دون العشرة ، وزعم الفرّاء أنّ البضع لا يذكر إلاّ مع العشرة والعشرين إلى التسعين ، وهو نيف ما بين الثلاثة إلى التسعة ، وقال : كذلك رأيتُ العرب تعمل ولا يقولون : بضع ومائة ولا بضع وألف ، وإذا كانت للذكران قيل : بضعة ، وأكثر المفسّرين على أنّ البضع في هذه الآية سبع سنين ، قال وهب : أصاب أيوب ( عليه السلام ) البلاء سبع سنين ، وتُرك يوسف في السجن سبع سنين ، وعذّب بخت نصّر فحُوِّل في السباع سبع سنين .
روى يونس عن الحسن قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رحم الله يوسف ، لولا كلمته ما لبث في السجن طول ما لبث ) ، يعني قوله : ) اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّك ( قال : ثمّ بكى الحسن وقال : نحن إذا نزل بنا أمر نزعنا إلى الناس ، وقال مالك بن دينار : لما قال يوسف للساقي : اذكرني عند ربّك ، قيل له : يا يوسف اتّخذتَ من دوني وكيلا لأطيلنّ حبسك ، فبكى يوسف ( عليه السلام ) وقال : يا ربّ إننّي رابني كثرة الطوى فقلت كلمة ، فويلٌ لأخوتي .
وحُكي أنّ جبرئيل دخل على يوسف ( عليهما السلام ) ، فلمّا رآه يوسف عرفه وقال : يا أخا
(5/225)
" صفحة رقم 226 "
المنذرين ما لي أراك بين الخاطئين ؟ ، ثمّ قال له جبرئيل : يا طاهر الطاهرين ، يقرأ عليك السلام ربّ العالمين ويقول : مالَكَ ؟ أما استحييت منّي إذ استغثت بالآدميين ؟ ، فوعزّتي لألبثنّك في السجن بضع سنين ، قال يوسف : وهو في ذلك عليّ راض ؟ قال : نعم ، قال إذاً لا أُبالي .
وقال كعب : قال جبرئيل ليوسف : إنّ الله تعالى يقول : من خلقك ؟ قال : الله ، قال : فمن حبّبكَ إلى أبيك ؟ قال : الله ، قال فمن أنيسك في البئر إذ دخلته عريان ؟ قال : الله ، قال : فمن نجّاك من كُرب البئر ؟ قال : الله ، قال : فمن علّمك تأويل الرؤيا ؟ قال : الله ، قال فكيف استشفعت بآدمي مثلك ؟
يوسف : ( 43 ) وقال الملك إني . . . . .
فلمّا انقضت سبع سنين ، قال الكلبي وهذه السبعة سوى الخمسة التي كانت قبل ذلك ولمّا دنا فرج يوسف رأى ملك مصر الأكبر رؤياً عجيبة هائلة وذلك أنّه رأى ، ) إنّي أرى سَبْعَ بَقَرَات سِمان ( خرجن من نهر يابس وَسَبْعُ بَقَرَات عِجَاف أيّ مهازيل فابتلعت العجاف السمان ، أكلنهنّ حتى أتين عليهنّ فلم يُرَ منهنّ شيئاً ، وَأَرَى سَبْع سُنْبُلات خُضْر قد انعقد حبّها وسبعاً أُخَر يَابِسَات قد استحصدت وأفركت والتفّت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها ، فجمع السحرة والكهنة والحازة والقافة وقصّها عليهم وقال : ) يا أَيُّها المَلأ ( أي الأشراف ) أَفْتُوْنِي فِي رُؤيْاي ( فا عبروها ، ) إِنْ كُنْتُم لِلرُّؤْيَا تَعْبُرون ( تفسّرون ، والرؤيا : الحلم وجمعها رؤى .
يوسف : ( 44 ) قالوا أضغاث أحلام . . . . .
) قَالُوا أَضْغَاثُ أحْلام ( أي أحلام مختلطة مُشتبهة ، أهاويل بأباطيل ، واحدها ضغث ، وأصله الحزمة من الزرع والحشيش ، قال الله تعالى ) وخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً ( قال ابن مقبل :
خُود كأنّ فراشها وضعت
أضغاث ريحان غداه شمال
وقال آخر :
بحُمى ذمار حين قلّ مانعه
طاو كضغث الخلا في البطن مُكتمنِ
والأحلام جمع الحُلم وهو الرؤيا والفعل منه حُلمتُ وأحلمُ ، بفتح العين في الماضي ، وحلمتها في الغابرة لها وحُلماً فعاد فحذف يا من حالم .
) وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين 2 )
يوسف : ( 45 ) وقال الذي نجا . . . . .
) وقالَ الَّذِي نَجا ( من القتل ، منهما : من الفتيين وهو الساقي ، ) وَادّكَرَ ( : أي وتذكر حاجة يوسف قوله : ) واذكُرْنِي عِنْدَ ربّكَ ( ، ) بعد أمّة ( : بعد حين ، قراء ابن عباس وعكرمة والضحّاك ( بعد أَمَة ) أي بعد نسيان ويُقال أَمَة ، يأمَهُ ، أمَهاً ، إذا نسي ، ورجل ( ماهو ) أي ذاهب العقل .
وأنشد أبو عبيدة
(5/226)
" صفحة رقم 227 "
أمِهتُ وكنت لا أنسى حديثاً
كذاك الدّهر يودي بالعقول
وقرأ مجاهد : أمْه ، بسكون الميم وفتح الألف وهاء لخالصة ، وهو مثل الأمه أيضاً وهما لغتان ومعناهما النسيان ، ) أنا أنُبِّئَكُم بِتأوِيْلِهِ ( : أخبركم بتفسيره وما ترون ) فأرْسِلون ( : فأطلقوني ، وأذنوا لي أمضي وأتكم بتأويله وفي الآية أختصار تقديرها فأرسلون ، فأتي السجن ، قال ابن عباس لم يكن السجن في المدينة ) فقال }
يوسف : ( 46 ) يوسف أيها الصديق . . . . .
) يوسف ( يعني يا يوسف ، ) أيّها الصدّيق ( : فيما عبّرت لنا من الرؤيا والصدّيق الكثير الصديق ولذلك سُمّي أبو بكر صدّيقاً ، وفعيّل للمبالغة والكثرة مثل الفسيّق والضليل والشريب والخمير ونحوها .
) أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَرَات سِمَان ( : الآية فإنّ الملك رأى هذه الرؤيا .
) لَعَلِّي أَرْجِعُ إلى الناسِ ( أهل مصر ، ) لعلّهم يَعْلَمُون ( ، تأويلها ، وقيل : لعلّهم يعلمون فضلك وعلمك ، فقال لهم يوسف مُعلّماً ومعبّراً : أمّا البقرات السمان والسنبلات الخضر فسبع سنين مخصبات ، والبقرات العجاف والسنبلات اليابسات السنون المهولة المجدبة ،
يوسف : ( 47 ) قال تزرعون سبع . . . . .
وذلك قوله تعالى : ) تَزْرَعُونَ سبعَ سِنِيْنَ دَأَبَاً ( أي كعادتكم ، وقال : بعضهم أراد بجدَ و واجتهاد وقرأ بعضهم دأباً بفتح الهمزة وهما لغتان ، يقال دبت في الأمر أدأب دأباً ودأَبَاً إذا اجتهد ، قال الفرّاء : وكذلك كلّ حرف فُتح أوّله وسكن ثانية فتثقيله جائز إذ كان ثانيه همزة أو عيناً أوحاء أو خاء أو هاء .
) فمَا حَصَدْتُم فَذَرُوْهُ فِي سُنْبُلِهِ ( في ( بذره ) ) إلاّ قَليلا ممّا تأكُلون ( وإنّما أشار عليهم بذلك بذلك ليبقى ولا يفسد ،
يوسف : ( 48 ) ثم يأتي من . . . . .
) ثُمّ يأتِي بَعْدَ ذِلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ ( يعني سبع سنين جدد بالقحط ) يأكُلْنَ ما قدّمْتُمْ لَهُنّ ( يعني يُؤكل ، فيهنّ ما أعددتم لهنّ من الطعام في السنين الخصبة ، وهذا كقول القائل :
نهارك يا مغرور سهوٌ وغفلة
وليلك نومٌ والردى لك لازمُ
والنهار لا يسهو والليل لا ينام ، وإنّما يُسهى في النهار ويُنام في الليل . ) إلاّ قليلا ممّا تُحصنون ( أي : تخزنون وخزنون وتدّخرون .
يوسف : ( 49 ) ثم يأتي من . . . . .
) ثمّ يأتِي بَعْدَ ذلِكَ عامٌ ( وهذا خبر من يوسف ( عليه السلام ) عمّا لم يكن في رؤيا الملك ، ولكنّه من علم الغيب الذي آتاه الله عزَّ وجلَّ ، كما قال قتادة : زاده الله علم سنة لم يسألوه عنها ، فقال : ) ثُمّ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ عَامٌ فِيْهِ يُغاثُ الناس ( أي يمطرون بالغيث وهو المطر ، وقيل : يُغاثون ، من قول العرب استغثتُ بفلان وأغاثني ، ) وفيهِ يَعْصِرُون ( قرأ أهل الكوفة إلاّ
(5/227)
" صفحة رقم 228 "
عاصماً تعصرون ، بالتاء لأنّ الكلام كلّه بالخطاب ، وقرأ الباقون بالياء ردّاً إلى الناس ، قال أكثر المفسّرين يعصرون العنب خمراً ، والزيتون زيتاً ، والسمسم دُهناً ، وإنّما أراد بعض الأعناب والثمار والحبوب كثرة النعم والخير ، وروى الفرج بن فضالة عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : تعصرون تحلبون ، وقال أبو عبيدة : ينجون من الجدب والكرب ، والعصر : المنجى والملجأ ، وقال أبو زبيد الطائي :
صادياً يستغيثُ غير مُغاث
ولقد كان عصرة المنجود
وأخبرني أبو عبدالله بن فنجويه الدينوري ، أبو علي بن حبش المقرئ ، أبو القاسم بن الفضل المقرئ ، حدّثني أبو زرعة ، حدّثني حفص بن عمر ، حدّثني أبو جميلة عن عيسى بن عُبيد قال : سمعتُ عيسى بن الأعرج يقرأها فيهِ يُغاثُ الناسُ وفيهِ يُعْصِرُون ، برفع الياء قال : قلت : ما يُعصرون ؟ قال : المطر أي تمطرون وقرأ ) وأَنْزَلْنَا مِن المُعْصِراتِ ماءً ثَجّاجاً ( .
) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآئِنِ الاَْرْضِ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ وَكَذاَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الاَْرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلاََجْرُ الاَْخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ( 2
يوسف : ( 50 ) وقال الملك ائتوني . . . . .
) وَقَالَ المَلِكُ ائْتُوْنِي بِهِ ( الآية ، وذلك أن بنو لمّا رجع إلى الملك وأخبره بما أفتاه به يوسف من تأويل رؤياه كالنهار ، وعرف الملك أنّ الذي قال كائن ، قال : ائتوني بالذي عبر رؤياي هذه ، ) فلمّا جاءَهُ الرسول ( يوسف ، وقال له : أخبر الملك أبى أن يخرج مع الرسول حتى يُظهر عذره وبراءته ويعرف صحة أمره من قبل النسوة ) فقال ( للرسول ) ارْجِعْ إلى رَبِّك ( أيّ سيّدك يعني الملك ) فاسأله ما بالُ النسوةِ اللاتي قطّعنَ أيْدِيَهُنّ ( والمرأة التي سجنت بسوء فعلها وروى عبدالحميد بن صباح البرجمي ومحمد بن حبيب الشموني عن أبي بكر بن عباس عن عاصم قرأ النسوة بضمّ النون .
) إنَّ رَبِّي بِكَيْدِهنّ عَلِيْم ( إنّ الله تعالى بصنيعهنّ عالم ، وقيل : معناه : إنّ سيدي قطفير العزيز عالم ببراءتي ممّا ترميني به المرأة .
قال ابن عباس : فأخرج يوسف يومئذ قبل أن يسلّم الملك لشأنه ، فمازالت في نفس العزيز منه شيء يقول : هذا الذي راود امرأتي ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لَقَد عَجبتُ من يوسف وكرمه وصبره ، والله يغفر له حين سُئل عن البقرات العجاف والسمان ، ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى
(5/228)
" صفحة رقم 229 "
اشترط أن يخرجوني ، ولقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حتى أتاه الرسول فقال ارجع إلى ربّك ، ولو كنتُ مكانه ولبث في السجن ما لبثت لأسرعت الإجابة ولبادرتهم الباب ، وما ابتغيت الغفران كان حليماً ذا أناة ) .
يوسف : ( 51 ) قال ما خطبكن . . . . .
) قال ما خَطْبُكُنَّ ( : الآية ، في الكلام متروك قد استُغني عنه ( يدلّ ) الكلام عليه ، وهو : فرجع الرسول إلى الملك من عند يوسف برسالة ، فدعا الملك النسوة اللاتي قطّعنَ أيديهنّ وامرأة العزيز فقال لهنّ : ما خطبكنّ : ما شأنكنّ وأمركنّ ) إذْ راوَدْتُنّ يوسف عن نَفْسِه ( ، فأحبنه ) فقُلن حاشَ لله ( معاذ الله ، ) ما عَلِمنا عليه من سوء قالت امرأهُ العزيز الآن حَصْحَصَ الحقّ ( أيّ ظهر وتبيّن والأصل فيه : حصّ وقيل : حصّص ، كما قيل : كبكبوا في كبوا ، وكفكف في كفّ ، وردد في ردّ ، وأصل الحَص استئصال الشيء ، يقال حصَّ شعره إذا استأصله جَزّاً ، وقال أبو قيس ابن الأصلت :
قد حصّت البَيضة رأسي فما
أطعم نوماً غير تهجاع
وتعني بالآن حصحص الحقّ : ذهب الباطل والكذب وانقطع وتين الحق فظهر وبهر ) أنا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِه ( فتنتُه عن نفسه ، ) وإنّه لَمِنَ الصادقين ( في قوله : ) هي راودتني ( .
يوسف : ( 52 ) ذلك ليعلم أني . . . . .
فلمّا سمع ) ذلك ( يوسف ، قال : ليعلم ذلك الذي ( مضى ) من ردّي رسول الملك في شأن النسوة ) ليعلم ( العزيز .
) أنّي لَمْ أَخُنْهُ ( في زوجته ) بالغيب ( في حال غيبتي عنه ) وأنّ اللهَ لا يهدي كَيْدَ الخائنين ( واتّصل قول يوسف : ) ذلكَ ليَعْلَمَ أنّي لم أَخُنْهُ بالغَيْب ( بقول المرأة : ) أنا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِه ( من غير تبيين ، وفرّق بينهما لمعرفة السامعين معناه ، كاتّصال قول الله تعالى : ) وكَذَلِكَ يَفْعَلون ( بقول بلقيس : ) وَجَعَلوا أَعِزَّة أَهْلِها أذِلَّة ( وكذلك قول فرعون لأصحابه : ) فماذا تأمرون ( وهو متّصل بقول الملأ : ) يُريد أَنْ يُخْرِجُكُم مِن أرْضِكُم بِسِحْره ( .
روى أبو عُبيدة عن الفراء أنّه قال هذا من أغمض ما يأتي في الكلام أنّه حكى عن رجل شيئاً ثمّ يقول في شيء آخر من قول رجل آخر لم يجر له ذكر .
وحدّثنا الحسين بن محمد بن الجهمين ، عبدالله بن يوسف بن أحمد بن علي قال : حدّثنا علي بن الحسين بن مجلز ، قال الحسن بن علي البغدادي ، خلف بن تيم عن عطاء بن مسلم عن
(5/229)
" صفحة رقم 230 "
الخفاف عن جعفر بن نوفان عن ميمون بن مهران عن عبدالله بن عمر أنّ علي بن أبي طالب أتى عثمان وهو محصور فأرسل إليه بالسلام وقال إنّي قد جئتُ لأنصرك فأرسل إليه بالسلام وقال : جزاك الله خيراً ، لا حاجة في قتال القوم ، فأخذ عليّ عمامته عن رأسه ، فنزعها فألقاها في الدار ثمّ ولّى وهو يقول ) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الخائِنِيْن ( .
قال أهل التفسير : لما قال يوسف هذه المقالة قال له جبرئيل : ولا حين هممت بها ؟ فقال عند ذلك يوسف
يوسف : ( 53 ) وما أبرئ نفسي . . . . .
) وما أُبَرِّئ نَفْسِي ( من الخطأ والزلل فاركبها ، ) إنّ النفسَ لأمّارةٌ بالُّسوْءِ ( بالمعصية ) إلاّ ما رَحِمَ رَبِّي ( يعني إلاّ من رحمه ربي فعصم ، و ) ما ( بمعنى مَن كقوله تعالى ) فانْكحوا ما طابَ لَكُم من النساءِ ( أي مَن طاب ، وقوله إلاّ استثناء منقطع عمّا قبله كقوله تعالى : ) ولا هُم يُنْقَذُوْنَ إلاّ رَحْمَةً مِنّا ( يعني إلاّ أن يُرحموا ، فإنّ إذا كانت في معنى المصدر تضارع ما .
) إنّ ربّي غَفُورٌ رَحِيْم ( ، فلمّا تبيّن للملك ( حق ) يوسف وعرف أمانته وعلمه ،
يوسف : ( 54 ) وقال الملك ائتوني . . . . .
قال : ) ائْتُوْنِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ( أجعله خالصاً لي دون غيره ، فلمّا جاء الرسول يوسف قال له : أجب الملك ، الآن ، فخرج يوسف ودعا لأهل السجن بدعوة تعرف إلى اليوم وذلك أنّه قال : اللهمّ اعطف عليهم بقلوب الأخيار وأنعم عليهم الأخبار ، فهم أعلم الناس بالأخبار في كّل بلدة ، فلمّا خرج من السجن كتب على باب السجن : ( هذا قبر الأحياء وبيت الأحزان وحرقة الأصدقاء وشماتة الأعداء ) ، ثمّ اغتسل يوسف ( عليه السلام ) وتنظّف من قذر السجن ، ولبس ثياباً جدداً حساناً ، وقصد الملك .
قال وهب : فلمّا وقف بباب الملك قال ( عليه السلام ) : حسبي ربي من دُنياي ، وحسبي ربّي من خلقه ، عزّ جاره ، وجلّ ثناؤه ولا إله غيره .
ثمّ دخل الدار ، فلمّا دخل على الملك قال : اللهمّ إنّي أسألك عزّك من خيره ، وأعوذ بك من شرّه وشرّ غيره ، فلمّا نظر إليه الملك سلّم عليه يوسف بالعربية ، فقال له : الملك ، ما هذا اللسان ؟ قال : لسان عمّي اسماعيل ، ثمّ دعا له بالعبرانية ، فقال له الملك : ما هذا اللسان ؟ قال : لسان آبائي .
قال وهب : وكان الملك يتكلّم بسبعين لساناً ، فكلّما كلّم يوسف بلسان أجابه يوسف بذلك اللسان ، فأجابه الملك ، فأعجب الملك ما رأى منه ، وكان يوسف يومئذ ابن ثلاثين سنة ، فلمّا رأى الملك حداثة سنة ، قال لمن عنده : إنّ هذا علم تأويل رؤياي ولم يعلمه السحرة والكهنة
(5/230)
" صفحة رقم 231 "
ثمّ أجلسه على سريره ، وقال له : إنّي أحبّ أن أسمع رؤياي منك شفاهاً ، فقال له يوسف : نعم ، أيّها الملك ، رأيت سبع بقرات سمان شهب غرّ حسان ، كشف لك عنهنّ النيل وطلعن عليك من شاطئه تشخب أخلافهنّ لبناً ، فبينا أنت تنظر إليهنّ وتتعجّب من حسنهنّ إذ نضب النيل فغار ماؤه وبدا يبساً ، فخرج من حمأته ووحله سبع بقرات عجاف شُعث غُبر مقلّصات البطون ، ليس لهُنّ ضروع ولا أخلاف ، ولهنّ أنياب وأضراس وأكفّ كأكف الكلاب وخراطيم كخراطيم السباع ، فاختلطن بالسمان فافترسنهنّ افتراس السبع ، فأكلن لحومهنّ ومزّقنَ جلودهنّ وحطّمن عظامهنّ وتشمشن مخّهنّ .
فبينا أنت تنظر وتتعجّب وإذا بسبع سنابل خضر وسبع أُخر سود في منبت واحد عروقهنّ في الثرى والماء ، فبينا أنتَ تقول في نفسك : أنّى هذا ؟ هؤلاء خضر مثمرات وهؤلاء سود يابسات والمنبت واحد ، وأصولهنّ في الماء إذ هبّت ريح فذرّت الأوراق من اليابسات السود على الخضر المثمرات فاشتعلت فيهنّ النار فاحرقتهنّ وصرنَ سوداً متغيّرات .
فهذا آخر ما رأيت من الدنيا ثمّ انتبهت من نومك مذعوراً ، فقال الملك : والله ما شأن هذه الرؤيا وإن كانت عجباً بأعجب ممّا سمعته منك ، فما ترى في رؤياي أيّها الصدّيق ؟ فقال يوسف : أرى أن تجمع الطعام ، وتزرع الزرع الكثير في هذه السنين المخصبة وتبني ( الأهواء ) والخزائن ، فتجعل الطعام فيها بقصبه وسنبله ليكون قصبه وسنبله علفاً للدواب ، وتأمر الناس فيرفعون من طعامهم الخمس فيكفيك من الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها ، وتأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك ، ويجتمع عندك من الكنوز مالم يجتمع لأحد قبلك ، فقال الملك : ومن لي بهذا ومن يجمعه و ( يبيعه ) ويكفي الشغل فيه ؟
يوسف : ( 55 ) قال اجعلني على . . . . .
فقال : يوسف ) اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنُ الأرْضِ ( مجاز الآية : على خزائنّ أرضك وهي جمع الخزانة فدخلت الألف واللام خلفاً من الإضافة ، كقول النابغة : والأحلام غيرُ كواذب .
) إنّي حَفِيْظٌ عَلِيْمٌ ( : كاتب حاسب ، قتادة : حفيظ لما وليت ، علهم بأمره ، ابن اسحاق : حفيظ لما استودعتني ، عليمٌ بما وليّتني ، شيبة الضبي : حفيظ لما استودعتني وعليمٌ بسنيّ المجاعة ، الأعشى : حافظ للحساب عليم بالألسن أعلم لغة من سألني ، الكلبي : حفيظ التقدير في هذه السنين الجدبة ، عليمٌ بوقت الجوع متى يقع ، وقيل : حفيظ لما وصل إليّ عليم بحسابة المال ، فقال له الملك : ومَن أحقّ به منك ؟ فولاّه ذلك ، وَقَالَ لَهُ : ) إنَّكَ اليَوْمَ لدَيْنا مَكِيْنٌ أمِيْنٌ ( ذو مكانة ومنزلة ، أمين على الخزائن ، روى جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس أنّه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رحم الله أخي يوسف لو لم يقل : اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكنّه أخّر ذلك سنة فأقام عنده في بيته سنة مع الملك
(5/231)
" صفحة رقم 232 "
روى سفيان عن أبي سنان عن عبدالله بن أبي الهذيل ، قال : قال الملك ليوسف : إنّي أُريد أن تخالطني في كلّ شيء غير أنّي آنف أن تأكل معي ، فقال يوسف ( عليه السلام ) : أنا أحقّ أن آنف ، أنا ابن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله ، فكان يأكل بعدئذ معه .
روى حمزة الريّان عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة ، قال : لما رأى العزيز رأي يوسف وظرفه دعاه وكان يتغدّى ويتعشى معه دون غلمانه ، فلمّا كان بينه وبين المرأة ما كان ، قالت له مرّة : فليتغدّ مع الغلمان ، فقال : اذهب فتغدّ مع الغلمان فقال له يوسف في وجهه استنكفتَ أن تأكل معي ، أنا والله يوسف بن يعقوب نبي الله ابن إسحاق ذبيح الله إبن إبراهيم خليل الله .
روى مقاتل عن يحيى بن أبي كثير أنّ عمر بن الخطاب عرض على أبي هريرة الإمارة فقال : لا أفعل ولا أريدها سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( من طلب الإمارة لم يعدل ) فقال عمر : لقد طلب الإمارة من هو خير منك ، يوسف ( عليه السلام ) ، قال : اجعلني على خزائن الأرض .
روى بن اسحاق عن الضحاك عن ابن عباس قال : لما انصرمت السنة من يوم سأل الإمارة دعاه الملك فتوَّجَهُ ورَدَّأُهُ سيفه ، ووضع له سريراً من ذهب ، مكلّلا بالدرّ والياقوت ، وضرب عليه حلّة من استبرق ، وكان طول السرير ثلاثين ذراعاً وعرضه عشرة أذرع ، عليه ثلاثون فراشاً وتسعون مرفقة ، ثمّ أمره أن يخرج فخرج متوّجاً ، لونه كالثلج ووجهه كالقمر ، يرى الناظر وجهه في صفاء لون وجهه ، فانطلق حتى جلس على السرير ودانت له الملوك ، ودخل الملك بيته مع نسائه ، وفوّض إليه أمر مصر ، وعزل قطفير عمّا كان عليه وجعل يوسف مكانه .
قال ابن اسحاق : قال ابن زيد : وكان لفرعون ملك مصر خزائن كثيرة غير الطعام ، فسلّم سلطانه كلّه إليه ، وجعل أمره وقضاءه نافذاً ، ثمّ أنّ قطفير هلك في تلك الليالي فزوّج الملك يوسف راحيل إمرأة قطفير ، فلمّا دخل عليها قال : أليس هذا خيراً مما كنتِ تريدين ؟ فقالت : أيّها الصدّيق لا تلمني فإنّي كنتُ امرأة حسناء ناعمة كما ترى ، في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء ، وكنتَ كما جعلك الله في حُسنك وهيئتك فغلبتني نفسي ، فوجدها يوسف عذراء فأصابها فولدت له رجلين : أفرائيم بن يوسف ومنشا بن يوسف .
واستوسق ليوسف ملك مصر وأقام فيهم العدل فأحبّه الرجال والنساء
يوسف : ( 56 ) وكذلك مكنا ليوسف . . . . .
فذلك قوله تعالى : ) وكذَلِكَ مَكَّنا لِيُوسُفَ في الأرض ( يعني أرض مصر : أي مكّناه ) يتَبَوَّأ مِنْها ( أين نزل ) حَيْثُ يَشَاء ( : ويصنع فيها ما يشاء ، والبواء المنزل يقال : بوّأته فتبوّأ ، وقرأ أهل مكّة : حيث نشاء بالنون ردّاً على قوله مكّنا وبعده ، ) نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَن نَشاء ( أي بنعمتنا .
(5/232)
" صفحة رقم 233 "
) ولانضيع أجر المحسنين ( قال ابن عباس ووهب : يعني الصابرين كصبره في البئر ، وصبره في السجن وصبره في الرق ، وصبره عما دعته اليه المرأة ، قال مجاهد وغيره : فلم يزل يدعو ويتلطف له حتى أسلم الملك وكثير من الناس فهذا في الدنيا
يوسف : ( 57 ) ولأجر الآخرة خير . . . . .
) ولأجر الآخرة ( ( نعيم ) الآخرة ) خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ( قال البحتري :
أما في رسول الله يوسف أسوة
لمثلك محبوساً ( . . . . )
أقام جميل الصبر في الحبس برهة
فآلَ به الصبرُ الجميلُ إلى الملك
وكتب بعضهم إلى صديق له :
وراء مضيق الخوف مُتّسعُ الأمنِ
وأوّل مفروح به آخر الحُزن
فلا تيأسَنْ فالله مَلَّك يوسفاً
خزائنه بعد الخلاص من السجن
( ) وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِى بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّىأُوفِى الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى وَلاَ تَقْرَبُونِ قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِى رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انْقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ ياأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَاحِمِينَ وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ ياأَبَانَا مَا نَبْغِى هَاذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذالِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّآ ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ وَقَالَ يابَنِىَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَآ أُغْنِى عَنكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِى عَنْهُمْ مِّنَ اللَّهِ مِن شَىْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَىإِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّىأَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِى رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ مَّاذَا تَفْقِدُونَ ( 2
قالوا
(5/233)
" صفحة رقم 234 "
يوسف : ( 58 ) وجاء إخوة يوسف . . . . .
فلمّا أطمأنّ بيوسف ملكه دخلت السنون المخصبة ، ودخلت السنون المجدبة أصاب الناس الجوع وجاءت تلك السنون ( . . . . . . . ) وكان ابتداء القحط ، بينا الملك ذات ليلة أصابه الجوع نصف الليل ، وهتف الملك : يا يوسف الجوع الجوع فقال : هذا أوّل القحط ، فلمّا دخلت السنة الأُولى من سنيّ الجدب هلك فيها كلّ شيء أعدّوه في السنين المخصبة ، فجعل أهل مصر يبتاعون الطعام من يوسف ، فباعهم أوّل سنة بالنقود حتى لم يبق في مصر دينار ولا درهم إلاّ قبضه ، وباعهم في السنة الثانية بالحُليّ والجواهر حتى لم يبق في أيدي الناس منها شيء ، وباعهم بالسنة الثالثة بالمواشي والدواب حتى احتوى عليها أجمع ، وباعهم بالسنة الرابعة بالعبيد والإماء حتى لم يبق عبد ولا أَمَة في يد أحد منهم ، ثمّ باعهم السنة الخامسة بالضياع والعقار والدور حتى احتوى عليها ، وباعهم السنة السادسة بأولادهم حتى استرقّهم ، وباعهم السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر حر ولا حُرّة إلاّ صار عبداً له ، حتى قال الناس : تالله ما رأينا كاليوم ملكاً أجلّ ولا أعظم من هذا ، ثمّ قال يوسف لفرعون كيف رأيت صنيع ربّي فيما خوّلني ، فما ترى لي ؟ قال الملك : الرأي رأيك ، وإنّما نحن لك تبع ، قال : فإنّي أشهد وأشهدك أنّي أعتقتُ أهل مصر عن آخرهم ورددتُ عليهم أموالهم وأملاكهم .
وروي أنّ يوسف ( عليه السلام ) كان لا يشبع من طعام في تلك الأيّام ، فقيل له : تجوع وبيدك خزائن الأرض ، فقال : أخاف أن شبعتُ أن أنسى الجائع ، وأمر يوسف أيضاً طباخي الملك أن جعلوا الغداة نصف النهار ، وأراد بذلك أن يذوق الملك طعم الجوع فلا ينسى الجائعين ، ويُحسن إلى المُحتاجين ، ففعل الطهاة ذلك ، ومن ثمّ جعلت الملوك غداءهم نصف النهار .
قالوا : وقصد الناس مصر من كلّ حدب يمتارون ، فجعل يوسف لا يمكّن أحداً منهم وإن كان عظيماً بأكثر من حمل بعير تقسيطاً بين الناس وتوسّعاً عليهم ، وتزاحم الناس عليه ، قالوا : وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام من القحط والشدّة ما أصاب سائر البلاد ، ونزل بيعقوب ما نزل بالناس فأرسل بنيه إلى مصر للميرة ، فأمسك بنيامين أخا يوسف لأُمّه فذلك قوله تعالى : ) وجاء إخْوَةُ يُوسُف ( وكانوا عشرة ، وكان منزلهم بالقربات من أرض فلسطين ثغور الشام ، وكانوا أهل بادية وإبل وشاة ) فَدَخَلُوا عليه فَعَرِفَهُم ( يوسف وأنكروه لما أراد الله أن يبلغ يوسف فيما أراد .
قال ابن عباس : وكان بين أن قذفوه في البئر وبين أن دخلوا مصر أربعين سنة فلذلك أنكروه وقيل : إنّه كان مُتّزياً بزيّ فرعون مصر ، عليه ثيات حرير ، جالس على سريره ، وفي عنقه طوق من ذهب ، وعلى رأسه تاج ، فلذلك لم يعرفوه ، وكان بينه وبينهم ستر ولذلك لم يعرفوه .
(5/234)
" صفحة رقم 235 "
قال بعض الحكماء : المعصية تورث الكبرة ، قال الله تعالى : ) فعَرِفَهُم وهُمْ لَهُ مُنْكِرُون ( فلمّا نظر إليهم يوسف وكلّموه بالعبرانية ، قال لهم : أخبروني من أنتم ؟ وما أمركم ؟ فإنّي أنظر شأنكم ، قالوا : نحنُ قومٌ من أهل الشام رُعاة أصابنا الجهد فجئنا نمتار ، قال : لعلّكم عيون تنظرون عورة بلادي ، قالوا : والله ما نحن جواسيس وإنّما نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ صدّيق يُقال له : يعقوب ، نبي من أنبياء الله ، قال : وكم أنتم ؟ .
قالوا : كُنّا إثني عشر فذهب أخٌ لنا إلى البريّة فهلك فيها ، وكان أحبّنا إلى أبينا ، فقال : فكم أنتم ها هنا ، قالوا : عشره ، قال : فأين الآخر ؟ قالوا : عند أبينا لأنّه أخ الذي هلك من أُمّه ، وأبونا يتسلّى به ، قال : فمن يعلم أنّ الذي تقولون حقّ ؟ قالوا : أيّها الملك إنّا ببلاد لا يعرفنا أحد ، قال يوسف : فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم إن كنتم صادقين ، فأنا أرضى بذلك .
قالوا : إنّ أبانا يحزن على فراقه وسنراوده عنه وإنّا لفاعلون ، قال : فدعوا بعضكم عندي رهينة حتى تأتوني بأخيكم فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأياً في يوسف وأبرّهم به فخلّفوه عنده ، فذلك قوله تعالى :
يوسف : ( 59 ) ولما جهزهم بجهازهم . . . . .
) ولما جهزهم بجهازهم ( يعني حمل لكل رجل منهم بعيراً بعدّتهم ، ) قَالَ ائْتُوْنِي بِأَخ لَكُمْ مِنْ أَبِيْكُم ( يعني بنيامين ، ) ألا تَرَوْنَ أنّي أُوْفِ الكَيْلَ ( أي لا أبخس الناس شيئاً وأُتمّ لهم كيلهم فأزيد لكم حمل بعير في خراجكم ، وأكرم مثواكم ، وأُحسن إليكم ، ) وأنا خَيْرُ المُنْزِلِين ( المُضيّفين .
يوسف : ( 60 ) فإن لم تأتوني . . . . .
) فإن لَم تأتوني بهِ فلا كيلَ لكم عندي ( ليس لكم عندي طعام أكيله لكم ) وَلاَ تَقْرَبُون ( ولا تقربوا بلادي بعد ذلك ، وهو جزم يدلّ على النهي .
يوسف : ( 61 ) قالوا سنراود عنه . . . . .
) قَالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ ( نطلبه ونسأله أن يُرسله معنا ، قال ابن عباس : سنخدعه حتى نخرجه معنا ، ) وإنّا لفَاعِلُوْن ( ما أمرتُ به .
يوسف : ( 62 ) وقال لفتيانه اجعلوا . . . . .
) وقال يُوسف لِفِتْيانِهِ ( أي لغلمانه الذين يعملون بالطعام ، قرأ الحسن وحميد ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وحفص ، لفتيانه بالألف والنون وهو اختيار أبي عبيدة ، وقال : هي في مصحف عبدالله كذلك ، وقرأ الباقون لفتيته بالتاء من غير ألف وهما لغتان مثل الصبيان والصبية .
) اجْعَلُوا بِضاعتهم ( أي طعامهم ، قال قتادة : أوراقهم ، الضحّاك عن ابن عباس قال : كانت النعل والأدم ، ) في رِحالهم ( في أوعيتهم وهي جمع رحل ، والجمع القليل منه الرحيل ، قال ابن الأنباري : يقال للوعاء : رَحل وللمسكن رحل .
) لَعَلَّهُم يَعْرِفُوْنها إذا انْقَلَبوا ( انصرفوا ، ) إلى أهلهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُوْن ( إليّ واختلف العُلماء في السبب الذي فعل يوسف من أجله ، فقال الكلبي : تخوّف يوسف أن لا يكون عند أبيه من الورق فلا يرجعون مرّة أخرى ، وقيل : خشي أن يضرّ أخذه ذلك منهم بأبيه ؛ إذ كانت السنة سنة
(5/235)
" صفحة رقم 236 "
جدب وقحط ، فأحبّ أن يرجع إليه ، وإنِّما أراد أن يتّسع به أبوه ، وقيل : رأى لو أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته مع حاجتهم إليه فردّه عليهم من حيث لا يعلمون تكرّماً وتفضّلا .
وقيل : فعل لأنّه علم أنّ ديانتهم وأمانتهم تحملهم على ردّ البضاعة ولا يستحلّون إمساكها فيرجعون لأجلها ، وقيل : أبدا لهم كرمه في ردّ البضاعة وتقديم الضمان في البِرّ والإحسان ليكون أدعى لهم إلى العود إليه طمعاً في برّه .
يوسف : ( 63 ) فلما رجعوا إلى . . . . .
) فَلَمّا رَجَعُوا إلى أبِيْهِمْ قالوا يا أبَانَا ( قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة ، لو كان رجلا من ولد يعقوب ما أكرمنا كرامته ، قال لهم يعقوب : إذا أتيتم ملك بمصر فاقرؤوه منّي السلام وقولوا له : إنّ أبانا يُصلّي عليك ويدعو لك بما أوليتنا ، ثمّ قال : أين شمعون ؟ قالوا : إنّه عند ملك مصر وأخبروه بالقصّة ، فقال : ولم أخبرتموه ؟ قالوا : إنّه أخذنا وقال : إنّكم جواسيس عندما كلّمناه بلسان العبرانيين ، وقصّوا عليه القصّة .
) وَقَالُوا يا أَبَانَا مُنِعَ مِنّا الكَيْل فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخَانَا ( بنيامين ) نَكْتَلْ ( قرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي يكتل بالياء يعني يكتل لنفسه هو كما كنّا نكتل نحن ، وقرأ الآخرون بالنون بمعنى نكتل نحن ، واختاره أبو عبيد ) وإنّا لَهُ لَحَافِظُونَ قالَ ( يعقوب ،
يوسف : ( 64 ) قال هل آمنكم . . . . .
) هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إلاّ كَمَا آمَنْتُكُمْ عَلى أخِيْهِ ( يوسف ) من قَبْل فاللهُ خَيْرُ حَافِظاً ( قرأ ابن محصن ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي : حافظاً بالألف على التمييز والتفسير ، كما يُقال : هو خيرٌ رجلا ، ومجاز الآية خيركم حافظاً فحذف الكاف والميم ، ويدلّ عليه أنّها مكتوبة في مصحف عبدالله : والله خيرُ الحافظين .
وقرأ الآخرون حفظاً بغير الألف على المصدر بمعنى خيركم حفظاً واختلفَ فيه عن عاصم ) وهو أرحم الراحمين 2 )
يوسف : ( 65 ) ولما فتحوا متاعهم . . . . .
) وَلَمّا فتحوا مَتاعَهُم ( الذي حملوه من مصر ) وجدوا بضاعَتهم ( ثمن الطعام ) رُدَّت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي ( أي ماذا نبغي ؟ وأي شيء نطلب وراء هذا ؟ أوفى لنا الكيل وردّ علينا الثمن ، أرادوا بذلك أن يُطيّبوا نفس أبيهم ، و ) ما ( استفهام في موضع نصب ويكون معناه جحداً كأنّهم قالوا : لسنا نُريد منك دراهم .
) هذهِ بِضَاعتنا رُدّت إلينا ونَمِيْرُ أهلنا ( ونشتري لهم الطعام فنحمله إليهم ، يقال مار أهله يَمير مَيراً فهو ماير ، إذا حمل إليهم أقواتهم من غير بلده في مثله امتار يمتار امتياراً ، قال الشاعر :
بعثتك مائراً فمكثت حولا
متى يأتي غياثك من تغيثُ
وقال آخر :
(5/236)
" صفحة رقم 237 "
أتى قريةً كانت كثيراً طعامها
كعفر التُراب كل شيء يميرها
) ونَحْفَظُ أَخَانا ( بنيامين ) ونَزْدَادَ ( على أحمالنا ) كيلَ بعير ( لنا من أجله ) ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيْر ( : لا مؤونة فيه ولا مشقّة ، وقال مجاهد : كيل بعير يعني : حمل حمار ، قال : وهي لغة يُقال للحمار بعير ،
يوسف : ( 66 ) قال لن أرسله . . . . .
) قال ( لهم يعقوب : ) لَنْ أُرْسِلُهُ مَعَكُم حتى تُؤْتُونِ ( تعطوني ) مَوْثِقاً مِنَ الله ( يعني تحلفوا لي بحقّ محمّد خاتم النبيين وسيد المُرسلين أن لا تغدروا بأخيكم ) لتأتُنّني بِه ( وإنّما دخلت فيه اللام لأنّ معنى الكلام اليمين ) إلاّ أن يُحاطَ بِكُم ( إلاّ أن تهلكوا جميعاً ، قاله مجاهد ، وقال قتادة : إلاّ أن يُغلبوا حتى لا يطيقوا ذلك .
) فلمّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُم ( أعطوه عهودهم ، وقال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس : حلفوا له بحقّ محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ومنزلته من ربّه ) قال ( يعقوب ) اللهُ على ما نقول وَكِيْلٌ ( أي شاهد وحافظ بالوفاء ، وقال القتيبي : كفيل ، وقال كعب : لمّا قال يعقوب : فالله خيرٌ حافظاً ، قال الله جلّ ذكره : وعزّتي لأردّن عليك كليهما بعدما توكّلت عليّ ، وقال لهم يعقوب لما أرادوا الخروج ( هذا ) ،
يوسف : ( 67 ) وقال يا بني . . . . .
) وقال يا بُنَيّ لا تدخلوا ( مصر ) مِن باب واحد وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَاب مُتَفَرِّقَة ( وذلك أنّه خاف عليهم العين لأنّهم كانوا ذوي جمال وهيئة وصور حسان وقامات ممتدّة ، وكانوا ولد رجل واحد ، وأمرهم أن يفترقوا في دخولها ثمّ ، قال : ) وما أُغْنِي عنْكُم مِنَ الله مِنْ شَيء ( علم ( عليه السلام ) أنّ المقدور كائن ، وأنّ الحذر لا ينفع من القدر ، وما أغني عنكم من الله من شيء ) إنِ الحُكْمُ إلاّ للهِ عَلَيْهِ تَوكّلتُ وعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُوْن ( وإلى الله فليفوّض أمورهم المفوّضون .
يوسف : ( 68 ) ولما دخلوا من . . . . .
) ولمّا دَخَلوا مِنْ حَيْثُ أمَرَهُم أَبُوْهُم ( وكان لمصر أربعة أبواب فدخلوها من أبوابها كلّها ، ) ما كانَ يُغني عَنْهُم مِنَ اللهِ مِنْ شَيء ( صدّق الله تعالى يعقوب فيما قال ) إلاّ حاجَةً ( حزازة وهمّة في نفس يعقوب ) قَضاها ( أشفق عليهم إشفاق الآباء على أبنائهم ) وإنّه ( يعقوب ) لَذُوْ عِلم لِما ( : أي مما ) عَلّمْنَاهُ ( يعني لتعليمنا إيّاه ، قاله قتادة ، وروى سفيان عن ( ابن ) أبي عروة قال : إنّه العامل بما علم ، قال سفيان : من لا يعمل لا يكون عالماً ، وقيل : إنّه لذو حظّ لِما علّمناه .
) ولكنّ أَكْثَرَ الناسِ لا يَعْلَمُوْن ( ما يعلم يعقوب ، أي لا يعرفون مرتبته في العلم .
يوسف : ( 69 ) ولما دخلوا على . . . . .
) ولمّا دَخَلُوا على يُوْسف ( قالوا : هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به ، قد جئناك به فقال لهم : أحسنتم وأصبتم وستجدون ذلك عندي ، ثمّ أنزلهم فأكرم منزلهم ثمّ أضافهم وأجلس كلّ اثنين منهم على مائدة فبقى بنيامين وحيداً ، فبكى وقال لو كان أخي يوسف حيّاً لأجلسني معه ، فقال لهم يوسف ( عليه السلام ) : لقد بقي هذا أخوكم وحيداً ، فأجلسه على مائدته فجعل يُؤاكِله
(5/237)
" صفحة رقم 238 "
فلمّا كان الليل أمرَ لهم بمثل أي فرش ، فقال : لينم كلّ أخوين منكم على مثال ، فلمّا بقي بنيامين وحده ، قال يوسف ( عليه السلام ) : هذا ينام معي على فراشي فبات معه فجعل يوسف يضمّه إليه ويشمّ خدّه حتى أصبح فجعل روبيل يقول : ما رأينا مثل هذا ، فلمّا أصبح قال لهم : إنّي أرى هذا الرجل الذي جئتم به ليس معه ثان فسأضمّه إليّ فيكون منزله معي ، ثمّ أنزلهم ( معه ) ، وأجرى عليهم الطعام والشراب وأنزل أخاه لأمّه معه فذلك ، قوله تعالى : ) آوى إلَيْهِ أخَاه ( فلمّا خلا به قال له : ما اسمك ؟ قال : بنيامين .
قال ابن من يا بنيامين ؟ قال : ابن المثكل ، وذلك أنّه لما ولد هلكت أُمّه ، قال : وما اسمها ؟ قال : راحيل بنت لاوي بن ناحور ، قال : فهل لك بنون ؟ قال : نعم ، عشر بنين وقد اشتققتُ أسماءهم من اسم أخ لي من أُمّي هلك ، قال : لقد اضطرّك إلى ذاك حزن شديد ، قال : فما سمّيتهم ؟ قال : بالعا وأحيرا وأثكل وأحيا وكنر ونعمان وادر وأرس وحيتم وميثم ، قال فما هذه ؟ قال : إما بالعاً فإنّ أخي قد ابتلعته الأرض ، وأما أخيرا فإنّه بكر أبي لأُمّي ، وأمّا أثكل فإنّه كان أخي لأبي وأُمي وسنّي ، وأما كثير فإنّه خير حبيب كان ، وأمّا نعمان فانه ناعمٌ بين أبويه وأمّا أدّر فإنّه كان بمنزلة الورد في الحُسن ، قال : وأما أرس فإنّه كان بمنزلة الرأس من الجسد ، وأما حيتم فأعلمني أنّه حيّ ، وأمّا ميثم فلو رأيته قرّت عيني .
فقال يوسف : أتُحبّ أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك ؟ فقال بنيامين : ومن يجد أخاً مثلك ؟ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل ، فبكى يوسف ( عليه السلام ) وقام إليه وعانقه و ) قالَ ( له : ) إنّي أَنَا أخُوْكَ ( يوسف ) فلا تَبْتَئِس ( فلا تحزن ) بِما كانُوا يَعْمَلُوْنَ ( لشيء فعلوه بنا فيما مضى ؛ فإنّ الله قد أحسن إلينا ولا تُعلمهم شيئاً ممّا علمت .
وقال عبدالصمد بن معقل : سمعت وهب بن منبه وسئل عن قول يوسف لأخيه : ) إنّي أنا أخوكَ ( ، فقيل له كيف آخاه حين أخذ بالصواع وقد كان أخبره أنّه أخوه ، وأنتم تزعمون أنّه لم يزل متنكّراً لهم يكابرهم حتى رجعوا ؟
فقال : إنّه لم يعترف له بالنسبة ولكنّه قال : أنا أخوك مكان أخيك الهالك ، ومثله قال الشعبي ، قال : لم يقل له : أنا يوسف ، ولكن أراد أن يُطيّب نفسه .
ومجاز الآية أي : أنا أخوك بدل أخيك المفقود فلا تبتئس بما كانوا يعملون فلا تشتكِ ولا تحزن لشيء سلف من أخوتك إليك في نفسك وفي أخيك من أُمّك ، وما كانوا يفعلون قبل اليوم بك ، ثمّ أوفى يوسف لإخوته الكيل وحمل لهم بعيراً ، وحمل لبنيامين بعيراً باسمه كما حَمل لهم ، ثمّ أمر بسقاية الملك فجعل في رحل بنيامين ، قال السدّي : جعل السقاية في رحل أخيه ، والأخ لا يشعر .
(5/238)
" صفحة رقم 239 "
قال كعب : لما قال له : إني أنا أخوك قال بنيامين : فأنا لا أفارقك ، قال يوسف ( عليه السلام ) : قد علمتُ ( عنهم ) والدي بي ، فإذا حبستك ازداد غمه ، فلا يمكنني هذا إلاّ أن أُشهرك بأمر وأنسبك إلى ما لا يجمل بك ، قال : لا أُبالي فافعل ما بدا لك فإنّي لا أُفارقك .
قال : فإنّي أدسُّ صاعي هذا في رحلك ثمّ أُنادي عليك بالسرقة لجهازي ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك ، قال : فافعل ، فذلك قوله تعالى
يوسف : ( 70 ) فلما جهزهم بجهازهم . . . . .
: ( فلمّا جهّزَهُم بجهازهم ( أي لما قضى لهم حاجتهم ، ) جَعَل السقاية ( : وهي المشربة التي كان يشرب بها الملك ، قال ابن زيد : وكان كأساً من ذهب فيما يذكرون ، وقال ابن إسحاق : هو شيء من فضّة ، عكرمة : مشربة من فضّة مُرصّعة بالجواهر ، جعلها يوسف مكيلا لئلاّ يكال بغيرها وكان يشرب بها ، سعيد بن جُبير : هو ( المقياس ) الذي يلتقي طرفاه وكان يشرب بها الأعاجم وكان للعباس منها واحدة في الجاهلية ، والسقاية والصواع واحد ، ) في رَحْلِ أَخِيْه ( في متاع بنيامين ، ثمّ ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا ومضوا ثمّ أمر بهم فأُدركوا وحُبسوا .
) ثمّ أذّنَ مُؤَذِّنٌ ( نادى مناد ، ) أيّتها العِيْرُ ( هي القافلة التي فيها الأحمال ، قال الفرّاء : لا يُقال عِير إلاّ لأصحاب الإبل ، وقال مجاهد كانت العِير حميراً .
) إنّكُم لَسَارِقُون ( قفوا ، فوقفوا ، فلمّا انتهى إليهم الرسول قال لهم : ألم نكرم ضيافتكم ونُحسن منزلكم ونُوفِكم كيلكم ونفعل بكم ما لم نفعله بغيركم ؟ قالوا : بلى ، وما ذاك ؟ قال : سقاية الملك ، فقال : إنّه لا يُتَّهم عليها غيركم ، فذلك قوله تعالى :
يوسف : ( 71 ) قالوا وأقبلوا عليهم . . . . .
) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِم ماذا تَفْقِدُون ( عطفوا على المؤذّن وأصحابه : ماذا تفقدون ؟ ما الذي ضلّ منكم ؟ فالفقدان ضدّ الوجود ، والمفقد : الطلب .
( ) قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الاَْرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ قَالُواْ جَزؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذاَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَآءِ أَخِيهِ كَذاَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ قَالُواْ ياأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذًا لَّظَالِمُونَ فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِى يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الاَْرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِىأَبِىأَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِى وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ ياأَبَانَا إِن
(5/239)
" صفحة رقم 240 "
َّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ وَاسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِى كُنَّا فِيهَا وَالّعِيْرَ الَّتِىأَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 2
يوسف : ( 72 ) قالوا نفقد صواع . . . . .
) قالوا نفْقُدُ صُواعَ المَلِك ( واختلف القُرّاء في قراءة ذلك ، فروى قثم عن داود بن أبي هند عن مولى بني هاشم عن أبي هُريرة أنّه قرأ صاع الملك ، وقرأ أبو رجاء صوع ، وقرأ يحيى بن معمر صوغ بالغين ، ( فإنّه ) وجهنا إلى مصر ، صاغ يصوغ صوغاً ، وجمع الصواع صيعاً ، وجمع صاع أصواع .
) وَلِمَنْ جاء بِهِ حِمْلُ بَعِيْر ( من الطعام ) وَأَنا بهِ زعيم ( كفيل يقوله المؤذّن ، وأصل الزعيم : القائم بأمر القوم ، ويُقال للرئيس زعيم ، يُقال : زعم ، زعامة وزعاماً ، قالت ليلى الأخيلية :
حتى إذا رفع اللواء رأيتُه
تحت اللواء على الخميس زعيماً
يوسف : ( 73 ) قالوا تالله لقد . . . . .
و ) قالوا ( يعني اخوة يوسف ، ) تالله ( أي والله ، أصلها الواو قلبت تاء كما فعل القراء في التقوى والتكلان والتراب والتخمة ، وأصلها الواو ، والواو في هذه الحروف كلّها حرف من الأسماء ، وليست كذلك في تالله لأنّها إنّما هي واو القسم وإنّما جعلت بالكثرة ما جرى على ألسن العرب ، وهم زعموا أنّ الواو من نفس الحرف فقلبوها تاء ، ووضعت في هذه الكلمة الواحدة دون غيرها من أسماء الله تعالى .
) لَقَد عَلِمْتُم ما جِئْنا لِنُفْسِدَ في الأَرْضِ وما كُنّا سارِقِين ( فإن قيل : من أين علموا ذلك ؟ الجواب عنه : قال الكلبي قال : إن فتى يوسف وهو المؤذّن قال لهم : إنّ الملك ائتمنني بالصاع وأخاف عقوبة الملك ، فلي اليوم عنده مقولة حسنة ، فإن لم أجده تخوّفت أن تسقط منزلتي وأفتضح في مصر ، قالوا : لقد علمتم ما جئنا لنفس في الأرض إنا منذ قطعنا هذا الطريق لم ننزل عند أحد ولا أفسدنا شيئاً وسلوا عنا من مررنا به ، هل ضررنا أحداً ؟ أو هل أفسدنا شيئاً ؟ وإنّا قد رددنا الدراهم كما وجدنا في رحلنا ، فلو كنّا سارقين ما رددناها .
قال فتى يوسف : إنّه صواع الملك الأكبر الذي يكتال فيه ، وقال بعضهم : إنّما قالوا ذلك لأنّهم كانوا معروفين أنّهم لا يتناولون ما ليس لهم ، وقيل : إنّهم كانوا حين دخلوا مصر كمّوا أفواه دوابهم لكي لا تتناول من حروث الناس .
فإن قيل : كيف استجاز يوسف تسميتهم سارقين
(5/240)
" صفحة رقم 241 "
قيل : فيه جوابان : أحدهما أنّه أضمر في نفسه أنّهم سرقوه من أبيه ، والآخر أنّه من قول المنادي لا من أمر يوسف والله أعلم .
يوسف : ( 74 ) قالوا فما جزاؤه . . . . .
) قالوا ( يعني المنادي وأصحابه ، ) فَما جَزَاؤُهُ ( ثوابه قال الأخفش : إن شئت رددت الكناية إلى السارقين ، وإن شئت رددتها إلى السَّرَق ) إنْ كنتم كاذبين ( في قولكم : ( ما كنّا سارقين ) .
يوسف : ( 75 ) قالوا جزاؤه من . . . . .
قالوا : ) جزاؤه من وجد في رَحْلِهِ ( أن يسلِّم سرقته إلى المسروق منه ، ويسترقّ سنة ، وكان ذلك سنّة آل يعقوب في حكم السارق ) كَذلِكَ نَجْزِي الظالمين ( الفاعلين ما ليس لهم فعله من أخذ مال غيره سرقاً ، وأما وجه الكلام فقال الفرّاء من في معنى جزاؤه ، ومن معناها الرفع بالهاء التي جاءت وجواب الجزاء الفاء في قوله ) فَهُوَ جَزَاؤُهُ ( ويكون قوله : ) جزاؤه ( الثانية مرتفع بالمعنى المجمل في الجزاء وجوابه ، ومثله في الكلام أن يقول : ماذا لي عندك ؟ فيقول : لك عندي أن بشّرتني فلك ألف درهم كأنّه قال : لك عندي هذا ، وإن شئت الجزاء مرفوعاً بمن خاصّة وصلتها كأنّك قلت : جزاؤه الموجود في رحله ، كأنّك قلت : ثوابه أن يسترق ( في المستأنف ) أيضاً فقال : فهو جزاؤه ، وتلخيص هذه الأقاويل : جزاؤه جزاء الموجود في رحله ، أو جزاؤه الموجود في رحله . تمّ الكلام .
وقال مبتدئاً فهو جزاؤه فقال الرسول عند ذلك : إنّه لابدّ من تفتيش أمتعتكم ولستم سارقين حتى أفتّشها فانصرف بهم إلى يوسف ،
يوسف : ( 76 ) فبدأ بأوعيتهم قبل . . . . .
) فبدأَ بِأَوْعِيَتَهُم ( لإزالة التهمة ) قَبْل وُعِاءَ أَخِيْه ( وكان فتّش أمتعتهم واحداً واحداً ، قال قتادة : ذكر لنا أنّه كان لا يفتح متاعاً ولا ينظر في وعاء إلاّ استغفر الله تأثّماً ممّا قذفهم به ، حتى إذا لم يبق إلاّ الغلام ، قال : ما أظنّ هذا أخذ شيئاً ، فقال أخوته : والله لا نتحرّك حتى تنظر في رحله ، فإنّه أطيب من نفسك وأنفسنا ، فلمّا فتحوا متاعه استخرجوه منه فذلك قوله تعالى : ) واسْتَخْرَجَها مِن وِعَاءِ أخِيْهِ ( وإنّما أتت الكناية في قوله استخرجها والصواع مذكر ، وقد قال الله تعالى : ) ومن جاء به حِمْلُ بعير ( لأنّ ردّه إلى السقاية كقوله : ) الذين يرثون الفردوس ( ، ثمّ قال : ) هُمْ فِيْها خالِدُوْن ( ردّها إلى الجنّة وقوله : ) وإذَا حَضَرَ القِسْمَةَ أُولُوا القُربى والَيْتامى والمَسَاكِيْن ( ، ثمّ قال : ) فارْزُقُوْهُم مِنْه ( ، أي من الميراث .
وقيل : ردّ الكناية إلى السرقة .
وقيل : إنّما أنّثها لأنّ الصواع يُذكر ويُؤنّث فمن أنّثه قال : ثلاث أصوع مثل أدود ومن ذكّره قال : ثلاثة أصواع مثل ثلاثة أثواب
(5/241)
" صفحة رقم 242 "
) كذلك كِدْنا ليُوسف ( يعني كما فعلوا في الابتداء بيوسف فعلنا بهم لأنّ الله تعالى حكى عن يعقوب أنّه قال ليوسف ) فَيَكِيْدُوا لَكَ كَيْداً ( فالكيد جزاء الكيد ، قال ابن عباس : كذلك كِدنا أي صنعنا ، ربيع : ألهمنا ، ابن الأنباري : أردنا .
ومعنى الآية : كذلك صنعنا ليوسف حتى ضمّ أخاه إلى نفسه وفصل بينه وبين إخوته بعلّة كادها الله له فاعتلّ بها يوسف ، ) ما كانَ ليَأخُذَ أَخاهُ ( إليه ويضمّه إلى نفسه ) في دينِ المَلِك ( في حكمه وقضائه ، قاله قتادة .
وقال ابن عباس : في سلطان الملك ، وأصل الدين : الطاعة ، وكان حكم الملك في السارق أن يسترقّ ويُغرّم ضعف ما سرق للمسروق منه ، وقال الضحّاك : كان الملك إذا أُتي بسارق كشف عن فرجتيه وسمل عينيه ، إلاّ أن يشاء الله ، يعني أنّ يوسف لم يكن ليتمكّن من أخذ أخيه بنيامين من أخوته وحبسه عنده في حكم الملك لولا ما كِدنا له بلطفنا حتى وجد السبيل إلى ذلك وهو ما أجراه على ألسنة إخوته أنّ جزاء السارق الاسترقاق فأقرّوا به وأبدوا من تسليم الأخ إليه ، وكان ذلك مُراد يوسف ( عليه السلام ) .
) نَرْفَعُ درجات من نشاء ( بالحكم كما رفعنا يوسف على إخوته .
) وفوقَ كلّ ذِي عِلْم عليم ( قال ابن عباس : يكون هذا أعلم من هذا ، وهذا أعلم من هذا ، والله فوق كلّ عالم ، قال قتادة والحسن : والله ما من عالم على ظهر الأرض إلاّ فوقه من هو أعلم منه حتى ينتهي العلم إلى الله الذي علّمه ومنه بدأ وإليه يعود ، وفي قراءة عبدالله : وفوق كلّ عالم عليم .
وعن محمّد بن كعب القرضي أنّ علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه قضى بقضية فقال رجل من ناحية المسجد : يا أمير المؤمنين ليس القضاء كما قضيت ، قال فكيف هو ؟ قال : كذا وكذا قال : صدقت وأخطأت ، وفوق كلّ ذي علم عليم .
قالوا : فلمّا أخرج الصواع من رحل بنيامين نكَّس إخوته رؤوسهم من الحياء وأقبلوا على بنيامين وقالوا : يا بنيامين أي شيء الذي صنعت ، فضحتنا وسوّدت وجوهنا ، يا بني راحيل ما يزال لنا منكم بلاء ، متى أخذت الصواع ؟ .
فقال بنيامين : بل بنو راحيل الذين لا يزال لهم منكم بلاء ، ذهبتم بأخي فأهلكتموه بالبريّة ، وضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم .
يوسف : ( 77 ) قالوا إن يسرق . . . . .
ثمّ قالوا ليوسف : ) إن يسرق فقد سرق أخ له ( : من أبيه وأُمّه ، من قبل ، واختلف العلماء في السرقة التي وصفوا بها يوسف ، فقال سعيد بن جبير وقتادة : سرق يوسف صنماً لجدّه أبي أمّه
(5/242)
" صفحة رقم 243 "
فكسّره وألقاه في الطريق ، الكلبي : بعثته أُمّه حين أرادت أن ترتحل من حران مع يعقوب إلى فلسطين والأردن ، أمرته أن يذهب فأخذ جونة فيها أوثان لأبنها ( أي ) ذهب فيأتيها بها لكي إذا فقدها أبوها أسلم ، فانطلق فأخذها وجاء بها إلى أُمّه ، فهذه سرقته التي يعنون .
وعن ابن جريح : كانت أُمّ يوسف أمرتة أن يسرق صنماً لخاله يعبده وكانت مسلمة ، وروى أبو كريب عن أبي ادريس قال سمعت أبي قال : كان أولاد يعقوب على طعام ونظر يوسف إلى عرق فخبّأه فعيّروه بذلك ، وأخبر عبدالله بن السدّي ، عن أبيه عن مجاهد أنّ يوسف جاءه سائل إلى البيت فسرق ( جُبّة ) من البيت فناولها السائل فعيّروها بها ، وقال سفيان بن عيينة : سرق يوسف دجاجة من الطير التي كانت في بيت يعقوب فأعطاها سائلا .
كعب : كان يوسف في المنزل وحده فأتاه سائل وكان في المنزل عتاق وهي الانثى من الجديّ ، فدفعها إلى السائل من غير أمر أبيه . وهب : كان يُخبّئ الطعام من المائدة للفقراء .
هشام عن سعد بن زيد بن أسلم في هذه الآية قال : كان يوسف ( عليه السلام ) مع أُمّه عند خال له ، قال : فدخل وهو صبي يلعب وأخذ تمثالا صغيراً من الذهب ، فذلك تعيير اخوانه إيّاه . وروى ابن إسحاق عن مجاهد عن جويبر عن الضحّاك قال : كان أوّل ما دخل على يوسف من البلاء فيما بلغني أنّ عمّته بنت اسحاق وكانت أكبر أولاد إسحاق ، وكانت لها منطقة إسحاق ، وكانوا يتوارثوها بالكبر من أختانها ممّن وليها كان له سلماً لا ينازع فيه ، يصنع فيه ما يشاء ، وكانت راحيل أُمّ يوسف قد ماتت فحضنته عمّته وأحبّته حُبّاً شديداً ، وكانت لا تصبر عنه .
فلمّا ترعرع وبلغ سنوات وقعت محبّة يعقوب عليه فأتاها يعقوب فقال : يا اختاه سلِّمي إليّ يوسف ، فوالله ما أقدر على أن يغيب عنّي ساعة ، فقالت : لا ، فقال : والله ما أنا بتاركه .
قالت : فدعه عندي أيّاماً أنظر إليه لعلّ ذلك يُسلّيني عنه ، ففعل ، فلمّا خرج يعقوب من عندها عمدت إلى منطقة إسحق فحزمتها على يوسف تحت ثيابه وهو صغير ثمّ قالت : لقد فقدت منطقة إسحق فانظروا من أخذها فالتمسوها فلم توجد فقالت : اكشفوا أهل البيت ، فكشفوهم فوجودها مع يوسف ، فقالت : والله إنّه لسلم لي أصنع فيه ما شئت ، فأتاها يعقوب فأخبرته الخبر فقال : إن كان فعل ذلك فهو سلم لك ، ما أستطيع غير ذلك ، فأمسكته ، فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت ، فهذا الذي قال أخوة يوسف : إن سرق فقد سرق أخ له من قبل ، وهذا هو المثل السائر الذي يقال عُذره شرٌ من جرمه .
) فَأَسَرّها ( فأضمرها ، ) يوسف في نفسه ولم يُبْدِها لَهُم ( وإنّما أنّث الكناية لأنّه عنى بها الكلمة والمقالة وهي قراءة .
) قال أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً ( أي شرُّ منزلا عند الله ممّن رميتموه بالسرقة في صنيعكم بيوسف ) والله أعلمُ بما تَصِفُون ( تقولون ، قتادة : تكذبون .
(5/243)
" صفحة رقم 244 "
وقالت الرواة : لما دخلوا على يوسف واستخرج الصواع من رحل بنيامين دعا يوسف بالصواع فنقر فيه ثمّ أدناه من أُذنه ثمّ قال : إنّ صواعي هذا ليخبرني أنّكم كنتم اثني عشر رجلا وانّكم انطلقتم بأخ لكم فبعتموه ، فلمّا سمعها بنيامين قام فسجد ليوسف ثمّ قال : أيّها الملك سَل صواعك هذا عن أخي أين هو فنقره ثمّ قال : هو ؟ حيّ وسوف تراه قال : فاصنع فيّ ما شئت فإنّه إن علم بي فسوف يستنقذني ، قال : فدخل يوسف فبكى ، ثمّ توضّأ وخرج فقال بنيامين : أيّها الملك إنّي أرى أن تضرب صواعك هذا فيخبرك بالحقّ من الذي سرقه فجعله في رحلي ؟ فنقره فقال : إنّ صواعي هذا عصاني وهو يقول : كيف تسألني عن صاحبي وقد رأيت مع من كنت ؟
قال : وكان بنو يعقوب إذا غضبوا لم يُطاقوا فغضب روبيل ، وقال : والله أيّها الملك لتتركنا أو لأصيحنّ صيحة لا تبقي بمصر امرأة حامل إلاّ ألقت ما في بطنها وقامت كلّ شعرة في جسد روبيل فجرجت من ( . . . . . . ) فمسّه فذهب غضبه ، فقال روبيل من هذا ؟ إن في هذا البلد لبذراً من بذر يعقوب .
فقال يوسف : ومن يعقوب ؟ فغضب روبيل وقال : يا أيّها الملك لا يُذكر يعقوب فإنّه سري الله ابن ذبيح الله ابن خليل الرحمن ، قال يوسف ( إشهد ) إذاً أنت كنت صادقاً ، احتبس يوسف أخاه وصار بحكم اخوته أولى به منهم ، فرأوا أنّه لابدّ لهم إلى تخليصه منه سألوه تخليته ببدل منهم يُعطونه إيّاه ،
يوسف : ( 78 ) قالوا يا أيها . . . . .
) فقالوا يا أيّها العزيز إنّ له أباً شيخاً كبيراً ( : متعلّقاً بحبّه يعنون يعقوب ، ) فَخُذ أَحَدَنا مَكانه ( : بدلا منه ) إنّا نراكَ من المُحْسِنين ( في أفعالك قيل : إلينا ، وقال ابن إسحاق : يعنون إنْ فعلت ذلك كنت من المُحسنين .
يوسف : ( 79 ) قال معاذ الله . . . . .
) قال ( يوسف ) معاذ الله ( أعوذ بالله وهو نصب على المصدر ، وكذلك تفعل العرب في كلّ مصدر وضع موضع الفعل ، تقول : حمداً لله وشكراً لله ، بمعنى أحمد الله وأشكره ) أنْ نَأْخُذَ إلاّ مَن وَجَدْنا متاعنا عنده ( ولم يقل من سرق تحرّزاً من الكذب ، ) إنّا إذاً لظالمون ( إن أخذنا بريئاً بسقيم .
يوسف : ( 80 ) فلما استيأسوا منه . . . . .
) فلمّا اسْتَيْئَسُوا مِنْه ( يعني أيسوا من يوسف من أن يُجيبهم إلى ما سألوه ) خَلَصُوا نَجَيِّاً ( أي خلا بعضهم ببعض يتناجون ويتشاورون لا يخالطهم غيرهم ، والنجيّ لقوم يتناجون وقد يصلح للواحد أيضاً ، قال الله في الواحد : ) وَقَرَّبْناه نَجِيّاً ( ، وقال في الجمع ) خَلَصُوا نَجِيّاً ( وإنّما جاز للواحد والجمع لأنّه مصدر أُبدل نعتاً كالعدل والزور والفطر ونحوها ، وهو من قول القائل نجوت فلاناً أنجوه نجيّاً ، ومثله النجوى يكون اسماً ومصدراً ، قال الله تعالى : ) وإذ هم
(5/244)
" صفحة رقم 245 "
نجوى ( أي يتناجون وقال : ) ما يَكُونُ مِن نجوى ثلاثة ( وقال في المصدر ) إنّما النجوى من الشيطان ( وقال الشاعر :
بني بدا خبّ نجوى الرجال
( وكُ ) عند سرّك خبّ النجيّ
والنجوى والنجيّ في هذا البيت بمعنى المناجاة ، وجمع النجيّ أنجية ، قال لبيد :
وشهدتُ أنجية الأفاقة عالياً
كعبي وأرداف الملوك شهود
وقال آخر :
إنّي إذا ما القوم كانوا أنجيه
واضطربت أعناقهم كالأرشية
هناك أوصيني ولا توصي بيه .
) قالَ كَبِيْرُهُم ( يعني في العقل والعلم لا في السنّ وهو شمعون ، وكان رئيسهم ، قاله مجاهد ، وقال قتادة والسدّي والضحاك وكعب : هو روبيل وكان أسنّهم وهو ابن خالة يوسف ، وهو الذي نهى إخوته عن قتله ، وهب والكلبي : يهودا ، وكان أعقلهم ، محمد بن اسحاق : لاوي .
) أَلَم تَعْلَموا أنّ أباكم قَدْ أَخَذَ عليكُم موثقاً من الله ( عهداً من الله ) ومِنْ قَبْلُ ما فرّطتم في يوسف ( اختلفوا في محلّ ما فقال بعضهم : هو نصب إيقاع العلم عليه يعني : ألم تعلموا من قبل فعليكم بهذه تفريطكم في يوسف ؟ وقيل : هو في محلّ الرفع على الابتداء ، وتمام الكلام عند قوله : من الله يعني : ومن قبلي هذا تفريطكم في يوسف ، فيكون ما مرفوعاً يخبر ( . . . . ) الصفة وهو قوله : ومن قبل ، وقيل : ما صلة ، ويعني ومن هذا فرّطتم في يوسف أي قصّرتم وضيّعتم ، وقيل : رفع على الغاية .
) فَلَنْ أَبرَحَ الأَرْضَ ( التي أنا بها وهي أرض مصر ) حَتَى يأذن لي أبي ( بالخروج منها ) أوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي ( بالخروج منها وترك أخي بنيامين بها أو معه ، وإلاّ فإنّي غير خارج منها ، وقال أبو صالح : أو يحكم الله لي بالسيف فأُحارب من حبس أخي بنيامين .
) وهو خير الحاكمين ( أفضل وأعدل من يفصل بين الناس .
(5/245)
" صفحة رقم 246 "
يوسف : ( 81 ) ارجعوا إلى أبيكم . . . . .
) ارْجِعُوا إلى أبيكم ( يقوله الآخر في المحتبس بمصر لإخوته ) فقولوا يا أبانا إنّ ابنك ( بنيامين ) سَرَق ( الصواع ، وقرأ ابن عباس والضحاك : سُرِّق بضمّ السين وكسر الراء وتشديده على وجه ما لم يُسمِّ فاعله ، يعني أنّه نُسب إلى السرقة مثل : خوّنته وفجّرته ( . . . . ) أي نسبته إلى هذه الخلال .
) وما شَهِدْنا إلاّ بِما عَلِمْنا ( يعني ما كانت منّا شهادة في عمرنا على شيء إلاّ بما علمنا وليست هذه شهادة منّا إنّما هو خبر عن صنيع ابنك بزعمهم ، وقال ابن اسحاق : معناه : وما قلنا : إنّه سرق إلاّ بما علمنا ، قال : وكان الحكم عند الأنبياء يعقوب وبنيه أن يسترقّ السارق بسرقته .
) وما كُنّا للغَيْبِ حافظين ( قال مجاهد وقتادة : ما كنا نعلم أنّ ابنك يسرق ويصير أمرنا إلى هذا ، فلو علمنا ذلك ما ذهبنا به معنا ، وإنّما قلنا ونحفظ أخانا ممّا لنا إلى حفظه منه سبيل ، وقال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس يعنون : أنّه سرق ليلا وهم نيام والغيب هو الليل بلغة حمير ، وقال ابن عباس : لم نعلم ما كان يعمل في ليله ونهاره ومجيئه وذهابه ، عكرمة ) وما كُنّا للغَيْبِ حافظين ( لعلّها دُسّت بالليل في رحله .
وقيل معناه : قد أُخذت السرقه من رحله ونحن ننظر إليه ، ولا علم لنا بالغيب فلعلّهم سَرّقوه ولم يسرق ، وهذا معنى قول أبي اسحاق ، وقال ابن كيسان : لم نعلم أنّك تنصاب كما أُصبت بيوسف ، ولو علمنا ذلك لم ( نأخذ ) فتاك ولم نذهب به .
يوسف : ( 82 ) واسأل القرية التي . . . . .
) وَسْئَلِ القَرْيَةِ التي كُنّا فِيْها ( يعني أهل القرية وهي مصر ، ابن عباس : قرية من قُرى مصر .
) والعِير التي أقبلنا فيها ( يعني القافلة التي كنا فيها وكان معهم قومٌ من كنعان من جيران يعقوب ( عليه السلام ) ، قال ابن اسحاق : قد عرف الأخ المُحتبس بمصر أنّ إخوته أهل تهمة عند أبيهم لما صنعوا في أمره فأمرهم أن يقولوا هذا الاسم ، ) وإنّا لصادِقُوْن (
يوسف : ( 83 ) قال بل سولت . . . . .
) قال بَلْ سَوَّلت ( في الآية اختصار معناها ، فرجعوا إلى أبيهم وقالوا له ذلك ، فقال : بل سوّلت أي زيّنت ) لكم أنفسكم أمراً ( أردتموه ) فصبرٌ جَمِيْلٌ عَسى اللهُ أَنْ يَأْتِيَني بِهِم جَمِيْعاً ( يوسف وبنيامين وأخيهما المقيم بمصر ) إنّه هوَ العَليم ( بحزني ووجدي على فقدهم ) الحكيم ( في تدبير خلقه .
( ) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأَسَفَا عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ يابَنِىَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَايْئَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ ياأَيُّهَا
(5/246)
" صفحة رقم 247 "
الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِى الْمُتَصَدِّقِينَ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ قَالُواْ أَءِنَّكَ لاََنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَاذَا أَخِى قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَآ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَاحِمِينَ اذْهَبُواْ بِقَمِيصِى هَاذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِى بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ( 2
يوسف : ( 84 ) وتولى عنهم وقال . . . . .
) وتولّى عنهم ( وذلك أنّ يعقوب لمّا بلغه خبر بنيامين تتامّ حزنه وبلغ جهده وجدّد حزنه على يوسف ، فأعرض عنهم ) وقال يا أَسَفَى ( يا حزني ) على يوسف ( وقال مجاهد : يا جزعاه ، والأسف : شدّة الحزن والندم .
) وابيضّت عيناهُ من الحزن ( مقاتل : لم يُبصر بهما ستّ سنين ) فهو كظيم ( أي مكظوم مملوء من الحزن ، ممسك عليه لا يبثّه ، ومنه كظم الغيظ ، عطاء الخراساني : كظيم : حزين ، مجاهد : مكبود ، الضحّاك : كميد ، قتادة : تردّد حزنه في جوفه ، ولم يتكلّم بسوء ، ولم يتكلّم إلاّ خيراً ، ابن زيد : بلغ به الجزع حتى كان لا يكلّمهم ، ابن عباس : مهموم ، مقاتل : مكروب ، وكلّها متقاربة .
سعيد بن جبير : عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لم يعط أُمّة من الأمم إنّا لله وإنّا إليه راجعون عند المصيبة إلاّ أُمّة محمّد ، ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه لم يسترجع : إنّما قال يا أسفى على يوسف ؟ ) .
وأخبرني ابن فنجويه ( قال : حدّثنا أبو بكر بن مالك ) القطيعي قال : حدّثنا عبدالله بن أحمد ابن حنبل ، ( قال : حدّثني ) أُبي ، عن هشام ( بن القاسم ) عن الحسن ، قال : كانت بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقى معه ثمانين عامّاً لا تجف عينا يعقوب ، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب .
يوسف : ( 85 ) قالوا تالله تفتأ . . . . .
) قالوا ( يعني ولد يعقوب ) تَاللهِ تَفْتَؤُ تَذْكُرُ يُوسف ( أي لا تزال تذكر يوسف ، لا تفتر من حبّه ، يقال : ما فتِئتُ أقول ذلك ، وما فتأتُ أو أفتؤ ، فتأً وفتوّاً ، قال أوس بن حجر :
فما فتِئتْ حيّ كأن غبارها
سرادق يوم ذي رياج ترفع
وقال آخر :
(5/247)
" صفحة رقم 248 "
فما فتئت خيل تثوب وتدّعي
ويلحق منها لاحق وتقطع
أي فما زالت .
وحذف ( لا ) قوله فتئ كقول امرئ القيس :
فقلتُ يمين الله أبرحُ قاعداً
ولو قطّعوا رأسي لديك وأوصالي
أي : لا أبرح .
وقال خداش بن زهير :
وأبرحُ ما أدام الله قومي
بحمد الله منتطقاً مجيداً
أي لا أبرح ومثله كثير .
) حتى تَكُوْنَ حَرَضاً ( اختلف ألفاظ المفسّرين فيه ، فقال ابن عباس : دنفاً ، العوفي : يعني الهد في المرض ، مجاهد : هو ما دون الموت ، يعني قريباً من الموت ، قتادة : هرِماً ، الضحّاك : بالياً مدبراً ، ابن اسحاق : فاسداً لا عمل لك ، ابن زيد : الحرض : الذي قد ردّ إلى أرذل العمر حتى لا يعقل ، الربيع بن أنس : يابس الجلد على العظم ، مقاتل : مُدنفاً ، الكسائي : الحرض : الفاسد الذي لا خير فيه ، الأخفش : يعني ذاهباً ، المُخرج : ذائباً من الهمّ ، الفرّاء عن بعضهم : ضعيفاً لا حراك بك ، الحسن : كالشنّ المدقوق المكسور ، علام تعباً مُضنى ، ابن الأنباري : هالكاً فاسداً ، القتيبي : ساقطاً ، وكلّها متقاربة .
ومعنى الآية : حتى يكون دنف الجسم مخبول العقل ، وأصل الحرض : الفساد في الجسم أو العقل من الحزن أو العشق أو الهرم ، ومنه قول العَرجي :
إنّي امرؤ لجّ بي حبٌّ فأحرضني
حتى بليتُ وحتى شفني السقم
يُقال : منه رجل حرض وامرأة حرض ورجلان وامرأتان حرض ، ورجال ونساء حرض يستوي فيه الواحد والإثنان والجمع ، والمذكّر والمؤنّث ، لأنّه مصدر وضع موضع الاسم ، ومن العرب من يقول للذكر حارض وللأُنثى حارضة ، فإذا وصف بهذا اللفظ ثنّى وجمع وانّث ، ويُقال : حرض ، يحرّض ، حرضاً وحراضة فهو حرض ، ويُقال : رجل محرّض وأنشد في ذلك :
طلبته الخيل يوماً كاملا
ولو آلفته لأضحى مُحرضا
(5/248)
" صفحة رقم 249 "
وقال امرؤ القيس :
أرى المرءَ ذا الأذواد يُصبح مُحرضاً
كإحراض بكر في الدّيار مريض
) أو تكونَ من الهالكين ( أي الميّتين ، وقال يعقوب عند ذلك لمّا رأى غلظتهم وسوء لفظهم ،
يوسف : ( 86 ) قال إنما أشكو . . . . .
) إنّما أشكو بَثِّي وحُزني إلى الله ( لا إليكم ، قال المفسّرون دخل على يعقوب جار له فقال : يا يعقوب ما لي أراك قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السن ما بلغ أبوك ؟ قال : هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من مُصاب يوسف ، فأوحى الله إليه : يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي ؟ قال : يا ربّ خطيئة أخطأتها فاغفر لي ، قال : فإنّي قد غفرتها لك وكان بعد ذلك إذا سُئل قال : إنّما أشكو بثّي وحُزني إلى الله .
وقال حبيب بن أبي ثابت : بلغني أنّ يعقوب كبر حتى سقط حاجباه على عينيه ، وكان يرفعهما بخرقة ، فقال له رجل : ما بلغ بك ما أرى ؟ قال : طول الزمان وكثرة الأحزان .
فأوحى الله إليه : يا يعقوب تشكوني ، فقال : خطيئة أخطأتها فاغفرها لي .
وعن عبدالله بن قميط ، قال : سمعت أبي يقول : بلغنا أنّ رجلا قال ليعقوب ( عليه السلام ) : ما الذي أذهب بصرك ؟ قال : حزني على يوسف ، قال : فما الذي قوّس ظهرك ؟ قال : حزني على أخيه ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه : يا يعقوب أتشكوني ؟ وعزّتي وجلالي لو كانا ميّتين لأخرجتهما لك حتى تنظر إليهما ، وإنّما وجدت عليكم أنّكم ذبحتم شاة فأتاكم مسكين فلم تطعموه شيئاً ، وأنّ أحبّ خلقي إليّ الأنبياء ثمّ المساكين ، فاصنع طعاماً وادعُ إليه المساكين ، فصنع طعاماً ، ثمّ قال : من كان صائماً فليفطر الليلة عند آل يعقوب .
وروى أبو عمران عن أبي الخلد ووهب بن منبه ، قالا : أوحى الله تعالى إلى يعقوب : تدري لم عاقبتك وغيّبت عنك يوسف وبنيامين ؟ قال : لا إلهي ، قال : لأ نّك شويت عتاقاً وقترت على جارك ، وأكلت ولم تطعمه ، ويقال : إنّ سبب ابتلاء يعقوب بفقد يوسف ، أنّه كانت له بقرة ولها عجول فذبح عجولها بين يديها ، وإنّما كانت تخور فلم يرحمها ، فأخذه الله به وابتلاه بفقد يوسف أعزّ ولده .
وقال وهب بن منبه والسدّي وغيرهما : أتى جبرئيل يوسف وهو في السجن ، فقال : هل تعرفني أيّها الصدّيق ؟ قال : أرى صورة طاهرة وريحاً طيّبة ، قال : فإنّي رسول ربّ العالمين ، وأنا الروح الأمين ، قال : فما الذي أدخلك حبس المذنبين وأنت أطيب الطيّبين ، ورأس المقرّبين ، وأمين ربّ العالمين ؟ قال : ألم تعلم يا يوسف أنّ الله يُطهّر البيوت لهؤلاء الطيّبين ، وأنّ الأرض
(5/249)
" صفحة رقم 250 "
التي تدخلونها هي أطهر الأرضين ، وأنّ الله قد طهّر بك السجن وما حوله يا أطهر الطاهرين وابن الصالحين ؟
قال : كيف لي بابن الصدّيقين وتعدّني من المخلصين ، وقد أدخلت مدخل المُذنبين ، وسمّيت باسم المفسدين ؟ قال : لأنّه لم يفتتن قلبك ولم تطع سيدتك في معصية ربّك فلذك سمّاك الله في الصدّيقين ، وعدّك مع المخلصين وألحقك بآبائك الصالحين ، قال : هل لك علم بيعقوب أيّها الروح الأمين ؟ قال : نعم وهب الله له البلاء الجميل وابتلاه بالحزن عليك فهو كظيم ، قال : فما قدر حزنه ؟ قال : حزن سبعين ثكلى ، قال : فماذا له من الأجر يا جبرئيل ؟ قال : أجر مائة شهيد ، قال : أفتراني لاقيه ؟ قال : نعم ، فطابت نفس يوسف ، قال : ما أُبالي ما ألفيته أن رأيته .
وأمّا قوله بثّي فالبثّ : أشدّ الحزن سُمّي بذلك لأنّ صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثّه أي يُظهره ، يقال : بثّ ، يبثّ فهو باثّ وأبثّ ( يأبثه أبثاً ) يُبثّ فهو مُبثّ إذا أظهره قال ذو الرمّة :
وقفتُ على ربع لميّة ناقتي
فما زلتُ أبكي عندهُ وأُخاطبه
وأسقيه حتى كاد ممّا أبُثّه
تكلّمني أحجاره وملاعبه
وقال الحسن : بثّي أي حاجتي ، وقال محمّد بن القاسم الأنباري : البثّ : التفرق ، وقال محمّد بن إسحاق : معناه : إنّما أشكو حزني الذي أنا فيه إلى الله ، وهو من بثّ الحديث .
) وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تعْلَمون ( قال ابن عباس : يقول أعلم أنّ رؤيا يوسف صادقة وأني وأنتم سنسجد له ، وقال آخرون : وأعلم أنّ يوسف حيّ .
قال السدّي : لما أخبره ولده بسيرة الملك وقوله أحسّت نفس يعقوب فطمع وقال : لعلّه يوسف ، ويروى أنّه رأى الملك في المنام فسأله : هل قبضت روح يوسف ؟ قال : لا والله ، وهو حيّ .
ويقال : أرسل الله إليه ذئباً فسلّم عليه وكلّمه ، فقال له يعقوب : أكلت ابني وقّرة عيني وثمرة فؤادي ؟ قال : قد والله علمتَ يا يعقوب أنّ لحوم الأنبياء وأولاد الأنبياء علينا حرام ، فلذلك قال لبنيه :
يوسف : ( 87 ) يا بني اذهبوا . . . . .
) يا بَنيّ اذهَبوا فَتَحَسَّسُو من يوسفَ وأخيه ( ولا تيأسوا من روح الله سيروا واطلبوا الخبر ، من يوسف وأخيه : وهو تفعّلوا من الحسّ يعني تتبّعوا ، قال ابن عباس : إلتمسوا ، ) ولا تيأسوا ( ، أي لا تقنطوا ، من روح الله : من فرج الله ، قال ابن زيد وقتادة ، والضحّاك : من رحمة الله ، ) فَإنّه لا يَيْأَس من رَوْحِ اللهِ إلاّ القوم الكافرون ( .
يُقال : سُئل ابن عباس عن الفرق بين التجسّس والتحسّس فقال : لا يبعد أحدهما عن
(5/250)
" صفحة رقم 251 "
الآخر إلاّ أنّ التحسّس في الخير والتجسّس في الشرّ ، الحسن وقتادة : ذكر لنا أنّ نبي الله يعقوب لم ينزل به بلاء قط إلاّ أتى حسن ظنّه بالله من ورائه ، وما ساء ظنّه بالله ساعة قط من ليل أو نهار ، الحسن عن الأحنف بن قيس عن ابن عباس بن عبدالمطّلب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قال داود : ( إلهي ) أسمع الناس يقولون إله إبراهيم وإسحق ويعقوب فاجعلني رابعاً : فقال : لست هناك ، إنّ إبراهيم لم يَعدل بي شيئاً قط إلاّ اختارني ، وإنّ إسحاق جادَ لي بنفسه ، وإنّ يعقوب في طول ما كان لم ييأس من يوسف ) .
يوسف : ( 88 ) فلما دخلوا عليه . . . . .
) قالوا يا أيّها العزيز ( في الآية متروك يستدلّ بسياق الكلام عليه تقديره : فجاؤوا راجعين إلى مصر حتى وصلوا إليها فدخلوا على يوسف ، فقالوا له : يا أيّها العزيز ، يا أيّها الملك بلغة حمير ، ) مسّنا وأهلنا الضُرّ ( الشدّة والجوع ) وَجِئْنا بِبِضَاعَة مُزْجاة ( قليلة ، رديئة ناقصة ، كاسدة . لا تنفق في شيء من الطعام إلاّ ( يتوجبن ) من البائع فيها ، وأصل الإزجاء السوق والدفع ، قال الله تعالى : ) ألم ترَ أنّ اللهَ يُزجي سحاباً ( قال النابغة الذبياني :
وهبّت الريحُ من تلقاء ذي أزل
تُزجي مع الليلِ من صَرّادها صرما
وقال حاتم الطائي :
لَيبكِ على مَلِحان ضيفٌ مُدَفَّعٌ
وأرمَلةٌ تُزجي مع الليلِ أَرملا
وإنّما قيل للبضاعة : مزجاة لأنّها غير نافقة وإنّما يجوز تجويزاً على دفع من أخذها . وأمالها حمزة والكسائي وفخّمها الباقون .
واختلف المفسّرون في هذه البضاعة ما هي ؟ عكرمة عن عباس : كانت دراهم رديئة زيوفاً لا تنفق إلاّ بوضيعه بإذن عنه ، يعني لا تنفق في الطعام ؛ لأنّه لا يُؤخذ في ثمن الطعام إلاّ الجيّد ، ابن أبي مليكة : حبل خِلق الغرارة والحبل ورثة المتاع ، عبدالله بن الحرث : متاع الأعراب ، الصوف والسّمن ، الكلبي ومقاتل وابن حيّان : الصنوبر وحبّة خضراء ، سعيد بن جبير : دراهم ( قليلة ) ، ابن اسحاق : قليلة لا تبلغ ما كان يشترى به إلاّ أن تتجاوز لنا فيها أحسن كانت أو أوطأ ، جويبر عن الضحّاك : النعال والأدم ، ورويَ عنه أنّها سويق المقل .
(5/251)
" صفحة رقم 252 "
) فأوفِ لنا الكيلَ ( أي أعطنا بها ما كنت تُعطينا من قبل بالثمن الجيّد الوافي ) وَتَصَدَّق علينا ( وتفضّل علينا بما بين الثمنين الجيّد والرديء . ولا تنقصنا من السعر ، هذا قول أكثر المفسّرين ، وقال ابن جريج والضحّاك : تصدّق علينا بردّ أخينا إلينا .
) إنّ اللهَ يجزي المُتَصَدِّقِيْنَ ( قال الضحّاك : لم يقولوا : إنّ الله يجزيك أن تصدّقت علينا لأنّهم لم يعلموا أنّه مؤمن ، قال عبدالجبار بن العلاء : سُئِلَ سفيان بن عُيينة : هل حرمت الصدقة على أحد من الأنبياء سوى نبيّنا ( صلى الله عليه وسلم ) قال سفيان : ألم تسمع قوله : ) وأَوْفِ لنا الكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا ( أراد سفيان أنّ الصدقة كانت لهم حلالا وأنّها إنّما حُرّمت على نبيّنا ( صلى الله عليه وسلم ) وروي أنّ الحسن البصري سمع رجلا يقول : اللهمّ تصدّق عليّ ، فقال : يا هذا إنّ الله لا يتصدّق إنّما يتصدّق من يبغي الثواب ، قل : اللهمّ أعطني أو تفضّل عليّ .
يوسف : ( 89 ) قال هل علمتم . . . . .
) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيْهِ ( اختلفوا في السبب الذي حمل يوسف على هذا القول ، فقال ابن اسحاق : ذُكر لي أنّهم لمّا كلّموه بهذا الكلام غلبته نفسه وأدركته الرقّة فانفضّ دمعه باكياً ثمّ باح لهم بالذي كان يكتم فقال : ) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وأخِيْهِ إذْ أَنْتُم جاهِلُوْن ( .
وقال الكلبي : إنّما قال ذلك حين حكى لإخوانه : أنّ مالك بن أذعر قال : إنّي وجدت غلاماً في بئر حاله كيت وكيت وابتعته من قوم بألف درهم فقال : أيّها الملك نحن بعنا ذلك الغلام منه ، فغاظ يوسف ذلك وأمر بقتلهم فذهبوا بهم ليقتلوهم ، فولّى يهوذا وهو يقول : كان يعقوب يحزن لفقد واحد منّا حتى كفّ بصره فكيف به إذاً لو قتل بنوه كّلهم ، ثمّ قالوا : إن فعلت ذلك فابعث بأمتعتنا إلى أبينا وإنّه في مكان كذا وكذا ، فذاك حين رحمهم وبكى وقال لهم ذلك القول .
وقال بعضهم : إنّما قال ذلك حين قرأ كتاب أبيه إليه وذلك أنّ يعقوب لما قيل له : إنّ ابنك سرق ، كتب إليه : من يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ، بن إبراهيم خليل الله أمّا بعد فإنّا أهلُ بيت مُوكَّل بنا البلاء ، فأمّا جدّي فشدّت يداه ورجلاه وأُلقي في النار فجعلها الله عليه برداً وسلاماً ، وأمّا أبي فشدّت يداه ورجلاه ووضع السكّين على قفاه ، ليُقتل ، ففداه الله ، وأمّا أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادي إليّ فذهب به إخوته إلى البريّة ثمّ أتوني بقميصه مُلطّخاً بالدم وقالوا : قد أكله الذئب وذهب ( . . . . . . . . . . ) ثمّ كان لي ابن وكان أخاه من أُمّة وكنت أتسّلى به ، فذهبوا به ثمّ رجعوا وقالوا : إنّه سرق ، وإنّك حبسته بذلك وإنّا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً ، فإنْ ردَدته إليّ وإلاّ دعوت عليك دعوة تنزل بالسابع من ولدك ، فلمّا قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك البكاء وعيل صبره فقال لهم ذلك .
(5/252)
" صفحة رقم 253 "
وقال بعضهم : إنّما قال ذلك حين سأل أخاه بنيامين : هل لك ولد ؟ قال : نعم ، ثلاثة بنين ، قال : فما سمّيتهم ؟ قال : سمّيتُ الأكبر يوسف قال : ولِمِ ؟ قال : محبّة لك ، لأذكرك به ، قال : فما سمّيت الثاني ؟ قال : ذئباً ، قال : ولم سمّيته بالذئب وهو سبع عاقر ؟ قال : لأذكرك به ، قال : فما سمّيت الثالث ؟ قال : دماء ، قال : ولمَ ؟ قال لأذكرك به ، فلمّا سمع يوسف المقالة خنقته العبرة ، ولم يتمالك ، فقال لإخوته : لمّا دخلوا عليه : هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ فرّقتم بينهما وصنعتم ما صنعتم إذ أنتم جاهلون ، بما يؤول إليه أمر يوسف .
وقيل : يكون المذنب جاهل وقت ذنبه .
قال ابن عباس : إذا أنتم صبيّان ، الحسن : شبان وهذا غيرُ بعيد من الصواب لأنّ مظنّة الجهل الشباب .
فإنّ سئل عن معنى قول يوسف ) مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيْه ( وقيل ما كان عنهم إلى أخيه وهم لم يسعوا في حبسه ، فالجواب أنّهم لمّا أطلقوا ألسنتهم على أخيهم بسبب الصاع ( حبس ) وقالوا : ما رأينا منكم يا بني راحيل كما ذكرناه ، فعاتبهم يوسف على ذلك . وقيل : إنّهما لمّا كانا من أُمّ واحدة وكانوا يؤذونه بعد فَقْد يوسف فعاتبهم على ذلك .
يوسف : ( 90 ) قالوا أئنك لأنت . . . . .
) قَالُوا أَئِنَّكَ لاانْتَ يُوسُفُ ( : قرأ ابن مُحصن وابن كثير : إنّك على الخبر ، وقرأ الآخرون على الاستفهام ، ودليلهم قراءة أُبي بن كعب أو أنت يوسف ، قال ابن أسحاق : لمّا قال يوسف لأخوته ) هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيه ( الآية ، كشف عنهم الغطاء ورفع الحجاب فعرفوه ، فقالوا : إنّك لأنت يوسف ، جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس ، قال : قال يوسف : هل علمتم ما فعلتم بيوسف ؟ ثمّ تبسّم ، وكان إذا تبسّم كأنّ ثناياه اللؤلؤ المنظوم ، فلمّا أبصروا ثناياه شبّهوه بيوسف ، فقالوا له استفهاماً : إنّك لأنت يوسف ؟ ، ابن سمعان عن عطاء عن ابن عباس قال : إنّ إخوة يوسف لم يعرفوه حتى وضع التاج عنه ، وكان في قرنه علامة ، وكان ليعقوب مثلها ، وكان لإسحاق مثلها ، وكان لسارة مثلها شبه الشامة البيضاء ، فلمّا قال لهم : ( هل ) علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه ورفع التاج عنه ، فعرفوه فقالوا : إنّك لأنت يوسف .
) قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنَا ( بأن جمع بيننا بعدما فرّقتم ) إِنَّهُ مَنْ يَتَّق اللهِ ( بأداء فرائضه واجتناب معاصيه ، ويصبر عمّا حرّم الله عليه ، قال ابن عباس : يتّق الزنا ويصبر على العزوبة ، مجاهد : يتّق معصية الله ويصبر على السجن ) فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ( ،
يوسف : ( 91 ) قالوا تالله لقد . . . . .
ف ) قَالُوا ( مُقرّين مُعتذرين : ) تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا ( اختارك الله علينا بالعلم والحكم والعقل والفضل والحسن والمُلك ) وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ( وإن كنّا في صنيعنا بك
(5/253)
" صفحة رقم 254 "
لمخطئين ، مذنبين ، يُقال : خطئ ، يخطأ ، خطأ وخِطأ وأخطأ إذا أذنب ، قال أُمّية بن الأكسر :
وإنّ مهاجرين تكنَّفاهُ
لعمرُ الله قد خطئا وخابا
وقيل لابن عباس : كيف قالوا : إنّا كنّا خاطئين وقد تعمّدوا لذلك ؟ فقال : أخطأوا الحقّ وإن تعمّدوا ، وكلّ من أتى ذنباً كذلك يُخطئ المنهاج الذي عليه من الحقّ حتى يقع في الشبهة والمعصية
يوسف : ( 92 ) قال لا تثريب . . . . .
ف ) قال ( يوسف وكان حليماً موفّقاً : ) لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ ( لا تعيير ولا تأنيب عليكم ، ولا أذكر لكم ذنبكم بعد اليوم ، وأصل التثريب : الإفساد ، وهي لغة أهل الحجاز ، ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا زَنَت أَمَة أحدكم فليجلدها الحد ولا يُثرب عليها ) أي لا يُعيّرها ، ثمّ دعا لهم يوسف وقال : ) يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين ( .
عطاء عن ابن عباس قال : أخذ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعضادتي الباب يوم فتح مكّة وقد لاذ الناس بالبيت ، وقال : ( الحمد لله الذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ) ثمّ قال : ( ما تظنون ؟ ) قالوا : نظنّ خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت ، قال : ( وأنا أقول كما قال أخي يوسف : لا تثريب عليكم اليوم ) .
قال السدي وغيره : فلمّا عرّفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيه ، فقال : ما فعل ؟ قالوا : ذهبت عيناه ، فأعطاهم قميصه وقال لهم :
يوسف : ( 93 ) اذهبوا بقميصي هذا . . . . .
) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً ( يعود مُبصراً ، لأنّه كان دُعاء . قال الضحاك : كان ذلك القميص من نسج الجنّة ، روى السدّي عن أبيه عن مجاهد عن هذه الآية قال : كان يوسف أعلم بالله عزّ وجل من أن يعلم أنّ قميصه يردّ على يعقوب بصره ، ولكنّ ذلك قميص إبراهيم الذي ألبسه الله عزّ وجل في النار من حرير الجنّة ، وكان كساه إسحاق ، وكان إسحاق كساه يعقوب وكان يعقوب ، أدرج القميص وجعله في قصبة وعلّقه في عنق يوسف لما كان يخاف عليه من العين ، ثمّ أمره جبرئيل ( عليه السلام ) أن أرسل بقميصك فإنّ فيه ريح الجنّة لا يقع على مبتل ولا سقيم إلاّ صحّ وعوفي .
) وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِين ( .
) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ قَالُواْ تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِى ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ فَلَمَّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِّى ( صلى الله عليه وسلم )
(5/254)
" صفحة رقم 255 "
1764 أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ قَالُواْ ياأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّىإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ ءَاوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَآءَ اللَّهُ ءَامِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا وَقَالَ ياأَبَتِ هَاذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاىمِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَىإِذْ أَخْرَجَنِى مِنَ السِّجْنِ وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِى وَبَيْنَ إِخْوَتِىإِنَّ رَبِّى لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِى مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِى مِن تَأْوِيلِ الاَْحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ أَنتَ وَلِىِّ فِى الدُّنُيَا وَالاَْخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِى بِالصَّالِحِينَ ( 2
يوسف : ( 94 ) ولما فصلت العير . . . . .
) وَلَمَّا فَصَلَتْ الْعِيرُ ( يعني خرجت من عريش مصر متوجّهة إلى كنعان .
) قَالَ أَبُوهُم ( لوِلد ولده ) إِنِّي لااجِدُ رِيحَ يُوسُف ( روي أنّ الريح استأذنت ربّها في أن تأتي يعقوب ( عليه السلام ) بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير ، فأذن لها فأتته بها ، ابن السدّي عن أبيه عن مجاهد ، قال : أصاب يعقوب ريح يوسف من مسيرة ثلاثة أيّام وذلك أنّه هبّت فصفقت القميص فاحتملت الريحُ ريحَ القميص إلى يعقوب فوجد ريح الجنّة فعلم أن ليس في الأرض من ريح الجنّة إلاّ أن تأتي من ذلك القميص فمن ثمّ قال : إنّي لأجدُ ريح يوسف ، وهو منه على مسيرة ثماني ليال .
وروى شعيبة عن أبي سنان قال : سمعت عبدالله بن أبي الهُذيل قال : سمعت ابن عباس يقول : وجد يعقوب ريح يوسف روى أبو سنان عن أبي هذيل قال : سمعت ابن عباس يقول : وجد يعقوب ريح يوسف وهو منه على مسيرة ثماني ليال ، وروى شعيبة عن أبي سنان قال : سمعت عبدالله بن أبي الهُذيل عن ابن عباس في هذه الآية قال : وجد ريحه من مسيرة ما بين البصرة والكوفة . وقال الحسن : ذكر لنا أنّه كان بينهما يومئذ ثمانون فرسخاً .
) لولا أن تُفَنّدون ( : سفيان عن حصيف ، عن مجاهد ) لَوْلاَ أَنْ تُفَنِّدُون ( ، قال : تُسفهون الرأي ، عن ابن عباس : تجهلون ، ابن جريج وابن أبي نجيح عن مجاهد : لولا أن تقولوا ذهب عقلك ، سعيد بن جبير والسدّي والضحّاك : تُكذّبون ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، والحسن وقتادة : تهرمون ، ومثله روى إسرائيل عن أبي يحيى عن مجاهد ، ربيع : تحمقون ، جويبر عن الضحّاك : تُهرمون ، فتقولون : شيخ كبير قد خرف وذهب عقله ، ابن يسار : تضعفون ، أبو عمرو بن العلاء : تقبحون ، الكسائي : تُعجزون ، الأخفش : تلومون ، أبو عبيدة : تُضللون ، وأصل الفند : الفساد ، قال النابغة :
إلاّ سُليمان إذْ قالَ المليك له
قم في البرية فاحددها عن الفند
(5/255)
" صفحة رقم 256 "
أي امنعها من الفساد ، ولذلك يقال : اللوم تفنيد ، قال الشاعر :
يا صاحبيَّ دعا لومي وتفنيدي
فليس ما فات من أمر بمردود
وقال جرير بن عطية :
يا عاذليّ دعا الملامَ وأقصرا
طال الهوى وأطلتُما التفنيدا
وقال آخر :
أهلكتني باللومِ والتفنيد
والفند : الخطأ في الكلام والرأي ويقال :
أفند فلاناً الدهر إذا أفسده ، ومنه قول ابن مُقبل :
دَعْ الدهر يفعل ما أراد فإنّه
إذا كُلّف الافناد بالناس أفندا
يوسف : ( 95 ) قالوا تالله إنك . . . . .
) قَالُوا ( يعني أولاد أولاده ) تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِك ( خطأك ) الْقَدِيم ( من حبّك يوسف لا تنساه ،
يوسف : ( 96 ) فلما أن جاء . . . . .
) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِير ( المُبشّر برسالة يوسف ، قال ابن عباس : البريد يهوذا بن يعقوب ، ابن مسعود : جاء البشير من بين يدي العِير قال السدّي : قال يهوذا : أنا ذهبتُ بالقميص مُلطّخاً بالدم إلى يعقوب وأخبرته أنّ يوسف أكله الذئب ، وأنا أذهب اليوم بالقميص وأخبره أنّه حيّ وأفرحه كما أحزنته ، قال ابن عباس : حمله يهوذا دونهم ، وخرج حاسراً حافياً وجعل يعدو حتى أتى أباه ، وكان معه سبعة أرغفة لم يستوف أكلها ، وكانت المسافة ثمانين فرسخاً ، وروى الضحّاك عن ابن عباس ، قال : البشير مالك بن ذعر من أهل مدين .
) أَلْقَاه ( يعني ألقى البشير قميص يوسف على وجه يعقوب ، ) فَارْتَدَّ بَصِيراً ( : فعاد بصيراً بعد ما كان عمي .
عبدالله بن أحمد بن حنبل عن أبي عبدالله السلمي : قال سمعتُ يحيى بن مسلم عمّن ذكره قال : كان يعقوب أكرم أهل الأرض على ملك الموت ، وإنّ ملك الموت استأذن ربّه في أن يأتي يعقوب فأذن له فجاءه فقال يعقوب : يا ملك الموت أسألك بالذي خلقك ، هل أخذت نفس يوسف فيمن قبضت من النفوس ؟ قال : لا ، قال مَلك الموت : يا يعقوب ألا أُعَلِّمك دُعاءً ؟ قال : بلى ، قال : قُل : يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً ولا يُحصيه غيرك ، قال : فدعا به يعقوب في تلك الليلة فلم يطلع الفجر حتى طرح القميص على وجهه فارتدّ بصيراً ، قال الضحّاك : رجع إليه
(5/256)
" صفحة رقم 257 "
بصره بعد العمى والقوّة بعد الضعف والشباب بعد الهرم والسرور بعد الحزن .
) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنْ اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ( من حياة يوسف وأنّ الله يجمع بيننا
يوسف : ( 97 ) قالوا يا أبانا . . . . .
) قَالُوا ( بعد ذلك ) يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِين ( مذنبين .
يوسف : ( 98 ) قال سوف أستغفر . . . . .
) قَال ( يعقوب ( عليه السلام ) : ) سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ( في صلاة الليل ، قال أكثر المفسّرين : أخّره من الليل إلى السحر ، وذلك أنّ الدعاء بالأسحار لا يُحجب عن الله ، فلمّا انتهى يعقوب إلى الموعد تقدّم إلى الصلاة بالسحر ، فلمّا فرغ منها رفع يده إلى الله تعالى : اللهمّ اغفر لي حزني على يوسف وقلّة صبري عنه ، واغفر لوِلدي ما أتوا على يوسف ، فأوحى الله إليه : إنّي قد غفرتُ لك ولهم أجمعين .
قال محارب بن دثار : كان عمّ لي يأتي المسجد ، قال : فمررت بدار عبدالله بن مسعود فسمعته يقول : اللهمّ إنّك دعوتني فأجبت وأمرتني فأطعت فهذا سحرٌ فاغفر لي . فسألته عن ذلك فقال : إنّ يعقوب أخّر استغفار بنيه إلى السحر بقوله : سوف أستغفر لكم ربّي .
عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( سوف أستغفر لكم ربّي ، يقول : حتى يأتي يوم الجمعة ) .
قال وهب : كان يستغفر لهم كلّ ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة ، وقال طاووس : أخّر إلى السحر من ليلة الجمعة فوافق ذلك ليلة عاشوراء .
عن أبي سلمة عن عطاء الخراساني قال : طلب الحوائج إلى الشاب أسهل منها في الشيوخ ، ألا ترى إلى قول يوسف لإخوته : لا تثريب عليكم اليوم ، وقول يعقوب ( عليه السلام ) : سوف أستغفر لكم ربّي .
أبو الحسن الملاني الشعبي : قال : سوف أستغفر لكم ربي ، قال : أسأل يوسف إن عفا عنكم استغفر لكم ربي ) إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم ( روي أنّ يعقوب ( عليه السلام ) قال للبشير لمّا أخبره بحياة يوسف ، قال : كيف تركت يوسف ؟ قال : إنّه ملك مصر ، فقال يعقوب : ما أصنع بالملك ؟ على أيّ دين تركته ؟ قال : على دين الإسلام . فقال يعقوب : الآن تمّت النعمة .
وقال الثوري : لمّا التقى يعقوب ويوسف ( عليهما السلام ) عانق كلّ واحد منهما صاحبه وبكيا ، فقال يوسف : يا أبة بكيتَ عليَّ حتى ذهب بصرك ، ألم تعلم أنّ القيامة تجمعنا ؟ قال : بلى بُنيّ ، ولكن خشيت أن تُسلب دينك ، فيُحال بيني وبينك .
(5/257)
" صفحة رقم 258 "
قالوا : قد كان يوسف بعث مع البشير إلى يعقوب جهازاً ومائتي راحلة ، وسأل يعقوب أن يأتيه بأهله وولده أجمعين ، متهيّأ يعقوب للخروج إلى مصر ، فلمّا دنا من مصر كلّم يوسف الملك الذي فوقه فخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند ، وركب أهل مصر معهما ، يتلقون يعقوب ، ويعقوب يمشي ويقود ركابه يهوذا ، فنظر يعقوب إلى الخيل والناس ، فقال ليهوذا : هذا فرعون مصر ؟ قال : لا ، هذا إبنك .
فلمّا دنا كلّ واحد منهما من صاحبه ذهب يوسف ليبدأه بالسلام فمنع من ذلك وكان يعقوب أحقّ بذلك منه وأفضل ، فابتدأه يعقوب بالسلام وقال : السلام عليك أيّها الذاهب بالأحزان ،
يوسف : ( 99 ) فلما دخلوا على . . . . .
فذلك قوله عزّ وجل : ) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِين ( .
فإن قيل : كيف قال لهم يوسف : ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين بعدما دخلوها ، وقد أخبر الله أنّهم لما دخلوا على يوسف وضمّ إليه أبويه قال لهم هذا القول حين تلقّاهم قبل دخولهم مصر كما ذكرنا .
وقال بعضهم : في الآية تقديم وتأخير ، وهذا الاستثناء من قول يعقوب حين قال : سوف أستغفر لكم ربي ومعنى الكلام : ) سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ( إن شاء الله ) إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم ( .
فلمّا دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال : ادخلوا مصر آمنين ) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْش ( وهذا معنى قول أبي جرير ، وقال بعضهم : إنّما وقع الاستثناء على الأمن لا على الدخول كقوله تعالى : ) لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدِ الْحَرَامَ إنْ شاءَ اللهُ آمِنِيْن ( وقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عند دخول المقابر : ( وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون ) .
فالاستثناء وقع على اللحوق بهم لا على الموت ، وقيل : ( إنْ ) هاهنا بمعنى ( إذْ ) كقوله تعالى : ) وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين ( ، وقوله : ) وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِيْن ( ، وقوله ) إنْ أَرَدْنَ تَحُصُّنا ( .
وقال ابن عباس : إنّما قال : آمنين لأنّهم فيما خلا كانوا يخافون ملوك مصر ولا يدخلون مصر لأنّهم لا جواز لهم ، وأمّا قوله تعالى ) آوَى ( فقال ابن إسحاق : أباه وأمّه وقال الآخرون
(5/258)
" صفحة رقم 259 "
أبوه وخالته لعيّا ، وكانت راحيل أمّ يوسف قد ماتت في نفاسها وتزوّج يعقوب بعدها أُختها لعيا فسمى الخالة أُمّاً كما سمّى العمّ أباً في قوله : ) نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق ( وروى اسحاق عن بشر عن سعيد عن الحسن ، قال : نشر الله راحيل أمّ يوسف من قبرها حتى سجدت تحقيقاً للرؤيا .
يوسف : ( 100 ) ورفع أبويه على . . . . .
) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْش ( على السرير ، يعني أجلسهما عليه قال ابن اسحاق يعني رفع اسمهما ) وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ( يعني يعقوب وخالته وإخوته ، وكانت تحيّة الناس يومئذ السجود ، ولم يرد بالسجود وضع الجباه على الأرض ، لأنّ ذلك لا يجوز إلاّ للهِ تعالى وإنّما هو الانحناء والتواضع على طريق التحيّة والتعظيم والتسليم إلاّ على جهة العبادة والصلاة ، وهذا قول الأعشى بن ثعلبة :
فلمّا أتانا بعيد الكرى
سجدنا له ورفعنا العمارا
وقال آخر :
فضول أزمتها لأمّها أسجدت
سجود النصارى لأربابها
وقيل : السجود في اللغة الخضوع كقول النابغة :
بجمع تضل البلق في حجراته
ترى ألاكم فيه سُجّداً للحوافِر
أي متطامنة ذليلة .
قال ( ثعلبة ) : خرّوا يعني مرّوا ، ولم يرد الوقوع والسقوط على الأرض ، نظيره قوله تعالى : ) لَمْ يَخِرُّوا عليها صُمّاً وعُمْيانا ( إنّما أراد لم يمرّوا كذلك ، مجاهد : بمعنى المرور ، وروي عن ابن عباس أنّ معناه خرّوا لله سُجّداً فقوله : له كناية عن الله تعالى ) وَقَال ( يوسف عند ذلك واقشعرّ جلده : ) هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ( ، وهو قوله ) إنّي رأيْتُ أحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً ( .
واختلفوا في مدّة غيبة يوسف عن يعقوب ، فقال الكلبي : مائتان وعشرون سنة ، سلمان الفارسي : أربعون سنة ، عبدالله بن شدّاد : سبعون سنة وقيل : سبع وسبعون سنة ، وقال الحسن : أُلقي يوسف في الجُب وهو ابن سبع عشرة سنة وغاب عن أبيه ثمانين سنة ، وعاش بعد لقائه
(5/259)
" صفحة رقم 260 "
بيعقوب ثلاثاً وعشرين سنة ، ومات وهو ابن عشرين ومائه سنة ، وفي التوراة : مائة وستّ وعشر سنين . في قول ابن إسحاق بن يسار : ثمانين وسبعة أعوام ، وقال ابن أبي إسحاق : ثماني عشرة سنة ، وولد ليوسف من امرأة العزيز : افراثيم وميشا ورحمة امرأة أيوّب ، وبين يوسف وموسى أربعمائة سنة .
) وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنْ السِّجْن ( ولم يقل من الجبّ استعمالا للكرم لئلاّ يذكّر إخوته صنيعهم ، وقيل : لأنّ نعمة الله عليه في النجاة من السجن أكبر من نعمته عليه في إنقاذه من الجب ، وذلك أنّ وقوعه في البئر كان لحسد إخوته ، ووقوعه في السجن مكافأة من الله لزلّة كانت منه .
) وَجَاءَ بِكُمْ مِنْ الْبَدْوِ ( وذلك أنّ يعقوب وبنوه كانوا أهل بادية ومواشي ، والبدو مصدر قولك : بدا ، يبدو ، بدوّاً ، إذا صار بالبادية ، ) مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ ( أفسد ) الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيف ( ذو لُطف وصنع ) لِمَا يَشَاء ( عالم بدقائق الأمور وحقائقها ، ) إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيم ( .
روى عبدالصمد عن أبيه عن وهب : قال : دخلوا يعني يعقوب وولده مصر وهم اثنان وسبعون إنساناً ما بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى ومقاطنهم ستّمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلا سوى الذرّية والهرمى والزمنى ، وكانت الذرّية ألف ألف ومائتا ألف سوى المقاتلة .
قال أهل التاريخ : أقام يعقوب بمصر بعد موافاته بأهله أربعاً وعشرين سنة في أغبط حال وأهنأ عيش ، ثمّ مات بمصر ، ولمّا حضرته الوفاة أوصى إلى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفنه عند أبيه إسحاق ، ففعل يوسف ذلك ومضى به حتى دفنه بالشام ، ثمّ انصرف إلى مصر .
قال سعيد بن جبير : نُقل في تابوت من ساج إلى بيت المقدس ووافق ذلك يوم مات عيصوا فدفنا في قبر واحد ، فمن ثَمّ تنقل اليهود موتاهم إلى بيت المقدس من فعل ذلك منهم ، وولد يعقوب وعُيص في بطن واحد ، ودفنا في قبر واحد وكان عمرهما جميعاً مائة وسبعة وأربعين سنة .
قالوا : فلمّا جمع الله ليوسف شمله وأقرّ له عينه وأتمّ له رؤياه ، وكان موسّعاً له في ملك الدنيا ونعيمها علم أنّ ذلك لا يدوم له وأن لابدّ له من فراقه فأراد نعيماً هو ( أدوم ) منه ، فاشتاقت نفسه إلى الجنّة فتمنى الموت ودعا ربّه ، ولم يتمنَّ نبي قبله ولا بعده الموت فقال :
يوسف : ( 101 ) رب قد آتيتني . . . . .
) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ ( يعني ملك مصر ) وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الاْحَادِيث ( يعني تعبير الرؤيا ) فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالاْرْض ( أي خالقها وبارئها .
) أَنْتَ وَلِي ( مُعيني ) فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَة ( تتولّى أمري ) تَوَفَّنِي ( اقبضني إليك ) مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِين ( بآبائي النبيين
(5/260)
" صفحة رقم 261 "
قيل : فتوفّاه الله طيّباً طاهراً بمصر ، ودفن في النيل في صندوق رُخام ، وذلك أنّه لما مات تشاحّ الناس عليه كلٌّ يُحب أن يُدفن في محلّتهم لما يرجون من بركته ، فاجتمعوا على ذلك حتى همّوا بالقتال ، فرأوا أن يدفنوه في النيل حيث مفرق الماء بمصر فيمرّ الماء عليه ثمّ يصل الماء إلى جميع مصر ، فيكونوا كلّهم فيه شرعاً واحداً ففعلوا .
وروى صالح المرّي ، عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك ، قال : إنّ الله عزّ وجل لمّا جمع ليعقوب شمله خلا ولده نجيّاً ، فقال بعضهم لبعض : أليس قد علمتم ما صنعتم وما لقي منكم الشيخ وما لقي منكم يوسف ؟ قالوا : بلى ، قال : فإنْ أعَفَوا عنكم ولكن كيف لكم بربّكم ؟ ، فاستقام أمرهم على أن أتوا الشيخ فجلسوا بين يديه ويوسف إلى جنب أبيه قاعد .
قالوا : يا أبانا أتيناك في أمر لم نأتك في مثله قط ، ونزل بنا أمر لم ينزل بنا مثله ، حتى حرّكوه ، والأنبياء ( عليهم السلام ) أرحم البريّة ، فقال : ما لكم يا بَنيَّ ؟ قالوا : ألست قد علمت ما كان منّا إليك ، وما كان منّا إلى أخينا يوسف ؟ قالا : بلى ، وقالوا : أفلستما قد عفوتما ، قالا : بلى ، قالوا : فإنّ عفوكما لا يغني عنّا إنْ كان الله لم يعفُ عنّا ، قال : فما تُريدون يا بَني ؟ قالوا : نُريد أن تدعو الله فإذا جاء الوحي من عند الله بأنّه قد عفا عنا صُنْعَنا قرّت أعيُننا واطمأنّت قلوبنا ، وإلاّ فلا قرّة عين لنا في الدنيا أبداً ، فقام الشيخ واستقبل القبلة وقام يوسف خلف أبيه ، وقاموا خلفهما أذلّة خاشعين ، فدعا يعقوب وأمّن يوسف فلم يجب فيهم عشرين سنة .
قال صالح المرّي : يخيفهم ، حتى إذا كان رأس العشرين نزل جبرئيل على يعقوب فقال : إنّ الله تبارك وتعالى بعثني إليك أُبشّرك ، فإنّه قد أجاب دعوتك في وِلدك ، وإنّه قد عفا عمّا صنعوا ، فإنّه قد اعتقد مواثيقهم من بعدك على النبوّة ، وذلك الذي ذكرت وقصصتُ عليك .
2 ( ) ذَلِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ وَكَأَيِّن مِّن ءَايَةٍ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ قُلْ هَاذِهِ سَبِيلِىأَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِىإِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاَْرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الاَْخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّىَ مَن نَّشَآءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاُِّوْلِى الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَاكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لْقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ) 2
(5/261)
" صفحة رقم 262 "
يوسف : ( 102 ) ذلك من أنباء . . . . .
) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ( والخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) وَمَا كُنتَ لَدَيْهِم ( وما كنت يا محمّد عند أولاد يعقوب ) إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُم ( أي تعاهدوا على إلقاء يوسف في غيابة الجُب ، ) وَهُمْ يَمْكُرُون ( بيوسف ،
يوسف : ( 103 ) وما أكثر الناس . . . . .
) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ ( على إيمانهم ) بِمُؤْمِنِين }
يوسف : ( 104 ) وما تسألهم عليه . . . . .
) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْه ( أي على تبليغ الرسالة والدعاء إلى الله ) مِنْ أَجْر ( : جعل و جزاء ) إِنْ هُوَ ( يعني القرآن والوحي ) إِلاَّ ذِكْر ( : عِظة وتذكير ) لِلْعَالَمِين }
يوسف : ( 105 ) وكأين من آية . . . . .
) وَكَأَيِّن مِنْ آيَة ( وكم قول فيه عِظة وعبرة ودلالة ) فِي السَّمَوَاتِ وَالاْرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُون ( لا يتفكّرون فيها ولا يعتبرون بها .
الحرث بن قدّامة عن عكرمة أنّه قرأ : والأرضُ يمرون عليها رفعاً ، عن محمّد بن عمر قال : سمعت عمرو بن وائل يقرأ : ) وكأيّن من آية في السماوات ( قطعاً ، ) والأرضُ يمروّن عليها ( رفعاً ، أبو حمزة الثمالي عن السدي : أنّه قرأ والأرضَ يمرون عليها نصباً ، وقرأ : يمرون على الأرض ، وعن ابن مجاهد قال : حدّثنا إسحاق الحربي أبو حذيفة ، حدّثنا سفيان قال : وقرأ عبدالله : ) وكأيّن من آية في السماوات والأض يمشون عليها ( .
يوسف : ( 106 ) وما يؤمن أكثرهم . . . . .
) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُون ( عكرمة في قول الله تعالى : ) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُون ( قال : من إيمانهم إذا سُئِلوا : من خلق السماوات والأرض ؟ قالوا : الله ، وإذا سُئِلوا مَن نزّل القطر ؟ قالوا : الله ، ثمّ هُم يُشركون ، وروى جابر عن عكرمة وعامر ، في قوله تعالى : ) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُون ( قالا : يؤمنون بالله أنّه ربّهم وهو خالقهم ويشركون مَن دونه ، وهذا قول أكثر المفسّرين .
وروى بن جبير عن الضحّاك عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في تلبية مشركي العرب وكانوا يقولون في تلبيتهم : لبيّك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك ، تملكه وما ملك ، وكان فيها يخزونك من تلبي : فأجب يا الله لولا أن بكراً دونك بني غطفان وهم يلونك ، ينزل الناس ويخزونك ، ما زال منا غنجاً يأتونك ، وكانت تلبية حرمهم : خرجنا عبادك الناس طرف وهم تلادك ، وهم قديماً عمّروا بلادك ، وقد تعادوا فيك من يعادك ، وكانت تلبية قريش : ( اللهمّ لبيّك ، لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك ) ، وكانت تلبية حمدان و غسان وقضاعة وجذام وتلقين وبهرا : نحن عبادك اليماني إنّا نحجّ ثاني ( على الطريق الناجي نحن نعادي ) جئنا إليك حادي . فأنزل الله ) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُون ( يعني في التلبية .
وقال : لمّا سمع المشركون ما قبل هذه الآية من الآيات قالوا : فإنّا نؤمن بالله الذي خلق هذه الأشياء ولكنّا نزعم أنّ له شريكاً ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
(5/262)
" صفحة رقم 263 "
عطاء : هذا في الدعاء وذلك أنّ الكفّار أشركوا بربّهم في الرخاء ، فإذا أصابهم البلاء أخلصوا في الدعاء ، بيانه قوله تعالى : ) وَظَنُّوا أَنّهُمْ أُحِيْطَ بِهِمْ دَعَوُاالله مُخْلِصِيْنَ لَهُ الدين ( وقوله تعالى : ) وإذا غشيهم موج كالظلّ دعوا الله مخلصين له الدين ( وقوله : ) وإذا مَسَّ الإنْسَانَ الضُرُّ دَعَانَا لِجَنْبِه ( وقوله : ) وإِذَا مَسّهُ الشَرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيْض ( .
وقال بعض أهل المعاني : معناه وما يؤمن أكثرهم باللهِ إلاّ وهم مشركون قبل إيمانهم ، نظيره قوله تعالى : ) وَكَم أَهْلَكْنا قَبْلَهُم مِن قَرْن هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً ( يعني كانوا هم أشدّ منهم بطشاً . وقال وهب : هذه في وقعة الدُخَان وذلك أنّ أهل مكّة لمّا غشيهم الدخان في سنيّ القحط قالوا : ربّنا اكشف عنّا العذاب إنّا مؤمنون ، وذلك إيمانهم وشكرهم عودهم إلى الكفر بعد كشف العذاب بيانه قوله : ) إنّكُم عائِدُوْن ( والعود لا يكون ، إلاّ بعد ابتداء والله أعلم
يوسف : ( 107 ) أفأمنوا أن تأتيهم . . . . .
) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ الله ( قال ابن عباس : مُجللة ، مجاهد : عذاب يغشاهم ، نظيره قوله : ) يَوْمَ يَغْشاهُم العَذاب مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِم ( : قتادة : وقيعة ، الضحّاك : يعني الصواعق والقوارع ) أَوْ تَأْتِيَهُمْ السَّاعَة ( القيامة ) بَغْتَة ( فجأة ، ) وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون ( بقيامها ، ابن عباس : تصيح الصيحة بالناس وهم في أسواقهم .
يوسف : ( 108 ) قل هذه سبيلي . . . . .
) قُلْ ( لهُم يا محمّد ) هَذِه ( الدعوة التي أدعو إليها والطريقة التي أنا عليها ) سَبِيْلِي ( سُنّتي ومنهاجي ، قاله ابن زيد ، وقال الربيع : دعوتي ، الضحّاك : دعائي ، مقاتل : ديني ، نظيره قوله تعالى : ) أُدْعُ إلى سَبِيْلِ رَبِّكَ بالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسنة ( أي دينه ، ) أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَة ( على يقين ، يقال : فلان مستبصر في كذا أي مستيقن ) أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي ( آمن بي وصدّقني فهو أيضاً يدعو إلى الله ، هذا قول الكلبي ، وابن زيد قال : أحقّ والله على من اتّبعه أن يدعو إليّ بما دعا إليه ، ويذكر بالقرآن والموعظة ، وينهى عن معاصي الله .
وقيل : معناه أنا ومن اتّبعني على بصيرة ، يقول : كما أنّي على بصيرة ، فكذلك من آمن بي واتّبعني فهو على بصيرة أيضاً ، قال ابن عباس : يعني أصحاب محمّد ( صلى الله عليه وسلم ) كانوا على أحسن طريقة وأقصد هداية ، معدن العلم ، وكنز الإيمان وجند الرحمن . ) وَسُبْحانَ الله ( أي وقل :
(5/263)
" صفحة رقم 264 "
سبحان الله تنزيهاً له عمّا أشركوا ) وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ }
يوسف : ( 109 ) وما أرسلنا من . . . . .
) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِك ( : يا محمّد ) إلاّ رِجالا ( لا ملائكة ، ) نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ( يعني من أهل الأمصار دون أهل البوادي لأنّ أهل الأمصار أعقل وأفضل وأعلم وأحلم .
) أَفَلَمْ يَسِيرُوا ( يعني هؤلاء المشركين المنكرين لنبوّتك ) فِي الاْرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِم ( أخبر بأمر الأُمم المكذّبة من قبلهم ، فيعتبروا ) وَلَدَارُ الاْخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ( يقول جلّ ثناؤه : هذا فعلنا في الدنيا بأهل ولايتنا وطاعتنا أن نُنْجيهم عند نزول العذاب ، وما في دار الآخرة لهم خيرٌ ، فترك ما ذكرنا ، آنفاً لدلالة الكلام عليه ، وأُضيف الدار إلى الآخرة ولا خلاف لتعظيمها كقوله تعالى : ) إنِّ هَذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِيْن ( وقولهم : عامٌ الأوّل ، وبارحة الأولى ويوم الخميس وربيع الآخر : وقال الشاعر :
ولو أقوتُ عليك ديارعبس
عرفت الذلّ عرفان اليقين
يعني عرفاناً .
) أَفَلاَ يَعْقِلُون ( يؤمنون
يوسف : ( 110 ) حتى إذا استيأس . . . . .
) حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا ( اختلف القُرّاء في قوله : ) كُذِبُوا ( فقرأها قوم بالتخفيف وهي قراءة علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) وابن عباس وابن مسعود وأُبي بن كعب وأبي عبدالرحمن السلمي وعكرمة والضحاك وعلقمة ومسروق والنخعي وأبي جعفر المدني ومحمّد بن كعب والأعمش وعيسى بن عمر الهمداني وأبي اسحاق السبيعي وابن أبي ليلى وعاصم وحمزة وعلي بن الحسين وابنه محمّد بن علي وابنه جعفر بن محمّد ، وعبدالله بن مسلم وابن يسار ، واختارها الكسائي وأبي عبيدة .
وروي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه قرأ ) وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ( مخفّفة وهي قراءة عائشة و ( هرقل ) الأعرج ونافع والزهري وعطاء بن أبي رياح وعبدالله بن كثير وعبدالله بن الحارث وأبي رجاء والحسن .
وقتادة وأبي عمرو وعيسى وسلام وعمرو بن ميمون ويعقوب ، ورويتْ أيضاً عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فمن قرأ بالتخفيف ، فمعناه : حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنّ قومهم أنّ الرسل قد كذبتهم في وجود العذاب .
وروى الخبر عن شعيب بن الحجاج عن إبراهيم عن أبي حمزة الجزري : قال صنعت طعاماً فدعوتُ ناساً من أصحابنا منهم : سعيد بن جبير وأرسلتُ إلى الضحّاك بن مزاحم فأبى أن
(5/264)
" صفحة رقم 265 "
يجيئني فأتيته فلم أدعه حتى جاء ، قال : فسأل فتىً من قريش سعيد بن جبير فقال : يا أبا عبدالله كيف تقرأ هذا الحرف فإنّي إذا أتيت عليه تمنّيت إنّي لا أقرأ هذه السورة : ) حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ( قال : نعم حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدّقوهم ، وظنّ المُرسل إليهم أنّ الرُسل كذّبوهم .
قال : فقال الضحّاك : ما رأيتُ كاليوم قط رجلا يدعى إلى علم فيتلكّأ ، لو رحلت في هذه إلى اليمن لكان قليلا .
وقال بعضهم : معنى الآية على هذه القراءة حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنَّت الرُسُل أنّهم قد كُذِبوا فيما وجدوا من النُصرة . وهذه رواية ابن أبي مليكة عن ابن عباس قال : كانوا دعوا فضعفوا ويئسوا وظنوا أنّهم أخلفوا ثمّ قوله تعالى : ) حَتّى يَقُوْلَ الرَسُولَ وَالْذِيْنَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ الله ( الآية ، ومن قرأ بالتشديد فمعناها ، حتى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يؤمنوا بهم وظنّت الرُسُل أي استيقنت أنّ أممهم قد كذبوهم جاءهم نصرُنا ، وعلى هذا التأويل يكون الظنّ بمعنى العلم واليقين كقول الشاعر :
فقلت لهم ظنوا بألفي متلبب
سراتهم في الفارسيّ المسُردِ
أي أيقّنوا .
وهذا معنى قول قتادة ، وقال بعضهم : معنى الآية على هذه القراءة حتى إذا استيأس الرُسُل ممّن كذّبهم من قومهم أن يصدّقونهم ، وظنّت الرسل أنّ من قد آمن بهم وصدّقوهم قد كذّبوهم فارتدوا عن دينهم لاستبطائهم النصر ) جائَهُم نَصْرُنا ( وهذا معنى قول عائشة .
وقرأ مجاهد ) كَذَبُوا ( بفتح الكاف والذال مخفّفة ولها تأويلان : أحدهما : حتى إذا استيأس الرسل أن يُعذَب قومهم ، وظنّ قومهم أنّ الرُسُل قد كذبوا جاء الرُسل نصرنا ، والثاني : حتى إذا استيأس الرسل من إيمان قومهم وظنّت الرسل أنّ قومهم قد كذبوا على الله بكفرهم ، ويكون معنى الظنّ اليقين على هذا التأويل ، والله أعلم .
) فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاء ( عند نزول العذاب وهم المطيعون والمؤمنون ) وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا ( عذابنا ) عَنْ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِين ( يعني المشركين ، واختلف القرّاء في قوله فنُجّي فقرأها عامّة القراء فننجّي بنونين على معنى فنحن نفعل بهم ذلك ، فأدغم الكسائي أحد النونين في الأُخرى فقرأ : فنجّي بنون واحدة وتشديد الجيم ، وقرأ عاصم بضمّ النون وتشديد الجيم وفتح الياء على مذهب ما لم
(5/265)
" صفحة رقم 266 "
يُسمَّ فاعله ، واختار أبو عبيد هذه القراءة لأنّها في مصحف عثمان ، وسائر مصاحف البلدان بنون واحدة وقرأ ابن مُحيصن فنجا من نشاء بفتح النون والتخفيف على أنّه فعل ماض ويكون محلّه على قراءة عاصم وابن محيصن رفعاً ، وعلى قراءة الباقين نصباً .
يوسف : ( 111 ) لقد كان في . . . . .
) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِم ( أي في خبر يوسف وأخوته ) عِبرَةٌ ( عِظة ) لاِوْلِي الاْلْبَابِ مَا كَان ( يعني القرآن ) حَدِيثاً يُفْتَرَى ( يُختلق ) وَلَكِنْ تَصْدِيق ( يعني ولكن كان تصديق ) الَّذِي بَيْنَ يَدَيْه ( أي ما قبله من الكتب ) وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْء ( ممّا يحتاج إليه العباد ) وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْم يُؤْمِنُون ( .
(5/266)
" صفحة رقم 267 "
( سورة الرعد )
مدنية
قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : إنّها مكّيّة إلاّ آيتين ، قوله : ) وَلاَ يَزَالُ الَّذِيْنَ كَفَرُوا يُصِيْبَهُمْ بِما صَنَعُوا ( ، وقوله ) ومَن عنده علم الكتاب ( .
وهي ثلاثة آلاف وخمسمائة وست أحرف وثمان و ( . . . . . . . . . . ) وخمسون كلمة وثلاث وأربعون آية .
سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة الرعد أُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلِّ سحاب مضى وكلّ سحاب يكون إلى يوم القيامة ، وكان يوم القيامة من الموفين بعهد الله عزّ وجلّ ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْم
2 ( ) المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِىأُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِى لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبَّرُ الاَْمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِى مَدَّ الاَْرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِى الاَْرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاُْكُلِ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ( 2
الرعد : ( 1 ) المر تلك آيات . . . . .
) ألمر ( قال ابن عباس : معناه : أنا الله أعلم وأرى ) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَاب ( يعني تلك الأخبار التي قصصناها عليك آيات التوراة والإنجيل والكتب المتقدّمة ) وَالَّذِي أُنزِلَ ( يعني وهذا القرآن الذي أُنزل ) إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ( هو ) الْحَقُّ ( فاعتصم به واعمل بما فيه ، فيكون محلّ الذي رفعاً على الابتداء و ( الحقّ ) خبره ، وهذا كلّه معنى قول مجاهد وقتادة ، ويجوز أن يكون محل
(5/267)
" صفحة رقم 268 "
( الذي ) خفضاً يعني تلك آيات الكتاب وآياتُ الذي أنزل إليك ثم ابتداء الحقّ يعني ذلك الحقّ كقوله : ) وَهُمْ يَعْلَمُوْنَ الْحَقّ ( يعني ذلك الحقّ .
وقال ابن عباس : أراد بالكتاب القرآن فيكون معنى الآية على هذا القول : هذه آيات الكتاب يعني القرآن ، ثمّ قال : وهذا القرآن الذي أُنزل إليك من ربّك هو الحقّ ، قال الفرّاء : وإنْ شئت جعلت ( الذي ) خفضاً على أنّه نعت الكتاب وإن كانت فيه الواو كما تقول في الكلام : أتانا هذا الحديث عن أبي حفص والفاروق وأنت تريد ابن الخطّاب ، قال الشاعر :
أنا الملك القرم وابن الهُمام
وليث الكتيبة في المزدحم
) وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُون ( قال مقاتل : نزلت هذه الآية في مشركي مكّة حين قالوا : إنّ محمّداً يقول القرآن من تلقاء نفسه ، ثمّ بين دلائل ربوبيّته وشواهد قدرته فقال عزّ من قائل
الرعد : ( 2 ) الله الذي رفع . . . . .
: ( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَات ( وهذه الآية من جملة مائة وثمانين آية أجوبة لسؤال المشركين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنّ الربّ الذي تعبده ما فعله وصنيعه ؟ وقوله : ) بِغَيْرِ عَمَد تَرَوْنَهَا ( يعني السواري والدعائم واحدها عمود وهو العمد والبناء ، يقال : عمود وعمد مثل أديم وأدم ، وعمدان ، وكذا مثل رسول ورسل ، ويجوز أن يكون العمد جمع عماد ، ومثل إهاب وأُهب ، قال النابغة :
وخيس الجنّ إنّي قد أذنتُ لهم
يبنُون تدمُر بالصّفاحِ والعَمَد
واختلفوا في معنى الآية فنفى قومٌ العمد أصلا ، وقال : رفع السماوات بغير عمد وهو الأقرب الأصوب ، وقال جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس : يعني ليس من دونها دعامة تدعهما ، ولا فوقها علاقة تمسكها ، وروى حمّاد بن سملة عن إياس بن معاوية قال : السماء مُقبّبة على الأرض مثل القبر ، وقال آخرون : معناه : الله الذي رفع السماوات بعمد ولكن لا ترونها ، فأثبتوا العمد ونفوا الرؤية ، وقال الفرّاء من تأوّل ذلك فعلى مذهب تقديم العرب الجملة من آخر الكلمة إلى أوّلها كقول الشاعر :
إذا أُعجبتك الدهر حال من أمرىً
فدعه وأوكل حاله واللياليا
تُهين على ما كان عن صالح بهفان كان فيما لا يرى الناس آليا
معناه : وإن كان فيما يرى الناس لا يألو . وقال الآخر :
(5/268)
" صفحة رقم 269 "
ولا أراها تزال ظالمة
تحدث لي نكبة وتنكرها
معناه : آراها لا تزال ظالمة فقدّم الجحد .
) ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش ( علا عليه وقد مضى تفسيره ، ) وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَر ( أي ذلّلها لمنافع خلقه ومصالح عباده ) كُلٌّ يَجْرِي لاِجَل مُسَمّى ( أي كلّ واحد منهما يجري إلى وقت قُدِّرَ له ، وهو فناء الدنيا وقيام الساعة التي عندها تكور الشمس ويُخسف القمر وتنكدر النجوم ، وقال ابن عباس : أراد بالأجل المُسمّى درجاتهما ومنازلهما التي ينتهين إليها لا يجاوزانها .
) يُدَبِّرُ الاْمْر ( قال مجاهد : يقضيه وحده ) يُفَصِّلُ الآيَات ( ينتهيان ، ) لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُون ( لكي توقنوا بوعدكم وتصدّقوه
الرعد : ( 3 ) وهو الذي مد . . . . .
) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الاْرْض ( بسطها ، ) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِى ( جبالا ، واحدتها راسية وهي الثابتة ، يقال : إنّما رسيت السفينة ، وأرسيت الوتد في الأرض إذا أثبتّها ، قال الشاعر :
حبّذا ألقاه سائرين وهامد
وأشعث أرست الوليدة بالفهر
قال ابن عباس : كان أبو قبيس أوّل جبل وضع على الأرض ، ) وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْن ( صنفين وضربين ) اثْنَيْن ( : قال أبو عُبيدة يكون الزوج واحداً واثنين ، وهو هاهُنا واحد ، قال القتيبي : أراد من كلّ الثمرات لونين حلواً وحامضاً ) يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لِقَوْم يَتَفَكَّرُون ( يستدلّون ويعتبرون
الرعد : ( 4 ) وفي الأرض قطع . . . . .
) وَفِي الاْرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَات ( أبعاض متقاربات متدانيات يقرب بعضها من بعض بالجوار ويختلف بالتفاضل ، ومنها عذبة ومنها طيبة ومنها طيبة منبت ؛ لأنها بجنته ومنها سبخة لا تنبت .
) وجنات من أعناب وزرع ونخل صنوان وغير صنوان ( رفعها ابن كثير وأبو عمرو عطفاً على الجنات ، وكسرها الآخرون عطفاً على الأعناب . والصنوان جمع صنو ، وهي النخلات يجمعهن أصل واحد فيكون الأصل واحد ، ويتشعب به الرؤس فيصير نخلا ، كذا قال المفسرون ، قالوا : صنوان مجتمع وغير صنوان متفرق .
قال أهل اللغة : نظيرها في كلام العرب ، صنوان واحد ، واحدها صنو والصنو المثل وفيه قيل : شمَّ الرجل صنوانه ولا فرق فيهما بين التثنية والجمع إلاّ بالإعراب ؛ وذلك أن النون في التثنية مكسورة غير منونة وفي الجمع منونة تجري جريان الإعراب .
خالفوا كلهم على خفض الصاد من صنوان إلاّ أبا عبد الرحمن السلمي فإنه ضم صاده
(5/269)
" صفحة رقم 270 "
) يسقى بماء واحد ( . قرأ عاصم وحميد وابن الحسن وابن عامر : بالياء على معنى يسقى ذلك كله بماء واحد .
وقرأ الباقون : بالتاء لقوله جنات .
واختاره أبو عبيد قال : وقال أبو عمرو : مما يصدق التأنيث قوله بعضه على بعض ولم يقل بعضه . ) ونفضل ( . قرأ الأعمش وحمزة والكسائي : بالياء رداً على قوله يدبّر ويفضّل ويغني .
وقرأها الباقون : بالنون بمعنى ونحن نفضل بعضها على بعض في الأُكل .
قال الفارسي : والدفل والحلو والحامض .
قال مجاهد : كمثل صالح بني آدم وخبيثهم أبوهم واحد .
عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال : سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول لعلي كرم الله وجهه : ( الناس من شجر شتى وأنا وأنت من شجرة واحدة ) ثم قرأ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) وفي الأرض قطع متجاورات ( حتى بلغ ) يسقى بماء واحد ( .
قال الحسن : هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم ، كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة فبسطها وبطحها فصارت الأرض قطعاً متجاورة ، فينزل عليها الماء من السماء فيخرج هذه زهرتها وثمرها وشجرها ويخرج قاتها ويحيي موتاها ويخرج هذه سبخها وملحها وخبثها وكلتاهما تسقى بماء واحد . فلو كان الماء مجاً قيل : إنما هذه من قبل الماء ، كذلك الناس خلقوا من آدم فينزل عليهم من السماء تذكرة فترقّ قلوب فتخنع وتخشع ، وتقسوا قلوب فتلهو وتقسو وتجفو .
وقال الحسن : والله ما جالس القرآن أحد إلاّ قام من عنده إلاّ في زيادة ونقصان .
قال الله عزّ وجلّ ) وننزلّ من القرآن ما شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلاّ خساراً ( ) إنّ في ذلك ( الذي ذكرت ) لآيات لقوم يعقلون (
.
) وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَءِذَا كُنَّا تُرَابًا أَءِنَّا لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَائِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الاَْغْلَالُ فِىأَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاأُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ اللَّهُ
(5/270)
" صفحة رقم 271 "
يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الاَْرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِالَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ( 2
الرعد : ( 5 ) وإن تعجب فعجب . . . . .
) وإن تعجب ( يا محمد من تكذيب هؤلاء المشركين واتخاذهم ما لا يضر ولا ينفع آلهةً يعبدونها من دون الله ، وهم قراؤ تعبدون من الله وامره وما ضرب الله من الأمثال ) فعجب قولهم ( فتعجب أيضاً من قيلهم ) إذا كنا تراباً ( بعد الموت ) إنا لفي خلق جديد ( فيعاد خلقنا جديداً كما كنا قبل الوجود .
قال الله : ) أُولئك الذين كفروا بربهم وأُولئك الأغلال في أعناقهم ( يوم القيامة ) وأُولئك أصحاب النار ( جهنم
الرعد : ( 6 ) ويستعجلونك بالسيئة قبل . . . . .
) ويستعجلونك ( يعني مشركي مكة ) بالسيئة ( بالبلاء والعقوبة ) قبل الحسنة ( الرخاء والعافية ، وذلك أنّهم سألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إن جاءهم العذاب فاستهزأ منهم بذلك .
وقالوا : ) اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ( الآية ) وقد خلت من قبلهم المثلات ( وقد مضت من قبلهم في الأمم التي عصت ربها وكذبت رسلها ، العقوبات المنكلات واحدتها : مَثُلة بفتح الميم وضم التاء مثل صدُقة وصدُقات .
وتميم : بضم التاء والميم جميعاً ، وواحدتها على لغتهم مُثْلَة بضم الميم وجزم الثاء مثل عُرُفة وعُرْفات والفعل منه مثلت به أمثل مثلا بفتح الميم وسكون الثاء .
) وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم وإن ربك لشديد العقاب ( .
أحمد بن منبه عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب قال : ولما نزلت هذه الآية ) وإن ربك لذو مغفرة للناس ( قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ لأحد العيش ، ولولا وعيده وعقابه لاتّكل كل أحد ) .
الرعد : ( 7 ) ويقول الذين كفروا . . . . .
) ويقول الذين كفروا لولا أُنزل عليه ( يعني على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) آية ( علامة وحجة على نبوته ، قال الله : ) إنما أنت منذر ( مخوف ) ولكل قوم هاد ( داع يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ إمام يأتمون به .
وقال الكلبي : داع يدعوهم إلى الضلالة أو إلى الحق .
(5/271)
" صفحة رقم 272 "
أبو العالية : قائد ، أبو صالح قتادة مجاهد : نبي يدعوهم إلى الله .
سعيد بن جبير : يعني بالهادي الله عزّ وجلّ .
وهي رواية العوفي ، عن ابن عباس قال : المنذر محمد ، والهادي الله .
عكرمة وأبو الضحى : الهادي محمد ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
وروى السدي عن عبدالله بن علي قوله تعالى : ) إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ( قال : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( المنذر أنا ، الهادي رجل من بني هاشم يعني نفسه ) .
وروى عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية وضع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يده على صدره فقال : ( أنا المنذر ) وأومأ بيده إلى منكب علي ( ح ) فقال : ( فأنت الهادي يا علي ، بك يهتدي المهتدون من بعدي ) .
ودليل هذا التأويل :
ما روي عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن زيد عن ربيع عن حذيفة : إنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن وليتموها أبا بكر فزاهد في الدنيا راغب في الآخرة وفي جسمه ضعف ، وإن ولتموها عمر فقوي أمين لا تأخذه في الله لومة لائم ، وإن وليتموها علياً فهاد مهدي يقيلمكم على طريق مستقيم ) .
رداً على منكري البعث القائلين أءذا كنا تراباً أءنا لفي خلق جديد فقال سبحانه :
الرعد : ( 8 ) الله يعلم ما . . . . .
) الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الإرحام ( يعني تنقص .
قال المفسرون : غيض الأرحام الحيض على الحمل ، فإذا حاضت الحامل كان نقصاناً في غذاء الولد وزيادة في مدة الحمل ، فإنها بكل يوم حاضت على حملها يوم تزداد في طهرها حتى يستكمل ستة أشهر ظاهراً . فإن رأت الدم خمسة أيام ومضت التسعة أشهر وخمسة أيام ، وهو قوله : ) وما تزداد ( .
روى ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : ما تغيض الأرحام خروج الدم حتى تَحِضْ ، يعني حين المولد ، وما تزداد استمساك الدم إذا لم تهرق المرأة تم الولد وعظم ، وفي هذه الآية دليل على أنّ الحامل تحيض وإليه ذهب الشافعي .
وقال الحسن : غيضها ما تنقص من التسعة الأشهر وزيادتها ما تزداد على التسعة الأشهر
(5/272)
" صفحة رقم 273 "
الربيع بن أنس : ما يغيض الأرحام يعني السقط وما تزداد يعني توءمين إلى أربعة .
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس : ما تغيض الأرحام يعني به السقط .
وروى عبيد بن سليمان عن الضحاك قال : الغيض النقصان من الأجل ، والزيادة ما يزداد على الأجل ، وذلك أنّ النساء لا يلدْنَ لعدّة واحدة ولا لأجل معلوم وقَدْ يُولد الولد لستة أشهر فيعيش ويولد لسنتين ويعيش .
قال : وسمعت الضحاك يقول : ولدت لسنتين قد نبتت ثناياي ، وروى هيثم عن حصين قال : مكث الضحاك في بطن أُمه سنتين .
وروى ابن جريح عن جميلة بنت سعد عن عائشة قالت : لا يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحو ظل المغزل ، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وجماعة من الفقهاء .
وقال الشافعي وجماعة من الفقهاء : أكثر الحمل أربع سنين ، يدل عليه ما أخبرني أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين الحافظ ، أحمد بن إبراهيم بن الحسين بن محمد قال : سمعت أبا محمد عبد الله بن أحمد بن الفرج الأحمري سمعت عباس بن نصر البغدادي سمعت صفوان ابن عيسى يقول : مكث محمد بن عجلان في بطن أُمه ثلاث سنين فشق بطن أُمه وأُخرج وقد نبتت أسنانه .
وروى ابن عائشة عن حماد بن سلمة قال : إنما سمي هرم بن حيان هرماً ؛ لأنه بقي في بطن أُمه أربع سنين .
) وكل شيء عنده بمقدار ( بحد لا يجاوزه ولا ينقص عنه ، والمقدار مفعال من القدر
الرعد : ( 9 ) عالم الغيب والشهادة . . . . .
) عالم الغيب والشهادة الكبير ( الذي كل شيء دونه ) المتعال ( المستعلي على كل شيء بقدرته
الرعد : ( 10 ) سواء منكم من . . . . .
) سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل ( في ظلمته ) وسارب ( ظاهر ) بالنهار ( ضوءه لا يخفى عليه من ذلك .
وقال أبو عبيدة : سارب بالنهار أي سالك في سربه أي مذهب ووجهة ، يقال : سارب سَربه بفتح السين أي طريقه .
قال قيس بن الحطيم :
إني سربتُ وكنتُ غيرَ سروبِ
وتقربُ الأحلامِ غيرُ قريبِ
الشعبي : سارب بالنهار منصرف في حوائجه يقال : سرب يسرب .
قال الشاعر :
(5/273)
" صفحة رقم 274 "
أرى كلَّ قوم قاربوا قيدَ فحلهم
ونحن خلعنا قيدَهُ فهو ساربُ
أي ذاهب .
قال ابن عباس : في هذه الآية هو صاحب ريبة مستخف بالليل ، فإذا خرج بالنهار رأى الناس أنه بريء من الإثم .
وقال بعضهم : مستخف بالليل أي ظاهر ، من قولهم : خفيت الشيء إذا أظهرته ، وسارب بالنهار أي متوار داخل في سرب .
2 ( ) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ هُوَ الَّذِى يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلْائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِى اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَىْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَآءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِى ضَلَالٍ ( 2
الرعد : ( 11 ) له معقبات من . . . . .
) له ( أي لله تعالى ) معقبات ( ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار فإذا صعدت ملائكة الليل أعقبتها ملائكة النهار ، وإذا صعدت ملائكة النهار أعقبتها ملائكة الليل ، والتعقيب العود بعد المبدأ ، قال الله ولم يعقب وإنما ذكرها هنا بلفظ جمع التأنيث ؛ لأنّ واحدهما معقب وجمعه معقبة ، ثم جمع المعقبة معقبات فهي جمع الجمع . كما قيل أما قال قد حالات بكم وقوله : ) من بين يديه ( يعني من قدام هذا المستخفي بالليل والسارب بالنهار ومن خلفه من وراء ظهره .
قال ابن عباس : ملائكة يحفظونه من أمر الله من بين يديه ومن خلفه فإذا جاء القدر خلوا عنه .
حماد بن سلمة عن عبدالله بن جعفر عن كنانه العمري قالوا : دخل عثمان بن عفان ( ح ) على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله أسألك عن العبد كم معه من ملك ؟ قال : ( ملك على يمينك يكتب حسناتك ، وهو أمين على الذي على الشمال فإذا عملت حسنة كتبت عشراً ، وإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين : أأكتب ؟ قال : لا ، لعله يستغفر الله أو يتوب فإذا قال ثلاثاً قال : نعم اكتب أراحنا الله منه فبئس القرين هو ما أقل مراقبته لله عزّ وجلّ وأقل استحياء منا يقول الله ) ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد ( وملكان من بين يديك
(5/274)
" صفحة رقم 275 "
ومن خلفك يقول الله ) له معقبات من بين يديه ومن خلفه ( وملك قابض على ناصيتك ، فإذا تواضعت لله رفعك وإذا تجبرت على الله قصمك ، وملكان على شفتيك ليس يحفظان عليك إلاّ الصلاة على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وآله ، وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحيّة في فيك ، وملكان على عينيك هؤلاء عشرة أملاك على كل آدمي يتداولون ملائكة الليل على ملائكة النهار ؛ لأن ملائكة الليل أي ليسوا من ملائكة النهار فهؤلاء عشرون ملكاً على كل آدمي وإبليس مع بني آدم بالنهار وولده بالليل ) .
قتادة وابن جريح : هذه ملائكة الله عزّ وجلّ يتعاقبون فيكم بالليل والنهار ، وذكر لنا أنّهم يجتمعون عند صلاة العصر وصلاة الصبح .
همام بن منبه عن أبي هريرة عن محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يتعاقبون فيكم ، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي ؟ قالوا : تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون ) .
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية قال : ذكر ( أنّ ) ملكاً من ملوك الدنيا له حرس من دونه حرس فإذا جاء أمر الله لم ينفعوا شيئاً .
عكرمة : هؤلاء ملائكة من بين أيديهم ومن خلفهم لحفظهم .
شعبة عن شرفي عن عكرمة قال : الجلاوزة .
الضحاك : هو السلطان المحترس من الله وهم أهل الشرك ، وقوله ) يحفظونه من أمر الله ( اختلفوا فيه فقال قوم : يعني : بأمر الله ، وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض ، وهذا قول مجاهد وقتادة ورواية الوالبي عن ابن عباس ، وقال الآخرون : يحفظونه من أمر الله ما لم يجئ القدر .
لبيد عن مجاهد : ما من عبد إلاّ به ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس الهوام فما منهم شيء بأمره يريده إلاّ قال فذاك لا يأتي بإذن الله عزّ وجلّ فيه فيصيبه .
وقال كعب الأحبار : لولا وكل الله بكم ملائكة يذبّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذا يحيطكم الجن .
(5/275)
" صفحة رقم 276 "
وروى عمار بن أبي حفصة عن أبي مجلز قال : جاء رجل من مراد إلى علي ( ح ) وهو يصلي ، فقال : احترس فإنّ ناساً من مراد يريدون قتلك . فقال : إنّ مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر ، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه وإنّ الأجل جنة حصينة ، وقال أهل المعاني : إنّ أوامر الله عزّ وجلّ على وجهين أحدهما قضى حلوله ووقوعه بصاحبه ، فذلك ما لا يدفعه أحد ولا يغيره بشر ولا حتى الجن ولم يقض حلوله ووقوعه ، بل قضى صرفه بالتوبة والدعاء والصدقة والحفظة كقصة يونس ( عليه السلام ) ، وقال ابن جريج : معناه يكنصون من الله أمر الله يعني يحفظون عليه الحسنات والسيئات ، وقال بعض المفسرين أن هذه الآية أنّ الهاء في قوله : ) له ( راجعة إلى رسول الله ( عليه السلام ) .
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : ) له معقبات ( يعني محمد ( عليه السلام ) من الرحمن حراس من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله ، يعني من شر الجن والإنس ومن شر طارق الليل والنهار ، وقال عبد الرحمن بن زيد : نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل وزيد بن ربيعة وكانت قصتهما على ما روى محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : أقبل علينا . زيد بن ربيعة هو وعامر بن الطفيل يريدان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو جالس في نفر من أصحابه ، فدخلا المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر وكان أعور ، وكان من أجمل الناس .
وقال رجل من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل وهو مشرك .
فقال : دعه فإن يرد الله به خيراً بهذه ، فأقبل حتى قام عليه ، فقال : يا محمد ما لي إن أسلمت ؟ قال : لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين ، قال : تجعل لي الأمر بعدك . قال : ليس ذلك إليَّ إنما ذاك إلى الله يجعله حيث يشاء .
قال : فاجعلني على الوبر وأنت على المدر ، قال الرجل : فماذا يجعل لي ؟ قال : أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها .
قال : أوليس ذلك لي اليوم ؟ قال : لا . قال : قم معي أُكلمك ، فقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان يوصي إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فَدُرْ من ورائهِ بالسيف فجعل يخاصم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فدار أربد بن ربيعة خلف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليضربه فاخترط من سيفه شبراً ثم حبسه الله عنه فلم يقدر على قتله وعامر يومئ إليه فالتفت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فرأى أربد وما منع بسيفه .
فقال : اللهم أكفنيهمابما شئت ، فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صاح صائف وولى عامر هارباً .
وقال : يا محمد دعوت ربك فقتل أربد والله لأملأنها عليك خيلا جرداً وفتياناً مرداً .
(5/276)
" صفحة رقم 277 "
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يمنعك الله من ذلك وأبناء قيلة ) يعني الأوس والخزرج ، فنزل عامر ببيت امرأة سلولية فأنشأ يقول :
بخير أبيت اللعن إن شئت ودّنا
فإن شئت حرباً بأس ومصدق
وإن شئت فنسيا ما يكفي أمرهم
يكبون كبش العارفين متألق
فلما أصبح ضم إليه سلاحه وقد تغير لونه ، وهو يقول :
واللات لئن أصحر محمد إلي وصاحبه عني ملك الموت لأُنفذنهما برمحي ، فلما رأى الله تعالى ذلك منه أرسل ملكاً فلطمه بجناحه فأذراه في التارب ، وخرجت على ركبته غدة في الوقت كغدة البعير فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول : غدة كغدة البعير وموت في السلولية ثم مات على ظهر فرسه .
لعمري وما عمري علي بهين
لقد شان حمر الوجه طعنة مسهر
قد علم المزنوق أني أكرّ
على جمعهم كرّ المنيح المشهر
وأزود من وقع السنان زجرته
وأخبرته أني امرؤ غير مقصر
وأخبرته أن الفرار خزاية
على المرء ما لم يبل عذراً فيعذر .
لقد علمت عليا هوازن أنني
أنا الفارس الحامي حقيقة جعفر
فجعل يركض في الصحراء ويقول : أبرز يا ملك الموت ، ثم أنشأ يقول :
لاقرب المزنوق ولتجد ما أرى لنفر
من يوم شره غير حامد .
