الكتاب : الكشف والبيان ـ موافق للمطبوع
المؤلف: أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي النيسابوري
دار النشر : دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان - 1422 هـ - 2002 م
الطبعة : الأولى
عدد الأجزاء / 10
تحقيق : الإمام أبي محمد بن عاشور
مراجعة وتدقيق الأستاذ نظير الساعدي
[ ترقيم الشاملة موافق للمطبوع ]
" صفحة رقم 33 "
اللَّه والمؤمنين إلا قرار كقوله : ) قالوا شهدَّنا على أنفسنا ( أي أقررنا فنسق شهادة الملائكة ، ) وأولوا العلم ( على شهادة اللَّه تعالى .
والشهادتان مختلفتان معنى لا لفظاً كقوله عزَّ وجل : ) إنَّ اللَّه وملائكتهُ يصلَّون على النبي يا آيها الذَّين آمنوا صلَّوا عليه ( والصلاة من اللَّه ( الرحمة ) ومن الملائكة ( الاستغفار والدعاء ) ، وأولوا العلم : يعني الانبياء ( عليهم السلام ) .
وقال ابن كيسان : يعني المهاجرين والأنصَّار .
مقاتل : مؤمني أهل الكتاب ، عبد اللَّه بن سلام : وأصحابه : نظيره قوله : ) إنَّ الذَّين أوتوا العلم ( ، وقوله : ) ومَنْ عندهُ علم الكتاب ( .
وقال السدي والكلبي : يعني علماء المؤمنين كلهم . فقرّب اللَّه تعالى شهادة العلماء بشهادته ؛ لأن العلم صفة اللَّه العليا ونعمته العظمى . والعلماء أعلام الإسلام والسابقون إلى دار السلام وسرج الامكنة وحجج الأزمنة .
وروى صفوان عن سُليم عن جابر بن عبد اللَّه ، قال : قال رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( ساعة من عالم متّكئ على فراشهِ ينظر في علمهِ خير من عبادة العابد سعبين عاماً ) .
المسيب بن شريك عن حميد الطويل عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( تعلَّموا العلم ؛ فإنَّ تعلَّمهُ للَّهِ حسنة ، ومدارسته تسبيح ، والبحث عنهُ جهاد ؛ وتعليمهُ من لا يعلمهُ صدقة ، وتذكره لأهله قربة ؛ لأنه معالم الحلال والحرام ، ومنار سبل الجنة والنار ، والأنيس في الوحشة والصاحب في الغربة ، والميراث في الخلوة ، والدليل على السرَّاء والضرَّاء ، والسلاح على الأعداء ، والقرب عند الغرباء ، يرفع اللَّه به أقواماً ويجعلهم في الخير قادةً يُقتدى بهم ، ويُبيّن اثارهم ، ويرموا أعمالهم ، ويُنهى إلى رأيهم ، وترغب الملائكة في خلتهم ، وبأجنحتها تمسحهم ، وفي صلواتهم تستغفر لهم ، وكل رطب ويابس يستغفر لهم حتى حيتان البحر وسباع الأرض وأنعامها والسماء ونجومها ، ألا فإن العلم خير أنقاب عن الصمى ، ونور الأبصار من الظلم ، وقوة الأبدان من الضعف ، يبلغ بالعبد منازل الأحرار ، ومجالس الملوك ، والفكرُ فيه يُعدل بالصيام ومدارسته بالقيام ، به يُعرف الحلال والحرام ، وبه توصَّل الأرحام ، إمام العمل والعقل تابعهُ ، يُلهم السعد أو يُحرم إذا شقى )
(3/33)

" صفحة رقم 34 "
) قائماً بالقسْط ( : أي بالعدل ونظام الآية ( شهد اللَّه قائماً بالقسط ) . وهو نصب على الحال .
وقال الفرّاء : هو نصب على القطع كأن أصله القائم ، وكذلك هو في ( عبد اللَّه ) فلما قطعت الألف واللام نصب لقوله تعالى : ) وله الدين واصباً ( .
وقال أهل المعاني في قوله : ) قائماً بالقسط ( : أي مدبّر ، رازق ، مُجازي بالاعمال كما يقال : فلان قائم بأمري : أي مدبّر له متعهد لأسبابه ، وقائم بحق فلان : أي بحاله .
) لآ إلاه إلاَّ هُوَ العزيز الحكيم ( : كرّر ؛ لأنّ الأولى حلت محل الدعوى ، والشهادة الثانية حلت في محل الحكم .
وقال جعفر الصَّادق : الأُولى ( وصف وتوحيد ) والثانية رسمٌ وتعليم يعني قولوا : ) لا إلاه إلا هو العزيز الحكيم ( .
آل عمران : ( 19 ) إن الدين عند . . . . .
) إنَّ الديَّن عند اللَّه الإسلام ( : يعني ( بالدين الطاعة والملّة ) لقوله : ) ورضيتُ لكم الإسلام ديناً ( .
وفتح الكسائي ومحمد بن عيسى الاصفهاني ألف ( إنَّ ) رداً على ( أنَّ ) الأُولى في قوله : ) شهد اللَّه أنَّهُ ( يعني : شهد اللَّه أنَّه ، وشهد أن الدين عند اللَّه الإسلام ، وكسر الباقون على الإبتداء . والإسلام ( من السلم : الإيمان و ) الطاعة يُقال : أسلم أي : دخل في السلم . وذلك كقولهم : استى وأربع وأمحط واخبت : أي دخل فيها .
سفيان : قال قتادة : في قولهِ : ) إن الدين عند اللَّه الإسلام ( قال : ( شهادة ) أن لا إلاه إلا اللَّه . والإقرار بأنَّها من عند اللَّه ، وهو دين اللَّه الذي شرع لنفسهِ ، وبعث به رسله ودلَّ عليه أولياءه ولا يُقبل غيره ولا جزى إلاَّ بهِ .
) وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ( الآية ، قال الربيع : إنَّ موسى ( عليه السلام ) لما حضرته الوفاة دعا سبعين حبراً من أحبار بني إسرائيل ، واستودعهم التوراة ، وجعلهم أمناء عليها ، واستخلف يوشع بن نون .
فلمّا مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم ، وهم الذين أوتوا الكتاب من أبْنَاء أولئك السبعين حتى أوقعوا بينهم الدماء ، ووقع الشر والإختلاف وذلك ) من بعد ما جاءهم العلم ( يعني : بيان ما في التوراة ) بغياً بينهم ( : أن طلبها للملك والرئاسة والتحاسد والمناقشة ؛ فسلط اللَّه عليهم الجبابرة .
(3/34)

" صفحة رقم 35 "
وقال بعضهم : أراد ) وما أختلف الذين أوتوا الكتاب ( : في نبوة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم ، يعني : بيان نعته وصفته في كتبهم .
وقال محمد بن جعفر عن الزبير : نزلت هذه الآية في نصارى نجران ومعناها : ) وما أختلف الذين أتوا الكتاب ( هو الإنجيل في أمر عيسى ( عليه السلام ) ، وفرَّقوا القول فيه إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم ، بأن اللَّه واحد ، وأنَّ عيسى عبدهُ ورسوله ) بغياً بينهم ( : أي للمعاداة والمخالفة .
) ومن يكفر بآيات اللَّه فإن اللَّه سريع الحساب ( : لا يحتاج إلى عقد وقبض يد .
وقال الكلبي : نزلت في يهوديين تركوا اسم الإسلام وتسمَّوا باليهودية والنصرانية ، قال اللَّه تعالى : ) وما أُختلف الذين أُوتو الكتاب إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم ( قال : دين اللَّه هو الإسلام بغياً منهم فلمّا وجدا نظيره قوله : ) وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلاَّ من بعد ما جاءتهم البينة ( فقالت اليهود والنصارى : لسنا على ما سميتنا بهِ يا محمد إنَّ اليهودية والنصرانية سبّ هو الشرك ، والدين هو الإسلام ونحن عليه .
آل عمران : ( 20 ) فإن حاجوك فقل . . . . .
) فإنْ حاجّوك ( : خاصموك يا محمد في الدين ، ) فَقُلْ أسلمتُ وجهي ( : أي انقدت ( لأمر الله ) ) للهِ ( : وحده بقلبي ولساني وجميع جوارحي ، إنَّما خص الوجه لإنَّهُ ؛ أكرم جوارح الإنسان ، وفيه بهاؤه وتعظيمه ، فإذا خضع وجهه لشيء فقد خضع له سائر جوارحه التي هي دون وجهه .
وقال الفرّاء : معناه أخلصت عملي للَّه .
يُقال : أسْلمت الشيء لفلان وسلمتهُ له ، أي دفعته إليه ( . . . . . . ) ومن هذا يُقال : أسلمتُ الغلام إلى ( . . . . ) وفي صناعة كذا . أي أخلصت لها .
والوجه : العمل كقوله : ) يريدون وجهه ( : أي قصده وعمله . وقوله : ) إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ( ) ومن اتبعني ( : ( من ) في محل الرفع عطفاً على التاء في قوله : ) أسلمت ( أي : ومن اتبعني أسْلم كما أسلمت .
وأثبت بعضهم ياء قوله : ) اتبعني ( على الأصل ، وحذفهُ الآخرون على لفظ ينافي المصحف ( إذا وقعت فيه بغير ياء ) . وأنشد :
(3/35)

" صفحة رقم 36 "
كفاك كفَّ ما تليق درهماً
جوداً وأخرى تعط بالسيف دماً
وقال آخر :
ليس تخفى يسارتي قدر يوم
ولقد يخفِ شيمتي إعساري
) وقُل للذين أُوتوا الكتاب والأميين ( : يعني العرب ( ءأسْلمتم ) : لفظ استفهام ومعناهُ أمر ، أي أسلموا كقوله :
) فهل أنتم منتهون ( : أي نهوا ، ) فإنْ أسْلموا فقد اهتدوا ( : فقرأ رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية ، فقال أهل الكتاب : أسلمنا . فقال للنصارى : أتشهدون أنَّ عيسى كلمة من اللَّه وعبدهُ ورسوله ، فقالوا : معاذ اللَّه .
وقال لليهود : إنّ عزير هو عبدالله ورسوله ، قالوا : معاذ الله فذلك قوله : ) فإن تولّوا فإنّما عليك البلاغ ( . 5 بتبليغ الرسالة ، ) واللَّه بصير بالعباد ( : عالم بمن يؤمن بالله ومن لا يؤمن باللهِ وبأهل الثواب وبأهل العقاب .
آل عمران : ( 21 ) إن الذين يكفرون . . . . .
) إنَّ الذين يكفرونَ ( : يجحدون ، ) بآيات اللَّه ( : بحجّة وأعلامه ، وقيل : هي القرآن ، وقيل : هم اليهود والنصارى ) ويقتلون النبيَّين بغير حقَّ ويقتلون الذَّين يأمرون بالقسط من الناس ( قرأ الحسن ) ويقتلون ( بالتشديد فهما على تكَّثر .
وقرأ حمزة : ( وتقاتلون الذَّين يأمرون ) اعتباراً بقراءة مسعود ( وقاتلوا الذين يأمرون به ) ، ووجه هذه القراءة ) يقتلون النبيين بغير حق ( وقد ( قاتلوا الذين يأمرون ) ؛ لأنهُ غير جائز عطف الماضي على المستقبل وفي حرف . أي : ) ويقتلون النبيين بغير حق والذين يأمرون بالقسط ( ، قال مقاتل : أراد بهِ ملوك بني اسرائيل .
وقال معقل بن أبي سكين ، وابن جريح : كان الوحي يأتي إلى أنبياء بني إسرائيل ، ولم يكن يأتيهم كتاب فيُذكِّرون قومهم فيقتلون . فيقوم رجال فمن اتّبعهم وصدقهم فيذَّكرون قومهم فيُقتلون أيضاً . فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس .
وعن قبيصة بن دويب الخزاعي عن أبي عبيدة الجرّاح قال : قلتُ لرسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) أيُ الناس أشدُ عذاباً يوم القيامة ؟ قال : ( رجلٌ قتل نبياً ، أو رجلٌ أمر بالمنكر ونهى عن المعروف ) ، ثم قرأ رسول لله ( صلى الله عليه وسلم ) ) ويقتلون النبيين بغير حق ( إلى قوله : ) وما لهم من ناصرين ( ثم قال رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً في أول النهار ساعة واحدة ، فقام مائة وإثنا عشر رجلاً من عبَّاد بني إسرائيل فأمروا من قبلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر
(3/36)

" صفحة رقم 37 "
فقُتلوا جميعاً من آخر النهار في ذلك اليوم ، فهم الذين ذكرهم اللَّه تعالى في كتابه فأنزل الآية فيهم ) .
وعن عبد اللَّه بن مسعود قال : قال رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( بئس القوم قومٌ يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ، بئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ، وبئس القوم قومٌ يمشي المؤمن فيهم بالتقية والكتمان ) .
) فبشرهم . . ( أخبرهم بعذاب أليم ، وإنما أُدخل الفاء ( في خبرها ) ؛ لأنهُ قوله : ( الذين ) موضع الجزاء ( ( وإنّ ) لا تبطل معنى الجزاء ؛ لأنّها بمزلة الابتداء عكس : ليت ) .
وقيل : أُدخل الفاء على الغاء أن وتقديرهُ : ( الذين يكفرون ويقتلون فبشّرهم بعذاب أليم رجيح .
آل عمران : ( 22 ) أولئك الذين حبطت . . . . .
) أولئك الذين حَبطِت ( : ذهبت وبطلت .
وقرأ أبو واقد والجرّاح : ( حبطت ) بفتح التاء مستقبلة ( تحبِط ) بكسر الباء وأصلهُ من ( الحبط ) وهو أن ترعى الماشية ( بلا دليل ورديع ) فتنتفخ من ذلك بطونها ، وربَّما ماتت منهُ ، ثم جعل كل شيء يهلك حبطاً .
ومنهُ قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنَّ مما يُنبت الربيع ما يقتل حبطاً إذ يلم ) .
) اعمالهم في الدُّنيا ( : أي نصيباً وحظاً من الكتاب . يعني : اليهود يُدعون إلى كتاب اللَّه .
واختلفوا في هذا الكتاب الذي أخبر اللَّه تعالى إنَّهم يُدعون إليه فيعرضون عنه . فقال قوم : هو القرآن .
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في هذه الآية قال : إنَّ اللَّه عزَّ وجل جعل القرآن حَكَماً فيما بينهم وبين رسول اللَّه ، فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنَّهم على غير دين الهدى فأعرضوا عنه .
وقال قتادة : هم أعداء اللَّه اليهود . دُعوا إلى حكم القرآن واتباع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فأعرضوا ، وهم يجدونهُ مكتوباً في كتبهم
(3/37)

" صفحة رقم 38 "
السَّديَّ : دعا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اليهود إلى الإسلام ، فقال لهُ النعمان بن أبي أوفى : هلَّم يا محمَّد نخاصمك إلى الأحبار ، فقال له رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) بل إلى كتاب اللَّه . فقال : بل إلى الأحبار . فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية .
وقال الآخرون : هي التوراة .
روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس ، قال : دخل رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) بيت المقدس على جماعة من اليهود ، فدعاهم إلى اللَّه عزَّ وجل .
فقال له نعيم بن عمر وابن الحارث بن فهد : على أيَّ دين أنت يا محمد ؟ فقال : على ملّة إبراهيم . قالا : إنَّ إبراهيم كان يهودياً . فقال لهم رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) فأسلموا إلى التوراة فهي بيننا وبينكم ، فأبيا عليه ، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية .
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : إنَّ رجلاً وامرأة من أهل خيبر زنيا ، وكانا في شرف منهم ، وكان في كتابهم الرجم . فكرهوا رجمهما لحالهما وشرفهما ، ورجوا أن يكون عند رسول اللَّه رحمة في أمرهما ، فُرفعِوا إلى رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) فحكم عليهما بالرجم ، فقال له النعمان ابن أبي أوفى ونخري بن عمر : جُرتَ علينا يا محمد . ليس عليهما الرجم ، فقال لهم رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) بيني وبينكم التوراة فإن فيها الرجم . قالوا : قد أنصفتنا . قال فمن أعلمكم ؟
فقالوا : رجل أعمى يسكن فدك ، يُقال له ابن صوريا ، فأرسلوا إليه ، فقدم المدينة وكان جبرائيل ( عليه السلام ) قد وصفهُ لرسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له رسول اللَّه : لأنت ابن صوريا ؟ قال : نعم . قال : أنت أعلم اليهود ؟ قال كذلك يزعمون ، قال : فدعا رسول اللَّه بشيء من التوراة فيها الرجم مكتوب . فقال له : أقرأ . فلما أتى آية الرجم وضع كفهُ عليه وقرأ ما بعدها . فقال ابن سلام : يا رسول اللَّه قد جاوزها ووضع كفهُ عليها ، وقام ابن سلام إلى ابن صوريا فرفع كفهُ عنها ، ثم قرأ على رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( اليهوديان المحصنان إذا زنيا ، وقامت عليهما البينة رجما ، وإن كانت المرأة حبلى تربص بها حتى تضع ما في بطنها ) . فأمر رسول اللَّه باليهوديين فرُجماً ، فغُضِب اليهود لذلك غضباً شديداً ، وانصرفوا . فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية .
2 ( ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ ذاَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن
(3/38)