إلا قرباه إن غاية حرمناه إذا
قرب المزنوق بين الصفايد هو من عامر قدن
إذا ما دعوتهم أجابوا
ولبى منهم كل ماجد
وكان بعضهم يعيّر بعضاً النزول على سلولية ولذلك ركب فرسه ليموت خارجاً من بيتها ما أحس بالموت ، ثم دعا بفرسه يركبه ثم أجراه حتى مات على ظهره .
فأجاب الله تعالى دعاء رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وقتل عامراً بالطاعون وأربد بالصاعقة ، فرثى لبيد بن ربيعة أخاه أربد بجملة من المراثي فمنها هذه :
وانالك فاذهب والحق
بأسرتك الكرام الغيب
(5/277)
" صفحة رقم 278 "
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب ،
يتآكلون مغالة وملاذة
ويعاب قائلهم وإن لم يشغب
فنعد في هذا وقل في غيره
واذكر شمائل من أخ لك معجب
إنّ الرزيئة لا رزيئة بعدها
مثلها فقدان كل أخ كضوء الكوكب
من معشر بنت لهم آباؤهم
والعز لايأتي بغير تطلب
يا أربد الخير الكريم جدوده
أفردتني أمشري بقرن أعضب
ومنها قوله :
ما أن تعزي المنون من أحد
لا والد مشنق ولا ولد
أخشى على أربد الحتوف
أرهب نوأ السماك والأسد
فعين هلا بكيت أربد إذ
قمنا وقام النساء في كبد
فجعني البرق والصواعق
بالفارس يوم الكريهة النجد
فأنزل الله تعالى في هذه القصة ) سواء منكم من أسر القول ( الآية ) له معقبات ( يعني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) له معقبات ( يحفظونه ) من بين يديه ومن خلفه ويحفظونه من أمر الله ( يعني تلك المعقبات من أمر الله وهي مقدم ومؤخر لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه تلك المعقبات من أمر الله وقال الذين ( آمنوا : ) ) إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( .
وقرأ ) ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ( حتى بلغ ) وما دعاء الكافرين إلاّ في ضلال ( ، ) إن الله لا يغير ما بقوم ( من العافية والنعمة ) حتى يغيروا ما بأنفسهم ( من الحال لا ( . . . . . . . . . ) فيعصون ربهم ويظلمون بعضهم بعضاً .
) وإذا أراد الله بقوم سوءاً ( عذاباً وهلاكاً ) فلا مرد له وما لهم من دونه من وال ( علمها المخاوف بالله وقيل : وال ولي أمرهم ما يدفع العذاب عنهم
الرعد : ( 12 ) هو الذي يريكم . . . . .
) هو الذي يريكم البرق خوفاً ( يخاف أذاه ومشقته ) وطمعاً ( للمقيم يرجو بركته وشفعته أن يمطر ) وينشىء ( بينهم ) السحاب
(5/278)
" صفحة رقم 279 "
الثقال ( يعني قال إن شاء الله السحابة فيشاء أي أبدأها فبدلت وأسحاب جمع واحدتها سحابة
الرعد : ( 13 ) ويسبح الرعد بحمده . . . . .
) ويسبح الرعد بحمده ( عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أقبلت اليهود إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : يا أبا القاسم نسألك خمسة أشياء فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك قال : فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذ قالوا : ) الله على ما نقول وكيل ( .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( هاتوا ) ، قالوا : أخبرنا عن الرعد ماهو ؟ قال : ( ملك من الملائكة الموكلة بالسحاب معه مخاريف من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله ) .
قالوا : فما هذا الذي نسمع ؟ قال : ( زجر السحاب إذا زجر حتى ينتهي إلى حيث أمر ) .
قالوا : صدقت .
قال عطية : الرعد ملك ، وهذا تسبيحه ، والبرق سوطه الذي يزجر به السحاب فقال : لذلك الملك رعد وقد ذكرنا معنى الرعد والبرق بما أغنى عن إعادته .
وقال أبو هريرة : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا سمع صوت الرعد ) قال سبحانه من يسبح الرعد بحمده .
عكرمة عن ابن عباس : إنه كان إذا سمع الرعد قال : سبحان الذي سبحت له .
وقال ابن عباس : من سمع صوت الرعد فقال سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة في خيفته وهو على كل شيء قدير ، فإن أصابته صاعقه فعلى ذنبه .
وروى مالك بن أنس عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال : سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويقول : إن هذا الوعيد لأهل الأرض شديد .
وروى حجاج بن أرطأة عن أبي مطر عن سالم يحدث عن أبيه قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا سمع الرعد والصواعق قال : ( اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بغدابك وعافنا قبل ذلك ) .
) والملائكة من خيفته ( يعني ويسبح الملائكة من خيفة الله وخشيته ، وقيل أراد هو أنّ الملائكة أعوان الرعد ، جعل لله تعالى له أعواناً فهم جميعاً خائفون ، خاضعون طائعون به يرسل الصواعقعن الضحاك عن ابن عباس قال : الرعد ملك يسوق السحاب ، وإنّ بحور الماء لفي
(5/279)
" صفحة رقم 280 "
نقرة إبهامه وإنه موكل بالسحاب يصرفه حيث ويؤمر وإنه يسبح الله فإذا سبح الرعد لم يبق ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل المطر ) ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ( أصاب أربد بن ربيعة .
قال أبو جعفر الباقر : الصواعق تصيب المسلم وغير المسلم ولا تصيب ذاكراً .
) وهم يجادلون في الله ( وقد أصابت أربد وعامر ، وقيل نزلت هذه الآية في بعض كفار العرب .
حديث إسحاق الحنظلي عن ريحان بن سعيد الشامي عن عماد بن منصور عن عباس بن الناجي قالت : سألت الحسن عن قوله : ) ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ( الآية .
فقال كان رجل من طواغيت العرب بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نفراً يدعونه إلى الله ورسوله والإسلام ، فقال لهم : أخبروني عن رب محمد هذا الذي يدعوني إليه وما هو ، ومم هو أمن فضة أم حديد أم نحاس ، فاستعظم القوم مقالته وانصرفوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : يا رسول الله ما رأينا رجلاً آخر أكفر منه ، ولا أعتى على الله منه ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ارجعوا إليه ) ، فرجعوا إليه فجعل يزيدهم على مثل مقالته الأُولى وقال : أُجيب محمداً إلى ربّ لا أراه ولا أعرفه فانصرفوا إليه ، فقالوا : يا رسول الله ما زادنا على مقالته الأُولى إلاّ قوله : أُجيب محمداً إلى رب لا يعرفه ، فقال : فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ارجعوا إليه ، فرجعوا إليه فبينا هم عنده ينازعونه ويدعونه ويعظمون عليه ، وهو يقول : هذه المقالة إذ ارتفعت سحابة فكانت فوق رؤوسهم فرعدت ثم برقت فرمت بصاعقة فأحرقت الكافر وهم جلوس فجاؤوا يسعون ليخبروا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فاستقبلهم بعض أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا لهم : احترق صاحبكم .
قالوا : من أين علمتم ؟ قال : أوحى الله إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ( فقال الحسن : ما شديد المحال ؟
قال : شديد الحمل .
قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : شديد الأخذ .
مجاهد : شديد القوة . أبو عبيدة : شديد العقوبة ، والمحال والمماحلة المماكرة والمغالبة .
(5/280)
" صفحة رقم 281 "
وأنشد أبو عبيدة للأعشى :
فرع نبع يهتز في غصن المج
د غزير الندي شديد المحال
وقال الآخر :
ولبس بين أقوام كلّ
أعد له الشغازب والمحالا
الرعد : ( 14 ) له دعوة الحق . . . . .
) له ( لله عزّ وجلّ ) دعوة الحق ( الصدق وأضيفت الدعوة إلى الحق لاختلاف الإسمين وقد مضت هذه المسألة .
قال علي ( ح ) : دعوة الحق التوحيد .
ابن عباس ( ح ) : شهادة أن لا إله إلاّ الله .
) والذين يدعون من دونه ( يعني المشركين الذين يعبدون الأصنام من دون الله ) لا يستجيبون لهم بشيء ( يريدونه منهم من نفع أو دفع ) إلاّ كباسط كفيه إلى الماء ( إلاّ كما ينفع باسط كفيه إلى الماء من العطش يبسطه إياهما إليه يدعو الماء بلسانه ويشير إليه بيده فلا يأتيه أبداً .
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : هذا مثل لمشرك عبد مع الله غيره ، فمثله كمثل الرجل العطشان الذي نظر إلى خياله في الماء من بعيد فتصور أن يتناوله فلا يقدر عليه ، عطية عنه يقول : مثل الأوثان التي يعبدون من دون الله كمثل رجل قد بلغه العطش حتى كربه الموت وكفاه في الماء وقد وضعهم الا يبلغان تناوله .
الضحاك عنه يقول : كما أنّ العطشان إذا يبسط كفيه إلى الماء لا ينفعه ما لم يحفظهما ويروي بهما الماء ولا يبلغ الماء فاه مادام باسط كفيه إلى الماء ليقبض على الماء ؛ لأن القابض على الماء لا شيء في يده .
قال ضاني بن الحرث المزني :
فإني وأيّاكم وشوقاً إليكم
كقابض ماء لم تسقه أنامله
وقال الشاعر :
وأصبحت مما كان بيني وبينها
من الود مثل القابض الماء باليد
) وما دعاء الكافرين ( أصنامهم ) إلاّ في ضلال ( يضل عنهم إذا أحتاجوا إليه
(5/281)
" صفحة رقم 282 "
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : ما دعاء الكافرين ربهم إلاّ في ضلال ؛ لأن أصواتهم تحجب عن الله تعالى .
) 7 8 9 : ؛ ؟ ء آ أ ؤ : 17
وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالاَْصَالِ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الاَْعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ أَنَزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِى النَّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذاَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الاَْرْضِ كَذالِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الاَْمْثَالَ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الاَْرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِى الاَْرْضِ أُوْلَائِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَواةُ الدُّنْيَا فِى الاَْخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِىإِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ ( 2
الرعد : ( 15 ) ولله يسجد من . . . . .
) ولله يسجد من في السماوات والأرض ( يعني الملائكة والمؤمنين ) طوعاً وكرهاً ( يعني المنافقين والكافرين الذين أكرهوا على السجود بالسبعة . ) ^
وروى ابن المبارك عن سفيان قال : كان ربيع بن هشيم إذا قرأ هذه الآية قال : بل طوعاً يا رباه .
) وضلالهم بالغدو والآصال ( يعني ضلال الساجدين طوعاً أو كرهاً يسجد لله حين يقي ضلل أحدهم عن يمينه أو شماله .
قال ابن عباس : نظيرها في النحل
(5/282)
" صفحة رقم 283 "
قال الكلبي : إذا سجد بالغدو أو العشي سجد معه ظله .
وقال مجاهد : ظل المؤمن يسجد طوعاً وهو طائع ، وظل الكافر يسجد طوعاً وهو كاره ، والأصال جمع أُصل ، والأُصل جمع الأصيل وهو العشاء من العصر إلى غروب الشمس .
الرعد : ( 16 ) قل من رب . . . . .
) قل من رب السماوات والأرض ( أي خالقهما ومدبرهما فسيقولون الله ولابد لهم من ذلك فإذا أجابوك ) قل ( أنت أيضاً ) الله ( ثم قيل لهم إلزاماً للحّجة ) قل أفاتخذتم من دونه أولياء ( يعني الأصنام يعبدونها من دون الله وهي لا تملك لأنفسها نفعاً ولا ضراً ثم نصرف لهم الأفعال ) قل هل يستوي الأعمى والبصير ( وكذلك لا يستوي الضال والمؤمن المهتدي .
وقرأ الأعمش وعاصم وحمزة والكسائي : ) أم هل تستوي الظلمات والنور ( بالياء . الباقون : بالتاء واختاره أبو عبيد قال : لأنه يحصل من اسم المؤنت ومن الفعل مقابل والظلمات والنور مثل الكفر والإيمان ) أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم ( فأصبحوا لا يدرون أمن خلق الله هو أو من خلق آلهتهم ) قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار ( ( . . . . . . . . . ) للحق والباطل مثلين . فقال عزمن قائل
الرعد : ( 17 ) أنزل من السماء . . . . .
) أنزل ( هو ) من السماء ( يعني المطر ) ماءً فسالت أودية بقدرها ( الكبير بقدره والصغير بقدره ) فاحتمل السيل ( الذي حدث على ذلك الماء ) زبداً رابياً ( حال تعريفها يود الماء فالماء الباقي الصافي النافع هو الحق .
والذاهب الزائل الباطل الذي يتعلق بالأشجار وجوانب الأودية والأنهار وهو الباطل ويقال : إن هذا سيل القرآن ينزل من السماء فيحتمل منه القلوب حظها على قدر اليقين والشك والعقل والجهل فهذا مثل الحق والباطل .
والمثل الآخر قوله : ) ومما يوقدون عليه في النار ( .
قرأ حميد أبو محجن أبووهب وحمزة والكسائي يوقدون بالياء ، ) ^ واختاره أبو عبيد ؛ لقوله تعالى : ) ينفع الناس ( ولا مخاطبة هاهنا ) ابتغاء حلية ( أي زينة يتخذونها ) أو متاع ( وهو ما ينتفع به وكلُّ ما تمتعت به فهو متاع .
قال المشعث :
تمتع يا مشعث أن شيئاً
سبقت به الممات هو المتاع
أراد به جواهر الأرض من الذهب والفضة .
والحديد والصفر والنحاس والرصاص ، ومنه يستخلص الأشياء مما ينتفع به من الحلي
(5/283)
" صفحة رقم 284 "
والأواني وغيرهما .
) زبد مثله ( يقول : له زبد إذا أُنث مثل زبد السيل ، والباقي الصافي من هذه الجواهر فيذهب خبثه والزبد الذي لا يبقى ولا ينتفع به مثل الباطل .
قال الله تعالى : ) كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد ( الذي علا السيل . ) فيذهب جفاء ( سريعاً متفرقاً .
قال أبو عمرو : هو من قول العرب : أجفأت القدر النذر وجنات وذلك إذا غلت فأنصب زبدها أو سكنت لم يبقَ منه شيء .
وقال القبتي : الجفاء ما رمى به الوادي إلى جنانه . فقال : جفأته إذا صرعه .
وقال ابن الأنباري : جفاء يعني بالياً متفرقاً .
يقال : جفأت الريح بالغيم إذا فرقته وذهبت به .
قال بعضهم : يعني تباعد الأرض . يقال جفأ الوادي وأجفأ إذا نشف .
قال الفراء : إنما أراد بقوله جفاء الجفاء لأنه مصدر ، قولك جفأ الوادي غثاه جفاء فخرج مخرج الاسم وهو مصدر .
وكذلك يفعل العرب في مصدر كل ما كان من فعل شيء اجتمع بعضه إلى بعض كالقماش والرقاق والحطام والغنام يخرجه على مذهب الاسم ، كما فعلت ذلك في قولهم أعطيته عطاء بمعنى الاعطاء ، ولو أُريد من القماش المصدر على الصحة لقيل قمشته قمشاً .
) وأما ما ينفع الناس ( من العوالق ) فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال ( تم الكلام على هذا . ثم قال
الرعد : ( 18 ) للذين استجابوا لربهم . . . . .
: ( للذين استجابوا لربهم ( أطاعوه ) الحسنى ( بالجنة ) والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به ( يوم القيامة ، قال الله ) أُولئك لهم سوء الحساب ( مجازياً بالعقوبة ، قال إبراهيم النخعي والزبد . أتدري ما سوء الحساب ؟ قلت : لا . قال هو أن يحاسب الرجل على معصية فعلها ويكفر عنه خطيئته ، ) ^ ) ومأواهم ( في الآخرة ) جهنم وبئس المهاد ( الفراش والمصير
الرعد : ( 19 ) أفمن يعلم أنما . . . . .
) أفمن يعلم أنما أُنزل إليك من ربك الحق ( ( . . . . . . . . . ) فهو كافيه ) كمن هو أعمى ( عنه لا يعلمه ولا تعمل ) إنما يتذكر أُولو الألباب ( الخطاب للأصحاب وذوي العقول
الرعد : ( 20 ) الذين يوفون بعهد . . . . .
) الذين يوفون بعهد الله ( في أمرهم يعني فرضه عليهم فلاهم يخالفونه إلى ما هم فيه ، ) ولا ينقضون الميثاق }
الرعد : ( 21 ) والذين يصلون ما . . . . .
) والذين يصلون ما أمر الله به أن
(5/284)
" صفحة رقم 285 "
يوصل ( قيل أراد الإيمان بجميع الكتب والرسل ولا يعترفون بها .
وقال أكثر المفسرين : يعني الرحم ويقطعونها .
الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : اشتكى أبو الدرداء فعاده عبد الرحمن بن عوف . فقال : خيرّهم أو صلهم ما علمت يا محمد . فقال عبد الرحمن : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( قال الله تبارك وتعالى : أنا الله وأنا الرحمن ، خلقت الرحم وشقتت لها من اسمي ، فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته ) .
عن شيبة قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن موهب وأبوه عثمان بن عبد الله ، أنهما سمعا موسى بن طلحة يحدث عن أبي أيوب الأنصاري : أنّ رجلا قال : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ، فقال القوم : ماله وماله . فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أرب ماله ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( تعبد الله لا تشرك به شيئاً وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم ذرها ) قال : كأنه كان على راحلته .
عطاء بن أبي مروان عن أبيه عن كعب قال : والذي فلق البحر لبني إسرائيل إنّ في التوراة لمكتوباً يابن آدم اتق ربك وأبرّ والديك وصل رحمك أمدُّ لك في عمرك وأُيسّر لك يسرك ، وأصرف عنك عسرك .
وعن أبي إسحاق عن مغراء العبدي عن عبد الله بن عمرو قال : من اتقى ربه ووصل رحمه نسئ له في عمره وثرا ماله وأحبه أهله .
صالح عن جرير عن برد عن مكحول قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اعمل الخير ( ليس شيء اطيع الله فيه أعجل ثواباً من صلة ) الرحم وليس شيء أعجل عقاباً من البغي وقطيعة الرحم ، واليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع ) .
الرعد : ( 22 ) والذين صبروا ابتغاء . . . . .
) والذين صبروا ( على طاعة الله وتصبروا عن معصية الله .
قاله ابن زيد ، وقال ابن عباس : وصبروا على أمر الله .
قال عطاء : على الرزايا والمصائب والحوادث والنوائب .
أبو عمران الجوني : صبروا على دينهم .
(5/285)
" صفحة رقم 286 "
) ابتغاء وجه الله ( طالب يعتصم بالله ويستغفر ربه أن يعصيه ويخالفه في أمره ) وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ( يعني الزكاة ) ويدرؤون ( ويدفعون ) بالحسنة السيئة ( يقال : ) ^ درأ الله عني بشرّك .
قال ابن زيد : يعني لا يكافؤون الشر بالشر ولكن يدفعونه بالخير .
وقال القتيبي : معناه إذا سفه عليهم حلموا فالسفه السيئة والحلم الحسنة .
قتادة : ردوا عليهم معروفاً نظيره ) إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ( .
قال الحسن : إذا حرموا أعطوا ، وإذا أخلصوا عفوا ، وإذا قُطعوا وصلوا .
ابن كيسان : إذا أذنبوا أيسوا وإذا حرفوا أثابوا ليدفعوا بالتوبة عن أنفسهم فغفر الذنب .
فهذا قول ابن عباس في رواية الضحاك عنه قال : يدفعون بالصالح من العمل الشر من العمل ، ويؤيد هذا الخبر المأثور : إن معاذ بن جبل قال : يا رسول الله أوصني . قال : ( إذا عملت سيئة فاعمل لجنبها حسنة تمحها ، السر بالسر والعلانية بالعلانية ) .
قال عبد الله بن المبارك : هذه ثماني خلال مشيرة إلى ثمانية أبواب الجنة .
أبو بكر الوراق : هذه ثمانية جسور فمن أراد القربة من الله عبرها .
) أُولئك لهم عقبى الدار (
الرعد : ( 23 ) جنات عدن يدخلونها . . . . .
ثم بين فقال : ) جنات عدن يدخلونها ( .
قرأه العامة : بفتح الياء وضم الخاء . وقرأ ابن كثير وأبو عمر : بضم الياء وفتح الخاء .
قال عبد الله بن عمير : وإن في الجنة قصراً يقال له عدن حوله البروج والمروج فيه خمسة آلاف باب على كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله إلاّ نبي أو صديق أو شهيد .
) ومن صلح ( لهن ) من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ( أهلهم وولدهم أيضاً يدخلونها ) والملائكة يدخلون عليهم من كل باب }
الرعد : ( 24 ) سلام عليكم بما . . . . .
) سلام عليكم ( فيه آمناً تقديره ويقولون سلام عليكم ) بما صبرتم فنعم عقبى الدار ( .
قال مقاتل : يدخلون في مقدار يوم وليلة من أيام الدنيا ثلاث كرات معهم الهدايا والتحف يقولون : ) سلام عليكم بما صبرتم ( .
صالح عن يزيد عن أنس بن مالك : أنّه تلا هذه الآية جنات عدن إلى قوله : ) فنعم عقبى
(5/286)
" صفحة رقم 287 "
الدار ( . ثم قال : إنه جنة من در وفضة طولها في الهواء ستون ميلا ليس فيها صدع ولا وصل منه كل زاوية منها أهل فقال : لها أربعة آلاف مصراع من ذهب يقوم على كل باب سبعون ألف من الملائكة مع كل ملك منهم هدية من الرحمن ليس في مثلها ، لا يَعْلُونَ ( . . . . ) ليس بينهم وبينه حجاب .
وروى ابن المبارك عن عقبة بن الوليد قال : ) ^ حدثنا أرطأة بن المنذر قال : سمعت رجلا من ملجف بالجند يقال له أبو الحجاج يقول : حدثني خالي أبي أُمامة فقال : إنّ المؤمن ليكون متكئاً على أريكته إذا دخل الجنة وعنده سماطان من خدم وعند طرف السماطين سور فيقبل الملك ، يستأذن فيقول الذي يليه : ملك يستأذن ، ويقول الذي يليه : ملك يستأذن كذلك حتى يبلغ المؤمن فيقول : ائذنوا فيقول أقربهم إلى المؤمن : ائذنوا فيقول الذي يليه للذي يليه كذلك حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب فيفتح له فيدخل فيسلم ثم ينصرف .
وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله ) قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : ( الفقراء والمهاجرون الذين تسدّ بهم الثغور ويتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في نفسه لا يستطيع لها قضاء ) .
قال : فيأتيهم الملائكة فيدخلون عليهم من كل باب ) سلام عليكم بما صبرتم ( .
وروى سهيل بن أبي صالح عن محمد بن إبراهيم قال : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يأتي قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول : السلام عليكم بما صبرتم فنعمى عقبى الدار .
أبو بكر وعمر وعثمان عليهم السلام كانوا يفعلون كذلك .
الرعد : ( 25 ) والذين ينقضون عهد . . . . .
) والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أُولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار ( يعني النار .
وقال سعد بن أبي وقاص : هم الحرورية .
الرعد : ( 26 ) الله يبسط الرزق . . . . .
) الله يبسط الرزق لمن يشاء ( يوسع عليه ) ويقدر ( ويقتر ويضيق ) وفرحوا بالحياة الدنيا ( يعني فرطوا وجهلوا ما عند الله ويطمعون ) وما الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ متاع ( قليل ذاهب قاله مجاهد ، وقال عبد الرحمن بن سابط : كزاد الراعي يزود ، أهله الكف من التمر أو الشيء من الدقيق أو الشيء يشرب عليه اللبن .
(5/287)
" صفحة رقم 288 "
الكلبي : كمثل السكرجة والقصعة أو القدح والقدر ونحوها ينتفع بها ثم يذهب
الرعد : ( 27 ) ويقول الذين كفروا . . . . .
) ويقول الذين كفروا ( من أهل مكة ) لولا أُنزل عليه آية من ربه قل إنّ الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب ( ويرشد الأُمّة إلى طاعته من رجع إليه بقلبه ثم وصفهم فقال ) الذين آمنوا ( في محل النصب والأمن قبله من ) وتطمئن ( وتسكن فستأنس ) قلوبهم بذكر الله (
. )
^
مقاتل : بالقرآن ) ألا بذكر الله تطمئن القلوب ( .
قال ابن عباس : هذا في الحلف ويقولها إذا حلف الرجل المسلم بالله على شيء يم سكن قلوب المؤمنين إليه .
وقال مجاهد : هم أصحاب رسول الله ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
الرعد : ( 28 - 29 ) الذين آمنوا وتطمئن . . . . .
) الذين آمنوا وعملوا الصالحات ( ابتداء ) طوبى لهم ( خبره ، وقيل :
معناه لهم طوبى فطوبى خبر الابتداء الأول .
واختلف العلماء في تفسير ( طوبى ) .
الوالبي عن ابن عباس : طوبى لهم : فرح وقرة عين لهم ، عكرمة : نِعم مالهم ، الضحاك : غبطة لهم .
قتادة : حسنى لهم معمر عنه : هذه كلمة عربية ، يقول الرجل للرجل طوبى لكم أي أصبت خيراً .
إبراهيم : خير وكرامة لهم .
شميط بن عجلان : طوبى يعني دوام الخير . الفراء : أصله من الطيب وإنما جاءت الواو لضم ماقبلها وإتيان بقول العرب : طوباك ، طوابى لك .
سعيد بن جبير عن ابن عباس : طوبى اسم الجنة بالحبشية .
سعيد بن مسجوح : اسم الجنة بالهندية ربيع البستان بلغة الهند .
وروى ابن سعيد الهندي عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنّ رجلا قال له : يا رسول الله ما طوبى ؟ قال : ( شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ثياب أهل الجنة يخرج من أكمامها ) .
وروى معاوية بن مرة عن أبيه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( طوبى شجرة غرسها الله بيده ونفخ فيها من روحه تنبت الحلي والحلل وإنّ أغصانها لترى من وراء سور الجنة )
(5/288)
" صفحة رقم 289 "
وقال أبو هريرة : طوبى شجرة من الجنة ( غرسها ) الله لها ( ثمر ) تقتفي لعبدي عياشاً صنعه له من الحلي بسرجها ولحمها وعن الإبل بأنّ تحتها قماشاً من الكسوة .
وقال مغيث بن سمي : طوبى شجرة من الجنة ، لو أنّ رجلاً ركب قلوصاً جذعاً ثم دار بها لم يبلغ المكان الذي ارتحل منه حتى يموت هرماً وما في أهل منزل إلاّ فيه غصن من أغصان تلك الشجرة متدلّ يصلهم الماء بالدلاء وإذا أرادوا أن يأكلوا من الثمرة تدلى إليهم فأكلوا منه ما شاؤوا ويجئ عليها الطير أمثال البخت ، يعني الطير ويأكلون منه قديداً وشواءً ثم تطير .
قال عندر بن عمير : هي شجرة في جنة عدن أصلها في دار النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفي كل دار وغرفة غصن منها لم يخلق الله لوناً ولا زهرة إلاّ وفيها منها إلاّ السواد ولم يخلق الله فاكهة ولا ثمرة إلاّ وفيها منها ينبع من أصلها عينان الكافور والسلسبيل مقابل كل ورقة منها تظل أُمة عليها ملك يسبح الله بأنواع التسبيح .
وقال أبو سلام : ) ^ حدثني عامر بن زيد البكالي أنه سمع عتبة بن عبيد السلمي يقول : جاء أعرابي إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله في الجنة فاكهة ؟ قال : ( فيها شجرة تدعى طوبى هي تطابق الفردوس ) .
قال : أي شجر أرضنا تشبه ؟ قال : ( ليس تشبه شيئاً من شجر أرضك ولكن أتيت الشام ) ( 148 ) ، فقال : أتيت الشام يا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : فإنها تشبه شجرة تدعى الجوز ينبت على ساق واحد ثم ينتشر أعلاها . فقال : ما أعظم أصلها .
قال : لو ارتحلت جذعة من إبل أهلك ما أحاطت بأصلها حتى تنكسر ترقوتاها هرماً .
قال وهب بن منبه : إنّ في الجنة شجرة . قال : الطوبى يسير الراكب في ظلها مائة عام ولا يقطعها زهوها رياط وورقها برود وقضبانها عنبر وبطحاؤها ياقوت وترابها كافور وحملها مسك يخرج من أصلها أنها الخمر واللبن والعسل ، وهي مجلس لأهل الجنة فبينما هم في مجلسهم إذا أتتهم الملائكة من ربهم يقودون لجامها مزمومة بسلاسل من ذهب وجوهها كالمصابيح حسناً ووبرها كخز المرعزي من لينة ، عليها رحال ألواحها من ياقوت ودفوفها من ذهب وثيابها من سندس واستبرق فيفتحونها ويقولون : إنّ ربنا أرسلنا إليكم لتزوروه وتسلموا عليه .
قال : فيركبونها فهي أسرع من الطائر وأوطأ من الفراش نجباً من غير مهنة يسير الرجل إلى
(5/289)
" صفحة رقم 290 "
جنب أخيه وهو يكلمه ويناجيه لا تصيب أُذن راحلة منها إذن صاحبتها حتى إنّ الشجرة لتنتحي عن طرقهم فهم لا يفرقون بين الرجل وبين أخيه ، قال : فيأتون إلى الرحمن الرحيم فيسفر لهم عن وجهه الكريم حتى ينظروا إليه فإذا رأوه ، قالوا : اللهم أنت السلام ومنك السلام وأنت الجلال والإكرام ، ويقول تبارك وتعالى عند ذلك : أنا السلام ومني السلام وعليكم حقت رحمتي ومحبتي مرحباً بعبادي الذين خشوني بالغيب وأطاعوا أمري ، قال : فيقولون ربنا لم نعبدك حق عبادتك ولم نقدّرك حق قدرك فأذن لنا في السجود قدامك ، قال : فيقول الله عزّ وجلّ : إنها ليست بدار نصب وعبادة ولكنها دار ملك ونعيم وإني قد رفعت عنكم نصب العبادة فسلوني ما شئتم فإنّ لكل رجل منكم أُمنيته ، فيسألونه حتى إن أقصرهم أُمنيةً يقول : رب يتنافس أهل الدنيا في دنياهم فتضايقوا فيها فأتني مثل كل شيء كانوا فيه من يوم خلقتها إلى أن انتهت . فيقول الله عزّ وجلّ : لقد قصرت بك أُمنيتك ولقد سألت دون منزلتك هذا لك منّي وسأُلحقك بمن أتى ، لأنه ليس في عطائي تكديرٌ ولا تصدير .
قال : ثم يقول : أعرضوا على عبادي ما لم تبلغ أمانيهم ولم يخطر لهم على بال ، فيعرضون عليهم حتى تقصر بهم أما نبيهم التي في أنفسهم فيكون فيما يعرضون عليهم براذين مقرنة على كل أربعة منهم سرير من ياقوتة واحدة على كل سرير منها قبة من ذهب مفرغة . ) ^ في كل قبة منها فرش من فرش الجنة مظاهرة في كل قبة منها جاريتان من الحور العين وعلى كل جارية منهن ثوبان من ثياب الجنة ، وليس في الجنة لون إلاّ وهو فيهما ولا ريح طيب إلاّ وقد عبق بهما ينفذ ضوء وجوههما غلظ القبة حتى يظنّ من يراهما أنهما دون القبة يرى مخهما من فوق سقفهما ، كالسلك الأبيض من ياقوتة حمراء .
يريان له من الفضل على صاحبته كفضل الشمس على الحجارة أو أفضل ويرى هو لهما مثل ذلك ثم يدخل إليهما فيطيبانه ويقبلانه ويعانقانه ويقولان له : والله ما ظننا أنّ الله يخلق مثلك ، ثم يأمر الله الملائكة فيسيرون بهم صفاً في الجنة حتى ينتهي كل رجل منهم إلى منزلته التي أُعدت له .
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : فطوبى لهم شجرة أصلها في دار علي في الجنة ، وفي دار كل مؤمن منها غصن يقال له طوبى .
) وحسن مآب ( حسن المرجع .
وروى داود بن عبد الجبار عن جابر عن أبي جعفر قال : سُئل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن قوله طوبى لهم وحسن مآب .
(5/290)
" صفحة رقم 291 "
فقال : ( شجرة أصلها في داري وفرعها في الجنة ) . ثم سُئل عنها مرة أُخرى . فقال : ( شجرة في الجنة أصلها في دار علي وفرعها على أهل الجنة ) .
فقيل له : يا رسول الله نسألك عنها مرة فقلت : ( شجرة في الجنة أصلها في دار علي وفرعها على أهل الجنة ) فقال : ذلك في داري ودار علي أيضاً واحدة في مكان واحد ) .
2 ( ) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِىأُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِىأَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَانِ قُلْ هُوَ رَبِّى لاإِلَاهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الاَْرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الاَْمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَاْيْئَسِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَن لَّوْ يَشَآءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِىَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الاَْرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ لَّهُمْ عَذَابٌ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الاَْخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ ( 2
الرعد : ( 30 ) كذلك أرسلناك في . . . . .
) كذلك ( المكان ) أرسلناك ( يا محمد ) في أُمة قد خلت من قبلها أُمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك ( ليقرأ عليهم القرآن ) وهم يكفرون بالرحمن ( .
قال قتادة ومقاتل وابن جريح : نزلت في صلح الحديبية حتى أرادوا كتاب الصلح . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لعلي ( ح ) : ( اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ) .
فقال سهيل بن عمرو والمشركون معه : ما نعرف الرحمن إلاّ صاحب اليمامة ، يعنون مسيلمة الكذاب ، اكتب باسمك اللهم وهكذا كان أهل الجاهلية يكتبون .
ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله . فقال المشركون وقريش : لئن كتب رسول الله بِمَ قاتلناك وصددناك قال فأمسك ولكن اكتب هذا ما صالح محمد ابن عبد الله .
فقال أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دعنا نقاتلهم . قال : لا ولكن اكتبوا كما تريدون ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية .
(5/291)
" صفحة رقم 292 "
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( اسجدوا للرحمن ) فقالوا : وما الرحمن ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال : قل لهم يا محمد : إنّ الرحمن الذي أنكرتم معرفته ) هو ربي لا إله إلاّ هو عليه توكلت وإليه متاب ( ومضى
الرعد : ( 31 ) ولو أن قرآنا . . . . .
) ولو أن قرآناً ( الآية نزلت في نفر من مشركي مكة فيهم أبو جهل ابن هشام وعبد الله بن أبي أُمية المخزومي جلسوا خلف الكعبة فأرسلوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأتاهم فقال له عبد الله بن أبي أُمية : إن تشرك نتبعك فسيّر لنا جبال مكة بالقرآن ، فأذهبها عنا حتى تُفتح . فإنها ضيّقة ، واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً حتى نغرس ونزرع فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخر له الجبال يسبح لربه ، أو سخّر لنا الريح فنركبها إلى الشام فنقضي عليه أُمورنا وحوائجنا ثم نرجع من يومنا .
فقد كان سليمان سخرت له الريح ، فكما حملت لنا فلست بأهون على ربك من سليمان في داود .
وأحيي لنا جدك أيضاً ومن شئت من موتانا لنسأله أحق ما يقول أم باطل ؟ فإنّ عيسى قد كان يحيي الموتى ولست بأهون على الله منه ، فأنزل الله تعالى ) ولو أن قرآناً سيرت به الجبال ( وأذهبت عن وجه الأرض ) أو قطعت به الأرض ( أي شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً .
) أو كلم به الموتى ( واختلفوا في جواب لو ، فقال قوم : هذا من النزول المحذوف الجواب أقتضى بمعرفة سامعه مراده وتقدير الآية لكان هذا القرآن .
كقول أمرىء القيس :
فلو أنها نفس تموت بتوبة
ولكنها نفس بقطع النفسا
يعني لهان عليَّ ، وهي آخر بيت في القصيدة .
وقال آخر :
فأقسم لو شيء أتانا رسوله
سواك ولكن لم نجد لك مرفعاً
فأراد أرددناه ، وهذا معنى قول قتادة . لو فعل هذا قرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم .
وقال آخرون : جواب لو يقدم وتقدير الكلام وهم يكفرون بالرحمن ) ولو أنَّ قرآناً سيرت به الجبال ( الآية كأنه قال ولو أنّ قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى لكفروا بالرحمن وبما آمنوا .
ثم قال : ) بل لله الأمر جميعاً أفلم ييأس الذين آمنوا ( .
(5/292)
" صفحة رقم 293 "
قال المفسرون : أفلم يعلم .
وقال الكلبي : هي بلغة النخع حي من العرب .
وقال القاسم معن : هي لغة هوازن .
وقال سحيم بن وثيل الرياحي :
أقول لهم بالشعب إذ يسرونني
ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم
أراد ألم يعلموا ، وقوله : هاد يسرونني أي يقتسمونني من الميسر كما يقتسم الجزور .
ويروى : لمسرونني من الأسر .
وقال الآخر :
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه
وإن كنت عن أرض العشيرة نائياً
ودليل هذا التأويل قراءة ابن عباس : أفلم يتبين ، وقيل لابن عباس : المكتوب ( أفلم ييئس ) قال : أظن الكاتب كتبها وهو ناعس .
وأما الفراء : فكان ينكر ذلك ويزعم أنه لم يُسمع أحدٌ من العرب يقول : يئست وهو يقول هو في المعنى وإنْ لم يكن مسموعاً يئست بمعنى علمت متوجه إلى ذلك ، وذلك أنّ الله تعالى قد أوحى إلى المؤمنين أنه لو شاء الله لهدى الناس جميعاً .
فقال ألم ييئسوا علماً يقول يؤسهم العلم فكان العلم فيه مضمراً كما يقول في الأعلام يئست منك أن لا يفلح علماً كأنه قول علمته علماً .
قال الشاعر :
حتى إذا يئس الرماة وأرسلوا
غضفاً دواجن قافلا اعصامها
بمعنى إذا يئسوا من كل شيء مما يمكن إلاّ الذي ظهر لهم أرسلوا فهو في معنى : حتى إذا علموا أن ليس وجه إلاّ الذي رأوا وانتهى علمهم فكان ما سواه يأساً .
(5/293)
" صفحة رقم 294 "
) أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا ( من كفرهم وأعمالهم الخبيثة ) قارعة ( داهية ومصيبة وشديدة تقرعهم من أنواع البلاء والعذاب أحياناً بالجدب وأحياناً بالسلب وأحياناً بالقتل وأحياناً بالأسر .
وقال ابن عباس : أراد بالقارعة السرايا التي كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يبعثهم إليها ) أو تحل ( أي تنزل أنت يا محمد بنفسك ) قريباً من دارهم ( .
وقال قتادة : هي تاء التأنيث يعني وتحل القارعة قريباً من دارهم ) حتى يأتي وعد الله ( الفتح والنصر وظهور رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ودينه ، وقيل يعني القيامة ) إنّ الله لا يخلف الميعاد }
الرعد : ( 32 ) ولقد استهزئ برسل . . . . .
) ولقد استهزىء برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ( أصلهم واطلب لهم ومنه الملاوة والملوان ويقال طبت حيناً ، ) ثم أخذتهم ( عاقبتهم ) فكيف كان عقاب }
الرعد : ( 33 ) أفمن هو قائم . . . . .
) أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت ( أي حافظها ورازقها وعالم بها ومجاز بها ما عملت ، وجوابه محذوف تقديره : كمن هو هالك بائدلا يسمع ولا يبصر ولا يفهم شيئاً ولا يدفع عن نفسه ، نظيره قوله تعالى : ) أم من هو قانت آناء الليل ( يعني كمن ليس بقانت ) وجعلوا لله شركاء قل سموهم ( بيّنوا أسماءهم ثم قال : ) أم تنبؤونه ( يعني يخبرون الله ) بما لا يعلم في الأرض ( فإنه لم يعلم لنفسه شريكاً ولا في الأرض إلهاً غيره ) أم بظاهر ( يعني بظاهر من القول مسموع وهو في الحقيقة باطل لا أصل له ولا باطل صالح ولا حاصل وكان أُستاذنا أبو الاقسم الحبيبي يقول : معنى الآية عندي : قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه أم بظاهر من القول يعلمه ؟ فإن قالوا بباطن لا يعلمه أحالوا ، وإن قالوا : بظاهر يعلمه قل لهم سموهم ، وبينوا من هم ، فإن الله لا يعلم لنفسه شريكاً ، ثم قال : ) بل زين للذين كفروا مكرهم ( كيدهم .
قال مجاهد : قولهم يعني شركهم وكذبهم على الله .
) وصدوا عن السبيل ( وصرفوا عن الدين والطريق المستقيم .
قرأ أهل الكوفة : بضم الصاد واختاره أبو عبيد بأنه قراءة أهل السنة : وفيه إثبات القدر .
وقرأ الباقون : بالفتح ، واختاره أبو حاتم اعتباراً بقوله ) إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله ( وقوله ) وصدوكم عن المسجد الحرام ( وقوله ) الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ( ) ومن يضلل الله ( يعني إياه ) فما له من هاد ( موفق
الرعد : ( 34 ) لهم عذاب في . . . . .
) لهم عذاب في الحياة الدنيا (
(5/294)
" صفحة رقم 295 "
بالقتل والأسر ) ولعذاب الآخرة أشق ( أشد ) وما لهم من الله من واق ( مانع يمنعهم من العذاب .
2 ( ) مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الاَْحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلاأُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ وَاقٍ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِىَ بِئَايَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ( 2
الرعد : ( 35 ) مثل الجنة التي . . . . .
) مثل الجنة التي وعد المتقون ( في دخولها اختلفوا في الرافع للمثل .
فقال الفراء : هو ابتداء وخبر على قوله ) تجري من تحتها الأنهار ( وقيل معنى المثل الصفة كقوله ) ولله المثل الأعلى ( أي الصفة العليا وقوله ) ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل ( ومجاز الآية صفة الجنة التي وعد المتقون أنّ الأنهار تجري من تحتها وكذا وكذا .
وقيل مثل وجه مجازها الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار ، والعرب تفعل هذا كثيراً بالمثل والمثل كقوله ) ليس كمثله شيء ( أي ليس هو كشيء .
وقيل معناه : ) للذين استجابوا لربهم الحسنى ( . قيل الجنة ( بدل ) منها .
قال مقاتل : معناه شبه الجنة التي وعد المتقون في الخير والنعمة والخلود والبقاء كشبه النار ( في العذاب و ) الشدّة والكرب .
) أكلها دائم ( لا ينقطع ولا يفنى ) وظلها ( ظليل لا يزال وهذا رد على الجهمية ، حيث قالوا : إن نعيم الجنة يفنى ) تلك عقبى ( يعني ما فيه ) الذين اتقوا ( الجنة ) وعقبى الكافرين النار والذين آتيناهم الكتاب ( يعني القرآن وهم أصحاب محمد ) يفرحون بما أُنزل إليك ( من القرآن ) ومن الأحزاب ( يعني الكفار الذين كذبوا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم اليهود والنصارى
(5/295)
" صفحة رقم 296 "
) من ينكر بعضه ( وذلك أنهم آمنوا بسورة يوسف وقالوا إنها واطأت كتابنا وهذا قول مجاهد وقتادة .
وقال باقي العلماء : كان ذكر الرحمن في القرآن قليلا في بدء ما أنزل فلما أسلم عبدالله . ابن سلام وأصحابه : ساءهم قلّة ذكر الرحمن في القرآن ؛ لأن ذكر الرحمن في التوراة كثير فسألوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ي ذلك قوله الله تعالى ) قل ادعوا الله إذ دعوا الرحمن ( الآية .
فقالت قريش حين نزلت هذه الآية : ما بال محمد كان يدعو إلى إله واحد فهو اليوم يدعو إلى إلهين : الله والرحمن ، ما نعرف الرحمن إلاّ رحمن اليمامة ، يعنون مسيلمة الكذاب فأنزل الله ) وهم بذكر الرحمن هم كافرون ( وهم يكفرون بالرحمن وفرح مؤمنو أهل الكتاب بذكر الرحمن فأنزل الله
الرعد : ( 36 ) والذين آتيناهم الكتاب . . . . .
) والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ( الله من ذكر الرحمن ) ومن الأحزاب ( يعني مشركي قريش من يذكر بعضه . قال الله ) قل ( يا محمد ) إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب ( مرجعي
الرعد : ( 37 ) وكذلك أنزلناه حكما . . . . .
) وكذلك أنزلناه حكماً عربياً ( وكما أنزلنا إليك الكتاب يا محمد وأنكره الأحزاب ، كذلك أيضاً أنزلنا الحكم والدين حكماً عربياً ، وإنما وصفه بذلك لأنه أنزل على محمد وهو عربي ، فنسب الدين إليه إذ كان منزلا عليه فكذب الاحزاب بهذا الحكم أيضاً ، وقال قوم معنى الآية : وكما أنزلنا الكتب على الرسل بلغناهم كذلك أنزلنا عليك القرآن حكماً عربياً ثم توعده على إتباع هوى الأحزاب فقال ) ولئن اتبعت أهواءهم ( قيل بما شاء الله ، وقيل في أهل القبلة لأنّه ) ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق (
الرعد : ( 38 ) ولقد أرسلنا رسلا . . . . .
) ولقد أرسلنا رسلا من قبلك ( فجعلناهم بشراً مثلك ) وجعلنا لهم ( نكحوهن وأولاد ينسلوهم ولم يجعلهم ملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحوهن ، فنجعل الرسول إلى قومك ملائكة ولكن أرسلنا إلى قومك بشراً مثلهم كما أرسلنا إلى من قبلهم من الأُمم بشراً مثلهم ) وما كان لرسول أن يأتي بآية إلاّ بإذن الله ( وهذا جواب عبد الله بن أبي أُمية ثم قال : ) لكل أجل كتاب ( لكل أمر أمضاه الله كان قد كتبه لجميع عبيده ، الضحاك : معناه لكل كتاب نزل من السماء أجل ووقت ينزل فيه وهذا من المقلوب
الرعد : ( 39 ) يمحو الله ما . . . . .
) يمحو الله ما يشاء ويثبت ( .
قرأ حميد وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب : ويثبت بالتخفيف .
وقرأ الآخرون : بالتثقيل واختاره أبو عبيد لكثرة من قرأها ولقوله تعالى ) يثبت الله الذين آمنوا ( .
واختلف المفسرون في معنى الآية ، فروى نافع عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( يمحو الله مايشاء إلاّ الشقاوة والسعادة والموت )
(5/296)
" صفحة رقم 297 "
وعن ابن عباس قال : يمحو الله ما يشاء إلا أشياء : الخَلْق والخُلْق والرزق والأجل والسعادة والشقاوة .
عكرمة عنه هما كتابان سوى أم الكتاب يمحو الله فهما ما يشاء ويثبت ) وعنده أُم الكتاب ( الذي لا يغير منه شيء .
أبو صالح والضحاك : يمحو الله ما يشاء من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثواب ولا عقاب ويثبت ما فيه ثواب وعقاب .
وروى عفان عن همام عن الكلبي : يمحو الله ما يشاء ويثبت . قال : يمحو من الرزق ويزيد فيه ويمحو من الأجل ويزيد فيه . قلت من حدثك ؟
قال أبو صالح عن جابر بن عبد الله بن رئاب الأنصاري عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقدم الكلبي بعد فسئل عن هذه الآية فقال : حتى إذا كان يوم الخميس يطرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب . مثل قولك أكلت ، شربت ، دخلت ، خرجت ونحوها من الكلام وهو صادق ، ويثبت ما كان فيه الثواب وعليه العقاب .
وقال بعضهم : يمحو الله ما يشاء ويثبت كل ما يشاء ( من ) غير استثناء كما حكى الكلبي عن راذان عن جابر عن النبي ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
روى أبو عثمان النهدي : أنّ عمر بن الخطاب ( ح ) كان يطوف بالبيت السبت وهو يبكي ويقول : اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فإن كنت كتبت عليَّ الذنب والشقوة فامحني وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أُم الكتاب .
ابن مسعود : إنه كان يقول : اللهم إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني فيهم وإن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء وأثبتني في السعداء فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أُم الكتاب .
وروى حماد بن أبي حمزة عن إبراهيم : أن كعباً قال لعمر ( ح ) : يا أمير المؤمنين لولا آية في كتاب الله لأُنبئنك بما هو كائن إلى يوم القيامة .
قال : وما هو ؟ قال : قول الله تعالى ) يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ( .
(5/297)
" صفحة رقم 298 "
وروى عطية عن ابن عباس : في هذه الآية قال : هو الرجل يعمل للزمان بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو ، والذي يثبت الرجل الذي عمل بطاعة الله وقد كان يقول : خير أُمتي يموت وهو في طاعة الله ، فهو الذي يثبت .
قال علي بن أبي طالب ( ح ) : يمحو الله ما يشاء من القرون ويثبت ما يشاء منها كقوله ) كم أهلكنا قبلهم من القرون ( وقوله ) ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين ( .
سعيد بن جبير وقتادة : يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله ويثبت ما يشاء وما ينسخه .
الحسن : لكل أجل كتاب يعني آجال بني آدم في كتاب يمحو الله ما يشاء من جاء أجله فيذهب به ويثبت من لم يجىء أجله إلى أجله .
مجاهد وابن قيس : حين ما أنزل ) ما كان لرسول أن يأتي بآية إلاّ بإذن الله ( ما نراك يا محمد تملك من شيء ولقد فرع من أمره . فأنزلت هذه الآية تخويفاً ووعداً لهم أي إن يشاء أحدثها من أمر . قاله بأشياء و يحدث في كل رمضان في ليلة القدر فيمحوا ويثبت ما يشاء من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وينسئهم له .
محمد بن كعب القرظي : إذا ولد الإنسان . أثبت أجله ورزقه وإذا مات محى أجله ورزقه .
وروى سعيد بن جبير : يمحو الله ما يشاء من ذنوب عباده فيغفرها ويثبت ما يشاء بتركها فلا يغفرها .
عكرمة : يمحو الله ما يشاء يعني بالتوبة جميع الذنوب ويثبت بدل الذنوب حسنات فإنه ) إلاّ من تاب وآمن وعمل عملا صالحاً فأُولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات ( .
وروى عن الحسن أيضاً : يمحو الله ما يشاء يعني الآباء ويثبت يعني الأبناء .
السدي : يمحو الله ما يشاء يعني القمر ويثبت يعني الشمس .
بيانه قوله : ) فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة (
.
(5/298)
" صفحة رقم 299 "
ربيع : هذا في الأرواح في حال النوم يقبضها عند النوم فمن أراد موته محا وأمسكه ومن أراد بقاءه أثبته ورده إلى صاحبه .
بيانه قوله ) الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأُخرى إلى أجل مسمى ( .
وقيل : يمحو الله ما يشاء الدنيا ويثبت الآخرة .
وروى محمد بن كعب القرظي عن فضالة بن عبيد عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله يفتح الذكر في ثلاث ساعات يبقين من الليل ، في الساعة الأُولى منهن ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه آخر غيره ، فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء ) .
ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال : إن لله لوحاً محفوظاً مسيرة خمسمائة عام من درة جنانها رمان من ياقوت ولله في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحو منها ما يشاء ويثبت وعنده أُم الكتاب .
قال قيس بن عباد : العاشر من رجب هو يوم يمحو الله فيه ما يشاء ويثبت وعنده أُم الكتاب يعني اللوح المحفوظ الذي لا يغير ولا يبدل .
قال قتادة والضحاك : حلية الكتاب وأصله فيه ما يمحو ويثبت .
فسأل ابن عباس كذا عن أُم الكتاب .
الرعد : ( 40 ) وإما نرينك بعض . . . . .
قال : يعلم الله ما هو خالق وما خلقه عاملون فقال لعلمه : كن كتابا فكان كتابا ) وان ما نرينك بعض الذي نعدهم ( من العذاب ) أو نتوفينك ( قبل أن نريك ذلك ) فإنما عليك البلاغ ( الذي عليك ( أن تبلغهم ) ) وعلينا الحساب ( والجزاء .
( ) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِى الاَْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ( 2
الرعد : ( 41 ) أو لم يروا . . . . .
) أو لم يروا ( يعني أهل مكة الذين يسألون محمداً الإيمان ) إنا نأتي الأرض ( نقصدها
(5/299)
" صفحة رقم 300 "
) ننقصها من أطرافها ( يفتحها لمحمّد ( صلى الله عليه وسلم ) أرضاً بعد أرض حوالي أرضهم فلا يخافون أن نفتح أرضهم كما فتحنا له غيرها ، وبنحو ذلك قال أهل التأويل . روى صالح بن عمرو عن عمرو بن عبيد عن الحسن قال : ظهور المسلمين على المشركين .
وروى وكيع عن سلمة بن سبط عن الضحاك قال : ما تغلب عليه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) من أرض العدو .
جبير عن الضحاك قال : أو لم ير أهل مكة إنا نفتح لمحمد ما حوله من القرى .
وروى إسحاق بن إبراهيم السلمي عن مقاتل بن سليمان قال : الأرض مكة وننقصها من أطرافها غلبة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمؤمنين عليها وانتقاصهم وازدياد المسلمين . فكيف لا يعتبرون وقال قوم : معناه أو لم يروا إلى الأرض ننقصها أفلا تخافون إن جعل بهم وبأرضهم مثل ذلك فيهلكهم ويخرب أرضهم .
ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : خراب الأرض وقبض أهلها .
يزيد الخوي عن عكرمة قال : يعني قبض الناس .
وقال : لو نقصت الأرض لصارت مثل هذه وعقد بيده سويتين .
عثمان بن السنّاج عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله ) ننقصها من أطرافها ( قال : موت أهل الأرض .
طلحة بن أبي طلحة القناد عن الشعبي : قبض الأنفس والثمرات .
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : نقصان أهلها وتركها .
عثمان بن عطاء عن أبيه : قال ذهاب علمائها وفقهائها .
قال الثعلبي : أخبرنا أبو علي بن أحمد الفقيه السرخسي قال : حدثنا أبو لبيد بن محمد بن إدريس البسطامي حدثنا سعد بن سعيد حدثنا أبي حدثنا أبو حفص عن محمد بن عبد الله عن عبد الملك بن عمير عن رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( خذوا العلم قبل أن يذهب ) .
قلنا : وكيف يذهب العلم والقرآن بين أظهرنا قد أثبته الله في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا نقرأه ونقرئه أولادنا فأنصت ثم قال هل ظلت اليهود والنصارى الا والتوراة بين أظهرهم ذهاب العلم ذهاب العلماء .
(5/300)
" صفحة رقم 301 "
وحدثنا الأُستاذ أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب لفظاً في صفر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة في آخرين .
قالوا : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب بن يوسف : حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم حدثنا أبو ضمرة وأنس بن عياض عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمر بن العاص قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يترك عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ) .
وحدثنا أبو القاسم أخبرنا محمد بن أحمد بن سعيد حدثنا العباس بن حمزة حدثنا ( . . . . . . . . . ) السدي حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان عن عبد الله بن عبد الرحمن عن سالم بن أبي الجنيد عن أبي الدرداء أنه قال : يا أهل حمص مالي أرى أنّ علماؤكم يذهبون وجهالكم لا يتعلمون ، فأراكم قد أقبلتم على ما يكفل لكم ، وضيعتم ما وكلتم به اعلموا قبل أن يرفع العلم فإن رفع العلم ذهاب العلماء .
وأخبرنا أبو القاسم حدثنا عبد الله بن المأمون بهرات حدثنا أبي حدثنا خطام بن الكاد بن الجراح عن أبيه عن جويبر عن الضحاك قال : قال علي ( ح ) : إنما مثل الفقهاء كمثل الأكف إذا قطعت كفٌ لم تعد .
حدثنا أبو القاسم حدثنا أبي حدثنا أبو عبد الله الحسين بن أحمد الرازي الزعفراني حدثنا عمر بن مدرك البلخي ، أبو حفص حدثنا مكي بن إبراهيم حدثنا هشام بن حيان عن الحسين قال : قال عبد الله بن مسعود : موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار .
ومنه عن الرازي حدثنا عمرو بن تميم الطبري . أخبرنا محمد بن الصلت . حدثنا عباد بن العوام عن هلال عن حيان قال : قلت لسعيد بن جبير ما علامة هلاك الناس ؟ قال : هلاك علمائهم ، ونظير هذه الآية في سورة الأنبياء عليهم السلام .
) والله يحكم لا معقب لحكمه ( لا راد لحكمه ، والمعقب في كلام العرب الذي يكرّ على الشيء ويتبعه .
قال لبيد
(5/301)
" صفحة رقم 302 "
حتى تهجر في الرواح وهاجه
طلب المعقب حقه المظلوم
) وهو سريع الحساب }
الرعد : ( 42 ) وقد مكر الذين . . . . .
) وقد مكر الذين من قبلهم ( يعني من قبل مشركي مكة ) فلله المكر جميعاً ( يعني له أسباب المكر وبيده الخير والشر وإليه النفع والضر فلا يضر مكر أحد أحداً إلاّ من أراد الله ضره ، وقيل : معناه له جزاء إليكم .
) يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار ( سيعلم : قرأ ابن كثير وأبو عمر : الكافر على الواحد ، والباقون على الجمع .
) لمن عقبى الدار ( عاقبة الدار الآخرة ممن يدخلون النار ويدخل المؤمنون الجنة
الرعد : ( 43 ) ويقول الذين كفروا . . . . .
) ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ( إني رسوله إليكم ، ) ومن عنده علم الكتاب ( أيضاً يشهدون على ذلك . هم مؤمنو أهل الكتاب .
وقرأ الحسين وسعيد بن جبير : ) ومن عنده ( بكسر الميم والدال . علم الكتاب مبني على الفعل المجهول .
وروى أبو عوانة عن أبي الخير قال : قلت لسعيد بن جبير ) ومن عنده علم الكتاب ( أهو عبد الله بن سلام ؟ قال : كيف يكون عبد الله بن سلام وهذه السورة مكية .
وكان سعيد يقرأها ) ومن عنده علم الكتاب ( ، ودليل هذه القراءة قوله ) وعلمناه من لدنا علماً ( وقوله ) الرحمن علم القرآن ( .
وأخبرنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن بابويه أخبرنا أبو رجاء محمد بن حامد بن محمد المقرئ بمكة حدثنا محمد بن حدثنا عبد الله بن عمر حدثنا سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قرأها ومن عنده علم الكتاب .
وبه عن السمري حدثنا أبو توبه عن الكسائي عن سليمان عن الزهري عن نافع عن ابن عمر قال : قال : وذكر الله أشدّ فذكر إنه حيث جاء إلى الدار ليسلم سمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقرأ ) ومن عنده علم الكتاب ( بكسر الميم وسمعه في الركعة الثانية يقرأ ) بل هو آيات بينات في صدور الذين ( الآية .
أخبرني أبو محمد عبد الله بن محمد الفاسي حدثنا القاضي الحسين بن محمد بن عثمان
(5/302)
" صفحة رقم 303 "
النصيبي أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين السميعي بحلب حدثني الحسين بن إبراهيم بن الحسين الجصاص . أخبرنا الحسين بن الحكم حدثنا سعيد بن عثمان عن أبي مريم وحدثني بن عبد الله ابن عطاء قال : كنت جالساً مع أبي جعفر في المسجد فرأيت ابن عبد الله بن سلام جالساً في ناحية فقلت لأبي جعفر : زعموا أنّ الذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام . فقال : إنما ذلك علي بن أبي طالب ( ح ) .
وفيه عن السبيعي : حدثنا عبد الله بن محمد بن منصور بن الجنيد الرازي عن محمد بن الحسين بن الكتاب .
أحمد بن مفضل حدثنا مندل بن علي عن إسماعيل بن سلمان عن أبي عمر زاذان عن ابن الحنفية ) ومن عنده علم الكتاب ( قال : هو علي بن أبي طالب .
(5/303)
" صفحة رقم 304 "
( سورة إبراهيم )
( عليه السلام )
كلها مكية غير آيتين وهما قوله ) ألم تر إلى الذين بدلوا ( . إلى قوله : ) فإن مصيركم إلى النار ( نزلتا في قتلى بدر وأُسرائهم ، ( مكية ) وهي ثلاثة آلاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفاً وثمانمائة وإحدى وثلاثون كلمة في إثنتين وخمسون آية .
أخبرنا أبو الحسين بن علي بن محممد بن الحسن المقري غير مرة قال : حدثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم وأبو الشيخ عبد الله بن محمد قالا : أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك ، أحمد بن يونس اليربوعي عن سلام بن سليم المدائني ، عن عمرو بن كثير عن يزيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أُمامة عن أبي بن كعب ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة إبراهيم والحجر أُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام وبعدد من لم يعبدها ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا عَلَى الاَْخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُوْلَائِكَ فِى ضَلَالٍ بَعِيدٍ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِئَايَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ ءَالِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِى ذالِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُم
(5/304)
" صفحة رقم 305 "
ْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ وَقَالَ مُوسَىإِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِى الاَْرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ ( 2
إبراهيم : ( 1 ) الر كتاب أنزلناه . . . . .
) ألر ( ابتدأ ) كتاب ( خبره وإن قلت هذا كتاب ) أنزلناه إليك ( يا محمد يعني القرآن ) لتخرج الناس ( لتدعوهم ( إليه ) ) من الظلمات ( الضلالة والجهالة ) إلى النور ( العلم والإيمان ) بإذن ربهم ( بتوفيق ربهم إياهم ولطفه بهم ) إلى صراط العزيز الحميد }
إبراهيم : ( 2 ) الله الذي له . . . . .
) الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ( .
قرأ أهل المدينة والشام : الله ، برفع الهاء على الاستئناف وخبره : ( الذي ) وقرأ الآخرون : بالخفض نعتاً للعزيز الحميد .
وقال أبو عمر : بالخفض على التقديم والتأخير ، مجازه : إلى صراط الله العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض . كقول القائل مررت بالظريف عبد الله
لو كنت ذانبل وذا شريب
ماخفت شدات الخبيث الذيب
وكان يعقوب بن إسحاق الحضرمي إذا وقف على الحميد رفع قوله ) الله ( وإذا وصل خفض على النعت ) وويل للكافرين من عذاب شديد }
إبراهيم : ( 3 ) الذين يستحبون الحياة . . . . .
) الذين يستحبون ( يختارون الحياة الدنيا ) ويصدون عن سبيل الله ( ويضربون ويميلون الناس عن دين الله ) ويبغونها عوجاً ( ويطلبونها زيغاً وقيلا ، والعوج بكسر العين في الدين والأمر والأرض كلا لم يكن قائماً .
والعوج بفتح العين في كل ما كان قائماً كالحائط والرمح ونحوهما ) أُولئك في ضلال بعيد }
إبراهيم : ( 4 ) وما أرسلنا من . . . . .
) وما أرسلنا من رسول إلاّ بلسان قومه ( بلغتهم ليفهموا لبنية ، بيانه قوله ) ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم }
إبراهيم : ( 5 ) ولقد أرسلنا موسى . . . . .
) ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور ( بالدعوة ) وذكرهم بأيام الله ( .
قال ابن عباس وأُبي بن كعب ومجاهد وقتادة : بنعم الله .
قال مقاتل : بوقائع الله في الأُمم السالفة وما كان في أيام الله الخالية من النقمة والمحنة فاجتزأ بذكر الأيام عنه ؛ لأنها كانت معلومة عندهم .
) إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور ( .
(5/305)
" صفحة رقم 306 "
إبراهيم : ( 6 ) وإذ قال موسى . . . . .
قال أهل المعاني : أراد لكل مؤمن ؛ لأن الصبر والشكر من خصال المؤمنين وأفعالهم إلى قوله تعالى ) ويذبحون أبناءكم ( .
قال الفراء : العلّة الجالبة لهذه الواو إن الله تعالى أخبرهم إن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير الذبح والتذبيح وإن طرح الواو في قوله ويذبحون ويقتلون فإنه أراد تفسير صفات العذاب الذي كانوا يسومونهم ) ويستحيون نساءكم ( يتركونهن حبالى لأنفسهنّ ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم ) أي دعوا شبانهم أحياء ) وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم (
إبراهيم : ( 7 - 8 ) وإذ تأذن ربكم . . . . .
) وإذ تأذن ربكم ( أي أعلم ودليله قراءة عبد الله بن مسعود وإذ قال ربكم به وأذن ويأذن بمعنى واحد مثل أوعد وتوعد .
) لئن شكرتم ( نعمتي وآمنتم وأطعتم ) لأزيدنكم ( في النعمة قال ابن عيينة : الشكر بقاء النعمة ومن الزيادة ومرضاة المؤمن ، وقيل الشكر قيد للموجود وقيد للمفقود .
) ولئن كفرتم ( نعمتي فصددتموها ولم تشكروها .
) إن عذابي لشديد ( إلى قوله ) فإن الله لغني ( عن خلقه ) حميد ( محمود في أفعاله لأنه فيها سيفصل أو يعدل .
( ) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِىأَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِى شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِى اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىأَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَاكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الاَْرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذاَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِى وَخَافَ وَعِيدِ وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (
(5/306)
" صفحة رقم 307 "
إبراهيم : ( 9 ) ألم يأتكم نبأ . . . . .
) ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلاّ الله ( يعني من كان بعد قوم نوح وعاد وثمود .
وكان ابن مسعود يقرأها : ) وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلاّ الله ( ثم يقول كذب النسابون ) جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم ( .
قال ابن مسعود : يعني عضوا على أيديهم غيظاً .
قال ابن زيد وقرأ : ) عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ( .
ابن عباس : لما سمعوا كتاب الله عجبوا فرجعوا بأيديهم إلى أفواههم .
مجاهد وقتادة : كذبوا الرسل وردّوا ما حلوا به .
الأخفش وأبو عبيدة : أي تركوا ما أُمروا به وكفوا عنه ولم يمضوه ولم يؤمنوا .
تقول العرب للرجل إذا أمسك عن الجواب فلم يجب وسكت : قد ردّ يده في فيه .
قال القيسي : إنا لم نسمع واحداً من العرب يقول ردّ يده في فيه إذا ترك ما أمر به وإنما المعنى إنهم عضوا على الأيدي حيفاً وغيظاً .
كقول الشاعر :
تردون في فيه غش الحسود
يعني أنهم يغيظون الحسود حتى يعض على أنامله العشر
وقال الهذلي :
قد أفنى أنامله أزمة
فأضحى يعض على الوظيفا
الوظيف يعني الذراع والساق ، واختار النحاس هذا القول ؛ لقوله تعالى ) وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ( .
وأنشد
لو أن سلمى أبصرت تخددي
ودقة في عظم ساقي ويدي
وبعد أهلي وجفاء عودي
عضت من الوجد بأطراف اليد
(5/307)
" صفحة رقم 308 "
قال الكلبي : يعني من الأمم ردّوا بأيديهم إلى أفواههم أي في أفواه أنفسهم ؛ إشارة إلى الرسل إن اسكتوا .
مقاتل : فردوا أيديهم على أفواه الرسل حين يسكتونهم بذلك ) وقالوا ( يعني الأُمم للرسل ، ) إنا كفرنا بما أُرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب ( موجب الريبة موقع للتهمة
إبراهيم : ( 10 ) قالت رسلهم أفي . . . . .
) قالت رسلهم ( إلى قوله تعالى ) من ذنوبكم ( من تعجله ) ويؤخركم إلى أجل مسمىً ( يعني الموت فلا يعاجلكم بالعذاب والعقاب ) قالوا ( الرسل ) إن أنتم إلاّ بشر مثلنا ( في الصورة والهيئة ولستم بملائكة وإنما يريدون بقولكم ) إن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين ( أي بينة على صحة دعواكم ، والسلطان في القرآن على وجهين وجه ملائكة ووجه بينة كقوله ) وما كان لي عليكم من سلطان ( ) وما كان له عليهم من سلطان ( فصحة قوله ) إن عندكم من سلطان ( بهذا وقوله : ) فأتونا بسلطان مبين ( .
إبراهيم : ( 11 ) قالت لهم رسلهم . . . . .
) قالت لهم رسلهم إن نحن إلاّ بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ( بالنبوة والحكمة إلى قوله
إبراهيم : ( 12 ) وما لنا ألا . . . . .
) وقد هدانا سبلنا ( بيّن لنا الرشد وبصرنا طريق النجاة ، ) ولنصبرن ( اللام للقسم مجازه لنصبرن ) على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون (
إبراهيم : ( 13 ) وقال الذين كفروا . . . . .
) وقال الذين كفروا ( إلى قوله تعالى ) في ملتنا ( يعنون الآن ترجعوا وحتى ترجعوا إلى ديننا ) فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين (
إبراهيم : ( 14 ) ولنسكننكم الأرض من . . . . .
) ولنسكننكم الأرض من بعدهم ( أي من بعد هلاكهم ) ذلك لمن خاف مقامي ( أي مقامه وقيامه بين يدي ، فأضاف قيام العبد إلى نفسه ، كما يقول يذهب على ضربك أي ضربي إياك ، وسوف رويتكك أي برويتي إياك . قال الله ) وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ( أي رزقي إليكم فإن شئت قلت ذلك لمن يخاف قيامي عليه ومراقبتي له ، مثاله قوله ) أفمن هو قائم على كل نفس بماكسبت ( .
وقال الأخفش : ذلك لمن خاف مقامي أي عذابي .
) وخاف وعيد (
إبراهيم : ( 15 ) واستفتحوا وخاب كل . . . . .
) واستفتحوا ( واستنصروا الله عليها .
قال ابن عباس ومقاتل : يعني الأُمم ، وذلك أنهم قالوا : اللهم إن كان هؤلاء الرسل
(5/308)
" صفحة رقم 309 "
صادقين فعذبنا ، نظيره قوله تعالى ) ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ( وقالوا ) اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ( الآية .
وقال مجاهد وقتادة : يعني الرسل وذلك أنهم لما تبينوا من إيمان قومهم استنصروا عدوّهم ودعوا على قومهم بالعذاب .
بيانه قوله تعالى في قصة نوح ولوط وموسى ) وخاب كل جبار عنيد ( .
مجاهد : معاند للحق ويجانبه .
وقال إبراهيم : الناكب عن الحق .
ابن عباس : المعرض .
وقتادة : العنيد الذي لا يقول لا إله إلاّ الله .
مقاتل : المستكبر .
ابن كيسان : الشامخ بالحق .
ابن زيد : المخالف للحق .
والعرب تقول : شر الإبل العنيد الذي يخرج من الطريق خيره ، المريد العاصي ، ويقال عند العرب إذا لم يرقا دمه .
وقال أهل المعاني : المعاند والعنيد هو المعارض لك بالخلاف وأصله من العند وهو الناحية .
قال الشاعر :
إذا نزلت فاجعلوني وسطا
إني كبير لا أطيق العندا
إبراهيم : ( 16 ) من ورائه جهنم . . . . .
) من ورائه جهنم ( يعني أمامه وقدامه كما يقال : إن الموت من ورائك . قال الله ) وكان ورائهم ملك ( .
قال الشاعر
(5/309)
" صفحة رقم 310 "
أتوعدني وراء بني رياح
كذبت لتقصرن يداك دوني
أي قدامهم .
أبو عبيدة : من الأضداد .
وقال الأخفش : هو كما يقال هذا الآخر من ورائك أي سوف يأيتك
وأنا من وراء فلان يعني أصل إليه .
وقال الشاعر :
عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب
وقال بعضهم إنما يجوز هذا في الأوقات ؛ لأن الوقت يمر عليك فيصير إن أخرته خلفك .
مقاتل : من ورائه جهنم يعني بعده .
وكان أُستاذنا أبو القاسم الحبيبي يقول : الأصل في هذا أنّ كل ما ورائي عندك شيء من خلفك وقدام فهو ( . . . . ) ، ) ويسقى من ماء ( ثم بين ذلك لنا فقال صديد وهو القيح والدم .
قتادة : هو ما يخرج من بين جلد الكافر ولحمه .
محمد بن كعب والربيع بن أنس : هو غسالة أهل النار وذلك مايسيل من ابن الزنا يسقى الكافر
إبراهيم : ( 17 ) يتجرعه ولا يكاد . . . . .
) يتجرعه ( يتحساه ويشربه ويجرع لا بمرة واحدة لمرارته وحرارته ) ولا يكاد يسيغه ( لا يكاد أستقبله مجازه ولا يستسيغه كقوله ) لم يكد يراها ( أي لم يرها .
قال ابن عباس : لم يحبوه ، وقيل لا يحبّونه .
وروى أبو أُمامة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية يعطى إليه فيكرهه فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فأذا شربه فقطع أمعاءه وحتى يخرج من دبره . يقول الله ) وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم ( وقال ) يشوي الوجوه بئس الشراب ( ) ويأتيه الموت من كل مكان ( من أعضائه فيجد ألم الموت وسقمه
(5/310)
" صفحة رقم 311 "
وقال إبراهيم التيمي : حتى من تحت كل شعرة في جسده .
الضحاك : حتى من إبهام رجله .
الأخفش : يعني البلايا التي تصيب الكافر في النار سمّاها موتاً .
) وما هو بميت ( ولا يخرج نفسه فيستريح .
وقال ابن جريج : تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت ولا يرجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة ، نظيره قوله ) لا يموت فيها ولا يحيى ( ) ومن ورائه عذاب غليظ ( شديد .
( ) مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَىْءٍ ذالِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذاَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَىْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِىَ الاَْمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ إِنِّى كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَأُدْخِلَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِى السَّمَآءِ تُؤْتِىأُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاَْرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَفِى الاَْخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ ( 2
إبراهيم : ( 18 ) مثل الذين كفروا . . . . .
) مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم ( اختلفت النحاة في رفع مثل ، قال الفراء : أضاف المثل إلى الكافرين والمثل للأعمال ؛ لأن العرب تقدم الأسماء ؛ لأنها أعرف ثم تأتي بالخبر الذي يخبر عنه مع صاحبه ، ومجاز الآية ) مثل الذين كفروا بربهم كرماد ( ، قوله : ) الذي أحسن كل شيء خلقه ( أي أحسن خلق كل شيء وقوله ) ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله
(5/311)
" صفحة رقم 312 "
وجوههم مسودة ( معناه يوم القيامة ترى وجوه الذين كذبوا على الله وجوههم مسودّة سيئة ، في الآية إضمار معناها ولا يمنّ عليك مثل الذين كفروا بربهم ، ثم ابتدأ وأخذ يفسره فقال : أعمالهم ) كرماد ( وإن شئت جعلت المثل صفة فقلت الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد ) اشتدت به الريح في يوم عاصف ( وصف اليوم بالعصوف وهو من صفة الريح ؛ لأن الريح تكون فيه كما يقال يوم بارد وحار ؛ لأن البرد والحر يكونان فيه ، وليل نائم ونهار صائم . قال الله ) والنهار مبصراً ( ويدلّ عليه الليل والنهار .
قال الشاعر :
يومين غيمين ويوماً شمساً
وقال الفراء : إن شئت قلت : في يوم في عصوف وإن شئت قلت : في يوم عاصف الريح ، تحذف الريح ؛ لأنها قد ذكرت قبل ذلك .
كقول الشاعر :
إذا جاء يوم مظلم الشمس كاسف
أراد كاسف الشمس .
وقيل هو من نعت الريح غير أنه لما جاء بعد اليوم أتبع إعرابه كما قيل ( حجر ضب خرب ) ونحوه ، وهذا مثل ضربه الله لأعمال الكافر يعني هم لا ينتفعون بأعمالهم التي عملوها في الدنيا ؛ لأنهم أشركوا فيها كما أنّ الرماد الذي فرّقه الريح لا ينتفع به . فذلك قوله ) لا يقدرون ( يعني الكفار ) مما كسبوا ( في الدنيا ) على شيء ( في الآخرة ) ذلك هو الضلال البعيد }
إبراهيم : ( 19 ) ألم تر أن . . . . .
) ألم تر أن الله خلق السماوات والأرض ( .
قرأ أهل الكوفة إلاّ عامر : خالق السماوات والأرض على التعظيم .
وقرأ الآخرون : خلق السماوات على الفصل
) بالحق ( قال المفسرون : لم يخلقهما باطلا وإنما خلقهما لأمر عظيم .
) إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد ( يبدلكم أحسن وأفضل وأطوع منكم ،
إبراهيم : ( 20 ) وما ذلك على . . . . .
) وما ذلك على الله بعزيز ( منيع متعذر
إبراهيم : ( 21 ) وبرزوا لله جميعا . . . . .
) وبرزوا لله جميعاً ( خرجوا من قبورهم وظهروا لله جميعاً ،
(5/312)
" صفحة رقم 313 "
الاستقبال ) فقال الضعفاء ( يعني الأتباع ) للذين استكبروا ( يعني المتبوعين من القادة ) إنا كنا لكم تبعاً ( جمع تابع مثل حارس وحرس ، وقيل : راصد ورصد ونافر ونفر ، ويجوز أن يكون تبع مصدراً سمي به أي كنا ذوي تبع .
) فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء ( أي هل أنتم ودافعون عذاب الله عنا ، قال المتبوعين ) قالوا لو هدانا الله ( إلى قوله ) من محيص ( مهرب ولا منجى ، ويجوز أن يكون بمعنى المصدر وبمعنى الإسم .
يقال حاص فلان عن كذا أي فرّ وزاغ عنه يحيص حيصاً وحيوصاً وحيصاناً .
قال مقاتل : إنهم يقولون في النار تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم الجزع . يقولون تعالوا نصبر فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم الصبر فحينئذ يقولون ) سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص }
إبراهيم : ( 22 ) وقال الشيطان لما . . . . .
) وقال الشيطان ( يعني إبليس ) لما قُضيَ الأمر ( فرغ من الأمر فأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار .
قال مقاتل : يوضع له منبر من نار فيرقاه ويجتمع الكفار عليه بالأئمة ) إن الله وعدكم وعد الحق ( يوفى لكم ) ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان ( ولاية ومملكة وحجة وبصيرة ) إلاّ أن دعوتكم ( هذا من الاستثناء المنقطع مجازه لمن يدعونكم ) فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ( بإجابتي ومتابعتي من غير سلطان وغير برهان ) ما أنا بمصرخكم ( بمعينكم ) وما أنتم بمصرخي ( بمغنيّ وبمغيثي .
قرأه العامة : بمصرخي بفتح الياء .
وقرأ الأعمش وحمزة : بكسر الياء ، والأصل فيه بمصرخيين فذهبت النون لأجل الإضافة وأُدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة ، فمن نصب فلأجل التضعيف ومن كسر فلالتقاء الساكنين حركت إلى الكسر ؛ لأن الياء أُخت الكسرة ) إني كفرت بما أشركتمون به من قبل ( أي لا يمكن أن أكون شريكاً لله فيما أشركتموني به من طاعتكم إياي واستهزأت من ذلك ) إن الظالمين ( الكافرين الواضعين للعباد الطاعة في غير موضعها ) لهم عذاب أليم ( .
روى عتبة بن عامر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في حديث الشفاعة قال : يقول عيسى ( عليه السلام ) : ذلكم النبي الأُمي فيأتونني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور مجلسي أطيب ريح شمها أحد حتى آتي فيشفّعني ويجعل لي نوراً من شعر رأسي إلى ظفر قدمي .
ثم يقول الكفار : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فمن يشفع لنا ؟ فيقولون : ما هو غير
(5/313)
" صفحة رقم 314 "
إبليس هو الذي أضلنا فيأتون فيقولون : قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنافإنك أضللتنا قال : فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمها أحد ثم يعظم نحيبهم فيقول عند ذلك ) إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتم فأخلفتكم ( .
إبراهيم : ( 23 ) وأدخل الذين آمنوا . . . . .
) وأدخل الذين آمنوا ( إلى قوله ) فيها سلام ( يسلم الله ويسلم الملائكة عليهم ) ألم تر ( يا محمد يعني فإن الله يعلم بإعلامي إياك ) كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة ( يعني ما بين الله شبهها ) كلمة طيبة ( شهادة أن لا إله إلاّ الله ) كشجرة طيبة ( وهي النخلة يدل عليه حديث عتيب الحجاب قال : كان أبو العالية أميني فأتاني يوماً في منزلي بعدما صليت الفجر فانطلقت معه إلى أنس بن مالك فدخلت عليه فجيء بطبق عليه رطب .
فقال أنس : كل يا أبا العالية فإنّ هذه من الشجرة التي قال الله في كتابه
إبراهيم : ( 24 ) ألم تر كيف . . . . .
) ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة ( كشجرة طيبة . ثم قال أنس أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقناع بُسر ، فقرأ هذه الآية ، ومعنى الآية : كشجرة طيبة الثمرة ، فترك ذكر الثمرة استغناءً بدلالة الطعام عليه .
وقال أبو ظبيان عن ابن عباس : هذه شجرة في الجنة أصلها ثابت في الأرض وفرعها عال في السماء كذلك أصل هذه الكلمة راجع في قلب المؤمن بالمعرفة والتصديق والإخلاص .
وإذا تكلم بالشهادة تذهب في السماء فلا يكتب حتى ينتهي إلى الله تعالى . قال الله ) إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ( .
وروى مقاتل بن حيان عن الضحاك عن ابن عباس قال : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ لله عموداً من نور أسفله تحت الأرض السابعة ورأسه تحت العرش ، فإذا قال العبد أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً عبده ورسوله اهتز ذلك العمود ، فيقول الله عزّ وجلّ : اسكن ، فيقول : كيف أسكن ؟ ولم تغفر لقائلها فيقول الرب : قد غفرت له فيسكن عند ذلك ) .
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أكثروا من هز ذلك العمود ) .
إبراهيم : ( 25 ) تؤتي أكلها كل . . . . .
) تؤتي أكلها ( تعطي ثمرها ) كل حين ( اختلفوا في الحين .
فقال مجاهد وعكرمة وابن زيد : كل سنة .
قال عكرمة : أرسلت إلى عمر بن عبد العزيز إني نذرت أن أقطع يد رجل من هكذا سنة وحيناً ، ما عندك فيه . قال ابن عباس : فقلت له : لا تقطع يده واحبسه سنة
(5/314)
" صفحة رقم 315 "
إنّ ابن عباس يقول : الحين حينان حين يعرف ويبدل وحين لا يعرف . فأما الحين الذي لا يعرف ) ولتعلمن نبأه بعد حين ( وأما الذي يعرف ) تؤتي أكلها كل حين ( فهو ما بين العام إلى العام المقبل .
فقال : أصبت يا مولى ابن عباس وأحسنت .
وقال سعيد بن جبير وقتادة والحسن : كل ستة أشهر ما بين عرامها إلى حملها .
وروى طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه سئل عن رجل حلف ألاّ يكلم أخاه حيناً فقال : الحين سبعة أشهر ، وقرأ هذه الآية .
فقال سعيد بن المسيب : الحين شهران ؛ لأن النخلة لا يكون فيها أكلها إلاّ شهرين .
وقال الربيع بن أنس : كل حين كل غدوة وعشية ، كذلك يصعد عمل المؤمن عن أول النهار وآخره ، وهي رواية أبي ظبيان عن ابن عباس .
قال الضحاك : كل ساعة ليلا ونهاراً ، شتاءً وصيفاً يؤكل في جميع الأوقات . كذلك المؤمن لا يخلو من الخير في الأوقات كلها .
وقرأ أبو الحكم في تمثيل الله الإيمان بالشجرة فهي أن الشجرة لا تكون شجرة إلاّ بثلاثة أشياء عودراسخ وأصل قائم وفرع عال . كذلك الإيمان لا يتم ولا يقوم إلاّ بثلاثة أشياء تصديق بالقلب ، وقول باللسان ، وعمل بالأبدان .
يدل عليه ما روى جعفر بن محمد عن أبيه علي بن الحسين عن أبيه الحسين بن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الإيمان تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالإيمان ) .
لحميد الطويل عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا إن مثل هذا الدين مثل شجرة ثابتة ، الإيمان أصلها ، والزكاة فرعها ، والصيام عروقها ، والداعي في الله نباتها ، وحسن الخلق ورقها ، والكف عن محارم الله خضرتها ، فكمالا يكمل هذه الشجرة إلاّ بثمر طيبة ، لايكمل الإيمان إلاّ بالكف عن محارم الله ) .
والحكمة في تشبهها إياه باللحنطة من بين سائر الأشجار أنها لما كانت أشبه الأشجار بالانسان شبهت به وذلك أن كل شجرة إذا قطع رأسها تشعبت بالغصون عن جوانبها و النخلة إذا
(5/315)
" صفحة رقم 316 "
قطع رأسها يبست وذهب أصلها ؛ ولأنها تشبه الإنسان وسائر الحيوانات في الإلقاح ؛ لأنها لا تحمل حتى يلقح .
قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( خير المال سكة مأبورة ومهدة مأمورة ) .
ومنه حديث ابن عمر : إنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال ذات يوم لأصحابه : ( إن شجرة من الشجر لا يطرح ورقها وهي مثل المؤمن فأخبرني ما هي ؟ ) قال : فوقع الناس في شجر البوادي ووقع في نفسي أنها النخلة ثم نظرت فإذا أنا أصغر القوم فاستحييت وسكت . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( هي النخلة ) فذكرت ذلك لأبي فقال : يا بني لو كنت قلتها لكانت أحبّ إليّ من فضلة ؛ لأنها من شجرة آدم .
يروى أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أكرموا عمتكم ) فقيل ومن عمتنا يا رسول الله ؟ قال : ( النخلة ) وذلك أنّ الله تعالى لما خلق آدم فصلت من طينهِ فصلة فخلق منها النخلة قال الله : ) ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يذكرون ( ،
إبراهيم : ( 26 ) ومثل كلمة خبيثة . . . . .
) ومثل كلمة خبيثة ( وهي الشرك ) كشجرة خبيثة ( هي الحنظلة .
قال ابن عباس : هذا مثل ضربه الله ولم يخلق هذه الشجرة على وجه الأرض .
) اجتثت ( اقتلعت . قال ابن عباس ، والسدي : استرخت .
الضحاك : استوصلت . المؤرخ : أخذت حيث ما هي يقيناً ) من فوق الأرض ما لها من قرار ( كذلك الكافر لا خير فيه ولا يصعد له قول طيب ولا عمل صالح ) يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ( يحقق الله إيمانهم وأعمالهم بالقول والتثبيت ، وهو شهادة أن لا إله إلاّ الله ) في الحياة الدنيا وفي الآخرة ( يعني في القبر ، وقيل : في الحياة في القبر عند الله تعالى وفي الآخرة إذا بعث .
مقاتل : ذلك أنّ المؤمن إذا مات بعث الله إليه ملكاً يقال له : رومان فيدخل قبره فيقول له : إنه يأتيك الآن ملكان أسودان فيسألانك من ربك ومن نبيك وقادتك فأجبهما بما كنت عليه في حياتك ، ثم يخرج فيدخل الملكان وهما منكر ونكير أسودان أزرقان فظان غليظان أعينهما كالبرق الخاطف وأصواتهما كالريح العاصف معهما مهزبة ، فيقعدان ويسألانه لا يشعران بدخول رومان فيقول ربي الله ونبيي محمد وديني الإسلام ، فيقولان له عند الله سعيد ثم يقولان : اللهم فأرضهِ كما أرضاك ، ويفتح له في قبره باب من الجنة يأتيه منها التِحَف ، فإذا انصرفا عنه قال له : نَم
(5/316)
" صفحة رقم 317 "
نومة العروس ، فهذا هو التثبيت ) ويضل الله الظالمين ( يعني يلعنهم وذلك أنّ الكافر إذا دخل عليه الملكان قالا له : من ربك وما دينك ومن نبيك ؟ قال : لا أدري . قالا له : لا دريت ولا هديت عشت عصيا ومتّ شقياً ، ثم يقولان له نم نومة المنهوس ويفتح من قبره باب من جهنم ويضربانه ضربة بتلك المرزبة فيشهق شهقة يسمعها كل حيوان إلاّ الثقلان ويعلنه كل من يسمع صوته فذلك قوله ) ويلعنهم اللاعنون ( .
إبراهيم : ( 27 ) يثبت الله الذين . . . . .
روى البراء بن عازب أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذكر قبض روح المؤمن فقال : ( فيعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه في قبره ، ويقولان من ربك وما دينك ومن نبيك ؟ فيقول : ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد ، وينتهرانه ويقولان الثانية من ربك وما دينك ومن نبيك ؟ وهو آخر أسئلة الملكان فيثبته الله فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فينادي مناد في السماء أن ثبت عبدي ) فنزل قوله تعالى ) يثبت الله الذين آمنوا ( الآية .
وقال ابن عباس في هذه الآية : إنّ المؤمن إذا حضره الموت شهدته الملائكة فسلموا عليه وبشروه بالجنة فإذا مات مشوا مع جنازته وصلوا عليه مع الناس ، فإذا دفن جلس في قبره فيقال له من ربك ؟ فيقول ربي الله . فيقال له من رسولك ؟ فيقول محمد . فيقال له ما شهادتك ؟ فيقول أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله فيوسع له في قبره حد بصره ، وذلك قوله يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة .
وروى أبو نضرة عن أبي سعيد الخدري قال : كنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في جنازة فقال : ( يا أيها الناس إنّ هذه الأُمة تبتلى في قبورها فإذا الإنسان دفن ويتفرق عنه أحباؤه جاءهُ ملك بيده مطراق فأقعده فقال : ما تقول في هذا الرجل ؟ فإن كان مؤمناً قال : أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله . فيقول له : صدقت فيفتح له باب إلى النار فيقال له : هذا منزلك كان لو كفرت بربك ، فأما إذا آمنت به فإنّ الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى الجنة فيريد أن ينهض له فيقال له اسكن ثم يفتح له في قبره ، وأما الكافر أو المنافق فيقال له ما تقول في هذا الرجل ؟ فيقول : لا أدري ، فيقال له : لا دريت ولا تليت ولا اهتديت ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له : هذا كان منزلك لو آمنت بربك ، فأما إذا كفرت فإنّ الله أبدلك به هذا ثم يفتح له باب إلى النار ثم يقمعه الملك بالمطراق قمعة يسمعه خلق الله كلهم إلاّ الثقلين ) .
قال بعض أصحابه : يا رسول الله ما منا من أحد يقوم على رأسه ملك بيده مطراق إلاّ هِيْل جزعاً لذلك ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يثبت الله الذين آمنوا ) الآية
(5/317)
" صفحة رقم 318 "
وقال أبو هريرة : إن الميت يسمع خفق نعالهم حتى يولون عنه مدبرين وإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه والزكاة عن يمينه والصيام عن يساره وفعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف فيصلي الناس عند رجليه فيؤتى من عند رأسه فيقول للصلاة : أقبلي فتدخل فيؤتى من يمينه فيقول الزكاة اقبلي فتدخل ، فيؤتى عن يساره فيقول الصيام قبلي يدخل صوتي من عند رجليه فيقول فعل الخيرات اقبلي فتدخل ، فيقال له : اجلس فيجلس قد مثلت له الشمس وقد دخل الغروب ، فيقال له : أخبرنا عما نسألك . فيقول : دعوني حتى أُصلي فيقال إنك ستفعل ، فأخبرنا عما نسألك عنه فيقول وعم تسألونني ؟ فيقال أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم ما نقول فيه وماذا شهد عليه ، فيقول أمحمد ؟ فيقال : نعم ، فيقول : أشهد إنه لرسول الله قد جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه ، فيقال له : على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعلى ذلك تبعث إن شاء الله ، ثم يفتح إليه في قبره سبعون ذراعاً وينوّر له فيه ، ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له : أنظر إلى ما أعد الله لك فيها فيزداد غبطة وسروراً ، ثم يفتح له باب إلى النار فيقال له : انظر إلى ما صرف الله عنك لو عصيته ، فيزداد غبطة وسروراً ، ثم يجعل نسمه في النسيم الطيب ، وهي طير ( خضر ) تعلق بشجر الجنة ويعاد جسده إلى ما بدئ منه من التراب ، وذلك قوله ) يثبت الله الذين آمنوا ( إلى قوله ) وفي الآخرة ( .
وعن أبي نافع قال : بينما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يمشي بغدير وأنا أمشي خلفه فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا هديت لا هديت ثلاثاً ) .
قال أبو نافع قلت : يا رسول الله مالي ؟ قال : ليس إياك أُريد ، وإنما أُريد صاحب هذا القبر ، يُسأل عني فيزعم أنه لا يعرفني فإذا هو قبر قد رشّ عليه الماء حين دفن صاحبه .
وأخبرنا أبو القاسم السلمي عن أبي الطيب محمد بن علي الخياط يقول : سمعت سهيل بن جابر العتكي يقول : رأيت يزيد بن عثمان بعد موته في المنام ، فقلت له ما فعل الله بك فقال : إنه أتاني في قبري ملكان فظان غليظان فقالا من ربك ؟ وما دينك ؟ ومن نبيك ؟ فأخذت بلحيتي البيضاء وقلت لهما ألمثلي يقال هذا وقد علمت الناس جوابكما ثمانين سنة فذهبا وقالا أكتبت عن جريز بن عثمان ؟ قلت : نعم . قالا : إنه كان يبغض علياً فأبغضه الله .
2 ( ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ قُل لِّعِبَادِىَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلا
(5/318)
" صفحة رقم 319 "
خِلَالٌ اللَّهُ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِىَ فِى الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ( 2
إبراهيم : ( 28 ) ألم تر إلى . . . . .
) الم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفراً ( يعني غيّروا نعمة الله عليهم في تكذيبهم محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) حين بعثه الله منهم وفيهم فكفروا به وكذبوه فيصيروا نعمة الله عليهم كفراً ) وأحلوا ( وأنزلوا ) قومهم ( ممن تابعهم على كفرهم ) دار البوار ( الهلاك ثم ( ترجم ) عن دار البوار ما هي . فقال :
إبراهيم : ( 29 ) جهنم يصلونها وبئس . . . . .
) جهنم يصلونها ( يدخلونها ) وبئس القرار ( المستقر .
عامر بن واثلة سمعت علي بن أبي طالب ح يقول في قوله ) ألم تر إلى الذين بدّلوا ( الآية قال : هم كفار قريش الذين نحروا يوم بدر .
قال عمر بن الخطاب ( ح ) : هما الأفجران من قريش بني أُمية ، فأما بنو أُمية فمتعوا إلى حين ، وأما بنو مخزوم فأُهلكوا يوم بدر .
ابن عباس : هم متنصرة العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه .
إبراهيم : ( 30 ) وجعلوا لله أندادا . . . . .
) وجعلوا لله أنداداً ليضلوا ( قرأ الكوفيون بضم الياء على معنى ليضلوا الناس عن سبيله ، وقرأ الباقون بفتح الياء على اللزوم ) قل تمتعوا ( عيشوا متاع الدنيا .
) فإن مصيركم إلى النار ( وهذا وعيد .
إبراهيم : ( 31 ) قل لعبادي الذين . . . . .
قوله : ) قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة ( . قال الفراء : جزم : يقيموا بتأويل الجزاء ومعناه الأمر .
) وينفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ( إلى قوله ) ولا خلال ( مخالة فيقال خلت فلاناً فأنا أخاله مخالة وخلال وخلّة .
(5/319)
" صفحة رقم 320 "
قال امرؤ القيس :
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى
وخلت بمقليّ الخلال ولا قالي
إبراهيم : ( 32 - 33 ) الله الذي خلق . . . . .
) الله الذي خلق السماوات ( إلى قوله ) الشمس والقمر دائبين ( .
قال ابن عباس : دوؤبهما في طاعة الله .
) وسخر لكم الليل والنهار ( متعاقبان في الضياء والظلمة والنقصان والزيادة
إبراهيم : ( 34 ) وآتاكم من كل . . . . .
) وآتاكم من كل ما سألتموه ( يعني وآتاكم من كل شيء سألتموه شيئاً فحذف الشيء الثاني اكتفاءً بدلالة الكلام على التبعيض كقوله ) وأُوتيت من كل شيء ( يعني وأُوتيت من كل شيء في زمانها شيئاً وقيل هو التكثير نحو قولك : فلان يعلم كل شيء وأتاه كل الناس ، وأنت تعني بعضهم نظيره قوله ) فتحنا عليهم أبواب كل شيء ( .
وقال بعض المفسرين : معناه وآتاه من كل ما سألتموه وما لم تسألوه ، وهذه قراءة العامة بالإضافة ( . . . . . . . . . ) .
وقرأ الحسن والضحاك وسلام : من كل ، بالتنوين على النفي يعني من كل مالم تسألوه فيكون ما يجد .
قال الضحاك : أعطاكم أشياء ما طلبتموها ولا سألتموها ، صدق الله لكم من شيء أعطاناه الله ما سألناه إياه ولا خطرنا ببال .
) وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ( لا تطيقوا ذكرها ولا القيام بشكرها لا بالجنان ولا باللسان ولا بالبيان ) إن الإنسان لظلوم ( لشاكر غير من أنعم عليه واضع الشكر في غير موضعه ) كفار ( جحود لنعم الله ، وقيل ظلمه لنفسه بمعصيته كفار لربه في نعمته ، وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع ، كفار في النعمة يجمع ويمنع .
( ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الاَْصْنَامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنِّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ رَّبَّنَآ إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلواةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِىإِلَيْهِمْ
(5/320)
" صفحة رقم 321 "
وَارْزُقْهُمْ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَىْءٍ فَى الاَْرْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ رَبِّ اجْعَلْنِى مُقِيمَ الصَّلواةِ وَمِن ذُرِّيَتِى رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ رَبَّنَا اغْفِرْ لِى وَلِوَالِدَىَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ ( 2
إبراهيم : ( 35 ) وإذ قال إبراهيم . . . . .
) وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً ( يعني الحرم مأموناً فيه ) واجنبني وبني ( .
) أن نعبد الأصنام ( ويقال جنبته أجنبه جنباً وأجنبته إجناباً بمعنى وأجنبّك وجنّبته تجنيباً .
قال الشاعر : وهو أُمية بن الأشكر الليثي :
وتنفض مهده شفقاً عليه
وتجنّبه قلا يصعي الصّعابا
والأصنام جمع صنم وهو التمثال المصور
قال الشاعر :
وهنانة كالزون يجلي ضمه
تضحك عن أشنب عذب ملثمه
وقال إبراهيم التيمي في قصصه : من يأمن من البلاء بعد خليل الله إبراهيم ( عليه السلام ) حين يقول : ) واجنبني وبني أن نعبد الأصنام }
إبراهيم : ( 36 ) رب إنهن أضللن . . . . .
) رب انهن أضللن كثيراً من الناس ( يعني ضل بهن كثير من الناس عن طريق الهدى حتى عبدوهن وهذا من المغلوب . نظيره قوله ) الشيطان يخوف أولياءه ( أي يخوفكم بأوليائه .
) فمن تبعني فإنه مني ( على ديني وملتي ) ومن عصاني فإنك غفور رحيم ( .
قال السدي : معناه ومن عصاني فتاب .
مقاتل بن حيان : ومن عصاني فيما دون الشرك .
روى عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا قول إبراهيم ( عليه السلام ) ) فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ( .
وقول عيسى ( عليه السلام ) ) إن تعذبهم فإنهم عبادك ( الآية ، فرفع يداه ثم قال : اللهم أُمتي اللهم أُمتي وبكى ، فقال الله : يا جبرئيل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسأله ما بك ، فأتى جبرئيل فسأله فأخبره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ما قال ، فقال الله : يا جبرئيل اذهب إلى محمد فقل : إنا سنرضيك في أُمتك ولا يسؤك .
(5/321)
" صفحة رقم 322 "
إبراهيم : ( 37 ) ربنا إني أسكنت . . . . .
) ربنا إني أسكنت من ذريتي ( إنما أدخل : ( من ) للتبعيض ومجاز الآية أسكنت من ذريتي ولداً ) بواد غير ذي زرع ( وهو مكة ) عند بيتك المحرم ( .
قتادة : المحرم من المسجد محرم الله فيه ، والاستخفاف بحقه ، فإن قيل ما وجه قول إبراهيم عند بيتك وإنما بنى إبراهيم البيت بعد ذلك بمدة ، وقيل معناه عند بيتك المحرم الذي كان قبل أن يرفعه من الأرض حتى رفعته في أيام الطوفان .
وقيل عند بيتك المحرم الذي قد مضى في علملك أنه يحدث في هذا البلد .
وكانت قصة الآية على ما ذكره سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : إنّ أول من سعى بالصفا والمروة هاجر أُم إسماعيل ، وإنّ أول ما أحدثت جّر الذيول لهي وذلك أنها لما فرت من ساره فأرخت من ذيلها ليعفى أثرها فجاء بها إبراهيم ومعها ابنها إسماعيل حتى انتهى بهما إلى موضع البيت فوضعهما ثم رجع فأثبتته فقالت : إلى من تكلنا ، فجعل لا يرد عليها شيئاً ، فقالت : الله أمرك بهذا ؟ قال : نعم . قالت : إذاً لا يضيعنا ، فرجعت ومضى ( إبراهيم ) حتى إذا كان على ثنية كداء أقبل على الوادي . فقال : ) ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع ( الآية .
قال : ومع الإنسانة شنّة فيها ماء فنفذ الماء فعطشت فانقطع لبنها فعطش الصبي ، فنظرت إلى الجبال أدنى من الأرض فصعدت الصفا فتسمّعت هل تسمع صوتاً أو ترى أنيساً فلم تسمع شيئاً فانحدرت فلمانزلت على الوادي سعت وما تريد السعي كالإنسان المجهود الذي يسعى وما يريد بذلك السعي ، فنظرت أيُّ الجبال أدنى من الأرض فصعدت المروة فتسمّعت هل تسمع صوتاً أو ترى أنيساً ، فسمعت صوتاً ، فقالت : كالإنسان الذي يكذب سمعه : صه حتى استيقنت ، فقالت : قد أسمعتني صوتك فأغثني فقد هلكت وهلك من معي ، فإذا هو الملك فجاء بها حتى انتهى بها إلى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عيناً فعجلت الإنسانة فجعلت تفرغ في شنتها ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يرحم الله أُم إسماعيل لولا أنها عجلت لكانت زمزم عيناً معيناً ، وقال لها الملك : لا تخافي الضمأ على أهل هذا البلد فإنما هي عين لشرب ضيفان الله وقال : إن أبا هذا الغلام سيجيء فيبنيان لله بيتاً هذا موضعه .
قال : ومرت رفقة من جرهم تريد الشام فرأوا الطير على الجبل وقال : إن هذا الطير لعائف على ماء فأشرفوا فاذا هم بالإنسانة فأتوا هاجر وقالوا إن شئت كنا معك وآنسناكِ والماء ماؤك فأذنت لهم فنزلوا معها وكانوا هناك حتى شبّ إسماعيل وماتت هاجر فتزوج إسماعيل امرأة من جرهم فاستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل ، وذكر الحديث في صفة مقام إبراهيم وقد مضت هذه القصة في سورة آل عمران .
(5/322)
" صفحة رقم 323 "
) ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي ( تفزع وقيل تشتاق ) إليهم ( وهذا دعاء منه ( عليه السلام ) لهم بأن يرزقهم حجّ بيته الحرام .
قال سعيد بن جبير : ويقال أفئدة الناس تهوى إليهم لحجت اليهود والنصارى والمجوس ، ولكنه قال أفئدة من الناس منهم المسلمون .
وقال مجاهد : لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند ولكنه أفئدة من الناس ) وارزقهم من الثمرات ( ما رزقت سكّان القرى ذوات المياه ) لعلهم يشكرون }
إبراهيم : ( 38 ) ربنا إنك تعلم . . . . .
) ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن ( من جميع أُمورنا .
وقال ابن عباس ومقاتل من الوجد إسماعيل وأمه حيث أسكنها بواد غير ذي زرع ) وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء ( .
قال بعضهم : هذه صلة فولد إبراهيم ( عليه السلام ) .
وقال الآخرون : قال الله عزّ وجلّ وما يخفى على الله وهو قول الله عزّ وجلّ
إبراهيم : ( 39 ) الحمد لله الذي . . . . .
) الحمد لله الذي وهب لي ( أعطاني ) على الكبر إسماعيل وإسحاق إنّ ربي لسميع الدعاء ( .
قرأ ابن عباس : ولد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة .
وقال سعيد بن جبير : بشر إبراهيم بإسحاق بعد اثنتي عشرة ومائة سنة .
إبراهيم : ( 40 ) رب اجعلني مقيم . . . . .
) رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ( أيضاً واجعلهم مقيمي الصلاة ) ربنا وتقبل دعاء ( .
قال المفسرون : أي عبادتي . نظيره قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( الدعاء مخ العبادة ) ثم قرأ ) وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي ( فسمى الدعاء عبادة .
إبراهيم : ( 41 ) ربنا اغفر لي . . . . .
) ربنا اغفر لي ولوالدي ( إن آمنا وتابا ، وقد أخبر الله عن عذر خليله في استغفاره لأبيه في سورة التوبة .
) وللمؤمنين ( كلهم .
قال ابن عباس : من أمة محمّد ) يوم يقوم الحساب ( أي يبدو ويظهر . قال أهل المعاني : أراد يوم يقوم الناس للحساب فاكتفى بذكر الحساب عن ذكر الناس إذ كان مفهوماً .
(5/323)
" صفحة رقم 324 "
2 ( ) وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ وَسَكَنتُمْ فِى مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ يَوْمَ تُبَدَّلُ الاَْرْضُ غَيْرَ الاَْرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى الاَْصْفَادِ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ هَاذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ( 2
إبراهيم : ( 42 ) ولا تحسبن الله . . . . .
) ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ( . قال ميمون بن مهران : فهذا وعيد للظالم وتعزية المظلوم ) إنما يؤخرهم ( يمهلهم ويؤخر عذابهم .
وقرأه العامة : بالتاء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله ) ولا تحسبن الله ( ، وقرأ الحسن والسّلمي : بالنون .
) ليوم تشخص فيه الأبصار ( أي لاتغمض من هول ماترى في ذلك اليوم قاله الفراء .
إبراهيم : ( 43 ) مهطعين مقنعي رؤوسهم . . . . .
) مهطعين ( قال قتادة : مسرعين . سعيد بن جبير عنه : منطلقين .
عابد بن الأوزاعي وسعيد بن جبير : الإهطاع سيلان كعدو الذئب .
مجاهد : مديمي النظر .
الضحاك : شدّة النظر من غير أن يطرف ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، الكلبي : ناظرين . مقاتل : مقبلين إلى النار .
ابن زيد : المهطع الذي لا يرفع رأسه ، وأصل الإهطاع في كلام العرب البدار والإسراع ، يقال : أهطع البعير في سيره واستهطع إذا أسرع .
قال الشاعر :
وبمهطع سرح كأنَّ زمامَهُ
في رأسِ جذع من أراك مشذبِ
وقال آخر
(5/324)
" صفحة رقم 325 "
بمستهطع رسل كأن جديلَهُ
بقدوم رعن من صوام ممنع
وقال آخر :
تعبدني نمرُ بن سعد ، وقد أرى
ونمر بن سعد لي معيع ومهطعُ
) مقنعي رؤوسهم ( رافعيها .
قال القتيبي : المقنع الذي يرفع رأسه ويقبل ببصره على ما بين يديه ، ومنه الإقناع في الصلاة .
قال الحسن : وجوه الناس يوم القيامة إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد وأصل الإقناع في كلام العرب رفع الرأس .
قال الشماخ
يباكرن العضاه بمقنعات
نواجذهن كالجداالوقيع
يعني برؤوس مرفوعات إليها ليتناولها .
قال الراجز :
أنغض نحوي رأسه وأقنعا
كأنما أبصر شيئاً أطمعا
) لا يرتد إليهم طرفهم ( لا يرجع إليهم أبصارهم من شدة النظر فهي شاخصة ) وأفئدتهم هواء ( قال ابن عباس : خالية من كل خير .
مجاهد ومرة بن شرحبيل وابن زيد : منخرقة خربة ليس فيها خير ولا عقل ، كقولك في البيت الذي ليس فيه شيء : إنما هو هواء . هذه رواية العوفي عن ابن عباس .
سعيد بن جبير : تمور في أجوافهم ليس لها مكان يستقر فيه .
قتادة : انتزعت حتى صارت في حناجرهم لا تخرج من أفواههم ولا تعود إلى أمكنتها .
الأخفش : جوفاء لا عقول لها .
والعرب تسمي كلّ أجوف نخباً وهواء ، ومنه أهواء وهو الخط الذي بين الأرض والسماء .
قال زهير يصف ناقه
(5/325)
" صفحة رقم 326 "
كان الرجل منها فوق صعل
من الظلمان جؤجؤه هواء
وقال حبان
ألا أبلغ أبا سفيان عنّى
فأنت مجوف نخب هواء
إبراهيم : ( 44 ) وأنذر الناس يوم . . . . .
) وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب ( وهو يوم القيامة ) فيقول ( عطف على يوم يأتيهم وليس بجواب فلذلك وقع ) الذين ظلموا ( أشركوا ) ربنا أخرنا ( أمهلنا ) إلى أجل قريب ( وهو الدنيا يعني أرجعنا إليها ) نجب دعوتك ونتبع الرسل ( فيجابون ) أو لم تكونوا أقسمتم ( حلفتم ) من قبل ( في دار الدنيا ) ما لكم من زوال ( فيها أي لا يبعثون ، وهو قوله ) وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يقبل من يموت ( ،
إبراهيم : ( 45 ) وسكنتم في مساكن . . . . .
) وسكنتم ( في الدنيا ) في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ( بالكفر والمعصية قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ) وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال (
إبراهيم : ( 46 ) وقد مكروا مكرهم . . . . .
) وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم ( أي جزاء مكرهم ) وإن كان مكرهم ( .
قرأه العامة : بالنون .
وقرأ عمر وعلي وأبن مسعود : وأُبيّ : وإن كاد مكرهم ما يزال .
) لتزول منه الجبال ( . قرأه العامة : بكسر اللام الأول وفتح الثانية .
وقرأ ابن جريج والكسائي : بفتح الميم الأُولى وضم الثانية بمعنى قراءة العامة الزجاج في قوله ) وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ( ، أي ما كان مكرهم لتزول .
أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأمر الإسلام وثبوته كثبوت الجبال الراسخة ؛ لأن الله وعده إظهار دينه على الأديان كلّها ، وقيل معناه : كان مكرهم .
قال الحسن : إن كان مكرهم لأوهن وأضعف من أن يزول منه الجبال ، وقال خمس مواضع في القرآن ( إن ) بمعنى ( ما ) قوله ) وإن كان مكرهم ( ، وقوله : ) لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين ( وقوله : ) قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ( ) فيما إن مكناكم فيه ( وقوله ) فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك ( ومن فتح اللام الأُولى فعلى استعظام مكرهم
(5/326)
" صفحة رقم 327 "
قال ابن جرير : الاختيار القراءة الأُولى ؛ لأنها لو كانت قالت لم يكن ثابتة وكان مكرهم ما ذكره علي بن أبي طالب ( ح ) وغيره قالوا : نمرود الجبار الذي حاج إبراهيم في ربه قال : إن كان ما يقوله إبراهيم حقاً فلا انتهي حتى أعلم ما في السماء ، فعمد إلى أربعة أفراخ من النسور وعلفها اللحم وربّاها حتى شبت واستعلجت ثم قعد في تابوت وجعل معه رجلا آخر ، وجعل له باباً من أعلى وباباً من أسفل وربط التابوت بأرجل النسور وعلق اللحم فوق التابوت على عصا ثم خلى النسور فطرن وصعدن طمعاً في اللحم حتى بعدن في الهواء .
قال نمرود لصاحبه افتح الباب الأول وانظر في السماء هل ترى منه شيئاً ففتح ونظر ، فقال : إن السماء كهيئتها ثم قال : افتح الباب الأسفل وانظر إلى الأرض كيف تراها ففعل ذلك فقال أرى الأرض مثل اللجة البيضاء ، والجبال مثل الدخان ، وطارت النسور وارتفعت حتى حالت بينها وبين التابوت فقال لصاحبه افتح البابين ففتح الأعلى فإذا السماء كهيئتها وفتح الأسفل فإذا الأرض سوداء مظلمة ، ونودي : أيها الطاغية أين تريد .
قال عكرمة : كان معه في التابوت غلام قد حمل القوس والنشاب فرمى عليهم فعاد إليه السهم متلطخاً بدم . فقال : كفيت نفسك إله السماء
واختلفوا في ذلك السهم من أي شيء تلطخ .
قال عكرمة : سمكة فدت نفسها لله من بحر في الهواء معلق .
وقال بعضهم : من طائر من الطيور أصابه السهم .
قالوا : ثم أمر نمرود صاحبه أن يضرب العصا وأن ينكس اللحم ففعل ذلك فهبطت النسور بالتابوت فسمعت الجبال حفيف التابوت في النسور ففزعت وظنت أن قد حدث بها حدث في السماء أو أن القيامة قد قامت فذلك قوله ) وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال 2 )
إبراهيم : ( 47 ) فلا تحسبن الله . . . . .
) فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ( بالنصر لاؤليائه وهلاك أعدائه وفي الكلام تقديم وتأخير تقديره : ولا يحسبن الله مخلف رسله وعده ؛ لأن الخلف يقع بالوعد .
يقول الشاعر :
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه
وسائر باد إلى الشمس أجمع
وقال القتيبي : هو من المقدم الذي يوضحه التأخير والمؤخر الذي يوضحه التقديم ، وهو قولك يخلف وعده رسله ، ومخلف رسله وعده ؛ لأنه الخلف يقع بالوعد كما يقع بالرسل .
(5/327)
" صفحة رقم 328 "
) إن الله عزيز ذو انتقام }
إبراهيم : ( 48 ) يوم تبدل الأرض . . . . .
) يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ( وروى عمرو بن ميمون عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية قال : البدل عرض كالفضة نبضاً نقية لم يسل فيها دم ولم يعمل عليها خطيئه .
وقال علي ( ح ) في هذه الآية : الأرض من فضة والسماء من ذهب .
وروى سهل بن سعيد عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها علم لأحد ) .
فقال سعيد بن جبير ونجد ومحمد بن كعب القرظي : تبدل الأرض خبزة بيضاء يأكل المؤمن من تحت قدميه .
روى خيثمة عن ابن مسعود قال : تبدل الأرض ناراً يصير الأرض كلها يوم القيامة ناراً والجنة من ورائها ترى كواعبها وأكوابها وتلجم الناس العرق ولم يبلغوا الحساب بعد .
قال كعب : يصير السماوات جناناً ويصير مكان البحر ناراً وتبدل الأرض غيرها .
ابن عباس : الأرض هي تلك الأرض وإنما تبدل كلها وجبالها وأنهارها .
ثم أنشد :
فما الناس بالناس الذين عهدتهم
ولا بالدار الدار التي كنت أعرف
وتصديق قول ابن عباس ، عن أبي هريرة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( تبدل الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدهامد الأديم العكاظي لا ترى فيهاً عوجاً وأمتا ثم يزجر الله الخلق زجرة فإذاهم في الثانية في مثل مواضعهم من الأُولى من كان في بطنها كان في بطنها وما كان على ظهرها كان على ظهرها ) .
وقيل : تبدل الأرض غير الأرض بأرض ( بيضاء كالفظة ) .
الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى : ) يبدل الأرض غير الأرض ( أين يكون الناس يومئذ قال : ( على الصراط ) .
وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي أسماء عن ثوبان قال : سأل نفر من اليهود رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض ؟
(5/328)
" صفحة رقم 329 "
قال : ( هم في الظلمة دون الحشر ) .
وروى حيكم بن ثوبان الكلابي عن أبي أيوب الأنصاري قال : أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بر من اليهود فقال : أرأيت إذ يقول الله عزّ وجلّ في كتابه : ) يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ( فأين الخلق عند ذلك ؟ فقال : أضياف الله فلم يعجزهم ما لديه .
) وبرزوا ( ظهروا وخرجوا من قبورهم ) لله الواحد القهار ( الغلاب الذي يفعل ما يشاء وقهر العباد بالموت
إبراهيم : ( 49 ) وترى المجرمين يومئذ . . . . .
) وترى المجرمين ( المشركين ) يومئذ مقرنين ( مشدودين بعضهم ببعض ، وقيل مقرنين بالشياطين . بيانه قوله ) احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون ( وهم الشياطين ، فقال ابن زيد : مقرّنة أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم في الأصفاد بالقيود والأغلال ، واحدها صفد والصفاد أيضاً القيد وجمعه صفد يقال : صفدته صفداً وأصفاداً التكثر ، قلت : صفدته تصفيداً .
قال عمرو بن كلثوم :
فأتوا بالنهاب وبالسبايا
وأبناء الملوك مصفدينا
إبراهيم : ( 50 - 52 ) سرابيلهم من قطران . . . . .
) سرابيلهم ( قمصهم واحدها سربال والفعل منه تسربلت وسربلت غيري ) من قطران ( وهو الذي تهنأ به الإبل ويقال له الخضخاض .
قال الحسن وقرأ عيسى بن عمر : ) قطران ( بفتح القاف وتسكين الطاء ، وفيه لغة ثالثة قِطران بكسر القاف وجزم الطاء ، ومنه قول أبي النجم :
جون كأن العرق المنتوحا
لبسه القطران والمسوحا
وقرأ عكرمة : برواية زيد : قطران على كلمتين منونتين ) قطران ( والقطر النحاس الصفر المذاب . قال الله ) آتوني أفرغ عليه قطرا ( والآن الذي انتهى خبره قال الله تعالى ) يطوفون بينها وبين حميم آن ( ) وتغشى وجوههم النار ( إلى قوله ) هذا ( أي هذا القرآن ) بلاغ ( تبليغ وعظة ) للناس ولينذروا به وليعلموا ( حجج الله التي أقامها فيه ) إنما هو إله واحد ( لا شريك له ) وليذكر أُولو الألباب ( .
(5/329)
" صفحة رقم 330 "
( سورة الحجر )
مكية ، وهي ألفان وسبعمائة وستون حرفاً ، وستمائة وأربع وخمسون كلمة وتسع وتسعون آية
روى حبيش عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين والأنصار والمستهزئين بمحمد ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) الرَ تِلْكَ ءايَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْءَانٍ مُّبِينٍ رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الاَْمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَئْخِرُونَ وَقَالُواْ ياأَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى شِيَعِ الاَْوَّلِينَ وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الاَْوَّلِينَ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ ( 2
الحجر : ( 1 ) الر تلك آيات . . . . .
) الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ( يعني وآيات قرآن .
الحجر : ( 2 ) ربما يود الذين . . . . .
) ربما يود ( .
قرأ عاصم وأهل المدينة : بتخفيف الباء .
وقرأ الباقون : بتشديده ، وهما لغتان .
قال أبو حاتم وأهل الحجاز : يخففون ربما .
وقيس وبكر وتميم : يثقلّونها وإنما أُدخل ما على رُب ليتكلم بالفعل بعدها .
) يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ( .
(5/330)
" صفحة رقم 331 "
روى أبو موسى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا كان يوم القيامة واجتمع أهل النار في النار ومعهم من يشاء الله من أهل القبلة . قال الكفار لمن في النار من أهل القبلة : ألستم مسلمين ؟ قالوا : بلى ، قالوا : فما أغنى عنكم إسلامكم شيئاً ؟ وقد صرتم معنا في النار . قالوا : كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فغضب الله لهم بفضل رحمته فأمر بكل من كان من أهل القبلة في النار يخرجون منها فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ) وقرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية .
وروى مجاهد عن ابن عباس قال : ما يزال الله يدخل الجنة ويرحم ويشفع حتى يقول لمن كان من المسلمين : ادخلوا الجنة فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين
الحجر : ( 3 ) ذرهم يأكلوا ويتمتعوا . . . . .
) ذرهم ( يا محمد يعني الذين كفروا ) يأكلوا ( في الدنيا ) ويتمتعوا ( من لذاتها ) ويلههم ( ويشغلهم ) الأمل ( عن الأخذ بحظهم من الإيمان والطاعة ) فسوف يعلمون ( بما وردوا القيامة ونالوا وبال ما صنعوا فنسختها آية القتال
الحجر : ( 4 ) وما أهلكنا من . . . . .
) وما أهلكنا من قرية ( أي من أهل قرية ) إلاّ ولها كتاب معلوم ( أجل مؤقت قد كتبناها لهم لا يعذبهم ولا يهلكهم حتى يلقوه
الحجر : ( 5 ) ما تسبق من . . . . .
) ما تسبق من أُمة ( من ملة ) أجلها وما يستأخرون ( ونظيرها ) فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون 2 )
الحجر : ( 6 ) وقالوا يا أيها . . . . .
) وقالوا ( يعني مشركي مكة ) يا أيها الذي نزل عليه الذكر ( يعني القرآن وهو محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) إنك لمجنون }
الحجر : ( 7 ) لو ما تأتينا . . . . .
) لوما ( هلاّ ) تأتينا بالملائكة ( شاهدين لك على صدق ما تقول ) إن كنت من الصادقين ( .
قال الكسائي : لولا ولوما سواء في الخبر والاستفهام .
ومنه قول ابن مقبل :
لوماالحياء ولوما الدين عبتكما
ببعض مافيكما إذ عبتما عودي
يريد لولا الحياء
الحجر : ( 8 ) ما ننزل الملائكة . . . . .
) ما ننزل الملائكة ( .
قرأ أهل الكوفة : ننزل الملائكة بضم النون ورفع اللام ، الملائكة نصباً ، واختاره أبو عبيد .
وقرأ الباقون : بفتح التاء ورفع اللام في الملائكة رفعها ، واختاره أبو عبيد اعتباراً بقوله ) تنزل الملائكة والروح ( .
) إلاّ بالحق ( بالعذاب ولو نزلت ) وما كانوا إذاً منظرين }
الحجر : ( 9 ) إنا نحن نزلنا . . . . .
) إنا نحن نزلنا الذكر ( القرآن ) وإنا له لحافظون ( من الباطل ومن الشياطين وغيرهم أن يزيدوا فيه وينقصوا منه ويبدلوا حرفاً ، نظيره قوله : ) لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه ( الآية .
(5/331)
" صفحة رقم 332 "
وقيل بأن الهاء في قوله له راجعة إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يعني وإنا لمحمد لحافظون ممن أراده بسوء نظيره ) والله يعصمك من الناس 2 )
الحجر : ( 10 ) ولقد أرسلنا من . . . . .
) ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين ( في الآية إضمار ، مجازها ولقد أرسلنا من قبلك في شيع أُمم من الأولين .
قاله ابن عباس وقتادة ، وقال الحسن : فرق الأولين وواحدتها شيعة وهي الفرقة والطائفة من الناس
الحجر : ( 11 ) وما يأتيهم من . . . . .
) وما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يستهزئون ( كما فعلوا بك يعزي نبيه ( صلى الله عليه وسلم )
الحجر : ( 12 ) كذلك نسلكه في . . . . .
) كذلك نسلكه ( يعني كما أسلكنا الكفر والتكذيب والإستهزاء بالرسل في قلوب شيع الأولين كذلك نسلكه أي نجعله وندخله في قلوب مشركي قومك
الحجر : ( 13 ) لا يؤمنون به . . . . .
) لا يؤمنون به ( يعني حتى لا يؤمنوا بمحمد ، وفي هذه الآية ردَّ على المعتزلة ، فقال سلكه يسلكه سلكاً وسلوكاً وأسلكه إسلاكاً .
قال عدي بن زيد :
وكنت لزاز خصمك لم أعرّد
وقد سلكوك في قوم عصيب
) وقد خلت سنة الأولين ( وقائع الله لا من خلا من هكذا في الأُمم نخوف أهل مكة .
الحجر : ( 14 ) ولو فتحنا عليهم . . . . .
) ولو فتحنا عليهم ( يعني ولو فتحنا على هؤلاء القائلين لوما تأتينا بالملائكة ) باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون ( فظلت الملائكة تعرج فيه وهم يرونهم عياناً ، لقالوا : إنما سكرت أبصارنا ، هذا قول ابن عباس وأكثر العلماء .
قال الحسن : هذا العروج راجع إلى بني آدم يعني فظل هؤلاء الكافرون فيه يعرجون أي يصعدون ومنه المعراج
الحجر : ( 15 ) لقالوا إنما سكرت . . . . .
) لقالوا إنما سكرت ( سدّت ) أبصارنا ( قاله ابن عباس ، وقال الحسن : سحرت .
قتادة : أخذت .
الكلبي : أغشيت وعميت .
وكان أبو عمرو وأبو عبيدة يقولان : هو من سكر الشراب ومعناه قد عش أبصارنا السكر ، المؤرخ : دير بنا .
وقرأ مجاهد وابن كثير : سكرت بالتخفيف أي حبست ومنعت بالنظر كما سكر النهر ليحبس الماء ) بل نحن قوم مسحورون ( سحرنا محمد .
(5/332)
" صفحة رقم 333 "
2 ( ) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ وَالاَْرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَىْءٍ مَّوْزُونٍ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ( 2
الحجر : ( 16 ) ولقد جعلنا في . . . . .
) ولقد جعلنا في السماء بروجاً ( أي قصوراً ومنازل وهي كواكب وبروج الشمس والقمر والكواكب السيارة وأسماؤها الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت .
) وزيّناها ( يعني السماء ) للناظرين (
الحجر : ( 17 - 18 ) وحفظناها من كل . . . . .
) وحفظناها من كل شيطان رجيم إلاّ من استرق السمع ( لكن من استرق السمع ، ) فأتبعه شهاب ( نار ) مبين ( بيّن .
قال ابن عباس : تصعد الشياطين أفواجاً يسترق السمع فينفرد المارد منها فيعلو فيرمي بالشهاب فيصيب جبهته أو جبينه أو حيث شاء الله منه فيلتهب فيأتي أصحابه وهو ملتهب فيقول : إنه كان من الأمر كذا وكذا فيذهب أُولئك إلى إخوانهم من الكهنة فيزيدون عليه تسعاً فيحدثون بها أهل الأرض الكلمة حق والتسع باطل فإذا رأوا شيئاً مما قالوا قد كان صدقوهم بما جاؤوا به من كذبهم .
وقال ابن عباس أيضاً : كانت الشياطين لا يحجبون عن السماوات فكانوا يدخلونها فيأتون بأخبارها فيلقون على الكهنة بأن ولد عيسى ، ومنعوا عن ثلاث سماوات فلما ولد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) نعوا من السماوات أجمع فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلاّ رمي بشهاب ، فلما منعوا بتلك المقاعد ذكروا ذلك لإبليس فقال لقد حدث في الأرض حدث .
قال : فبعثهم فوجدوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يتلو القرآن فقالوا : هذا والله حديث وإنهم ليرمون فإذا نوّر النجم عنكم فقد أدركه لا يخطئ أبداً ولكن لا يقتله بحرق وجهة جنبه ويده ، وبعضهم من يخبلّه فيصبر حولاً ، يضل الناس في البوادي .
قال يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق : إن أول من فزع للرمي بالنجوم حين رما بها هذا الحي من ثقيف ، وإنهم جاءوا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أُمية أحد بني علاج وكان أدهى العرب وأمكرها رأياً فقالوا له : ألم تر ما حدث في السماء في القذف بهذه النجوم ؟ قال : بلى ، فانظروا فإن كانت معالم النجوم التي يهتدي بها في البر والبحر ويعرف بها الأنواء من الصيف والشتاء ؟ لما يصلح الناس من معايشهم هي التي يرمى بها فهو والله طيّ الدنيا
(5/333)
" صفحة رقم 334 "
وهلاك الخلق الذي فيها ، وإن كانت نجوم غيرها وهي ثابتة على حالها فهذا الأمر أراد الله به هذا في الخلق .
وروى عمارة بن زيد عن عبد الله بن العلا عن أبي الشعشاع عن أبيه عن أبي لهب بن مالك قال : حضرت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقد ذكرت عنده الكهانة فقلت : بأبي أنت وأمي نحن أول من تطوع لحراسة السماء وزجر الشياطين ومنع الجن من استراق السمع عند قذفها بالنجوم ، وإنا لما رأينا ذلك اجتمعنا إلى كاهن لنا يقال له خطر بن مالك وكان شيخاً كبيراً قد أتت عليه ثلاثمائة وستون سنة هل عندك علم من هذه النجوم التي يرمى بها فأنا قد فزعنا وخفنا سوء عاقبتها ، فقال لنا : اعدوا عليّ في السحر ، ائتوني بسحر أُخبركم الخبر إما بخير أو ضرر ، قال : فانصرفوا عنه يومنا فلما كان في وقت السحر أتينا فإذا هو قائم على قدميه شاخص بعينيه إلى السماء فناديناه يا خطر فأومأ إلينا أن امسكوا فأمسكنا فانقض من السماء نجم عظيم وصرخ الكاهن بأعلى صوته : أصابه أصابه خامره عاقبه عاجله عذابه أحرقه شهابه ، زايله جوابه ، يا ويله ما حاله ، تغيرت أحواله .
ثم أمسك وطفق يقول يا معشر بني قحطان :
أُخبركم بالحق والبيان
أقمت بالكعبة والأركان
والبلد المؤتمن السدان
قد منع السمع عتاة الجان
بثاقب بكف ذى سلطان
من اجل مبعوث عظيم الشان
يبعث بالتنزيل والفرقان
وبالهدى وفاضل القرآن
تبطل به عبادة الأوثان
قال : فقلت : ويحلك يا خطر إنك لتذكر أمراً عظيماً فماذا ترى لقومك ؟
فقال :
أرى لقومي ما أرى لنفسي
أن يتبعوا خير بني الإنس
برهانه مثل شعاع الشمس
يبعث في مكة دار الحمس
بمحكم التنزيل غير اللبس
قال : فقلنا له : من هو وما اسمه وما مدته ؟ قال : الحياة والعيش إنه لمن قريش ما في حكمه من طيش ولا في خلقه هيش ، تكون في جيش وأي جيش من آل قحطان وآل أيش ،
(5/334)
" صفحة رقم 335 "
والأيش الأخلاط من كل قوم ، فقلنا له من أي البطون هو فقال : بطن إسماعيل ولد إبراهيم ، فقلنا له بيّن لنا من أي قريش هو ؟ قال :
والبيت ذي الدعائم
والسدير والحمائم
إنه لمن نسل هاشم
من معشر أكارم يبعث بالملاحم
وقتل كل ظالم
ثم قال : الله أكبر الله أكبر جاء الحق وأظهره وانقطع عن الإنس الخبر هذا هو البيان أخبرني به رأس الجان ، ثم قال هذا وسكت وأُغمي عليه فما أفاق إلاّ بعد ثلاثة أيام فلما أفاق قال : لا إله إلاّ الله محمد رسول الله ثم مات .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( سبحان الله سبحان الله لقد نطق عن مثل نبوة وإنه ليحشر يوم القيامة أُمة وحده ) .
الحجر : ( 19 ) والأرض مددناها وألقينا . . . . .
) والأرض مددناها ( بسطناها على رحبة الماء ) وألقينا فيها رواسي ( جبالا ثوابت ) وأنبتنا فيها ( أي في الأرض ) من كل شيء موزون ( مقدر معلوم وقيل : بغى به في الجبال وهو جواهر من الفضة والذهب والحديد والنحاس وغيرها حتى الزرنيخ والكحل كل ذلك يوزن وزناً .
قال ابن زيد هي الأشياء : التي توزن .
الحجر : ( 20 ) وجعلنا لكم فيها . . . . .
) وجعلنا لكم فيها معايش ( جمع معيشة ) ومن لستم ( يعني ولمن لستم ) له برازقين ( هي الدواب و الأنعام .
عن شعبة قال : قرأ علينا منصور : ) ومن لستم له برازقين ( قال الوحش .
قال أبو حسن : ( من ) في محل الخفض عطفاً على الكاف والميم في قوله ) لكم ( .
وقد يفعل العرب هذا كقول الشاعر :
هلا سألت بذي الجماجم عنهم
وأبي نعيم ذي اللوا المخرق
فعطف بالظاهر على المكنى و ( من ) في هذه الآية بمعنى : ما ، كقوله ) فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على أربع (
الحجر : ( 21 ) وإن من شيء . . . . .
) وإن من شيء ( وما من شيء من أرزاق الخلق ) إلاّ عندنا خزائنه وما ننزله ( من السماء ) إلاّ بقدر معلوم ( لكل أرض حد مقدر
(5/335)
" صفحة رقم 336 "
قال ابن مسعود : وما من أرض أمطر من أرض ، وما عام أمطر من عام ولكن الله يقسمه ويقدره في الأرض كيف يشاء عاماً هاهنا وعاماً هاهنا ثم قرأ هذه الآية .
وروى إسماعيل بن سالم عن الحكم بن عيينة في هذه الآية : ما من عام بأكثر مطراً من عام ولكن يُمطر قوم ويُحرم آخرون وربما كان في البحار والقفار قال : وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم يحصون كل قطرة حيث يقع وما ينبت .
جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال : ( في العرش مثال كل شيء خلقه الله في البر والبحر . وهو تأويل قوله تعالى : وإن من شيء إلاّ عندنا خزائنه ) .
2 ( ) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَئْخِرِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ( 2
الحجر : ( 22 ) وأرسلنا الرياح لواقح . . . . .
) وأرسلنا الرياح ( قرأ العامّة بالجمع لأنها موصوفة وهو قوله : ) لواقح ( ، وقرأ بعض أهل الكوفة : الريح على الواحد وهو في معنى الجمع أيضاً وإن كان لفظها لفظ الواحد ، لأنه يقال : جاءت الريح من كل جانب ، وهو مثل قوله : أرض سباسب وثوب أخلاق ، وكذلك تفعل العرب في كل شيء اتّسع ، وقول العلماء في وجه وصف الرياح : باللقح ، وإنما هي ملقّحة لانها تلقح السحاب والشجر .
فقال قوم : معناها حوامل ؛ لأنها تحمل الماء والخير والنفع لاقحة كما يقال : ناقة لاقحة إذا حملت الولد ، ويشهد على هذا قوله : ) الريح العقيم ( فجعلها عقيماً إذا لم تلقح ولم يكن فيها ماء ولا خير ، فمن هذا التأويل قول ابن مسعود في هذه الآية قال : يرسل الله الريح فتحمل الماء فيمري السحاب فتدرّ كما تدرّ اللقحة ثمّ يمطر .
قال الطرماح :
لأفنان الرياح للاقح قال منها وحائل
وقال الفراء : أراد ذات لقح . كقول العرب : رجل نابل ورامح وتامر .
قال أبو عبيدة : أراد ملاقح جمع ملقحة كما في الحديث ( أعوذ بالله من كل لامّة ) أي ملمّة
(5/336)
" صفحة رقم 337 "
قال النابغة :
كليني لهمَ يا أميمة ناصب
وليل أُقاسيه بطيء الكواكب
أي منصب .
قال زيد بن عمر : يبعث الله المبشرة فتقمّ الأرض قمّا ، ثمّ يبعث الله المثيرة فتثير السحاب ، ثمّ يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب ، ثمّ يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر ، ثمّ تلا : ) وأرسلنا الرياح لواقح ( .
وقال أبو بكر بن عياش : لا يقطر قطرة من السحاب إلاّ بعد أن تعمل الرياح الأربع فيه : فالصبا تهيّجه ، والدبور تلقحه ، والجنوب تدرّه ، والشمال تفرقه .
ويروي أبو المهزم عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( الريح الجنوب من الجنة وهي الرياح اللواقح التي ذكر الله في كتابه وفيها منافع للناس ) .
) فَأ نْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأسْقَيْنَاكُمُوهُ ( أي جعلنا المطر لكم سقياً ، ولو أراد أنزلناه ليشربه لقال : فسقيناكموه ، وذلك أن العرب تقول : سقيت الرجل ماءً ولبناً وغيرهما ليشربه ، إذا كان لسقيه ، فإذا جعلوا له ماءً لشرب أرضه أو ماشيته قالوا : أسقيته وأسقيت أرضه وماشيته ، وكذلك إذا استسقت له ، قالوا : أسقيته واستسقيته ، كما قال ذو الرمة :
وقفت على رسم لميّة ناقتي
فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتّى كاد مما أبثّه
تكلمني أحجاره وملاعبه
قال المؤرخ : ما تنال الأيدي والدلاء فهو السقي ومالا تنال الأيدي والدلاء فهو الإسقاء .
) وَمَا أ نْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ( يعني المطر . قال سفيان : بما نعين .
الحجر : ( 23 ) وإنا لنحن نحيي . . . . .
) وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الوَارِثُونَ ( بأن نميت جميع الخلق فلا يبقى من سوانا ، نظيره قوله : ) إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون 2 )
الحجر : ( 24 ) ولقد علمنا المستقدمين . . . . .
) وَلَقَدْ عَلِمْنَا المُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المُسْتَأخِرِينَ ( .
ابن عبّاس : أراد بالمستقدمين : الأموات ، والمستأخرين : الأحياء .
(5/337)
" صفحة رقم 338 "
عكرمة : المستقدمين : من خلق ، والمستأخرين : من لم يخلق ، قد علم من خلق إلى اليوم وقد علم من هو خالقه بعد اليوم .
قتادة : المستقدمون : من مضى ، والمستأخرون : من بقي في أصلاب الرجال .
الشعبي : من إستقدم في أول الخلق ، ومن إستأخر في آخر الخلق .
مجاهد : المستقدمون : القرون الأُولى ، والمستأخرون : أُمة محمّد ( ( صلى الله عليه وسلم ) ) .
الحسن : المستقدمون بالطاعة والخير ، والمستأخرون المبطئون عن الطاعة والخير .
وقيل : ولقد علمنا المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة ، والمستأخرين فيها بسبب النساء .
وروى أبو الجوزاء وابن أبي طلحة عن ابن عبّاس قال : كانت النساء يخرجن إلى الجماعات فيقوم الرجال صفوفاً ( خلف ) النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والنساء صفوفاً خلف صفوف الرجال ، وربما كان في الرجال من في قلبه ريبة فيتأخر إلى الصف الأخير من صفوف الرجال ، وربما كان في النساء من في قلبها ريبة فتتقدّم إلى أول صف النساء لتقرب من الرجال ، وكانت إمرأة من أحسن الناس لا والله ما رأيت مثلها قط ، تصلي خلف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكان بعض الناس ويتقدّم في الصف الأوّل لئلا يراها ، ويستأخر بعضهم حتّى يكون في الصف المؤخر ، فإذا ركع وسجد نظر إليها من تحت يديه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( خير صفوف الرجال أوّلها وشرّها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرّها أولها ) .
وقال الربيع بن أنس : حضّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على الصف الأوّل في الصلاة فأزدحم الناس عليه ، وكانت بنو عذرة دورهم قاصية عن المسجد . فقالوا : نبيع دورنا ونشتري دوراً قريبة من المسجد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وفيهم نزلت : ) انا نحن نحيي الموتى ونكتب ماقدموا وآثارهم ( .
الأوزاعي : ) ولقد علمنا المستقدمين منكم ( يعني المصلين في أوّل الأوقات ، ) ولقد علمنا المستأخرين ( يعني المؤخرين صلاتهم إلى آخر الأوقات .
مقاتل بن حيان : يعني المستقدمين والمستأخرين في صف القتال . ابن عيينة : يعني من يسلم ومن لا يسلم
(5/338)
" صفحة رقم 339 "
الحجر : ( 25 ) وإن ربك هو . . . . .
) وَإنَّ رَبَّكَ يَحْشُرُهُمْ ( . قال ابن عبّاس : وكلهم ميت ثمّ يحشرهم ربهم جميعاً الأوّل والآخر ) إنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }
الحجر : ( 26 ) ولقد خلقنا الإنسان . . . . .
) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ ( يعني آدم ( عليه السلام ) ، قال إنساناً لانه عهد إليه فنسي . وذهب إلى هذا قوم من أهل اللغة وقالوا : وزنه انسيان على وزن إفعلان فأسقط الياء منه لكثرة جريانه على الألسن ، فإذا صُغّر ردت الياء إليه فيقول أنيسان على الأصل لأنه لايكثر صغراً كما لا يكبر مكبراً .
وقال آخرون : إنما سمّي إنساناً لظهوره وإدراك البصر إياه وإليه ذهب نحاة البصرة وقالوا : هو على وزن فعلان فزيدت الياء في التصغير كما زيدت في تصغير رجل فقالوا : رويجل وليلة فقالوا : لويلة .
) مِنْ صَلْصَال ( وهو الطين اليابس إذا نقرته سمعت له صلصلة أي صوتاً من يبسه ، قيل : أن تمسه النار فإذا أصابته النار فهو فخار ، هذا قول أكثر المفسرين .
وروى أبو صالح عن ابن عبّاس : هو الطين الحرّ الطيب الذي إذا نضب عنه الماء تشقق وإذا حرّك تقعقع .
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : هو الطين المنتن ، واختاره الكسائي وقال هو من قول العرب : صل اللحم وأصلّ إذا أنتن .
) مِنْ حَمَأ ( جمع حمأة ) مَسْنُون ( .
قال ابن عبّاس : هو التراب المبتل المنتن ، يجعل صلصالاً كالفخار ومثله ، قال مجاهد وقتادة : المنتن المتغير .
قال الفرّاء : هو المتغير وأصله من قول العرب : سننت الحجر على الحجر أي أحككته وما يخرج من بين الحجرين يقال له السنن والسنانة ومنه المسن .
أبو عبيدة : هو المصبوب ، وهو من قول العرب : سننت الماء على الوجه وغيره إذا صببته .
( سيبويه ) : المسنون : المصور ، مأخوذ من سنة الوجه وهي صورته .
قال ذو الرمة :
( تريك ) سنة وجه غير مقرفة
ملساء ليس بها خال ولا ندب .
الحجر : ( 27 ) والجان خلقناه من . . . . .
) وَالجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ ( .
قال ابن عبّاس : هو أب الجن .
(5/339)
" صفحة رقم 340 "
قتادة ومقاتل : هو أبليس ، خُلق قبل آدم .
) مِنْ نَارِ السَّمُومِ ( .
قال ابن عبّاس : السموم : الحارة التي تقتل .
الكلبي عن أبي صالح عنه : هي نار لادخان لها والصواعق تكون منها ، وهي نار بين السماء وبين الحجاب ، فإذا أحدث الله له أمراً خرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت ، فالهدّة التي تسمعون خرق ذلك الحجاب .
أبو روق عن الضحاك عن إبن عبّاس قال : كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة قال : وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار .
روى سعيد عن أبي إسحاق قال : دخلت على عمرو بن الأصم أعوده فقال : ألا أحدثك حديثاً سمعته من عبد الله ( قال : بلى ، قال : ) سمعت عبد الله يقول : هذه السموم جزء من سبعين جزءاً من السموم التي خلق منها الجان وتلا : ) وَالجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ( .
2 ( ) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ قَالَ لَمْ أَكُن لاَِسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِى إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الاَْرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَىَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِى جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءَامِنِينَ وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ نَبِّىءْ عِبَادِى أَنِّى أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِى هُوَ الْعَذَابُ الاَْلِيمُ ( 2
الحجر : ( 28 ) وإذ قال ربك . . . . .
) وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي خَالِقٌ ( سأخلق ) بَشَراً مِنْ صَلْصَال مِنْ حَمَأ مَسْنُون (
الحجر : ( 29 ) فإذا سويته ونفخت . . . . .
) فَإذَا سَوَّيْتُهُ ( عدلت صورته وأتممت خلقه ) وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ( فصار بشراً حياً ) فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ( سجود تحية وتكرمة لا سجود صلاة وعبادة
الحجر : ( 30 ) فسجد الملائكة كلهم . . . . .
) فَسَجَدَ المَلائِكَةُ ( المأمورون بالسجود ) كُلُّهُمْ أجْمَعُونَ ( على التأكيد
الحجر : ( 31 ) إلا إبليس أبى . . . . .
) إلاَّ إبْلِيسَ أبَى أنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (.
(5/340)
" صفحة رقم 341 "
روى عكرمة عن ابن عبّاس قال : لما خلق الله الملائكة قال : إني خالق بشراً من طين فإذا أنا خلقته فأسجدوا له ، قالوا : لانفعل . فأرسل عليهم ناراً فأحرقهم . ثمّ خلق ملائكة فقال : إني خالق بشراً من طين فإذا أنا خلقته فأسجدوا له ، فأبوا ، فأرسل الله عليهم ناراً فأحرقهم . ثمّ خلق ملائكة فقال : إني خالق بشراً من طين فإذا أنا خلقته فأسجدوا له ، قالوا : سمعنا وأطعنا إلاّ إبليس كان من الكافرين .
الحجر : ( 32 ) قال يا إبليس . . . . .
) قَالَ يَا إبْلِيسُ مَا لَكَ أ لاّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ( محل ( أن ) النصب بفقد الخافض .
الحجر : ( 33 - 34 ) قال لم أكن . . . . .
) قَالَ لَمْ أكُنْ لأسْجُدَ لِبَشَر خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَال مِنْ حَمَأ مَسْنُون قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا ( أي من الجنة ومن السماوات ) فَإنَّكَ رَجِيمٌ ( ملعون طويلاً
الحجر : ( 35 - 38 ) وإن عليك اللعنة . . . . .
) وَإنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إلَى يَوْمِ الدِّينِ قَالَ رَبِّ فَأ نْظِرْنِي إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ إلَى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ ( وهو النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم
الحجر : ( 39 ) قال رب بما . . . . .
) قَالَ رَبِّ بِمَا أغْوَيْتَنِي ( أي بأغوائك أياي وهو الإضلال والإبعاد ) لاَزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرْضِ ( معاصيك ولأُحببنَّها اليهم ) وَلاَغْوِيَنَّهُمْ ( لأضلنهم ) أجْمَعِينَ }
الحجر : ( 40 ) إلا عبادك منهم . . . . .
) إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ ( .
قرأ أهل الكوفة والمدينة والشام : بفتح اللام . وإختاره أبو عبيد ، يعني إلاّ من أخلصته بتوفيقك فهديته واصطفيته .
وقرأ أهل مكة والبصرة : بكسر اللام ، وإختاره أبو حاتم ، يعني من أخلص لك بالتوحيد والطاعة . وأراد بالمخلصين في القرائتين جميعاً : المؤمنين .
الحجر : ( 41 ) قال هذا صراط . . . . .
) قَالَ ( الله لإبليس ) هَذَا صِرَاطٌ ( طريق ) عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ( .
قال الحسن : هذا صراط إليَّ مستقيم .
وقال مجاهد : الحق يرجع إلى الله وعليه طريقه لايعرج على شيء .
وقال الأخفش : يعني على الدلالة صراط مستقيم .
وقال الكسائي : هذا على الوعيد فإنه تهديد كقولك للرجل خاصمتهُ وتهدده : طريقك عليَّ ، كما قال الله : ) ان ربك لبالمرصاد ( فكان معنى الكلام : هذا طريق مرجعه إلي فأجازي كلاًّ بأعمالهم .
وقال ابن سيرين وقتادة وقيس بن عبادة وحميد ويعقوب : هذا صراط عليٌّ برفع الياء على نعت الصراط أي رفيع ، كقوله : ) ورفعناه مكاناً علياً ( .
(5/341)
" صفحة رقم 342 "
الحجر : ( 42 ) إن عبادي ليس . . . . .
) إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ( قوة .
قال أهل المعاني : يعني على قلوبهم .
وسُئل سفيان بن عيينة عن هذه الآية ، فقال : معناه ليس لك عليهم سلطان أن تلقيهم في ذنب يضيق عنه عبدي ، وهؤلاء يثبت الله الذين رأى فيهم إحسانهم .
) إلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ }
الحجر : ( 43 - 44 ) وإن جهنم لموعدهم . . . . .
) وَإنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أبْوَاب ( أطباق ) لِكُلِّ بَاب مِنْهُمْ ( يعني من أتباع إبليس ) جُزْءٌ مَقْسُومٌ ( حظ معلوم .
وقال عليّ بن أبي طالب ( ح ) : تدرون كيف أبواب النار ؟ قلنا : نعم كنحو هذه الباب . فقال : لا ولكنها هكذا ووضع إحدى يديه على الأخرى وإن الله تعالى وضع الجنان على الأرض ، ووضع النيران بعضها فوق بعض ، فأسفلها جهنم وفوقها لظى وفوقهما الحطمة وفوقها سقر وفوقها الجحيم وفوقها السعير وفوقها الهاوية .
وأبو سنان عن الضحاك في قول الله : ) لكل باب منهم جزء مقسوم ( قال : للنار سبعة أبواب هي سبعة أدراك بعضها على بعض .
فأولها : أهل التوحيد يعذّبون على قدر أعمالهم وأعمارهم في الدنيا ثمّ يخرجون .
والثاني : فيه اليهود .
والثالثة : فيه النصارى .
والرابع : فيه الصابئون .
والخامسة : فيه المجوس .
والسادس : فيه مشركوا العرب .
والسابع : فيه المنافقون .
فذلك قوله : ) إنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ ( الآية .
أبو رياح عن أنس بن مالك عن بلال قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي في مسجد المدينة وحده ، فمرّت به أعرابية فاشتهت أن تصلي خلف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ركعتين ، فدخلت وصلت ولم يعلم بها رسول الله ، فقرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتّى بلغ هذه الآية : ) وإن جهنم لموعدهم أجمعين لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزءٌ مقسوم ( فخرّت الأعرابية مغشية عليها فسمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وجبتها فانصرف وقال : ( يا بلال عليَّ بماء ) فجاء فصب على وجهها حتّى أفاقت وجلست ، فقال
(5/342)
" صفحة رقم 343 "
لها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا هذه ما حالك ؟ ) فقالت : رأيتك تصلي وحدك فاشتهيت أن أُصلي خلفك ركعتين ، فهذا شيء من كتاب الله أو تقول من تلقاء نفسك ؟
قال بلال : فما أحسبه إلاّ قال : ( يا أعرابية بل هو في كتاب الله المنزل ) .
فقالت : كل عضو من أعضائي يعذب على باب منها .
فقال : ( يا أعرابية لكل باب منهم جزء مقسوم يعذب على كل باب على قدر أعمالهم ) .
فقالت : والله إني لامرأة مسكينة مالي مالٌ ومالي إلاّ سبعة أعبد أشهدك يارسول الله أن كل عبد منهم على كل باب من أبواب جهنم حرُّ لوجه الله . فأتاه جبرئيل فقال : يارسول الله بشّر الأعرابية أن الله قد حرم عليها أبواب جهنم كلها ، وفتح لها أبواب الجنة كلها .
الحجر : ( 45 - 46 ) إن المتقين في . . . . .
) إنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّات وَعُيُون ادْخُلُوهَا ( قرأه العامة بوصل الألف وضم الخاء على الأمر ، مجازه : يقال لهم ادخوها .
وقرأ الحسن : أدخلوها بضم الهمزة وكسر الخاء على الفعل المجهول ، وحينئذ لا يحتاج إلى الضمير .
) بِسَلام ( بسلامة ) آمِنِينَ ( من الموت والعذاب والآفات
الحجر : ( 47 ) ونزعنا ما في . . . . .
) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلّ إخْوَاناً ( نصب على الحال ، وإن شئت قلت : جعلناهم إخوانا ) عَلَى سُرُر ( جمع سرير مثل جديد جدد ) مُتَقَابِلِينَ ( يقابل بعضهم بعضاً لا ينظر أحد منهم في قفا صاحبه
الحجر : ( 48 ) لا يمسهم فيها . . . . .
) لا يَمَسُّهُمْ ( لا يصيبهم ) فِيهَا نَصَبٌ ( تعب ) وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ }
الحجر : ( 49 ) نبئ عبادي أني . . . . .
) نَبِّئْ ) أخبر عِبَادِي أنِّي أنَا الغَفُورُ الرَّحِيمُ ( .
قال ابن عبّاس : يعني لمن تاب منهم .
الحجر : ( 50 ) وأن عذابي هو . . . . .
) وَأنَّ عَذَابِي هُوَ العَذَابُ الألِيمُ ( لمن لم يتب منهم .
روى ابن المبارك عن مصعب بن ثابت عن عاصم بن عبيد الله عن ابن أبي رباح عن رجل من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : طلع علينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ن الباب الذي يدخل منه بنو شيبة ونحن نضحك ، فقال : ( لا أراكم تضحكون ) ، ثمّ أدبر حتّى إذا كان عند الحجر رجع ألينا القهقرى فقال : ( إني لمّا خرجت جاء جبرئيل فقال : يا محمّد لِمَ تقنّط عبادي ) نبّيء عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم ( )
(5/343)
" صفحة رقم 344 "
وقال قتادة : بلغنا أنّ نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورّع عن محارم الله ، ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه ) .
2 ( ) وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى عَلَى أَن مَّسَّنِىَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ إِلاَ ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ فَلَمَّا جَآءَ ءَالَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ وَآتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الاَْمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَاؤُلآْءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ وَجَآءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَاؤُلآءِ ضَيْفِى فَلاَ تَفْضَحُونِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلاَ تُخْزُونِ قَالُواْ أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ هَاؤُلآءِ بَنَاتِى إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الاَْيْكَةِ لَظَالِمِينَ فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ وَءَاتَيْنَاهُمْ ءَايَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ءَامِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ( 2
الحجر : ( 51 ) ونبئهم عن ضيف . . . . .
) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ ( يعني الملائكة الذين أرسلهم الله ليبشروا إبراهيم بالولد ويهلكوا قوم لوط
الحجر : ( 52 ) إذ دخلوا عليه . . . . .
) إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ ( جمع الخبر لأن الضيف اسم يصلح للواحد والإثنين والجمع والمؤنث والمذكر ) فَقَالُوا سَلاماً قَالَ ( إبراهيم ) إنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ( ( خائفون
الحجر : ( 53 ) قالوا لا توجل . . . . .
) قَالُوا لا تَوْجَلْ ( لا تخف ) إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلام عَلِيم ( يعني إسحاق ، فعجب إبراهيم من كبره وكبر إمراته
الحجر : ( 54 ) قال أبشرتموني على . . . . .
) قَالَ أبَشَّرْتُمُو نِي عَلَى أنْ مَسَّنِيَ الكِبَرُ ( أي على الكبر ) فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ( فأي شيء تبشرون .
واختلف القراء في هذا القول ، فقرأ أهل المدينة والشام بكسر النون والتشديد على معنى تبشرونني ، فأدغمت نون الجمع في نون الإضافة .
وقرأ بعضهم : بالتخفيف على الخفض .
وقرأ الباقون : في النون من غير إضافة .
(5/344)
" صفحة رقم 345 "
الحجر : ( 55 ) قالوا بشرناك بالحق . . . . .
) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ القَانِطِينَ ( .
قرأه العامّة : بالألف .
وقرأ يحيى بن وثاب : القانطين .
الحجر : ( 56 ) قال ومن يقنط . . . . .
) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ ( .
قرأ الأعمش وأبو عمرو والكسائي بكسر النون ، وقرأ الباقون : بفتحه ( وقال الزجاج ) : قنط يقنط ، وقنط يقنط إذا يئس من رحمة الله .
) مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إلاَّ الضَّالُّونَ (
الحجر : ( 57 ) قال فما خطبكم . . . . .
) قَالَ ( لهم إبراهيم ) فَمَا خَطْبُكُمْ ( شأنكم وأمركم ) أيها المرسلون 2 )
الحجر : ( 58 ) قالوا إنا أرسلنا . . . . .
) قَالُوا إنَّا أُرْسِلْنَا إلَى قَوْم مُجْرِمِينَ ( مشركين ^
الحجر : ( 59 ) إلا آل لوط . . . . .
) إلاَّ آلَ لُوط ( أتباعه وأهل دينه ) إنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أجْمَعِينَ ( .
قرأ أهل الحجاز وعاصم وأبو عمرو : ( لمنجّوهم ) بالتشديد ، وإختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، وخففه الآخرون .
الحجر : ( 60 ) إلا امرأته قدرنا . . . . .
) إلاَّ امْرَأتَهُ ( سوى إمرأة لوط ) قَدَّرْنَا ( قضينا ) إنَّهَا لَمِنَ الغَابِرِينَ ( الباقين في العذاب ، وخفف إبن كثير قدرنا .
قال أبو عبيد : استثنى آل لوط من القوم المجرمين ، ثمّ إستثنى إمراته من آل لوط فرجعت إمرأته في التأويل إلى القوم المجرمين ، لأنه استثناء مردود على استثناء ، وهذا كما تقول في الكلام : لي عليك عشرة دراهم إلاّ أربعة إلاّ درهماً ، فلك عليه سبعة دراهم ؛ لأنك لما قلّت : إلاّ أربعة ، كان لك عليه ستة ، فلما قلت : إلاّ درهماً كان هذا استثناء من الأربعة فعاد إلى الستة فصار سابعاً .
الحجر : ( 61 - 62 ) فلما جاء آل . . . . .
) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوط المُرْسَلُونَ قَالَ ( لوط لهم ) إنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ( يعني لا أعرفكم
الحجر : ( 63 ) قالوا بل جئناك . . . . .
) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ( يعني يشكّون إنه ينزل بهم وهو العذاب
الحجر : ( 64 ) وأتيناك بالحق وإنا . . . . .
) وَأتَيْنَاكَ بِالحَقِّ ( وجئناك باليقين ، وقيل : بالعذاب ) وَإنَّا لَصَادِقُونَ ( في قولنا
الحجر : ( 65 ) فأسر بأهلك بقطع . . . . .
) فَأسْرِ بِأهْلِكَ بِقِطْع مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أدْبَارَهُمْ ( أي كن ورائهم وسر خلفهم ) وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ( .
قال ابن عبّاس : يعني الشام . وقال خليل : يعني مصدر .
الحجر : ( 66 ) وقضينا إليه ذلك . . . . .
) وَقَضَيْنَا إلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ ( يعني وفرغنا إلى لوط من ذلك الأمر ، وأخبرناه ) أنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ ( .
يدل عليه قراءة عبد الله : وقلنا له إن دابر هؤلاء ، يعني أصلهم ، ) مَقْطُوعٌ ( مستأصل ) مُصْبِحِينَ ( في وقت الصبح إذ دخلوا فيه
الحجر : ( 67 ) وجاء أهل المدينة . . . . .
) وَجَاءَ أهْلُ المَدِينَةِ ( يعني سدوم ) يَسْتَبْشِرُونَ (
(5/345)
" صفحة رقم 346 "
بأضياف لوط طمعاً منهم في ركوب الفاحشة
الحجر : ( 68 ) قال إن هؤلاء . . . . .
) قَالَ ( لوط لقومه ) إنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي ( وحق على الرجل بإكرام ضيفه ) فَلا تَفْضَحُونِ ( فيهم
الحجر : ( 69 ) واتقوا الله ولا . . . . .
) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ ( فلا تهينون ولا تخجلون ، يجوز أن يكون من الخزي ، ويحتمل أن يكون الخزاية
الحجر : ( 70 ) قالوا أو لم . . . . .
) قَالُوا أوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ العَالَمِينَ ( أولم ننهك أن تضيّف أحداً من العالمين .
الحجر : ( 71 ) قال هؤلاء بناتي . . . . .
) قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي ( أزوجهّن إياكم إن أسلمتم فأتوا النساء الحلال ودعوا ماحرم الله عليكم من إتيان الرجال ) إنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ( ما أمركم به .
قال قتادة : أراد أن يقي أضيافه ببناته ، وقيل : رأى أنهم سادة إليهم يؤول أمرهم فأراد أن يزوجهم بناته ليمنعوا قومهم من التعرّض لأضيافه ، وقيل : أراد بنات أمته لأن النبي ( أب ) لامته ، قال الله
الحجر : ( 72 ) لعمرك إنهم لفي . . . . .
) لَعَمْرُكَ ( يا محمّد يعني وحياتك .
وفيه لغتان : وعمرُ وعمرَ .
يقول العرب : عَمرك وعمرك .
) إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ ( ضلالتهم وحيرتهم ) يَعْمَهُونَ ( يترددون .
قاله مجاهد ، وقال قتادة : يلعبون .
ابن عبّاس : يتمادون .
أبو الجوزاء عن ابن عبّاس قال : فالخلق لله عزّ وجلّ ولا برأ ولا ذرأ نفساً أكرم عليه من محمّد ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد إلاّ حياته قال : ) لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون 2 )
الحجر : ( 73 ) فأخذتهم الصيحة مشرقين
) فَأخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ( حيت أشرقت الشمس ، أي أضاءت ، وهو نصب على الحال
الحجر : ( 74 - 75 ) فجعلنا عاليها سافلها . . . . .
) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجّيل إنّ في ذلك لآيات لِلْمُتَوَسِّمِينَ ( قال ابن عبّاس والضحاك : للناظرين .