" صفحة رقم 39 "
تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ الَّيْلَ فِى الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِى الَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذاَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَىْءٍ إِلاَ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرْكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِى صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفُ بِالْعِبَادِ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ( 2
آل عمران : ( 23 ) ألم تر إلى . . . . .
) ألم ترَ إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب ( حظاً من التوراة .
) يُدعون إلى كتابِ اللَّه ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم ( ، فقد علمهم أنَّها في التوراة .
) وهم معرضون
آل عمران : ( 24 - 25 ) ذلك بأنهم قالوا . . . . .
ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ( ) فكيف إذا جمعناهم ( : أي فكيف يصنعون ) ليوم لا ريب فيه ( : وهو يوم القيامة .
) ووفيت ( : ذكرت .
) كل نفس ( : برَّ أو فاجر .
) ما كسبت ( : أي جزاء ما عملت من خير أو شر .
) وهم لا يظلمون ( : لا ينقصون من حسناتهم ولا يُزداد على سيئاتهم .
روى الضحاك عن ابن عباس ، قال : ( أوَّل راية تُرفع لأهل الموقف ذلك اليوم من رايات الكفار راية اليهود ، فيقمعهم اللَّه على رؤوس الاشهاد ثم يأمر بهم إلى النار ) .
آل عمران : ( 26 ) قل اللهم مالك . . . . .
) قل اللَّهم مالك الملك ( ، قد روى الأعرج عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، وروى جعفر ابن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : إنَّ رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لما أراد اللَّه أنْ ينزّل فاتحة الكتاب ، وآية الكرسي ، ) وشهد اللَّه ( ، ) وقل اللهم مالك الملك ( . . . إلى ) بغير حساب ( تعلقن بالعرش ، وليس بينهن وبين اللَّه حجاب ، وقلن : يا رب تهبطنا دار الذنوب وإلى من يعصيك ونحن متعلقات بالطيور والعرش . فقال تعالى : وعزَّتي وجلالي ما من عبد قرأ كنَّ في دبر كل صلاة مكتوبة إلاَّ أسكنتهُ حظيرة القدس على ما كان فيه ، وإلاّ نظرتُ له بعيني في كل يوم سبعين مرة ، وإلاَّ قضيت له في كل يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة ، وإلاَّ أعذته من كل عدو ونصرته عليه ، ولا يمنعه دخول الجنة إلاَّ الشرك ) .
(3/39)

" صفحة رقم 40 "
وقال معاذ بن جبل : أحتبستُ عن رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً لم أصلِّ معهُ الجمعة . فقال : يا معاذ ما منعك من صلاة الجمعة ؟ قلت : يا رسول اللَّه كان ليوحنا اليهودي عليَّ أوقية ( من تبر ) ، وكان على بابي يرصدني ، فأشفقت أن يحبسني دونك . فقال : ( أتحب يا معاذ أنْ يقضي اللَّه دينك ؟ ) . قلت : نعم يا رسول اللَّه . قال : قل ) اللهم مالك الملك ( . . إلى قوله : ) بغير حساب ( ، وقل : ( يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمها تُعطي منها ما تشاء وتمنع منها ما تشاء ، أقضِ عني دَيني . فإنْ كان عليك ملىء الأرض ذهباً قضاهُ اللَّه عنك ) .
قال قتادة : ذُكر لنا أنَّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سأل ربه أنْ يجعل مُلك فارس والروم في أمته ، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية .
وقال ابن عباس ، وأنس بن مالك : لما فتح رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) مكة ووعد أمته مُلك فارس والروم . قالت : المنافقين واليهود : هيهات هيهات من أينَ لمحمد مُلك فارس ، هم أعزَّ وأمنع من ذلك ، ألم يكف محمداً مكة والمدينة حتى طمع في مُلك فارس والروم . فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية .
وروى كثير بن عبد اللَّه بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده ، قال : خطّ رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) الخندق في عام الأحزاب . ثمّ قطع أربعين ذراعاً بين كلّ عشرة ، قال : فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي ، وكان رجلاً قوياً ، فقال المهاجرون : سلمان مِنّا . وقال الأنصار : سلمان منّا .
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( سلمان منّا أهل البيت ) .
قال عمرو بن عوف : كنتُ أنا وسلمان وحذيفة والنعمان بن مقرن المزني وستة من الأنصار في أربعين ذراعاً ، فحفرنا حتى بلغنا الصدى أخرج اللَّه من بطن الخندق صخرة مروة كسرت حديدنا وشقَّت علينا . فقلنا يا سلمان : آت إلى رسول اللَّه وأخبره خبر هذه الصخرة . فإمّا أنْ نعدل عنها فإنَّ المعدل قريب ، وإما أن يأمرنا فيها بأمر ، فإنّا لا نحب أن نجاوز خطة .
قال : فرقى سلمان إلى رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) وهو ضارب عليه قبّة تركية . فقال : يا رسول اللَّه خرجت صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق ، وكسرت حديدنا وشقت علينا حتى ما يجيء منها قليل ولا كثير ، فمرنا فيها بأمرك فإنّا لا نحب أن نجاوز خطك ، قال : فهبط رسول اللَّه مع سلمان الخندق وبقينا نحن التسعة على شفة الخندق . فأخذ رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها ،
(3/40)

" صفحة رقم 41 "
وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها ، يعني المدينة ، حتى لكأن مصباحاً في جوف بيت مظلم ، فكبَّر رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) تكبير فَتْح ، وكبَّر المسلمون ، ثم ضربها ( صلى الله عليه وسلم ) فكسرها ، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكأن مصباحاً في جوف بيتُ مظلم ، فكبَّر رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) تكبير فتح ، وكبَّر المسلمون معه . فأخذ بيد سلمان ورقى . فقال سلمان : بأبي أنت وأمي يا رسول اللَّه لقد رأيتُ شيئاً ما رأيتُ مثلهُ قط فالتفت رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) إلى القوم فقال : رأيتم ما يقول سلمان ؟ قالوا : نعم يا رسول اللَّه ( بأبينا أنت وأمّنا وقد رأيناك تضرب فيخرج برق كالموج ، فرأيناك تكبّر فنكبّر ولا نرى شيئاً غير ذلك ) قال : ضربت ضربتي الأولى ، فبرق الذي رأيتم ، أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب ، وأخبرني جبرائيل ( عليه السلام ) أنَّ أمتي ظاهرة عليها ، ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور نصرى من أرض الروم كأنَّها أنياب الكلاب ، وأخبرني جبرائيل ( عليه السلام ) أنَّ أمتي ظاهرة عليها . ( ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها أنياب الكلاب ، وأخبرني جبرائيل أنَّ أمتي ظاهرة عليها ) فأبشروا . فاستبشر المسلمون ، وقالوا : الحمد لله موعود صدق بأن وعدنا النصرُ بعد الحصر . ( فطبقت الأحزاب فقال : المسلمون : ) هذا ما وعدنا الله ورسوله ( الآية ) .
وقال المنافقون : ألا تعجبون يُمنّيكم ويعدكم الباطل ، ويخبركم أنَّه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى ، وأنَّها تفتح لكم وأنتم إنَّما تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أنْ تبرزوا ، قال : فأنزل القرآن : ) وإذ يقول المنافقون والذَّين في قلوبهم مرض ما وعدنا اللَّه ورسولهُ إلاَّ غرورا ( وأنزل اللَّه في هذه القصة قوله تعالى : ) قُلْ اللَّهم مالك الملك ( .
واختلف النحاة في وجه دخول الميم في هذا الاسم وأصلهُ ( اللَّه ) وفي نصبه .
وقال بعضهم : إنَّما أُدخل الميم في آخره بدلاً من حرف النداء المحذوف من أوله ؛ لأنَّ أصلهُ ( يا اللَّه ) فحذفت حرف النداء وأُدخلت الميم خلفاً منه .
كما قالوا : فم ، ودم ، وزر ، قم مُحذف وستهم ، وما أشبه ذلك من الأسماء والنعوت التي يحذف منها الحرف .
واحتجوا بأنّ نحوها من الأسماء والنعوت إذا حُذف منها حرف أُبدل مكانهُ ميم ، ولمّا كان المحذوف من هذا الاسم حرفين كان البدل ميمين ، فأدغمت إحداها في الأُخرى فجاء التشديد
(3/41)

" صفحة رقم 42 "
لذلك ، وفي سائر أخواتها مخففة ؛ لأنَّ المحذوف حرف واحد ثم نُصب لحق التضعيف .
وأنكر الآخرون هذه القول وقالوا : سمعنا العرب يدخل الميم فيه مع ياء النداء وأنشد الفرّاء :
وما عليكِ أنْ تقولي كلما
سبحتَّ أو هللت يا اللّهمّ ما
اردد علينا شيخنا مسلما
فإنّنا من خيره لن نعدما
قالوا : ونرى أنَّما أصله اللَّه في الدعاء . بمعنى ( يا اللَّه ) ضُم إليها أمَّ وحذف حرف النداء . يُراد يا الله آتنا الخير أي : أقصدنا به ثمّ ضرب في الكلام حتى اختلطت به . فحذفت الهمزة استخفافاً كقولهم : هلَّم إلينا كان أصلهُ هل لم إلينا ، أي أقصد أو أسرع . ثم كُثرت هذه اللفضة حتى قالوا : لاهم بمعنى اللهم ، وربما خفضوا ميمها أيضاً ، واللَّه أعلم .
وقال أبو رجاء العطاردي : هذه الميم في قوله : ( اللَّهم ) : تجمع سبعين اسماً من أسمائه عزَّ وجلَّ مالك المُلك . قال اللَّه تعالى في بعض الكتب : أنا اللَّه مالك الملوك ومالك الملك ، قلوب الملوك ونواصيها بيدي ، فإذا العباد أطاعوني جعلت عليهم رحمة ، وإذا العباد عصوني جعلت عليهم عقوبة ، فلا تشتغلوا بسبَّ الملوك ، ولكن توبوا إليَّ اعطفهم عليكم .
) تؤتي الملك من تشاء وتنزعُ المُلك ممن تشاء ( ، قال مجاهد وسعيد بن جبير : يعني ملك النبوة ، الكلبي : ) تؤتي الملك من تشاء ( : محمد وأصحابه ، ) وتنزع الملك ممن تشاء ( : أبي جهل وصناديد قريش .
وقال معتصم : ) تؤتي الملك من تشاء ( : العرب . ) وتنزعُ الملك ممن تشاء ( : الروم والعجم وسائر الأمم .
السدَّي : ) تؤتي الملك من تشاء ( : آتى اللَّه الأنبياء وأمر العباد بطاعتهم . ) وتنزعُ المُلك ممن تشاء ( : نزع من الجبّارين وأمر العباد بخلافهم .
وقيل : ) تؤتي الملك من تشاء ( : آدم وولده ، ) وتنزع الملك ممن تشاء ( أبليس وجُنده .
وقيل : ) تؤتي الملك من تشاء ( : داود . ) وتنزعُ الملك ممن تشاء ( : جالوت .
وقيل : ) تؤتي الملك من تشاء ( : صخراً . ) وتنزعُ الملك ممن تشاء ( : سليمان ( عليه السلام ) كان يطعم الخبز الجواري ويأكل خبز الشعير ، وكان يلبس المرقعة ولم ينظر أربعين سنة إلى السماء تخشيّاً لله .
وكان يدخل المسجد فيرتاد فقيراً يقعد بجنبهِ ، ويقول : مسكينٌ جالس مسكيناً ) وتنزع
(3/42)

" صفحة رقم 43 "
الملك ممن تشاء ( : ملك النفس حتى يغلبهُ هواه ويتخذهُ إلهاً . كما قال اللَّه عزَّ وجل ) أفرأيت من اتخذ إلاههُ هواه ( .
وقال الشاعر :
ملكتُ نفسي فذاك ملكٌ
ما مثلهُ للأنام ملكٌ
فصرتُ حراً بملك نفسي
فما لخلق عليَّ ملكٌ .
آخر :
من ملك النفس فحر ( ضاهي )
والعبدُ من يملكهُ هواه
وقيل : هو ملك العافية . قال اللَّه تعالى : ) وجعلكم ملوكاً (
وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أصبح منكم آمناً في سربه . معافىً في بدنه ، وعندهُ قوت يومهِ ؛ فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ) .
وقيل : هو القناعة . قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ملوك أمتي القانع يوماً بيوم ، فمن أوتي ذلك فلم يقبلهُ بقبوله ولم يصبر عليه شاكراً قصر عملهُ ، وقل عقلهُ ) .
وعن ابن المبارك قال : دخلت على سفيان الثوري بمكة ، فوجدتهُ مريضاً شارب دواء ، وبه غمٌ شديد فسلمتُ عليه ، وقلت : مالك يا عبد اللَّه ؟ فقال : أنا مريضٌ شارب دواء وبيَّ غمٌ شديد ، فقلتُ : أعندك بصلة ؟ قال : نعم ، فقلت : آتيني بها فأتاني بها ، فكسرتها ثم قلتُ : شِمَّها فشَمَّها ؛ فعطس عند ذلك فقال : الحمدُ لله ربَّ العالمين ، فسكن ما به ، فقال لي : يا بن المبارك أنت فقيه وطبيب أو قال : عالمٌ وطبيب ، فقلت لهُ : مجرّب يا أبا عبد اللَّه . قال : فلمّا رأيته سكن ما بهِ وطابت نفسهُ . قلتُ : إني أريد أنْ أسألك حديثاً . فقال : سلْ ما شئتَ .
فقلت : أخبرني ما الناس ؟ قال : الفقهاء . قلتُ : فما الملوك ؟ قال : الزَّهادْ . قلتُ : فما الاشراف ؟ قال : الأتقياء . قلتُ : فما الغوغاء ؟ قال : الذين يكتبون الأحاديث ليستأكلوا به أموال الناس . قلت له : أخبرني رحمك اللَّه : ما السفلة ؟ قال : الظلمة . ثم ودّعتهُ وخرجت من عنده . قال : يا ابن المبارك عليك بهذا الخبر فإنهُ موجود رخيص قبل أنْ يغلوا فلا يوجد بالثمن .
وقال عبد العزيز بن يحيى : ) تؤتي الملك من تشاء ( : يعني الملك على المهين وقهر الشيطان . كما قال رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنَّ الشيطان ليجري من بني آدم مجرى الدم ) .
(3/43)

" صفحة رقم 44 "
وقال تعالى : ) تؤتي الملك من تشاء ( : يعني ملك المعرفة ، كما آتى السحرة : ) وتنزع الملك ممّن تشاء ( ، كما نزع من إبليس وبلعام .
الحسين بن الفضل : ) تؤتي الملك من تشاء ( : يعني ملك الجنة كما آتى المؤمنين قال اللَّه تعالى : ) وملكاً كبيراً ( ، ) وتنزعُ المُلك ممن تشاء ( : كما نُزع من الكفار وأهل النَّار .
أبو عثمان : أراد ( بالملك ) : توفيق للإيمان والطاعة .
وحكى الاستاذ أبو سعيد الواعظ : إنَّهُ سمع بعض زهّاد اليمن يقول : هو قيام الليل .
الشبلي : الاستغناء بالمكوِن عن الكونين .
الواسطي : افتخر الملوك بالملك . فأخبرهم اللَّه تعالى أنَّ الملك ( زائل ) عندهم لقوله تعالى : ) تؤتي الملك من تشاء وتنزعُ الملك ممن تشاء ( .
قالت الحكماء في هذه الآية : هذا إخبار عن كمال القدرة . وأنَّ القادر على الكمال هو القادر على الشيء وضده ، فأخبر أنَّه قادر على أن يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء .
) وتعزُ من تشاء وتذلُ من تشاء ( : قال عطا : تعز من تشاء : المهاجرين والأنصار ، وتذل من تشاء : فارس والروم .
وقيل : ) تعزُ من تشاء ( : محمداً وأصحابه حين دخلوا مكة وعشرة آلاف ظاهرين عليها ، وتذل من تشاء : أبا جهل وأصحابه حين حزَّوا رؤوسهم وألُقوا في القليب .
وقيل : ) تعزُ من تشاء ( : بالايمان والمعرفة . وتذل من تشاء : بالخذلان والحرمان .
وقيل : ) تعزُ من تشاء ( : بالتمليك والتسليط . وتذل من تشاء : بسلب الملك وتسليط عدوهُ عليه .
الورّاق : ) تعزُ من تشاء ( : بقهر النفس ومخالفة الهوى . ) وتذلُ من تشاء ( : باتباع الهوى .
الكياني : ) تعزُ من تشاء ( : بقهرهِ الشيطان . ) وتذلُ من تشاء ( : بقهر الشيطان لنا .
وقيل : ) تعزُ من تشاء ( : بالقناعة والرضا . ) وتذلُ من تشاء ( : بالخزي والطمع .
قال الثعلبي ( رحمه اللَّه ) : وسمعتُ السلمي يقول : سمعت عبد اللَّه بن علي يقول : سمعت محمد بن الفضل يقول : سمعت الزبير بن عبد الواحد يقول : سمعت بنان الحمّال يقول : الحرَّ عبدٌ ما طمع . والعبد حرٌ ما قنع .
(3/44)

" صفحة رقم 45 "
وقال وهب : خرج الغنى والعز يجولان فلقيا القناعة فاستقرا .
وقال عيسى ( عليه السلام ) لأصحابه : لأنتم أغنى من الملوك .
قالوا : كيف يا روح اللَّه ولسنا نملك شيئاً ؟ قال : أنتم ليس عندكم شيء ولا تريدونها ، وعندهم أشياء ولا تكفيهم .
وللشافعي ( رضي الله عنه ) :
ألاَّ يا نفس أنْ ترضي بقوت
فأنتِ عزيزة أبداً غنَّية
دعي عنكِ المطامع والاماني
فكم أمنية جلبت منيَّة
وقال الآخر :
أفادتني القناعة كل عز
وهل عزٌّ أعزُّ من القناعة
فصيرَّها لنفسك رأس مال
وصيّرها مع التقوى بضاعة
وقيل : ) تعزُ من تشاء ( : بالإخلاص ، وتذلُ مَن تشاء : بالرياء .
وقال الحسن بن الفضل : ) وتذلُ من تشاء ( : بالجنة والرؤيا . ) وتذل من تشاء ( : بالنار والحجاب .
) بيدك الخير ( : يعني الخير والشر ، فأكتفي بذكر الخير ؛ فإنَّهُ الأفضل والاغلب كقوله تعالى : ) سرابيل تقيكم الحر ( : أي الحر والبرد ) إنَّك على كل شيء قدير ( .
آل عمران : ( 27 ) تولج الليل في . . . . .
) تولج الليل في النهار ( : ( أي تدخل ما نقص من أحدهما في الآخر ) حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة ( وهو أطول ما يكون ) ، والليل تسع ساعات ، ( وهو أقصر ما يكون ) .
) وتولجُ النهار في الليل ( : حتى يكون الليل خمس ( عشر ) ساعة ، والنهار تسع ساعات فما نقص عن هذا زيدَ في الآخر نظير قوله تعالى : ) يكوَّر الليل على النهار ويكوَّر النهار على الليل ( .
(3/45)

" صفحة رقم 46 "
قال سعيد بن جبير : يوم وليلة ويوم وليلة عند خلق السماوات والأرض إلى أن تقوم الساعة ، ثم قرأ : ) يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ( ) يخرج الحي مِن الميت ويخرج الميتَ من الحي ( قال ابن مسعود وابن جبير ومجاهد وقتادة والضحّاك وإبراهيم والسدَّي وإسماعيل بن أبي خالد وعبد الرحمن بن زيد : يخرج الحيوان من النطفة وهي ميتة ، ويخرج النطفة من الحيوان .
عكرمة والكلبي : ) يخرج الحي من الميت ( ، أي الفرخ من البيضة ويخرج البيضة من الطير .
أبو مالك : يخرج النخلة من النواة ، ويخرج النواة من النخلة ، ويخرج السنبلة من الحبة والحبّة من السنبلة .
الحسن : يخرج المؤمن من الكافر ، ويخرج الكافر من المؤمن ، والمؤمن عبدٌ حي الفؤاد ، والكافر عبدٌ ميتُ الفؤاد يدل عليه قوله : ) أومن كان ميتاً فأحييناه . . ( .
معمر عن الزهري : أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) دخل على بعض نسائه ، فإذا بإمرأة حسنة الهيئة ، فقال : من هذه ؟ قالت : إحدى خالاتك ، فقال : إن خالاتي بهذه البلاد ( كثير ) أي خالاتي هذه ؟ قالت : هذه خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث ، فقال : ( سبحان اللَّه الذي يخرج الحي من الميت ) . وكانت امرأة صالحة . وكان مات أبوها كافراً .
الفرّاء : يخرج الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب .
وقال أهل الاشارة : يخرج الحكمة من قلب الفاجر حتى لا تستقر فيه ، والسَّقطة من لسان العارف .
) وترزق من تشاء بغير حساب 2 )
آل عمران : ( 28 ) لا يتخذ المؤمنون . . . . .
) لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ( قال ابن عباس : كان الحجّاج بن عمرو وابن أبي الحقيق وقيس بن زيد ظفروا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم ، فقال رفاعة بن المنذر وعبدالله بن حبير وسعد بن جهيمة لأولئك النفر : أجتنبوا هؤلاء اليهود ، واحذروا لزومهم ومخاطبتهم وملازمتهم فأنزل اللَّه تعالى فيهم هذه الآية .
وقال المقاتلان : نزلت في حاطب بن أبي بلتعة وغيره ، كانوا يظهرون المودَّة لكفار مكة فنهاهم اللَّه عزَّ وجل عن ذلك .
(3/46)

" صفحة رقم 47 "
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، قال : نزلت في المنافقين عبد اللَّه بن أُبي وأصحابه ، كانوا يتولون اليهود والمشركين ويأتونهم بالأخبار ، ويرجون أنْ يكون لهم الظفر على رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية ، ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم .
وروى يوسف بن داود الضبي عن بعضهم ، قال : ) لا يتخذوا المؤمنين ( بالرفع خبراً عنهم وفيه معنى النهي كقوله تعالى : ) لا ريب فيه ( .
جوبير عن الضحاك عن ابن عباس : نزلت في عُبادة بن الصامت الأنصاري ، وكان بدرياً تقياً ، وكان له حلفاء من اليهود ، فلمّا خرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يوم الأحزاب ، قال عبادة : يا نبي اللَّه إنَّ معي خمسمائة رجل من اليهود ، وقد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهرتهم على العدَّو ، فأنزل اللَّه تعالى : ) لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء ( الآية .
) ومن يفعل ذلك ( : أي موالاة الكفار في نقل الأخبار إليهم ، وإظهارهم على عدَّة المسلمين ، ) فليس من اللَّه في شيء ( : وفيه اختصار ، أي ليس من دين اللَّه في شيء .
وقال الحسن والسدَّي : ليس من الولاية في شيء ، فقد بريء اللَّه منهُ ، ثم استثنى فقال : ) إلاَّ أنْ تتَّقوا منهم تقاة ( : يعني : إلاَّ أنْ تخافوا منهم مخافة .
وقرأ أبو العالية عن الحسن ، والضحاك وأبو رجاء وجابر بن زيد وحميد بن مجاهد : تقية على وزن نقية ، ( وخالفهما ) أبو حاتم قال : لأنهم كتبوها بالياء مثل حصاة ونواة إلاَّ بالألف .
قرأ حمزة والكسائي وخلف : ( تقية ) بالاحتجاج فكان الياء .
وقرأ الباقون ( تقاة ) بالتضميم . وأختاره أبو عبيدة .
وقرأ الأخفش : ( تقاءة ) مثل تكأة ويؤده ونحوها ، وهي مصدر ( أتقى ) ومثال تقيهُ تُقاةً وتقية وتقيٌ وتقوى ، وإذا قلت : اتقنت كان مصدرهُ الاتقاء ، وإنَّما قال : ( تتقوا ) من الأتقياء ، ثم قال : ( تقاة ) ولم يقل أتَّقاء ؛ لأن العرب إذا كان بالكلمتين واحداً واختلف ألفاظها أخرجوا مصدر أحد اللفظين مصدر اللفظ الآخر فيقولون : التقيتُ فلاناً لقاءً حسناً .
وقال القطامي في وصف غيث :
قد لجّ بجانب الجبلين . . . . . . . .
ركام يحفر الترب احتفاراً
(3/47)

" صفحة رقم 48 "
ولم يقل حفراً قال اللَّه تعالى : ) واللَّه أنبتكم من الأرض نباتا ( . وقال : ) وتبتل إليه تبتيلاً ( .
وأما معنى الآية فقال المفسرون : نهى اللَّه عزَّ وجلَّ المؤمنين عن ملاطفة الكافرين وموالاتهم ومداهنتهم ومبايعتهم إلاَّ أنْ يكون الكفَّار ظاهرين غالبين ، أو يكون المؤمن في قوم كفَّار ليس فيهم غيره ، ويخافهم ويداريهم باللسان وقلبه مطمئنُ بالإيمان دفعاً عن نفسه من غير أنْ يسفك دماً حراماً ، أو مالاً حراماً ، أو يُظهر الكافرين على عورة المؤمنين ، فالمتَّقي لا يكون إلاَّ مع خوف القتل وسلامة النية كفعل عمار بن ياسر .
عبد الرحمن بن حرملة عن ابن المسيب ، قال : ورد رجلٌ على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة فقال : ما أراني إلاَّ قد هلكت ، قال : مالك ؟ قال : قد عذّبني قريش . فقلت : ما قالوا ؟ قال : كيف كان قلبك ؟ قال : مطمئن ، قال : فإنْ عادوا لك فعد لهم مثل ذلك ، قالها ثلاث مرات .
المسيب بن عبيدة عن إبراهيم ، قال : قال ابن مسعود : خالطوا النَّاس ونائلوهم وصافحوهم بما يشتهون ، ودينكم لا يكون به ريبة .
وقال صعصعة بن صوحان لأسامة بن زيد : أنا كنت أحبُّ إلى أبيك منك ، وأنت أحبُّ إليَّ من أبي ولذا أوصيك بخصلتين : خالص المؤمن وخالق الكافر ؛ فإنَّ الكافر يرضى منك بالخلق الحسن ، ويحق عليك أن تُخالص المؤمن .
وروي عن جعفر بن محمد الصادق أنَّه قال : التقية واجبة ، وإني لأسمع الرجل في المسجد يشتمني فأستر بالسارية منهُ لئلا يراني . وقال : الرياء مع المؤمن شرك ومع المنافق في داره عباده .
وأنكر قوم التقيَّة اليوم :
فقال معاذ بن جبل عن مجاهد : كانت التقيَّة في جُدة الإسلام قبل استحكام الدين وقوة المسلمين ، فأمّا اليوم فقد أعزَّ اللَّه عزَّ وجل الإسلام ، فليس ينبغي لأهل الإسلام أنْ يتّقوا من عدوهم .
(3/48)

" صفحة رقم 49 "
وقال يحيى البكاء : قلتُ لسعيد بن جبير في أيام الحجّاج : إنَّ الحسن كان يقول لكم : التقيَّة باللسان والقلب مطمئن بالإيمان . قال سعيد : ليس في الإسلام تقيَّة إنَّما التقيّة في أهل الحرب .
) ويُحذَّركم اللَّه نفسه ( : أي يخوّفكم اللَّه على موالاة الكفار وارتكاب المنهي ومخالفة المأمور من نفسه .
قال المفسرون : من عذاب نفسه وعقوبته وبطشه .
وقال أهل المعاني : معناه ويحذّركم اللَّه إيَّاه ؛ لأن الشيء والنفس والذات والإسم عبارة عن الوجود ، ونفس الشيء هو الشيء بعينه كقوله : ) أن أقتلوا أنفسكم ( : أي ليقتل بعضكم بعضاً .
وقال الأعشى :
يوماً بأجود نائلاً منه إذا
نفس البخيل تجهمت سؤالها
أراد إذا البخيل تجهم سؤاله .
) وإلى الله المصير 2 )
آل عمران : ( 29 ) قل إن تخفوا . . . . .
) قل إن تخفوا ما في صدوركم ( : قلوبكم من مودة الكفَّار . ) أو تبدوه ( : من موالاتهم قولا وفعلا ، ) يعلمهُ اللَّه ( : وقال الكلبي : أي ستروا ما في قلوبكم لرسول اللَّه من التكذيب ، ويظهرون بحربه . وقال : يعلمه اللَّه ويحفظ عليكم حتى يحاربكم به ويعاقبكم عليه ، ثم قال : ) ويعلم ( : رفع على الاستئناف كقولهم : ) قاتلوهم يعذّبهم اللَّه بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ويتوب اللَّه على من يشاء ( بالرفع .
وقوله : ) فإن يشاء اللَّه يختم على قلبك ويمحُ اللَّه الباطل ( ، ثم قال : ) ويحق الباطل ( : وكيف يخفى عليه موالاتكم الكافرين وميلكم إليهم ، مودَّة بالقلب : أي معونة بالقلب والفعل .
) واللَّه على كلَّ شيء قدير ( ،
آل عمران : ( 30 ) يوم تجد كل . . . . .
) يوم تجدُ كل نفس ( : نصب يوماً ، نزع حرف الصفة أي في يوم . وقيل : نصب بإضمار فعل ، أي : إذكروا واتقوا ) يوم تجد كل نفس ما علمت من خير محضراً ( : موفراً لم يبخس منه شيء . قراءة العامة بنصب الضاد على المفعول قد صدَّهم قوله
(3/49)

" صفحة رقم 50 "
) ووجدوا ما عملوا حاضراً ( : وقرأ عبيد عن عُمير محضراً بكسر الضاد يريد أن عمله يحضره الجنَّة يسرع به من الحضور أو الحضر .
) وما عملت من سوء ( : جعل بعضهم خبراً في موضع النصب ، وأعمل فيها الوجود وجعل عملت صلة لها ، أي : ويجد عملها ، وجَعله بعضه خبراً مستأنفاً ، وحينئذ يجوز في ) تودُّ ( الرفع ، والجزم ، دليل هذا التأويل : قراءة عبد اللَّه ) وما عملت من سوء تودُّ ( . ) لو أنَّ بينها ( : بين النفس ) وبَينهُ ( : يعني بين السوء ) أمداً بعيداً ( : والأمد : الأجل والغاية التَّي ينتهي إليها . قال اللَّه : ) أم يجعل له ربي أمدا ( ، وقال : ) فطال عليهم الأمد ( .
قال النابغة :
ألا لمثلك أو من أنت سابقة
بسبق الجواد إذا إستويا على الأمد
قال السدي : أمداً بعيداً أي : مكان بعيد .
مقاتل : كما بين المشرق والمغرب .
قال الحسن : ليس أحدهم أن لا يلقى عمله أبداً ولا يوَدَّ لو أن يعلمه .
) ويحذركم اللَّه نفسه واللَّه رؤوف بالعباد ( : أي بالمؤمنين منهم .
آل عمران : ( 31 ) قل إن كنتم . . . . .
) قل إن كنتم تحبَّون اللَّه فأتبعوني يحببكم اللَّه ( الآية ، قال الحسن وابن جريج : زعم أقوام على عهد رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) أنَّهم يحبَّون اللَّه ، فقالوا : يا محمَّد إنَّا نحبُ ربَّنا ، فأنزل اللَّه عز وجل هذه الآية ، وجعل إتبَّاع نبيه عَلماً لحبَّه تعالى .
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : وقف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على قريش وهم في المسجد الحرام ، وقد نصبوا أصنامهم وعلَّقوا عليها بعض النعام وجعلوا في آذانها السيوف وهم يسجدون لها . فقال : يا معشر قريش واللَّه لقد خالفتم ملَّة أبيكم إبراهيم وإسماعيل ، ولقد كانا على الإسلام . فقالت له قريش : يا محمَّد إنَّا نعبدها حبَّاً لله ، ليقرّبونا إلى الله زلفى ، فقال الله تعالى : قل يا محمّد إنْ كنتم تحبّون الله وتعبدون الأصنام ليقرّبوكم إليه فاتبعوني يحببكم اللَّه ، وأنا رسوله إليكم وحجتَّه عليكم وأنا أولى بالتعظيم من الأصنام .
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : إنَّ اليهود لمَّا قالوا : نحن أبناء اللَّه وأحباؤه ، أنزل اللَّه هذه الآية ، فلمَّا نزلت عرضها رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) على اليهود ، فأبوا أن يقبلوها
(3/50)

" صفحة رقم 51 "
روى محمد بن إسحاق عن محمَّد بن جعفر عن الزبير : قال : نزلت في نصارى أهل نجران وذلك أنَّهم قالوا : إنَّا نعظم المسيح ونعبده حبَّاً لله سبحانه وتعظيماً له ، فقال الله : قل يا محمّد : إنْ كنتم تحبّون الله وكان عظيم قولكم في عيسى حبّاً لله سبحانه وتعالى وتعظيماً له فاتَّبعوني يحببكم اللَّه ، أي : إتَّبعوا شريعتي وسنتي يحببكم اللَّه ، وحب المؤمنين لله إتباعهم أمره وقصدهم طاعته ورضاه ، وحبَّه عزَّ وجلَّ للمؤمنين ( منّة ) عليهم وثوابه لهم وعفوه عنهم وذلك قوله : ) ويغفر لكم ذنوبكم واللَّه غفورٌ رحيم ( .
قال الثعلبي : أنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدنا أبو أحمد محمد بن إبراهيم الصريمي قال : أنشدنا علي بن محمد قال : أنشدني الحسن بن إبراهيم البجلي لعبد اللَّه بن المبارك :
تعصي الإله وأنت تظهر حبَّه
هذا لعمري في الفعال قبيح
لو كان حبّك صادقاً لأطعته
إنَّ المحب لمن يحبُّ مطيع
عروه عن عائشة قالت : قال رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( الشرك أخفّ من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء ، وأدناه أن تحبّ على شيء من الجور أو تبغض على شيء من العدل وهل الدين إلاّ الحبّ في الله والبغض في الله قال اللَّه : ) قل إن كنتم تحبون اللَّه فاتبعوني يحببكم اللَّه ( .
فلما نزلت هذه الآية قال عبد اللَّه بن أُبي ( لأصحابه : إنّ محمّداً يجعل طاعته كطاعة الله ويأمرنا أن نحبّه ) كما أحبت النصارى عيسى ابن مريم ، فنزل :
آل عمران : ( 32 ) قل أطيعوا الله . . . . .
) قل أطيعوا اللَّه والرسول فإن تولَّوا ( : أعرضوا عن طاعتهما . ) فإنَّ اللَّه لا يحبَّ الكافرين ( : لا يرضى فعلهم ولا شيء لهم ولا يغفر لهم .
وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أطاعني فقد أطاع اللَّه ومن أطاع الإمام فقد أطاعني ، ومن عصاني فقد عصى اللَّه ومن عصى الإمام فقد عصاني ) .
2 ( ) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاُْنثَى
(3/51)