مجاهد : للمتفرسين .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ) ثمّ قرأ هذه الآية .
وقال الشاعر :
توسمته لما رأيت مهابة
عليه وقلت المرء من آل هاشم
وقال آخر
(5/346)
" صفحة رقم 347 "
أو كلما وردت عكاظ قبيلة
بعثوا إليّ عريفهم يتوسّم
وقال قتادة : للمعتبرين .
الحجر : ( 76 ) وإنها لبسبيل مقيم
) وَإنَّهَا ( يعني قرى قوم لوط ) لَبِسَبِيل مُقِيم ( بطريق واضح .
قاله قتادة ، ومجاهد ، والفراء ، والضحاك : بطريق معلّم ليس بخفي ولا زائغ .
الحجر : ( 77 - 78 ) إن في ذلك . . . . .
) إنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَإنْ كَانَ أصْحَابُ الأيْكَةِ لَظَالِمِينَ ( وقد كان أصحاب الغيضة لكافرين ، وهم قوم شعيب كانوا أصحاب غياض ورياض وشجر متناوش متكاوش ملتف وكانوا يأكلون في الصيف الفاكهة الرطبة وفي الشتاء اليابسة وكان عامة شجرهم الدوم وهو المُقل
الحجر : ( 79 ) فانتقمنا منهم وإنهما . . . . .
) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ ( بالعذاب ، وذلك أن الله سلّط عليهم الحرّ سبعة أيام لايمنعهم منه شيء ، فبعث الله عليهم سحابة فالتجأوا إلى ظلّها يلتمسون روحها فبعث الله عليهم منها ناراً فأحرقتهم فذلك قوله : ) فأخذهم عذاب يوم الظلة ( ) وَإنَّهُمَا ( يعني مدينة قوم لوط ومدينة أصحاب الأيكة ) لَبِإمَام مُبِين ( طريق مستبين ، وسمّي الطريق إماماً لأنه يؤتم به .
الحجر : ( 80 ) ولقد كذب أصحاب . . . . .
) وَلَقَدْ كَذَّبَ أصْحَابُ الحِجْرِ ( أي الوادي ، وهو مدينة ثمود وقوم صالح وهي فيما بين المدينة والشام ) المُرْسَلِينَ ( أراد صالحاً وحده .
عبدالله بن عمر وجابر بن عبد الله قالا : مررنا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على الحجر ، فقال لنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلاّ أن تكونوا باكين حذراً بأن يصيبكم مثل ما أصابهم ) ثمّ قال : ( هؤلاء قوم صالح أهلكهم الله إلاّ رجلاً في حرم الله منعه حرم الله من عذاب الله ) قيل : من هو يارسول الله ؟ قال : ( أبو رغال ) ثمّ زجر ( صلى الله عليه وسلم ) فأسرع حتّى خلفها .
الحجر : ( 81 ) وآتيناهم آياتنا فكانوا . . . . .
) وَآ تَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا ( يعني الناقة وولدها و ( السير ) ) فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (
الحجر : ( 82 ) وكانوا ينحتون من . . . . .
) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ( من الخراب ووقوع الجبل عليهم
الحجر : ( 83 ) فأخذتهم الصيحة مصبحين
) فَأخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ( يعني صيحة العذاب والهلاك ) مُصْبِحِينَ ( في وقت الصبح وهو نصب على الحال
الحجر : ( 84 ) فما أغنى عنهم . . . . .
) فَمَا أغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( من الشرك والأعمال الخبيثة .
الحجر : ( 85 ) وما خلقنا السماوات . . . . .
) وَمَا خَلَقْنَا السموات والأرض وما بينهما إلاّ بالحقّ وإنّ الساعة لاَتِيَةٌ ( وإن القيامة لجائية ) فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الجَمِيلَ ( فأعرض عنهم واعف عفواً حسناً ، نسختها آية القتال .
الحجر : ( 86 ) إن ربك هو . . . . .
) إنَّ رَبَّكَ هُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ ( .
(5/347)
" صفحة رقم 348 "
2 ( ) وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَقُلْ إِنِّىأَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْءَانَ عِضِينَ فَوَرَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِءِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلاهًا ءَاخَرَ فَسَوْفَ يَعْمَلُونَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ( 2
الحجر : ( 87 ) ولقد آتيناك سبعا . . . . .
) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ المَثَانِيَ ( اختلفوا فيه .
روى عبد الوهاب عن ابن مسعود عن أبي نصر عن رجل من عبد القيس يقال له جابر أو جويبر عن ابن مسعود أن عمر قال : السبع المثاني هي فاتحة الكتاب .
روى إسماعيل السدي عن عبد خير عن علي ( ح ) ) ولقد آتيانك سبعاً من المثاني ( قال : فاتحة الكتاب .
عن ابن سيرين أن ابن مسعود قال في السبع المثاني : فاتحة الكتاب ، والقرآن العظيم سائر القرآن .
وعن عبد الرحمن عن أحمد الطابقي قال : أتيت أبا هريرة وهو في المسجد فقرأت عليه فاتحة القرآن .
فقال أبو هريرة : هذه السبع المثاني .
شعبة عن قتادة في قوله : ) ولقد آتيناك سبعاً من المثاني ( ، قال : هي فاتحة الكتاب .
وسمعت الكلبي يقول : هي أمّ الكتاب .
ابن جريج عن عطاء في قوله تعالى ) سبعاً من المثاني ( قال : هي أم القرآن والآية السابعة ) بسم الله الرحمن الرحيم ( .
وهذا قول الحسن وأبي العالية وسعيد بن جبير وإبراهيم وابن أبي مليكة وعبد الله بن عبيد ابن عمرو ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس وصالح الحنفي قاضي مرو .
ويدل عليه ماروى أبو سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الحمد لله رب العالمين سبع آيات إحداهن بسم الله الرحمن الرحيم وهي السبع المثاني وهي أم القرآن وهي فاتحة الكتاب )
(5/348)
" صفحة رقم 349 "
وروى ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم ) .
وروى حفص بن عاصم عن أبي سعيد المعلّى عن أُبيّ بن كعب قال : كنت أُصلي فناداني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لم أجبه ، فلما صلّيت أتيته ، فقال : ( ما منعك أن تجيبني ) ؟ قلت : كنت أُصلي ، قال : ( أولم يقل الله : ) يا أيها الذين آمنوا أستجيبوا لله وللرسول ( ) الآية .
ثمّ قال : ( لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن نخرج من المسجد ) فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت : يارسول الله إنك قلت لأعلمنك أعظم سورة في القرآن .
قال : ( نعم ، الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت ) .
وعن أبي هريرة قال : قرأ أُبي بن كعب على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمّ القرآن . فقال : ( والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ، إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيت ) .
عن ابن جريج قال : أخبرني أبي أنّ سعيد بن جبير أخبره فقال له : ) ولقد آتيناك سبعاً من المثاني ( ، قال : هي أم القرآن ، قال : هي ، وقرأ عليَّ سعيد بن جبير بسم الله الرحمن الرحيم حتّى ختمها ، ثمّ قال : بسم الله الرحمن الآية السابعة .
قال سعيد بن جبير : لأبي : وقرأ عليَّ ابن عبّاس كما قرأتها عليك ، ثمّ قال : بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة :
قال ابن عبّاس : قد ادخرها الله لكم فما أخرجها لأحد قبلكم .
فقلت : هذه إختيار الصحاح إن السبع المثاني هي فاتحة الكتاب ، وأن الله تعالى امتن على رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) بهذه السورة كما امتن عليه بجميع القرآن ، وقيل : نزلت هذه السورة في ( خيبر ) .
وفي هذا دليل على إن الصلاة لاتجوز إلاّ بها ويؤيد ما قلنا ماروى الزهري عن محمّد بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فاتحة الكتاب عوض من كل القرآن ، والقرآن كلّه ليس منه عوض ) .
واختلف العلماء في حديث آيات هذه السورة مثاني ، فقال ابن عبّاس والحسن وقتادة والربيع : لأنها تثنى في كل صلاة وفي كل ركعة .
(5/349)
" صفحة رقم 350 "
وقال بعضهم : سمّيت مثاني لأنها مقسومة بين الله وبين العبد قسمين اثنين ، بيانه والذي يدل عليه ماروى أبو السائب مولى هشام بن زهرة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج هي خداج غير تمام ) .
قال أبو السائب لأبي هريرة : إني أحياناً أكون وراء الامام .
قال : فغمز أبو هريرة ذراعي ، وقال : يافارسي إقرأها في نفسك إني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( قال الله قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فنصفها لي ، ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل ) .
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اقرؤا ، يقول : العبد : الحمد لله رب العالمين ، فيقول الله : حمدني عبدي ، ويقول العبد : الرحمن الرحيم ، فيقول الله : أثنى عليَّ عبدي ، فيقول العبد : مالك يوم الدين ، فيقول الله : مجّدني عبدي ، يقول العبد : إياك نعبدُ وإياك نستعين ، قال : هذه الآية بيني وبين عبدي ، يقول العبد : اهدنا الصراط إلى آخره ، يقول الله : فهذا لعبدي ولعبدي ما سأل ) .
ويقال : سمّيت ( مثاني ) لأنها منقسمة إلى قسمين : نصفها ثناء ونصفها دعاء ، ونصفها حق الربوبية ونصفها حق العبودية ، وقيل : لأن ملائكة السماوات يصلّون الصلوات بها ، كما أن أهل الأرض يصلّون بها . وقيل : لأن حروفها وكلماتها مثنّاة ، ومثل الرحمن الرحيم ، إياك وايّاك ، الصراط الصراط ، عليهم عليهم ، غير غير ، في قراءة عمر .
وقال الحسين بن الفضل وغيره : لأنها تقرأ مرّتين كل مرّة معها سبعون ألف ملك ، مره بمكة من أوائل مانزل من القرآن ، ومرة بالمدينة ، والسبب هو أن سبع قوافل وافت من بصرى وأذرعات ليهود بني قريضة والنضير في يوم واحد وفيها أنواع من البز وأوعية ( وأفاوية ) الطيب والجواهر وأمتعة البحر ، فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها ولأنفقناها في سبيل الله فأنزل الله تعالى هذه السورة .
وقال : لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير لكم من هذه السبع القوافل ، ودليل هذه التأويل قوله في عقبها : ) ولا تمدن عينيك ( الآية .
وقيل : لأنها متصدرة بالحمد ، والحمد كل كلمة تكلم بها آدم حين عطس وهي آخر كلام أهل الجنة من ذريته ، قال الله : ) وآخر دعواهم ان الحمد لله رب العالمين ( .
(5/350)
" صفحة رقم 351 "
وقيل : لأن الله استثناها وادّخرها لهذه الأُمة فما أعطاها غيرهم ، كما روينا في خبر سعيد ابن جبير عن ابن عبّاس .
وقال أبو زيد اللخمي : لانها تثني أهل الدعارة والشرارة عن الفسق والبطالة من قول العرب ثنيت عنائي ، قال الله : ) ألا إنهم يثنون صدورهم ( .
وقيل : لأن أولها ثناء على الله عزّ وجلّ .
وقال قوم : إن السبع المثاني هو السبع الطوال ، وهي : سورة البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والأنعام ، والأعراف ، والأنفال ، والتوبة معاً .
وقال بعضهم : يونس ، وعليه أكثر المفسرين .
روى سفيان عن منصور عن مجاهد عن إبن عبّاس في قوله تعالى : ) ولقد آتيناك سبعاً من المثاني ( ، قال : السبع الطوال .
سعيد بن جبير عن ابن عبّاس في قوله تعالى : ) ولقد آتيناك سبعاً من المثاني ( قال : هو السبع الطوال .
وهو قول عمر ، ورواية أبي بشر وجعفر بن المغيرة ومسلم البطين عن سعيد بن جبير ، ورواية ليث وابن أبي نجيح عن مجاهد ، ورواية عبيد بن سليمان عن الضحاك . يدل عليه ماروى أبو أسماء الرحبي عن ثوبان أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة ، وأعطاني المبين مكان الإنجيل ، وأعطاني الطواسين مكان الزبور وفضلني ربي بالمفصّل ) .
وروى الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال : أوتي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) السبع المثاني الطوال ، وأعطي موسى ستاً فلما ألقى الألواح رفعت إثنان وبقي أربع .
روى عروة عن عائشة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من أخذ السبع الأول فهو حبر ) .
قال ابن عبّاس : وإنما سميت السبع الطوال مثاني ؛ لأن الفرائض والحدود والأمثال والخبر والعبر تثبت فيه .
طاوس وأبو مالك : القرآن كلّه مثاني ، وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس قال : ألم تسمع إلى قول الله تعالى : ) اللهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ ( وسمّي القرآن مثاني لأن القصص ثبتت فيه .
(5/351)
" صفحة رقم 352 "
وعلى هذا القول المراد بالسبع سبعة أسباع القرآن . ويكون فيه إضمار تقديره : وهي للقرآن العظيم .
فاحتج بقول الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام
وليث الكتيبة في المزدحم
مجازة : الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة في المزدحم .
وروى عتاب بن بشر عن حنيف عن زياد بن أبي مريم في قوله : ) سبعاً من المثاني ( قال : أعطيتك سبعة أجزاء وهي سبع معان في القرآن : مرّ ، وانه ، وبشّر ، وأنذر ، واضرب الأمثال وأعدد النعم ، وآتيتك نبأ القرآن .
الحجر : ( 88 ) لا تمدن عينيك . . . . .
) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ( يا محمّد ) إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أزْوَاجاً ( أصنافاً ) مِنْهُمْ ( من الكفار متمنياً إياها . نهى رسوله عن الرغبة في الدنيا .
وقال أنس : مرّت برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إبل أيام الربيع وقد حبست في أبعارها وأبوالها . فغطى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عينه بكمّه وقال : ( بهذا أمرني ربي ) ثمّ تلا هذه الآية .
) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ ( ليّن جانبك ) لِلْمُؤْمِنِينَ ( وارفق بهم .
والجناحان من ابن آدم جانباه ، ومنه قوله : ) واضمم يدك إلى جناحك ( أي جنبك وناحيتك .
الحجر : ( 89 - 90 ) وقل إني أنا . . . . .
) وَقُلْ إنِّي أ نَا النَّذِيرُ المُبِينُ كَمَا أ نْزَلْنَا ( ، قال الفراء : مجازه : أنذركم عذاباً ) عَلَى المُقْتَسِمِينَ ( . فأختلفوا فيهم .
فروى الأعمش عن أبي ظبيان قال : سمعت ابن عبّاس يقول في قوله : ( كما أنزلنا على المقتسمين ، قال : هم اليهود والنصارى .
الحجر : ( 91 ) الذين جعلوا القرآن . . . . .
) الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ ( جزّأوه فجعلوه أعضاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه .
وقال عكرمة : سمّوا مقتسمين لأنّهم كانوا يستهزؤن فيقول بعضهم : هذه السورة لي . وقال بعضهم : هذه لي ، فيقول أحدهم : لي سورة البقرة ، ويقول الآخر : لي سورة آل عمران .
وقال مجاهد : هم اليهود والنصارى ، قسّموا كتابهم ففرّقوه وبدّدوه .
وقال مقاتل : كانوا ستة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم فاقتسموا عقاب
(5/352)
" صفحة رقم 353 "
مكة وطرقها وقعدوا على أبوابها وأبقابها وإذا جاء الحجاج ، قال فريق منهم : لا تغتروا بخارج منّا يدعي النبوة فإنه مجنون .
وقالت طائفة أخرى : على طريق آخر أنه كاهن .
وقالت طائفة : عَرّاف . وقالت طائفة شاعر ، والوليد قاعد على باب المسجد نصبوه حكماً ، فإذا سئل عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : صدق لوليك المقتسمين .
وقال مقاتل بن حيان : هم قوم اقتسموا القرآن ، فقال بعضهم : سحر ، وقال بعضهم : سمر ، وقال بعضهم : كذب . وقال بعضهم : شعر ، وقال بعضهم : أساطير الأولين .
وقال بعضهم : هم الذين تقاسموا صالح وأرادوا تبييته .
وقرأ قول الله : ) وَكَانَ فِي المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْط يُفسدون في الأرض ولا يصلحون قالوا تَقَاسَمُوا بِاللهِ ( الآية .
) الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ ( يعني عضوا كتاب الله ونبيه وأمره ونهيه أي كذبوا .
وقوله : ) عضين ( ، قال بعضهم : هو جمع عضو وهو مأخوذ من قولهم عضيت يعضيه إذا فرّقته .
وقال رؤبة :
وليس دين الله بالمعضى
يعني : بالمفرّق .
وقال آخر :
وعضى بني عوف ، فأما عدوهم
فأرضي وأمّا العز منهم فغيرا
يعني بقوله عضّني بني عوف : سبّاهم وقطعهم بلسانه .
وقال آخرون : بل هو جمع عضة ، يقال : عضه وعضين . مثل يره ويرين ، وكرة وكرين ، وقلة وقلين ، وعزة وعزين ، وأصله عضهه ذهبت هاؤها الأصلية كما نقصوا الهاء من الشفة وأصلها شفهه ومن الشاة وأصلها شاهه يدلك على ذلك التصغير تقول : شفيهة وغويهة ، ومعنى العضة : الكذب والبهتان ، وفي الحديث : ( لايعضه بعضكم بعضاً )
(5/353)
" صفحة رقم 354 "
الحجر : ( 92 ) فوربك لنسألنهم أجمعين
) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأ لَنَّهُمْ أجْمَعِينَ ( يوم القيامة
الحجر : ( 93 ) عما كانوا يعملون
) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( في الدنيا .
وروى أنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية قال : ( عن لا إله إلاّ الله ) .
قال عبد الله : والذي لا إله غيره مامنكم من أحد إلاّ سيخلو الله تعالى به يوم القيامة ، ( كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر ) فيقول : يابن آدم ماذا غرك مني ، يابن آدم ما عملت فيما علمت ، يابن آدم ماذا أجبت المرسلين .
واعترضت الملحدة بأبصار كليلة وأفهام عليلة على هذه الآية على قوله : ) فَيَوْمَئِذ لا يُسْألُ عَنْ ذَ نْبِهِ إنسٌ وَلا جَانٌّ ( وحكموا عليهما بالتناقض .
والجواب عنه : ما روي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس في قوله : ) لَنَسْأ لَنَّهُمْ أجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُون ( وقوله : ) فَيَوْمَئِذ لا يُسْألُ عَنْ ذَ نْبِهِ إنسٌ وَلا جَانٌّ ( . قال : لانسألهم هل عملتم كذا وكذا ، لأنه أعلم بذلك منهم ، ولكن يقول لهم : لِمَ عملتم كذا وكذا ؟
واعتمد قطرب هذا القول ، وقال : السؤال على ضربين : سؤال استعلام واستخبار ، وسؤال توبيخ وتقرير . فقوله : ) فيومئذ لا يسأل عن ذنبه ( يعني استعلاماً واستخباراً ، لأنه كان عالماً بهم قبل أن يخلقهم . وقوله : ) لنسألنهم أجمعين ( يعني تقريعاً وتقريراً ليريهم القدرة في تعذيبنا إياهم .
وقال عكرمة : سألت مولاي عبد الله بن عبّاس عن الآيتين ، فقال : إن يوم القيامة يوم طويل وفيه مواقف ، يسألون في بعض المواقف ولا يسألون في بعضها . ونظيره قوله : ) هذا يوم لاينطقون ( وقال في آية أخرى : ) ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ( .
وقال بعضهم : ) فيومئذ لايسأل ( إذا كان المذنب مكرهاً مضطراً ، و ) لنسألنّهم ( إذا كانوا مختارين ، وقيل : لا يسأل إذا كان الذنب في حال الصبى أو الجنون أو النوم ، بيانه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رفع القلم عن ثلاث ) وقولهم : لنسألنهم ، إذا كان عملهم خارجاً من هذه الأحوال ، وقيل : لا يسأل إذا كان الذنب في حال الكفر
(5/354)
" صفحة رقم 355 "
وقوله : ) لنسألنهم ( يعني المؤمنين ، بيانه قوله : ) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ( وقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الاسلام يجبّ ما قبله ) .
الحجر : ( 94 ) فاصدع بما تؤمر . . . . .
) فَاصْدَعْ ( .
قال ابن عبّاس : أظهر . الوالبي عنه : فاقض .
عطية عنه : افعل . الضحاك : اعلم ، الأخفش : افرق ، المؤرّج : افصل ، سيبويه : اقض .
) بِمَا تُؤْمَرُ ( يعني بأمرنا ( ما ) المصدر .
وأصل الصدع : الفصل والفرق .
قال ذؤيب يصف الحمار والأتن :
وكأنهن ربابة وكأنه
يسر يفيض على القداح ويصدع
( وقيل ) : أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بإضهار الدعوة .
روى موسى عن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال : مازال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مستخفياً حتّى نزلت ) فأصدع بما تؤمر ( فخرج هو وأصحابه .
وقال مجاهد : أراد الجهر بالقرآن في الصلاة .
) وَأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ ( لا تبال بهم
الحجر : ( 95 ) إنا كفيناك المستهزئين
) إنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ ( .
يقول الله جل ثناؤه لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) فاصدع بأمر الله ولا تخف شيئاً سوى الله فإن الله كافيك من عاداك وآذاك كما كفاك المستهزئين وهم من قريش ورؤسائهم خمسة نفر : الوليد بن المغيرة ، و عبد الله بن عمرو بن مخزوم وكان رأسهم ، والعاص بن وائل بن هشام بن سعيد بن سعيد بن سهم ، والأسود بن المطلب بن الحرث بن ( أسد ) بن عبد العزى أبو زمعة وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد دعا عليه فقال : ( اللهم أعم بصره وأثكله بولده ) والأسود بن عبد يغوث بن وهب ابن عبد مناف بن زهرة ، والحرث بن قيس بن الطلاطلة فإنه عيطل .
فأتى جبرئيل محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) والمستهزئون يطوفون بالبيت ، فقام جبرئيل وقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى جنبه فمرّ به الوليد بن المغيرة ، فقال جبرئيل : يا محمّد كيف تجد هذا ، قال : بئس عبد الله
(5/355)
" صفحة رقم 356 "
قال : ( قد كفيت ) وأومأ إلى ساقه ويده ، فمرّ برجل من خزاعة ( نبّال ) يريّش نبلاً له وعليه برد يمان وهو يجر إزاره فتعلقت شظّية من نبل بإزاره فمنعه الكبر أن يطمئن ونبذ عمامته وجعلت تضرب ساقه فخدشته فمرض منه ومات .
وقال الكلبي : تعلّق سهم بثوبه فأصاب أكحله فقطعه فمات .
ومرَّ به العاص بن وائل ، فقال جبرئيل : كيف تجد هذا يا محمّد ؟ قال : ( بئس عبد الله ) ، فأشار جبرئيل لأخمص رجله وقال : ( قد كفيت ) وقد خرج على راحلته ومعه اثنان يمنعانه فنزل شعباً من تلك الشعاب فوطيء على شرقة فدخلت منها شوكة في أخمص رجله ، فقال : الوقت لدغت . فطلبوا ولم يجدوا شيئاً فأنتفخت رجله حتّى صارت مثل عنق بعير فمات مكانه .
ومرَّ به الأسود بن عبد المطلب ، فقال جبرئيل : كيف تجد هذا يا محمّد ؟
قال : ( عبد سوء ) فأشار إلى عينه ، وقال : ( قد كفيت ) فعمى ( 194 ) .
قال ابن عبّاس : رماه جبرئيل بورقة خضراء فذهب بصره ووجعت عينه ، فجعل يضرب برأسه الجدار حتّى هلك .
وفي رواية الكلبي : أتاه جبرئيل وهو قاعد في ظل شجرة ومعه غلام له فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك وإستغاث بغلامه ، فقال غلامه : لا أرى أحداً يصنع بك شيئاً غير نفسك حتّى مات وهو يقول : قتلني ربّ محمّد .
ومرَّ به الأسود بن عبد يغوث فقال جبرئيل : كيف تجد هذا ؟ فقال : ( بئس عبد الله ، على أنه خالي ) ، فقال : قد كفيت ، وأشار إلى بطنه فشقّ بطنه فمات حينها .
وفي رواية الكلبي : أنه خرج من أهله فأصابه السموم فاسودّ حتّى عاد حبشياً فأتى أهله فلم يعرفوه فأغلقوا دونه الباب وهو يقول : قتلني ربّ محمّد .
ومرَّ به الحرث بن قيس ، فقال جبرئيل ( عليه السلام ) : يا محمّد كيف تجد هذا ؟ قال : ( عبد سوء ) فأومأ إلى رأسه وقال : قد كفيت ، فأمتخط قيحاً فقتله .
وقال ابن عبّاس : إنه أكل حوتاً مالحاً فأصابه العطش فلم يزل يشرب عليه من الماء حتّى اتّقد بطنه فمات ، فذلك قوله تعالى : ) إنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ ( يعنى بك وبالقرآن
(5/356)
" صفحة رقم 357 "
الحجر : ( 96 - 97 ) الذين يجعلون مع . . . . .
) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إلَهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ( وعيدهم ) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ( .
قال ابن عبّاس : فصلِّ يا محمّد لربك .
) وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ( المتواضعين .
الحجر : ( 98 ) فسبح بحمد ربك . . . . .
وقال الضحاك : ) فسبح بحمد ربك ( قل سبحان الله وبحمده ) وكن من الساجدين ( أي المصلين .
ويروى أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا حزنه أمر فزع إلى الصلاة .
الحجر : ( 99 ) واعبد ربك حتى . . . . .
) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ ( يعني الموت ، ومجازه : الموفق به .
روى يونس بن زيد عن ابن شهاب : أن خارجة بن زيد بن ثابت أخبره عن أم العلاء امرأة من الأنصار قد بايعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخبرته أنهم اقتسموا المهاجرين قرعة قالت : فصار لنا عثمان ابن مظعون فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي مات فيه ، فلما توفي وغسّل وكفّن في ثوبه دخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قلت : ياعثمان بن مظعون رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( وما يدريك أن الله أكرمه ) قالت : فقلت : بأبي أنت يارسول الله فمه ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أمّا هو فقد جاءه اليقين ووالله إني لأرجو له الخير ) .
قالوا : فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما أوحي إليَّ أن أجمع المال وأكون من التاجرين ، ولكن أوحي إليَّ أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتّى يأتيك اليقين ) .
(5/357)
" صفحة رقم 5 "
( سورة النحل )
مكية ، إلى قوله تعالى : ) وإن عاقبتم ( إلى آخره وهي سبعة ألف وسبعمائة وسبعة أحرف ، والفان وثمانمائة وأربعون كلمة ، ومائة وثمان وعشرون آية
أبو أُمامة الباهلي عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ومن قرأ سورة النحل لم يحاسبه الله بالنعم التي أنعمها عليه في دار الدنيا ، وأعطي من الأجر كالذي مات فأحسن الوصية ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
( ) أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَاهَ إِلاَ أَنَاْ فَاتَّقُونِ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ وَالاَْنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ( 2
النحل : ( 1 ) أتى أمر الله . . . . .
) أتَى أمْرُ اللهِ ( أي جاء فدنا ، واختلفوا في هذا الأمر ما هو .
فقال قوم : هو الساعة .
قال ابن عبّاس : لما أنزل الله تعالى ) إقتربت الساعة وانشق القمر ( قال الكفار بعضهم لبعض : إن هذا يزعم ( أن ) يوم القيامة قد قرب فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر ماهو كائن ، فلما رأوا أنه لا ينزل شيء ، قالوا : ما نرى شيئاً ، فأنزل الله تعالى : ) اقترب للناس حسابهم ( الآية .
(6/5)
" صفحة رقم 6 "
فأشفقوا وانتظروا قرب الساعة ، فلما إمتدت الأيام قالوا : يا محمّد ما نرى شيئاً مما تخوّفنا به فأنزل الله ) أتى أمر الله ( فوثب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ورفع الناس رؤوسهم فنزلت ) فلا تستعجلوه ( فاطمأنوا فلما نزلت هذه الآية قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بأصبعيه إن كادت لتسبقني ) .
وقال ابن عبّاس : كان بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أشراط الساعة . وأن جبرئيل لما مرَّ بأهل السماوات مبعوثاً إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا : الله أكبر قد قامت الساعة .
قال الآخرون : الأمر هاهنا العذاب بالسيف ، وهو جواب للنضر بن الحرث حين قال : ) اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ( الآية يستعجل العذاب ، فأنزل الله هذه الآية ، وهذا من الجواب المقصور فقتل النضر يوم بدر صبراً .
وقال الضحاك : ) أمر الله ( : الأحكام والحدود والفرائض .
والقول الأوّل أولى بالصواب ؛ لأنه لم يبلغنا أن أحداً من الصحابة مستعجل بفريضة الله قبل أن تفرض عليهم ، وأمّا مستعجل العذاب من المشركين فقد كانوا كثيراً .
) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ }
النحل : ( 2 ) ينزل الملائكة بالروح . . . . .
) يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ ( .
قرأه العامّة : بضم الياء وكسر الزاي المشدد ، الملائكة نصب . وخففه معظم أهل مكة والبصرة بمعنى ينزل الله .
وقرأ المفضل وروح وسهيل وزيد : ينزل بفتح الياء والزاي ، الملائكة رفع .
وقرأ الأعمش : ينزل بفتح الياء وجزم النون وكسر الزاي من النزول ، والملائكة رفع على هاتين القرائتين والفعل للملائكة .
) بِالرُّوحِ ( بالوحي سمّاه روحاً ، لأنه تحيا به القلوب والحق ، ويموت به الكفر والباطل .
وقال عطاء : بالنبوة فطرة يلقى الروح من أمره .
قتادة : بالرحمة .
أبو عبيدة : ) بالروح ( ، يعني : مع الروح وهو جبرئيل .
) مِنْ أمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إن ( محله نصب بنزع الخافض ، ومجازه بأن ) أنذِرُوا ( أعلموا ، من قولهم : أنذر به أي أعلم ) أنَّهُ ( في محل النصب بوقوع الإنذار عليه .
(6/6)
" صفحة رقم 7 "
) لا إلَهَ إلاَّ أنَا فاتقون }
النحل : ( 3 - 4 ) خلق السماوات والأرض . . . . .
) خلق السموات والأرض بالحق تعالى عما يشركون خلق الإنسان من نطفة فَإذَا هُوَ خَصِيم ( يجادل بالباطل ) مُبِينٌ ( نظيره قوله : ) ولا تكن للخائنين خصيماً ( نزلت هذه الآية في أُبي بن خلف الجمحي حين جاء بالعظم الرميم إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا محمّد أترى الله يحيي هذا بعدما قد رمَّ ؟ نظيرها قوله : ) أو لم يرَّ الانسان انا خلقناه من نطفة ( إلى آخر السورة نزلت في هذه القصة أيضاً .
النحل : ( 5 ) والأنعام خلقها لكم . . . . .
) وَالأ نْعَامَ خَلَقَهَا ( يعني الإبل والبقر والغنم ) لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ ( يعني من أوبارها وأصوافها وأشعارها ملابس و ( لحفاً ) وقطن يستدفئون ) وَمَنَافِعُ ( بالنسل والدرّ والركوب والحمل وغيرها ) وَمِنْهَا تَأكُلُونَ ( يعني لحومها
النحل : ( 6 ) ولكم فيها جمال . . . . .
) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ ( أي حين يردّونها بالعشي من مراعيها إلى مباركها التي تأوى إليها . يقال : أراح فلان ماشيته يريحها أراحة ، والمكان الذي يراح إليه : مراح .
) وَحِينَ تَسْرَحُونَ ( اي يخرجونها بالغداة من مراعيها إلى مسارحها . يقال : سرّح ماشيته يسرّحها سرُحاً وسروحاً إذا أخرجها للرعي ، وسرحت الماشية سروحاً إذا رعت .
قال قتادة : وذلك أعجب ما يكون إذا راحت عظاماً ضروعها طوالاً أسنمتها .
النحل : ( 7 ) وتحمل أثقالكم إلى . . . . .
) وَتَحْمِلُ أثْقَالَكُمْ إلَى بَلَد ( آخر غير بلدكم .
عكرمة : البلد مكة .
) لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ ( أي تكلفتموه ) إلاَّ بِشِقِّ الأنفُسِ ( .
قرأه العامّة : بكسر الشين ، ولها معنيان : أحدهما : الجهد والمشقة .
والثاني : النصف ، يعني لم تكونوا بالغيه إلاّ بشق النفس من القوة وذهاب شق منها حتّى لم تبلغوه إلاّ بنصف قوى أنفسكم وذهاب نصفها الآخر .
وقرأ أبو جعفر : بشق بفتح الشين . وهما لغتان مثل برَق وبرِق ، وحَصن وحصِن ، ورَطل ورطِل .
وينشد قول النمر بن تولب : بكسر الشين .
وذي إبل يسعى ويحسبها له
أخي نصب من شقها ودؤوب
ويجوز أن يكون بمعنى المصدر من شققت عليه يشق شقاً
(6/7)
" صفحة رقم 8 "
) إنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ( بخلقه حيث خلق لهم هذه الأشياء وهيّأ لهم هذه المنافع والمرافق .
النحل : ( 8 ) والخيل والبغال والحمير . . . . .
) وَالخَيْلَ ( يعني وخلق الخيل وهو اسم جنس لا واحد له من لفظه كالإبل والنساء ) وَالبِغَالَ وَالحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ( يعني وجعلها زينة مع المنافع التي فيها .
واستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على تحريم لحوم الخيل ، روى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس أنه سئل عن أكل لحوم الخيل فكرهها وتلا هذه الآية : ) وَالخَيْلَ وَالبِغَالَ وَالحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ( .
قال : هو المركوب ، وقرأ التي قبلها : ) والأنعام خلقها ( الآية ، وقال : هذه للأكل .
وقال : الحكم بلحوم الخيل حرام في كتاب الله ، ثمّ قرأ هذه الآيات ، وقال : جعل هذه للأكل وهذا للركوب .
وإلى هذا ذهب أبو حنيفة ومالك وغيرهما من العلماء ، واحتجوا أيضاً في ذلك بما روى صالح بن يحيى بن المقدام بن معدي كرب عن أبيه عن جدّه عن خالد بن الوليد أنه سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( لا يحل أكل لحوم الخيل والبغال والحمير ) .
وقال الآخرون : لابأس بأكل لحوم الخيل ، وليس في هذه الآية دليل على تحريم شيء ، وإنما عرّف الله عباده بهذه الآية نعمه عليهم ونبههم على حجج وحدانيته وربوبيته وكمال قدرته ، وإليه ذهب الشافعي واحتج بما روى محمّد بن علي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نهى يوم خيبر عن لحوم الحمير الأهلية وأذن في لحوم الخيل .
وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن جابر قال : أطعمنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعني يوم خيبر لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر .
وروى سفيان عن عبد الكريم عن عطاء عن جابر قال : كنا نأكل لحوم الخيل ، قلت : والبغال ؟ قال : لا .
هشام عن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر ( ح ) قالت : أكلنا لحم فرس على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
سفيان عن منصور عن إبراهيم قال : نحر أصحابنا فرساً في النخع فأكلوا منه ولم يروا به بأساً .
) وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ ( .
(6/8)
" صفحة رقم 9 "
قال بعض المفسرين : يعني ما أعدَّ في الجنة لأهلها ، وفي النار لأهلها ما لم تره عين ولا سمعته أُذن ولا خطر على قلب بشر .
قال قتادة : يعني السوس في الثياب ، والدود في الفواكه .
وروى مقاتل عن الضحاك عن ابن عبّاس في قوله تعالى : ) وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ ( قال : يريد أن عن يمين العرش نهراً من نور مثل السماوات السبع والأرضين السبع والبحار السبع . يدخل جبرئيل كل سحر فيغتسل فيزداد نوراً إلى نوره وجمالاً إلى جماله وعظماً إلى عظمته فينتفض فيخرج الله من كل قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك بالبيت المعمور وفي الكعبة سبعون ألفاً لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة .
النحل : ( 9 ) وعلى الله قصد . . . . .
) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ( يعني طريق الحق لكم ، والقصد : الطريق المستقيم ، وقيل على الله القصد بكم إلى الدين ) وَمِنْهَا جَائِرٌ ( يعني ومن السبيل جائر عن الاستقامة معوج ، وإنما أُنث للكناية ، لأن لفظ السبيل واحد ومعناها جمع ، والسبيل مؤنثة في لغة أهل الحجاز ، والقصد من السبيل هو الحنيفية دين الإسلام ، والجائر منها اليهودية والنصرانية وغير ذلك من الملل والكفرة .
وقال جابر بن عبد الله : قصد السبيل يعني بيان الشرائع والفرائض ، وقال عبد الله بن المبارك وسهل بن عبد الله : ) قصد السبيل ( السنّة ، ) ومنها جائر ( يعني الأهواء والبدع ، بيانه قوله : ) وإن هذا صراطي مستقيماً ( الآية . وفي مصحف عبد الله : ومنكم جائز .
) وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أجْمَعِينَ ( نظيرها قوله : ) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لأَمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ( وقوله : ) وَلَوْ شِئْنَا لأَتَيْنَا كُلَّ نَفْس هُدَاهَا (
.
) هُوَ الَّذِىأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الاَْرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ وَهُوَ الَّذِى سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَأَلْقَى فِى الاَْرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ
(6/9)
" صفحة رقم 10 "
بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ( 2
النحل : ( 10 ) هو الذي أنزل . . . . .
) هُوَ الَّذِي أنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ ( أي من ذلك الماء ) شَرَابٌ ( يشربونه ) وَمِنْهُ شَجَرٌ ( شراب أشجاركم حياة غروسكم ونباتكم ) فيه ( ، في الشجرة وهو اسم ( عام ) ، وإنما ذكَر الكناية ، لأنه ردّه إلى لفظ الشجر .
) تُسِيمُونَ ( ترعون ، وننسيكم يقال : أسام فلان إبله يسيمها إسامة ، إذا رعاها ، فهو مسيم وسامت هي تسوم فهي سائمة .
قال الشاعر :
ومشى القوم بالعماد إلى
المرعى وأعيا المسيم اين المساق
يعني يدخلون العماد تحت بطون الزرعى ( . . . . ) .
قال الشاعر :
أولى لك ابن مسيمة الأجمال
أي يابن راعية الإبل .
النحل : ( 11 ) ينبت لكم به . . . . .
) يُنْبِتُ لَكُمْ ( . قرأه العامّة بالياء يعني : ينبت لكم . وقرأ عاصم برواية المفضل وحماد ويحيى بالنون ، والأوّل الاختيار .
) بِهِ ( بالماء الذي أنزل ) الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ والنخيل والأعناب ومن كلّ الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكّرون ( .
النحل : ( 12 ) وسخر لكم الليل . . . . .
) وسخّر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخّرات ( قرأه العامّة بالنصب نسقاً على ماقبله .
وروى حفص عن عاصم ، ) والنجوم مسخرات ( : بالرفع على الخبر والإبتداء ، وقرأ ابن عامر ) والشمس والقمر والنجوم مسخرات ( كلها بالرفع على الإبتداء والخبر .
) بِأمْرِهِ ( بأذنه ) إنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَات لِقَوْم يَعْقِلُونَ }
النحل : ( 13 ) وما ذرأ لكم . . . . .
) وَمَا ذَرَأ ( يعني وسخّر ما ذرأ ) لَكُمْ ( أي
(6/10)
" صفحة رقم 11 "
خلق لأجلكم من الدواب والأشجار والثمار وغيرها ) فِي الأرْضِ مُخْتَلِفاً ألوانه ( نصب على الحال .
) إنَّ فِي ذَلِكَ لآية لقوم يذّكرون ( .
النحل : ( 14 ) وهو الذي سخر . . . . .
) وهو الذي سخّر البحر لِتَأكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً ( يعني السمك ) وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً ( يعني اللؤلؤ والمرجان .
روى حماد بن يحيى عن إسماعيل بن عبد الملك قال : جاء رجل إلى ابن جعفر قال : في حليّ النساء صدقة ؟ قال : لا ، هي كما قال الله : ) حلية تلبسونها ( ) تَلْبَسُونَهَا وَ تَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ( .
قال ابن عبّاس : جواري .
سعيد بن جبير : معترضة . قتادة ومقاتل : ( تذهب وتجي ) مقبلة ومدبرة بريح واحدة .
الحسن : مواقر .
عكرمة والفراء والأخفش : شقاق يشق الماء بجناحيها .
مجاهد : يمخر السفن الرياح ولا يمخر الريح من السفن إلاّ الملك العظيم .
أبو عبيدة : سوابح .
وأصل المخرّ الدفع والشق ، ومنه مخر الأرض ، ويقال : امتخرت الريح وتمخّرتها ، إذا نظرت من أين مبعوثها ، وفي الحديث : ( إذا أراد أحدكم البول فليمتخر الريح ) أي لينظر من أين مخرها وهبوبها فيستدبرها حتّى لا يرد عليه البول .
) وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ( يعني التجارة ) وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (
النحل : ( 15 ) وألقى في الأرض . . . . .
) وَألْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أنْ تَمِيدَ بِكُمْ ( يعني لئلاّ تميد بكم ، أي تتحرك وتميل ، والميل : هو الاضطراب والتكفّؤ ، ومنه قيل للدوار الذي يعتري راكب البحر : ميد .
قال وهب : لما خلق الله الأرض جعلت تميد وتمور ، فقالت الملائكة : إن هذه غير مقرّة أحداً على ظهرها ، فأصبحت وقد أرسيت بالجبال ولم تدر الملائكة ممّ خلقت الجبال .
وقال علي ( ح ) : لما خلق الله الأرض رفضت وقالت : أي رب أتجعل عليَّ بني آدم يعملون عليَّ الخطيئة ويلقون عليّ الخبث ، فأرسى الله فيها من الجبال ماترون ومالا ترون .
(6/11)
" صفحة رقم 12 "
) وَأنْهَاراً ( يعني وجعل فيها أنهاراً ) وَسُبُلا ( طرقاً مختلفة ) لعلكم تهتدون 2 )
النحل : ( 16 ) وعلامات وبالنجم هم . . . . .
) وَعَلامَات ( فلا تضلون ولا تتحيرون ، يعني معالم الطرق .
وقال بعضهم : هاهنا تم الكلام ثمّ ابتدأ .
) وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ( .
قال محمّد بن كعب القرظي والكلبي : أراد بالعلامات الجبال ، فالجبال علامات النهار والنجوم علامات الليل .
وقال مجاهد وإبراهيم : أراد بهما جميعاً النجوم ، فمنها ما يكون علامات ومنها ما يهتدون به .
قال السدي : يعني بالثريا وبنات نعش والفرقدين والجدي فيهتدون إلى الطرق والقبلة .
قتادة : إنما خلق الله النجوم لثلاث أشياء : لتكون زينة للسماء ، وعلامات للطريق ورجوماً للشياطين . فمن قال غير هذا فقد قال برأيه وتكلّف ما لا علم به .
النحل : ( 17 ) أفمن يخلق كمن . . . . .
) أفَمَنْ يَخْلُقُ ( يعني الله تعالى ) كَمَنْ لا يَخْلُقُ ( يعني الأصنام ) أفَلا تَذَكَّرُونَ ( نظيرها قوله تعالى : ) هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ( وقوله عزّ وجلّ : ) أرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ (
النحل : ( 18 - 19 ) وإن تعدوا نعمة . . . . .
) وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا إنَّ اللهَ لَغَفُورٌ ( لما كان منكم من تقصير شكر نعمه ) رَحِيمٌ ( بكم حيث وسّع عليكم نعمه ولم يقطعها منكم بتقصيركم ومعاصيكم . ) وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ( .
) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ إِلَاهُكُمْ إِلاهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الاَْوَّلِينَ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْىَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ
(6/12)
" صفحة رقم 13 "
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ( 2
النحل : ( 20 ) والذين يدعون من . . . . .
) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ( .
قرأه العامّة بالتاء ، لأن ما قبله كلّه خطاب .
وقرأ يعقوب وعاصم وسهل بالياء .
) لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ( ثمّ وصف الأوثان فقال :
النحل : ( 21 ) أموات غير أحياء . . . . .
) أمْوَاتٌ ( أي هي أموات ) غَيْرُ أحْيَاءٍ وَ مَا يَشْعُرُونَ ( يعني الأصنام ) أيَّانَ ( متى ) يُبْعَثُونَ ( عَبّر عنها كما عبّر عن الآدميين وقد مضت هذه المسألة ، وقيل : ومايدري الكفّار عبدة الأوثان متى يبعثون .
النحل : ( 22 ) إلهكم إله واحد . . . . .
) إلاهُكُمْ إلاهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ ( جاحدة غير عارفة ) وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ( متعظّمون
النحل : ( 23 ) لا جرم أن . . . . .
) لا جَرَمَ ( حقاً ) أنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْتَكْبِرِينَ }
النحل : ( 24 ) وإذا قيل لهم . . . . .
) وَإذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ( يعني إذا قيل لهؤلاء الذين لايؤمنون بالآخرة وهم مشركوا قريش الذين اقتسموا عقاب مكة وأبوابهم ، سألهم الحجاج والوفد أيام الموسم عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعما أنزل عليه قالوا : ) أساطير الأولين ( أحاديثهم وأباطيلهم .
النحل : ( 25 ) ليحملوا أوزارهم كاملة . . . . .
) لِيَحْمِلُوا أوْزَارَهُمْ ( ذنوب أنفسهم التي هم عليها مقيمون ) وَمِنْ أوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْم ( فيصدونهم عن الإيمان ) ألا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ( ألا ساء الوزر الذي يحملون ، نظيرها قوله تعالى : ) وليحملن أثقالهم ( الآية .
قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أيّما داع دعا إلى ضلاله فاتُّبع ، فإن عليه مثل أوزار من اتّبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ، وأيّما داع دعا إلى هدى فاتّبع ، فله مثل أجورهم من غير أن ينقص من أجورهم شيء ) .
النحل : ( 26 ) قد مكر الذين . . . . .
) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ( وهو نمرود بن كنعان حين بنى الصرح ببابل ولزم منها الصعود إلى السماء ينظر ويزعم إلى إله إبراهيم ، وقد مضت هذه القصة .
قال ابن عبّاس ووهب : كان طول الصرح في السماء خمسة آلاف ذراعاً
(6/13)
" صفحة رقم 14 "
وقال كعب ومقاتل : كان طوله فرسخين فهبّت ريح وألقت رأسها في البحر وخرّ عليهم الباقي وانفكت بيوتهم وأحدث نمرود ، ولما سقط الصرح تبلبلت ألسن الناس من الفزع فتكلموا بثلاثة وسبعين لساناً فلذلك سميت بابل ، وإنما كان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية وذلك قوله تعالى : ) فَأتَى اللهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ القَوَاعِدِ ( أي قصد تخريب بنيانهم من أصولها فأتاها أمر الله وهو الريح التي خرّبتها ) فَخَرَّ ( فسقط ) عَلَيْهِمُ السَّقْفُ ( يعني أعلى البيوت ، ) مِنْ فَوْقِهِمْ وَأتَاهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ( من مأمنهم
النحل : ( 27 ) ثم يوم القيامة . . . . .
) ثُمَّ يَوْمَ القِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ ( يذلّهم بالعذاب . ) وَيَقُولُ أيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ( تحالفون فيهم لاينقذونكم فيدفعوا عنكم العذاب .
وقرأ العامّة على فتح النون من قوله : ) تشاقون ( إلاّ نافع فإنه كسرها على الإضافة ) قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ ( وهم المؤمنون ) إنَّ الخِزْيَ اليَوْمَ وَالسُّوءَ ( العذاب ) عَلَى الكَافِرِينَ (
النحل : ( 28 ) الذين تتوفاهم الملائكة . . . . .
) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ( يقبض أرواحهم ملك الموت وأعوانه ) ظَالِمِي أنفُسِهِمْ ( بالكفر نصب على الحال ، أي في حال كفرهم ) فَأ لْقَوْا السَّلَمَ ( أي استسلموا وانقادوا وقالوا : ) مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوء ( شرك ، فقالت لهم الملائكة : ) بَلَى إنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ( .
قال عكرمة : عَنى بذلك من قتل من قريش وأهل مكة ببدر وقد أُخرج إليها كرهاً .
النحل : ( 29 ) فادخلوا أبواب جهنم . . . . .
) فَادْخُلُوا أبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبِّرِينَ ( عن الإيمان .
( ) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِى هاذِهِ الْدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الاَْخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِى اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ ( 2
النحل : ( 30 ) وقيل للذين اتقوا . . . . .
) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ( وذلك أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا جاء سأل الذين قعدوا على الطرق عنه ، فيقولون : شاعر وساحر وكاهن وكاذب ومجنون ( ويفرّق الأخوان ) ويقولون : إنه لو لم تلقه خير لك ، فيقول السائل : أنا شرّ داخل إن رجعت إلى قومي دون أن أدخل مكة وأستطلع أمر محمّد أو ألقاه ، فيدخل مكة فيرى أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيخبرونه بصدقه وأنه نبي مبعوث ، فذلك قوله تعالى : ) وقيل للذين اتقوا مَاذَا أنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْراً ( .
(6/14)
" صفحة رقم 15 "
فإن قيل : لِمَ ارتفع جواب المشركين في قولهم ) أساطير الأولين ( وانتصب في قوله ) خيراً ( .
فالجواب : أن المشركين لم يؤمنوا بالتنزيل فلما سئلوا قالوا : ) أساطير الأولين ( يعني الذي يقوله محمد ( صلى الله عليه وسلم ) أساطير الأولين ، والمؤمنين إنما كانوا مقرّين بالتنزيل ، فإذا قيل لهم : ) ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا ( يعنون أنزل خيراً .
ثمّ ابتدأ فقال : ) لِلَّذِينَ أحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّ نْيَا حَسَنَةٌ ( كرامة من الله ، ) وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ المُتَّقِينَ ( ثمّ فسرّها فقال :
النحل : ( 31 ) جنات عدن يدخلونها . . . . .
) جَنَّاتُ عَدْن يَدْخُلُونَهَا ( بدل عن النار ، فلذلك ارتفع ) تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لهم فيها ما يشاؤون كذلك يجزي الله المتقين (
النحل : ( 32 ) الذين تتوفاهم الملائكة . . . . .
) الذين تتوفّاهم الملائكة طَيِّبِينَ ( مؤمنين . مجاهد : زاكية أعمالهم وأقوالهم .
) يَقُولُونَ ( يعني في الآية ) سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( .
قال القرظي : إذا استنقعت نفس العبد المؤمن جاءه ملك الموت فقال : السلام عليك وليّ الله ، الله يقرأ عليك السلام ويبشرك بالجنة .
النحل : ( 33 ) هل ينظرون إلا . . . . .
) هل ينظرون إلاّ أن تأتيهم الملائكة ( يقبضون أرواحهم .
) أوْ يَأتِيَ أمْرُ رَبِّكَ ( يعني يوم القيامة ، وقيل : العذاب ) كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ ( بتعذيبه إياهم ) وَلَكِنْ كَانُوا أنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (
النحل : ( 34 ) فأصابهم سيئات ما . . . . .
) فَأصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا ( عقوبات كفرهم وأعمالهم الخبيثة .
) وَحَاقَ ( نزل ) بهم مَا كَانُوا بِهِ يستهزئون ( .
2 ( ) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ نَّحْنُ وَلاءَابَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَىْءٍ كَذالِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُواْ فِى الاَْرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ الْنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( 2
النحل : ( 35 ) وقال الذين أشركوا . . . . .
) وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن وَلا آبَاؤُنَا ( قل للذين
(6/15)
" صفحة رقم 16 "
اقتدينا بهم ) وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْء ( يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحام فلولا أن رضيها لغيّر ذلك ببعض عقوباته أو هدانا إلى غيرها .
قال الله : ) كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إلاَّ البَلاغُ المُبِينُ ( يعني إلاّ عليه ، فإنّها لم تحرم هذه الأشياء وأنهم ادعوا على الله .
النحل : ( 36 ) ولقد بعثنا في . . . . .
) ولقد بعثنا في كلّ أمّة رسولا أنِ اعْبُدُوا اللهَ ( يعني بأن اعبدوا الله ) وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ( وهو كل معبود من دون الله ) فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ ( في دينه ) وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ ( أي وجبت عليه الضلالة حتّى مات على كفره ) فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ ( أي خراب منازلهم وديارهم بالعذاب والهلاك
النحل : ( 37 ) إن تحرص على . . . . .
) إنْ تَحْرِصْ ( يا محمّد ) عَلَى هُدَاهُمْ فَإنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ ( .
قرأ أهل الكوفة : يهدي بفتح الياء وقسموا ذلك ، ولها وجهان : أحدهما : إن معناه فإنّ الله لا يهدي من أضله الله ، والآخر : أن يكون يهدي بمعنى يهتدي ، بمعنى من أضله الله لا يهتدي
يقول العرب : هدى الرجل وهم يريدون اهتدى .
وقرأ الباقون : بضم الياء وفتح الدال ، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم على معنى من أضله الله فلا هادي له ، دليله : ) من يضلل الله فلا هادي له ( .
) وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ( يمنعونهم من عذاب الله
النحل : ( 38 ) وأقسموا بالله جهد . . . . .
) وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله مَنْ يَمُوتُ ( .
الربيع عن أبي العالية قال : كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه فكان فيما تكلّم به : والذي أرجوه بعد الموت أنه لكذا ، فقال المشرك : وإنك لتزعم أنك تُبعث بعد الموت فأقسم بالله ( لا يبعث الله من يموت ) فأنزل الله هذه الآية .
قتادة : ذكر لنا أن رجلاً قال لابن عبّاس : إن ناساً بالعراق يزعمون أن علياً مبعوث قبل يوم القيامة ويتأولون هذه الآية .
فقال ابن عبّاس : كذب أولئك ، إنما هذه الآية عامة للناس ، لو كان عليّ مبعوثاً قبل يوم القيامة ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه ، قال الله رداً عليهم : ) بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ( . في الخبر أن الله تعالى يقول : كذّبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني
(6/16)
" صفحة رقم 17 "
وشتمني ابن آدم ولا ينبغي له أن يشتمني ، وأمّا تكذيبه إياي فحلفه بي أن لا أبعث الخلق ، وأمّا شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولداً وأنا الله الواحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد .
النحل : ( 39 ) ليبين لهم الذي . . . . .
) لِيُبَيِّنَ لهم الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ( هو مردود إلى قوله : ) لا يبعث الله من يموت بلى وعداً عليه حقاً ( يبين لهؤلاء المنكرين المقتسمين الذين يختلفون ) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أ نَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (
النحل : ( 40 ) إنما قولنا لشيء . . . . .
) إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْء ( الآية ، يقول الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه : إنا إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائهم ولا في غير ذلك ( مما نخلق ونكّون ونُحْدث ) ، لأنا إذا أردنا خلق شيء وإنشاؤه ) أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ( .
وفي هذه الآية دليل على أنّ القرآن غير مخلوق ، فذكر أن الله عزّ وجلّ أخبر أنه إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون ، فلو كان قوله كن مخلوقاً لاحتاج إلى قول ثان ولا حتاج ذلك القول إلى قول ثالث إلى ما لا نهاية فلما بطل ذلك ثبت أن الله خلق الخلق بكلام غير مخلوق .
2 ( ) وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَة وَلاََجْرُ الاَْخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِىإِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الاَْرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَىْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ وَقَالَ ( 2
النحل : ( 41 ) والذين هاجروا في . . . . .
) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ( عُذّبوا وقُتلوا في الله ، نزلت في بلال وصهيب وخبّاب وعمار وعابس وجبير وأبي جندل بن سهيل ، أخذهم المشركون بمكة فعذّبوهم .
وقال قتادة : يعني أصحاب محمّد ( صلى الله عليه وسلم ) ظلمهم أهل مكة وأخرجوهم من ديارهم حتّى لحق جماعة منهم بالحبشة ثمّ بوّأهم الله بالمدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار الهجرة وجعل لهم على من ظلمهم ( أنصاراً من المؤمنين والآية تعم الجميع ) .
) لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ( أنزلهم المدينة وأطعمهم الغنيمة .
(6/17)
" صفحة رقم 18 "
ويروى إن عمر بن الخطاب ( ح ) كان إذا أعطى لرجل من المهاجرين عطاء يقول : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ذخر لك في الآخرة أفضل ، ثمّ تلا هذه الآية .
وقال بعض أهل المعاني : مجاز قوله تعالى : ) لنبوّئنّهم في الدنيا حسنة ( ليحسنّن إليهم في الدنيا . ) وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }
النحل : ( 42 ) الذين صبروا وعلى . . . . .
) الَّذِينَ صَبَرُوا ( في الله على ما نابهم ) وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
النحل : ( 43 ) وما أرسلنا من . . . . .
وَمَا أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلاَّ رِجَالا نُوحِي إلَيْهِمْ ( الآية نزلت في مشركي مكة حين أنكروا نبوة محمّد ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً فهّلا بعثت إلينا ملكاً .
) فَاسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ ( يعني هم أهل الكتاب ) إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ }
النحل : ( 44 ) بالبينات والزبر وأنزلنا . . . . .
) بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ( فإن قيل : ما الجالب لهذه الباء ؟
قيل : قد اختلفوافي ذلك : فقال بعضهم : هي من صلة أرسلنا و ) إلا ( بمعنى غير ، مجازه : وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر غير رجال يوحى إليهم ولم نبعث ملائكة . وهذا كما تقول : ماضرب إلاّ أخوك عمر ، وهل كلم إلاّ أخوك زيداً ، بمعنى ماضرب عمر غير أخيك ، هل كلم زيداً غير أخيك .
قال أوس بن حجر :
أبني لبيني لستمُ بيد
إلا يد ليست لها عضد .
يعني غير يده ، قال الله ) لو كان فيهم آلهة إلاّ الله لفسدتا ( أي غير الله .
وقال بعضهم : إنما هذا على كلامين ، يريد : وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً أرسلنا بالبينات والزبر ويشهد على ذلك بقول الأعمش :
وليس مجيراً إن أتى الحي خائف
ولا قائلا إلاّ هو المتعيّبا
يقول : لو كان بذلك على كلمة لكان خطأ من سفه القائل ، ولكن جاء ذلك على كلامين كقول الآخر :
نبّئتهم عذّبوا بالنار جارهم
وهل يعذّب إلاّ الله بالنار
وتأويل الكلام : وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالاً نوحي إليهم أرسلناهم بالبينات والزبر
(6/18)
" صفحة رقم 19 "
) وَأنزَلْنَا إلَيْكَ الذكر لتبيّن للناس ما نُزّل إليهم ولعلّهم يتفكّرون }
النحل : ( 45 ) أفأمن الذين مكروا . . . . .
) أفأمن الذين مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ ( يعني نمرود بن كنعان وغيره من الكفار وأهل الأوثان ) أنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الأرْضَ أوْ يَأتِيَهُمُ العَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ }
النحل : ( 46 ) أو يأخذهم في . . . . .
) أوْ يَأخُذَهُمْ ( العقاب ) فِي تَقَلُّبِهِمْ ( تصرفهم في أسفارهم بالليل والنهار ) فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ ( مسابقي الله
النحل : ( 47 ) أو يأخذهم على . . . . .
) أوْ يَأخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّف ( .
قال الضحاك والكلبي : ) أو يأخذهم على تخوّف ( يعني يأخذ طائفة ويدع فتخاف الطائفة الباقية أن ينزل بها ما نزل بصاحبتها .
وقال سائر المفسرين : التخوّف : التنقّص ، يعني ينقص من أطرافهم ونواصيهم الشيء بهذا الشيء حتّى يهلك جميعهم .
يقال : تخوّف مال فلان الإنفاق ، إذا انتقصه وأخذه من حافاته وأطرافه .
وقال الهيثم بن عدي : هي لغة لازد شنوءة ، وأنشد :
تخوّف عدوهم مالي وأهدى
سلاسل في الحلوق لها صليل
قال سعيد بن المسيب : بينما عمر بن الخطاب ( ح ) على المنبر فقال : يا أيها الناس ما تقولون في قول الله : ) أو يأخذهم على تخوّف ( فسكت الناس ، فقام شيخ فقال : يا أمير المؤمنين هذه لغتنا في هذيل ، التخوّف : التنقص ، فقال عمر : وهل تعرف العرب ذلك في أشعارهم قال : نعم ، قال شاعرنا أبو كبير الهذلي : ( يصف ناقة تنقص السير سنامها بعد تمكه واكتنازه ) .
تخوّف السير منها تامكاً قرداً
كما تخوف عود النبعة السفن
فقال عمر :
يا أيها الناس عليكم بديوانكم الجاهلية
فإن فيه تفسير كتابكم ومعاني كلامكم
) فَإنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ ( يعني لم يعجّل العقوبة
النحل : ( 48 ) أو لم يروا . . . . .
) أوَ لَمْ يَرَوْا ( قرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى والأعمش : ( تروا ) بالتاء على الخطاب ، وقرأ الآخرون بالياء خبراً عن الذين مكروا السيئات وهو اختيار الأئمة
(6/19)
" صفحة رقم 20 "
) إلى ما خلق الله من شيء ( يعني من جسم قائم له ظل ) يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عن اليمين والشمائل سجّداً لله ( .
بالتاء أهل البصرة . الباقون بالياء ، ومعنى قوله ) يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ ( : يميل ويرجع من جانب إلى جانب فهي في أوّل النهار ثمّ تعود إلى حال أخرى في آخر النهار ، فميلانها ودورانها من موضع إلى موضع سجودها ، ومنه قيل للظل بالعشي : فيء ، لأنه فاء من المغرب إلى المشرق ، والفي : الرجوع ، قال الله : ) حتّى تفيء إلى أمر الله ( يقال : سجدت النخلة إذا حالت ، وسجد البعير وأسجد إذا جعل للركوب ، ومثله قال في هذه الآية على هذا التأويل .
قتادة والضحاك : أمّا اليمين فأول النهار وأمّا الشمال فآخر النهار ، تسجد الضلال لله غدوة إلى أن تفيء الظلال ثمّ تسجد أيضاً إلى الليل .
وقال مجاهد : إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله .
وقال عبد الله بن عمر : سمعت عمر بن الخطاب يقول : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أربع قبل الظهر بعد الزوال تحسب بمثلهن في صلاة السحر وليس من شيء إلاّ وهو يسبح لله تعالى تلك الساعة ) ثمّ قرأ ) يتفيّؤُا ( الآية .
الكلبي : الظل قبل طلوع الشمس عن يمينك وعن شمالك وقدامك وخلفك ، ولذلك إذا غابت وإذا طلعت كان قدامك ، فإذا إرتفعت كان عن يمينك وإذا كان بعد ذلك كان خلفك ، فإذا كان قبل أن تغيب الشمس كان على يسارك فهذا تفيؤه أي تضلله هاهنا وهاهنا ، وهو سجوده .
وأمّا الوجه في توحيد اليمين وجمع الشمال ، فهو أنّ من شأن العرب إذا اجتمعت علامتان في شيء واحد أن يبقى واحدة ويلقى الأخرى ، واكتفي بالملقي على الملقى بقوله : ) ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ( كقوله : ) يخرجهم من الظلمات إلى النور ( .
وقال بعضهم : اليمين راجع إلى قوله : ) ما خلق الله ( ولفظة من أحد ، والشمائل راجعة إلى المعنى وقيل : هذا في الكلام كثير .
قال الشاعر :
بفي الشامتين الصخر إن كان هدني
رزية شبلي مخدر في الضراغم
(6/20)
" صفحة رقم 21 "
لم يقل : بأفواه الشامتين .
وقال آخر :
الواردون وتيم في ذرا سبأ
قد عض أعناقهم جلد الجواميس
لم يقل : جلود .
) وَهُمْ دَاخِرُونَ ( صاغرون
النحل : ( 49 ) ولله يسجد ما . . . . .
) وَللهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ( ( وإنما أخبر ب ( ما ) عن الذي يعقل ولا يعقل على التغلب ، كما يغلب الكثير على القليل والمذكر على المؤنث ) ) مِنْ دَابَّة ( يدب عليها كل حيوان يموت ، كقوله : ) وما من دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها ( وقوله : ) ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ( ) وَالمَلائِكَةُ ( خص الملائكة بالذكر مع كونهم من جملتها في الآية لرفع شأنهم ، وقيل : لخروجهم من جملة الموصوفين بالتسبيب إذ جعل الله لهم أجنحة كما قال تعالى : ) جَاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أجْنِحَة ( فالطيران أغلب عليهم من الدبيب ، وقيل : أراد لله يسجد ما في السماوات من الملائكة وما في الأرض من دابة ويسجد ملائكة الأرض .
) وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (
النحل : ( 50 ) يخافون ربهم من . . . . .
) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ( يعني : يخافون ( قدرة ) ربهم أن يأتيهم بالعذاب من فوقهم ، ويدل عليه قوله : ) وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ( ما يؤمرون يعني الملائكة ، وقيل : معناه يخافون ربهم الذي فوقهم بالقول والقدرة فلا يعجزه شيء ولا يغلبه أحد ( يدل عليه ) قوله تعالى : ) وهو القاهر فوق عباده ( وقوله إخباراً عن فرعون : ) وإنا فوقهم قاهرون ( .
) وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلاهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلاهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِى الْسَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ ءاتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالاُْنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ
(6/21)
" صفحة رقم 22 "
يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الاَْعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 2
النحل : ( 51 - 52 ) وقال الله لا . . . . .
) وَقَالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إلاهَيْنِ اثْنَيْنِ إنّما هو إلاه واحد فإيّاي فارهبون وله ما في السماوات والأرض وَلَهُ الدِّينُ ( الطاعة والإخلاص .
) وَاصِباً ( دائماً ثابتاً .
وقال ابن عبّاس : واجباً ، تعني الآية أنه ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع عنه بزوال أو هلاك غير الله عزّ وجلّ ، فإن الطاعة تدوم له وتصيب واصباً على القطع .
قال أبو الأسود الدؤلي :
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه
يوماً بذم الدهر أجمع واصباً
أي دائماً .
وقال الفراء : ويقال خالصاً .
) أفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ وما بِكُمْ ( .
قال الفراء : ( ما ) في معنى الجزاء ولها فعل مضمر ، كأنه قال : وما يكون لكم من نعمة فمن الله .
) أفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ ( ( . . . . . ) أن لاّ تتقوا سواه
النحل : ( 53 ) وما بكم من . . . . .
) وما بكُمْ مِنْ نِعْمَة فَمِنَ اللهِ ( لذلك دخلت الفاء في قوله : ) فمن الله ( .
) ثُمَّ إذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإلَيْهِ تَجْأرُونَ ( يصيحون بالدعاء ويضجون بالاستغاثة . وأصله من جؤار الثور إذا رفع صوتاً شديداً من جوع أو فزع . قال القتيبي يصف بقرة :
فطافت ثلاثاً بين يوم وليلة
وكأن النكير أن تضيف وتجأرا
النحل : ( 54 ) ثم إذا كشف . . . . .
) ثُمَّ إذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ( بعد ما خلصوا له بالدعاء في حال البلاء
النحل : ( 55 ) ليكفروا بما آتيناهم . . . . .
) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ ( كفروا نعمته فيما أعطيناهم من النعماء وكشف الضرّ والبلاء ) فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( وهذا وعيد لهم
(6/22)
" صفحة رقم 23 "
النحل : ( 56 ) ويجعلون لما لا . . . . .
) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ ( له نفعاً ولا فيه ضراً ولا نفعاً ) نَصِيباً مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ( من الأموال وهو ما حملوا لأوثاونهم من هديهم وأنعامهم نظيره قوله ) هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا ( .
ثمّ رجع من الخبر إلى الخطاب فقال : ) تَاللهِ لَتُسْألُنَّ ( يوم القيامة ) عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ( في الدنيا
النحل : ( 57 ) ويجعلون لله البنات . . . . .
) وَيَجْعَلُونَ للهِ البَنَاتِ سُبْحَانَهُ ( وهم خزاعة وكنانة قالوا : الملائكة بنات الله سبحانه .
) وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ ( يعني البنين ، وفي قوله : ) ما ( وجهان من الأعراب : أحدهما الرفع على الابتداء ، ومعنى الكلام : يجعلون لله البنات ولهم البنين ، والثاني : النصب عطفاً على البنات تقديره : ويجعلون لله البنات ويجعلون لهم البنين الذي يشتهون .
النحل : ( 58 ) وإذا بشر أحدهم . . . . .
) وَإذَا بُشِّرَ أحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً ( من الكراهة ) وَهُوَ كَظِيمٌ ( ممتليء غماً وغيظاً
النحل : ( 59 ) يتوارى من القوم . . . . .
) يَتَوَارَى ( يخفى ويغيب ) مِنَ القَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ( من الخزي والعار والحياء ثمّ يتفكر ) أيُمْسِكُهُ ( ذكر الكناية لأنه مردود إلى ( ما ) ) عَلَى هُون أمْ يَدُسُّهُ ( يخفيه ) فِي التُّرَابِ ( فيئده .
وذلك أن مضر وخزاعة وتميماً كانوا يدفنون الإناث أحياء زعموا خوف الفقر عليهن وطمع غير الأكفاء فيهن ، وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحس بشيء من ذلك وجه إلى والد البنت يستحييها بذلك ، ولذلك قال الفرزدق :
ومنا الذي منع الوائدات
فأحيا الوئيد فلم يوأد
) ألا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ( بئس ما ( يجعلون لله الإناث ) ولأنفسهم البنين ، نظيره قوله تعالى : ) ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى 2 )
النحل : ( 60 ) للذين لا يؤمنون . . . . .
) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ( يعني لهؤلاء الواضعين لله سبحانه البنات ) مَثَلُ السَّوْءِ ( احتياجهم إلى الأولاد وكراهيتهم الإناث منهم أو قتلهم إياها خوف الفقر وإقراراً على أنفسهم بالهتك لقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أكبر الكبائر أن تدعو لله ندّاً وهو خلقك ، وأن تقتل ولدك من أجل أن يأكل معك وأن تزني بحليلة جارك ) .
) وَللهِ المَثَلُ الأعْلَى ( الصفة العليا وهي التوحيد والإخلاص .
وقال ابن عبّاس : مثل السوء : النار ، والمثل الأعلى : شهادة أن لا إله إلاّ الله .
(6/23)
" صفحة رقم 24 "
) وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ (
.
) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلاكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَئَخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَِّنُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِى اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( 2
النحل : ( 61 ) ولو يؤاخذ الله . . . . .
) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ( فيعاجلهم بالعقوبة على كفرهم وعصيانهم ) مَا تَرَكَ عَلَيْهَا ( أي على ظهر الأرض كناية عن غير مذكور ) مِنْ دَابَّة وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ ( يمهلهم عليه ) إلَى أجَل مُسَمّىً ( منتهى آجالهم ساعة وانقضاء أعمارهم ) فَإذَا جَاءَ أجَلُهُمْ لا يَسْتَأخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ( ولا يقال موت قبله
النحل : ( 62 ) ويجعلون لله ما . . . . .
) وَيَجْعَلُونَ للهِ مَا يَكْرَهُونَ ( لأنفسهم ، يعني البنات ) وَتَصِفُ ألْسِنَتُهُمُ الكَذِبَ أنَّ لَهُمُ الحُسْنَى ( محل ( ان ) نصب بدل عن الكذب لأنه بيان وترجمة له .
وقرأ ابن عبّاس : والحسنى ( الكذب ) برفع الكاف والذال والباء على نعت الألسنة ، والكذب : جمع كذوب ، مثل رسول ورسل وصبور وصبر وشكور وشكر .
) أن لهم الحسنى ( يعني اليقين ومعنى الآية : ويجعلون له البنات ويزعمون أن لهم البنين .
وقال حيان : يعني بالحسنى الجنة في المعاد إن كان محمّد صادقاً في البعث .
) لا جَرَمَ ( حقاً ، وقال ابن عبّاس : بلى .
) أنَّ لَهُمُ النَّارَ ( في الآخرة ) وَأنَّ لَهُمْ مُفْرَطُونَ ( منسيون في النار .
قال ابن عبّاس وسعيد بن جبير : مبعدون .
مقاتل : متروكون .
قتادة : معجلون إلى النار .
الفراء : مقدمون على النار .
وقرأ نافع : ( مفرطون ) بكسر الراء مع التخفيف أي مسرفون ، وقرأ أبو جعفر : بكسر الراء مع التشديد أي مضيّعون أمر الله تعالى .
النحل : ( 63 ) تالله لقد أرسلنا . . . . .
) تَاللهِ لَقَدْ أرْسَلْنَا إلَى أُمَم مِنْ قَبْلِكَ ( كما أرسلناك إلى هذه الأُمة ) فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَان
(6/24)
" صفحة رقم 25 "
أعْمَالَهُمْ ( الخبيثة التي كانوا عليها مقيمين ) فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليَوْمَ ( ناصرهم ومعينهم وقرينهم ومتولي أمورهم ) وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ ( في الآخرة .
النحل : ( 64 ) وما أنزلنا عليك . . . . .
) وَمَا أنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ( من الدين والأحكام ) وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْم يُؤْمِنُونَ ( عطف الهدى والرحمة على موضع قوله ( لتبين ) لأن محله نصب ومجاز الكلام : وما أنزلنا عليك الكتاب إلاّ بيانا للناس وهدى ورحمة .
( ) وَاللَّهُ أَنزَلَ مِنَ الْسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الاَْرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَإِنَّ لَكُمْ فِى الاَْنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ (
[ / مق ]
) وَاللهُ أنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالاَْعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِى مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَىْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِى الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّى رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ شَيْئًا وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الاَْمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (
النحل : ( 65 ) والله أنزل من . . . . .
) والله أنزل من السماء ماء ( يعني المطر ) فَأحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ( جدوبها ودروسها ) إنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْم يَسْمَعُونَ ( بسمع القلوب ولا بسمع الآذان .
النحل : ( 66 ) وإن لكم في . . . . .
) وَإنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً ( لعظة ) نُسْقِيكُمْ ( .
قرأ أهل المدينة وابن عامر ونافع وعاصم بفتح النون .
وقرأ الباقون بضمه . واختاره أبو عبيد قال : لأنه شراب دائم .
وحكى عن الكسائي أن العرب تقول : أسقيته نهراً وأسقيته لبناً إذا جعلت له سقياً دائماً ، فإذا أراد أنهم أعطوه شربة قالوا : سقيناه .
وقال غيره : هما لغتان يدل عليه قول لبيد في صفة السقاية :
سقى قومي بني مجد وأسقى
نميراً والقبائل من هلال
(6/25)
" صفحة رقم 26 "
فجمع بين اللغتين .
) مِمَّا فِي بُطُونِهِ ( ولم يقل بطونها والأنعام جميع ، قال المبرد : كناية إلى النعم والنعم والأنعام واحد ولفظ النعم ، واستشهد لذلك برجز بعض الأعراب .
إذا رأيت أنجما من الأسد
جبهته أو الخراة والكند
بال سهيل في الفضيح ففسد
وطاب ألبان اللقاح فبرد
ولم يقل فبردت لانه رد إلى ( اللبن أو الخراة ) .
قال أبو عبيدة والأخفش : النعم يذّكر ويؤنث فمن أنّث فلمعنى الجمع ، ومن ذكر فلحكم اللفظ ، ولأنه لا واحد له من لفظه .
وقال الشاعر يذكره :
أكل عام نِعَم تحوونه
يلقحه قوم وتنتجونه
إن له نخيل فلا يحمونه .
وقال الكسائي : ردَّ الكناية إلى المراد في بطون ماذكر .
وقال بعضهم : أراد بطون هذا الشيء ، كقول الله : ) فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي ( وقوله : ) وإني مرسلة إليهم بهدية ( الآية ) فلمّا جاء سليمان ( ولم يقل : جاءت .
وقال : الصلتان العبدي .
إن السماحة والمرؤة ضمّنا
قبراً بمرو على الطريق الواضح
وقال الآخر :
وعفراء أدنى الناس مني مودة
وعفراء عني المعرض المتواني
وقال الآخر :
(6/26)
" صفحة رقم 27 "
إذا الناس ناس والبلاد بغبطة
وإذ أُم عمّار صديق مساعف
كل ذلك على معنى هذا الشخص وهذا الشيء .
وقال المؤرج : الكناية مردودة إلى البعض والجزء ، كأنه قال : نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونه اللبن ، إذ ليس لكلّها لبن وإنما يسقى من ذوات اللبن ، فاللبن فيه مضمر .
) مِنْ بَيْنِ فَرْث ( وهو ما في الكرش فإذا أُخرج منه لا يسمى فرثاً ) وَدَم لَبَناً خَالِصاً ( خلص من الفرث والدم ولم يختلط بهما ) سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ ( جاهزاً هنيئاً يجرى في الحلق ولا يغص شاربه ، وقيل : إنه لم يغص أحد باللبن قط .
قال ابن عبّاس : إذا أكلت الدابة العلف واستقرّ في كرشها لحينه ، وكان أسفله فرث وأوسطه لبن وأعلاه دم الكبد ( فما كان ) على هذه الأصناف الثلاثة يقسم فيجري الدم في العروق ، ويجري اللبن في الضرع ، ويبقى الفرث كما هو .
النحل : ( 67 ) ومن ثمرات النخيل . . . . .
) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ ( يعني ذلكم أيضاً عبرة فيما نسقيكم ونرزقكم من ثمرات النخيل والأعناب ) تَتَّخِذُونَ مِنْهُ ( الكناية في قوله : ) منه ( عائدة إلى المذكورين .
) سَكَراً ورزقاً حسناً ( .
قال قوم : السكر : الخمر ، والرزق الحسن : الخل والعنب والتمر والزبيب ، قالوا : وهذا قول تحريم الخمر ، وإلى هذا القول ذهب ابن مسعود وابن عمرو وسعيد بن جبير وأيوب وإبراهيم والحسن ومجاهد وعبد الرحمن بن أبي ليلى والكلبي ، وهي رواية عمرو بن سفيان البصري عن ابن عبّاس قال : السكر : ماحرم من ثمرتها ، والرزق الحسن : ما حل من ثمرتهما . أما السكر فخمور هذه الأعاجم ، وأما الرزق الحسن فما تنتبذون وما تخلّلون وما تأكلون .
قال : ونزلت هذه الآية ولم يحرم الخمر يومئذ ، وإنما نزل تحريمها بعد ذلك في سورة المائدة .
وقال الشعبي : السكر : ما شربت ، والرزق الحسن : ما أكلت .
وروى العوفي عن ابن عبّاس : أن الحبشة يسمّون الخل السكر .
وقال بعضهم : السكر : النبيذ المسكر وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتد ، والمطبوخ من العصير وهو قول الضحاك والشعبي برواية مجالد وأبي روق وقول النخعي ورواية الوالبي عن ابن عبّاس ، وقيل : هو نبيذ التمر .
قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( الخمر ما اتخذ من العنب ، والسكر من التمر ، والبتع من العسل ، والمزر
(6/27)
" صفحة رقم 28 "
من الذرة ( والبيرا ) من الحنطة ، وأنا أنهاكم عن كل مسكر ) .
وقال أبو عبيدة : السكر : الطعم ، يقال : هذا سكر لك ، أي طُعم لك .
وأنشد :
جعلت عيب الأكرمين سكراً
) إنّ في ذلك لآية لقوم يعقلون }
النحل : ( 68 ) وأوحى ربك إلى . . . . .
) وأوحى ربك إلى النحل ( أي ألقى ( على مسامعها ) أو قذف في أنفسها ففهمته ، والنحل : زنابير العسل ، واحدها نحلة
) أنِ اتَّخِذِي مِنَ الجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ( يبنون ، وقال ابن زيد : هو الكرم .
النحل : ( 69 ) ثم كلي من . . . . .
) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ( ليس معنى الكل العموم وهو كقوله : ) وأوتيت من كل شيء ( وقوله : ) تدمر كل شيء بأمر ربها ( .
) فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ( فأدخلي طرق ربك ) ذُلُلا ( .
قال بعضهم : الذلل يعني الطرق ، ويقول هي مذللة للنحل .
قال مجاهد : ( لا يتوعر عليها مكان سلكته ) .
قال آخرون : الذلل نعت ( النحل ) .
قال قتادة وغيره : يعني مطيعة منقادة .
) يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُهُ ( أبيض وأحمر وأصفر ) فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ ( .
يروى أن رجلاً أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إن أخي يشتكي بطنه ، فقال : ( اسقه عسلاً ) فذهب ثمّ رجع فقال : سقيته فلم يغن عنه شيئاً . فقال عليه الصلاة والسلام : ( إذهب واسقه عسلاً فقد صدق الله وكذب بطن أخيك ) فسقاه فكأنما نشط من عقال ، ( رواه ) عطية عن أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري
(6/28)
" صفحة رقم 29 "
وقال مجاهد : ) فيه شفاء للناس ( أي في القرآن . والقول الأوّل أولى بالصواب وأليق بظاهر الكتاب .
روى وكيع عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء مافي الصدور .
الأعمش عن خيثم عن الأسود قال : قال عبد الله : عليكم بالشفائين : العسل والقرآن .
) إنَّ فِي ذَلِكَ ( أي فيما ذكرنا ) لاَيَةً لِقَوْم يَتَفَكَّرُونَ ( فيعتبرون
النحل : ( 70 ) والله خلقكم ثم . . . . .
) وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ( صبياناً وشباباً وكهولاً ) وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلَى أرْذَلِ العُمُرِ ( أي أردؤه ، يقال منه : ( ذل الرجل وفسل ، يرذل رذالة ورذولة ورذلته أنا ) .
قال ابن عبّاس : يعني إلى أسفل العمر .
مقاتل : وابن زيد : يعني الهرم .
قتادة : أرذل العمر سبعون سنة .
وروى الأصبغ بن نباتة عن علي ( ح ) قال : أرذل العمر خمس وسبعون سنة .
) لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْم شَيْئاً ( أي لا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئاً .
) إنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ( نظيرها في سورة الحج .
النحل : ( 71 ) والله فضل بعضكم . . . . .
) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْض فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا ( في الرزق ) بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أيْمَانُهُمْ ( من العبيد حتّى يستووا هم وعبيدهم في ذلك ، يقول الله جل ثناؤه : فهم لا يرضون أن يكونوا هم ومماليكهم فيما رزقناهم سواء وقد جعلوا عبيدي شركائي في ملكي وسلطاني . يلزم بهذا المثل الحجة على المشركين ، وهذا مثل ضربه الله عزّوجل ، فما منكم من يشرك مملوكه في زوجته وقرابته وماله أفتعدلون بالله خلقه وعباده ، فإن لم ترض لنفسك هذا فالله أحق أن ينزه من ذلك ولا تعدل به أحدا من عباده وخلقه .
عبد الله بن عبّاس : نزلت هذه الآية في نصارى نجران حين قالوا : عيسى ابن الله ، يقول : لا يرد المولى على ما ملكت يمينه مما رزق حتّى يكون ( المولى والملوك ) في المنال شرعاً سواء فكيف ترضون لي مالا ترضون لانفسكم نظيرها في سورة الروم ) ضرب لكم مثلاً من أنفسكم ( ( مثلا تعاينه ) .
(6/29)
" صفحة رقم 30 "
قال ) أفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ ( بالاشراك به .
قرأ عاصم : بالتاء على الخطاب ، لقوله : ) والله خلقكم ( ) والله فضّل بعضكم على بعض ( .
وقرأ الباقون : بالياء لقوله : ) فهم فيه سواء ( واختاره أبو عبيد وأبو حاتم : لقرب المخبر منه .
النحل : ( 72 ) والله جعل لكم . . . . .
) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أنفُسِكُمْ أزْوَاجاً ( يعني أنه خلق من آدم زوجته حوّاء ) وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ( .
ابن عبّاس والنخعي وابن جبير وأبو الأضحى : هم الأصهار أختان الرجل على بناته .
روى شعبة عن عاصم : بن بهدلة قال : سمعت زر بن حبيش وكان رجلاً غريباً أدرك الجاهلية قال : كنت أمسك على عبد الله المصحف فأتى على هذه الآية قال : هل تدري ما الحفدة ، قلت : هم حشم الرجل .
قال عبد الله : لا ، ولكنهم الأختان . وهذه رواية الوالبي عن ابن عبّاس .
وقال عكرمة والحسن والضحاك : هم الخدم .
مجاهد وأبو مالك الأنصاري : هم الأعوان ، وهي رواية أبي حمزة عن ابن عبّاس قال : من أعانك حفدك .
وقال الشاعر :
حفد الولائد حولهن وأسلمت
بأكفهنّ أزمّة الأجمال
وقال عطاء : هم ولد الرجل يعينونه ويحفدونه ويرفدونه ويخدمونه .
وقال قتادة : ( مهنة يمتهنونكم ) ويخدمونكم من أولادكم .
الكلبي ومقاتل : البنين : الصغار ، والحفدة : كبار الأولاد الذين يعينونه على عمله .
مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عبّاس : إنهم ولد الولد .
ابن زيد : هم بنو المرأة من الزوج الأوّل . وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس : هم بنو امرأة الرجل الأوّل .
وقال العتبي : أصل الحفد : مداركة الخطر والإسراع في المشي .
(6/30)
" صفحة رقم 31 "
فقيل : لكل من أسرع في الخدمة والعمل : حفدة ، واحدهم حافد ، ومنه يقال في دعاء الوتر : إليك نسعى ونحفد ، أي نسرع إلى العمل بطاعتك .
وأنشد ابن جرير ( للراعي ) :
كلفت مجهولها نوقاً يمانية
إذا الحداة على أكسائها حفدوا
) وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أفَبِالبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ ( .
قال ابن عبّاس : بالأصنام .
) وَبِنِعْمَةِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ( يعني التوحيد الباطل فالشيطان أمرهم بنحر البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ) وبنعمة الله ( بما أحلّ الله لهم ) هم يكفرون ( يجحدون تحليله .
النحل : ( 73 ) ويعبدون من دون . . . . .
) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماوَاتِ ( يعني المطر ) والأرض ( يعني النبات .
) شيئاً ( ، قال الأخفش : هو بدل من الرزق وهو في معنى : ما لا يملكون من الرزق شيئاً قليلاً ولا كثيراً .
قال الفراء : نصب ( شيئاً ) بوقوع الرزق عليه . كما قال سبحانه : ) ألم نجعل الأرض كفاتا أحياءً وأمواتاً ( أي يكفت الأحياء والأموات . ومثله قوله تعالى : ) أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة ( ) وَلا يَسْتَطِيعُونَ ( ولا يقدرون على شيء ،
النحل : ( 74 ) فلا تضربوا لله . . . . .
) فَلا تَضْرِبُوا للهِ الأمْثَالَ ( يعني الأشباه والأشكال فيشبهوه بخلقه ويجعلون له شريكاً فإنه واحد لا مثيل له ) إنَّ اللهَ يَعْلَمُ ( خطأ ما يضربون له من الأمثال ) وَأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ( صواب ذلك من خطأه .
( ) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَى شَىْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِى هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَمَآ أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالاَْبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (
(6/31)
" صفحة رقم 32 "
النحل : ( 75 ) ضرب الله مثلا . . . . .
ثمّ ضرب الله تعالى مثلا المؤمن والكافر فقال عز من قائل : ) ضَرَبَ اللهُ مَثَلا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْء ( هو مثل الكافر رزقه الله مالاً فلم يقدّم خيراً ولم ( يعمل ) فيه بطاعة الله تعالى ) وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً ( هو مثل المؤمن أعطاه الله مالاً فعمل فيه بطاعة الله وأنفقه فيما يرضي الله سراً وجهراً فأثابه الله على ذلك النعيم المقيم في الجنة ) هَلْ يَسْتَوُونَ ( ولم يقل يستويان لمكان ( من ) لأنه اسم مبهم يصلح للواحد ، والاثنين ، والجميع ، والمؤنث ، والمذكر ، وكذلك قوله : ) ويعبدون من دون الله مالا يملك لهم رزقاً ( ثمّ قال : ) ولا يستطيعون ( بالجمع لأجل ( ما ) ومعنى الآية : هل يستوي هذا الفقر والبخل والغنى ( والسخاء ) فكذلك لا يستوي الكافر العاصي المخالف لأمر الله والمؤمن المطيع له .
روى ابن جريج عن عطاء : ) عبداً مملوكاً ( قال : هو أبو جهل بن هشام ) ومن رزقناه منا رزقاً حسناً ( أبو بكر الصديق ( ح ) .
ثمّ قال : ) الحَمْدُ للهِ بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( يقول الله تعالى : ليس الأمر كما يفعلون ولا القول كما يقولون ، ماللأوثان عندهم من يد ، ولا معروف فيحمد عليه ، إنما الحمد هو الكامل لله خالصاً ، لأنه هو المنعم والخالق والرازق ولكن أكثر هؤلاء الكفرة لا يعلمون أنها كذلك . ثمّ ضرب مثلاً آخر بنفسه والأصنام فقال :
النحل : ( 76 ) وضرب الله مثلا . . . . .
) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كَلٌّ على مولاه أيْنَمَا يُوَجِّهْهُ ( يرسله ) لا يَأتِ بِخَيْر ( لأنه لا يفهم ما يقال ، ولا يفهم عنه .
وقال ابن مسعود : أينما توجهه لا يأت بخير ، هذا مثل للصنم الذي لا يسمع ولا ينطق ولا يعقل ولا يفعل وهو كَلّ على ( عائده ) يحتاج أن يحمله ويضعه ويخدمه ) هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأمُرُ بِالعَدْلِ ( يعني الله قادر متكلم بأمر التوحيد فليس كصنمكم ، فإنه لا يأمر بالتوحيد ) وَهُوَ عَلَى صِرَاط مُسْتَقِيم ( .
قال الكلبي : يعني وهو يدلكم على صراط مستقيم ، وقيل : هو رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو على صراط مستقيم .
قال الكلبي : يعني وهو يدلكم على صراط مستقيم .
آخر : ومن قال : كل المسلمين المؤمن والكافر ، وهي رواية عقبة عن ابن عبّاس .
وروى إبراهيم بن عكرمة بن يعلي بن منبّه عن ابن عبّاس قال : نزلت هذه الآية في عثمان ابن عفان ( ح ) ومولاه . وكان عثمان ينفق عليه ويكفيه المؤنة وكان مولاه يكره الإسلام ( ويأباه وينهاه عن ) الصدقة ويمنعه من النفقة .
وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في هاشم بن عمرو بن الحرث بن ربيعة القرشي وكان رجلاً قليل الخير يعادي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
(6/32)
" صفحة رقم 33 "
وقال عطاء : ( الأبكم أبي بن حلف ) ومن يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون .
النحل : ( 77 ) ولله غيب السماوات . . . . .
) وَللهِ غَيْبُ السَّماوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا أمْرُ السَّاعَةِ ( في قريب كونها وسرعة قيامها ) إلاَّ كَلَمْحِ البَصَرِ ( ( كالنظر في البصر ) ورجع الطرف ؛ لأن ذلك هو أن يقال له : كن فيكون ، ) أوْ هُوَ أقْرَبُ ( بل هو أقرب ) إنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ ( نزلت في الكفار الذين استعجلوا القيامة إستهزاء منهم .
النحل : ( 78 ) والله أخرجكم من . . . . .
) وَاللهُ أخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ( .
قرأ الأعمش : ) إمهاتكم ( بكسر الألف والميم .
وقرأ حمزة والكسائي بكسر الألف وفتح الميم .
وقرأ الباقون بضم الألف وفتح الميم .
وأصل الأمهات : أمات ، فزيدت الهاء للتأكيد كما زادوها في أهرقت الماء وأصله أرقت ) لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً ( هذا كلام تام .
ثمّ ابتدأ فقال : ) وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ ( لأن الله تعالى جعل ( لعباده السمع ) والأبصار والأفئدة قبل إخراجهم من بطون أمهاتهم وإنما ( أعطاهم العلم ) بعد ما أخرجهم منها ) لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( نعمه .
( ) أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِى جَوِّ السَّمَآءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِى ذالِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الاَْنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلَالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ( 2
النحل : ( 79 ) ألم يروا إلى . . . . .
) ألَمْ يَرَوْا ( . قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة ويعقوب بالتاء .
وقرأ عاصم بضمر التاء . واختاره أبو عبيد لما قبلها .
) إلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَات ( مذللات ) فِي جَوِّ السَّمَاءِ ( أي في الهواء بين الأرض والسماء ^
(6/33)
" صفحة رقم 34 "
) مَا يُمْسِكُهُنَّ ( في الهواء ) إلاَّ اللهُ إنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَات لِقَوْم يُؤْمِنُونَ (
النحل : ( 80 ) والله جعل لكم . . . . .
) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ ( التي هي من الحجر والمدر ) سَكَناً ( مسكناً تسكنونه .
قال الفراء : السكن : الدار ، والسكن بجزم الكاف : أهل البلد .
) وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتاً ( يعني الخيام والقباب والأخبية ( والفساطيط من الأنطاع ) والأدم وغيرها ) تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ ( رحلكم وسفركم ) وَيَوْمَ إقَامَتِكُمْ ( في بلادكم ( لا يثقل ) عليكم في الحالتين .
واختلف القرّاء في قوله : ) يوم ظعنكم ( .
فقرأ الكوفيون بجزم العين ، وقرأ الباقون : بفتحه . وإختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، لأنه ( أشهر ) اللغتين وأفصحهما . ) وَمِنْ أصْوَافِهَا ( يعني أصواف الضان وأوبار الإبل وأشعار المعز . والكنايات كلها راجعة إلى الأنعام .
) أثَاثاً ( قال ابن عبّاس : مالا ، مجاهد : ( متاعاً ) .
حميد بن عبد الرحمن : ( أثاثاً يعني ) الأثاث : المال أجمع من الإبل والغنم والعبيد ، والمتاع غيره هو متاع البيت من الفرش والأكسية وغيرها ولم يسمع له واحد مثل المتاع .
وقال أبو زيد : واحد الأثاث أثاثة . قال الخليل : أصله من الكثرة واجتماع بعض المتاع إلى بعض حتّى يكثر ومنه شعر الشعراء كثر وأثّ شعر فلان أي إذا كثر والتف .
قال أمرؤ القيس :
أثيث كقنو النخلة المتعال
قال محمّد بن نمير الثقفي في الأثاث :
أهاجتك الظعائن يوم بأتوا
بذي الزي الجميل من الأثاث
) وَمَتَاعاً ( ( بلاغاً ) تنتفعون بها ) إلَى حِين ( يعني الموت . وقيل : إلى حين يبلى ويفنى .
النحل : ( 81 ) والله جعل لكم . . . . .
) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا ( تستظلون بها من شدة الحر وهو ظلال الأشجار والسقوف والأبنية ) ومِنَ الجِبَالِ أكْنَاناً ( يعني الغيران والأسراب والمواضع التي تسكنون فيها واحدها كنّ ) وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ ( قمصاً من الكتان والقطن والخز والصوف ) تَقِيكُمُ ( تمنعكم
(6/34)
" صفحة رقم 35 "
) الحَرَّ ( .
( وقال ) أهل المعاني : ( أراد ) الحر والبرد فأكتفى بأحدهما عن الآخر بدلالة الكلام عليه نظيره قوله : ) إن علينا للهدى ( يعني الهدي والإضلال .
) وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأسَكُمْ ( يعني الدروع ولباس الحرب والمعنى : تقيكم في بأسكم السلاح أن يصل إليكم ) كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ( يخضعون له بالطاعة ويخلصون له بالعبادة .
وروى نوفل بن أبي ( عقرب ) عن ابن عبّاس أنه قرأ : ( يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون ) بالفتح ، يعني من الجراحات .
قال أبو عبيد : الاختيار قراءة العامّة ، لأن ما أنعم الله علينا في الإسلام أكثر من إنعامه علينا في السلامة من الجراح .
وقال عطاء الخراساني في هذه الآية : إنما أنزل القرآن على قدر معرفتهم ألا ترى إلى قوله تعالى : ) وجعل لكم من الجبال اكناناً ( وما جعل لكم من السهول أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب جبال . وقال : ) ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها ( وما جعل لهم من غير ذلك أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشعر . الا ترى إلى قوله : ) وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ( وما ينزل من ( الثلج ) أعظم وأكثر ولكنهم كانوا لا يعرفونه ، ألا ترى إلى قوله : ) سرابيل تقيكم الحر ( وما يقي من البرد أعظم وأكثر ولكنهم ظلوا أصحاب حر .
النحل : ( 82 - 83 ) فإن تولوا فإنما . . . . .
) فَإنْ تَوَلَّوْا فَإنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ المُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللهِ ( .
قال السدي : يعني محمد ( صلى الله عليه وسلم )
) ثُمَّ يُنكِرُونَهَا ( يكذبون ويجحدون نبوّته .
قال مجاهد : يعني ما عدد عليهم في هذه السورة من النعم ينكرون ذلك فيزعمون أنهم ورثوا ذلك عن آبائهم ، وبمثله قال قتادة .
وقال الكلبي : وإن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذكر هذه النعم لهم فقالوا : نعم هذه كلها من الله تعالى ولكنها بشفاعة آلهتنا . وقال عون بن عبد الله : هو قول الرجل لولا فلان لكان كذا ، لولا فلان ما أصبت كذا .
(6/35)
" صفحة رقم 36 "
) وَأكْثَرُهُمُ الكَافِرُونَ ( الجاحدون .
( ) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ وَإِذَا رَءَا الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَاؤُلآءِ شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَاؤُلآءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ( 2
النحل : ( 84 ) ويوم نبعث من . . . . .
) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّة شَهِيداً ( يعني رسولها ) ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ( في الاعتذار ) وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ( يسترضون ، يعني لا يكلّفون أن يرضوا ربهم لأن الآخرة ليست بدار تكليف ، ولا يتركون للرجوع إلى دار الدنيا ( فيتوبون
النحل : ( 85 ) وإذا رأى الذين . . . . .
) وَإذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُوا ( كفروا ) العَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ ( يؤخّرون
النحل : ( 86 ) وإذا رأى الذين . . . . .
) وَإذَا رَأى الَّذِينَ أشْرَكُوا ( يوم القيامة ) شُرَكَاءَهُمْ ( أوثانهم ) قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ ( أرباباً ونعبدهم ) فَألْقَوْا إلَيْهِمُ القَوْلَ ( أي قالوا لهم ، يقال : ألقيت إليك كذا ، يعني : قلت لك ) إنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ ( في تسميتنا آلهة ما دعوناكم إلى عبادتنا ولا علمنا بعبادتكم إيانا
النحل : ( 87 ) وألقوا إلى الله . . . . .
) وَألْقَوْا ( يعني المشركين ) إلَى اللهِ يَوْمَئِذ السَّلَمَ ( استسلموا وانقادوا لحكمه فيهم ولم تغن عنهم آلهتهم شيئاً ) وَضَلَّ ( زال ( . . . . . . . . ) ) عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ( من إنها تشفع لهم .
النحل : ( 88 ) الذين كفروا وصدوا . . . . .
) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فَوْقَ العَذَابِ ( .
روى عبد الله بن مرة عن مسروق قال : قال عبد الله : ) زدناهم عذاباً فوق العذاب ( ، قال : عقارب لها أنياب أمثال النخل الطوال ، ابن عبّاس ومقاتل : يعني خمسة أنهار من صفر مذاب كالنار يسيل من تحت العرش ، يعذبون بها ثلث على مقدار الليل وثلثان على مقدار النهار .
سعيد بن جبير : حيّات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال تلسع إحداهن اللسعة يجد صاحبها حمّتها أربعين خريفاً .
وقيل : إنهم يخرجون من حر النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة الزمهرير إلى النار .
ويقال : هو أنهم يحملون أثقال أتباعهم . كما قال الله تعالى ) وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم ( .
(6/36)
" صفحة رقم 37 "
ويقال : إنه يضاعف لهم العذاب .
) بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ ( في الدنيا من الكفر وصد الناس عن الإيمان
النحل : ( 89 ) ويوم نبعث في . . . . .
) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّة شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أنفُسِهِمْ ( يعني عليها ، وإنما قال : ) من أنفسهم ( لأنه كان يبعث إلى الأُمم أنبياءها منها ) وَجِئْنَا بِكَ ( يا محمّد ) شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ ( الذين بُعثت إليهم ) وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء ( يحتاج إليه من الأمر والنهي ، والحلال والحرام ، والحدود والأحكام ) وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين 2 )
النحل : ( 90 ) إن الله يأمر . . . . .
) إنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعَدْلِ ( يعني بالإنصاف ) وَالإِحْسَانِ ( إلى الناس ، الوالبي عن ابن عبّاس : العدل : التوحيد ، والإحسان أداء الفرائض .
( وقيل : ) العدل : شهادة أن لا إله إلاّ الله ، والاحسان : الاخلاص فيه .
عطاء عنه : العدل : مصطلح الأنداد ، والإحسان : أن تعبد الله كأنك تراه ، مقاتل : العدل : التوحيد ، والإحسان : العفو عن الناس ، وقيل : العدل في الأفعال والإحسان في الأقوال . كقوله : ) وقولوا للناس حسناً ( .
) وَإيتَاءِ ذِي القُرْبَى ( صلة الرحم ) وَيَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ ( القبيح من الأقوال والأفعال .
وقال ابن عبّاس : الزنا .
) وَالمُنكَرِ ( ما لا يُعرف في شريعة ولا سنّة ) وَالبَغْيِ ( الفسق والظلم .
وقال ابن عيينة : ( والعدل في مستوى ) السر والعلانية . والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته . والفحشاء أن تكون علانيته أحسن من سريرته .
) يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( تتعظون .
قتادة : إن الله تعالى أمر عباده بمكارم الأخلاق ومعاليها ، ونهاهم عن سفاسف الأخلاق ومذاقها .
وقال ابن مسعود : وأجمع آية في القرآن هذه الآية .
شهر بن حوشب عن ابن عبّاس قال : بينما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بفناء بيته بمكة جالساً إذ مرَّ به عثمان بن مظعون فكسر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له رسول الله : ( ألا تجلس ) قال : بلى ، فجلس إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مستقبله فبينما هو يحدّثه إذ شخص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بصره إلى السماء فنظر ساعة فأخذ يضع بصره حتّى وقع على يمينه في الأرض فتحرّف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره فأخذ ينغض رأسه كأنّه يستفهم شيئاً يقال له ، ثمّ شخص رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بصره إلى السماء كما شخص أول مرة فأتبعه بصره حتّى توارى في السماء فأقبل إلى
(6/37)
" صفحة رقم 38 "
عثمان كحالته الأولى ، فقال : يا محمّد فيما كنت أُجالسك ما رأيتك تفعل فعلتك لغداة ؟ قال : ( وما رأيتني فعلت ) ؟ قال : رأيتك تشخص بصرك إلى السماء ثمّ وضعته على يمينك فتحرّفت إليه وتركتني ، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفهم شيئاً يقال لك . فقال : ( أو فطنت إلى ذلك ) ؟ قال : نعم ، قال : ( أتاني رسول الله جبرائيل آنفاً وأنت جالس ) قال : نعم : فماذا قال : لك ؟ قال : قال : ) إنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ ( إلى آخره .
قال عثمان : فذلك الحين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) .
وروى حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قرأ على الوليد بن المغيرة ) إنَّ اللهَ يَأمُرُ بِالعَدْلِ ( إلى آخر الآية ، قال له : يابن أخ أعد ، فأعاد عليه . فقال : إن له والله لحلاوة وإن عليه لطلاوة فإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وما هو بقول بشر ، ثمّ لم يسلم ، فأنزل الله فيه : ) وأعطى قليلا وأكدى 2 )
النحل : ( 91 ) وأوفوا بعهد الله . . . . .
) وَأوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنقُضُوا الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ( تشديدها ( ويحنثوا فيها ) ، والتوكيد لغة أهل الحجاز ، أمّا أهل نجد فإنهم يقولون : أُكّدت تأكيداً ) وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا ( بالوفاء ) إنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ( واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية وإن كان حكمها عاماً .
فقال بعضهم : نزلت في الذين بايعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أمرهم الله بالوفاء بها .
وقال مجاهد وقتادة : نزلت في حِلف أهل الجاهلية .
ثمّ ضرب جلّ ثناؤه مثلاً لنقض العهد ، فقال عز من قائل :
النحل : ( 92 ) ولا تكونوا كالتي . . . . .
) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّة ( أي من بعد إبرامه وإحكامه ، وكان بعض أهل اللغة يقول : القوة ما غزل على طاقة واحدة ولم يثن .
الكلبي ومقاتل : هي امرأة خرقاء حمقاء من قريش يقال لها : ريطة بنت عمرو بن سعد بن كعب بن زيد مناة بن تميم كانت اتخذت مغزلاً بقدر ذراع وصنارة مثل الإصبع وفتل عظمة على قدرها وكانت تغزل من الصوف والشعر والوبر وتأمر جواريها بذلك فكنّ يغزلنّ من الغداة إلى نصف النهار ، فإذا إنتصف النهار أمرت جواريها بنقض جميع ما غزلن فهذا كان دأبها .
وقوله ) أنكَاثاً ( يعني أنقاضاً واحدتها نكثة ، وهو كل ما نقض بعد الفتل غزلاً كان أو حبالاً ) تَتَّخِذُونَ أيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ ( أي دخلاً وخيانة وخديعة .
قال أبو عبيدة : كل أمر لم يكن صحيحاً فهو دخل
(6/38)
" صفحة رقم 39 "
) أنْ تَكُونَ ( أي لأن تكون ) أُمَّةٌ هِىَ أرْبَى ( أكثر وأجلّ ) مِنْ أُمَّة ( .
قال مجاهد : ذلك أنهم كانوا يحالفون الحلف فيجدون أكبر منهم وأعز ويستيقنوه فيحلف هؤلاء ويحالفون الأكثر فنهاهم الله تعالى عن ذلك ) إنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ ( يختبركم بأمره إياكم بالوفاء بالعهد ) وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ( في الدنيا
النحل : ( 93 ) ولو شاء الله . . . . .
) وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً ( على ملّة واحدة ، ) وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ ( بخذلانه إياهم عدلا منه فيهم ) وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ( بتوفيقه إياهم فضلاً منه ) وَلَتُسْألُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( .
) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإْحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِى الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْى يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الاَْيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءَانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ( 2
النحل : ( 94 ) ولا تتخذوا أيمانكم . . . . .
) وَلا تَتَّخِذُوا أيْمَانَكُمْ دَخَلا ( خديعة وفساداً ) بَيْنَكُمْ ( يغرون بها الناس فتسكنون إلى إيمانكم ويأمنون ثمّ ينقضونها ويختلفون فيها ) فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا ( فتهلكوا بعد ما كنتم آمنين ، والعرب تقول لكل مبتل بعد عافية أو ساقط في ورطة بعد سلامة : زلّت قدميه .
كقول الشاعر :
سيمنع منك السبق إن كنت سابقاً
وتلطع إن زلت بك القدمان
) وَتَذُوقُوا السُّوءَ ( العذاب ) بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (
النحل : ( 95 ) ولا تشتروا بعهد . . . . .
) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلا ( يعني ولا تنقظوا عهودكم تطلبون بنقضها عوضاً قليلاً من الدنيا ، ولكن أوفوا بها
(6/39)
" صفحة رقم 40 "
فإنما عند الله من الثواب لكم على الوفاء بذلك ) خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( فصل ما بين العوضين ثمّ بين ذلك
النحل : ( 96 ) ما عندكم ينفد . . . . .
) مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللهِ بَاق وَلَنَجْزِيَنَّ ( بالنون عاصم . الباقون بالياء .
) الَّذِينَ صَبَرُوا ( على الوفاء في السرّاء والضراء ) أجْرَهُمْ بِأحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( دون أسوأها ويغفر سيئاتهم بفضله
النحل : ( 97 ) من عمل صالحا . . . . .
) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَر أوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ( اختلفوا فيها :
فقال سعيد بن جبير وعطاء والضحاك : هي الرزق الحلال ، وهو رواية ابن أبي مالك وأبي الربيع عن ابن عبّاس .
وقال الحسن وعلي وزيد و وهب بن منبّه : هي القناعة والرضا بما قسم الله ، وهذه رواية عكرمة عن ابن عبّاس .
وقال مقاتل بن حيان : يعني أحسن في الطاعة ، وهي رواية عبيد بن سليم عن الضحاك ، فقال : من يعمل صالحاً وهو مؤمن في فاقة أو ميسرة فحياة طيبة . ومن أعرض عن ذكر الله فلم يؤمن ولم يعمل عملاً صالحاً فمعيشة ضنك لا خير فيها .
أبو بكر الوراق : هي حلاوة الطاعة .
الوالبي عن ابن عبّاس : هي السعادة ، مجاهد وقتادة وابن زيد : هي الجنة ، ومثله روي عن الحسن وقال : لا تطيب الحياة لأحد إلاّ في الجنة .
) ولَنَجْزِيَنَّهُمْ أجْرَهُمْ بِأحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( .
قال أبو صالح : جلس ناس من أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الأوثان ، فقال هؤلاء : نحن أفضل ، وقال هؤلاء : نحن أفضل ، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية
النحل : ( 98 ) فإذا قرأت القرآن . . . . .
) فَإذَا قَرَأتَ القُرْآنَ ( يعني فإذا كنت قارئاً للقرآن ) فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ( .
قال محمّد بن جرير ، وقال الآخرون : مجازه : فإذا أردت قراءة القرآن فاستعذ ، كقوله : ) إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ( الآية ، أي الطهارة مقدمة على الصلاة ، وقوله : ) وإذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ( معناها وإذا أردتم تطليق النساء لأنه محال أن يأمرهم بالتطليق المعين بعد ما مضى التطليق . وأما حكم الآية : فاعلم أن الاستعاذة عند قراءة القرآن مستحبة في الصلاة وغير الصلاة ، هذا قول جماعة الفقهاء إلاّ مالكاً ، فإنه لا يتعوذ إلاّ في قيام رمضان ، واحتج بما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يفتتح الصلاة بالحمد لله رب العالمين ، وإنما تأويل هذا
(6/40)
" صفحة رقم 41 "
الحديث أنه كان يفتتح القراءة في الصلاة بالحمد لله رب العالمين ، يدل عليه أن الصلاة تفتتح بالتكبير بلا خلاف على أن الخبر متروك الظاهر .
ويدل على صحة ما قلنا حديث جبير بن مطعم قال : رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصلّي فقال : ( الله أكبر كبيراً والحمد لله وسبحان الله بكرة وأصيلاً ، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من نفخة ونفثة وهمزة ) .
وقال ابن مسعود : نفخة الكبر ونفثة الشعر وهمزة المرض يعني الجنون ، فإذا تقرر هذا ثبت أن الخبر المتقدم متروك بالظاهر مأخوذ المعنى .
واختلف الفقهاء في وقت الاستعاذة :
فقال أكثرهم : قبل القراءة ، وهو قول الجمهور ، وهو الصحيح المشهور .
وقال أبو هريرة : يتعوذ بعد القراءة وإليه ذهب داود بن علي .
وقال مالك في الصلاة التي يتعوذ فيها وهي قيام رمضان : يتعوذ بعد القراءة واحتج بظاهر الآية ، وقد بينّا وجهها ، والدليل على أنها قبل القراءة ، ماروى أبو المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ) ثمّ يقرأ ، وأما الكلام في محل الاستعاذة في الصلاة ، فقد قال الشافعي : يقولها في أول الركعة ، وقيل : إن قال حيث يفتتح كل ركعة قبل القراءة فحسن ما يقرأ به في شيء من الصلاة كما أمره به في أول ركعة . هذا قول عامة الفقهاء .
وقال ابن سيرين : يتعوذ في كل ركعة قبل القراءة . والصحيح المذهب الأوّل ، لأن المروي في الأخبار أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما كان يتعوّذ إلاّ في الأولى ، وأما صفتها وفي الصلاة فهي أن ينظر فإن كانت صلاة يسرّ فيها بالقراءة أسرّ فيها بالاستعاذة ، وإن كانت يجهر فيها بالقراءة :
فقال الشافعي في ( الأم ) : روي أن أبا هريرة أمّ الناس رافعاً صوته : ربنا إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم ، وكان ابن عمر يعوذ في نفسه .
قال الشافعي : فإن شاء جهر بها وإن شاء أسرّ بها .
قال الثعلبي : والاختيار الاخفاء ليفرّق بين ما هو قرآن وما هو ليس بقرآن .
فأما لفظة الاستعاذة فالأولى والمستحب أن يقول : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ؛ لنص القرآن والخبر المتصل المتسلسل ، وهو أني قرآت على الشيخ أبي الفضل محمّد بن أبي جعفر
(6/41)
" صفحة رقم 42 "
الخزاعي ، فقلت : أعوذ بالسميع العليم ، فقال لي : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم في المواضع كلّها فأني قرأت على أبي الحسين عبد الرحمن بن محمّد بالبصرة فقلت : أعوذ بالسميع العليم ، فقال : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فأني قرأت على عبد الله أبي حامد الزنجاني فقلت : أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ، فقال لي : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فأني قرأت على أبي عثمان إسماعيل بن إبراهيم الأهوازي فقلت : أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم ، فقال لي : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فأني قرأت على محمّد بن عبد الله بن بسطام فقلت : أعوذ بالسميع العليم ، فقال لي : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فأني قرأت على روح بن عبد المؤمن فقلت : أعوذ بالسميع العليم ، فقال لي : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فأني قرأت على يعقوب الحضرمي فقلت : أعوذ بالسميع العليم ، فقال لي : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فأني قرأت على سلام بن المنذر ، فقلت : أعوذ بالسميع العليم ، فقال لي : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فلقد قرأت على عاصم فقلت : أعوذ بالسميع العليم ، فقال لي : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فلقد قرأت على زر بن حبيش فقلت : أعوذ بالسميع العليم ، فقال لي : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فلقد قرأت على عبد الله بن مسعود فقلت : أعوذ بالسميع العليم ، فقال لي : قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، فلقد قرأت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقلت : أعوذ بالله السميع العليم ، فقال لي : ( يا ابن أم عبد قل : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبرائيل عن القلم عن اللوح المحفوظ ) .
قال ابن عجلان : وهكذا علمني أخي أحمد ، وقال : هكذا علمني أخي ، وقال : هكذا علمني وكيع بن الجراح ، وقال : هكذا علمني سفيان الثوري .
النحل : ( 99 ) إنه ليس له . . . . .
) إنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ ( حجة وولاية ) عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( .
قال سفيان : ليس له سلطان أن يحملهم على ذنب لا يغفر .
النحل : ( 100 ) إنما سلطانه على . . . . .
) إنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ( يطيعونه ) وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ ( أي بالله ) مُشْرِكُونَ ( .
وقال بعضهم : الكناية راجعة إلى الشيطان ، ومجاز الكلام : الذين يسمعون قوله مشركون بالله ، وهذا كما يقال : صار فلان بك عالماً ، أي من أجلك وبسببك عالماً .
( ) وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَاذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُّبِينٌ إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إِنَّمَا يَفْتَرِى الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُوْلائِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ مَن كَفَرَ بِاللَّه
(6/42)
" صفحة رقم 43 "
ِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَاكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( 2
النحل : ( 101 ) وإذا بدلنا آية . . . . .
) وَإذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَة ( يعني وإذا نسخنا حكم آية فأبدلنا مكانه حكماً آخر ، ) وَاللهُ أعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ( فيما يغيّر ويبدل أعلم بما هو أصلح لخلقه فيما عدّل من أحكامه ) قَالُوا إنَّمَا أنْتَ ( يا محمّد ) مُفْتَر ( وذلك أن المشركين قالوا : إن محمداً يسجد بأصحابه يأمرهم اليوم ويأمّرهم غداً ويأتيهم بما هو أهون عليهم ، وما هو إلا مفتر يتقوله من تلقاء نفسه .
قال الله : ) بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ( حقيقة القرآن وبيان الناسخ والمنسوخ من الأحكام
النحل : ( 102 ) قل نزله روح . . . . .
) قُلْ نَزَّلَهُ ( يعني القرآن ) رُوحُ القُدُسِ ( جبرئيل ) مِنْ رَبِّكَ بِالحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا ( تثبيتاً للمؤمنين وتقوية لإيمانهم ( . . . . . . ) تصديقاً ويقيناً ) وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }
النحل : ( 103 ) ولقد نعلم أنهم . . . . .
) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ( آدمي وما هو من عند الله ، واختلف العلماء في هذا البشر من هو :
قال ابن عبّاس : كان قيناً بمكة اسمه بلعام وكان نصرانياً يسمى اللسان وكان المشركون يرون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يدخل عليه ويخرج منه فقالوا : إنما يعلمه بلعام ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال عكرمة وقتادة : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقرّي غلاماً لبني المغيرة يقال له يعيش وكان يقرأ الكتب ، ( فقالوا ) : إنما يعلمه يعيش فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال الفراء : قال المشركون إنما يتعلّم محمّد عن مملوك كان لحويطب بن عبد العزى وكان قد أسلم فحسن إسلامه وكان أعجمي فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال ابن إسحاق : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما بلغني كثيراً ما يجلس عند المروة إلى غلام رومي نصراني ، يقال له : خير ، عبد لبعض بني الحضرمي وكان يقرأ الكتب .
وقال المشركون : والله ما يعلم محمداً كثيراً ما يأتي به إلاّ خير النصراني ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال طلحة بن عمر : بلغني أن خديجة خ كانت تختلف إلى خير فكانت قريش تقول : إن عبد بني الحضرمي يعلّم خديجة وخديجة ، تعلّم محمّداً فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قال عبيد الله بن مسلم الحضرمي : كان لنا عبدان من أهل ( عين التمر ) يقال لأحدهما
(6/43)
" صفحة رقم 44 "
يسار وللآخر خير ، وكانا يصنعان السيوف بمكة وكانا يقرآن بالتوراة والإنجيل ، فربما مرَّ بهما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهما يقرآن فيقف فيسمع .
وقال الضحاك : وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا آذاه الكفار يقصد إليهما فيستروح بكلامهما ، فقال المشركون : إنما يتعلم محمّد منهما ، فنزلت هذه الآية .
وقال السدي : كان بمكة رجل نصراني يقال له ابن ميسرة يتكلّم بالرومي ، فربما يقعد إليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال الكفار : إنما يتعلم محمّد منه ، فنزلت هذه الآية .
وروى علي بن الحكم وعبيد بن سليمان عن الضحاك : ) إنما يعلمه بشر ( قال : كانوا يقولون : إنما يعلمه سلمان الفارسي ، وهذا قول غير مرضي ؛ لأن سلمان إنما أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة وهذه الآية مكية .
قال الله تكذيباً لهم ( وإلزاماً ) للحجة عليهم : ) لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إلَيْهِ ( أي يميلون إليه ويشيرون إليه . وخص الكسائي هذا الحرف من بين سائره فقرأ بفتح الياء والحاء ؛ لأنه كان يحدّثه عن سفيان عن أبي إسحاق عن أصحاب عبد الله كذلك .
) أعْجَمِيٌّ ( والفرق بين الأعجمي والعجمي ، والعربي والإعرابي : أن الأعجمي لا يفصح وأنه كان نازلاً بالبادية والعجمي منسوب إلى العجم وإن كان فصيحاً . والإعرابي : البدوي ، والعربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن فصيحاً .
) وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ( فصيح ، وأراد باللسان القرآن ؛ لأن العرب تقول للقصيدة واللغة : لسان ، كقول الشاعر :
لسان السوء تهديها إلينا
وحنت ما حسبتك أن تحينا
يعني باللسان القصيدة والكلمة .
النحل : ( 104 ) إن الذين لا . . . . .
) إنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ ( ثمّ إن الله تعالى بعدما أخبر عن إغراء المشركين على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما نسبوه إليه من الافتراء على الله وتبين أنهم المفترون دونه ، فقال عز من قائل :
النحل : ( 105 ) إنما يفتري الكذب . . . . .
) إنَّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الكَاذِبُونَ ( لا محمدا .
روى يعلي بن الأشدق عن عبد الله بن حماد قال : قلت يارسول الله المؤمن يزني ؟ قال : ( يكون ذلك ) . قال : قلت : يارسول الله المؤمن يسرق ؟ قال : ( قد يكون ذلك ) . قال : قلت : يارسول الله المؤمن يكذب ؟
(6/44)
" صفحة رقم 45 "
قال : ( لا ، قال الله ) إنما يفتري الكذب الذين لايؤمنون بالله ( ) .
وروى ( سهيل ) بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال : سمعت أبا بكر يقول : إيّاكم والكذب فإن الكذب مجانب الإيمان .
النحل : ( 106 ) من كفر بالله . . . . .
) مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ ( إختلف النحاة في العامل في ( من ) في قوله ( من كفر ) ومن يؤله ولكن من شرح بالكفر صدراً .
فقال نحاة الكوفة : جوابهما جميعاً في قوله : ) فعليهم غضب ( إنمّا هذان جزءان إن إجتمعا أحدهما منعقد بالآخر فجوابهما واحد ، كقول القائل : من يأتنا فمن يحسن نكرمه ، بمعنى من يحسن ممن يأتينا نكرمه .
وقال أهل البصرة : بل قوله ( من كفر ) مرفوع بالرد على الذي في قوله ) إنَّمَا يَفْتَرِي الكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللهِ ( ومعنى الكلام : إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه ، ثمّ استثنى فقال ) إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ ( .
قال ابن عبّاس : نزلت هذه الآية في عمار وذلك ، أن المشركين أخذوه وأباه ياسر وأُمه سمية وصهيباً وبلالاً وخباباً وسالماً فعذبوهم ، فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين ووجيء قلبها بحربة ، وقيل : لما أسلمت من أجل الرجال فقتلت وقتل زوجها ياسر ، وهما أول قتيلين في الاسلام رحمة الله ورضوانه عليهما ، وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً .
قال قتادة : أخذ بنو المغيرة عماراً وغطوه في بئر مصون وقالوا له : أكفر بمحمد ( ولم يتعمد ) ذلك وقلبه كان مطمئناً فأُخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأن عماراً كفر . فقال : ( كلا إن عماراً ملىء إيماناً من قرنه إلى قدمه وإختلط الايمان بلحمه ودمه ) .
فأتى عمار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يبكي ، فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يمسح عينيه ، وقال : ( مالك إن عادوا لك فعدلهم بما قلت ) .
فأنزل الله هذه الآية .
وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في ناس من أهل مكة آمنوا ، فكتب إليهم بعض أصحاب محمّد : إن هاجروا إلينا فإنا ( لا نرى أنكم ) منّا حتّى تهاجروا الينا ، فخرجوا يريدون المدينة فأدركهم قريش بالطريق ففتنوهم فكفروا كارهين .
وروى ابن عون عن محمّد بن سيرين قال : تحدثنا أن هذه الآية نزلت في شأن عياش بن
(6/45)
" صفحة رقم 46 "
أبي ربيعة ، وكان عياش من المهاجرين الأولين ( وألجأ يضربه ) أن يكون بلغ مابلغ أصحابه هذه ( الفعلة ) وكان قدم مهاجراً وكان براً بأُمه ، فحلفت أن لا تأكل خبزاً ولا تستظل بظل حتّى يرجع إليها إبنها قال : فقدم عليه أبو جهل وكان أخاه لأُمه ورجل آخر فأراد أن يرجع معه فقال له أبو جهل : أُمك ( لو قد جاعت ما أكلت ولو قد شمست ) ما أستظلت ، فقال ابنها : بلى القاها ثمّ أرجع . فقال : أما إذا أتيت فلا ( تعطين راحلتك ) أحداً ، فإنه لا يزال لك من أمرك النصف ما لم تعط راحلتك أحداً فإنطلق هو وأبو جهل والرجل ، فلما كانوا ببعض الطريق قال أبو جهل : لو تحوّل كل واحد منا على راحلة صاحبه فتحول كل واحد منهم على راحلة صاحبه فساروا . وضربه أبو جهل بالسوط على رأسه وحلّفه باللات والعزى فلم يزل به حتّى أعطاه الذي أراد بلسانه ، ثمّ انطلق فرجع ، وفيه نزلت هذه الآية ) من كفر بالله من بعد إيمانه ( .
وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في جبر مولى عامر بن الحضرمي ، أكرهه سيّده على الكفر فكفر مكرهاً وقلبه مطمئن بالايمان ، وأسلم مولى جبر وحسُن إسلامه وهاجر خير مع سيده . ) وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْراً ( أي فتح صدراً وكفر بالقبول وأتى على اختيار واستحباب ) فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ( وفي هذه الآية دليل على أن حقيقة الايمان والكفر تتعلق بالقلب دون اللسان وأن اللسان هو المعبّر والترجمان .
حكم الآية
إتفق الفقهاء على أن المكره على الكفر ، وعلى شتم الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) والأصحاب وترك الصلاة وقذف المحصنة وما أشبهها من ترك الطاعات وارتكاب الشبهات بوعيد متلف أو ضرب شديد لا يحتمله إن له أن يفعل ما أكره عليه ، وإن أبى ذلك حتى يغضب في الله فهو أفضل له .
وأما الإكراه على الطلاق فاختلفوا فيه :
فأجاز أهل العراق الطلاق المكره ، وكذلك قالوا في الاكراه على النذور والايمان ( والرجعة ) ونحوها ، رأوا ذلك ( جائزاً ) ورووا في ذلك أحاديثاً واهية الأسانيد .
وأما مالك والأوزاعي والشافعي : فإنهم أبطلوا طلاق المكره وقالوا : لما وجدنا الله سبحانه وتعالى عذر المكره على شيء ، ليس ( وراءه ) في الشر مذهب وهو الكفر ولم يحكم به مع الإكراه ، علمنا أن ما دونه أولى بالبطول وأجرى في العذر .
وهو قول عمر بن الخطاب وابنه وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عبّاس وعبد الله بن الزبير ، وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب والقاسم بن مخيمرة وعبيد بن عمير ، وللشافعي
(6/46)
" صفحة رقم 47 "
في هذه المقالة مذهب ثالث : وهو أنه أجاز طلاق المكره إذا كان الإكراه من السلطان ، ولم يجوّز ذلك إذا كان الاكراه من غير السلطان .
2 ( ) ذالِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَواةَ الْدُّنْيَا عَلَى الاَْخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ أُولَائِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَائِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِى الاَْخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 2
النحل : ( 107 - 110 ) ذلك بأنهم استحبوا . . . . .
) ذَلِكَ بِأ نَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الحَيَاةَ الدُّنْيَا ( إلى قوله ) ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ( أي ( طردوا ) ومنعوا من الاسلام ( ففتنهم ) المشركون ) ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا ( على الايمان والهجرة والجهاد ) إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا ( أي من بعد تلك الفتنة ( والفعلة ) ) لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ( نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخو أبي جهل من الرضاعة ، وأبي جندل بن سهل بن عمرو والوليد بن المغيرة وسلمة بن هشام وعبد الله بن أسيد الثقفي ، فتنهم المشركون فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرهم ، ثمّ إنهم هاجروا بعد ذلك وجاهدوا ، فأنزل الله فيهم هذه الآية .
وقال الحسن وعكرمة : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي سرخ ، وكان يكتب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فاستزّله الشيطان فلحق بالكفار ، فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقتل يوم فتح مكة ، فاستجار له عثمان وكان أخاه لأُمه فأجاره رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثمّ أسلم وحسن إسلامه ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية . وأما قوله ( فتنوا ) فقرأ عبد الله بن عامر : ( فتنوا ) بفتح الفاء والتاء ، ردّه إلى من أسلم من المشركين الذين فتنوا المسلمين واعتبر بقوله جاهدوا وصبروا فأخبر بالفعل عنهم .
وقرأ الباقون : بضم الفاء وكسر التاء ، اعتباراً بما قبله إلا من أُكره .
( ) يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَلاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَاذَا حَلَالٌ وَهَاذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( 2
النحل : ( 111 ) يوم تأتي كل . . . . .
) يَوْمَ تَأتِي كُلُّ نَفْس تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا ( تخاصم وتحتج عن نفسها بما أسلفت من خير
(6/47)
" صفحة رقم 48 "
وشر ( مشتغلاً بها لا تتفرّغ ) إلى غيرها والنفس تذكر وتؤنث ) وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْس مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( .
روى أبو صالح المري عن جعفر بن زيد قال : قال عمر بن الخطاب ( ح ) لكعب الأحبار : ياكعب خوّفنا وحدّثنا حديثاً ( تنبهنا به ) قال : يا أمير المؤمنين والذي نفسي بيده لو ( وافيت ) القيامة بمثل عمل سبعين نقيباً ، لأُتيت عليك ظلمات وأنت لا تهمل إلاّ نفسك وأن لجهنم زفرة ما يبقى ملك مقرّب ولا نبي مبعث إلا وقع جاثياً على ( ركبتيه ) حتّى إن إبراهيم ليدلي ( بالخلة ) فيقول : يارب أنا خليلك إبراهيم لا أسالك إلا نفسي وأن تصديق ذلك الذي أنزل عليكم ) يَوْمَ تَأتِي كُلُّ نَفْس تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا ( .
وروى عكرمة عن ابن عبّاس في هذه الآية قال : ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة ، حتّى تخاصم الروح الجسد فتقول الروح : يارب الروح منك وأنت خلقته لم تكن لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ولا عين أبصر بها ، ويقول الجسد إنما خلقتني كالخشب ليس لي يد ابطش بها ولا عين أبصر بها ولا رجل أمشي بها ، فجاء هذا كشعاع النور فيه نطق لساني وبه أبصرت عيني وبه مشت رجلي فجدد عليه العذاب . قال : فيضرب الله لهما مثال أعمى ومقعداً دخلاً حائطاً فيه ثمار ، فالأعمى لايبصر الثمر والمقعد لايناله ، فنادى المقعد الأعمى : أتيني هاهنا حتّى تحملني ، قال : فدنا منه فحمله فأصابوا من الثمر فعلى من يكون العذاب ، قالا : عليهما قال : عليكما جميعاً الغذاب ،
النحل : ( 112 ) وضرب الله مثلا . . . . .
) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلا قَرْيَةً ( يعني مكة ) كَانَتْ آمِنَةً ( لايهاج أهلها ولايغار أهلها ) مُطْمَئِنَّةً ( قارة بأهلها ( لايحتاجون ) إلى الانتقال للانتجاع كما يحتاج إليها سائر العرب ) يَأتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَان ( يحمل إليها من البر والبحر ، نظيره قوله ) يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقاً من لدنا ( ) فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللهِ ( جمع النعمة وقيل : جمع نعم ، وقيل : جمع نعماء مثل بأساء وأبوس ) فَأذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ ( إبتلاهم الله بالجوع سبع سنين وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى جهدوا فأكلوا العظام المحرّقة والجيفة والكلاب الميتة ( والعلهز ) وهو الوبر يعالج بالدم ، ثم إن رؤوساء مكة تكلموا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا : هذا عذاب الرجال فما بال النساء والصبيان ؟ فأذن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بحمل الطعام اليهم وهم بعد مشركون ) وَالخَوْفِ ( يعني بعوث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسراياه التي كانت تطيف بهم .
وروى الخفاف والعباس عن أبي عمرو : ( والخوف ) بالنصب بايقاع أذاقها عليه ) بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ( .
روى مشرح بن فاعان عن سليمان بن عمر بن عثمان قال : صدرنا من الحج مع حفصة زوجة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وعثمان محصور بالمدينة ، فكانت تسأل عنه حين رأت راكبين ، فأرسلت اليهما تسألهما فقالا : قتل . فقالت حفصة : والذي نفسي بيده إنها يعني المدينة القرية التي قال الله
(6/48)
" صفحة رقم 49 "
تعالى ) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمنةً مُطْمَئِنَّةً ( الآية .
النحل : ( 113 - 116 ) ولقد جاءهم رسول . . . . .
) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ ( إلى قوله تعالى ) وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ ألْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ ( بفتح التاء والكاف بمعنى ولا تقولوا الكذب الذي تصف ألسنتكم وتكون ( ما ) للمصدر .
وقرأ ابن عبّاس : ( الكذب ) برفع الكاف والذال والباء على نعت الألسنة ) هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ ( يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ) لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الكَذِبَ ( ويقولون : إن الله حرّم هذا وأمرنا بها ) إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ( لاينجون من عذاب الله
النحل : ( 117 ) متاع قليل ولهم . . . . .
) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ( يعني الذي هم فيه من الدنيا متاع قليل أو لهم متاع قليل في الدنيا ) وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ ( في الآخرة
النحل : ( 118 ) وعلى الذين هادوا . . . . .
) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ( يعني في سورة الأنعام وهو قوله ) وعلى الذين هادوا حرّمنا كل ذي ظفر ( الآية .
2 ( ) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِراً لاَِّنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَءاتَيْنَاهُ فِى الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِى الاَْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِى ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ( 2
) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ( بتحريم ذلك عليهم ) وَلَكِنْ كَانُوا أنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ( فجزيناهم ببغيهم
النحل : ( 119 ) ثم إن ربك . . . . .
) ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَة ( الآية قيل الهاء في قوله بعدها راجع إلى الجهالة ، وقيل : إلى المعصية لأن السوء بمعنى المعصية ، فردّ الكناية إلى المعنى ، وقيل : إلى الفعلة ) إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ( أي معلماً للخير يأتم بأهل الدنيا ، وقد اجتمع فيه من الخصال الحميدة والأخلاق الجميلة ما يجتمع في أمة .
روى الشعبي عن فروة بن نوفل الأشجعي قال : قال ابن مسعود
النحل : ( 120 ) إن إبراهيم كان . . . . .
) إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً للهِ حَنِيفاً ( فقلت : إنما قال الله : ( إن إبراهيم كان أُمة قانتا ) . فقال : أتدري ما الأُمة وما
(6/49)
" صفحة رقم 50 "
القانت ؟ قلت : الله أعلم ، قال : الأُمة الذي يعلَّم الخير والقانت المطيع لله . وكذلك كان معاذ بن جبل فكان يعلَّم الخير وكان مطيعاً لله ولرسوله .
وقال مجاهد : كان مؤمناً وحده والناس كفار كلهم ، وقال قتادة : ليس من أهل دين إلا يقولونه ويرضونه .
شهر بن حوشب قال : لم يبق الأرض إلا وفيها أربعة عشر يدفع الله بهم عن أهل الأرض ويخرج بركتها ، إلاّ زمن إبراهيم فإنه كان وحده ) قَانِتاً للهِ حَنِيفاً ( مسلماً مستقيماً على دين الاسلام ) وَلَمْ يَكُنْ مِنَ المُشْرِكِينَ }
النحل : ( 121 - 122 ) شاكرا لأنعمه اجتباه . . . . .
) شَاكِراً لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إلَى صِرَاط مُسْتَقِيم وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ( يعني الرسالة والحكمة والثناء الحسن .
وقال مقاتل بن حيان : يعني الصلوات في قول هذه الأُمة : اللهم صل على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم ، ( وقيل ) أولاداً أبراراً على الكبر . وقيل : القبول العام في جميع الأُمم ) وَإنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ }
النحل : ( 123 ) ثم أوحينا إليك . . . . .
) ثُمَّ أوْحَيْنَا إلَيْكَ أنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ( حاجاً مسلماً ) وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ( .
ابن أبي مليكة عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( جاء جبرئيل ( عليه السلام ) إلى إبراهيم ( عليه السلام ) فراح به إلى منى فصلى به الصلوات جميعاً الظهر ، والعصر ، والمغرب والعشاء ، والفجر ثمّ غدا به إلى عرفات فصلى به الصلاتين جميعاً الظهر والعصر ، ثمّ راح فوقف به حتّى إذا غربت الشمس أفاض به إلى جمع فصلى به الصلاتين المغرب والعشاء ، ثمّ بات به حتّى إذا كان كما عجل ما يصلي أحد من المسلمين صلى به ( الفجر ) ، ثمّ وقف حتّى إذا كان كأبطأ ما يصلي أحد من المسلمين أفاض به إلى منى فرمى الجمرة وذبح وحلق ، ثمّ أفاض به إلى البيت فطاف به ) فأوحى الله تعالى إلى محمّد ) أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين 2 )
النحل : ( 124 ) إنما جعل السبت . . . . .
) إنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ( يقول : ما فرض الله تعالى بتعظيم السبت وتحريمه إلاّ على الذين اختلفوا فيه .
فقال بعضهم : هو أعظم الأيام ، لأن الله فرغ من خلق الأشياء يوم الجمعة ثمّ سبت يوم السبت .
وقال آخرون : بل أعظم الله يوم الأحد لانه اليوم الذي ابتدأ الله فيه خلق الأشياء واختاروا تعظيم غير مافرض الله عليهم تعظيمه ، وتركوا تعظيم يوم الجمعة الذي فرض عليهم تعظيمه واستحلوه .
(6/50)
" صفحة رقم 51 "
قال الكلبي : أمرهم موسى بالجمعة فقال : تفرغوا لله عزّ وجلّ في كل سبعة أيام يوماً واحداً فأعبدوه في يوم الجمعة ولا تعملوا فيه لصناعتكم ، وستة أيام لصناعتكم ، فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا لا نريد إلاّ اليوم الذي فرض الله من الخلق يوم السبت ، فجعل ذلك عليهم وشدد عليهم فيه .
ثمّ جاءهم عيسى بن مريم بالجمعة فقالوا : لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا ، يعنون اليهود وإتخذوا ( يوم ) الأحد فقال الله ) إنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ( .
قال قتادة : الذين اختلفوا فيه يعني اليهود واستحله بعضهم وحرمه بعضهم .
روى همام بن منبه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بَيَد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتينا من بعدهم فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهود غداً والنصارى بعد غد ) .
روى المسيب عن أبي سنان عن مكحول الشامي قال : كان لعمر بن الخطاب على يهودي حق فلقيه عمر فقال : والذي أصطفى أبا القاسم على البشر لاتعمل لي وأنا أطلبك ( بشيء ) .
فقال اليهودي : ما اصطفى الله أبا القاسم على البشر ، فرفع عمر عليه السلام يده فلطم عينه ، فقال اليهودي : بيني وبينك أبو القاسم ، فأتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال اليهودي : إن عمر زَعم إن الله إصطفاك على البشر وإني زعمت أن الله لم يصطفك على البشر ، فرفع يده فلطمني ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أما أنت يا عمر فأرضه مِنْ لطمته ، بلى يا يهودي ، آدم صفي الله ، وإبراهيم خليل الله ، وموسى نجي الله ، وعيسى روح الله ، وأنا حبيب الله ، بلى يا يهودي إسمان من أسماء الله تعالى سمّى بهما أمتي ، سمّى نفسه السلام وسمّى أمتي المسلمين ، وسمّى نفسه المؤمن وسمّى أمتي المؤمنين ، بلى يايهودي طلبتم يوماً وذخر لنا يعني يوم الجمعة فاليوم لنا عيد وغداً لكم وبعد غد للنصارى ، بلى يايهودي أنتم الأولون ونحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بلى يايهودي إن الجنة محرّمة على الانبياء حتّى أدخلها أنا وإنها لمحرمة على الأمم حتّى يدخلها أمتي ) .
النحل : ( 125 ) ادع إلى سبيل . . . . .
) ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ ( دين ربك ) بِالحِكْمَةِ ( بالقرآن ) وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ ( يعني مواعظ القرآن ) وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ ( وخاصمهم وناظرهم بالخصومة التي هي أحسن .
قال المفسرون : أعرض عن أذاهم ولا تقصّر في تبليغ الرسالة والدعاء إلى الحق
(6/51)
" صفحة رقم 52 "
ونسختها آية القتال ) إنَّ رَبَّكَ هُوَ أعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ }
النحل : ( 126 ) وإن عاقبتم فعاقبوا . . . . .
) وَإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ( .
قال أكثر المفسرين : سورة النحل مكية كلها إلاّ ثلاث آيات ) وَإنْ عَاقَبْتُمْ ( إلى آخرها ، فإنها نزلت بالمدينة في شهداء أحد ، وذلك أن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلهم يوم أحد في تبقير البطون وقطع المذاكير والمثلة السيئة ، حتّى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا وقد مُثّل به غير حنظلة الراهب فإن أباه أبو عامر الراهب كان مع أبي سفيان ، فتركوا حنظلة لذلك ، فقال المسلمون حين رأوا ذلك : لئن أظهرنا الله عليهم لتزيدنّ على صنيعهم ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط ولنفعلنَّ ولنفعلنَّ ، ووقف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على عمّه حمزة بن عبد المطلب وقد جدعوا أنفه وإذنه وقطعوا مذاكيره وبقروا بطنه ، وأخذت هند بن عتبة قطعة من كبده فمصصته ثمّ استرطتها لتأكلها ، فلم تلبث في بطنها حتّى رمت بها ، فبلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( أما إنها لو أكلته لم تدخل النار أبداً ، حمزة أكرم على الله من أن يدخل شيئاً من جسده النار ) فلما نظر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى عمه حمزة نظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( رحمة الله عليك فإنك ما علمتك ما كنت إلا فعالاً للخيرات وصولا للرحم ، ولولا حزن من بعدك عليك لسرّني أن أُدعك حتّى تحشر من أفواه شتى ، أم والله لئن أظفرني الله عليهم لأُمثلن بسبعين منهم مكانك ) .
فأنزل الله تعالى ) وَإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ( الآية فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( بل نصبر ) فأمسك عمّا أراد وكفّر يمينه .
وقال ابن عبّاس والضحاك : وكان هذا قبل نزول براءة حين أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقاتل من قاتله ولا يبدأ بالقتال ، فلمّا أعز الله الاسلام وأهله ونزلت براءة وأُمروا بالجهاد ، نسخت هذه الآية .
وقال قوم : بل هذه الآية محكمة وإنما نزلت فيمن ظلم بظلامة فلا يحل له أن ينال من ظالم أكثر مما نال الظالم منه أمر بالجزاء أو العفو ونهى عن الاعتداء . وهذا قول النخعي والثوري ومجاهد وابن سيرين ، ثمّ قال لنبيه ( صلى الله عليه وسلم )
النحل : ( 127 ) واصبر وما صبرك . . . . .
) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلاَّ بِاللهِ ( أي بمعونة الله وتوفيقه ) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ( في إعراضهم عنك ) وَلا تَكُ فِي ضَيْق ( .
قرأها بكسر الضاد هاهنا وفي سورة النحل ابن كثير والباقون : بالفتح وإختاره أبو عبيد ، وقال : لأن الضيق في قلة المعاش وفي المساكن ، فأما ما كان في القلب والصدر فإنه ضيق .
وقال أبو عمرو وأهل البصرة : الضيّق بفتح الضاد ، الغم والضِيق بالكسر ( الشدّة ) .
(6/52)
" صفحة رقم 53 "
وقال الفراء وأهل الكوفة : هما لغتان معروفتان في كلام العرب مثل رَطل ورِطل .
وقال ابن قتيبة : الضيق تخفيف ضيق مثل هين وهيّن ولين وليّن ، وعلى هذا التأويل صفته كأنه قال : ولا تكن في أمر ضيق .
) مِمَّا يَمْكُرُونَ ( من مكرهم
النحل : ( 128 ) إن الله مع . . . . .
) إنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ( بالعون والنصرة .
روى شعبة عن أبي يونس عن أبي قزعة عن هرم بن حيان وقالوا له : أوصنا .
قال : أوصيكم بالآيات الأواخر من سورة النحل ) ادع إلى سبيل ربك بالحكمة ( إلى آخر السورة .
(6/53)
" صفحة رقم 54 "
( سورة الإسراء )
مكية . وهي ستة ألف وأربعمائة وستون حرفاً ، وألف وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة ، ومائة وإحدى عشر آية
روى زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أُمامة عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة بني إسرائيل فرق قلبه عند ذكر الوالدين أُعطى في الجنة قنطارين من الأجر والقنطار ألف أوقية ومائتا أوقية والاوقية منها خير من الدنيا ( وما فيها ) ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الاَْقْصَى الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءْايَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ وَءَاتَيْنَآ مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِى إِسْرَاءِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِى وَكِيلاً ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ( 2
الإسراء : ( 1 ) سبحان الذي أسرى . . . . .
) سُبْحَانَ الَّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا ( .
عن طلحة بن عبيد الله قال : سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن تفسير سبحان الله . قال : ( تنزيه الله عن كل سوء ) ويكون سبحان بمعنى التعجب .
قال الأعشى :
أقول لما جاءني فخر
سبحان من علقمة الفاخر
وفي بعض الحديث تفسير سبحان الله : براءة الله من السوء .
فالآية متضمنة للمعنين جميعاً .
) مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ ( . اختلفوا فيه : قال بعضهم : كان اسراء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من مسجد مكة .
(6/54)
" صفحة رقم 55 "
يدل عليه ماروى قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( بينما أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبرئيل بالبراق . . ) وذكر حديث المعراج .
وقال الآخرون : عرج برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من دار أم هاني بنت أبي طالب أخت علي ( ح ) وزوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي .
وقالوا : معنى قوله ) مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ ( من الحرم ، لأن الحرم كله مسجد .
يدل عليه ماروى الكلبي عن أبي صالح عن باذان عن أم هاني بنت أبي طالب أنها كانت تقول : ما أسرى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلاّ وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة فصلى في بيتي العشاء الآخرة فصليت معه ، ثمّ قمت فنمت وتركته في مصلاه فلم انتبه حتّى أنبهني لصلاة الغداة ، قال : ( قومي يا أم هاني أُحدثك العجب ) .
فقلت : كل حديثك العجب بأبي أنت وأمي فقام وصلى الغداة فصليت معه فلما إنصرف قال : ( يا أم هاني لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بعد نومك ثمّ أتاني جبرئيل وأنا في مُصلاي هذا فقال : يا محمّد أخرج فخرجت إلى الباب فإذا بملك راكب على دابة فقال لي : اركب فركبت فسارت بي إلى بيت المقدس ، فإذا أتيت على واد طالت يدا الدابة وقصرت رجلاها ، فإذا أتيت على عقبة طالت رجلاهاوقصرت يداها حتّى إذا أنتهيت إلى بيت المقدس فصليت فيه ثمّ صليت صلاة الغداة معكم الآن كما تروني ) .
قال مقاتل : كانت ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة .
) إلَى المَسْجِدِ الأقْصَى ( يعني بيت المقدس ، سمّي أقصى لأنه أبعد المساجد التي تزار ) الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ( بالماء والأنهار والأشجار والثمار .
وقال مجاهد : سمّاه مباركاً لأنه مَقَرّ الأنبياء ، وفيه مهبط الملائكة والوحي ، وهو الصخرة ، ومنه يحشر الناس يوم القيامة .
) لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ( عجائب أمرنا ) إنَّه هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ( .
وأما حديث المسرى ، فأقتصرت به على الأخبار المأثورة المشهورة دون المناكير والأحاديث الواهية الأسانيد وجمعتها على نسق واحد مختصر ، ليكون أعلى في الاستماع وأدنى إلى الانتفاع ، وهو ما ورى الزهري عن ابن سلمة بن عبد الرحمن قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسل
(6/55)
" صفحة رقم 56 "
وروى السدي عن محمّد بن السائب عن باذان عن ابن عبّاس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دخل كلام بعضهم في بعض قالوا : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لما كانت ليلة أسري بي وأنا بمكة بين النائم واليقظان ، جاءني جبرئيل ( عليه السلام ) فقال يا محمّد قم فقمت فإذا جبرئيل ومعه ميكائيل فقال جبرئيل لميكائيل : أئتني بطشت من ماء زمزم لكيما ( وعطر قلبه ) وأشرح له صدره قال : فشق بطني فغسله ثلاث مرات واختلف إليه ميكائيل بثلاث طشات من ماء زمزم ، فشرح صدري ونزع ما كان فيه من غل وملاه حلماً وعلماً وإيماناً وختم بين كتفيَّ بخاتم النبوة ، ثمّ أخذ جبرئيل بيدي حتّى انتهى بي إلى سقاية زمزم فقال لملك : ائتني بنور من ماء زمزم ومن ماء الكوثر ، فقال : توضأ فتوضأت ثمّ قال لي : انطلق يا محمّد . قلت : إلى اين ؟ قال : إلى ربك ورب كل شيء ، فأخذ بيدي وأخرجني من المسجد فإذا أنا بالبراق دابة فوق الحمار ودون البغل خدّه كخد الانسان وذنبه كذنب البعير وعرفه كعرف الفرس وقوائمه كقوائم الابل وأظلافه كأظلاف البقر وصدره كأنه ياقوتة حمراء وظهره كأنه درة بيضاء عليه رحل من رحائل الجنة ، وله جناحان في فخذيه يمّر مثل البرق خطوة منتهى طرفه فقال لي : إركب ، وهي دابة إبراهيم التي كان يزور عليها البيت الحرام .
قال : فلما وضعت يديَّ عليه شمس واستعصى عليَّ ، فقال جبرئيل : مه يابراق ، فقال البراق : يا جبرئيل ( مس ظهري ) فقال جبرئيل : هل مسستَ ( ظهراً )
قال : لا والله إلاّ إني مررت يوماً على ( نصاب إبل ) فمسحت يدي على رؤسهما وقلت : إن قوماً يعبدونكما من دون الله ضلال . فقال جبرئيل : يابراق أما تستحي فوالله ماركبك مذ كنت قط نبي أكرم على الله من محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قال : فأرتعش البراق وأنصب عرقاً حياءً مني ، ثمّ خفض لي حتى لزق بالأرض ، فركبته واستويت عليه قام بي جبرئيل نحو المسجد الأقصى بخطوا البراق مدَّ البصر يرسل إلى جنبي لا يفوتني ولا أفوته حيناً أنا في مسيري إذا جاءني نداء عن يميني قال : يا محمّد على رسلك أسلك بقولها ثلاثاً فلم أرفق عليه ثمّ مضيت حتّى جاوزته ، فإذا أنا بامرأة عجوز رفعت لي عليها من كل زينة وبهجة تقول : يا محمّد إليَّ ، فلم ألتفت إليها وقلت : يا جبرئيل من هذا الذي ناداني عن يميني ؟ فقال : داعية اليهود والذي نفسي بيده لو أجبته لتهودت أُمتك من بعدك والذي ناداك من يسارك داعية النصارى ، والذي نفسي بيده لو أجبت لتنصّرت أُمتك من بعدك ، فأما التي رفعت لك بهجتها وزينتها فهي الدنيا لو التويت إليها لاختارت أُمتك الدنيا على الآخرة .
(6/56)
" صفحة رقم 57 "
ثمّ أتيت بإنائين أحدهما اللبن والآخر خمرة فقيل لي : اشرب ايهما شئت ، فأخذت اللبن فشربته . فقال لي جبرئيل : أصبت الفطرة أنت وأمتك ، أما إنك لو أخذت الخمر لخمرت أمتك من بعدك قال : ثمّ سار رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسار معه جبرئيل فأتى على قوم يزرعون ويحصدون في يوم واحد ، كلما حصدوا عاد كما كان ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من هؤلاء ؟ فقال : هؤلاء المهاجرون في سبيل الله يضاعف لهم الحسنة سبعمائة ضعف ، وما انفقوا من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين .
قال : ثمّ أتى على قوم يرضخ رؤسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيئاً . قال : ماهؤلاء ياجبرئيل ؟ قال : هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة . ثمّ أتى على قوم إقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع فيسرحون كما تسرح الأنعام إلى الضريع ، والزقوم قد صف جهنم وحجارتها فقال : ماهؤلاء ياجبرئيل ؟
فقال : هؤلاء الذين لايؤدون صدقات أموالهم وماظلمهم الله ) وما ربك بظلام للعبيد ( ثمّ أتى على قوم بين ايديهم لحم في قدر نضيج طيب ولحم آخر خبيث ، فجعلوا يأكلون الخبيث ويدعون النضيج الطيب ، قال : ماهؤلاء ياجبرئيل ؟ فقال : هذا الرجل من يكون عنده المرأة حلالاً طيباً فأتى امرأه خبيثة فيبيت معها حتّى يصبح ، فالمرأة تقوم من عند زوجها حلالاً طيباً فتأتي الرجل الخبيث فتبيت معه حتّى تصبح ، ثمّ أتى على ( إمرأة ) في الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء آخر إلا فتتّه . فقال : ما هذا ياجبرئيل ؟ قال : هذا مثل أمتك يقعدون على الطريق فيقطعون بمثلاً ) ولا تقعدوا بكل صراط توعدون ( الآية ثمّ أتى على رجل جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها فقال : ما هذا ياجبرئيل ؟ قال : هذا الرجل من أمتك عليه أمانات الناس لايقدر على أدائها وهو يزيد عليها ، ثمّ أتى على قوم يقرض السنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد ، كلما قرضت عادت كما كانت . قال : ما هؤلاء ياجبرئيل ؟ قال هؤلاء خطباء الفتنة ، ثمّ أتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع .
قال : ما هذا ؟ قال : هذا الرجل من أمتك يتكلم الكلمة العظيمة ثمّ يندم عليها ولا يستطيع أن يردها . قال : ثمّ أتى واد فوجد ريحاً طيبة باردة وصوتاً . قال : ما هذه الريح الطيبة وما هذا الصوت ؟ قال : هذا صوت الجنة ، فقال : ربّ أرني بما وعدتني فقد كثر غُرَفي واستبرقي وحريري وسندسي وعبقري ولؤلؤي ومرجاني وفضتي وذهبي وأكوابي وصحافي وأباريقي وفواكهي وعسلي ولبني وخمري ومائي ، فأتني بما وعدتني . فقال : لك كل مؤمن ومؤمنة من آمن بي وبرسلي
(6/57)
" صفحة رقم 58 "
وعمل صالحاً ولم يشرك بي ولم يتخذ من دوني أنداداً ، ومن خشيني فهو آمن ومن سألني أعطيته ومن أقرضني جزيته ومن توكل عليَّ كفيته ، إني أنا الله لا إله إلاّ أنا لا أخلف الميعاد قد أفلح المؤمنين تبارك الله أحسن الخالقين قال : قد رضيت . قال ثمّ أتى على واد فسمع صوتاً منكراً ووجد ريحاً منتنة فقال : ماهذا يا جبرئيل ؟ قال : هذا صوت جهنم تقول : ( يا ربّ آتني ) ما وعدتني فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وضريعي وغساقي وعذابي ، وقد بعد قعري واشتد حرّي إئتني بما وعدتني ، قال : لك كل مشرك ومشركة وكافر وكافرة وكل خبيث وخبيثة وكل جبار لايؤمن بيوم الحساب .
قالت : قد رضيت يارب ، ثمّ سار ومعه جبرئيل فقال له جبرئيل : إنزل فصل . قال : فنزلت وصليت ، فقال : أتدري أين صليت ؟ صليت بطيبة وإليها المهاجرة إلى الله . ثمّ قال : إنزل فصلّ قال فنزلت فصليت فقال : أتدري أين صليت صليت بطور سيناء حيث كلّم الله موسى ثمّ قال : إنزل فصل ، قال : فنزلت فصليت . فقال : أتدري أين صليت ؟ صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى ( عليه السلام ) قال : ثمّ مضينا حتّى أتينا بيت المقدس فلما انتهيت إليه إذا أنا بملائكة قد نزلوا من السماء يتلقونني بالبشارة والكرامة من عند رب العزة يقولون : السلام عليك يا أول ويا آخر ويا حاشر ، قال : قلت ياجبرئيل ما تحيتهم إياي ؟ قال : إنك أول من تنشر عنه الأرض وعن أمتك ، وأول شافع وأول مشفع وإنك آخر الأنبياء وإن الحشر لك وبأمتك يعني حشر يوم القيامة ) .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثمّ جاوزناهم حتّى انتهينا إلى باب المسجد ، فأنزلني جبرئيل وربط البراق بالحلقة الي كانت تربط بها الأنبياء ( عليه السلام ) بحطام عليه من حرير الجنة ، فلما دخلت الباب إذا أنا بالأنبياء والمرسلين ) .
وفي حديث أبي العالية : ( أرواح الأنبياء والمرسلين الذين بعثهم الله قبلي من لدن إدريس ونوح إلى عيسى قد جمعهم الله عزّ وجلّ ، فسلموا عليَّ وحيوني بمثل تحية الملائكة قلت : ياجبرئيل من هؤلاء ؟ قال : أخوتك الأنبياء ، زعمت قريش أن لله شريكاً ، واليهود والنصارى أن لله ولداً ، سل هؤلاء المرسلين هل لله شريك ؟ وذلك قوله تعالى ) وَاسْألْ مَنْ أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمانِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ( فأقرّوا بالربوبية لله تعالى ثمّ جمعهم والملائكة صفوفاً فقدمني وأمرني أن أُصلي بهم فصليت بهم ركعتين . ثمّ إن الأنبياء أثنوا على ربهم فقال إبراهيم ( عليه السلام ) الحمد لله الذي إتخذني خليلاً وأعطاني مُلكاً عظيماً وجعلني
(6/58)
" صفحة رقم 59 "
أُمة قانتاً يؤتم بي وأنقذني من النار وجعلها عليّ برداً وسلاماً . ثمّ إن موسى ( عليه السلام ) أثنى على ربّه فقال : الحمد لله رب العالمين الذي كلمني تكليماً وجعل هلاك فرعون منه ونجاة بني إسرائيل على يديّ ، وجعل من أمتي قوماً يهدون بالحق وبه يعدلون . ثمّ إن داود ( عليه السلام ) أثنى على ربه فقال : الحمد لله الذي جعل لي ملكاً عظيماً وعلمني الزبور وأَلاَنَ لي الحديد وسخر لي الجبال يسبحن والطير وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب . ثمّ إن سليمان ( عليه السلام ) أثنى على ربه فقال : الحمد لله الذي سخر لي الرياح وسخر لي جنود الشياطين يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواني وقدور راسيات ، وعلمني منطق الطير وآتاني من كل شيء فضلاً وآتاني ملكاً عظيماً لا ينبغي لأحد من بعدي وجعل ملكي ملكاً طيباً ليس عليّ فيه حساب .
ثمّ إن عيسى ( عليه السلام ) أثنى على ربه فقال : الحمد لله ربّ العالمين الذي جعلني كلمة منه وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله وجعلني أبرىء الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله ورفعني وطهرني وأعاذني وأُمّي من الشيطان الرجيم فلم يكن للشيطان علينا سبيل .
ثمّ إن محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) قال : كلكم قد أثنى على ربه وأنا مثن على ربي فقال : الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين وكافة للناس بشيراً ونذيراً وأنزل عليّ القرآن ( فيه بيان كل شيء ) وجعل أُمتي ) خير أُمة أُخرجت للناس ( وجعل أُمتي ) أُمة وسطاً ( وجعل أُمتي هم الأولون والآخرون وشرح لي صدري ووضع عني وزري ورفع لي ذكري وجعلني فاتحاً وخاتماً .
فقال إبراهيم ( عليه السلام ) : بهذا أفضلكم محمّد ، ثمّ أتى بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها : إناء فيه ماء فقيل له : إشرب فشرب منه يسيراً ، ثمّ دفع إليه إناء آخر فيه لبن فقيل له : إشرب فشرب منه حتّى روى ، ثمّ دفع إليه إناء آخر فيه خمر فقيل له : إشرب ، فقال : لا أريده قد رويت . فقال له جبرئيل : قد أصبت أما إنها ستحرم على أُمتك ، ولو شربت منها لم يتبعك من أُمتك إلاّ قليل ، ولو رويت من الماء لغرقت وغرقت أمتك ثمّ أخذ جبرئيل ( عليه السلام ) بيدي فإنطلق بي إلى الصخرة فصعد بي إليها فإذا معراج إلى السماء لم أرَّ مثله حسناً وجمالاً لم ينظر الناظرون إلى شيء قط أحسن منه . ومنه تعرج الملائكة اصله على صخرة بيت المقدس ورأسه ملتصق بالسماء إحدى عارضيه ياقوتة حمراء والأخرى زبرجدة خضراء درجة من فضة ودرجة من ذهب ودرجة من زمرد مكلل بالدر والياقوت وهو المعراج الذي ينطلق منه ملك الموت لقبض الأرواح ( لمغاراتهم فيمنكم شخص أسرعت ) عنه المعرفة إذا عاينه لحسنهُ ، فاحتملني جبرئيل حتّى
(6/59)
" صفحة رقم 60 "
وضعني على جناحه ثمّ ارتفع بي إلى سماء الدنيا من ذلك المعراج ، فقرع الباب فقيل : مَن ؟ قال : أنا جبرئيل . قال : ومن معك ؟ قال : محمّد .