" صفحة رقم 52 "
وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَاذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَآءِ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى فِى الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ قَالَ كَذَالِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّىءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِىِّ وَالإِبْكَارِ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَآءِ الْعَالَمِينَ يامَرْيَمُ اقْنُتِى لِرَبِّكِ وَاسْجُدِى وَارْكَعِى مَعَ الرَاكِعِينَ ( 2
آل عمران : ( 33 - 34 ) إن الله اصطفى . . . . .
) إنَّ اللَّه إصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران ( : قال ابن عباس : قالت اليهود : نحن أبناء إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ونحن على دينهم ومنهاجهم ، فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية : يعني : إنَّ اللَّه اصطفى هؤلاء الَّذين قالوا بالإسلام ، وأنتم على غير دين الإسلام ، واصطفى ( افتعل ) من الصفوة وهو الخالص من كل شيء ، يعني : اختاروا واستخلصوا آدم أبو البشر ونوحاً شيخ المرسلين ، وآل إبراهيم وآل عمران .
قال بعضهم : أراد بآل إبراهيم وآل عمران : إبراهيم وعمران نفسهما ، كقوله عزَّ وجلَّ : ) وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون ( : يعني موسى وهارون ( عليهم السلام ) .
قال الشاعر :
ولاتبك ميتاً بعد ميّت أحبّه
علي وعبّاس وآل أبي بكر
يعني : أبا بكر .
قال الباقون : آل إبراهيم : إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وإنَّ محمَّداً ( عليه السلام ) من آل إبراهيم وآل عمران .
وقال مقاتل : هو عمران بن يصهر بن فاهاث بن لاوي بن يعقوب وآله موسى وهارون .
قال الحسن ووهب بن منبه : هو عمران بن أشهم بن أمون من ولد سليمان بن داود وآله مريم وعيسى
(3/52)

" صفحة رقم 53 "
وقيل : هو عمران بن ماتان ، وامرأته حنّة ، وخصّه من الأنبياء ؛ لأنَّ الأنبياء والرسُل بقضَّهم وقضيضهم من نسلهم . ) على العالمين ذرية ( : نصب على حال قاله الأحفش .
الفرّاء على ( القطع ) ؛ لأنَّ الذريَّة نكرة وآل إبراهيم وآل عمران معرفة .
الزجَّاج : نصبٌ على البدل . وقيل : على النكرة أي اصطفى ذريَّة ) بعضها من بعض ( : وقيل : على الحال أي بعضها من ولد بعض . وقال أبو روق : بعضها على دين بعض .
) واللَّه سميعٌ عليم ( : قال الحروي : لمَّا مات الحسن البصري وكان مماته عشية الجمعة ، فلمَّا صلَّى النَّاس الجمعة حملوه ، فلم ( تترك الصلاة ) في المسجد الجامع بالبصرة منذ كان الإسلام إلاَّ يوم ممات الحسن ، فإن الناس إتَّبعوا جنازته فلم يبق أحد يصلَّي في المسجد صلاة العصر .
قال الجزائري : سمعت منادياً ينادي : ) إنَّ اللَّه اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ( ، وإصطفى الحسن البصري على أهل زمانه .
الأعمش عن أبي وائل ، قال : قرأت في مصحف عبد اللَّه بن مسعود : إنَّ اللَّه إصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران ، فقال ابن عباس ومقاتل : هو عمران بن مايان وليس هو بعمران أبو موسى وبينهما ألف وثلثمائة سنة ، وكان بنو مايان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم .
وقال ابن إسحاق : هو عمران بن أشهم بن آمون بن ميثا بن حوقتا بن إحرين ين يونام بن عواريا بن إمضيا بن ياوس بن جربهوا بن يارم بن صف شاط بن لمساين بن يعمر بن سليمان بن داود ( عليه السلام ) .
آل عمران : ( 35 ) إذ قالت امرأة . . . . .
) إني نذرتُ لك ما في بطني محرَّرا ( : أي جعلت الذي في بطني محرَّرا نذراً منَّي لك ، والنذر : ما أوجبه الانسان على نفسه بشريطة كان ذلك أو بغير شريطة
(3/53)

" صفحة رقم 54 "
قال اللَّه فقولي : ) إنَّي نذرت للرحمن صوما ( : أي أوجبت .
وقال النَّبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم : ( من نذر أن يطيع اللَّه فليطعه ، ومن نذر أن يعصي اللَّه فلا يعصه ) .
قال الأعشى :
غشيتُ لليلي بليل خدورا
وطالبتها ونذرت النذورا
ومن هذا قولهم : نذر فلان دم فلان : أي أوجبت على نفسه قتله .
وقال جميل :
فليت رجالاً فيك قد نذروا دمي
وحموا لقائي يابثين لقوني
محرَّراً : أي عتيقاً خالصاً لله خادماً للكنيسة حبيساً عليها مفرغاً لعبادة الله ولخدمة الكنيسة ، لا يشغله شيء من الدنيا وكلَّما أخلص فهو محرَّر ، يقال : حرَّرت العبد إذا أعتقته ، وحرَّرت الكتاب إذا أخلصته وأصلحته فلم يبق فيه ما يحتاج إلى إصلاحه ، ورجل حرّ إذا كان خالصاً لنفسه ليس لأحد عليه متعلق ، والطين الحر الذي خلُص من الرمل والحصاة والعيوب .
ومحرَّراً : نصب على الحال .
وقال الكلبي وابن إسحاق وغيرهما : فإن الحر رجل إذا حرَّر وجعل في الكنيسة يقوم عليها ويكنسها ويخدمها ولا يبرحها حتى يبلغ الحلم ، ثم يخيّر فإن رغب أن يقيم فيها أقام ، وإنْ أحبَّ أن يذهب ذهب حيث شاء ، فإن أراد أن يخرج بعد التخير لم يكن له ذلك ، ولم يكن أحد من ) الأنبياء ( والعلماء إلاَّ ومن نسل محرَّراً ببيت المقدس ، ولم يكن محرَّراً إلاَّ الغلمان ، وكانت الجارية لا تكلف ذلك ولا تصلح له لمّا يمسها من الحيض والأذى ، فحرَّرت أُمَّ مريم ما في بطنها .
وكان القصة في ذلك أنَّ زكرَّيا وعمران تزوجا أُختين ، وكانت إيشاع بنت فاقود أم يحيى عند زكرَّيا وحنَّة بنت فاقود أم مريم عند عمران ، وقد كان أمسك على حنَّة الولد حتى أيست وعجزت ، وكانوا أهل بيت من الله بمكان ، فبينما هي في ظل شجرة بصرتُ بطائر يطعم فرخاً فتحركت لذلك شهوتها للولد ، ودعت الله أن يهب لها ولداً وقالت : اللهم لك عليَّ إن رزقتني ولداً أن أتصدَّق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمه نذراً وشكراً ، فحملت بمريم فحرَّرت ما في بطنها ولا تعلم ما هو ، فقال لها زوجها : ويحك ما صنعت أرأيت إن كان ما في
(3/54)

" صفحة رقم 55 "
بطنك أنثى ( والأُنثى عورة ) لا تصلح لذلك فوقعا جميعاً في همَّ من ذلك ، فهلك عمران وحنَّة حامل بمريم .
آل عمران : ( 36 ) فلما وضعتها قالت . . . . .
) فلما وضعتها ( : أي ولدتها وإذا هي جارية ، فالهاء في قوله : ) وضعتها ( راجعة إلى النذيرة أي مريم من حنّة ، لذلك أنَّث .
) قالت ( : عذراً وكانت ترجوا أن تكون غلاماً ولذلك حررَّت .
) ربّ إني وضعتها أُنثى ( : أعتذار إلى اللَّه عزّوجل .
) واللَّه أعلم بما وضعت ( : ( ما ظنّت ) عن السدي ، وقرأ ( العامّة بتسكين التاء ) وقرأ علي وأبو ميثم النجفي وابن عامر وأبو بكر ويعقوب : ) وضعت ( بضمّ التاء جعلوها من كلام أمّ مريم .
) وليس الذكر كالأنثى ( : في خدمة الكنيسة والعُبَّاد الذين فيها ؛ لعورتها وضعفها وما يعتريها من الحيض والنفاس والأذى .
) وإني سميتها مريم ( : وهي بلغتهم : ( الخادمة والعابدة ، وكانت أجمل النساء في وقتها وأفضلها ) .
روى أبو زرعة عن أبي هريرة إن رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( حسبك من نساء العالمين أربع : مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ) .
) وإني أُعيذها بك ( : آمنها وأجيرها بك . ) وذريتها ( : وأولادها .
) من الشيطان الرجيم ( : الطريد اللعين المرمي بالشهب .
ابن المسيب عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ما من مولود إلاَّ والشيطان يمسه حين يولد فيستهلُ صارخاً من مس الشيطان إيّاه إلاَّ مريم وإبنها ) ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : ) وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ( .
سعيد عن قتادة قال : ( كل أدمي طعن الشيطان في جنبه حين يولد غير عيسى ابن مريم وأمه جُعِل بينهما حجاب فأصاب الطعن الحجاب ولم ينفذ إليها منه شيء ) .
(3/55)

" صفحة رقم 56 "
قال : وذكر لنا أنّهما كانا لا يصيبان من الذنوب كما يصيبه سائر بني آدم .
وقال وهب بن منبه : ( لمّا ولد عيسى ( عليه السلام ) أتى الشياطين إبليس فقالوا : أصبحت الأصنام منكّسة ، فقال : هذا لحادثٌ حدث ، وقال : مكانكم ، فطار حتى جاء خافقي الأرض فلم يجد شيئاً ، ثم جاء البحار فلم يجد شيئاً ، ثمّ طار أيضاً فوجد عيسى قد ولد ، وإذا الملائكة قد حفّت حوله فلم يصل إليه إبليس فرجع إليهم ، فقال : إنّ نبياً قد ولد البارحة ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلاَّ أنا بحضرتها إلاَّ هذه ، فأيسوا أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة ، ولكن ائتوا بني آدم من قِبَل الخفة والعجلة .
آل عمران : ( 37 ) فتقبلها ربها بقبول . . . . .
) فتقبلها ( : أي تقبل اللَّه من حنّة مريم ورضيها مكان المحرر ، يقال : قبل ولأن الشيء إذا رَضَيَه يقبله قبولاً بالفتح مصدر ، مثل الزارع والزروع والقبول ، ولم يأت غير هذه الثلاثة ، والقياس الضم مثل الدخول والخروج ، قاله أبو عمر والكسائي والأئمّة ، وقال بعضهم : معنى التقبّل : التكفّل في التربية والقيام بشأنها .
وقال الحسن : قبوله إيّاها أنه ما عذّبها ساعة من نهار ولا ليل .
) ربّها بقبول حسن ( : ولم يقل بتقبّل وهذا النوع يقال له : المصدر على غير المصدر .
قال الفرّاء : مثل قولك تكلمت كلاماً .
قال الفطامي : وخير الأمر ما استقلّت فيه وليس بأن يتبعه إتباعاً .
وقال آخر : وإن مشيتم تعاودنا عوادا ، ولم يقل : تعاودوا .
) وأنبتها نباتاً حسناً ( : ولم يقل : إنباتاً .
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس : ) فتقبّلها ربّها بقبول حسن ( يقول : سلك بها طريق السعداء ) وأنبتها نباتاً حسناً ( : يعني سوّى خلقها من غير زيادة ولا نقصان . وكانت تنبت في اليوم كمثل ما ينبت المولود في عام واحد .
ابن جريج : أنبتها ربها في غذائه ورزقه نباتاً حسناً حتى تمت امرأة بالغة تامة .
) وكفلها زكريا ( : قال المفسرون : أخذتها أمّ مريم حين ولدتها ، فلفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ، فوضعتها عند الأحبار أولاد هارون وهم يومئذ يكونون في بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة ، فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة فتنافس فيها الأحبار ؛ لأنّها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم ، فقال لهم زكريا : أنا أحقكم بها ؛ ( لأن ) عندي خالتها .
(3/56)

" صفحة رقم 57 "
فقال له الأحبار : لا تفعل ذلك ؛ فإنّها لو تركت وحقُّ الناس بها لتركت لأُمها التي ولدتها ، ولكنّا نقرع عليها فتكون عند من خرج سهمه ، فانطلقوا وكانوا تسعة وعشرين رجلاً إلى نهر جاري .
قال السدي : هو نهر الأردن ، فألقوا أقلامهم في الماء ، فارتفع قلم زكريا فوق الماء وانحدرت أقلامهم ( ورسبت ) في النهر ، قاله ابن إسحاق وجماعة .
وقال السدي وجماعة : بل ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين وجرت أقلامهم مع جريان الماء ( فذهب بها الماء ) ، فسهمهم وقرعهم زكريا ، وكان رأس الأحبار ونبيهم فذلك قوله تعالى : ) وكفّلها زكريّا ( ضمّها إلى نفسه وقام بأمرها .
قال ابن إسحاق : فلمّا كفّلها زكريا ضمّها إلى خالتها أم يحيى واسترضع لها ، حتى إذا نشأت وبلغت مبالغ النساء بنى لها محراباً : أي غرفة في المسجد ، وجعل بابه إلى وسطها ، لا يرقى إليها إلاّ بسلّم مثل باب الكعبة ، فلا يصعد إليها غيره ، وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كلّ يوم .
) كلّما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً ( : يعني وجد زكريا عندها فاكهة في غير أوانها ، فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف غضّاً طريّاً . ) قال يا مريم أنّى لكِ هذا ( فإنّها كانت إذا رزقها اللَّه شيئاً وسألت عنه ) قالت هو من عند اللَّه إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب ( .
( أخبرنا عبدالله بن حامد بإسناده عن جابر بن عبدالله : أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أقام أيّاماً لم يُطعم طعاماً ، حتى شقّ ذلك عليه فطاف في منازل أزواجه ، فلم يصب في بيت أحد منهنّ شيئاً ، فأتى فاطمة رضي الله عنها فقال : ( يا بنيّة هل عندكِ شيء آكلُ فإنّي جائع ؟ )
فقالت : لا والله بأبي أنتَ وأمّي ، فلمّا خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من عندها ، بعثت إليها جارة لها برغيفين وبضعة لحم ، فأخذته منها ووضعته في جفنة وغطّت عليه وقالت : لأوثرنّ بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على نفسي ومن عندي ، وكانوا جميعاً محتاجين إلى شبعة من طعام ، فبعثت حسناً وحسيناً إلى جدّهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فرجع إليها ، فقالت : بأبي أنت وأمّي يا رسول الله قد أتانا الله بشيء فخبّأته لك ، قال : ( فهلمّي به ) ، فأُتي به فكشف عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً ، فلمّا نظرت إليه بهتت وعرفت أنّها من بركة الله ، فحمدت الله تعالى وصلّت على نبيّه ،
(3/57)

" صفحة رقم 58 "
فقال ( عليه السلام ) : ( من أين لك هذا يا بنيّة ؟ ) قالت : هو من عندالله إنّ الله يزرق من يشاء بغير حساب ، فحمد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( الحمد لله الذي جعلك شبيهة بسيّدة نساء بني إسرائيل ، فإنّها كانت يرزقها الله رزقاً حسناً فسُئِلت عنه ) قالت هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب ( ) .
فبعث رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) إلى علي رضي اللَّه عنه ، ثم أكل رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) وعلي وفاطمة والحسن والحسين وجميع أزواج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأهل بيته جميعاً حتى شبعوا .
قالت فاطمة : وبقيت الجفنة كما هي فأوسعت منها على جميع جيراني فجعل اللَّه فيها بركة وخيراً .
قال أهل التفسير : فلما رأى زكريا ذلك قال : إن الذي قدر على أن يأتي مريم بالفاكهة في غير حينها من غير سبب ولا فعل أحد لقادر على أن يصلح زوجتي ويهب لي غلاماً على الكبر ، فطمع في الولد وذلك إن أهل بيته كانوا قد إنقرضوا ، وكان زكريا قد شاخ وأيس من الولد .
آل عمران : ( 38 ) هنالك دعا زكريا . . . . .
قال اللَّه تعالى : ) هنالك دعا زكريا ربّه ( : أي فعند ذلك . و ( هنا ) إشارة إلى الغاية كما أن ( هذه ) إشارة إلى الحاضر .
والكاف : اسم المخاطب وكسرت اللام لإلتقاء الساكنين .
قال المفضل بن سلمة : أكثر ما يقال هنالك في الزمان وهناك في المكان وقد جعل هذا مكان هذا .
) دعا زكريا ربه ( : فدخل المحراب وغلق الأبواب وناجى ربه . ) قال ربّ ( : أي يا رب فحذف حرف النداء من أوله والياء من آخره ، استغني بكسر الباء عن الياء . ) هب لي ( : أعطني ، ) من لدنك ( : من عندك . وفي لدن أربع لغات : لَدُنْ بفتح اللام وضم الدال وجزم النون وهو أفصحها ، ولَدُ بفتح اللام وضم الدال وحذف النون ، ولَدْنَ بفتح اللام وسكون الدال وفتح النون ، ولُدْنَ بضم اللام وجزم الدال وفتح النون .
قال الفرّاء : وهي يخصّص بها على الإضافة ، وترفع على مذهب مذ ، وأنشد قول أبي سفيان بن حرب على الوجهين :
(3/58)

" صفحة رقم 59 "
ما زال مهري مزجر الكلب منهم
لدن غدوة حتى دنت لغروب
) ذرية طيّبة ( : نسلاً مباركاً تقيّاً صالحاً رضيّاً ، والذرية تكون واحداً أو جمعاً ذكراً أو أنثى ، وهو ههنا واحد يدل عليه قوله : ) فهب لي من لدنك ولياً ( ، ولم يقل أولياء وإنّما أنث طيبة ؛ لتأنيث لفظ الذرية .
كما قال الشاعر :
أبوك خليفة ولدته أخرى
وأنت خليفة ذاك الكمال
فأنث ولدته ؛ لتأنيث لفظ الخليفة ، فكما قال آخر :
فما تزدري من حية جبلية سكات
إذا ما غض ليس بأدردا
فأنث الجبلية ؛ لتأنيث لفظ الحية ثم رجع إلى المعنى ، فقال : غض ؛ لأنه أراد حية ذكراً والحية تكون الذكر والانثى ، وإنّما جوّز هذا فيما لم يقع عليه ؛ فلأن من الأسماء كالدابة والذرية والخليفة فإذا سمي بشيء من ذلك رجل هو كان من معنى رجلان ، لم يجز تأنيث فعله ولا نعته فلا تقول من ذلك : حدثنا مغير الضبي ، ولا يجوز حدثتنا مغيرة الضبية .
) إنك سميع الدعاء ( : أي سامعه وقيلَ مجيبه ، لقوله تعالى : ) إني آمنت بربكم فاسمعون ( : أي فأجيبون . وقولهم : سمع اللَّه لمن حمده : أي أجابه .
وأنشد :
دعوت اللَّه حتى خفتُ ألا
يكون اللَّه يسمعُ ما أقول : أي بكيتُ
قتادة عن أنس بن مالك قال : قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( أيما رجلٌ مات وترك ذرية طيبة أجرى اللَّه عليه مثل أجر عملهم لا ينقص من أجورهم شيئاً ) .
آل عمران : ( 39 ) فنادته الملائكة وهو . . . . .
) فنادته الملائكة ( : قرأ يحيى وثابت والأعمش وحمزة والكسائي وخلف : فناديه بالياء ، وأبو عمارة وأبو عبيدة ، وقرأ الباقون : بالتّاء وأخياره أبو حاتم : فإذا تقدم الفعل فأنت فيه بالخيار إنْ شئت أنَّثت وإن شئت ذكَّرت ، إلاّ أنّ من قرأ بالتاء ؛ فلأجل تأنيث الملائكة للفظ والجمع مع إن الذكور إذا تقدم فعلهم وهو جماعة كان التأنيث فيه أحسن وأفصح كقوله : ) قالت الأعراب أمنا ( ، ومَن ذكّر خلها .
(3/59)

" صفحة رقم 60 "
روى القاسم بن سلام عن جرير عن مغيرة عن إبراهيم ، قال : كان عبد اللَّه يُذكّر الملائكة في القرآن ، قال أبو عبيدة : إنمايرى ( أن ) اللَّه اختار ذلك خلافاً على المشركين في قولهم : الملائكة بنات اللَّه فأراد بالتذكير هاهنا إكذابهم .
وروى الشعبي أن ابن مسعود قال : إذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياءاً وذكّروا القرآن .
وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس قال : إذا كان الحرف في القرآن تاء وياء فأجعلوها ياء . وأراد بالملائكة ههنا : جبريل وحده ؛ وذلك أنّ زكريا الحبر الكبير الذي تعهد بالقربان ، وبفتح باب المذبح فلا يدخلون حتى يأذن لهم في الدخول ، فبينا هو قائم في المسجد عند المذبح يصلي والناس ينتظرونه أن يأذن لهم في الدخول ، إذ هو برجل شاب عليه ثياب بيض ففزع منه فناداه وهو جبريل : يا زكريا ) إن الله يبشرك بيحيى ( فذلك قوله : ) فنادته الملائكة ( : يعني جبريل وحده نظيره قوله في هذه السورة ) واذ قالت الملائكة يا مريم ( : يعني جبريل وحده ، وقوله في النحل : ) يُنزل الملائكة ( : يعني جبريل ما يروح بالوحي ؛ لأنّ الرسول إلى جميع الأنبياء جبريل ( عليه السلام ) ، يأت عليه قوله ابن مسعود ، فناداه جبريل ) وهو قائم يصلي في المحراب ( : وهذا جائز في العربية أن يخبر عن الواحد بلفظ الجمع كقولهم : ركب فلان في السفن ، وإنما ركب سفينة واحدة ، وخرج على بغال البريد ، وإنما على بغل واحد ، وسمعت هذا الخبر من الناس ، وإنما سمع من واحد نظير قوله تعالى : ) الذين قال لهم الناس ( : يعني نعيم بن مسعود . ) إن الناس قد جمعوا لكم ( : يعني أبا سفيان ونحوها كثرة .
وقال المفضل بن سلمة : إذا كان القائل رئيساً فيجوز الإخبار عنه بالجمع ؛ لاجتماع أصحابه معه ، فلمّا كان جبريل رئيس الملائكة وكل ما يُبعث إلاَّ ومعه جمع منهم فهي على هذا .
) وهو قائم يصلي في المحراب ( : يعني في المسجد ، نظيره قوله : ) فخرج على قومه من المحراب ( : أي المسجد ، وقوله : ) إذ تسوروا المحراب ( : أي المسجد ، وهو مفعال من الحرب ، قيل : سمي بهذا ؛ لأنّه تحارب فيه الشيطان ، كما قيل : مضمار للميدان الذي تضمر فيه الخيل ، وأمال ابن عامر المحراب في جميع القرآن ، وفخّمه الآخرون .
(3/60)

" صفحة رقم 61 "
) إنّ الله ( قرأ ابن عامر وعيسى بن عمرو والأعمش وحمزة : بكسر الألف على إضمار القول تقديره : فنادته الملائكة فقالت : إن اللَّه ؛ لأن النداء قول .
وقرأ الباقون : بالفتح بإيقاع النداء عليه كأنه قال : فنادته الملائكة أن اللَّه يُبشرك .
وقرأ عبد اللَّه : ) وهو قائم يصلي في المحراب ( يا زكريا إن اللَّه ) يبشرك ( : اختلف الفرّاء في مستقبل هذا الفعل وجملها في القرآن عشرة : موضعين ههنا وفي التوبة ) يبشرهم ( ومريم وفي الحجر ) إنا نبشرك بغلام عليم ( ، و ) فبم تبشرون ( وفي سبحان والكهف ) وبشر المؤمنين ( ، وفي مريم موضعين : ) يا زكريا إنا نبشرك ( و ) ولتبشر به المتقين ( ، وفي حم عسق : ) ذلك الذي يبشر اللَّه عباده ( فهذه عشرة مواضع اتّفقوا على واحد منها إنها مشددة ، وهو قوله : ) فبم تبشرون ( واختلفوا في التسعة الباقية فقرأها : حمزة كلها بفتح الباء وجزم الياء وضم الشين وتخفيفها .
وقرأ يحيى بن رثاب والكسائي خمسة منها مخففة ، موضعين ههنا وفي سبحان والكهف وعسق .
وخفّف ابن كثير وأبو عمرو منها حرفاً واحداً وهو قوله : في ) حم ، عسق ذلك ( النبي ) الذي يبشر اللَّه عباده ( .
وقرأها كلها حميد بن قيس : بضم الياء وجزم الباء وكسر الشين وتخفيفها .
الباقون : بضم الياء وفتح الباء وكسر الشين وتشديده ، فمن خفّف الشين وضم الباء وهو من أبشر يُبشر ، قال الشاعر :
يا أُمّ عمرو أبشري بالبشرى
موتُ ذريع وجراد عظلي
ومن قرأ بتخفيف الشين مع فتح الباء فهو من بشر يبشر ، وهو لغة أهل تهامة وقراءة ابن مسعود . قال الشاعر :
نشرت عوالي إذ رأيتُ حيفة
ماسك من الحجّاج تعلى كتابها
(3/61)

" صفحة رقم 62 "
وقال الفرّاء :
وإذا رأيت الباهشين إلى العلى
غبراً أكفهم بقاع ممحل
فأعنهم وأبشر بما بشروا به
وإذا هم نزلوا بضنك فأنزل
روي عبد الرحمن بن أبي حماد عن معاذ الكوفي ، قال : من قرأ يبشرهم مثقلة فإنّه من البشارة ومن قرأ يبشّرهم مخفّفة بنصب الياء فإنّه من السرور ، يسرّهم ، وتصديق هذه القراءة ما روى ابن زيد بن أسلم عن أبيه : إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لرجل : إن اللَّه يبشرك بغلام فولدت امرأته غلاماً .
ومن قرأ بالتشديد من بشر يُبشر بشيراً وهو أعرب اللغات وأفصحهم . قال جرير :
يا بشر حق لوجهك التبشير
هلا غضبت لنا وأنت أمير
ودليل التشديد : إنّ كلّ ما في القرآن من هذا الباب من فعل واجب أو أمر فهو بالتثقيل لقوله : ) فبشر عبادي الذين ( ، ) وبشرناه بإسحاق ( ، ) قالوا بشرناك بالحق ( ) يحيى ( : هو اسم لا يجري لمعرفته ، والمزايد في أوله مثل : يزيد ويعمر ويشكر وأماله قوم ؛ لأجل الياء وفخّمه الآخرون ، وجمعُهُ ( يحيون ) مثل موسون وعسون ، واختلفوا فيه لِمَ سُمي ( يحيى ) .
قال ابن عباس : لأن اللَّه أحيا به عقر أُمه . قتادة : لأن اللَّه أحيا قلبه بالإيمان . بعضهم : لأن اللَّه أحيا قلبه بالنبوة .
الحسن بن الفضل : لأن اللَّه أحياه بالطاعة حتى لم يعصِ ولم يهم بمعصية .
ما روى عن ابن عباس ، قال : قال رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) ما من أحد إلاَّ ويلقى اللَّه عز وجل قد همّ بخطيئة قد عملها إلاَّ يحيى بن زكريا فإنه لم يهم ولم يعملها .
قال الثعلبي : ( سمعت ) الاستاذ أبا القاسم بن حبيب يقول : سُمي بذلك ؛ لأنه أُستشهد والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون .
(3/62)

" صفحة رقم 63 "
قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من هوان الدنيا على اللَّه إن يحيى بن زكريا قتلته امرأة ) .
قال الثعلبي : وسمعت أبا منصور ( الجمشاذي ) يقول : عن عمر بن عبيد اللَّه المقدسي : أوحى اللَّه إلى إبراهيم الخليل : أن قل ليسارة وكذلك كان اسمها : أني مخرج منكما عبداً لا يموت بمعصيتي اسمه حيى فهبي له من اسمك حرفاً ، فوهبت له أول حرف من إسمها فصار يحيى وصارت امرأة إبراهيم سارة .
) مُصدقاً بكلمة ( : نصب على الحال ) من اللَّه ( : يعني عيسى ( عليه السلام ) سُمي كلمة ؛ لأن اللَّه قال له : كن من غير أب فكان ، فوقع عليه اسم الكلمة ؛ لأنه كان بها ، ويحيى أول من آمن بعيسى فصدّقه ، وكان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر ، وكانا ابني خالة ، ثم قُتل يحيى قبل أن يرفع عيسى ( عليهما السلام ) .
وقال أبو عبيدة وعبدالعزيز بن يحيى : بكلمة من اللَّه وآياته ، يقول : أنشدني كلمة فلان : أي قصيدته .
) وسيداً ( : من فيعمل نحو ساد يسود أصله يسود ، وهو الرئيس الذي يتَّبع ويُنتهى إلى قوله .
قال المفضل : أراد سيداً في الدين .
شريك عن أبي روق عن الضحاك قال : السيد الحسن الخلق .
وروى شريك بإسناده أيضاً عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال : السيد هو الذي يطيع ربه عز وجل .
سعيد بن المسيب : السيد الفقيه العالم . قتادة : سيد في العلم والصوم ، سعيد بن جبير : الحليم ، الضحّاك : التقي ، عكرمة : الذي لا يغضب ، مجاهد : الكريم على اللَّه ، ابن زيد : الشريف الكبير ، سفيان الثوري : الذي لا يحسد .
روى يوسف بن الحسين الرازي عن ذي النون المصري قال : الحسود لا يسود .
قال الخليل بن أحمد : مطاعاً .
الزجّاج : هو الذي ينوي وبكل شيء من الخير أقرانه .
أحمد بن عاصم : السيد القانع بما قسم له .
أبو بكر الورّاق : الراضي بقضاء اللَّه تعالى
(3/63)

" صفحة رقم 64 "
محمد بن علي الترمذي : المتوكل على اللَّه .
أبو زيد البسطامي : هو الذي قد عظمت همته ونبل قدره ، لم يُحدث نفسه بدار الدنيا ، وقيل : هو السخي .
روى ابن الزبير عن جابر بن عبد اللَّه قال : قال رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) من سيدكم يا بني سلمة ؟ قالوا : جد بن قيس غير أنّه بخيل جبان . قال : وأيُّ داء أدوى من البخل ، بل سيدكم عمرو بن جموح .
روى عبد اللَّه بن عباس : إنه كان قاعداً مع رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) فجاءه بضعة عشر رجلاً عليهم ثياب السفر ، فسلموا على رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) وعلى القوم ، ثم قالوا : مَن السيد منكم ؟ فقال رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، فعرفوا أنه رسول اللَّه ، فقالوا : فما في أمتك سيد ، قال : بلى رجلٌ أعطى مالاً حلالا ورُزِقَ سماحةً ، وأدنى الفقراء وقلتْ شكايتهُ .
وروى أن أسد بن عبد اللَّه قال لرجل من بني شيبان : بلغني أن السودد فيكم رخيص . فقال : أما نحن فلا نسود إلاَّ من يعطينا رحله ، ويفرش لنا عرضه ، ويعطينا ماله . فقال : واللَّه إن السودد فيكم لغال .
) وحَصُوراً ( : أصله من الحصر وهو الحبس ، يُقال : حصرت الرجل عن حاجته إذا حبسته ، وحصرت من كذا أحصر إذا امتنع منهُ ، وحصر فلان في قرأته إذا امتنع من القراءة فلم يقدر عليها ، ومنه احصار العدو . قال اللَّه تعالى : ) وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً ( : أي محبساً . ويقال للرجل الذي يكتم السر ويحبسهُ ولا يظره حُصر .
قال جرير :
ولقد تسقطني الوشاة فصادفوا
حصراً بسركِ يا أميم ضنيناً
فالحصور في قول ابن مسعود وابن عباس وابن جبير وقتادة وعطاء وأبي الشعثاء والحسن والسدي وابن زيد : الذي لا يأتي النساء ولا يقربهنّ ، فهو على هذا القول : مفعول بمعنى فاعل يعني : أنه يحصر نفسه عن الشهوات .
وقال سعيد بن المسيب والضحّاك : هو العنّين الذي لا ماء له ، ودليل هذا التأويل ما روى أبو صالح عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول اللَّه ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( كل ابن آدم يلقى اللَّه بذنب قد أذنبه يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلاّ يحيى بن زكريا فإنه كان سيداً وحصورا ) .
(3/64)