قال : أوَقد بعث محمّد ؟ قال : نعم . قال : مرحباً به حيّاهُ الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء ففتح الباب ودخلنا . قال : فبينما أنا أسير في السماء الدنيا إذ رايت ديكاً له زغب أخضر ورأس أبيض بياض ريشه كأشد بياض ما رأيته قط ، وزغب أخضر تحت ريشه كأشد خضرة ما رأيتها قط وإذا رجلا في تخوم الأرض السابعة السفلى ورأسه عند العرش مثنيّ عنقه تحت العرش له جناحان من منكبيه إذا نشرهما جاوز المشرق والمغرب فإذا كان في بعض ( الميل ) نشر جناحيه وخفق بهما ، وصرخ بالتسبيح لله عزّ وجلّ يقول سبحان الملك القدوس الكبير المتعال لا إله إلاّ هو الحي القيوم ، فإذا فعل ذلك سبّحت ديكة الأرض كلها وخفقت بأجنحتها وأخذت في الصراخ فإذا سكن ذلك الديك في السماء سكنت ديكة الأرض كلها ، ثمّ إذا هاج بنحو ما فعلوا في السماء صاحت ديكة الأرض جواباً له بالتسبيح لله عزّ وجلّ بنحو قوله .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لم أزل منذ رأيت ذلك الديك مشتاقاً إليه أن أراه ثانية ) .
قال : ثمّ مررت بملك نصف جسده مما يلي رأسه نار والنصف الآخر ثلج وما بينهم رتق ، فلا النار يذيب الثلج ولا الثلج يطفيء النار ، وهو قائم ينادي بصوت له حسن رفيع : اللهم مؤلف بين الثلج والنار ألف بين قلوب عبادك المؤمنين .
فقلت : يا جبرئيل من هذا ؟ قال : ملك من الملائكة يقال له حبيب وكلّه الله بأكناف السماوات وأطراف الأرضين ، ما أنصحه لأهل الأرض هذا قوله منذ خلقه الله تعالى . قال : ثمّ مررت بملك آخر جالس على كرسي قد جمع الدنيا بين ركبتيه ، وفي يديه لوح مكتوب من نور ينظر فيه لا يلتفت يميناً ولا شمالاً ينظر فيه كهيئة الحزين . فقلت : من هذا ياجبرئيل ؟ مامررت أنا بملك أنا أشد خوفاً منه شيء من هذا ؟ قال : وما يمنعك كلّنا بمنزلتك ، هذا ملك الموت دائب في قبض الأرواح وهو أشد الملائكة عملاً وأدأبهم . قلت : يا جبرئيل كل من مات نظر إلى هذا ؟ قال : نعم . قلت : كفى بالموت من طامة . فقال : يا محمّد ما بعد الموت أطمّ وأعظم ، قلت : يا جبرئيل أُدنني من ملك الموت أسلم عليه وأساله فأدناني منه فسلمت عليه فأومى إليَّ فقال له جبرئيل : هذا محمّد نبي الرحمة ورسول العرب فرحب بي وحياني وأحسن بشارتي وإكرامي . وقال : أبشر يا محمّد فإني ارى الخير كله في أمتك . فقلت : الحمد لله المنان بالنعم ، ما هذا اللوح الذي بين يديك ؟ قال : مكتوب فيه آجال الخلائق .
قلت : فأين أسماء من قبضت أرواحهم في الدهور الخالية ؟ قال : تلك في لوح آخر قد علمت خلقها ، ولذلك أصنع بكل ذي روح إذا قبضت روحه خَلفّت عليها ، فقلت : يا ملك
(6/60)
" صفحة رقم 61 "
الموت سبحان الله كيف تقدر على قبض أرواح جميع أهل الأرض وأنت في مكانك هذا لا تبرح ؟ قال : ألا ترى أن الدنيا كلها بين ركبتي وجميع الخلائق بين عيني ويداي يبلغان المشرق والمغرب وخلقهما فإذا نفد أجل عبد من عباد الله نظرت إليه وإلى أعواني فإذا نظر أعواني من الملائكة اليَّ فنظرت إليه عرفوا أنه مقبوض فعمدوا إليه يعالجون نزع روحه فإذا بلغ الروح الحلقوم علمت ذلك ولا يخفى عليَّ شيء من أمري ، أمددت يدي إليه فقبضته فلا يلي قبضه غيري ، فذلك أمري وأمر ذوي الأرواح من عباد الله .
قال : إنما أبكاني حديثه وأنا عنده ثمّ جاوزنا فمررنا بملك آخر ما رأيت من الملائكة خلقاً مثله عابس الوجه كريه المنظر شديد البطش ظاهر الغضب ، فلما نظر رغبت منه شيئاً وسألته فقلت : يا جبرئيل من هذا ؟ فإني رعبت منه رعباً شديداً قال : فلا تعجب أن ترعب منه كلنا بمنزلتك في الرعب منه ، هذا مالك خازن النار لم يتبسم قط ولم يزل منذ ولاّه الله عزّ وجلّ جهنم يزداد كل يوم غضباً وغيظاً على أعداء الله عزّ وجلّ وأهل معصيته لينتقم منهم ، قلت : ادنني منه . فأدناني منه فسلم عليه جبرئيل فلم يرفع رأسه فقال جبرئيل : يا مالك هذا محمّد رسول العرب فنظر اليَّ وحياني وبشرني بالخير . فقلت : مُذّ كم أنت واقف على جهنم ؟ فقال : مذ خلقت حتّى الآن وكذلك إلى أن تقوم الساعة فقلت : يا جبرئيل مرة ليرني طرفاً من النار فأمره ففعل فخرج منه لهب ساطع أسود معه دخان مكدر مظلم إمتلأ منه الآفاق فرايت هولا عظيماً وأمراً فظيعاً أعجز عن صفته لكم فغشيّ عليَّ وكاد يذهب نَفسي ، فضمّني جبرئيل وأمر أن يرد النار فرّدها .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( فجاوزناها فمررنا بملائكة كثيرة لا يحصى عدتهم إلاّ الله عزّ وجلّ منهم وجوه بين كتفيه ووجوه في صدره في كل وجه أفواه والسن ، فهو يحمد الله ويسبحه بتلك الألسن ورأيت من أجسامهم وخلقهم وعبادتهم أمراً عظيماً ، ثمّ جاوزناها فإذا برجل تام الخلق لم ينقص من خلقه شيء كما ينقص من خليقة الناس عن يمينه باب تخرج منه ريح طيبة وعن شماله باب تخرج منه ريح خبيثة إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك فإذا نظر إلى الباب الذي عن شماله بكى بحزن ، فقلت : يا جبرئيل من هذا وما هذان البابان ؟ قال : هذا أبوك آدم ( عليه السلام ) هذا الباب عن يمينه باب الجنة إذا نظر إلى من يدخل من ذريته الجنة ضحك واستبشر ، والباب الذي عن شماله باب جهنم إذا نظر إلى من يدخل من ذريته جهنم بكى وحزن قال : ثمّ صعدنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبرئيل ( عليه السلام ) فقيل : من هذا ؟ قال : جبرئيل . قيل ومَن معك ؟ قال : محمّد ، قيل : وقد أرسله الله .
قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة فنِعم الأخ ونعِم الخليفة ونعم المجيء ، فدخلنا فاذا بشابين فقلت : يا جبرئيل من هذان الشابان ؟ فقال : هذا عيسى ويحيى أبناء الخالة .
(6/61)
" صفحة رقم 62 "
قال : ثمّ صعدت إلى السماء الثالثة فاستفتح فقالوا : من هذا ؟
قال : جبرئيل . قيل ومَن معك ؟ قال : محمّد . قالوا : وقد أُرسل محمّد ؟ قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة فنِعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء ، فدخلنا فإذا برجل قد فُضّل على الناس بالحسن كأفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب قلت : من هذا يا جبرئيل ؟ قال : هذا أخوك يوسف ( عليه السلام ) ) .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثمّ صعد بي إلى السماء الرابعة فاستفتح قالوا : من هذا ؟ قال : جبرئيل ، قالوا : ومن معك ؟ قال : محمّد . قالوا : وقد أُرسل محمّد ؟ قال : نعم . قالوا : حيّاه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء ، فدخلنا فإذا برجل من حاله ( كذا ) فقلت : من هذا يا جبرئيل ؟ قال : ( هذا إدريس رفعه الله مكاناً علياً وهو مسند ظهره إلى دواوين الخلائق التي فيها أمورهم .
قال : ثمّ صعد بي إلى السماء الخامسة فإستفتح قالوا : من هذا ؟ قال : جبرئيل . قالوا : من معك ؟ قال : محمّد قالوا : وقد أُرسل محمّد ؟ قال : نعم . قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء .
قال : ثمّ دخلنا فإذا برجل جالس وحوله قوم يقصٌّ عليهم فقلت : ياجبرئيل من هذا ؟ ومن هؤلاء الذين حوله ؟ قال : هذا هارون ( المحبب ) وهؤلاء الذين حوله بنو إسرائيل ) .
قال ( ثمّ صعدنا إلى السماء السادسة فإستفتح فقالوا : من هذا ؟ قال : جبرئيل . قالوا : ومن معك ؟ قال : محمّد ؟ قالوا : وقد أُرسل محمّد ؟ قال : نعم قالوا : حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء ، ثمّ دخلنا فإذا برجل جالس فجاوزناه فبكى الرجل فقلت : يا جبرئيل من هذا ؟ قال : هذا موسى . قلت : فماله يبكي ؟ قال : يزعم بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله عزّ وجلّ ، وهذا رجل من بني آدم وقد خلفني في دنياه وأنا في أخرتي فلو أنه بنفسه لم أبال ولكن مع كل نبي أمته ) .
قال : ( ثمّ صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح فقيل من هذا ؟ قال : جبرئيل . قيل ومن معك ؟ قال : محمّد . قالوا : وقد أرسل محمّد ؟ قال : نعم . قالوا : حيّاه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء ، ثمّ دخلنا فإذا برجل ( أشمط ) جالس على كرسي عند باب الجنة وعنده قوم جلوس ( بيض ) الوجوه أمثال القراطيس ، وقوم في ألوانهم شيء ( . . . ) فقام الذين في ألوانهم شيء فدخلوا نهراً فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء ،
(6/62)
" صفحة رقم 63 "
ثمّ دخلوا نهراً آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلص من ألوانهم وصارت مثل ألوان أصحابهم فجاءوا فجلسوا إلى جنب أصحابهم فقلت : يا جبرئيل من هذا الأشمط ومن هؤلاء وما هذه الأنهار ؟ قال : هذا أبوك إبراهيم ( عليه السلام ) أوّل من شمط على الأرض ، وأما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم ، فأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فقوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً فتابوا فتاب الله عليهم ، وأما الأنهار الثلاثة فأولها رحمة الله والثاني نعمة الله والثالث سقاهم ربهم شراباً طهوراً قال : فإذا إبراهيم مستند إلى بيت فسالت جبرئيل ، فقال : هذا البيت المعمور يدخل فيه كل يوم سبعون الف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم .
قال : فاتي بي جبرئيل حتّى إنتهينا إلى سدرة المنتهى فإذا أنا بشجرة لها أوراق الواحدة منها مغطية الدنيا بما فيها وإذا شقها مثل هلال هجر تخرج من أصلها أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان فسألت عنها جبرئيل فقال : أما الباطنان ففي الجنة وأما الظاهرين فالنيل والفرات ويخرج أيضاً من أصلها ) أنْهَارٌ مِنْ مَاء غَيْرِ آسِن وَأنْهَارٌ مِنْ لَبَن لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأنْهَارٌ مِنْ خَمْر لَذَّة لِلشَّارِبِينَ وَأنْهَارٌ مِنْ عَسَل مُصَفّىً ( وهي على حد السماء السابعة مما الجنة وعروقها وأغصانها تحت الكرسي .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنتهيت إلى سدرة المنتهى وأنا أعرف أنها سدرة المنتهى وأعرف ورقها وثمرها فغشيها من نور الله ما غشيها وغشيتها الملائكة كأنهم جراد من ذهب من خشية الله تعالى فلما غشيها ما غشيها تحولت حتّى ما يستطيع أحد منعها ، قال : وفيها ملائكة لا يعلم عدّتهم إلاّ الله عزّ وجلّ ، ومقام جبرئيل في وسطها فلما إنتهيت إليها قال لي جبرئيل : تقدم . فقلت : أقدم من ؟ تقدم أنت يا محمّد فإنك أكرم على الله مني ، فتقدمت وجبرئيل على أثري حتّى انتهى بي إلى حجاب فراس الذهب فحرك الحجاب . فقال : من ذا ؟ قال : أنا جبرئيل ومعي محمّد . قال الملك : الله أكبر فأخرج يده من تحت الحجاب فاحتملني وخلف جبرئيل فقلت له : إلى أين ؟ قال : يا محمّد ومامنا إلاّ له مقام معلوم إن هذا منتهى الخلائق ، وإنما أذن لي في الدنو إلى الحجاب لاحترامك ولجلالك ) .
قال : ( فإنطلق بي الملك أسرع من طرفة عين إلى حجاب اللؤلؤ فحرك الحجاب . قال الملك : من وراء الحجاب : من هذا ؟ قال : أنا صاحب فراس الذهب وهذا محمّد رسول العرب معي .
فقال الملك : الله اكبر وأخرج يده من تحت الحجاب فأحتملني حتّى وضعني بين يديه فلم أزل كذلك من حجاب إلى حجاب حتّى جاوزوا بي سبعين حجاباً غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام وما بين الحجاب إلى الحجاب مسيرة خمسمائة عام ، ثمّ دلّى لي رفرف أخضر يغلب ضوءه ضوء الشمس فألتمع بصري ووضعت على ذلك الرفرف ثمّ إحتملني حتّى وصلني إلى العرش فلما رأيت العرش إتضح كل شيء عند العرش فقربني الله إلى سند العرش وتدلى لي
(6/63)
" صفحة رقم 64 "
قطرة من العرش فوقف على لساني فماذاق الذائقون شيئاً قط أحلى منها فأنباني الله عزّ وجلّ بها نبأ الأولين والآخرين وأطلق الله لساني بعد ما كلّ من هيبة الرحمن ، فقلت : التحيات لله والصلوات الطيبات . فقال الله تعالى : سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فقلت : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فقال : يا محمّد هل تعلم فيم اختصم الملأ الأعلى ؟ فقلت : أنت أعلم يارب بذلك وبكل شيء وأنت علام الغيوب . قال : اختلفوا في الدرجات والحسنات ، فهل تدري يا محمّد ما الدرجات وما الحسنات ؟
قلت : أنت أعلم يارب . قال : الدرجات إسباغ الوضوء في المكروهات والمشي على الأقدام إلى الجماعات وإنتظار الصلوات بعد الصلاة والحسنات إفشاء السلم وإطعام الطعام والتهجد بالليل والناس نيام ثمّ قال : يا محمّد آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه ؟ قلت : نعم أي رب . قال : ومن ؟ قلت : والمؤمنين ) كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَد مِنْ رُسُلِهِ ( كما فرقت اليهود والنصارى . فقال : ماذا قالوا ؟
قلت : قالوا : سمعنا قولك وأطعنا أمرك . قال : صدقت فسل تعط . قال : فقلت : ) غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ ( قال : قد غفرت لك ولأمتك سل تعطه ؟
فقلت : ) رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أوْ أخْطَأنَا ( قال : قد رفعت الخطأ والنسيان عنك وعن أمتك وما استكرهوا عليه ، قلت : ) رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ( قال : قد فعلت ذلك بك وبأمتك . قلت ربنا ) وَاعْفُ عَنَّا ( من الخسف ) وَاغْفِرْ لَنَا ( من القذف ) وَارْحَمْنَا ( من المسخ ) أنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ ( قال : قد فعلت ذلك لك ولأُمتك ، ثمّ قيل : لي سل .
فقلت : يارب إنك إتخذت إبراهيم خليلاً ، وكلمت موسى تكليماً ، ورفعت إدريس مكاناً علياً ، وآتيت سليمان ملكاً عظيماً ، وآتيت داود زبوراً ، فمالي يارب ؟
قال ربي : يا محمّد اتخذتك خليلي كما اتخذت إبراهيم خليلاً وكلمتك كما كلمت موسى تكليماً وأعطيتك فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة وكانا من كنوز العرش ولم أعطها نبياً قبلك ، وأرسلتك إلى أهل الأرض جميعاً أبيضهم وأسودهم وإنسهم وجنّهم ولم أرسل إلى جماعتهم نبياً قبلك وجعلت الأرض كلها برّها وبحرها طهوراً ومسجداً لك ولأمتك وأطعمتك وأمتك الفيء
(6/64)
" صفحة رقم 65 "
ولم أطعمه أمة قبلهم ونصرتك بالرعب على عدوك مسيرة شهر ، وأنزلت عليك سيد الكتب كلها ومهيمناً عليها قرآناً فرقناه ورفعت لك ذكرك فتذكر كلما ذكرت في شرائع ديني ، وأعطيتك مكان التوراة المثاني ومكان الانجيل المبين ومكان الزبور الحواميم ، وفضلتك بالمفصّل وشرحت لك صدرك ووضعت عنك وزرك وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس وجعلهم أمة وسطاً وجعلتهم الأولين وهم الآخرون فخذما أتيتك وكن من الشاكرين ) .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثمّ فوّض لي بعهد بعدها أمور لم يؤذن لي أن أخبركم بها ثمّ فرضت عليَّ وعلى أُمتي في كل يوم وليلة خمسون صلاة فلما شهد اليَّ بعهده وتركني عنده ما شاء قال لي : إرجع إلى قومك فبلغهم عني فَحملني الرفرف الأخضر الذي كنت عليه يخفضني ويرفعني حتّى أهوى بي إلى سدرة المنتهى فإذا أنا بجبرئيل ( عليه السلام ) أبصره خلفي بقلبي كما أبصر بعيني أمامي ، فقال لي جبرئيل : ابشر يا محمّد فإنك خير خلق الله وصفوته من النبيين حياك الله بما لم يحيي به أحداً من خلقه لا ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً ولقد وضعك مكاناً لم يصل إليه أحد من أهل السماوات والأرض فهنّاك الله كرامته وما حباك من المنزلة الأثيرة والكرامة الفائقة ، فخذ ذلك وإشكر فإن الله منعم يحب الشاكرين .
فحمدت الله على ذلك ثمّ قال لي جبرئيل : إنطلق يا محمّد إلى الجنة حتّى أُريك مالكَ فيها فتزداد بذلك في الدنيا زهادة إلى زهادتك وفي الآخرة رغبة إلى رغبتك فسرنا نهوي منفضين أسرع من السهم والريح حتّى وصلنا بإذن الله إلى الجنة فهدأت نفسي ( وثاب ) إليَّ فؤادي وأنشأت أسأل جبرئيل عما كنت رأيت ( في الجنة ) من البحور والنار والنور وغيرها ، فقال : سبحان الله تلك سرادقات عرش رب العزة التي أحاطت بعرشه فهي سترة الخلائق من نور الحجب ونور العرش لولا ذلك لأحرق نور العرش ونور الحجب من تحت العرش من خلق الله ومالم تره أكثر وأعجب ، قلت : سبحان الله ما أكثر عجائب خلقه .
قلت : يا جبرئيل ومن الملائكة الذين رأيتهم في تلك البحور الصفوف بعد الصفوف كأنهم بنيان مرصوص ؟
قال : يا رسول الله هم الروحانيون الذين يقول الله : ) يوم يقوم الروح والملائكة ( ومنهم الروح الأعظم ، ثمّ بعد ذلك قلت : ياجبرئيل فمن الصف الواحد الذين في البحر الأعلى فوق الصفوف كلها قد أحاطوا بالعرش ؟ قال : هم الكروبيون أشراف الملائكة وعظمائهم ولايجتري أحد من الملائكة أن ينظر إلى ملك من الكروبيين وهم أعظم شأنا من أن أصف صفتهم لك وكفى مارأيت منهم ، ثمّ طاف بي جبرئيل في الجنة بإذن الله فما نزل منها مكاناً إلاّ رأيته وأخبرني عنه فرأيت القصور من الدر والياقوت والاستبرق والزبرجد ورأيت الأشجار من الذهب الأحمر قضبانهم اللؤلؤ وعروقهن الفضة راسخة في المسك فلأنا أعرف بكل قصر وبيت وغرفة وخيمة ونهر وثمر في الجنة مني بما في مسجدي هذا
(6/65)
" صفحة رقم 66 "
قال : ورأيت نهراً يخرج من أصله ماء أشد بياضاً من اللبن واحلى من العسل على رضراض دُرّ وياقوت ومسك أذفر . فقال جبرئيل : هذا الكوثر الذي أعطاك الله عزّ وجلّ وهو التسنيم يخرج من دورهم وقصورهم وبيوتهم وغرفهم يمزجون بها أشربتهم من اللبن والعسل والخمر فذلك قوله ) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيم عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عباد الله ( الآية .
ثمّ انطلق بي يطوف في الجنة حتّى انتهينا إلى شجرة لم أر شجرة مثلها ، فلما وقفت تحتها رفعت رأسي فإذا أنا لا أرى شيئاً من خلق ربي غيرها لعظمها وتفرق اغصانها ووجدت فيها ريحاً طيبة لم أشم في الجنة ريحاً أطيب منها فقلّبت بصري فيها فإذا ورقها حلل طرايف من ثياب الجنة من بين أبيض وأحمر وأخضر وثمارها أمثال القلال العظام من كل ثمرة خلقها الله في السماوات والأرضين من ألوان شتى وطعوم شتى وريح شتى ، فعجبت من تلك الشجرة ومارأيت من حسنها . قلت : ياجبرئيل ما هذه الشجرة ؟ قال : هذه التي ذكرها الله عزّ وجلّ ) بشرى لهم وحسن مآب ( ولكثير من أمتك ورهطك في ظلها حسن مقيل ونعيم طويل ورأيت في الجنة مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كل ذلك مفروغ عنه معدّ إنما ينتظر به صاحبه من أولياء الله عزّ وجلّ وما غمني الذي رأيت قلت : لمثل هذا فليعمل العاملون .
ثمّ عرض عليَّ النار حتّى نظرت إلى أغلالها وسلاسلها وحيّاتها وعقاربها وغساقها ويحمومها ، فنظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكلّ بهم من يأخذ بمشافرهم ، ثمّ يجعل في أفواههم صخراً من نار تخرج من أسافلهم . قلت : يا جبرئيل من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً . ثمّ انطلقت فإذا أنا بنقر لهم بطون كأنها البيوت وهم على سابلة آل فرعون فإذا مرَّ بهم آل فرعون ثاروا فيميل بأحدهم بطنه فيقع فيتوطأهم آل فرعون بأرجلهم وهم يعرضون على النار غدواً وعشياً . قلت : من هؤلاء ياجبرئيل ؟ قال : هؤلاء أكلة الربا ) ومثلهم كمثل الذي يتخبطه الشيطان من المس ( ثمّ إنطلقت فإذا أنا بنساء معلقات بثديهن منكسات أرجلهن . قلت : من هؤلاء ياجبرئيل ؟ قال : هن اللاتي يزنين ويقتلن أولادهن .
ثمّ أخرجني من الجنة فمررنا بالسموات منحدراً من السماء إلى السماء حتّى أتيت على موسى فقال : فما فرض الله عليك وعلى أمتك ؟ قلت : خمسين صلاة . فقال موسى : أنا أعلم بالناس منك وأني ( سرت ) الناس بني إسرائيل وعالجتهم أشد المعالجة وأن أمتك أضعف الأمم فارجع إلى ربك واسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لن تطيق ذلك . قال : فرجعت إلى ربي
(6/66)
" صفحة رقم 67 "
وفي بعض الأخبار : ( فرجعت فأتيت سدرة المنتهى فخررت ساجداً ، قلت : يا رب فرضت عليَّ وعلى امتي خمسين صلاة ولن أستطيع أن أقوم بها ولا أمتي فخفّف عني عشراً . فرجعت إلى موسى فسألني فقلت : خفف عني عشراً . قال : ارجع إلى ربك فأسأله التخفيف فإن أمتك أضعف الأمم فإني قد لقيت من بني إسرائيل شدة . قال : فرجعت فردّها إلى ثلاثين فمازلت بين ربي وبين موسى ( عليه السلام ) حتى جعلها خمس صلوات فأتيت موسى ( عليه السلام ) فقال : إرجع إلى ربك فأسأله التخفيف . فقلت : فإني قد رجعت إلى ربي حتّى استحيت وما أنا براجع إليه ، قال : فنوديت أني يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلوات ، ولا يبدل القول لدي فخمسة بخمسين فقم بها أنت وأمتك إني قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي وأجزي بالحسنة عشر أمثالها لكل صلاة عشر صلوات . قال : فرضيَّ محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كل الرضا وكان موسى ( عليه السلام ) من أشدهم عليه حين مرَّ به وخيرهم لهم حين رجع إليه .
ثمّ انصرفت مع صاحبي وأخي جبرئيل لايفوتني ولا أفوته حتّى انصرف بي إلى مضجعي وكان كل ذلك ليلة واحدة من لياليكم هذه فأنا سيد ولد آدم ولا فخر ، وبيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وإليَّ مفاتيح الجنة يوم القيامة ولا فخر ، وأنا مقبوض عن قريب بعد الذي رأيت فإني رأيت من آيات ربي الكبرى مارأيت وقد أحببت اللحوق بربي عزّ وجلّ ولقاء من رأيت من إخواني ، وما رأيت من ثواب الله لأوليائه ) وما عند الله خير وأبقى ( .
قال : فلما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة أُسري به وكان بذي طوى قال : ( يا جبرئيل إن قومي لا يصدقونني ) .
قال : يصدقك أبو بكر وهو الصديق ( ح ) .
قال ابن عبّاس وعائشة رضى الله عنهما : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لما كانت ليلة أُسري بي وأصبحت بمكة قطعت بأمري وعرفت إن الناس تكذبني ) .
قال : فقعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) معتزلاً حزيناً فمرَّ به أبو جهل عدو الله فأتاه فجلس إليه ، وقال كالمستهزي : هل إستفدت من شيء ؟ قال : ( نعم إني أُسري بي الليلة ) قال : إلى أين ؟ قال : ( إلى بيت المقدس ) قال : ثمّ أصبحت بين ظهرانينا . قال : ( نعم ) فكان أبو جهل ينكر مخافة أن يجحده ، الحديث . قال : أتحدث قومك ماحدثتني ؟
قال : ( نعم ) قال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤي هلمّوا .
قال : فأنتقضت المجالس فجاءوا حتّى جلسوا اليهما . قال : حدِّث قومك ماحدثتني . قال : ( نعم إنّي أُسري بي الليلة ) . قالوا : إلى أين ؟ قال : ( إلى بيت المقدس ) . قال : ثمّ أصبحت بين
(6/67)
" صفحة رقم 68 "
ظهرانينا قال : ( نعم ) . قال : فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجباً للكذب ، فإرتد ناس ممن كان آمن به وصدقه وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر ( ح ) فقالوا : هل لك في صاحبك يزعم أنه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس ؟ .
قال : أوقد قال ؟ قالوا : نعم . قال : لئن كان قال ذلك لقد صدق . قالوا : تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس في ليلة وجاء قبل أن يصبح ؟ قال : نعم إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في عدوه وروحه . فلذلك سمي أبو بكر الصديق ( ح ) .
قال : وفي القوم من قد سافر هناك ومن قد اتى المسجد ، فقالوا : هل تستطيع أن تصف لنا المسجد ؟ قال : ( نعم ) .
قال : فذهبت أنعت وأنعت فما زلت أنعت حتّى إلتبس عليَّ .
قال : فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتّى وضع دون دار عقيل أو عقال فنعت المسجد وأنا أنظر إليه . فقال القوم : أما النعت فوالله قد أصاب .
ثمّ قالوا : يا محمّد أخبرنا عن عيرنا فهي أهم إلينا من قولك ، هل لقيت فيها شيئاً ؟ قال : ( نعم مررت على عير بني فلان وهي بالروجاء وقد أضلوا بعيراً لهم وهم في طلبه وفي رحالهم قعب من ماء فعطشت فأخذته فقربته ثمّ وضعته كما كان فاسألوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا إليه ) .
قالوا : إن هذه آية واحدة . قال : ( ومررت بعير فلان وفلان وفلان راكبان قعوداً لهما ببني مرة ففرآ بكرهما مني فرمى بفلان فإنكسرت يده فسلوهما عن ذلك .
قالوا : وهذه آية أخرى .
قالوا : أخبرنا عن عيرنا نحن ؟ قال : ( مررت بها بالنعيم ) . قالوا : فما عدتها وأحمالها وغنمها ؟ قال : ( كنت في شغل من ذلك ثمّ مثلت لي فكأنه بالجزورة وبعدتها وأحمالها وهيئتها ومن فيها ) فقال : ( نعم هيئتها كذا وكذا وفيها فلان وفلان تقدمها جعل أورق عليه خزارتان مخيطتان يطلع عليكم عند طلوع الشمس ) .
قالوا : وهذه آية ، ثمّ خرجوا يشدّون نحو ( الثلاثة ) وهم يقولون : والله لقد قص محمّد شيئاً وبيّنه حتّى أتوا كداً فجلسوا عليه فجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبون ، إذ قال قائل منهم : هذا الشمس قد طلعت . وقال الآخر : وهذه الإبل قد طاعت يتقدمها بعير أورق فيها فلان وفلان كما قال لهم ، فلم يؤمنوا ولم يفلحوا وقالوا : ما سمعنا بهذا قط إن هذا إلاّ سحر مبين .
آخر المعراج ولله الحمد والمنة .
(6/68)
" صفحة رقم 69 "
فإن قيل : إنما قال الله ) سُبْحَانَ الَّذِي أسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلَى المَسْجِدِ الأقْصَى ( فَلِم قال : إنه أسرى إلى السماء .
فالجواب أنه قال : إنما قال : ) أسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلَى المَسْجِدِ الأقْصَى ( كان إبتدأ أمر المعراج كان المسري ، والعروج كان بعد الاسراء ، وقد أخبر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهو الصادق المصدق ، والحكمة فيه والله أعلم أنه لو أخبر إبتدأ بعروجه إلى السماء لاشتد إنكارهم وعظم ذلك في قلوبهم ولم يصدقوه ، فأخبر بيت المقدس بها فلما تمكن ذلك في قلوبهم وبَان لهم صدقة وقامت الحجة عليهم له ، أخبر بصعوده إلى السماء العليا وسدرة المنتهى وبقرينة حتّى دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى
الإسراء : ( 2 ) وآتينا موسى الكتاب . . . . .
) وَآتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ ( كما أسرينا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وَجَعَلْنَاهُ هُدىً لِبَنِي إسْرَائِيلَ ( الآية يعني ) ألاّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا ( ربّاً وشريكاً وكفيلاً .
قرأه العامّة : يتخذوا بالياء ، يعني قلنا لهم لا يتخذوا .
وقرأ ابن عبّاس ومجاهد وأبو عمر : بالياء واختاره أبو عبيد قال : لأنه خبر عنهم
الإسراء : ( 3 ) ذرية من حملنا . . . . .
) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوح ( فأنجيناهم من الطوفان ) إنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً ( .
قال المفسرون : كان نوح ( عليه السلام ) إذا لبس ثوباً يأكل طعاماً أو شرب شراباً . قال : الحمد لله ، فسمّي عمداً شكوراً .
روى النظر بن شقي عن عمران بن سليم قال : إنما سمي نوح ( عليه السلام ) عبداً شكوراً لأنه كان إذا أكل طعاماً قال : الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني ، فإذا شرب قال : الحمد لله الذي سقاني ولو أشاء أظماني وإذا اكتسى قال : الحمد ألله الذي كساني ولو أشاء أعراني ، فإذا اهتدى قال : الحمد لله الذي هداني ولو أشاء لما هداني فإذا قضى حاجته قال : الحمد لله الذي أخرج عني الأذى في عافية ولو شاء لحبسه .
( ) وَقَضَيْنَآ إِلَى بَنِى إِسْرَاءِيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الاَْرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لاَِنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاَْخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ( 2
الإسراء : ( 4 ) وقضينا إلى بني . . . . .
) وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرائِيلَ ( إلى قوله ) حَصِيراً ( .
روى سفيان بن سهيل عن منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش قال : سمعت حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن بني إسرائيل لما إعتدوا وعتوا وقتلوا الأنبياء بعث الله عليهم
(6/69)
" صفحة رقم 70 "
ملك فارس بخت نصر ، وكان الله ملكه سبعمائة سنة فسار اليهم حتّى دخل بيت المقدس فحاصرها ففتحها وقتل على دم يحيى بن زكريا ( عليه السلام ) سبعين ألف ، ثمّ سبى أهلها وسلب حلي بيت المقدس واستخرج منها سبعين ألفاً ومائة عجلة من حلي ( حتى أورده بابل ) ) .
قال حذيفة : يارسول الله لقد كانت بيت المقدس عظيماً عند الله قال : ( أجل بناه سليمان ابن داود من ذهب وياقوت وزبرجد ، وكان بلاطه ذهباً وبلاطه فضة وبلاطه من ذهباً أعطاه الله ذلك وسخر له الشياطين يأتونه بهذه الأشياء في طرفة عين فسار بخت نصر بهذه الأشياء حتّى نزل بها بابل وأقام بنو إسرائيل في يديه مائة سنة يستعبدهم المجوس وأبناء المجوس فهم الأنبياء وابناء الأنبياء ، ثمّ إن الله تعالى رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس يقال له كورس وكان مؤمناً أن سر إلى بقايا ببني إسرائيل حتّى يستنقذهم فسبا كورش بني إسرائيل وحلي بيت المقدس حتّى رده إليه ، فأقام بنو إسرائيل مطيعين لله مائة سنة ثم إنهم عادوا في المعاصي فسلط عليهم ملكاً يقال له : إنطياخوش فغزا بني إسرائيل حتّى أتى بهم بيت المقدس فسبا أهلها وأحرق بيت المقدس وقال لهم : يابني إسرائيل ان عدتم في المعاصي عدنا عليكم بالسبي ، فعادوا في المعاصي فسلط الله عليهم ملكا رومية يقال له : ماقسير بن إسبيانوس فغزاهم في البر والبحر فسباهم وسبا حلي بيت المقدس وأحرق بيت المقدس ) .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فهذا من صفة حلي بيت المقدس ويرده المهدي إلى بيت المقدس وهو الف سفينة وسبعمائة سفينة يرمى بها على يافا حتّى ينقل إلى بيت المقدس هديها يجمع الله الأولين والآخرين ) .
وقال محمّد بن إسحاق بن يسار : كان مما أنزل الله على موسى في خبر عن بني إسرائيل في أحداثهم وماهم فاعلون بعده ) وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرائِيلَ ( إلى قوله ) حصيراً ( فكانت بنوا إسرائيل وفيهم الأحداث والذنوب ، وكان الله في ذلك متجاوزاً عنهم متعطفاً عليهم محسناً اليهم ، فكان أول ما أنزل بهم بسبب ذنوبهم من تلك الوقائع كما أخبر على لسان موسى ( عليه السلام ) أن ملكاً منهم كان يدعى صديقة كان الله عزّ وجلّ إذا ملك الملك عليهم بعث الله نبياً يسدده ويرشده ويكون فيما بينه وبين الله تعالى ، فيتحدث إليهم في أمرهم لأنزل عليهم الكتب ، إنما يؤمرون بإتباع التوراة والأحكام التي فيها وينهونهم عن المعصية ويدعونهم إلى ماتركوا من الطاعة ، فلما ملك الله ذلك الملك بعث الله شعياء بن أمصيا وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى ، وشعياء هو الذي بشّر بعيسى ومحمّد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ابشروا ( . . . ) الآن يأتيك راكب
(6/70)
" صفحة رقم 71 "
الحمار ومن بعده راكب البعير ، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زماناً ، فلما إنقضى ملكه عظمت الأحداث وشعياء معه ، بعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل مع ستمائة ألف راية ، فأقبل سائراً حتّى أقبل حول بيت المقدس والملك مريض في ساقه قرحة فجاء إليه شعياء فقال : يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريب ملك بابل قد نزل هو وجنوده بستمائة الف قد هابهم الناس وفرقوا منهم ، فكبر ذلك على الملك . فقال : يانبي الله هل أتاك وحي من الله فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده .
فقال له النبي ( عليه السلام ) : لم يأت وحي فبيناهم إلى ذلك أوحى الله تعالى إلى شعياء النبي ( عليه السلام ) أن أيت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي بوصيته ويستخلف على ملكه من شاء من أهل بيته ، فأتى شعياء صدّيقة وقال له : إن ربك قد أوحى إليك إن أمرك أن توصي بوصيتك وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميت . فلما قال ذلك شعياء لصديقة أقبل على القبلة وصلى ودعا وبكى فقال وهو يصلي ويتضرع إلى الله تعالى بقلب مخلص متوكل رصين وظن صادق : اللهُمَّ رب الأرباب وإله الألهه قدوس المتقدس يارحمن يارحيم يارؤوف الذي لا تأخذه سنة ولا نوم أكرمتني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك وأنت أعلم به مني بسري وعلانيتي لك وأن الرحمن استجاب له وكان عبداً صالحاً ، فأوحى الله إلى شعياء وأمره أن يخبر صديقة الملك أن ربه قد استجاب له وقبل منه ورحمه وقد أخر أجله خمس عشر سنة فأنجاه من عدوه سنحاريب ملك بابل وجنوده فأتاه شعياء النبي ( عليه السلام ) وأخبره بذلك ، فلما قال ذلك ذهب عنه الوجع وانقطع عنه الحزن وخر ساجداً وقال : يا إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبّحت وكرمت وعظمت ، أنت الذي تعطي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء ، عالم الغيب والشهادة أنت الأوّل والآخر والظاهر والباطن وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين ، أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت ضري فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعياء أن قل للملك صديقه فيأمر عبداً من عبيده فيأتيه بالتين فيجعله على قرحه فيشفى ويصبح قديراً ، ففعل ذلك فشفى ، وقال الملك لشعياء : سل ربك أن يجعل لنا علماً بما هو صانع بعدونا هذا .
فقال الله لشعياء : قل له إني قد كفيتك عدوك وأنجيتك منهم وأنهم سيصبحون موتى كلهم إلاّ سنحاريب وخمسة نفر من كُتّابه .
فلما أصبحوا جاءه صارخ فصرخ على باب المدينة : يا ملك بني إسرائيل إن الله قد كفاك عدوك فأخرج فإن سنحاريب ومن معه هلكوا ، فلما خرج الملك التمس سنحاريب فلم يوجد في الموتى فبعث الملك في طلبه فأدركه الطلب في مفازة ومعه خمسة من كُتّابه أحدهم بخت نصّر ، فجعلوهم في الجوامع ثمّ أتوا بهم ملك بني إسرائيل فلما رآوهم خرَّ ساجداً حين طلعت الشمس إلى العصر ، ثمّ قال لسنحاريب : كيف ترى فعل ربنا بكم ؟ ألم نقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم
(6/71)
" صفحة رقم 72 "
غافلون ؟ فقال سنحاريب : قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادك فلم أطع مرشداً ولم يلقني في الشقوة إلاّ قلة عقلي ولو سمعت وأطعت ما غزوتكم ولكن الشقوة غلبت عليَّ وعلى من معي . فقال صديقه : الحمد لله ربّ العزة الذي ( كفاناكم ) بما شاء أن يبقك لي من معك لكرامة لك عليه وإنما أبقاك ومن معك ليزدادوا شقوة في الدنيا وعذاباً في الآخرة ولتخبروا من ورائكم بما رايتم من فعل ربنا ، فلذلك وذم من معك ( آتون ) على الله من دم قراد لو قتلت ، ثمّ إن ملك بني إسرائيل أمر أمير جيشه فقذف في رقابهم الجوامع وطاف بهم سبعين ما حول بيت المقدس ( وامليا ) وكان يرزقهم في كل يوم خبزتين من الشعير لكل رجل منهم .
فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل : القتل خير مما يفعل بنا فأفعل ما أُمرت ، فأمر بهم الملك إلى سجن القتل فأوحى الله إلى شعياء النبي ( عليه السلام ) : أن قل لملك بني إسرائيل ليرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من ورائهم وليكرمهم ويحملهم حتى يبلغوا بلادهم ، فبلغ شيعا ( للملك ذلك ) ففعل ، فخرج سنحاريب ومن معه حتّى قدموا بابل فلمّا قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده ، فقال له كهانته وسحرته : يا ملك ( بابل ) قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم فلم تطعنا ، وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم ، وكان أمر سنحاريب مما خوفوا ، ثمّ كفاهم الله إياه تذكرة وعبرة ثمّ لبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين ثمّ مات ، واستخلف ( بعده ) ابن إبنه على ما كان عليه ، فعمل فيهم بمثل عمل جده وقضى في الملك حتّى قتل بعضهم ( بعضاً عليه ) ونبيهم شعياء معهم لا يذعنون إليه ولا يقبلون منه ، فلما فعلوا ذلك قال الله لشعياء : قم في قومك أوحَ على لسانك .
فلما قام النبي ( عليه السلام ) أطلق الله لسانه بالوحي ، فقال : ياسماء استمعي ويا أرض انصتي حتّى فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمة واسطنعهم لنفسه وخصهم بكرامته وفضلهم على عباده واستقبلهم بالكرامة وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها ، فآوى شاردتها وجمع ضالتها وجبر كسرها وداوى مريضها وأسمن مهزولها وحفظ سمينها ، فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت كباشها فقتل بعضهم بعضاً حتّى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير ، فويل لهذه الأُمة الخاطئة الذين لايدرون من أين جاءهم الخير ، أن البعيد مما يذكر وطنه فينتابه وأن الحمار مما يذكر الآري الذي يشبع عليه فيراجعه وأن الثور مما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه وأن هؤلاء القوم لا يدرون من أين جاءهم الخير وهم أولوا الألباب والعقول ليسوا بقراً ولا حميراً ، وإني ضارب لهم مثلاً فليستمعوا ، قل لهم : كيف ترون في أرض كانت
(6/72)
" صفحة رقم 73 "
خواء زماناً خربة مواتاً لا عمران فيها وكان لها رب حكيم قوي ، فأقبل عليها بالعمارة وكره أن تخرب أرضه فأحاط عليها جداراً وشيّد فيها قصراً وأنبط نهراً وصنف فيها غراساً من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها ، وولى ذلك واستحفظه قيماً ذا رأي وهمة ومتعة حفيظاً قوياً أميناً وانتظرها فلما أطلعت جاء طلعها خروباً قالوا : بئست الأرض هذه ، نرى أن يهدم جدارها وقصورها ويدفن نهرها ويقبض قيّمها ويحرق غرسها حتّى تصير كما كانت أول مرة خراباً مواتاً لا عمران فيها .
قال الله لهم : فإن الجدار ذمتي وإن القصر شريعتي وإن النهر كتابي وإن القيّم نبيّ وإن الغرّاس هم وإن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم ، وإنهم مثلُ ضربه الله تعالى لهم يتقربون إليّ بذبح البقر والغنم وليس ينالني اللحم ولا أكله ، ويدعون أن يتقربون إليّ بالتقوى والكف عن ذبح الأنفس التي حرمّتها فأيديهم مخضوبة منها ، وثيابهم متزملة بدمائها ، يشيدون لي البيوت مساجداً ويطهرون أجوافها وينجسون قلوبهم وأجسادهم ويدنسونها ، فأي حاجة إلى تشييد البيوت ولست أسكنها ، أم أي حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها إنما أُمرت برفعها لأُذكر فيها وأُسبّح ولتكون مَعْلَماً لمن أراد أن يصلي فيها ، يقولون : لو كان الله يقدر على أن يجمع ألْفَتَنا لجمعها ، ولو كان الله يقدر على ( أن ) يفقّه قلوبنا لفقهها فأعمد إلى عودين يابسين ، ثمّ ائت بهما ناديهما في أجمع ما يكونون فقل للعودين : إن الله يأمركما أن تكونا عوداً واحداً ففعل ، ذلك في مجلسه إختلطا فصارا واحداً ، فقال الله لهم : إني قد قدرت على أن أفقه العيدان اليابسة وعلى أن أُؤالف بينهما فكيف لا أقدر على أن أجمع إلفهتم إن شئت ، أم كيف لا أقدر على أن أفقّه قلوبهم وأنا الذي صورتها .
يقولون : صمنا فلم يرفع صيامنا وصلينا فلم تقبل صلاتنا وتصدقنا فلم تزك صدقاتنا ، ودعونا بمثل ( حنين الحمام ) وبكينا مثل عواء الذئب في مكان ذلك لا نسمع ولا يستجاب لنا قال الله : فاسألهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم ، ألست أسمع السامعين وأُبصر الناظرين وأُقرب المجيبين وأرحم الراحمين ؟ الآن ذلّت يدي ؟
قلت : كيف ويداي مبسوطتان بالخير أُنفق كيف أشاء ومفاتح الخزائن عندي لا يفتحها غيري أو لأن رحمتي ضاقت فكيف ورحمتي وسعت كل شيء ، إنما يتراحم المتراحمون بفضلها أو لأن ( البخل يعتريني ) أو لست أكرم الأكرمين والفتاح بالخيرات ؟ أجود من أعطي وأكرم من سئل لو أن هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بالحكمة التي نورت في قلوبهم فنبذوها وإشتروا بها الدنيا إذاً لأبصروا من حيث أتو وإذاً لأيقنوا أن أنفسهم ( هي ) أعدى العُداة فيهم ، فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور ( ويتقوون ) عليه بطعمة الحرام ؟ وكيف أُنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني وينتهك محارمي ، أم كيف تزكوا عندي صدقاتهم ؟ وهم يتصدقون بأموال غيرهم وإنما أُؤجر عليها أهلها المغصوبين ، أم كيف أستجيب لهم دعاءهم ؟ وإنما هو قول بألسنتهم
(6/73)
" صفحة رقم 74 "
والفعل من ذلك بعيد وإنما أستجيب للداع اللين وأنا أسمع قول المستضعف المسكين ، وإن من علامة رضاي رضا المساكين ، فلو رحموا المساكين وقربوا الضعفاء وأنصفوا المظلوم ونصروا المغصوب والمغلوب وأعدلوا الغائب ( وأدوا ) إلى اليتيم والأرملة والمسكين وكل ذي حق حقه ، ثمّ لو كان ينبغي أن أكلم البشر إذاً لكلّمتهم ، وإذاً لكنت نور أبصارهم وسمع آذانهم ومعقول قلوبهم وإذاً لدعمت أركانهم وكنت قوة أيديهم وأرجلهم ، وإذاً لبثت ألسنتهم وعقولهم .
يقولون : لمّا سمعوا كلامي وبلغتهم رسالاتي : إنها أقاويل متقولة وأحاديث متوارثة وتأليف كما يؤلف السحرة والكهنة ، وزعموا أنهم لو شاؤا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا وأن يطلعوا على علم الغيب ، لاطلعوا بما توحي إليهم الشياطين وكلمهم ويستخفى بالذي يقول ويسرّ وهم يعملون أني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما يبدون وما كنتم يكتمون وإني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض قضاء أثبته على نفسي وجعلت دونه أجلاً مؤجلاً لابد أنه واقع ، فإن صدَّقوا بما ينتحلون من علم الغيب فليخبروك متى أنفذه أو في أي زمان يكون وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاؤون فليأتوا بمثل القدرة التي بها أمضيت فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون .
وإن كانوا يقدرون على أن يقولوا مايشاؤون فليألفوا مثل الحكمة التي أُدبّر بها أمر ذلك القضاء إن كنتم صادقين فإنّي قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض أن أجعل النبوة في الإجراء وأن أجعل الملك في الدعاء والعز في الأذلاء والقوة في الضعفاء والغنى في الفقراء والثروة في الأقلاء ( والمدائن في الفلوات ) والأجام في المغوز والبردة في الغيطان ، والعلم في الجهلة والحِكَم في الأميين فسلهم متى هذا ومن القيّم بها وعلى يد مَن أسنّه ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون ، فإني باعث لذلك نبيّاً أُحياً ليس أعمى من عميان ولا ضالا من ضالين وليس بفظ ولا غليظ ولا ( بصخاب ) في الأصوات ( ولا متزين بالفحش ) ولا قوال للخنى أُسدده لكل جميل أهب له كل خلق ( كريم ) أجعل السكينة لباسه والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقولة والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والعدل والمعروف سيرته والحق شريعته والهدى امامه والاسلام ملته وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلالة وأعلم به بعد الجهالة ، ثمّ أرفع به بعد ( الخمالة ) وأشهر به بعد النكرة وأكثر به بعد القلة وأغني به بعد المعيلة وأجمع به بعد الفرقة وأولف به قلوباً مختلفة وأهواء متشتتة وأُمماً متفرقة وأجعل أمته خيرا أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر إيماناً بي وتوحيداً لي وإخلاصاً بي يصلون لي قياماً وقعوداً وركعاً وسجوداً ويقاتلون في سلبي صفوفاً وزحوفاً ويخرجون من ديارهم وأموالهم إبتغاء رضواني ، ألهمتهم التكبير والتوحيد والتسبيح والحمد والمدحة والتمجيد لي في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم ، يكبرون ويهللون ويقدسون على رؤوس الأسواق ويطهرون لي الوجوه والأطراف ويعقدون في الأنصاف ، قربانهم دماؤهم وأناجيلهم في صدورهم
(6/74)
" صفحة رقم 75 "
رهابين في الليل ليوث في النهار ، ذلك فضلي أُدتيه من أشاء وأنا ذو الفضل العظيم .
فلما فرغ نبيهم شعياء اليهم من مقالته عَدَوْا عليه ليقتلوه فهرب منهم فلقيت شجرة وانفلقت له فدخل فيها ( وأدركه الشيطان الشجرة ) فأخذ بهدبة من ثوبه فأرآهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتّى قطعوعها وقطعوه في وسطها ، ( فإستخلف الله ) على بني إسرائيل بعد قتلهم شعياء رجلاً منهم يقال له ناشية بن أموص وبعث لهم الخضر نبياً واسم الخضر ارميا بن حلفيا وكان من سبط هارون بن عمران فأما سمي الخضر لانه جلس على فروة بيضاء فقام ( عنها وهي تهتز ) خضراء ، فقال الله لارميا حين بعثه نبياً إلى بني إسرائيل : يا أرميا من قبل أن أخلقك إخترتك ، ومن قبل أن أصورك في بطن أمك قدستك ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك ، وذكر الحديث بطوله في خطبة أرميا لقومه وفتياه التي أفتى به ، ودخول بُخت نصر وجنوده بيت المقدس فوطىء الشام كما ذكرنا في سورة البقرة .
فلما رأى ارميا ذلك طار حتّى خالط الوحش ودخل بخت نصّر وجنوده بيت المقدس فوطىء الشام وقتل بني إسرائيل حتّى أفناهم وخرب بيت المقدس ، ثمّ أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم قربته تراب ثمّ يقذفه في بيت المقدس فقذفوا فيه التراب حتّى ملؤه ، ثم إنصرف راجعاً إلى أرض بابل وإحتمل معه سبايا بني إسرائيل وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم فجمعوا عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل فاختار منهم بسبعين ألف صبي .
فلما خرجت غنائم جنده وأراد أن يقسمهم فيهم قالت له الملوك الذين كانوا معه : أيها الملك لك غنائمنا كلها ( وأقسم بيننا ) فلولا الصبيان الذين إخترتهم من بني إسرائيل ، ففعل فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة وكان من أولئك الغلمان دانيال ، وحنانيا ، وعزاريا ، وماشايل وسبعة آلاف من أهل بيت داود وأحد عشر ألفاً من سبط يوسف بن يعقوب وأخيه ابن يامين ، وثمانية ألف من سبط أشر بن يعقوب ، وأربعة عشر الفاً من سبط زبالون بن يعقوب ( ونفتال ) بن يعقوب وأربعة الف من سبط ( يهوذا ) بن يعقوب ( وأربعة ) ألف من سبط ( روبيل ولاوي ) إبني يعقوب ومن بقي من بني إسرائيل وجعلهم بخت نصر ثلاث فرق : فثلثا أقر بالشام وثلثاً سُبي وثلثا قتل .
وذهب بأبيه بيت المقدس حتّى أقدمها بابل وذهبت بالصبيان التسعين الألف حتّى أقدمهم بابل ، فكانت هذه الواقعة الأولى التي أنزل الله ببني إسرائيل بأحداثهم وظلمهم وذلك قول الله
الإسراء : ( 5 ) فإذا جاء وعد . . . . .
) فَإذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأس شَدِيد ( يعني بخت نصر وأصحابه .
ما يروى عن حجاج عن ابن جريج عن يعلي بن مسلم عن سعيد بن جبير قال : كان رجل
(6/75)
" صفحة رقم 76 "
من بني إسرائيل يقرأ حتّى إذا بلغ ) بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأس شَدِيد ( بكى وفاضت عيناه ثمّ أطبق المصحف وقال : أي رب أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني إسرائيل على يديه فأُري في المنام مسكيناً ببابل يقال له : بخت نصر فانطلق بمال ( وبأعبد له ) وكان رجلاً موسراً ( وقيل له أين ) تريد ؟
قال : أريد النجارة حتّى نزل داراً ببابل ( فأستكبر ) إلهاً ليس فيها أحد غيره فجعل يدعو المساكين ويتلطف بهم حتى لا يأتيه أحد فقال : هل بقيَّ غيركم مسكين ؟ قالوا : نعم مسكين ( يفتح الفلان مريض ) يقال له : بخت نصر ، فقال لغلمانه : انطلقوا حتى أتاه ، فقال : ما أسمك ؟ قال : بخت نصر ، فقال لغلمانه إحتملوه فنقل عليه فمرّضه حتّى برأ فكساه وأعطاه نفقة ثمّ أذن الاسرائيلي بالرحيل فبكى بخت نصر ، فقال الاسرائيلي : ما يبكيك ؟
قال : أبكي إنك فعلت بي مافعلت ولا أجد شيئاً أجزيك ، قال : بلى شيئاً يسراً إن ملكت أطعتني فجعل لا يتبعه فيما سأل فقال : تستهزيء بي ولا يمنعه أن يعطيه ما سأل إلاّ أنه يرى أنه يستهزيء به قبلي الاسرائيلي ، فقال : لقد علمت ما يمنعك أن تعطيني ما سألتك إلاّ أن الله يريد أن ينفذ ما قد قضى وكتب في كتابه وضرب الدهر من ضربه .
قال صيحورا ملك فارس ببابل : لو إنا بعثنا طليعة إلى الشام قالوا : وما ضرك لو فعلت ؟ قال فمن ترون قال : فلان فبعث رجلاً وأعطاه مائة ألف وخرج بخت نصر في مطبخه لا يخرج إلاّ ليأكل في مطبخه .
فلما قدم الشام رأى صاحب الطليعة أكثر أرض الله فرساً ورجالاً ( جاء وقد كسر ) ذلك في ذرعه فلم يسأل قال : فجعل بخت نصر يجلس مجالس أهل الشام فيقول : ما يمنعكم أن تغزوا بابل فإذا غزوتموها مادون بيت مالها شيء .
قالو : لا نحسن القتال ، قال : ولو أنكم غزوتهم قالوا : لا نحسن القتال ولا نقاتل حتّى أنفذ مجالس أهل الشام ، ثمّ رجعوا فأخبر الطليعة ملكهم بما رأى وجعل بخت نصر يقول لفوارس الملك : لو دعاني الملك لأخبرته غير ما أخبره فلان ، فرفع ذلك إليه فدعاه فأخبره الخبر وقال : إن فلاناً لما رأى أكثر أرض الله فرساً ورجالا جلداً كبر ذلك في روعه ولم يسألهم عن شيء ، قال : لم أدع مجلساً شيئاً بالشام ( الاجال واصله ) فقلت لهم : كذا وكذا ، فقالوا لي : كذا وكذا .
قال سعيد بن جبير : وقال صاحب الطليعة لبخت نصر : إن صحبتني أعطي لك مائة الف وتنزع عما قلت . قال : لو أعطيتني بيت مال بابل لما نزعت فضرب الدهر من ضربة ، فقال الملك : لو بعثنا جريدة خيل إلى الشام ، فإن وجدوا مساغاً وإلا انثنوا ما قدورا عليه ، قال : وما ضرّك لو فعلت ، قال : فمن ترون ؟ قالوا : فلان . قال : هل الرجل الذي ( أخبرني بما أخبرني
(6/76)
" صفحة رقم 77 "
فدعا بخت نصر فأرسله وانتخب معه أربعمائة ألف من فرسانهم فانطلقوا ) فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ ( ( فسبوا ) ما شاء الله ولم ( يخربّوا ) ولم يقتلوا ، ومات ( صيحون فقالوا ) : استخلفوا رجلاً ، قالوا : على رسلكم حتّى يأتي أصحابكم فإنهم فرسانكم لن ينقضوا عليكم شيئاً ، أمهلوا فأمهلوا حتّى جاء بخت نصر ( بالسبي ) وما معه فقسمه في الناس ، فقالوا : ما رأينا أحداً أحق بالملك من هذا فملكوه .
وقال السدي بإسناده : إن رجلاً من بني إسرائيل رأى في النوم أن خراب بيت المقدس هلاك بني إسرائيل ( خلي إليَّ ) غلام يتيم ابن أرملة من أهل بابل يدعى بخت نصر وكانوا يصدقون فيصدق ، فأقبل يسأل عنه حتّى ( نزل على أبيه ) وهو يحتطب فلما جاءوا على رأسه حزمة من حطب ألقاها ثمّ قعد في جانب من البيت فكلمه ثمّ أعطاه ثلاثة دراهم ، فقال : اشتر بهذا طعاماً وشراباً وإشتري بدرهم لحماً وبدرهم خبزاً وبدرهم خمراً ، فأكلوا وشربوا حتّى كان اليوم الثاني فعل به مثل ذلك ، حتّى إذا كان اليوم الثالث فعل به ذلك ، ثمّ قال : إني أحب أن ( تكتب لي أمانا ) إن كانت ملكت يوماً من الدهر ، فقال : أتسخر مني ؟ قال : إني لا أسخر بك ( ولكن ما عليك لن تتخذ ) بها عندي مريدا فكلمته أية ، فقالت : يا ملك إن كان مالاً لم ينقصك شيئاً فيكتب به أماناً ، فقال : أرأيت إن جئت والناس حولك قد حالوا بيني وبينك فاجعل لي أية تعرفني بها ، قال : ترفع صحيفتك على قصبة فأعرفك بها فكساه وأعطاه .
ثمّ إن ملك بني إسرائيل كان يكرم يحيى بن زكريا ( عليهما السلام ) ويدني مجلسه ويستشيره في أمره ولا يقطع أمراً دونه ( فإنه هوى ) أن يتزوج ابنت إمرأة له ، فسأل عن ذلك يحيى فنهاه عن نكاحها ، قال : لست أرضاها لك ، فبلغ ذلك أمها فحقدت على ( يحيى ) حين نهاه أن يتزوج ابنتها ( فذهبت إلى جارية ) حين حس الملك على شرابه ، فألبستها ثياباً رقاقاً خضراء وطيبتها والبستها من الحلي والبستها فوق ذلك كساء أسود فأرسلتها إلى الملك وأمرتها أن تسقيه وأن تتعرض له فإن راودها عن نفسها أتت عليه حتّى يعطيها ما سألته ، فإذا أعطاها ذلك سألته أن يأتي برأس يحيى بن زكريا ( عليهما السلام ) في طشت ، ففعلت فجعلت تسقيه وتعرض له فلما أخذ منه الشراب راودها عن نفسها ، فقالت : لا ( أقبل ) حتّى تعطيني ما أسألك ، قال : ما تسألين ؟ قالت : أسألك أن تبعث إليَّ يحيى بن زكريا فتأتي برأسه في هذا الطشت ، فقال الملك : سليني غير هذا .
قالت : ما أُريد إلاّ هذا ، فلما أبت عليه بعث إليه فأتى برأسه ( والرأس يتكلم ) في الطشت حين وضع بين يديه وهي تقول ( لا يحل لك ) ، فلما أصبح إذا دمه يغلي فأمر بتراب فألقى عليه فرمى الدم فوقه فلم يزل يلقي عليه من التراب حتّى بلغ سور المدينة وهو يغلي وبلغ صيحابين فثار في الناس وأراد أن يبعث إليهم جيشاً أو يؤمر عليهم رجلاً
(6/77)
" صفحة رقم 78 "
فأتاه بخت نصر فكلمه وقال : إن الذي كنت أرسلته تلك المرة ضعيف وأني قد دخلت المدينة وسمعت كلام أهلها ( فأبعثني ) فبعثه فسار بخت نصر حتّى إذا بلغوا ذلك المكان ( تحصنوا ) منه في مدائنهم فلم يطقهم فلما اشتّد عليهم المقام وجاع أصحابه أرادوا الرجوع ، فخرجت إليه عجوزاً من عجائز بني إسرائيل فقالت : أين أمير الجند ؟ فأتى بها إليه فقالت له : إنه قد بلغني أنك تريد ) .
ثمّ ترجع بجندك قبل أن تفتح هذه المدينة ، قال : نعم ، قد طال مقامي وجاع أصحابي فلست أستطيع المقام فوق الذي كان مني ، فقالت : أرأيتك إن فتحت لك المدينة أتعطيني ما أسألك ( فتقتل ) من أمرتك بقتله وتكف إن أمرتك أن تكف ؟ قال لها : نعم ، قالت : إذا أصبحت فأقسم جندك أربعة أرباع ثمّ أقم على كل زاوية ربعاً ثمّ إرفعوا أيديكم إلى السماء فنادوا : إنا نستفتحك يا الله بدم يحيى بن زكريا فإنها سوف تساقط ، ففعلوا فتساقطت المدينة ودخلوا من جوانبها فقالت له : كف يدك وأقبل على هذا الدم حتّى يسكن وإنطلقت به إلى دم يحيى وهو على ( تراب كثيرة ) فقتل عليه حتّى سكن فقتل سبعين ألفاً فلما سكن الدم ، قالت له : كف يدك فإن الله تعالى إذا قتل نبي لم يرض حتّى يقتل من قتله ومن رضى قتله ، وأتاه صاحب الصحيفة بصحيفة فكف عنه وعن أهل بيته وخرب بيت المقدس وأمر أن يطرح الجيفة فيه ، وقال : من طرح جيفة فيه فله جزيته تلك السنة وأعانه الله على خرابة الروم من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى .
فلما خربه بخت نصر ذهبت معه بوجوه بني إسرائيل وأشرافهم وذهب بدانيال وعليا وعزاريا وميشائيل هؤلاء كلهم من أولاد الأنبياء وذهب معه برأس جالوت ، فلما قدم أرض بابل وجد صحابين قد مات فملك مكانه وكان أكرم الناس عليه دانيال وأصحابه حسدهم المجوس على ذلك فوشوا بهم إليه وقالوا : إن دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك وإنما يعبدون غيره ولا يأكلون ذبيحتك فدعاهم فسألهم فقالوا : أجل إن لنا رباً نعبده ولسنا نأكل من ذبيحتكم فأمر بحد فخدّ لهم فألقوا فيه وهم ستة وألقى معهم سبعاً ضارياً ليأكلهم ، ففعلوا ذلك فانطلقوا ليأكلوا ويشربوا فذهبوا فأكلوا وشربوا ثمّ راحوا فوجدوهم جلوساً والسبع معترش ذراعيه بينهم لم يخدش منهم أحداً ولم ينكأه شيئاً ووجدوا معهم رجلاً فعدوهم فوجدوهم سبعة فقالوا : ما بال هذا السابع وإنما كانوا ستة فخرج إليهم السابع وكان ملكاً من الملائكة فلطمهُ لطمة فصار في الوحش ومسخه الله سبع سنين فيه .
ثمّ إن بخت نصر رأى رؤيا عبّرها له دانيال ( عليه السلام ) ، وهو ماروى إسماعيل بن عبد الكريم عن عبد الصمد بن معقل أنه سمع راهباً يقول : إن بخت نصر رأى في آخر زمانه صنماً رأسه من ذهب وصدره من فضة وبطنه من نحاس وفخذاه من حديد وساقاه من فخار ، ثمّ رأى
(6/78)
" صفحة رقم 79 "
حمراً من السماء وقع عليه قذفه ثمّ أتاه الحجر حتّى ربا فملىء ما بين المشرق والمغرب ، ورأى شجرة أصلها في الأرض وفروعها في السماء ثمّ رأى رجلاً بيده فأس ، وسمع منادياً ينادي : اضرب بجذعها لتفرق الطير من فروعها وتفرق الدواب والسباع من تحتها ، وأنزل ( . . . . . ) عبرها له دانيال ( عليه السلام ) .
قال : أما الصنم الذي رأيت فأتيت الرأس الذهب فأنت أفضل الملوك ، وأما الصدر الذي ( رأيت ) من فضة فإبنك يملك من ( بعدك ) ، وأما البطن الذي رأيت من نحاس فذلك يكون من بعد ( إبنك ) وأما رأيت من الفخذ من حديد فهو ملك أهل فارس يكون ملكهم شديداً مثل الحديد ، وأما الرجل من فخار فتفرق أهل فارس فرقتين ولا يكون فيهم حينئذ قوام كما لم يلين قوام الصنم على رجلين من فخار ، وأما الحجر الذي ربا حتّى ملأ مابين المشرق والمغرب فنبي يبعثه الله في آخر الزمان فيفرق ملكهم كله فيربوا ملكه حتّى يكون ما بين المشرق والمغرب .
وأما الشجر الذي رأيت والطير الذي عليها والسباع والدواب التي تحتها وما أمر ( بقطعها فيذهب ) ملكك فيردك الله طائراً يكون شراً ملك الطير ثمّ يردك ثوراً ملك الدواب ثمّ يردك الله أسداً ملك السباع والوحش سبع سنين كان مسخه كله سبع سنين . في ذلك كله قلبك قلب إنسان حتّى تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وهو يقدر على الأرض ومن عليها ، وما رأيت أصلها ( قائماً ) فإن ملكك قائم ، فمسخ بخت نصر نسراً من الطير وثوراً من الدواب واسداً من السباع ثمّ ردّ الله إليه ملكه فأمن ودعا الناس إلى الله .
( وسئيل وهب بن منبه ) أكان مؤمناً ؟ قال : وجدت أهل الكتاب قد اختلفوا فيه ، فمنهم من قال : مات مؤمناً ، ومنهم قال : أحرق بيت الله وكتبه وقيد الأنبياء ، وغضب الله عليه غضباً ، فلم يقبل منه حينئذ توبته .
وقال بخت نصر لما رجع إلى صورته ثانية بعد المسخ ( فرّد الله ) إليه ملكه : كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه فحسدتهم المجوس وقالوا لبخت نصر : إن دانيال إذا شرب الخمر لم يملك نفسه أن يبول ، وكان ذلك فيهم عاراً فجعل لهم بخت نصر طعاماً فأكلوا وشربوا وقال للبواب : أنظر أول من يخرج عليك ليبول فاضربه بالطبرزين وإن قال : أنا بخت
(6/79)
" صفحة رقم 80 "
نصر ، فقل : كذبت بخت نصر أمرني به فحبس الله عن دانيال البول وكان أول من قام من القوم يريد البول بخت نصر وكان مدلاً وكان ليلاً ، فقام يسحب ثيابه فلما رآه البوّاب شد عليه فقال : أنا بخت نصر قال : كذبت بخت نصر أمرني أن أقتل أول من يخرج فضربه فقتله .
وأما محمّد بن إسحاق بن يسار فإنه قال : في هلاك بخت نصر غير ما قال السدي ، وذلك أنه قال بإسناده : لما أراد الله ( . . . . . . . ) ليبعث فقال لمن كان في ( . . . . . . ) وكان يعذبه من بني إسرائيل : أن أتتم هذا البيت الذي خربته وهؤلاء الناس الذين قلت من هم وما هذا البيت ، فقالوا : هذا بيت الله ومسجد من مساجده وهؤلاء أهله ، كانوا من ( ذراري الأنبياء ) وظلموا ( وتعذروا ) وعصوا عليهم بذنوبهم وكان ربهم رب السماوات والأرض ورب الخلق كلهم يكرههم ويمنعهم ( ويحرمهم ) ، فلما فعلوا ما فعلوا أهلكهم الله وسلط عليهم غيرهم .
قال : فأخبروني ما الذي يطلع بي إلى السماء العليا لعلي أطلع عليها فأقبل من فيها واتخذها ملكاً فإني قد ( فرغت ) من الأرض ومن فيها ، قالوا : ما يقدر عليه أحد من الخلائق ، قال : لتفعلن ( أو لأقتلنكم عن آخركم ) فبكوا إلى الله وتضرعوا إليه ، فبعث الله عليه بقدرته بعوضة ليرى ضعفه وهوانه فدخلت في منخره ثمّ سلفت في منخره حتّى عضت بأم الدماغ ، فما كان ( يقر ولا يسكن ) حتّى توجأ له رأسه على أم دماغه فلما عرف الموت قال لخاصته من أهله : إذا مت فشقوا رأسي وانظروا ما هذا الذي قتلني ، فلما مات شق رأسه فوجد البعوضة عاضة بأم دماغه ، ليرى الله العباد قدرته وسلطانه ويحيى الله من كان بقي في يديه من بني إسرائيل وترحم عليهم وردهم إلى إيليا والشام فبنوا فيها وأربوا وكثروا حتّى كانوا على أحسن ما كانوا عليه .
ويزعمون أن الله تعالى اختار توليت الموتى الذين قتلوا ولحقوا بهم ، ثمّ إنهم لما رجعوا إلى الشام وقد أحرق التوراة ( وليس معهم عهد ) من الله جدد الله توراته وردها عليهم على لسان عزير ( عليه السلام ) وقد مضت القصة ، فهذا الذي ذكرت جميع أمر بخت نصر على ما جاء في التفسير المعتمد في أخبار الأنبياء ، إلاّ أن رواية من روى أن بخت نصر هو الذي غزا بني إسرائيل عند ( قتلهم ) يحيى بن زكريا غلط ( أهل السير ) والأخبار والعلم بأُمور الماضين من أهل الكتاب والمسلمين ، ذلك أنهم مجمعون على أن بخت نصر غزا بني اسرائيل عند قتلهم نبيهم شعياء وفي عهد أورميا بن حلفيا ( عليه السلام ) وهي الوقعة الأولى التي قال الله ) فإذا جاءَ وعدُ أُولاهما بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأس شَدِيد ( يعني بخت نصر وجنوده ، قالوا ومن عهد أروميا
(6/80)
" صفحة رقم 81 "
وتخريب بخت نصر بيت المقدس إلى عهد يحيى بن زكريا أربعمائة وإحدى وستون سنة ، وذلك أنهم يعدون من لدن تخريب بخت نصر بيت المقدس إلى حين ( عمارته في عهد كوسك ) سبعين سنة ، ثمّ من بعد عمرانه إلى ظهور الإسكندر على بيت المقدس وحيازة ملكها إلى مملكة الإسكندر ثمانية وثمانين سنة ، ثمّ من بعد مملكة الاسكندر إلى موت يحيى بن زكريا ( عليه السلام ) بثلثمائة وثلاث وستون ، ويروى بثلاثمائة سنة وثلاث سنين .
وإنما الصحيح من ذلك ماذكر محمّد بن إسحاق بن يسار قال : كثر عن بني إسرائيل بعدما عمرت الشام وعادوا إليها بعد اخراب بخت نصر إياها وسبيهم منها ، فجعلوا بعد ذلك يحدثون الأحداث بعد مهلك عزير ( عليه السلام ) ويتوب الله عليهم وبعث الله فيهم الأنبياء وفريقاً يكذبون وفريقاً يقتلون حتّى كان آخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى وكانوا من بيت آل داود ، فمات زكريا وقتل يحيى بسبب رغبة الملك عن نكاح ابنته ، في قول عبد الله ابن الزبير وابنت أخته في قول السدي وابنت أخيه في قول ابن عبّاس .
وهو الأصح إن شاء الله ، لِما روى الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير قال : بعث عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا في إثنى عشر من الحواريين يعلمون الناس ، وكان مما نهوهم نكاح بنت الأخ ، قال : وكانت لملكهم ابنت أخ تعجبه يريد أن يتزوجها وكانت لها في كل يوم حاجة يقضيها ، وذكر الحديث بطوله في مقتل يحيى .
رجعنا إلى حديث ابن إسحاق ، فلما رفع الله موسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى بن زكريا ، وبعض الناس يقول : قتلوا زكريا انبعث عليهم ملك من ملوك بابل يقال له : خردوس فسار إليهم بأهل بابل حتّى دخل عليهم الشام ، فلما ظهر عليهم أمر رأساً من رؤوس جنوده يدعى ( نبور زاذان ) صاحب القتل فقال له : إني قد كنت حلفت بإلهي لئن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتّى تسيل دماؤهم في وسط عسكري ، إلاّ أني لا أجد أحداً أقتله ، فأمره ان يقتلهم حتّى يبلغ ذلك منهم نبور زاذان ، فدخل بيت المقدس وكان في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم ( فوجد فيها دماً يغلي ) فسألهم عنه ، قالوا : هذا دم قربان قربناه فلم يقبل منا فلذلك هو يغلي كما تراه ولقد قربنا منذ ثمانمائة سنة القربان فتقبل منا إلاّ هذا القربان ، قال : ما صدقتموني الخبر قالوا له : لو كان كأول زماننا لقبل منا ولكنه قد انقطع منا الملك والنبوة والوحي فلذلك لم يتقبل منا فذبح منهم ( نبور زاذان ) على ذلك الدم سبعمائة وسبعون رأساً من رؤسائهم فلم يهدأ فأمر بسبعة آلاف من شيعهم وأزواجهم فذبحهمعلى الدم فلم يبرد ولم يهدأ
(6/81)
" صفحة رقم 82 "
فلما رأى نبور زاذان أن الدم لا يهدأ قال لهم : ويلكم يابني إسرائيل أصدقوني واصبروا على أمر ربكم ( فقد طال ) ما ملكتم في الأرض ، تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا أترك نافخ نار لا أنثى ولا ذكر إلا قتلته فلما ( رأوا الجهد ) وشدة القتل صدقوهُ القول فقالوا له : إن هذا دم نبي منا كان ينهاها عن أمور كثيرة من سخط الله فلو أطعناه فيها لكان أرشد لنا وكان يخبرنا بالملك فلم نصدقه فقتلناه فقال لهم نبور زاذان : ماكان اسمه ؟ قال : يحيى بن زكريا ، قال : وهل صدقتموني ، بمثل هذا ينتقم منكم ربكم ، فلما رأى نبور زاذان أنهم قد صدقوه خرَّ ساجداً وقال لمن حوله : اغلقوا أبواب المدينة واجمعوا من كان هاهنا من جيش خردوس وخلا في بني إسرائيل .
قال : يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم من أجلك فاهدأ بأذن الله قبل أن لا يبقي من قومك أحد ، فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله ، ورفع نبور زاذان عنهم القتل ( وقال : آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل وصدقت به وأيقنت أنه لا رب غيره ، ولو كان معه آخر لم يصلح ولو كان له شريك لم تستمسك السموات والأرض ، ولو كان له ولد لم يصلح ، فتبارك وتقدس وتسبح وتكبر وتعظم ملك الملوك الذي له ملك السموات السبع والأرض وما فيهن وما بينهن ، وهو على كل شيء قدير فله الحكم والعلم والعزة والجبروت وهو الذي بسط الأرض وألقى فيها رواسي لئلا تزول ، فكذلك ينبغي لربي أن يكون ويكون ملكه ) فأوحى الله تعالى إلى رؤس من رؤوس بقية الأنبياء أن نبور زاذان حبور صدوق .
وأن نبور زاذان قال لبني إسرائيل : يابني إسرائيل إن عدو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتّى تسيل دماءكم وسط عسكره وإني لست أستطيع أن أعصيه قالوا له : إفعل ما أُمرت به فأمرهم فحفروا خندقاً وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم فذبحها حتّى سال الدم في العسكر وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم حتّى كانوا فوقهم ، فلم يظن خردوس إلا أن ما كان في الخندق من بني إسرائيل فلما بلغ الدم عسكره أرسل إلى نبور زاذان أن أرفع عنهم القتل فقد بلغني دماؤهم ( وقد انتقمت منهم لما فعلوا ) ثمّ إنصرف عنهم إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاده ، وهو الوقعة الاخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل في قوله ) وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ( الآيات .
وكانت الوقعة الأولى : بخت نصر وجنوده ثمّ ردَّ الله لهم الكرة عليهم وكانت الوقعة الاخيرة خردوس وجنوده فلم ( . . . . . . . ) همام بعد ذلك ( . . . . . . . ) . فانتقل الملك بالشام
(6/82)
" صفحة رقم 83 "
ونواحيها إلى الروم واليونان ، ثم إن بني إسرائيل كثروا وانتشروا بعد ذلك وكانت لهم ببيت المقدس ( بزواجها ) على غير وجه الملك وكانوا في أُهبة ومِنْعَة إلى أن بدلوا وأحدثوا الأحداث وانتهكوا المحارم وضربوا الحدود فسلط الله عليهم ططوس بن سيبانو الرومي ، فأخرب بلادهم وطردهم عنها ونزع الله عنهم الملك والرئاسة وضرب عليهم الذلة ، فليسوا في أمة من الأمم إلاّ وعليهم ( الصغار ) والملك في غيرهم وبقي بيت المقدس خراباً إلى أيام عمر بن الخطاب ( ح ) عمّره المسلمين بأمره .
وروى أبو عوانة عن أبي بشير قال : سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى ) وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ( الآيات ، فقال : أما الذين ) فجاسوا خلال الديار ( فكان مرحا بن الجزري فإذا جاء إلى قوله ) تتبيرا ( فكان جالوت الجزري شعبة من ( . . . . . . . ) .
الإسراء : ( 6 ) ثم رددنا لكم . . . . .
ثمّ قال : ) ثم رددنا لكم الكرة ( إلى قوله ) تتبيرا ( قال : هذا بخت نصر الذي خرب بيت المقدس .
ثمّ قال لهم بعد ذلك ) عَسَى رَبُّكُمْ أنْ يَرْحَمَكُمْ ( ( على هذا ثمّ ) ) وَإنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ( قال فعادوا فعيد عليهم فبعث الله عليهم ملك الروم ثمّ عادوا أيضا فعيد عليهم فبعث الله عليهم ملك ( . . . . . . . . ) ثمّ عادوا أيضاً فعيد عليهم سابور ذو الاكتاف .
قتادة في هذه الآية ( وقضينا ) قضى على القوم كما تسمعون فبعث عليهم في الأولى جالوت ، فسبى وقتل وخرب ) وجاسوا خلال الديار ( ، ثمّ رددنا لكم يعني يا بني إسرائيل الكرة عليهم والملك في زمان داود ( عليه السلام ) ) فَإذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ ( آخر الكرتين بعث الله عليم بخت نصر أبغض خلق الله ، فسبى وقتل وخرب بيت المقدس وسامهم سوم العذاب ، ثمّ قال ) عسى ربكم أن يرحمكم ( فعاد الله إليهم برحمته ثمّ عاد ( الله إليهم بشر ) بما عذبهم ، فبعث الله عليهم ما شاء أن يبعث من آفته وعقوبتة ، ثمّ بعث الله عليهم هذا الحي من العرب كما قال : ) وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ( ( . . . . . ) .
(6/83)
" صفحة رقم 84 "
) وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ( أي أخبرناهم وعلمناهم في ما آتيناهم من الكتب .
وقال ابن عبّاس وقتادة : يعني وقضينا عليكم ، وعلى هذا التأويل يكون ( إلى ) بمعنى ( على ) وبمعنى بالكتاب اللوح المحفوظ ، ) لتفسدن ( قيل : لام القاسم مجازة : والله لتفسدن في الأرض مرتين بالعاصي ) لتعلونّ ( ولتستكبرن ولتظلمن الناس ) علواً كبيراً فإذا جاء وعد أولئهما ( يعني أولي المرتين واختلفوا فيها فعلى قول قتادة : إفسادهم في المرة الأولى ما خالفوا من أحكام التوراة ( وحكموا ) ربهم ولم يحفظوا أمر نبيهم موسى ( عليه السلام ) وركبوا المحارم وتعدوا على الناس .
وقال السدي : في خبر ذكره عن أبي مالك وأبي جهل عن ابن عبّاس وعن أمية الهمذاني عن ابن مسعود : إن أول الفسادين قتل زكريا .
وقال ابن إسحاق : إن إفسادهم في المرة الأولى قتلهم شعياء بن أمصيا في عهد أرمياء في الشجرة .
وقال ابن إسحاق : إن بعض أهل العلم أخبره أن زكريا مات موتاً ولم يقتل وأن المقتول هو شعياء ( عليه السلام ) .
) بعثنا عليكم عباداً لنا ( يعني ( جالوت الجزري ) وجنوده وهو الذي قتله داود .
قال قتادة : وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس ، وقال أبو المعلى ويعلى عن سعيد بن جبير : هم صحاريب من أهل نينوى ، وهي الموصل .
أبو بشير عنه : صرخان الخزري ، وقال : ابن إسحاق : بخت نصر البابلي وأصحابه .
) أولي بأس ( يعني بطش ، وفي الحرب ) شديد فجاسوا ( أي خافوا وداروا .
قال ابن عبّاس : مشوا ، الفراء : قتلوكم بين بيوتكم .
وأنشد لحسان :
ومنا الذي لاقي بسيف محمّد
فجاس به الأعداء عرض العساكر
أبو عبيدة : طلبوا ما فيها كما يجوس الرجل الأخبار أي يطلبها .
القتيبي : ( عاشوا وقتلوا ) وأفسدوا
(6/84)
" صفحة رقم 85 "
ابن جرير : طافوا من الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين وجائين فجمع التأويلات .
وقرأ ابن عبّاس : فجاسوا بالهاء ومعناها واحد .
) خلال الديار وكان وعداً مفعولاً ( قضاء كائناً لا خلف فيه ) ثمّ رددنا لكم الكرّة ( الرجعة والدولة ) عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ( عدداً .
قال القتيبي : والنفير من نفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته ، يقال : النفير والنافر ، وأصله القدير والقادر .
الإسراء : ( 7 ) إن أحسنتم أحسنتم . . . . .
) إن أحسنتم ( يابني إسرائيل ) أحسنتم لأنفسكم ( لها ثواباً ونفعها ) وإن أسأتم فلها ( أي فعليها كقوله ) سلام لك ( أي عليك .
وقال محمّد بن جرير : قالها كما قال ) إن ربك أوحى لها ( أي إليها ، وقيل : فلها الجزاء والعقاب .
وقال الحسين بن الفضل : يعني فلها رب يغفر الإساءة .
) فإذا جاء وعد الآخرة ( أي المرة الآخرة من إفسادكم وذلك على قصدهم قتل عيسى ( عليه السلام ) يحيى حين رُفع ، وقتلهم يحيى بن زكريا ( عليه السلام ) فسلط الله عليهم الفُرس والروم ( . . . . . . . . . . . . . . ) قتلوهم وسبوهم ونفوهم عن بلادهم وأخذوا بلادهم وأموالهم فذلك قوله ) ليسؤا وجوهكم ( أي ليحزن ، واختلف القراء فيه ، فقرأ الكسائي : لنسؤ بالنون وفتح الهمزة على التعظيم اعتباراً ، وقضينا وبعثنا ورددنا وأمددنا وجعلنا .
وروى ذلك عن علي ( ح ) : وتصديق هذه القراءة قرأ أُبي بن كعب : لنسؤنّ وجوهكم بالنون وحرف التأكيد .
وقرأ أهل الكوفة : بالياء على التوحيد ، ولها وجهان : أحدهما ليسؤ الله وجوهكم ، والثاني ليسؤ ( العدو ) وجوهكم .
وقرأ الباقون : ليسؤ وجوهكم بالياء وضم الهمزة على الجمع ، بمعنى ليسؤ العباد أولي بأس شديد وجوهكم ) وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ ( يعني بيت المقدس ونواحيه ) كَمَا دَخَلُوهُ أوَّلَ مَرَّة وَلِيُتَبِّرُوا ( وليهلكوا أو ليدمروا ) مَا عَلَوْا ( غلبوا عليه ( تدميرا ) ) تَتْبِيراً }
الإسراء : ( 8 ) عسى ربكم أن . . . . .
) عَسَى ( لعلّ ربكم يابني إسرائيل ) أنْ يَرْحَمَكُمْ ( بعد انتقامهم منكم ) وَإنْ عُدْتُمْ عُدْنَا ( .
(6/85)
" صفحة رقم 86 "
قال ابن عبّاس : وإن عدتم إلى المعصية عدنا إلى العقوبة ، فعادوا فبعث الله عليهم محمداً رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون ) وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً ( معيناً سجناً ومحبساً من الحصر وهو الحبس ، والعرب تسمى ( النخيل ) حصوراً والملك حصيراً ( لأنه محجوب محبوس ) عن الناس .
قال لبيد :
وقماقم غلب الرقاب كأنهم
جن لدى باب الحصير قيام
أي باب الملك ومنه : انحصر في الكلام إذا ( احتبس عليه ) وأعياه ، والرجل الحصور عن النساء وحصر الغائط .
قال الحسن ) وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً ( أي فراشاً ومهاداً ، ذهب إلى الحصير الذي يفرش ، وذلك أن العرب تسمي البساط الصغير حصيراً ، وهو وجه حسن وتأويل صحيح .
2 ( ) إِنَّ هَاذَا الْقُرْءَانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ءَايَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ ءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَآ ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَىْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدى لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ( 2
الإسراء : ( 9 ) إن هذا القرآن . . . . .
) إنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أقْوَمُ ( أي الطريقة التي ( هي أسد وأعدل وأصوب ) ) وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أنَّ لَهُمْ أجْراً كَبِيراً ( وهو الجنة
الإسراء : ( 10 ) وأن الذين لا . . . . .
) وَأنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً ألِيماً ( وهي النار
الإسراء : ( 11 ) ويدع الإنسان بالشر . . . . .
) وَيَدْعُ الإنسَانُ ( حذفت الواو هنا في اللفظ والخط ولم يحذف في المعنى لأنها في موضع رفع وكان حذفها باستقالتها اللام الساكنة كقوله ) سندع الزبانية ( ) يمحُ الله الباطل ( ، ) ويؤت الله المؤمنين ( ) وينادي المنادي ( ) فما تغني النذر ( ومعنى الآية ويدع الانسان على ( ماله وولده ونفسه بالسوء ) وقوله عند الضجر
(6/86)
" صفحة رقم 87 "
والغضب : اللهم العنه اللهم أهلكه ) دعاءه بالخير ( أي كدعائه ربه أن يهب له العافية والنعمة ويرزقه السلامة في نفسه وماله وولده ( بالشر لهلك ) ولكن الله بفضله لا يستجيب له في ذلك ، نظيره قوله تعالى ) ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم ( ) وَ كَانَ الإنسَانُ عَجُولا ( عجلاً بالدعاء على مايكره أن يستجاب له فيه .
قال مجاهد وجماعة من المفسرين ، وقال ابن عبّاس : ( يريد ) ضجراً لا صبراً له على سراء ولا ضرّاء .
وقال قوم من المفسرين : أراد الانسان آدم .
قال سلمان الفارسي : أول ما خلق الله من آدم رأسه ، فجعل ينظر وهو يخلق جسده فلما كان عند العصر بقيت رجلاه لو يبث فيها الروح ، فقال : يارب عجّل قبل الليل فذلك قوله ) وَ كَانَ الإنسَانُ عَجُولا ( .
وروى الضحاك عن ابن عبّاس قال : لما خلق الله رأس آدم نظر إلى جسده فأعجبه ، فذهب لينهض فلم يقدر ، فهو قول الله ) وَكَانَ الإنسَانُ عَجُولا ( ( وقيل : المراد آدم فإنه لما اهتدى للصح إلى سترته ذهب لينهض فسقط ، يروى أنه علم وقع أسيراً إلى سودة بنت زمعة فرحمته لأنينه فأرخت من كتافه فهرب فدعا النبي عليها بقطع اليد ثم ندم فقال : اللهم إنما أنا بشر فمن دعوت عليه فاجعل دعائي رحمة له فنزلت هذه الآية )
الإسراء : ( 12 ) وجعلنا الليل والنهار . . . . .
) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ( دلالتين وعلامتين على وحدانيتنا ووجودنا وكمال علمنا وقدرتنا وعدد السنين والحساب ) فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ ( قال أبو الطفيل : سأل ابن الكواء علياً ( ح ) فقال : ما هذا السواد في القمر ؟ فقال علي : ) فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ( وهو المحو .
وقال ابن عباس : الله نور الشمس سبعين جزءاً ونور القمر سبعين جزءاً فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءاً فجعله مع نور الشمس فالشمس على مائة وتسعة وثلاثين جزءاً والقمر على جزء واحد .
) وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ ( وهي الشمس ) مُبْصِرَةً ( ( منيرة مضيئة ) .
(6/87)
" صفحة رقم 88 "
وقال أبو عمرو بن العلا : يعني بصرها .
قال الكسائي : هو من قول العرب أبصر النهار إذا أضاء وصار بحالة يبصرها .
وقال بعضهم : هو كقولهم : ( رجل خبيث مخبث إذا كان أصحابه خبثاء ورجل مضعف إذا كانت دوابه ضعافاً فكذلك النهار مبصراً إذا كان أهله بصراء ) .
) لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ ( إلى قوله ) فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا ( بينّاه تبييناً .
مقاتل بن علي عن عكرمة عن ابن عبّاس قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إن الله تعالى لما أبرم خلقه فلم يبق من خلقه غير آدم خلق شمساً من نور عرشه وقمراً فكانا جميعاً شمسان فأما ما كان في سابق علم الله أن يدعها شمساً فإنه خلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها ومغاربها وأما ما كان في سابق علمه أن يطمسها فيحولها قمراً فخلقها دون الشمس من العظيم ولكن إنما يرى صغرهما من شدة ارتفاع السماء وبعدها من الأرض ، فلو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولا النهار من الليل ولا كان يدرك الأجير إلى متى يعمل ومتى يأخذ أجره ولايدري الصائم إلى متى يصوم ومتى يفطر ، ولا تدري المرأة كيف تعتد ولا يدري المسلمون متّى وقت صلاتهم ومتى وقت حجهم ، ولا يدري الديان متّى يحل دينهم ولا تدري الناس متى يبذرون ويزرعون لمعاشهم ومتى يسكنون لراحة أبدانهم فكان الرب سبحانه أنظر لعباده وأرحم بهم فأرسل جبرائيل ( فأمّر ) جناحه على وجه القمر وهو يومئذ شمس فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور ، فذلك قوله تعالى ) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ( ( والسواد ) الذي ترونه في جوف القمر يشبه الخطوط ، فهو أثر المحو .
الإسراء : ( 13 ) وكل إنسان ألزمناه . . . . .
) وَكُلَّ إنسَان ألْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ( قال ابن عباس : وما قدر عليه ( من خير وشر ) فهو ملازمه أينما كان .
الكلبي ومقاتل : خيره وشره معه لايفارقه حتّى يحاسب به ( وتلا الحسن : ) عن اليمين وعن الشمال قعيد ( ) ثمّ قال يا بن آدم بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان أحدهما عن يمينك والآخر ( عن يسارك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما الذين عن شمالك فيحفظ سيئاتك فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً )
(6/88)
" صفحة رقم 89 "
مجاهد : عمله ورزقه ، وعنه : ما من مولود يولد إلاّ وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد .
وقال أهل المعاني : أراد بالطائر ما قضى عليه ( أنه ) عامله في ماهو صائر إليه من سعادة أو شقاوة ، وإنّما عبر عنه بالطائر على عادة العرب كما كانت تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها .
أبو عبيد والعيني : أراد بالطائر حظه من الخير والشر عن قولهم طار منهم فلان بكذا أيّ جرى له الطائر بكذا .
وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء : طائره في عنقه بغير ألف وإنّما خص عنقه دون سائر أعضائه ، لأن العنق موضع السمات وموضع القلائد والأطراف وغير ذلك مما يشين أو يزين ، فجرى كلام العرب ( بنسبة الأشياء اللازمة ) إلى الأعناق فيقولون هذا في عنقي حتّى أخرج منه وهذا الشيء ( لازم صليت ) عنقه .
) وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ كِتَاباً ( قرأ الحسن ومجاهد وابن محيصن ويعقوب : ويخرج بفتح الياء وضم الراء على معنى ويخرج له الطائر يوم القيامة كتاباً نصب كتاباً على الحال ، ويحتمل أن يكون معناه ويخرج له الطائر فيصير كتاباً .
وقرأ أبو جعفر : ويخرج بضم الياء وفتح الراء على غير تسمية الفاعل ومجازه ويخرج له الطائر كتاباً .
وقرأ يحيى بن وثاب : ويخرج أيّ ويخرج الله .
وقرأ الباقون : بنون مضمومة وكسر الراء على معنى ونحن نخرج له يوم القيامة كتاباً ونصب كتاباً بإيقاع الاخراج عليه واحتج أبو عمرو لهذه القراءة بقوله الزمناه .
) يَلْقَاهُ ( قرأ أبو عامر وأبو جعفر : تلقاه بضم التاء وتشديد القاف يعني تلقى الانسان ذلك الكتاب أي ( يؤتا ) . وقرأ الباقون : بفتح الياء أي يراه .
) مَنشُوراً ( نصب على الحال .
عن بسطام بن مسلم قال : سمعت أبا النباج يقول سمعت أبا السوار العدوي يقرأ هذه الآية ثمّ قال : نشرتان وعليه ماحييت يابن آدم فصحيفتك منشورة فاعمل فيها ما شئت ، فإذا مت طويت ثمّ إذا بعثت نشرت
(6/89)
" صفحة رقم 90 "
الإسراء : ( 14 ) اقرأ كتابك كفى . . . . .
) اقْرَأ كِتَابَكَ ( يعني فيقال له إقرأ كتابك ) كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ( محاسباً مجازياً .
قتادة : سيقرأ يومئذ كل من لم يكن في الدنيا ( مُجَازياً ) .
وقال الحسن : ( قد عدل والله عليك ) من جعلك حسيب نفسك .
الإسراء : ( 15 ) من اهتدى فإنما . . . . .
) مَنِ اهْتَدَى فَإنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ( لها نوليه ) وَمَنْ ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ( لأن عليها عقابه ) وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ( ولا يحمل حامله عمل أخر من الأثام ) وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ( إقامة للحجة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم
الإسراء : ( 16 ) وإذا أردنا أن . . . . .
) وَإذَا أرَدْنَا أنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ( .
قرأ عثمان النهدي وأبو رجاء العطاردي وأبو العالية ( وأبو جعفر ) ومجاهد : أمّرنا بتشديد الميم أيّ خلطنا ( شرارها ) فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم .
وقرأ الحسن وقتادة وأبو حياة الشامي ويعقوب : أمرنا ممدودة أي أكثرنا .
وقرأ الباقون : بكسر الميم ، أي أمرناهم بالطاعة فعصوا ، ويحتمل أن يكون بمعنى جعلناهم أمراً لأن العرب تقول أمر غير مأمور أي غير مؤمر ، ويجوز أن يكون بمعنى أكثر مايدل عليه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة ) أراد بالمأمورة كثرة النسل ويقال للشيء الكثير : أمر ، والفعل منه أمر يأمرون أمراً إذا كثروا .
وقال لبيد :
كل بني حرة مصيرهم
قل وإن أكثرت من العدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا ،
يوماً يصيروا للهلك والنفذ
وإختاره أبو عبيد وأبو حاتم وقرأه العامّة .
وقال أبو عبيد : إنما إخترنا هذه القراءة ، لأن المعاني الثلاثة تجتمع فيها يعني الأمر والأمارة والكثرة ، ) مترفيها ( ( . . . . . . . . . . . ) وهم أغنياؤها ورؤساءها ) فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ ( يوجب عليها العذاب ) فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ( فجزيناهم ( وأهلكناهم إهلاكاً بأمر فيه أُعجوبة ) .
(6/90)
" صفحة رقم 91 "
روى معمر عن الزهري قال : دخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوما على ( زينب ) وهو يقول : ( لا إله إلاّ الله للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه ) قالت : يارسول الله أنهلك وفينا الصالحون ، قال : ( نعم إذا كثر الخبث ) .
2 ( ) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الاَْخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَائِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا كُلاًّ نُّمِدُّ هَاؤُلاءِ وَهَاؤُلاءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلاَْخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَاهًا ءَاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلاَْوَّابِينَ غَفُوراً ( 2
الإسراء : ( 17 ) وكم أهلكنا من . . . . .
) وَكَمْ أهْلَكْنَا مِنَ القُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوح ( تخوف كفار مكة ) وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ( وقد اختلفوا في مبلغ مدة القرن :
قال عبد الله بن أُبي : وفي القرن عشرون ومائة سنة ، فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في أول قرن كان وآخرهم يزيد بن معاوية .
وروى محمّد بن القاسم عن عبد الله بن بشير المازني أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وضع يده على رأسه وقال : ( سيعيش هذا الغلام قرناً ) فقلت : كم القرن ؟ قال : ( مائة سنة ) .
قال محمّد بن القاسم : مازلنا نعدّ له حتّى ( تمت ) مائة سنة ثمّ مات .
وقال الكلبي : القرن ثمانون سنة .
وروى عمر بن شاكر عن ابن سيرين قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( القرن أربعون سنة ) .
الإسراء : ( 18 ) من كان يريد . . . . .
) مَنْ كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ ( يعني الدنيا فعبرنا بحرف عن الاسم ، أراد بالدار العاجلة ) عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ ( من البسط والتقدير ) لِمَنْ نُرِيدُ ( أن يفعل به ذلك ( أوّل ) إهلاكه ، ) ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ ( في الآخرة ) يَصْلاهَا ( يدخلها ) مَذْمُوماً مَدْحُوراً ( مطروداً مبعداً
الإسراء : ( 19 ) ومن أراد الآخرة . . . . .
) وَمَنْ أرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا ( وعمل لها عملها ) وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ( مقبولاً غير مكفور
الإسراء : ( 20 ) كلا نمد هؤلاء . . . . .
) كُلاّ نُمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاءِ ( أيّ نمد كل الفريقين ، من يريد العاجلة ومن يريد الآخرة
(6/91)
" صفحة رقم 92 "
فيرزقهما جميعاً ) مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ( ثمّ يختلف بهما الحال في المال ) وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ( ممنوعاً ( محبوساً ) عن عباده
الإسراء : ( 21 ) انظر كيف فضلنا . . . . .
) انظُرْ ( يا محمّد ) كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض ( في الرزق والعمل ، يعني طالب العاجلة وطالب الآخرة ) وَلَلآخِرَةُ أكْبَرُ دَرَجَات وَأكْبَرُ تَفْضِيلا }
الإسراء : ( 22 ) لا تجعل مع . . . . .
) لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إلاهاً آخَرَ ( الخطاب إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد به غيره ) فَتَقْعُدَ ( فتبقى ) مَذْمُوماً مَخْذُولا }
الإسراء : ( 23 ) وقضى ربك ألا . . . . .
) وَقَضَى ( أمر ) رَبُّكَ ( .
قال ابن عبّاس وقتادة والحسن قال زكريا بن سلام : جاء رجل إلى الحسن وقال إنه طلق امرأته ثلاثاً ، فقال : إنك عصيت ربك وبانت منك امرأتك . فقال الرجل : قضى الله ذلك عليَّ .
قال الحسن وكان فصيحاً : ما قضى الله ، أي ما أمر الله وقرأ هذه الآية ) وقضى ربك ألاّ تَعْبُدُوا إلاَّ إ يَّاهُ ( فقال الناس : تكلم الحسن في ( القدر ) .
وقال مجاهد وابن زيد : وأوصى ربك ، ودليل هذا التأويل قراءة علي وعبد الله وأُبيّ : ووصى ربك .
وروى أبو إسحاق ( الكوفي ) عن شريك بن مزاحم أنه قرأ : ووصى ربك وقال : إنهم ( أدغوا ) الواو بالصاد فصارت قافاً .
وقال الربيع بن أنس : ( وأوجب ) ربك إلاّ تعبدو إلاّ إياه .
) وَبِالوَالِدَيْنِ إحْسَاناً ( أي وأمر بالأبوين إحساناً بّراً بهما وعطفاً عليهما ) إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ ( الكسائي بالالف ، وقرأ الباقون : يبلغن بغير الألف على الواحدة وعلى هذه القراءة قوله ) أحَدُهُمَا أوْ كِلاهُمَا ( كلام ( مستأنف ) كقوله ) فعموا وصموا كثير منهم ( وقوله ) واسرّوا النجوى ( ثمّ ابتدأ فقال : ) فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفَ ( فيه ثلاث لغات بفتح الفاء ( حيث قد رفع ) وهي قراءة أهل مكة والشام واختيار يعقوب وسهيل .
و ( أُفّ ) بالكسر والتنوين وهي قراءة أهل المدينة وأيوب وحفص .
و ( أُفّ ) مكسور غير منون وهي قراءة الباقين من القراء ، وكلها لغات معروفة معناها واحد .
قال ابن عبّاس : هي كلمة كراهة . مقاتل : الكلام الرديء الغليظ .
أبو عبيد : أصل الأف والتف الوسخ على الأصابع إذا فتلته وفرق الآخرون بينهما فقيل
(6/92)
" صفحة رقم 93 "
الأف ما يكون في المغابن من العرق والوسخ ، والتف ما يكون في الأصابع ، وقيل : الأف وسخ الأذن والتف وسخ ( الأظفار ) وقيل : الأف وسخ الظفر والتف ما رفعت يدك من الأرض من شيء حقير .
) وَلا تَنْهَرْهُمَا ( لاتزجرهما ) وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيماً ( حسناً جميلاً .
وقال ابن المسيب : كقول العبد المذنب للسيد الفظ .
وقال عطاء : لا تسمهما ولا تكنّهما وقل لهما : يا أبتاه ويا أماه .
مجاهد في هذه الآية : إن بلغا عندك من الكبر ما يبولان ويُحدثان فلا تتعذرهما .
ولا تقل لهما أف حين ترى الأذى وتميط عنهما الخراء والبول كما كانا يميطانه عنك صغيراً ( ولا توذهما ) ( وروى سعيد بن المسيب : أن ( العاق ) يموت ميتة سوء ، وقال رجل لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : إن أبوي بلغا من الكبر أني أُوليهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما ؟ قال ( صلى الله عليه وآله ) : ( لا فإنهما كانا يفعلان لك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل وأنت تريد موتهما ) ) .
الإسراء : ( 24 ) واخفض لهما جناح . . . . .
) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ( .
قال عروة بن الزبير : إن لهما حتّى لا يمتنع من شيء أحياه .
مقاتل : أَلِنْ لهما جانبك فاخضع لهما .
وقرأ الحسن وسعيد بن جبير وعاصم الحجدي : جناح الذل بكسر الذال أي ( لا تستصعب معهما ) .
) وَقُلْ ربِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ( .
قال ابن عبّاس : هو منسوخ بقوله ) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى ( الآية .
روى شعبة عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رضى الله تعالى مع رضا الوالدين وسخط الله مع سخط الوالدين )
(6/93)
" صفحة رقم 94 "
عطاء عن عائشة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقال للعاق إعمل ماشئت إني لا أغفر لك ويقال للبار إعمل ماشئت وإني أغفر لك ) .
روى عطاء عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أمسى مرضيا لوالديه وأصبح أمس وأصبح له بابان مفتوحان إلى الجنة ، وإن أمسى وأصبح مسخطاً لوالديه أصبح وله بابان إلى النار وان واحداً فواحد ) .
فقال رجل : يارسول الله وإن ظلماه ؟ قال : ( وإن ظلماه ) ، ثلاث مرات .
وروى رشيد بن سعد عن أبي هاني الخولاني عن أبي عمر ( القصبي ) قال : جاء رجل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يارسول الله دلني على عمل أعمله يقربني إلى الله ؟ قال : ( هل لك والدة ووالد ؟ ) قال : نعم . قال : ( فإنما يكفي مع البر بالوالدين العمل ( اليسير ) ) .
الإسراء : ( 25 ) ربكم أعلم بما . . . . .
) رَبُّكُمْ أعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ( من بر الوالدين وعقوقهما ) إنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ ( أبراراً مطيعين فيما أمركم الله به بعد تقصير كان منكم في القيام بما لزمكم من حق الوالدين ، وغير ذلك من فرائض اللهَإنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ بعد المعصية والهفوة ( غَفُوراً .
وقال سعيد بن جبير في هذه الآية : هو الرجل يكون منه المبادرة إلى أبويه لا يريد بذلك إلاّ الخير ، فإنه لا يؤخذ به .
وإختلف المفسرون في معنى الأوابين :
فقال سعيد بن جبير : الراجعين إلى الخير ، سعيد بن المسيب : الذي يذنب ثمّ يتوب ثمّ يذنب ثمّ يتوب .
مجاهد عن عبيد بن عمر : هو الذي يذكر ذنوبه في الخلا فيستغفر الله تعالى عنها .
عمرو بن دينار : هو الذي يقول : اللهم اغفر لي ما أصبت في ( مجلسي ) هذا .
ابن عبّاس : الراجع إلى الله فيما ( لحق به وينويه ) والأواب فعال من أوب إذا رجع .
قال عبيد بن الأبرص : وكل ذي غيبة يؤوب وغايب الموت لا يؤوب .
وقال عمرو بن شرحبيل : وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عبّاس دليله قوله ) وياجبال أوبي معه ( .
(6/94)
" صفحة رقم 95 "
الوالبي : عنه المطيعين المخبتين .
قتادة : المصلين . عون العقيلي : هم الذين يصلون صلاة الضحى .
ابن المنكدر : بين المغرب والعشاء .
روى ابن إدريس عن أبيه عن سعيد بن جبير قال : الأوابين الرغابين .
2 ( ) وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُوراً إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذاَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولائِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً وَلاَ تَمْشِ فِى الاَْرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الاَْرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذاَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ذَالِكَ مِمَّآ أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَاهًا ءَاخَرَ فَتُلْقَى فِى جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِى الْعَرْشِ سَبِيلاً سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا ( 2
الإسراء : ( 26 ) وآت ذا القربى . . . . .
) وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ ( يعني صلة الرحم . وقال بعضهم : عني بذلك قرابة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
روى السدي عن ابن الديلمي قال : قال علي بن الحسين لرجل من أهل الشام أقرأت القرآن ؟ قال نعم ؟ قال : أفما قرأت في بني إسرائيل ) وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ ( قال : انكم القرابة الذين أمر الله أن يوتى حقه ؟ قال : نعم .
) وَالمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ( يعني مار الطريق ، وقيل : الضيف ) وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ( ولا تنفق مالك في المعصية .
وروى سلمة بن كهيل عن أبي ( عبيدة ) عن ابن الضرير أنه سأل ابن مسعود ما التبذير ؟ فقال : إنفاق المال في غير حقه .
(6/95)
" صفحة رقم 96 "
وقال مجاهد : لو أنفق إنسان ماله كله في ( الحق ما كان ) تبذيراً ، فلو أنفق يدا في باطل كان تبذيراً به .
وقال شعيب : كنت أمشي مع أبي إسحاق في طريق الكوفة ، فأتى على دار تبنى بجص وآجر فقال : هذا التبذير في قول عبد الله : إنفاق المال في غير حقه .
الإسراء : ( 27 ) إن المبذرين كانوا . . . . .
) إنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ( أولياؤهم وأعوانهم ، والعرب تقول : لكل ( من يلزم ) سنّة قوم وتابع أمرهم هو أخوهم ) وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ( جحود النعمة .
الإسراء : ( 28 ) وإما تعرضن عنهم . . . . .
) وَإمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ( الآية نزلت في منجع وبلال وصهيب وسالم وخباب ، كانوا يسألون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الأحايين ما يحتاجون إليه ولا يجد لهم متسعاً ، فيعرض عنهم حياءً منهم فأنزل الله عزّ وجلّ ) وَإمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ( يعني وإن تعرض عن هؤلاء الذين أمرتك أن تؤتيهم حقوقهم عند مسألتهم إياك مالا يجد إليه سبيلاً حياءً منهم .
) ابْتِغَاءَ رَحْمَة مِنْ رَبِّكَ ( ابتغاء رزق من الله ) تَرْجُوهَا ( أن يأتيك ) فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً ( ليّناً وعدهم وعداً جميلاً
الإسراء : ( 29 ) ولا تجعل يدك . . . . .
) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً ( الآية .
قال جابر بن عبد الله : بينما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قاعد فيما بين الصحابة أتاه صبي فقال : يا رسول الله إن أمي تستكسيك درعاً ، ولم يكن عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلاّ قميصه ، فقال الصبي : من ساعة إلى ساعة يظهر يعد وقتاً آخر ، فعاد إلى أمه فقالت : قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك ، فدخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عرياناً ، فأذن بلال للصلاة فأنتظروا فلم يخرج فشغل قلوب الصحابة فدخل عليه ( بعضهم فرآه ) عارياً فأنزل الله تعالى ) ولا تجعل يدك مغلولة إلَى عُنُقِكَ ( يعني ولا تمسك يدك عن النفقة في الحق ، كالمشدودة يده على عنقه فلا يقدر على مدها والإعطاء .
) وَلا تَبْسُطْهَا ( بالعطاء ) كُلَّ البَسْطِ ( فتعطي جميع ما تملك ) فَتَقْعُدَ مَلُوماً ( يلومك سائلوك إذا لم تعطيهم ) مَحْسُوراً ( منقطعاً بك لا شيء عندك تنفقه ، فقال : حسرته بالمسألة إذا ( أكلّته ) ودابة حسيرة إذا كانت كالة ( رازحة ) وحسير البصر إذا كل ، قال الله ) ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير ( وقال قتادة : نادماً على ما سلف منك .
(6/96)
" صفحة رقم 97 "
الإسراء : ( 30 ) إن ربك يبسط . . . . .
) إنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ( يوسع ) الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ( يقتر ويضيق ) إنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ( نظيرها قوله : ) ( ولو وسع ) الله الرزق لبغوا في الأرض ( الآية
الإسراء : ( 31 ) ولا تقتلوا أولادكم . . . . .
) وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلاق ( ضيق وإقتار ) نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإيَّاكُمْ ( وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يأدون بناتهم خشية الفاقة فنهاهم الله تعالى عن ذلك وأخبرهم أن رزقهم ورزق بناتهم على الله تعالى ) إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً ( إختلف القراء فيه :
فقرأ أبو جعفر وابن عامر : بفتح الخاء والطاء والهمزة مقصورة .
وقرأ ابن كثير : بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة .
وقرأ الآخرون : بكسر الخاء وجزم الطاء ، وكلها لغات بمعنى واحد ، ويكون اسماً ومصدراً .
الإسراء : ( 32 - 33 ) ولا تقربوا الزنى . . . . .
) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ قتلها إلاَّ بِالحَقِّ ( وبحقها بما روى حميد عن أنس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلاّ الله ، فإذا قالوها ( عصموا ) في دمائهم وأموالهم إلاّ بحقها وحسابهم على الله ) قيل : وما حقها ؟ قال : زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس فيقتل بها .
) وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً ( قوة وولاية على قاتل وليه فإن لما استفاد منه فقتله وأن الله أخل الدية وإن شاء عفا عنه
) فَلا يُسْرِفْ فِي القَتْلِ ( قرأ حمزة والكسائي وخلف : تسرف بالتاء أي فلا تسرف أيها القاتل ، ويجوز أن يكون الخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد منه الأيمة والأُمة من بعده ، ومن قرأ بالياء رجع إلى المولى .
واختلفوا في الاسراف ماهو : فقال ابن عبّاس : لا يقتل غير قاتله .
قال الحسن وابن زيد : كانت العرب في الجاهلية إذا قتل منهم قتيل ، لم يرضوا أن يقتلوا قاتل صاحبهم حتّى يقتلوا أشرف من الذي قتله ، فيعمد ولي المقتول إلى الشريف من قبيلة القاتل فيقتله بوليه ويترك القاتل ، فنهى الله عن ذلك ، وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن من أعتى الناس على الله جل ثناؤه قتل غير قاتله أو قتل بدخن الجاهلية أو قتل في حرم الله ) .
وقال الضحاك : كان هذا بمكة ونبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) بها ، وهو أول شيء نزل من القرآن في شأن القتل وكان المشركون من أهل مكة يقتلون أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال الله : من قتلكم من المشركين
(6/97)
" صفحة رقم 98 "
فلا يحملنكم قتله إياكم على أن لا تقتلوا إلا قاتلكم ، فلا يقتلوا له أباً أو أخاً أو أحداً فإن كانوا من المشركين فلا يحملنكم ذلك ( . . . . . . . . . . . . . . . . . ) على فلا تقتلوا إلا قاتلكم . وهذا قبل أن تنزل سورة براءة وقبل أن يؤمروا بقتال المشركين .
وقال سعيد بن جبير : لا يقبل ( . . . . . . . . . ) على العدة .
قتادة وطارق بن حبيب وابن كيسان : ( لا يمثل به ) .
) إنَّهُ كَانَ مَنصُوراً ( اختلفوا في هذه الكناية ( إلى من ترجع فقيل : ترجع ) على ولي المقتول ، هو المنصور على القاتل ( فيدفع الامام ) إليه القاتل ، فإن شاء قتل وإن شاء عفا عنه وإن شاء أخذ الدية ، وهذا قول قتادة .
وقال الآخرون : ( من ) راجعة إلى المقتول في قوله ) ومن قتل مظلوماً ( يعنى أن المقتول ( منصور ) في الدنيا بالقصاص وفي الآخرة ( بالتوبة ) وهو قول مجاهد .
الإسراء : ( 34 ) ولا تقربوا مال . . . . .
) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ ( إلى قوله ) مَسْؤُولا ( عنه ، وقيل معناه : كان مظلوماً
الإسراء : ( 35 ) وأوفوا الكيل إذا . . . . .
) وَأوْفُوا الكَيْلَ إذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالقِسْطَاسِ المُسْتَقِيمِ ( .
قرأ أهل الكوفة : القِسطاس بكسر القاف .
الباقون : بفتحه وهو الميزان مثل القرطاس ، والقسطاس معناه الميزان صغيراً كان أو كبيراً .
مجاهد : هو العدل بالرومية . وقال الحسن : هو القبان .
) ذَلِكَ خَيْرٌ وَأحْسَنُ تَأوِيلا ( أي عاقبة .
( قال الحسن ) : ذكر لنا أن نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا يقدر رجل على حرام ثمّ يدعه ليس لديه إلا مخافة الله إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ماهو خير له من ذلك ) .
الإسراء : ( 36 ) ولا تقف ما . . . . .
) ولا تقف ما ليس لك به علم (
قال قتادة : لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمعه وعلمت ولم تعلمه وهذه رواية علي عن ابن عبّاس
(6/98)
" صفحة رقم 99 "
قال مجاهد : ولا ترم أحداً بما ليس لك به علم ، وهي رواية عطية عن ابن عبّاس .
وقال ابن الحنفية : هو شهادة الزور .
قال ( القتيبي ) : لا تتبع الحدس والظنون ، وكلها متقاربة ، وأصل القفو البهت والقذف بالباطل . ومنه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا ) .
وقال النابغة :
ومثل الدمى شم العرانين ساكن
بهن الحياء لا يشعن التقافيا
وقال الكميت :
فلا أرمي البرىء بغير ذنب
ولا أقفوا الحواصين أن ( قفينا )
وقال ( القتيبي ) : فهو مأخوذ من القفاء كأنه يقفوا الأمور ويكون في أقفائها يعقبها ( ويتتبعها ) ويتعرفها . يقال : قفوت أثره على وزن دعوت والنهي منه لا يقف ، كقولك : لا تدع .
وحكى الفراء عن بعضهم : أن أصله من القيافة ، وهو اتباع الأثر وإذا كان كذلك وجب أن يكون ( ولا تقف ) بضم القاف وسكون الفاء مثل : ولا تقل ، قال : والعرب تقول : قفوت أثرها وقفت مثل قولهم : قاع الجمل الناقة إذا ركبها وقعا ، وعاث وعاثا واعتام واعتمى واحتاج ماله واحتجا .
قال الشاعر :
ولو إني رميتك من قريب
لعاقك من دعاء الذئب عاق
أي عانق .
) إنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ ( أي كل هذه الجوارح والأعضاء ما يقل تلك .
كقول الشاعر ، وهو جرير :
ذم المنازل بعد منزلة اللوى
والعيش بعد أولئك الأيام
(6/99)
" صفحة رقم 100 "
ويجوز أن يكون راجع إلى أصحابها وأربابها .
الإسراء : ( 37 ) ولا تمش في . . . . .
) وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مرحاً ( بطراً وفخراً وخيلاء ، وهو تفسير المشي لا نعته فإن ذلك أخرجه على المصدر ) قل لن تخرق الأرض ( أي لن تقطعها بكعبيك حتّى تبلغ آخرها ، يقال فلان أخرق الأرض من فلان إذا كان أكثر سفراً وعزة .
وقال روبة :
وقائم ( الأعماق ) خاوي المخترق
أي المقطع ) وَلَنْ تَبْلُغَ الجِبَالَ طُولا ( أي ( لن تساويها بطولك ولا تطاولك ) وأخبر أن صاحبه لاينال به شيئاً ( . . . . . . ) عنه غيره
الإسراء : ( 38 ) كل ذلك كان . . . . .
) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ( .
قرأ الحسن ويحيى بن يعمر وابن عمر وأهل الكوفة : سيئة على الاضافة ، بمعنى كل هذا الذي ذكرنا من قوله ) وقضى ربك ألاّ تبعدوا إلاّ إياه ( .
( كان سيئة ) أي سيء بما ذكرنا ووعدنا عليك عند ربك مكروها ، قالوا : لأن فيما ذكره الله من قوله ) وقضى ربك ( إلى هذا الموضع أموراً مأمورات بها ومنهيات عنها ، واختار أبو عبيد هذه القراءة لما ذكرنا من المعنى ، ولأن في قراءة أُبي حجة لها ، وهي ماروى أبو عبيد عن حجاج عن هارون في قراءة ( أُبي بن كعب ) ( كان سيئاته ) قال : فهذه تكون باضافة سيئة منونّة منصوبة ، بمعنى كل ذلك الذي ذكرنا ووعدنا من قوله ) ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ( إلى هذا الموضع كان سيئة لا حسنة في فجعلوا ( كلا ) محيطاً بالمنهي عنه دون غيره .
فإن قيل : هلا جعلت مكروهاً خبر ثان ، قلنا : في الكلام تقديم وتأخير تقديره : كل ذلك كان مكروهاً سيئة ، وقيل هو فعل ( . . . . . . ) كالبدل لا على الصفة ، مجازة : كل ذلك كان سيئة وكان مكروهاً .
وقال أهل الكوفة : رجع إلى المعنى ، لأن السيئة الذنب وهو ( غير حقيقي
الإسراء : ( 39 ) ذلك مما أوحى . . . . .
) ذَلِكَ ( الذي ذكرنا ( ووعدنا ) ) مِمَّا أوْحَى إلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحِكْمَةِ ( إلى قوله ) مَدْحُوراً ( مطروداً مبعداً من كل نصير والمراد به غيره .
(6/100)
" صفحة رقم 101 "
قال الكلبي : ( الثمان عشرة ) آية كانت في ألواح موسى وهي عشر آيات في التوراة .
الإسراء : ( 40 ) أفأصفاكم ربكم بالبنين . . . . .
) أفَأصْفَاكُمْ ( اختاركم واختصكم ) رَبُّكُمْ بِالبَنِينَ وَا تَّخَذَ مِنَ المَلائِكَةِ إنَاثاً ( بنات ) إنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيماً ( يخاطب مشركي العرب حيث قالوا : الملائكة بنات الله .
الإسراء : ( 41 ) ولقد صرفنا في . . . . .
) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا ( قرأه العامّة : بالتشديد على التكثير .
وقرأ الحسن : صرفنا بالتخفيف .
) فِي هَذَا القُرْآنِ ( يعني العبر والحكم والأمثال والأحكام والحجج والأعلام .
سمعت أبا القاسم الحسين يقول : بحضره الإمام أبي الطيب لقوله تعالى ) صرفنا ( معنيان أحدهما : لم يجعله نوعاً واحداً ، بل وعداً ووعيداً وأمراً ونهياً ومحكماً ومتشابهاً وناسخاً ومنسوخاً وأخباراً وأمثالاً ، مثل تصريف الرياح من صبا ودبور وجنوب وشمال ، وتصريف الأفعال من الماضي إلى المستقبل ومن الفاعل إلى المفعول ونحوها .
والثاني : لم ينزله مرة واحدة بل ( نجوماً ) مثل قوله ) وقرآناً فرقناه ( ومعناه أكثرنا صرف جبرئيل اليك .
) لِيَذَّكَّرُوا ( . قرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي ) لِيَذكرُوا ( مخففاً .
وقرأ الباقون : بالتشديد وإختيار أبو عبيد أي ليتذكروا ) وَمَا يَزِيدُهُمْ ( أي التصريف والتذكير ) إلاَّ نُفُوراً ( ذهاباً وتباعداً عن الحق
الإسراء : ( 42 ) قل لو كان . . . . .
) قُلْ ( يا محمّد لهؤلاء المشركين ) لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ ( .
قرأ ابن كثير وحفص : يقولون بالياء . الباقون : بالتاء .
) إذاً لابْتَغَوْا ( لطلبوا يعني الآلهة القربة ) إلَى ذِي العَرْشِ سَبِيلا ( فالتمست الزلفة عنده .
قال قتادة : يقول لو كان ( الأمر ) كما يقولون إذا لعرفوا الله فضله ومقربته عليهم ، فامضوا ما يقربهم إليه .
وقال الآخرون : إذا لطلبوا مع الله منازعة وقتالاً ، كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض ، ثم نزه نفسه ، فقال
الإسراء : ( 43 ) سبحانه وتعالى عما . . . . .
) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ ( .
الأعمش وحمزة والكسائي ، وإختاره أبو عبيد عنهم بالتاء ) عُلُوّاً كَبِيراً ( ولم يقل تعالياً كقوله ) ( وجعل ) إليه سبيلاً ( .
(6/101)
" صفحة رقم 102 "
2 ( ) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالاَْرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرءَانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَْخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىءَاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاَْمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً ( 2
الإسراء : ( 44 ) تسبح له السماوات . . . . .
) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ ( قرأ الحسن : وأبو عمرو ويعقوب وحمزة والكسائي وحفص : بالتاء ، غيرهم : يسبح بالياء وإختاره أبو عبيد ( . . . . . . . ) وهو التأنيث ومعنى التسبيح التنزيه والطاعة والالتزام بالربوبية وكونها دالة على وجوده وتوحيده .
) وَإنْ مِنْ شَيْء إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ( .
قال ابن عبّاس : وإن من شيء حي .
وقال الحسن والضحاك : يعني كل شيء فيه الروح .
قال قتادة : يعني الحيوانات والنباتات ( . . . . . . . . . . ) .
قال عكرمة : الشجرة تسبح والإسطوانة لا تسبح .
قال أبو الخطاب : كنا مع يزيد الرقاشي ومعه الحسن في فقدموا الخوان فقال يزيد الرقاشي يا أبا سعيد يسبح هذا الخوان ؟ فقال كان يسبح مرة وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ( ما سبحت عصا إلا ترك ) التسبيح ) .
وقال إبراهيم : الطعام يسبح .
وروى موسى بن عبيدة عن زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه ؟ إن نوحاً قال لابنه : يابني آمرك أن تقول : سبحان الله وبحمده فإنها صلاة الخلق وتسبيحهم ( وبها يرزق الخلق ) ) .
(6/102)
" صفحة رقم 103 "
قال الله ) وَإنْ مِنْ شَيْء إلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ( .
قال وهب : إن ( . . . . . . . . . . ) إلا وقد كان يسبح لله ثلثمائة سنة .
وروى عبد الله بن ( . . . . . . . . . . ) عن المقداد بن معد يكرب قال : إن التراب يسبح مالم يبتل فإذا ابتل ترك التسبيح ، وإن الجوزة لتسبح مالم ترفع من موضعها ، فإذا رفعت ترك التسبيح ، وإن الورق يسبح مادام على الشجرة ، فإذا سقط ترك التسبيح وإن الماء ليسبح مادام ماءاً فإذا ( تغير ) ترك التسبيح ، وإن الثوب يسبح مادام جديداً فإذا وسخ ترك التسبيح ، وإن الوحش إذا صاحت سبحت فإذا سكتت تركت التسبيح ، وإن الثوب ( الخلق ) لينادى في أول النهار : اللهُمَّ إغفر لمن ( . . . . . . ) .
وروى أبو عتبة عن ثابت البنائي عن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخذ كفاً من حصى فسبحن في يد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتّى سمعنا التسبيح ، ثمّ صبّهن في يد أبي بكر حتّى سمعنا التسبيح ثمّ صبهن في عمر حتّى سمعنا التسبيح ، ثمّ صبّهن في يد عثمان حتّى سمعنا التسبيح ، ثم صبّهن في أيدينا فما سبحت في أيدينا .
وعن جعفر بن محمّد عن أبيه قال : ( مرض النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأتاه جبرئيل بطبق فيها رمان وعنب فتناول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فسبح ، ثمّ دخل الحسن والحسين فتناولا فسبح العنب والرمان ، ثمّ دخل عليّ فتناول منه فسبح أيضاً ، ثمّ دخل رجل من أصحابه فتناول فلم يسبح ، فقال جبرئيل : إنما يأكل هذا نبي أو وصي أو ولد نبي ) .
) وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ( يعني لا تعلمون تسبيح ماعدا من تسبيح بلغاتكم وألسنتكم ) إنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً }
الإسراء : ( 45 ) وإذا قرأت القرآن . . . . .
) وَإذَا قَرَأتَ القُرْآنَ ( يا محمّد ( على ) المشركين ) جَعَلْنَا بَيْنَكَ ( بينهم حجاباً يحجب قلوبهم عن فهمه والانتفاع به .
قتادة : هو حجاب مستور ، والمستور يعني الساتر كقوله ) إنه كان وعده مأتيا ( الآية مفعول بمعنى فاعل .
وقيل : معناه مستوراً عن أعين الناس فلا يرونه . وفسّره بعض المفسرين : بالكتاب عن الأعين الظاهرة ( فلا يرونه ولا يخلصون ) إلى أدلته
(6/103)
" صفحة رقم 104 "
عطاء عن سعيد بن جبير قال : لما نزلت ) تبت يدا أبي لهب وتب ( جاءت امرأة أبي لهب إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه أبو بكر ( ح ) فقال : يا رسول الله لو تنحيت عنها لئلا تسمعك ما يؤذيك ، فإنها امرأة بذيئة .
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنه سيحال بيني وبينها ) فلم تره فقالت لأبي بكر : يا أبا بكر هجاني صاحبك قال : والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله .
فقالت : وإنك لمصدقه فاندفعت راجعة . قال أبو بكر : يارسول الله أما رأتك ؟ قال : ( لا مازال ملك بيني وبينها يسترني حتى ذهبت ) .
وروى الكلبي عن رجل من ( أهل الشام ) عن كعب في هذه الآية قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يستتر من المشركين بثلاث آيات : الآية التي في الكهف
الإسراء : ( 46 ) وجعلنا على قلوبهم . . . . .
) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً ( والآية التي في النحل ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ( إلى قوله ) هُمُ الغَافِلُونَ ( .
والآية التي في الجاثية ) أرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلاهَهُ هَوَاهُ ( إلى قوله ) غشاوة ( فكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا قرأهن يستتر من المشركين .
قال كعب : فحدثت بهن رجلاً من أهل الشام فمكث فيهم ما شاء الله أن يمكث ثمّ قرأ بهنّ فخرج هارباً وخرجوا في طلبه حتّى كانوا يكونون على طريقه ولا يبصرونه .
قال الكلبي : حدثت به رجلاً بالري فأُسر بالديلم فمكث فيهم ماشاء الله أن يمكث ثمّ قرأهنّ وخرج هارباً وخرجوا في طلبه حتّى جعل ثيابهم لتلتمس ثيابه فما يبصرونه .
) وَإذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القُرْآنِ وَحْدَهُ ( يقول : وإذا قلت : لا إله إلاّ الله في القرآن وحده وأنت تتلوه ) وَلَّوْا عَلَى أدْبَارِهِمْ نُفُوراً ( كارهين له معرضين عنها .
حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عبّاس في قوله ) ولوا على أدبارهم نفوراً ( قال : هم الشياطين والنفور جمع نافر مثل قاعد وقعود وجالس وجلوس ، وجائز أن يكون مصدراً أُخرج على غير لفظه إذا كان قوله ) ولوا ( بمعنى نفروا ، فيكون معناه ( نفوراً ) .
(6/104)
" صفحة رقم 105 "
الإسراء : ( 47 ) نحن أعلم بما . . . . .
) نَحْنُ أعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إذْ يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ ( لن يقرأ القرآن ) وَإذْ هُمْ نَجْوَى ( متناجون في أمرك ، بعضهم يقول : هو مجنون ، وبعضهم يقول : هو كاهن ، وبعضهم : ساحر ، وبعضهم : شاعر ) إذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ ( بمعنى الوليد بن المغيرة وأصحابه حين رجع إليه كفار مكة من أمر محمّد وشاوروه فقال ) إنْ تَتَّبِعُونَ إلاَّ رَجُلا مَسْحُوراً ( مطبوباً ، وقيل : مخدوعاً ، وقال أبو عبيدة : ( مسحوراً ) يعني رجلاً له سحر يأكل ويشرب مثلكم والسحر الرئة يقول العرب للجبان : قد سحره ولكل من أكل وشرب من آدمي وغيره مسحور ومسحر .
قال الشاعر امرىء القيس :
أرانا موضعين لأمر غيب
ونسحر بالطعام وبالشراب
أي : نغذي ونعلل .
الإسراء : ( 48 ) انظر كيف ضربوا . . . . .
) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ ( شبّهوا ذلك الأشباه .
فقالوا : شاعر وساحر وكاهن ومجنون ) فَضَلُّوا ( فجالوا وجاروا ) فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا ( مخرجاً ولا يهتدون إلى طريق الحق .
الإسراء : ( 49 ) وقالوا أئذا كنا . . . . .
) وَقَالُوا أإذَا كُنَّا عِظَاماً ( بعد الموت ) وَرُفَاتاً ( .
قال ابن عبّاس : غباراً .
قال مجاهد : تراباً ، والرفات ما تكسر وبلا من كل شيء ، كالفتات والحطام والرضاض .
) أئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً }
الإسراء : ( 50 ) قل كونوا حجارة . . . . .
) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أوْ حَدِيداً ( في الشدة والقوة
الإسراء : ( 51 ) أو خلقا مما . . . . .
) أوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ( يعني خلقاً مما يكبر عندكم عن قبول الحياة وبعثكم وعملكم على ( . . . . . . . . . ) احياؤه فإنه يجيئه ، وقيل : ما يليه من بعد ورائهم الموت ، وقيل : السموات والأرض ، وقيل : أراد به البعث وقيل الموت .
وقال أكثر المفسرين : ليست في نفس بني آدم أكبر من الموت ، يقول : لو كنتم الموت لأُميتنكم ولأبعثنكم .
سفيان عن مجاهد وعكرمة في قوله ) أوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ( قالا : الموت .
وروى المعمر عن مجاهد قال : السماء والأرض والجبال يقول كونوا ماشئتم فإن الله يميتكم ثمّ يبعثكم ) فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا ( خلقاً جديداً بعد الموت ) قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ ( خلقكم ) أوَّلَ مَرَّة فَسَيُنْغِضُونَ إلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ ( أي يحركون رؤوسهم متعجبين ومستهزئين يقال : نغضت سنه إذا حركت وأقلعت من أصله
(6/105)
" صفحة رقم 106 "
قال الراجز :
أبغض نحوى رأسه وأقنعا
وقال آخر :
لما رأسني الغضت لي الرأسا
وقال الحجاج : ( أمسك بقضباً لابني ) مستهدجا .
) وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أنْ يَكُونَ قَرِيباً ( يعني هو قريب لأن عسى من الله واجب نظيره قوله ) لعلّ الساعة تكون قريباً ( ، ) ولعلّ الساعة قريب ( .
الإسراء : ( 52 ) يوم يدعوكم فتستجيبون . . . . .
) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ ( من قبوركم إلى ( موقف يوم القيامة ) ) فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ( . قال ابن عباس : بأمره .
قتادة : بمعرفته وطاعته ، ويحمدونه ( وهو مستحق ) للحمد .
) وَتَظُنُّونَ إنْ لَبِثْتُمْ ( في الدنيا في قبوركم ) إلاَّ قَلِيلا ( زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمرو أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ليس على أهل لا إله إلاّ الله وحشة في قبرهم ولا حشرهم ، كأني بأهل لا إله إلاّ الله وهم ينفضون التراب عن رؤسهم ويقولون ) الحَمْدُ للهِ الَّذِي أذْهَبَ عَنَّا الحَزَنَ ( الآية ) .
2 ( ) وَقُل لِّعِبَادِى يَقُولُواْ الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً أُولَائِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذالِك فِى الْكِتَابِ مَسْطُورًا وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالاَْيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاَْوَّلُونَ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالاَْيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا ( 2
(6/106)
" صفحة رقم 107 "
الإسراء : ( 53 ) وقل لعبادي يقولوا . . . . .
) وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أحْسَنُ ( نزلت في عمر بن الخطاب ، وذلك أن رجلاً من العرب شتمه فأمره الله تعالى بالعفو .
الكلبي : كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالقول والفعل ، فشكوا ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى هذه الآية على ذلك .
وقل لعبادي المؤمنين يقولوا للكافرين التي هي أحسن يعني الكلمة التي هي أحسن لا تكافئهم .
قال الحسن : يقول هداك الله يرحمك الله ، وهذا قبل أن أمروا بالجهاد .
وقيل : الأحسن كلمة الأخلاص لا إله إلاّ الله ) إنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ( يفتري ، وألقى بينهما العداوة ويعزى بينهم ) إنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً }
الإسراء : ( 54 ) ربكم أعلم بكم . . . . .
) رَبُّكُمْ أعْلَمُ بِكُمْ إنْ يَشَأ يَرْحَمْكُمْ ( يوفقكم فتؤمنوا ) أوْ إنْ يَشَأ يُعَذِّبْكُمْ ( يميتكم على الشرك فيعذبكم ، قاله ابن حريج .
وقال الكلبي : إن الله يرحمكم فيحفظكم من أهل مكة ، وإن يشأ يعذبكم فيسلطهم عليكم ) وَمَا أرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلا ( وكفيلاً ، نسختها آية القتال
الإسراء : ( 55 ) وربك أعلم بمن . . . . .
) وَرَبُّكَ أعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ ( فجعلهم مختلفين في أخلاقهم من أمورهم وأحوالهم ومالهم ، كما يختلف بعض المتقين على بعض .
قتادة : في هذه الآية اتخذ الله إبراهيم خليلاً ، وكلم الله موسى تكليماً ، فقال لعيسى كن فيكون وأتى سليمان مُلكاً عظيماً لاينبغي لأحد من بعده ، وأتى داود زبوراً كتاباً علمه داود فيه دعاء وتحميد وتمجيد وليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود وغفر ( لمحمد ) ما تقدم من ذنبه وما تأخر
الإسراء : ( 56 ) قل ادعوا الذين . . . . .
) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ( أنها آلهة ) مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلا تَحْوِيلاً ( ( عنكم ) إلى غيركم ، قيل : هو ما أصابهم من القحط سبع سنين .
الإسراء : ( 57 ) أولئك الذين يدعون . . . . .
) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ ( . قتادة عن عبد الله بن عبد الزنجاني عن ابن مسعود أنه قرأ ) أُولئك الذين يدعون يبتغون ( بالتاء .
وقرأهما الباقون : بالياء يبتغون .
) إلَى رَبِّهِمُ الوَسِيلَةَ ( القربة إلى ربهم ) أيُّهُمْ أقْرَبُ ( إليه ) وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً ( قال ابن عبّاس ومجاهد وأكثر العلماء : هم عيسى وأمه وعزير والملائكة والشمس والقمر والنجوم
(6/107)
" صفحة رقم 108 "
وقال عبد الله بن مسعود : كان نفر من الانس يعبدون نفراً من الجن ، فأسلم الجن ولم يعلم الانس الذين كانوا يعبدونهم بإسلامهم فتمسكوا بعبادتهم فغيرهم الله بذلك وأنزل هذه الآية .
الإسراء : ( 58 ) وإن من قرية . . . . .
) وَإنْ مِنْ قَرْيَة ( يعني وما من قرية ) إلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ ( أي مخربوها ومهلكوا أهلها بالسيف ) أوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً ( بأنواع العذاب إذا كفروا وعصوا .
وقال بعضهم : هذه الآية عامة .
قال مقاتل : أما الصالح فبالموت وأما الطالح فبالعذاب .
قال ابن عبّاس : إذا ظهر الزنا والربا في أهل قرية أذن الله في هلاكها .
) كَانَ ذَلِكَ فِي الكِتَابِ ( في اللوح المحفوظ ) مَسْطُوراً ( مكتوباً
الإسراء : ( 59 ) وما منعنا أن . . . . .
) وَمَا مَنَعَنَا أنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ ( .
قال ابن عبّاس : قال أهل مكة : إجعل لنا الصفا ذهباً ، فأوحى الله إلى رسوله : إن شئت أن تسنأتي بهم فقلت وإن شئت أوتيهم ما سألوا ، فقلت : فإن لم يؤمنوا أهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) لا بل تستأني بهم فأنزل الله تعالى ) وَمَا مَنَعَنَا أنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ ( التي سألها كفار قومك ) إلاَّ أنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ ( فأهلكناهم فإن لم يؤمن قومك أهلكتهم أيضاً لأن من خسفنا في الأمم إذا سألوا الآيات فيأتيهم ثم لم يؤمنوا أن نعذبهم ونهلكهم ولا نمهلهم ، فإن الأوّل في محل النصب وقوع المنبع عليه ، وإن الثانية في محل رفع ومجاز الأول : سمعنا إرسال الآيات إلاّ تكذيب الأولين بها قالوا ) وَآ تَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ( مضيئة بينة ) فَظَلَمُوا بِهَا ( أي ( قروا ) بها إنها من عند الله ) وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ ( بالعبر والدلالات ) إلاَّ تَخْوِيفاً ( للعباد ليؤمنوا ويتذكروا فإن لم يفعلوا عذبوا .
قال قتادة : إن الله يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يعيون أو يذكرون أو يرجعون ، ذكر أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود فقال : يا أيها الناس إن الله ليس يعتبكم فأعتبوه .
وروى محمّد بن يوسف عن الحسن في قوله عزّ وجلّ ) وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إلاَّ تَخْوِيفاً ( قال الموت الذريع .
الإسراء : ( 60 ) وإذ قلنا لك . . . . .
) وَإذْ قُلْنَا لَكَ إنَّ رَبَّكَ أحَاطَ بِالنَّاسِ ( فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته وهو مانعك منهم وحافظك فلا تَهَبْهُم وأمض لما أمرك به في تبليغ رسالته ، قاله أكثر المفسرين .
قال ابن عبّاس : يعني أحاط علمه بهم فلا يخفى عليه منهم شيء .
(6/108)
" صفحة رقم 109 "
مقاتل والبراء : أحاط بالناس يعني أهل مكة أي أنها ستفتح لك .
) وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أرَيْنَاكَ إلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ ( .
قال قوم : هي رؤيا عين وهو ما أرى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة المعراج من العجائب والآيات فكان ذلك فتنة للناس ، فقوم أنكروا وكذبوا ، وقوم ارتدوا ، وقوم صدقوا ، والعرب تقول : ( رأيت بعيني ) رؤية ورؤيا وعلى هذا يحمل حديث معاوية أنه كان إذا سُئل عن مسرى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : كانت رؤيا من الله صادقة أي ( رؤيا عيان ) أرى الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وماذكرنا من تأويل الآية ، قول سعيد بن جبير والحسن ومسروق وأبي مالك وقتادة ومجاهد والضحاك وابن زيد وابن جريج وعطية وعكرمة وعطية عن ابن عبّاس .
وقال آخرون : هي ما أرى الله نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ليلة أسرى بروحه دون بدنه فلما قصها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أصحابه ( . . . . . . . . ) من أصحاب المسلمين وطعن فيها ناس من المنافقين . وهو ماروى جرير بن حازم عن أبي رجاء العطاردي ، يحدث عن سمرة بن جندب قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا صلى الغداة أستقبل الناس ( بوجهه ) فقال : ( هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا ) ؟ فإن كان أحداً رأي تلك الليلة رؤيا قصها عليه فيقول فيها ماشاء الله أن يقول فسألنا يوماً . فقال : ( هل رأى منكم أحد الليلة رؤيا ) ، قلنا : لا ، قال : ( لكني أتاني الليلة آيتان فقالا لي : إنطلق فإنطلقت معهما فأخرجاني إلى أرض مستوية فإذا رجل مستلقي على قفاه ورجل قائم بيده صخرة فشدخ بها رأسه ( فيتبع ) الحجر فإذا ذهب يأخذه عاد رأسه كما كان فهو يصنع به مثل ذلك ، فقلت : ما هذا ؟ قالا : إنطلق فانطلقت معهما فأتينا على رجل مستلق لقفاه يرمش عينه ، فإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد فإذا هو يأخذ أحد شقي وجهه فيشر شر شدقه إلى قفاه وعينه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه ثمّ يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ذلك فما يفرغ من ذلك حتّى يصبح ذلك الجانب كما كان ثمّ يعود إليه ، فقلت لهما : سبحان الله ما هذا ؟ قالا لي : إنطلق فانطلقت معهما فأتيا على بيت مبني مثل بناء التنور أعلاه ضيق ( وأسفله واسع ) يوقد فيه النار فأطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب من أسفل ( ضجّوا ) ، قلت لهما : ما هؤلاء ؟
قالا لي : إنطلق فانطلقنا فأتينا على نهر من دم أحمر وإذا في البحر سابح يسبح فإذا على شاطىء النهر رجل عنده حجارة كثيرة وإذا ذلك السابح يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجراً فيذهب فيسبح مايسبح ثمّ يرجع إليه كما رجع إليه فيفغر له فاه فألقمه حجراً قال : فقلت ما هذا ؟ قالا : إنطلق فإنطلقت فأتينا على رجل كريه المرآة كأكره ما رأيت
(6/109)
" صفحة رقم 110 "
رجلاً وإذا هو عنده نار ( يحشها ويسعى ) حولها قلت لهما : ما هذا ؟ قالا : إنطلق فإنطلقنا فأتينا على روضة ( معتمة ) فيها من كل نوع الربيع وإذا شجرة عظيمة وفي أصلها شيخ طويل فإذا حوله صبيان كأكثر ولدان رأيتهم قط . قال : قلت ما هؤلاء ؟ قالا : إنطلق فإنطلقنا فأتينا على دوحة عظيمة لم أرَ دوحة قط أعظم منها ( ولا أحسن ) قالا لي : أرق فارتقينا فانتهينا إلى مدينة مبنية من ذهب ولبن فضة فأتينا باب المدينة فأستفتحناها ففتح لنا فدخلناها فتلقانا فيها رجال شطر من خلقهم ( كأحسن ) ما رأيت ( وشطر كأقبح ) مارأيت ، قالا لهم : إذهبوا فقعوا في ذلك النهر وإذا نهر معترض يجري كأنه المخيض من البياض فذهبوا فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا وقد ذهب السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة قال : فقلت لهما ( والله ) إني ما رأيت مثل الليلة عجباً فما هذا الذي رأيت قالا إنا ( سنخبرك أما الذي ) أتيت عليه يشدخ رأسه بالحجر فإنه رجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة وأما الذي أتيت عليه يشرشر شدقه وعينه ومنخره إلى فقاه فإنه ( رجل يغدوا ) من بيته فيكذب ( الكذبة تبلغ الآفاق ) .
وأما الرجل والنساء العراة الذين في مثل التنور فإنهم الزناة والزواني ، وأما الرجل الذي يسبح في النهر ويلقم الحجارة فإنه آكل الربا ، وأما الرجل الكريه المرآة الذي عنده النار يحشها فإنه مالك خازن النار ، وأما الرجل الطويل الذي في ( الروضة ) فإبراهيم ( عليه السلام ) وأما الولدان الذين حوله فكل مولود يولد على الفطرة .
2 ( ) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِى أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِى القُرْءَانِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَءَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَاذَا الَّذِى كَرَّمْتَ عَلَىَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِى الاَْمْوَالِ وَالاَْوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً رَّبُّكُمُ الَّذِى يُزْجِى لَكُمُ الْفُلْكَ فِى الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا
(6/110)
" صفحة رقم 111 "
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِىءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَائِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً وَمَن كَانَ فِى هَاذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الاَْخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ( 2
أما القوم الذين كانوا شطر خلقهم حسناً وشطر قبيحاً فإنهم قوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً فتجاوز الله عنهم ، وأما الروضة فهي جنات عدن وأما المدينة التي دخلت فدار الشهداء . قال : بينما بصري صعدا فإذا مثل الذبابة البيضاء ، قالا لي : هاهو ذا منزلك ، وأنا جبرئيل وهذا ميكائيل . فقلت : بارك الله فيكما دعاني أدخل داري ، فقالا : إنه قد بقي لك ولم تستكمله ولو استكملته دخلت دارك .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس قال : هي رؤيا التي رأى أنه يدخل مكة عام الحديبية هو وأصحابه وهو يومئذ بالمدينة فعجّل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) السير إلى مكة قبل الأجل فردّه المشركون .
فقال ناس : قد ردَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقد كان حدثنا إنه سيدخلها فكانت رجعته فتنتهم وقد كان في العام المقبل سار إليها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فدخلها فأنزل الله عزّ وجلّ : ) لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق ( .
سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن حذيفة عن سعيد بن المسيب ، من قول الله تعالى ) وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أرَيْنَاكَ إلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ ( قال : أرى بني أمية على المنابر فساءه ذلك فقيل له إنها الدنيا يعطونها ( فتزوى ) عنه إلاّ فتنة للناس قال : بلا للناس .
وروى عبد المهيمن عن بن عبّاس عن سهل بن سعد عن أبيه عن جده قال : رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما إستجمع ضاحكاً حتّى مات ، فإنزل الله في ذلك ) وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ( ) وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ ( المذكورة ) فِي القُرْآنِ ( يعني شجرة الزقوم ، ومجاز الآية : الشجرة الملعونة المذكورة في القرآن ، ونصب الشجرة عطفاً بها على الرؤيا تأويلها : وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلاّ فتنة للناس فكانت فتنتهم في الرؤيا ماذكرت ، وفتنتهم في الشجرة الملعونة أن أبا جهل قال لما نزلت هذه الآية : أليس من الكذب ابن أبي كبشة أن يوعدكم بحرق الحجارة ثمّ يزعم إنه ينبت فيها شجرة وأنتم تعلمون إن النار تحرق الشجرة فما يقولون في الزقوم .
فقال عبد الله بن ( الزبوي ) : إنها الزبد والتمر بلغة بربرة .
(6/111)
" صفحة رقم 112 "
فقال أبو جهل : ياجارية زقمينا فأتته بالزبد والتمر ، فقال : يزعموا ياقوم فإن هذا ما يخوفكم به محمّد والله ما يعلم الزقوم إلاّ الزبد والتمر ، فأنزل الله تعالى ) إن شجرة الزقوم طعام الأثيم ( ووصفها في الصافات فقال : ) إنها شجرة تخرج من أصل الجحيم ( أي خلقت من النار وحذيت بها وأنزل الله ) وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً ( .
وروى ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن مولى لبني هاشم حدثه إن عبد الله بن الحرث ابن نوفل ( أرسل ) إلى ابن عبّاس : نحن الشجرة الملعونة في القرآن ؟ قال : فقال : الشجرة الملعونة هي هذه الشجرة التي تلتوي على الشجر يعني الكشوث .
الإسراء : ( 61 ) وإذ قلنا للملائكة . . . . .
) فَسَجَدُوا إلاَّ إبْلِيسَ قَالَ أأسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ( يعني من طين .
وروى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال : بعث رب العزة إبليس فأخذ كفاً من أديم الأرض من عذبها ومِلْحها فخلق منه آدم فكل شيء خلقه من عذبها فهو صائر إلى السعادة وإن كان ابن كافرين ، وكل شيء خلقه من ملحها فهو صائر إلى الشقاوة وإن كان ابن نبيين .
قال : ومن ثمّ قال إبليس : أأسجد لمن خلقت طينا أيّ هذه الطينة أنا جئت بها ، ومن ثمّ سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض .
الإسراء : ( 62 ) قال أرأيتك هذا . . . . .
) قَالَ ( إبليس ) أرَأيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ( أي فضلته ) لَئِنْ أخَّرْتَنِي إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ( وأمهلتني ) لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ ( أيّ لأستولين على أولاده ولأحتوينهم ولأستأصلنهم بالاضلال ولأجتاحنهم .
يقال : ( إحتنك ) فلان ما عند فلان من علم أو كمال مما استقصاه وأخذه كله ، واحتنك الجراد الزرع إذا أكله كله .
قال الشاعر :
أشكوا إليك سنة قد أجحفت
وأحنكت أموالنا واجتلفت
ويقال : هو من قول العرب حنّك الدابة يحنكها إذا شد في حنكها الأسفل حبلاً يقودها به حتى يثبت .
) إلاَّ قَلِيلا ( يعني المعصومين الذين إستثناهم الله في قوله ) إن عبادي ليس لكم عليهم
(6/112)
" صفحة رقم 113 "
سلطان (
الإسراء : ( 63 ) قال اذهب فمن . . . . .
) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ ( أي جزاءك وجزاء أتباعك ) جَزَاءً مَوْفُوراً ( وأمراً مكملاً
الإسراء : ( 64 ) واستفزز من استطعت . . . . .
) وَاسْتَفْزِزْ ( ( استولي ) واستخف وإستزل وإستمل ) مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ ( أي من ذرية آدم ) بِصَوْتِكَ ( .
قال ابن عبّاس وقتادة : بدعائك إلى معصية الله وكل داع إلى معصية فهو من جند إبليس .
وقال مجاهد : بالغناء والمزامير .
) وَأجْلِبْ عَلَيْهِمْ ( أي إجمع وصح . مقاتل : إستفز عنهم .
) بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ( أي ركبان جندهم ومشاتهم .
قال المفسرون : كل راكب وماش في معاصي الله .
ابن عبّاس ومجاهد وقتادة : إن له خيلاً ورجلاً من الجن والإنس ، فما كان من راكب يقاتل في معصية فهو من خيل إبليس ، وما كان من راجل يقاتل في معصية الله فهو من رجل إبليس والرجل الرجالة .
وقرأ حفص : ورجيلك بكسر الراء ، وهما لغتان يقال : راجل ورجل مثل تاجر وتجر ، وراكب وركب .
) وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ ( قال قوم : هو كل مال أصيب من حرام وأنفق في حرام ، وهذا قول مجاهد والحسن وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد ، ورواية عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس .
عطاء بن أبي رباح : هو الربا . قتادة : ما كان المشركون يحرمونه من الأنعام كالبحائر والسوايب والوصيلة والحوامي وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس .
وقال الضحاك : هو ما كان يذبحونه لآلهتهم .
) وَالأولادِ ( .
قال بعضهم : هم أولاد الزنا ، وهو قول مجاهد والضحاك ورواية عطية عن ابن عبّاس .
الوالبي عنه : هو ما قبلوا من أولادهم وأتوا فيهم الحرام .
الحسن وقتادة : عدو الله شاركهم في أموالهم وأولادهم فمجّسوا وهوّدوا ونصّروا وصبّغوا غير صبغة الاسلام .
(6/113)
" صفحة رقم 114 "
أبو صالح عن ابن عبّاس : مشاركته إياهم في الأولاد وتسميتهم أولادهم عبد الحرث وعبد شمس وعبد فلان .
) وَعِدْهُمْ ( ومنّهم الجميل في طاعتك . قال الله ) وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاَّ غُرُوراً ( باطلاً وخديعة لأنه لايغني عنهم من عذاب الله إذا نزل بهم شيئاً كقوله ) إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم 2 )
الإسراء : ( 65 - 66 ) إن عبادي ليس . . . . .
) إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي ( ( يسوي ويجري ) .
) لَكُمُ الفُلْكَ فِي البَحْرِ ( إلى قوله
الإسراء : ( 67 ) وإذا مسكم الضر . . . . .
) وَإذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ ( أصابكم ( الجهد ) ) فِي البَحْرِ ( وخفتم الغرق ) ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إلاَّ إيَّاهُ ( إلا دعاؤكم إياه فلم تجدوا ما يكفيكم سواه ) فَلَمَّا نَجَّاكُمْ ( من البحر وأخرجكم ) إلَى البَرِّ أعْرَضْتُمْ ( عن الايمان والطاعة وكفرتم بما جاءكم ) وكان الإنسان كفورا 2 )
الإسراء : ( 68 ) أفأمنتم أن يخسف . . . . .
) أفَأمِنتُمْ ( بعد ذلك ) أنْ يَخْسِفَ بِكُمْ ( يغيبكم ويذهبكم في ) جَانِبَ البَرِّ أوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ( حجارة تمطر عليكم من السماء كما أمطر على قوم لوط .
وقال أبو عبيد والقتيبي : الحاصب الذي يرمي بالحصباء ، وهي الحصا الصغار .
قال الفرزدق :
مستقبلين شمال الشام يضربنا
بحاصب كنديف القطن منثور
) ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا }
الإسراء : ( 69 ) أم أمنتم أن . . . . .
) أمْ أمِنتُمْ أنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ ( في البحر ) تَارَةً ( مرة ) أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِنَ الرِّيحِ ( أي قاصفاً وهي الريح الشديدة .
قال ابن عبّاس وقال أبو عبيدة : هي التي تقصف كل شيء أيّ تدقّه وتحطّمه وهي التي تقصف الشجر أي تكسره ) فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً ( ناصراً ولا ثائراً .
وإختلف القراء في هذه الآية . فقرأ ابن كثير وأبو عمرو : نخسف ونرسل ونعيدكم ونغرقكم كلها بالنون لقوله ( علينا ) .
وقرأ الباقون : كلها بالياء لقوله ( إياه ) . إلاّ أبا جعفر فإنه قرأ ( تغرقكم ) بالتاء يعني الريح .
الإسراء : ( 70 ) ولقد كرمنا بني . . . . .
) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ( ميمون بن مهران عن ابن عبّاس في قوله ) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ( قال : كل شيء يأكل بفيه إلاّ ابن آدم يأكل بيديه ، وعنه أيضاً بالعقل .
الضحاك : بالنطق وثمّ التمييز .
(6/114)
" صفحة رقم 115 "
عطاء : تعديل العامّة وإمتدادها ، يمان : بحسن الصورة .
محمّد بن كعب : بأن جعل محمّداً منهم ، وقيل : الرجال باللحي والنساء بالذواب .
محمّد بن جرير : بتسليطهم على غيرهم من الخلق وتسخير سائر الخلق لهم .
) وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ( يعني لذيذ المطاعم والمشارب .
مقاتل : السمن والزبد والتمر والحلاوى وجعل رزق غيرهم مالا يخفى عليكم .
) وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِير مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ( .
قال قوم : قوله : ( كثير ممن خلقنا ) إستثناء للملائكة .
قال الكلبي : فُضلوا على الخلائق كلهم غير طائفة من الملائكة جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وأشباههم .
وقال الآخرون : المراد به جميع من خلقنا فالعرب قد تضع الأكبر والكثير في موضع الجمع والكل ، كقول الله عزّ وجلّ ) هل أُنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون ( والمراد به جميع الشياطين .
معمر عن زيد بن أسلم ، في قوله تعالى ) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ( قال : قالت : الملائكة ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك فأعطنا في الآخرة ، فقال : وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كما قلت له كن فيكون .
حماد بن سلمة عن أبي المهرم قال : سمعت أبا هريرة يقول : المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده .
الإسراء : ( 71 - 72 ) يوم ندعوا كل . . . . .
) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاس بِإمَامِهِمْ ( قال مجاهد وقتادة : بنبيهم ، يدل عليه ماروى السدي عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله تعالى ) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاس بِإمَامِهِمْ ( قال : بنبيهم .
وقال أبو صالح وأبو نضر والضحاك وابن زيد : بكتابهم الذي أنزل عليهم وهي رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد وعن علي بن الحسين بن علي المرتضى ( عليهم السلام ) عن جده قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم ندعو كل أناس بإمامهم قال : ( يوتى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنّة نبيهم ) .
أبو العالية والحسن : بأعمالهم ، ودليل هذا التأويل قوله تعالى في سياق الآية ) فَمَنْ أُوتِيَ
(6/115)
" صفحة رقم 116 "
كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ ( الآية ونظيرها قوله ) وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ( فسمي الكتاب إماماً .
روى ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من الجنة ياعبد الله هذا خير فمن كان من باب الصلاة دعي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب ( الريان ) ) .
فقال أبو بكر الصديق ( ح ) : يارسول الله بأبي أنّت وأمي ما علي من دُعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى من تلك الأبواب كلها أحد ؟ قال : ( نعم ، وأرجو أن تكون منهم ) .
وتصديق هذا القول أيضاً حديث الألوية والرايات .
باذان وسعيد بن جبير عن ابن عبّاس : بإمامهم الذي دعاهم في الدنيا إلى الضلالة أو الهدي .
عليّ بن أبي طلحة : بأئمتهم في الخير والشر .
قال الله تعالى ) وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا ( قال : ) وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ( ، وقيل : لمعبودهم .
محمّد بن كعب : بإمهاتهم .
قالت الحكماء : في ذلك ثلاثة أوجه من الحكمة أحدها : لأجل عيسى ( عليه السلام ) ، والثاني : أخيار الشرف الحسن والحسين ( عليهما السلام ) ، والثالث : لئلا يفضح أولاد الزنا .
) فمن أوتى كتابه بيمينه ( إلى قوله تعالى ) في هذه أعمى ( أختلفوا في هذه الاشارة .
فقال قوم : هي راجعة إلى النعم التي عددها الله في هذه الآيات .
عكرمة : جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عبّاس فسأله رجل عن هذه الآية فقال : إقرأ ماقبلها ) ربكم الذي يزجي لكم الفلك ( إلى قول الله ) سبيلاً ( فقال ابن عبّاس : من كان في هذه النعم التي رأى وعاين أعمى فهو في أمر الآخرة التي لم ير ولم يعاين أعمى وأضل سبيلاً .
وقال آخرون : هي راجعة إلى الدنيا يقول من كان في هذه الدنيا أعمى عن قدرة الله وآياته فهو في الآخرة أعمى .
(6/116)
" صفحة رقم 117 "
وقال أبو بكر الوراق : من كان في هذه الدنيا أعمى عن حجته فهو في الآخرة أعمى عن جنته .
وقال الحسن : من كان في الدنيا ضالاً كافراً فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً ، لأنه لم يتب في الدنيا ففي الآخرة لا تقبل توبته .
وإختلف القراء في هذين الحرفين . فأمالها أهل الكوفة وفخمها الآخرون .
وأمّا أبو عمرو فكان يكسر الأول ويفتح الآخر يعني فهو في الآخرة أشد عمي لقوله : ) وأضل سبيلا ( هي اختيار أبي عبيدة .
قال الفراء : حدثني بالشام شيخ من أهل البصرة إنه سمع من العرب تقول : ما أسود شعره .
قال الشاعر :
أما الملوك فأنت اليوم الأمم
لؤماً وأبيضهم سربال طباخ
( ) وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لآَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَواةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الاَْرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ( 2
الإسراء : ( 73 ) وإن كادوا ليفتنونك . . . . .
) وَإنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ( الآية اختلفوا في سبب نزولها .
فقال سعيد بن جبير : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يستلم الحجر الأسود فمنعته قريش وقالوا : لاندعك حتّى تلم بآلهتنا فحدث نفسه وقال : ما عليَّ أن ألمَّ بها والله يعلم إني لها كاره بعد أن يدعونني أستلم الحجر فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية .
قتادة : ذكر لنا أن قريشاً خلوا برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذات ليلة إلى الصباح يكلمونه ويخيرونه ويسودونه ويقارنونه وكان في قولهم أن قالوا : إنك تأتي بشيء لايأتي به أحد من الناس وأنت سيدنا فإين سيدنا فمازالوا يكلمونه حتّى كاد يقاربهم في بعض مايريدون ثمّ عصمه الله تعالى من ذلك وأنزل هذه الآية .