" صفحة رقم 65 "
) ونبياً من الصالحين ( : ثم أهوى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بيده إلى قذاة من الأرض فأخذها وقال : ( كان ذكره مثل هذه القذاة ) .
وقال المبرد : الحصور الذي لا يدخل في اللعب والعبث والأباطيل ، وأصله من قول العرب الذي لا يدخل في الميسر حصور . قال الأخطل :
وشاربُ مربح بالكأس نادمني
لا بالحصور ولا فيها بسوار
فلما نادت الملائكة زكريا بالبشارة
آل عمران : ( 40 ) قال رب أنى . . . . .
) قال ربِّ ( : يا سيدي قاله لجرائيل ( عليه السلام ) ، وهذا هو قول الكلبي وأكثر المفسرين .
وقال الحسن بن الفضل : إنّما قال زكريا لله يا رب لا لجبرائيل .
) أنّى يكون ( : من أين يكون ، ) لي غلام ( : ابن . ) وقد بلغني الكبر ( : قال أبو حمزة والفرّاء والمورّخ بن المفضّل : هذا من المقلوب : أي قد بلغت الكبر كما يقال : بلغني الجهد : أي إني في جهد ، ويقول هذا القول لا يقطعني أي لا يبلغ ( بي ) ما أريد ( أن ) يقطعه ، وأنشد المفضل :
كانت فريضةٌ ما زعمت
كما كانت الزناء فريضة الرجم
وقيل معناه : وقد نالني الكبر وأدركني وأخذ مني وأضعفني .
قال الكلبي : كان يوم بُشر بالولد ابن اثنين وتسيعن سنة ، وقيل : ابن تسع وتسعون سنة ، فذلك قوله : ) وامرأتي عاقر ( : أي عقيم لا تلد ، يقال : رجل عاقر وامرأة عاقر ، وقد عُقر بضم القاف ، يعقر عقراً وعقارة ، وقيل : تكلم حتى أُعقِر بكسر القاف يعقر عقراً إذا أبقى فلم يقدر على الكلام .
وقال عامر بن الطفيل :
ولبئس الفتى إن كنت أعورُ عاقراً
جباناً فما عذري لدى كل محضر
وإنما حذف الهاء ؛ لاختصاص الأُناث بهذه ، وقال به تارة الخليل .
(3/65)

" صفحة رقم 66 "
وقال سيبويه : للنسبة أي ذات عقر ، كما يقال : امرأة مرضع أي ذات ولد رضيع وكل ( . . . ) امرأتي عنى عاقر ، وشخص عاقر .
وقال عبيد : عاقر مثل ذات رحم ، أو خانم مثل من ( ينحب ) .
) قال كذلك اللَّه يفعل ما يشاء ( : فإن قيل : لم تنكر زكريا ذلك وسأل الآية بعدما بشرته به الملائكة أكان ذلك ( شكّ في صدقهم ( أم أنّ ) ذلك منه استنكاراً لقدرة ربّه ) ؟ وهذا لا يجوز أن يوصف به أهلُ الإيمان فكيف الأنبياء ( عليهم السلام ) ؟
قيل : إن الجواب عنه ما روى عكرمة والسدي : إن زكريا لما سمع نداء الملائكة جاءه الشيطان ، فقال : يا زكريا إن الصوت الذي سمعته ليس من اللَّه ، إنما هو من الشيطان يسخر بك ، ولو كان من اللَّه لأوحاه إليك خفياً ، كما ( ناداك ) خفياً وكما يوحى إليك في سائر الأمور ، فقال ذلك دفعاً للوسوسة .
والجواب الثاني : إنه لم يشك في الولد وإنما شك في كيفيته والوجه الذي يكون منه الولد فقال : ) أنّى يكون لي ولد ( : أي فكيف يكون لي ولد ؟ أتجعلني وامرأتي شابين ؟ أم ترزقنا ولداً على كبرنا ؟ أم ترزقني من امرأتي أو غيرها من النساء ؟ قال ذلك مستفهماً لا منكراً ، وهذا قول الحسن وابن كيسان .
آل عمران : ( 41 ) قال رب اجعل . . . . .
) قال ربِّ اجعل لي آية ( : علامة أعلم بها وقت حمل امرأتي فأزيد في العبادة شكراً لك .
) قال آيتك ألاَّ تكلم الناس ( : تكف عن الكلام .
) ثلاثة أيام إلاَّ رمزاً ( : تقبل بكلمتك على عبادتي وطاعتي لا أنه حبيس لسانه عن الكلام ، ولكنه نُهي عنه يُدل عليه قوله : ) واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشيّ والإبكار ( .
قال بعض أهل المعاني وقال أكثر المفسرين : عُقد لسانه عن الكلام ؛ عقوبة له لسؤاله الآية بعد مُساءلة الملائكة إياه ، فلم يصدر على الكلام ثلاثة أيام إلاَّ رمزاً : إشارة .
قال الفرّاء : ويكون الرمز باللسان من غير أن يبين ، وهو الصوت الخفي شبه الهمس .
وقرأ الأعمش : ) رمزاً ( : بفتح الميم وهو الصلاة كالطلب به .
وقال عطا : أراد به صوم ثلاثة أيام ؛ لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا إلاَّ رمزاً .
آل عمران : ( 42 ) وإذ قالت الملائكة . . . . .
) واذ قالت الملائكة ( : يعني جبرئيل وحده .
(3/66)

" صفحة رقم 67 "
) يا مريم إن اللَّه اصطفاك ( : بولادة عيسى من غير أب .
) وطهرك ( : من ( مسيس ) الرجل . وقال السدي : كانت مريم لا تحيض . ) فاصطفاكِ ( : بالتحرير في المسجد ، ) على نساء العالمين ( : عالمي زمانها ولا يحرر غيرها .
آل عمران : ( 43 ) يا مريم اقنتي . . . . .
) يا مريم أُقنتي ( : أطيعي وأطيلي الصلاة ، ) لربك ( : كلمت به الملائكة شفاهاً .
قال ( الأوزاعي ) : لمّا قالت لها الملائكة ذلك ، قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسالتا دماً وقيحاً .
) واسجدي واركعي مع الراكعين ( .
) ذاَلِكَ مِنْ أَنبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِى الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ قَالَ كَذَالِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِىإِسْرَاءِيلَ أَنِّى قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِىأَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِىءُ الاَْكْمَهَ والاَْبْرَصَ وَأُحْىِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذاَلِكَ لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلاُِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِأَيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَاذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِىإِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا بِمَآ أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ( 2
آل عمران : ( 44 ) ذلك من أنباء . . . . .
) ذلك ( : الذي ذكرت من حديث زكريا ومن حديث ويحيى ومريم وعيسى ، ) من أنباء ( : أخبار ، ) الغيب نوحيه إليك ( : ردّ الكناية إلى ذلك فلذلك ذكر . ) وما كنت ( : يا محمد ، ) لديهم ( : عندهم ، ) إذ يلقون أقلامهم ( سهامهم وقداحهم للاقتراع في الماء واحدها : قلم ، وقيل : ( أقلامهم التي كانوا يكتبون بها ) التوراة فألقوا أقلامهم التي كانت بأيديهم في الماء .
) أيهم يكفلُ مريم ( : ( . . . . ) .
(3/67)

" صفحة رقم 68 "
) وما كنتُ لديهم إذ يختصمون ( : في كفالتها .
آل عمران : ( 45 ) إذ قالت الملائكة . . . . .
) وإذ قالت الملائكة يا مريم إن اللَّه يُبشرك بكلمة منهُ ( وقرأ أبو السماك وهب بن يزيد العدوي : ( بكلمة ) مكسورة الكاف مجزومة اللام في جميع القرآن ، وهي لغة فصيحة مثل كتف وفخذ .
) اسمهُ ( : رد كناية إلى عيسى وكذلك ذكر . وقيل : رده إلى الكلام ؛ لأن الكلمة والكلام واحد .
) المسيح ( : قال بعضهم : هو فعيل بمعنى المفعول يعني : أنهُ مُسِح من الأقذار وطهر .
وقيل : مُسح بالبركة .
وقيل : لأنه خرج من بطن أُمه ممسوحاً بالدهن .
وقيل : لأنه مسح القدمين لا أخمص له .
وقيل : مسحه جبرئيل بجناحهِ من الشيطان حتى لم يكن للشيطان فيه سبيل في وقت ولادته .
وقال بعضهم : هو بمعنى الفاعل مثل عليم وعالم ، وسمي ذلك لأنهُ كان يمسح المرضى فيبرأون بإذن الله .
قال الكلبي : سمي بذلك لأنه كان يمسح عين الأعمى فيبصره .
وقيل : سمي بذلك لأنه كان يسيح في الأرض يخوضها ولا يقيم في مكان ، وعلى هذا القول الميم فيه زائدة .
وقال أبو عمرو بن العلاء : المسيح الملك .
وقال أبو تميم النخعي : المسيح الصديق ، فإما هو المِسّيح بكسر الميم وتشديد السين ، وقال غيره : هذا قول لا وجه له ؛ بل الدجال مسيح أيضاً فعيل بمعنى مفعول لأنه ممسوح إحدى العينين كأنها عين طافية ، ويكون بمعنى ( السائح ) لأنه يسيح في الأرض فيطوف الأرض كلها إلاَّ مكة والمدينة وبيت المقدس .
قال الشاعر :
(3/68)

" صفحة رقم 69 "
إنّ المسيح يقتل المسيخا
) عيسى ابن مريم وجيهاً ( : نصب على الحال ، أي شريفاً ( ذا جاه وقدر ) .
) في الدنيا و الآخرة ومن المقربين ( إلى ثواب اللّه
آل عمران : ( 46 ) ويكلم الناس في . . . . .
) ويكلّمُ النّاس في المهد ( صغيراً قبل ( أوان ) الكلام .
روى ابن أبي ( نجيح ) عن مجاهد قال : قالت مريم ( عليها السلام ) : كنتُ إذا خلوت أنا وعيسى حدّثني وحدثته . فإذا شغلني عنه إنسان سبّح في بطني وأنا أسمع .
) وكَهْلاً ( : قال مقاتل : يعني إذا اجتمع قبل أن يرفع إلى السماء .
وقال الحسن بن الفضل : ( كهلاً ) بعد نزوله من السماء .
وقال ابن كيسان : أخبرهما أنّهُ يبقى حتّى يكتهل .
وقيل : ) يُكلّمُ النّاس في المهد ( : صبيّاً وكهلاً نبيّاً ( ولم يتكلّم في المهد من الأنبياء ) إلاّ عيسى ( عليه السلام ) ، فكلامه في المهد معجزة وفي الكهولة دعوة .
وقال مجاهد : ) وكهلاً ( أي عظيماً والعرب تمدح بالكهولة لأنّها أعظم ؟ على في احتناك السنّ ، واستحكام العقل ، وجودة الرأي والتجربة .
) ومن الصالحين ( أي فهو من العباد الصالحين .
آل عمران : ( 47 ) قالت رب أنى . . . . .
) قالت ربِّ ( يا سيّدي بقولها لجبرئيل ) أنّى يكون لي ولدٌ ولم يمسسني بشر ( يعني رجل .
) قال كذلك الله ( : كما تقولين يا مريم ولكن اللّه ) يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا ( ) فإنمّا يقولُ لهُ كُنْ فيكون ( : كما يريد .
قال بعض أهل المعاني : ذكر القول ههنا بيان وزيادة إلى ذكره ليتعارف النّاس به سرعة كون الشيء فيما بينهم .
وقال آخرون : هذا وقع على الموجود في علمه وإرادته وتحت قدرته وإن كان معدوماً في ذاته .
(3/69)

" صفحة رقم 70 "
ونصب بعض القرّاء النون في قوله ) فيكون ( على جواب الأمر بالفاء ، ورفع الباقون على إضمار ) هو ( أي فهو يكون . وقيل : على تكرير الكلام تقديره : فإنمّا يقول له كن فيكون .
آل عمران : ( 48 ) ويعلمه الكتاب والحكمة . . . . .
) ويُعَلِّمُهُ ( : قرأ أهل المدينة ومجاهد وحميد والحسن وعاصم : بالياء ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله تعالى ) كذلك يخلق ما يشاء ( : قد جرى ذكره عز وجّل .
وقال المبرد : ردّوه على قوله ) إنّ الله يبشرك ويعلّمهُ ( وقرأالباقون بالنون على التعظيم ، واحتجّ أبو عمرو في ذلك لقوله ) ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ( .
) الكتاب ( : أي الكتابة والخط والعلم .
) والحكمة والتوراة والإنجيل (
آل عمران : ( 49 ) ورسولا إلى بني . . . . .
) ورسولاً ( : أي ونجعله رسولاً .
) إلى بني إسرائيل ( : فترك ذكره لأن الكلام عليه ، كقول الشاعر :
ورأيت بعلك في الوغى
متقلداً سيفاً ورمحا
أي وحاملاً رمحاً .
وأنشد الفرّاء لرجل من عبد القيس :
علفتها تبناً وماءً باردا
حتى شتت همالة عيناها
يعني سقيتها ماءً بارداً .
قال الأخفش : وإن شئت جعلت الواو في قوله ( ورسولا ) مضخمة والرسول حالاً للهاء ، تقديره : ويعلّمه الكتاب رسولاً ، وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وآخرهم عيسى ( عليه السلام ) .
روى محمد بن إسكندر عن صفوان بن سليم عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( بُعثت على أثر ثمانية آلاف نبي أربعة آلاف من بني إسرائيل ) . فلمّا بعث قال لهم : ( . . . ) .
(3/70)

" صفحة رقم 71 "
قال الكسائي : وإنمّا فتح لأنّه أوقع الرسالة عليه وقيل : بأنّي أو لأنّي .
) قد جئتكم بآية ( : والآية ) مِن ربِّكم ( : يصدّق قولي ويحقق رسالتي .
قال الخليل والفرّاء : أصلها بآيّة بتشديد الياء فثقل عليهم التشديد فأبدلوا لانفتاح ما قبل التشديد وتقديرها فعله .
وقال الكسائي : هي في الأصل أييه مثل فاطمة فحذفت أحدى اليائين فلمّا قال ذلك عيسى لبني اسرائيل . قالوا : وما هي ؟ قال : إنّي ، قول نافع بكسر الألف على الإستئناف وإضمار القول .
وقرأ الباقون بالفتح على معنى بأنّي .
) أخلقُ ( : أي أصور وأقدّر .
) لكم من الطين كهيئة الطير ( : قرأالزهري وأبو جعفر : كهيّة بتشديد الياء . و الآخرون بالهمزة . والهيئة الصورة المهيّأة ، وهي من قولهم هيأت الشيء إذا قصرته وأصلحته . وقرأ أبو جعفر ( الطاير ) بالألف ، والباقون بغير ألف .
) فأنفخ فيه ( : أي في الطين .
) فيكون طيراً بإذن الله ( : قرأه العامة على الجمع لأنّه خلق طيراً كثيراً .
وقرأ أهل المدينة : ( طائراً ) على الواحد ذهبوا إلى نوع واحد من الطير ، لأنه لم يخلق غير الخفّاش ، وإنمّا خصّ الخفّاش لأنه أكمل الطير خلقاً ، ليكون أبلغ في القدرة لأن لها ثدياً وأسناناً وهي تحيض وتطير .
وقال وهب : كان يطير ما دام النّاس ينظرون إليه ، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتّاً ليتميّز فعل الخلق من خلق اللّه ، وليعلموا أنّ الكمال للّه تعالى .
) وأُبرىء الأكمه و الأبرص ( : أي أشفيهما وأصححهما فقال : أبرأ اللّه المريض من أبرأ وبرئ هو يبرأ وبريء مبرأ برأوا فيهما جميعاً . واختلفوا في الأكمه :
فقال عكرمة والأعمش ، ومجاهد والضحّاك : ( هو الذي ) يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل .
ابن عباس وقتادة : هو الذي ولِدَ أعمى ولم يبصر ضوءً قط ، الحسن والسّدي : هو ( الأعمى ، وحكى الزجاج عن الخليل أن الأكمه هو الذي يولد أعمى وهو الذي يعمى وان كان بصيراً ) هو المعروف من كلام العرب يقال : كمُهت عينه تكمه كمهاً وكمهتها أنا إذا أعميتها
(3/71)

" صفحة رقم 72 "
قال سويد بن أبي كاهل :
كمهت عيناه حتى ابيضّتا
فهو يلحى نفسه لمّا نزع
قال رؤبة :
وكيد مطال وخصم ( مَبْده )
هدجنَ فإن تكلم ( . . . ) الأكمه هرّجت بالسّبع وقد صحت به ، والأبرص الذي به وضح .
وإنمّا خصّ هذين لأنهما عميان وكان ( الغالب ) على زمن عيسى الطبّ فأراهم اللّه المعجزة من جنس ذلك داعياً لا دواء له .
وقال وهب : ثم اجتمع على عيسى من المرضى في اليوم الواحد خمسون ألفاً من أطاق منهم أن يبلغه بلغه ، ومن لم يطق أتاه عيسى يمشي إليه . إنمّا كان يداويهم بالدّعاء على شرط الإيمان .
) وأُحيي الموتى بإذن الله ( : قيل : أحيا أربعة أنفس : عازر وكان صدّيقاً فأرسل أخته إلى عيسى أنّ أخاك عازر يموت فأته وكان بينه وبين داره ثلاثة أيّام فأتاه هو وأصحابه فوجدوه قد مات منذ ثلاثة أيّام ، فقال لأخته : انطلقي بنا إلى قبره ، فانطلقت معهم إلى قبره وهو في صخرة مطبقة . فقال عيسى : اللهم ربّ السماوات السّبع و الأرضين السّبع ، إنّك أرسلتني إلى بني إسرائيل أدعوهم إلى دينك وأُخبرهم أنّي أُحيي الموتى بإذنك فأحيي عازر . قال : فقام عازر وودكه تقطر ، فخرج من قبره وبقي وولد له .
وابن العجوز مُرّ به ميّتاً على عيسى ( عليه السلام ) على سرير يحمل فدعا اللّه عيسى ( عليه السلام ) فجلس على سريره ونُزّل عن أعناق الرجال ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه ورجع إلى أهله فبقي وولد له .
والبنت العاقر قيل له : أتُحييها وقد ماتت أمس ؟ فدعا اللّه فعاشت فبقيت وولد لها .
وسام بن نوح دعا عيسى ( عليه السلام ) بإسم اللّه الأعظم فخرج من قبره وقد شاب نصف رأسه . فقال : قد قامت القيامة ؟ قال : لا ولكني دعوتك بإسم اللّه الأعظم . قال : ولم يكونوا
(3/72)

" صفحة رقم 73 "
يشيبون في ذلك الزّمان . وكان سام قد عاش خمسمائة سنة وهو شاب ، ثم قال : مُت . فقال : بشرط أن يعيذني اللّه من سكرات الموت . فدعا اللّه عز وجّل ففعل .
قال الكلبي : كان عيسى ( عليه السلام ) يحيي الأموات ب : يا حىّ يا قيّوم .
) وأُنبئُّكم ( : أُخبركم ، ) بما تأكلون ( : ممّا أعاينه ، ) وما تدّخرون ( : وما ترزمونه ، ) في بيوتكم ( : حتى تأكلوه ، وهو يفعلون من دخرت وقرأ مجاهد وأيوب السختياني : تذخرون ، بالذال المعجمة وسكونها وفتح الخاء من ذخر يذخر ذخراً .
قال الكلبي : فلما أبرأ عيسى الأكمه و الأبرص وأحيى الموتى قالوا : هذا سحر ، ولكن أخبرنا بما نأكل وما ندّخر وكان يخبر الرجل بما أكل من غدائه وبما يأكل في عشائه .
وقال السدي : كان عيسى ( عليه السلام ) إذا كان في الكتّاب يحدّث الغلمان بما يصنع أبوهم ، ويقول للغلام إنطلق ، فقد أكل أهلك كذا وكذا ، ورفعوا لك كذا وكذا ، وهم يأكلون كذا وكذا . فينطلق الصبي إلى أهله ، ويبكي عليهم حتى يعطوه ذلك الشيء فيقولون له من أخبرك بهذا ؟ فيقول : عيسى ، فحبسوا صبيانهم عنه ، وقالوا : لا تلعبوا مع هذا الساحر ، فحبسوهم في بيت ، فجاء عيسى يطلبهم . قالوا : ليسوا عندنا . فقال : فما في هذا البيت ؟ قالوا : خنازير . قال عيسى : كذلك يكونون . ففتحوا عليهم ، فإذا هم خنازير ، ففجئنا لذلك في بأس ( . . . ) بنو إسرائيل ، فلمّا خافت عليه أُمه حملته على حميّر لها ، وخرجت به هاربة إلى مصر .
وقال قتادة : إنمّا هذا في المائدة وكان خواناً ينزل عليهم إنمّا كانوا كالمنِّ والسلوى ، وأمر القوم أن لا يخونوا لا يخبئوا لغد ، وحذّرهم البلاء إن فعلوا ذلك ( . . . ) وخونوا . فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وما ادخروا منه . فمسخهم اللّه خنازير .
) إنّ في ذلك ( الذي ذكرت لكم .
) لآيةً لكم إن كنتم مؤمنين (
آل عمران : ( 50 ) ومصدقا لما بين . . . . .
) ومصدّقاً ( عطفها على قوله : ) ورسولاً ( .
) لِما بين يدَي ( : لما قبلي .
) من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حُرّمَ عليكم ( : من اللحوم والشحوم . وقالوا أيضاً : يعني كل الذي حرّمَ عليهم من الأطبّاء ، و ( بعض ) يكون بمعنى ( كل ) ويكون كقول لبيد :
تراك أمكنة إذا لم أرضها
أو يرتبط بعض النفوس حمامها
(3/73)

" صفحة رقم 74 "
أي كل النفوس .
وقال آخر :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
يريد بعض الشر أهون من كله .
وقرأ إبراهيم النخعي : ) حرّم ( مثل كرّم أي ( صار حراماً ) .
) وجئتكم بآية من ربكم ( : يعني ما ذكرنا من الآفات ، وأما تعدّها لأنّها جنس واحد في ( الدلالة ) .
على رسالته .
) فاتقوا الله وأطيعون 2 )
آل عمران : ( 51 ) إن الله ربي . . . . .
) إنّ الله ربّي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فلما أحس عيسى ( : ( . . . ) .
وقال أبو عبيد : عَرَفَ .
مقاتل : رأى نظر .
قرأه ضحّاك : هل تحس منهم من أحد . وقوله : ) فلما أحسوا بأسنا ( ) منهم الكفر ( : وأرادوا قتله استنصر عليهم وقال : ) من أنصاري إلى الله ( : قال السدي : كان بسبب ذكر أنّ عيسى ( عليه السلام ) لمّا ( بعثه الله ) إلى بني إسرائيل وأمره بالدعوة نفته بنو اسرائيل وأخرجوه ، فخرج هو وأمّه يسيحون في الأرض ، فنزل في قرية ( على رجل فضافهم ) وأحسن إليهم ، وكان كبير المدينة جبّار معتد . فجاء ذلك الرجل يوماً مُهتماً حزيناً ، فدخل منزله ، ومريم عند امرأته فقالت : ما شأن زوجك أراه كئيباً ؟ قالت : لا تسأليني . قالت : أخبريني لعلّ اللّه يفرّج كربته . قالت : إنّ لنا ملكاً ( يجعل على كل رجل يوماً يطعمه هو وجنوده ويسقيهم من الخمر ) . فإن لم يفعل عاقبهُ ، واليوم نوبتنا وليس لذلك ( عندنا سعة ) . قالت : فقولي له لا تهتم ، فإنّي آمر إبني فيدعو له ، فيكفى ذلك . فقالت مريم لعيسى في ذلك . فقال عيسى : إنْ فعلت ذلك كان في ذلك شر ، قالت : لا تبال ، فإنه قد أحسن إلينا وأكرمنا .
قال عيسى : فقولي له إذا اقترب ذلك فأملأ قدورك وخوابيك ، ففعل ذلك . فدعا اللّه عيسى فحوّل القدر لحماً ومرقاً وخبزاً وما في الخوابي خمراً لم يرَ النّاس مثله قط . فلمّا جاء الملك أكل فلمّا شرب الخمر قال : من أين هذا الخمر ؟ قال : من أرض كذا . قال الملك : فإنّ خمري
(3/74)

" صفحة رقم 75 "
أوتى بها من هذه الأرض وليست مثل هذه . قال : هي من أرض أُخرى ، فاختلط على الملك فشدد عليه . قال : أنا أخبرك ، عندي غلام لا يسأل اللّه شيئاً إلا أعطاهُ إيّاه . وإنّه دعا اللّه تعالى ( فجعل الماء خمراً ) وكان للملك ابن يريد أن يستخلفه فمات قبل ذلك بأيّام . وكان أحبّ الخلق إليه . فقال : إنّ رجلاً دعا اللّه حتى جعل الماء خمراً لُيستجابنّ له حتى يُحيي ابني ، فدعا عيسى فكلّمهُ في ذلك . فقال عيسى : لا تفعل ، فإنه إن عاش كان شراً ، فقال الملك : لا أُبالي ، أليس أراه ، فلا أُبالي ما كان .
فقال عيسى : فإن أحييته تتركوني وأُمّي نذهب حيث نشاء . قال : نعم . فدعا اللّه فعاش الغلام . فلمّا رآه أهل مملكته قد عاش بادروا بالسلاح وقالوا : أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا إبنه . فيأكلنا كما أكلنا أبوه فاقتتلوا .
وذهب عيسى وأمّه فمرّا بالحواريين وهم يصطادون السمك . فقال عيسى : ما تصنعون ؟ قالوا : نصطاد السمك . قال : أفلا ( تمشون ) حتى نصطاد النّاس ؟ قالوا : كيف ذلك . قال : من أنصاري إلى اللّه ؟ قالوا : ومن أنت ؟ قال : أنا عيسى بن مريم عبد اللّه ورسوله . فآمنوا به وانطلقوا معه . فهم الحواريون وذلك قوله
آل عمران : ( 52 ) فلما أحس عيسى . . . . .
) فلمّا أحسّ عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله ( .
قال السدي وابن جريج والكسائي : مع اللّه ، تقول العرب : الذّود إلي الذّود إبل .
وقال النابغة :
فلا تتركوني بالوعيد كأنني
إلى النّاس مطليَّ به القار أجرب
أي مع الناس .
وقال آخر :
ولوح ذراعين في بدن
إلى جؤجؤ رهل المنكب
أي مع جؤجؤ .
نظيره قوله تعالى : ) ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ( : أي مع أموالكم .
وقال الحسن وأبو عبيدة ( من أنصاري في السبيل إلى الله ) ، تعني في : أي من أعواني في اللّه ؟ : أي في ذات اللّه وسبيله .
(3/75)

" صفحة رقم 76 "
وقال طرفة :
وإن ملتقى الحيّ الجميع تلاقني
إلى ذروة البيت الكريم المضمّد
أي في ذروة .
وقال أبو ذؤيب :
بأري التي تأري اليعاسيب أصبحت
إلى شاهق دون السماء ذؤابها درجها
) قال الحواريون ( : اختلفوا فيهم :
فقال السدّي : كانوا ملاّحين يصطادون السمك .
وكذلك روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كانوا صيّادين سُمّوا حواريين لبياض ثيابهم .
وقال أبو أرطأة : كانوا قصّارين سمّوا بذلك لأنّهم كانوا يحورّون الثياب أي يُبيّضونها .
وقال عطاء : سلّمت مريم عيسى إلى أعمال سري ، وكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وكانوا قوماً قصارين وصبّاغين ، فدفعته إلى رئيسهم ليتعلم منه . فاجتمع عنده ثياب ، وعرض له سفر . فقال لعيسى : إنّك قد تعلّمت هذه الحرفة ، وأنا خارج في سفر إلى عشرة أيّام ، وهذه ثياب مختلفة الألوان ، وقد اعلمت على كل صنف منها بخيط على اللون الذي يصبغ به فيجب أن تكون فارغاً منها وقت قدومي . فخرج وطبخ عيسى ( عليه السلام ) جُبّاً واحداً على لون واحد أدخله جميع الثياب . وقال لها : كوني بإذن اللّه على ما أُريد منك . فقدم الحواري والثياب كلها في جُبّ واحد فقال : ما فعلت ؟ قال : قد فرغت منها . قال : أين هي ؟ قال : في الجب . قال : كلّها ؟ قال : نعم .
قال : كيف تكون كلها أحمر في جُبّ واحد ؟ فقد أفسدت تلك الثياب . قال : قم فانظر . فأخرج عيسى ثوباً أحمر وثوباً أصفر وثوباً أخضر إلى أن أخرجها على الألوان التي أرادها . فجعل الحواري يتعجب ويعلم أنّ ذلك من اللّه ، وقال للنّاس : تعالوا وانظروا إلى ما صنع . فآمن به وأصحابه فهم الحواريون .
وروى يوسف الفريابي عن مصعب قال : الحواريون إثنا عشر رجلاً اتّبعوا عيسى بن مريم
(3/76)

" صفحة رقم 77 "
وكانوا إذا جاعوا قالوا : يا روح اللّه جعنا ، فيضرب بيده الأرض سهلاً كان أو جبلاً فيُخرج لكل إنسان منهم رغيفين فيأكلوهما ، وإذا عطشوا قالوا : ياروح اللّه قد عطشنا ، فيضرب بيده إلى الأرض فيخرجون منه ماء فيشربون . قالوا : يا روح اللّه من أفضل منّا إذا شئنا أطعمنا وإذا شئنا سقينا وآمنّا بك فاتّبعناك ؟ قال : أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه . قال : فصاروا يغسلون الثياب بالكراء .
وقال الضحّاك : سُمّوا حواريين لصفاء قلوبهم .
وقال عبد اللّه بن المبارك : سُمّوا حواريين لأنّهم كانوا نورانيين عليهم أثر العبادة ونورها وحُسنها . قال اللّه تعالى : ) سيماهم في وجوههم من أثر السجود ( .
وأصل الحور عند العرب شدة البياض . يقال : رجلٌ أحور وامرأة حوراء ، شديد بياض نفلة العينين . ويقال للدقيق الأبيض : الحواري ، وكل شيء بيضّته فقد حوّرته . ويقال للبيضاء من النساء حواريّة .
قال ابن ( حلّزة ) :
فقل للحواريات يُبكين غيرنا
ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح
وقال الفرزدق :
فقلت أنّ الحواريات تغطية
إذا زيّن من تحت الجلابيب
وقال ابن عون : صنع ملك من الملوك طعاماً . فدعا النّاس إليه ، وكان عيسى على قصعة ، فكانت القصعة لا تنقص . فقال له الملك : من أنت ؟ قال : أنا عيسى بن مريم . قال : إنّي آتك ملكي هذا واتبعك ، فانطلق واتبعه ومن معه فهم الحواريون .
وقال الكلبي وأبو روق : الحواريون أصفياء عيسى وكانوا إثنا عشر رجلاً .
الحسن : الحواريون الأنصار والحواري الناصر .
النضر بن شميل : الحواريون : خاصة الرجل . عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال : الحواري : الوزير
(3/77)

" صفحة رقم 78 "
وعن روح بن القاسم قال : سألت قتادة عن الحواريين فقال : هم الذين تصلح لهم الخلافة .
والحواري في كلام العرب الضامن خاصة الرجل الذي يستعين به فيما ينوبه . يدل عليه ما روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( لكلّ نبيّ حواري وحواريي الزبير بن العوّام ) .
وروى أبو سفيان بن معمر قال : قال قتادة : إنّ الحوارييّن كلهم من قريش أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والعباس وحمزة وجعفر وأبو عبيدة بن الجراح وعثمان بن مظعون وعبد الرحمن بن عروة وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد اللّه والزبير بن العوام . قال : الحواريون وأسماؤهم في سورة المائدة .
) نحن أنصار الله ( : أعوان دين اللّه ورسوله .
) آمنا بالله وأشهد بأنّا مسلمون (
آل عمران : ( 53 ) ربنا آمنا بما . . . . .
) ربّنا آمنا بما أنزلت ( : من كتابك .
) وأتبعنا الرّسول ( عيسى .
) فاكتبنا مع الشّاهدين ( الذين شهدوا لأنبيائك بالصّدق .
قال عطاء : مع النبّي لأنّ كل نبّي شاهد أُمّته ( . . . . ) مع محمّد وأُمّته .
آل عمران : ( 54 ) ومكروا ومكر الله . . . . .
) ومكروا ( : يعني كبار بني إسرائيل الذين أحسّ عيسى منهم الكفر ودبّروا في قتل عيسى . والمكر ألطف التدبير . وذلك أنّ عيسى بعد إخراج قومه إيّاه وأُمّه من بين أظهرهم عاد إليهم مع الحواريين وصاح فيهم بالدعوة فهمّوا بقتله وتواطأوا على القتل . فذلك مكرهم به .
وقال أهل المعاني : المكر السعي في الفساد في ستر ومداجاة ، وأصله من قول العرب : مكر الليل .
) ومكر الله ( : قال الفرّاء : المكر من المخلوقين الخبث والخديعة والحيلة ، وهو من اللّه استدراجه العباد . قال اللّه تعالى ) سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ( قال ابن عباس : معناه كلّما أحدثوا خطيئة جدّدنا لهم نعمة .
(3/78)

" صفحة رقم 79 "
قال الزجاج : مكر اللّه مجازاتهم على مكرهم فسمّى باسم الابتداء كقوله : ) الله يستهزىء بهم ( ، وقوله : ) وهو خادعهم ( .
وقال عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
قال الثعلبي : سمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبا عبد اللّه محمد بن عبدالله البغدادي يقول : سأل رجل جُنيداً كيف رضي المكر لنفسه ، وقد عاب به غيره ؟ فقال : لا أدري ما يقول ولكن لسيد بني ( . . . . . . ) الطبرانية :
فديتك قد جعلت على هواكا
فنفسي لا تنازعني سواكا
أحبُك لا ببعضي بل بكلي
وإن لم يُبق حبك لي حراكا
ويقبح ( من ) سواك الفعل عندي
وتفعله فيحسن منك ذاكا
فقال الرجل : أسألك عن آية من كتاب اللّه وتجيبني بشعر الطبرانية فقال : ويحك قد أجبتك إن كنت تعقل .
إن تخليته إيّاهم مع المكر به . مكر منه بهم ، ومكر اللّه تعالى خاص بهم في هذه الآية إلقاء الشبه على صاحبهم الذي أراد قتل عيسى حتى قتل وصلب ورفع عيسى إلى السماء .
قال ابن عباس : إنّ ملك بني إسرائيل أراد قتل عيسى ، وقصده أعوانه . فدخل خوخة فيها كوّة ، فرفعه جبرئيل من الكوّة إلى السماء . فقال الملك : لرجل منهم خبيث أُدخل عليه فاقتله فدخل الخوخة فألقى اللّه عليه شبه عيسى فخرج إلى النّاس فخبرّهم أنّه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه وظنّوا أنّه عيسى .
وقال وهب : طرقوا عيسى في بعض الليل فأسروه ونصبوا خشبة ليصلبوه ؛ فلمّا أرادوا صلبه أظلمت الأرض وأرسل اللّه الملائكة فحالوا بينهم وبينه وصلبوا مكانه رجلاً يقال له يهودا وهو الذي دلّهم عليه . وذلك أنّ عيسى جمع الحواريين تلك الليلة وأوصاهم ، ثم قال : ليكفرنّ أحدكم قبل أن يصيح الديكويبيعني بدراهم يسيرة . فخرجوا وتفرّقوا ، وكانت اليهود تطلبه . فأتى
(3/79)