مجاهد : مدح آلهتهم وذكرها ففرحوا . ابن ( جموح ) : أتوه وقالوا له : أئت آلهتنا فأمسها فذلك قوله ) شيئاً قليلاً ( .
ابن عبّاس : قدم وفد ثقيف على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال
(6/117)
" صفحة رقم 118 "
قال : ماهن ؟ فقالوا : لا ننحني في الصلاة ولا نكسر أصناماً بأيدينا ( وتمتعنا باللات ) سنة .
فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود وأما أن لا تكسروا أصنامكم بأيديكم فذلك لكم وأما الطاعة للات فإني غير ممتعكم بها ) .
فهنا قالوا لرسول الله : فإنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا مالم تعطه غيرنا فإن كرهت ذلك وخشيت أن تقول العرب أعطيتهم مالم تعطنا فقل الله أمرني بذلك ، فسكت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ودعاهم ليؤمنوا ، فعرف عمر ( ح ) أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان لما سألوه فقال : ما لكم آذيتم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أحرق الله أكبادكم إن رسول الله لا يدع الأصنام في أرض العرب إما أن تسلموا وإما أن ترجعوا فلا حاجة لنا فيكم .
فأنزل الله تعالى هذه الآية ووعدهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يعطيهم ذلك .
عطية عنه قالت ثقيف للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أجّلنا سنة حتّى نقبض ما تُهدي لآلهتنا فإذا قبضنا التي تُهدى لآلهتنا كسرناها وأسلمنا ، فهمّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يؤجلهم فأنزل الله تعالى ) وَإنْ كَادُوا ( وقد هموا ) لَيَفْتِنُونَكَ ( ليستزلونك ويصرفونك ) عَنِ الَّذِي أوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ ( لتختلف ) عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإذاً ( لو فعلت مادعوك إليه ) لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا ( أي قالوك وصافوك
الإسراء : ( 74 ) ولولا أن ثبتناك . . . . .
) وَلَوْلا أنْ ثَبَّتْنَاكَ ( على الحق بعوننا ) لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ ( تميل ) إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلا ( ولو فعلت ذلك
الإسراء : ( 75 ) إذا لأذقناك ضعف . . . . .
) إذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ( المحتضر أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات يعني ضعفّنا لك العذاب في الدنيا والآخرة ) ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ( ناصراً يمنعك من عذابنا .
قال قتادة : فلما نزلت هذه الآيات ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم لاتُكلّني إلى نفسي طرفة عين ) .
الإسراء : ( 76 ) وإن كادوا ليستفزونك . . . . .
) وَإنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ ( ليسخفونك ) مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ( الآية .
قال الكلبي : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما قدم المدينة حسدت اليهود مقامه بالمدينة وكرهوا قربه منهم فأتوا فقالوا : يا محمّد أَنبيٌ أنت ؟ قال : نعم ، قالوا : والله لقد علمت ما هذه بارض الأنبياء وإن أرض الأنبياء الشام ، وكأنى بها إبراهيم و ( الأنبياء ) : فان كنت نبياً مثلهم فأت الشام وقد علمنا إنما يمنعك الخروج إليها مخافتك الروم وإن الله سيمنعك بها من الروم إن كنت رسوله وهي الأرض المقدسة وإن الأنبياء لايكونوا بهذا البلد .
فعسكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على ثلاثة أميال من المدينة وأربعة أميال ، وفي بعض الروايات إلى
(6/118)
" صفحة رقم 119 "
ذي الحليفة ، حتّى ترتاد ويجتمع عليه أصحابه ( وينظر ) إليه الناس . فأنزل الله عزّ وجلّ ) وَإنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ ( التي كنت بها وهي أرض المدينة .
وروى شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن الحكم : إن اليهود أتوا نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : يا أبا القاسم إن كنت صادقاً أنك نبي فالحق بالشام فإنها أرض المحشر والنشر وأرض الأنبياء فصدّق رسول الله ما قالوا وقد كان في غزوة تبوك لايريد بذلك إلاّ الشام فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آية من سورة بني إسرائيل بعدها ختمت السورة ) وَإنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ ( الآية وأمره بالرجوع إلى المدينة وقال : فيها خيلك وملكك وفيها مبعثك .
قال مجاهد وقتادة : همَّ أهل مكة عمداً بإخراج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة ولو فعلوا ذلك لما توطنوا ولكن الله كفهم عن إخراجه حتّى أمره ولقلما لبثوا مع ذلك بعد خروج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة حتّى أهلكهم الله يوم بدر .
وهذا التأويل أليق بالآية لأن ماقبلها خبر من أهل مكة ولم يجد لليهود ذكر ولأن هذه السورة مكية .
وقيل : هم الكفار كلهم كادوا أن يستخفوه من أرض العرب بإجتماعهم وتظاهرهم عليه فمنع الله رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم ينالوا منه ما أملوا من الظفر ولو أخرجوه من أرض العرب لم يميلوا أن يقيموا فيها على كفرهم بل أهلكوا بالعذاب فذلك قوله ) وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ( ) وَإذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ ( أي بعدك وهي قراءة أبي عمرو وأهل الحجاز وإختاره أبو عبيد .
وقرأ الباقون : خلافك وإختاره أبو حاتم إعتباراً بقوله ) فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله ( ومعناه أيضاً بعدك .
قال الشاعر :
عفت الديار خلافها فكأنما
بسط الشواطب منهن حصيرا
أيّ بعدها .
) إلاَّ قَلِيلا ( حتّى تهلكوا
الإسراء : ( 77 ) سنة من قد . . . . .
) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا ( أيّ كسنّتنا فيمن أرسلنا
(6/119)
" صفحة رقم 120 "
قبلك من رسلنا إذا يكذبهم الأُمم أهلكناهم بالعذاب ولايعذبهم مادام فيهم بين أظهرهم فإذا خرج نبيهم من بين أظهرهم عذبناهم ) وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا ( تبديلاً .
( ) أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْءَانَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِى مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِى مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّى مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيرًا وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوساً قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً ( 2
الإسراء : ( 78 ) أقم الصلاة لدلوك . . . . .
) أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ( قال إبراهيم النخعي ومقاتل بن حيان والسدي ويمان وابن زيد : دلوكها غروبها .
قال الشاعر :
هذا مقام قدمي رياح
غدوة حتّى هلكت براح
أي غربت الشمس ، وبراح إسم للشمس مثل قطام وجذام ورفاش .
ويروى ، براح بكسر الباء يعني إن الناظر يضع كفه على حاجبه من شعاعها لينظر ما بقى من غبارها ، ويقال ذلك للشمس إذا غاب .
قال ذو الرمة :
مصابيح ليست باللواتي يقودها
نجوم لا بالأفلات الدوالك
ودليل هذا التأويل حديث عبد الله بن مسعود إنه كان إذا غرب الشمس صلى المغرب وأفطر إن كان صائماً ويحلف بالله الذي لا إله إلاّ هو أن هذه الساعة لميقات هذه الصلاة وهي التي قال الله ) أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ( .
وقال ابن عمرة وابن عبّاس وجابر بن عبد الله وأبو العالية وعطاء وقتادة ومجاهد والحسن ومقاتل وجعفر بن محمّد وعبيد بن حجر : دلوكها زوالها ، وبه قال الشافعي ( ح ) ، يدل عليه حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أتاني جبرئيل لدلوك الشمس حين زالت الشمس فصلى بي الظهر )
(6/120)
" صفحة رقم 121 "
وقال أبو برزة : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصلي الظهر إذا زالت الشمس ثمّ تلا هذه الآية ) أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ( .
قال جابر بن عبد الله : دعوت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ومن شاء من أصحابه فطعموا عندي ثمّ خرجوا حين زالت الشمس فخرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( أخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس ) .
وعلى هذا التأويل يكون الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلها ، فدلوك الشمس صلاة الظهر والعصر ، وغسق الليل صلاتا العشاء ، وتصديق هذا التفسير إن جبرئيل ( عليه السلام ) حين علم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كيفيت الصلاة إنما بدأ بصلاة الظهر .
وروى محمّد بن عمار عن أبي هريرة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( جاءني جبرئيل ( صلى الله عليه وسلم ) فصلى صلاة الظهر حين زاغت الشمس ثمّ جاءني فصلى العصر حين كان ظل كل شيء مثله ، ثمّ صلى بي المغرب حين غربت الشمس ثمّ صلى بي العشاء حين غاب الشفق ثمّ جاءني فصلى بي الصبح حين طلع الفجر ، ثمّ جاءني في الغد فصلى بي الظهر حين كان ظل كلّ شيء مثله ثمّ صلى بي العصر حين كان ظل كلّ شيء مثليه ثمّ صلى بي المغرب حين غربت الشمس ثمّ صلى بي العشاء حين ذهب ثلث الليل ثمّ صلى بي الصبح حين أسفر ثمّ قال : هذه صلاة النبيين من قبلك فالزمهم ) .
عطاء بن أبي رياح عن جابر قال : أن جبرئيل أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يعلمه مواقيت الصلاة فتقدم جبرئيل ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خلفه والناس خلف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فصلى الظهر حين زالت الشمس وآتاه حين كان الظل مثل شخصه فصنع كما صنع فتقدم جبرئيل ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خلفه والناس خلف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فصلى العصر .
ثمّ أتاه حين وجبت فصلى المغرب وقد تقدم جبرئيل ورسول الله خلفه والناس خلف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فصلى المغرب ثمّ أتاه حين غاب الشفق فتقدم جبرئيل ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خلفه والناس خلف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فصلى العشاء ثمّ أتاه جبرئيل حين انشق الفجر فتقدم جبرئيل ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خلفه والناس خلف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فصلى الغداة ثمّ أتاه اليوم الثاني حين كان ظل الرجل مثل شخصه فصنع مثل ما صنع بالأمس صلى الظهر . ثمّ أتاه حين كان ظل الرجل منّا مثل شخصيه فصنع كما صنع بالأمس فصلى العصرب ثمّ أتاه حين وجبت الشمس فصنع كما صنع بالأمس فصلى المغرب متمنياً ثمّ تمنا ثمّ قمنا فأتاه فصنع كما صنع بالأمس صلى العشاء . ثمّ ابتدأ الفجر وأصبح والنجوم بادية مشتبكة فصنع كما صنع بالأمس فصلى الغداة ثمّ قال : ما بين هاتين الصلاتين وقت
(6/121)
" صفحة رقم 122 "
وعن نافع بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عبّاس إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أتاني جبرئيل عند باب الكعبة مرتين فصلى الظهر حين كان الفيء مثل الشراك ثمّ صلى العصر حين كان كل شيء بقدر ظله ثمّ صلى المغرب حين أفطر الصائم ثمّ صلى العشاء حين غاب الشفق ثمّ صلى الصبح حين حرم الطعام والشراب على الصائم ثمّ صلى الظهر في المرة الأخيرة حين كان كل شيء بقدر ظله لوقت العصر بالأمس ، ثمّ صلى العصر حين كان ظل شيء مثليه ثمّ صلى المغرب للوقت الأول لم يؤخرها ثمّ صلى العشاء الأخيرة حين ذهب ثلث الليل ثمّ صلى الصبح حين أسفره ثمّ التفت فقال : يا محمّد هذا وقت الأنبياء من قبلك ، الوقت فيما بين هذين الوقتين ) .
) إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ( إقباله بظلامه .
قال ابن عبّاس : بدو الليل . قتادة : صلاة المغرب .
مجاهد : غروب الشمس . أبو عبيدة : سواده .
ابن قيس الرقيات :
إن هذا الليل قد غسقا
فأشتكيت الهم والأرقا
وقيل : غسق يغسق غسوقاً .
) وَقُرْآنَ الفَجْرِ ( أيّ صلاة الفجر فسمى الصلاة قرآنا لأنها لا تجوز إلاّ بقرآن ، وقيل : يعني قرآن الفجر ما يقرأ به في صلاة الفجر .
وإنتصاب القرآن من وجهين : أحدهما : أنه عطف على الصلاة أي أقم قرآن الفجر ، قاله الفراء ، وقال أهل البصرة : على ( الاغراء ) أي وعليك بقرآن الفجر .
وقال بعضهم : إجتماعه وبيانه وحينئذ يكون مجاز أقم الصلاة لدلوك الشمس بقرآن الفجر .
) إنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ( يشهد ملائكة الليل وملائكة النهار ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار ، وفي هذه الآية دليل واضح على تعلق وجوب الصلاة بأول الوقت فإستحباب التغليس بصلاة الفجر .
الزهوي عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة ويجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح )
(6/122)
" صفحة رقم 123 "
قال : يقول أبو هريرة : إقرأوا إن شئتم ( وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ) .
الإسراء : ( 79 ) ومن الليل فتهجد . . . . .
) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ ( أي قم بعد نومك وصل .
قال المفسرون : لا يكون التهجد إلاّ بعد النوم يقال : تهجد إذا سهر ، وهجد إذا نام .
وقال بعض أهل اللغة : يقال تهجد إذا نام وتهجد إذا سهر وهو من الاضداد .
روى حميد بن عبد الرحمن بن عوف : عن رجل من الأنصار إنه كان مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في سفر وقال : لأنظرنّ كيف يصلي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : فنام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثمّ إستيقظ فرفع رأسه إلى السماء فتلا أربع آيات من سورة آل عمران : ) إن في خلق السماوات والأرض لآيات ( ثمّ أهوى بيده إلى القربة وأخذ مسواكاً فأستّن به ثمّ توضأ ثمّ صلى ثمّ نام ثمّ إستيقظ ، فصنع كصنيعه أول مرة ، ويزعمون أنه التهجد الذي أمره الله تعالى .
) نَافِلَةً لَكَ ( قال ابن عبّاس : خاصة لك ، مقاتل بن حيان : كرامة وعطاء لك .
ابن عبّاس : فريضتك .
وقال : أُمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقيام الليل خاصة وكتبت عليه ، ويكون معنى النافلة على هذا القول فريضة فرضها الله عليك فضلاً عن الفرائض التي فرضها الله علينا زيادة .
وقال قتادة : تطوعاً وفضيلة .
وقال بعض العلماء : كانت صلاة الليل فرضها عليه في الابتداء ثمّ رخص له في تركها فصارت نافلة .
وقال مجاهد : والنافلة للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة من أجل أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فما عمل من عمل سوى المكتوبة فهو نافلة لك من أجل أنه لا يعمل ذلك كفارة لذنوبهم ، فهي نوافل له وزيادة للناس يعملون ويصلون ماسوى المكتوبة لذنوبهم في كفارتها فليست للناس نوافل .
) عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ( .
قال أهل التأويل : عسى ولعلّ من الله جزاء لأنه لايدع أن يفعل لعباده ما أطمعهم فيه من الجزاء على طاعاتهم لأنه ليس من صفته الغرور ، ولو أن رجلاً قال لآخر : اهدني والزمني لعلي أن أنفعك فلزمه ولم ينفعه مع إطماعه فيه ووعده لكان عاراً له وتعالى الله عن ذلك ، وأما المقام المحمود فالمقام الذي يشفع فيه لأُمته يحمده فيه الأولون والآخرون .
(6/123)
" صفحة رقم 124 "
عاصم بن أبي النجود عن زيد عن عبد الله قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو كنت متخذاً خليلاً لأتخذت ابن أبي قحافة خليلاً ولكن صاحبكم خليل الله ثمّ قرأ ) عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ( ) .
وعن حذيفة بن اليمان قال : يُجمع الناس في صعيد واحد فلا تكلم نفس فتكون أول من يدعو محمّداً ( صلى الله عليه وسلم ) فيقول : لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وبك وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجاً منك إلاّ اليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت فذلك قوله تعالى ) عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ( .
قتادة عن مأمون بن مالك عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيلهمون فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فأراحنا من مكاننا هذا فيأتون آدم ( عليه السلام ) فيقولون : يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله عزّ وجلّ بيده وأسجد لك ملائكته وعلّمك أسماء كل شيء فإشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من هذا المكان فيقول لهم لست هناك ، ويذكر ذنبه الذي أصابه فيستحي ربَه من ذلك ولكن أئتوا نوحاً فإنه أول الرسل بعثه الله إلى أهل الأرض ، فيأتون نوحاً فيقول لست هناك ويذكر خطيئته وسؤاله ربه هلاك قومه فيستحي ولكن أئتوا إبراهيم خليل الرحمن فيأتون إبراهيم ( عليه السلام ) فيقول : لست هناك ولكن أئتوا موسى عبداً كلمه الله وأعطاه التوراة فيأتون موسى ( عليه السلام ) فيقول : لست هناك ، ويذكر لهم النفس التي قتل بغير نفس فيستحي من ذلك فيقول أئتوا عيسى عبد الله ورسوله هو كلمة الله وروحه فيأتون عيسى ( عليه السلام ) فيقول لست هناك ولكن أئتوا محمّداً عبداً غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتونني فأقوم وأمشي بين سماطين من المؤمنين حتّى أستأذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيت ربي خررت ساجداً لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثمّ يقول : إرفعك رأسك ثم يقول : قلْ يسمع وسّل تعط واشفع تشفع ، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثمّ أشفع فيحدّ لي حداً فأدخلهم الجنة ، ثمّ أعود إليه الثانية فإذا رأيت ربي وقعتَ أو خررتَ ساجداً لربي فيدعني ماشاء الله أن يدعني ، ثمّ قال : إرفع يا محمّد رأسك قل يسمع وسل تعطه وإشفع تشفع ، فأرفع رأسي فأحمد بتحميد يعلمنيه ثمّ أشفع فيحدّ لي حداً فأدخلهم الجنة .
ثمّ أعود إليه الثالثة فإذا رأيت ربي وقعتا وخررت ساجداً لربي فيدعني ماشاء الله أن يدعني ، ثمّ يقال إرفع يا محمّد رأسك قل تسمع وسل تعطه وإشفع فشفع فأرفع رأسي فأحمده تحميد يعلمنيه ثمّ أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثمّ أعود إليه الرابعة ، وأقول يارب مابقي إلاّ من حبسه القرآن .
قال أنس بن مالك : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يخرج من النار من قال لا إله إلاّ الله وكان في
(6/124)
" صفحة رقم 125 "
قلبه من الخير مايزن شعيرة ثمّ يخرج من النار من قال لا إله إلاّ الله وكان في قلبه من الخير مايزن ذرة ) .
وروى أبو عاصم محمّد بن أبي أيوب الثقفي عن يزيد بن صهيب قال : كنت قد شغلني رأي من رأى الخوارج وكنت رجلاً شاباً ، قال : فخرجنا في عصابة ذوي عدد يزيد أن يحج ثمّ يخرج على الناس فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جالس إلى سارية وإذا هو قد ذكر الجهنميين فقلت له : يا صاحب رسول الله ما هذا الذي تحدث والله عزّ وجلّ يقول : ) إنك من تدخل النار فقد أخزيته ( ) وكلما أرادوا أن يخرجوا منها أُعيدوا فيها ( ) .
فقال لي : تقرأ القرآن ؟ قلت : نعم فقال : فهل سمعت مقام محمّد المحمود الذي يبعثه الله فيه ؟ قلت : نعم ، قال : فإنه مقام محمّد ( صلى الله عليه وسلم ) المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من النار .
ثمّ نعت وضع الصراط ومرور الناس عليه قال : وأخاف أن لا أكون حفظت ذلك غير أنه قد زعم أن قوماً يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها ، قال : فيخرجون كأنهم عيدان السماسم فيدخلون نهراً من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس . قال : فرجعنا وقلنا أيرون كهذا الشيخ يكذب على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فوالله ماخرج منا غير رجل واحد .
الزهري عن علي بن حسين قال : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا كان يوم القيامة مدَّ الأرض مدّ الأديم ( بالعكاظي ) حتّى لايكون لبشر من الناس إلاّ موضع قدميه ) .
قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( فأكون أنا أول من يدعى وجبرئيل عن يمين الرحمن والله ما رآه قبلها ، وأقول : يارب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إليَّ فيقول الله تعالى : صدق ، ثمّ أشفع فأقول يارب عبادك عبدوك في أطراف الأرض قال : وهو المقام المحمود ) .
وروى سفيان عن سلمة بن سهيل عن أبي الزعراء قال : قال عبد الله : يكون أول شافع يوم القيامة روح القدس جبرئيل ثمّ إبراهيم ثمّ موسى ثمّ عيسى ثمّ يقوم نبيكم ( صلى الله عليه وسلم ) رابعاً فلا يشفع أحد بعده فيما يشفع فيه وهو المقام المحمود .
سعيد بن عروبة عن قتادة عن أنس أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : إن بالبراق قال لجبرائيل : والذي بعثك بالحق لايركبني حتّى يضمن لي الشفاعة .
(6/125)
" صفحة رقم 126 "
عبد الله بن إدريس عن عبد الله عن نافع عن ابن عمرو قال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قرأ ) عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ( .
قال : يدنيني فيقعدني معه على العرش .
ابن فنجويه : أجلسني معه على سريره .
أبو أُسامة عن داود بن يزيد ( الأزدي ) عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ( قال : ( الشفاعة ) .
عاصم عن أبي وائل عن عبد الله قال : إن الله تعالى إتخذ إبراهيم خليلاً وإن صاحبكم خليل الله وأكرم الخلق على الله ثمّ قرأ ) عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ( قال : يقعده على العرش .
وروى سعيد الجروي عن سيف السدوي عن عبد الله بن سلام قال : إذا كان يوم القيامة يؤتي نبيكم ( صلى الله عليه وسلم ) فيقعد بين يدي الرب عزّ وجلّ على الكرسي .
وروى ليث عن مجاهد في قوله عزّ وجلّ ) عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ( قال : يجلسه على العرش .
قال الأستاذ الإمام أبو القاسم الثعلبي : هذا تأويل غير مستحيل لأن الله تعالى كان قبل خلقه الأشياء قائماً بذاته ثمّ خلق الأشياء من غير حاجة له إليها ، بل إظهاراً لقدرته وحكمته ليعرف وجوده وحده وكمال علمه وقدرته بظهور أفعاله المتقنة بالحكمة ، وخلق لنفسه عرشاً إستوى عليه كما يشاء من غير أن صار له مما شاء أو كان له العرش مكان بل هو الآن على الصفة التي كان عليها قبل أن خلق المكان والزمان ، فعلى هذا القول سواء أقعد محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) على العرش أو على الأرض لأن إستواء الله على العرش ليس بمعنى الاستقبال والزوال أو تحول الأحوال من القيام والقعود أو الحال الذي يشغل العرش ، بل هو مستو على عرشه كما أخبر عن نفسه بلا كيف ، وليس إقعاده محمّداً ( صلى الله عليه وسلم ) على العرش موجباً له صفة الربوبية أو مخرجاً إياه من صفة العبودية بل هو رفع لمحله وإظهار لشرفه وتفضيل له على غيره من خلقه ، وأما قولهم : في الأخبار معه ، فهو شابه قوله تعالى ) إن الذين عند ربك ( و ) رب ابنِ لي عندك بيتاً في الجنة ( ونحوهما من الآيات ، كل ذلك راجع إلى الرتبة والمنزلة لا إلى المكان والجهة والله أعلم .
الإسراء : ( 80 ) وقل رب أدخلني . . . . .
) وَقُلْ رَبِّ أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْق وَأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْق ( قرأه العامّة : بضم الميمين على معنى الإدخال والاخراج
(6/126)
" صفحة رقم 127 "
وقرأ الحسن : بفتحهما على معنى الدخول والخروج .
وإختلف المفسرون في تأويلها .
فقال ابن عبّاس والحسن وقتادة ) أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْق ( المدينة ) وَأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْق ( من مكة نزلت حين أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالهجرة فروى أبو حمزة الثمالي عن جعفر بن محمّد عن محمّد بن المنكدر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( حين دخل الغار ) رَبِّ أدْخِلْنِي ( يعني الغار ) مُدْخَلَ صِدْق وَأخْرِجْنِي ( من الغار ) مُخْرَجَ صِدْق ( إلى المدينة ) .
وقال الضحاك : ) وَأخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْق ( من مكة آمناً من المشركين ) أدْخِلْنِي ( مكة ) مُدْخَلَ صِدْق ( ظاهراً عليها بالفتح .
عطية عن ابن عبّاس ) أدْخِلْنِي ( القبر ) مُدْخَلَ صِدْق ( عند الموت ) وَأخْرِجْنِي ( من القبر ) مُخْرَجَ صِدْق ( عند البعث .
الكلبي ) أدْخِلْنِي ( المدينة ) مُدْخَلَ صِدْق ( حين أدخلها بعد أن قصد الشام ) وَأخْرِجْنِي ( منها إلى مكة افتحها لي .
مجاهد ) أدْخِلْنِي ( في أمرك الذي أدخلتني به من النبوة ) مُدْخَلَ صِدْق وَأخْرِجْنِي ( منه ) مُخْرَجَ صِدْق ( .
قتادة عن الحسن : ) أدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْق ( في طاعتك ) وَأخْرِجْنِي مُخْرَجَ ( بالصدق أي سالماً غير مقصر فيها .
وقيل : معناه ) أدْخِلْنِي ( حيث ما أدخلتني بالصدق ) وَأخْرِجْنِي ( بالصدق أي لتجعلني ممن أدخل بوجه وأخرج بوجه فإن ذا الوجهين لا يكون أميناً عند الله .
) وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً ( مجاهد : حجة بينة .
قال الحسن : يعني ملكاً قوياً ينصرني به على من والاني وعزّاً ظاهراً أُقيم به دينك ، قال : فوعده الله تعالى لينزعن ملك فارس والروم وعزتهما فيجعله له .
قتادة : إن نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلاّ بسلطان فسأل سلطاناً نصيراً بكتاب الله وحدوده ، وفرائضه وإقامة دينه وإن السلطان رحمة من الله جعلها من أظهر عباده لايقدر بعضهم على بعض وأكل شديدهم ضعيفهم .
وقيل : هو فتح مكة
(6/127)
" صفحة رقم 128 "
وروى موسى بن إسماعيل عن حماد عن الكلبي في قوله ) وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً نَصِيراً ( قال : سلطانه النصير .
عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية : إستعمله رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على أهل مكة ( قال له : ) إنطلق فقد إستعملتك على أهل الله يعني مكة فكان شديداً على ( المنافقين ) ليّناً للمؤمنين .
قال : لا والله لا أعلم متخلفاً ينطلق عن الصلاة في جماعة إلاّ ضربت عنقه فإنه لا يتخلف عنها إلاّ منافق .
فقال أهل مكة : يا رسول الله تستعمل على آل الله عتاب بن أسيد إعرابياً حافياً ؟
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إني رأيت فيما يرى النائم ، كأن عتاب بن أسيد أتى باب الجنة فأخذ بحلقه الباب ففلقها لا شديداً حتّى فتح له فدخلها فأعز الله به الاسلام لنصرته المؤمنين على من يريد ظلمهم فذلك السلطان النصير ) .
الإسراء : ( 81 ) وقل جاء الحق . . . . .
) وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ ( يعني أتى ) وَزَهَقَ البَاطِلُ ( أي ذهب الشيطان وهلكه ، قاله قتادة .
وقال السدي : الحقّ الاسلام ، والباطل الشرك . وقيل : الحق دين الرحمن والباطل الأوثان .
وقال ابن جريح : الحق الجهاد والقتال .
) إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ( ذاهباً .
يقال : زهقت نفسه إذا خرجت وزهق السهم إذا جاوز الفرض فإستمر على جهته .
قال ابن مسعود وابن عبّاس : لما إفتتح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مكة وجد حول البيت ثلثمائة وستين صنماً ، صنم كل قوم بحيالهم ومعه مخصرة فجعل يأتي الصنم فيطعن في عينه أو في بطنه ثمّ يقول ) جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ( بجعل الصنم ينكب لوجهه وجعل أهل مكة يتعجبون ، ويقولون فيما بينهم ما رأينا رجلاً أسحر من محمّد .
الإسراء : ( 82 ) وننزل من القرآن . . . . .
) وَنُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ( أي بيان من الضلالة والجهالة بيّن للمؤمن ما يختلف فيه ويشكل عليه ، فيشفي به من الشبهة ويهدي به من الحيرة وإذا فعل ذلك رحمه الله ، فهو شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها كما يشفي المريض إذا زالت العلل عنه .
قتادة : إذا سمعه المؤمن إنتفع به وحفظه ووعاه .
(6/128)
" صفحة رقم 129 "
) وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إلاَّ خَسَاراً ( لأنه لاينتفع به ولا يحفظهُ ولا يعيه .
وقال همام : سمعت قتادة يقول : ما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان ثمّ قرأ هذه الآية .
وروت ساكنة بنت الجرود قالت : سمعت رجاء الغنوي يقول : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مَن لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله ) .
الإسراء : ( 83 ) وإذا أنعمنا على . . . . .
) وَإذَا أنْعَمْنَا عَلَى الإنسَانِ أعْرَضَ ( عن ذكرنا ) وَنَأى بِجَانِبِهِ ( وتباعدنا بنفسه .
وقال عطاء : تعظم وتكبر .
وإختلف القراء في هذا الحديث ، فقرأ أبو عمر وعاصم ونافع وحمزة في بعض الروايات عنهم : بفتح النون وكسر الهمزة على الامالة .
وقرأ الكسائي وخلف وحمزة في سائر الروايات : بكسرهما ، اتبعوا الكسرة .
وقرأ أكثرهم : بفتحهما على التفخيم وهي اللغة العالية .
وقرأ أبو جعفر وعامر : بالنون ولها وجهان : أحدهما : مقلوبة من نأي كما يقال رأى ورأ ، والثاني : إنها من النوء وهو النهوض والقيام ويقال أيضاً للوقوع الجلوس نوء وهو من الاضداد .
) وَإذَا مَسَّهُ الشَّرُّ ( الشدة والضر ) كَانَ يَئُوساً ( قنوطاً
الإسراء : ( 84 ) قل كل يعمل . . . . .
) قُلْ ( يا محمّد ) كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ( .
قال ابن عبّاس : على ناحيته . مجاهد : عى حدته .
الحسن وقتادة : على نيته . ابن زيد : على دينه .
مقاتل : على ( جدلته ) . الفراء : على طريقته التي جبل عليها .
أبو عبيدة والقتيبي : على خليقته وطبيعته .
وهو من الشكل ، يقال : لست على شكلي وشاكلتي ، وقيل : على سبيله الذي إختاره لنفسه ، وقيل : على اشتباهه من حولهم ، أشكل عليّ الأمر أي إشتبه ، وكل هذه الأقاويل متقاربة .
يقول العرب : طريق ذو شواكل إذا ينشعب الطرق ( منه ) ، ومجاز الآية : كل يعمل ما يشبهه ، كما قيل في المثل السائر : كل إمرىء يشبه فعله ما فعل المروء فهو أهله
(6/129)
" صفحة رقم 130 "
) فَرَبُّكُمْ أعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهْدَى سَبِيلا (
.
) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَاذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ( 2
الإسراء : ( 85 ) ويسألونك عن الروح . . . . .
) وَيَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ( .
الاعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : كنت أمشي مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة وهو متكيء على عسيب فمرَّ بقوم من اليهود ، فقال بعضهم : سلوه عن الروح ، وقال بعضهم : لاتسألوه ، فقام متكأ على العسيب ، قال عبد الله ، وأنا خلفه فظنيت أنه يوحي إليه فقال ) وَيَسْأ لُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أمْرِ رَبِّي ( ) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلاَّ قَلِيلا ( .
فقال بعضهم لبعض : قلنا لكم لا تسألوه ، وفي غير الحديث عن عبد الله ، قالوا : فكذلك نجد مثله إن الروح من أمر الله تعالى .
وقال ابن عبّاس : قالت اليهود للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخبرنا ما الروح وكيف يعذب الروح في الجسد ولم يكن نزل فيهم شيء ؟ فلم يجبهم فأتاه جبرئيل ( عليه السلام ) بهذه الآية .
ويروى أن اليهود إجتمعوا فقالوا لقريش حين سألوهم عن شأن محمّد وحاله سألوا محمداً عن الروح . وعن فتية فقدوا في الزمان الأوّل ، وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها ، فإن أجاب في ذلك كله فهو بنبي وإن لم يجب من ذلك كله فليس بنبي ، وإن أجاب في بعض ذلك وأمسك عن البعض فهو نبي فسألوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عنها فأنزل الله عزّ وجلّ فيما سألوه عن الفتية قوله ) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم ( إلى آخر القصة .
وأنزل عن الجواب الذي بلغ شرق الأرض وغربها ) ويسألونك عن ذي القرنين ( إلى آخر القصة .
وأنزل في الروح قوله ) وَيَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ ( الآية .
واختلفوا في هذا الروح المسؤل عنه ماهو : فقال الحسن وقتادة : هو جبرئيل .
قال قتادة : وكان ابن عبّاس يكتمه
(6/130)
" صفحة رقم 131 "
وروى أبو الميسرة ممن حدثه عن علي بن أبي طالب ( ح ) أنه قال : في قوله ) وَيَسْأ لُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ ( الآية ، قال : هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة ، يسبح الله عزّ وجلّ بتلك اللغات كلها ، يخلق من كل تسبيحة ملك يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة .
ابن عبّاس : الروح خلق من خلق الله صورهم على صور بني آدم ، وما نزل من السماء ملك إلاّ ومعه واحد من الروح .
أبو صالح : الروح كهيئة الأنسان وليسوا بناس .
مجاهد : الروح على صورة بني آدم لهم أيد وأرجل ورؤوس يأكلون الطعام وليسوا بملائكة .
سعيد بن جبير : لم يخلق الله خلقاً أعظم من الروح غير العرش ولو شاء أن بلغ السماوات السبع والأرضين السبع ومن فيها بلقمة واحدة لفعل صورة ، خلقه على صورة الملائكة وصورة وجهه على صورة وجه الآدميين ، فيقوم يوم القيامة وهو ممن يشفع لأهل التوحيد لولا أن سندس الملائكة ستراً من نور لاحترق أهل السماوات من نوره .
وقال قوم : هو الروح المركب في الخلق الذي يفقده ( فأوهم وبوجوده مقاديم ) .
وقال بعضهم : أراد بالروح القرآن وذلك أن المشركين قالوا : يا محمّد من أتاك بهذا القرآن ، فأنزل الله تعالى بهذه الآية وبيّن أنه من عنده
الإسراء : ( 86 ) ولئن شئنا لنذهبن . . . . .
) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أوْحَيْنَا إلَيْكَ ( يعني القرآن ) ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلا ( ناصراً ينصرك ويرده عليك .
وقال الحسن : وكيلاً ناصراً يمنعك منا إذا أردناك .
الإسراء : ( 87 ) إلا رحمة من . . . . .
) إلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ( يعني لكن لايشاء ربك رحمة من ذلك ، ) إنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً ( .
هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خرج وهو معصوب الرأس من وجع فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : ( أيها الناس ما هذه الكتب التي يكتبون الكتاب غير كتاب الله يوشك أن يغضب الله لكتابه فلا يدع ورقاً إلاّ قليلاً إلاّ أخذ منه ) .
قالوا : يا رسول الله فكيف بالمؤمنين والمؤمنات يومئذ ؟ قال : ( من أراد الله به خيراً أبقى في قلبه لا إله إلاّ الله ) .
وروى شداد بن معقل عن عبد الله بن مسعود قال : إن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة
(6/131)
" صفحة رقم 132 "
وآخر ما تفقدون الصلاة والمصلين قوم لا دين لهم ، وإن هذا القرآن تصبحون يوماً وما معكم منه شيء ، فقال رجل : كيف يكون ذلك يا أبا عبد الرحمن وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة .
قال : يسري به في ليلة فيذهب بما في المصاحب ما في القلوب ( فتصبح الناس كالبهائم ) ثمّ قرأ عبد الله ) وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أوْحَيْنَا إلَيْكَ ( الآية .
وروى موسى بن عبيدة عن صفوان بن سليم عن ناجية بن عبد الله بن عتبة عن أبيه عن عبد الله قال : إكثروا الطواف بالبيت قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه وأكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع ؟ قالوا : هذه المصاحف يرفع فكيف بما في صدور الرجال .
قال : يسري عليه ليلاً يصبحون منه فقراء ( وينسون ) قول لا إله إلاّ الله فيتبعون في قول أهل الجاهلية وإشعارهم فذلك حين يقع عليهم القول .
وعن عبد الله بن عمرو قال : لا يقوم الساعة حتّى يرفع القرآن من حيث نزل له دوي كدوي النحل فيقول الله تعالى : ما بالك ، فيقول : منك خرجت وإليك أعود اُتلى ولا يعمل فيَّ .
الإسراء : ( 88 ) قل لئن اجتمعت . . . . .
) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنسُ وَالجِنُّ عَلَى أنْ يَأتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يَأتُونَ بِمِثْلِهِ ( لايقدرون على ذلك .
قال السدي : لايأتون بمثله لأنه غير مخلوق ولو كان مخلوقاً لأتوا بمثله .
) وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض ظَهِيراً ( عوناً .
نزلت هذه الآية حين قال الكفار : لو شئنا لقلنا مثل هذا فأكذبهم الله تعالى
الإسراء : ( 89 ) ولقد صرفنا للناس . . . . .
) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ ( إلى قوله ) إلاَّ كُفُوراً ( جحوداً .
( ) وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الاَْرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الاَْنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَءُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولاً قُل لَوْ كَانَ فِى الاَْرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكًا رَّسُولاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِى وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا
(6/132)
" صفحة رقم 133 "
وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِئَايَاتِنَا وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُورًا قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا ( 2
الإسراء : ( 90 ) وقالوا لن نؤمن . . . . .
) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعاً ( .
عكرمة عن ابن عبّاس أن عتبة وشيبة إبني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحرث وأبا البحتري بن هشام ، والاسود بن المطلب وزمعة ابن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيهاً ومنبهاً إبني الحجاج إجتمعوا أو من إجتمع منهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة .
فقال بعضهم لبعض : إبعثوا إلى محمّد وكلموه وخاصموه حتّى تعذروا فيه ، فبُعث إليه أن أشراف قومك قد إجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سريعاً وهو ( يظن بأنه ) بدا لهم في أمره بداءً ، وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم .
فقالوا : يا محمّد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله لانعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء وعنّت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلاّ وقد جئته فيما بيننا ( وبينك ) ، وإن كنت إنما جئت بهذا الحدث تطلب به مالاً حظنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالاً وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سوّدناك علينا ، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك به رأي قد غلب عليك فكانوا يسمون من الجن من يأتي الأنسان بالخير والشر فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتّى نبرئك منه أو نعذر فيك .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مابي ما تقولون ، ما جئتكم بما جئتكم أطلب به أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل عليَّ كتاباً وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فأن تقبلوا مني ما جئتكم فهو حظكم في الدنيا والآخرة وأن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم ) .
فقالوا : يا محمّد وإن كنت غير قابل منا ماعرضنا عليك فقد علمت إنه ليس من الناس أحد أضيق بلاداً ولا أقل مالاً ولا أشد عيشاً منا ، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليُسيّر عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق
(6/133)
" صفحة رقم 134 "
وليبعث لنا من مضى من آبائنا ، وليكن ممن يبعث لنا فيهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخاً صدوقاً فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله وأنه بعثك رسولاً كما تقول .
فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه عليَّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم ) .
قالوا : فإن لم تفعل هذا فخذ لنفسك فسل ربك أن يبعث ملكاً يصدقك وسله فيجعل لك تيجان وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة ويغنيك بها عما نراك فإذن نراك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه .
فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ( ما أنا بفاعل ) ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بُعثت إليكم بهذا ، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً ) .
قالوا : فأسقط السماء ( علينا كسفاً ) كما زعمت أن ربك ( إن ) شاء فعل .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك ) .
قالوا : قد بلغنا إنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن ، وإنّا والله لا نؤمن بالرحمن أبداً فقد أعذرنا إليك يا محمّد أما والله لا نتركك وما بلغت منا حتّى نهلكك أو تهلكنا .
وقال قائل منهم ) لن نؤمن لك حتّى تأتينا بالله والملائكة قبيلاً ( .
فلما قالوا ذلك قام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ابن عبد الله بن عمرو بن محروم وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال له : يا محمّد عرض عليك ماعرضوا فلم تقبل منهم ثمّ سألوك لأنفسهم أمراً فليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك ، ثمّ سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل ، فوالله لا أومن بك أبداً حتّى تتخذ إلى السماء سلماً ثمّ ترقى فيه وأنا أنظر حتّى تأتيها وتأتي بنسخة مصورة معك ونفر من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول ، وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت ألاّ أصدقك ، ثمّ انصرف وإنصرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
فقال : أبو جهل ، حين قام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يا معشر قريش إن محمّد قد أتى إلا ماترون مَنْ عيّب ديننا وشتم آلهتنا وسفّه أحلامنا وسبّ آباءنا فإني أعاهد الله لأجلسنّ له عند الحجر قدر ما أطيق حمله وإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه
(6/134)
" صفحة رقم 135 "
وإنصرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أهله حزيناً لما فاته من متابعة قومه ولما رأى من مباعدتهم فأنزل الله تعالى ) وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ ( .
قال أهل الكوفة : ( تفجر ) خفيفة بفتح التاء وضم الجيم ، وإختاره أبو حاتم لأن الينبوع واحد .
( قرأ ) الباقون بالتشديد على التفعيل ، وإختاره أبو عبيد ولم يختلفوا في الثانية أنها مشددة لأجل الأنهار لأنها جمع ، والتشديد يدل على التكثير من الأرض يعني أرض مكة ينبوعاً يعني عيوناً هو مفعول من نبع الماء .
الإسراء : ( 91 - 92 ) أو تكون لك . . . . .
) أوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيل وَعِنَب فَتُفَجِّرَ الأنهَارَ خِلالَهَا ( وسطها ) تَفْجِيراً ( ( رقيقاً ) ) أوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً ( قرأ أكثر قراء العراق : بسكون السين أي قطعة أجمع كسفه وهو جمع الكثير ، مثل تمرة وتمر وسدرة وسدر .
تقول العرب : أعطني كسفة من هذا الثوب أي قطعة ، ويقال : منه جاءنا ببريد كسف أي قطع خبز ، وقيل : أراد جاثياً .
وفتح الباقون السين ، وهو القطع أيضاً جمع القليل للكسفة .
) أوْ تَأتِيَ بِاللهِ وَالمَلائِكَةِ قَبِيلا ( .
قال ابن عبّاس : كفيلاً . الضحاك : ضامناً . مقاتل : شهيداً .
مجاهد : جمع القبيلة أيّ بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة .
قتادة : عياناً . الفراء : هو من قول العرب : لقيت فلاناً قبلاً وقبلا أي معاينة .
الإسراء : ( 93 ) أو يكون لك . . . . .
) أوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُف ( من ذهب وأصله الزينة .
مجاهد : كنت لا أدري ما الزخرف حتّى رأيته في قراءة ابن مسعود : بيت من ذهب .
) أوْ تَرْقَى ( تصعد ) فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ ( أيّ من أجل رقيك صعودك ) حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُه ( أمرنا فيه بإتباعك ) قُلْ ( يا محمّد ) سُبْحَانَ رَبِّي ( .
وقرأ أهل مكة والشام : ) قال سبحان ربي ( يعني محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) هَلْ كُنتُ إلاَّ بَشَراً رَسُولا ( وليس ما سألتم في طوق البشر ولا قدرة الرسل
الإسراء : ( 94 ) وما منع الناس . . . . .
) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أنْ يُؤْمِنُوا إذْ جَاءَهُمُ الهُدَى إلاَّ أنْ قَالُوا أبَعَثَ ( جهلاً منهم ) أبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولا ( وإن الأُولى في محل النصب والثانية في
(6/135)
" صفحة رقم 136 "
محل الرفع وفي الآية إختصار فتأويلها هلاَّ بعث الله ملكاً رسولاً فأجابهم الله تعالى
الإسراء : ( 95 ) قل لو كان . . . . .
) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ ( مستوطنين مقيمين ) لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولا ( لأن الملائكة إنما تبعث إلى الملائكة ويراهم الملائكة
الإسراء : ( 96 - 97 ) قل كفى بالله . . . . .
) قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ( إنه رسوله إليكم ) إنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ( إلى قوله ) أوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ ( دونهم ) وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ( .
شيبان عن قتادة عن أنس : إن رجلاً قال : يارسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة ؟ فقال نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الذي أمشاه على رجاله قادر أن يمشيه على وجهه ( في النار ) ) .
وروى حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن أوس بن خالد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف : صنفاً مشاة وصنفاً ركبان وصنفاً يمشون على وجوههم ) .
قيل : يارسول الله وكيف يمشون على وجوههم ؟ قال : ( إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك ) .
) عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً ( إن قيل : وكيف وصف الله عزّ وجلّ هؤلاء يأتيهم يوم القيامة عمي وصم وبكم ، وقال تعالى ) ورأى المجرمون النار ( فقال : ) سمعوا لها تغيظاً وزفيراً ( وقال ) دعوا هنالك ثبوراً ( والجواب عنه ماقال ابن عبّاس : عميّاً لايرون شيئاً يسرهم ، بكماً لاينطقون بحجة ، صماً لايسمعون شيئاً يسرهم .
وقال الحسن : هذا حين ( جاءتهم ) الملائكة وحين يساقون إلى الموقف عُمي العيون وزرقها سود الوجوه إلى أن يدخلوا النار .
مقاتل : هذا حين يقال لهم : إخسؤا فيها ولا تكلمون ، فيصيرون بأجمعهم عمياً بكماً صماً لايرون ولا يسمعون ولا ينطقون بعد ذلك .
وقيل : عمياً لايبصرون الهدى ، وبكماً لاينطقون بخير ، وصماً لايسمعون الحق .
) مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ ( قال ابن عبّاس : ( سكنت ) مجاهد : ( طفيت ) قتادة : لانت وضعفت .
) زِدْنَاهُمْ سَعِيراً ( وقوداً
الإسراء : ( 98 ) ذلك جزاؤهم بأنهم . . . . .
) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أإذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أإنَّا
(6/136)
" صفحة رقم 137 "
لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ( فأجابهم الله تعالى
الإسراء : ( 99 ) أولم يروا أن . . . . .
) أوَ لَمْ يَرَوْا أنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ ( في عظمها و شدتها وكثرة أجزائها وقوتها ) قَادِرٌ عَلَى أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ( في صغرهم وضعفهم نظيره قوله ) لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ( وقوله ) أأنتم أشد خلقاً أم السماء ( .
) وَجَعَلَ لَهُمْ أجَلا ( أي وقتاً لعذابهم وهلاكهم ) لا رَيْبَ فِيهِ ( إنه إليهم ، وقيل : إن هذا جواب لقولهم أو يسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً ، وقيل : هو يوم القيامة ، وقيل : هو الموت الذي يعاينونه ) فَأبَى الظَّالِمُونَ ( الكافرون ) إلاَّ كُفُوراً ( جحوداً
الإسراء : ( 100 ) قل لو أنتم . . . . .
) قُلْ لَوْ أنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي ( أيّ أملاك ربي وأمواله وأراد بالرحمة هاهنا الرزق ) إذاً لأَمْسَكْتُمْ ( لبخلتم وحبستم ) خَشْيَةَ الإنفَاقِ ( أي الفاقة ، ) وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُوراً ( أي بخيلاً ممسكاً ضيقاً .
( ) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِى إِسْرَاءِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّى لأَظُنُّكَ يامُوسَى مَسْحُورًا قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَاؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّى لأَظُنُّكَ يافِرْعَونُ مَثْبُورًا فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الاَْرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِى إِسْرَاءِيلَ اسْكُنُواْ الاَْرْضَ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاَْخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَقُرْءانًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً قُلْ ءَامِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلاَْذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلاَْذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَانَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاَْسْمَآءَ الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذاَلِكَ سَبِيلاً وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِى الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ( 2
الإسراء : ( 101 ) ولقد آتينا موسى . . . . .
) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَات بَيِّنَات ( قال ابن عبّاس والضحاك : هي العصا واليد البيضاء والعقدة التي كانت بلسانه فحلها وفلق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم .
وقال : عكرمة : مطر ، الوراق وقتادة ومجاهد والشعبي وعطاء : هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد والسنون ونقص من الثمرات .
وعن محمّد بن كعب القرظي قال : سألني عمر بن عبد العزيز عن الآيات التسع ، فقلت : الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات وعصا موسى ويده والطمس والبحر .
فقال عمر : وأنا أعرف إن الطمس إحداهن .
(6/137)
" صفحة رقم 138 "
قال محمّد بن كعب : إن رجل منهم كان مع أهله في فراشه وقد صار حجرين ، وإن المرأة منهم لقائمة تختبز وقد صارت حجراً ، وإن المرأة منهم لفي الحمام وإنها تصير حجراً .
فقال عمر : كيف يكون الفقه إلاّ هكذا ثمّ دعا بخريطة فيها أشياء مما كانت اُصيبت لعبد العزيز بن مروان بمصر حين كان عليها من بقايا آل فرعون فأخرج منها البيضة مشقوقة ( قطعاً ) وإنها لحجر وأخرج الجوزة مشقوقة وإنها لحجر وإخرج أشباه ذلك من الفواكة وإنها لحجارة ، وأخرج دراهم ودنانير وفلوساً وإنها لحجارة . فعلى هذا القول يكون الآيات بمعنى الدلالات والمعجزات .
وقال بعضهم : هي بمعنى آيات الكتاب .
روى شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن صفوان بن غسان المرادي : إن يهودياً قال لصاحبه : تعالَ حتّى نسأل هذا النبي ، فقال الآخر : لا تقل نبي لأنه لو سمع صارت له أربعة أعين فأتياه فسألاه عن هذه الآية ) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَات بَيِّنَات ( .
فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تشركوا بالله شيئاً ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلاّ بالحق ولا تزنوا ولا تأكلوا الربا ولا تسحروا ولا تمشوا بالبرىء إلى سلطان ليقتله ولا تسرقوا ولا تقذفوا المحصنة ولا تولوا يوم الزحف ، وعليكم خاصة في اليهود أن لا يتعدوا في السبت ) .
فقبّلوا يده ( ورجله ) وقالوا : نشهد أنّك نبي ، قال : ( فما يمنعكم أن تتبعوني ؟ ) قالوا : إن داود دعا أن لا يزال في ذريته نبي ، وإنَّا نخاف إن اتبعناك تقتلنا اليهود .
) فسْأل بني إسرائيل إذ جاءهم ( موسى ( عليه السلام ) ، وهو قراءة العامة ، وروى حنظلة السِّدوسي عن شهر بن حوشب عن ابن عباس أنّه قرأ ) فسَأَل بني إسرائيل إذ جاءهم ( على الخبر وقال : سأل موسى فرعون أن يخلِّي سبيل بني إسرائيل ويرسلهم معه .
فقال له فرعون : ) إنّي لأظنك يا موسى مسحوراً ( أي قد سحروك ، قاله الكلبي ، وقال ابن عباس : مخدوعاً ، وقال محمد بن جرير : يعطي علم السحر فهذه العجائب التي يفعلها من سحرك ، وقال الفرّاء وأبو عبيد : ساحراً فوضع المفعول موضع الفاعل ، كما يقال : هو مشؤوم وميمون أي شائم ويامن ، وقيل : معناه : وإنّي لأعلمك يا موسى بشراً ذا سحر ، أي له رئة .
الإسراء : ( 102 ) قال لقد علمت . . . . .
قال موسى : ) لقد علمت ( قراءة العامة بفتح التاء خطاباً لفرعون ، وقرأ الكسائي بضم التاء وهي قراءة علي
(6/138)
" صفحة رقم 139 "
روى شعبة عن أبي إسحاق عن رجل من مراد عن علي بن أبي طالب ( ح ) أنه قرأها : لقد علمتُ برفع التاء وقال : والله ما علم عدواً لله ولكن موسى هو الذي علم ، قال : فبلّغت ابن عباس فقال : إنها لقد علمتُ تصديقاً لقوله : ) وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ( .
قال أبو عبيد : والمأخوذ عندنا نصب التاء ، وهو أصح من المعنى الذي احتجِّ به ابن عباس ، ولأن موسى ( عليه السلام ) لا يحتج بأن يقول علمت أنا وهو الرسول الداعي ، ولو كان مع هذا كلِّه تصح تلك القراءة ( عن علي ) لكانت حجة ، ولكنها ليست تثبت عنه إنما هي عن رجل مجهول ، ولا نعلم أحداً من القرّاء تمسك بها غير الكسائي ، والرجل المرادي الذي روى عنه أبو إسحاق هو كلثوم المرادي .
) ما أنزل هؤلاء ( الآيات التسع ) إلاّ ربّ السماوات والأرض بصائر ( جمع بصيرة ) وإنّي لأظنّك يا فرعون مثبوراً ( قال ابن عباس : يعني ملعوناً ، مجاهد : هالكاً ، قتادة : مهلكاً .
وروى عيسى بن موسى عن عطية العوفي في قوله : ) إنّي لأظنّك يا فرعون مثبوراً ( قال : مُبدّلا ، ابن زيد : مخبولا ، لا عقل لك ، مقاتل : مغلوباً ، ابن كيسان : بعيداً عن الخيرات ، وروى سفيان بن حصين عن الحسن في قوله : ) وإنّي لأظنك يا فرعون مثبورا ( قال ( سلاحاً ) في القطيفة .
قال مجاهد : دخل موسى على فرعون في يوم شات وعليه قطيفة له فألقى موسى عصاه فرأى فرعون جانبي البيت بين ( فقميها ) ، ففزع فرعون وأحدث في قطيفته .
وعن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال : كنت قائماً على رأس المأمون وهو يناظر رجلا فسمعته يقول : يا مثبور ، ثم أقبل عليَّ فقال : يا إبراهيم ما معنى : يا مثبور ؟ قلت : لا أدري ، فقال : حدّثني الرشيد قال : حدّثني أمير المؤمنين المنصور فسمعته يقول لرجل يا مثبور ، فقلت له : يا أمير المؤمنين ما معنى مثبور ؟ قال : قال ميمون بن مهران قال ابن عباس في قوله : ) وإنّي لأظنّك يا فرعون مثبوراً ( قال : ناقص العقل ، قال الفرّاء : يعني مصروفاً ممنوعاً من الخير ، والعرب تقول : ما ثبرك عن هذا الحق ؟ أي ما منعك عنه وصرفك ، وثبره الله يثبره ومثبره وهو لغتان ، وقال ابن الزهري : الغليظ الأرب إذا بارى الشيطان في سنن الغي ومن مال ميله مثبور .
الإسراء : ( 103 ) فأراد أن يستفزهم . . . . .
) فأراد ( فرعون ) أنْ يستفزهم ( يعني يخرجهم ، أي بني إسرائيل ) من الأرض ( أي أرض مصر والشام .
(6/139)
" صفحة رقم 140 "
) فأغرقناه ومن معه جميعاً ( ونجّينا موسى وقومه
الإسراء : ( 104 ) وقلنا من بعده . . . . .
) وقلنا ( ) لهم من بعده ( أي من بعد هلاك فرعون وقومه ) لبني إسرائيل اسكنوا الأرض ( يعني مصر والشام ) فاذا جاء وعد الآخرة ( وهي الساعة ) جئنا بكم ( من قبوركم إلى موقف القيامة ) لفيفا ( مختلطين وقد التفَّ بعضكم ببعض لا تتعارفون ولا ينحاز ( أحدكم ) إلى قبيلته وحيّه ، وهو من قول الجيوش إذا اختلطوا ، وكل شيء اختلط بشيء تعطّف به والتفّ .
وقال مجاهد والضحاك : ( لفيفاً ) أي جميعاً ، ووحّد اللفيف وهو خبر عن الجمع لأنه بمعنى المصدر كقول القائل : لففته لفاً ولفيفاً .
وقال الكلبي ) فإذا جاء وعد الآخرة ( يعني مجيء عيسى ابن مريم من السماء جئنا بكم لفيفاً وقال البزّار : من ههنا وههنا ، يقول : جميعاً .
وهذه القصة تعزية لنبيّنا ( صلى الله عليه وسلم ) وتقوية لقلبه ، يقول الله تعالى : ) كما أنزلت عليك القرآن ( فكذبك كفار قومك من مكة كذلك آتيت موسى التوراة فكذبه فرعون وقومه ، وكما أراد أهل مكة أن يستفزّوك منها ، كذلك أراد فرعون أن يستفزّ موسى وبني إسرائيل من مصر ، فأنجيناهم منهم وأظفرتهم عليهم ، وكذلك أظفرتك على أعدائك ، وأتمّ نعمتي عليك وعلى من اتّبعك نصرةً للدين ولو كره الكافرون ، فأنجز الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده وله الحمد والمنّة .
الإسراء : ( 105 ) وبالحق أنزلناه وبالحق . . . . .
) وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ( يعني القرآن ) وما أرسلناك ( يا محمد ) إلاّ مبشراً ونذيراً }
الإسراء : ( 106 ) وقرآنا فرقناه لتقرأه . . . . .
) وقرآناً فرقناه ( أي وأنزلناه قرآناً ففصّلناه .
قرأ ابن عباس : فرّقناه بالتشديد وقال : لأنه لم ينزل مرة واحدة وانما أنزل ( نجوماً ) في عشرين سنة ، وتصديقه قراءة أُبي بن كعب وقرآناً فرّقناه عليك ، وقرأ الباقون بالتخفيف كقوله ) فيها يفرق كل أمر حكيم ( .
قال ابن عباس فصّلناه ، قال الحسن : فرّق الله به بين الحق والباطل ، وقرأ الآخرون : بيّناه .
) لتقرأه على الناس على مكث ( أي تؤدة ومهل في ثلاث وعشرين سنة ) ونزّلناه تنزيلا }
الإسراء : ( 107 ) قل آمنوا به . . . . .
) قل آمنوا به أولا تؤمنوا ( أمر وعد وتهديد ) إنّ الذين أُوتوا العلم من قبل ( أي من قبل نزول القرآن وخروج محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وهم مؤمنو أهل الكتاب ) إذا تتلى عليهم ( يعني القرآن ) يخرّون ( يسقطون ) للأذقان ( على الأذقان وهي جمع الذقن وهو مجتمع اللحيين ، قال ابن عباس أراد الوجوه ) سجداً }
الإسراء : ( 108 ) ويقولون سبحان ربنا . . . . .
) ويقولون سبحان ربنا إنْ كان وعد ربنا لمفعولا ( قال مجاهد : هم ناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) خرّوا سجداً وقالوا سبحان ربنا ( ان كان أي وقد كان وعد ربنا لمفعولا
الإسراء : ( 109 ) ويخرون للأذقان يبكون . . . . .
) ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم ( نزول القرآن ) خشوعاً ( وخضوعاً وتواضعاً لربّهم
(6/140)
" صفحة رقم 141 "
قال عبد الأعلى التيمي : من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أنْ لا يكون أوتي علماً ينفعه ، وتلا هذه الآية ، نظيرها قوله : ) إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا 2 )
الإسراء : ( 110 ) قل ادعوا الله . . . . .
) قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ( الآية ، قال ابن عباس : تهجّد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذات ليلة فجعل يقول في سجوده : يا الله يا رحمن يا رحيم ، فقال المشركون : كان محمد يدعو إلهاً واحداً فهو الآن يدعوا إلهين اثنين الله والرحمن ، والله ما نعرف الرحمن إلاّ رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ هذه الآية .
قال ميمون بن مهران : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أول ما أوحي إليه يكتب : باسمك اللهم حتى نزلت هذه الآية : ) إنّه من سليمان وإنّه بسم الله الرحمن الرحيم ( فكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال مشركو العرب : هذا الرحيم نعرفه فما الرحمن ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية .
الضحاك : قال أهل الكتاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنّك لتقلّ ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم ، فأنزل الله تعالى : ) قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن ( الآية .
) أيّاً ما تدعوا ( من هذين الاسمين ومن جميع أسمائه ) فله الأسماء الحسنى ( ( . . . . . . . ) مجازه : أيّاً تدعوا ، كقوله : ) عما قليل ( ) وجندٌ ما هنالك ( .
) ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ( قال ابن عباس : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا صلّى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فاذا سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ومن تلا به كما حكاه القرآن : ) لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ( ربما صفّروا ليغلّطوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويخلطوا عليه قراءته فأنزل الله تعالى ) ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ( أي في الصلاة فيسمع المشركون فيؤذوك ، ولا تخافت بها فلا يسمع أصحابك حتى يأخذوا عنك .
وقال سعيد : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يجهر بقراءة القرآن في المسجد الحرام ، فقالت قريش : لا تجهر بالقراءة فتؤذي آلهتنا فنهجو ربك ، وقال مقاتل : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصلّي في دار أبي سفيان بن حرب عند الصفا ، يجهر بقرائته فمرَّ به أبو جهل فقال : لا تفتر على الله ، فجعل يخفت
(6/141)
" صفحة رقم 142 "
صوته ، فقال أبو جهل للمشركين : ألا ترون ما فعلت بابن أبي كبشة ، رددته عن قراءته فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وروى ( علقمة ) عن ابن سيرين في هذه الآية قال : كان أبو بكر ( ح ) يخافت بالقراءة في الصلاة ويقول : أناجي ربي ، وقد علم بحاجتي ، وكان عمر بن الخطاب يرفع صوته ويقول : أزجر الشيطان وأوقظ المنان ، فأمر أبو بكر حين نزلت هذه الآية أن يرفع صوته شيئاً ، وأمر عمر أن يخفض شيئاً .
وقالت عائشة رضي ( ح ) : نزلت هذه الآية في التشهد ، كان الأعرابي يجهر فيقول : التحيات لله والصلوات ويرفع بها صوته ، فنزلت هذه الآية ، وقال الحسن : ( لا تراءِ ) بصلاتك في العلانية ولا ( تُسئها ) في السر .
الوالبي عن ابن عباس : لا تصلِّ مرائياً الناس ، ولا تدعها مخافة الناس ، ابن زيد : كان أهل الكتاب يخافتون في الصلاة ، لم يجهر أحدهم بالحرف فيصيح ويصيح من وراءه ، فنهاه الله أن يصيح كما يصيحون ، وخافت كما يخافتون ، والسبيل الذي بين ذلك الذي بيّن له جبرئيل في الصلاة .
وقال : علي والنخعي ومجاهد وابن مكحول : هي في الدعاء ، ( وبه قال أشعث عن ) عطية عن ابن عباس ، وقال عبد الله بن شدّاد : كان أعراب من بني تميم إذا سلّم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا : ( اللهم ارزقنا ) ، فقال لهم : أتجهرون ؟ فأنزل الله هذه الآية .
ابن وهب عن عمرو بن الحرث عن دراج أبي السمح أن شيخاً من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حدّثه أن رسول الله قال في هذه الآية : ( إنما أُنزلت في الدعاء ، يقول : لا ترفع صوتك في الدعاء عند استغفارك واذكر ذنوبك فيسمع منك فتعبِّر بها وتخافت في الصوت والسكون ) ، ومنه يقال للميّت إذا برد خفت .
) وابتغ بين ذلك ( أي بين الجهر والإخفات ) سبيلا }
الإسراء : ( 111 ) وقل الحمد لله . . . . .
) وقل الحمد لله الذي لم يتّخذ ولداً ( قال الحسين بن الفضل : يعني الذي عرّفني أنّه لم يتخذ ولداً ) ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له وليٌّ من الذِّل ( قال مجاهد : لم يذل فيحتاج إلى ولي يتعزز به .
) وكبّره تكبيرا ( وعظّمه أن يكون له شريك أو ولي ، قال عمر بن الخطاب ح : قول العبد : ( الله أكبر ) خير من الدنيا وما فيها .
(6/142)
" صفحة رقم 143 "
وروى سهل بن معاذ عن أبيه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( آية العزّ ) وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ( ) إلى آخره .
وروى سفيان بن وكيع عن سفيان بن عيينة عن عبد الكريم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علّمه هذه الآية سبع مرات .
وروى محمد بن سلمة عن عبد الحميد بن واصل قال : من قرأ آخر بني إسرائيل كتب الله له من الأجر ملء السموات والأرض ؛ لأن الله يقول فيمن زعم أن له ولدا ) تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخرّ الجبال هدّا أن دعوا للرحمان ولدا ( قال : فيكتب له من الأجر على قدر ذلك .
(6/143)
" صفحة رقم 144 "
( سورة الكهف )
مكيّة
في فضلها .
وهي سبعة آلاف وثلاثمئة وستون حرفاً ، وألف وخمسمئة وسبع وسبعون كلمة ، ومئة وعشر آيات . روى مطرّف جندب عن أبيه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظاً لم تضرّه فتنة الدجال ، ومن قرأ السورة كلها دخل الجنّة ) .
وروى إسماعيل بن رافع عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ألا أدلّكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك حين نزلت ملأ فضلها ما بين السماء والأرض لتاليها مثل ذلك ) ؟ . قالوا بلى يا رسول الله . قال : ( سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر له إلى الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ولياليها مثل ذلك ، وأعطي نوراً يبلغ به السماء ووقي فتنة الدّجال ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لائَبَآئِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىءَاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَاذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الاَْرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً ( 2
الكهف : ( 1 ) الحمد لله الذي . . . . .
) الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ( : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب قيّماً مستقيماً . قال ابن عباس : عدلاً . الفرّاء : قيّماً على الكتب كلّها ناسخاً لشرائعها . ) ولم يجعل له
(6/144)
" صفحة رقم 145 "
عوجاً ( : مختلفاً
الكهف : ( 2 ) قيما لينذر بأسا . . . . .
) لينذر بأساً شديداً ( أي لتنذركم بأساً شديداً ) من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أنّ لهم أجراً حسناً ( وهي الجنّة .
الكهف : ( 3 - 5 ) ماكثين فيه أبدا
) ماكثين ( : مقيمين ) فيه أبداً وينذر الذين قالوا اتّخذ الله ولداً ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبُرت كلمة ( نصب على التمييز والقطع ، تقديره : كبرت الكلمة كلمةً ، ) تخرج من أفواههم إن يقولون ( : ما يقولون ) إلاّ كذباً ( .
الكهف : ( 6 ) فلعلك باخع نفسك . . . . .
) فلعلّك باخع نفسك ( : قاتل نفسك ) على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث ( : القرآن ) أسفاً ( : حزناً وجزعاً وغضباً .
الكهف : ( 7 ) إنا جعلنا ما . . . . .
) إنّا جعلنا ما على الأرض ( من كل شيء ) زينة لها ( ، قال الضحّاك من الزاكية خاصّة زينة لها ) لنبلوهم أيّهم أحسن عملا ( أي أزهد فيها .
الكهف : ( 8 ) وإنا لجاعلون ما . . . . .
) وإنا جاعلون ما عليها صعيداً ( : مستوياً ) جرزاً ( : يابساً أملس لا تنبت شيئاً .
( ) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُواْ مِنْ ءَايَاتِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُواْ رَبَّنَآ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَىءَاذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُواْ أَمَدًا نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلاهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا هَاؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذْواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاَّ اللَّهَ فَأْوُواْ إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقًا ( 2
الكهف : ( 9 ) أم حسبت أن . . . . .
) أم حسبت ( ، معناه : بل أم حسبت ، يعني : أظننت يا محمد ) أنَّ أصحاب الكهف والرّقيم كانوا من آياتنا عجباً ( ؟ يعني : ليسوا أعجب آياتنا ؛ فإنّ ما خلقت من السماوات والأرض وما فيهنّ من العجائب أغرب منهم . والكهف هو الغار في الجبل . واختلفوا في الرقيم ، فقال فيه ما روى ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إنّ ثلاثة نفر خرجوا يرتادون لأهلهم ، بينا هم يمشون إذ أصابتهم السماء ، فأووا إلى كهف فسقطت صخرة من الجبل فانطبقت على باب الكهف فانقفل عليهم ، فقال قائل منهم : اذكروا أيّكم عمل حسنة لعل الله برحمته يرحمنا
(6/145)
" صفحة رقم 146 "
فقال رجل منهم : قد عملت حسنة مرة ، كان لي أُجراء يعملون عملاً استأجرت كل رجل منهم بأجر معلوم ، فجاءني رجل ذات يوم وسط النهار فاستأجرته بشرط أصحابه ، فعمل في بقية نهاره كما عمل الرجل منهم في نهاره كله ، فرأيت عليَّ في الذِّمام ألاّ أُنقصه مّما استأجرت به أصحابه ، لما جهد في عمله ، فقال رجل منهم : أتعطي هذا ما أعطيتني ولا يعمل إلاّ نصف النهار ؟ قلت : يا عبد الله لم أبخسك شيئاً من شرطك ، وإنما هو مالي أحكم فيه ما شئت .
قال : فغضب وذهب وترك أجره ، فوضعت حقه في جانب من البيت ما شاء الله ، ثمّ نزل بي بعد ذلك بقر فاشتريت به فصيلة من البقر ، فبلغت ما شاء الله ، فمرّ بي بعد حين شيخ ضعيف لا أعرفه ، فقال لي : إنّ لي عندك حقاً . فذكره حتى عرفته ، قلت : إيّاك أبغي وهذا حقّك . فعرضتها عليه جميعاً فقال : يا عبد الله ، لا تسخر بي إن لم تتصدّق علي فأعطني حقي . قلت : والله لا أسخر ، إنها لحقك ما لي فيه شيء ، فدفعتها إليه . اللّهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنّا . فانصدع الجبل حتى رأوا الضوء فأبصروا .
وقال الآخر : قد عملت حسنة مرّة ، كانت لي فضل ، وأصاب النّاس شدّة ، فجاءتني امرأة تطلب مني معروفاً ، فقلت : والله ما هو دون نفسك . فأبت عليَّ ، وذهبت ورجعت ثلاث مرات وقلت : لا والله ما هو دون نفسك .
فأبت علّي وذهبت ، وذكرت لزوجها ، فقال لها : أعطيه نفسك وأغيثي عيالك . فرجعت إليّ ونشدتني بالله ، فأبيت عليها وقلت : والله ما هو دون نفسك . فلّما رأت ذلك أسلمت إلىّ نفسها ، فلّما تكشّفتها وهممت بها ارتعدت من تحتي ، فقلت لها : ما شأنك ؟ قالت : أخاف الله رب العالمين . فقلت لها : خفتِه في الشدّة ولم أخفه في الرخاء فتركتها وأعطيتها ما يحق علىّ بما تكشفتها . اللهمّ إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا . فانصدع حتى تعارفوا وتبيّن لهم .
وقال الآخر : قد عملت حسنة مرّة ، كان لي أبوان شيخان كبيران ، وكان لي غنم ، فكنت أُطعم أبوىَّ وأسقيهما ثمّ أرجع إلى أهلي . قال : فأصابني يوماً غيث حبسني حتى أمسيت فأتيت أهلي فأخذت محلبي وحلبت غنمي وتركتها قائمة فمضيت إليهما ، فوجدتهما ناما ، فشقّ عليَّ أن أُوقضهما ، وشقّ عليَّ أن أترك غنمي فما برحت جالساً ومحلبي على يدي حتى أيقظهما الصبح فسقيتهما . اللهم إن فعلت ذلك لوجهك فافرج عنّا ) .
قال النعمان لكأني أسمع من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( قال الجبل طاق ، ففرج الله عنهم وخرجوا ) .
وقال ابن عباس : الرقيم واد بين غطفان وأيلة ، وهو الوادي الذي فيه أصحاب الكهف .
(6/146)
" صفحة رقم 147 "
وقال كعب هي قريتهم . وهو على هذا التأويل من رقمة الوادي وهو موضع الماء منه ، تقول العرب : عليك بالرقمة ، ودع الضّفة . والضِّفتان : جانبا الوادي . وقال سعيد بن جبير : الرَّقيم لوح من حديد ، وقيل : من رصاص ، كتبوا فيه أسماء أصحاب الكهف وقصتهم ، ثمّ وضعوه على باب الكهف . وهو على هذا التأويل بمعنى المرقوم ، أي المكتوب . والرّقم : الخط والعلامة ، والرقم : الكتابة .
الكهف : ( 10 ) إذ أوى الفتية . . . . .
ثمّ ذكر قصتهم فقال : ) إذ أوى الفتيةُ إلى الكهف ( ، أي رجعوا وصاروا . واختلفوا في مسيرهم إلى الكهف ، فقال محمد بن إسحاق بن يسار : مرج أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت ، وفيهم بقايا على دين المسيح ابن مريم ( عليه السلام ) ، متمسكين بعبادة الله عزّ وجّل وتوحيده . وكان ممّن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يُقال له دقيانوس كان قد عبد الأصنام وذبح للطواغيت وقتل من خالفه في ذلك ممّن أقام على دين المسيح . وكان ينزل بقرى الروم فلا يترك في قرية ينزلها أحداً إلاّ فتنه حتى يعبد الأصنام ، ويذبح للطواغيت ، حتى نزل مدينة أصحاب الكهف وهي أفسوس ، فلما نزلها كبر ذلك على أهل الإيمان فاستخفوا منه وهربوا في كل وجه . وكان دقيانوس قد أمر حين قدمها أن يتتبّع أهل الإيمان ، فيجمعوا له ، واتّخذ شرطاً من الكفار من أهلها ، فجعلوا يتتبعون أهل الإيمان في مساكنهم فيخرجونهم إلى دقيانوس فيقدمهم إلى الجامع الذي يذبح فيه للطواغيت ، فيخيرهم بين القتل وبين عبادة الأصنام والذبح للطواغيت ، فمنهم من يرغب في الحياة ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيُقتل .
فلما رأى ذلك أهل الشّدة في الإيمان بالله عز وجّل ، جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل ، فيُقتّلون ويقطّعون ثمّ يربط ما قُطع من أجسامهم على سور المدينة من نواحيها كلّها وعلى كلّ باب من أبوابها ، حتّى عظمت الفتنة على أهل الإيمان فمنهم من أقّر فتُرك ومنهم مَن صَلُبَ على دينه فقتل .
فلما رأى الفتية ذلك حزنوا حزناً شديداً ، فقاموا وصلّوا وصاموا واشتغلوا بالدعاء والتسبيح لله عز وجّل ، وكانوا من أشراف الرّوم ، وكانوا ثمانية نفر ، فبكوا وتضرّعوا وجعلوا يقولون : ) ربّنا ربّ السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شططا ( ، اكشف عن عبادك هذه الفتنة ، وارفع عنهم البلاء ، وأنعم على عبادك الذين آمنوا بك حتى يعلنوا عبادتك . فبينا هم على ذلك إذ أدركهم الشرَط ، وكانوا قد دخلوا في مصلّى لهم فوجدوهم سجوداً على وجوههم يبكون ويتضرّعون إلى الله عز وجّل ويسألونه أن ينجيهم من دقيانوس وفئته . فلما رآهم أُولئك الكفرة قالوا لهم : ما خلفكم عن أمر الملك ؟ انطلقوا إليه . ثمّ خرجوا من عندهم فرفعوا أمرهم إلى دقيانوس ، فقالوا : نجمع الجميع وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يسخرون منك ويعصون أمرك ؟
(6/147)
" صفحة رقم 148 "
فلما سمع ذلك أُتي بهم تفيض أعينهم من الدّمع ، معفّرة وجوههم في التراب ، فقال لهم : ما منعكم أن تشهدوا لذبح الآلهة الّتي تعبد في الأرض ، وأن تجعلوا أنفسكم كغيركم ؟ اختاروا إمّا أن تذبحوا لآلهتنا كما ذبح النّاس وإما أن أقتلكم . فقال مكسلمينا وكان أكبرهم : إن لنا إلهاً ملأ السماوات والأرض عظمته ، لن ندعو من دونه إلهاً أبداً ، ولن نقرّ بهذا الذي تدعونا إليه أبداً ، ولكنّا نعبد الله ربّنا ، وله الحمد والتكبير والتّسبيح من أنفسنا خالصاً ، إيّاه نعبد ، وإيّاه نسأل النجاة والخير فأمّا الطواغيت وعبادتها ، فلن نعبدها أبداً ، فاصنع بنا ما بدا لك . ثمّ قال أصحاب مكسلمينا لدقيانوس مثل ما قال له ، فلما قالوا ذلك أمرهم فنُزع عنهم لبوس كان عليهم من لبوس عظمائهم ، ثمّ قال : أمّا إذا فعلتم فإنّي سأُؤخركم ، وسأفرغ لكم فأُنجز لكم ما وعدتكم من العقوبة ، وما يمنعني أن اعجل ذلك لكم إلاّ أني أراكم شباباً ، حديثة أسنانكم ، ولا أُحب أن أُهلككم حتى أجعل لكم أجلاً تذكّرون فيه ، وتراجعون عقولكم .
ثمّ أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت منهم ، ثمّ أمر بهم حتى أُخرجوا من عنده ، وانطلق دقيانوس إلى مدينة سوى مدينتهم التي كانوا بها قريباً منهم لبعض أُموره ، فلما رأى الفتية أن دقيانوس قد خرج من مدينتهم بادروا قدومه ، وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم ، فائتمروا بينهم أن يأخذ كلّ رجل نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا بها ويتزوّدوا مما بقي ، ثمّ ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له ينجلوس فيمكثون فيه ، ويعبدون الله عزّ وجلّ ، حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فقاموا بين يديه فيصنع بهم ما شاء .
فلما قال ذلك بعضهم لبعض ، عمد كلّ فتى منهم إلى بيت أبيه وأخذ نفقة فتصدّقوا بها ، وانطلقوا بما بقي معهم من نفقتهم ، وأتبعهم كلب كان لهم ، حتى إذا أتوا ذلك الكهف الذي في ذلك الجبل تلبثوا فيه .
وقال كعب الأحبار : مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه ، فعاد ففعلوا ذلك مراراً ، فقال لهم الكلب : ما تريدون منّي ؟ لا تخشون إجابتي . أنا أُحب أحبّاء الله ، فناموا حتى أحرسكم .
وقال ابن عباس : هربوا ليلاً من دقيانوس بن جلانوس حيث دعاهم إلى عبادة الأصنام ، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب ، وكان على دينهم ، فخرجوا من البلد فأووا إلى الكهف ، وهو قريب من البلدة ، فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلاّ الصلاة والتسبيح والتكبير والتّحميد ابتغاء وجه الله تعالى ، فجعلوا نفقتهم إلى فتىً منهم يُقال له تمليخا ، فكان على طعامهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرًّا ، وكان من أجملهم وأجلدهم . وكان تمليخا يصنع ذلك ، فإذا دخل البلد يضع ثيابا كانت عليه حساناً ، ويأخذ ثياباً كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها ، ثمّ يأخذ ورقة فينطلق إلى المدينة فيشتري طعاماً وشراباً ويسّمّع ويتجسس لهم الخبر : هل ذكروا أصحابه بشيء ؟ ثمّ يرجع إلى أصحابه .
(6/148)
" صفحة رقم 149 "
فلبثوا بذلك ما لبثوا ، ثمّ قدم دقيانوس الجبّار إلى المدينة فأمر العظماء فذبحوا للطواغيت ، ففزع من ذلك أهل الإيمان ، وكان تمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم وشرابهم ، فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل ، فأخبرهم أنّ الجبّار دقيانوس قد دخل المدينة ، وأنهم ذُكروا والتُمسوا مع عظماء المدينة ليذبحوا للطواغيت . فلما أخبرهم فزعوا ووقعوا سجوداً يدعون الله عز وجّل ويتضرّعون ويتعوّذون به من الفتنة .
ثمّ إنّ تمليخا قال لهم : ارفعوا رؤوسكم فاطعموا من رزق الله وتوكلّوا على بارئكم . فرفعوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً وخوفاً على أنفسهم ، فطعموا منه وذلك مع غروب الشمس . ثمّ جلسوا يتحدّثون ويتدارسون ويذكر بعضهم بعضاً ، فبينا هم على ذلك إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف ، فأصابه ما أصابهم ، وهم مؤمنون موقنون ، ونفقتهم عند رؤوسهم . فلما كان من الغد تفقّدهم دقيانوس والتمسهم فلم يجدهم ، فقال لبعضهم : لقد ساءني هؤلاء الفتية الذين ذهبوا ، لقد كانوا ظنوني غضِباً عليهم بجهلهم ما جهلوا من أمري ، ما كنت لأحمل عليهم في نفسي ولا لواحد منهم إن تابوا وعبدوا آلهتي فقال له عظماء المدينة : ما أنت بحقيق أن ترحم قوماً فجرة مردة عصاة مقيمين على ظلمهم ومعصيتهم ، وقد كنت أجّلت لهم أجلاً ، فلوا شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل ، ولكنّهم لم يتوبوا .
فلما قالوا له ذلك غضب غضباً شديداً ، ثمّ أرسل إلى آبائهم فسألهم عنهم ، فقال : أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني . فقالوا له : أمّا نحن فلم نعصك ، فلم تقتلنا بقوم مردة قد ذهبوا بأموالنا وأهلكوها في أسواق المدينة ثمّ انطلقوا فارتقوا إلى جبل يدعى ينجلوس ؟ فلما قالوا له ذلك خلّى سبيلهم ، وجعل لا يدري ما يصنع بالفتية ، فألقى الله عز و جّل في نفسه أن يأمر بالكهف فيُسد عليهم ، أراد الله عز و جل أن يكرمهم ويجعلهم آية لأُمّة يَستخلف من بعدهم ، وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور .
فأمر دقيانوس بالكهف أن يسد عليهم ، وقال : دعوهم كما هم في الكهف يموتوا عطشاً وجوعاً ، وليكن كهفهم الذي اختاروا قبراً لهم . وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم ، قد توفى الله أرواحهم وفاة النوم وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ، بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم ، يتقلّبون ذات اليمين وذات الشمال .
ثمّ إن رجلين مؤمنين كانا في بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما ، اسم أحدهما بيدروس ، واسم الآخر روتاس ائتمرا أن يكتبا شأن الفتية وأنسابهم وأسماءهم وخبرهم في لوح من رصاص يجعلانه في تابوت من نحاس ، ثمّ يجعلان التابوت في البنيان ، وقالا : لعل الله
(6/149)
" صفحة رقم 150 "
يظهر على هؤلاء الفتية قوماً مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من فتح عليهم خبرهم حين يقرأ هذا الكتاب . ففعلا ، ثمّ بنيا عليه ، فبقي دقيانوس ما بقي ، ثمّ مات وقومه وقرون بعد كثيرة ، وخلفت الملوك بعد الملوك .
وقال عبيد بن عمير : كان أصحاب الكهف فتياناً مطوّقين مسوّرين ذوي ذوائب ، وكان معهم كلب صيدهم ، فخرجوا في عيد لهم عظيم في زيّ وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدونها من دون الله ، وقد قذف الله في قلوب الفتية الإيمان وكان أحدهم وزير الملك فآمنوا ، وأخفى كل واحد منهم الاِيمان عن صاحبه فقالوا في أنفسهم من غير أن يظهر بعضهم لبعض : نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم ، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة فجلس فيه ، ثمّ خرج آخر فرآه جالساً وحده ، فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر ذلك ، فجلس إليه ثمّ خرج الآخرون فجاؤوا فجلسوا إليهما ، فاجتمعوا وقال بعضهم لبعض : ما جمعكم ، وكل واحد يكتم إيمانه على صاحبه مخافة على نفسه ؟ ثمّ قالوا : ليخرج كل فتيين منكم فيخلوَا ثمّ ليفششِ كل واحد منكم إلى صاحبه .
فخرج فتيان منهم فتواقفا ثمّ تكلّما فذكر كل واحد منهما أمره لصاحبه ، فأقبلا مستبشرين إلى أصحابهما فقالا : قد اتفقنا على أمر واحد . فإذا هم جميعاً على الإيمان ، وإذا كهف في الجبل قريب منهم ، فقال بعضهم لبعض : ) فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيّئ لكم من أمركم مرفقاً ( . فدخلوا ومعهم كلب صيد ، فناموا ) ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً ( .
قال : وفقدهم قومهم ، وطلبوهم فعمّى الله عليهم آثارهم وكهفهم ، فلما لم يقدموا كتب أحدهم في لوح : فلان وفلان أبناء ملوكنا ، فقدناهم في شهر كذا من سنة كذا في مملكة فلان بن فلان . ووضعوا اللوح في خزانة الملك وقالوا : ليكوننّ لهذا شأن . ومات ذلك الملك ، وجاء قرن بعد قرن .
وقال وهب بن منبّه : جاء أحد حواريّ عيسى بن مريم ( عليه السلام ) إلى مدينة أصحاب الكهف ، فأراد أن يدخلها ، فقيل له : إن على بابها صنماً لا يدخلها أحد إلاّ سجد له . فكره أن يدخلها فأتى حمّاماً قريباً من تلك المدينة ، فكان فيه ، وكان يؤاجر نفسه من الحمامي ويعمل فيه .
ورأى صاحب الحمام في حمامه البركة ، ودرّ عليه الرزق ، وجعل يقوم عليه ، وعلقه فتية من أهل المدينة ، فجعل يخبرهم خبر السماء وخبر الأرض وخبر الآخرة حتى آمنوا به وصدّقوه ، وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة . وكان شرطه على صاحب الحمام : إن الليل لي لا يحول بيني وبين الصلاة أحد ، وكان على ذلك حتى أتى ابن الملك بامراة فدخل بها الحمام ، فعيّره الحواري وقال له : أنت ابن الملك وتدخل مع هذه ؟ فاستحيا ، فذهب ، فرجع مرّة أُخرى فقال له مثل ذلك ، فسبّه وانتهره ولم يلتفت حتى دخلا معاً فماتا جميعاً في الحمام ، فأُتي الملك فقيل
(6/150)
" صفحة رقم 151 "
له : قتل صاحب الحمام ابنك . فالتُمس فلم يُقدر عليه ، فهرب ، فقال : من كان يصحبه ؟ فسمّوا الفتية فالتُمسوا فخرجوا من المدينة ، فمرّوا بصاحب لهم في زرع وهو على مثل إيمانهم فذكروا له أنهم التُمسوا ، فانطلق معهم ومعه كلب حتى آواهم الليل إلى الكهف فدخلوا وقالوا : نبيت هاهنا الليلة ، ثمّ نصبح إن شاء الله فترون رأيكم . فضرب الله على آذانهم .
فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف ، وكلّما أراد الرجل منهم دخوله أُرعب ، فلم يطق أحد دخوله ، وقال قائل : أليس لو قدرت عليهم قتلتهم ؟ قال : بلى . قال : فابنِ عليهم باب الكهف واتركهم فيه يموتوا عطشاً وجوعاً . ففعل .
قال وهب : تركهم بعد ما سدّ عليهم باب الكهف زماناً بعد زمان ، ثمّ إنّ راعياً أدركه المطر عند الكهف فقال : لو فتحت هذا الكهف فادخلته غنمي من المطر فلم يزل يعالجه حتى فتح ، وردّ الله إليهم أرواحهم من الغد حين أصبحوا .
وقال محمد بن إسحاق : ثمّ ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له تيدوسيس ، فلما ملك بقي في ملكه ثمانياً وثلاثين سنة فتحزب الناس في ملكه ، وكانوا أحزاباً ؛ منهم من يؤمن بالله ويعلم أن الساعة حق ، ومنهم من يكذّب بها ، فكبر ذلك على الملك الصالح ، وبكى إلى الله عز و جّل ، وتضرّع إليه ، وحزن حزناً شديداً . فلما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون : لا حياة إلاّ الحياة الدنيا ، وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد فأما الجسد فتأكله الأرض . ونسوا ما في الكتاب ، فجعل تيدوسيس يرسل إلى من يظن فيه خيراً وأنه معه في الحق ، فجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا يحولون الناس عن الحقّ وملّة الحواريين .
فلما رأى ذلك الملك الصالح تيدوسيس دخل بيته وأغلقه عليه ولبس مسحاً وجعل تحته رماداً ثمّ جلس عليه فدأب ليله ونهاره زماناً يتضرع إلى الله ويبكي مما يرى فيه الناس ، ويقول : أي رب ، قد ترى اختلاف هؤلاء الناس ، فابعث إليهم من يبين لهم . ثمّ إن الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة العباد أراد أن يظهر على الفتية أصحاب الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية له وحجة عليهم ، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن يستجيب لعبده الصالح تيدوسيس ويتم نعمته عليه ، ولا ينزع عنه ملكه ولا الإيمان الذي أعطاه ، وأن يعبد الله ولا يشرك به شيئاً ، وأن يجمع من كان ببلده من المؤمنين .
فألقى الله عز و جّل في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي به الكهف وكان اسم ذلك الرجل أولياس أن يهدم ذلك البنيان الذّي على فم الكهف ، فيبني به حظيرة لغنمه ، فأستاجر عاملين فجعلا ينزعان تلك الحجارة ويبنيان بها تلك الحظيرة حتى نزعا ما على فم الكهف ، وفتحا عليهم باب الكهف ، فحجبهم الله تعالى من الناس بالرعب . فيزعمون أن أشجع من يريد أن ينظر إليهم أن يدخل من باب الكهف لم يتقدم حتى يرى كلبهم دونهم إلى باب الكهف ، نائماً .
(6/151)
" صفحة رقم 152 "
فلما نزعا الحجارة وفتحا باب الكهف أذن الله عز و جّل بالقدرة والعظمة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهراني الكهف ، فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم ، فسلّم بعضهم على بعض كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون بها إذا أصبحوا من ليلتهم التي يبيتون فيها . ثمّ قاموا إلى الصلاة فصلوا كالذي كانوا يفعلون ، لا يُرى في وجوههم ولا أبشارهم ولا ألوانهم شيء ينكرونه ، وإنما هم كهيئتهم حين رقدوا ، وهم يرون أن ملكهم دقيانوس الجبّار في طلبهم .
فلما قضوا صلاتهم قالوا لتمليخا صاحب نفقتهم : إيتنا يا أخانا ما الذي قال الناس في شأننا عشية أمسِ عند هذا الجبّار وهم يظنون أنهم قد رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون ، وقد خيّل إليهم أنهم قد ناموا كأطول ما كانوا ينامون في الليلة التي أصبحوا فيها ، حتى تساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض : ) كم لبِثتم قالوا لبِثنا يوماً أو بعضَ يوم قالوا ربّكم أعلمُ بما لبثتم ( .
وكل ذلك في أنفسهم يسير ، فقال لهم تمليخا : افتقدتم والتُمستم بالمدينة وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم فتذبحوا للطواغيت أو يقتلكم ، فما شاء الله بعد ذلك فعل . فقال لهم مكسلمينا : يا إخوتاه ، اعلموا أنكم ملاقو الله ، فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم غداً . ثمّ قالوا لتمليخا : انطلق إلى المدينة فتسمّع ما يقال ( عنّا ) بها اليوم وما الذي نُذكر به عند دقيانوس ، وتلطف ولا تشعرنّ بنا أحداً ، وابتع لنا طعاماً فائتنا به ، فإنه قد نالنا الجوع ، وزدنا على الطّعام الذي جئتنا به فإنه كان قليلاً فقد أصبحنا جياعاً . ففعل تمليخا كما كان يفعل ، ووضع ثيابه ، وأخذ الثياب التي كان يتنكّر فيها ، فأخذ ورقاً من نفقتهم الّتي كانت معهم التي ضربت بطابع دقيانوس ، وكانت كخفاف الربع . فانطلق تمليخا خارجاً فلمّا مّر بباب الكهف رأى حجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منها ، ثمّ مّر فلم يبالِ بها ، حتى أتى باب المدينة مستخفياً يصدّ عن الطريق تخوّفاً أن يراه أحد من أهلها فيعرفه فيذهب إلى دقيانوس ، ولا يشعر العبد الصالح أن دقيانوس وأهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاثمائة سنة .
فلما رأى تمليخا باب المدينة رفع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان ، فلمّا رآها عجب وجعل ينطر إليها مستخفياً ، فنظر يميناً وشمالاً ثمّ ترك ذلك الباب فتحوّل إلى باب آخر من أبو ابها فنظر فرأى مثل ذلك ، فجعل يخيّل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرف ورأى ناساً كثيراً محدثين لم يكن رآهم قبل ذلك ، فجعل يمشي ويعجب ويخيل إليه أنه حيران ، ثمّ رجع إلى الباب التي أتى منها ، فجعل يتعجب منه ومن نفسه ويقول : ياليت شعري أمّا هذه عشية أمس فكان المسلمون يخفون هذه العلامة ويستخفون بها ، فأما اليوم فإنها ظاهرة فلعلّي حالم ثمّ يرى أنه ليس بنائم ، فأخذ كساءه فجعله على رأسه ثمّ دخل المدينة ، فجعل يمشي بين
(6/152)
" صفحة رقم 153 "
ظهراني سوقها فيسمع ناساً كثيرين يحلفون باسم عيسى بن مريم ، فزادهُ فرقاً فرأى أنه حيران ، فقام مسنداً ظهره إلى جدار من جدر المدينة ويقول في نفسه : والله ما أدري ما هذا ، أمّا عشية أمسِ فليس على الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلاّ قتل ، وأمّا الغداة فأسمعهم وكلّ إنسان يذكر أمر عيسى ولا يخاف .
ثمّ قال في نفسه : لعلّ هذه المدينة ليست بالمدينة التي أعرفها اسمع كلام أهلها ولا أعرف أحداً منهم والله ما أعلم مدينة قرب مدينتنا فقام كالحيران لا يتوجّه وجهاً ، ثمّ لقي فتىً من أهل المدينة ، فقال : ما اسم هذه المدينة يا فتى ؟ قال : دفسُوس . فقال في نفسه : لعل بي مسّاً أو أمراً أذهب عقلي ، والله يحقّ لي أن أُسرع بالخروج منها قبل أن أُخزى أو يصيبني شر فأهلك .
هذا الذي حدّث به تمليخا أصحابه حين تبين له حالهم . ثمّ إنّه أفاق فقال : والله لو عجّلت الخروج منها قبل أن يفطن بي لكان أكيس بي . فدنا من الذين يبيعون الطعام فأخرج الورق التي كانت معه فأعطاها رجلاً منهم ، فقال : يا عبد الله ، بعني بهذا الورق طعاماً . فأخذها الرجل فنظر إلى ضرب الورق ونقشها ، فعجب منها ثمّ طرحها إلى رجل من أصحابه ، فنظر إليها . ثمّ جعلوا يتطارحونها من رجل إلى رجل ، ويعجبون منها ، ثمّ جعلوا يتسارّون من أجله ، ففرق فرقاً شديداً وجعل يرتعد ويظن أنهم فطنوا به وعرفوه ، وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس ، وجعل أُناس آخرون يأتونه فيتعرّفونه ، فقال لهم وهو شديد الفرق : أفصلوا عليّ ، قد أخذتم ورقي فأمسكوا ، وأما طعامكم فلا حاجة لي به . فقالوا : من أنت يا فتى ؟ وما شأنك ؟ والله لقد وجدت كنزاً من كنوز الأوّلين ، وأنت تريد أن تخفيه عنا ، انطلق معنا فأرناه وشاركنا فيه نُخفِ عليك ما وجدت ؛ فإنك إن لم تفعل نأتِ بك السّلطان فنسلمك إليه فيقتلك .
فلما سمع قولهم عجب في نفسه ، وقال : قد وقعت في كل شيء أحذر منه ، ثمّ قالوا : يا فتى ، إنك والله ما تستطيع أن تكتم ما حدث ، ولا تظن في نفسك أنك سنُخفي عليك .
فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم وما يرجع إليهم ، وفرق حتى ما يخبرهم شيئاً ، فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه وطوقوه في عنقه ، ثمّ جعلوا يقودونه في سكك المدينة مكبباً ، حتى سمع به من فيها ، فقيل : أُخذ رجل عنده كنز ، فاجتمع عليه أهل المدينة ، صغيرهم وكبيرهم ، فجعلوا ينظرون إليه ويقولون : والله ما هذا الفتى من أهل هذه المدينة ، وما رأيناه فيها قط ، وما نعرفه . فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم مع ما يسمع منهم ، فلما اجتمع عليه أهل المدينة فرق وسكت ولم يتكلم ، ولو قال إنه من أهل المدينة لم يُصدّق ، وكان مستيقناً أن أباه وإخوته بالمدينة ، وأن حسبه في أهل المدينة من عظماء أهلها ، وأنهم سيأتونه إذا سمعوا ، وقد استيقن أنه عشية أمس يعرف كثيراً من أهلها وأنه لا يعرف اليوم من أهلها أحداً .
فبينا هو قائم كالحيران ينتظر متى يأتيه بعض أهله : أبوه أو بعض إخوته فيخلصه من أيديهم
(6/153)
" صفحة رقم 154 "
إذ اختطفوه ، فانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبرَيها اللذين يدبّران أمرها ، وهما رجلان صالحان اسم أحدهما أرموس واسم الآخر أسطيوس . فلما انطلقوا به إليهما ظن تمليخا أنه يُنطلق به إلى دقيانوس الجبار ملكهم الذي هربوا منه ، فجعل يلتفت يميناً وشمالاً ، وجعل الناس يسخرون منه كما يسخرون من المجنون والحيران ، فجعل تمليخا يبكي ثمّ رفع رأسه إلى السماء وإلى الله عزّ وجلّ ، ثمّ قال : اللهم إله السماء والأرض أفرغ عليّ اليوم صبراً وأولج معي روحاً منك تؤيّدني به عند هذا الجبار . وجعل يبكي ويقول في نفسه : فرّق بيني وبين إخوتي ، يا ليتهم يعلمون ما لقيت وأين يُذهب بي ، ولو أنهم يعلمون فيأتون فنقوم جميعاً بين يدي هذا الجبار ، فإنا كنا تواثقنا ( لنكونن معاً ) لا نكفر بالله ولا نشرك به شيئاً ولا نعبد الطواغيت من دون الله ( ف ) فُرق بيني وبينهم فلن يروني ولن أراهم أبداً ، وقد كنا تواثقنا على ألاّ نفترق في حياة ولا موت ، يا ليت شعري ما هو فاعل بي ؟ أقاتلي أم لا ؟
هذا ما حدث به تمليخا أصحابه عن نفسه حتى انتهي به إلى الرجلين الصالحين : أرموس وأسطيوس ، فلما رأى تمليخا أنه لم يذهب به إلى دقيانوس أفاق وسكن عنه البكاء ، فأخذ أرموس وأسطيوس الورق ، فنظرا إليه وعجبا منه ثمّ قال أحدهما : أين الكنز الذي وجدت يا فتى ؟ هذا الورق يشهد عليك أنك وجدت كنزاً . فقال لهم تمليخا : ما وجدت كنزاً ، ولكن هذا الورق ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها ، ولكن والله ما أدري ما شأني ، وما أدري ما أقول لكما . فقال أحدهما : فمن أنت ؟ فقال له : أمّا ما أرى فكنت أرى أني من أهل القرية . قالوا له : فمن أبوك ( ومن ) يعرفك بها ؟ فأنبأهم باسم أبيه فلم يجدوا أحداً يعرفه ، ولا أباه ، فقال له أحدهما : أنت رجل كذّاب لا تخبرنا بالحقّ . ولم يدرِ ما يقول لهم غير أنه نكس بصره إلى الأرض ، فقال بعض من حوله : هذا رجل مجنون . وقال بعضهم : ليس بمجنون ، ولكن يحمّق نفسه عمداً لينفلت منكم . فقال له أحدهما ، ونظر إليه نظراً شديداً : أتظن أنا نرسلك ونصدقك بأن هذا مال ، أبيك وضرب هذا الورق ونقشها أكثر من ثلاثمئة سنة ، وأنت غلام شاب تظن أنك تأفكنا وتسخر بنا ، ونحن شرط كما ترى ، وحولك سراة أهل المدينة وولاة أمرها ، وخزائن هذه البلدة بأيدينا ، وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار ؟ إنني لأظنني سآمر بك فتعذّب عذاباً شديداً ثمّ أُوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدت .
فلّما قال له ذلك ، قال تمليخا : أنبئوني عن شيء أسألكم عنه ، فإن فعلتم صدّقتم ما عندي . قالوا له : سل ، ما نكتمك شيئاً . فقال : ما فعل الملك دقيانوس ؟ قالا له : ليس نعرف ملكاً يُسمى دقيانوس على وجه الأرض ، ولم يكن إلاّ ملكاً قد هلك منذ زمان ودهر طويل ،
(6/154)
" صفحة رقم 155 "
وهلكت بعده قرون كثيرة . قال لهم تمليخا : فوالله ما هو بمصدّقي أحد من الناس بما أقول ، لقد كنا فتية ، وإن الملك أكرهنا على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس فنمنا ، فلما انتبهنا خرجت لأشتري لأصحابي طعاماً وأتجسّس الأخبار فإذا أنا كما ترون ، فانطلقوا معي إلى الكهف الذي في جبل ينجلوس أُرِكم أصحابي . فلما سمع أرموس ما يقول تمليخا ، قال : يا قوم لعلّ هذه آية من آيات الله عزّ وجلّ جعلها لكم على يدي هذا الفتى ، فانطلقوا بنا معه يُرِنا أصحابه كما قال .
فانطلق معهم أرموس وأسطيوس وانطلق معهما أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصحاب الكهف ينظرون إليهم .
ولمّا رأى الفتية أصحاب الكهف أن تمليخا قد احتبس عليهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي به ، ظنوا أنه قد أُخذ فذهب به إلى ملكهم دقيانوس الذي هربوا منه ، فبينا هم يظنون ذلك ويتخوفون إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل مصعدة نحوهم ، وظنوا أنهم رسل دقيانوس الجبّار وأنه بعث إليهم ليؤتى بهم ، فقاموا حين سمعوا ذلك إلى الصلاة ، وسلّم بعضهم على بعض ، وقالوا : انطلقوا بنا نأتِ أخانا تمليخا ، فإنه الآن بين يدي الجبّار دقيانوس ينتظر متى نأتيه ، فبينا هم يقولون ذلك ، وهم جلوس بين ظهراني الكهف ، فلم يروا إلاّ أرموس وأصحابه وقوفاً على باب الكهف ، وسبقهم تمليخا فدخل عليهم وهو ويبكي ، فلما رأوه يبكي ، بكوا معه وسألوه عن شأنه ، فأخبرهم بخبره وقصَّ عليهم النبأ كلّه فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نياماً بأمر الله ذلك الزمان كلّه ، وإنما أُوقظوا ليكونوا آية للناس ، وتصديقاً للبعث ، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها .
ثمّ دخل على آثر تمليخا أرموس فرأى تابوتاً من نحاس مختوماً بخاتم من فضة فقام بباب الكهف ، ثمّ دعا رجالاً من عظماء المدينة ففتح التابوت عندهم فوجدوا فيه لوحين من رصاص مكتوباً فيها : ( إن مكسلمينا ومجسلمينا وتمليخا ومرطولس وكسوطونس وبيوسرس وتكريوس وبطينوس كانوا فتية هربوا من ملكهم دقيانوس الجبار مخافة أن يفتنهم عن دينهم ، فدخلوا هذا الكهف ، فلمّا أُخبر بمكانهم أمر بالكهف فسّد عليهم بالحجارة ، وإنا كتبنا شأنهم وخبرهم ليعلمه مَن بعدهم إن عثروا عليهم .
فلمّا رأوه عجبوا وحمدوا الله الذي أراهم آية البعث فيهم ، ثمّ إنهم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه ، ثمّ دخلوا على فتية الكهف فوجدوهم جلوساً بين ظهرانيه مشرقة وجوههم ، لم تبل
(6/155)
" صفحة رقم 156 "
َ ثيابهم ، فخرّ أرموس وأصحابه سجّداً ، وحمدوا الله الذي أراهم آية من آياته ، ثمّ كلّم بعضهم بعضاً وأنبأهم الفتية عن الذي لقوا من ملكهم دقيانوس .
ثمّ إن أرموس وأصحابه بعثوا بريداً إلى ملكهم الصالح تيدوسيس أن عجّل ، لعلك تنظر إلى آية من آيات الله جعلها الله على ملكك ، وجعلها آية للعالمين لتكون نوراً وضياءً وتصديقاً للبعث ، فاعجل على فتية بعثهم الله تعالى ، وقد كان توفّاهم منذ أكثر من ثلاثمئة سنة .
فلما أتى الملك الخبر قام من المسندة التي كان عليها ورجع إليه عقله ، وذهب عنه همّه ، ورجع إلى الله عز و جّل ، فقال : أحمدك الله ربّ السماوات والأرض ، وأعبدك وأُسبّح لك تطوّلت علي ، ورحمتني برحمتك ، فلم تطفئ النّور الذي كنت جعلت لآبائي وللعبد الصالح قسطيطوس الملك .
فلمّا نبّأ به أهل المدينة ركبوا وساروا حتى أتوا مدينة دقيانوس فتلقّاهم أهل المدينة وساروا معه حتى صعدوا نحو الكهف وأتوه ، فلما رأى الفتية تيدوسيس فرحوا به وخرّوا سجّداً على وجوههم ، وقام تيدوسيس قدامهم ثمّ اعتنقهم وبكى وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبّحون الله عزّ وجلّ ويحمدونه ، ثمّ قال الفتية لتيدوسيس : نستودعك الله ، ونقرأ عليك السلام ، وحفظك الله وحفظ ملكك ونعيذك بالله من شرّ الجن والإنس .
فبينا الملك قائم إذ رجعوا إلى مضاجعهم فناموا وتوفّى الله أنفسهم ، وقام الملك إليهم فجعل ثيابه عليهم وأمر أن يجعل لكل رجل منهم تابوت من ذهب ، فلما أمسوا ونام أتوه في المنام فقالوا : إنّا لم نخلق من ذهب ولا فضّة ، ولكنا خلقنا من تراب وإلى التراب نصير ، فاتركنا كما كنّا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله عزّ وجلّ منه . فأمر الملك حينئذ بتابوت من ساج فجعلوا فيه وحجبهم الله تعالى حين خرجوا من عندهم بالرعب ، فلم يقدر أحد على أن يدخل عليهم ، وأمر الملك فجُعل على باب الكهف مسجدٌ يُصلّى فيه ، وجعل لهم عيداً عظيماً ، وأمر أن يؤتى كل سنة .
وقيل : إنهم لما أتوا إلى باب الكهف قال تمليخا : دعوني حتّى أدخل على أصحابي فأُبشّرهم ؛ فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم . فدخل فبشّرهم ، وقبض الله روحه وأرواحهم ، وعمي عليهم مكانهم ، فلم يهتدوا إليه . فهذا حديث أصحاب أهل الكهف .
ويقال : إنّ نبي الله محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) سأل ربّه أن يريه إيّاهم ، فقال : ( إنّك لن تراهم في دار الدنيا ، ولكن ابعث إليهم أربعة من خيار أصحابك ليبلغوهم رسالتك ويدعوهم إلى الإيمان بك ) . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لجبرئيل ( عليه السلام ) : ( كيف أبعثهم ؟ ) . قال : ( ابسط كساءً لهم ، وأجلس على طرف من أطرافها أبا بكر ، وعلى الثاني عمر وعلى الثالث عليًّا ، وعلى الرابع أبا ذر ،
(6/156)
" صفحة رقم 157 "
ثمّ ادعُ الريح الرخاء المسخّر لسليمان بن داود ( عليهما السلام ) فإن الله تعالى أمرها أن تطيعك ) .
ففعل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما أمره ، فحملتهم الريح حتى انطلقت بهم إلى باب الكهف ، فلما دنوا من الباب قلعوا منه حجراً ، فقام الكلب حين أبصر الضوء فهرّ وحمل عليهم ، فلما رآهم حرّك رأسه وبصبص بذنبه وأومأ برأسه أن ادخلوا ، فدخلوا الكهف وقالوا : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . فردّ الله إليهم أرواحهم ، فقاموا بأجمعهم وقالوا : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . فقالوا : إنّ نبي الله محمد ابن عبد الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقرأ عليكم السلام . فقالوا : على محمد رسول الله السلام ما دامت السماوات والأرض ، وعليكم بما بلّغتم . ثمّ جلسوا بأجمعهم يتحدثون ، فآمنوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقبلوا دين الإسلام ، وقالوا : أقرئوا محمداً منّا السلام . فأخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم إلى آخر الزمان عند خروج المهدي .
ويقال : إنّ المهدي يسلّم عليهم ، فيحييهم الله عزّ وجلّ ، ثمّ يرجعون إلى رقدتهم ولا يقومون إلى يوم القيامة .
ثمّ جلس كل واحد منهم على مكانه ، وحملتهم الريح ، وهبط جبرئيل ( عليه السلام ) ( على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبره بما كان ( منهم ) ، فلما أتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كيف وجدتموهم ؟ وما الذي أجابوا ؟ ) . فقالوا : يا رسول الله ، دخلنا عليهم فسلّمنا عليهم ، فقاموا بأجمعهم ، فردّوا السّلام ، وبلّغناهم رسالتك فأجابوا وأنابوا وشهدوا أنّك رسول الله حقاً ، وحمدوا الله عزّ وجلّ على ما أكرمهم بخروجك وتوجيه رسولك إليهم ، وهم يقرئونك السلام . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم لا تفرّق بيني وبين أصهاري وأحبائي وأختاني ، واغفر لمن أحبّني وأحب أهل بيتي وحامّتي ، وأحبّ أصحابي ) .
فذلك قوله عزّ وجلّ ) إذ أوى ( أي صار وانضم ) الفتية إلى الكهف ( ، وهو غار في جبل ينجلوس ، واسم الكهف خيرم ، ) فقالوا ربّنا آتنا مِن لَدُنكَ رَحمةً وَهَيّئ لَنا مِن أمرِنا رَشَداً ( أي يسّر لنا ما نلتمس من رضاك . وقال ابن عباس : ) رشداً ( أي مخرجاً من الغار في سلامة . وقيل : صواباً .
الكهف : ( 11 ) فضربنا على آذانهم . . . . .
قوله : ) فَضَربنا عَلَى آذانِهِم ( هذا من فصيحات القرآن التي أقرّت العرب بالقصور عن الإتيان بمثله ، ومعناه : أنمناهم وألقينا وسلّطنا عليهم النوم ، كما يقال : ضرب الله فلانَ بالفالج ، أي ابتلاه به وأرسله عليه . وقيل : معناه حجبناهم عن السمّع ، وسددنا نفوذ الصوت إلى مسامعهم ، وهذا وصف الأموات والنيام . وقال قطرب : هو كقول العرب : ضرب الأمير علي يد
(6/157)
" صفحة رقم 158 "
الرعية ، إذا منعهم عن العبث والفساد ، وضرب السّيد على يدي عبده المأذون في التجارة ، إذا منعه عن التصرّف فيها . قال الأسود بن يعفر ، وكان ضريراً :
ومن الحوادث لا أبا لك أنني
ضربت عليّ الأرض بالأسداد
) سنين عدداً ( أي معدودة ، وهو نعت للسنين ، فالعدّ المصدر ، والعدد الاسم المعدود ، كالنقص والنقض والخبط والحبط . وقال أبو عبيدة : هو نصب على المصدر .
الكهف : ( 12 ) ثم بعثناهم لنعلم . . . . .
) ثمّ بَعَثنَاهُم ( ، يعني من نومهم ؛ ) لِنَعلَمَ أيُ الحِزبَينِ أحصى لِما لَبِثُوا أمَداً ( ، وذلك حين تنازع المسلمون الأوّلون أصحاب الملك ، والمسلمون الآخرون الذين أسلموا حين أوى أصحاب الكهف في قدر مدّة لبثهم في الكهف ، فقال المسلمون الأولون : مكثوا في كهفهم ثلاثمئة سنة وتسع سنين ، وقال المسلمون الآخرون : بل مكثوا كذا وكذا . فقال الأوّلون : الله أعلم بما لبثوا ، فذلك قوله : ) ثمّ بعثناهم ( ، لتعلموا ) أي الحزبين ( : الفريقين ) أحصى ( : أصوب وأحفظ ) لما لبثوا ( في كهفهم نياماً ، ) أمداً ( : غاية .
وقال مجاهد : عدداً . وفي نصبه وجهان : أحدهما على التفسير والثاني لوقوع ) لما لبثوا ( عليه .
الكهف : ( 13 ) نحن نقص عليك . . . . .
) نَحنُ نَقُصُّ ( ، أي نقرأ وننزل ) عليك نبأهم ( ، أي خبر أصحاب الكهف ) بالحق إنّهم فِتيَةٌ ( : شبان وأحداث ) آمنوا بِرَبِّهم ( ، حكم الله لهم بالفتوّة حين آمنوا بلا واسطة لذلك . وقال أهل اللسّان : رأس الفتوّة الإيمان . وقال الجنيد : الفتوّة كفّ الأذى وبذل الندى ، وترك الشكوى . وقيل : الفتوّة شيئان : اجتناب المحارم ، واستعمال المكارم . وقيل : الفتى من لا يدّعي قبل الفعل ، ولا يزكّي نفسه بعد الفعل . وقيل : ليس الفتى من يصبر على السياط ، إنما الفتى من جاز على الصراط . وقيل : ليس الفتى من يصبر على السكين ، إنما الفتى من يطعم المسكين .
) وَزِدنَاهُم هُدىً ( إيماناً وبصيرة وإيقاناً .
الكهف : ( 14 ) وربطنا على قلوبهم . . . . .
) وَرَبَطنَا ( : وشددنا ) على قلوبهم ( بالصبر ، وألهمناهم ذلك ، وقوّيناهم بنور الإيمان حتى صبروا على هجران دار قومهم وفراق ما كانوا فيه من خفض العيش ، وفرّوا بدينهم إلى الكهف ، ) إذ قاموا ( بين يدي دقيانوس ) فقالوا ( حين عاتبهم على تركهم عبادة الصنم : ) رَبُّنا رَبّ السَّماواتِ والأرضِ لن نَدُعوَ ( : لن نعبد ) من دُونه إلهاً لقد قُلنَا إذاً شَطَطَاً ( ، يعني إن دعونا غير الله ، لقد قلنا إذن شططاً . قال ابن عباس ومقاتل : جوراً . قال قتادة : كذباً . وأصل الشطط والإشطاط : مجاوزة القدر ، والإفراط .
الكهف : ( 15 ) هؤلاء قومنا اتخذوا . . . . .
) هؤلاءِ قَومُنَا ( ، يعني أهل بلدهم ) اتَّخَذُوا من دُونِهِ ( ، أي من دون الله ) آلهةً ( ، يعني
(6/158)
" صفحة رقم 159 "
الأصنام يعبدونها من دون الله ) لولا يأتُونَ عَلَيهم ( أي هلاّ يأتون على عبادتهم ) بسُلطان بَيِّن ( : بحجة واضحة ؛ ) فَمَن أظلمُ مِمَّن افتَرى على اللّهِ كَذباً ( ، فزعم أنّ له شريكاً وولداً ؟
الكهف : ( 16 ) وإذ اعتزلتموهم وما . . . . .
ثمّ قال بعضهم لبعض : ) إذ اعتزلتموهم ( ، يعني قومكم ) وما يعبدون إلاّ الله ( ، أي واعتزلتم أصنامهم التي يعبدونها من دون الله . وكذلك هو في مصحف عبد الله : ( وما يعبدون من دون الله ) .
) فاؤوا إلى الكهف ( ، أي صيروا إليه ) ينشر ( ، أي يبسط لكم ويظهر ) لكم رَبُّكُم مِن رَحمَتِهِ وَيهيّئ لَكُم مِن أمرِكم مرفَقاً ( ، أي رزقاً رغداً . والمرفق : ما يرتفق به الانسان ، وفيه لغتان : مَرفِق ، ومِرفَق .
2 ( ) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِى فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذالِكَ مِنْ ءَايَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا وَكَذالِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَاذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا أَبَدًا وَكَذالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّىأَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِرًا وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً ( 2
الكهف : ( 17 ) وترى الشمس إذا . . . . .
) وترى الشمس إذا طلعت تزاورُ عن كهفهم ( ، أي تتزاور ، وقرأ أهل الكوفة بالتخفيف على حذف أحد الزاءين ، وقرأ أهل الشام : ) تزاورّ ( على وزن تحمرّ ، وكلّها بمعنىً واحد ، أي تميل وتعدل عن كهفهم ) ذات اليمين ( ، أي جانب اليمين ، ) وَإذا غَرَبَت تَقرِضُهُم ( ، قال ابن عباس : تدعهم . قال مقاتل بن حيان : تجاوزهم . وأصل القرض : القطع . ) ذاتَ الشِّمالِ وهُم في فجوة منه ( ، أي متّسع من الكهف ، وجمعها فجوات وفجىً . أخبرنا الله تعالى بحفظه ايّاهم في مهجعهم ، وعرفنا لطفه بهم في مضجعهم واختياره لهم أصلح المواضع للرقاد فأعلمنا أنّه بوّأهم في مغناة من الكهف مستقبلاً بنات نعش ، تميل عنهم الشمس طالعة وغاربة وجارية ؛ لا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرّها وتغّير ألوانهم وتبلى ثيابهم ، وإنهم في متّسع منه ينالهم فيه بَرد الريح ونسيمها وتنفي عنهم كربة الغار وغمومه ، ) ذلك ( الذي ذكرت من أمر الفتية ) من آياتِ اللّهِ (
:
(6/159)
" صفحة رقم 160 "
من عجائب صنع اللّه ودلالات قدرته وحكمته . ) من يهدِ اللّهُ ( أي يهدهِ اللّه ) فَهوَ المُهتَدي وَمَن يُضلِل فَلَن تَجِدَ لَه وَلِيَّاً ( مُعينَاً ) مُرشِداً ( ؛ لأنّ التوفيق والخذلان بيد الله عزّ وجلّ .
الكهف : ( 18 ) وتحسبهم أيقاظا وهم . . . . .
) وتَحسبُهُم ( يا محمد ) أيقاظاً ( أي منتبهين ، جمع يقِظ ويقَظ مثل قولك : رجل نجِد ونجَد للشجاع ، وجمعه أنجاد ، ) وَهُم رُقُودٌ ( : نيام ، جمع راقد مثل قاعد وقعود ، ) وَنُقلِّبُهُم ( ، وقرأ الحسن ( ونقْلِبهم ) بالتخفيف ، ) ذاتَ اليمين وذَاتَ الشِّمَالِ ( مرّة للجنب الأيمن ومرّة للجنب الأيسر . قال ابن عباس : كانوا ينقلبون في السنة مرة إلى جانب من جانب ، لئلا تأكل الأرض لحومهم . ويقال : إنّ يوم عاشوراء كان يوم تقليبهم . وقال أبو هريرة : كان لهم في كل سنة تقليبان . ) وَكَلبُهُم ( ، قال ابن عباس : كان أنمر . وقال مقاتل : كان أصفر . وقال القرظي : شدة صفرته تضرب إلى الحمرة . الكلبي : لونه كالخلنج . وقيل : لون الحجر . وقيل : لون السماء . وقال علي ابن أبي طالب ( ح ) : ( كان اسمه ريان ) . وقال ابن عباس : قطمير . وقال الأوزاعي : نتوى . وقال شعيب الجبائي : حمران . عبد الله ابن كثير : اسم الكلب قطمور . ( قال ) السّدي : نون . عبد الله بن سلام : بُسيط . كعب : أصهب . وهب : نقيا ، وقيل : قطفير .
عن عمر قال : إن مما أُخذ على العقرب ألاّ يضر بأحد في ليله ونهاره : سلام على نوح ، وإن مما أُخذ على الكلب ألاّ يضر من حمل عليه أن يقول : ) وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ( .
وقرأ جعفر الصّادق ( وكالبهم ) يعني : صاحب الكلب .
) باسِطٌ ذِرَاعَيهِ بِالوَصيدِ ( ، قال مجاهد والضّحاك : الوصيد : فِناء الكهف ، وهو رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس . وقال سعيد بن جبير : الوصيد الصعيد ، وهو التراب . وهذه رواية عطية العوفي عن ابن عباس . وقال السّدي : الوصيد الباب ، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس ، وأنشد :
بأرض فضاء لا يُسدّ وصيدها
عليّ ومعروفي بها غير منكر
أي بابها . وقال عطاء : الوصيد : عتبة الباب . وقال القتيبي الوصيد : البناء ، وأصله من قول العرب ، أصدت الباب وأوصدته ، أي أغلقته وأطبقته . ) لو اطّلعت عليهم لولّيت منهم فراراً ( ؛ لما ألبسهم الله تعالى من الهيئة حتى لا يصل إليهم واصل ، ولا تلمسهم يدُ لامس حتى يبلغ الكتاب أجله ، فيوقظهم الله من رقدتهم لإرادة الله عزّ وجلّ أن يجعلهم آية وعبرة لمن شاء من خلقه ؛ ) ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها ( .
(6/160)
" صفحة رقم 161 "
) ولمُلئِتَ مِنهُم رُعباً ( : خوفاً ، وقرأ أهل المدينة : ( لملّئت ) بالتشديد . وقيل : إنما ذلك من وحشة المكان الذي هم فيه . وقال الكلبي : لأن أعينهم مفتّحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم وهم نيام . وقيل : إن الله تعالى منعهم بالرعب لئلاّ يراهم أحد . وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : غزونا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف ، فقال معاوية : لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم قال ابن عباس : ليس ذلك لك ، قد منع الله من هو خير منك ، قال : ) لو اطّلعت عليهم لوليت منهم فراراً ولمُلئت منهم رعباً ( . فقال معاوية : لا أنتهي حتى أعلم علمهم . فبعث ناساً فقال : اذهبوا فانظروا . ففعلوا ، فلمّا دخلوا الكهف بعث الله عز و جّل عليهم ريحاً فأخرجتهم فلم يستطيعوا الاطلاع عليهم من الرعب .
الكهف : ( 19 ) وكذلك بعثناهم ليتساءلوا . . . . .
) وَكَذلِكَ بَعَثناهُم ( أي كما أنمناهم في الكهف ، ومنعنا من الوصول إليهم ، وحفظنا أجسامهم من البلى على طول الزمان ، وثيابهم من العفن على مرّ الأيّام بقدرتنا ، كذلك بعثناهم من النّومة التي تشبه الموت ) ليتساءلوا بينهم ( : ليتحدّثوا ، ويسأل بعضهم بعضاً . ) قالَ قائِلٌ مِنهُم ( يعني : رئيسهم مكسلمينا : ) كم لبثتم ( في نومكم ؟ وذلك أنهم استنكروا من أنفسهم طول نومهم . ويقال : إنه راعهم ما فاتهم من الصلاة ، فقالوا ذلك . ) قالوا لبثنا يوماً ( ؛ لأنهم دخلوا الكهف غدوة ، فلما رأوا الشمس قالوا : ) أو بعض يوم ( توقّياً من الكذب ، وكانت قد بقيت من الشمس بقية . ويقال : كان بعد زوال الشمس . فلما نظروا إلى شعورهم وأظفارهم تيقّنوا أن لبثهم أكثر من يوم أو بعض يوم ، ) فقالوا ربّكم أعلم بما لبثتم ( . ويقال : إن رئيسهم لما سمع الاختلاف بينهم قال ذلك . ) فابعثوا أحدكم ( يعني : تمليخا ) بوَرِقكم هذِهِ إلى المدِينَة ( ، والورِق : الفضّة ؛ مضروبة كانت أو غير مضروبة . والدليل عليه أنّ عرفجة بن أسعد أُصيب أنفه يوم الكلاب فاتّخذ أنفاً من ورِق فأنتن عليه ، فأمره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يتخذ أنفاً من ذهب . وفيه لغات : ( بورْقكم ) وهي قراءة أبي عمرو وحمزة وخلف ، و ( ورقكم ) بسكون الراء وإدغام القاف وهي قراءة أهل مكة ، و ) ورقكم ( بفتح الواو وكسر الراء وهي قراءة أكثر القراء . و ( ورِق ) مثل كبْد وكَبِد وكِلْمة وكَلِمة .
( والمدينة ) : أفسوس ، ) فَليَنظُر أيُها أزكى طعاماً ( قال ابن عباس وسعيد بن جبير : أحلّ ذبيحةً ، لأن عامّتهم كانوا مجوساً ، وفيهم قوم مؤمنون يخفون إيمانهم . قال الضحّاك : أطيب . وقال مقاتل بن حيّان : أجود . وقال يمان بن رياب : أرفص . قتادة : خير . قال عكرمة : أكثر . وأصل الزكاة الزيادة والنّماء ، قال الشاعر :
قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة
ولَلسبع أزكى من ثلاث وأطيب
(6/161)
" صفحة رقم 162 "
) فليأتكم برزق منه ( أي قوت وطعام ، ) وَليَتَلَطّف ( : وليترفق في الشراء ، وفي طريقه ، وفي دخول المدينة ، ) ولا يُشعِرِنَّ بِكُم أحداً ( من الناس ، أي ولا يعلمن ، أي إن ظُهر عليه فلا يوقعن إخوانه فيما يقع فيه .
الكهف : ( 20 ) إنهم إن يظهروا . . . . .
) إنهم إن يظهروا عليكم ( فيعلموا بمكانكم ) يرجموكم ( ، قال ابن جريج : يشتموكم ويؤذوكم بالقول . ويقال : يقتلوكم . ويقال : كان من عادتهم القتل بالرجم وهو من أخبث القتل . وقيل : هو التوبيخ . ويضربوكم ) أو يُعِيدُوكُم في مِلَّتِهِم ( : دينهم الكفر ) ولن تفلحوا إذاً أبداً ( إن عدتم إليهم .
الكهف : ( 21 ) وكذلك أعثرنا عليهم . . . . .
) وكذلك أعثرنا ( ، أي أطلعنا ) عليهم ( ، يقال : عثرت على الشيء إذا اطّلعت عليهم ، فأعثرت غيري إذا أطلعته ، ) ليَعلَمُوا أنَّ وَعدَ الله حّقٌ ( يعني قوم تيدوسيس ، ) وأن الساعة لا ريبَ فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم ( ، قال ابن عباس : تنازعوا في البنيان والمسجد ، قال المسلمون : نبني عليهم مسجداً ، لأنهم على ديننا ، وقال المشركون : نبني عليهم بنياناً ؛ لأنهم من أهل سنّتنا . وقال عكرمة : تنازعوا في الأرواح والأجساد ، فقال المسلمون : البعث للأرواح والأجساد ، و قال بعضهم : البعث للأرواح دون الأجساد ، فبعثهم الله من رقادهم وأراهم أن البعث للأرواح والأجساد . وقيل : تنازعوا في قدر لبثهم ومكثهم . وقيل : تنازعوا في عددهم ، ) فقالوا ابنوا عليهم بنياناً ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرِهم ( يعني تيدوسيس الملك وأصحابه : ) لَنَتَّخِذَنَّ عليهم مسجداً ( ، وقيل : الذين تغلبوا على أمرهم ، وهم المؤمنون . وهذا يرجع إلى الأوّل .
الكهف : ( 22 ) سيقولون ثلاثة رابعهم . . . . .
) سيقولون ثلثة ( وذلك أن السيد والعاقب وأصحابهما من نصارى أهل نجران كانوا عند النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد : كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم . وكان السيد يعقوبياً ، وقال العاقب : كانوا خمسة سادسهم كلبهم . وكان نسطوريّاً ، وقال المسلمون : كانوا سبعة وثامنهم كلبهم ، فحقق الله قول المسلمين وصدّقهم بعد ما حكى قول النصارى ، فقال ) سيقولونَ ثلاثةٌ رابِعُهم كلبُهُم وَيَقولونَ خَمسَةٌ سادِسُهُم كَلبُهُم رَجماً بِالغَيب ( أي قذفاً بالظنّ من غير يقين ، كقول الشاعر :
وأجعلُ منّي الحقّ غيباً مرجّما
) ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم ( وقال بعضهم : هذه الواو واو الثمانية ، إن العرب يقولون : واحد ، اثنان ، ثلاثة ، أربعة ، خمسة ، ستة ، سبعة ، وثمانية ، لأن العِقد كان عندهم سبعة
(6/162)
" صفحة رقم 163 "
كما هو اليوم عندنا عشرة . ونظيره قوله تعالى : ) التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ( .
وقوله في صفة أهل الجنّة ) حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها ( .
وقوله لأزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ) ثيّبات وأبكاراً ( .
وقال بعضهم : هذه واو الحكم والتحقيق ، فكأنه حكى اختلافهم فتمّ الكلام عند قوله : ) ويقولون سبعة ( ، ثمّ حكم أن ثامنهم كلبهم ، والثامن لا يكون إلاّ بعد السّبع ، فهذا تحقيق قول المسلمين . ) ربّي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلاّ قليل ( ، قال قتادة : قليل من الناس . وقال عطاء : يعني بالقليل : أهل الكتاب . يحيى بن أبي روق عن أبيه عن الضحّاك عن ابن عباس في قوله تعالى . ) ما يعلمهم إلاّ قليل ( قال : أنا من أُولئك القليل .
وهم : مكسلمينا ، وتمليخا ، ومرطونس ، وسارينوس ، وآنوانس ، وروانوانس ، ومشططيونس ، وهو الرّاعي ، والكلب واسمه قطمير كلب أنمر فوق القلطي ودون الكردي .
وقال محمد بن المسيب : القلطي : كلب صيني ، و قال : ما بقي بنيسابور محّدث إلاّ كتب عنّي هذا الحديث إلاّ من لم يقدر له . قال : وكتبه أبو عمرو ، والحيري عني . ) وَلا تُمارِ فيهِم ( ، أي في عدّتهم وشأنهم ) إلاّ مِراءً ظاهراً ( وهو ما قصّ عليه في كتابه من خبرهم يقول : حسبك ما قصّصت عليك فلا تمارِ فيهم ، ) وَ لا تَستَفتِ فيهِم مِنهُم أحَداً ( من أهل الكتاب .
( ) وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذالِكَ غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّى لاَِقْرَبَ مِنْ هَاذَا رَشَدًا وَلَبِثُواْ فِى كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعًا قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِىٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَدًا وَاتْلُ مَآ أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُوا
(6/163)
" صفحة رقم 164 "
ْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِى الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقًا إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُوْلَائِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الاَْرَآئِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ( 2
الكهف : ( 23 - 24 ) ولا تقولن لشيء . . . . .
) ولا تقولّنّ لشيء إني فاعلٌ ذلك غداً إلاّ أن يشاء اللّهُ ( ، قال ابن عباس : يعني إذا عزمت على أن تفعل شيئاً غداً ، أو تحلف على شيء أن تقول : إني فاعل ذلك غداً إن شاء الله . وإن نسيت الاستثناء ثمّ ذكرته فقله ولو بعد سنة ، وهذا تأديب من الله تعالى لنبيّه ( صلى الله عليه وسلم ) حين سئل عن المسائل الثلاثة : أصحاب الكهف ، والروح ، وذي القرنين ، فوعدهم أن يخبرهم ولم يستثنِ .
عبد الله بن سعيد المقري عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يتم إيمان العبد حتى يستثني في كلّ كلامه ) .
) واذكر ربّك إذا نسيت ( ، قال ابن عباس ومجاهد وأبو العالية والحسن : معناه : إذا نسيت الاستثناء ثمّ ذكرت ، فاستثنِ . وقال عكرمة : معناه : واذكر ربّك إذا غضبت .
حدّثنا عبد الصمّد بن حسان عن وهيب قال : مكتوب في الإنجيل : ابن آدم ، اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب فلا أمحقك فيمن أمحق ، وإذا ظُلِمتَ فلا تنتصر ؛ فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك . وقال الضحّاك والسدي : هذا في الصلاة ؛ لقول النبّي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من نسي صلاة أو نام عنها فليصلّها إذا ذكرها ) .
وقال أهل الإشارة : معناه واذكر ربك إذا نسيت غيره ؛ لأن ذكر الله تعالى إنما يتحقق بعد نسيان غيره . يؤيده قول ذي النون المصري : من ذكر الله ذكراً على الحقيقة نسي في جنب ذكره كل شيء ، فإذا نسي في جنب ذكره كل شيء حفظ الله له كلّ شيء ، وكان له عوضاً من كل شيء . وقيل : معناه : واذكر ربّك إذا تركت ذكره ، والنسيان هو الترك . ) وقُل عَسى أن يهديني ربِّي لأقرَبَ مِن هذا رَشَداً ( ، أي يثبتني على طريق هو أقرب إليه ، فأرشد . وقيل : معنا لعلّ الله أن يهديني ويسدّدني لأقرب مما وعدتكم وأخبرتكم أنه سيكون إن هو شاء . وقيل : إن الله تعالى أمره أن يذكره إذا نسي شيئاً ويسأله أن يذكره فيتذكّر ، أو يهديه لما هو خير له من تذكُّر ما نسيه . ويقال : إن القوم لمّا سألوه عن قصة أصحاب الكهف على وجه العناد أمره الله تعالى أن يخبرهم أن الله سيؤتيه من الحجج والبيان على صحة نبوّته وما دعاهم إليه من الحق ودلّهم على ما سألوه . ثمّ إن الله عز و جّل فعل ذلك حيث آتاه من علم غيوب المرسلين وخبرهم ما كان أوضح في الحجة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف . وقال بعضهم : هذا شيء أمر أن
(6/164)
" صفحة رقم 165 "
يقوله مع قوله : ) إن شاء الله ( إذا ذكر الاستثناء بعد ما نسيه ، فإذا نسي الإنسان فيؤتيه من ذلك . وكفارته أن يقول : ) عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشداً ( .
الكهف : ( 25 - 26 ) ولبثوا في كهفهم . . . . .
) ولبثوا ( يعني : أصحاب الكهف ) في كهفهم ( ، قال بعضهم : هذا خبر عن أهل الكتاب أنهم قالوا ذلك ، وقالوا : لو كان خبراً من الله عز و جّل عن قدر لبثهم في الكهف لم يكن لقوله : ) قل الله أعلم بما لبثوا ( وجه مفهوم ، وقد أعلم خلقه قدر لبثهم فيه ، هذا قول قتادة . يدل عليه قراءة ابن مسعود : ( وقالوا لبثوا في كهفهم ) . وقال مطر الورّاق في هذه الآية : هذا شيء قالته اليهود ، فردّه الله عليهم ، وقال : ) قل الله أعلم بما لبثوا ( . وقال الآخرون : هذا إخبار الله عن قدر لبثهم في الكهف ، وقالوا : معنى قوله : ) قل الله أعلم ( أن أهل الكتاب قالوا على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إن للفتية من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا هذا ثلاثمئة وتسع سنين فردّ الله عز و جّل ذلك عليهم ، وقال : ) قل الله أعلم بما لبثوا ( بعد أن قبض أرواحهم إلى يومنا هذا لا يعلم ذلك غير الله وغير من أعلمه الله ذلك . وقال الكلبي : قالت نصارى نجران : أما الثلاثمئة فقد عرفناها ، وأما التسع فلا علم لنا بها فنزلت ) الله أعلم بما لبثوا ( ) ثلاثمائة سنين ( مضاف غير منّون ، قرأها حمزة ، والكسائي والباقون بالتنوين يعني : ولبثوا في كهفهم سنين ثلاثمئة . وقال الضحّاك ومقاتل : نزلت : ) ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة ( فقالوا : أيّاماً أو سنين ؟ فنزلت ) سنين ( فلذلك قال : ) سنين ( ولم يقل : سنة . ) وازدادوا تسعاً قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ( يعني : ما أبصر الله بكل موجود وأسمعه بكل مسموع ) ما لهم ( ، أي لأهل السماوات والأرض ) من دونه ( من دون الله ) من ولي ( : ناصر ، ) ولا يشرك في حكمه أحداً ( من الأصنام وغيرها .
الكهف : ( 27 ) واتل ما أوحي . . . . .
) واتلُ ( أي واقرأ يا محمد ) ما أُوحي إليك من كتاب ربّك ( ، يعني : القرآن ، واتّبع ما فيه ) لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ( ، قال الكلبي : لا مغير للقرآن . وقال محمد بن جرير : يعني : لا مغير لما أوعد بكلماته أهل معاصيه والمخالفين لكتابه . ) ولن تجد ( أنت ) من دونه ( إن لم تتبع القرآن وخالفته ) ملتحداً ( ، قال ابن عباس : حرزاً . وقال الحسن : مدخلا . وقيل : معدلا . وقيل : موئلا وقال مجاهد ملجأً ، وأصله من الميل ، ومنه لحد القبر .
الكهف : ( 28 ) واصبر نفسك مع . . . . .
) واصبر نفسك ( الآية قال المفسرون : نزلت في عيينة بن حصين الفزاري ، وذلك أنه أتى النبّي ( صلى الله عليه وسلم ) قبل نزول هذه الآية ، وعنده بلال وصهيب وخباب وعمار وعامر بن فهيرة ومهجع وسلمان ، وعلى سلمان شملة قد عرق فيها وبيده خوصة يشتقها ثمّ ينسجها ، فقال عيينة للنبّي صلى الله عليه وسل
(6/165)
" صفحة رقم 166 "
أما يؤذيك ريح هؤلاء ؟ فوالله لقد آذانا ريحهم . وقال : نحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا أسلم الناس وإن أبينا أبى الناس ، وما يمنعنا من اتّباعك إلاّ هؤلاء ، فنحِّ هؤلاء حتّى نتبعك ، واجعل لنا مجلساً ولهم مجلساً . فأنزل الله عز و جّل : ) واصبر ( : واحبس ) نفسك مع الذين يدعون ( : يعبدون ربهم ويوقّرون ) ربهم بالغَداةِ والعشي ( ، أي طرفي النهار ) يُريدُونَ وجههُ ( ، يعني : يريدون الله عزّ وجلّ لا يريدون عرضاً من الدنيا . والمراد منه : الحسنة وترك الريّاء . قال قتادة : يعني : صلاة الصبح والعصر . وقال كعب الأحبار : والذي نفسي بيده إنّهم لأهل الصّلوات المكتوبة . قال قتادة : نزلت هذه الآية في أصحاب الصفة ، وكانوا سبعمئة رجل فقراء لزموا مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لا يرجعون إلى تجارة ولا إلى زرع ولا ضرع ، يصلّون صلاة وينتظرون أُخرى . قال قتادة : فلما نزلت هذه الآية قال نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الحمد لله الذي جعل في أُمّتي من أمرت أن أصبر معهم ) .
) ولا تعدُ عيناك ( : لا تصرف ولا تجاوز عيناك ) عنهُم ( إلى غيرهم ) تُريدُ زينة الحياة الدنيا ( ، يعني مجالسة الرؤساء والأغنياء والأشراف .
ومعنى الآية : ولا تعدُ عيناك عنهم مريداً زينة الدنيا حال خوضهم في الاستغفار لأنه حكم على النبّي ( صلى الله عليه وسلم ) بإرادته الدنيا . ) ولا تُطع من أغفلنا قلبهُ عن ذكرنا ( أي تركنا قلبه وأنسيناه ذكرنا . قال أبو العالية : يعني : أُميّة بن خلف الجمحي . وقال غيره : يعني عيينة بن حصين ، ) واتبَعَ هَواهُ وكانَ أمرُهُ فُرُطاً ( ، قال قتادة والضحّاك ومجاهد : ضياعاً . وقال داود : ندماً . وقال حباب : هلاكاً . وقال ابن زيد : مخالفاً للحق . وقال مقاتل بن حيّان : سرفاً . وقال الأخفش : مجاوزاً للحد . وقال الفرّاء : متروكاً . وقيل : باطلاً . وقال أبو زيد البلخي : قُدُماً في الشر . قال أبو عبيد : هو من قول العرب : فرس فرط إذا سبقت الخيل ، وفرط القول منّي أي سبق . وقيل : معناه ضيّع أمره وعطّل أيامه ، قالوا : ان المؤمن من يستعمل الأوقات ، ولا تستعمله الأوقات .
الكهف : ( 29 ) وقل الحق من . . . . .
) وقل الحق من ربكم ( ، الحقُ : رفع على الحكاية ، وقيل : هو رفع على خبر ابتداء مضمر معناه : وقل هو الحقّ من ربكّم ، يعني : ما ذكر من القرآن والإيمان وشأن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل : هو رفع على الابتداء وخبره في قوله ) من ربكم ( ، ومعنى الآية : وقل يا محمّد لهؤلاء الّذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا : أيُّها الناس ، مِن ربكم الحقُّ ، وإليه التوفيق والخذلان ، وبيده الضلالة والهدى ، يهدي من يشاء فيؤمن ، ويضل من يشاء فيكفر ليس إليّ من ذلك شيء ، ولست بطارد المؤمنين لكم ، فإن شئتم فآمنوا ، وإن شئتم فاكفروا ؛ فإنكم إن كفرتم فقد أعدّ لكم ربكم على كفركم ناراً أحاط بكم سرادقها ، وإن آمنتم وأطعتم فإن لكم ما وصف الله عزّ وجلّ لأهل طاعته
(6/166)
" صفحة رقم 167 "
وقوله : ) فمن شاء فليؤمن ومَن شَاء فليكفُر ( ليس بترخيص وتخيير ، إنما هو وعيد وتهديد ، كقوله : ) اعملوا ما شئِتم ( . قال ابن عباس : من شاء الله له الاِيمان آمن ، ومن شاء له الكفر كفر ، وهو قوله : ) وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ( ) إنّا اعتدنا ( : أعددنا وهيّأنا ، من العتاد ، وهو العدّة ) للظالمين ( : للكافرين ) ناراً ( ، وفيه دليل على أن النار مخلوقة ؛ لأنها لو لم تكن مخلوقة موجودة معدّة لكان المخبر كذّاباً ، وتعالى الله عن ذلك .
وقوله : ) أحاطَ بِهِم سُرادِقُها ( ، روى سعيد الخدري عن النبّي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( سرادق النار أربعة جدر كُثُف ، كل واحد مسيرة أربعين سنة ) . وقال ابن عباس : هو حائط من نار . الكلبي : هو عَنَق يخرج من النار فيحيط بالكفّار كالحظيرة . وقال القتيبي : السّرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط . قال رؤبة :
يا حكم بن المنذر بن الجارودْ
سرادق المجد عليك ممدودْ
وقال سلامة بن جندل :
هو المدخل النعمان بيتاً سماؤه
صدور الفيول بعد بيت مسردق
وهو هاهنا دخان يحيط بالكفار يوم القيامة ، وهو الذي ذكره الله في سورة المرسلات : ) انطلقوا إلى ظلَ ذي ثلاث شعب ( .
) وإن يستغيثوا ( من شدة العطش ) يغاثوا بماء كالمهل ( ، روى أبو مسلم عن أبي سعيد عن النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ) بماء كالمهل ( قال : ( كعُكر الزّيت ، فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه ) . وقال ابن عباس : ماء غليظ مثل دردي الزيت . وقال الأعمش : هو عصارة الزيت . ومجاهد : القيح والدم . قال الضحّاك : المهل ماء أسود ، وإن جهنم سوداء ، ماؤها أسود ، وشجرها أسود ، وأهلها سود . وقال أبو عبيدة : كل ما أُذيب من جواهر الأرض .
وروى روح بن عبادة ، عن سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن ابن مسعود أُهديت له سقاية من ذهب وفضّة ، فأمر بأُخدود فخُدّ في الأرض ، ثمّ قذف فيه من جزل الحطب ، ثمّ قذف فيه تلك السقاية ، فلما أزبدت وانماعت ، قال لغلامه : ادعُ من بحضرتك من أهل الكوفة . فدعا رهطاً ، فلما دخلوا عليه قال : أترون هذا ؟ قالوا : نعم . قال : ما رأينا في الدنيا شبهاً بالمهل أدنى
(6/167)
" صفحة رقم 168 "
من هذا الذهب والفضّة حين أزبد وانماع . وقال سعيد بن جبير : المهل الذي قد انتهى حرّه . وقال أبو عبيدة : سمعت المنتجع بن نبهان وذكر رجلاً ، فقال : هو أبغض إلىّ من الطليا والمهل ، فقلت له : ما المهل ؟ قال : الملّة التي تحدّد من جوانب الرغيّف من النار ، أحمر شديد الحمرة كأنّها الرمانة ، وهي جمرة والطليا : الناقة المطليّة بالقطران . ) يشوي الوجُوه ( ، قال سعيد بن جبير : إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزّقوم فيأكلون منها فاختلست جلودهم ووجوههم ، فلو ان مارّاً مرّ يعرفهم لعرف جلود وجوههم فيها ، ثمّ يصّب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل ، وهو الذي قد انتهى حرّه ، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حرّه لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود . ) بئس الشراب ( هذا ، ) وساءت ( النار ) مرتفقا ( ، قال ابن عباس : منزلاً . مجاهد : مجتمعاً . عطاء : مقرّاً . وقيل : مهاداً . وقال القتيبي : مجلساً . وأصل : المرتفق المتّكأ ، يقال منه : ارتفقت ، إذا اتّكأت على المرتفق . قال الشاعر :
قالت له وارتفقت ألا فتى
يسوق بالقوم غزالات الضحى
ويقال : ارتفق الرجل ، إذا بات على مرفقه لا يأتيه نوم . قال أبو ذويب الهذلي :
نام الخلي وبتّ الليل مرتفقاً
كأن عيني فيها الصاب مذبوح
أي مقطوع من معتضده ، والصاب : شجر اذا استؤصل خرج منه كهيئة اللبن ، وربما ترتفع منه تربة أي فطرة ، فيقع في العين فكأنها شهاب نار ، وربما أضعف البصر . ويجوز أن يكون قوله : ) مرتفقاً ( من الرفق والمنفعة .
الكهف : ( 30 ) إن الذين آمنوا . . . . .
) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملاً ( . ليس قوله : ) إنّا لا نضيع ( خبراً لقوله : ) إن الذين آمنوا ( بل هو كلام معترض ، وخبر ) إن ( الأُولى قوله : ) أُولائك لهم جناتُ عدن ( . ومثله في الكلام كثير ، قال الشاعر :
إنّ الخليفة إنّ الله سربله
سربال ملك به ترجى الخواتيم
ومنهم من قال : فيه إضمار ؛ فإن معناه : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإنا لا نضيع أجره بل نجازيه .
الكهف : ( 31 ) أولئك لهم جنات . . . . .
ثمّ ذكر الجزاء فقال : ) أُولائك لهم جنّاتُ عدن ( ، ووهي الإقامة ) تجري من تحتهم
(6/168)
" صفحة رقم 169 "
الأنهار يُحَلُّون ( : يلبسون ) فيها من أساور ( ، وهو جمع الأسوار ، قال سعيد بن جبير : يُحلّى كل واحد منهم ثلاثةً من الأساور ، واحداً من فضّة ، وواحداً من ذهب ، ووحداً من لؤلؤ ويواقيت . ) من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً من سُندُس ( ، وهو ما رقّ من الديباج ) وإستبرق ( ، وهو ما غلظ منه . وقيل : هو فارسيّ معّرب ) متّكئين فيها ( : في الجنان ) على الأرائك ( ، وهي السّرر في الحجال ، واحدتها : أريكة ) نعم الثواب وحسنت ( يعني : الجنان ) مرتفقاً ( .
2 ( ) وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لاَِحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لَصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَاْ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَاذِهِ أَبَداً وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّى لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً لَّكِنَّ هُوَ اللَّهُ رَبِّى وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّى أَحَدًا وَلَوْلاإِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَدًا فعسَى رَبِّى أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يالَيْتَنِى لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّى أَحَدًا وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ( 2
الكهف : ( 32 ) واضرب لهم مثلا . . . . .
) واضرب لهم مثلاً رجلين ( الآية ) رجلين ( منصوب مفعول ، على معنى : ) واضرب لهم مثلاً ( كمثل رجلين . نزلت في أخوين من أهل مكّة من بني مخزوم ، أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد ياليل كان زوج أمّ سلمة قبل النبّي ( صلى الله عليه وسلم ) والآخر كافر ، وهو الأسود بن عبد الأسد بن عبد ياليل . وقيل نزلت في النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وفي مشركي مكّة . وهذا مثل لعيينة ابن حصين وأصحابه ، وفي سلمان وأصحابه شبّههما برجلين من بني إسرائيل أخوين : أحدهما مؤمن واسمه يهوذا في قول ابن عباس ، وقال مقاتل : تمليخا ، والآخر كافر ، واسمه فطروس ، قال وهب قطفر . وهما اللّذان وصفهما الله في سورة ( الصافات ) ، وكانت قصتهما ( ما أخبرنا أبو عمرو الفراتي : حدثنا محمد بن عمران : حدثنا الحسن بن سفيان : حدثنا حيّان بن موسى : حدثنا عبد الله بن البارك عن ) . معمر عن عطاء الخراساني قال : كان رجلان شريكين ، وكان لهما ثمانية آلاف دينار ، وقيل : إنهما ورثاه عن أبيهما ، وكانا أخوين فاقتسماها ، فعمد أحدهما فاشترى أرضاً بألف دينار ، فقال صاحبه : اللهم إن كان فلان قد اشترى أرضاً بألف دينار ، فإني أشتري منك أرضاً في الجنة بألف دينار ، فتصدّق بألف دينار
(6/169)
" صفحة رقم 170 "
ثمّ إن صاحبه بنى داراً بألف دينار ، فقال هذا : إن فلانَ بنى داراً بألف دينار ، وإني اشتريت منك داراً في الجنة بألف دينار ، فتصدّق بألف دينار . ثمّ تزوج بامرأة وأنفق عليها ألف دينار فقال : إنّ فلانَ تزوّج امرأة بألف دينار ، وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار ، فتصدّق بألف دينار . ثمّ اشترى خدماً ومتاعاً بألف دينار ، فقال : إن فلانَ اشترى خدماً ومتاعاً بألف دينار ، وإني اشتري منك خدماً ومتاعاً في الجنة بألف دينار فتصدّق بألف دينار .
ثمّ أصابته حاجة شديدة فقال : لو أتيت صاحبي هذا لعلّه ينالني منه معروف . فجلس له على طريقه حتى مرّ به في حشمه ، فقام إليه ، فنظر إليه الآخر فعرفه فقال : فلان ؟ قال : نعم . قال ما شأنك ؟ قال : أصابتني حاجة بعدك ، فأتيتك لتصيبني بخير . فقال : فما فعل مالك فقد اقتسمنا مالاً واحداً فأخذت شطره وأنا شطره ؟ فقصَّ عليه قصته ، فقال : وإنك لمن المصدّقين بهذا ، أي بأنك تبعث وتجازى ؟ اذهب فوالله لا أُعطيك شيئاً .
فطرده ، فقضي لهما أن توفيا ، فنزل فيهما : ) فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ( إلى قوله : ) فاطّلع فرآه في سواء الجحيم ( ، ونزلت ) واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين ( : بستانين ) من أعناب وحففناهما ( : أحطناهما ) بنخل وجعلنا بينهما زرعاً ( ، يعني : جعلنا حول الأعنابِ النخلَ ووسط الأعنابِ الزرعَ .
الكهف : ( 33 ) كلتا الجنتين آتت . . . . .
) كلتا الجنتين آتت ( : أعطت ، يعني : آتت كل واحدة من الجنتين ، فلذلك لم يقل : آتتا ) أُكُلَها ( : ثمرها تامّاً ) ولم تظلم منه شيئاً ( ، أي لم ينقص ، ) وفجّرنا خِلالهما نهراً ( ، يعني : شققنا وأخرجنا وسطهما نهراً .
الكهف : ( 34 ) وكان له ثمر . . . . .
) وكان له ( ، يعني : لفطروس ) ثمرٌ ( ، يعني : المال الكثير المثمر من كل صنف ، جمع ثمار . ومن قرأ : ( ثُمْر ) فهو جمع ثمرة . مجاهد : ذهب وفضة . ابن عباس : أنواع المال . قتادة : من كلّ المال . وقال ابن زيد : الثمر الأصل . ) فقال لصاحبه ( المؤمن ) وهو يحاوره ( : يجاوبه ) أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً ( ، يعني عشيرة ورهطاً . قال قتادة : خدماً وحشماً . وقال مقاتل : ولداً ، تصديقه قوله تعالى ) إن ترني أنا أقلّ منك مالاً وولداً ( .
الكهف : ( 35 ) ودخل جنته وهو . . . . .
) ودخل جنّته ( ، يعني : فطروس ، أخذ بيد أخيه المسلم يطوف به ويريه إيّاها ويعجبه منها ، ) وهو ظالمٌ لنفسه ( بكفره ، فلّما رأى ما فيها من الأنهار والأشجار والأزهار والثمار قال : ) ما أظن أن تبيد هذه أبداً }
الكهف : ( 36 ) وما أظن الساعة . . . . .
) وما أظنُ الساعةَ ( : القيامة ) قائمة ( : آتية كائنة . ثمّ تمّنى على الله أُمنية أُخرى مع شكّه وشركه فقال : ) ولئن رُددت ( : صرفت ) إلى ربي ( ، فرجعت إليه في المعاد ) لأجدن خيراً منها ( ، أي من الجنة التي دخلها . وقرأ أهل الحجاز والشام ( منهما )
(6/170)
" صفحة رقم 171 "
على لفظ التثنية ، يعني الجنتين ، وكذلك هو في مصاحفهم . ) منقلباً ( ، أي منزلاً ومرجعاً . يقول : لم يعطني هذه الجنة في الدنيا إلاّ ولي عنده أفضل في الآخرة .
الكهف : ( 37 ) قال له صاحبه . . . . .
) قال له صاحبه ( المسلم ) وهو يحاوره أكفرت بالّذي خلقك ( يعني خلق أباك وأصلك ) من تراب ثمّ ( خلقك ) من نطفة ( يعني ماء الرجل والمرأة ) ثمّ سوّاك رجلاً ( ، أي عدلك بشراً سويّاً ذكراً .
الكهف : ( 38 ) لكن هو الله . . . . .
) لكنا هو الله ربي ( ، يقول : أما أنا فلا أكفر بربي ، ولكنا هو الله ربي . قال الكسائي : فيه تقديم وتأخير مجازه : لكن الله هو ربّي . وقال الآخرون : أصله ( لكن أنا ) فحذفت الهمزة طلباً للخفة ؛ لكثرة استعماله ، وأُدغمت إحدى النونين في الآخرى ، وحذفت ألف ( أنا ) في الوصل . وقرأ ابن عامر ويعقوب : ( لكنا ) ، بإتيان الألف بالوصل ، كقول الشاعر :
أنا سيف العشيرة فاعرفوني
حميداً قد تذريت السناما
ولا خلاف في إثباتها في الوقف . ) ولا أُشرك بربّي أحداً }
الكهف : ( 39 ) ولولا إذ دخلت . . . . .
) ولولا إذ دخلت جنّتك قلت ما شاء الله ( ، ) ما ( في موضع رفع ، يعني : هي ما شاء الله ، ويجوز أن تكون في موضع النصب بوقوع ) شاء ( عليه . وقيل : جوابه مضمر مجازه : ما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون . ( أخبرنا أبو عمرو الفراتي : القاسم بن كليب : العباس بن محمد الدوزي : حجاج : أبو بكر الهذلي عن يمامة بن عبد الله بن أنس ) عن أنس بن مالك أن النبّي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من رأى شيئاً فأعجبه فقال : ) ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ( لم يضرّه ) .
ثمّ قال : ) إن ترني أنا أقل منك مالاً وولداً ( ، ) أنا ( عماد ولذلك نصب .
الكهف : ( 40 ) فعسى ربي أن . . . . .
) فعسى ( : فلَعّلَ ) ربي أن يؤتيني ( في الآخرة ) خيراً من جنتك ويرسلَ عليها ( : يبعث على جنتك ) حسباناً من السّماء ( ، قال قتادة والضّحاك : عذاباً . وقال ابن عباس : ناراً . وقال ابن زيد : قضاء من الله عزّ وجلّ يقضيه . قال الأخفش والقتيبي : مرام من السماء واحدتها حسبانة ، ) فتصبح صعيداً زلقاً ( ، قال قتادة : يعني صعيداً أملس لا نبات عليه . وقال مجاهد : رملاً هايلاً وتراباً . قال ابن عباس : هو مثل الحَزَن .
الكهف : ( 41 ) أو يصبح ماؤها . . . . .
) أو يصبح ماؤها غوراً ( أي غائراً منقطعاً ذاهباً في الأرض لا تناله الأيدي ولا الرشا والدلاء . والغور مصدرٌ وُضع موضع الاسم ، كما يقال : صوم وزور وعدل ، ونساء نوح يستوي فيه الواحد والاثنان والمذكر والمؤنث . قال عمرو بن كلثوم :
تظل جياده نوحاً عليه
مقلّدة أعنتها صفونا
وقال آخر
(6/171)
" صفحة رقم 172 "
هريقي من دموعهما سجاما
ضباع وجاوبي نوحاً قياما
) فلن تستطيع له طلبا ( بعد ما ذهب ونصب .
الكهف : ( 42 ) وأحيط بثمره فأصبح . . . . .
) وأُحيط بثمره ( أي أحاط الهلاك بثمر جنّتيه ، وهي جميع صنوف الثمار . وقال مجاهد : هي ذهب وفضة ؛ وذلك أن الله أرسل عليها ناراً فأهلكها وغار ماؤها ، ) فأصبح ( صاحبها الكافر ) يقلب كفيه ( : يصفق يده على الأُخرى ، وتقليب كفيه ظهراً لبطن ؛ تأسفاً وتلهّفاً ) على ما أنفق فيها ( يعني : عليها كقوله : ) ولأُصلبَّنكم في جذوع النخل ( أي عليها ) وهي خاويةٌ على عروشها ( ساقطة على سقوفها ، خالية من غرسها وبنائها ) ويقول يا ليتني لم أُشرك بربي أحداً ( .
الكهف : ( 43 ) ولم تكن له . . . . .
قال الله عزّ وجلّ : ) ولم تكن له فئة ( أي جماعة ) ينصرونه من دون الله ( : يمنعونه من عذاب الله ، ) وما كان منتصراً ( : ممتنعاً منتقماً .
الكهف : ( 44 ) هنالك الولاية لله . . . . .
) هنالك ( يعني : في القيامة ) الوَلاية لِلّهِ الحق ( ، قرأ الأعمش وحمزة والكسائي ( الولاية ) بكسر الواو يعني : السلطان والأمر . وقرأ الباقون بفتح الواو ، من الموالاة كقوله : ) الله ولي الذين آمنوا ( ، وقوله : ) ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا ( .
قال القتيبي : يريد : يتولون الله يومئذ ، ويؤمنون به ويتبرّؤون مما كانوا يعبدون . وقوله : ) الحق ( رفعه أبو عمرو والكسائي على نعت الولاية ، وتصديقه قراءة أُبيّ : ( هنالك الولاية الحق لله ) . وقرأ الآخرون بالكسر على صفة الله كقوله : ) ثمّ ردوا إلى الله مولاهم الحق ( ، وتصديقه قراءة عبد الله : ( هنالك الولاية لله وهو الحق ) فجعله من نعت الله . ) هو خيرٌ ثواباً ( لأوليائه وأهل طاعته ) وخيرٌ عُقبى ( لهم في الآخرة إذا صاروا إليه . والعُقب : العاقبة ، يقال : هذا عاقبة أمره كذا ، وعقباه وعقبه أي آخرة قوله .
( ) وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الاَْرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقْتَدِرًا الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الاَْرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً
(6/172)
" صفحة رقم 173 "
وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِدًا وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا مَا لِهَاذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لآِدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِى وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ( 2
الكهف : ( 45 ) واضرب لهم مثل . . . . .
) واضرب ( يا محمد ) لهم ( : لهؤلاء المتكبرين المترفين الذين سألوا طرد الفقراء المؤمنين ) مثلَ الحياةِ الدُنيا كماء أنزلناهُ مِنَ السماء ( ، يعني : المطر . قالت الحكماء : شبّه الله تعالى الدنيا بالماء ؛ لأن الماء لا يستقر في موضع وحال ، كذلك الدنيا لا تبقى لأحد ، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة وكذلك الدنيا ، ولأن الماء يفنى كذلك الدنيا تفنى ، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتلّ ، فكذلك الدنيا لا يسلم من آفاتها وفتنتها أحد ، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعاً مبقياً وإذا جاوز الحد المُقدّر كان ضارّاً مهلكاً ، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع ، وفضولها يضرّ . ) اختلط به ( : بالماء ) نباتُ الأرض فأصبح ( عن قريب ) هشيماً ( ، قال ابن عباس : يابساً . قال الضحّاك : كسيراً . قال الأخفش : متفتّتاً ، وأصله الكسر . ) تذروه الرياحُ ( ، قال ابن عباس : تديره . قال ابن كيسان : تجيء به وتذهب . قال الأخفش : ترفعه . وقال أبو عبيدة : تُفرّقه . القتيبي : تنسفه . وقرأ طلحة بن مصرف : الآية فقال : ذرته الريح تذروه ذرواً ، وتذريه ذرياً وأذرته إذراءً إذا أطارت به ، ) وكان الله على كل شيء مقتدراً ( ، قادراً .
الكهف : ( 46 ) المال والبنون زينة . . . . .
) المال والبنون ( التي يفخر بها عيينة وأصحابه من الأشراف والأغنياء ) زينة الحياة الدنيا ( ، وليست من زاد القبر ولا من عُدد الآخرة ، ) والباقيات الصالحات ( التي يعملها سلمان وأصحابه من الموالي والفقراء ) خيرٌ عند ربّك ثواباً وخيرٌ أملا ( أي خير ما يأمله الإنسان . واختلفوا في ) الباقيات الصالحات ( ما هي ؛ قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحّاك : هي قول العبد : ( سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ) . يدل عليه ما روى مسلم بن إبراهيم عن أبي هلال عن قتادة أن النبّي ( صلى الله عليه وسلم ) أخذ غصناً فحركه حتى سقط ورقه ، وقال : ( إن المسلم إذا قال : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ، تحاتّت عنه الذنوب . خذهن إليك أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن ؛ فهنّ من كنوز الجنّة وصفايا الكلام ، وهنّ الباقيات الصالحات ) .
وقال عثمان ( ح ) وابن عمر وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح : هي ( سبحان الله
(6/173)
" صفحة رقم 174 "
والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ، ولا حول ، ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم ) . يدل عليه ( ما ) روى القاسم بن عبد الله العمري ، ومحمد بن عجلان عن عبد الجليل بن حميد عن خالد ابن عمران أن النبّي ( صلى الله عليه وسلم ) خرح على قومه ، فقال : ( خذوا جُنّتكم ) . قالوا : يا رسول الله ، من عدوّ حضر ؟ قال : ( بل من النار ) . قالوا : وما جنتنا من النار ؟ قال : ( الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم ؛ فإنهن يأتين يوم القيامة مقدّمات مجنِّبات ومعقِّبات ، وهنّ الباقيات الصالحات ) .
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( استكثروا من الباقيات الصالحات ) . فقيل : وما هنّ يا رسول الله ؟ قال : ( الملّة ) . قال : وما هي ؟ قال : ( التكبير ، والتهليل ، والتسبيح ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ) .
وقال عبد الله بن عبد الرحمن مولى سالم بن عبد الله : أرسلني سالم إلى محمد بن كعب القرظي فقال : قل له : القني عند زاوية القبر ؛ فإن لي إليك حاجة . قال : فالتقيا ، فسلّم أحدهما على الآخر ، ثمّ قال سالم : ما تعدّ الباقيات ؟ فقال : لا إله إلاّ الله ، والحمد لله ، وسبحان الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله . فقال له سالم : متى جعلت : ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ؟ قال : ما زلت أجعله فيها . قال فراجعه مرتين وثلاثاً فلم ينزع ، فقال سالم : أجّل . فأتيت أبا أيّوب الأنصاري فحدّث أنه سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( عُرج بي إلى السماء فأُريت إبراهيم ( عليه السلام ) فقال : يا جبرئيل ، من هذا معك ؟ فقال : محمد . فرحّب بي وسهّل ، ثمّ قال : مر أُمّتك فليكثروا من غراس الجنّة ، فإن تربتها طيبة ، وإن أرضها واسعة . فقلت وما غراس الجنّة ؟ قال : لا حول ولا قوة إلاّ بالله ) .
وقال سعيد بن جبير وعمرو بن شرحبيل ومسروق وإبراهيم : هي الصلوات الخمسة ، وهي ) الحسنات يذهبن السيئات ( .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هي الأعمال الصالحة : لا إله إلاّ الله ، وأستغفر الله وصلى الله على محمد ، والصلاة والصوم والحج والصدقة والعتق والجهاد والصّلة وجميع الحسنات التي تبقى لأهلها في الجنّة ما دامت السماوات والأرض .
وروى عطية عن ابن عباس قال : هي الكلام الطيب . وقال عوف : سألت الحسن عن الباقيات الصالحات ، قال : النيّات والهمّات ؛ لأن بها تُقبل الأعمال وترفع . قال قتادة : هي كل ما أُريد به وجه الله . والله أعلم
(6/174)
" صفحة رقم 175 "
الكهف : ( 47 ) ويوم نسير الجبال . . . . .
) ويومَ نُسيّر الجبالَ ( : نزيلها عن أماكنها . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : ( تُسيَّر ) بالتاء وفتح الياء ( الجبال ) رفعاً على المجهول ، ) وترى الأرضَ بارزةً ( ظاهرة كرأي العين ليس عليها شجر ولا جبل ولا ثمر ولا شيء يسترها . وقال عطاء : ترى باطن الأرض ظاهراً قد برز الذين كانوا في بطنها فصاروا على ظهرها ، ) وحشرناهم ( : جمعناهم إلى الموقف للحساب ، ) فلم نغادر ( : نترك ونخلف ) منهم أحداً }
الكهف : ( 48 ) وعرضوا على ربك . . . . .
) وعُرضوا على ربّك صفًّا ( يعني : صفًّا صفًّا ؛ لأنهم صفٌّ واحد . وقيل قياماً ، يقال لهم يعني للكفار ، لفظه عام ومعناه خاص : ) لقد جئتمونا كما خلقناكم أوّل مرّة ( يعني : أحياء . وقيل : عراة . وقيل : عُزّلاً . وقيل : فرادى . ) بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعداً ( يعني : القيامة .
الكهف : ( 49 ) ووضع الكتاب فترى . . . . .
قوله تعالى : ) ووضع الكتاب ( يعني كتب أعمال الخلق ، ) فترى المجرمين مشفقين ( : خائفين ) ممّا فيه ( من الأعمال السيئة ، ) ويقولون ( إذا رأوها : ) يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً ( من ذنوبنا ؟ قال ابن عباس : الصغيرة : التبسّم ، والكبيرة : القهقهة . وقال سعيد بن جبير : الصغيرة اللمم والتخميش والقبل والمسيس ، والكبيرة : الزنا ، والمواقعة ، ) إلاّ أحصاها ( ، قال ابن عباس : عملها . وقال السّدي : كتبها وأثبتها . وقال مقاتل بن حيان : حفظها . وقيل : عدّها . وقال إبراهيم ابن الأشعث : كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية قال : ضجّوا والله من الصغار قبل الكبار . وضرب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لصغائر الذنوب مثلاً فقال : ( كمثل قوم انطلقوا يسيرون حتى نزلوا بفلاة من الأرض فانطلق كل رجل منهم يحتطب ، فجعل الرجل منهم يأتي بالعود ويجيء الآخر بعودين حتى جمعوا سواداً وأجّجوا . وإن الذنب الصغير يجتمع على صاحبه حتى يهلكه ) .
) وَوَجَدوا ما عملوا حَاضراً ( مكتوباً مثبتاً في كتابهم ) ولا يظلم ربّك أحداً ( يعني : لا ينقص ثواب أحد عمل خيراً . قال الضحّاك : لا يأخذ أحداً بجرم لم يعمله ولا يورّث ذنب أحد على غيره .
الكهف : ( 50 ) وإذ قلنا للملائكة . . . . .
) وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ( يقول جلّ ذكره مذكّراً لهؤلاء المتكبرين ما أورث الكبر إبليس ، ويعلّمهم أنه من العداوة والحسد لهم على مثل الذي كان لأبيهم : واذكر يا محمد إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ، ) فسجدوا إلاّ إبليس كان من الجِنّ ( ؛ اختلفوا فيه فقال ابن عباس : كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن ، خُلقوا من نار السّموم ، وخلق الملائكة من نور غير هذا الحي . وكان اسمه بالسريانية عزازيل وبالعربية الحرث ، وكان من خزان الجنّة ، وكان رئيس ملائكة الدنيا ، وكان له سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض ، وكان من أشد الملائكة
(6/175)
" صفحة رقم 176 "
حلماً وأكثرهم علماً ، وكان يسوس ما بين السماء والأرض فرأى بذلك لنفسه شرفاً وعظمة فذلك الذي دعاه إلى الكبر ، فعصى فمسخه الله شيطاناً رجيماً ملعوناً . فإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجُه ، وإن كانت خطيئته في معصية فارجُه ، وكانت خطيئة آدم معصية ، وخطيئة إبليس كبراً .
وقال ابن عباس في رواية أُخرى : كان من الجن ( و ) إنما سُمي بالجنان ، لأنه كان خازناً عليها فنُسب إليها ، كما يقال للرجل : مكي وكوفي ومدني وبصري . ( أخبرنا عبد الله بن حامد : أخبرنا محمد ابن يعقوب السّري عن يحيى بن عثمان بن زفر قال ) : روى يعقوب القمي عن جعفر عن سعيد بن جبير في قوله عزّ وجلّ : ) كان من الجنّ ( قال : كان من الجنانيين الذين يعملون في الجنّة . وقال الحسن : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين ، وإنه لأصل الجنّ كما أن آدم أصل الأنس . وقال شهر ابن حوشب : كان إبليس من الجنّ الذين ظفر بهم الملائكة فأسره بعض الملائكة ، فذهب به إلى السماء . وقال قتادة : جنّ عن طاعة الله تعالى ، ) ففَسَقَ عن أمرِ رَبّهِ ( يعني : خرج عن طاعة ربه . تقول العرب : فسقت الرطبّة إذا خرجت من قشرها ، وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها ، ولذلك قيل لها : الفويسقة . وقيل : هي من الفُسوق ، وهي الاتّساع ، تقول العرب : فسق فلان في النفقة إذا اتسع فيها ، وما أصاب مالاً إلاّ فسقه ، أي أهلكه وبذّره . والفاسق سمّي فاسقاً ؛ لأنه اتّسع في محارم الله عزّ وجلّ ، وهوّنها على نفسه . ) أفتتخذونه ( ، يعني يا بني آدم ) وذريته أولياءَ من دوني وهم لكم عدوٌ ( : أعداء . وقال الحسن : الإنس من آخرهم من ذريّة آدم ، والجن من آخرهم من ذريّة إبليس . قال مجاهد : فمن ذريّة إبليس لافيس وولهان وهو صاحب الطهارة والصلاة ، والهفّان ومرّة وبه يُكنّى إبليس وزيلنون وهو صاحب الأسواق يضع رايته بكل سوق من السّماء والأرض ، والدثر وهو صاحب المصائب يأمر بضرب الوجه وشقّ الجيوب والدعاء بالويل والحرب ، والأعور وهو صاحب أبواب الزّنا ، ومبسوط وهو صاحب الأخبار يأتي بها فيلقيها في أفواه النّاس فلا يجدون ( لها ) أصلاً ، وداسم وهو الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله عزّ وجلّ ، بصّره من المقابح ما لم يرفع أو لم يحسن موضعه ، فإذا أكل ولم يذكر اسم الله عليه أكل معه .
وقال الأعمش : ربما دخلت البيت ، ولم أذكر اسم الله ولم أُسلّم فرأيت مطهره فقلت : ارفعوا ، وخاصمتهم ، ثمّ أذكر فأقول : داسم ، داسم .
وروى مخلد عن الشعبي قال : إني لقاعد يوماً إذ أقبل حمال ومعه دن حتى وضعه ، ثمّ جاءني فقال : أنت الشعبي ؟ قلت : نعم . فقال : أخبرني هل لإبليس زوجة ؟ قلت : إن ذلك لعرس
(6/176)
" صفحة رقم 177 "
ما شهدته . قال : ثمّ ذكرت قول الله تعالى : ) أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني ( ، فعلمت أنه لا يكون ذرية إلاّ من زوجة ، قلت : نعم . فأخذ دنّه وانطلق ، قال : فرأيت أنه مختاري . قال ابن زيد : إبليس أبو الجن كما إنّ آدم ( عليه السلام ) أبو الإنس . قال الله تعالى لإبليس : إني لا أخلق لآدم ذرية إلاّ ذرأت لك مثلها ، ( كلما ) ولد لآدم . قال قتادة : إنهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم ، وما ولد لآدم ذريّة إلاّ ولد له مثله ، فليس من ولد آدم أحد إلاّ له شيطان قد قرن به . ) بئس للظالمين بدلاً ( ، أي بئس البدل لإبليس وذريّته من الله . قال قتادة : بئس ما استبدلوا بعبادة ربهم : طاعةَ إبليس وذريّته .
2 ( ) مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِىَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفًا وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هَاذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَىءٍ جَدَلاً وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الاَْوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُواْ ءايَاتِى وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِئَايِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا ( 2
الكهف : ( 51 ) ما أشهدتهم خلق . . . . .
) ما أشهدتهم ( : ما أحضرتهم ، يعني إبليس وذريته . وقيل : يعني الكافرين أجمع . قال الكلبي : يعني ملائكة السماوات . وقرأ أبو جعفر : ( ما أشهدناهم ) بالنون والألف على التعظيم ، ) خلق السّماوات والأرض ( فأستعين بهم على خلقها ، وأُشاورهم وأُوامرهم فيها ، ) ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلّين عضُداً ( : أنصاراً وأعواناً .
الكهف : ( 52 ) ويوم يقول نادوا . . . . .
) ويوم يقول نادوا ( قرأ حمزة بالنون . الباقون بالياء لقوله : ) شركائي ( ولم يقل : شركاءنا . ) شركائي الذين زعمتم ( أنهم شركائي ، ) فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم ( يعني بين الأوثان وعبدتها . وقيل : بين أهل الهدى والضلالة ) موبقاً ( ، قال عبد الله بن عمر : هو واد عميق في جهنم يفرق به يوم القيامة بين أهل لا إله إلاّ الله ، وبين من سواهم . وقال ابن عباس : هو واد في النار . وقال مجاهد : واد من حميم . وقال عكرمة : هو نهر في النار يسيل
(6/177)
" صفحة رقم 178 "
ناراً ، على حافتيه حيّات مثل البغال الدهم ، فإذا بادرت إليهم لتأخذوهم استغاثوا بالاقتحام في النّار منها . وقال الحسن : عداوة . وقال الضحّاك وعطاء : مهلكاً . وقال أبو عبيد : موعداً ، وأصله الهلاك ، يقال : أوبقه يوبقه إيباقاً ، أي أهلكه ، ووبق يبق وبقاً ، أي هلكة ، ويقال : وبق يوبق ويبق ويأبق ، وهو وابق ووبق ، والمصدر : وبق ، ووبُوق .
الكهف : ( 53 ) ورأى المجرمون النار . . . . .
) ورأى المجرمون ( : المشركون ) النار فظنّوا أنهم مواقعوها ( : داخلوها . وقال مجاهد : مقتحموها وقيل : نازلوها وواقعون فيها . وقرأ الأعمش : ( ملاقوها ) ، يعني مجتمعين فيها ، والهاء الجمع ) ولم يجدوا عنها مصرفاً ( .
وروى أبو سعيد الخدري عن النبّي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( إن الكافر ليرى جهنم فيظن أنه مواقعها من مسيرة أربعين سنة ) .
الكهف : ( 54 ) ولقد صرفنا في . . . . .
) ولقد صرّفنا ( : بيّنا ) في هذا القرآن للناس من كل مثل ( ليتذكروا ويتّعظوا ) وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً ( : خصومة في الباطل ، يعني أُبّي بن خلف الجمحي ، وقيل : إنه عام ليس بخاص ، واحتجّوا بما روى الحسن بن علي بن أبي طالب عن أبيه قال : ( إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) طرقه هو وفاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ألا تصلّون ؟ فقلت : يا رسول الله ، إنما أنفسنا بيد الله تعالى ، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا . فانصرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين قلت ذلك له ولم يرجع شيئاً ، فسمعته وهو يضرب فخذه ويقول : ) وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً ( ) .
الكهف : ( 55 ) وما منع الناس . . . . .
) وما مَنَعَ الناس أن يؤمنوا ( يعني من أن يؤمنوا ، ) إذ جاءهم الهدى ( : القرآن والإسلام ومحمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ويستغفروا ( : ومن أن يستغفروا ربهم ) إلاّ أن تأتيهم سنة الأولين ( يعني سنتنا في إهلاكهم ) أو يأتيهم العذابُ قُبُلا ( ، قال ابن عباس : عياناً .
قال الكلبي : هو السّيف يوم بدر . قال مجاهد : فجأة . ومن قرأ ) قبلا ( ، بضمتين ، أراد به : أصناف العذاب .
الكهف : ( 56 ) وما نرسل المرسلين . . . . .
) وما نرسلُ المرسلين إلاّ مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا ( : يبطلوا ويزيلوا ) به الحق ( ، قال السّدي : ليفسدوا ، وأصل الدّحض : الزلق ، يقال : دحضت رجله أي زلقته . وقال طرفة :
أبا منذر رمت الوفاء فهبته
وحدت كما حاد البعير عن الدحض
(6/178)
" صفحة رقم 179 "
( واتخذوا آياتي وما أُنذروا ، فيه إضمار يعني : وما أُنذروا وهو القرآن ) هُزُوا ( : استهزاءً .
الكهف : ( 57 ) ومن أظلم ممن . . . . .
) ومن أظلم مّمن ذّكر بآيات ربه فأعرض عنها ( : لم يؤمن بها ) ونسي ما قدّمت يداه ( ، أي عملت يداه من الذنوب ) إنّا جعلنا على قلوبهم أكّنةً أن يفقَهُوهُ ( ، يعني القرآن ) وفي آذانهم وقراً ( : ثقلاً وصمماً ) وإن تدعهم ( يا محمد ) إلى الهدى ( يعني إلى الدين ) فلن يهتدوا إذاً أبداً ( : لن يرشدوا ولن يقبلوه .
الكهف : ( 58 ) وربك الغفور ذو . . . . .
) وربك الغفورُ ذو الرحّمة لو يؤاخذهم بما كسبوا ( من الذنوب ) لعجّل لهم العذاب ( في الدنيا ) بل لهم موعد ( وهو يوم الحساب ) لن يجدوا من دونه موئلاً ( : معدلاً ومنجىً ، قال الأعشى :
وقد أُخالس ربّ البيت غفلته
وقد يحاذر منّي ثمّ ما يئل
أي لا ينجو .
الكهف : ( 59 ) وتلك القرى أهلكناهم . . . . .
) وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا ( : كفروا ، ) وجعلنا لمهلكهم موعداً ( : أجلاً .
2 ( ) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لاأَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِىَ حُقُباً فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَباً فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَاذَا نَصَباً قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا قَالَ ذَالِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَىءَاثَارِهِمَا قَصَصًا فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَآ ءَاتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً قَالَ سَتَجِدُنِىإِن شَآءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِى لَكَ أمْراً قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلاَ تَسْأَلْنى عَن شَىءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْراً فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْراً قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى عُذْراً فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً قَالَ هَاذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِك
(6/179)
" صفحة رقم 180 "
يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَواةً وَأَقْرَبَ رُحْماً وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ( 2
الكهف : ( 60 ) وإذ قال موسى . . . . .
) وإذ قال موسى لفتاه ( الآية قال ابن عباس : لما ظهر موسى ( عليه السلام ) وقومه على مصر أنزل قومه مصر ، فلّما استقرت بهم الدار أنزل الله عزّ وجلّ : ) أن ذكّرهم بأيّام الله ( فخطب قومه وذكر بما آتاهم الله عزّ وجلّ من الخير والنّعمة ؛ إذ نجّاهم من آل فرعون وأهلك عدوّهم واستخلفهم في الأرض ، فقال : ( وكلّم الله نبيكم تكليماً ، واصطفاني لنفسه ، وألقى عليّ محبّة منه ، وآتاكم من كل ما سألتموه ، ونبيّكم أفضل أهل الأرض ، وأنتم تقرؤون التوراة ) . فلم يترك نعمة أنعمها الله عزّ وجلّ عليهم إلاّ ذكرها وعرّفها إيّاهم ، فقال له رجل من بني إسرائيل : قد عرفنا الذي تقول ، فهل على وجه الأرض أحد أعلم منك يا نبي الله ؟ قال : ( لا ) . فعتب الله عزّ وجلّ عليه حين لم يرد العلم إليه ، فبعث إليه جبرئيل ، فقال : ( يا موسى وما يدريك أين أضع علمي ؟ بل إن لي عبداً بمجمع البحرين أعلم منك ) . فسأل موسى ربّه أن يريه إيّاه ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أن : ( ايت البحر فإنك تجد على شط البحر حوتاً ، فخذه فادفعه إلى فتاك ، ثمّ الزم شط البحر إذا نسيت الحوت وهلك منك فثمّ تجد العبد الصالح ) .
وقال ابن عباس في رواية أُخرى : سأل موسى ربّه فقال : ( ربّ أي عبادك أحبّ إليك ؟ ) . قال : ( الذي يذكرني فلا ينساني ) . قال : ( فأي عبادك أقضى ؟ ) . قال : ( الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى ) . قال : ( ربّي فأي عبادك أعلم ؟ ) . قال : ( الذي يبغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدلّه على هدًى أو ترده عن ردًى ) . قال : ( إن كان في عبادك أحد هو أعلم منّي فادللني عليه ) . فقال له : ( نعم ، في عبادي من هو أعلم منك ) . قال : ( من هو ؟ ) . قال : ( الخضر ) . قال : ( وأين أطلبه ؟ ) . قال : ( على الساحل عند الصخرة ) . وجعل الحوت له آية ، وقال : ( إذا حيّ هذا الحوت ، وعاش ، فإن صاحبك هناك ) .
وكانا قد تزودا سمكاً مالحاً فذلك قوله عزّ وجلّ : ) وإذ قال موسى ( بن عمران ) لفتاه ( : صاحبه يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف . وقيل : فتاه أخو يوشع ، كان معه في سفره . وقيل : فتاه عبده ومملوكه : ) لا أبرحُ ( : لا أزال أسير ) حتى أبلُغَ مجمع البحرين ( ، قال قتادة : بحر فارس والروم مما يلي المشرق . وقال محمد بن كعب : طنجة . وقال أُبّي بن كعب : أفريقية
(6/180)
" صفحة رقم 181 "
) أو أمضي حُقُبُا ( وجمعه أحقاب : دهراً أو زماناً . وقال عبد الله بن عمر : والحقب ثمانون سنة . وقال مجاهد : سبعون سنة . وقيل : البحران هما موسى والخضر ، كانا بحرين في العلم .
فحملا خبزاً وسمكة مالحة وسارا حتى انتهيا إلى الصخرة التي عند مجمع البحرين ليلاً ، وعندها عين تسمى ماء الحياة ، لا يصيب ذلك الماء شيئاً إلاّ حيّ ، فلما أصاب السمكة روح الماء وبرده اضطربت في المكتل وعاشت ودخلت البحر ، فذلك قوله عزّ وجلّ :
الكهف : ( 61 ) فلما بلغا مجمع . . . . .
) فلما بلغا ( ، يعني : موسى وفتاه ) مجمع بينهما ( يعني : بين البحرين ) نسيا حوتهما ( : تركا حوتهما ، وإنما كان الحوت مع يوشع ، وهو الذي نسيه فصرف النسيان إليهما ، والمراد به : أحدهما كما قال : ) يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ( وإنما يخرج من المالح دون العذب . وإنما جاز ذلك ؛ لأنهما كانا جميعا تزوّدا لسفرهما ، فجاز إضافته إليهما ، كما يقال : خرج القوم إلى موضع كذا ، وحملوا معهم من الزاد كذا ، وإنما حمله أحدهم ، لكنه لمّا كان ذلك من أمرهم ورأيهم أُضيف إليهم . ) فاتخذ ( الحوت ) سبيله في البحر سربا ( ، أي مسلكاً ومذهباً يسرب ويذهب فيه .
واختلفوا في كيفية ذلك ؛ فروى أُبّي بن كعب عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( انجاب الماء عن مسلك الحوت فصارت كوّة لم تلتئم ، فدخل موسى الكوّة على أثر الحوت فإذا هو بالخضر ( عليه السلام ) ) .
وقال ابن عباس : رأى أثر جناحه في الطين حين وقع في الماء ، وجعل الحوت لا يمس شيئاً إلاّ يبس حتى صار صخرة . وروى ابن عباس عن أُبي بن كعب عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لمّا انتهيا إلى الصخرة وضعا رأسيهما فناما واضطرب الحوت في المكتل ، فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا ، أمسك الله عزّ وجلّ عن الحوت جرية الماء ، فصار عليه مثل الطاق فلما استيقظ موسى ( عليه السلام ) نسي فتاه أن يخبره بالحوت وانطلقا بقية يومهما وليلتهما . حتى إذا كان من الغد
الكهف : ( 62 ) فلما جاوزا قال . . . . .
) فلمّا جاوزا قال ( موسى ) لفتاه آتنا غداءنا ( ) .
وقال قتادة : رد الله عزّ وجلّ إلى الحوت روحه فسرب من البحر حتى أفضى إلى البحر ، ثمّ سلك فجعل لا يسلك منه طريقاً إلاّ صار ماء جامداً طريقاً يبساً . وقال الكلبي : توضّأ يوشع بن نون من عين الحياة فانتضح على الحوت المالح في المكتل من ذلك الماء فعاش ، ثمّ وثب في ذلك الماء ، فجعل يضرب بذنبه الماء ، ولا يضرب بذنبه شيئاً من الماء وهو ذاهب إلاّ يبس . ) فلمّا جاوزا ( ، يعني ذلك الموضع ) قال موسى لفتاه آتنا ( : أعطنا ) غداءنا ( : طعامنا وزادنا ، وذلك أن يوشع بن نون حين رأى ذلك من الحوت قام ليدرك موسى ليخبره بأمر الحوت ، فنسي أن يخبره فمكثا يومهما ذلك حتى صلّيا الظهر من الغد ، ولم ينصب موسى في سفره ذلك إلاّ يومئذ حين
(6/181)
" صفحة رقم 182 "
جاوز الموضع الذّي أُمر به ، فقال لفتاه حين ملّ وتعب : ) آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً ( ، أي شدة وتعباً ، وذلك أنه أُلقي على موسى الجوع بعد ما جاوز الصخرة ، ليتذكر الحوت ، ويرجع إلى موضع مطلبه ،
الكهف : ( 63 ) قال أرأيت إذ . . . . .
فقال له فتاه وتذكر : ) أرأيت إذ أوينا ( : رجعنا ) إلى الصخرة ( ، قال مقاتل : هي الصخرة التي دون نهر الزيت ) فإنّي نسيت الحوت ( ؟ أي تركته وفقدته .
وقيل : فيه إضمار معناه : نسيت أن أذكر أمر الحوت ، ثمّ قال : ) وما أنسانيه إلاّ الشيطان أن أذكره ( ، يعني : أنسانيه ألاّ أذكره . وقيل : فيه تقديم وتأخير مجازه : وما أنسانيه أن أذكره إلاّ الشيطان ، ) واتّخذ سبيله في البحر عجباً ( ، يجوز أن يكون هذا من قول يوشع ، يقول : اتخذ الحوت سبيله في البحر عجباً . وقيل : إن يوشع يقول : إن الحوت طفر إلى البحر فاتّخذ فيه مسلكاً ، فعجبت من ذلك عجباً . ويجوز أن يكون هذا من قول موسى ، قال له يوشع : ) واتّخذ سبيله في البحر ( ، فأجابه موسى : ) عجباً ( كأنه قال : أعجب عجباً .
وقال ابن زيد : أي شيء أعجب من حوت ، كان دهراً من الدهور يؤكل منه ثمّ صار حيّاً حتى حشر في البحر . قال : وكان شق حوت . وقال ابن عباس : اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجباً . قال وهب : ظهر في الماء من أثر جري الحوت شق وأُخدود شبه نهر من حيث دخلت إلى حيث انتهت . فرجع موسى حتى انتهى إلى مجمع البحرين ، فإذا هو بالخضر ( عليه السلام ) ،
الكهف : ( 64 ) قال ذلك ما . . . . .
فذلك قوله : ) قال موسى لفتاه ( ) ذلك ما كنّا نبغي ( أي نطلب ، يعني الخضر ) فارتدّا ( : فرجعا ) على آثارهما قصصا ( : يقصان الأثر : يتبعانه .
الكهف : ( 65 ) فوجدا عبدا من . . . . .
) فوجدا عبداً من عبادنا ( يعني الخضر واسمه بليا بن ملكان بن يقطن ، والخضر لقب له ، سمّي بذلك ، لما ( أخبرنا عبد الله بن حامد عن مكّي بن عبدان : أخبرنا أبو الأزهر عن عبد الرزاق عن ) معمر عن همام بن منبّه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنما سُمي الخضر خضراً ؛ لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ) .
( قال عبد الرزاق : فروة بيضاء يعني : حشيشة يابسة ، ( و ) فروة : قطعة من الأرض فيها نبات ) . وقال مجاهد : إنما سمي الخضر ؛ لأنه إذا صلّى اخضرّ ما حوله . وروى عبد الله بن المبارك عن ابن جريج عن عثمان بن أبي سلمان قال : رأى موسى الخضر ( عليه السلام ) على طنفسة خضراء على وجه الماء ، فسلّم عليه . وقال ابن عباس عن أُبيّ بن كعب عن النبّي صلى الله عليه وسل
(6/182)
" صفحة رقم 183 "
قال : ( انتهى موسى إلى الخضر ( عليه السلام ) وهو نائم عليه ثوب مسجىً ، فسلّم عليه ؛ فاستوى جالساً قال : وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل . قال موسى : وما أدراك بي ؟ ومن أخبرك أني نبيّ بني إسرائيل ؟ قال الذي أدراك بي ودلّك علّي ) .
وقال سعيد بن جبير : وصل إليه وهو يصلي ، فلما سلّم عليه قال : وأنّى بأرضنا السلام ؟ ثمّ جلسا يتحدّثان فجاءت خطّافة وحملت بمنقارها من الماء ، قال الخضر : يا موسى خطر ببالك أنّك أعلم أهل الأرض ، ما علمك وما علم الأولين والآخرين في جنب الله إلاّ أقلّ من الماء الذي حملته الخطافة ، فذلك قوله تعالى : ) فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علماً }
الكهف : ( 66 ) قال له موسى . . . . .
) قال له ( : للعالم ) موسى هل أتّبعك على أن تعلّمني ممّا عُلّمتَ رُشداً ( : صواباً ؟
الكهف : ( 67 ) قال إنك لن . . . . .
) قال إنك لن تستطيع معيَ صبراً ( ؛ لأني أعمل بباطن علم علّمنيه ربّي عزّ وجلّ ،
الكهف : ( 68 ) وكيف تصبر على . . . . .
) وكيفَ تصبرُ ( يا موسى ) على ما لم تُحط بهِ خُبراً ( ، يعني على ما لم تعلم ؟ وقال ابن عباس : وذلك أنه كان رجلاً يعمل على الغيب .
الكهف : ( 69 ) قال ستجدني إن . . . . .
) قال ( موسى : ) ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا
الكهف : ( 70 ) قال فإن اتبعتني . . . . .
قال ( ) فإن أُتبعتني فلا تسألني عن شيء ( مما تنكر ) حتى أحدث لك منه ذكراً ( : حتى ابتدئ لك بذكره ، وأُبيّن لك شأنه .
الكهف : ( 71 ) فانطلقا حتى إذا . . . . .
) فانطلقا ( يسيران يطلبان سفينة يركبانها ) حتى إذا ( أصابها ) ركبا في السفينة ( ، فقال أهل السفينة : هؤلاء لصوص ، فأمروهما بالخروج منها ، فقال صاحب السفينة : ما هم بلصوص ولكنّي أرى وجوه الأنبياء . وقال أبي بن كعب عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ، فمرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول فلما دخلوا إلى البحر أخذ الخضر فأساً فخرق لوحاً من السفينة حتّى دخلها الماء فحشاها موسى ثوبه وقال له : ) أخرقتها لتغرق أهلها ( ) . وقرأ أهل الكوفة ( ليغرق ) بالياء المفتوحة ( أهلها ) برفع اللام على أن الفعل لهم ، وهي قراءة ابن مسعود ، ) لقد جئت شيئاً إمراً ( أي منكراً . قال القتيبي : عجباً . والإمر في كلام العرب الداهية ، قال الراجز :
قد لقيَ الأقران منّي نُكْراً
داهية دهياء إدًّا إمرا
وأصله : كل شيء شديد كثير ، يقال : أمر القوم ، إذا كثروا واشتدّ أمرهم .
الكهف : ( 72 - 73 ) قال ألم أقل . . . . .
قال العالم ) ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً قال ( موسى : ) لا تؤاخذني بما نسيت ( ( أخبرنا أبو عبد الله بن حامد الورّاق عن حامد بن محمد قال : قال أبو سعد بن موسى المروَروذي ببغداد ، وأخبرنا محمد بن أبي ناجية الاسكندراني عن سفيان بن عيينة عن عمر بن
(6/183)
" صفحة رقم 184 "
دينار عن ) عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( كانت الأُولى من أمر النسيان ، والثانية القدر ، ولو صبر موسى لقص الله علينا أكثر مما قص ) .
وقال أُبي بن كعب : أما إنه لم ينسَ ، ولكنه من معاريض الكلام . وقال ابن عباس : معناه بما تركت من عهدك ، ) ولا ترهقني ( : تعجلني : وقيل : لا تغشني ) من أمري عسراً ( ، يقول : لا تضيّق عليّ أمري وصحبتي معك .
الكهف : ( 74 ) فانطلقا حتى إذا . . . . .
) فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً ( ، قال سعيد بن جبير : وجد الخضر غلماناً يلعبون ، وأخذ غلاماً ظريفاً وضيء الوجه ، فأضجعه ثمّ ذبحه بالسكين . وقال ابن عباس : كان لم يبلغ الحلم . وقال الضحّاك : كان غلاماً يعمل بالفساد ، وتأذّى منه أبواه : وكان اسمه خش بوذ . وقال شعيب الحيّاني : اسمه حيشور ، وقال وهب بن منبّه كان اسم أبيه ملاسَ ، واسم أمه رُحمى . وقال الكلبي كان فتى يقطع الطريق ، ويأخذ المتاع ويلجأ إلى أبويه ويحلفان دونه ، فأخذه الخضر فصرعه ثمّ نزع من جسده رأسه . وقال قوم : رفسه برجله فقتله . وقال آخرون : ضرب رأسه بالجدار فقتله . ( أخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الله بن سليمان عن يحيى بن قيس عن أبي إسحاق عن ) سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أُبّي بن كعب قال : سمعت النبّي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( الغلام الذي قتله الخضر طبع كافراً فلمّا قتله قال له موسى : ) أقتلت نفساً زكيّةً ( ؟ ) . أي طاهرة . وقيل : مسلمة . قال الكسائي : الزاكية والزكية لغتان مثل القاسية والقسيّة . قال أبو عمرو : الزاكية : التي لم تذنب قط ، والزكية : التي أذنبت ثمّ تابت . ) بغيرنفس ( أي من غير أن قتلت نفساً أوجب عليها القود ، ) لقد جئت شيئاً نكراً ( : منكراً ؟ وقال قتادة وابن كيسان : النكر : أشد وأعظم من الإمر .
الكهف : ( 75 - 76 ) قال ألم أقل . . . . .
) قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً قال إن سألتك عن شيء بعدها ( أي هذه المرّة ) فلا تصاحبني ( : فارقني ؛ ) قد بلغت من لدُنّي عذراً ( في فراقي . ( أخبرنا عبد الله بن حامد عن مكّي بن عبدان عن عبد الرحمن بن بشير عن حجاج بن محمد : أخبرنا حمزة الزّيات عن أبي إسحاق عن ) سعيد بن جبير عن ابن عباس ، عن أُبّي بن كعب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسل
(6/184)
" صفحة رقم 185 "
إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه ، فقال ذات يوم : ( رحمة الله علينا وعلى أخي موسى ، لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب ( العجاب ) ، ولكنه قال : ) إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً ( ) .
الكهف : ( 77 ) فانطلقا حتى إذا . . . . .
) فانطلقا حتّى إذا أتيا أهل قرية ( قال ابن عباس : يعني أنطاكية . وقال ابن سيرين : أيلة ، وهي أبعد أرض الله من السّماء ) استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما ( ، أي ينزّلوهما منزلة الأضياف ؛ وذلك أنهما استطعماهم فلم يطعموهما ، واستضافاهم فلم يضيفوهما . ( أخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الله بن سلمان عن يحيى بن قيس عن أبي إسحاق عن ) سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أُبّي بن كعب أنه سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ) فأبوا أن يضيفوهما ( قال : ( كانوا أهل قرية لئاماً ) .
وقال قتادة في هذه الآية : شر القرى التي لا تُضيف الضيف ، ولا تعرف لابن السبيل حقّه .
) فوجدا فيها ( ، أي في القرية ) جداراً ( ، قال وهب : كان جداراً طوله في السماء مئة ذراع ، ) يريد أن ينقض ( هذا من مجاز الكلام ، لأن الجدار لا إرادة له ، وإنما معناه : قرب ودنا من ذلك ، كقول الله تعالى : ) تكاد السّماوات يتفطرن منه ( . قال ذو الرمّة :
قد كاد أو ( قد ) هم بالبيود
وقال بعضهم : إنما رجع إلى صاحبه ، لأن هذه الحالة إذا كانت من ربّه فهو إرادته ، كقول الله تعالى : ) ولمّا سكت عن موسى الغضب ( وإنما يسكت صاحبه . وقال : ) فإذا عزم الأمر ( وإنما يعزم أهله . قال الحارثي :
يريد الرمح صدر أبي براء
ويرغب عن دماء بني عقيل
وقال عقيل :
(6/185)
" صفحة رقم 186 "
إنّ دهراً يلف شمل سليمى
لزمان يهّم بالإحسان
) أن ينقّض ( ، أي يسقط وينهدم ، ومنه انقضاض الكواكب ، وهو سقوطها وزوالها عن أماكنها . وقرأ يحيى بن عمر : ( يريد أن ينقاض ) أي ينقلع وينصدع ، يقال : انقاضّت السنّ : انصدعت من أصلها . وقال بعض الكوفيين : الانقياض : الشق طولاً ، يقال : انقاض الحائط والسن وطيّ البئر ، إذا انشقت طولاً . ) فأقامه ( : سوّاه . قال ابن عباس : هدمه ثمّ قعد يبنيه . وقال سعيد بن جبير : مسح الجدار ودفعه بيده ، فاستقام . قال موسى : ) لو شئت لاتّخذتَ ( ، وقرأ أبو عمرو : ( لتَخذت ) وهما لغتان مثل قولك : ( اتّبع ) و ( تبِع ) ، و ( اتّقى ) و ( تقى ) ، قال الشاعر :
وقد تخدت رحلي إلى جنب غرزها
نسيفاً كأفحوص القطاة المطرّق
وأنشد الزجاج في قوله : ( لتخذت ) قول أبي شمام الصبابي :
تخذوا الحديد من الحديد معاولاً
سكانها الأرواح والأجساد
) عليه ( ، أي على إصلاحه وإقامته ) أجراً ( ، أي جَعْلاً وأُجرة . وقيل : قرىً وضيافة .
الكهف : ( 78 ) قال هذا فراق . . . . .
فقال الخضر ( عليه السلام ) : ) هذا فراق بيني وبينك ( قرأ لاحق بن حميد : ( فراق ) بالتنوين ، ) سأُنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً (
الكهف : ( 79 ) أما السفينة فكانت . . . . .
) أمّا السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر ( قال كعب : كانت لعشرة إخوة : خمسة منهم زمنى ، وخمسة منهم يعملون في البحر . وفي قوله : ) مساكين ( دليل على أن المسكين وإن كان مَلَكَ شيئاً فلا يزول عنه اسم المسكنة إذا كانت به حاجة إلى ما هو زيادة على ملكه ، ويجوز له أخذ الزكاة . ( وأخبرنا أبو بكر عبد الرحمن بن علي الحمشادي ، عن أحمد بن الحسين بن علي الرازي قال : أبو الحسن أحمد بن زكريا المقدسي عن إبراهيم بن عبد الله الصنعاني عن إبراهيم ) بن الحكم عن أبيه عن عكرمة قال : قلت لابن عباس : قوله : ) أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر ( ، كانوا مساكين والسفينة تساوي ألف دينار ؟ قال : إن المسافر مسكين ولو كان معه ألف دينار . ) فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ( أي أمامهم وقدّامهم كقوله تعالى : ) من ورائه جهنم و ( ) من ورائهم برزخ ( أي أمامهم . قال الشاعر :
أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي
وقومي تميم والفلاة ورائيا
(6/186)
" صفحة رقم 187 "
وقيل : ) وراءهم ( : خلفهم ، وكان رجوعهم في طريقهم عليه ، ولم يكونوا يعلمون بخبره فأعلم الله الخضر ( عليه السلام ) بخبره . ) ملكٌ يأخُذُ كُل سفينة غصباً ( ، أي كل سفينة صالحة ، فاكتفى بدلالة الكلام عليه ، يدل عليه ما روى سفيان عن عمر بن دينار عن ابن عباس أنه يقرأ ( وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً ) . فخرقها وعيّبها ، لئلاّ يتعرض لها ذلك الملك ، واسمه جلندى وكان كافراً . قال محمد بن إسحاق : وكان اسمه منواه بن جلندى الأردني . وقال شعيب الجبائي اسمه هدد بن بدد .
الكهف : ( 80 ) وأما الغلام فكان . . . . .
) وأماالغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا ( ، أي فعلمنا . وفي مصحف أُبيّ : ( فخاف ربك ) أي علم ، ونظائره كثيرة . وقال قطرب : معناه فكرهنا ، كما تقول : فرّقت بين الرجّلين خشية أن يقتتلا ، وليست فيك خشية ولكن كراهة أن يقتتلا . ) أن يرهقهما ( ، أي يهلكهما . وقيل : يغشاهما . وقال الكلبي : يكلّفهما ) طغياناً وكفراً ( ، قال سعيد بن جبير : خشينا أن يحملهما حبّه على أن يدخلهما معه في دينه .
الكهف : ( 81 ) فأردنا أن يبدلهما . . . . .
) فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة ( : صلاحاً وإسلاماً ) وأقرب رُحما ( هو من الرحم والقرابة . وقيل : هو من الرحمة ، يقال : رحَم ورحُم للرحمة ، مثل هلك وهلك ، وعمر وعمر ، قال العجّاج :
ولم تعوَّج رحمُ من تعوّجا
قال ابن عباس : ) وأقرب رحماً ( يعني : وأوصل للرحم وأبرّ بوالديه . قال قتادة : أقرب خيراً ، وقال ابن جريج : يعني أرحم به منهما بالمقتول . وقال الفراء : وأقرب أن يرحما له . قال الكلبي : أبدلهما الله جارية ، فتزوّجها نبّي من الأنبياء ، فولدت له نبياً فهدى الله عزّ وجلّ على يديه أُمّة من الأُمم . ( وأخبرنا عبد الله بن حامد عن حامد بن أحمد قال : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن يحيى بن الحرث القاضي عن عبد الوّهاب بن فليح عن ميمون بن عبد الله القدّاح عن ) جعفر بن محمد عن أبيه في هذه الآية قال : ( أبدلهما جارية فولدت سبعين نبياً ) .
وقال ابن جريج : أبدلهما بغلام مسلم وكان المقتول كافراً وكذلك هو في حرف اُبي : ( فأما الغلام فكان كافراً ، وكان أبواه مؤمنين ) . وقال قتادة : قد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل ، ولو بقي كان فيه هلاكهما ، فليرضَ امرؤ بقضاء الله ؛ فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب .
(6/187)
" صفحة رقم 188 "
الكهف : ( 82 ) وأما الجدار فكان . . . . .
) وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة ( واسمهما أصرم وصريم ) وكان تحته كنزٌ لهما ( اختلفوا في ذلك الكنز ما هو ، فقال بعضهم : صحف فيها علم مدفونة تحته ، وهو قول سعيد ابن جبير . وقال ابن عباس : ما كان الكنز إلاّ علماً ، وقال الحسن وجعفر بن محمد : ( كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه : بسم الله الرحمن الرحيم . عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يوقن بالرزق كيف يتعب ، وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئن إليها . لا إله إلاّ الله ، محمد رسول الله ) .
وقد روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذا القول مرفوعاً في بعض الروايات أنه كان مكتوباً في ذلك اللوح تحت ما ذكر هذه الآيات : ( يا أيُّها المهتم هماً لا تهمّه ، إنك إن تدركك الحمّى تحمّ ( . . . ) علوت شاهقاً من العلم كيف توقيك وقد جفّ القلم ؟ ) .
وقال عكرمة كان ذلك الكنز مالاً . ( أخبرنا أبو بكر الحمشادي : حدثنا أبو الحسن أحمد ابن محمد بن قيدوس الطرائقي عن عثمان بن سعيد عن صفوان بن صالح الثقفي عن الوليد بن مسلم عن يزيد بن يوسف الصنعاني عن يزيد بن أبي يزيد عن ) مكحول عن ( أبي ) الدرداء قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله : ) وكان تحته كنز لهما ( ، قال : ( كان ذهباً وفضّة ) .
) وكان أبوهما صالحاً ( ، واسمه كاشح ، وكان من الأتقياء . ذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما ولم يذكر منهما صلاح ، وكان بينهما وبين الأب الذي حُفظا به سبعة آباء ، وكان سيّاحاً . ( وأخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد عن بشر بن موسى عن الحميدي عن ) سفيان عن محمد ابن سوقة عن محمد بن المنكدر قال : إنّ الله عزّ وجلّ ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده ، وعشيرته التي هو فيها ، والدويرات حوله ، فما يزالون في حفظ الله وستره .
وعن سعيد بن المسيّب أنه كان إذا رأى ابنه قال : أي بني لأزيدن صلاتي من أجلك ، رجاء أن أحفظ فيك . ويتلو هذه الآية . ( وأخبرنا عبد الله بن حامد عن الحسين بن محمد بن الحسين البلخي عن أحمد بن الليث بن الخليل عن عمر بن محمد قال : حدّثني محمد بن الهيثم
(6/188)
" صفحة رقم 189 "
ابن عبد الله الضبيعي عن ) العباس بن محمد بن عبد الرحمن : حدّثني أبي عن يحيى بن إسماعيل بن مسلمة ابن كهيل قال : كانت لي أخت أسن منّي فاختلطت وذهب عقلها ، وتوحّشت ، وكانت في غرفة في أقصى سطوحها ، فمكثت بذلك بضع عشرة سنة ، وكانت مع ذهاب عقلها تحرص على الصلاة والطهور . فبينا أنا نائم ذات ليلة إذ باب بيتي يُدق في نصف الليل ، فقلت : من هذا ؟ قالت : بحّة . قلت : أُختي قالت : أُختك . فقلت : لبيك . وقمت ففتحت الباب ، فدخلت ولا عهد لها بالبيت منذ أكثر من عشر سنين ، فقلت لها : يا أخته خيراً ؟ قالت : خير ، أُتيت الليلة في منامي ، فقيل : السلام عليك يا بحّة ، فقلت : وعليك السلام ، فقيل : إنّ الله قد حفظ أباك إسماعيل بن سلمة بن كهيل بسلمة جدك ، وحفظك بأبيك إسماعيل ، فإن شئت دعوت الله لك فأذهب ما بك ، وإن شئت صبرت ولك الجنّة ، فإن أبا بكر وعمر قد تشفعا لك إلى الله عزّ وجلّ بحب أبيك وجدك إيّاهما . فقلت : إن كان لا بدّ من اختيار أحدهما ، فالصبر على ما أنا فيه والجنّة ، فإن الله عزّ وجلّ لواسع لخلقه لا يتعاظمه شيء ، إن يشأ يجمعهما لي فعل . قالت : فقيل لي : قد جمعهما الله عزّ وجلّ لك ورضي عن أبيك وجدك بحبهما أبا بكر وعمر ، قومي فانزلي . قال : فأذهب الله ما بها .
) فأراد ربك ( يا موسى ) أن يبلغا أشدّهما ( ، أي يدركا شدّتهما وقوّتهما . وقيل : ثماني عشرة سنة ، ) ويستخرجا كنزهما ( المكنوز تحت الجدار ، ) وما فعلته عن أمري ( برأيي ومن تلقاء نفسي ، بل فعلت عن أمر الله عزّ وجلّ . ) ذلك تأويل مالم تسطع عليه صبراً ( و ( اسطاع ) و ( استطاع ) بمعنى واحد .
( ) وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الاَْرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَىْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً قَالُواْ ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الاَْرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا قَالَ مَا مَكَّنِّى فِيهِ رَبِّى خَيْرٌ فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ءَاتُونِى زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِىأُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْبًا قَالَ هَاذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّى فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّى جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّى حَقّاً (
(6/189)
" صفحة رقم 190 "
الكهف : ( 83 ) ويسألونك عن ذي . . . . .
) ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكراً ( ، اختلفوا في نبوّته فقال بعضهم : كان نبياً . وقال الآخرون : كان ملكاً عادلاً صالحاً . ( أخبرنا أبو منصور الحمشادي : أبو عبد الله محمد بن يوسف عن ) وكيع عن العلاء بن عبد الكريم قال : سمعت مجاهداً يقول : ملك الأرض أربعة : مؤمنان ، وكافران . فأما المؤنان فسليمان وذو القرنين ، وأما الكافران فنمرود وبخت نصّر .
واختلفوا في سبب تسميته بذي القرنين ، فقال بعضهم : سُمي بذلك ، لأنه ملك الروم وفارس . وقيل : لأنه كان في رأسه شبه القرنين . وقيل : لأنه رأى في منامه كأنه أخذ بقرني الشمس فكان تأويل رؤياه أنه طاف الشرق والغرب . وقيل : لأنه دعا قومه إلى التوحيد فضربوه على قرنه الأيمن ثمّ دعاهم إلى التوحيد فضربوه على قرنه الأيسر . وقيل : لأنه كان له ذؤابتان حسناوان ، والذؤابة تسمى قرناً . وقيل : لأنه كريم الطرفين من أهل بيت شرف من قبل أبيه وأمه . وقيل : لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس ، وهو حي . وقيل : لأنه إذا كان حارب قاتل بيده وركابه جميعاً . وقيل : لأنه أُعطي علم الظاهر الباطن . وقيل : لأنه دخل النور والظلمة .
الكهف : ( 84 ) إنا مكنا له . . . . .
) إنّا مكنّا له في الأرض ( أوطأنا له في الأرض فملكها وهديناه طرقها ، ) وآتيناه من كل شيء ( يحتاج إليه الخلق . وقيل : من كل شيء يستعين به الملوك على فتح المدن ومحاربة الأعداء ) سبباً ( علماً يتسبّب به إليه . وقال الحسن : بلاغاً إلى حيث أراد . وقيل : قربنا إليه أقطار الأرض ، كما سخرنا الريح لسليمان ( عليه السلام ) .
الكهف : ( 85 ) فأتبع سببا
) فأتبع ( : سلك وسار . وقرأ أهل الكوفة : ( فأتبع ) ، ( ثمّ اتبع ) بقطع الألف وجزم الثاني : لحق ) سبباً ( ، قال ابن عباس : منزلاً ، وقال مجاهد : طريقاً بين المشرق والمغرب ، نظير قوله تعالى : ) لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات ( يعني الطرق .
الكهف : ( 86 ) حتى إذا بلغ . . . . .
) حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ( قرأ العبادلة : عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن الزبير ، والحسن ، وأبو جعفر ، وابن عامر وأيوب ، وأهل الكوفة : ( حامية ) بالألف ، أي حارة . ويدل عليه ما ( أخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد بن عبد الله بن سليمان عن عثمان بن أبي شيبة عن يزيد بن هارون عن سفيان بن الحسين عن الحكم ابن عيينة عن ) إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذرّ قال : كنت ردف النبّي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( يا أبا ذر أين تغرب هذه ؟ ) . قلت : الله ورسوله أعلم . قال : ( فإنها تغرب في عين حامية ) .
(6/190)
" صفحة رقم 191 "
وقال عبد الله بن عمرو : نظر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الشمس حين غابت فقال : ( في نار الله الحامية ، في نار الله الحامية فلولا ما يزعمها من أمر الله عزّ وجلّ لأحرقت ما على الأرض ) .
وقرأ الباقون : ) حمئة ( مهموزة بغير ألف ، يعني : ذات حمأة ، وهي الطينة السوداء . يدل عليه ما روى سعد بن أوس عن مصرع بن يحيى عن ابن عباس قال : أقرأنيها أُبيّ بن كعب كما أقرأه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) تغرب في عين حمئة ( وقال كعب : أجدها في التوراة : ( في عين سّوداء ) ، فوافق ابن عباس . أبو أسامة عن عمرو بن ميمون قال : سمعت أبا حاضر أو ابن حاضر رجل من الأزد يقول : سمعت ابن عباس يقول : إنّي لجالس عند معاوية إذ قرأ هذه الآية : ( وجدها تغرب في عين حامية ) فقلت : ما نقرؤها إلاّ ) حمئة ( . فقال معاوية لعبد الله بن عمر : وكيف تقرؤها ؟ قال : كما قرأتها يا أمير المؤمنين . قال ابن عباس : فقلت : في بيتي نزل القرآن . فأرسل معاوية إلى كعب ، فجاءه فقال : أين تجد الشمس تغرب في التوراة يا كعب ؟ قال : أما العربية فأنتم أعلم بها ، وأما الشمس فإنّي أجدها في التوراة تغرب في ماء وطين . قال : فقلت لابن عباس : لو كنت عندكما لانشدت كلاماً تزداد به نصرة في قولك : ) حمئة ( . قال ابن عباس : فإذن ما هو ؟ فقلت : قول تبع :
قد كان ذو القرنين قبلي مسلماً
ملِكاً تدين له الملوك وتسجد
بلغ المشارق والمغارب يبتغي
أسباب أمر من حكيم مرشد
فرأى معاد الشمس عند غروبها
في عين ذي خلب وثأط حرمد
قال : فقال ابن عباس : ما الخلب ؟ قلت : الطين بكلامهم . قال : فما الثأط ؟ قلت : الحمأة . قال : وما الحرمد ؟ قلت : الأسود . قال : فدعا رجلاً أو غلاماً ، فقال : اكتب ما يقول هذا . وقال أبو العالية : بلغني أن الشمس في عين ، تقذفها العين إلى المشرق .
) ووجد عندها قوماً ( ، يعني ناساً ) قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب ( : إما أن تقتلهم إن لم يدخلوا في الإسلام ) وإمّا أن تتخذ فيهم حُسناً ( ، أي تعفو وتصفح . وقيل : تأسرهم فتعلّمهم وتبصّرهم الرّشاد .
الكهف : ( 87 ) قال أما من . . . . .
) قال أما من ظلم ( ، أي كفر ) فسوف نعذبه ( : نقتله ) ثمّ يرد إلى ربه ( في الآخرة ) فيعذبه عذاباً نكراً ( : منكراً .
الكهف : ( 88 ) وأما من آمن . . . . .
) وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاءً الحُسنى ( ، قرأ أهل
(6/191)
" صفحة رقم 192 "
الكوفة ) جزاءً ( نصباً منوّناً على معنى : فله الحسنى جزاء نصب على المصدر ، وقرأ الباقون بالرفع على الإضافة . ولها وجهان : أحدهما أن يكون المراد بالحسنى : الأعمال الصالحة ، والوجه الثاني أن يكون معنى الحسنى : الجنّة ، فأُضيف الجزاء إليهما كما قال : ) ولدار الآخرة ( والدار هي الآخرة : و ) ذلك دين القيمة ( ) وسنقول له من أمرنا يسراً ( أي نلين له القول ، ونهوّن له الأمر . وقال مجاهد : ) يسراً ( أي معروفاً .
الكهف : ( 89 ) ثم أتبع سببا
) ثمّ أتبع سبباً ( ، أي سلك طريقاً ومنازل
الكهف : ( 90 ) حتى إذا بلغ . . . . .
) حتّى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً ( ، قال قتادة : لم يكن بينهم وبين الشمس ستر ؛ وذلك أنهم كانوا في مكان لا يستقر عليهم بناء ، وأنهم كانوا في شرب لهم ، حتّى إذا زالت الشمس عنهم ، خرجوا إلى معايشهم وحروثهم . وقال الحسن : كانت أرضهم أرضاً لا تحتمل البناء ، وكانوا إذا طلعت عليهم الشمس تهوّروا في الماء ، فإذا ارتفعت عليهم خرجوا فتراعوا كما تراعى البهائم . وقال ابن جريج : جاءهم جيش مرّة فقال لهم أهلها : لا تطلع عليكم الشمس وأنتم بها ، فقالوا : ما نبرح حتّى تطلع الشمس . وقالوا : ما هذه العظام ؟ قالوا : هذه جيف جيش طلعت عليهم الشمس ها هنا فماتوا . قال : فذهبوا هاربين في الأرض . قال قتادة : ويقال : إنهم الزنج . وقال الكلبي : هم تاريس وتاويل ومنسك عراة حفاة عماة عن الحق ، قال : وحدثنا عمرو بن مالك بن أُميّة قال : وجدت رجلاً بسمرقند يحدّث الناس وهم مجتمعون حوله ، فسألت بعض من سمع حديثه فأخبرني أنّه حدّثهم عن القوم الذين تطلع عليهم الشمس قال : خرجت حتّى جاوزت الصين ثمّ سألت عنهم فقيل لي : إن بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة . فاستأجرت رجلاً فسرت بقية عشيتي وليلتي حتّى صبحتهم ، فإذا أحدهم يفرش أُذنه ويلبس الأُخرى قال : وكان صاحبي يحسن لسانهم فسألهم وقال : جئنا ننظر كيف تطلع الشمس . قال : فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة فغشي عليّ فوقعت فأفقت ، وهم يمسحونني بالدهن ، فلما طلعت الشمس على الماء إذا هي على الماء كهيئة الزيت وإذا طرف السماء كهيئة الفسطاط ، فلمّا ارتفعت أدخلوني سربالهم أنا وصاحبي ، فلّما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر فجعلوا يصطادون السّمك فيطرحونه في الشمس فينضج .
الكهف : ( 91 ) كذلك وقد أحطنا . . . . .
قوله تعالى : ) كذلك ( اختلفوا فيه ، فقال بعضهم : يعني كما بلغ مغرب الشمس فكذلك بلغ مطلعها . وقيل : أتبع سبباً كما أتبع سبباً . وقيل : كما وجد ( القبيلتين ) عند مغرب الشمس
(6/192)
" صفحة رقم 193 "
وحكم فيهم ، كذلك وجد عند مطلع الشمس فحكم فيهم بحكم أولئك . وقيل : إنّ الله عزّ وجلّ لمّا قصّ عليه خبره قال : ) كذلك ( أي كذلك أمرُهم والخبر عنهم كما قصصنا عليك ، ثمّ استأنف وقال : ) وقد أحطنا بما لديه ( ، يعني عنده ومعه من الملك والجيوش والآلات ) خبراً ( : علماً .
الكهف : ( 92 - 93 ) ثم أتبع سببا
) ثمّ أتبع سبباً حتّى إذا بلغ بين السّدين ( بفتح السّين ، ابن كثير وأبو عمرو وعاصم . الباقون بالضم . قال الكسائي : هما لغتان ، وهما جبلان سدّ ذو القرنين ما بينهما حاجزاً بين يأجوج ومأجوج ومن ورائهم . قال عكرمة : ما كان صنعة بني آدم فهو سدّ بفتح السين وما كان من صنع الله عزّ وجلّ فهو السّد ، بالضم . قال ابن عباس : السدان أرمينية وآذربيجان . ) وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً ( قرأ الأعمش ويحيى بن وثّاب وحمزة والكسائي ) يفقهون ( بضم الياء ، وكسر القاف على معنى ( يُفهمون ) غيرهم ، وقرأ الباقون : ) يفقهون ( بفتح الياء والقاف ، أي ويعلمون ويفقهون قولاً .
الكهف : ( 94 - 95 ) قالوا يا ذا . . . . .
) قالوا يا ذا القرنين ( قيل : كلّمهُ عنهم قوم آخرون مترجمة ، وبيان ذلك في قراءة ابن مسعود : ( لا يكادون يفقهون قولاً ، قال الذين من دونهم يا ذا القرنين ) . وقيل : معناه : لا يكادون يفقهون خيراً من شر ، ولا ضلالاً من هدى ، ) إنّ يأجوج ومأجوج ( قرأهما عاصم والأعرج مهموزين ، الباقون بغير همزة . وهما لغتان . قالوا : وأصله من ( أجيج النّار ) ، وهو ضوؤها وشررها ، شُبّهوا به في كثرتهم وشدّتهم . قال وهب بن منبه ومقاتل بن سليمان : هم من ولد يافت ابن نوح ، وقال الضحّاك : هم جيل من الترك . وقال كعب : هم نادرة من ولد آدم من غير حوّاء ، وذلك أنّ آدم ( عليه السلام ) قال ذات يوم فاحتلم ، وامتزجت نطفته في التراب ، فلما انتبه أسف على ذلك الماء الذي خرج منه ، فخلق الله تعالى من ذلك الماء يأجوج ومأجوج ، وهم متصلون بنا من جهة الأب دون الأم .
وقوله تعالى : ) مفسدون في الأرض ( ، قال سعيد بن عبد العزيز : فسادهم في الأرض أنهم كانوا يأكلون الناس . قال الكلبي : كانوا يخرجون إلى أرضهم أيّام الربيع فلا يدعون فيها شيئاً أخضر إلاّ أكلوه ، ولا شيئاً يابساً إلاّ احتملوه فأدخلوه أرضهم ، وقد لقوا منهم أذىً شديداً وقتلاً . وقيل : معناه : أنهم سيفسدون في الأرض عند خروجهم . ( أخبرنا عبد الله بن حامد الوّزان عن عبد الله بن المبارك عن إبراهيم بن عبد الله النسوي : محمد بن المصفي : يحيى بن سعيد عن محمد بن إسحاق عن ) الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال : سألت النبّي ( صلى الله عليه وسلم ) عن يأجوج ومأجوج ، فقال : ( يأجوج أُمّة ومأجوج أُمّة ، كل أُمّة أربعمئة ألف أُمّة ، لا يموت الرجل
(6/193)
" صفحة رقم 194 "
منهم حتّى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلّهم قد حمل السلاح ) . قيل : يا رسول الله صفهم لنا . قال : ( هم ثلاثة أصناف : صنف منهم أمثال الأرز ) قيل : يا رسول الله ، وما الأُرز ؟ قال : ( شجرة بالشام طول الشجر عشرون ومئة ذراع في السماء ، وصنف منهم عرضه وطوله سواء عشرون ومئة ذراع ، وصنف منهم يفرش أذنه ويلتحف بالأُخرى ، لا يمرّون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلاّ أكلوه ومن مات منهم أكلوه . مقدّمهم بالشام وساقتهم بخراسان ، ويشربون أنهار المشرق وبحيرة الطبرية ) .
قال وهب بن منبه : كان ذو القرنين رجلاً من الروم ، ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره ، وكان اسمه الإسكندر ، فلمّا بلغ وكان عبداً صالحاً ، قال الله تعالى : ( يا ذا القرنين إني باعثك إلى أُمم الأرض ، وهي أُمم مختلفة ألسنتهم ، وهم جميع أهل الأرض ، ومنهم أُمتان بينهما عرض الأرض كلّه وأمم وسط الأرض منهم الجّن والإنس ويأجوج ومأجوج . وأما اللتان بينهما طول الأرض ، فأُمّة عند مغرب الشمس يقال لها ناسك ، وأمّا الأخرى فعند مطلعها يقال لها منسك ، وأمّا اللتان بينهما عرض الأرض فأُمّة في قطر الأرض الأيمن يُقال لها : هاويل ، والأخرى في قطر الأرض الأيسر يُقال لها : تاويل ) . فلمّا قال الله تعالى له ذلك ، قال ذو القرنين . ( يا إلهي إنّك قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره إلاّ أنت ، فأخبرني عن هذه الأمم التي بعثتني إليها بأي قوّة اُكابرهم ؟ وبأي جمع وبأي حيلة أُكاثرهم ؟ وبأي صبر أُواسيهم ؟ وبأي لسان أُناطقهم ؟ وكيف لي بأن أفقه لغاتهم ؟ وبأي سمع أسمع أقوالهم ؟ وبأي بصر أنقدهم ؟ وبأي حجة أُخاصمهم ؟ وبأي عقل أعقل عنهم ؟ وبأي حكمة أُدبر أمرهم ؟ وبأي قسط أعدل بينهم ؟ وبأي حلم أُصابرهم ؟ وبأي معرفة أفصل بينهم ؟ وبأي علم أُتقن أُمورهم ؟ وبأي يد أسطو عليهم ؟ وبأي رجل أطؤهم ؟ وبأي طاقة أُحصيهم ؟ وبأي جند أُقاتلهم ؟ وبأي رفق أتألّفهم ؟ وليس عندي يا إلهي شيء مما ذكرت يقوم بهم ولا يقوى عليهم ولا يطيقهم ، وأنت الرؤوف الرحيم لا تكلّف نفساً إلاّ وسعها ، ولا تحملها إلاّ طاقتها ، ولا تشقيها بل أنت ترحمها ) . قال الله تعالى : ( إنّي سأُطوقك ما حمّلتك : أشرح لك صدرك فتسمع كل شيء ، وأشرح لك فهمك فتفهم كلّ شيء ، وأبسط لك لسانك فتنطق بكلّ شيء ، وأفتح لك سمعك فتعي كلّ شيء ، وأمدّ لك بصرك فتنقد كلّ شيء ، وأُحصي لك فلا يفوتك شيء ، وأشدّ لك عضدك فلا يهولك شيء ، وأشدّ لك ركنك فلا يغلبك شيء ، وأشد لك قلبك فلا يفزعك شيء ، وأحفظ عليك فلا يعزب عنك شيء ، وأبسط لك من بين يديك فتسطو فوق كلّ شيء ، وأشدّ لك وطأتك فتهدّ كل شيء ، وأُلبسك الهيبة فلا يروعك
(6/194)
" صفحة رقم 195 "
شيء ، وأُسخّر لك النور والظّلمة فأجعلهما جنداً من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك ) .
فلمّا قيل له ذلك انطلق يؤمُّ الأُمم التي عند مغرب الشمس فلما بلغهم وجد جمعاً وعدداً لا يحصيهم إلاّ الله عزّ وجلّ ، وقوّة وبأساً لا يطيقهم إلاّ الله ، وألسنة مختلفة ، وأهواء متشتتة ، فلمّا رأى ذلك كابرهم بالظلمة ، فضرب حولهم ثلاثة عساكر منها فأحاط بهم في كلّ مكان حتّى جمعتهم في مكان واحد ثمّ أخذ عليهم بالنّور فدعاهم إلى الله عزّ وجلّ وعبادته فمنهم من آمن ومنهم من صدّ عنه ، فعمد إلى الذين تولّوا عنه فأدخل عليهم الظلمة فدخلت في أفواههم وآذانهم وأنوفهم وأجوافهم ، ودخلت في بيوتهم ودورهم ، وغشيهم من فوقهم ومن تحتهم ومن كلّ جانب فماجوا فيه وتحيّروا ، فلمّا أشفقوا أن يهلكوا فيها عجّوا إليه بصوت واحد ، فكشفها عنهم ، وأخذهم عنوة ، فدخلوا في دعوته ، فجنّد من أهل المغرب أُمماً عظيمة ، فجعلهم جنداً واحداً . ثمّ انطلق بهم يقودهم والظلمة تسوقهم وتحرسهم من خلفهم ، والنور أمامهم يقودهم ويدلّه ، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى وهو يريد الأُمة التي في قطر الأرض الأيمن التي يُقال لها هاويل ، وسخّر الله عزّ وجلّ له يده وقلبه وعقله ورأيه ونظره فلا يخطئ إذا عمل عملاً .
فانطلق يقود تلك الأُمم وهي تتبعه ، فإذا انتهى إلى بحر أو مخاصة بنى سفناً من ألواح صغار أمثال البغال ، فنظمها في ساعة ثمّ حمل فيها جميع من معه من تلك الأمم والجنود ، فإذا قطع الأنهار والبحار فتقها ، ثمّ دفع إلى كل رجل منهم لوحاً فلا يثقله حمله ، فلم يزل ذلك دأبه حتّى انتهى إلى هاويل فعمل فيه كفعله في ناسك . فلّما خرج منها مضى على وجهه في ناحية الأرض اليمنى حتّى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس فعمل فيها وجنّد منها جنوداً كفعله في الأُمتين اللتين قبلها .
ثمّ كرّ مقبلاً حتى أخذ ناحية الأرض اليسرى وهو يريد تاويل وهي الأمة التي بحيال هاويل ، وهما متقابلتان بينهما عرض الأرض كلّه فلمّا بلغها عمل فيها وجنّد منها كعمله فيما قبلها .
فلمّا فرغ منها عطف منها إلى الأُمم التي في وسط الأرض من الجّن والإنس ويأجوج ومأجوج ، فلما كان في بعض الطريق ممّا يلي منقطع الترك نحو المشرق قالت له أُمّة صالحة من الإنس : يا ذا القرنين إنّ بين هذين الجبلين خلقاً من خلق الله تعالى ليس فيهم مشابه الإنس ، وفيهم أشباه البهائم يأكلون العشب ويفترسون الدّواب والوحش كما يفترسها السّباع ، ويأكلون ( حشرات ) الأرض كلها من الحيات والبهائم والعقارب وكلّ ذي روح ممّا خلق الله ، فليس
(6/195)
" صفحة رقم 196 "
لله تعالى خلق ينمي نماهم في العالم الواحد ولا يزدادون كزيادتهم . فإن أتت مدّة على ما ترى من زيادتهم ونمائهم فلا شك أنهم سيملؤون الأرض ويجلون أهلها منها ويظهرون عليها فيفسدون فيها . وليست تمر بنا سنة منذ جاورناهم إلاّ ونحن نتوقعهم أن يطلع علينا أوّلهم من بين هذين الجبلين ، ) فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سّداً قال ما مكنّي فيه ربي خيرٌ فأعينوني بقوّة أجعل بينكم وبينهم ردماً ( : أعدّوا لي الصخور والحديد والنحاس حتّى أرتاد بلادهم ، وأعلم علمهم ، وأقيس ما بين جبليهم .
ثمّ انطلق يؤمّهم حتّى دفع إليهم وتوسط بلادهم فوجدهم على مقدار واحد ، ذكرهم وأنثاهم ، يبلغ طول الواحد منهم مثل نصف الرّجل المربوع منّا . قال علي بن أبي طالب : ( منهم من طوله شبر ومنهم من هو مفرط في الطول ، لهم مخالب في ( موضع ) الأظفار من بين أيدينا وأنياب وأضراس كأضراس السّباع وأنيابها يسمع لها حركة إذا أكلوا كحركة الجرّة من الإبل وكقضم البغل المسن أو الفرس القوي ، ولهم هلب من الشعر في أجسادهم ما يواريهم وما يتّقون به من الحر والبرد إذا أصابهم . ولكّل واحد منهم أُذنان عظيمتان أحدهما وبرة والأخرى زغبة يلتحف إحداهما ويفترش الأخرى ، ويصيف في إحداهما ويشتو في الأُخرى وليس منهم ذكر ولا أُنثى إلاّ وقد عرف أجله الذي يموت فيه ، ومنقطع عمره وذلك أنه لا يموت ميّت من ذكورهم حتّى يخرج من صلبه ألف ولد ، ولا تموت أُنثى حتّى يخرج من رحمها ألف ولد . فإذا كان ذلك أيقن الموت . وهم يرزقون السينان أيام الربيع كما يستمطر الغيث لحينه فيقذفون منه كلّ سنّة واحداً فيأكلونه عامهم كله إلى مثلها من القابل فيعمهم على كثرتهم ، وهم يتداعون تداعي الحمام ، ويعوون عواء الذئاب ، ويتسافدون تسافد البهائم حيث التقوا ) .
فلمّا عاين منهم ذلك ذو القرنين انصرف إلى ما بين الصدفين فقاس ما بينهما ، وهو في منقطع أرض الترك ممّا يلي مشرق الشمس فوجد بعد ما بينهما مئة فرسخ ، فلمّا أنشأ في عمله حفر له الأساس حتّى بلغ الماء ، ثمّ جعل عرضه خمسين فرسخاً . وجعل حشوه الصخر ، وطينه النحاس يُذاب ثمّ يُصب عليه فصار كأنه عرق من جبل تحت الأرض ثمّ علاّه وشرّفه بزبر الحديد والنحاس المذاب وجعل خلاله عرقاً من نحاس أصفر ، فصار كأنه برد محبّر من صفرة النحاس وحمرته في سواد الحديد .
فلما فرغ منه وأحكمه انطلق عامداً إلى جماعة الإنس ، فبينا هو يسير إذ دفع إلى أُمّة صالحة يهدون بالحق وبه يعدلون ، فوجد أُمة مقسطة مقتصدة يقيمون بالسّوية ، ويحكمون بالعدل
(6/196)
" صفحة رقم 197 "
ويتراحمون ، حالتهم واحدة وكلمتهم واحدة ، وأخلاقهم مشتبهة وطريقتهم مستقيمة ، وقلوبهم متآلفة ، وسيرتهم مستوية ، وقبورهم بأبواب بيوتهم ، وليس على بيوتهم أبواب ، وليس عليهم أُمراء ، وليس بينهم قضاة ، ولا بينهم أغنياء ولا ملوك ولا أشراف ، ولا يختلفون ولا يتفاضلون ، ولا يتنازعون ، ولا يستبّون ، ولا يقتلون ، ولا يضحكون ، ولا يحردون ولا تصيبهم الآفات التي تصيب النّاس ، وهم أطول الناس أعماراً ، وليس فيهم مسكين ولا فقير ، ولا فظ ولا غليظ . فلما رأى ذلك من أمرهم عجب وقال : ( أخبروني أيّها القوم خبركم ، فإنّي قد أحصيت الأرض كلّها ؛ برّها وبحرها ، وشرقها وغربها ، فلم أرَ أحداً مثلكم ، فخبروني خبركم ) . قالوا نعم : فسلنا عمّا تريد . قال : ( خبروني ما بال قبوركم على أبواب بيوتكم ؟ ) . قالوا : عمداً فعلنا ذلك ، لئلا ننسى الموت ، ولا يخرج ذكره من قلوبنا .
قال : ( فما بال بيوتكم ليس عليها أبواب ؟ ) . قالوا : ليس فينا متّهم ، وليس فينا إلاّ أمين مؤتمن .
(6/197)
" صفحة رقم 198 "
قال : ( فما بالكم ليس عليكم أمير ؟ ) . قالوا : لا حاجة لنا إلى ذلك .
قال : ( فما بالكم ليس فيكم حكّام ؟ ) . قالوا : لا نختصم .
قال : ( فما بالكم ليس فيكم أغنياء ؟ ) . قالوا : لا نتكاثر .
قال : ( فما بالكم ليس فيكم ملوك ؟ ) . قالوا : لا نفتخر .
قال : ( فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون ؟ ) . قالوا : مِن أُلفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا .
قال : ( فما بالكم لا تقتتلون ؟ ) . قالوا : من أجل أنّا شُبنا أنفسنا بالأحلام .
قال : ( فما بال كلمتكم واحدة ، وطريقتكم مستقيمة ؟ ) . قالوا : من قبل أنا لا نتكاثر ، ولا نتخادع ، ولا يغتال بعضنا بعضاً .
قال : ( فأخبروني من أين تشابهت قلوبكم ، واعتدلت سيرتكم ؟ ) . قالوا : صحت صدورنا فنُزع بذلك الغل والحسد من قلوبنا .
قال : ( فما بالكم ليس فيكم مسكين ولا فقير ؟ ) . قالوا : من أجل أنا نقسم بالسوية .
قال : ( فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ ؟ ) . قالوا : من قبل الذل والتواضع .
قال : ( فما جعلكم أطول النّاس أعماراً ؟ ) . قالوا : من قبل أنا نتعاطى الحقّ ، ونحكم بالعدل .
قال : ( فما بالكم لا تضحكون ؟ ) . قالوا : لا نغفل عن الاستغفار .
قال : ( فما بالكم لا تحزنون ولا تحردون ؟ ) . قالوا : من قبل أنّا وطّنّا أنفسنا للبلاء مذ كنّا ، وأحببناه وحرصنا عليه .
قال : ( فما بالكم لا يصيبكم الآفات كما يصيب النّاس ؟ ) . قالوا : لأنّا لا نتوكل على غير الله ، ولا نعمل الأنواء والنجوم .
قال : ( وهكذا وجدتم آباءكم يفعلون ؟ ) . قالوا : نعم : وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم ، ويواسون فقراءهم ، ويعفون عمّن ظلمهم ، ويحسنون إلى من أساء إليهم ، ويحلمون عمّن جهل عليهم ، ويصلون أرحامهم ، ويؤدون أمانتهم ، ويحفظون وقت صلاتهم ، ويوفون بعهدهم ، ويصدقون في مواعيدهم ، فأصلح الله عزّ وجلّ بذلك أمرهم ، وحفظهم ما كانوا أحياء . وكان حقاً على الله أن يخلفهم في ذريتهم .
وروى قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة أن النبّي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن يأجوج ومأجوج يحفرونه كلّ يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فتحفرونه غداً . فيعيده الله عزّ وجلّ كأشدّ ما كان . حتّى إذابلغت مدتهم حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه إن شاء الله غداً ، فيعود إليه وهو كهيئته حين تركوه ، فيحفرونه فيخرجون على النّاس فيتبعون المياه ، ويتحصن النّاس في حصونهم ، فيرمون بسهامهم إلى السماء فيرجع فيها كهيئة الدم ، فيقولون : قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء . فيبعث الله عزّ وجلّ نغفاً عليهم في أقفائهم فيقتلونهم ) . قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( والذي نفسي بيده إنّ دواب الأرض لتسمن وتسكر سكراً من لحومهم ) .
وروى محمود بن قتادة عن أبي سعيد الخدري أنه قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون كما قال الله عزّ وجلّ : ) وهم من كل حدب ينسلون ( فيغشون الأرض وينحاز المسلمون عنهم إلى حصونهم ومدائنهم حتى إن أولهم يمرون بالنهر من أنهار الأرض ) قال أبو الهيثم : الدجلة ( فيشربون حتى يصير يابسة ، فيمر به الذين من بعدهم فيقولون : لقد كان بهذا المكان ماء مرّة ، حتى إذا ظهروا على أهل الأرض قالوا : هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم ، وبقي أهل السماء ) .
قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( فيهزّ أحدهم حربته ثمّ يقذفها إلى السماء فترجع إليه مختضبة دماً للفتنة . فبينا
(6/198)
" صفحة رقم 199 "
هم كذلك إذ يبعث الله عزّ وجلّ عليهم دوداً كنغف الجراد فيموتون موت الجراد ، فيصبح المسلمون لا يسمعون لهم حساً ، فيقولون : هل من رجل يشتري لنا نفسه فينظر ما فعل هؤلاء القوم ؟ فينزل رجل منهم قد أيقن أنه مقتول ، فيجدهم موتى بعضهم على بعض فينادي أصحابه : أبشروا ، فقد كفاكم الله عزّ وجلّ عدوّكم . فيخرج المسلمون فيرسلون مواشيهم فيهم فما يكون لها رعىً غير لحومهم وتكثر عليه كأحسن ما تكثر على شيء من النبات أصابته قط ) .
قال وهب : إنهم كانوا يأتون البحر فيشربون ماءها ، ويأكلون دوابّها ، ثمّ يأكلون الخشب والشجر ومن ظفروا به من النّاس ، ولا يقدرون أن يأتوا مكّة ولا المدينة ولا بيت المقدس .
في قوله تعالى : ) فهل نجعل لك خرجاً ( قرأ أهل الكوفة : ( خراجاً ) بالألف . الباقون بغير ألف ، وهما لغتان ، بمعنى واحد . وقال أبو عمرو بن العلاء : الخرج : ما تبرّعت به ، والخراج : ما لزمك أداؤه . ) على أن تجعل بيننا وبينهم سدّاً ( : حاجزاً فلا يصلون إلينا ؟ ) قال ( لهم ذو القرنين : ) ما مكّنّي ( على الإدغام . وقرأ أهل مكة : ( ما مكنني ) بنونين بالإظهار ) فيه ربّي ( وقوّاني عليه ) خير ( ، ولكن ) أعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً ( : حاجزاً كالحائط والسدّ . قالوا : وما تلك القوّة ؟ قال : ( فعلة وصنّاع يحسنون البناء والعمل والآلة ) . قالوا : وما تلك الآلة ؟ قال :
الكهف : ( 96 ) آتوني زبر الحديد . . . . .
) آتوني زبر الحديد ( يعني : أعطوني قطع الحديد ، واحدتها زبرة ، فأتوه بها ، فبناه ) حتى إذا ساوى بين الصدفين ( ، وروى مسلم بن خالد عن سعيد بن أبي صالح قال : بلغنا أنه وضع الحطب بين الجبلين ، ثمّ نسج عليه الحديد ، ثمّ نسج الحطب على الحديد ، فلم يزل يجعل الحطب على الحديد والحديد على الحطب ) حتى إذا ساوى بين الصدفين ( ، وهما الجبلان بضمّ الصاد والدال ، وفتحهما وأمر بالنّار فأُرسلت فيه ، ثمّ ) قال انفخوا ( ، ثمّ جعل يفرغ القطر عليه ، فذلك قوله تعالى : ) آتوني أُفرغ ( : أصب عليه ) قِطراً ( ، وهو النحاس المذاب . قال : فجعلت النّار تأكل الحطب ويصب النحاس مكان الحطب حتى لزم الحديد النحاس .
الكهف : ( 97 ) فما اسطاعوا أن . . . . .
) فما اسطاعوا أن يظهروه ( ويعلوه من فوقه ، ) وما استطاعوا له نقباً ( من أسفله . قال قتادة ذُكر لنا أن رجلاً قال : يا نبيّ الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج . قال : ( انعته لي ) . قال : كالبرد المحبّر ؛ طريقة سوداء وطريقة حمراء . قال : ( قد رأيته ) .
الكهف : ( 98 ) قال هذا رحمة . . . . .
) قال ( ذو القرنين لمّا فرغ من بنائه يعني هذا السّد : ) هذا ( السّد ) رحمة ( : نعمة ) من ربّي ( ؛ فلذلك لم يقل : هذه . ) فإذا جاء وعد ربّي جعله دكّاء ( ملتزقة مستوية بالأرض من قولهم : ناقة دكّاء أي مستوية الظهر لا سنام لها . ومن قرأ : ( دكّاً ) بلا مدّ فمعناه : مدكوك يومئذ ، ) وكان وعد ربّي حقاً ( .
(6/199)
" صفحة رقم 200 "
2 ( ) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِى بَعْضٍ وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِى غِطَآءٍ عَن ذِكْرِى وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِى مِن دُونِىأَوْلِيَآءَ إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالاَْخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُوْلَائِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَاتَّخَذُواْ ءَايَاتِى وَرُسُلِى هُزُواً إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا ( 2
الكهف : ( 99 ) وتركنا بعضهم يومئذ . . . . .
) وتركنا بعضهم ( ، يعني الخلق ) يومئذ يموج ( : يدخل ) في بعض ( ويختلط إنسهم بجنّهم حيارى ، ) ونفخ في الصور فجمعناهم جمعاً ( في صعيد واحد ،
الكهف : ( 100 ) وعرضنا جهنم يومئذ . . . . .
) وعرضنا ( : وأبرزنا ) جهنّم يومئذ ( ، يعني يوم القيامة ) للكافرين عرضاً ( .
الكهف : ( 101 ) الذين كانت أعينهم . . . . .
ثمّ وصفهم فقال : ) الذين كانت أعينهم في غطاء ( : غشاوة وغفلة ) عن ذكري ( ، يعني : الإيمان والقرآن ) وكانوا لا يستطيعون سمعاً ( ، أي لا يطيقون أن يسمعوا كتاب الله عزّ وجلّ ويتدبّروه ويؤمنوا به لغلبة الشقاء عليهم . وقيل : لعداوتهم النبي ( صلى الله عليه وسلم )
الكهف : ( 102 ) أفحسب الذين كفروا . . . . .
) أفحسب ( : أفظنّ . وقرأ عكرمة ومجاهد وعلي : ( أفحسْبُ ) ، أي كفاهم ذلك ) الذين كفروا أن يتّخذوا عبادي ( ، يعني عيسى والملائكة ) من دوني أولياء ( ؟ كلاّ بل هم لهم أعداء ويتبرؤون منهم . قال ابن عباس : يعني : الشياطين ، تولوهم وأطاعوهم من دون الله . وقال مقاتل : يعني : الأصنام ، وسمّاهم عباداً كما قال في موضع آخر : ) إنّ الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ( .
) إنّا أعتدنا جهنّم للكافرين نُزُلاً (
الكهف : ( 103 ) قل هل ننبئكم . . . . .
) قل هل ننبئُكم بالأخسرين أعمالاً ( يعني الذين أتعبوا أنفسهم في عمل يبتغون به ربحاً ، فنالوا به هلاكاً وعطباً ، ولم يدركوا ما طلبوا ، كالمشتري سلعة يرجو بها فضلاً وربحاً ، فخاب رجاؤه وخسر بيعه . واختلفوا في الذين عُنوا بذلك فقال علي بن أبي طالب : ( هم الرهبان والقسوس الذين حبسوا أنفسهم في الصوامع ) .
وقال سعد بن أبي وقّاص وابن عباس : هم اليهود والنصارى ، نظيره : ) عاملة ناصبة
(6/200)
" صفحة رقم 201 "
تصلى ناراً حامية ( . وروى سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي الطفيل قال : سأل عبد الله بن الكوّا علياً عن قوله : ) هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً ( ، قال : ( أنتم يا أهل حروراء ) .
الكهف : ( 104 ) الذين ضل سعيهم . . . . .
) الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعاً ( ، أي يظنون أنهم بفعلهم مطيعون محسنون
الكهف : ( 105 ) أولئك الذين كفروا . . . . .
) أولئك الذين كفروا بآيات ربّهم ولقائه فحبطت ( : بطلت وذهبت ) أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً ( ، قال أبو سعيد الخدري : يأتي أُناس بأعمال يوم القيامة هي في العظم عندهم كجبال تهامة ، فإذا وزنوها لم تزن شيئاً ، فذلك قوله : ) فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً ( .
( حدثنا القاضي أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن حبيب إملاءً : أبو بكر أحمد بن إسحاق ابن أيّوب عن محمد بن إبراهيم : يحيى بن بكير بن المغيرة عن أبي الزيّاد عن ) الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( يأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن جناح بعوضة ، اقرؤوا : ) فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً ( ) .
( أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان عن مكي بن عبدان عن عبد الرحمن بن بشر عن مروان ابن معاوية عن ) المغيرة بن مسلم عن سعيد بن عمرو بن عثمان قال : سمعت عثمان بن عفّان ( ح ) يقول : الربا سبعون باباً أهونهن مثل نكاح الرجل أُمه . قال : وأربى الربى عرض أخيك المسلم تشتمه . قال : ويؤتى يوم القيامة بالعظيم الطويل الأكول الشروب الذي يشرب الظرف في المجلس فيوزن فلا يعدل جناح بعوضة ، خاب ذلك وخسر ، ثمّ تلا هذه الآية : ) فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا 2 )
الكهف : ( 106 ) ذلك جزاؤهم جهنم . . . . .
) ذلك جزاؤهم جهنّم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هُزُواً ( ، يعني سخرية .
الكهف : ( 107 ) إن الذين آمنوا . . . . .
) إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنّات الفردوس نُزُلاً ( اختلفوا في الفردوس ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الجنّة مئة درجة ، ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض . أعلاها الفردوس ، ومنها تفجر أنهار الجنة ، وفوقها عرش الرحمن فسلوه الفردوس ) .
( وأخبرنا عبد الله بن حامد عن مكّي بن عبدان عن مسلم بن الحجاج عن نصر بن علي
(6/201)
" صفحة رقم 202 "
وإسحاق بن إبراهيم وأبي غسان واللفظ له قالوا : قال أبو عبد الصمد : قال ) عمران الجويني عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه عن النبّي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( جنّات الفردوس أربع : جنتان من ذهب أبنيتهما ومافيهما ، وجنتان من فضّة أبنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلاّ رداء الكبرياء على وجهه ) .
وقال شهر : خلق الله جنّة الفردوس بيده فهو يفتحها في كل يوم خميس فيقول : ازدادي حسناً وطيباً لأوليائي . وقال قتادة : الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها وأرفعها . وقال أبو أُمامة : الفردوس سرة الجنّة . وقال كعب : ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر . وقال مجاهد : هو البستان بالرومية . وقال كعب : هو البستان فيه الأعناب . وقال الضحاك : هي الجنّة الملتفة الأشجار . وقيل : هي الروضة المستحسنة . وقيل : هي الأودية التي تنبت ضروباً من النبات ، وجمعها فراديس : وقال أُمية :
كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة
فيها الفراديس والفومان والبصل
الكهف : ( 108 ) خالدين فيها لا . . . . .
) خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً ( أي يطلبون عنها تحولاً إلى غيرها ، وهو مصدر مثل الصعَر والعِوج . قال مخلد بن الحسين : سمعت بعض أصحاب أنس قال : يقول أولهم دخولاً : إنما أدخلني الله أولهم ؛ لأنه ليس أحد أفضل منّي . ويقول آخرهم دخولاً : إنما أخّرني الله ، لأنه ليس أحد أعطاه مثل الذي أعطاني .
الكهف : ( 109 ) قل لو كان . . . . .
) قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربّي ( الآية ، قال ابن عباس : قالت اليهود : يا محمد تزعم أنا قد أوتينا الحكمة ، وفي كتابك : ) ومن يؤت الحكمة فقد أُوتي خيراً كثيراً ( ثمّ يقول : ) وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً ( فكيف يكون هذا ؟ فأنزل الله تعالى ) قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربّي لنفد البحر ( أي ماؤه ) قبل أن تنفد كلمات ربّي ( حكمه وعجائبه . وقرأ أهل الكوفة ( قبل أن ينفد ) بالياء ؛ لتقدم الفعل ، ) ولو جئنا بمثله مدداً ( : عوناً وزيادة . وفي مصحف أُبي : ( ولو جئنا بمثله مداداً ) ونظيرها قوله عزّ وجلّ ) ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ( الآية .
الكهف : ( 110 ) قل إنما أنا . . . . .
) قل إنّما أنا بَشَرٌ مثلكم ( قال ابن عباس : نزلت في جندب بن زهير العامري ، وذلك أنه
(6/202)
" صفحة رقم 203 "
قال للنبّي ( صلى الله عليه وسلم ) إنّي أعمل لله ، فإذا اطّلع عليه سرنّي . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله تعالى طيّب لا يقبل إلاّ الطيب ولا يقبل ما شورك فيه ) ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال أنس : قال رجل : يانبي الله ، إنّي أُحب الجهاد في سبيل الله ، وأُحب أن يُرى مكاني ، فأنزل الله : ) قل ( يا محمد : ) إنما أنا بشر مثلكم ( : خلق آدمي مثلكم . قال ابن عباس : علّم الله رسوله التواضع لئلا يزهو على خلقه ، ) يوحى إليّ أنما إلهكم إلهٌ واحد ( لا شريك له ) فمن كان يرجو لقاء ربّه ( : المصير إليه . وقيل : معناه يأمل رؤية ربّه ، فالرجاء يتضمّن معنيين : الخوف والأمل ، قال الشاعر :
فلا كل ما ترجو من الخير كائن
ولا كل ما ترجو من الشر واقع
فجمع المعنيين في بيت واحد .
) فليعمل عملاً صالحاً ( : خالصاً ) ولا يشرك بعبادة ربّه أحداً ( ، أي ولا يراءِ . قال شهر ابن حوشب : جاء رجل إلى عبادة بن الصامت ، فقال : أرأيت رجلاً يصلي يبتغي وجه الله عزّ وجلّ ويحب أن يحمد عليه ، ويصوم يبتغي وجه الله عزّ وجلّ ويحب أن يحمد ، ويتصدّق يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد عليه ، ويحجّ يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد عليه ؟ فقال عبادة : ليس له شيء ، إن الله عزّ وجلّ يقول : ( أنا خير شريك ، فمن كان له معي شريك فهو له كله ولا حاجة لي منه ) . ( أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن عبد الله الجوهري عن حامد بن شعيب البجلي عن شريح بن يونس عن إسماعيل بن جعفر قال : أخبرني العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اتقوا الشرك الأصغر ) . قالوا : وما الشرك الأصغر ؟ قال : ( الرياء يوم يجازي الله النّاس بأعمالهم ) .
أخبرنا عبد الله بن حامد عن مكّي بن عبدان عن عبد الله بن هاشم عن عبد الرحمن عن ) سفيان عن سلمة قال : سمعت جندباً قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سمّع سمّع الله به ، ومن يراءِ يراءِ الله به ) .
وروى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن النبّي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( اتقوا الشرك الأصغر ) . قالوا : وما الشرك الأصغر ؟ قال : ( الرياء يوم يجازي الله الناس بأعمالهم ) .
(6/203)
" صفحة رقم 204 "
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لمّا نزلت هذه الآية : ( إنّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الخفيّ ، وإيّاكم وشرك السرائر فإن الشرك أخفى في أُمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء . ومن صلى يرائي فقد أشرك ، ومن صام يرائي فقد أشرك ، ومن تصدّق يرائي فقد أشرك ) .
قال : فشقّ ذلك على القوم ، فقال رسول الله : ( أولا أدلّكم على ما يُذهب عنكم صغير الشرك وكبيره ؟ ) . قالوا : بلى يا رسول الله . قال : قولوا : ( اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك لما لا أعلم ) .
وقال عمرو بن قيس الكندي : سمعت معاوية بن أبي سفيان على المنبر تلا هذه الآية ، ) فمن كان يرجو لقاء ربه ( الآية ، فقال : إنها آخر آية نزلت من القرآن . وروى سعيد بن المسيب عن عمر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أوحي إلّي أن من قرأ : ) فمن كان يرجو لقاء ربه ( الآية رفع له نور ما بين عدن أبين إلى مكة حشوه الملائكة ) .
( وأخبرني محمد بن القاسم عن محمد بن زيد قال : أبو يحيى البزاز عن أحمد بن يوسف عن محمد بن العلا عن زياد بن قايد عن ) سهل بن معاذ عن أبيه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نوراً من قرنه إلى قدمه ، ومن قرأها كلّها كانت له نوراً من الأرض إلى السماء ) .
(6/204)
" صفحة رقم 205 "
( سورة مريم )
مريم مكيّة كلّها ، وهي ثمان وتسعون آية ، تسع تسعون حجازي ، وسبعمائة واثنتان وستّون كلمة ، وثلاثة ألآف وثمانمائة حرف وحرفان
أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن الحسن المقري غير مرّة ، قال أبو بكر أحمد بن إبراهيم وأبو الشيخ عبد الله بن محمد قالا : قال أبو إسحاق إبراهيم بن شريك ، عن أحمد بن يونس اليربوعي ، عن سلام بن سليم المدائني ، عن عمرو بن كثير ، عن يزيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن أبي أمامة عن أُبي بن كعب ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة مريم أُعطي من الأجر حسنات بعدد من صدّق بزكريّا وكذب به ، ويحيى ومريم وعيسى وموسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل عشر حسنات ، وبعدد من دعا لله ولداً ، وبعدد من لم يدع له ولداً ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
2 ( ) كهيعص ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً قَالَ رَبِّ إِنِّى وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّى وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِىَ مِن وَرَآئِى وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا فَهَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً يازَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً قَالَ كَذاَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً قَالَ رَبِّ اجْعَل لِىءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً يايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَواةً وَكَانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً ( 2
مريم : ( 1 ) كهيعص
قوله عزّ وجلّ ) كَهيعَصَ ( قرأ أبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء ، ضدّه شامي وحمزة وخلف ، بكسرهما ، والكسائي ، بفتحهما ، ابن كثير وعاصم ويعقوب ، واختلفوا في معناها .
فقال ابن عباس : هو اسم من أسماء الله عزّ وجلّ ، وقيل : إنّه اسم الله الأعظم ، وقال قتادة : هو اسم من اسماء القرآن ، وقيل : هو اسم السورة ، وقال عليّ بن أبي طالب وابن عباس : هو قَسم أقسم الله تعالى به ، وقال الكلبي : هو ثناء أثنى الله عزّ وجلّ به ( على ) نفسه .
(6/205)
" صفحة رقم 206 "
أخبرنا عبد الله بن حامد عن حامدُ بن محمد ، قال أبو عبد الله محمد بن زياد القوقسي ، قال أبو عمّار عن جرير ، عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فى قوله عزّ وجلّ ) كَهيعَصَ ( قال : الكاف من كريم ، والهاء من هاد ، والياء من رحيم والعين من عليم وعظيم ، والصاد من صادق ، وقال الكلبي أيضاً : معناه : كاف لخلقه ، هاد لعباده ، يده فوق أيديهم ، عالم ببريته ، صادق في وعده
مريم : ( 2 ) ذكر رحمة ربك . . . . .
) ذكر ( رُفِع بكهيعص وإن شئت قلت : هذا ذكر رَحمة رَبّكَ عَبْدَهُ زَكريا ، وفيه تقديم وتأخير ، معناه ذكر ربك عبده زكريا برحمته وزكريا في موضع نصب .
وقرأ بعضهم عبده زكريّا بالرفع على أنّ الفعل له
مريم : ( 3 ) إذ نادى ربه . . . . .
) إذ نادى ( دعا رَبّهُ فى محرابه حيث يقرب القربان نداءً خفيّاً دعاء سرّاً من قومه فى جوف الليل ، مخلصاً فيه لم يطلع عليه أحد إّلا الله عزّ وجلّ قال
مريم : ( 4 ) قال رب إني . . . . .
) رَبِ إنّي وهن ( ضعف ) العَظْمُ مِنّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ( شمطاً ، يقول : شخت وضعفت ، ومن الموت قربت ولم أكن بدعائك ربِّ شقياً يقول : يا رب عوّدتني الإجابة فيما كنت تجيبني إذا دعوتك ولا تخيّبني .
مريم : ( 5 ) وإني خفت الموالي . . . . .
قوله ) وَإنّي خِفْتُ المَواِلىَ مِن وَرائي ( قرأ عثمان ويحيى بن يعمر ، ( خفت ) بفتح الخاء والفاء وكسر التاء مشدّدا الموالي بسكون الياء بمعنى ذهب الموالي وقلّت ، الباقون : ( خفت ) بكسر الخاء وضم التاء من الخوف ، الموالي نصباً ، خاف أن يرثه غير الولد ، وقيل : خاف عليهم تبديل دين الله عزّ وجلّ وتغيير أحكامه وأن لا يحسنوا الخلافة له على أُمّته ، فسأل ربّه ولداً صالحاً يأمنه على أُمّته ، والموالي بنو العمّ وقيل : الاولي والولي والمولى في كلام العرب واحد ، وقال مجاهد : العصبة ، وقال أبو صالح : الكلالة ، وقال الكلبي : الورثة من ورائي من بعد موتي ) وَكانَتِ امْرأتِي عَاقِراً ( لا تلد ) فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ( أعطني من عندك ) وَليّاً ( ابناً
مريم : ( 6 ) يرثني ويرث من . . . . .
) يَرِثُنِي وَيَرِثُ ( وقرأ يحيى بن يعمر ويحيى بن وثاب والأعمش وأبو عمرو والكسائي بالجزم فيهما على جواب الدّعاء ، وقرأ الباقون بالرفع على الحال والصفة ، أي وليّاً وارثاً ، وقرأ ابن عبّاس ويحيى بن يعمر : يرثني ، وأرث مِنْ آلِ يَعْقُوَب النبّوة ، يعني يرث النبوّة والعلم ، وقال الحسن : معناه يرثني مالي ويرث من آل يعقوب النبوّة والحبورة ، وقال الكلبي : هو يعقوب بن ماثان اخو زكريا وليس يعقوب أب يوسف ) وَاجْعَلْهُ رَبِ رَضِيّاً ( أي صالحاً براً تقياً مرضيّاً ، وقال أبو صالح : معناه : اجعله نبياً كما جعلت أباه نبيّاً .
أخبرنا عبد الله بن حامد الأصفهاني وشعيب بن محمد البيهقي قالا : أخبرنا : مكّي بن عبدان عن أحمد بن الأزهر عن روح بن عبادة عن سعيد عن قتادة عن بشر بن نهيك أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا قرأ هذه الآية ) يرثني ويرث من آل يعقوب ( يقول عند ذلك : ( رحم الله زكريا ، ما كان عليه من ورثة ) .
(6/206)
" صفحة رقم 207 "
مريم : ( 7 ) يا زكريا إنا . . . . .
قوله ) يا زَكَرَيّا إنّا نُبَشِّرُك ( فيه اضمار وإختصار ، يعني فاستجاب دعاءه فقال : ) يا زَكَرِيّا إنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلام ( ولد ذكر ) اسمُهُ يحيى لم نَجْعَل له من قبلُ سَمِيّاً ( قال قتادة والكلبي : لم يُسمَّ أحدٌ قبله يحيى ، وهي رواية عكرمة عن ابن عباس ، وقال سعيد بن جبير وعطاء : لم نجعل له شبيهاً ، ومثله دليله قوله تعالى ) هل تعلم له سميّاً ( أي مِثلاً وعدلاً ، وهي رواية مجاهد عن ابن عباس ، وتأويل هذا القول أنّه لم يكن له مثل لأنّه لم يهمّ بمعصيته قط وقيل : لم يكن له مثل فى أمر النساء لأنه كان سيّداً وحصورا وقال علي بن أبي طالب عن ابن عباس : لم تلد العواقر مثله ولداً ، وقيل : إن الله تعالى اشترط القبل لأنه جل ذكره أراد أن يخلق بعده من هو أفضل منه وهو محمّد عليه السلام ، وقيل : إنّ الله تعالى لم يرد بهذا القول جميع الفضائل كلّها ليحيى ، وقيل : إنما أراد في بعضها لأن الخليل والكم عليهما السلام كانا قبله وكانا أفضل منه .
مريم : ( 8 ) قال رب أنى . . . . .
) قَالَ ربِّ أنّى يكوُنُ لي غُلامٌ وكانَتِ امْرَاَتِي عَاقِراً ( أي وامرأتي عاقر كقوله ) كيف نكلّم من كان فى المهد صبيّاً ( أي من هو في المهد صبيّ ) وَقَد بَلَغتُ من الكِبَرِ عِتيّاً ( أي يبساً ، قال قتادة : نحول العظمْ يقال : ملك عات إذا كان قاسي القلب غير ليّن ، وقال أبو عبيد : هو كل مبالغ فى شر أو كفر فقد عتا وعسا ، وقرأ أُبيّ وإبن عباس عسيّاً ، وقرأ يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي عتياً بكسر العين ومثله جثيّاً وصليّاً وبُكيّاً والباقون بالضم فيهما وهما لغتان .
مريم : ( 9 - 10 ) قال كذلك قال . . . . .
) قالَ كَذَلِك قالَ ربُّك هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبلُ ( ، من قبْل يحيى ، ) ولم تك شيئا 2 )
مريم : ( 11 ) فخرج على قومه . . . . .
) قالَ ربِّ اجْعلْ لِي ( آيةً على حمل امرأتي ) قال آيَتُكَ ألاّ تُكَلِّمَ النّاسَ ثَلاثَ لَيال سَوِيّاً ( أي صحيحاً سليماً من غير ما بأس ولا خرس ، وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه أن يفتح لهم الباب فيدخلون ويصلّون إذ خرج عليهم زكريّا متغيراً لونه فأنكروه فقالوا له : مالك يا زكريّا ؟ فاوحى أي أومى إليهم ، ويقال : كتب في الأرض أن سبّحوا وصلّوا لله عزّ وجلّ بُكرةً وعشياً والسبحة الصلاة .
مريم : ( 12 ) يا يحيى خذ . . . . .
قوله ) يا يحيى خذ الكتابَ بِقُوّة ( بجدّ ) وآتَينَاهُ الحُكمَ ( يعني الفهم ) صَبيّاً ( يعني في حال صباه ، وقال معمّر : جاء صِبيان إلى يحيى بن زكريّا فقالوا : اخرج بنا نلعب ، فقال : ما للّعب خلقت ، فأنزل الله عزّ وجلّ وآتيناه الحكم صبيّا
مريم : ( 13 ) وحنانا من لدنا . . . . .
) وحَناناً من لَدُنّا ( رحمة من عندنا ، قال الحطيئة لعمر بن الخطّاب :
تحنّنْ علىَّ هداك المليك
فإن لكلّ مقام مقالا
(6/207)
" صفحة رقم 208 "
أي ترحم ، ومنه قوله : حنانيك مثل سعديك ، قال طرفة :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وأصله من حنين الناقة .
أخبرنا عبد الله بن حامد عن أحمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الله بن سليمان عن عثمان عن حريز بن عبد الحميد عن أبي خالد عن عكرمة عن ابن عبّاس قال : ما أدري ما حناناً إلا أن يكون بعطف رحمة الله عز وجلّ على عباده
وأخبرنا عبد الله بن حامد عن حامد بن محمد عن بشر بن موسى عن هوذة عن عوف بلغني في قوله الله عزّ وجلّ ) وحناناً من لدُنّا ( قال : الحنان : المحبّة ) وزكواة ( قال ابن عباس يعني بالزكاة طاعة الله عزّ وجلّ والإخلاص .
وقال الضحاك : هي الفعل الزاكي الصالح ، وقال الكلبي : يعني صدقة تصدق والده بها على أبويه ، وقيل : بركة ونماء وزيادة . وقيل : جعلناه طاهراً من الذنوب .
) وَكَانَ تَقِياً ( مسلماً مخلصاً مطيعاً .
أخبرنا سعيد بن محمد وعبد الله بن حامد قالا : أخبرنا علي بن عبدان ، حدَّثناأبو الأزهر ، حدَّثنا ابن القطيعي قال : سمعت الحسن قال : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( والذي نفسي بيده ما من الناس عبد إلاّ قد همّ بخطيئة أو عملها غير يحيى بن زكريا ) .
مريم : ( 14 ) وبرا بوالديه ولم . . . . .
) وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ ( باراً بهما لا يعصيهما ) وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً ( قالا : متكبراً .
قال الحلبي : الجبّار الذي يضرب ويقتل على الغضب .
) عَصِيّاً ( شديد العصيان لربّه .
مريم : ( 15 ) وسلام عليه يوم . . . . .
) وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ ( قال الحلبي : سلام له منّا حين ولد وحين يموت وحين يبعث حيّاً .
أخبرنا أبو محمد الأصفهاني وأبو صالح النيسابوري قالا : أنبأنا أبو حاتم التميمي ، حدثنا أبو الازهر السّليطيّ ، حدثنا رؤبة ، حدثنا سعيد عن قتادة عن الحسن أن يحيى وعيسى عليهما السلام التقيا فقال له عيسى : استغفر لي فأنت خير مني ، وقال يحيى : استغفر لي ، أنت خير منّي ، فقال له عيسى : أنت خير مني ، سلّمتُ على نفسي وسلَّم الله عليك .
( ) وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّىأَعُوذُ بِالرَّحْمَانِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ
(6/208)
" صفحة رقم 209 "
رَسُولُ رَبِّكِ لاَِهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّاً قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً قَالَ كَذالِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَاذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ أَلاَّ تَحْزَنِى قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً وَهُزِّىإِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً فَكُلِى وَاشْرَبِى وَقَرِّى عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِىإِنِّى نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُواْ يامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ياأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِيّاً قَالَ إِنِّى عَبْدُ اللَّهِ ءَاتَانِىَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِى نَبِيّاً وَجَعَلَنِى مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِى بِالصَّلَواةِ وَالزَّكَواةِ مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِى وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً وَالسَّلَامُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ذالِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِى فِيهِ يَمْتُرُونَ مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الاَْحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَاكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الاَْمْرُ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الاَْرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ( 2
مريم : ( 16 ) واذكر في الكتاب . . . . .
) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ ( القرآن مَرْيَمَ وهي ابنة عمران بن ماثان ) إِذِ انْتَبَذَتْ ( .
قال قتادة : انفردت . الكلبي : تنحّت وأصله من النبذة بفتح النون وضمّها وهي الناحبة ، يعني إنها اعتزلت وجلست ناحية ) مَكَاناً شَرْقِيّاً ( يعني مشرقة ، وهي مكان في الدار مما يلي المشرق ، جلست فيها لأنها كانت في الشتاء .
قال الحسن : اتّخذت النصارى المشرق قبلة لأنّ مريم انتبذت مكاناً شرقياً
مريم : ( 17 ) فاتخذت من دونهم . . . . .
) فَاتَّخَذَتْ ( فضربت ) مِنْ دُونِهِمْ حِجَاباً ( قال ابن عباس : ستراً ، قال مقاتل : جعلت الجبل بينها وبين قومها ، قال عكرمة : إن مريم كانت تكون في المسجد ما دامت طاهراً ، فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد ، فبينا هي تغتسل من الحيض إذ عرض لها جبرئيل في صورة شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر سويّ الخلْق .
فذلك قوله ) فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا ( يعني جبرئيل ( عليه السلام ) وقيل : روح عيسى ابن مريم اضافة إليه على التخصيص والتفضيل ) فَتَمَثَّلَ ( فتصور لها بشراً آدمياً سويّاً لم ينقص منه شيء وإنما أرسله في صورة البشر لتثبت مريم عليها السلام وتقدر على استماع كلامه ، ولو نزّله على صورته التي هو عليها لفزعت ونفرت عنه ولم تقدر على استماع كلامه ، فلمّا رأته مريم
مريم : ( 18 ) قالت إني أعوذ . . . . .
) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمانِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيّاً ( مؤمنا مطيعاً
(6/209)
" صفحة رقم 210 "
قال علي بن أبي طالب : علمت أن التقيّ ذو نهية ، وقيل : كان تقي رجل من أعدل الناس في ذلك الزمان فقالت : إنْ كنت في الصلاح مثل التقي فإني أعوذ بالرحمن منك ، كيف يكون رجل اجنبي وامرأة اجنبية في حجاب واحد ؟
مريم : ( 19 ) قال إنما أنا . . . . .
قال لها جبرئيل ) إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لاِهَبَ لَكِ ( أي يقول لأهب لك ، وقرأ أبو عمرو ليهب بالياء ولداً ) غُلاَماً زَكِيّاً ( صالحاً تقياً
مريم : ( 20 ) قالت أنى يكون . . . . .
) قالت ( مريم ) أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ( ولم يقربني روح ) وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً ( فاجرة وإنما حُذفت الهاء منه لأنه مصروف عن وجهه .
مريم : ( 21 ) قال كذلك قال . . . . .
قال جبرئيل ) كذلك ( كما قلتِ يا مريم ولكن قال ربّك وقيل هكذا ) قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ ( خلْق ولد من غير أب ) وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً ( علامة هذه ) لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا ( لمن تبعه على دينه .
) وَكَانَ ( ذلك ) أمْراً مقْضِيّاً ( معدوداً مسطوراً في اللوح المحفوظ .
مريم : ( 22 ) فحملته فانتبذت به . . . . .
) فَحَمَلَتْهُ ( وذلك أن جبرئيل عليه السلام رفع درعها فنفخ في جيبه فحملت حين لبسته ، وقيل : نفخ جبرئيل من بعيد نفخاً فوصل الريح إليها فحملت ، فلمّا حملت ) فانتبذت ( خرجت وانفردت ) مكاناً قصيّاً ( بعيداً من أهلها من وراء الجبل ، ويقال اقصى الدار .
قال الكلبي : قيل لابن عمّ لها يقال له يوسف : إن مريم حملت من الزنا لأن يقتلها الملك وكانت قد سميت له فأتاها فاحتملها ، فهرب بها ، فلما كان ببعض الطريق أراد يوسف ابن عمّها قتلها فأتاه جبرئيل عليه السلام فقال له : إنّه من روح القدس فلا تقتلها ، فتركها ، ولم يقتلها فكان معها . واختلفوا في مدّة حملها ووقت وضعها ، فقال بعضهم : كان مقدار حملها تسعة أشهر كحمل سائر النساء ، ومنهم من قال : ثمانية أشهر وكان ذلك آية أُخرى لأنّه لم يعش مولود وضع لثمانية أشهر غير عيسى ، وقيل : ستّة أشهر ، وقيل : ثلاث ساعات ، وقيل : ساعة واحدة .
قال ابن عباس : ما هو إلاّ أن حملت فوضعت ولم يكن بين الحمل والانتباذ إّلا ساعة : لأنّ الله تعالى لم يذكر بينهما فصلاً .
وقال مقاتل بن سليمان : حملته مريم في ساعة وصوّر في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها ، وهي بنت عشر سنين وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل بعيسى .
مريم : ( 23 ) فأجاءها المخاض إلى . . . . .
) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ ( ألجأها وجاء بها المخاض ، وفي قراءة عبد الله آواها المخاض يعني الحمل ، وقيل : الطلق .
) إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ ( وكانت نخلة يابسة في الصحراء في شدةّ الشتاء ولم يكن لها سعف .
وروى هلال بن خبّاب عن أبي عبيد الله قال : كان جذعاً يابساً قد جيء به ليبنى به بيت يقال له بيت لحم .
) قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَنْسِيّاً ( قرأ يحيى بن وتاب والأعمش وحمزة
(6/210)
" صفحة رقم 211 "
نسياً بفتح النون ، والباقون بالكسر ، وهما لغتان مثل : الوَتر والوِتَر والحَجر والحِجر والجَسر والجِسر ، وهو الشيء المنسي .
قال ابن عباس : يعني شيئاً متروكاً ، وقال قتادة : شيئاً لا يذكر ولا يعرف ، وقال عكرمة والضحاك ومجاهد : حيضة ملقاة .
قال الربيع : هو السقط وقال مقاتل : يعني كالشىّ الهالك .
قال عطاء بن أبي مسلم : يعني لم أُخلق ، وقال الفرّاء : هو ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها ، وقال أبو عبيد : هو ما نُسي واغفل من شئ حقير . قال الكميت :
اتجعلنا جسراً لكلب قضاعة
ولست بنسي في معد ولا دخل
أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا حاجب بن محمد قال : حدَّثنا محمد بن حمّاد قال : حدَّثنا أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنّها قالت : لوددت أني إذا متُ كنت نسياً منسياً .
مريم : ( 24 ) فناداها من تحتها . . . . .
) فنَادَاها مِنْ تَحْتِها ( قرأ الحسن وأبو جعفر وشيبة ونافع وابن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي : من تحتها بكسر الميم وهو جبرئيل ( عليه السلام ) ناداها من سفح الجبل ، وقرأ الباقون من تحتها بفتح الميم وهو عيسى لما خرج من بطنها ناداها : ) أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً ( قال الحسن : يعني عيسى كان والله عبداً سرياً أي رفيعاً ، وقال سائر المفسّرين : هو النهر الصغير ، وقيل معنى قوله سبحانه ) تَحْتك ( إنّ الله تعالى جعل النهر تحت أمرها إن أمرته أن يجري جرى وإن أمرته بالإمساك أمسك ، كقوله عزّ وجلّ فيما أخبر عن فرعون ) وَهْذِهِ الاَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ( أي من تحت أمري ، قال ابن عباس : فضرب جبرئيل : ويقال عيسى : برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب وجرى وحييت النخلة بعد يبسها فأورقت وأثمرت وأرطبت ، وقيل لمريم
مريم : ( 25 ) وهزي إليك بجذع . . . . .
) وَهُزِّي إِلَيْكِ ( أي حرّكي ) بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ( يقول العرب : هزّه وهزّ به كما يقال : خذ الخطام وخذ بالخطام ، وتعلّق بزيد وتعلق زيداً ، وخذ رأسه وخذ برأسه ، وامدد الحبل ، وامدد بالحبل ، والجذع : الغصن ، والجذع : النخلة نفسها .
) تُسَاقِطْ ( قرأ البراء بن عازب ويعقوب وأبو حاتم وحمّاد ونصير : يساقط بالياء ، وقرأ حفص تُساقِط بضم التاء وتخفيف السين وكسر القاف ، وقرأ الأعمش وحمزة وأبو عبيد : تَسّاقَط بفتح التاء والقاف وتشديد السين ، فمن أنَّث ردَّه إلى النخلة ومن ذكّر ردّه ألى الجذع والتشديد على الإدغام
(6/211)
" صفحة رقم 212 "
والتخفيف على الحذف .
) رُطَباً جَنِيّاً ( غصناً رطباً ساعة جُني .
وقال الربيع بن خيثم : ما للنفساء عندي خير من الرطب ولا للمريض من العسل .
وقال عمرو بن ميمون : ما أدري للمرأة إذا عسُر عليها ولدها خير من الرطب لقول الله سبحانه ) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيكِ رُطَباً جَنِيّاً ( .
وقالت عائشة خ : إنَّ من السنّة أن يمضغ التمر ويدلك به فم المولود ، وكذلك كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يُمضغ التمر ويحنّك به أولاد الصحابة .
مريم : ( 26 ) فكلي واشربي وقري . . . . .
) فَكُلِي ( يا مريم من الرطب ) وَاشْرَبِي ( من النهر ) وَقَرِّي عَيْناً ( وطيبي نفساً ) فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنْ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمانِ صَوْماً ( أي صمتاً ولذلك كان بقراءة ابن مسعود وأنس والصوم في اللغة هو الإمساك عن الطعام والكلام ، وفي الآية اختصار ) فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَداً ( فسألك عن ولدكِ أو لامكِ عليه ) فقولي إنىّ نَذَرْتُ لِلرَّحْمانِ صَوْماً ( يقال : إنّ الله أمرها أن تقول هذا اشارة ويقال : أمرها أن تقوله نطقاً ثم تمسك عن الكلام بعد هذا .
) فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً ( يقال : كانت تكلّم الملائكة ولا تكلّم الإنس .
مريم : ( 27 ) فأتت به قومها . . . . .
) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ ( قال الكلبي : احتمل يوسف النجّار مريم وابنها عيسى ( عليه السلام ) إلى غار فأدخلهما فيه أربعين يوماً حتى تعالت من نفاسها ثم جاء بها ) فأتت ( مريم ) به ( بعيسى تحمله بعد أربعين يوماً ، فكلّمها عيسى في الطريق فقال : يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه ، فلمّا دخلت على أهلها ومعها الصبي بكوا وحزنوا ، وكانوا أهل بيت صالحين .
) قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً ( فظيعاً منكراً عظيماً ، قال أبو عبيدة : كل من عجب أو عمل فهو فري ، قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في عمر ح : ( فلم أر عبقرياً يفري فريه ) أي يعمل عمله ، قال الراجز :
قد أطعمتني دقلاً حوليا
مسوسا مدوداً حجرياً
قد كنت تفرين به الفريا .
أي كنت تكثيرن فيه القول وتعظمينه .
مريم : ( 28 ) يا أخت هارون . . . . .
) يَا أُخْتَ هَارُونَ ( قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( انّما عنوا هارون النبي اخا موسى لأنها كانت من نسله ) .
(6/212)
" صفحة رقم 213 "
وقال قتادة وغيره : كان هارون رجلاً صالحاً من أتقياء بني إسرائيل وليس بهارون أخي موسى ، ذُكر لنا أنه تبع جنازته يوم مات أربعون الفاً كلهم يسمى هارون من بني إسرائيل ، وقال المغيرة بن شعبة : قال لي أهل نجران قوله : ) يا أخت هارون ( وقد كان بين موسى وعيسى من السنين ما قد كان ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى اللّه عليه وآله فقال : ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمّون بالانبياء والصالحين من قبلهم . وقال الكلبي : كان هارون أخا مريم من أبيها ليس من أُمها وكان أمثل رجل في بني إسرائيل ، وقيل : إن هارون كان من أفسق بني إسرائيل وأظهرهم فساداً فشبّهوها به ، وعلى هذا القول الأُخت ها هنا بمعنى الشبه لا بمعنى النسبة ، والعرب تسمي شبه الشيء أُخته وأخاه ، قال الله سبحانه ) وَمَا نُرِيْهِمْ مِنْ آية إلاّ هِيَ أكْبَرُ مِنْ أُخْتِها ( أي شبهها .
) مَا كَانَ أَبُوكِ ( عمران ) امْرَأَ سُوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ ( حنّة ) بَغِيّاً ( زانية فمن أين لك هذا الولد ؟
مريم : ( 29 ) فأشارت إليه قالوا . . . . .
) فَأَشَارَتْ ( مريم إلى عيسى أن كلّموه فقالوا ) كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً ( أي من هو في المهد وهو حجرها ، وقيل : هو المهد بعينه وقد كان حشواً للكلام ولا معنى له كقوله ) كُنْتُمْ خَيْرَ أمَّةً أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ ( أي أنتم خير أُمة وكقوله ) هَلْ كُنْتُ إلاّ بَشَراً رَسُولاً ( أي هل أنا ، وكقول الناس إن كنتَ صديقي فصلني ، قال زهير :
أجرت عليه حرّة أرحبيّة
وقد كان لون الليل مثل الأرندج
وقال الفرزدق :
فكيف إذا رأيت ديار قومي
وجيران لنا كانوا كرام
أي وجيران لنا كرام ، قال وهب : فأتاها زكريا عند مناظرتها اليهود فقال لعيسى : انطق بحجّتك إن كنت أُمِرْتَ بها ، فقال عند ذلك وهو ابن أربعين يوماً . وقال مقاتل : هو يوم ولد .
مريم : ( 30 ) قال إني عبد . . . . .
) إِنِّي عَبْدُ اللهِ ( فأقرّ على نفسه بالعبودية لله تعالى أول ما تكلم تكذيباً للنصارى وإلزاماً للحجة عليهم .
قال عمرو بن ميمون : إن مريم لما أتت قومها بعيسى اخذوا لها الحجارة ليرموها فلمّا تكلّم عيسى تركوها ، قالوا : ثم لم يتكلّم عيسى بعد هذا حتى كان بمنزلة غيره من الصبيان .
(6/213)
" صفحة رقم 214 "
روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : خمسة تكلّموا قبل إباّن الكلام : شاهد يوسف ، وولد ماشطة بنت فرعون ، وعيسى ، وصاحب جريح ، وولد المرأة التي أحرقت في الأُخدود .
فأمّا شاهد يوسف فقد مرَّ ذكره ، وأمّا ولد الماشطة ، فأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن قال : حدَّثنا داود بن سليمان قال : حدَّثنا عبد بن حميد قال : حدَّثنا الحسن بن موسى قال : حدَّثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لمّا أُسري به مرّت به رائحة طيبة فقال : يا جبرئيل ما هذه الرائحة ؟ قال : ماشطة بنت فرعون كانت تمشطها فوقع المشط من يدها ، فقالت : بسم الله ، فقالت ابنته : أبي ؟ فقالت : لا بل ربّي وربّك وربّ أبيك .
فقالت : أخبر بذلك أبي قالت : نعم ، فأخبرته فدعا بها فقال : من ربّك ؟ قالت : ربّي ورّبك في السماء ، فأمر فرعون ببقرة من نحاس فأُحميت فدعا بها وبولدها فقالت : إن لي إليك حاجة قال : ما هي ؟ قالت : تجمع عظامي وعظام ولدي فتدفنها جميعاً فقال : ذلك لك علينا من الحق ، فأمر بأولادها فألقى واحداً واحداً حتى إذا كان آخر ولدها وكان صبيّا مرضعاً فقال : اصبري يا أُماه فإنّا على الحق ، قال : ثم أُلقيت مع ولدها .
وأمّا صاحب جريح فأخبرنا عبد الله بن حامد الاصبهاني قال : أخبرنا محمد بن الحسين الزعفراني قال : حدَّثنا أحمد بن الخليل قال : حدَّثنا يونس بن محمد المؤدب ، قال : حدَّثنا الليث ابن سعد عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبرنا عبد الله ( بن حامد ) قال : أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن قال : حدَّثنا راشد بن سليمان قال : حدَّثنا عبد بن حميد قال : حدَّثنا هاشم بن القاسم قال : حدَّثنا سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنّ رجلاً يقال له جريح كان راهباً يتعبّد في صومعته فأتته أُمّه لتسلّم عليه فنادته : يا جريح اطلع إليّ انظر إليك ، فوافقته يصلّي فقال : أُمّي وصلاتي لرّبي ، أُوثر صلاتي لربّي على أُمّي ، فانصرفت ثم جاءت الثانية فنادته : يا جريح كلّمني فوافقته يصلّي فاختار صلاته ، ثمّ جاءته الثالثة فاختار صلاته فقالت : إنّه أبى أن يكلّمني ، اللهمّ لا تمته حتى تنظر في وجهه زواني المدينة ، قال : ولو دعت عليه أن يفتن لفتن ) .
قال : وكان راعي ضأن يأوي إلى ديره ، فخرجت امرأة من القرية فوقع عليها فحملت فولدت غلاماً فقيل لها : ممّن هذا ؟ فقالت : من صاحب الصومعة ، فأتوه وهدّموا صومعته وانطلقوا به إلى ملكهم ، فلمّا مرَّ على حوانيت الزواني خرجن ، فتبسم وعرف أنّه دعاء أُمّه ، فقالوا : لم يضحك حين مرَّ على الزواني ؟ فلمّا أُدخل على ملكهم قال جريح : أين الصبي
(6/214)
" صفحة رقم 215 "
الذي ولدت ؟ فأتي به فقال له جريح : مَنْ أبوك ؟ قال : أبي فلان الراعي ، فابرأ الله سبحانه جريحاً وأعظمه الناس ، وقالوا : نبني لك ديرك بالذهب والفضة قال : لا ولكن أعيدوه كما كان ، ثمّ علاه .
وأمّا ولد صاحبة الأُخدود فسنذكرها في موضعها إن شاء الله .
) آتَانِيَ الْكِتَابَ ( يعني يؤتيني الكتاب لفظه ماض ومعناه مستقبل ، وقيل : إنه أخبر عمّا كتب له في اللوح المحفوظ كما سئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) متى كُتبتَ نبياً ؟ قال : ( كُتبتُ نبياً وآدم بين الروح والجسد ) .
وقيل : معناه علمني وألهمني التوراة في بطن أُمّي .
) وَجَعَلَنِي نَبِيّاً }
مريم : ( 31 ) وجعلني مباركا أين . . . . .
) وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً ( معلماً للخير ) أَيْنَ مَا كُنْتُ ( وقيل : مباركاً على من اتّبع ديني وأمري ) وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً }
مريم : ( 32 ) وبرا بوالدتي ولم . . . . .
) وَبَرّاً ( أي وجعلني براً ) بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً ( .
أخبرنا شعيب بن محمد البيهقي وعبد الله بن حامد قالا : أخبرنا مكّي بن عبدان ، قال : حدَّثنا
أحمد بن الأزهر قال : حدَّثنا روح بن عبادة قال : حدَّثنا سعيد عن قتادة قال : ذكر لنا ان امرأة رأت عيسى ابن مريم يُحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص في آيات أذن اللّه له فيهنّ فقالت : طوبى للبطن الذي حملك والثدي الذي أُرضعت به ، فقال ابن مريم يجيبها : طوبى لمن تلا كتاب الله واتّبع ما فيه ولم يكن جباراً شقيّاً ، وكان يقول : سلوني فإنّ قلبي ليَّن وإنيّ صغير في نفسي ، ممّا أعطاه الله سبحانه من التواضع .
مريم : ( 33 - 34 ) والسلام علي يوم . . . . .
) وَالسَّلاَمُ عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْل الْحَقِّ ( يعني هو قول الحق ، وقيل : رفع على التكرير يعني ذلك عيسى ابن مريم وذلك قول الحق ، وقيل : هو نعت لعيسى يعني ذلك عيسى بن مريم كلمة الله ، والحق هو الله سبحانه .
وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب قول بالنصب يعني قال قول الحق ) الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ( يشكّون ويقولون غير الحق ، فقالت اليهود : ساحر كذّاب ، وقالت النصارى : ابن الله وثالث ثلاثة ، ثمّ كذّبهم فقال :
مريم : ( 35 ) ما كان لله . . . . .
) مَا كَانَ للهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَد ( أي ما كان من صفته اتّخاذ الولد ، وقيل : اللام منقولة يعني ما كان الله ليتخذ من ولد ) سُبْحَانَهُ ( نزّه نفسه ) إِذَا قَضَى أَمْراً ( كان في علمه ) فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
مريم : ( 36 ) وإن الله ربي . . . . .
) وَإِنَّ اللهَ ( يعني وقضى أن الله ، وقرأ أهل الكوفة إنّ الله
(6/215)
" صفحة رقم 216 "
بالكسر على الاستيناف ) رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا ( الذي ذكرت ) صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (
مريم : ( 37 ) فاختلف الأحزاب من . . . . .
) فَاخْتَلَفَ الاْحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ ( يعني النصارى ، وانّما سمّوا أحزاباً لأنهّم تجزأوا ثلاث فرق في أمر عيسى : النسطورية والملكانيّة والمار يعقوبية .
) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْم عَظِيم ( يعني يوم القيامة
مريم : ( 38 ) أسمع بهم وأبصر . . . . .
) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ ( يعني ما أسمعهم وأبصرهم ، على التعجّب ، وذلك أنهم سمعوا يوم القيامة حين لم ينفعهم السمع ، وأبصروا حين لم ينفعهم البصر .
قال الكلبي : لا أحد يوم القيامة أسمع منهم ولا أبصر حين يقول الله سبحانه وتعالى لعيسى ) أنْتَ قُلْتَ للنّاسِ ( الآية .
) يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلاَل مُبِين (
مريم : ( 39 ) وأنذرهم يوم الحسرة . . . . .
) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الأَمْرُ ( أي فرغ من الحساب وأُدخل أهل الجنّة الجنّة وأهل النار النار وذبح الموت ) وَهُمْ فِي غَفْلَة ( من الدنيا .
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان قال : أخبرنا مكّي بن عبدان قال : حدَّثنا عبد الله بن هاشم قال : حدَّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم : ( يُجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنّة والنار فيقال : يا أهل الجنّة هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبّون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت فيؤمر به فيذبح ثمّ ينادي المنادي : يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحهم ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم ) ، ثمَّ قرأ رسول الله صلى اللّه عليه وسلم ) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِىَ الاْمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَة ( وأشار بيده في الدنيا .
قال مقاتل : لولا ما قضى الله سبحانه وتعالى من تخليد أهل النار وتعميرهم فيها لماتوا حسرة حين رأوا ذلك .
مريم : ( 40 ) إنا نحن نرث . . . . .
) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الاْرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا ( أي نميتهم ويبقى الرب عزّ وجلّ فيرثهم .
) وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ( فنجزيهم بأعمالهم .
2 ( ) وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً إِذْ قَالَ لاَِبِيهِ ياأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً ياأَبَتِ إِنِّى قَدْ جَآءَنِى مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِىأَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً
(6/216)
" صفحة رقم 217 "
ياأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيّاً ياأَبَتِ إِنِّىأَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَانِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِى ياإِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِى مَلِيّاً قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّيإِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّى عَسَىأَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّى شَقِيًّا فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الاَْيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَواةِ وَالزَّكَواةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً ( 2
مريم : ( 41 ) واذكر في الكتاب . . . . .
) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً ( مؤمناً موقناً صدوقاً ) نَبِيّاً ( رسولاً رفيعاً
مريم : ( 42 ) إذ قال لأبيه . . . . .
) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ ( آزر وهو يعبد الأوثان ) لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ ( صوتاً ) وَلاَ يُبْصِرُ ( شيئاً ) وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ ( لا ينفعك ولا يكفيك ) شَيْئاً ( يعني الأصنام
مريم : ( 43 ) يا أبت إني . . . . .
) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ ( والبيان بعد الموت و أنّ من غيره عذّبه ) مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي ( على ديني ) أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً ( مستوياً .
مريم : ( 44 ) يا أبت لا . . . . .
) يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ ( لا تطعه ، لم تصل ، له ولم تصم وإنّ من أطاع شيئاً فقد عبده ) إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمانِ عَصِيّاً ( عاصياً عاتياً ، وكان بمعنى الحال أي هو ، وقيل بمعنى : صار .
مريم : ( 45 ) يا أبت إني . . . . .
) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ ( أعلم ) أَنْ يَمَسَّكَ ( يصيبك ) عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمنِ ( لقوله : ) إلاّ أنْ يخافا ( وقوله ) فإنْ خِفْتُمْ ألاّ يُقِيمَا ( وقيل : معناه إنّي أخاف أن ينزل عليك عذاباً في الدنيا ) فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً ( قريناً في النار ، فقال له أبوه مجيباً له
مريم : ( 46 ) قال أراغب أنت . . . . .
) أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ ( تارك عبادتهم وزاهد فيهم ) لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ ( لئن لم تسكت وترجع عن مقالتك ) لأرْجُمَنَّكَ ( قال الضحاك ومقاتل والكلبي : لأشتمنّك ، وقال ابن عباس : لأضربنّك ، وقيل لأُظهرنّ أمرك ) وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً ( قال الحسن وقتادة وعطاء : سالماً ، وقال ابن عباس : واعتزلني سالم العرض لا يصيبنّك منّي معرّة ، وقال الكلبي : اتركني واجتنبني طويلاً فلا تكلّمني ، وقال سعيد بن جبير : دهراً ، وقال مجاهد وعكرمة : حيناً ، وأصل الحرف المكث ، ومنه يقال : تملّيت حيناً ، والملوان الليل والنهار .
مريم : ( 47 ) قال سلام عليك . . . . .
قال إبراهيم ) سَلاَمٌ عَلَيْكَ ( أي سلمت منيّ لا أصيبك بمكروه ) سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً ( قال ابن عباس ومقاتل : لطيفاً رحيماً ، وقيل : بارّاً ، وقال مجاهد : عوّده إلاجابة ، وقال الكلبي : عالماً يستجيب لي إذا دعوته .
(6/217)
" صفحة رقم 218 "
مريم : ( 48 ) وأعتزلكم وما تدعون . . . . .
) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ( يعني وأعتزل ما تعبدون من دون الله ، قال مقاتل : كان اعتزاله اياهم أنه فارقهم من كوثى فهاجر منها إلى الأرض المقدسة .
) وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً ( يعني عسى أن يجيبني ولا يخيّبني ، وقيل : معناه عسى أن لا أشقى بدعائه وعبادته كما تشقون أنتم بعبادة الأصنام .
مريم : ( 49 ) فلما اعتزلهم وما . . . . .
) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ ( ما تَدْعُون : تعبدون ) مِنْ دُونِ اللهِ ( يعني الأصنام فذهب مهاجراً ) وَهَبْنَا لَهُ ( بعد الهجرة ) إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً ( يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب
مريم : ( 50 ) ووهبنا لهم من . . . . .
) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا ( نعمتنا ، قال الكلبي : المال والولد ، وقيل : النبوّة والكتاب ، بيانه قوله ) أهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ( .
) وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْق عَلِيّاً ( يعني ثناءً حسناً رفيعاً في كلّ أهل الأديان ، وكلّ أهل دين يتولّونهم ويثنون عليهم .
مريم : ( 51 ) واذكر في الكتاب . . . . .
) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً ( يعني غير مرائي ، قال مقاتل : مسلماً موحداً ، وقرأ أهل الكوفة : مخلَصاً بفتح اللام يعني أخلصناه واخترناه ) وَكَانَ رَسُولا نَبِيّاً }
مريم : ( 52 ) وناديناه من جانب . . . . .
) وَنَادَيْنَاهُ ( دعوناه وكلّمناه ليلة الجمعة ) مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الاْيْمَنِ ( يعني يمين موسى ، والطور : جبل بين مصر ومدين ) وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ( يعني رفعناه من سماء إلى سماء ومن حجاب إلى حجاب حتى لم يكن بينه وبينه إلاّ حجاب واحد .
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال : أخبرنا مكّي بن عبدان قال : حدَّثنا أبو الأزهر قال : حدَّثنا أسباط عن عطاء بن السائب عن ميسرة ) وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً ( قال : قرّبه حتى سمع صريف القلم ، والنجيّ : المناجي كالجليس والنديم .
مريم : ( 53 ) ووهبنا له من . . . . .
) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً ( وذلك حين سأل موسى ربّه عزّ وجلّ فقال : ) واجعل لِي وَزِيراً مِنْ أهْلِي هَارُونَ أخِي ( وحين قال ) فَاَرْسِلْ إلى هارُونَ ( فأجاب الله دعاءه .
مريم : ( 54 ) واذكر في الكتاب . . . . .
) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ( يعني ابن إبراهيم ) إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ( كان إذا وعد أنجز ، وذلك أنّه وعد رجلاً أن يقيم مكانه حتى يرجع إليه فأقام إسماعيل مكانه ثلاثة أيام للميعاد حتى يرجع إليه الرجل ، قاله مقاتل ، وقال الكلبي : انتظره حتى حال الحول عليه . ) وَكَانَ رَسُولا ( إلى قومه ) نَبِيّاً ( مخبراً عن الله سبحانه
(6/218)
" صفحة رقم 219 "
مريم : ( 55 ) وكان يأمر أهله . . . . .
) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ ( يعني قومه وكذلك هو في حرف ابن مسعود ) بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً ( صالحاً زاكياً .
2 ( ) وَاذْكُرْ فِى الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً أُولَائِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَاءِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَآ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءايَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَواةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَائِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِى وَعَدَ الرَّحْمَانُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلَاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذالِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَانِ عِتِيّاً ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ( 2
مريم : ( 56 ) واذكر في الكتاب . . . . .
) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ ( وهو جدّ أبي نوح ، فسمّي إدريس لكثرة درسه الكتب ، واسمه أخنوخ وكان خيّاطاً ، وهو أوّل من كتب بالقلم وأوّل من خاط الثياب ولبس المخيط وأول من تكلّم في علم النجوم والحساب ) إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً ( يعني الجنة .
وقال الضّحاك : رفع إلى السماء السادسة ، وقيل : الرابعة .
أخبرنا عبد الله بن حامد الأصبهاني وشعيب بن محمد البيهقي قالا : أخبرنا مكي بن عبدان
التميمي قال : حدَّثنا أحمد بن الأزهر قال : حدَّثنا روح قال : حدَّثنا سعيد عن قتادة في قوله
مريم : ( 57 ) ورفعناه مكانا عليا
) وَرَفَعْنَاهُ مَكانَاً عَلِيّاً ( قال : حدَّثنا أنس بن مالك بن صعصعة أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لما عرج به إلى السماء قال : ( أتيت على إدريس في السماء : الرابعة ) . . .
وكان سبب رفعه على ما قاله ابن عباس وكعب وغيرهما أنّه سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال : يا ربّ أنا مشيت يوماً فكيف بمن يحملها خمسمائة عام في يوم واحد ؟ اللهمّ خفّف عنه من ثقلها واحمل عنه حرّها ، فلمّا أصبح الملك وجد من خفّة الشمس وحرّها ما لا يعرف ، فقال : يا ربّ خلقتني لحمل الشمس فما الذي قضيت فيه ؟ قال : أما إنّ عبدي إدريس سألني أن اخفّف عنك حملها وحرّها فأجبته ، فقال : يا ربّ اجمع بيني وبينه واجعل بيني وبينه
(6/219)
" صفحة رقم 220 "
خلّة ، فأذن له حتى أتى إدريس وكان يسأله إدريس فكان ممّا سأله أن قال له : أُخبرت أنّك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي فازداد شكراً وعبادة ، فقال الملك : لا يؤخّر الله نفساً إذا جاء أجلها قال : قد علمت ذلك ولكنه أطيب لنفسي ، فقال : نعم أنا مكلّمه لك فما كان يستطيع أن يفعل لأحد من بني آدم فهو فاعله لك ، ثم حمله ملك الشمس على جناحه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس ، ثمّ أتى ملك الموت فقال : حاجة لي إليك ، فقال : أفعل كلّ شيء أستطيعه قال : صديق لي من بني آدم تشفّع بي إليك لتؤخّر أجله قال : ليس ذلك إليّ ولكن إن أحببت أعلمته أجله متى يموت فيقدّم في نفسه ، قال : نعم ، فنظر في ديوانه وأخبر باسمه فقال : إنك كلّمتني في إنسان ما أراه يموت أبداً ، قال : وكيف ؟ قال : لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس ، قال : إنّي اتيتك وتركته هناك ، قال : انطلق فما أراك تجده إلاّ وقد مات ، فوالله ما بقي من أجل إدريس شيء ، فرجع الملك فوجده ميّتاً
وقال وهب : كان يرفع لإدريس كلّ يوم من العبادة مثل ما يرفع لجميع أهل الأرض في زمانه ، فعجبت منه الملائكة واشتاق إليه ملك الموت فاستأذن ربّه في زيارته فأذن له فأتاه في صورة بني آدم ، وكان إدريس صائماً يصوم الدهر ، فلّما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل معه ففعل ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس فقال له الليلة الثالثة : إنىّ أُريد أن أعلم من أنت ، قال : أنا ملك الموت استأذنت ربي أن أصحبك فأَذن لي ، قال : فلي إليك حاجة ، قال : وما هي ؟ قال : تقبض روحي ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أن اقبض روحه ، فقبض روحه وردّها الله عليه بعد ساعة .
قال له ملك الموت : ما الفائدة في سؤالك قبض الروح ؟ قال : لأذوق كرب الموت وغمّته فأكون له أشدّ استعداداً ، ثم قال إدريس له : لي إليك حاجة أُخرى ، قال : وما هي ؟ قال : ترفعني إلى السماء لأنظر إليها وإلى الجّنة وإلى النار ، فأذن الله له في رفعه إلى السماوات ، فلمّا قرب من النار قال : حاجة قال : وما تريد ؟ قال : تسأل مالكاً حتى يفتح لي بابها فأردها ، ففعل ثمّ قال : فكما أريتني النار فأرني الجّنة ، فذهب به إلى الجنة فاستفتح ففتحت أبوابها فأدخله الجنّة ، ثم قال له ملك الموت : اخرج لتعود إلى مقرّك فتعلّق بشجرة وقال : لا أخرج منها ، فبعث الله ملكاً حكماً بينهما ينظر في قولهما فقال له الملك : ما لك لا تخرج ؟ قال : لأن الله تعالى قال : ) كُلُّ نَفس ذائِقَةُ المَوْتِ ( وقد ذقته ، وقال ) وَاِنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها ( وقد وردتها ، وقال ) وَمَا هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ ( فلست أخرج ، فأوحى الله سبحانه إلى ملك الموت : دخل الجنة وبأمري يخرج ، فهو حيّ هناك فذلك قوله : ) وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً ( .
(6/220)
" صفحة رقم 221 "
مريم : ( 58 ) أولئك الذين أنعم . . . . .
) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوح ( في السفينة ) وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا ( إلى الإسلام ) وَاجْتَبَيْنَا ( على الأنام ) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمانِ ( يعني القرآن ) خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ( جمع باك تقديره من الفعل فعول مثل ساجد وسجود وراكع وركوع وقاعد وقعود ، جمع على لفظ المصدر ، نزلت في مؤمني أهل الكتاب ، عبد الله سّلام وأصحابه .
مريم : ( 59 ) فخلف من بعدهم . . . . .
) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ ( يعيني من بعد النبيّين المذكورين ) خَلْفٌ ( وهم قوم سوء ، والخَلفَ بالفتح الصالح ، والخلف بالحزم الطالح ، والخلف بسكون اللام الرديء من كلّ شيء ، وهم في هذه الآية اليهود ومن لحق بهم . وقال مجاهد وقتادة : في هذه الأُمّة .
) أَضَاعُوا الصَّلاَةَ ( أي تركوا الصلوات المفروضة ، قال ابن مسعود وإبراهيم والقاسم بن مخيمرة : أخّروها عن مواقيتها وصلّوها بغير وقتها .
وقال قرّة بن خالد : استبطأ الضحاك مرّة امتراءً في صلاة العصر حتى كادت الشمس تغرب فقرأ هذه الآية ) أَضَاعُوا الصَّلاَةَ ( ثمَّ قال : والله لئن أدعها أحبّ إلىّ من أن اضيّعها ، وقرأ الحسن : اضاعوا الصلوات ) وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ( قال مقاتل : استحلّو نكاح الأخت من الأب ، وقال الكلبي : يعني اللذات و شرب الخمر وغيره ، قال مجاهد : هذا عند اقتراب الساعة وذهاب صالحي أُمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ينزو بعضهم على بعض في السكك والأزقّة زناة .
وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في هذه الآية قال : يكون خلف من بعد ستّين سنة ) أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ( الآية .
وقال علىّ بن أبي طالب : ( هذا إذا بني المشيد ورُكب المنظور ولبس المشهور ) ، وقال وهب : فخلف من بعدهم خلف شرّابون للقهوات ، لعّابون بالكعبات ، ركّابون للشهوات ، متبعون للذّات ، تاركون للجُمعات ، مضيّعون للصلوات ، وقال كعب : يظهر في آخر الزمان أقوام بأيديهم سياط كأذناب البقر يضربون الناس ، ثمَّ قرأ ) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاَةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ( .
) فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ( قال عبد الله بن مسعود : الغيّ نار في جهنّم ، وقال ابن عباس : الغىّ واد في جهنم وإنّ أودية جهنم لتستعيذ من حرّها ، أُعدّ ذلك الوادي للزاني المصرّ عليه ، ولشارب الخمر المدمن عليها ، ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه ، ولأهل العقوق ، ولشاهد الزور
(6/221)
" صفحة رقم 222 "
ولامرأة أدخلت على زوجها ولداً . وقال عطاء : الغىّ واد في جهنم يسيل قيحاً ودماً . وقال وهب : الغىّ نهر في النار بعيد قعره ، خبيث طعمه ، وقال كعب : هو واد في جهنم أبعدها قعراً وأشدّها حرّاً ، فيه بئر تسمى البهيم كلّما خبت جهنّم فتح الله تلك البئر فسعّربها جهنم ، وقال الضحاك : خسراناً وقيل : عذاباً ، وقيل : ألماً ، وقيل : كفراً .
مريم : ( 60 - 61 ) إلا من تاب . . . . .
) إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً جَنَّاتِ عَدْن الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمانُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ ( ولم يروها ) إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً ( يعني آتياً ، قال الأعشى :
وساعيت معصيّاً إليها وشاتها . أي عاصياً .
مريم : ( 62 ) لا يسمعون فيها . . . . .
) لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا ( في الجنة ) لَغْواً ( باطلاً وفحشاً وفضولاً من الكلام ، قال مقاتل : يميناً كاذبة ) إِلاَّ سَلاَماً ( استثناء من غير جنسه يعني بل يسمعون فيها سلاماً أي قولاً يسلمون منه ، وقال المفسّرون : يعني تسليم بعضهم على بعض تسليم الملائكة عليهم ) وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ( يعني على مقدار طرفي النهار .
أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد بن جعفر بقراءتي عليه قال : حدَّثنا أبو الحسن علي بن محمد بن سختويه قال : حدَّثنا موسى بن هارون قال : حدَّثنا بشر بن معاذ الضرير قال : حدَّثنا عامذ بن سياق عن يحيى بن أبي كثير قال : كانت العرب في زمانها من وجد غداءً مع عشاء فذلك هو الناعم ، فأنزل الله سبحانه ) وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ( قدر ما بين غدائهم وعشائهم .
أخبرنا محمد بن أحمد بن جعفر قال : حدَّثنا علي بن محمد بن سختويه قال : حدَّثنا موسى ابن هارون قال : حدَّثنا داود بن رشيد قال : حدَّثنا الوليد بن مسلم قال : سألت زهير بن محمد عن قول الله سبحانه ) وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ( قال : ليس في الجنة ليل ، هم في نور أبداً وإنّما يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب ، ومقدار النهار برفع الحجب .
مريم : ( 63 ) تلك الجنة التي . . . . .
) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا ( وقرأ يعقوب : نورّث بالتشديد ، والاختيار التخفيف ؛ لقوله ثُمَّ اَوْرَثْنَا ) مَنْ كَانَ تَقِيّاً (
مريم : ( 64 ) وما نتنزل إلا . . . . .
) وَما نَتَنَزَّلُ إلاّ بأمْر رَبِكِ ( الآية .
أخبرنا عبد الله بن حامد وشعيب بن محمد قالا : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدَّثنا أبو الأزهر قال : حدَّثنا روح بن عبادة ، قال : حدَّثنا عمر بن ذر عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم : يا جبرئيل ما يمنعك أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا ؟ فأنزل الله سبحانه ) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ( .
وقال مجاهد : أبطأت الرّسل على رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم أتاه جبرئيل فقال :
(6/222)
" صفحة رقم 223 "
ما حبسك ؟ فقال : وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصّون أظفاركم ولا تأخذون شواربكم ولا تستاكون ؟ فأنزل الله سبحانه ) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ( الآية .
وقال عكرمة والضّحاك ومقاتل وقتادة والكلبي : احتبس جبرئيل عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حين سأله قومه عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والرّوح فلم يدر ما يجيبهم ، ورجا أن يأتيه جبرئيل بجواب ما سألوه فأبطأ عليهَ قال عكرمة : أربعين يوماً . وقال مجاهد : اثنتي عشرة ليلة وقيل : خمس عشرةَ فشقّ ذلك على رسول الله صلى اللّه عليه وسلم مشقة شديدة ، وقال المشركون : ودّعه ربّه وقلاه ، فلمّا أنزل جبرئيل قال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أبطأت عليَّ حتى ساء ظنّي واشتقت إليك ) ، فقال له جبرئيل : إنىّ كنت أشوق إليك ولكنّي عبد مأمور إذا بُعثت نزلت وإذا حُبست احتبستُ ، فأنزل الله تعالى ) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ ( وأنزل ) وَالضُّحى وَاللَّيْل إذا سَجى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلى ( .
وقيل : هذا إخبار عن أهل الجنة ، أنّهم يقولون عند دخولها : ما تتنزل هذه الجنان إّلا بأمر الله ) لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا ( قال مقاتل : له ما بين أيدينا من أمر الآخرة ) وَمَا خَلْفَنَا ( من أمر الدنيا ) وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ ( يعني بين النفختين ، وبينهما أربعون سنة ، وقيل : كان له ابتداء خلقنا وله كان منتهى آجالنا ، وله كان مدّة حياتنا .
ويقال : ) مَا بَيْنَ أيْديْنَا ( من الثواب والعقاب وأُمور الآخرة ) وَمَا خَلْفَنا ( ما مضى من أعمالنا في الدنيا ) وُمَا بَيْنَ ذلِكَ ( أي ما يكون منّا إلى يوم القيامة . ويقال : ) له ما بين أيدينا ( قيل أن يخلقنا ) وما خلفنا ( بعد أن يميتنا ) وما بين ذلك ( ما هو فيه من الحياة ، ويقال ) له ما بين أيدينا ( إلى الأرض إذا أردنا النزول إليها ) وما خلفنا ( أي السماء إذا نزلنا منها ) وما بين ذلك ( يعني السماء والأرض ، يريد أن كل ذلك لله سبحانه فلا تقدر على فعل إلاّ بأمره .
) وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً ( أي ناسياً إذا شاء أن يرسل إليك أرسل .
مريم : ( 65 ) رب السماوات والأرض . . . . .
) رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالاْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ( أي واصبر على عبادته ) هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً ( قال ابن عباس : مثلاً ، وقال سعيد بن جبير : عدلاً ، وقال الكلبي : هل تعلم أحداً يسمى الله غيره .
مريم : ( 66 ) ويقول الإنسان أئذا . . . . .
) وَيَقُولُ الاْنسَانُ ( يعني أُبىّ بن خلف الجمحي ) أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ ( من القبر ) حَيّاً ( استهزاءً وتكذيباً منه بالبعث .
مريم : ( 67 ) أولا يذكر الإنسان . . . . .
قال الله سبحانه ) أَوَلاَ يَذْكُرُ ( أي يتذكّر ويتفكّر ، والأصل يتذكر ، وقرأ ابن عامر ونافع
(6/223)
" صفحة رقم 224 "
وعاصم ويعقوب يذكر بالتخفيف ، والاختيار التشديد لقوله سبحانه ) إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أوُلوا الألْبابِ ( وأخواتها ، يدل عليه قراءة أُبي ) يتذكر الانسان ( يعني أُبىّ بن خلف الجمحي ) أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئاً ( ثمّ أقسم بنفسه فقال
مريم : ( 68 ) فوربك لنحشرنهم والشياطين . . . . .
) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ ( لنجمعنّهم في المعاد يعني المشركين المنكرين للبعث ) وَالشَّيَاطِينَ ( مع الشياطين يعني قرناءهم الذين أضلّوهم ، يُقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة ) ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ ( يعني في جهنم ) جِثِيّاً ( قال ابن عباس : جماعات جماعات ، وقال مقاتل : جميعاً وهو على هذا القول جمع جثوة ، وقال الحسن والضحاك : جاثية على الركب وهو على هذا التأويل جمع جاث . قال الكميت :
همُ تركوا سراتهمُ جثيّاً
وهم دون السراة مقرنينا
مريم : ( 69 ) ثم لننزعن من . . . . .
) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَة ( لنَخرجنّ من كلّ أُمّة وأهل دين ) أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمانِ عِتِيّاً ( عتوّاً قال ابن عباس : يعني جرأةً ، وقال مجاهد : فجوراً وكذباً ، قال مقاتل : علوّاً ، وقيل : غلوّاً في الكفر ، وقيل : كفراً ، وقال الكلبي : قائدهم رأسُهم في الشرّ .
أخبرنا عبد الله بن حامد قال : حدَّثنا محمد بن يعقوب قال : حدَّثنا الحسن بن علي قال : حدَّثنا أبو أُسامة عن سفيان عن علي بن الأرقم عن أبي الأحوص قال : نبدأ بالأكابر فألاكابر
مريم : ( 70 ) ثم لنحن أعلم . . . . .
) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً ( أي أحقّ بدخول النار ، يقال : صلي يصلى صلياً مثل لقي يلقى لقيّاً وصلى يصلى صلياً مثل مضى يمضي مضياً .
2 ( ) وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بِيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ أَىُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً قُلْ مَن كَانَ فِى الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى وَالْبَِّقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَّرَدّاً أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِئَايَاتِنَا وَقَالَ لاَُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَانِ عَهْداً كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ ءالِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَانِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً لاَّ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَانِ عَهْداً ( 2
مريم : ( 71 ) وإن منكم إلا . . . . .
) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ( قيل : في الآية اضمار مجازه : والله إنْ منكم يعني ما منكم من
(6/224)
" صفحة رقم 225 "
أحد ألاّ واردها يعني النار ، واختلف الناس في معنى الورود حسب اختلافهم في الوعيد ، فأمّا الوعيد فإنّهم قالوا : إنّ من دخلها لم يخرج منها ، وقالت المرجئة : لا يدخلها مؤمن ، واتّفقوا على أنّ الورود هو الحضور والمرور ، فأمّا أهل السنّة فإنّهم قالوا : يجوز أن يعاقب الله سبحانه العصاة من المؤمنين بالنار ثم يخرجهم منها ، وقالوا : معنى الورود الدخول ، واحتجّوا ، بقول الله سبحانه حكاية عن فرعون ) يَقْدمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الِقَيامَةِ فَأوْرَدَهُمْ النّارَ وبِئْسَ الورْدُ المَوْرُودُ ( وقال في الأصنام وعبدتها ) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُون مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أنْتُمْ لَها وَارِدُونَ ( ) لَوْ كَانَ هؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوها ( فلو لم يكن الورود في هذه الآيات بمعنى الدخول لوجب أن يدخل الأصنام وعبدتها وفرعون وقومه الجنّة لأن من مرَّ على النار فلابّد له من الجنّة لأنه ليس بعد الدنيا دار إلاّ الجنّة أو النار ، والذي يدلّ على أنّ الورود هو الدخول قوله في سياق الآية
مريم : ( 72 ) ثم ننجي الذين . . . . .
) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ( والنجاة لا تكون إلاّ ممّا دخلت فيه وأنت ملقىً فيه ، قال الله سبحانه ) فَنَجَّيْنَاه مِنَ الغَمِّ وَكَذلِكَ نُنجِي المُؤمِنِينَ ( واللغة تشهد لهذا ، تقول العرب : ورد كتاب فلان ، ووردتُ بلد كذا ، لا يريدون جزت عليها وإنّما يريدون دخلتها ، ودليلنا أيضاً من السنّة .
وأخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الفقيه قال : حدَّثنا أحمد بن عبد الله المزني قال : حدَّثنا محمد بن نصر بن منصور الصائغ الشيخ الصالح قال : حدَّثنا سليمان بن حرب قال : حدَّثنا أبو صالح غالب بن سليمان عن كثير بن زياد البرساني عن أبي سميّة قال : اختلفنا في الورود ها هنا بالبصرة فقال قوم : لا يدخلها مؤمن ، وقال آخرون : يدخلونها جميعاً ، فلقيت جابر بن عبد الله فسألته فأهوى بإصبعيه إلى أُذنيه وقال : صمّتا إن لم أكن سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( الورود : الدخول ، لا يبقى بّر ولا فاجر إلاّ دخلها فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم ، حتى أنّ للنار أو لجهنم ضجيجاً لمن تردهم ) ثم ننجّي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيّاً ( ) .
وأخبرنا شعيب بن محمد وعبد الله بن حامد قالا : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدَّثنا أحمد بن الأزهر قال : حدَّثنا روح بن عبدان قال : حدَّثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار أنّ نافع بن الأزرق ما رأى ابن عباس يقول ابن عباس : الورود الدخول ويقول نافع ليس الورود الدخول فتلا
(6/225)
" صفحة رقم 226 "
ابن عباس ) حَصَبُ جَهَنّمَ أنْتُمْ لَها وارِدُونَ ( أدخل هؤلاء أم لا ؟ ) فَاَوْرَدُهُم النّارَ وبئس الوِرْدُ المَوْرُود ( أدخل هؤلاء أم لا ؟ والله أنا وأنت فسنردها ، وأنا أرجو أن يخرجني الله وما أرى الله مخرجك منها بتكذيبك .
وبإسناده عن ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله عليه السلام : ما من مسلم يموت له ثلاث من الولد إلاّ لم يلج النار إلاّ تحلّة القَسَم ثم قرأ ) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ( .
وبإسناده عن روح قال : حدَّثنا شعبة قال : أخبرني إسماعيل السدىّ عن مرّة الهمداني عن ابن مسعود في قوله ) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ( قال : يردونها ثم يصدرون عنها بأعمالهم .
وبه عن روح عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال : الصراط على جهنم مثل حد السيف ، تمرّ الطائفة الأُولى كالبرق ، والثانية كالريح ، والثالثة كأجوَد الخيل ، والرابعة كأجود البهائم ، ثمّ يمرّون والملائكة يقولون : اللهمّ سلّم سلّم .
أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد الاصبهاني قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الهروي قال : حدَّثنا الحسين بن إدريس قال : حدَّثنا سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك عن سفيان بن عيبنة عن رجل عن الحسن قال : قال رجل لأخيه : أي أخ هل أتاك أنكّ وارد النار ؟ قال : نعم ، قال : فهل أتاك أنّك خارج منها ؟ قال : لا ، قال : ففيم الضحك إذاً ؟ قال : فما رؤي ضاحكاً حتى مات .
وبإسناده عن عبد الله بن المبارك عن مالك بن معول عن أبي إسحاق عن ابن ميسرة أنّه أوى إلى فراشه فقال : يا ليت أُمي لم تلدني ، فقالت امرأته : يا أبا ميسرة ، إنّ الله سبحانه قد أحسن إليك ، هداك إلى الإسلام فقال : أجل ، ولكنّ الله قد بيّن لنا أنّا واردو النار ولم يبيّن لنا أنّا صادرون منها ، وأنشد في معناه :
لقد أتانا ورود النار ضاحية
حقّاً يقيناً ولمّا يأتِّنا الصَّدَرُ
فإن قيل : فخبّرونا عن الأنبياء هل يدخلون النار ؟ يقال لهم : لا تطلق هذه اللفظة بالتخصيص فيهم بل نقول : إنّ الخلق جميعاً يردونها .
فإن احتجّوا بقوله ) وَلَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ( يقال لهم : إنّ موسى لم يمرّ على تلك البئر
(6/226)
" صفحة رقم 227 "
وإنّما استقى لابنتي شعيب وروى الأغنام وأقام ، وهو معنى الدخول ، والعرب تعبر عن الحي وأماكنهم بذكر الماء ، فتقول : ماء بني فلان .
فإن قيل : فكيف يجوز أن يدخلها من قد أخبر الله سبحانه أنّه لا يسمع حسيسها ولا يدخلها ؟ قيل : إن الله سبحانه أخبر عن وقت كونهم في الجنة أنّهم لا يسمعون حسيسها فيجوز أن يكونوا قد سمعوا ذلك قبل دخولهم الجنة لأن الله سبحانه لم يقل : لم يسمعوا حسيسها ويجوز أن لا يسمعوا حسيسها عند دخولهم إياها إذ الله عزّ وجلّ قادر على ان يجعلها عليهم برداً وسلاماً .
وكذلك تأويل قوله لاا يَدْخُلونَ النّارَ أي لا يخلدون فيها ، أو لا يتألّمون ويتأذّون بها ، يدلّ عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدَّثنا أبو الأزهر قال : حدَّثنا مؤمّل بن إسماعيل عن أبي هلال عن قتادة عن أنس في قول الله سبحانه ) إِنَّكَ مَنْ تُدْخِل النّارَ فَقَدْ أخْزَيْتَه ( فقال : إنّك من تخلّد في النّار فقد أخزيته .
والدليل على أنّ الخلق جميعاً يدخلون النار ثمَّ ينجي الله المؤمنين بعضهم سالمين غير آلمين وبعضهم معذّبين معاقبين ثم يدخلهم جميعاً الجنة برحمته ، ما أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال : أخبرنا حاجب بن محمد قال : حدَّثنا محمد بن حامد الأبيوردي قال : حدَّثنا أبو سعيد عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن أُم مبشر عن حفصة قالت : قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم : إنّي أرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحد شهد بدراً والحديبية قالت : قلت : يا رسول الله أليس قد قال الله سبحانه ) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ( ؟ قال : أفلم تسمعيه يقول ) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً (
؟ .
(6/227)
" صفحة رقم 228 "
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذان قال : أخبرنا جبغوية بن محمد قال : أخبرنا صالح بن محمد بن عبد العزيز بن المسيّب عن الربيع بن بدر عن أبي مسعود عن العباس عن كعب أنّه قال في هذه الآية ) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ( قال : ترفع جهنّم يوم القيامة كأنّها متن اهالة وتستوي أقدام الخلائق عليها ، فينادي مناد أن خذي أصحابك ودعي أصحابي ، فتخسف بهم وهي أعرف بهم من الوالدة بولدها ، ويمرّ أولياء الله عزّ وجلّ بندي ثيابهم ، وقال خالد بن معدان : يقول أهل الجنة : ألم يعدنا ربّنا أن نرد النّار ؟ فيقال : بلى ولكنّكم مررتم بها وهي خامدة .
وروى خالد بن أبي الدريك عن يعلى بن منبّه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( تقول النار للمؤمن يوم القيامة جزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي ) .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : حدَّثنا محمد بن يعقوب قال : حدَّثنا أحمد بن عبد الحميد الحارثي قال : حدَّثنا عبد الرَّحْمن بن أبي حمّاد عن يحيى بن يمان عن عثمان الأسود عن مجاهد في قوله ) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ( قال : من حُمَّ من المسلمين فقد وردها .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدَّثنا عبد الله بن هاشم قال : حدَّثنا يحيى بن سعيد القطان قال : حدَّثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يخرج من النار من قال : لا إله إلاّ الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ، ثم يخرج من النار من قال : لا إله إلاّ الله وكان في قليه من الخير ما يزن برّة ، ثم يخرج من النار من قال : لا إله إلاّ الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرّة ) .
) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ( يعني اتقوا الشرك وهم المؤمنون ، وفي مصحف عبد الله : ثَمّ ننجي بفتح الثاء يعني هناك ) وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ ( أي الكافرين ) فِيهَا ( في النار ) جِثِيّاً ( جميعاً ، وقيل : على الرُّكَب .
أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن خالد بن الحسن قال : حدَّثنا داود بن سليمان قال : حدَّثنا عبد بن حميد قال : حدَّثنا سعيد بن عامر عن حشيش أبي محرز قال : سمعت أبا عمران الجوني يقول : هبك ننجو بعد كم ننجو ؟
مريم : ( 73 ) وإذا تتلى عليهم . . . . .
) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَات قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ( يعني النضر بن الحرث ودونه من قريش ) لِلَّذِينَ آمَنُوا ( يعني فقراء أصحاب رسول الله صلى اللّه عليه وسلم وكانت فيهم قشافة وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة ، وكان المشركون يرجّلون شعورهم ويدهنون رؤوسهم ويلبسون خير ثيابهم فقالوا للمؤمنين : ) أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً ( منزلاً ومسكناً ، وقرأ أهل مكة مقاماً بالضّم أي إقامة ) وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ( يعني مجلساً ، ومثله النادي ، ومنه دار الندوة لأنّ المشركين كانوا يجلسون فيها ويتشاورون في أُمورهم ، قال الله تعالى مجيباً لهم
مريم : ( 74 ) وكم أهلكنا قبلهم . . . . .
) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْن هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ( أي متاعاً ، وقال ابن عباس : هيئة وقال مقاتل : ثياباً . ) وَرِئْياً ( أي منظراً ، وقرأ أُبي : وزّياً بالزاي وهو الهيئة .
مريم : ( 75 ) قل من كان . . . . .
) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمانُ مَدّاً ( أي فليدعه في طغيانه ويمهله في كفره ) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ ( من العذاب ) إِمَّا الْعَذَابَ ( في الدنيا ) وَإِمَّا السَّاعَةَ ( يعني القيامة ) فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً ( أهم أم المؤمنون .
مريم : ( 76 ) ويزيد الله الذين . . . . .
) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ( أي إيماناً ويقيناً يعني المؤمنين ، يقال : ويزيد الله الذين
(6/228)
" صفحة رقم 229 "
اهتدوا بالمنسوخ هدى بالناسخ ) وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً ( عاقبة ومرجعاً
مريم : ( 77 ) أفرأيت الذي كفر . . . . .
) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا ( .
أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال : أخبرنا مكي بن عبدان قال : حدَّثنا عبد الله بن هاشم قال : حدَّثنا أبو معاوية قال : حدَّثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن خبّاب بن الأرتّ قال : كان لي دَين على العاص فأتيته أتقاضاه فقال : لا والله حتى تكفر بمحمد قلت : لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث ، قال : فإنّي إذا متّ ثم بعثت جئتني ، وسيكون لي ثَمّ مال وولد فأُعطيك ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية .
وقال الكلبي ومقاتل : كان خبّاب بن الأرتّ قيناً وكان يعمل للعاص بن وائل السهمي وكان العاص يؤخّر حقّه الشيء بعد الشيء إلى الموسم ، فكان حسن الطلب فصاغ له بعض الحلي فأتاه يتقاضاه الأجرة فقال العاص : ما عندي اليوم ما أقضيك ، فقال له الخباب : لست مفارقك حتى تقضي ، فقال له العاص : يا خبّاب مالك ؟ ماكنت هكذا وإن كنت حسن الطلب والمخالطة ، فقال خبّاب : ذلك أنّي كنت على دينك فأمّا اليوم فأنا على الإسلام مفارق لدينك فلا ، قال : أفلستم تزعمون أنّ في الجنة ذهباً وفضة وحريراً ؟ قال الخبّاب : بلى ، قال : فأخرّني حتى أقضيك في الجنة استهزاءً فو الله لئن كان ما تقول حقاً فإنىّ لأفضل فيها نصيباً منك ، فأنزل الله سبحانه ) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا ( يعني العاص ) وَقَالَ لأَوتَيَنَّ ( لأُعطين ) مَالا وَوَلَداً }
مريم : ( 78 ) أطلع الغيب أم . . . . .
) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ ( قال ابن عباس : أنظر في اللوح المحفوظ ؟ وقال مجاهد : أعلم علم الغيب حتى يعلم أفي الجنة هو أم لا ؟ ) أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمانِ عَهْداً ( يعني أم قال : لا إله إلا الله ، وقال قتادة : يعني عملاً صالحاً قدّمه ، وقال الكلبي : عهد إليه أنّه يُدخله الجنة .
مريم : ( 79 - 80 ) كلا سنكتب ما . . . . .
) كَّلا ( ردٌّ عليه يعني لم يفعل ذلك ) سَنَكْتُبُ ( سنحفظ عليه ) مَا يَقُولُ ( يعني المال والولد . ) وَيَأْتِينَا فَرْداً ( في الآخرة ليس معه شيء .
مريم : ( 81 ) واتخذوا من دون . . . . .
) وَاتَّخَذُوا ( يعني مشركي قريش ) مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً ( يعني الأصنام ) لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً }
مريم : ( 82 ) كلا سيكفرون بعبادتهم . . . . .
) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ ( في الآخرة ويتبرأون منهم ) وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً ( أعداء وقيل : أعواناً .
مريم : ( 83 ) ألم تر أنا . . . . .
) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ ( يعني سلّطناهم عليهم وذلك حين قال لإبليس ) وَاستَفْزِزْزَمنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ( الآية .
) تَؤُزُّهُمْ أَزّاً ( قال ابن عباس : تزعجهم ازعاجاً من الطاعة إلى المعصية . وقال الضحاك
(6/229)
" صفحة رقم 230 "
يأمرهم بالمعاصي أمراً ، وقال سعيد بن جبير : تغريهم إغراءً وقال مجاهد : تشليهم أشلاءً وقال الأخفش : توهجهم ، وقال المؤرّخ : تحرّكهم ، وقال أبو عبيد : تغويهم وتهيجهم ، وقال القتيبي : تخرجهم إلى المعاصي ، وأصله الحركة والغليان ومنه الخبر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ولجوفه أزيز كأزيز المرجل ) .
مريم : ( 84 ) فلا تعجل عليهم . . . . .
) فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ ( بالعذاب ) إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً ( قال الكلبي : يعني الليالي والأيام والشهور والسنين ، وقيل : الأنفاس ، يقال : إنّ المأمون كان يقرأ سورة مريم وعنده الفقهاء فلمّا انتهى إلى هذه الآية التفت إلى محمد بن السماك مشيراً عليه بأن يعظه فقال : إذا كانت الأنفاس بالعدد ، ولم يكن لها مدد ، فما أسرع ما تنفد .
مريم : ( 85 ) يوم نحشر المتقين . . . . .
) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ ( يعني الموحّدين ) إِلَى الرَّحْمانِ وَفْداً ( أي جماعات وهو جمع وافد مثل راكب وركب وصاحب وصحب .
أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا عبد الله بن محمد قال : حدَّثنا محمد بن يحيى قال : حدَّثنا . . . . . . . . . . . . . وهب بن جرير عن شعبة عن إسماعيل بن أبي خالد عن رجل عن أبي هريرة ) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمانِ وَفْداً ( قال : على الإبل ، وقال ابن عباس : ركباناً يؤتون بنوق عليها رحال الذهب ، وأزمّتها الزبرجد فيحملون عليها ، وقال علىّ بن أبي طالب : ( ما يحشرون والله على أرجلهم ولكن على نوق رحالها ذهب ، ونجائب سرجها يواقيت ، إن همّوا بها سارت ، وإن همّوا بها طارت ) .
أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا أحمد بن شاذان عن صعوبة بن محمد ، حدَّثنا صالح ابن محمد عن إبراهيم بن عن صالح بن صدقة أن علي بن أبي طالب ح قال : لما نزلت هذه الاية ) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً ( قال : قلت : يا رسول الله إني رأيت وفود الملوك فلم أرَ وفداً إلاّ ركبانا فما وفد الله ؟ قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم : ( يا علي إذا كان المنصرف من بين يدي الله تلقّت الملائكة المؤمنين بنوق بيض رحالها وأزّمتها الذهب ، على كلّ مركب حُلّة لا تساويها الدنيا ، فيلبس كلّ مؤمن حلّته ثم يستوون على مراكبهم فتهوى بهم النوق حتى تنتهي بهم إلى الجنة تتلقّاهم الملائكة ) سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين ( .
(6/230)
" صفحة رقم 231 "
وقال الربيع : ) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمانِ وفداً ( قال : يفدون إلى ربهم فيكرمون ويعطون ويحيون ويشفعون
مريم : ( 86 ) ونسوق المجرمين إلى . . . . .
) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ ( يعني الكافرين ) إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً ( قال المفسّرون : عطاشى ، مشاة على أرجلهم قد تقطّعت أعناقهم من العطش ، والورد جماعة يردون الماء ، اسم على لفظ المصدر
مريم : ( 87 ) لا يملكون الشفاعة . . . . .
) لاَ يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إلاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمانِ عَهْداً ( يعني لا إله إلاّ الله ، ومن في موضع النصب على الاستثناء .
قال ابن عباس : يعني لا يشفع إلاّ من شهد أن لا إله إلاّ الله تبرّأ من الحول والقوة ولا يرجو إلا الله عزّ وجلّ .
وقال بعضهم : معناه إلاّ لمن اتخذ ، نظيره ) ولا يشفعون إّلا لمن ارتضى ( قال مقاتل ) إِلاَّ مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمانِ عَهْداً ( يعني اعتقد بالتوحيد .
وقال قتادة : عمل بطاعة الله ، وروى أبو وائل عن عبد الله بن مسعود قال : سمعت رسول الله علائم يقول لأصحابه ذات يوم : ( أيعجز أحدكم أن يتّخذ كلّ صباح ومساء عند الله عهداً ؟ قالوا : كيف ذاك ؟ قال : يقول كلّ صباح ومساء : اللهمّ فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة إنّي أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أنىّ أشهد أن لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك ، وأنّ محمّداً عبدك ورسولك ، وأنّك إن تكلني إلى نفسي تقرّبني من الشرّ وتباعدني من الخير ، وإنّي لا أثق إلاّ برحمتك فاجعل لي عندك عهداً توفّينيه يوم القيامة إنّك لا تخلف الميعاد ، فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع ووضع تحت العرش فإذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الذين لهم عند الرَّحْمن عهدٌ فيدخلون الجنة ؟ ) .
2 ( ) وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الاَْرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَداً وَمَا يَنبَغِى لِلرَّحْمَانِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً إِن كُلُّ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ إِلاَّ آتِى الرَّحْمَانِ عَبْداً لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدّاً فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلَسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً ( 2
مريم : ( 88 ) وقالوا اتخذ الرحمن . . . . .
) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمانُ وَلَداً ( يعني اليهود والنصارى ، ومن زعموا أنَّ الملائكة بنات الله ، وقرأ حمزة والكسائي وُلداً بضممّالواو وجزم اللام وهي أربعة مواضع ها هنا ، وحرف في
(6/231)
" صفحة رقم 232 "
سورة الزخرف ، وحرف في سورة نوح ، والباقون بالفتح ، وهما لغتان مثل العرب والعُرب والعجم والعُجم .
قال الشاعر :
فليت فلاناً كان في بطن أُمّه
وليت فلاناً كان ولْد حمار
مخففاً وقيس بجعل الولد بالضم جمعاً والولد بالفتح واحداً .
مريم : ( 89 ) لقد جئتم شيئا . . . . .
) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً ( قال ابن عباس : منكراً ، وقال قتادة ومجاهد : عظيماً ، وقال الضحاك : فظيعاً وقال مقاتل : معناه لقد قلتم قولاً عظيماً ، نظيره قوله ) أفَأَصْفاكُمْ رَبَّكُمْ بِالبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنِ المَلائِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً ( وإلادّ في كلام العرب أعظم الدواهي ، قال رؤبة :
نطح شىّ أد رؤوس الأداد وفيه ثلاث لغات : إدّ بالكسر وهي قراءة العامة ، وأد بالفتح وهي قراءة السلمي ، وآد مثل ماد وهي لغة بعض العرب
مريم : ( 90 ) تكاد السماوات يتفطرن . . . . .
) تَكَادُ السَّموَاتُ ( قرأ نافع والكسائي بالياء لتقديم الفعل ، وقرأ الباقون بالتاء لتأنيث السموات ) يَتَفَطَّرْنَ ( يتشقّقن منه وقرأ أبو عمرو ينفطرن بالنون من الانفطار وهو اختيار أبي عبد اللَّه لقوله عز وجل ) إذا السَّمَاءُ أنفَطَرَتْ ( وقوله ) السماء مُنْفَطِرٌ به ( الباقون بالتاء من التفطّر ) وَتَنشَقُ الأَرضَ وَتَخِرُّ الجِبَالُ هَداً ( قال ابن عباس : وقرأ مقاتل : وقطعاً وقال عطاء : هدماً ، أبو عبيد : سقوطاً
مريم : ( 91 ) أن دعوا للرحمن . . . . .
) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمانِ وَلَداً ( يعني لأن دعوا ، ومن قرأ جعلوا وقالوا للرحمن ولداً ، قال ابن عباس وأُبي بن كعب : فزعت السموات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلاّ الثقلين وكادت أن تزول وغضبت الملائكة واستعرت جهنم وقالوا لله عزّ وجلّ ولد ، ثم نفى سبحانه عن نفسه الولد فقال
مريم : ( 92 ) وما ينبغي للرحمن . . . . .
) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمانِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً ( يعني انه لا يفعل ذلك ولا يحتاج إليه ولا يوصف به
مريم : ( 93 ) إن كل من . . . . .
) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّموَاتِ وَالاْرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمان عَبْداً ( لا ولداً
مريم : ( 94 ) لقد أحصاهم وعدهم . . . . .
) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً ( أنفاسهم وأيامهم فلا يخفى عليه شيء
مريم : ( 95 ) وكلهم آتيه يوم . . . . .
) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ ( جائيه ) يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً ( وحيداً فريداً بعمله ليس معه شيء من الدنيا .
وأخبرنا عبد الله بن حامد ، حدَّثنا محمد بن جعفر بن يزيد ، حدَّثنا أحمد بن عبيد
(6/232)
" صفحة رقم 233 "
المؤدب ، حدَّثنا عبد الرزاق ، وحدَّثنا عبد الله ، نبّأ محمد بن الحسن ، نبّأ أحمد بن يوسف السلمي ، نبّأ عبد الرزاق ، حدَّثنا معمر عن همام بن منبه قال : هذا ما حدَّثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم قال : قال الله عزّ وجلّ : ( كذبني عبدي وشتمني ولم يكن له ذلك ، أما تكذيبه إياّي فأن يقول : لن يعيدنا كما بَدأنا ، وأمّا شتمه إياي فأن يقول : اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أُولد ولم يكن لي كفؤاً أحد ) .
مريم : ( 96 ) إن الذين آمنوا . . . . .
) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمانُ وُدّاً ( أي حبّاً يحبّهم ويحبّبهم إلى عباده المؤمنين من أهل السموات والأرضين .
أخبرنا عبد الخالق بن علىّ بن عبد الخالق أبو القاسم العاصي أنبأ أبو علي محمد بن أحمد بن حمزه عن الحسن الصوّاف ببغداد ، قال أبو جعفر الحسن بن علي الفارسي ، عن إسحاق بن بشر الكوفي ، عن خالد بن يزيد عن يزيد الزيات ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن البراء عن عازب قال : قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم لعلي بن أبي طالب : يا علي قل : ( اللهم اجعل لي عندك عهداً واجعل لي في صدور المؤمنين مودّة ، فأنزل الله تعالى ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ( ) الآية .
وأخبرنا عبد الله بن حامد ، أنبأ عبدوس بن الحسين ، نبّأ أبو حاتم بن أبي أويس ، حدَّثني مالك بن أنس عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم : أنّه قال : إذا أحبّ الله العبد قال لجبرئيل : يا جبرئيل قد أحببت فلاناً فأحّبه ، فيحبّه جبرائيل ثمَّ ينادي في أهل السماء : إنّ الله عزّ وجلّ قد أحب فلاناً فأحبّوه ، فيحبّه أهل السماء ثم يضع له المحبّة في الأرض وإذا أبغض العبد ، قال مالك : لا أحسبه إلاّ قال فى البغض مثل ذلك .
وأخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن يعقوب عن يحيى بن أبي طالب عن عبد الوهاب عن سعيد عن قتادة في قوله ) سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمانُ وُداً ( قال : إي والله ودّ في قلوب أهل الإيمان ، وان هرم بن حيّان يقول : ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا أقبل الله عزّ وجلّ بقلوب أهل الإيمان إليه حتّى يورثه مودّتهم ورحمتهم
(6/233)
" صفحة رقم 234 "
مريم : ( 97 ) فإنما يسرناه بلسانك . . . . .
) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ ( سهّلناه يعني القرآن ) بلسانك ( يا محمد ) لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ ( يعني المؤمنين ) وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً ( قال ابن عباس : شداداً في الخصومة وقال الضحاك : جدلاً بالباطل ، وقال مقاتل : خصماً ، وقال الحسن : صُمّاً ، وقال الربيع : صمّ آذان القلوب ، وهو جمع ألدّ يقال : رجل ألدّ إذا كان من عادته مخاصمة الناس .
وقال مجاهد : الألدّ الظالم الذي لا يستقيم ، وقال أبو عبيد : الألدّ الذي لا يقبل الحق ويدّعي الباطل ، قال الله تعالى ) وَهُوَ أَلدُّ الخِصَام ( .
أخبرنا عبد الله بن حامد ، أنبأ أحمد بن محمد بن الحسين بن السوقي ، نبّأ أبو الازهر نبّأ أبو أُسامة عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة خ قالت : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : أبغض الرجال إلى الله تعالى الألدّ الخصم .
مريم : ( 98 ) وكم أهلكنا قبلهم . . . . .
ثمّ خوّف أهل مكة فقال : ) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْن هَلْ تُحِسُّ ( هل ترى ، وقيل : تجد منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً وهو الصوت الخفيّ ، قال ذو الرمّة :
وقد توجّس ركزاً من سنابكها
إذ كان صاحب أرض أو به الموم
قال أبو عبيدة : الركز : الصوت والحركة الذي لا يفهمه كركز الكتيبة ، وأنشد بيت لبيد :
وتوجّست ركز الأنيس فراعها
عن ظهر غيب والأنيس سقامها
(6/234)
" صفحة رقم 235 "
( سورة طه )
وهي خمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون حرفاً ، وثلثمائة وإحدى وأربعون كلمة ، ومائة وخمس وثلاثون آية
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحيم بن إبراهيم بن محمد العدل ، نبّأ عبد الله بن محمد بن عبد الرَّحْمن الرازي ، قال أبو جعفر محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي وخشنام بن بشر بن العنبر قالا : قال إبراهيم بن المنذر الحرامي عن إبراهيم بن المهاجر قال : حدّثني عمر بن حفص ابن ذكوان عن مولى الحرقة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنّ الله عزّ وجلّ قرأ طه وياسين قبل أن يخلق آدم بألفي عام ، فلمّا سمعت الملائكة القرآن قالوا : طوبى لأُمّة تقول عليها هذا ، طوبى لألسن تتكلم بهذا ، وطوبى لأجواف تحمل هذا .
وأخبرنا أبو عمرو الفراتي قال أبو نصر منصور بن عبد الله السرخسي عن محمد بن الفضل عن إبراهيم بن يوسف عن المسيّب عن زياد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا يقرأ أهل الجنة من القرآن إّلا يس وطه ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
2 ( ) طه مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَق الاَْرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللَّهُ لاإِلَاهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الاَْسْمَآءُ الْحُسْنَى ( 2
طه : ( 1 ) طه
قوله عزّ وجلّ ) طه ( قرأ أبو عمرو بفتح الطاء وكسر الهاء ، وقرأ أهل المدينة والشام بين
(6/235)
" صفحة رقم 236 "
الكسر والفتح فيهما ، وقرأ الأعمش وحمزه والكسائي بكسر الهاء والطاء ، وقرأ عاصم وابن كثير بالتفخيم فيهما وكلها لغات صحيحة .
أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن عمر بن حميد الأزدي عن محمد بن الجهم السمري ، عن يحيى بن زياد الفرّاء عن عيسى بن الربيع عن زرّ بن حبيش قال : قرأ رجل على عبد الله بن مسعود ) طه ( فقال له عبد الله : ) طِه ( فقال له الرجل : يا أبا عبد الرَّحْمن أليس أُمر أن يطأ قدميه ؟ فقال عبد الله : طِه ، هكذا أقرأني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
واختلفوا في تفسيره ، فروى عبد الله بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : هو قسم أقسم الله به وهو اسم من أسماء الله ، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس : هو كقولك : افعل ، وقال مجاهد والحسن وعطاء والضحاك : معناه يا رجل ، وقال عكرمة : هو كقولك : يا رجل بلسان الحبشة يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) وقال قتادة : هو يا رجل بالسريانيّة ، وقال سعيد بن جبير : يا رجل بالنبطية . وروى السدّي عن أبي مالك وعكرمة : طه ، قالا : يا فلان ، وقال الكلبي : هو بلغة عكّ : يا رجل ، قال شاعرهم :
ان السفاهة طه في خلائقكم
لا قدّس الله أرواح الملاعين
وقال آخر :
هتفت بطه في القتال فلم يجب
فخفت لعمرك أن يكون موائلا
مقاتل بن حيان معناه : طئ الأرض بقدميك ، يريد في التهجّد ، وقال محمد بن كعب القرظي : أقسم الله تعالى بطَوله وهدايته ، وموضع القاسم
طه : ( 2 - 3 ) ما أنزلنا عليك . . . . .
قوله ) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ( .
وقال جعفر بن محمد الصادق ( ح ) : طه : طهارة أهل بيت محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ثم ) إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً ( وقيل : الطاء شجرة طوبى ، والهاء هاويه . والعرب تعبّر ببعض الشيء عن كلّه فكأنّه أقسم بالجنة والنار .
(6/236)
" صفحة رقم 237 "
وقال سعيد بن جبير : الطاء افتتاح اسمه طاهر وطيب ، والهاء افتتاح اسمه هادي . وقيل : الطاء يا طامع الشفاعة للأُمة ، والهاء يا هادي الخلق إلى الملّة .
وقيل : الطاء من الطهارة ، والهاء : من الهداية ، وكأنه تعالى يقول لنبيّه صلى اللّه عليه وسلم : يا طاهراً من الذنوب ، ويا هادياً إلى علاّم الغيوب ، وقيل : الطاء : طبول الغزاة ، والهاء : هيبتهم في قلوب الكفار ، قال الله تعالى ) سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ( . وقال : وقذف في قلوبهم الرعب ، وقيل : الطاء : طرب أهل الجنة ، والهاء : هوان أهل النار في النار ، وقيل : الطاء تسعة في حساب ( الجمل ) والهاء خمسة ، أربعة عشر ، ومعناها يا أيّها البدر ) مَا أنْزَلْنا عَلَيْككَالقُرْآنَ لِتَشْقى ( قال مجاهد : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه يربطون الحبال في صدورهم في الصلاة بالليل ذلك بالفرض ، وأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال الكلبي : لمّا نزل على رسول الله الوحي بمكّة اجتهد في العبادة واشتدّت عبادته فجعل يصلّي الليل كله ، فكان بعد نزول هذه الآية ينام ويصلّي .
أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد الهروي عن بشر بن موسى الحميدي عن سفيان بن زياد بن علاقة قال : سمعت المغيرة بن شعبة يقول : قام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى تورمت قدماه ، وقيل له : يا رسول الله أليس قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ؟ فقال ( صلى الله عليه وسلم ) أفلا أكون عبداً شكوراً .
وقال مقاتل : قال أبو جهل بن هشام والنصر بن الحرث للنبىّ ( صلى الله عليه وسلم ) إنّك لتسعى بترك ديننا وذلك لما رأوا من طول عبادته وشدّة اجتهاده فإننا نراه أنّه ليس لله وأنّك مبعوث إلينا ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بل بعثت رحمة للعالمين ، قالوا : بل أنت شقيّ ، فأنزل الله تعالى ) طه مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكِ القُرْآنَ لِتَشْقى ( وأصل لكن أنزلناه عظة لمن يخشى .
قال الحسين بن الفضل : فيه تقديم وتأخير مجازه : ما أنزلنا عليك القرآن إّلا تذكرة لمن يخشى ولئلاّ تشقى ، تنزيلاً بدل من قوله تذكرةً
(6/237)
" صفحة رقم 238 "
وقرأ أبو الشامي : تنزيل بالرفع يعني هذا
طه : ( 4 ) تنزيلا ممن خلق . . . . .
) تَنْزِيْلا مِمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ والسَّماوات العُلى ( يعني العالية الرفيعة وهو جمع العُليا كصغرى وصغر وكبرى وكبر
طه : ( 5 - 6 ) الرحمن على العرش . . . . .
) الرَّحْمانُ على الْعَرْش اسْتَوى لَهُ ما في السَّمواتِ وَما في الأرْض وَما بَيْنَهُمَا وَما تَحْتَ الثَّرى ( يعني التراب الذي تحت الأرضين وهو التراب الندي ، تقول العرب : شبر ندىّ وسهر نديّ وسهر مرعىّ .
قال ابن عباس : الأرض على ظهر النون والنون على بحر وإنّ طرفي النون رأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش على صخرة خضراء ، وخضرة السماء منها وهي الصخرة التي ذكرها الله تعالى في القرآن في قصة لقمان ) فتكن في صخرة ( الصخرة على قرن ثور ، والثور على الثرى ) وما تحت الثرى ( لا يعلمه إلاّ الله عزّ وجلّ ، وذلك الثور فاتح فاهُ فإذا جعل الله عزّ وجلّ البحار بحراً واحداً سالت في جوف ذلك الثور ، فإذا وقعت في جوفه يبست .
طه : ( 7 - 8 ) وإن تجهر بالقول . . . . .
) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ ( تُعلن ) فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأخْفى ( .
أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا حامد أخبرنا بشر بن موسى عن عبد الله بن صالح العجلي ، حدَّثنا أبو الأحوص عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله ) يَعْلَمُ السِّرَ وأخْفى ( قال : وأخفى حديث نفسك نفسك .
وأخبرني عبد الله بن حامد عن أبي الطاهر محمد بن الحسن ، حدَّثنا إبراهيم بن أبي طالب عن محمد بن النعمان بن مسيل ، حدَّثنا يحيى بن أبي روق عن أبيه عن الضحاك عن ابن عباس قال : السرّ ما أسررت في نفسك ، وأخفى أخفى من السّر ، ما ستحدّث به نفسك ، ما لا تعلم أنّك تحدّث به نفسك .
وروى عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير قال : السر ما تُسرّ في نفسك ، وأخفى من السرّ ما لم يكن وهو كائن ، قال : وأنت تعلم ما تسرّ اليوم ولا تعلم ما تسرّ غداً ، والله عزّ وجلّ يعلم ما أسررت اليوم وما تسرّ غداً .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : السرّ ما أسرّ ابن آدم في نفسه ، وأخفى ما خفي على ابن آدم مّما هو فاعله قبل أن يعلمه ، فالله يعلم ذلك كله ، فعلمه فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد ، وجميع الخلائق عنده في ذلك كنفس واحدة .
وقال مجاهد : السرّ العمل الذي يسرّون من الناس ، وأخفى الوسوسة ، وقال زيد بن أسلم : معناه يعلم أسرار العباد ، وأخفى سرّه فلا يعلم .
وقال الحسن : السرّ ما أسرّ الرجل إلى غيره ، وأخفى من ذلك ما أسرّه في نفسهِ
(6/238)
" صفحة رقم 239 "
ثم وحّد نفسه فقال : ) الله لا إله إلاّ هو له الأسماء الحسنى (
.
) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لاَِهْلِهِ امْكُثُواْ إِنِّىءَانَسْتُ نَاراً لَّعَلِّىآتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِىَ يامُوسَى إِنِّىأَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِىأَنَا اللَّهُ لاإِلَاهَ إِلاأَنَاْ فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلَواةَ لِذِكْرِى إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى قَالَ هِىَ عَصَاىَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى وَلِىَ فِيهَا مَأَرِبُ أُخْرَى قَالَ أَلْقِهَا يامُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الاُْولَى وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ءَايَةً أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ ءَايَاتِنَا الْكُبْرَى ( 2
طه : ( 9 ) وهل أتاك حديث . . . . .
) وهل أتاك ( يا محمد ) حديث موسى ( قال أهل المعاني : هو استفهام اثبات مجازه : أليس قد أتاك ؟ . وقال بعضهم : معناه : وقد أتاك ، وقال : لم يكن قد أتاه ثم أخبره .
طه : ( 10 ) إذ رأى نارا . . . . .
) إذ رأى ناراً ( ليلة الجمعة ، وقال وهب بن منّبه : استأذن موسى شعيباً في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج بأهله ، فولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية مثلجة وقد جاد عن الطريق ، فقدح موسى النار فلم تور المقدحة ، فبينا هو في مزاولة ذلك أبصر ناراً من بعيد عن يسار الطريق ) فَقَالَ لأِهْلِهِ ( لامرأته ) امْكُثُوا ( أقيموا مكانكم ) إِنِّي آنَسْتُ ( أبصرتُ ) نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَس ( يعني شعلة من النار ، والقبس : ما اقتبس من خشب أو قصب أو غير ذلك ) أو أجد عَلَى النَّارِ هُدىً ( يعني من يدلّني على الطريق
طه : ( 11 ) فلما أتاها نودي . . . . .
) فَلَمَّا أَتَاهَا ( رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنّها نار بيضاء تتقدّم ، وسمع تسبيح الملائكة ، ورأى نوراً عظيما فخاف وتعّجب ، فأُلقيت عليه السكينة ثمّ ) نُودِي يَا مُوسَى (
طه : ( 12 ) إني أنا ربك . . . . .
) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ( وإنّما كرّر الكناية لتوكيد الدلالة وإزالة الشبهة وتحقيق المعرفة ، ونظيره قوله للرسول عليه السلام ) وَقُلْ إنِّي أنا النَّذِيرُ المُبِينُ ( .
) فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ( وكان السبب في أمره بخلع نعليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد
(6/239)
" صفحة رقم 240 "
قال : أخبرنا أحمد بن يحيى العبيدي قال : حدَّثنا أحمد بن نجدة قال : حدَّثنا الحمّاني قال : حدَّثنا عيسى بن يونس عن حميد بن عبد الله عن عبد الله بن الحرث العنبسي عن عبد الله بن مسعود عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله ) فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ( قال : كانتا من جلد حمار ميّت ، وفي بعض الأخبار : غير مدبوغ ، وقال الحسن : ما بال خلع النعلين في الصلاة وصلّى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في نعليه ؟ وإنّما أُمر موسى عليه السلام أن يخلع نعليه إنّهما كانتا من جلد حمار ، وقال أبو الأحوص : أتى عبد الله أبا موسى في داره فأُقيمت الصلاة فقال لعبد الله تقدّم ، فقال له عبد الله : تقدّم أنت في دارك فتقدّم فنزع نعليه ، فقال له عبد الله : أبالواد المقدّس أنت ؟ .
وقال عكرمة ومجاهد : إنّما قال له : اخلع نعليك كي تمسّ راحة قدميك الأرض الطيّبة وينالك بركتها لأنّها قدّست مرّتين .
وقال بعضهم : أُمر بذلك لأنّ الحفوة من أمارات التواضع ، وكذلك فعل السّلف حين طافوا بالبيت .
قال سعيد بن جبير : قيل له : طأ الأرض حافياً ، كيما يدخل كعبه من بركة الوادي .
وقال أهل الاشارة : معناه : فرِّغ قلبك من شغل الأهل والولد .
قالوا : وكذلك هو في التعبير من رأى عليه نعلين تزوّج .
فخلعهما موسى وألقاهما من وراء الوادي ) إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ ( المطهّر ) طُوىً ( اسم الوادي ، وقال الضحاك : مستدير عميق مثل الطوى في استدارته ، وقيل : اراد به إنك تطوي الوادي ، وقيل : هو الليل ، يقال : أتيتك طوى من الليل ، وقيل : طُويَت عليه البركة طيّاً ، وقرأ عكرمة : طوى بكسر الطاء وهما لغتان ، وقرأ أهل الكوفة والشام : طِوَىً بالتنوين وإلاّ جرّاً لتذكيره وتحقيقه ، الباقون من غير تنوين ، قال : لأنّه معدول عن طاو أو مطوىّ ، فلّما كان معدولاً عن وجهه كان مصروفاً عن إعرابه مثل عمر وزفر وقثم .
طه : ( 13 ) وأنا اخترتك فاستمع . . . . .
) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ ( اصطفيتك ، وقرأ حمزة : وإنّا اخترناك بلفظ الجمع على التعظيم ) فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى}
طه : ( 14 ) إنني أنا الله . . . . .
) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي ( ولا تعبد غيري ) وَأَقِمْ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي (
قال مجاهد : أقم الصلاة لتذكرني فيها ، وقال مقاتل : إذا تركت الصلاة ثمَّ ذكرتها فأقمها ، يدلّ عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا محمد بن يعقوب قال : حدَّثنا إبراهيم بن
(6/240)
" صفحة رقم 241 "
مرزوق قال : حدَّثنا سعيد بن عامر عن سعيد عن قتادة عن أنس أنَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من نسي صلاة أو نام عنها فليصلّها إذا ذكرها ، إنّ الله سبحانه يقول : ) وَأَقِمْ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي ( .
وقيل : هو مردود على الوحي يعني فاستمع لما يوحى واستمع لذكري .
طه : ( 15 ) إن الساعة آتية . . . . .
) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا ( فأكاد صلة ، كقول الشاعر :
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه
فما أن يكاد قرنه يتنفس
يعني : فما يتنفس من خوفه ، والفائدة في الإخفاء التخويف والتهويل ، قال ابن عباس وأكثر المفسّرين : معناه أكاد أُخفيها من نفسي ، وكذلك هو في مصحف اُبي ، وفي مصحف عبد الله : أكاد أُخفيها من نفسي فكيف يعلمها مخلوق ؟ .
وفي بعض القراءات فكيف أظهرها لكم ؟ قال قطرب : فإن قيل : كيف يخفي الله من نفسه وهو خلق الإخفاء ؟ قلنا : إنّ الله سبحانه كلّم العرب بكلامهم الذي يعرفونه ، ألا ترى أنَّ الرجل يعذل أخاه فيقول له : أُذعت سرّي ، فيقول مجيباً له معتذراً إليه : والله لقد كتمت سرّك نفسي فكيف أذعته ؟ معناه عندهم : أخفيته الإخفاء كله ، وقال الشاعر :
أيام تُعجبني هند وأُخبرها
ما أكتم النّفس من حاجي وإسراري
فكيف يخبرها ما يكتم عن نفسه ؟ فمجاز الآية على هذا .
وقرأ الحسن وسعيد بن جبير : أَخفيها بفتح الألف أي أُظهرها وأُبرزها يقال : خفيت الشيء إذا أظهرته ، وأخفيته إذا سترته ، قال امرؤ القيس :
خفاهنّ من إنفاقِهنّ كأنّما
خفاهنّ ودق من سحاب مركّب
أي اخرجهن .
) لِتُجْزَى كُلُّ نَفْس بِمَا تَسْعَى ( أي تعمل من خير وشرّ
طه : ( 16 ) فلا يصدنك عنها . . . . .
) فَلاَ يَصُدَّنَّكَ ( يصرفنّك ) عَنْهَا ( يعني عن الإيمان بالساعة ) مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ( مراده ) فَتَرْدَى ( فتهلك .
طه : ( 17 - 18 ) وما تلك بيمينك . . . . .
) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ ( وكانت لها شعبتان وفي أسفلها سنان واسمها نبعة في قول مقاتل ) أَتَوَكَّأُ ( اعتمد ) عَلَيْهَا ( إذا مشيت وإذا أعييت وعند الوثبة
(6/241)
" صفحة رقم 242 "
والطفرة . ) وَأَهُشُّ ( وأخبط ) بِهَا ( الشجر ليتناثر ورقها فتأكل غنمي ، وقرأ عكرمة ( وأهسُّ ) بالسين يعني وازجر بها الغنم ، وذلك أن العرب تقول : هس هس ، وقال النضر بن شمّيل : سألت الخليل عن قراءة عكرمة فقال : العرب تعاقب بين الشين والسين في كثير من الكلام ، كقولهم : شمّت العاطس وسمّته ، وشن عليه الدرع وسن ، والروشم والروسم للختم .
) وَلِىَ فِيهَا مَآرِبُ ( حوائج ومنافع ، واحدتها مأرَبة ومَأرُبة بفتح الراء وضمّها ) أُخْرَى ( ولم يقل أُخَر لرؤوس الآي .
قال ابن عباس : كان موسى عليه السلام يحمل عليها زاده وسقاءه ، فجعلت تماشيه وتحدّثه ، وكان يضرب بها الأرض فيخرج ما يأكل يومه ، ويركزها فيخرج الماء فإذا رفعها ذهب الماء ، وكان يردّ بها غنمه ، وتقيه الهوام بإذن الله ، وإذا ظهر له عدّو حاربت وناضلت عنه ، وإذا أراد إلاسقاء من البئر أدلاها فطالت على طول البئر وصارت شعبتاها كالدلو حتى يستقي ، وكان يظهر على شعبتيها كالشمعتين بالليل تضيء له ويهتدي بها ، وإذا اشتهى ثمرة من الثمار ركزها في الأرض فتغصّنت غصن تلك الشجرة وأورقت ورقها وأثمرت ثمرها ، فهذه المآرب .
طه : ( 19 - 20 ) قال ألقها يا . . . . .
قال الله سبحانه ) أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا ( من يده ) فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ( تمشي مسرعة على بطنها .
قال ابن عباس : صارت حيّة صفراء لها عرف كعرف الفرس ، وجعلت تتورّم حتى صارت ثعباناً ، وهو أكبر ما يكون من الحيّات ، فلذلك قال في موضع ) كأنَّها جَانّ ( وهو أصغر الحيّات ، وفي موضع ثعبان وهو أعظمها ، فالجانّ عبارة عن ابتداء حالها ، والثعبان إخبار عن انتهاء حالها ، وقيل : أراد أنّها في عظم الثعبان وسرعة الجانّ ، فأمّا الحيّة فإنها تجمع الصغر والكبر والذكر والأُنثى .
قال فرقد السخي : كان ما بين جنبيها أربعين ذراعاً فلما ظهر في موسى من الخوف ونفار الطبع لمّا رأى من الاعجوبة
طه : ( 21 ) قال خذها ولا . . . . .
) قَالَ ( الله تعالى له ) خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا ( أي إلى سيرتها وهيئتها ) الاْولَى ( نردّها عصاً كما كانت
طه : ( 22 ) واضمم يدك إلى . . . . .
) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ ( يعني إبطك .
وقال الكلبي : أسفل من الإبط ، وقال مجاهد : تحت عضدك ، وقال مقاتل : يعني مع جناحك وهو عضده ) تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوء ( برص ولا داء ) آيَةً أُخْرَى ( سوى العصا ، فأخرج يده من مدرعة له مضرّبة بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس يغشي البصر
طه : ( 23 ) لنريك من آياتنا . . . . .
) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى ( وكان من حقّه الكبر وإنّما قال : الكبرى وفاقاً لرؤس الآي ، وقيل : فيه اضمار معناه ) لنريك من آياتنا ( الآية الكبرى دليله قول ابن عباس : كانت يد موسى أكبر آياته .
(6/242)
" صفحة رقم 243 "
2 ( ) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِى صَدْرِى وَيَسِّرْ لِىأَمْرِى وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى يَفْقَهُواْ قَوْلِي وَاجْعَل لِّى وَزِيراً مِّنْ أَهْلِى هَارُونَ أَخِى اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى وَأَشْرِكْهُ فِىأَمْرِى كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّى وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى إِذْ تَمْشِىأُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَى تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِىأَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يامُوسَى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِئَايَاتِى وَلاَ تَنِيَا فِى ذِكْرِى اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَى قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِى مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَى فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِىإِسْرَاءِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِئَايَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَآ أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يامُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِىأَعْطَى كُلَّ شَىءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاُْولَى قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّى فِى كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّى وَلاَ يَنسَى ( 2
طه : ( 24 ) اذهب إلى فرعون . . . . .
) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ( عصى وعلا وتكبّر وكفر ، فادعه إلى عبادتي ، واعلم بأنّي قد ربطت على قلبه ، قال : فكيف تأمرني أن آتيه وقد ربطتَ على قلبه ؟ فأتاه ملك من خزّان الريح فقال : انطلق ، فإنّا اثنا عشر من خزّان الريح منذ خلقنا الله سبحانه نحن في هذا فما علمناه ، فامض لأمر الله ،
طه : ( 25 ) قال رب اشرح . . . . .
فقال موسى عند ذلك ) رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ( وسّع وليّن قلبي بالإيمان والنبوّة
طه : ( 26 ) ويسر لي أمري
) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ( وسهّل عليّ ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون
طه : ( 27 ) واحلل عقدة من . . . . .
) وَاحْلُلْ ( وابسُط وافتح ) عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (
قال ابن عباس : كانت في لسانه رُتّة ، وذلك أنّه كان في حجر فرعون ذات يوم فلطمه لطمة وأخذ بلحيته فقال فرعون لآسية امرأته : انَّ هذا عدوّي ، فقالت آسية : على رسلك إنّه صبي لا يفرّق بين الأشياء ولا يميّز ، ثم جاءت بطستين فجعلت في أحدهما الجمر وفي الأُخرى الجوهر ووضعتهما بين يدي موسى ، فأخذ جبرئيل بيد موسى فوضعها على النار حتى رفع جمرة ووضعها على لسانه فتلك الرُتّة
طه : ( 28 ) يفقهوا قولي
) يَفْقَهُوا قَوْلِي ( كي يفهموا كلامي
طه : ( 29 ) واجعل لي وزيرا . . . . .
) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً ( معيناً وظهيراً ) مِنْ أَهْلِي ( ثمَّ بين من هو فقال
طه : ( 30 - 31 ) هارون أخي
) هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ( قوِّ به ظهري
طه : ( 32 ) وأشركه في أمري
) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ( يعني النبوّة وتبليغ الرسالة
طه : ( 33 ) كي نسبحك كثيرا
) كَىْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرا ( نصلّي لك
طه : ( 34 - 35 ) ونذكرك كثيرا
) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً ( .
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن عامر : اشدد به أزري بفتح الألف وأُشركه بضم الألف
(6/243)
" صفحة رقم 244 "
على الجزاء والجواب حكاية عن موسى أنّي أفعل ذلك ،
طه : ( 36 ) قال قد أوتيت . . . . .
قال الله سبحانه ) قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى ( قد أُعطيت مرادك وسؤالك يا موسى .
طه : ( 37 ) ولقد مننا عليك . . . . .
) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى ( قبل هذا وهي
طه : ( 38 ) إذ أوحينا إلى . . . . .
) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ ( وحي إلهام مثل وحي النحل ) مَا يُوحَى }
طه : ( 39 ) أن اقذفيه في . . . . .
) أَنْ اقْذِفِيهِ ( أن اجعليه ) فِي التَّابُوتِ ( .
قال مقاتل : والمؤمن الذي صنع التابوت من آل فرعون اسمه خربيل ، وقيل : إنّه كان من بردي ) فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ ( يعني نهر النيل ) فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ( يعني شاطئ النهر ، لفظه أمر ومعناه خبر مجازه : حتى يلقيه اليمّ بالساحل ) يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ ( يعني فرعون ، فاتّخذت تابوتاً وجعلت فيه قطناً محلوجاً ، ووضعت فيه موسى ، وقيّرت رأسه وَخصَاصه يعني شقوقه ثمّ ألقته في النّيل ، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون ، فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية إذا بتابوت يجيء به الماء ، فلمّا رأى ذلك أمر الغلمان والجواري بإخراجه فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا صبيّ من أصبح الناس وجهاً ، فلمّا رآه فرعون أحبّه بحيث لم يتمالك ، فذلك قوله سبحانه ) وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي ( قال ابن عباس : أحبّه وحبّبه إلى خلقه ، قال عطيّة العوفي : جعل عليه مُسحة من جمال لا تكاد يصبر عنه مَن رآه ، قال قتادة : ملاحة كانت في عيني موسى ، ما رآه أحد إلاّ عشقه .
) وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ( أي ولتربّى وتغذّى بمرأىً ومنظر منّي
طه : ( 40 ) إذ تمشي أختك . . . . .
) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ ( واسمها مريم متعرّفة خبره ) فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ ( يرضعه ويضمّه إليه ، وذلك أنّه كان لا يقبل ثدي امرأة ، فلمّا قالت لهم أُخته ذلك قالوا : نعم ، فجاءت بالأُمّ فقبل ثديها فذلك قوله ) فَرَجَعْنَاكَ ( فرددناك ) إِلَى أُمِّكَ ( . وفي مصحف أُبي فرددناك إلى أُمّك ) كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا ( بلقائك وبقائك ) وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً ( قال ابن عباس : قتل قبطياً كافراً .
قال كعب الأحبار : كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة ) فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ ( أي من غّم القتل وكربته ) وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ( . قال ابن عباس : اختبرناك اختباراً . وقال الضحّاك وقتادة ومقاتل ، ابتليناك ابتلاءً . وقال مجاهد : أخلصناك إخلاصاً ) فَلَبِثْتَ سِنِينَ ( يعني عشر سنين ) فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ( وهي بلدة شعيب على ثلاث مراحل من مصر ، قال وهب : لبث عند شعيب ثمان وعشرين سنة ، عشر سنين منها مهر امرأته صفيرا بنت شعيب وثماني عشرة سنة أقام عنده حتى وُلد لَه .
) ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَر يَا مُوسَى ( . قال مقاتل : على موعد ، قال محمد بن كعب : ثم جئت على القدر الذي قدّرت أنك تجيء
(6/244)
" صفحة رقم 245 "
قال عبد الرَّحْمن بن كيسان : على رأس أربعين سنة وهو القدر الذي يوحي فيه إلى الأنبياء ، قال الكلبي : وافق الكلام عند الشجرة .
طه : ( 41 ) واصطنعتك لنفسي
) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ( اخترتك واصطفيتك واختصصتك بالرسالة أو النبوّة
طه : ( 42 ) اذهب أنت وأخوك . . . . .
) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي ( اليد والعصا ) وَلاَ تَنِيَا ( قال ابن عباس : لا تضعفا ، وقال السُدّي : لا تفترا ، وقال محمد بن كعب : لا تقصّرا .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : لا تبطئا ، وقي قراءة ابن مسعود : ولا تهنا .
طه : ( 43 - 44 ) اذهبا إلى فرعون . . . . .
) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّناً ( قال ابن عباس : لا تعنّفا في قولكما ولا تغلّظا ، وقال السدّي وعكرمة : كنّياه قولا له : يا أبا العباس ، وقيل : يا أبا الوليد .
وقال مقاتل : يعني بالقول اللين هل لك إلى أن تزكّى وأهديك إلى ربّك فتخشى .
وقال أهل المعاني : معناه الطُفا له في قولكما فإنّه ربّاك وأحسن تربيتك وله عليك حقّ الأُبوّة فلا تجبهه بمكروه في أوّل قدومك عليه ، يقال : وعده على قبول الإيمان شباباً لا يهرم وملكاً لا يُنزع عنه إلاّ بالموت ، ويبقى عليه لذّة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته .
قال المفسّرون : وكان هارون يومئذ بمصر فأمر الله عزّ وجلّ أن يأتي هو وهارون ، وأوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى فتلقّاه إلى مرحلة وأخبره بما أُوحي إليه فقال له موسى : إن الله سبحانه أمرني أن آتي فرعون فسألت ربّي عزّ وجلّ أن يجعلك معي . وقوله ) لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( أي يسلم .
فإن قيل : كيف قال : لعله يتذكر أو يخشى وعلمه سابق في فرعون أنّه لا يتذكّر ولا يخشى ؟ .
قال الحسين بن الفضل : هو مصروف إلى غير فرعون ، ومجازه : لكي يتذكّر متذكّر أو يخشى خاش إذا رأى برّي وإلطافي بمن خلقته ورزقته ، وصححت جسمه وأنعمت عليه ثم ادّعى الربوبية دوني .
وقال أبو بكر محمد بن عمر الورّاق : لعلّ ها هنا من الله واجب ، ولقد تذّكر فرعون حيث لم تنفعه الذكرى والخشية ، وذلك قوله حين الجمَهُ الغرقُ في البحر ) آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ( .
(6/245)
" صفحة رقم 246 "
سمعت أبا القاسم الحسنن بن محمد بن حبيب يقول : سمعت أبي يقول سمعت علىّ بن محمد الوراق يقول : سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول وقرأ هذه الآية : هذا رفقك بمن يقول : أنا الإله ، فكيف رفقك بمن يقول : أنت الإله ؟
قال أبو القاسم الحسين فبنيت عليه ألفاظاً اقتديت به فيها فقلت : هذا رفقك بمن ينافيك فكيف رفقك بمن يصافيك ؟ هذا رفقك بمن يعاديك فكيف رفقك بمن يواليك ؟ هذا رفقك بمن يسبّك فكيف رفقك بمن يحبّك ؟ هذا رفقك بمن يقول لك نِدّاً فكيف رفقك بمن يقول فرداً ؟ هذا رفقك بمن ضلّ فكيف رفقك بمن ذل هذا رفقك بمن اقترف فكيف رفقك بمن اعترف ؟ هذا رفقك بمن أصرَّ فكيف رفقك بمن أقرَّ ؟ هذا رفقك بمن استكبر فكيف رفقك بمن استغفر ؟
طه : ( 45 ) قالا ربنا إننا . . . . .
) قَالاَ ( يعني موسى وهارون ) رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا ( . قال ابن عباس : يعجّل بالقتل والعقوبة ، وقال الضحّاك : تجاوز الحدّ ، وقيل : يغلبنا ) أَوْ أَنْ يَطْغَى ( يتكبرّ ويستعصي علينا .
طه : ( 46 ) قال لا تخافا . . . . .
) قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا ( بالدفع عنكما ) أَسْمَعُ ( قولكما وقوله ) وَأَرَى ( فعله وفعلكما
طه : ( 47 ) فأتياه فقولا إنا . . . . .
) فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ ( أي ولا تتعبهم في العمل ، وكانت بنو إسرائيل عند آل فرعون في عذاب شديد يقتل ابناءهم ويستخدم نساءهم ويكلفهم من العمل واللبن والطين وبناء المدائن ما لا يقدرون عليه .
قال موسى ) قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَة مِنْ رَبِّكَ ( قال فرعون : وما هي ؟ قال : فأدخل يده في جيب قميصه ثمَّ أخرجها فإذا هي بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس ، غلبت نور الشمس ، فعجب منها ولم يُره العصا إلاّ بعد ذلك يوم الزينة .
) وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى ( يعني من أسلم
طه : ( 48 ) إنا قد أوحي . . . . .
) إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ ( أنبياء الله ) وَتَوَلَّى ( أعرض عن الإيمان ، ورأيت في بعض التفاسير أنَّ هذه أرجى آية للموحّدين في القرآن .
طه : ( 49 ) قال فمن ربكما . . . . .
) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ( يعني يا موسى وهارون فذكر موسى دون هارون لرؤوس الآي .
طه : ( 50 ) قال ربنا الذي . . . . .
) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيء خَلْقَهُ ( قال الحسين وقتادة : أعطى كلّ شئ صلاحه وهداه لما يصلحه
(6/246)
" صفحة رقم 247 "
وقال مجاهد : لم يجعل الإنسان في خلق البهائم ، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان ، ولكن خلق كلّ شي فقدّره تقديراً .
وقال عطيّة : أعطى كلّ شئ خلقه يعني صورته .
وقال الضحّاك : أعطى كلّ شيء خلقه ، يعني اليد للبطش والرجل للمشي واللسان للنطق والعين للبصر والأُذن للسمع .
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال : أخبرنا عبد الرَّحْمن بن محمد الزهري قال : حدَّثنا أحمد ابن سعيد قال : حدَّثنا سعيد بن سليمان عن إسماعيل بن زكريا عن إسماعيل بن أبي صالح ، أعطى كل شي خلقه ) ثُمَّ هَدَى ( قال : هداه لمعيشته .
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : ) أَعْطَى كُلَّ شَيْء خَلْقَهُ ( يعني شكله ، للإنسان الزوجة وللبعير الناقة وللفرس الرمكة وللحمار الأتان ثمَّ هدى أي عرَّف وعلّم وألهم كيف يأتي الذكر الأُنثى في النكاح . وقرأ نصير خلَقه بفتح اللام على الفعل .
طه : ( 51 ) قال فما بال . . . . .
) قال فرعون ( ) فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الاْولَى ( وإنَما قال هذا فرعون لموسى حين قال موسى : ) إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم ( ، فقال فرعون حينئذ له : فما بال القرون الاولى التي ذكرت ؟ فقال موسى
طه : ( 52 ) قال علمها عند . . . . .
) عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَاب ( يعني اللوح المحفوظ ، وإنّما ردّ موسى علم ذلك إلى الله سبحانه لأنّه لم يعلم ذلك ، وإنَما نزلت التوراة عليه بعد هلاك فرعون وقومه ) لاَ يَضِلُّ رَبِّي ( أي لا يخطئ ) وَلاَ يَنسَى ( فيتذكّر ، وقال مجاهد : هما شيء واحد .
طه : ( 53 ) الذي جعل لكم . . . . .
) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الاْرْضَ مَهْداً ( قرأه أهل الكوفة بغير ألف أي فرشاً ، وقرأ الباقون مهاداً أي فراشاً واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله : ) ألم نجعل الأرض مهاداً ( ولم يختلفوا فيه أنّه بالألف .
) وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا ( أي أدخل وبيّن وطرّق لكم فيها طرقاً . ) وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً ( أصنافاً ) مِنْ نَبَات شَتَّى ( مختلف الألوان والطعوم والمنافع من بين أبيض وأحمر وأخضر وأصفر ، ووهب كلّ صنف زوجاً ، ومنها للدوابّ ومنها للناس ثمَّ قال
طه : ( 54 ) كلوا وارعوا أنعامكم . . . . .
) كُلُوا وَارْعَوْا ( أي ارتعوا ) أَنْعَامَكُمْ ( يقول العرب : رعيتُ الغنم فرَعَتْ لازم ومتعدّ .
) إِنَّ فِي ذَلِكَ ( الذي ذكرت ) لآَيَات لاِوْلِي النُّهَى ( أي لذوي العقول ، واحدها نُهية ، سُمّيت بذلك لأنّها تنهى صاحبها عن القبائح والفضائح وارتكاب المحظورات والمحرّمات
(6/247)
" صفحة رقم 248 "
وقال الضحّاك : ) لاِوْلِي النُّهَى ( يعني الذين ينتهون عمّا حُرَّم عليهم .
وقال قتادة : لذوي الورع ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : لذوي التقى .
( ) الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الاَْرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى كُلُواْ وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِى ذالِكَ لأيَاتٍ لاُِوْلِى النُّهَى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يامُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى قَالَ لَهُمْ مُّوسَى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى قَالُواْ إِنْ هَاذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُواْ صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى قَالُواْ يامُوسَى إِمَّآ أَن تُلْقِىَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاَْعْلَى وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُواْ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ ءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَآءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِى فَطَرَنَا فَاقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَاذِهِ الْحَيَواةَ الدُّنْيَآ إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَائِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّى ( 2
طه : ( 55 ) منها خلقناكم وفيها . . . . .
) مِنْهَا ( أي من الأرض ) خَلَقْنَاكُمْ ( يعني أباكم آدم . وقال عطاء الخراساني : إن الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذرّهُ على النطفة ، فيخلق من التراب ، ومن النطفة فذلك قوله سبحانه ) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ ( .
) وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ( أي عند الموت والدفن ، قال عليّ : ( إن المؤمن إذا قبض الملك روحه انتهى به إلى السماء ، وقال : يا ربِّ عبدك فلان قبضنا نفسه فيقول : ارجعوا فإنّي وعدتهُ : منها خلقناكم وفيها نعيدكم فإنّه يسمع خفق نعالهم إذا ولّوا مدبرين ) .
) وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ( مرَّة أُخرى بعد الموت عند البعث .
(6/248)
" صفحة رقم 249 "
طه : ( 56 ) ولقد أريناه آياتنا . . . . .
) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ( يعني فرعون ) آيَاتِنَا كُلَّهَا ( يعني اليد والعصا والآيات التسع ) فَكَذَّبَ ( بها وزعم أنّها سحر ) وَأَبَى ( أن يُسلم
طه : ( 57 ) قال أجئتنا لتخرجنا . . . . .
) قال فرعون ( ) أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا ( يعني مصر ) بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (
طه : ( 58 ) فلنأتينك بسحر مثله . . . . .
) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْر مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً ( فاضرب بيننا وبينك أجلاً وميقاتاً ) لاَ نُخْلِفُهُ ( لا نجاوزه ) نَحْنُ وَلاَ أَنْتَ مَكَاناً سُوىً ( مستوياً . قرأ الحسن وعاصم والأعمش وحمزة سُوى بضم السين ، الباقون : بكسر وهما لغتان مثل عُدي وعِدَي ، وطُوى وطِوى .
قال قتادة ومقاتل : مكاناً عدلاً بيننا وبينك ، وقال ابن عباس : صفاً ، وقال الكلبي : يعني سوى هذا المكان ، وقال أبو عبيد والقيسي : وسطاً بين الفريقين ، وقال موسى بن جابر الحنفي :
وإن أبانا كان حلّ ببلدة
سوىً بين قيس قيس عيلان والفزر
الفزر : سعد بن زيد مناة .
طه : ( 59 ) قال موعدكم يوم . . . . .
) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ ( قال ابن عباس وسعيد بن جبير : يعني يوم عاشوراء .
وقال مقاتل والكلبي : يوم عيد لهم في كل سنة يتزيّنون ويجتمعون فيه .
وروى جعفر عن سعيد قال : يوم سوق لهم ، وقيل : هو يوم النيروز .
وقرأ الحسن وهبيرة عن حفص يومَ الزينة بنصب الميم أي في يوم ، وقرأ الباقون بالرفع على الابتداء والخبر .
) وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً ( وقت الضحوة ، يجتمعون نهاراً جهاراً ليكون أبلغ في الحجة وأبعد من الريبة .
طه : ( 60 ) فتولى فرعون فجمع . . . . .
) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ( حِيَلِه وَسَحَرَتَه ) ثُمَّ أَتَى ( الميعاد .
قال ابن عباس : كانوا اثنين وسبعون ساحراً مع كل واحد منهم حبل وعصا ، وقيل : كانوا أربعمائة .
طه : ( 61 ) قال لهم موسى . . . . .
) قَالَ ( موسى للسحرة ) لاَ تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ ( قرأ أهل : الكوفة فيسُحِتكم بضم الياء وكسر الحاء ، وقرأ الباقون بفتح الياء والحاء ، وهما لغتان : سحتَ وأسحت .
قال مقاتل والكلبي : فيهلككم ، وقال قتادة : فيستأصلكم ، وقال أبو صالح : يذبحكم ، قال الفرزدق :
وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع
من المال إلاّ مسحت أو مجلف
(6/249)
" صفحة رقم 250 "
طه : ( 62 ) فتنازعوا أمرهم بينهم . . . . .
) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى ( أي المناجاة تكون اسماً ومصدراً .
طه : ( 63 ) قالوا إن هذان . . . . .
) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ( قرأ عبد الله : واسرّوا النجوى إن هذان ساحران بفتح الألف وجزم نونه ساحران بغير لام ، وقرأ ابن كثير وحفص إن بكسر الالف وجزم النون هذان بالألف على معنى ما هذان إلاّ ساحران ، نظيره : قوله ) وإنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الكاذِبين ( قال الشاعر :
ثكلتك أُمكّ إن قتلتَ لمُسلماً
حلّت عليك عقوبة الرَّحْمن
يعني ما قتلت إلاّ مسلماً ، يدل على صحة هذه القراءة قراءة أُبي بن كعب : إن ذان إلاّ ساحران ، وقرأ عيسى بن عمر الثقفي وأبو عمر بن علاء : إن هذين لساحران بالياء على الأصل ، قال أبو عمرو : واني لإستحي من الله أن أقرأ إنّ هذان ، وقرأ الباقون : إنّ بالتشديد هذان بالألف واختلفوا فيه ، فقال قوم بما أخبرنا أبو بكربن عبدوس وعبد الله بن حامد قالا : حدَّثنا أبو العباس الأصم قال : حدَّثنا محمد بن الجهم السمري قال : حدَّثنا الفرّاء قال : حدَّثني أبو معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها سئلت عن قوله سبحانه في النساء ) لكن الراسخون ( ) والمقيمين ( وعن قوله في المائدة ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ ( وعن قوله ) إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ( فقالت : يا بن أخي هذا خطأ من الكاتب .
وقال عثمان بن عفان : إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتهم .
وقال أبان : قرئت هذه الآية عند عثمان فقال : لحن وخطأ ، فقيل له : ألم تغيّره فقال : دَعُوه فإنّه لا يُحلّ حراماً ولا يحرّم حلالاً ، وقال آخرون : هذه لغة الحارث بن كعب وخثعم وزبيد وكنانة يجعلون الأسين في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف .
قال الفرّاء : أنشدني رجل من بني الأسد وما رأيت افصح منه .
وأطرق إطراق الشجاع ولو ترى
مساغاً لناباه الشجاع لصمما
(6/250)
" صفحة رقم 251 "
ويقولون : كسرت يداه ، وركبت علاه ، بمعنى يديه وعليه . وقال الشاعر :
تزوّد منّا بين أُذناه ضربة
دعته إلى هابي التراب عقيم
أراد بين أُذنيه . وقال آخر :
أي قلوص راكب نراها
طاروا علاهنّ فطر علاها
أي عليهن وعليها . وقال آخر :
إنَّ أباها وأبا أباها
قد بلغا في المجد غايتاها
وروي أنّ أعرابياً سأل ابن الزبير شيئا فحرّمه فقال : لعن الله ناقة حملتني إليك ، فقال ابن الزبير : إن وصاحبها ، يعني نعم . وقال الشاعر :
بكرتْ عليّ عواذلي يلحينني وألو مهنَّه
ويقلن شيبٌ قد علاك وقد كبرت فقلت إنّه
أي نعم ، وقال الفراّء : وفيه وجه آخر : وهو أن يقول : وجدت الألف دعامة من هذا على حالها لا تزول في كل حال ، كما قالت العرب : الذي ثمَّ زادوا نوناً يدلّ على الجمع فقالوا : الذين في رفعهم ونصبهم وخفضهم وكناية تقول : اللَّذوُنَ .
) يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ( مصر ) بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى ( حدَّث الشعبي عن عليّ قال : يصرفا وجوه الناس إليهما وهي بالسريانية .
وقال ابن عباس : يعني بسراة قومكم وأشرافكم
وقال مقاتل والكلبي : يعني الأمثل فالأمثل من ذوي الرأي والعقول .
وقال عكرمة : يعني يذهب أخياركم .
وقال قتادة : طريقتكم المُثلى يومئذ ، بنو إسرائيل كانوا أكثر القوم عدداً يومئذ وأموالاً ، فقال عدو الله : إنما يريدان أن يذهبا به لأنفسهما .
وقال الكسائي : بطريقتكم يعني بسنّتكم وهديكم وسمتكم ، والمثلى نعت للطريقة ، كقولك امرأة كبرى ، تقول العرب : فلان على الطريقة المثلى يعني على الهدى المستقيم . قال الشاعر :
فكم متفرقين منوا بجهل
حدى بهم إلى زيغ فراغوا
وزِيغ بهم عن المثلى فتاهوا
وأورطهم مع الوصل الرداغُ
(6/251)
" صفحة رقم 252 "
فزلّت فيه أقدام فصارت
إلى نار غلا منها الدماغ
والمثلى تأنيث الأمثل .
طه : ( 64 ) فأجمعوا كيدكم ثم . . . . .
) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ( قرأ أبو عمرو فاجمعوا بوصل الألف وفتح الميم ، من الجمع يعني لا تدعوا شيئاً من كيدكم إلا جئتم به ، وتصديقه قوله : فجمع كيده ، وقرأ الباقون : فأجمعوا بقطع الألف وكسر الميم وله وجهان : أحدهما : بمعنى الجمع ، يقول العرب : أجمعت الشيء وجمعته بمعنى واحد . قال أبو ذؤيب :
فكأنّه بالجزع جزع يتابع
وأولاه ذي العرجاء تهب مجمّع
والثاني : بمعنى العزم والأحكام ، يقول : أجمعت الأمر وأزمعته ، وأجمعت على الأمر وأزمعت عليه إذا عزمت عليه . قال الشاعر :
ياليت شعري والمنى لا تنفع
هل أغدونْ يوماً وأمري مجمع
أي محكم ، وقد عزم عليه كيدكم ومكركم وسحركم وعلمكم .
) ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً ( قال مقاتل : والكلبي : جميعاً ، وقيل : صفوفاً ، وقال أبو عبيد : يعني المصلّى والمجتمع ، وحُكي عن بعض العرب الفصحاء : ما استطعت أن آتي الصفّ أمس ، يعني المصلّى .
) وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ( يعني فاز من غلب .
طه : ( 65 ) قالوا يا موسى . . . . .
) قَالُوا ( يعني السحرة ) يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِى ( عصاك من يدك ) وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى ( عصاه
طه : ( 66 ) قال بل ألقوا . . . . .
) قال موسى ( ) بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وعصيّهم ( وهو جمع العصا ) يُخَيَّلُ إِلَيْهِ ( قرأ ابن عامر بالتاء ، ردّه إلى الحبال والعصيّ ، وقرأ الباقون : بالياء ردّوه إلى الكيد أو السحر ، ومعناه شبّه إليه من سحرهم حتى ظنّ ) أنّها تسعى ( أي تمشي ، وذلك أنّهم كانوا لطّخوا حبالهم وعصيّهم بالزئبق فلمّا أصابه حرّ الشمس ارتهشت واهتزت فظنّ موسى أنها تقصده
طه : ( 67 ) فأوجس في نفسه . . . . .
) فَأَوْجَسَ ( أي أحسَّ ووجد ، وقيل : أضمر ) فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ( قال مقاتل : إنّما خاف موسى إذ صنع القوم مثل صنيعه ان يشكّو فيه فلا يتبعوه ويشك فيه من تابعه .
طه : ( 68 ) قلنا لا تخف . . . . .
) قُلْنَا ( لموسى ) لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الاْعْلَى ( الغالب
طه : ( 69 ) وألق ما في . . . . .
) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ ( يعني العصا ) تَلْقَفْ ( تلتقم وتلتهم ) مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا ( يعني إنّ الذي صنعوا ) كَيْدُ سَاحِر ( قرأ أهل الكوفة بكسر السين من غير ألف ، وقرأ الباقون : ساحر بالألف على فاعل ، واختاره أبو عبيد ،
(6/252)
" صفحة رقم 253 "
قال : لأنَّ إضافة الكيد إلى الرجل أولى من إضافته إلى السّحر وإن كان ذلك لا يمتنع في العربية .
) وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ( من الأرض ، وقيل : معناه حيث احتال .
طه : ( 70 - 71 ) فألقي السحرة سجدا . . . . .
) فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ ( يعني به كقوله ) فآمن له لوط ( ) قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ ( لرئيسكم ومعلّمكم ) الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلاَقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاف ( يعني الرجل اليسرى واليد اليمنى ) وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ ( يعني جذوع النخل ، قال سويد بن أبي كاهل :
وهم صلبوا العبدي في جذع نخلة
فلا عطست شيبان إلاّ بأجدعا
) وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً ( أنا أو ربّ موسى ) وَأَبْقَى }
طه : ( 72 ) قالوا لن نؤثرك . . . . .
) قَالُوا ( يعني السحرة ) لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ ( قال مقاتل : يعني اليد والعصا .
وأخبرنا البيهقي والاصفهاني قالا : أخبرنامكي بن عبدان قال : حدَّثنا أبو الأزهر ، قال : حدَّثنا روح قال : حدَّثنا هشام بن أبي عبد الله عن القاسم بن أبي برزة قال : جمع فرعون سبعين ألف ساحر ، فألقوا سبعين ألف حبل وسبعين ألف عصا حتى جعل موسى يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ، فأوحى الله سبحانه أن ألق عصاك ، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين فاغرفاه ، فابتلع حبالهم وعصيّهم وأُلقي السحرة عند ذلك سجداً فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار ورأوا ثواب أهلها ، عند ذلك قالوا ) لن نؤثرك على ما جاءنا من البيّنات ( يعنى الجنة والنار وما رأوا من ثوابهم ودرجاتهم .
قال : وكانت امرأة فرعون تسأل : من غلب ؟ فيقال : غلب موسى ، فتقول : آمنت برب موسى وهارون ، فأرسل إليها فرعون فقال : انظروا أعظم صخرة تجدونها فأتوها فإنْ هي رجعت عن قولها فهي امرأته ، وإنْ هي مضت على قولها فألقوا عليها الصخرة ، فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فأريت بيتها في الجنة فمضت على قولها وانتزعت روحها ، والقيت على جسد لا روح فيه .
) وَالَّذِي فَطَرَنَا ( يعني وعلى الذي خلقنا ، وقيل : هو قسم ) فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاض ( فاحكم
(6/253)
" صفحة رقم 254 "
ما أنت حاكم ، واصنع ما أنت صانع من القطع والصلب ) إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ( يقول : إنّما تملكنا في الدنيا ليس لك علينا سلطان إلاّ في الدنيا
طه : ( 73 ) إنا آمنا بربنا . . . . .
) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ ( قال مقاتل : كانت السحرة اثنين وسبعين ساحراً ، اثنان منهم من القبط وهما رأسا القوم ، وسبعون منهم من بني إسرائيل ، وكان فرعون أكره أُولئك السبعين الذين هم من بني إسرائيل على تعلّم السحر .
وقال عبد العزيز بن أبان : إنّ السحرة قالوا لفرعون : أرنا موسى إذا نام ، فأراهم موسى نائماً وعصاه تحرسه فقالوا لفرعون : انَّ هذا ليس بسحر ، إنّ الساحر إذا نام بطل سحره ، فأبى عليهم إلاّ أن تعملوا فذلك قوله ) وما أكرهتنا عليه من السحر ( ) وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ( منك لأنّك فان هالك
طه : ( 74 ) إنه من يأت . . . . .
) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ ( في الآخرة ) مُجْرِماً ( مشركاً يعني بات على الشرك ) فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا ( فيستريح ) وَلاَ يَحْيَا ( حياةً تنفعه .
طه : ( 75 - 76 ) ومن يأته مؤمنا . . . . .
) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً ( مات على الإيمان ) قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلاَ ( الرفيعة في الجنة ) جَنَّاتُ عَدْن تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى ( أي صلح ، وقيل : تطهّر من الكفر والمعاصي . وقال الكلبي : يعني أعطى زكاة نفسه وقال : لا إله إلاّ الله .
( ) وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِى الْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى يابَنِى إِسْرَاءِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الاَْيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهْتَدَى وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يامُوسَى قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ ياَقَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِى قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَاكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِىُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ فَقَالُواْ هَاذَآ إِلَاهُكُمْ وَإِلَاهُ مُوسَى فَنَسِىَ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ ياقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَانُ فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُواْ أَمْرِى قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ ياهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّواْ أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى قَالَ يَبْنَؤُم
(6/254)
" صفحة رقم 255 "
َّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلاَ بِرَأْسِى إِنِّى خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِىإِسْرءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسَامِرِيُّ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذالِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِى الْحَيَواةِ أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَاهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِى الْيَمِّ نَسْفاً ( 2
طه : ( 77 ) ولقد أوحينا إلى . . . . .
) وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي ( أي سر بهم أول الليل من أرض مصر .
) فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً ( يابساً ليس فيه ماء ولا طين ) لاَ تَخَافُ دَرَكاً ( من فرعون خلفك ) وَلاَ تَخْشَى ( غرقاً من البحر أمامك ، وقرأ حمزة : لا تخف بالجزم على النهي ، الباقون : بالألف على النفي ، واختاره أبو عبيد لقوله : ولا تخشى رفعاً ودليل قراءة حمزة قوله : ( يولوكم الأدبار ثمَّ لا تنصرون ) فاستأنف ، قال الفرّاء : ولو نوى حمزه بقوله : ولا تخشى الجزم ، لكان صواباً . وقال الشاعر :
هجوت زماناً ثم ملت معتذراً
من سب زمان لم يهجُو ولم يذع
وقال آخر :
ألم يأتيك والأنباء تنمي
بما لاقت لبوت بني زياد
طه : ( 78 - 79 ) فأتبعهم فرعون بجنوده . . . . .
) فَأَتْبَعَهُمْ ( فلحقهم ) فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ ( أصابهم ) مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى ( أي وما هداهم إلى مراشدهم ، وهذا جواب قول فرعون : ما أُريكم إلاّ ما أرى وما أهديكم ألاّ سبيل الرشاد ، فكذّبه الله تعالى فقال : بل أضلهم وما هداهم .
قال وهب : استعار بنو إسرائيل حلياً كثيراً من القبط ثم خرج بهم موسى من أول الليل ، وكانوا سبعين ألفاً فأخبر فرعون بذلك فركب في ستمائة ألف من القبط يقص أثر موسى ، فلمّا رأى قوم موسى رهج الخيل قالوا ) إنّا لمدركون ( فقال موسى : ) كلاّ إنّ معي ربّي سيهدين ( فلمّا قربوا قالوا : يا موسى أين نمضي ؟ البحر أمامنا وفرعون خلفنا ، فضرب موسى بعصاه البحر فانفلق فصار فيه اثنتا عشرة طريقاً يابسة ، لكل سبط طريق ، وصار بين كل طريقين كالطود العظيم من الماء ، وكانوا يمرّون فيه وكلّهم بنو أعمام فلا يرى هذا السبط ذاك ولا ذاك هذا ، فاستوحشوا وخافوا فأوحى الله سبحانه إلى أطواد الماء أن تشبّكي ، فصارت شبكات يرى بعضهم بعضاً ويسمع بعضهم كلام بعض .
(6/255)
" صفحة رقم 256 "
فلمّا اتى فرعون الساحل وجد موسى وبني إسرائيل قد عبروا فقال للقبط : قد سحر البحر فمرّ ، فقالوا له : إن كنت ربّاً فادخل البحر كما دخل ، فجاء جبرئيل على رمكة وديق ، وكان فرعون على حصان ، وهو الذكر من الأفراس ، فأقحم جبرئيل الرمكة في الماء ، فلم يتمالك حصان فرعون واقتحم البحر على أثرها ودخل القبط عن آخرهم ، فلمّا تلجّجوا أوحى الله سبحانه إلى البحر أن غرّقهم ، فعلاهم الماء وغرّقهم .
قال كعب : فعرف السامري فرس جبرئيل ، فحمل من أثره تراباً وألقاه في العجل حين اتّخذه .
طه : ( 80 ) يا بني إسرائيل . . . . .
) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ ( فرعون ) وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنِ ( وقد مرَّ ذكره ) وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (
طه : ( 81 ) كلوا من طيبات . . . . .
) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ( هذه قراءة العامة بالنون والألف على التعظيم ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي : أنجيتكم ووعدتكم ورزقتكم من غير ألف على التوحيد والتفريد ) كلوا من طيّبات ( حلال ) ما رزقناكم ( ) وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ ( قال ابن عباس : ولا تظلموا ، وقال مقاتل : ولا تعصوا ، وقال الكلبي : ولا تكفروا النعمة ، وقيل : ولا تحرّموا الحلال ، وقيل : ولا تنفقوا في معصيتي ، وقيل : ولا تدّخروا ، وقيل : ولا تتقووا بنعمي على معاصيّ .
) فَيَحِلَّ ( يجب ) عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ ( يجب ) عَلَيْهِ غَضَبِي ( وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي : فيُحل ومن يُحلل بضم الحاء واللام أي ينزل .
) فَقَدْ هَوَى ( هلك وتردّى في النار
طه : ( 82 ) وإني لغفار لمن . . . . .
) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ ( من دينه ) وَآمَنَ ( بربّه ) وَعَمِلَ صَالِحاً ( فيما بينه وبين الله ) ثُمَّ اهْتَدَى ( .
قال قتادة وسفيان الثوري : يعني لزم الإسلام حتى مات عليه .
وقال زيد بن أسلم : تعلّم العلم ليهتدي كيف يعمل .
وقال الشعبي ومقاتل والكلبي : علم أنّ لذلك ثواباً .
وقال فضيل الناجي وسهل التستري : أقام على السنّة والجماعة .
وقال الضحاك : يعني استقام .
طه : ( 83 ) وما أعجلك عن . . . . .
) وَمَا أَعْجَلَكَ ( يعني وما حملك على العجلة ) عَنْ قَوْمِكَ ( يعني عن السبعين الذين اختارهم موسى حين ذهبوا معه إلى الطور ليأخذ التوراة من ربّه فلمّا سار عجل موسى شوقاً إلى
(6/256)
" صفحة رقم 257 "
ربه وخلّف السبعين وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل ، فقال الله سبحانه له : وما أعجلك عن قومك ) يَا مُوسَى (
طه : ( 84 ) قال هم أولاء . . . . .
فقال مجيباً لربّه ) هُمْ أُولاَءِ ( يعني ) عَلَى أَثَرِي ( هؤلاء يجيئون ) وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ( لتزداد رضاً
طه : ( 85 ) قال فإنا قد . . . . .
) قَالَ ( الله سبحانه ) فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا ( ابتلينا ) قَوْمَكَ ( الذين خلفتهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف فافتتنوا بالعجل غير اثني عشر ألفا ) مِنْ بَعْدِكَ ( من بعد انطلاقك إلى الجبل ) وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ ( يعني دعاهم وصرفهم إلى عبادة العجل وحملهم عليها .
طه : ( 86 ) فرجع موسى إلى . . . . .
) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً ( حزيناً جزعاً ) قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً ( صدقاً أنه يعطيكم التوراة ) أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ ( مدّة مفارقتي إياكم ) أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ ( يجب ) عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي ( وذلك أنَّ الله سبحانه كان قد وقّت لموسى ثلاثين ليلة ثمَّ أتّمها بعشر ، فلمّا مضت الثلاثون قال عدو الله السامري . . .
قال سعيد بن جبير : كان السامري من أهل كرمان فقال لهم : إنما اصابكم هذا عقوبة لكم بالحلي التي معكم ، وكانت حلياً استعاروها من القبط ، فهلمّوا بها واجمعوها حتى يجيء موسى فيقضي فيه ، فجمعت ودفعت إليه فصاغ منها عجلاً في ثلاثة أيام ثمَّ قذف فيه القبضة التي أخذها من أثر فرس جبرئيل ، فقال قوم موسى له :
طه : ( 87 ) قالوا ما أخلفنا . . . . .
) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ( قرأ أهل المدينة وعاصم : بمَلكنا بفتح الميم ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بضم الميم ، الباقون : بكسرها ، ومعناها بسلطاننا وطاقتنا وقدرتنا .
قال مقاتل : يعني ونحن نملك أمرنا ، وقيل : باختيارنا .
) وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا ( قرأ أهل الحجاز والشام وحفص : حُمّلنا بضم الحاء وتشديد الميم ، الباقون : حملنا بفتح الحاء والميم مخفّفة ) أَوْزَاراً ( أثقالاً وأحمالاً ) مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ ( من حلي قوم فرعون ) فَقَذَفْنَاهَا ( فجمعناها ودفعناها إلى السامري ، فألقاها في النار لترجع أنت فترى فيه رأيك ) فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ ( ما معه من الحليّ مَعَنا كما ألقينا
طه : ( 88 ) فأخرج لهم عجلا . . . . .
) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَداً ( لا روح فيه ، صاغ لهم عجلاً من ذهب مرصّع بالجواهر ) لَهُ خُوَارٌ ( صوت ، وذلك أنه خار خورة واحدة ثمَّ لم يعد .
قال ابن عباس : أتى هارون على السامري وهو يصنع العجل فقال : ما تصنع ؟ قال : أصنع ما ينفع ولا يضر ، فقال : اللهمَّ أعطه ما سألك على ما في يقينه فلمّا قال : اللهم إنّي أسألك أن يخور ؛ فخار فسجد ، وإنّما خار لدعوة هارون ) فَقَالُوا هَذَا إِلاهُكُمْ وَإِلاهُ مُوسَى فَنَسِيَ ( أي ضلّ وأخطأ الطريق ، وقيل : معناه فتركه ها هنا وخرج يطلبه .
طه : ( 89 ) أفلا يرون ألا . . . . .
قال الله سبحانه ) أَفَلاَ يَرَوْنَ ألاَّ يَرْجِعُ ( يعني أنّه لا يرجع ) إِلَيْهِمْ قَوْلا ( أي لا يكلّمهم العجل ولا يجيبهم ، وقيل : يعني لا يعود إلى الخوار والصوت ) وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً }
طه : ( 90 ) ولقد قال لهم . . . . .
) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ ( يعني من قبل رجوع موسى ) يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ (
(6/257)
" صفحة رقم 258 "
ابتليتم بالعجل ) وَإِنَّ رَبَّكُمْ الرَّحْمانُ فَأتَّبِعُونِي ( على ديني ) وَأَطِيعُوا أَمْرِي ( فلا تعبدوه
طه : ( 91 ) قالوا لن نبرح . . . . .
) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ ( لن نزال على عبادته مقيمين ) حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ( فاعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا الذين لم يعبدوا العجل ، فلمّا رجع موسى وسمع الصياح والجلبة ، وكانوا يرقصون حول العجل ، قال السبعون الذين معه : هذا صوت الفتنة ، فلمّا رأى هارون أخذ شعره بيمينه ولحيته بشماله
طه : ( 92 ) قال يا هارون . . . . .
وقال له ) يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ( أخطأوا وأشركوا
طه : ( 93 ) ألا تتبعن أفعصيت . . . . .
) أَلاَّ تَتَّبِعَنِي ( يعني أن تتّبع أمري ووصيتي ولا صلة ، وقيل : معناه : ما منعك من اللحوق بي وإخباري بضلالتهم فتكون مفارقتك إيّاهم تقريعاً وزجراً لهم عمّا أتوه ؟ وقيل : معناه : هلاّ قاتلتهم إذ علمت أنّي لو كنت فيما بينهم لقاتلتهم على كفرهم .
) أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ( فقال هارون
طه : ( 94 ) قال يا ابن . . . . .
) يا اَبْنَ أُمَّ ( قال الكلبي وغيره : كان أخاه لأبيه وأُمّه ولكنّه أراد بقوله : يا بن أُمّ أن يرقّقه ويستعطفه عليه فيتركه ، وقيل : كان أخاه لأُمّه دون أبيه ، وقيل : لأن كون الولد من الأُمّ على التحقيق والأب من جهة الحكم ) لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي ( يعني ذؤابتي وشعر رأسي إذ هما عضوان مصونان يقصدان بالإكرام والإعظام من بين سائر الأعضاء ) إِنِّي خَشِيتُ ( لو أنكرت عليهم لصاروا حزبين يقتل بعضهم بعضاً فتقول ) فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( وأوقعت الفرقة فيما بينهم ) وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ( ولم تحفظ وصيّتي حين قلت لك اخلفني في قومي وأصلح .
قال قتادة في هذه الآية : فذكر الصالحون الفرقة قبلكم ، ثمّ أقبل موسى على السامرىّ فقال له
طه : ( 95 ) قال فما خطبك . . . . .
) فَمَا خَطْبُكَ ( أمرك وشأنك ، وما الذي حملك على ما صنعت ) يَا سَامِرِيُّ (
قال قتادة : كان السامري عظيماً من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة ، ولكنّ عدوّ الله نافق بعدما قطع البحر مع بني إسرائيل ، فلمّا مرّت بنو إسرائيل بالعمالقة وهم يعكفون على أصنام لهم فقالوا : يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فاغتنمها السامرىّ ، فاتّخذ العجل فقال السامري مجيباً لموسى :
طه : ( 96 ) قال بصرت بما . . . . .
) بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوابه ( رأيت ما لم يروا وعرفت ما لم يعرفوا وفطنت ما لم يفطنوا ، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي تبصروا بالتاء على الخطاب ، الباقون بالياء على الخبر ) فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ ( يعني فأخذت تراباً من أثر فرس جبرئيل ، وقرأ الحسن فقبصت قبصة بالصاد فيهما ، والفرق بينهما أن القبض بجمع الكف والقبص بأطراف الأصابع ) فَنَبَذْتُهَا ( فطرحتها في العجل ) وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ ( زيّنت ) لِي نَفْسِي }
طه : ( 97 ) قال فاذهب فإن . . . . .
) قَالَ ( له موسى ) فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ ( ما دمت حياً ) أَنْ تَقُولَ لاَ مِسَاسَ ( لا تخالط أحداً ولا يخالطك أحد ، وأمر موسى بني إسرائيل أن لا يخالطوه ولا يقربوه .
قال قتادة : إن بقاياهم اليوم يقولون ذلك : لا مساس ، ويقال بأنَّ موسى همَّ بقتل السامري فقال الله : لا تقتله فإنه سخىّ ، وفي بعض الكتب : إنّه إنْ يمسّ واحد من غيرهم أحداً منهم حُمّ كلاهما في الوقت
(6/258)
" صفحة رقم 259 "
) وَإِنَّ لَكَ ( يا سامري ) مَوْعِداً ( لعذابك ) لَنْ تُخْلَفَهُ ( قرأ الحسن وقتادة وأبو نهيك وأبو عمرو بكسر اللام بمعنى لن تغيب عنه بل توافيه ، وقرأ الباقون بفتح اللام بمعنى لن يخلفكه الله .
) وَانظُرْ إِلَى إِلاهِكَ ( بزعمك وإلى معبودك ) الَّذِي ظلْتَ عَلَيْهِ ( دمت عليه ) عَاكِفاً ( مقيماً تعبده .
يقول العرب : ظلتُ أفعل كذا بمعنى ظللت ، ومسْت بمعنى مسست ، وأحسْت بمعنى أحسست . قال الشاعر :
خلا أنّ العتاق من المطايا
أحَسْنَ به فهنّ إليه شوس
أي أحسسن .
) لَنُحَرِّقَنَّهُ ( قرأه العامة بضم النون وتشديد الراء بمعنى لنحرقنه بالنار .
وقرأ الحسن بضم النون وتخفيف الراء من إلاحراق بالنّار ، وتصديقه قول ابن عباس : فحرّقه بالنار ثمَّ ذرّاه في اليمّ .
وقرأ أبو جعفر وابن محيص وأشهب العقيلي لنحرقنه بفتح النون وضم الراء خفيفة بمعنى لنبردنّه بالمبارد ، يقال : حرقه يحرقه ويحرقه إذا برّده ، ومنه قيل للمبرد المحرق ، ودليل هذه القراءة قول السدّي : أخذ موسى العجل فذبحه ثمَّ حرقه بالمبرد ثمَّ ذرّاه في اليّم ، وفي حرف ابن مسعود : لنذبحنه ثمَّ لنحرّقنه ) ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ ( لنذرّينه ) فِي الْيَمِّ نَسْفاً ( يقال نسف الطعام بالمنسف إذا ذرّاه فطيّر عنه قشوره وترابه .
( ) إِنَّمَآ إِلَاهُكُمُ اللَّهُ الَّذِى لاإِلَاهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَىْءٍ عِلْماً كَذالِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمِئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّى نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلاأَمْتاً يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِىَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْءَاناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْءانِ مِن قَبْلِ إَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِى عِلْماً (
(6/259)
" صفحة رقم 260 "
طه : ( 98 ) إنما إلهكم الله . . . . .
) إِنَّمَا إِلاهُكُمْ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ( لا العجل ) وَسِعَ ( ملأ ) كُلَّ شَيْء عِلْماً ( فعلمه ولم يضق عليه ، يقال : فلان يسع لهذا الأمر إذا أطاقه وقوي عليه
طه : ( 99 ) كذلك نقص عليك . . . . .
) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ ( من الأُمور ) وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً ( يعني القرآن
طه : ( 100 ) من أعرض عنه . . . . .
) مَنْ أَعْرَضَ ( أدبر ) عَنْهُ ( فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه ) فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً ( إثماً عظيماً وحملاً ثقيلاً
طه : ( 101 ) خالدين فيه وساء . . . . .
) خَالِدِينَ فِيهِ ( لا يكفره شيء .
) وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا }
طه : ( 102 ) يوم ينفخ في . . . . .
) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ( قرأهُ العامة بياء مضمومة على غير تسمية الفاعل ، وقرأ أبو عمرو بنون مفتوحة لقوله ) وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ ( المشركين ) يَوْمَئِذ زُرْقاً ( والعرب تتشاءم بزرقة العيون . قال الشاعر يهجو رجلاً :
لقد زرقت عيناك يا بن مكعبر
كما كل ضبي من اللؤم أزرق
طه : ( 103 ) يتخافتون بينهم إن . . . . .
وقيل : أراد عُمياً ) يَتَخَافَتُونَ ( يتسارُّون فيما ) بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ ( ما مكثتم في الدنيا ، وقيل : في القبور ) إِلاَّ عَشْراً ( أي عشر ليال .
طه : ( 104 ) نحن أعلم بما . . . . .
قال الله سبحانه ) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً ( أي أوفاهم عقلاً وأصوبهم رأياً ) إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً ( قصر ذلك في أعينهم في جنب ما يستقبلهم من أهوال يوم القيامة .
طه : ( 105 ) ويسألونك عن الجبال . . . . .
) وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا ( يقلعها من أماكنها ويطرحها في البحار حتى تستوي .
فإن قيل : ما العلّة الجالبة للفاء التي في قوله فقل خلافاً لأخواتها في القرآن ؟
فالجواب أنّ تلك أسئلة تقدّمت سألوا عنها رسول الله فجاء الجواب عقيب السؤال ، وهذا سؤال لم يسألوه بعد وقد علم الله سبحانه أنّهم سائلوه عنه فأجاب قبل السؤال ، ومجازها : وإن سألوك عن الجبال فقل ينسفها ) رَبِّي نَسْفاً }
طه : ( 106 ) فيذرها قاعا صفصفا
) فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً ( أرضاً ملساء لا نبات فيها .
طه : ( 107 ) لا ترى فيها . . . . .
) لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلاَ أَمْتاً ( .
قال ابن عباس : العوج : الأودة ، والأمت الروا بي والنشوز .
مجاهد : العوج : الانخفاض ، والأمت : الارتفاع .
ابن زيد : الأمت : التفاوت والتعادي . ويقول العرب : ملأت القربة ماءً لا أمت فيه أي لا استرخاء .
يمان : الأمت : الشقوق في الأرض
(6/260)
" صفحة رقم 261 "
طه : ( 108 ) يومئذ يتبعون الداعي . . . . .
) يَوْمَئِذ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي ( الذي يدعوهم إلى موقف القيامة وهو إسرافيل ) لاَ عِوَجَ لَهُ ( أي لدعاته ، وقال أكثر العلماء : هو من المقلوب أي لا حرج لهم عن دعاته ، لا يزيغون عنه ، بل يتّبعونه سراعاً .
) وَخَشَعَت ( وسكنت ) الاْصْوَاتُ لِلرَّحْمنِ ( فوصف الأصوات بالخشوع والمعنى لأهلها ) فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً ( يعني وطْء الأقدام ونقلها إلى المحشر ، وأصله الصوت الخفي ، يقال : همس فلان بحديثه إذا أسرّه وأخفاه ، قال الراجز :
وهنّ يمشين بنا هميساً
إن تصدق الطير ننك لميسا
يعني بالهمس صوت أخفاف الإبل .
وقال مجاهد : هو تخافت الكلام وخفض الصوت .
طه : ( 109 ) يومئذ لا تنفع . . . . .
) يَوْمَئِذ لاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمانُ ( في الشفاعة ) وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا ( أي ورضي قوله .
طه : ( 110 ) يعلم ما بين . . . . .
) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ( الكناية مردودة إلى الذين يتّبعون الداعي .
) وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ( لا يدركونه ولا يعلمون ما هو صانع بهم .
طه : ( 111 ) وعنت الوجوه للحي . . . . .
) وَعَنَتْ الْوُجُوهُ لِلْحَىِّ الْقَيُّومِ ( أي ذلّت وخضعت واستسلمت ، ومنه قيل للأسير عان ، وقال أُميّة بن أبي الصلت :
مليك على عرش السماء مهيمن
لعزّته تعنو الوجوه وتسجد
وقال طلق بن حبيب : هو السجود .
) وَقَدْ خَابَ ( خسر ) مَنْ حَمَلَ ظُلْماً ( شركاً .
طه : ( 112 ) ومن يعمل من . . . . .
) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ( قرأ ابن كثير على النهي جواباً لقوله ) ومن يعمل من الصالحات ( والباقون : فلا يخاف على الخبر . ) ظُلْماً وَلاَ هَضْماً ( .
قال ابن عباس : لا يخاف أن يزاد عليه في سيئاته ولا ينقص من حسناته .
الحسن وأبو العالية : لا ينقص من ثواب حسناته شيئاً ولا يحمل عليه ذنب مسيء .
الضحاك : لا يؤخذ بذنب لم يعمله ولا يبطل حسنة عملها . وأصل الهضم : النقص والكسر يقال : هضمت لك من حقك أي حططتُ ، وهضم الطعام ، وامرأة هضيم الكشح أي ضامرة البطن
(6/261)
" صفحة رقم 262 "
طه : ( 113 ) وكذلك أنزلناه قرآنا . . . . .
) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا ( بيّنّا ) فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ( القرآن ) ذِكْراً ( عظة وعبرة . وقال قتادة : جدّاً وورعاً .
طه : ( 114 ) فتعالى الله الملك . . . . .
) فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ( قرأ يعقوب بفتح النون والياءين ، وقرأ الآخرون : بضم الياء الأولى والأُخرى وسكون الوسطى .
قال مجاهد وقتادة : لا تقرئه أصحابك ولا تُمله عليهم حتى يتبيّن لك معانيه ، نهى عن تلاوة الآية التي تنزل عليه وإملائه على أصحابه قبل بيان معناها ، وهذه رواية العوفي عن ابن عباس .
وقال في سائر الروايات : كان النبىّ ( صلى الله عليه وسلم ) إذا نزل جبرائيل بالوحي يقرأه مع جبرائيل ، ولا يفرغ جبرائيل مما يريد من التلاوة حتى يتكلم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأوّله حرصاً منه على ما كان ينزل عليه وشفقة على القرآن مخافة الانفلات والنسيان ، فنهاه الله سبحانه عن ذلك وقال : ) ولا تعجل بالقرآن ( أي بقراءة القرآن ) من قبل أن يُقضى إليك وحيه ( من قبل أن يفرغ جبرئيل من تلاوته عليك .
) وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ( بالقرآن أي فهماً ، وقيل : حفظاً ونظيرها قوله ) لا تحرّك به لسانك لتعجل به ( الآية .
2 ( ) وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يائَادَمُ إِنَّ هَاذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَؤُا فِيهَا وَلاَ تَضْحَى فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يائَادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَىءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِىأَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذاَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذالِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِئَايَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الاَْخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِى مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَاتٍ لاُِوْلِى النُّهَى وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءَانَآءِ الَّيْلِ فَسَبِّح
(6/262)
" صفحة رقم 263 "
وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِئَايَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِى الصُّحُفِ الاُْولَى وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاأَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءَايَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى ( 2
طه : ( 115 ) ولقد عهدنا إلى . . . . .
) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ ( الآية يقول الله سبحانه : وإن يضيّع هؤلاء الذين نصرّف لهم في القرآن الوعيد عهدي ويخالفوا أمري ويتركوا طاعتي فقد فعل ذلك أبوهم آدم ( عليه السلام ) حيث عهدنا إليه أي أمرناه وأوصينا إليه ) فَنَسِيَ ( فترك الأمر والعهد ، نظيره قوله ) نسوا الله فنسيهم ( أي تركوا أمر الله فتركهم الله في النار . هذا قول أكثر المفسرين .
وقال ابن زيد : نسي ما عهد الله إليه في ذلك ، ولو كان له عزم ما أطاع عدوّه إبليس الذي حسده وأبى أن يسجد له ، وعصى الله الذي كرّمه وشرّفه ، وعلى هذا القول يحتمل أن يكون آدم في ذلك القول بالنسيان مأخوذ ، وإن كان هو اليوم عنّا مرفوعاً .
) وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ( قال ابن عباس : حفظاً لما أُمر به ، قتادة ومقاتل : صبراً ، ابن زيد : محافظة على أمر الله وتمسّكاً به ، الضحّاك : صريمة أمر ، عطية : رأياً ، وقيل : جزماً ، ابن كيسان : إصراراً وإضماراً على العود إلى الذنب ثانياً ، وأصل العزم النيّة واعتقاد القلب على الشيء .
قال أبو أمامة : لو أنّ أحلام بني آدم جمعت منذ يوم خلق الله سبحانه آدم إلى يوم تقوم الساعة ، ووضعت في كفّة ميزان ، ووضع حلم آدم في الكفّة الأُخرى لرجح حلمه بأحلامهم ، وقد قال الله تعالى ) ولم نجد له عزما 2 )
طه : ( 116 ) وإذ قلنا للملائكة . . . . .
) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى ( أن يسجد له
طه : ( 117 ) فقلنا يا آدم . . . . .
) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ( حوّاء ) فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ ( فتتعب ويكون عيشك من كدّ يمينك ، بعرق جبينك .
قال سعيد بن جبير : أُهبط إلى آدم ثور أحمر وكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه فهو شقاؤه الذي قال الله سبحانه ، وكان حقّه أن يقول : فيشقيا ولكن غلب المذكّر رجوعاً به إلى آدم لأنّ تعبه أكثر ، وقيل : لأجل رؤوس الآي .
طه : ( 118 ) إن لك ألا . . . . .
) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا ( أي في الجنّة ) وَلاَ تَعْرَى }
طه : ( 119 ) وأنك لا تظمأ . . . . .
) وَأَنَّكَ ( قرأ نافع بكسر الألف على
(6/263)
" صفحة رقم 264 "
الاستئناف ، ومثله روى أبو بكر عن عاصم ، وقرأ الباقون بالفتح نسقاً على قوله ) أن لا تجوع ( ) لا تظمؤا ( بعطش فيها ) ولا تَضْحَى ( تبرز للشمس فيؤذيك حرّها . قال عمر بن أبي ربيعة :
رأت رجلاً أمّا إذا الشمس عارضت
فيضحى وأما بالعشيّ فيحصر
أخبرنا أبو بكر بن عبدوس المزكّى قال : أخبرنا أبو الحسن المحفوظي قال : حدَّثنا عبد الله بن هاشم قال : حدَّثنا عبد الرَّحْمن بن مهدي عن سفيان عن خصيف عن عكرمة : ) ولا تضحى ( ولا تصيبك الشمس .
طه : ( 120 ) فوسوس إليه الشيطان . . . . .
) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ ( يعني على شجرة إن أكلت منها بقيت خالداً مخلداً ) وَمُلك لاَ يَبْلَى ( لا يبيد ولا يفنى .
طه : ( 121 ) فأكلا منها فبدت . . . . .
) فَأَكَلاَ ( يعني آدم وحوّاء ) مِنْهَا ( أي من شجرة المحنة ) فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ( أي تعدّى إلى ما لم يكن له فعله .
وقال أكثر المفسرين : فغوى : أي أخطأ وضلّ ولم ينل مراده ممّا أكل .
طه : ( 122 ) ثم اجتباه ربه . . . . .
) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ ( اختاره واصطفاه ) فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ( هداه إلى التوبة ووفقّه بها .
طه : ( 123 ) قال اهبطا منها . . . . .
) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْض عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ ( يعني الكتاب والرسول ) فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى ( .
أخبرنا أبو عمرو أحمد بن حمدون بقراءتي عليه قال : أخبرنا محمد بن إسحاق قال : حدَّثنا سعيد بن عيسى ، قال : حدَّثنا فارس بن عمر وحدَّثنا صالح بن محمد : قال : حدَّثنا يحيى بن الضريس عن سفيان عن رجل عن الشعبي عن ابن عباس في قوله سبحانه ) فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ( قال : أجار الله تعالى تابع القرآن من أن يضلّ في الدنيا ويشقى في الآخرة .
وأخبرني محمد بن القاسم قال : حدَّثنا محمد بن يزيد قال : حدَّثنا الحسن بن سفيان قال : حدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة .
وأخبرني ابن المقرئ قال : حدَّثنا محمد بن أحمد بن سنان قال : حدَّثنا الحسن بن سفيان قال : حدَّثنا ابن شيبة قال : حدَّثنا أبو خالد الأحمر عن عمرو بن قيس عن عكرمة عن ابن عباس
(6/264)
" صفحة رقم 265 "
قال : ضمن الله لمن قرأ القرآن لا يضلّ في الدّنيا ولا يشقى في الآخرة ثمَّ قرأ ) فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ( .
وبإسناده عن أبي بكر بن أبي شيبة قال : حدَّثنا ابن فضيل عن عطاء بن السائب عن سعيد ابن جبير عن ابن عباس قال : من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة ووقاه يوم القيامة سوء الحساب ، وذلك بأنّ الله يقول ) فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ( .
طه : ( 124 ) ومن أعرض عن . . . . .
) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ( يعني عن القرآن فلم يؤمن به ولم يتّبعه ) فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ( ضيقاً يقال : منزل ضنك وعيش ضنك ، يستوي فيه الذكر والأُنثى والواحد والاثنان والجمع ، قال عنترة :
وإذا هم نزلوا بضنك فانزل
واختلف المفسّرون في المعيشة الضنك ، فاخبرني أبو عثمان سعيد بن محمد بن محمد الحيري قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد المفيد قال : حدّثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب قال : حدّثنا أبو الوليد الطيالسي قال : حدّثنا حماد بن سلمة عن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : في قوله سبحانه ) ومَن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ( قال : ( عذاب القبر ) .
وقال ابن عباس : الشقاء ، مجاهد : الضيق ، الحسن وابن زيد : الزقوم والغسلين والضريع ، قتادة : يعني في النار ، عكرمة : الحرام ، قيس بن أبي حازم : الرزق في المعصية ، الضحاك : الكسب الخبيث ، عطيّة عن ابن عباس يقول : كلّ مال أعطيته عبداً من عبادي قلَّ أو كثر لا يتّقيني فيه فلا خير فيه وهو الضنك في المعيشة ، وإنّ قوماً ضُلاّلاً أعرضوا عن الحق وكانوا أُولي سعة من الدنيا مكثرين فكانت معيشتهم ضنكاً ، وذلك أنّهم كانوا يرَون أنّ الله ليس بمخلف لهم معائشهم من سوء ظنّهم بالله والتكذيب به ، فإذا كان العبد يكذب بالله ويسيء الظنّ به اشتدت عليه معيشته فذلك الضنك أبو سعيد الخدري : يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه ويسُلّط عليه في قبره تسعة وتسعون تنّيناً ، لكلّ تنّين سبعة رؤوس تنهشه وتخدش لحمه حتى يُبعث ، ولو أنّ تنيّناً منها ينفخ في الأرض لم تنبت زرعاً . مقاتل : معيشة سوء لأنّها في معاصي الله . سعيد بن جبير : سلبه القناعة حتى لا يشبع .
) وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ( قال ابن عباس : أعمى البصر ، مجاهد : أعمى عن الحجّة .
(6/265)
" صفحة رقم 266 "
طه : ( 125 ) قال رب لم . . . . .
) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً ( بعيني ، وقال مجاهد : عالماً بحجّتي .
طه : ( 126 ) قال كذلك أتتك . . . . .
) قَالَ كَذَلِكَ ( يقول كما ) أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ( فتركتها وأعرضت عنها ) وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ( تُترك في النار وكذلك أي وكما جزينا من أعرض
طه : ( 127 ) وكذلك نجزي من . . . . .
) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ ( أشرك ) وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الاْخِرَةِ أَشَدُّ ( ممّا يعذّبهم به في الدنيا والقبر . ) وَأَبْقَى ( وأدوم وأثبت .
طه : ( 128 ) أفلم يهد لهم . . . . .
) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ( يتبيّن لهم ) كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ( ومنازلهم إذا سافروا واتّجروا .
) إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَات لاِوْلِي النُّهَى }
طه : ( 129 ) ولولا كلمة سبقت . . . . .
) وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ( نظم الآية ، ولولا كلمة سبقت من ربّك في تأخير العذاب عنهم وأجل مسمّى وهو القيامة ) لكان لزاماً ( لكان العذاب لازماً لهم في الدنيا كما لزم القرون الماضية الكافرة .
طه : ( 130 ) فاصبر على ما . . . . .
) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ ( نسختها آية القتال ) وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ( وصلِّ بأمر ربّك ، وقيل : بثناء ربك ) قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ( يعني صلاة الصبح ) وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ( يعني صلاة العصر ) وَمِنْ ءانآءى اللَّيْلِ ( صلاة العشاء الآخر ) فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ( صلاة الظهر والمغرب ، وإنّما قال : أطراف لهاتين الصلاتين ؛ لأنّ صلاة الظهر في آخر الطرف الأول من النهار ، وفي أول الطرف الآخر من النهار فهي في طرفين منه والطرف الثالث غروب الشمس ، وعند ذلك يصلّي المغرب ، فلذلك قال : أطراف ، ونصب عطفاً على قوله : قبل طلوع الشمس .
) لَعَلَّكَ تَرْضَى ( بالشفاعة والثواب ، قرأه العامة : بفتح التاء ، ودليله قوله تعالى : ) ولسوف يعطيك ربّك فترضى ( وقرأ الكسائي وعاصم برواية أبي بكر بضم التاء .
طه : ( 131 ) ولا تمدن عينيك . . . . .
) وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ( الآية .
قال أبو رافع : أرسلني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى يهودي يستسلفه فأبى أن يعطيه إلاّ برهن ، فحزن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله سبحانه ) ولا تمدنَّ عينيك ( ولا تنظر ) إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ ( أي أعطيناهم أصنافاً من نعيم الدنيا ) زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا ( أي زينتها وبهجتها ، قرأه العامة بجزم الهاء ، وقرأ يعقوب بفتحها وهما لغتان مثل : جهرة وجهرَة ، وإنّما نصبها على القطع والخروج من الهاء في قوله : متّعنا به
(6/266)
" صفحة رقم 267 "
) وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى }
طه : ( 132 ) وأمر أهلك بالصلاة . . . . .
) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً ( وإنّما نكلّفك عملاً ) نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ ( الجملية المحمودة ) لِلتَّقْوَى ( أي لأهل التقوى .
قال هشام بن عروة : كان عروة إذا رأى ما عند السلاطين دخل داره وقال : ) ولا تمدنَّ عينيك ( ، إلى قوله ) والعاقبة للتقوى ( ثمَّ ينادي : الصلاة الصلاة يرحمكم الله .
وقال مالك بن دينار : كان بكر بن عبد الله المزني إذا أصاب أهله خصاصة يقول : قوموا فصلّوا ، ثم يقول : بهذا أمر الله رسوله ، ويتلو هذه الآية .
طه : ( 133 ) وقالوا لولا يأتينا . . . . .
) وَقَالُوا ( يعني هؤلاء المشركين ) لَوْلاَ يَأْتِينَا ( محمد ) بِآيَة مِنْ رَبِّهِ ( كما أتى بها الأنبياء من قبله .
قال الله سبحانه ) أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ ( بالتاء ، قرأه أهل المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة لتأنيث البينّة ، وقرأ الآخرون بالياء لتقديم الفعل ولأنّ البيّنة هي البيان فردَّه إلى المعنى ) بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ ( الكتب ) الاْولَى ( أي بيان ما فيها يعني القرآن أقوى دلالة وأوضح آية .
وقال بعض أهل المعاني : يعني ألم يأتهم بيان ما في الكتب الأُولى التوراة والإنجيل وغيرهما من أنباء الأُمم التي أهلكناهم لمّا سألوا الآيات ، فأتتهم فكفروا بها ، كيف عجّلنا لهم العذاب والهلاك بكفرهم بها فما تؤمنهم إن أتتهم الآية أن يكون حالهم حال أُولئك .
طه : ( 134 ) ولو أنا أهلكناهم . . . . .
) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَاب مِنْ قَبْلِهِ ( أي من قبل نزول القرآن ومجيء محمد ( صلى الله عليه وسلم )
) لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلاَ ( هلاّ ) أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا ( يدعونا ) فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى ( بالعذاب
طه : ( 135 ) قل كل متربص . . . . .
) قُلْ ( يا محمد لهم ) كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ ( منتظر دوائر الزمان وما يكون من الحدثان ولمن يكون الفلح والنصر . ) فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ ( إذا جاء أمر الله تعالى وقامت القيامة ) مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ ( المستقيم ) وَمَنِ اهْتَدَى ( من الضلالة أنحن أم أنتم ؟ .
(6/267)
" صفحة رقم 268 "
( سورة الأنبياء )
وهي أربعة آلاف وثمان مائة وتسعون حرفاً ، وألف ومائة وثمان وستّون كلمة ، ومائة واثنتا عشرة آية
أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن الحسن الجرجاني المقري قال : حدَّثنا أبو علي بن حبش الدينوري المقري قال : حدَّثنا أبو العباس محمد بن موسى الدقاق الرازي قال : حدَّثنا عبد الله بن روح المدائني قال : حدَّثنا ظفران قال : حدَّثنا ابن أبي داود قال : حدَّثنا محمد بن عاصم قال : حدَّثنا شبابة بن سوار الفزاري قال : حدَّثنا مخلد بن عبد الواحد عن علي عن عطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أُبىّ بن كعب قال : قال رسول الله : ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة ) اقترب للناس حسابهم ( حاسبه الله حساباً يسيراً وصافحه وسلَّم عليه كلّ نبي ذكر اسمه في القرآن ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( ) اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّواْ النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ هَلْ هَاذَآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ قَالَ رَبِّى يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِى السَّمَآءِ وَالاَْرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِئَايَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الاَْوَّلُونَ مَآ ءَامَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِىإِلَيْهِمْ فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرفِينَ لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( 2
الأنبياء : ( 1 ) اقترب للناس حسابهم . . . . .
) اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ ( قيل : اللام بمعنى من أي اقترب من الناس ) حِسَابُهُمْ ( محاسبة الله
(6/268)
" صفحة رقم 269 "
إيّاهم على أعمالهم ) وَهُمْ ( واو الحال ) فِي غَفْلَة ( عنه ) مُعْرِضُونَ ( عن التفكير فيه والتأهّب له ، نزلت في منكري البعث .
الأنبياء : ( 2 ) ما يأتيهم من . . . . .
) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْر مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَث ( يعني ما يحدث الله تعالى من تنزيل شيء من القرآن يذكّرهم ويعظهم به ) إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ( لا يعتبرون ولا يتّعظون .
قال مقاتل : يحدث الله الأمر بعد الأمر ، وقال الحسن بن الفضل : الذكر هاهنا محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يدلّ عليه قوله في سياق الآية ) هَلْ هذا إلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُم ( ولو أراد الذكر بالقرآن لقال : هل هذا إلاّ أساطير الأوّلين ، ودليل هذا التأويل أيضاً قوله : ) وَيَقولونَ إِنّهُ لَمَجْنونٌ وَمَا هُوَ إلاّ ذِكرٌ لِلعالَمِينَ ( يعني محمداً ( عليه السلام ) .
الأنبياء : ( 3 ) لاهية قلوبهم وأسروا . . . . .
) لاَهِيَةً ( ساهية ) قُلُوبُهُمْ ( معرضة عن ذكر الله ، من قول العرب : لهيت عن الشيء إذا تركته ، ولاهية نعت تقدّم الاسم ومن حقّ النعت أن يتبع الاسم في جميع الاعراب ، فإذا تقدّم النعت الاسم فله حالتان : فصل ووصل ، فحاله في الفصل النصب كقوله سبحانه ) خُشَّعاً أبصارُهُم ( ) ودانية عليهم ظلالها و ( ) لاهِيَةً قُلوبُهم ( . قال الشاعر :
لعزّة موحشاً طلال
يلوح كأنّه خلل
أراد : طلل موحش ، وحاله في الوصل حال ما قبله من الإعراب كقوله تعالى ) ربَّنا أخرِجْنا مِن هذِه القَرْيَةِ الظّالِم أهلُها ( قال ذو الرمّة :
قد أعسف النازح المجهول معسفة
في ظلّ أخضر يدعو هامه البوم
أراد معسفه مجهول وإنّما نصب لانتصاب النازح .
وقال النابغة :
من وحش وجرة موشّي أكارعه
طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد
أراد أنّ أكارعه مَوشيّة .
) وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ( كان حقّه وأسرّ لأنه فعل تقدّم الاسم فاختلف النحاة في وجهه ، فقال الفرّاء : الذين ظلموا في محلّ الخفض على أنّه تابع للناس في قوله ) اقَترَب للنّاسِ حِسابُهم ( .
وقال الكسائي : فيه تقديم وتأخير أراد والذين ظلموا أسرّوا النجوى
(6/269)
" صفحة رقم 270 "
وقال قطرب : وهذا سائغ في كلام العرب وحُكي عن بعضهم أنه قال : سمعت بعض العرب يقول : أكلوني البراغيث قال الله سبحانه ) ثم عموا وصموا كثير منهم ( . وقال الشاعر :
بك نال النصال دون المساعي
فاهتدين النبال للأغراض
ويحتمل أن يكون محل الذين رفعاً على الابتداء ، ويكون معناه وأسَروّا النّجوى ، ثمّ قال هم الذين ظلموا
) هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ( أنّه سِحر
الأنبياء : ( 4 ) قال ربي يعلم . . . . .
) قَالَ رَبِّي ( قرأ أكثر أهل الكوفة ( قال ) على الخبر عن محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقرأ الباقون ( قل ) على الأمر له ) يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالاْرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ ( لأقوالهم ) الْعَلِيمُ ( بأفعالهم
الأنبياء : ( 5 ) بل قالوا أضغاث . . . . .
) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَم ( أي أباطليها وأهاويلها ) بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ ( يعني أنّ المشركين اقتسموا القول فيه : فقال بعضهم : أضغاث أحلام ، وقال بعضهم : بل افتراه ، وقال بعضهم : بل محمد شاعر ، وهذا الذي جاءكم به شعر ، لأنَّ بل تأتي لتدارك شيء ونفي آخر .
) فَلْيَأْتِنَا بِآيَة ( إن كان صادقاً ) كَمَا أُرْسِلَ الاْوَّلُونَ ( من الرسل بالآيات .
الأنبياء : ( 6 ) ما آمنت قبلهم . . . . .
قال الله سبحانه مجيباً لهم ) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَة ( أهل قرية أتتها الآيات فأهلكناهم ) أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ( إن جاءتهم آية . . .
الأنبياء : ( 7 ) وما أرسلنا قبلك . . . . .
) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ ( وهذا جواب لقولهم ) هل هذا إلا بشر مثلكم ( ) فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ ( أي التوراة والإنجيل يعني علماء أهل الكتاب ) إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ( وقال ابن زيد : أراد بالذكر القرآن يعني فاسألوا المؤمنين العالمين من أهل القرآن ، قال جابر الجعفي : لما نزلت هذه الآية قال عليّ : نحن أهل الذكر .
الأنبياء : ( 8 ) وما جعلناهم جسدا . . . . .
) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ ( يعني الرسل الأولين ) جَسَداً ( قال الفرّاء : لم يقل أجساداً لأنّه اسم الجنس ) لاَ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ( يقول : لم نجعلهم ملائكة ، بل جعلناهم بشراً محتاجين إلى الطعام ، وهذا جواب لقولهم ) ما لهذا الرسول يأكل الطعام ( ) وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ( في الدنيا
الأنبياء : ( 9 ) ثم صدقناهم الوعد . . . . .
) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمْ الْوَعْدَ ( الذي وعدناهم هلاك أعدائهم ومخالفيهم وإنجائهم ومتابعيهم ) فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ( المشركين .
الأنبياء : ( 10 ) لقد أنزلنا إليكم . . . . .
) لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ ( قال مجاهد : حديثكم ، وقيل : شرفكم .
) أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( .
2 ( ) وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً ءَاخَرِينَ فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُم
(6/270)
" صفحة رقم 271 "
مِّنْهَا يَرْكُضُونَ لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُواْ إِلَى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُواْ ياوَيْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالاَْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ وَلَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ الْلَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ أَمِ اتَّخَذُواْ آلِهَةً مِّنَ الاَْرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ أَمِ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ هَاذَا ذِكْرُ مَن مَّعِىَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِى بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُّعْرِضُونَ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِىإِلَيْهِ أَنَّهُ لاإِلَاهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّىإِلَاهٌ مِّن دُونِهِ فَذالِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ ( 2
الأنبياء : ( 11 ) وكم قصمنا من . . . . .
) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَة كَانَتْ ظَالِمَةً ( أي أهلكنا ، والقصم : الكسر يقال : قصمت ظهر فلان ، وانقصمت سنة إذا انكسرت .
) وَأَنشَأْنَا ( وأحدثنا ) بَعْدَهَا ( بعد إهلاك أهلها ) قَوْماً آخَرِينَ }
الأنبياء : ( 12 ) فلما أحسوا بأسنا . . . . .
) فَلَمَّا أَحَسُّوا ( رأوا ) بَأْسَنَا ( عذابنا ) إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ ( يسرعون هاربين ، يقال منه : ركض فلان فرسه إذا كدّه بالرجل ، وأصله التحريك .
الأنبياء : ( 13 ) لا تركضوا وارجعوا . . . . .
) لاَ تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ( نُعّمتم فيه ) وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ( عن نبيّكم ، مجاهد : لعلكم تفقهون بالمسألة ، قتادة : لعلّكم تسألون من دنياكم شيئاً استهزاءً بهم ، نزلت هذه الآيات في أهل حصورا وهي قرية باليمن ، وكان أهلها العرب فبعث الله إليهم نبياً يدعوهم إلى الله سبحانه فكذّبوه وقتلوه ، فسلّط الله عليهم بخت نصّر حتى قتلهم وسباهم ونكّل بهم ، فلمّا استحرّ فيهم القتل ندموا وهربوا وانهزموا ، فقالت الملائكة لهم على طريق الاستهزاء ) لا تركضوا وارجعوا إلى ما أُترفتم فيه ( إلى مساكنكم وأموالكم ، فأتبعهم بخت نصّر وأخذتهم السيوف ، ونادى مناد من جوّ السّماء : يالثارات الأنبياء ، فلمّا رأوا ذلك أقرّوا بالذنوب حين لم ينفعهم فقالوا
الأنبياء : ( 14 - 15 ) قالوا يا ويلنا . . . . .
) يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ ( قولهم وهجّيراهم ) حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً ( بالسيوف كما يحصد الزرع ) خَامِدِينَ ( ميّتين .
الأنبياء : ( 16 ) وما خلقنا السماء . . . . .
) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالاْرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ ( عبثاً وباطلاً
الأنبياء : ( 17 ) لو أردنا أن . . . . .
) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً ( قال قتادة : اللهو بلغة أهل اليمن المرأة
(6/271)
" صفحة رقم 272 "
وقال عقبة بن أبي جسرة : شهدت الحسن بمكة وجاءه طاووس وعطاء ومجاهد فسألوه عن هذه الآية ، فقال الحسن : اللهو : المرأة . وقال ابن عباس : الولد .
) لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا ( من عندنا وما اتّخذنا نساءً وولداً من أهل الأرض ، نزلت في الذين قالوا اتّخذ الله ولداً .
) إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ }
الأنبياء : ( 18 ) بل نقذف بالحق . . . . .
) بَلْ نَقْذِفُ ( نأتي ونرمي وننزل ) بِالْحَقِّ ( بالإيمان ) عَلَى الْبَاطِلِ ( الكفر ) فَيَدْمَغُهُ ( فيهلكه ، وأصل الدمغ شجّ الرأس حتى يبلغ الدِماغ ) فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ( ذاهب وهالك .
) وَلَكُمُ الْوَيْلُ ( يا معشر الكفّار ) مِمَّا تَصِفُونَ ( لله بما لا تليق به من الصاحبة والولد . وقال مجاهد : ممّا تكذبون ، ونظيره قوله ) سيجزيهم وصفهم ( أي تكذيبهم .
الأنبياء : ( 19 ) وله من في . . . . .
) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالاْرْضِ ( عبداً وملكاً ) وَمَنْ عِنْدَهُ ( يعني الملائكة ) لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ ( .
قال ابن عباس : لا يستنكفون ، مجاهد : لا يجسرون ، قتادة ومقاتل والسدّي : لا يعيون ، الوالبي عن ابن عباس : لا يرجعون ، ابن زيد : لا يملّون .
الأنبياء : ( 20 ) يسبحون الليل والنهار . . . . .
) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ ( لا يضعفون ولا يسأمون ، قد أُلهموا التسبيح كما تلهمون النَّفَس .
الأنبياء : ( 21 ) أم اتخذوا آلهة . . . . .
) أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الاْرْضِ ( يعني الأصنام ) هُمْ يُنشِرُونَ ( يحيون الإموات ويخلقون الخلق .
الأنبياء : ( 22 ) لو كان فيهما . . . . .
) لَوْ كَانَ فِيهِمَا ( أي في السماء والأرض ) آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ ( غير الله ) لَفَسَدَتَا ( وهلك من فيهما .
) فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ }
الأنبياء : ( 23 ) لا يسأل عما . . . . .
) لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ( لأنه الرب ) وَهُمْ يُسْأَلُونَ ( عما لا يعلمون لأنهم عبيده .
الأنبياء : ( 24 ) أم اتخذوا من . . . . .
) أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ ( على ذلك ، ثمَّ قال مستأنفاً ) هَذَا ( يعني القرآن ) ذِكْرُ ( خبر ) مَنْ مَعِي ( بيان الحدود والأحكام والثواب والعقاب ) وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ( من الأمم السالفة وما فعل الله بهم في الدنيا وما هو فاعل بهم في الآخرة ) بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ ( عن القرآن .
الأنبياء : ( 25 ) وما أرسلنا من . . . . .
) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ ( قرأ أكثر أهل الكوفة بالنون وكسر الحاء
(6/272)
" صفحة رقم 273 "
على التعظيم لقوله : أرسلنا ، وقرأ الباقون بالياء وفتح الحاء على الفعل المجهول .
) أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (
الأنبياء : ( 26 ) وقالوا اتخذ الرحمن . . . . .
) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً ( نزلت في خزاعة حيث قالوا : الملائكة بنات الله ) سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ( يعني الملائكة
الأنبياء : ( 27 ) لا يسبقونه بالقول . . . . .
) لاَ يَسْبِقُونَهُ ( لا يتقدّمونه ) بِالْقَوْلِ ( ولا يتكلّمون إلاّ بما يأمرهم به .
) وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (
الأنبياء : ( 28 ) يعلم ما بين . . . . .
) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى ( .
قال ابن عباس : هم أهل شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وقال مجاهد : لمن ح ، ) وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ( خائفون
الأنبياء : ( 29 ) ومن يقل منهم . . . . .
) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ ( قال قتادة : عنى بهذه الآية إبليس لعنه الله حيث ادّعى الشركة ، ودعا إلى عباده نفسه وأمر بطاعته ، قال : لأنه لم يقل أحد من الملائكة إنّي إله من دون الله .
) فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ( الواضعين الإلهية والعبادة في غير موضعها .
2 ( ) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ وَجَعَلْنَا فِى الاَْرْضِ رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ ءَايَاتِهَا مُعْرِضُونَ وَهُوَ الَّذِى خَلَقَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَاذَا الَّذِى يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَانِ هُمْ كَافِرُونَ خُلِقَ الإنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءَايَاتِى فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَانِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ بَلْ مَتَّعْنَا هَاؤُلاءِ وَءَابَآءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِى الاَْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْىِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ ياويْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَآءً وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ وَهَاذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ( 2
(6/273)
" صفحة رقم 274 "
الأنبياء : ( 30 ) أولم ير الذين . . . . .
) أَوَلَمْ يَرَ ( قرأه العامّة بالواو ، وقر ابن كثير ألم وكذلك هو في مصاحفهم . ( ير ) يعلم ) الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالاْرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا ( .
قال ابن عباس والضحاك وعطاء وقتادة : يعني كانتا شيئاً واحداً ملتزقتين ففصل الله سبحانه بينهما بالهواء .
قال كعب : خلق الله سبحانه السموات والأرضين بعضها على بعض ثمّ خلق ريحاً توسّطتها ففتحها بها .
وقال مجاهد وأبو صالح والسدُّي : كانت السموات مرتقة طبقة واحدة ، ففتقها فجعلها سبع سموات ، وكذلك الأرضون كانت مرتقة طبقاً واحداً ففتقها فجعلها سبع أرضين .
عكرمة وعطية وابن زيد : كانت السماء رتقاً لا تمطر ، والأرض رتقاً لا تنبت ففتق السماء بالمطر والأرض بالنبات ، نظيره قوله سبحانه ) والسماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع ( وأصل الرتق السدّ ومنه قيل للمرأة التي فرجها ملتحم رتقاً ، وأصل الفتق الفتح ، وإنّما وحّد الرتق وهو من نعت السموات والأرض لأنّه مصدر ، وضع موضع الاسم مثل الزور والصوم والفطر والعدل ونحوها .
) وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيَ ( يعني أنّ كلّ شيء حىّ فإنّه خُلق من الماء ، نظيره قوله سبحانه ) والله خلق كل دابة من ماء ( ) أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ (
الأنبياء : ( 31 ) وجعلنا في الأرض . . . . .
) وَجَعَلْنَا فِي الاْرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا ( أي في الرواسي ) فِجَاجاً ( طرقاً ومسالك واحدها فج ثمَّ ، فسّر فقال ) سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (
الأنبياء : ( 32 ) وجعلنا السماء سقفا . . . . .
) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً ( من أن تسقط ، دليله قوله سبحانه ) ويُمْسِكُ السَّماءَ أن تَقَع على الأرْضِ إلاّ بإذْنِه ( وقيل : محفوظاً من الشياطين ، دليله قوله سبحانه ) وحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانِ رَجيم ( .
) وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ( فلا يتفكّرون فيها ولا يعتبرون بها يعني الكفار .
الأنبياء : ( 33 ) وهو الذي خلق . . . . .
) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَك يَسْبَحُونَ ( يجرون ويسيرون ، والفلك مدار النجوم الذي يضمّها ، ومنه فلكة المغزل .
قال مجاهد : كهيئة حديدة الرّحا ، الضحّاك : فلكها : مجراها وسرعة سيرها .
(6/274)
" صفحة رقم 275 "
وقال آخرون : الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه .
وقال بعضهم : الفلك السماء الذي فيه ذلك الكوكب ، وكلّ كوكب يجري في السّماء الذي قدّر فيه وهو بمعنى قول قتادة .
الأنبياء : ( 34 ) وما جعلنا لبشر . . . . .
) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَر مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ ( دوام البقاء في الدنيا ) أَفَإنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ( أي أفهم الخالدون ؟ كقول الشاعر :
رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع
فقلت وأنكرت الوجوه هُمُ هُمُ
أي أهمُ ؟ نزلت هذه الآية حين قالوا : نتربّص بمحمد ريب المنون .
الأنبياء : ( 35 ) كل نفس ذائقة . . . . .
) كُلُّ نَفْس ( منفوسة ) ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ ( نختبركم ) بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ( ابتلاء لننظر كيف شكركم فيما تحبّون ، وكيف صبركم فيما تكرهون .
) وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }
الأنبياء : ( 36 ) وإذا رآك الذين . . . . .
) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ ( ما يتّخذونك ) إِلاَّ هُزُواً ( سخرّياً ويقول بعضهم لبعض ) أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ( بسوء ويعيبها ، قال عنترة :
لا تذكري فرسي وما أطعمته
فيكون جلدك مثل جلد الأجرب
أي لا تعيبي مهري .
الأنبياء : ( 37 ) خلق الإنسان من . . . . .
) خُلِقَ الاْنسَانُ ( يعني آدم ، قرأ العامّة : بضم الخاء وكسر اللام على غير تسمية الفاعل ، وقرأ حميد والأعرج بفتح الخاء واللام يعني خلق الله الانسان ) مِنْ عَجَل ( اختلفوا فيه فقال بعضهم : يعني أنّ بنيته وخلقته من العجلة وعليها طُبع ، نظيره قوله ) وَكانَ الإنسانُ عَجُولاً ( .
قال سعيد بن جبير والسدي : لمّا دخل الروح في عيني آدم نظر إلى ثمار الجنّة ، فلمّا دخل في جوفه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة ، فذلك حين يقول ) خُلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَل ( .
وقال آخرون : معناه خلق الإنسان من تعجيل في خلق الله إيّاه ، وقالوا : خلقه في آخر النهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس فأسرع في خلقه قبل مغيبها .
قال مجاهد : خلق الله آدم بعد كلّ شيء آخر النهار من يوم خلق الخلق ، فلمّا أحيا الروح رأسه ولم يبلغ أسفله قال : يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس .
وقال بعضهم : هذا من المقلوب مجازه : خُلق العجل من الإنسان كقول العرب : ( عرضت
(6/275)
" صفحة رقم 276 "
الناقة على الحوض ) يريدون : عرضت الحوض على الناقة وكقولهم : إذا طعلت الشمس الشعرى ، واستوى العود على الحربا أي استوى الحربا على العود . وقال ابن مقبل :
حسرتُ كفّي عن السربالِ آخذه
فرداً يجرّ على أيدي المفدينا
يريد حسرت السربال عن كفّي ، ونحوها كثير .
وقال أبو عبيد : وكثير من أهل المعاني يقولون : العجل الطين بلغة حمير ، وانشدوا :
النبع تنبت بين الصخر ضاحية
والنخل ينبت بين الماء والعجل
أي الطين .
) سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُون ( بالعذاب وسؤال الآيات
الأنبياء : ( 38 ) ويقولون متى هذا . . . . .
) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ ( الذي تعدنا من العذاب ، وقيل : القيامة ، وتقديره الموعود ) إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ( .
الأنبياء : ( 39 ) لو يعلم الذين . . . . .
قال الله سبحانه ) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ ( يمنعون ) عَنْ وُجُوهِهِم النَّارَ وَلاَ عَنْ ظُهُورِهِمْ ( السياط ) وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ ( وفي الآية اختصار يعني لمّا أقاموا على كفرهم ولم يتوبوا .
الأنبياء : ( 40 ) بل تأتيهم بغتة . . . . .
) بَلْ تَأْتِيهِمْ ( يعني الساعة ) بَغْتَةً ( فجأةً ) فَتَبْهَتُهُمْ ( قال ابن عباس : تفجأهم ، وقال الفرّاء : تحيّرهم . ) فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ }
الأنبياء : ( 41 ) ولقد استهزئ برسل . . . . .
) وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُل مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون }
الأنبياء : ( 42 ) قل من يكلؤكم . . . . .
) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ ( يحفظكم ويحرسكم ) بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ الرَّحْمانِ ( إذا انزل بكم عذابه ، ومعنى الآية : من أمر الرَّحْمن وعذابه .
ثم قال سبحانه ) بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ ( كتاب ربّهم ) مُعْرِضُونَ }
الأنبياء : ( 43 ) أم لهم آلهة . . . . .
) أَمْ لَهُمْ ( الميم صلة فيه وفي أمثاله ) آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ ( فكيف ينصرون عابديهم .
) وَلاَ هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ ( قال ابن عباس : يمنعون ، عطية عنه : يُجارون ، يقول العرب : أنا لك جار وصاحب من فلان أي مجير عنه .
مجاهد : ينصرون ويحفظون ، قتادة : لا يصحبون من الله بخير .
الأنبياء : ( 44 ) بل متعنا هؤلاء . . . . .
) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاَءِ ( الكفّار ) وَآبَاءَهُمْ ( في الدنيا ) حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الاْرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ( يعني ما ننقص من أطراف المشركين ونزيد في أطراف المؤمنين .
) أَفَهُمْ الْغَالِبُونَ ( أم نحن
الأنبياء : ( 45 ) قل إنما أنذركم . . . . .
) قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْىِ ( بالقرآن ) وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ (
(6/276)
" صفحة رقم 277 "
قرأ أبو عبد الرَّحْمن السلمي بضم الياء وفتح الميم ، الضم رفع بمعنى أنّه لا يفعل بهم ذلك على مذهب ما لم يبين فاعله .
وقرأ ابن عامر ( تُسمع ) بتاء مضمومة وكسر الميم والصُمَّ نصباً ، جعل الخطاب للنبي ( عليه السلام ) ، وقرأ الآخرون : ( يسمع ) بياء مفتوحة وفتح الميم الصمُّ رفع على أنّ الفعل لهم ) إِذَا مَا يُنذَرُونَ ( يخوّفون ويحذّرون .
الأنبياء : ( 46 ) ولئن مستهم نفحة . . . . .
) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ ( أصابتهم ) نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ ( قال ابن عباس : طرف ، مقاتل وقتادة : عقوبة ، ابن كيسان : قليل ، ابن جريج : نصيب ، من قولهم : نفح فلان لفلان إذا أعطاه قسماً وحظّاً منه ، بعضهم : ضربة ، من قول العرب : نفحت الدابة برجلها إذا ضربت بها . قال الشاعر :
وعمرة من سروات النساء
تنفح بالمسك أردانها
) لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ }
الأنبياء : ( 47 ) ونضع الموازين القسط . . . . .
) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ ( العذاب وإنّما وحدّ القسط وهو جمع الموازين لأنّه في مذهب عدل ورضىً .
قال مجاهد : هذا مَثَل ، وإنّما أراد بالميزان العدل .
) فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً ( لا ينقص من حسناته ولا يزاد على سيّئاته .
يروى أنّ داود ( عليه السلام ) سأل ربّه أن يريه الميزان فأراه ، فلمّا رآه غشي عليه ثم أفاق ، فقال : يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفّته حسنات ؟ فقال : يا داود إنّي إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة .
فان قيل : كيف وجه الجمع بين هذه الآية وبين قوله سبحانه ) فَلا نُقِيمُ لهم يَوْمَ القِيامَةِ وَزْناً ( ؟ فالجواب : إن المعنى فيه : لا نقوّمها ولا تستقيم على الحقّ ، ( من ناقصه سائله ) لأنها باطلة .
) وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّة مِنْ خَرْدَل ( رفع أهل المدينة المثقال بمعنى : وان وقع ، وحينئذ لا خبر له ونصبها الباقون على معنى : وإن كان ذلك الشيء مثقال ، ومثله في سورة لقمان ) أَتَيْنَا بِهَا ( أحضرناها ، وقرأ مجاهد : آتينا بالمدّ أي جازينا بها .
) وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ }
الأنبياء : ( 48 ) ولقد آتينا موسى . . . . .
) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ( يعني الكتاب الذي يفرق بين الحق والباطل وهو التوراة
(6/277)
" صفحة رقم 278 "
وقال ابن زيد : النصر على الأعداء ، دليله قوله ) وَما أنْزَلنْا على عَبدِنااَيْومَ الفُرْقانِ ( يعني يوم بدر ، وهذا القول أشبه بظاهر الآية لدخول الواو في الضياء والذكر للمتّقين ، وعلى هذا التأويل تكون الواو مقحمة زائدة كقوله سبحانه وتعالى ) بزِينَةِ الكَواكِب وَحفْظاً ( .
ويروى أنّ عكرمة كان يقول في هذه الآية : معناها : ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان ضياء ، ويقول : انقلوا هذه الواو إلى قوله سبحانه وتعالى ) الذين يحملون العرش ومن حوله 2 )
الأنبياء : ( 49 - 50 ) الذين يخشون ربهم . . . . .
) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ( أي يخافونه ولم يروه ) وَهُمْ مِنْ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ ( يعني القرآن ) أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ( جاحدون .
2 ( ) وَلَقَدْ ءَاتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لاَِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَاذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِىأَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُواْ وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ قَالُواْ أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ الَّذِى فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَى ذالِكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ قَالُواْ مَن فَعَلَ هَاذَا بِئَالِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قَالُواْ ءَأَنْتَ فَعَلْتَ هَاذَا بِئَالِهَتِنَا ياإِبْرَاهِيمُ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَاذَا فَاسْئَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ فَرَجَعُواْ إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُواْ عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَاؤُلاءِ يَنطِقُونَ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ ءَالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ قُلْنَا يانَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَامَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الاَْخْسَرِينَ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الاَْرْضِ الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ ( 2
الأنبياء : ( 51 ) ولقد آتينا إبراهيم . . . . .
) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ ( توفيقه . القرظي : صلاحه ، ) مِنْ قَبْلُ ( أي من قبل موسى وهارون .
قال المفسّرون : يعني هديناه صغيراً كما قال ليحيى ) وَآتَيناهُ الحُكْمَ صَبِيّاً ( .
(6/278)
" صفحة رقم 279 "
) وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ( بأنّه أهل الهداية والنبوة .
الأنبياء : ( 52 ) إذ قال لأبيه . . . . .
) إِذْ قَالَ لاِبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ ( والصور يعني الأصنام ) الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ( على عبادتها مقيمون .
الأنبياء : ( 53 ) قالوا وجدنا آباءنا . . . . .
) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ( فاقتدينا بهم .
الأنبياء : ( 54 ) قال لقد كنتم . . . . .
) قال إبراهيم ( ) لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلاَل مُبِين ( بعبادتكم إيّاها .
الأنبياء : ( 55 ) قالوا أجئتنا بالحق . . . . .
) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنْ الّلاعِبِينَ ( يعنون أجادّ أنت فيما تقول أم لاعب ؟
الأنبياء : ( 56 - 57 ) قال بل ربكم . . . . .
) قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماوَاتِ وَالاْرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ ( خلقهّن ) وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ وَتَاللهِ لااكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ ( لأمكرنّ بها ) بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ( .
قال مجاهد وقتادة : إنّما قال إبراهيم هذا في سّر من قومه ولا يسمع ذلك إلاّ رجل واحد منهم ، وهو الذي أفشاه عليه وقال : ) سَمِعْنا فَتَى يَذْكُرُهُم يُقَالُ له إبراهيم ( .
قال السدّي : كان لهم في كلّ سنة مجمع وعيد ، فكانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا لها ، ثمَّ عادوا إلى منازلهم ، فلمّا كان ذلك العيد قال أبو إبراهيم له : يا إبراهيم لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا ، فخرج معهم إبراهيم فلمّا كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال : إنّي سقيم يقول : أشتكي رجلي ، فتواطؤوا رجله وهو صريع ، فلمّا مضوا نادى في آخرهم وقد بقي ضعف الناس ) تاللهِ لأكِيدَنَ أصْنَامَكُمْ بَعْدَ أن تُوَلّوا مُدْبِريِنَ ( فسمعوها منه ، ثم رجع إبراهيم إلى الآلهة فإذا هنَّ في بهو عظيم مستقبل باب البهو صنم عظيم إلى جنبه أصغر منه بعضها إلى جنب بعض ، كلّ صنم يليه أصغر منه إلى باب البهو ، وإذا هم قد جعلوا طعاماً فوضعوه بين يدي الأصنام ، قالوا : إذا كان حين نرجع رجعنا وقد بركت الآلهة في طعامنا فأكلنا ، فلمّا نظر إليهم إبراهيم وإلى ما بين أيديهم من الطعام قال لهم على طريق الاستهزاء : ألا تأكلون ؟ فلمّا لم يجبه أحد قال : ما لكم لا تنطقون ؟ ) فراغ عليهم ضرباً باليمين ( ، وجعل يكسرهنّ بفأس في يده حتى إذا لم يبق إلاّ الصنم الأكبر علّق الفأس في عنقه ثم خرج ، فذلك قوله سبحانه
الأنبياء : ( 58 ) فجعلهم جذاذا إلا . . . . .
) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً ( .
قرأ يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي بكسر الجيم أي كسراً وقطعاً جمع جذيذ وهو الهشيم ، مثل خفيف وخفاف وكريم وكرام ، وقرأ الباقون : بضمّه أي الحطام والدقاق ) إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ ( أي عظيماً للآلهة فإنّه لم يكسره ووضع الفأس على عنقه ) لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ( فيتذكّرون ويعلمون ضعفها وعجزها ، وقيل : لعلّهم إليه يرجعون فيسألونه ، فلمّا جاء القوم من عيدهم إلى
(6/279)
" صفحة رقم 280 "
بيت آلهتهم ورأوا أصنامهم
الأنبياء : ( 59 - 60 ) قالوا من فعل . . . . .
) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ قَالُوا ( يعني الذين سمعوا إبراهيم يقول : تالله لأكيدنّ أصنامكم ) سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ ( يعيبهم ويسبّهم ويستهزئ بهم ) يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ( هو الذي صنع هذا ، فبلغ ذلك نمرود الجبّار وأشراف قومه
الأنبياء : ( 61 ) قالوا فأتوا به . . . . .
فقالوا ) فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ ( يراد بأعين الناس ) لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ( عليه أنّه هو الذي فعل ذلك ، وكرهوا أن يأخذوه بغير بيّنة ، قاله قتادة والسدّي .
وقال الضحّاك والسُدّي : لعلّهم يشهدون ما يصنع به ويعاقبه ، أي ، يحضرون ، فلمّا أتوا به
الأنبياء : ( 62 - 63 ) قالوا أأنت فعلت . . . . .
) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ قَالَ ( إبراهيم ) بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ( غضب من أن تعبدوا معه هذه الصغار وهو أكبر منها فكسرهنّ ، قاله ابن إسحاق ، وإنّما أراد إبراهيم بذلك إقامة الحجّة عليهم ، فذلك قوله سبحانه ) فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ ( حتى يخبروكم بمن فعل هذا بهم .
وروي عن الكسائي أنّه كان يقف عند قوله : بل فعله ويقول : معناه فعله من فعله ، ثم يبتدي كبيرهم هذا .
وقال القتيبي : جعل إبراهيم النطق شرطاً للفعل فقال ) فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون ( والمعنى إن قدروا على الفعل ، فأراهم عجزهم عن النطق والفعل ، وفي ضمنه أنا فعلت ذلك ، والذي تظاهرت به الأخبار في هذه الآية ، قول ابن إسحاق يدلّ عليه قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لم يكذب إلاّ ثلاث كذبات كلّها في الله عزّ وجلّ قوله ) إني سقيم ( وقوله ) بل فعله كبيرهم ( وقوله لسارة : هي أختي ، وغير مستحيل أن يكون الله سبحانه أذن لرسوله وخليله في ذلك ليقرع قومه ويوبّخهم ويحتجّ عليهم ويعرّفهم موضع خطئهم كما أذن ليوسف حين أمر مناديه فقال لأخوته : ) أيَتُها العِيْرُ إِنَّكُم لَسَارِقُونَ ( ولم يكونوا سرقوا شيئاً .
الأنبياء : ( 64 ) فرجعوا إلى أنفسهم . . . . .
) فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ ( يقول : فتفكّروا بقلوبهم ورجعوا إلى عقولهم ) فَقَالُوا ( ما نراه إلاّ كما قال ) إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ ( هذا الرجل في سؤالكم إيّاه ، وهذه آلهتكم التي فعل بها ما فعل حاضرة فسلوها ، وقيل : إنّكم أنتّم الظالمون بعبادتكم الأوثان الصغار مع هذا الكبير .
الأنبياء : ( 65 ) ثم نكسوا على . . . . .
) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ ( متحيّرين مثبورين وعلموا أنّها لا تنطق ولا تبطش ، فقالوا ) لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنطِقُونَ ( فلمّا اتّجهت الحجّة لإبراهيم عليهم
الأنبياء : ( 66 - 67 ) قال أفتعبدون من . . . . .
) قَالَ ( لهم ) أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُون
(6/280)
" صفحة رقم 281 "
ِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( فلمّا لزمتهم الحجّة وعجزوا عن الجواب
الأنبياء : ( 68 ) قالوا حرقوه وانصروا . . . . .
) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ ( .
قال ابن عمر : إنّ الذي أشار عليهم بتحريق إبراهيم رجل من الأكراد ، قال شعيب الجبّائي : اسمه هيزن فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، قالوا : فلمّا جمع نمرود قومه لإحراق إبراهيم حبسوه في بيت وبنوا بنياناً كالحظيرة فذلك قوله ) قالوا ابنوا له بُنْياناً فألقوه في الجَحِيم ( ثم جمعوا له صلاب الحطب من أصناف الخشب حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول لئن عافاني لأجمعنّ حطباً لإبراهيم ، وكانت المرأة تنذر في بعض ممّا تطلب ممّا تحبّ أن تدرك لئن أصابته لتحتطبنّ في نار إبراهيم التي يحرق بها احتساباً في دينها .
قال ابن إسحاق : كانوا يجمعون الحطب شهراً ، قالوا : حتى إذا أكثروا وجمعوا منه ما أرادوا أشعلوا في كلّ ناحية من الحطب ، فاشتعلت النّار واشتدّت حتّى أنْ كان الطّير لتمرّ بها فتحرق من شدّة وهجها ، ثمّ عمدوا إلى إبراهيم فرفعوه على رأس البنيان وقيّدوه ، ثم اتخذوا منجنيقاً ووضعوه فيه مقيّداً مغلولاً ، فصاحت السموات والأرض ومن فيهما من الملائكة وجميع الخلق إلاّ الثّقلين صيحة واحدة : أي ربنّا ، إبراهيم ليس في أرضك أحد يعبدك غيره يُحرق فيك فائذن لنا في نصرته ، فقال الله سبحانه وتعالى لهم : إنِ استَغاث بشيء منكم أودعاه فلينصره ، فقد أذنت له في ذلك ، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به ، وأنا وليّه فخلوا بيني وبينه فلمّا أرادوا إلقاءه في النّار أتاه خازن المياه فقال : إن أردت أخمدت النّار فإنّ خزائن الأمطار بيدي ، وأتاه خازن الرياح فقال : إن شئت طيّرت النار في الهواء ، فقال إبراهيم : لا حاجة لي إليكم ، ثم رفع رأسه إلى السّماء فقال : اللهمّ أنتَ الواحد في السّماء وأنا الواحد في الأرض ، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري ، حسبي الله ونعم الوكيل .
وروى المعتمر عن أُبي بن كعب عن أرقم أنّ إبراهيم قال حين أوثقوه ليلقوه في النار : لا إله إلاّ أنت سبحانك ربّ العالمين ، لك الحمد ولك الملك ، لا شريك لك ، قال : ثمّ رموه في المنجنيق إلى النّار من مضرب شاسع فاستقبله جبرئيل فقال : يا إبراهيم ألك حاجة ؟ قال : أمّا إليك فلا ، قال جبرئيل : فاسأل ربّك ؟ فقال إبراهيم : حسبي من سؤالي علمه بحالي ،
الأنبياء : ( 69 ) قلنا يا نار . . . . .
فقال الله سبحانه ) يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاَماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ( قال السدّي : كان جبرئيل هو الذي ناداها .
قال ابن عباس : لو لم يتبع بردها سلاماً لمات إبراهيم من بردها ، فلم تبق يومئذ نار في الأرض إلاّ طفئت ظنت أنّها هي تُعنى .
(6/281)
" صفحة رقم 282 "
قال السدّي : فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم فأقعدوه على الأرض ، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس .
قال كعب : ما أحرقت النار من إبراهيم إلاّ وثاقه ، قالوا : وكان إبراهيم في ذلك الموضع سبعة أيام .
قال المنهال بن عمر : قال إبراهيم خليل الله : ما كنت أيّاماً قطّ أنعم منّي من الأيّام التي كنت فيها في النار .
قال ابن يسار : وبعث الله جلّ اسمه ملك الظلّ في صورة إبراهيم فقعد فيها إلى جنب إبراهيم وهو يؤنسه ، قالوا : وبعث الله بقميص من حرير الجنّة وأتاه جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا إبراهيم إنّ ربّك يقول : أما علمت أنّ النار لا تضرّ أحبّائي ، ثمَّ نظر نمرود من صرح له وأشرف على إبراهيم وما شكّ في موته ، فرأى إبراهيم جالساً في روضة ورأى الملك قاعداً إلى جنبه وما حوله نار تحرق ما جمعوا له من الحطب فناداه نمرود : يا إبراهيم ، كبير إلهك الذي بلغت قدرته أن حال بينك وبين ما أرى لم يضرّك ، يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها ؟
قال : نعم ، قال : هل تخشى إن أقمت فيها أن تضرّك ؟ قال : لا ، قال : فقم فاخرج منها ، فقام إبراهيم يمشي فيها حتى خرج منها ، فلمّا خرج إليه قال له : يا إبراهيم ، مَن الرجل الذي رأيت معك مثل صورتك قاعداً إلى جنبك ؟ قال : ذلك ملك الظلّ أرسله إليَّ ربّي ليؤنسني فيها ، فقال نمرود : يا إبراهيم إنّي مقرّب إلى إلهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزّته فيما صنع بك حين أبيت إلاّ عبادته وتوحيده ، إنّي ذابح له أربعة آلاف بقرة ، فقال له إبراهيم : إذاً لا يقبل الله منك ما كنت على دينك هذا حتى تفارقه إلى ديني ، فقال : يا إبراهيم لا أستطيع ترك ملكي ولكن سوف أذبحها له ، فذبحها له نمرود ، ثمَّ كف عن إبراهيم ومنعه الله سبحانه منه .
قال أبو هريرة : إنَّ أحسن شيء قاله إبراهيم لمّا رفع عنه الطبق وهو في النار يرشح جبينه فقال نمرود عند ذلك : نعم الرب ربك يا إبراهيم
قال كعب وقتادة والزهري : ما انتفع أحد من أهل الأرض يومئد بنار ولا أحرقت النار شيئاً يومئذ إلاّ وثاق إبراهيم ولم تأت يومئذ دابّة إلاّ أطفأت عنه النار إلاّ الوزغ ، فلذلك أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقتله وسمّاه فويسقاً .
قال شعيب الجبائي : أُلقي إبراهيم ( عليه السلام ) في النار وهو ابن ست عشرة سنة ، وذبح إسحاق وهو ابن سبع سنين ، وولدته سارة وهي بنت تسعين سنة ، وكان مذبحه من بيت ايليا على ميلين ، ولمّا علمت سارة بما أراد باسحاق بطنت يومئذ وماتت اليوم الثالث .
الأنبياء : ( 70 - 71 ) وأرادوا به كيدا . . . . .
قال الله سبحانه ) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمْ الاْخْسَرِينَ وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً ( من نمرود وقومه من أرض العراق ) إِلَى الاْرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ( يعني الشام .
(6/282)
" صفحة رقم 283 "
قال أُبىّ بن كعب سمّاها مباركة لأنّه ما من ماء عذب إلاّ وينبع أصله من تحت الصخرة التي ببيت المقدس .
وقال قتادة : كان يقال : الشام أعقاب دار الهجرة ، وما نقص من الأرض زيد في الشام ، وما نقص عن الشام زيد في فلسطين ، وكان يقال : هي أرض المحشر والمنشر ، وبها مجمع الناس ، وبها ينزل عيسى ابن مريم ، وبها يهلك الله الدجّال .
وحدّث أبو قلابة أنَّ رسول الله ( عليه السلام ) قال : رأيت فيما يرى النائم كأنّ الملائكة حملت عمود الكتاب فوضعته بالشام ، فأوّلته أنّ الفتن إذا وقعت فإنّ الإيمان بالشام .
وذكر لنا أنّ عمر بن الخطّاب ( ح ) قال لكعب : ألا تتحوّل إلى المدينة فإنّها مهاجر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وموضع قبره ؟ فقال له كعب : يا أمير المؤمنين إنّي أجد في كتاب الله المنزل أنّ الشام كنز الله من أرضه وبها كنزه من عباده .
قال محمد بن إسحاق بن يسار : استجاب لإبراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع اللّه سبحانه به من جعل النار عليه برداً وسلاماً على خوف من نمرود وملئِهم ، فآمن له لوط وكان ابن أخيه ، وهو لوط بن هاران بن تارخ ، وهاران هو أخ إبراهيم ، وكان لهما أخ ثالث يقال له باحورين تارخ ، فهاران أبو لوط وناحورا أبو تبويل وتبويل أبو لأن ، ورتقا بنت تبويل امرأة إسحاق بن إبراهيم أم يعقوب وليا وزاجيل روحيا يعقوب ابنتا لايان ، وآمنت به أيضاً سارة وهي بنت عمّه ، وهي سارة بنت هاران الأكبر عمّ إبراهيم عليه السلام .
وقال السدّي : كانت سارة بنت ملك حرّان وذلك أنّ إبراهيم ولوطاً انطلقا قِبَل الشام فلقي إبراهيم سارة وهي ابنة ملك حرّان وقد طعنت على قومها في دينهم ، فتزّوجها إبراهيم على أن يغيّرها .
قال ابن إسحاق : خرج إبراهيم من كوثى من أرض العراق مهاجراً إلى ربّه ، وخرج معه لوط وسارة كما قال الله سبحانه ) فآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إنّي مُهاجِرٌ إلى رَبّي ( فخرج يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة الله حتى نزل حرّان فمكث بها ما شاء الله أن يمكث ، ثمّ خرج منها مهاجراً حتّى قدم مصر ، ثمَّ خرج من مصر إلى الشام ونزل السبع من أرض فلسطين وهي بُرية الشام ، ونزل لوط بالمؤتفكة وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة وأقرب من ذلك ، فبعثه الله سبحانه نبيّاً فذلك قوله ) وَنَجّيناه ولوُطاً إلى الأرضِ الّتي بَارَكْنا فِيها للعالَميِنَ ( يعني الشام ، وبركتها أنّ منها بعث أكثر الأنبياء وهي أرض خصبة كثيرة الأشجار والأنهار والثمار يطيب فيها عيش الفقير والغنىّ .
وروى العوفي عن ابن عباس في قوله ) إلى الأرْض الّتي بَارَكْنا فِيها للعالَمِينَ ( قال : يعني
(6/283)
" صفحة رقم 284 "
مكّة ونزول إسماعيل ، ألا ترى أنّه يقول ) إنَّ أوَّلَ بَيْتِ وَضعَ للناسِ للّذِي بِبَكّةَ مُبارَكاً وهّدَىً للعالميِن ( والقول الأول أصوب .
الأنبياء : ( 72 ) ووهبنا له إسحاق . . . . .
) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ( أي عطاء عن مجاهد ، الحسن والضحّاك : فضلاً ، قال ابن عباس وأُبي بن كعب وابن زيد وقتادة : سأل واحداً فقال : ربّ هب لي من الصالحين فأعطاه الله إسحاق ولداً ، وزاده يعقوب ولد الولد فهو النافلة . قال مجاهد وعطاء : معنى النافلة العطية وهما جميعاً من عطاء الله سبحانه أعطاهما إيّاه .
) وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ ( يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب ( عليهم السلام ) .
( ) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلواة وَإِيتَآءَ الزَّكَواةِ وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ وَأَدْخَلْنَاهُ فِى رَحْمَتِنَآ إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ ءَاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِى بِأَمْرِهِ إِلَى الاَْرْضِ الَّتِى بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَىْءٍ عَالِمِينَ وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذالِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ( 2
الأنبياء : ( 73 ) وجعلناهم أئمة يهدون . . . . .
) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً ( يُقتدى بهم في الخير ) يَهْدُونَ ( يدعون الناس إلى ديننا .
) بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ ( وإقامة ) الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (
الأنبياء : ( 74 ) ولوطا آتيناه حكما . . . . .
) وَلُوطاً ( أي وآتينا لوطاً ، وقيل واذكر لوطاً ) آتَيْنَاهُ حُكْماً ( أي الفصل بين الخصوم بالحقّ ) وَعِلْماً وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ ( يعني سدّ وما كان أهلها يأتون الذكران في أدبارهم ويتضارطون في أنديتهم مع أشياء أُخر كانوا يعملونها من المنكرات .
) إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْء فَاسِقِينَ (
الأنبياء : ( 75 - 76 ) وأدخلناه في رحمتنا . . . . .
) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ وَنُوحاً إِذْ نَادَى ( دعا ) مِنْ قَبْلُ ( أي من قبل إبراهيم ولوط ) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ( أتباعه ) مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ( الطوفان ، والكرب أشد الغم .
الأنبياء : ( 77 ) ونصرناه من القوم . . . . .
) وَنَصَرْنَاهُ ( منعناه ) مِنْ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ( أن يصلوا إليه بسوء ، وقال أبو عبيد : أي على القوم
(6/284)
" صفحة رقم 285 "
) إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْء فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ }
الأنبياء : ( 78 ) وداود وسليمان إذ . . . . .
) وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ ( قال مرّة وقتادة : كان الحرث زرعاً ، وقال ابن مسعود وشريح : كان كرماً قد نبتت عناقيد ) إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ( أي رعته ليلاً فأفسدته ، والنفش بالليل ، والهمل بالنهار ، وهما الرعي بلا راع ) وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ ( لا يخفى علينا منه شيء ، ولا يغيب عنّا علمه .
الأنبياء : ( 79 ) ففهمناها سليمان وكلا . . . . .
) فَفَهَّمْنَاهَا ( أي علّمناها وألهمناها يعني القضيّة ) سُلَيْمَانَ ( دون داود .
) وَكُلاً ( يعني داود وسليمان ) آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً ( .
قال ابن عباس وقتادة والزهري ومرّة : وذلك أنّ رجلين دخلا على داود أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم ، فقال صاحب الزرع : هذا انفلتت غنمه ليلاً فوقعت في حرثي ، فلم تبق منه شيئاً ، فقال له داود : اذهب فإنّ الغنم لك ، فأعطاه رقاب الغنم بالحرث ، فخرجا فمرّا على سليمان فقال : كيف قضى بينكما ، فأخبراه فقال سليمان : لو ولّيت أمرهم لقضيت بغيره ، فأخبر بذلك داود فدعاه فقال : كيف تقضي بينهما ؟ قال : ادفع الغنم إلى صاحب الحرث فيكون له نسلها ورسلها وحرثها وعوارضها ومنافعها ويبذر أصحاب الغنم لأهل الحرث مثل حرثهم ، فإذا كان العام المقبل وصار الحرث كهيئته يوم أُكل دفع إلى أهله وأُخذ صاحب الغنم غنمه .
وقال ابن مسعود وشريح ومقاتل : إنّ راعياً نزل ذات ليلة بجنب كرم ، فدخلت الأغنام الكرم وهو لا يشعر فأكلت القضبان وأفسدت الكرم ، فصار صاحب الكرم من الغد إلى داود ، فقضى بالأغنام لصاحب الكرم لأنه لم يكن بين ثمن الكرم وثمن الأغنام تفاوت ، فمرّوا بسليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة فقال : ما قضى الملك في أمركم ؟ فقصّوا عليه القصّة فقال سليمان : غير هذا أرفق بالفريقين ، فعادوا إلى داود فأخبروه بذلك فدعا سليمان وقال له : بحقّ النبوّة والأُبوّة إلاّ أخبرتني بالذي هو أرفق بالفريقين ، فقال سليمان : تسلّم الأغنام إلى صاحب الكرم حتى يرتفق برسلها ونسلها وصوفها ومنافعها ، ويعمل الراعي في إصلاح الكرم إلى أن يعود كهيئته ، ثم يرد الاغنام إلى صاحبها فقال : القضاء ما قضيت . وحكم بذلك .
قال الحسن : كان الحكم بما قضى به سليمان ، ولم يعنف الله داود في حكمه وهذا يدلّ على أنّ كلّ مجتهد مصيب .
وروى الزهري عن حرام بن محيصة قال : دخلت ناقة للبراء بن عازب حائطاً لبعض الأنصار فأفسدته ، فرفع ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقرأ هذه الآية ، ثم قضى على البراء بما أفسدت الناقة وقال : ( على أصحاب الماشية حفظ الماشية بالليل ، وعلى أصحاب الحوائط حفظ حيطانهم وزروعهم بالنهار )
(6/285)
" صفحة رقم 286 "
) وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ( أي وسخّرنا الجبال والطّير يسبّحن مع داود إذا سبّح .
قال وهب : كان داود يمرّ بالجبال مسبّحاً وهي تجاوبه وكذلك الطير .
قتادة : ( يسبّحن ) أي يصلّين معه إذا صلّى .
) وَكُنَّا فَاعِلِينَ ( ذلك
الأنبياء : ( 80 ) وعلمناه صنعة لبوس . . . . .
) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوس لَكُمْ ( اللبوس عند العرب : السلاح كلّه درعاً كان أو جوشناً أو سيفاً أو رمحاً ، يدلّ عليه قول الهذلي يصف رُمحاً :
ومعي لبوس للبئيس كأنّه
روق بجبهة ذي نعاج مُجفل
يريد باللبوس الرمح ، وإنّما عنى الله سبحانه في هذا الموضع الدرع وهو بمعنى الملبوس كالحلوب والركوب .
قال قتادة : أول من صنع الدروع داود ( عليه السلام ) وإنّما كانت صفائح ، فهو أوّل من سردها وحلقها .
) لِتُحْصِنَكُمْ ( لتحرزكم وتمنعكم ) مِنْ بَأْسِكُمْ ( حربكم ، واختلف القرّاء فيه ، فقرأ شيبة وعاصم برواية أبي بكر ، ويعقوب برواية رويس ، لنحصنكم بالنون ، لقوله ( وعلّمناه ) وقرأ أبو جعفر وابن عامر وحفص وروح ، بالتاء يعني الصنعة .
الأنبياء : ( 81 ) ولسليمان الريح عاصفة . . . . .
) وَلِسُلَيْمَانَ ( أي وسخّرنا لسليمان ) الرِّيحَ ( وهو هواء محرّك وهو جسم لطيف يمتنع بلطفه من القبض عليه ويظهر الحسن بحركته ، والريح تذكّر وتؤنّث .
) عَاصِفَةً ( شديدة الهبوب ) تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الاْرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ( يعني الشام وذلك أنّها كانت تجري لسليمان وأصحابه إلى حيث شاء سليمان ثم تعود به إلى منزله بالشام .
قال وهب بن منبه : كان سليمان إذا خرج إلى مجلسه عكفت عليه الطير وقام له الإنس والجنّ حتى يجلس على سريره وكان إمرأً غزاً قلّ ما يقعد عن الغزو ، ولا يسمع في ناحية من الأرض بملك إلاّ أتاه حتى يذلّه ، وكان فيما يزعمون إذا أراد الغزو أمر بمعسكره فضرب له بخشب ، ثم نصب له على الخشب ، ثم حمل عليه الناس والدوابّ وآلة الحرب كلّها حتى إذا حمل معه ما يريد أمر العاصف من الريح فدخلت تحت ذلك الخشب ، فاحتملته حتى إذا استقلت أمر الرخاء فمدّته شهراً في روحته وشهراً في غدوته إلى حيث أراد .
قال : فذكر لي منزل بناحية دجلة مكتوب فيه كتاب كتبه بعض صحابة سليمان إمّا من الجن
(6/286)
" صفحة رقم 287 "
وإمّا من الإنس : نحن نزلناه وما بنينا ومبنيّاً وجدناه ، غزونا من اصطخر فقلناه ، ونحن رائحون منه إن شاء الله فآتون الشام .
قال الله سبحانه ) وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْء عَالِمِينَ (
الأنبياء : ( 82 ) ومن الشياطين من . . . . .
) وَمِنْ الشَّيَاطِينِ ( يعني وسخّرنا لسليمان أيضاً من الشياطين ) مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ ( أي يدخلون تحت الماء فيخرجون له الجواهر من البحر ) وَيَعْمَلُونَ عَمَلا دُونَ ذَلِكَ ( يعني دون الغوص ) وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ ( حتى لا يخرجوا من أمره .
2 ( ) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَءَاتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِى رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ الصَّالِحِينَ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَاهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذالِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ وَزَكَرِيَّآ إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِى فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ وَالَّتِىأَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ ءَايَةً لِّلْعَالَمِينَ إِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ( 2
الأنبياء : ( 83 ) وأيوب إذ نادى . . . . .
) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ ( الآية .
قال وهب بن منبّه : كان أيّوب رجلاً من الروم ، وهو أيّوب بن أموص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم ، وكانت أُمّه من ولد لوط بن هاران ، وكان الله تعالى قد اصطفاه ونبّأه وبسط عليه الدنيا ، وكانت له البثينة من أرض الشام كلّها سهلها وجبلها بما فيها ، وكان له من أصناف المال كلّه من الابل والبقر والخيل والحمير ما لا يكون لرجل أفضل منه في العُدّة والكثرة ، وكان له بها خمسمائة فدّان يتبعها خمسمائة عبد ، لكلّ عبد امرأة وولد ومال ، ويحمل له كلّ فدان أتان ، لكلّ أتان ولد من اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة وفوق ذلك ، وكان الله سبحانه أعطاه أهلاً وولداً من رجال ونساء ، وكان برّاً تقيّاً رحيماً بالمساكين ، يكفل الأرامل والأيتام ويكرم الضيف ويبلغ ابن السبيل ، وكان شاكراً لأنعم الله سبحانه ، مؤدياً لحقّ الله تعالى ، قد امتنع من عدوّ الله إبليس أن يصيب منه ما يصيب من أهل الغنى من العزّة والغفلة والسهو والتشاغل عن أمر الله بما هو فيه من الدنيا ، وكان معه ثلاثة قد آمنوا به وصدّقوه وعرفوا فضله : رجل من أهل اليمن يقال له اليفن ، ورجلان من أهل بلاده يقال لأحدهما بلدد وللآخر صافر ، وكانوا كهولاً
(6/287)
" صفحة رقم 288 "
قال وهب : إنّ لجبرئيل ( عليه السلام ) بين يدي الله سبحانه مقاماً ليس لأحد من الملائكة في القربة والفضيلة ، وإنّ جبرئيل هو الذي يتلقّى الكلام ، فإذا ذكر الله عبداً بخير تلقّاه جبرئيل ثم لقّاه ميكائيل وحوله الملائكة المقرّبون حافّين من حول العرش ، فإذا شاع ذلك في الملائكة المقرّبين صارت الصلاة على ذلك العبد من أهل السموات ، فإذا صلّت عليه ملائكة السموات هبطت عليه بالصلاة إلى ملائكة الأرض ، وكان إبليس لعنه الله لا يحجب عن شيء من السموات ، وكان يقف فيهنّ حيث ما أراد ، ومن هنالك وصل إلى آدم حين أخرجه من الجنّة ، فلم يزل على ذلك يصعد في السموات حتى رفع الله سبحانه عيسى ابن مريم فحجب من أربع ، وكان يصعد في ثلاث ، فلمّا بعث الله تعالى محمداً ( عليه السلام ) حجب من الثلاث الباقية ، فهو وجنوده محجوبون من جميع السموات إلى يوم القيامة ) إلاّ مَنِ اسْتَرَق السَّمْعَ فَاَتْبَعَهُ شِهابٌ مبين ( .
قال : فسمع إبليس تجاوب الملائكة بالصلاة على أيوب وذلك حين ذكره الله سبحانه وأثنى عليه ، فأدركه البغي والحسد وصعد سريعاً حتى وقف من السماء موقفاً كان يقفه فقال : يا إلهي نظرت في أمر عبدك أيوّب فوجدته أنعمت عليه فشكرك ، وعافيته فحمدك ، ثمّ لم تجرّبه بشدّة ولا بلاء وأنا لك زعيم ، لئن ضربته بالبلاء ليكفرنّ بك ولينسينّك ، فقال الله سبحانه وتعالى له : انطلق فقد سلّطتك على ماله ، فانقض عدوّ الله حتى وقع إلى الأرض ثم جمع عفاريت الشياطين وعظماءهم وقال لهم : ماذا عندكم من القوّة والمعرفة ؟ فإنّي قد سُلّطتُ على مال أيوب ، وهي المصيبة الفادحة والفتنة التي لا يصبر عليها الرجال .
قال عفريت من الشياطين : أُعطيتُ من القوّة ما إذا شئت تحوّلت إعصاراً من النار وأحرقت كلّ شيء آتي عليه ، قال له إبليس : فاتِ الإبل ورِعاها فانطلق يؤم الإبل وذلك حين وضعت رؤوسها ويثبت في مراعيها ، فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار ينفخ منها أرواح السّموم ، لا يدنو منها أحد إلاّ احترق ، فلم يزل يحرقها ورعاها حتى أتى على آخرها ، فلمّا فرغ منها تمثّل إبليس على قعود منها يراعها ثم انطلق يؤم أيوّب حتّى وجده قائماً يصلّي فقال : يا أيّوب ، قال : لبيّك ، قال : هل تدري ما الذي صنع ربك الذي اخترته وعبدته بإبلك ورعائها ؟ قال أيوب : انّها ماله أعارنيه وهو أولى به إذا شاء نزعه ، وقديماً وطّنت مالي ونفسي على الفناء .
قال إبليس : فإنّ ربّك أرسل عليها ناراً من السّماء فاحترقت ورعاؤها كلّها ، فتركت الناس
(6/288)
" صفحة رقم 289 "
مبهوتين وقفاً عليها يتعجّبون منها ، منهم من يقول : ما كان أيّوب يعبد شيئاً وما كان إلاّ في غرور ، ومنهم من قال : لو كان إله أيّوب يقدر على أن يصنع شيئاً لمنع وليّه ، ومنهم من يقول : بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت به عدوّه ويفجع به صديقه .
قال أيوب : الحمد لله حين أعطاني وحين نزع منّي ، عرياناً خرجت من بطن أُمّي ، وعرياناً أعود في التراب ، وعرياناً أُحشر إلى الله سبحانه ، ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعارك وتجزع حين قبض عاريته ، الله أولى بك وبما أعطاك ، ولو علم الله فيك أيّها العبد خيراً لتقبّل روحك مع تلك الأرواح فآجر لي فيك وصرت شهيداً ، ولكنه علم منك شراً فاخّرك ، وخلصك من البلاء كما يخلص الزوّان من القمح الخالص .
فرجع إبليس لعنه الله إلى أصحابه خاسئاً ذليلاً فقال : ماذا عندكم من القوّة فإني لم أكلّم قلبه ، قال عفريت من عظمائهم : عندي من القوة اما إذا شئت صحت صوتاً لا يسمعه ذو روح إلاّ خرجت مهجة نفسه ، قال له ابليس : فأتِ الغنم ورعاها فانطلق يأتي الغنم ورعاها حتى إذا توسطها صاح صوتاً جثمت أمواتاً من عند آخرها ، ومات رعاؤها ، ثم خرج إبليس متمثّلاً بقهرمان الرعاء حتى إذا جاء أيوب وهو قائم يصلّي ، فقال له القول الأول وردّ عليه أيّوب الردّ الأول .
ثمّ إن إبليس رجع إلى أصحابه فقال لهم : ماذا عندكم من القوّة فإنّي لم أُكلّم قلب أيوّب ، فقال عفريت من عظمائهم : عندي من القوّة ما إذا شئت تحوّلت ريحاً عاصفاً تنسف كلّ شيء تأتي عليه حتى لا أُبقي شيئاً ، قال له إبليس : فأت الفدادين والحرث ، فانطلق يؤمهم وذلك حين قرنوا الفدادين وأنسؤوا في الحرث ، وأولادها رتوع ، فلم يشعروا حتى هبّت ريح عاصف فنسفت كلّ شيء من ذلك حتّى كأنّه لم يكن ، ثم خرج إبليس متمّثلاً بقهرمان الحرث حتى جاء أيّوب وهو قائم يصلّي فقال له مثل قوله الأوّل وردّ عليه أيوّب مثل ردّه الأوّل ، فجعل إبليس يصيب ماله مالاً مالاً حتى مرَّ على آخره ، كلّما انتهى إليه هلاك مال من أمواله حمد الله وأحسن عليه الثناء ورضي بالقضاء ووطّن نفسه للصبر على البلاء حتى لم يبق له مال .
فلمّا رأى إبليس أنّه قد أفنى ماله ولم ينجح منه بشيء صعد سريعاً حتى وقف الموقف الذي كان يقفه فقال : إلهي إنّ أيّوب يرى أنّك ما متّعته بنفسه وولده فأنت معطيه المال ، فهل أنت مسلطي على ولده فإنّها الفتنة المضلّة والمصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال ولا يقوى عليها صبرهم .
(6/289)
" صفحة رقم 290 "
قال الله سبحانه : انطلق فقد سلّطتك على ولده ، فانقضّ عدوّ الله حتى جاء بني أيّوب وهم في قصرهم فلم يزل يزلزل بهم حتى تداعى من قواعده ، ثم جعل يناطح جدره بعضها ببعض ويرميهم بالخشب والجندل حتى إذا مثّل بهم كلّ مثلة رفع بهم القصر وقلبه فصاروا منكّسين ، وانطلق إلى أيّوب متمثّلاً بالمعلّم الذي كان يعلمهم الحكمة وهو جريح مشدوخ الوجه يسيل دمه ودماغه ، فأخبره بذلك وقال : يا أيوب لو رأيت بنيك كيف عذّبوا وكيف قلبوا فكانوا منكّسين على رؤوسهم ، تسيل دماؤهم ودماغهم من أُنوفهم وأشفارهم وأجوافهم ، ولو رأيت كيف شقت بطونهم فتناثرت أمعاؤهم لقطع قلبك ، فلم يزل يقول هذا ونحوه ويرقّقه حتى رقّ أيوب فبكى وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه ، فاغتنم إبليس ذلك فصعد سريعاً بالذي كان من جزع أيّوب مسروراً به ، ثمّ لم يلبث أيوب أن فاء وأبصر ، فاستغفر وصعد قرناؤه من الملائكة بتوبته ، فبدروا إبليس إلى الله سبحانه وهو أعلم ، فوقف إبليس خازياً ذليلاً فقال : يا إلهي إنّما هوّن على أيّوب خطر المال والولد إنه يرى أنك ما متعته بنفسه فأنت تعيد له المال والولد ، فهل أنت مسلطي على جسده ، فأنى لك زَعم لئن ابتليته في جسدِهِ ليُنَسِينّك وليكفِرنّ بك ولجحدنّك نعمتك .
فقال الله سبحانه : انطلق فقد سلّطتُك على جسده ، ولكن ليس لك سلطان على لسانه ولا على قلبه ولا على عقله ، وكان الله تعالى هو أعلم به ، لم سلطه عليه إلاّ رحمة ليعظم له الثواب ويجعله عبرة للصابرين وذكرى للعابدين في كلّ بلاء نزل بهم ليتأسّوا به في الصبر ورّجاء الثواب .
وانقض عدو الله إبليس سريعاً فوجد أيوب ساجداً فعجّل قبل أن يرفع رأسه فأتاه من قِبل الأرض في موضع وجهه فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده فذهل وخرج به من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم وقعت فيه حكّة لا يملكها ، فحكّ بأظفاره حتى سقطت كلها ، ثم حكها بالمسوح الخشنة حتى قطعها ، ثم حكها بالفخّار والحجارة الخشنة فلم يزل حكها حتى نفل لحمه وتقطع وتغير وانتن .
فأخرجه أهل القرية فجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشاً ورفضه خلق الله كلهم غير امرأته ، وهي رحمة بنت إفرائيم بن يوسف بن يعقوب ، وكانت تختلف إليه بما يصلحه ويلزمه ، فلما رأى الثلاثة من أصحابه وهم : أليفر ويلدد وصافر ما إبتلاه الله سبحانه ورفضوه من غير أن يتركوا دينه ، فلما طال به البلاء انطلقوا إليه وهو في بلائه فبكتوه ولاموه وقالوا له : تب إلى الله سبحانه من الذنب الذي عوقبت به ، قال : وحضر معهم فتى حديث السِن وكان قد آمن به وصدّقه فقال لهم : إنكم تكلمتم أيها الكهول وكنتم أحق بالكلام لأسنانكم ، ولكن قد تركتم من القول
(6/290)
" صفحة رقم 291 "
أحسن من الذي قلتم ومن الرأي أصوب من الذي رأيتم ، ومن الأمر أجمل من الذي أتيتم ، وقد كان لا يؤت عليكم من الحق والذمام أفضل من الذي وصفتم ، فهل تدرون أيها الكهول حق من انتقصتم وحرمة من انتهكتم ، ومن الرجل الذي عِبتم واتهمتم ؟ ألم تعلموا أن أيوب نبي الله وخيرته وصفوته من أهل الأرض يومكم هذا ، ثم لم تعلموا أو لم يطلعكم الله على أنه قد سخط شيئاً من أمره منذ أتاه ما أتاه إلى يومكم هذا ، ولا على أنه نزع منه شيئاً من الكرامة التي اكرمه بها ، ولا أن أيوب غير الحق في طول ما صحبتموه إلى يومكم هذا ، وإن كان البلاء هو الذي أزري به عندكم ووضعه في أنفسكم ، فقد علمتم أان الله سبحنه يبتلي النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، ثم ليس بلاؤه لأولئك بدليل على سخطه عليهم ، ولا هوانه لهم ، ولكنها كرامة وخيرة لهم ، ولو كان أيوب ليس من الله تعالى بهذه المنزلة إلاّ أنه أخٌ اجتبيتموه على وجه الصحبة لكان لا يجمل بالحليم أن يعذل أخاه عند البلاء ولا يعيّره بالمصيبة ولا يعيبه بما لا يعلم ، وهو مكروب جرين ، ولكنه يرحمه ويبكي معه ويستغفر له ويحزن بحزنه ويدله على مراشد أمره ، وليس بحكيم ولا رشيد من جهل هذا ، فالله الله أيها الكهول وقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يقطع ألسنتكم ويكسر قلوبكم .
ألم تعلموا أن لله عباداً أسكتتهم خشية من غير عيّ ولا بُكْم ، وأنهم لهم الفصحاء البلغاء النبلاء الأولياء العالمون بالله وبأيامه ، ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انقطعت ألسنتهم واقشعرّت جلودهم ، وانكسرت قلوبهم ، وطاشت عقولهم إعظاماً لله وإعزازاً وإجلالاً ، فإذا استفاقوا من ذلك اسْتَبَقُوا إلى الله بالأعمال الزاكية ، يعدون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين ، وإنهم لأَنْزَاه برآء ، ويعدون أنفسهم مع المقصرين المفرطين ، وإنهم لأكياس أقوياء ، ولكنهم لا يستكثرون لله الكثير ولا يرضون لله بالقليل ، ولا يدلون عليه بالأعمال فهم مروّعون مفزَّعون خاشعون مستكينون .
فقال أيوب : إن الله سبحانه يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير فمتى ثبتت في القلب يظهرها الله على اللسان ، وليست تكون الحكمة من قبل السنّ والشيبة ولا طول التجرية ، ولئن جعل الله تعالى العبد حكيماً في الصبا لم يسقط منزلته عند الحكماء وهم يرون من الله سبحانه عليه نور الكرامة .
ثم أقبل أيوب على الثلاثة فقال : أتيتموني غضاباً رهبتم قبل أن تسترهبوا ، وبكيتم من قبل أن تضربوا ، كيف بي لو قلتُ لكم تصدّقوا عنّي بأموالكم لعلّ الله أن يخلّصني ، أو قرّبوا عنّي قرباناً لعلّ الله يتقبّله ويرضى عني ، وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم وظننتم أنكم عوقبتم بإحسانكم فهنالك بغيتم وتعزّزتم ولو نظرتم فيما بينكم وبين ربّكم ثمّ صدقتم لوجدتم لكم عيوباً سترها الله بالعافية التي ألبسكم ، وقد كنت فيما خلا والرجال يوقّرونني وأنا مسموع كلامي ، معروف حقّي ، منصف من خصمي ، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم ، فإنّكم كنتم علىَّ أشدّ من مصيبتي .
ثمّ أعرض عنهم وأقبل على ربّه مستعيناً به متضرعاً إليه فقال : ربّ لأىّ شيء خلقتني ؟
(6/291)
" صفحة رقم 292 "
ليتني إذ كرهتني لم تخلقني ، يا ليتني كنت حيضة ألقتني أُمّي ، أو يا ليتني عرفت الذّنب الذي أذنبتُ والعمل الذي عملتُ فصرفت وجهك الكريم عنّي ، لو كنت أمتّني فألحقتني بآبائي فالموت كان أجمل لي ، ألم أكن للغريب داراً وللمسكين قراراً ولليتيم وليّاً وللأرملة قيّماً ؟
الهي أنا عبد ذليل ، إن أحسنتُ فالمنّ لك ، وإن أسأت فبيدك عقوبتي ، جعلتني للبلاء غرضاً وللفتنة نصباً ، وقد وقع عليَّ بلاء لو سلّطته على جبل ضَعُف عن حمله ، فكيف يحمله ضعفي ، إلهي تقطّعت أصابعي فإنّي لأرفع الأكلة من الطعام بيديَّ جميعاً فما تبلغان فمي إلاّ على الجهد منّي ، تساقطت لهواتي ولحم رأسي ، فما بين أُذنيَّ من سداد حتى أنّ إحداهما تُرى من الأُخرى ، وإنّ دماغي يسيل من فمي .
تساقط شعر عيني فكأنما حُرّق بالنار وجهي ، وحدقتاي هما متدلّيتان على خدّي ، ورم لساني حتى ملأ فمي ، فما أدخل منه طعاماً إلاّ غصّني ، ورمتْ شفتاي حتّى غطّت العليا أنفي والسفلى ذقني ، تقطّعت أمعائي في بطني فإنّي لأُدخله الطعام فيخرج كما دخل ما أُحسّه ولا ينفعني ، ذهبت قوّة رجليَّ فكأنهما قربتا ماء أُطيق حملهما ، ذهب المال فصرت أسأل بكفّي فيطعمني من كنت أعوله اللقمة الواحدة ، فيمنّها عليّ ويعيّرني ، هلك أولادي ولو بقي أحد منهم أعانني على بلائي ونفعني ، قد ملّني أهلي وعقّني أرحامي وتنكّرت معارفي ورغب عنّي صديقي وقطعني أصحابي وجُحدتْ حقوقي ونُسيتْ صنايعي ، أصرخ فلا يصرخونني وأعتذر فلا يعذرونني ، ودعوت غلامي فلم يجبني وتضرّعت لأمتي فلم ترحمني وأنحل جسمي ولو أنّ ربىّ نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتّى أتكلّم بملء فمي ، ثمّ كان ينبغي للعبد أن يحاجّ عن نفسه ، لرجوت أن يعافيني عند ذلك ممّا بي ولكنّه ألقاني وتعالى عنّي فهو يراني ولا أراه ، ويسمعني ولا أسمعه ، لا نظر إلىّ فرحمني ولا دنا منّي ولا أدناني ، فأتكلم ببراءتي وأُخاصم عن نفسي .
فلمّا قال ذلك أيّوب وأصحابه أظلّه غمام حتّى ظنّ أصحابه أنّه عذاب ، ثمّ نودي منه : يا أيّوب إنّ الله يقول : ها أنا دنوت منك ولم أزل منك قريباً ، فقم فأدل بعذرك وتكلم ببراءتك وخاصم عن نفسك واشدد إزارك وقم مقام جبّار فإنّي لا ينبغي لي أن يخاصمني إلاّ جبّار مثلي ولا ينبغي أن يخاصمني إلاّ من يجعل الزمّار ، في فم الأسد والسّخال في فم العنقاء واللجام في فم التنينّ ، ويكتال مكيالاً من النّور ويزن مثقالاً من الرّيح ويصرّ صرّةً من الشّمس ويردّ أمس ، لقد منّتك نفسك أمراً ما يبلغ بمثل قوتّك ولو كنت إذ منّتك ذلك ودعتك إليه ، تذكّرت أىّ مرام رامت بك .
(6/292)
" صفحة رقم 293 "
أردت أن تخاصمني بفيك أم أن تحاجّني بخطابك أم أردت ان تكابرني بضعفك ؟ أين أنت منّي يوم خلقت الأرض فوضعتها على أساسها ؟ هل علمت بأي مقدار قدّرتها أم كنت معي تمد بأطرافها ، أم تعلم ما بعد زواياها أم على أىّ شيء وضعت أكنافها ؟ أبطاعتك حمل الماء الأرض ، أم بحكمتك كانت الأرض للماء غطاءً ؟ أين كنت منّي يوم رفعت السّماء سقفاً في الهواء لا بعلائق سُيّبت ولا يحملها دعم من تحتها ؟ هل يبلغ من حكمتك أن تجري نورها أو تسيّر نجومها أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها ؟
أين أنت منّي يوم سخّرت البحار ونبعت الأنهار ؟ أقدرتك حبست أمواج البحار على حدودها أم قدرتك فتحت الأرحام حين بلغت مدّتها ؟ أين أنت منّي يوم صببت الماء على التراب ونصبت شوامخ الجبال ؟ هل لك من ذراع يطيق حملها أم هل تدري كم من مثقال فيها ، أم أين الماء الذي أنزلت من السماء ؟ هل تدري أُمٌّ تلده أو أبٌ يولدهُ ؟ أحكمتك أحصت القطر وقَسمت الأرزاق ، أم قدرتك تثير السحاب وتغشيه الماء ؟ هل تدري ما أصوات الرعود أم من أىّ شيء لهب البرق ؟ وهل رأيت عمق البحر ، أم هل تدري ما بعد الهواء ، أم هل خزنت أرواح الأموات ، أم هل تدري أين خزانة الثلج ، أو أين خزائن البرد ، أم أين جبال البرد ، أم هل تدري أين خزانة الليل بالنهار ، وأين خزانة النهار بالليل ، وأين طريق النور ، وبأىّ لغة تتكلّم الأشجار ، وأين خزانة الريح ؟ وكيف تحبسه الأغلاق ؟
ومن جعل العقول في الرّجال ؟ ومن شق الأسماع ؟ ومن ذلّت الملائكة لملكه وقهر الجبارين بجبروته وقسم أرزاق الدوابّ بحكمته ؟ من قسّم للأُسد رزقها وعرّف الطير معاشها وعطفها على أفراخها ؟ من أعتق الوحش من الخدمة وجعل مساكنها البريّة ، لا تستأنس بالأصوات ولا تهاب المسلّطين ، أم حكمتك عطفت أمهاتها عليها حتى أخرجت لها الطعام من بطونها وآثرتها بالعيش على نفوسها ، أم من حكمتك تُبصّر العقاب الصيد البصر البعيد وأصبح في أماكن القتلى ؟
أين أنت منّي يوم خلقت يهموت مكانه في مقطع التراب والوثبان يحملان الجبال والقرى والعمران ، آذانهما كأنها شجر الصنوبر الطوال ، ورؤسهما كأنها كوم الجبال ، وعروق أفخاذها كأنها عمد النحاس ، أنت ملأت جلودهما لحماً أم أنت ملأت رؤسهما دماغاً ؟ هل لك في خلقهما من شرك أم لك بالقوة التي غلبتها يدان ؟ هل تبلغ من قوّتك أن تضع يدك على رؤوسهما أو تقعد لهما على طريق فتحبسهما أو تصدّهما من قوتهما ؟ أين أنت يوم خلقت للتنّين رزقه في البحر ومسكنه في السحاب ؟ عيناه توقدان ناراً ومنخراه يثوران دخاناً ، أُذناه مثل قوس السحاب ، يثور منهما لهب كأنّه إعصار العجاج ، جوفه يحترق ونفسه تلتهب وزبده جمر كأمثال
(6/293)
" صفحة رقم 294 "
الصخور ، وكأنّ صريف أسنانه أصوات الصواعق ، وكأنّ نظر عينيه لهب البرق ، وتمرّ به الجيوش وهو متكئ لا يفزعه شيء ، ليس فيه مفصل الحديد ، عنده مثل الطين ، والنحاس ، عنده مثل الخيوط لا يفزع من النشّاب ولا يحسّ وقع الصخور على جسده ، ويسير في الهواء كأنّه عصفور ، ويهلك كلّ شيء يمرّ به ، هل أنت آخذه بأُحبولتك أو واضع اللجام في شدقه ؟ هل تحصي عمره أم هل تعرف تقّوت رزقه أم هل تدري ماذا خرّب من الأرض ؟ وماذا يخرّب فيما بقي من عمره ؟ أتطيق غضبه حين يغضب أم تأمره فيطيعك ؟ تبارك الله وتعالى .
فقال أيّوب : قصرت عن هذا الأمر الذي يعرض علىّ ليت الأرض انشقّت فذهبت فيها ولم أتكلّم بشيء يسخط ربّي ، اجتمع علىّ البلاء إلهي فجعلتني مثل العدوّ ، وقد كنت تكرمني وتعرف نصحي ، وقد علمت أنّ كلّ الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك وأعظم من هذا ، ما شئت عملت ، لا يعجزك شيء ولا تخفى عليك خافية ولا تغيب عنك غائبة ، من هذا الذي يظن أن يسرّ عنك سرّاً وأنت تعلم ما يخطر على القلوب ؟ وقد علمت منك في بلائي هذا ما لم أكن أعلم ، وخفت حين بلوت أمرك أكثر ممّا كنت أخاف ، إنّما كنت أسمع بسطوتك سمعاً فأمّا الآن فهو نظر العين ، إنّما تكلمت حين تكلمت لتعذرني ، وسكتُّ حين سكتُّ لترحمني ، كلمة زلّت فلن أعود ، قد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني وألصقت بالتراب خدّي ودسست فيه وجهي لِصَغاري ، وسكتُّ كما أسكتتني خطيئتي ، فاغفر لي ما قلت فلن أعود لشيء تكرهه مني .
فقال الله سبحانه : يا أيوب فقد نفذ فيك علمي وسبقت رحمتي غضبي إذ خطئت فقد غفرت لك ، ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم ليكون لمن خلفك آية ، ويكون عبرة لأهل البلاء وغزاءً للصابرين فاركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ، فيه شفاؤك ، وقرّب عن صحابتك قرباناً واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك .
فركض برجله فانفجرت له عين فدخل فيها ، فاغتسل فأذهب الله عنه كلّما كان به من البلاء ، ثمَّ خرج فجلس وأقبلت امرأته فقامت تلتمسه في مضجعه فلم تجده فقامت كالواله مترددة متحيّرة ثم قالت : يا عبد الله هل لك علم بالرجل المبتلى الذي كان هاهنا ؟ فقال لها : وهل تعرفينه إذا رأيته ؟ قالت : نعم ومالي لا أعرفه ؟ فتبسم وقال : أنا هو فعرفته بمضحكه فاعتنقته .
قال ابن عباس : فوالذي نفس عبد الله بيده ما فارقته من عناقه حتى مرّ بهما كلّ مال لهما وولد ، فذلك قوله ) وأيوب إذ نادى ربه ( ) أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ ( ) .
واختلف العلماء في وقت ندائه ، والسبب الذي قال : لأجله أنّي مسّني الضرّ وفي مدّة بلائه .
(6/294)
" صفحة رقم 295 "
فحدَّثنا الإمام أبو الحسن علىّ بن سهل الماسرخسي إملاء يوم الجمعة سنة أربع وثمانين وثلاثمائة قال : أخبرنا أبو طالب عمر بن الربيع بن سليمان الخشّاب بمصر قال : حدَّثنا يحيى بن أيوب العلاّف قال : حدَّثنا سعيد بن أبي مريم قال : حدَّثنا نافع بن يزيد عن عقيل عن شهاب عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن أيوب نبيّ الله لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد إلاّ رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان ، فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم : والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين ، فقال له صاحبه : وما ذاك ؟ قال : منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به ، فلمّا راحا إلى أيوّب لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك ، فقال أيّوب : ما أدري ما يقولان غير أنّ الله سبحانه يعلم أني كنت أمرّ بالرجلين يتنازعان فيذكران الله سبحانه وتعالى ، فأرجع إلى بيتي فأكفّر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلاّ في حقّ ) .
قال : فكان يخرج بحاجته فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ ، فلمّا كان ذات يوم أبطأعليها ، وأُوحي إلى أيّوب في مكانه ) اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ( فاستبطأته فتلقته تنظر ، وأقبل عليها وقد أذهب الله ما به من البلاء وهو أحسن ما كان ، فلمّا رأته قالت : هل رأيت نبىّ الله هذا المبتلى ؟ قال : إنّي أنا هو ، وكان له اندران : أندر للقمح وأندر للشعير ، فبعث الله سبحانه سحابتين ، فلمّا كانت أحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض ، وأفرغت الأُخرى في أندر الشعير الوَرَق حتى فاض .
وقال الحسن : مكث أيّوب مطروحاً على كناسة في مزبلة لبني إسرائيل سبع سنين وأشهراً تختلف فيه الدوابّ .
وقال وهب : لم يكن بأيّوب أكلة إنّما كان يخرج منه مثل ثدي النّساء ثم يتفقّأ .
قال الحسن : ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق ولا أحد يقرّبه غير رحمة صبرت معه ، تصّدّق وتأتيه وتحمد الله إذا حمد ، وأيّوب على ذلك لا يفتر من ذكر الله سبحانه والثناء عليه والصبر على ما ابتلاه ، فصرخ عدوّ الله إبليس صرخة جمع فيها جنوده من أقطار الأرض جزعاً من صبر أيوّب فلمّا اجتمعوا إليه قالوا : ما جزعك ؟ قال : أعياني هذا العبد الذي سألت ربّي أن يسلّطني على ماله وولده فلم أدع له مالاً ، وولداً فلم يزدد بذلك إلاّ صبراً وثناءً على الله سبحانه ، ثمّ سلّطت على جسده فتركته قرحة ملقاة على كناسة بني إسرائيل ، لا تقربه إلاّ إمرأته ، فقد افتضحت بربي فاستعنت بكم لتعينوني عليه ، قالوا له : أين مكرك ؟ أين عملك الذي أهلكت به من مضى
(6/295)
" صفحة رقم 296 "
قال : بطل ذلك كله في أيّوب فأشيروا عليَّ ، قالوا : نشير عليك ، أرأيت آدم حين أخرجته من الجنة ؟ قال : من قبل امرأته ، قالوا : فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإنّه لا يستطيع أن يعصيها وليس أحد يقرّبه غيرها ، قال : أصبتم ، فانطلق حتى أتى امرأته وهي تصدّق ، فتمثّل لها في صورة رجل ، فقال : أين بعلك يا أمة الله ؟ قالت : هو ذاك يحكّ قروحه ، وتتردّد الدوابّ في جسده ، فلمّا سمعها طمع أن يكون كلمة جزع ، فوسوس إليها فذكّرها ما كانت فيه من النعيم والمال ، وذكّرها جمال أيّوب وشبابه ، وما هو فيه من الضرّ ، وأنّ ذلك لا ينقطع عنهم أبداً .
قال الحسن : فصرخت ، فلمّا صرخت علم أن قد جزعت ، فأتاها بسخلة فقال : ليذبح هذا لي أيّوب ويبرأ .
قال : فجاءت تصرخ : يا أيُوب حتى متى يعذّبك ربّك ؟ ألا يرحمك ؟ أين المال ؟ أين الماشية ؟ أين الولد ؟ أين الصديق ؟ إنّ لونك الحسن قد تغيّر وصار مثل الرّماد ، أين جسمك الحسن الذي قد بلي وتردّد فيه الدواب ؟ اذبح هذه السخلة واسترح .
قال أيّوب : أتاكِ عدوّ الله فنفخ فيك وأجبته ؟ ويلك أرأيت ما تبكين عليه ممّا تذكرين ممّا كنا فيه من المال والولد والصحة ، من أعطانيه ؟ قالت : الله ، قال : فكم متّعنا به ؟ قالت : ثمانين سنة ، قال : فمذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء ؟ قالت : منذ سبع سنين وأشهر . قال : ويلك والله ما عدلت ولا أنصفت رَبك ، ألا صبرتِ يكون في هذا البلاء الذي ابتلانا ربّنا به ثمانين سنة ، كما كنا في الرخاء ثمانين سنة والله لئن شفاني الله لأجلدنّك مائة جلدة ، أمرتِني أن أذبح لغير الله طعامك وشرابك الذي أتيت به ؟ علي حرام أن أذوق شيئاً ممّا تأتينني به بعد إذ قلت لي هذا ، فاغربي عنّي فلا أراك ، فطردها فذهبت فلمّا نظر أيّوب إلى إمرأته قد طردها ، وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خرَّ ساجداً وقال : رب مسّني الضر ثم ردّ ذلك إلى ربّه فقال ) وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ( فقيل له : إرفع رأسك فقد استجبت لك ، اركض برجلك ، فركض برجله فنبعت عين فاغتسل منها فلم يبق عليه من دابّةِ شيء ظاهر إلاّ سقط ، فأذهب الله كلّ ألم وكلّ سقم ، وعاد إليه شبابه وجماله أحسن ما كان وأفضل ما كان ، ثم ضرب رجله فنبعت عين أخرى فشرب منها ، فلم يبق في جوفه داء إلاّ خرج ، فقام صحيحاً وكُسي حلّة .
قال : فجعل يلتفت فلا يرى شيئاً ممّا كان له من أهل ومال إلاّ وقد أضعفه الله له حتى والله ذكر لنا أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جراداً من ذهب ، قال : فجعل يضمّه بيده فأوحى إليه : يا أيوب ألم أغنك ؟ قال : بلى ولكنّها بركتك فمن يشبع منها ، قال : فخرج حتى جلس على مكان مشرف ، ثمَّ إنّ امرأته قالت : أرأيت إن كان طردني ، إلى من أكِله ؟ أدعه يموت جوعاً وتأكله السباع لأرجعنّ إليه ، فرجعت إليه فلا كناسة ترى ولا تلك الحال التي كانت ، وإذا الأمور قد تغيّرت فجعلت تطوف حيث كانت الكناسة وتبكي ، وذلك بعين أيّوب
(6/296)
" صفحة رقم 297 "
قال : وهابت صاحب الحلة أن تأتيه فتسأله عنه ، فأرسل إليها أيّوب فدعاها فقال : ما تريدين يا أمة الله ؟ فبكت وقالت : أردت ذلك المبتلى الذي كان منبوذاً على الكناسة لا أدري أضاع أم ما فعل ؟ .
فقال لها أيوب : ما كان منك ؟ فبكت وقالت : أردت بعلي فهل رأيته ؟ قال : وهل تعرفينه إذا رأيته ؟ قالت : وهل يخفى على أحد رآه ؟ ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه ، ثم قالت : أما إنّه كان أشبه خلق الله بك إذ كان صحيحاً ، قال : فإنّي أنا أيّوب الذي أمرتني أنّ أذبح لإبليس ، وإنّي أطعتُ الله وعصيت الشيطان ودعوت الله سبحانه وتعالى فردَّ عليَّ ماترين .
وقال كعب : كان أيّوب في بلائه سبع سنين .
وقال وهب : لبث أيّوب في ذلك البلاء ثلاث سنين لم يزد يوماً واحداً ، فلمّا غلب أيّوب إبليس ولم يستطع منه شيئاً اعترض امرأته في هيئة ليس كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال ، على مركب ليس من مراكب الناس ، له عظم وبهاء وجمال ، فقال لها : أنت صاحبة أيّوب هذا الرجل المبتلى ؟ قالت : نعم قال : هل تعرفينني ؟ قالت : لا ، قال : فأنا إله الأرض ، وأنا الذي صنعت ، بصاحبك ما صنعت وذلك أنّه عبد إله السّماء وتركني فأغضبني ، ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك كل ما كان لكما من مال وولد فإنّه عندي ، ثم أراها إيّاهم فيما ترى ببطن الوادي الذي لقيها فيه .
قال وهب : وقد سمعت أنّه إنّما قال : لو أنّ صاحبك أكل طعاماً ولم يسمّ عليه لعُوفي ممّا به من البلاء ، والله أعلم ، وأراد إبليس لعنه الله أن يأتيه من قِبلها .
ورأيت في بعض الكتب أنّ إبليس قال لرحمة : وإن شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى أردّ عليك المال والأولاد وأُعافي زوجك ، فرجعت إلى أيّوب فأخبرته بما قال لها وما أراها ، قال : قد أتاكِ عدوّ الله ليفتنكِ عن دينكِ ، ثمَّ أقسم إن عافاه اللّه ليضربنّها مائة جلدة .
وقال عند ذلك : مسّني الضر من طمع إبليس في سجود حرمتي له ، ودعائه إياّها وإيّاي إلى الكفر ، قالوا : ثمَّ الله سبحانه رحم رحمة امرأة أيّوب بصبرها معه على البلاء ، وخفّف عنها ، وأراد أن يبرئ يمين أيوب فأمره أن يأخذ جماعة من الشجر فيضربها بها ضربة واحدة كما قال الله سبحانه ) وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث ( الآية .
وقال وهب وغيره : كانت امرأة أيوب تكسب له وتعمل للناس وتجيئه بقوته ، فلمّا طال عليهما البلاء وسئمها الناس فلم يستعملها التمست له يوماً من الأيّام ما تطعمه ، فما وجدت شيئا
(6/297)
" صفحة رقم 298 "
فجزّت قرناً من رأسها فباعته برغيف فأتته به فقال لها : أين قرنك فأخبرته بذلك فحينئذ قال : مسّني الضر .
وقال قوم : إنّما قال : مسّني الضر حين قصدت الدود إلى قلبه ولسانه فخشي أن يعيى عن الذكر والفكر .
وقال عبد الله بن عبيد بن عمير : كان لأيوب أخوان فأتياه فقاما من بعيد لا يقدران أن يدنوا منه من ريحه ، فقال أحدهما لصاحبه : لو كان الله علم في أيّوب خيراً ما ابتلاه بما نرى : قال : فلم يسمع أيوب شيئاً كان عليه أشدّ من هذه الكلمة ، وما جزع من شيء أصابه جزعه من تلك الكلمة ، فعند ذلك قال : مسّني الضرّ ، ثم قال : اللهمَّ إن كنت تعلم أني لم أبتْ ليلة شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدّقني فصدّق ، وهما يسمعان ، ثمّ قال : اللهمّ إن كنت تعلم أنّي لم أتّخذ قميصين قطّ وأنا أعلم مكاناً عار فصدقني فصدّق وهما يسمعان فخرَّ ساجداً .
وقيل معناه : مسّني الضر من شماتة الأعداء ، يدلّ عليه ما روي أنّه قيل له بعدما عوفي : ما كان أشدّ عليك في بلائك ؟ قال : شماتة الأعداء .
وقيل : إنّما قال ذلك حين وقعت دودة من فخذه فرفعها وردّها إلى موضعها وقال : كلي فقد جعلني الله طعامك ، فعضّتهُ عضّة زاد ألمها على جميع ما قاسى من عضّ الديدان .
وسمعت أبا عبد الله بن محمد بن جعفر الأبيوردي يقول : سمعت أبا عبد الله محمد بن عبّاد البغدادي يقول : سئل أبو القاسم جنيد عن هذه الآية فقال : عرَّفه فاقة السؤال ليمنّ عليه بكرم النوال .
وسمعت استاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول : حضرت مجلساً غاصّاً بالفقهاء والأُدباء في دار سلطان فسئلت عن هذه الآية بعد إجماعهم على أنّ قول أيوب ) مسّني الضر ( شكاية وقد قال الله سبحانه ) إنّا وجدناه صابراً ( فقلت : ليس هذا شكاية وإنما هو دعاء ، بيانه قوله سبحانه
الأنبياء : ( 84 ) فاستجبنا له فكشفنا . . . . .
) فاستجبنا له ( والإجابة تعقب الدعاء لا الاشتكاء ، فاستحسنوه وارتضوه .
) فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ( واختلفوا في كيفية ذلك فقال قوم : إنما آتى الله سبحانه أيّوب في الدُنيا مثل أهله الذين هلكوا ، فأما الذين هلكوا فإنّهم لم يُردّوا عليه ، وإنّما وعد الله أيّوب أن يؤتيه إيّاهم في الآخرة .
وروى عبد الله بن إدريس عن ليث قال : أرسل مجاهد رجلاً يقال له قاسم إلى عكرمة يسأله عن هذه الآية فقال : قيل له : إنّ أهلك لك في الآخرة ، فإن شئت عجّلناهم لك في الدنيا ،
(6/298)
" صفحة رقم 299 "
وإن شئت كانوا لك في الآخرة ، وآتيناك مثلهم في الدنيا ؟ فقال : يكونون لي في الآخرة ، وأُوتي مثلهم في الدنيا .
قال : فرجع إلى مجاهد فقال : أصاب ، ويكون معنى الآية على هذا التأويل وآتيناه أهله في الآخرة ، ومثلهم معهم في الدنيا ، وأراد بالأهل الأولاد .
قال وهب : كان له سبع بنات وثلاثة بنين .
وقال ابن يسار : كان له سبع بنين وسبع بنات ، وقال آخرون : بل ردّهم الله سبحانه بأعيانهم وأعطاه مثلهم معهم ، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وقتادة وكعب قال : أحياهم الله وأُوتي مثلهم ، وهذا القول أشبه بظاهر الآية .
وقال الحسن : آتاه الله المثل من نسل ماله الذي ردّ عليه وأهله ، فأمّا الأهل والمال فإنه ردّهما عليه بأعيانهما .
) رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ( عظة لهم
الأنبياء : ( 85 ) وإسماعيل وإدريس وذا . . . . .
) وَإِسْمَاعِيلَ ( يعني ابن إبراهيم ) وَإِدْرِيسَ ( وهو أخنوخ ) وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنْ الصَّابِرِينَ ( على أمر الله ، واختلفوا في ذي الكفل ، فأخبرني ابن فنجويه بقراءتي عليه في داري قال : حدَّثنا عمر بن الخطاب قال : حدَّثنا عبد الله الرازي عن سعد مولى طلحة عن ابن عمر قال : سمعت حديثاً للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لو لم أسمعه إلاّ مرة أو مرّتين لم أُحدّث به ، سمعته منه أُكثر من سبع مرات ، قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( كان في بني إسرائيل رجل يقال له ذو الكفل لا ينزع عن ذنب عمله ، فاتبع امرأة فأعطاها ستّين ديناراً على أن تعطيه نفسها ، فلمّا قعد منها مقعد الرجل من المرأة أُرعدت وبكت فقال : ما يبكيك ؟ قالت : من هذا العمل ، ما عملته قطّ ، قال : أكرهتك ؟ قالت : لا ، ولكن حملتْني عليه الحاجة ، قال : اذهبي فهو لك ، ثم قال : والله لا أعصي الله أبداً ، فمات من ليلته فقيل مات ذو الكفل ، فوجدوا على باب داره مكتوباً : إنّ الله قد غفر لذي الكفل ) .
وروى الأعمش عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحرث أنّ نبيّاً من الأنبياء قال : من يكفل لي أن يصوم النّهار ويقوم الليل ولا يغضب ؟ فقام شاب فقال : أنا ، فقال : اجلس ، ثم عاد فقال : من يكفل لي أن يقوم الليل ويصوم النهار ولا يغضب ؟ فقام ذلك الشاب فقال : انا ، فقال : اجلس ، ثم عاد فقام الشاب فقال : أنا فقال : تقوم الليل وتصوم النهار ولا تغضب ؟ قال : نعم .
(6/299)
" صفحة رقم 300 "
فمات ذلك النبي فجلس ذلك الشاب مكانه يقضي بين الناس فكان لا يغضب ، فجاءه الشيطان في صورة إنسان ليغضبه وهو صائم يريد أن يقيل ، فضرب الباب ضرباً شديداً فقال : من هذا ؟ فقال : رجل له حاجة ، فأرسل معه رجلاً فرجع فقال : لا أرضى بهذا الرجل ، فأرسل معه آخر ، فقال : لا أرضى بهذا ، فخرج إليه فأخذ بيده فانطلق معه حتى إذا كان في السوق خلاّه وذهب ، فسمّي ذا الكفل .
وقال مجاهد : لما كبر اليسع ( عليه السلام ) قال : لو أنّي استخلفتُ رجلاً على الناس يعمل عليهم في حياتي حتى انظر كيف يعمل ، قال : فجمع الناس فقال : من يتقبّل لي بثلاث استخلفه : يصوم النهار ويقوم الليل ولا يغضب ، فقام رجل تزدريه العين فقال : أنا فردّه ذلك اليوم . وقال مثلها اليوم الآخر فسكت الناس ، وقام ذلك الرجل فقال : أنا فاستخلفه قال : فجعل إبليس يقول للشياطين : عليكم بفلان فأعياهم فقال : دعوني وإياه فأتاه في صورة شيخ فقير حين أخذ مضجعه للقائلة وكان لا ينام بالليل والنهار إلاّ تلك النومة فدّق الباب فقال : من هذا ؟ قال : شيخ فقير كبير مظلوم ، فقام ففتح الباب فجعل يقصّ عليه فقال : إنّ بيني وبين قومي خصومة وإنّهم ظلموني وفعلوا ، وفعلوا فجعل يطوّل عليه حتى حضر الرواح وذهبت القائلة ، قال : إذا رحت فإنّني آخذ لك بحقّك ، فانطلق وراح ، فكان في مجلسه فجعل ينظر هل يرى الشيخ ، فلم يره فقام يتبعه ، فلمّا كان الغد جعل يقضي بين الناس وينتظره فلا يراه ، فلمّا رجع إلى القائلة فأخذ مضجعه أتاه فدّق الباب فقال : من هذا ؟ قال : الشيخ المظلوم ، ففتح له فقال : ألم أقل إذا قعدت فأتني قال : إنّهم أخبّ قوم ، إذا عرفوا أنك قاعد قالوا : نعطيك حقّك ، وإذا قمت جحدوني ، قال : فانطلق فإذا رحت فأتني ، ففاتته القائلة فراح فجعل ينظر ولا يراه وشقّ عليه النعاس ، فقال لبعض أهله : لا تدعنّ أحداً يقرب هذا الباب حتى أنام فإنّي قد شقَّ عليَّ النوم .
فلمّا كان تلك الساعة جاء فلم يأذن له الرجل فلمّا أعياه نظر فرأى كوّة في البيت فتسوّر منها فإذا هو في البيت ، وإذا هو يدّق الباب من داخل فاستيقظ الرجل فقال : يا فلان ألم آمرك ؟ فقال : أمّا من قبلي فلم تُؤتَ والله ، فانظر من أين أُتيت ؟ فقام إلى الباب فهو مغلق كما أغلقه وإذا الرجل معه في البيت فقال له : أتنام والخصوم ببابك ؟ فعرفه فقال : أعدوّ الله ؟ قال : نعم أعييتني في كلّ شيء ففعلت ما ترى لأغضبك فعصمك الله منّي ، فسمّي ذا الكفل لأنه تكفّل بأمر فوفى به .
وقال أبو موسى الأشعري : إنَّ ذا الكفل لم يكن نبيّاً ولكن كان عبداً صالحا تكفّل بعمل رجل صالح عند موته وكان يصلّي لله سبحانه وتعالى كل يوم مائة صلاة ، فأحسن الله عزّ وجلّ عليه الثناء .
وقيل : كان رجلاً تكفّل بشأن رجل وقع في بلاء فأنجاه الله على يديه .
(6/300)
" صفحة رقم 301 "
وقيل : ذو الكفل إلياس ، وقيل : هو زكريّا ، والله أعلم .
الأنبياء : ( 86 - 87 ) وأدخلناهم في رحمتنا . . . . .
) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَذَا النُّونِ ( واذكر صاحب النون وهو يونس بن متّى ) إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً ( اختلفوا في معنى الآية ووجهها فقال الضحّاك : ذهب مغاضباً لقومه ، وهي رواية العوفي وغيره عن ابن عباس قال : كان يونس وقومه يسكنون فلسطين ، فغزاهم ملك فسبي منهم تسعة أسباط ونصف سبط وبقي سبطان ونصف ، فأوحى الله تعالى إلى شعياً النبي أن سر إلى حزقيا الملك وقل له حتى يوجّه نبياً قويّاً أميناً فإنّي أُلقي في قلوب أُولئك حتى يرسلوا معه بني إسرائيل ، فقال له الملك : فمن ترى ؟ وكان في مملكته خمسة من الأنبياء ، فقال : يونس ، فإنّه قوي أمين ، فدعا الملك يونس وأمره أن يخرج ، فقال يونس : هل أمرك الله بإخراجي ؟ قال : لا ، قال : فهل سمّاني لك ؟ قال : لا ، قال : فها هنا غيري أنبياء أقوياء أُمناء ، فالحّوا عليه فخرج مغاضباً للنبىّ وللملك ولقومه ، فأتى بحر الروم فإذا سفينة مشحونة فركبها فلمّا تلججت السفينة تكفأت حتى كادوا أن يغرقوا فقال الملاّحون ، ها هنا رجل عاص أو عبد آبق ، ومن رسمنا أن نقترع في مثل هذا فمن وقعت عليه القرعة ألقيناه في البحر . ولئن يغرق واحد خير من أن تغرق السفينة بما فيها ، فاقترعوا ثلاث مرّات فوقعت القرعة في كلّها على يونس .
فقام يونس فقال : أنا الرجل العاصي والعبد الآبق ، وألقى نفسه في الماء فجاء حوت فابتلعه ، ثمَّ جاء حوت آخر أكبر منه فابتلع هذا الحوت ، وأوحى الله إلى الحوت : لا تؤذ منه شعرة فإنّي جعلت بطنك سجنه ، ولم أجعله طعاماً لك .
وقال الآخرون : بل ذهب عن قومه مغاضباً لرّبه إذ كشف عنهم العذاب بعدما وعدهموه ، وذلك أنّه كره أن يكون بين قوم قد جرّبوا عليه الخلف فيما وعدهم ، واستحيا منهم ، ولم يعلم السبب الذي به دفع عنهم العذاب والهلاك ، فخرج مغاضباً وقال : والله لا أرجع إليهم كذّاباً أبداً ، وإنّي وعدتهم العذاب في يوم فلم يأتِ .
وفي بعض الأخبار : إنّ قومه كان من عادتهم أن يقتلوا من جرّبوا عليه الكذب ، فلمّا لم يأتهم العذاب للميعاد الذي وعدهم خشي أن يقتلوه ، فغضب وقال : كيف أرجع إلى قومي وقد أخلفتهم الوعد ؟ ولم يعلم سبب صرف العذاب عنهم ، وكيفية القصّة ، وذلك أنّه كان خرج من بين أظهرهم ، وقد ذكرتْ القصة بالشرح في سورة يونس .
قال القتيبي : المغاضبة مفاعلة ، وأكثر المفاعلة من اثنين كالمناظرة والمخاصمة والمجادلةُ وربّما تكون من واحد كقولك : سافرت وعاقبت الرجل وطارقت النعل وشاركت الأمر ونحوها ، وهي ها هنا من هذا الباب ، فمعنى قوله : مغاضباً أي غضبان أنفاً ، والعرب تسمّي الغضب أنفاً ، والأنف غضباً لقرب أحدهما من الآخر ، وكان يونس وعد قومه أن يأتيهم العذاب لأجل ، فلمّا فات الأجل ولم يعذّبوا غضب وأنف أن يعود إليهم فيكذّبوه ، فمضى كالنادّ الآبق إلى السفينة ،
(6/301)
" صفحة رقم 302 "
وكان من طول ما عاين وقاسى من بلاء قومه يشتهي أن ينزل الله بهم بأسه .
وقال الحسن : إنّما غاضب ربّه من أجل أنّه أمر بالمصير إلى قومه لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه ، فسأل ربّه أن يُنظره ليتأهّب للشخوص إليهم ، فقيل له : إنّ الأمر أسرع من ذلك ولم يُنظر حتى سأل أن ينظر إلى أن يأخذ نعلاً يلبسها ، فقيل له نحو القول الأول ، وكان رجلاً في خلقه ضيق ، فقال : أعجلني ربي أن آخذ نعلا ؟ فذهب مغاضباً .
وقال وهب بن منّبه اليماني : إنّ يونس بن متّى كان عبداً صالحاً ، وكان في خلقه ضيق ، فلمّا حملت عليه أثقال النبوّة تفسّخ تحتها تفسّخ الربع تحت الحمل الثقيل ، فقذفها من يده وخرج هارباً منها ، فلذلك أخرجه الله سبحانه من أُولي العزم ، فقال لنبيّه محمد ( عليه السلام ) : ) فاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولو العَزْمِ مِنَ الرُّ سُل ( وقال : ) وَلاَ تَكُنْ كَصاحِبِ الحُوتِ ( أي لا تلق أمري كما ألقاه .
) فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ( أن لن نقضي عليه العقوبة ، قاله مجاهد وقتادة والضحّاك والكلبي ، وهي رواية العوفي عن ابن عباس ، تقول العرب : قدّر الله الشيء بقدره تقديراً وقدره يقدره قدراً ، ومنه قوله ) نَحْنُ قَدَّرنْا بَيْنَكُمُ المَوْتَ ( وقوله ) والّذِي قَدَّرَ فَهَدى ( في قراءة من خفّفهما ، ودليل هذا التأويل قراءة عمر بن عبد العزيز والزّهري ) فَظَنَ أن لَنْ نُقّدِرَ عَلَيْهِ ( بضم النون وتشديد الدال من التقدير ، وقرأ عبيد بن عمير وقتادة : فظنّ أن لن يُقدّر عليه بالتشديد على المجهول ، وقرأ يعقوب يُقدَر بالتخفيف على المجهول . وقال الشاعر في القدر بمعنى التقدير :
فليست عشيّات الحمى برواجع
لنا أبداً ما أورق السلم النضر
ولا عائد ذاك الزمان الذي مضى
تباركت ما تقدر نفع ولك الشكر
وقال عطاء وكثير من العلماء : معناه فظنّ أن لن نضيّق عليه الحبس من قوله سبحانه ) الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ( أي يضيّق
(6/302)
" صفحة رقم 303 "
وقال سبحانه وتعالى ) من قدر عليه رزقه ( ، وقال ابن زيد : هو استفهام معناه : أفظنّ أن لن نقدر عليه ؟ .
وروى عوف عن الحسن أنّه قال : معناه : فظنّ أنّه يعجز ربّه فلا يقدر عليه .
قال : وبلغني أن يونس لمّا أذنب انطلق مغاضباً لربّه واستزلّه الشيطان حتّى ظنّ أن لن يقدر عليه .
قال : وكان له سلف وعبادة فأبى الله أن يدعه للشيطان فقذفه في بطن الحوت ، فمكث في بطن الحوت أربعين من بين يوم وليلة ، وقيل : سبعة أيام ، وقيل : ثلاثة ، وأمسك الله نفسه فلم يقتله هناك ، فتاب إلى ربّه في بطن الحوت وراجع نفسه فقال : ) لا إله إلا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين ( فاستخرجه الله من بطن الحوت برحمته .
قال عوف : وبلغني أنّه قال : وبنيت لك مسجداً في مكان لم يبنه أحد قبلي . والتأويلات المتقدمة أولى بالأنبياء وأبعد من الخطأ .
) فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ ( أي ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت ، قاله أكثر المفسّرين ، وقال سالم بن أبي الجعد : ظلمة جوف الحوت ، ثم ظلمة جوف الحوت الآخر الذي ابتلعه في ظلمة البحر .
) أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ ( قال محمد بن قيس : قال يونس : ) انّي كنت من الظالمين ( حين عصيتك ، وما صنعت من شيء فلم أعبد غيرك .
وروى أبو هريرة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لمّا أراد الله سبحانه حبس يونس في بطن الحوت أوحى الله إلى الحوت أن خذه ولا تخدش له لحماً ولا تكسر له عظماً ، فأخذه ثمّ هوى به إلى مسكنه في البحر ، فلمّا انتهى به إلى أسفل البحر سمع يونس حسّاً فقال في نفسه : ما هذا ؟ فأوحى الله سبحانه إليه وهو في بطن الحوت : إنّ هذا تسبيح دوابّ البحر ، قال : فسبّح وهو في بطن الحوت ، فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا : يا ربنا إنّا لنسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة قال : ذاك عبدي يونس عصاني ، فحبسته في بطن الحوت ، قالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كلّ يوم وليلة عمل صالح ؟ قال : نعم ، فشفعوا له عند ذلك فأمر الحوت فقذفه في الساحل كما قال الله سبحانه ) وهو سقيم ( ) .
وروى أبو هلال محمد بن سليمان عن شهر بن حوشب عن ابن عباس قال : أتى جبرئيل
(6/303)
" صفحة رقم 304 "
يونس ( عليهما السلام ) فقال له : انطلق إلى السفينة ، فركبها فاحتبست السفينة فساهموا فسهم ، فجاء الحوت يبصبص بذنبه فنودي الحوت : إنّا لم نجعل يونس لك رزقاً ، إنّا جعلناك له حرزاً ومسجداً ، فالتقمه الحوت فانطلق به من ذلك المكان حتى مرّ به على الإبلّة ، ثمَّ مرَّ به على دجلة ثم انطلق حتى ألقاه في نينوى ، فكان ابن عباس يقول : إنّما كانت رسالة يونس بعد ما نبذه الحوت ، ودليل هذا القول أنَّ الله تعالى ذكر قصة يونس في سورة والصافّات ثم عقّبها بقوله ) وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ( .
وقال الآخرون : بل كانت قصّة الحوت بعد دعائه قومه وتبليغهم رسالة ربّه كما قد بيّنا ذكره .
الأنبياء : ( 88 ) فاستجبنا له ونجيناه . . . . .
) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ( من كربهم إذا استغاثوا بنا ودعونا .
وروى علي بن زيد عن سعيد بن المسيّب قال : سمعت سعد بن مالك يقول : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( اسم الله الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متّى ) قال : فقلت : يا رسول الله هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين ؟ قال : هي ليونس خاصة وللمؤمنين عامّة إذا دعوا بها ، ألم تسمع قول الله تعالى ) فنادى في الظلمات ( إلى قوله ) وكذلك ننجي المؤمنين ( وهو شرط الله لمن دعاه بها .
واختلفت القراءة في قوله ( ننج ) فقرأه العامة بنونين الثانية منهما ساكنة من الإنجاء على معنى نحن ننجي ، فإن قيل : لم كتبت في المصاحف بنون واحدة ؟ قيل : لأنّ النون الثانية لمّا سكنت وكان الساكن غير ظاهر على اللسان حذفت ، كما فعلوا ذلك بإلاّ فحذفوا النون من لجعلها أو كاشفة إذا كانت مدغمةً في اللام ، وقرأ ابن عامر وعاصم برواية ابن بكر ) نجّي المؤمنين ( بنون واحدة وتشديد الجيم وتسكين الياء ، واختلف النحاة في هذه القراءة فمنهم من صوّبها وقال : فيه اضمار معناه : نجي المؤمنين كما يقال : ضرب زيداً بمعنى ضرب الضرب زيداً . قال الشاعر :
ولو ولدت قفيرة جرو كلب
لسُبَّ بذلك الجرو الكلابا
أراد لسبّه بذلك الجرو ولسبّ الكلابا
(6/304)
" صفحة رقم 305 "
قالوا : وإنّما سكّن الياء في نجّي كما سكّنوها في بقر فقالوا بقره ونحوها وإنّما اتبع أهل هذه القراءة المصحف لأنّها مكتوبة بنون واحدة .
وقال القتيبي : من قرأ بنون واحدة والتشديد فإنّه أراد ننجي من التنجية إلاّ أنّه أدغم وحذف نوناً على طلب الخفّة .
وقال النحويون : وهو رديء لبعد مخرج النون من الجيم ، وممن جوّز هذه القراءة أبو عبيد ، وأما أبو حاتم السجستاني فإنه لحّنها ونسب قارئها إلى الجهل وقال : هذا لحن لايجوز في اللغة ، ولا يحتج بمثل ذلك البيت على كتاب الله سبحانه وتعالى إلاّ أن يقول : وكذلك نُجي المؤمنين ، ولو قرئ كذلك لكان صواباً ، والله أعلم .
الأنبياء : ( 89 ) وزكريا إذ نادى . . . . .
) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى ( دعا ) رَبَّهُ ( فقال ) رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً ( وحيداً لا ولد لي ولا عقب وارزقني وارثاً ، ثمّ ردّ الأمر إلى الله سبحانه فقال ) وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ }
الأنبياء : ( 90 ) فاستجبنا له ووهبنا . . . . .
) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى ( ولداً ) وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ( بأن جعلناها ولوداً بعد ما كانت عقيماً ، قاله أكثر المفسّرين ، وقال بعضهم : كانت سيئة الخلق فأصلحها له بأن رزقها حسن الخلق .
) إِنَّهُمْ ( يعني الأنبياء الذين سمّاهم في هذه السورة .
) كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً ( خوفاً وطمعاً رغباً في رحمة الله ورهباً من عذاب الله ، وقرأ الأعمش ، رُغباً ورُهباً بضم الراء وجزم الغين والهاء وهما لغتان مثل السقم والسُقم والثَكل والثُكل والنَحل والنُحل والعَدم والعُدم .
) وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ( خاضعين متواضعين .
الأنبياء : ( 91 ) والتي أحصنت فرجها . . . . .
) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ ( حفظت ومنعت ) فَرْجَهَا ( ممّا حرم الله سبحانه وهي مريم بنت عمران ) فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا ( أي أمرنا جبرئيل حتى نفخ في جيب درعها وأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها ، وأضاف الروح إليه على معنى الملك والتشريف لمريم وعيسى بتخصيصها بالإضافة إليه .
) وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ ( أي دلالة على كمال قدرتنا وحكمتنا ، حمل امرأة بلا مماسّة ذكر ، وكون ولد من غير أب ، وإنّما قال ( آية ) ولم يقل آيتين لأن معنى الكلام وجعلنا شأنهما وأمرهما آية للعالمين .
الأنبياء : ( 92 ) إن هذه أمتكم . . . . .
) إِنَّ هَذِهِ أُمَّتكُمْ ( ملّتكم ) أُمَّةً وَاحِدَةً ( ملّة واحدة وهي الإسلام فأبطل ما سوى الإسلام من الأديان ، وأصل الأُمّة الجماعة التي هي على مقصد واحد فجعلت بالشريعة أُمة واحدة
(6/305)
" صفحة رقم 306 "
لاجتماع أهلها بها على مقصد واحد ، ونصب أمّة على القطع ، وقرأ ابن أبي إسحاق أُمّةٌ بالرفع على التكرير .
) وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِي (
الأنبياء : ( 93 ) وتقطعوا أمرهم بينهم . . . . .
) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ ( أي اختلفوا في الدين صاروا فيه فرقاً وأحزاباً ، ثم قال ) كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ( فنجزيهم بأعمالهم .
الأنبياء : ( 94 ) فمن يعمل من . . . . .
) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنْ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ ( لا نبطل عمله ولا نجحده بل يُشكر ويثاب عليه ) وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ ( لعمله حافظون .
2 ( ) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِىَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ياَوَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مِّنْ هَاذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَاؤُلاءِ ءَالِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَائِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا وَهُمْ فِى مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الاَْكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَاذَا يَوْمُكُمُ الَّذِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ يَوْمَ نَطْوِى السَّمَآءَ كَطَىِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الاَْرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِى هَاذَا لَبَلَاغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ قُلْ إِنَّمَآ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ ءَاذَنتُكُمْ عَلَى سَوَآءٍ وَإِنْ أَدْرِىأَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِى لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ( 2
الأنبياء : ( 95 ) وحرام على قرية . . . . .
) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَة ( قرأ أهل الكوفة : وحِرْم بكسر الحاء وجزم الراء من غير ألف ، وقرأ الآخرون : وحرام ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، هما لغتان مثل حِلْ وحلال .
قال ابن عباس : معنى الآية ( وحرامٌ على قرية ) أي أهل قرية ) أَهْلَكْنَاهَا ( أي يرجعون بعد الهلاك وعلى هذا التأويل يكون لا صلة مثل قول العجاج :
في سر لا حورى سرى وما شعر
أي في سر حور .
(6/306)
" صفحة رقم 307 "
وقال الآخرون : الحرام بمعنى الواجب كقول الخنساء :
وإنّ حراما لا أرى الدهر باكياً
على شجوه إلاّ بكيت على عمرو
وعلى هذا التأويل يكون لا ثابتاً .
وقال جابر الجعفي : سألت أبا جعفر عن الرجعة فقرأ هذه الآية .
الأنبياء : ( 96 ) حتى إذا فتحت . . . . .
) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ ( قرأه العامة بالتخفيف ، وقرأ أبو جعفر وابن عامر ويعقوب بالتشديد على الكسرة .
) يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ ( ومعنى الآية فرّج السد عن يأجوج ومأجوج ، وقد ذكرنا قصتهما بالشرح .
وروى منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : أوّل الآيات الدجّال ، ونزول عيسى ، ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا ، والدخان والدابّة ، ثم يأجوج ومأجوح .
قال حذيفة : قلت : يارسول الله ما يأجوج ومأجوج ؟ قال : أُمم ، كلّ أُمّة أربعمائة ألف أُمّة ، لا يموت الرجل منهم حتى يرى ألف عين تطرف بين يديه من صلبه ، وهم ولد آدم ( عليه السلام ) فيسيرون إلى خراب الدنيا ، ويكون مقدمتهم بالشام وساقهم بالعراق ، فيمرّون بأنهار الدنيا فيشربون الفرات ودجلة وبحر الطبرية حتى يأتوا بيت المقدس فيقولوا : قد قتلنا أهل الدنيا ، فقاتلوا من في السماء فيرمون بالنشّاب إلى السّماء ، فيرجع نشابهم مخضّبة بالدم فيقولون : قد قتلنا من في السّماء .
وعيسى والمسلمون بجبل طور سينين فيوحي الله سبحانه إلى عيسى أن احرز عبادي بالطور وما يلي ، ثمَّ إنّ عيسى يرفع يديه إلى السّماء ، ويؤمّن المسلمون ، فيبعث الله سبحانه عليهم دابّة يقال لها النغف تدخل في مناخرهم فيصبحون موتى من حاقّ الشام إلى حاق المشرق حتى تنتن الأرض من جيَفهم ويأمر الله سبحانه السماء فتمطر كأفواه القرب فتغسل الأرض من جيفهم ونتنهم ، فعند ذلك طلوع الشمس من مغربها .
(6/307)
" صفحة رقم 308 "
) وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ ( أي نشز وتلّ ) يَنسِلُونَ ( يخرجون مشاة مسرعين كنسلان الذئب .
واختلف العلماء في هذه الكناية فقال قوم : عنى بهم يأجوج ومأجوج ، واستدَلّوا بحديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : يفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس كما قال الله سبحانه ) مِن كُلّ حَدبٍ يَنْسِلون ( فيغشون الأرض .
وروى عبد الله بن مسعود عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما يذكر عن عيسى قال : ( قال عيسى : عهد إليَّ ربي أنّ الدجّال خارج وأنّه مهبطي إليه ، فذكر أنّ معه قصبتين فإذا رآني أهلكه الله ، قال : فيذوب كما يذوب الرصاص حتى أنَّ الشجر والحجر ليقول : يا مسلم هذا كافر فاقتله ، فيهلكهم الله عزّ وجلّ ويرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم ، فيستقبلهم يأجوج ومأجوج من كلّ حدب ينسلون ، لا يأتون على شيء إلاّ أهلكوه ولا يمرّون على ماء إلاّ شربوه ) .
وقال آخرون : أراد جميع الخلق ، يعني أنّهم يخرجون من قبورهم ومواضعهم فيحشرون إلى موقف القيامة ، تدلّ عليه قراءة مجاهد : وهم من كلّ جدث بالجيم والثاء يعني القبر اعتباراً بقوله سبحانه ) فَإذِا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إلى رَبّهِم يَنْسِلُون ( .
الأنبياء : ( 97 ) واقترب الوعد الحق . . . . .
) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ ( يعني القيامة ، قال الفرّاء وجماعة من العلماء : الواو في قوله ( واقترب ) مقحم ومجاز الآية : حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحقّ ، نظيرها قوله ) فَلَمّا أسْلَمَااَوتَلَّهُ للجَبِين وناديناه ( أي ناديناه . قال امرؤ القيس :
فلمّا أجزنا ساحة الحىّ وانتحى
بباطن خبت ذي قفاف عقنقل
يُريد انتحى ، ودليل هذا التأويل حديث حذيفة قال : لو أنّ رجلاً اقتنى فلْواً بعد خروج يأجوج ومأجوج لم يركبه حتّى تقوم الساعة .
وقال الزجّاج : البصريون لا يجيزون طرح الواو ويجعلون جواب حتى إذا فتحت في قوله ( يا ويلنا ) وتكون مجازاً الآية ) حتّى إذا فُتِحَت يأجُوجُ وَمأجوجُ وَاقْترَبَ الوَعد الحَقُّ قالوا يا وَيلَنا قَد كُنّا في غَفْلة من هذا ( .
) فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ( في قوله ) هي ( ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون هي كناية عن الأبصار ويكون الأبصار الظاهرة بياناً عنها كقول الشاعر
(6/308)
" صفحة رقم 309 "
لعمر أبيها لا تقول ظعينتي
ألا فرَّعنّي مالك بن أبي كعب
فكنى عن الظعينة في أبيها ثم أظهرها فيكون تأويل الكلام : فإذا الأبصار شاخصة أبصار الذين كفروا .
والثاني : أن تكون هي عماداً كقوله ( فَإنّها لا تَعْمى الأبصارُ ) ، وكقول الشاعر :
فهل هو مرفوع بما هاهنا رأس
والثالث : أن يكون تمام الكلام عند قوله ) هي ( على معنى هي بارزة واقفة يعني : من قربها كأنّها آتية حاضرة ، ثم ابتدأ ) شاخصة أبصار الذين كفروا ( على تقديم الخبر على الابتداء مجازها : أبصار الذين كفروا شاخصة من هول قيام الساعة ، وهم يقولون ) يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَة مِنْ هَذَا ( أي من هذا اليوم ) بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ ( بمعصيتنا ربَّنا ووضعنا العبادة في غير موضعها .
الأنبياء : ( 98 ) إنكم وما تعبدون . . . . .
) إِنَّكُمْ ( أيها المشركون ) وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ( يعني الاصنام ) حَصَبُ جَهَنَّمَ ( قراءة العامة بالصاد أي وقودها عن ابن عباس .
وقال مجاهد وقتادة وعكرمة : حطبها ، وذُكر أنَّ الحصب في لغة أهل اليمن الحطب .
الضحّاك : يعني يرمون بهم في النار كما يرمى بالحصباء ، وأصل الحصب الرمي يقال : حصبت الرجل إذا رميته ، قال الله سبحانه وتعالى ) إنّا أرْسَلْنا عَلَيْهِم حاصِباً ( يعني ريحاً ترميهم بالحجارة وقرأ ابن عباس : حَضَب بالضاد ، وهو كل ما هيّجت وأُوقدت به النار ، ومنه قيل لدقاق النار : حَضبٌ ، وقرأ علي وعائشة : ولاهو بن حميد : حطب بالطاء نظيرها قوله سبحانه ( وقودها الناس والحجارة ) .
) أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ( أي فيها داخلون
الأنبياء : ( 99 ) لو كان هؤلاء . . . . .
) لَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ ( الأصنام ) آلِهَةً ( على الحقيقة ) مَا وَرَدُوهَا ( يعني ما دخل عابدوها النار ، بل منعتها ) وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ ( يعني العابد والمعبود .
الأنبياء : ( 100 ) لهم فيها زفير . . . . .
) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ ( قال ابن مسعود في هذه الآية : إذا بقي في النار من يخلد فيها جُعلوا في توابيت من نار ، ثم جُعل التوابيت في توابيت أُخرى ، ثم جعلت التوابيت في أُخرى فيها مسامير من نار ، فلا يسمعون شيئاً ولا يرى أحد منهم أن في النار أحداً يُعذّب غيره .
الأنبياء : ( 101 ) إن الذين سبقت . . . . .
ثم استثنى فقال سبحانه وتعالى ) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ ( قال قوم من العلماء : إنّ ها هنا بمعنى
(6/309)
" صفحة رقم 310 "
إلاّ وليس في القرآن سواه ، والسبق تقدّم الشيء على غيره .
) لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى ( السعادة والعدة الجميلة بالجنّة ) أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ ( والإبعاد : تطويل المسافة . واختلفوا في هؤلاء من هم ؟ فقال أكثر المفسرين : عني بذلك كلّ من عُبد من دون الله وهو طائع ولعبادة من يعبده كاره ، وذلك أنَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيموحول الكعبة ثلاثمائة وستّون صنماً فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحارث فكلّمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أفحمه ، ثم تلا عليه وعليهم ) إنّكُم وَما تَعْبُدونَ مِن دُونِ الله ( الآيات الثلاث ، ثمَّ قام فأقبل عبد الله بن الزبعرى بن قيس بن عدي السهمي فرآهم يتهامسون قال : فيم خوضكم ؟ فأخبره الوليد بن المغيرة بما قال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال عبد الله : أما والله لو وجدته لخصمته ، فدعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له ابن الزبعرى : أنت قلت : إنّكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ؟ قال : نعم ، قال : قد خصمتك وربّ الكعبة ، أليست اليهود تعبد عزيراً والنصارى تعبد المسيح وبنو مليح يعبدون الملائكة ؟ .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( نعم ، بل هم يعبدون الشياطين ، هي التي أمرتهم بذلك ، فأنزل الله سبحانه ) إنَّ الذين سبقت لهم منّا الحسنى ( الآية يعني عزيراً وعيسى والملائكة ) .
قال الحسن بن الفضل : إنما أراد بقوله ) إنّكُمْ وَمَا تَعْبُدُون مِنْ دوُن الله ( الأوثان دون غيرها لأنّه لو أراد الملائكة والنّاس لقال : ( ومن تعبدون ) ، قلت : ولأنّ المخاطبين بهذه الآية مشركو مكة وهم كانوا يعبدون الأصنام .
وقال بعضهم : هذه الآية عامّة في كلّ من سبقت له من الله السعادة .
قال محمّد بن حاطب : سمعت عليّاً كرّم الله وجهه يخطب ، فقرأ هذه الآية ) إنَّ الذّيِنَ سَبَقَتْ ( فقال : عثمان ( ح ) منهم .
وقال الجنيد في هذه الآية : سبقت لهم من الله العناية في البداية ، فظهرت الولاية في النهاية .
أخبرني أبو عبد الله محمد بن عبد الله قال : حدَّثنا أبو الحسين محمد بن عثمان النصيبي قال : أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين السبيعي بحلب قال : أخبرنا أحمد بن الحسين بن عبد الجبار الصوفي قال : حدَّثنا عبيد الله القواريري قال : حدَّثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني قال : حدَّثنا ليث عن ابن عمّ النعمان بن بشير وكان من سمّار علىّ قال : تلا علّي
(6/310)
" صفحة رقم 311 "
ليلةً هذه الآية ) إنَّ الّذيِنَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبعْدُون ( قال : أنا منهم وأبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرَّحْمن بن عوف منهم ، ثم أُقيمت الصلاة فقام علىّ يجرّ رداءهُ وهو يقول
الأنبياء : ( 102 ) لا يسمعون حسيسها . . . . .
) لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ( يعني صوتها إذا نزلوا منازلهم من الجنة ) وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ ( والشهوة طلب النفس اللذّة ، نظيرها قوله ) وَفِيها ما تَشْتَهِي الأنْفُسُ وَتَلَذّ الأعْيُنَ ( .
الأنبياء : ( 103 ) لا يحزنهم الفزع . . . . .
) لا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأكْبَر ( وقرأ أبو جعفر بضمّ الياء وكسر الزاي ، والباقون : بفتح الياء وضمّ الزاي ، واختلفوا في الفزع الأكبر ، فقال ابن عباس : النفخة الآخرة ، دليله قوله سبحانه ) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إلاّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ اَتَوْهُ داخِريِن ( .
وقال الحسن : حين يؤمر بالعبد إلى النار .
سعيد بن جبير والضحّاك : إذا أُطبقت على أهل النار .
ابن جريج : حين يذبح الموت على صورة كبش أملح على الأعراف والفريقان ينظران فينادى : يا أهل الجنّة خلود فلا موت ، ويا أهل النّار خلود فلا موت .
ذو النون المصري : هو القطيعة والهجران والفِراق .
) وَتَتَلَقاهُم ( تستقبلهم ) المَلائِكَةُ ( على أبواب الجنة يهنّونهم ويقولون لهم ) هذا يَومُكم الذي كنتم توعدون }
الأنبياء : ( 104 ) يوم نطوي السماء . . . . .
) يوم نطوي السماء ( قرأ أبو جعفر تُطوى السماء بضم التاء والهمزة على المجهول ، وقرأ الباقون بالنون السماء نصب ) كَطَيّ السجل للكتب ( قرأ أهل الكوفة على الجمع ، غيرهم : للكتاب على الواحد واختلفوا في السجلّ ، فقال ابن عمر و السدىّ : السجل : ملك يكتب أعمال العباد فإذا صعد بالاستِغفار قال الله سبحانه : أُكتبها نوراً .
وقال ابن عباس ومجاهد : هو الصحيفة ، واللام في قوله للكتب بمعنى على تأويلها كطىّ الصحيفة على مكتوبها .
وروى أبو الجوزاء وعكرمة عن ابن عباس أنّ السجلّ اسم كاتب لرسول الله ، وهذا قول غير قوي لأنّ كتّاب رسول الله كانوا معروفين وقد ذكرتهم في كتاب ( الربيع ) ، والسجلّ اسم مشتقّ من المساجلة وهي المكاتبة ، وأصلها من السجل وهو الدلو ، يقال : سجلت الرجل إذا نزعت دلواً ونزع دلواً ثم استعيرت فسميت المكاتبة والمراجعة مساجلة ، قال الشاعر :
(6/311)
" صفحة رقم 312 "
من يساجلني يساجل ماجداً
يملأ الدلو إلى عقد الكرب
ثم بنى هذا الاسم على فعل مثل طمر وقلز . والطي في هذه الآية يحتمل معنيين :
أحدهما : الدرج الذي هو ضدّ النشر قال الله سبحانه ) والسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِيْنهِ ( .
والثاني : الإخفاء والتعمية والمحو والطمس لأنّ الله سبحانه يمحو رسومها ويكدر نجومها ، قال الله سبحانه وتعالى ) إذا الشَّمْسُ كُوِرَتْ وإذا النُّجُوُمُ انْكَدَرَتْ ( تقول العرب : اطو عن فلان هذا الحديث أي استره وأخفه .
ثمَّ ابتدأ واستأنف الكلام فقال عزَّ من قائل ) كما بدأنا أوّل خلق نعيدهُ ( قال أكثر العلماء : كما بدأناهم في بطون أُمهاتهم حفاة عُزّلا كذلك نعيدهم يوم القيامة ، نظيرها قوله سبحانه ) وَلقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُم أوَّل مرَّة ( وقوله ) وعُرِضُوا على رَبَّكَ صَفّاً لقد جِئْتُمُونا كَما خَلَقنْاكُم أوَّلَ مرَّة ( .
ودليل هذا التأويل ما روى ليث عن مجاهد عن عائشة خ قالت : دخل عليَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عندي عجوز من بني عامر فقال : من هذه العجوز يا عائشة ؟ فقلت : إحدى خالاتي ، فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنّة فقال : إنّ الجنّة لا يدخلها العجّز ، فأخذ العجوز ما أخذها .
فقال ( عليه السلام ) : إنّ الله ينشئهنّ خلقاً غير خلقهن ، قال الله تعالى ) إنّا أنْشَأنَاهُنَ اِنْشَاءً ( الآية ثمّ قال : يُحشرون يوم القيامة عراة حفاة غلفاً ، فأوّل مَنْ يكسى إبراهيم صلوات الله عليه ) .
فقالت عائشة خ وعن أبيها : واسوأتاه فلا تحتشم الناس بعضهم بعضاً ؟
قال : ) لِكُلّ امْرِئ مِنْهُم يَوْمَئذ شَاْنٌ يُغْنِيه ( ، ثم قرأ رسول الله ) كَما بَدَأنا اَوّل خَلْق نُعِيدُه ( كيوم ولدته أُمهُ .
(6/312)
" صفحة رقم 313 "
وقال ابن عباس : يقول : نهلك كلّ شيء كما كان أول مرّة ، وقيل : كما بدأناه من الماء نعيده من التراب .
) وعداً علينا ( نصب على المصدر يعني وعدناه وعداً علينا ) إنّا كنّا فاعلين ( يعني الإعادة والبعث .
الأنبياء : ( 105 ) ولقد كتبنا في . . . . .
) ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ( قرأ الأعمش وحمزة : الزبور بضم الزاي ، وغيرهما يقرؤون بالنصب وهو بمعنى المزبور كالحلوب والركوب ، يقال : زبرت الكتاب وذبرته إذا كتبته ، واختلفوا في معنى الزبور في هذه الآية ، فقال سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد : عنى بالزبور الكتب المنزلة وبالذكر أُمّ الكتاب الذي عنده .
وقال ابن عباس والضحّاك : الذكر التوراة والزبور الكتب المنزلة من بعد التوراة .
وقال الشعبي : الزبور كتاب داود والذكر التوراة .
وقال بعضهم : الزبور زبور داود والذكر القرآن ، وبعد بمعنى قبل كقوله ) وَكانَ وَرآءَهمُ مَلِكٌ ( أي أمامهم ، وقوله ) والأرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها ( أي قبل ذلك
) إنّ الأرض ( يعني أرض الجنّة ) يرثها عبادي الصالحون ( يعني أُمة محمد ( عليه السلام ) قاله مجاهد وأبو العالية ، ودليل هذا التأويل قوله ) وَقالوا الحَمْدُ للهِ الّذي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَاَوْرَثَنا الأرْضَ ( .
وقال ابن عباس : أراد أنّ الأرضَ في الدُنيا تصير للمؤمنين ، وهذا حكم من الله سبحانه بإظهار الدّين وإعزازِ المسلمين وقهر الكافرين .
قال وهب : قرأت في عدّة من كتب الله أنّ الله عزّ وجلّ قال : إنّي لأُورث الأرض عبادي الصالحين من أُمة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
الأنبياء : ( 106 ) إن في هذا . . . . .
) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاَغاً ( وصولاً إلى البغية ، من اتّبع القرآن وعمل به وصل إلى ما يرجو من الثواب ، فالقرآن زاد الجنة كبلاغ المسافر .
) لِقَوْم عَابِدِينَ ( أي مؤمنين يعبدون الله سبحانه وتعالى .
وقال ابن عباس : عالمين ، وقال كعب الأحبار : هم أُمّة محمد أهل الصلوات الخمس وشهر رمضان ، سمّاهم الله سبحانه وتعالى عابدين .
(6/313)
" صفحة رقم 314 "
الأنبياء : ( 107 ) وما أرسلناك إلا . . . . .
) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ ( يا محمّد ) إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ( قال ابن زيد : يعني المؤمنين خاصة ، وقال ابن عباس : هو عامّ فمن آمن بالله واليوم الآخر كتب له رحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن عوفي ممّا أصاب الأُمم من المسخ والخسف والقَذف .
الأنبياء : ( 108 - 109 ) قل إنما يوحى . . . . .
) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَا إِلاهُكُمْ إِلاهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاء ( يعني أعلمتكم على بيان أنا وإيّاكم حرب لا صلح بيننا ، وإنّي مخالف لدينكم ، وقيل : معناه على سواء من الإنذار لم أُظهر بعضكم على شيء كتمته عن غيره ، وقيل : لتستووا في الإيمان به ، وهذا من فصيحات القرآن .
) وَإِنْ أَدْرِي ( وما أعلم ) أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ ( يعني القيامة ، نسخها قوله ) وَاقْترَبَ الوَعْدُ الحَقّ ( .
الأنبياء : ( 110 - 111 ) إنه يعلم الجهر . . . . .
) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنْ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ ( أي لعّل تأخير العذاب عنكم ، كناية عن غير مذكور ) فِتْنَةٌ ( اختبار ) لَكُمْ ( ليرى كيف صنيعكم وهو أعلم ) وَمَتَاعٌ إِلَى حِين ( إلى أجل يقضي الله فيه ما شاء .
أخبرنا أبو بكر الجوزقي قال : أخبرنا أبو العباس الدعولي قال : أخبرنا أبو بكر بن أبي خيثمة قال : حدَّثنا محمد بن أبي غالب قال : أخبرنا هشام قال : أخبرنا مجالد قال : حدَّثني السبعي قال : لما سلم الحسن بن عليّ لمعاوية الأمر ، قال له معاوية : قم فاخطب واعتذر إلى الناس ، فقام الحسن فخطب ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إنَّ أكْيَسَ الكيس التُقى ، وإنّ أحْمَق الحُمْق الفجور ، وإنّ هذا الأمر الذي اختلفت فيه أنا ومعاوية إمّا حقّ امرئ كان أحقّ به ، وإمّا حقّ كان لي فتركته التماس الصلاح لهذه الأُمّة ، ثم قال : ) وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين 2 )
الأنبياء : ( 112 ) قال رب احكم . . . . .
) قال رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ( افعل بيني وبين من كذبني بالحق ، والله لا يحكم إلاّ بالحق ، وفيه وجهان من التأويل :
قال أهل التفسير : الحق ها هنا بمعنى العذاب كأنّه استعجل العذاب لقومه فعذبوا يوم بدر وليله ، نظيره قوله ) ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ( .
وقال قتادة : كان رسول الله ( عليه السلام ) إذا شهد قتالا قال : ربّ احكم بالحق .
وقال أهل المعاني : معناه : رب احكم بحكمك الحق ، فحذف الحكم وأُقيم الحق مقامهُ ، واختلف القراء في هذه الآية فقرأ حفص ) قال ربّ ( بالألف على الخبر ، الباقون : ) قل (
(6/314)
" صفحة رقم 315 "
على الأمر ، وقرأ أبو جعفر : ربِّ احكم برفع الباء على النداء والمفرد ، وقرأ الضحاك ويعقوب : ربي احكم باثبات الياء على وجه الخبر بأنَّ الله سبحانه أحكم بالحق من كل حاكم وهذه قراءة غير مرضية لمخالفة المصحف ، والقرّاء الباقون : ) ربّ احكم ( على الدعاء ) وَرَبُّنَا الرَّحْمانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ( .
(6/315)
" صفحة رقم 5 "
( سورة الحج )
مكيّة غير ست آيات نزلت بالمدينة وهي قوله ( هذان خصمانإلى قوله الحميد ، وهي خمسة آلاف وخمسة وتسعونحرفاً وألف ومائتان وإحدى وسبعون كلمة وثمان وسبعون آية
أخبرنا أبو الحسن الجرجاني غير مرَّة قال : أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي وأبو الشيخ عبد الله بن محمد الأصبهاني قالا : حدَّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن شريك قال : حدَّثنا أحمد بن يونس اليربوعي قال : حدَّثنا سلام بن سليم المدائني قال : حدَّثنا هارون بن كثير عن زيد ابن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة الحج أُعطي من الأجر كحجّة حجّها وعُمْرة اعتمرها بعدد مَن حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي ) .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
2 ( ) ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَاكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ياَأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِى الاَْرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الاَْرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْىِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِى الْقُبُورِ ( ) 2
(7/5)
" صفحة رقم 6 "
الحج : ( 1 ) يا أيها الناس . . . . .
) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ ( الزلزلة والزلزال : شدّة الحركة على الحال الهائلة ، من قوله : زلّت قدمه إذا زالت عن الجهة بسرعة ، ثم ضوعف .
الحج : ( 2 ) يوم ترونها تذهل . . . . .
) يَوْمَ تَرَوْنَهَا ( يعني الساعة ) تَذْهَلُ ( أي تشغل ، عن ابن عباس ، وقال الضحّاك تسلو ، ابن حيان : تنسى ، يقال : ذهلت عن كذا أي تركته واشتغلت بغيره أذهل ذهولاً ، وأذهلني الشيء إذهالاً . قال الشاعر :
صحا قلبه ياعزُّ أو كاد يذهل
) كُلُّ مُرْضِعَةٍ ( يعني ذات ولد رضيع ، والمرضع المرأة التي لها صبي ترضعه لغيرها ، هذا قول أهل الكوفة ، وقال أهل البصرة : يقال : امرأة مرضع إذا أُريد به الصفة مثل مقرب ومشرقوحامل وحائض ، فإذا أرادوا الفعل أدخلوا الهاء فقيل : مرضعة ، التي ترضع وَلَدَها .
) وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ( أي تسقط ولدها من هول ذلك اليوم .
) وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ( .
قال الحسن : معناه : وترى الناس سكارى من الخوف ، ما هم بسكارى من الشراب .
وقال أهل المعاني : مجازه : وترى الناس كأنّهم سكارى ، تدل عليه قراءة أبي زرعة بن عمرو بن جرير : وتُرى الناس بضم التاء أي تظن .
وقرأ أهل الكوفة إلاّ عاصماً : سكرى وما هم سكرى بغير ألف فيهما ، وهما لغتان لجمع السكران مثل كسلى وكسالى ) وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ ( .
روى عمران بن حصين وأبو سعيد الخدري وغيرهما : إنَّ هاتين الآيتين نزلتا ليلاً في غزوة بني المصطلق وهم حيّ من خزاعة والناس يسيرون ، فنادى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فحثوا المطيّ حتى كانوا حول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقرأهما عليهم فلم يُر أكثر باكياً من تلك الليلة ، فلمّا أصبحوا لم يحطّوا السُرُج عن الدواب ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا قدراً والناس من بين باك أو حاسر حزين متفكّر ، فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أبشروا وسدّدوا وقاربوا ، فإن معكم خليقتين ما كانتا في قوم إلاّ كثّرتاه يأجوج ومأجوج )
(7/6)
" صفحة رقم 7 "
ثمَّ قال : إنّي لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، فكبّروا وحمدوا الله ، ثمَّ قال : ( إنّي لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة ، فكبّروا وحمدوا الله ، ثمَّ قال : اني لأرجوا أن تكونوا نصف أهل الجنة فكبّروا وحمدوا الله ، ثمَّ قال : إنّي لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنّة وإنّ أهل الجنة ، مائة وعشرون صفاً ، ثمانون منها أُمّتي وما المسلمون في الكفّار إلاّ كالشامة في جنب البعير أو كالرقمة في ذراع الدابة ، بل كالشعرة السوداء في الثور الأبيض ، أو كالشعرة البيضاء في الثور الأسود ، ثمَّ قال : ويدخل من أُمتي سبعون ألفاً الجنة بغير حساب ، فقال عمر : سبعون ألفاً ؟ فقال : نعم ومع كلّ واحد سبعون ألفاّ ، فقام عكاشة بن محصن فقال : يارسول الله ادع الله اٌ ن يجعلني منهم ، قال : أنت منهم ، فقام رجل من الأنصار فقال : ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سبقك بها عكاشة ) .
2 ( ) ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِىَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلعَبِيدِ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةَ ذالِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ذالِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَآءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ وَكَذالِكَ أَنزَلْنَاهُ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يُرِيدُ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَمَن فِى الاَْرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ ( 2
الحج : ( 3 ) ومن الناس من . . . . .
) وَمِن النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْم ( نزلت في النضر بن الحرث ، كان كثير الجدال فكان يقول : الملائكة بنات الله ، والقرآن أساطير الأولين ، ويزعم أنّ الله غير قادر على إحياء من قد بلي وعاد تراباً .
قال الله سبحانه ) وَيَتَّبِعُ ( في قيله ذلك وجداله في الله بغير علم ) كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيد (
الحج : ( 4 ) كتب عليه أنه . . . . .
) كُتِبَ عَلَيْهِ ( قضي عليه ، على الشيطان ) أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ ( اتّبعه ) فَأَنَّهُ ( يعني الشيطان ) يُضِلُّهُ (
(7/7)
" صفحة رقم 8 "
يعني يضلّ من تولاه ) وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ( وتأويل الآية : قضي على الشيطان أنّه يضلّ أتباعه ويدعوهم إلى النار .
ثمّ ألزم الحجّة منكري البعث فقال عزَّ من قائل
الحج : ( 5 ) يا أيها الناس . . . . .
) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ ( يعني أباكم آدم الذي هو أصل النسل ووالد البشر ) مِنْ تُرَابٍ ( ثم ذرّيته ) مِنْ نُطْفَةٍ ( وهو المنيّ وأصلها الماء القليل وجمعها نطاف ) ثُمَّ مِنْ عَلَقَة ( وهي الدم العبيط الجامد وجمعها علق ) ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ ( وهي لحمة قليلة قدر ما تمضع ) مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ( .
قال ابن عباس وقتادة : تامّة الخلق وغير تامة .
وقال مجاهد : مصوّرة وغير مصوّرة يعني السقط .
قال عبد الله بن مسعود : إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله عزّ وجلّ مَلَكاً فقال : يا رب مخلّقة أو غير مخلقة ؟ فإن قال : غير مخلّقة مجّتها الأرحام دماً وإن قال : مخلّقة قال : يا ربّ فما صفة هذه النطفة ؟ أذكر أم أُنثى ؟ ما رزقها ؟ ما أجلها ؟ أشقي أم سعيد ؟ فيقال له : انطلق إلى أُمّ الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة ، فينطلق الملك فينسخها فلا تزال معه حتى يأتي على آخر صفتها .
) لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ( كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريفنا أطوار خلقكم .
) وَنُقِرُّ ( روي عن عاصم بفتح الراء على النسق ، غيره : بالرفع على معنى ونحن نقرُ ( في الأرحام ) ) مَا نَشَاءُ ( فلا تمجّه ولا تسقطه ) إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ( وقت خروجها من الرحم تامّ الخلق والمدّة ) ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ ( من بطون أُمهاتكم ) طِفْلا ( صغاراً ولم يقل أطفالاً لأنّ العرب تسمّي الجمع باسم الواحد .
قال الشاعر : إنّ العواذل ليس لي بأمير
ولم يقل أُمَراء .
وقال ابن جريج : تشبيهاً باسم المصدر مثل : عدل وزور ، وقيل : تشبيهاً بالخصم والضيف .
) ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ( كمال عقولكم ونهاية قواكم .
) وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى ( قبل بلوغ الأشدّ ) وَمِنْكُمْ مَنْ ( يعمّر حتى ) يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ( وهو الهرم والخرف ) لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ( .
ثمَّ بيَّن دلالة أُخرى للبعث فقال تعالى ) وَتَرَى الاْرْضَ هَامِدَةً ( يابسة دارسة الأثر من الزرع والنبات كهمود النار
(7/8)
" صفحة رقم 9 "
) فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ ( المطر ) اهْتَزَّتْ ( تحرّكت بالنبات ) وَرَبَتْ ( أي زادت وأضعفت النبات بمجيء الغيث ، وقرأ أبو جعفر : ربأت بالهمز ، ومثله في حم السجدة أي ارتفعت وعلت وانتفخت ، من قول العرب : ربا الرجل إذا صعد مكاناً مشرفاً ، ومنه قيل للطليعة رئبة .
) وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْج بَهِيج ( صنف حسن
الحج : ( 6 ) ذلك بأن الله . . . . .
) ذَلِكَ ( الذي ذكرت لتعلموا ) بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ( والحق هو الكائن الثابت ) وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
الحج : ( 7 ) وأن الساعة آتية . . . . .
) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ ( .
الحج : ( 8 ) ومن الناس من . . . . .
) وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدىً ( بيان وبرهان ) وَلاَ كِتَاب مُنِير ( نزلت في النضر بن الحرث
الحج : ( 9 ) ثاني عطفه ليضل . . . . .
) ثَانِيَ عِطْفِهِ ( نصب على الحال .
قال ابن عباس : مستكبراً في نفسه ، تقول العرب : جاء فلان ثاني عطفه أي متجبّراً لتكبّره وتجبّره ، والعطف : الجانب .
الضحّاك : شامخاً بأنفه ، مجاهد وقتادة : لاوياً عنقه ، عطيّة وابن زيد : معرضاً عمّا يُدعى إليه من الكبر .
ابن جريج : أي يعرض عن الحقّ نظيرها قوله سبحانه ) وإذا تتلى عليه آياتنا ولّى مستكبراً ( الآية ، وقوله ) وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لوّوا رؤوسهم ( الآية .
) لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْي ( عذاب وهوان وهو القتل ببدر .
) وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ( فيقال له يومئذ
الحج : ( 10 ) ذلك بما قدمت . . . . .
) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ( وهذا وأضرابه مبالغة في إضافة الجرم إليه .
) وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّم لِلْعَبِيدِ ( فيعذّبهم بغير ذنب وهو سبحانه على أي وجه تصرّف في عبده فإنّه غير ظالم ، بل الظالم : المتعدّي المتحكّم في غير ملكه .
الحج : ( 11 ) ومن الناس من . . . . .
) وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ ( الآية .
نزلت في أعراب كانوا يقدمون على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة مهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا قدم المدينة ، فإن صحّ بها جسمه ونتجت فرسه مهراً حسناً وولدت امرأته غلاماً وكثر ماله وماشيته رضي به واطمأنَّ إليه وقال : ما أصبت مذ دخلت في ديني هذا إلا خيراً ، وإن أصابه وجع المدينة وولدت امرأته جارية وأجهضت رماكه وذهب ماله وتأخرّت عنه الصدقة ، أتاه الشيطان فقال : والله ما أصبت مذ كنت على دينك هذا إلاّ شرّاً ، فينقلب عن دينه ، وذلك الفتنة
(7/9)
" صفحة رقم 10 "
فأنزل الله سبحانه ) ومن الناس من يعبد الله على حرف ( أي طرف واحد وجانب في الدين لا يدخل فيها على الثبات والتمكين ، والحرف : منتهى الجسم ، وقال مجاهد : على شكّ .
وقال بعض أهل المعاني : يريد على ضعف في العبادة كضعف القائم على حرف مضطرباً فيه .
وقال بعضهم : أراد على لون واحد في الأحوال كلّها يتّبع مراده ، ولو عبدوا الله في الشكر على السرّاء والصبر على الضرّاء لما عبدوا الله على حرف .
وقال الحسن : هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه .
) فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ( صحة في جسمه وسعة في معيشته ) اطْمَأَنَّ بِهِ ( أي رضي واطمأن إليه وأقام عليه .
) وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ( بلاء في جسمه وضيق في معاشه وتعذّر المشتهى من حاله ) انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ( ارتدّ فرجع إلى وجهه الذي كان عليه من الكفر ) خَسِرَ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةَ ( وقرأ حميد الأعرج ويعقوب : خاسر الدنيا بالألف على مثال فاعل ، والآخرة خفضاً ، على الحال .
) ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ( الضرر الظاهر
الحج : ( 12 ) يدعو من دون . . . . .
) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ ( إن عصاه ) وَمَا لاَ يَنْفَعُهُ ( إن أطاعه بعد إسلامه راجعاً إلى كفره ) ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ ( ذهب عن الحق ذهاباً بعيداً .
الحج : ( 13 ) يدعو لمن ضره . . . . .
) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ ( اختلف النحاة في وجه هذه اللام فقال بعضهم : هي صلة مجازُها : يدعو من ضرّه أقرب من نفعه ، وهكذا قرأها ابن مسعود ، وزعم الفّراء والزجّاج أنّ اللام معناها التأخير تقديرها : يدعو والله لمن ضرّه أقرب من نفعه .
وقال بعضهم : هذا على التأكيد معناه : يدعو لمن ضرّه أقرب من نفعه يدعو ثم حذفت يدعو الأخيرة اجتزاء بالأُولى ، ولو قلت : تضرب لمن خيره أكثر من شرّه تضرب ، ثمّ يحذف الأخير جاز .
وحكي عن العرب سماعاً : أعطيتك لما غيره خير منه ، وعنده لما غيره خير منه .
وقيل : ( يدعو لمَنْ ضرّه ) من قوله ) ذلك هو الضلال البعيد ( ، وموضع ) ذلك ( نصب ب ( يدعو ) كأنّه قال : الذي هو الضلال البعيد يدعو ، ثم استأنف فقال : لَمَن ضرّه أقرب من نفعه ، وتكون من في محل الرفع بالابتداء وخبره ) لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ( .
وقيل : يدعو بمعنى يقول ، والخبر محذوف تقديره : لمن ضرّه أقرب من نفعه إلهه لبئس المولى الناصر ، ولبئس العشير المعاشر ، والصاحب والخليط يعني الوثن .
(7/10)
" صفحة رقم 11 "
الحج : ( 14 - 15 ) إن الله يدخل . . . . .
) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاْنْهَارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ ( اختلفوا في المعنى بالهاء التي في قوله ينصره ، فقال أكثر المفسّرين : عنى بها نبيّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال قتادة : يقول : من كان يظنّ أن لن ينصر الله نبيّه ) فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ ( بحبل ) إِلَى السَّمَاءِ ( إلى سقف البيت فليختنق به حتى يموت ) ثُمَّ ليَقْطَعْ ( الحبل بعد الاختناق ) فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ( صنيعه وحيلته ) مَا يَغِيظُ ( هذا قول أكثر أهل التأويل ، وإنّما معنى الآية : فليصوّر هذا الأمر في نفسه وليس يختم لأنّه إذا اختنق ومات لا يمكنه القطع والنظر .
قال الحسين بن الفضل : هذا كما تقول في الكلام للحاسد أو المعاند : إن لم ترض هذا فاختنق .
وقال ابن زيد : السماء في هذه الآية هي السماء المعروفة بعينها ، وقال : معنى الكلام : من كان يظن أن لن ينصر الله نبيّه ويكايده في دينه وأمره ليقطعه عنه ، فليقطع ذلك من أصله من حيث يأتيه فإنّ أصله في السماء ، فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الوحي الذي يأتيه من الله ، فإنه لا يكايده حتى يقطع أصله عنه ، فلينظر هل يقدر على إذهاب غيظه بهذا العمل .
وذُكر أنّ هذه الآية نزلت في قوم من أسد وغطفان تباطؤوا عن الإسلام وقالوا : نخاف أن لا يُنصَرَ محمد فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود فلا يميروننا ولا يؤوننا ، فقال الله لهم : من استعجل من الله نصر محمد فليختنق ، فلينظر استعجاله بذلك في نفسه هل هو مذهب غيظه ، فكذلك استعجاله من الله نصر محمد غير مقدم نصره قبل حينه .
وقال مجاهد : الهاء في ينصره راجعة إلى من ، ومعنى الكلام : من كان يظن أن لن يرزقه اللّه في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى سماء البيت فليختنق ، فلينظر هل يذهبن فعله ذلك ما يغيظ وهو خنقه أن لا يرزق ، والنصر على هذا القول : الرزق ، كقول العرب : من ينصرني نصره الله أي من يعطني أعطاه الله .
قال أبو عبيد : تقول العرب : ( أرض منصورة ) أي ممطورة كأن الله سبحانه أعطاها المطر .
وقال الفقعسي :
وإنّك لا تعطي أمرءاً فوق حقّه
ولا تملك الشقّ الذي الغيث ناصر
وفي قوله ( ما يغيظ ) لأهل العربيّة قولان :
(7/11)
" صفحة رقم 12 "
أحدهما : أنّها بمعنى الذي مجازة هل يذهبن كيده الذي يغيظه فحذف الهاء ليكون أخفّ .
والثاني : أنّها مصدر ، مجازه : هل يذهبن كيده غيظه .
الحج : ( 16 - 17 ) وكذلك أنزلناه آيات . . . . .
) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَات بَيِّنَات وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ( يعني عبدة الأوثان ، وقال قتادة : الأديان خمسة : أربعة للشيطان وواحد للرحمن . ) إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ ( يحكم ) بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ ( قال النحاة : ( إن الله ) خبر لقوله ( إنّ الذين ) كما تقول : إنّ زيداً ان الخير عنده لكثير ، كقول الشاعر :
إنّ الخليفة إن الله سربله
سربال ملك به ترجى الخواتيم
الحج : ( 18 ) ألم تر أن . . . . .
) أَلَمْ تَرَ ( بقلبك وعقلك ) أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ وَمَنْ فِي الاْرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ( .
قال مجاهد : سجودها : تحوّل ظلالها ، وقال أبو العالية : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلاّ يقع لله ساجداً حين يغيب ، ثم لا ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حين يرجع إلى مطلعه .
وقال أهل الحقائق : سجود الجماد وما لا يعقل ما فيها من ذلّة الخضوع والتسخير وآثار الصنعة والتصوير الذي يدعو العاقلين إلى السجود لله سبحانه ، كما قال الشاعر :
وفي كلّ شيء له آية
تدلّ على أنّه واحد
) وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ( بكفره وهو مع ذلك يسجد لله ظلّه ، قال مجاهد :
وقيل : يسجد لله أي يخضع له ويقرّ له بما يقتضيه عقله ويضطره إليه ، وإن كفر بغير ذلك من الأمور .
قالوا : وفي قوله ) وكثير حقّ عليه العذاب ( واو العطف .
وقال بعضهم : هو واو الاستئناف ، معناه : وكثير حق عليه العذاب بكفره وإبائه السجود .
حكى لي أبو القاسم بن حبيب عن أبي بكر بن عياش أنّه قال : في الآية إضمار مجازها : وسجد كثير من الناس ، وأبى كثير حقّ عليه العذاب .
) وَمَنْ يُهِنِ اللهُ ( أي يهنه الله ) فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ( قرأه العامة بكسر الراء ، وقرأ إبراهيم بن
(7/12)
" صفحة رقم 13 "
أبي عيلة : فماله من مكرَم بفتح الراء أي إكرام كقوله سبحانه ) أدخلني مدخل صدق ( ) وأنزلني مُنزلاً مباركاً ( أي إدخالاً وإنزالاً .
) إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (
.
) هَاذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُواْ فِى رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِى بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُواْ إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُواْ إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِى جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِىَ لِلطَّآئِفِينَ وَالْقَآئِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّن فِى النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ ( 2
الحج : ( 19 ) هذان خصمان اختصموا . . . . .
) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ( أي في دينه وأمره ، والخصم اسم شبيه بوصف المصدر فلذلك قال : اختصموا ، نظيرها ) وهل أتيك نبؤ الخصم إذتسوّروا المحراب ( .
واختلف المفسّرون في هذين الخصمين من هما ؟ فروى قيس بن عبّاد أنّ أبا ذرّ الغفاري كان يقسم بالله سبحانه أُنزلت هذه الآية في ستّة نفر من قريش تبادروا يوم بدر : حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة وعبيدة بن الحارث ، قال : وقال علي : إنّي لأوّل من يجثو للخصومة يوم القيامة بين يدي الله سبحانه وتعالى ، وإلى هذا القول ذهب هلال بن نساف وعطاء بن يسار . وقال ابن عباس : هم أهل الكتاب قالوا للمؤمنين : نحن أولى بالله وأقدم منكم كتاباً ونبيّنا قبل نبيكم ، وقال المؤمنون : نحن أحقّ بالله ، آمنّا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وآمنّا بنبيّكم وبما أنزل الله سبحانه من كتاب ، فأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تركتموه وكفرتم به حسداً ، وكان ذلك خصومتهم في ربّهم .
وقال مجاهد وعطاء أبن أبي رباح وعاصم بن أبي النجود والكلبي : هم المؤمنون والكافرون كلّهم من أىّ ملّة كانوا
(7/13)
" صفحة رقم 14 "
وقال عكرمة : هما الجنة والنار اختصمتا فقالت النار : خلقني الله سبحانه وتعالى لعقوبته ، وقالت الجنّة : خلقني الله عزّ وجلّ لرحمته ، فقد قصّ الله عليك سبحانه من خبرهما ما تسمع ، ودليل هذا التأويل ما أخبرنا أبو سعيد بن حمدون رحمه الله بقراءتي عليه قال : أخبرنا أبو حامد ابن الشرقي قال : حدَّثنا محمد بن يحيى الذهلي وعبد الرَّحْمن بن بشر العبدي وأحمد بن يوسف السلمي قالوا : حدَّثنا عبد الرزاق بن همام الحميري قال : أخبرنا معمر بن راشد عن همام بن منبه قال : هذا ما حدَّثنا أبو هريرة عن محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( تحاجّت الجنة والنار فقالت النار : أوثرتُ بالمتكبّرين المتجبّرين ، وقالت الجنة : لا يدخلني إلاّ ضعفاء الناس وسقاطهم ، فقال الله سبحانه للجنة : إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار : إنما أنتِ عذابي أُعذّب بك من أشاء من عبادي ، ولكلّ واحد منكما ملؤها ، فأما النار فإنّهم يُلقون فيها وتقول : هل من مزيد ؟ فلا تمتلئ حتى يضع الله سبحانه رجله فتقول : قط قط قط ، فهنالك تمتلئ وينزوي بعضها إلى بعض ، ولا يظلم من خلقه أحداً . وأما الجنة فإن الله ينشىء لها خلقاً ) .
ثم بيّن مآل الخصمين وحال أهل الدارين فقال سبحانه وتعالى ) فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَار ( .
قال سعيد بن جبير : ثياب من نحاس من نار ، وليس من الآنية شيء إذا حمي أشدّ حرّاً منه .
) يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ( الماء الحار .
روى أبو هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه قال : ( إنّ الحميم ليصبّ على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جنبه فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه ، وهو الصهر ثم يعاد كما كان
الحج : ( 20 ) يصهر به ما . . . . .
) يصهر ( يذاب ، يقال : صهرت الألية والشحم بالنار أذبتها ، أصهرها صهراً ، قال الشاعر :
تروي لقىً ألقى في صفصف
تصهره الشمس ولا ينصهر
ومعنى الآية : يذاب بالحميم الذي يصبّ من فوق رؤوسهم ما في بطونهم من الشحوم والأحشاء وتنشوي جلودهم منه فتتساقط .
الحج : ( 21 ) ولهم مقامع من . . . . .
) وَلَهُمْ مَقَامِعُ ( سياط ) مِنْ حَدِيد ( واحدتها مقمعة ، سمّيت بذلك لأنّها يُقمع بها المضروب أي يذلّل
(7/14)
" صفحة رقم 15 "
الحج : ( 22 ) كلما أرادوا أن . . . . .
) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمَ أُعِيدُوا فِيهَا ( ردّوا إليها .
روى الأعمش عن أبي ظبيان قال : ذُكر أنّهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش جهنم فتلقي مَن فيها إلى أعلى أبوابها فيريدون الخروج منها فيعذبهم الخزّان فيها ويعيدونهم إليها بالمقامع ويقولون لهم ) وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ( أي المحرق مثل الأليم والوجيع ، والذوق : حاسة يحصل منها إدراك الطعم ، وهو ها هنا توسّع ، والمراد به إدراكهم الآلام .
الحج : ( 23 ) إن الله يدخل . . . . .
) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاْنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَب ( وهي جمع سوار ) وَلُؤْلُؤاً ( .
قرأ عاصم وأهل المدينة ها هنا وفي سورة الملائكة : ولؤلؤاً بالنصب على معنى ويحلّون لؤلؤاً ، واستدلّوا بأنّها مكتوبة في جميع المصاحف بالألف ها هنا .
وقرأ الباقون بالخفض عطفاً على الذهب ، ثمَّ اختلفوا في وجه إثبات الألف فيه ، فقال أبو عمرو : أُثبتت الألف فيه كما أُثبتت في قالوا وكانوا ، وقال الكسائي : أثبتوها فيه للهمزة لأنَّ الهمزة حرف من الحروف ، وأمّا يعقوب فإنّه قرأها هنا بالنصب وفي سورة فاطر بالخفض رجوعاً إلى المصحف ؛ لأنّه كُتب في جميع المصاحف ها هنا بالألف وهناك بغير ألف .
) وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ }
الحج : ( 24 ) وهدوا إلى الطيب . . . . .
) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنْ الْقَوْلِ ( وهو شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وقال ابن زيد : لا إله إلاّ الله والله أكبر والحمد لله ، نظيرها قوله سبحانه ) إليه يصعد الكلم الطيب ( ) وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ( إلى دين الله .
الحج : ( 25 ) إن الذين كفروا . . . . .
) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ ( فعطف بالمستقبل على الماضي لأنّ الصدّ بمعنى دوام الصفة لهم ، ومعنى الآية : وهم يصدّون ومن شأنهم الصدّ ، نظيرها قوله ) الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ( وقيل : لفظه مستقبل ، ومعناه الماضي ، أي : وصدّوا عن سبيل الله ) وَالْمَسْجِدِ ( يعني عن المسجد ) الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ ( خلقناه وبنيناه ) لِلنَّاسِ ( كلّهم لم نخصّ منهم بعضاً دون بعض ) سَوَاءً الْعَاكِفُ ( المقيم ) فِيهِ وَالْبَادِ ( الطاري المنتاب إليه من غيره .
وقرأ عاصم برواية حفص ويعقوب برواية روح : سواء بالنصب بإيقاع الجعل عليه لأنّ الجعل يتعدّى إلى مفعولين .
وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وما بعده خبره . وتمام الكلام عند قوله ) للناس ( .
واختلف العلماء في معنى الآية : فقال قوم : سواء العاكف فيه والباد في تعظيم حرمته وقضاء النسك به وحقّ الله الواجب عليهما فيه ، وإليه ذهب مجاهد
(7/15)
" صفحة رقم 16 "
وقال آخرون : هما سواء في النزول به فليس أحدهما بأحقّ يكون فيه من الآخر . وحرّموا بهذه الآية كراء دور مكّة وكرهوا إجارتها في أيام الموسم .
قال عبد الله بن عمر : سواء أكلت محرماً أو كراء دار مكة .
وقال عبد الرَّحْمن بن سابط : كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من أهل مكة بأحقّ بمنزله منهم فكان الرجل إذا وجد سعة نزل ، ففشا فيهم السرق ، وكلّ إنسان يسرق من ناحيته فاصطنع رجل باباً فأرسل إليه عمر : اتخذت باباً من حجاج بيت الله ؟ فقال : لا ، إنّما جعلته ليحترز متاعهم وهو قوله ) سواء العاكف فيه والباد ( .
قال : البادي فيه كالمقيم ليس أحد أحقّ بمنزله من أُحد إلاّ أن يكون سبق إلى منزل ، وإلى هذا القول ذهب ابن عباس وابن جبير وابن زيد وباذان قالوا : هما سواء في البيوت والمنازل ، والقول الأول أقرب إلى الصواب .
أخبرنا الحسين بن محمد بن الحسن بقراءتي عليه قال : حدَّثنا صفوان بن الحسين قال : حدَّثنا أبو محمد بن أبي حاتم قال : سمعت أبا إسماعيل الترمذي بمكة سنة ستين ومائتين قال : سمعت إسحاق بن راهويه يقول : جالست الشافعي بمكة فتذاكرنا في كراء بيوت مكة ، وكان يرخّص فيه ، وكنت لا أرخّص فيه ، فذكر الشافعي حديثاً وسكت ، وأخذت أنا في الباب ، أسرد فلمّا فرغت منه قلت لصاحب لي من أهل مرو بالفارسية : مرد كما لاني هست قرية بمرو ، فعلم أني راطنت صاحبي بشيء هجّنته فيه ، فقال لي : أتناظر ؟ قلتُ : وللمناظرة جئت ، فقال : قال الله سبحانه وتعالى ) الذين أُخرجوا من ديارهم ( نسب الديار إلى مالكيها أو غير مالكيها . ؟
وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم فتح مكة : ( من أغلق بابه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن وهل ترك عقيل لنا من رباع ) ؟ نسب الدار إلى أربابها أو غير أربابها وقال لي : اشترى عمر ابن الخطاب ح دار السجن من مالك أو غير مالك ؟ فلمّا علمت أنّ الحجة لزمتني قمت .
) وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ ( أي في المسجد الحرام ) بِإِلْحَاد بِظُلْمٍ ( يعني إلحاداً بظلم وهو الميل إلى الظلم ، والباء فيه زائدة كقوله : تنبت بالدهن أي تنبت الدهن .
قال الفرّاء : وسمعت أعرابياً من ربيعة وسألته عن شيء فقال : أرجو بذلك يريد أرجو ذلك .
وقال الشاعر :
بواد يمان ينبت الشت صدره
وأسفله بالمرخ والشبهان
(7/16)
" صفحة رقم 17 "
أي المرخ . وقال الأعشى :
ضمنت برزق عيالنا أرماحنا
بين المراجل والصريح الأجرد
بمعنى ضمنت رزق عيالنا أرماحنا وقال آخر :
ألم يأتيك والأنباء تنمي
بما لاقت لبون بني زياد
واختلفوا في معنى الآية ، فقال مجاهد وقتادة ) ومن يرد فيه بإلحاد بظلم ( هو الشرك أن يعبد فيه غير الله سبحانه وتعالى .
وقال آخرون : هو استحلال الحرام وركوب الآثام فيه .
قال ابن مسعود : ما من رجل يهمّ بسيّئة فيكتب عليه ، ولو أنّ رجلاً بعدن أو ببلد آخر يهمّ أن يقتل رجلاً بمكّة ، أو يهمّ فيها بسيّئة ولم يعملها إلاّ أذاقه الله العذاب الأليم .
وقال ابن عباس : هو أن تقتل فيه ما لا يقتلك ، أو تظلم من لا يظلمك ، وهذا القول معنى قول الضحاك وابن زيد .
أخبرنا أحمد بن أُبي قال : أخبرنا المغيرة بن عمرو قال : حدَّثنا المفضل بن محمد قال : حدَّثنا محمد بن يوسف قال : حدَّثنا أبو قرّة قال : ذكر سفيان عن ليث عن مجاهد أنّه قال : تُضاعف السيئات بمكّة كما تضاعف الحسنات .
ابن جريج : هو استحلال الحرام متعمّداً ، عن حبيب بن أبي ثابت : احتكار الطعام بمكة ، بعضهم : هو كل شيء كان منهيّاً عنه من القول والفعل حتى قول القائل : لا والله ، وبلى والله .
وروى شعبة : عن منصور عن مجاهد عن عبد الله بن عمر أنّه كان له فسطاطان أحدهما في الحلّ والآخر في الحرم ، فإن أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الآخر ، فسئل عن ذلك فقال : كّنا نحدّث أنّ من الإلحاد فيه أن يقول الرجل : كلاّ والله وبلى والله .
الحج : ( 26 ) وإذ بوأنا لإبراهيم . . . . .
) وَإِذْ بَوَّأْنَا ( وطّأنا . قال ابن عباس : جعلنا ، الحسن : أنزلنا ، مقاتل بن سليمان : دللناه عليه ، ابن حبان : هيأنا ، نظيره ) نبوّئ المؤمنين ( ) وبوّأكم في الأرض ( وقوله ) لنبوّءنّهم من الجنّة غرفاً ( .
) لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ ( والمكان جوهر يمكن أن يثبت عليه غيره ، كما أن الزمان عرض يمكن أن يحدث فيه غيره ، وأراد بالبيت الكعبة .
(7/17)
" صفحة رقم 18 "
) أَنْ لاَ تُشْرِكْ ( يعني أمرناه وعهدنا إليه أن لا تشرك ) بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ ( يعني المصلّين ) وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (
.
) لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِىأَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الاَْنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ذالِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الاَْنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُواْ الرِّجْسَ مِنَ الاَْوْثَانِ وَاجْتَنِبُواْ قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ الرِّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ ذالِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الاَْنْعَامِ فَإِلَاهُكُمْ إِلَاهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِى الصَّلَواةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذالِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا وَلَاكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذاَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ( 2
الحج : ( 27 ) وأذن في الناس . . . . .
) وَأَذِّنْ ( يعني وعهدنا إلى إبراهيم ايضاً أن أذّنْ أي أعلِمْ ونادِ في الناس ) بِالْحَجِّ ( .
فقال إبراهيم : يا رب وما يبلغ صوتي ؟ فقال : عليك الأذان وعليّ البلاغ ، فقام إبراهيم على المقام وقيل : على جبل أبي قبيس ونادى : يا أيها الناس ألا إنّ ربّكم قد بنى بيتاً فحجّوه ، فأسمع الله ذلك من في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، وما بين المشرق والمغرب والبر والبحر ممن سبق في علم الله سبحانه أن يحجّ إلى يوم القيامة ، فأجابه : لبيك اللهم لبيك .
وقال ابن عباس : عنى بالناس في هذه الآية أهل القبلة وزعم الحسن أنّ قوله تعالى ) وأذّن في الناس بالحج ( كلام مستأنف ، وأن المأمور بهذا التأذين محمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أُمر أن يفعل ذلك في حجّة الوداع .
) يَأْتُوكَ رِجَالا ( مشاة على أرجلهم جمع راجل مثل قائم وقيام وصائم وصيام .
) وَعَلَى كُلِّ ضَامِر ( أي وركبانا ، والضامر البعير المهزول ، وإنما جمع ) يَأْتِينَ ( لمكان كلّ ، أراد النوق ) مِنْ كُلِّ فَجّ عَمِيق ( طريق بعيد .
سمعت أبا الحسن محمد بن القاسم الفقيه يقول : سمعت أبا القاسم بشر بن محمد بن
(7/18)
" صفحة رقم 19 "
ياسين القاضي يقول : رأيت في الطواف كهلاً قد أجهدته العبادة واصفرّ لونه وبيده عصا وهو يطوف معتمداً عليها ، فتقدّمت إليه وجعلت أُسائله فقال لي : من أين أنت ؟ قلت : من خراسان قال : في أي ناحية تكون خراسان ؟ كأنّه جهلها ؟ قلت : ناحية من نواحي المشرق ، فقال : في كم تقطعون هذا الطريق ؟ قلت : في شهرين وثلاثة أشهر ، قال : أفلا تحجّون كل عام فأنتم من جيران هذا البيت ؟ فقلت له : وكم بينكم وبين هذا البيت ؟ فقال : مسيرة خمس سنين ، خرجت من بلدي ولم يكن في رأسي ولحيتي شيب ، فقلت : هذا والله الجهد البيّن والطاعة الجميلة والمحبة الصادقة ، فضحك في وجهي وأنشأ يقول :
زُر مَن هويت وإنْ شطّت بك الدار
وحال من دونه حجب وأستارُ
لا يمنعك بُعدٌ من زيارته
إنّ المحبّ لمن يهواه زَوارُ
الحج : ( 28 ) ليشهدوا منافع لهم . . . . .
) لِيَشْهَدُوا ( ليحضروا ) مَنَافِعَ لَهُمْ ( يعني التجارة عن سعيد بن جبير ، وهي رواية ابن رزين عن ابن عباس قال : هي الأسواق .
مجاهد : التجارة وما يرضي الله سبحانه من أمر الدنيا والآخرة .
سعيد بن المسيب وعطية العوفي ومحمد بن علىّ الباقر : العفو والمغفرة .
) وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّام مَعْلُومَات ( يعني ذي الحجّة في قول أكثر المفسّرين ، والمعدودات أيام التشريق ، وإنّما قيل لها معدودات لأنّها قليلة ، وقيل للعشر : معلومات للحرص على علمها بحسابها من أجل أنّ وقت الحج في آخرها .
وقال مقاتل : المعلومات أيام التشريق .
محمد بن كعب : المعدودات والمعلومات واحدة .
) عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الاْنْعَامِ ( يعني الهدايا والضحايا من الإبل والبقر والغنم .
) فَكُلُوا مِنْهَا ( أمر إباحة وليس بواجب . قال المفسرون : وإنّما قال ذلك لأنّ أهل الجاهلية كانوا ينحرون ويذبحون ولا يأكلون من لحوم هداياهم شيئاً .
) وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ ( يعني الزمِن ) الْفَقِيرَ ( الذي لا شيء له
الحج : ( 29 ) ثم ليقضوا تفثهم . . . . .
) ثُمَّ ليَقْضُوا ( واختلف القرّاء في هذه اللامات فكسرها بعضهم فرقاً بين ثم والواو والفاء لأن ثمّ مفضول من الكلام ، والواو والفاء كأنهما من نفس الكلمة ، وجزمها الآخرون لأنّها كلّها لامات الأمر ) تَفَثَهُمْ ( والتفث : مناسك الحج كلّها عن ابن عمر وابن عباس
(7/19)
" صفحة رقم 20 "
وقال القرظي ومجاهد : هو مناسك الحج واخذ الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وقصّ الأظفار .
عكرمة : التفث : الشعر والظفر .
الوالبي عن ابن عباس : هو وضع الإحرام من حلق الرأس وقصّ الأظفار ولبس الثياب ونحوها . وأصل التفث في اللغة الوسخ ، تقول العرب للرجل تستقذره : ما أتفثك أي ما أوسخك وأقذرك قال أمية بن الصلت :
ساخين آباطهم لم يقذفوا تفثاً
وينزعوا عنهم قملاً وصئبانا
) وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ( قال مجاهد : نذر الحج والهدي وما ينذر الانسان من شيء يكون في الحج .
) وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( أراد الطواف الواجب وهو طواف الإفاضة والزيارة الذي يطاف بعد التعريف أمّا يوم النحر وأمّا بعده . واختلف العلماء في معنى العتيق ، فقال ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وقتادة : سمّي عتيقاً لأنّ الله سبحانه أعتقه من الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه ، فلم يظهر عليه جبار قطّ ، ولم يسلّط عليه إلاّ من يعظّمه ويحترمه .
قال سعيد بن جبير : أقبل تبّع يريد هدم البيت حتى إذا كان بقديد أصابه الفالج فدعا الأحبار فقالوا : إنّ لهذا البيت ربّاً ما قصده قاصد بسوء إلاّ حجبه عنه بمكروه فإن كنت تريد النجاة ممّا عرض لك فلا تتعرّض له بسوء .
قال : فأهدى إلى البيت كسوة وأنطاعاً فأُلبست ، وكان أوّل ما أُلبست ، ونحر عنده ألف ناقة وعفا عن أهله وبرّهم ووصلهم ، فسمّيت المطابخ لمطبخة القوم ، وكانت خيله جياداً فسميّت جياد لخيل تبّع ، وسميّت قعيقعان لقعقعة السلاح حين أقبل من المدينة .
وقال سفيان بن عيينة : سمّي بذلك لأنه لم يُملك قط ، وهي رواية عبيد عن مجاهد قال : إنما سمّي البيت العتيق لأنّه ليس لأحد فيه شيء .
ابن زيد : لأنه قديم وهو أول بيت وضع للناس ، يقال : سيف عتيق ودينار عتيق أي قديم ، وقيل : لأنه كريم على الله سبحانه ، يقول العرب : فرس عتيق .
الحج : ( 30 ) ذلك ومن يعظم . . . . .
) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ ( فيجتنب معاصيه ) فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ( .
قال ابن زيد : الحرمات : المشعر الحرام والبيت الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام ، وقيل : هي المناسك .
(7/20)
" صفحة رقم 21 "
) وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الاْنْعَامُ ( أن تأكلوها إذا ذكّيتموها ) إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ( في القرآن وهو قوله ) حُرّمت عليكم الميتة والدم ( الآية ، وقوله ) ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم الله عليه ( وقيل : وأُحلّت لكم الأنعام في حال إحرامكم إلاّ ما يتلى عليكم من الصيد فإنه حرام في حال الإحرام .
) فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الاْوْثَانِ ( يعني عبادتها لأن الأوثان كلّها رجس .
) وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ( يعني الكذب والبهتان .
قال أيمن بن حريم : قام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خطيباً فقال : ( يا أيها الناس عدلت شهادة الزور الشرك بالله ، ثمَّ قرأ هذه الآية ) .
وقال بعضهم : هو قول المشركين في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك ، تملكه وما ملك .
الحج : ( 31 ) حنفاء لله غير . . . . .
) حُنَفَاءَ ( مستقيمين مخلصين ) للهِ ( وقيل : حجاجاً غير مشركين به ) وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ ( أي سقط إلى الأرض ) فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ ( والخطف والاختطاف تناول الشيء بسُرعة ، وقرأ أهل المدينة فتخَطّفه بفتح الخاء وتشديد الطاء أي تتخَطَّفه فأُدغم ، وتصديق قراءة العامة قوله تعالى ) إلا من خطف الخطفة ( ) أَوْ تَهْوِي ( تميل وتذهب ) بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَان سَحِيق ( بعيد .
قال أهل المعاني : إنما شبّه حال المشرك بحال الهاوي في أنه لا يملك لنفسه نفعاً ولا دفع ضر يوم القيامة .
وقال الحسن : شبّه أعمال الكفّار بهذه الحال في أُنها تذهب وتبطل ، فلا يقدرون على شيء منها .
الحج : ( 32 ) ذلك ومن يعظم . . . . .
) ذَلِكَ ( الذي ذكرت من اجتناب الرجس والزور وتعظيم شعائر الله ) مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ( هذا معنى الآية ونظمها : وشعائر الله : الهدي والبُدن ، وأصلها من الإشعار وهو إعلامها لتعرف أنها هدي فسمّيت به ، وتعظيمها استعظامها واستحسانها واستسمانها .
الحج : ( 33 ) لكم فيها منافع . . . . .
) لَكُمْ فِيهَا ( أي في الهدايا ) مَنَافِعُ ( قيل : أن يسمّيها صاحبها بدنة أو هدياً ويشعرها ويقلدّها في رسلها وأصوافها وأوبارها وركوب ظهورها
(7/21)
" صفحة رقم 22 "
) إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ( وهو أن يسمّيها هدياً ويوجبها ، فإذا فعل ذلك لم يكن له من منافعها شيء ، هذا قول مجاهد وعطاء والضحاك وقتادة ، ورواية مقسم عن ابن عباس ، وقيل : معناه : لكم في هذه الهدايا منافع بعد إنجابها وتسميتها هدياً بأن تركبوها إذا احتجتم إليها وتشربوا ألبانها إن اضطررتم إليها ، إلى أجل مسمّى يعني إلى أن تُنحر ، وهذا قول عطاء بن أبي رباح .
وقال بعضهم : أراد بالشعائر المناسك ومشاهد مكة ، ومعنى الآية : لكم فيها منافع بالتجارة والأسواق إلى أجل مسمّى وهو الخروج من مكة ، وهذه رواية أبي ذر عن ابن عباس .
وقال بعضهم : لكم فيها منافع بالأجر والثواب في قضاء المناسك وإقامة شعائر الحج إلى أجل مسمى وهو انقضاء أيام الحج .
) ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ( أي منحرها عند البيت العتيق يعني أرض الحرم كلّها ، نظيرها قوله سبحانه ) فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ( أي الحرم كلّه ، وقال الذين قالوا : عنى بالشعائر المناسك ، معنى الآية : ثم محلّ الناس من إحرامهم إلى البيت العتيق أن يطوفوا به طواف الزيارة يوم النحر بعد قضاء المناسك .
الحج : ( 34 ) ولكل أمة جعلنا . . . . .
) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ ( جماعة مؤمنة سلفت قبلكم ) جَعَلْنَا مَنْسَكاً ( اختلف القرّاء فيه فقرأ أهل الكوفة إلاّ عاصماً بكسر السين في الحرفين على معنى الاسم مثل المجلس والمطلع أي مذبحاً موضع قربان ، وقرأ الآخرون بفتح السين فيهما على المصدر مثل المدخل والمخرج أي إهراق الدماء وذبح القرابين .
) لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الاْنْعَامِ ( عند ذبحها ونحرها ، وإنّما خصّ بهيمة الأنعام لأنَّ من البهائم ما ليس من الأنعام كالخيل والبغال والحمير ، وإنما قيل بهائم لأنها لا تتكلم .
) فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّر الْمُخْبِتِينَ ( قال ابن عباس وقتادة : المتواضعين ، مجاهد : المطمئنّين إلى الله سبحانه ، الأخفش : الخاشعين ، ابن جرير : الخاضعين ، عمرو بن أوس : هم الذين لا يَظلمون ، وإذا ظُلموا لم ينتصروا .
الحج : ( 35 - 36 ) الذين إذا ذكر . . . . .
) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقيِمىِ الصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالْبُدْنَ ( أي الإبل العظام الضخام الأجسام ، وتخفّف وتثقّل واحدتها بدنة مثل تمرة وتمر وخشبة وخشب وبادن مثل فاره وفره ، والبدن هو الضخم من كلّ شيء ومنه قيل لامرئ القيس بن النعمان صاحب الخورنق والسدير : البدن لضخمه ، وقد بدُن الرجل بدناً وبدانةً إذا ضخم ، فأما إذا أشفى واسترخى قيل : بدّن تبديناً .
وقال عطاء والسدّي : البدن : الإبل والبقر .
(7/22)
" صفحة رقم 23 "
) جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ ( أي أعلام دينه إذا أُشعر ) لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ( النفع في الدنيا ، والأجر في العقبى ) فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا ( عند نحرها ، قال ابن عباس : هو أن تقول : الله أكبر لا إله إلاّ الله والله أكبر ، اللهمّ منك ولك .
) صَوَافَّ ( أي قياماً على ثلاث قوائم قد صفّت رجليها وإحدى يديها ويدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك .
روى يعلى بن عطاء عن يحيى بن سالم قال : رأيت ابن عمر وهو ينحر بدنته فقال : صوافّ كما قال الله سبحانه ، فنحرها وهي قائمة معقولة إحدى يديها .
وقال مجاهد : الصواف إذا عقلت رجلها اليسرى وقامت على ثلاث وتنحر كذلك .
وقرأ ابن مسعود : صوافن وهي المعقلة تعقل يد واحدة ، وكانت على ثلاث وتنحر ، وهو مثل صواف .
وقرأ أُبيّ : صوافي وهكذا أيضاً مجاهد وزيد بن أسلم بالياء أي صافية خالصة لله سبحانه لا شريك له فيها كما كان المشركون يفعلون .
) فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ( أي سقطت بعد النحر فوقعت جنوبها على الأرض .
وقال ابن زيد : فإذا ماتت ، وأصل الوجوب الوقوع ، يقال : وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب ، ووجب الفعل إذا وقع ما يلزم به فعله .
) فَكُلُوا مِنْهَا ( أمر إباحة ورخصة مثل قوله سبحانه ) وإذا حللتم فاصطادوا ( وقوله سبحانه وتعالى ) فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ( .
) وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ( اختلفوا في معناهما ، فروى العوفي عن ابن عباس وليث عن مجاهد أنّ القانع الذي يقنع بما أُعطي ، ويرضى بما عنده ولا يسأل ، والمعترّ : الذي يمرّ بك ويتعّرض لك ولا يسأل .
عكرمة وابن ميثم وقتادة : القانع : المتعفف الجالس في بيته ، والمعترّ : السائل الذي يعتريك ويسألك ، وهي رواية الوالبي عن ابن عباس .
حصيف عن مجاهد ، القانع : أهل مكة وجارك وإن كان غنّياً ، والمعتّر الذي يعتريك ويأتيك فيسألك ، وعلى هذه التأويلات يكون القانع من القناعة وهي الرضا والتعفّف وترك السؤال .
سعيد بن جبير والكلبي : القانع : الذي يسألك ، والمعترّ : الذي يتعرّض لك ويريك نفسه
(7/23)
" صفحة رقم 24 "
ولا يسألك ، وعلى هذا القول يكون القانع من القنوع وهو السؤال . قال الشماخ :
لمال المرء يصلحه فيغني
مفاقره أعفّ من القنوع
وقال لبيد :
واعطاني المولى على حين فقره
إذا قال أبصر خلّتي وقنوعي
وقال زيد بن أسلم : القانع : المسكين الذي يطوف ويسأل ، والمعترّ : الصديق الزائر الذي يعترّ بالبدن .
ابن أبي نجيح عن مجاهد : القانع : الطامع ، والمعتر : من يعتر بالبدن من غنّي أو فقير .
ابن زيد : القانع : المسكين ، والمعترّ الذي يعترّ القوم للحمهم وليس بمسكين ولا يكون له ذبيحة ، يجيء إلى القوم لأجل لحمهم .
وقرأ الحسن : والمعتري وهو مثل المعتر ، يقال : عراه واعتراه إذا أتاه طالباً معروفه .
) كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (
الحج : ( 37 ) لن ينال الله . . . . .
) لَنْ يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا ( وذلك أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن لطّخوا حيطان الكعبة بدمائها فأنزل الله سبحانه ) لن ينال الله ( أي لن يصل إلى الله ) لحومها ولا دماؤها ( ) وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ( أي النيّة وإلاخلاص وما أُريد به وجه الله عزّ وجلّ ، وقرأ يعقوب تنال وتناله بالتاء ، غيره : بالياء .
) كَذَلِكَ ( هكذا ) سَخَّرَهَا ( يعني البدن ) لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ( لإعلام دينه ومناسك حجّه وهو أن يقول : الله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أبلانا وأولانا .
( ) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِى الاَْرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَآتَوُاْ الزَّكَواةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الاُْمُورِ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ
(7/24)
" صفحة رقم 25 "
فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الاَْرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ ءَاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاَْبْصَارُ وَلَاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ( 2
الحج : ( 38 ) إن الله يدافع . . . . .
) إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ ( مكي وبصري : يدفع ، غيرهم : يدافع ، ومعناه : إنّ الله يدفع غائلة المشركين .
) عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ ( في أمانة الله ) كَفُور ( لنعمته .
الحج : ( 39 ) أذن للذين يقاتلون . . . . .
) أُذِنَ ( قرأ أهل المدينة والبصرة وعاصم أُذن بضم الألف ، وقرأ الباقون بفتحه أي أذن الله ) لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ ( قرأ أهل المدينة والشام بفتح التاء يعنون المؤمنين الذين يقابلهم المشركون ، وقرأ الباقون بكسر التاء يعني إنّ الذين أُذن لهم بالجهاد يقاتلون المشركين ) بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ( .
قال المفسّرون : كان مشركو أهل مكة يؤذون أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلا يزالون يجيئون من بين مضروب ومشجوج ، فيشكونهم إلى رسول الله فيقول لهم : اصبروا فإنّي لم أُؤمر بالقتال حتى هاجر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية وهي أول آية أذن الله فيها بالقتال .
وقال ابن عباس : لما أُخرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيّهم ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، لنهلكنّ ، فأنزل الله سبحانه ) أُذن للذين يقاتلون ( الآية ، قال أبو بكر : فعرفت أنّه سيكون قتال .
وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة إلى المدينة فكانوا يمنعون من الهجرة ، فأذن الله تعالى لهم في قتال الكفّار الذين يمنعونهم من الهجرة .
الحج : ( 40 ) الذين أخرجوا من . . . . .
) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقَ ( بدل من الذين الأُولى ، ثمّ قال ) إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ ( يعني لم يخرجوا من ديارهم إلاّ لقولهم ربّنا الله وحده ، فيكون أنْ في موضع الخفض رّداً على الباء في قوله ) بغير حقّ ( ويجوز أنْ يكون في موضع نصب على وجه الاستثناء .
) وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْض ( بالجهاد وإقامة الحدود وكفّ الظلم ) لَهُدِّمَتْ ( قرأ الحجازيّون بتخفيف الدال ، والباقون بالتشديد على الكسر أي تخرّبت ) صَوَامِعُ ( قال مجاهد والضحاك : يعني صوامع الرهبان ، قتادة : صوامع الصابئين .
) وَبِيَعٌ ( النصارى ، ابن أبي نجيح عن مجاهد : البيع : كنائس اليهود ، وبه قال ابن زيد
(7/25)
" صفحة رقم 26 "
) وَصَلَوَاتٌ ( قال ابن عباس وقتادة والضحاك : يعني كنائس اليهود و يسمّونها صَلُوتاً . أبو العالية : هي مساجد الصابئين .
ابن أبي نجيح عن مجاهد : هي مساجد لأهل الكتاب ولأهل الإسلام بالطريق ، وعلى هذه الأقاويل تكون الصلوات صلوات أهل الإسلام تنقطع إذا دخل عليهم العدوّ ، انقطعت العبادة وهُدمت المساجد كما صنع بخت نصّر .
) وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً ( يعني مساجد المسلمين ، وقيل : تأويلها : لهدمت صوامع وبيع في أيام شريعة عيسى ، وصلوات في أيام شريعة موسى ، ومساجد في أيام شريعة محمد صلّى الله عليهم أجمعين .
وقال الحسن : يدفع عن هدم مصليات أهل الذّمة بالمؤمنين ، فإن قيل : لم قدّم مصليات الكافرين على مساجد المسلمين ؟ قلنا : لأنها أقدم ، وقيل : لقربها من الهدم ، وقرب المساجد من الذكر كما أخّر السابق في قوله ) فمنهم ظالم لنفسه ( لقربه من الخيرات .
) وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ ( أي ينصر دينه ونبيّه .
) إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ }
الحج : ( 41 ) الذين إن مكناهم . . . . .
) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الاْرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ ( قال قتادة : هم أصحاب محمد ، عكرمة : أهل الصلوات الخمس ، الحسن وأبو العالية : هذه الأُمة .
) وَللهِ عَاقِبَةُ الاْمُورِ ( آخر أُمور الخلق ومصيرهم إليه .
الحج : ( 42 - 44 ) وإن يكذبوك فقد . . . . .
) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ ( يا محمد ) فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوح وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوط وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ( أمهلتهم ) ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ( عاقبتهم ) فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ( إنكاري بالعذاب والهلاك ، يعزّي نبيّه ( صلى الله عليه وسلم ) ويخّوف مخالفيه .
الحج : ( 45 ) فكأين من قرية . . . . .
) فَكَأَيِّنْ ( وكم ) مِنْ قَرْيَة أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ( يعني وأهلها ظالمون ، فنسب الظلم إليها لقرب الجوار .
) فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا ( ساقطة على سقوفها ) وَبِئْر مُعَطَّلَة ( متروكة مخلاّة عن أهلها ) وَقَصْر مَشِيد ( قال قتادة والضحّاك ومقاتل : رفيع طويل ، ومنه قول عدي
(7/26)
" صفحة رقم 27 "
شاده مرمراً وجلّله كلساً
فللطّير في ذراه وكور
أي رفعه .
وقال سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعكرمة : مجصّص ، من الشيد وهو الجصّ ، قال الراجز :
كحبّة الماء بين الطىّ والشيد
وقال امرؤ القيس :
وتيماء لم يترك بها جذع نخلة
ولا أجماً إلاّ مشيداً بجندل
أي مبنيّاً بالشيد والجندل .
وروى أبو روق عن الضحاك أنّ هذه البئر كانت بحضرموت في بلدة يقال لها حاصورا وذلك أنَّ أربعة آلاف نفر ممّن آمن بصالح ونجوا من العذاب أتوا حضرموت ومعهم صالح ، فلمّا حضروه مات صالح ، فسمّي حضرموت لأن صالحاً لمّا حضره مات ، فبنوا حاصورا وقعدوا على هذه البئر وأمّروا عليهم رجلاً يقال له بلهنس بن جلاس بن سويد ، وجعلوا وزيره سنحاريب بن سواده ، فأقاموا دهراً وتناسلوا حتى نموا وكثروا ، ثم أنَّهم عبدوا الأصنام فكفروا فأرسل الله إليهم نبيّاً يقال له حنظلة بن صفوان كان حمالاً فيهم فقتلوه في السوق ، فأهلكهم الله وعطّلت بئرهم وخرّبت قصورهم .
الحج : ( 46 ) أفلم يسيروا في . . . . .
) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الاْرْضِ ( يعني كفّار مكة فينظروا إلى مصارع المكذّيبن من الأُمم الخالية .
) فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ( يعلمون بها ) أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ( فيتفكروا ويعتبروا .
) فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ( تأكيد ، كقوله سبحانه ) ولا طائر يطير بجناحيه ( وقوله تعالى ) يقولون بأفواههم ( .
قال ابن عباس ومقاتل : لمّا نزل ) ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخره أعمى ( جاء ابن أم مكتوم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) باكياً فقال : يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى ؟ فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية .
الحج : ( 47 ) ويستعجلونك بالعذاب ولن . . . . .
) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ( نزلت في النضر بن الحرث .
(7/27)
" صفحة رقم 28 "
) وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ ( فأنجز ذلك يوم بدر .
) وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَة مِمَّا تَعُدُّونَ ( بالياء مكي كوفي غير عاصم ، غيرهم : بالتاء .
وقال ابن عباس : هي من الأيام التي خلق الله سبحانه فيها السموات والأرض .
مجاهد وعكرمة : من أيام الآخرة .
ابن زيد : في قوله ) وإنّ يوماً عند ربك كألف سنة ممّا تعدّون ( قال : هذه أيام الآخرة . وفي قوله ) تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ( قال : هو يوم القيامة .
وقال أهل المعاني : معنى الآية : وإنّ يوماً عند ربّك من أيام العذاب الذي استعجلوه في الثقل والاستطالة والشدّة كألف سنة ممّا تعدون فكيف تستعجلوه ؟ وهذا كما يقال : أيام الهموم طوال وأيام السرور قصار .
2 ( ) وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ قُلْ ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْاْ فِىءَايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِىٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِىأُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءَايَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِى جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَاياتِنَا فَأُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُواْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ذالِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( 2
الحج : ( 48 - 51 ) وكأين من قرية . . . . .
) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَة أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا ( أي
(7/28)
" صفحة رقم 29 "
عملوا في إبطال آياتنا ) مُعَاجِزِينَ ( أي مغالبين مشاقّين قال ابن عباس ، الأخفش : متأنّفين ، قتادة : ظنّوا أنّهم يعجزون الله فلا يقدر عليهم ولن يعجزوه .
وقرأ ابن كثير وأبو عمر : معجّزين بالتشديد أي مثبّطين الناس عن الإيمان ، ومثله في سورة سبأ .
) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول وَلاَ نَبِىّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى ( .
قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسّرين : لمّا رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تولّي قومه عنه وشقّ عليه ما رأى من مباعدتهم عمّا جاءهم به من الله سبحانه تمنّى في نفسه أن يأتيه من الله تعالى ما يقارب بينه وبين قومه ، وذلك لحرصه على إيمانهم ، فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش كثير أهله ، فأحبّ يومئذ ألاّ يأتيه من الله تعالى شيء فينفروا عنه ، وتمنى ذلك فأنزل الله سبحانه سورة ) والنجم إذا هوى ( فقرأها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى بلغ ) أفرأيتم اللات والعزّى ومناة الثالثة الاخرى ( ألقى الشيطان على لسانه لمّا كان يحدث به نفسه ويتمناه : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهنّ لترتجى .
فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ، ومضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قراءته فقرأ السورة كلّها وسجد في آخر السورة فسجد المسلمون بسجوده ، وسجد جميع من في المسجد من المشركين ، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلاّ سجد إلاّ الوليد بن المغيرة وأبو أُحيحة سعيد بن العاص فإنهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها لأنّهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود ، وتفرّقت قريش وقد سرّهم ما سمعوا وقالوا : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر ، وقالوا : قد عرفنا أنّ الله يحيي ويميت ويخلق ويرزق ولكن آلهتنا هذه تشفع لنا عنده ، فإذا جعل لها محمد نصيباً فنحن معه ، فلمّا أمسى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أتاه جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا محمد ماذا صنعت ؟ لقد تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله ، وقلت ما لم يقل لك ، فحزن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عند ذلك حزناً شديداً وخاف من الله خوفاً كبيراً فأنزل الله سبحانه هذه الآية .
وسمع بذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بلغهم سجود قريش ، وقيل : قد أسلمت قريش وأهل مكة فرجع أكثرهم إلى عشائرهم وقالوا : هم أحبُّ إلينا فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما ألقى الشيطان ، فلمّا نزلت هذه الآية قالت قريش : ندم محمد على ما ذكر من منزلة آلهتنا عند الله ، فغيّر ذلك وجاء بغيره ، وكان ذانك الحرفان اللذان ألقى
(7/29)
" صفحة رقم 30 "
الشيطان على لسان رسول الله ( عليه السلام ) قد وقعا في فم كلّ مشرك فازدادوا شرّاً إلى ما كانوا عليه وشدة على من أسلم .
الحج : ( 52 ) وما أرسلنا من . . . . .
) وما أرسلنا من قبلك من رسول ( وهو الذي يأتيه جبرئيل بالوحي عياناً وشفاهاً ) ولا نبي ( وهو الذي تكون نبوّته إلهاماً أو مناماً ) إلاّ إذا تمنى ( أي أحبَّ شيئاً واشتهاه وحدّث به نفسه ما لم يؤمر به .
) أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ( أي مراده ووجد إليه سبيلاً ، وقال أكثر المفسرين : يعني بقوله : تمنى أي تلا وقرأ كتاب الله سبحانه ) القي الشيطان في أُمنيّته ( أي قراءته ، وتلاوته ، نظيره قوله سبحانه ) لا يعلمون الكتاب إلاّ أمانيّ ( يعني قراءة يقرأ عليهم .
وقال الشاعر في عثمان ح حين قتل :
تمنّى كتاب الله أوّل ليلة
وآخره لاقى حمام المقادر
وسمعت أبا القاسم الحبيب يقول : سمعت أبا الحسن علي بن مهدي الطبري يقول : ليس هذا التمنّي من القرآن والوحي في شيء وإنّما هو أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا صفرت يده من المال ورأى ما بأصحابه من سوء الحال تمنّى الدنيا بقلبه وسوسة من الشيطان .
وقال الحسن : أراد بالغرانيق العلى الملائكة يعني أنَّ الشفاعة ترتجى منهم لا من الأصنام ، وهذا قول ليس بالقوي ولا بالمرضىّ لقوله ) فَيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ( أي يبطله ويذهبه ) ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ ( فيثبتها ) وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( .
فإن قيل : فما وجه جواز الغلط في التلاوة على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فعنه جوابان :
أحدهما : أنّه على سبيل السهو والنسيان وسبق اللسان فلا يلبث أن ينبّهه الله سبحانه ويعصمه .
والثاني : أنَّ ذلك إنّما قاله الشيطان على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في أثناء قراءته وأوهم أنّه من القرآن وأنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هو الذي يتلوه ،
الحج : ( 53 ) ليجعل ما يلقي . . . . .
قال الله سبحانه ) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ( فيشكّون في ذلك .
) وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ( فلا تلين لأمر الله ) وَإِنَّ الظَّالِمِينَ ( الكافرين ) لَفِي شِقَاق بَعِيد }
الحج : ( 54 ) وليعلم الذين أوتوا . . . . .
) وَلِيَعْلَمَ
(7/30)
" صفحة رقم 31 "
الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ( من المؤمنين ) أَنَّهُ ( يعني أنّ الذي أحكم الله سبحانه من آيات القرآن ) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم }
الحج : ( 55 ) ولا يزال الذين . . . . .
) وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَة مِنْهُ ( أي ممّا ألقى الشيطان على لسان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
ابن جريج : من القرآن ، غيره : من الدين وهو الصراط المستقيم .
) حَتَّى تَأْتِيَهُمْ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْم عَقِيم ( قال عكرمة والضحّاك : عذاب يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة .
وقال الآخرون : هو يوم بدر وهو الصواب لأنّ الساعة هي القيامة ، ولا وجه لأنْ يقال : حتى تأتيهم القيامة وإنّما سمّي يوم بدر عقيماً لأنّهم لم يُنظَروا فيه إلى الليل ، بل قتلوا قبل المساء قاله ابن جريج ، غيره : لأنّه لم يكن فيه رأفة ولا رحمة ، وقيل : لأنّه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه .
الحج : ( 56 ) الملك يومئذ لله . . . . .
) الْمُلْكُ يَوْمَئِذ ( يعني يوم القيامة ) للهِ ( وحده من غير منازع ، ولا مدّع ، والملك هو اتّساع المقدور لمن له تدبير الأُمور ، والله سبحانه وتعالى هو الذي يملك الأُمور كلّها ، وكلّ ملك سواه فهو مملّك بحكمه وإذنه .
) يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ( ثم بيّن حكمه فقال عزَّ من قائل ) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }
الحج : ( 57 - 58 ) والذين كفروا وكذبوا . . . . .
) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ( أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم في طاعة الله سبحانه وطلب رضاه ) ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا ( وهم كذلك ) لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً ( في الجنة ) وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ( وقيل : هو قوله سبحانه ) بل أحياءٌ عند ربهم يرزقون ( .
روى ابن وهب عن عبد الرَّحْمن بن الحجاج بن سلامان بن عامر قال : كان فضالة بن دوس أميراً على الأرباع ، فخرج بجنازتي رجلين : أحدهما قتيل والآخر متوفّى ، فرأى ميل الناس مع جنازة القتيل إلى حفرته فقال : أراكم أيّها الناس تميلون مع القتيل وتفضلّونه على أخيه المتوفّى فوالذي نفسي بيده ما أُبالي من أىّ حفرتها بعثت ، إقرؤوا قول الله سبحانه ) والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقاً حسناً وإنَّ الله لهو خير الرازقين ( .
الحج : ( 59 - 60 ) ليدخلنهم مدخلا يرضونه . . . . .
) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ( نزلت في قوم من المشركين لقوا قوماً من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرّم ، فكره المسلمون قتال المشركين وسألوهم أن يكفّوا عن القتال من أجل الأشهر الحرم
(7/31)