" صفحة رقم 80 "
أحد الحواريين إلى الجنود فقال لهم : ماتجعلون لي إن دللتكم على المسيح ؟ فجعلوا له مائتين درهماً فأخذها ودلّهم عليه فألقى اللّه عليه شبه عيسى لمّا دخل البيت . فرُفع عيسى ، وأُخذ الذي دلّهم عليه فقال : أنا الذي دللتكم عليه ، فلم يلتفتوا إلى قوله وقتلوه وصلبوه ، وهم يظنّون أنّه عيسى . فلمّا صُلب شبه عيسى جاءت أُم عيسى وامرأة كان عيسى دعا لها فأبرأ لها إبنة من الجنون تبكيان عند المصلوب فجاءهما عيسى فقال لهما : علام تبكيان ؟ فقالتا : عليك . فقال : إنّ اللّه قد رفعني ولم يصبني إلاّ خير وأنّ هذا الصبّي شُبّه لهم . فلما كان بعد سبعة أيّام . قال اللّه عز وجّل لعيسى : اهبط على مريم في المحراب موضع لأمّه في خبائها فإنّها لم يبك عليك أحد بكاها ، ولم يحزن عليك أحد حزنها .
ثم لتجمع لك الحواريين حيث هم في الأرض . دعاه اللّه تعالى فأهبط اللّه عليها فاشتعل الجبل حين هبط نوراً فجمعت له الحواريين حيث هم في الأرض دعاه اللّه تعالى ثم رفعه إليه . وتلك الليلة هي الليلة التي يدخن فيها النّصارى ، فلمّا أصبح الحواريون حدّث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى إليهم فذلك قوله : ) ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين ( ) والله خير الماكرين ( أي أفضل المعاقبين . قال أهل التواريخ : حملت مريم بعيسى ولها ثلاثة عشر سنة ودارت بعيسى بيت اللحم من أرض أورشليم لمضي خمسة وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل . ولإحدى وخمسين سنة مضت من ملك الكلدانيين وأوحى اللّه عز وجّل لأُمّه على رأس ثلاثين سنة ، ورفعه إليه من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان وهو ابن ثلاثين سنة وكانت نبوّته ثلاث سنين ، وعاشت أُمّه مريم بعد رفعه ستّ سنين .
2 ( ) إِذْ قَالَ اللَّهُ ياعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ وَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ذاَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الْمُمْتَرِينَ فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَآءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ إِنَّ هَاذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ( 2
آل عمران : ( 55 ) إذ قال الله . . . . .
) إذ قال اللّهُ يا عيسى إنّي متوفيك ( اختلفوا في معنى التوفّي ههنا
(3/80)

" صفحة رقم 81 "
فقال كعب والحسن والكلبي ومطر الوراق ومحمد بن جعفر بن الزبير وابن جريج وابن زيد : معناه : إنّي قابضك .
) ورافعك ( : من الدّنيا .
) إليَّ ( : من غير موت ، يدلّ عليه قوله ) فلمّا توفّيتني ( أي قبضتني إلى السماء وأنا حيّ ؛ لأنّ قومه إنّما تنصّروا بعد رفعه لا بعد موته . وعلى هذا القول للتوفّي تأويلان :
أحدهما : إنّي رافعك إليّ وافياً لن ينالوا منك . من قولهم : توفّيت كذا واستوفيته أي أخذته تامّاً .
و الآخر : إنّي مسلّمك ، من قولهم : توفيت منه كذا أي سلّمته . وقال الربيع بن أنس : معناه أنّي منيمك ورافعك إليّ من قومك ، يدل عليه قوله : ) وهو الذي يتوفاكم بالليل ( : أي ينيمكم ؛ لأنّ النوم أخو الموت ، وقوله ) الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت فى منامها ( .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : إنّي مميتكم ، يدلّ عليه : ) قل يتوفّاكم ملك الموت ( ، وقوله ) وإمَّا نرينّك بعض الذي نعدهم أو نتوفينّك ( وله على هذا القول تأويلان :
أحدهما : ما قال وهب : توفّى اللّه عيسى ثلاث ساعات من النهار ثم أحياه ورفعهُ . والآخر : ما قاله الضحّاك وجماعة من أهل المعاني : إنّ في الكلام تقديماً وتأخيراً ، معناه إنّي رافعك إليّ .
) ومطهّرك من الذين كفروا ( : ومتوفّيك بعد إنزالك من السماء كقوله عز وجّل : ) ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجل مسمىً ( .
وقال الشاعر :
ألا يا نخلةً من ذات عرق
عليك ورحمةُ اللّهِ السّلام
أي عليك السلام ورحمة الله
(3/81)

" صفحة رقم 82 "
وقال آخر :
جمعت وعيباً نخوة ونميمة
ثلاث خصال لسن من ترعوي
أي جمعت نخوة ونميمة وعيباً .
وروى أبو هريرة عن النبّي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( الأنبياء إخوة لعلاّت شتّى ودينهم واحد ، وأنا أولى النّاس بعيسى بن مريم ؛ لأنّه لم يكن بيني وبينه نبّي ، وإنّه عامل على أُمّتي وخليفتي عليهم ، إذا رأيتموه فاعرفوه فإنّه رجل مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر كأن شعره ممطر وإن لم يصبه بلل ، بين ممصّرتين يدقّ الصليب ويقتل الخنزير ويفيض المال ، وليسلكنّ الروحاء حاجّاً أو معتمراً أو كلتيهما جميعاً ، ويقاتل النّاس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملك كلها ويهلك الله في زمانه مسيح الضلالة الكذّاب الدجّال ، ويقع في الأرض الأمنة حتى يرتع الأسود مع الإبل ، والنمور مع البقر ، والذئاب مع الأغنام ، ويلعب الصبيان بالحيّات لا يضرّ بعضهم بعضاً ، ويلبث في الأرض أربعين سنة ) .
وفي رواية كعب : ( أربعاً وعشرين سنة ، ثم يتزوج ويولد ، ثم يتوفى ويصلي المسلمون عليه ويدفنونه في حجرة النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقيل للحسن بن الفضل : هل تجد نزول عيسى ( عليه السلام ) في القرآن . فقال : نعم .
قوله : ) وكهلاً ( ، وهو لم يكتهل في الدنيا ، وإنّما معناه ) وكهلاً ( بعد نزوله من السماء .
وعن محمد بن إبراهيم أنّ أمير المؤمنين أبا جعفر حدّثه عن الآية عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( كيف تهلك أمّة أنا في أوّلها وعيسى في آخرها والمهدي من أهل بيتي في أوسطها ) .
وقال أبو بكر محمد بن موسى الواسطي : معناه أنّي متوفّيك عن شهواتك وحطوط نفسك ، ولقد أحسن فيما قال لأنّ عيسى لمّا رُفع إلى السّماء صار حاله كحال الملائكة .
) ورافعك إليَّ ( : قال البشالي والشيباني : كان عيسى على ( . . . . ) فهبّت ريح فهرول عيسى ( عليه السلام ) فرفعه اللّه عز وجّل في هرولته ، وعليه مدرعة من الشعر .
قال ابن عباس : ما لبس موسى إلا الصوف وما لبس عيسى إلا الشعر حتى رفع
(3/82)

" صفحة رقم 83 "
وقال ابن عمر : رأينا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يتبسم في الطواف فقيل له في ذلك . فقال : استقبلني عيسى في الطواف ومعه ملكان .
وقيل : معناه رافعك بالدرجة في الجنّة ومقرّبك إلى الأكرام ) ومطهّرك من الذين كفروا ( : أي مخرجك من بينهم ومُنجيك منهم .
) وجاعل الذين اتبّعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ( : قتادة والربيع والشعبي ومقاتل والكلبي : هم أهل الإسلام الذين اتّبعوا دينه وسنّته من أُمّة محمّد ؛ فوالله ما اتّبعه من دعاه رباً ) فوق الذين كفروا ( : ظاهرين مجاهرين بالعزة والمنعة والدليل والحجة .
الضحّاك ومحمد بن أبان : يعني الحواريّين فوق الذين كفروا ، وقيل : هم الرّوم .
وقال ابن زيد : وجاعل النّصارى فوق االيهود . فليس بلد فيه أحد من النّصارى إلا وهم فوق اليهود ، واليهود مستذلّون مقهورون ، وعلى هذين القولين يكون معنى الإتّباع الإدّعاء والمحبة لا اتّباع الدّين والملّة .
) ثم إلّي مرجعكم ( في الآخرة .
) فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ( : من الدين وأمر عيسى ( عليه السلام ) .
آل عمران : ( 56 ) فأما الذين كفروا . . . . .
) فأمّا الذين كفروا فأُعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا ( : بالقتل والسّبي والذّلّة والجزية
) والآخرة ( : بالنار .
) وما لهم من ناصرين ( .
آل عمران : ( 57 ) وأما الذين آمنوا . . . . .
) وأما الذّين آمنوا وعملوا الصّالحات فيوفيهم أجورهم ( : قرأ الحسن وحفص ويونس : بالياء ، والباقون بالنون .
) والله لا يحب الظالمين ( .
آل عمران : ( 58 ) ذلك نتلوه عليك . . . . .
) ذلك ( : أي هذا الذي ذكرته .
) نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم ( .
قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هو القرآن .
وقيل : هو اللوح المحفوظ ، وهو معلّق بالعرش في درّة بيضاء ، والحكيم : هو الحكم من الباطل .
آل عمران : ( 59 ) إن مثل عيسى . . . . .
قال مقاتل : ) إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم ( الآية : وذلك أنّ وفد نجران قالوا : يا رسول اللّه مالك تشتم صاحبنا ؟ قال : وما أقول ؟ قالوا : تقول إنّه عبد ؟ قال : أجل هو عبد اللّه ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول . فغضبوا وقالوا : هل رأيت إنساناً قط من غير أب ؟ فإن كنت صادقاً فأرنا مثله ؟ فأنزل اللّه عز وجّل ) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ ( في كونه خلقاً من غير أب
(3/83)

" صفحة رقم 84 "
) كمثل آدم ( في كونه خلقاً من غير أب ولا أم ) خلقهُ من تراب ( : تم الكلام .
) ثم قال له ( : يعني لعيسى .
) كن فيكون ( : يعني فكان .
آل عمران : ( 60 ) الحق من ربك . . . . .
) الحق من ربّك ( :
قال الفرّاء : رفع لخبر ابتداء مضمر يعني هو الحق أي هذا الحق . وقال أبو عبيدة : هو استئناف بعد انقضاء الكلام وخبره في قوله : ) من ربّك ( ، وقيل بإضمار فعل أي حال الحق ، وإن شئت رفعته بالضمّة ونويت تقديماً وتأخيراً تقديره من ربّك الحق كقولهم : منك يدك ، وإن كان مثلاً .
) فلا تكن من الممترين ( الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد أُمّته لأنّه لم يكن ينهاه في أمر عيسى .
آل عمران : ( 61 ) فمن حاجك فيه . . . . .
) فمن حاجّك ( : خاصمك وجادلك بأمر يا محمد .
) فيه ( : في عيسى .
) من بعد ما جاءك من العلم ( : بأنه عبد اللّه ورسوله .
) فقل تعالوا ( : قرأ الحسن وأبو واقد الليثي وأبو السمّاك العدوي : ) تعالوا ( بضم اللام ، وقرأ الباقون بفتحها و الأصل فيه تعاليوا لأنّه تفاعلوا من العلو فاستثقلت الضّمة على الياء فسكنت ثم حذفت وبقيت ( اللام على محلّها وهي عين الفعل ) ضم فإنّه نقل حركة الياء المحذوفة التي هي لام الفعل إلى اللام .
قال الفرّاء : معنى تعال كأنّه يقول ارتفع .
) ندعُ ( : جزم لجواب الأمر وعلامة الجزم فيه سقوط الواو .
) أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ( : وقيل : أراد نفوسهم ، وقيل : أراد الأزواج .
) ثمّ نبتهل ( : نتضرّع في الدّعاء . قاله ابن عباس .
مقاتل : نخلص في الدعاء .
الكلبي : نجهد ونبالغ في الدّعاء . الكسائي وأبو عبيدة : نلتعن بقول : لعن اللّه الكاذب منّا ، يقال : عليه بهلة اللّه ، وبهلته : أي لعنته .
قال لبيد : في قدوم سادة من قولهم نظر الدهر إليهم فابتهل
(3/84)

" صفحة رقم 85 "
) فنجعل ( : عطف على قوله : نبتهل .
) لعنة الله ( : مصدر . ) على الكاذبين ( : منّا ومنكم في أمر عيسى ، فلمّا قرأ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة قالوا : حتى نرجع وننظر في أمرنا ثمّ نأتيك غداً . فخلا بعضهم ببعض ، فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم : يا عبد المسيح ماترى ؟ فقال : واللّه يا معشر النّصارى لقد عرفتم أنّ محمداً نبيٌ مرسل ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم ، واللّه ما لاعن قوم نبياً قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن نعلم ذلك لنهلكنّ . فإن رأيتم إلاّ البقاء لدينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرّجل وانصرفوا إلى بلادكم ، فأتوا رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وقد غدا رسول اللّه محتضناً الحسين آخذاً بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي ( رضي الله عنه ) خلفها وهو يقول لهم : إذا أنا دعوت فأَمّنوا .
فقال أسقف نجران : يا معشر النّصارى إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا اللّه أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله ، فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة . فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك ، وأن نتركك على دينك ونثبت على ديننا . فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكُن لكم ما للمسلمين ، وعليكم ما عليهم . فأبوا . قال : فإنّي أُنابذكم بالحرب . فقالوا : ما لنا بحرب العرب طاقة ولكنّا نصالحك على أن لا تغزونا ولا تُخيفنا ولا تردّنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي سكّة ألفاً في صفر وألفاً في رجب . فصالحهم رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) على ذلك . وقال : والذي نفسي بيده إنّ العذاب قد نزل في أهل نجران ولو تلاعنوا لمُسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي ناراً ، ولاستأصل اللّه نجران وأهله حتّى الطير على الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا . قال اللّه تعالى :
آل عمران : ( 62 - 64 ) إن هذا لهو . . . . .
) إنّ هذا لهو القصصُ الحق ( إلى ) فإن تولوا ( : أعرضوا عن الإيمان .
) فإن الله عليم بالمفسدين ( : الذّين يعبدون غير اللّه ويدعون النّاس إلى عبادة غيره .
) قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ( الآية .
قال المفسرون : قدم وفد نجران المدينة فالتقوا مع اليهود فاختصموا في إبراهيم فأتاهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : يا محمد إنّا اختلفنا في إبراهيم ودينه فزعمت النصارى أنّه كان نصرانياً وهم على دينه وأولى النّاس به . وقالت اليهود : بل كان يهودياً وأنّهم على دينه وأولى النّاس به . فقال لهم رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه بل كان إبراهيم حنيفاً وأنا على دينه فأتبعوا دينه الإسلام . فقالت اليهود : يا محمد ما تريد إلا أن نتّخذك رباً كما اتخذت النصارى عيسى رباً . وقالت النصارى : واللّه يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير
(3/85)

" صفحة رقم 86 "
فأنزل اللّه تعالى ) قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء ( عدل ) بيننا وبينكم ( وكذلك كان يقولهاابن مسعود قال : دعا فلان إلى السّواء أي إلى النصف ، وسواء كل شيء وسطه . قال اللّه ) فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ( ، وإنّما قيل للنصف سواء لأن أعدل الامور وأفضلها أوسطها . وسواء نعت للكلمة إلا أنّه مصدر والمصادر لا تثنّى ولا تجمع ولا تؤنث . فإذا فتحت السين مدّت ، وإذا كسرت أو ضُمّت قصرت . كقوله عز وجّل : ) مَكَاناً سُوىً ( : أي مستو به ثم فسّر الكلمة فقال : ) ألاّ نعبد إلاّ الله ( : محل ( أن ) رفع على إضمار هي .
قال الزجاج : محلّه رفع ( بمعنى أنه لا نعبد ) ، وقيل : محله نصب بنزع حرف الصفة معناه : بأن لا نعبد إلا اللّه .
وقيل : محله خفض بدلاً من الكلمة أي تعالوا أن لا نعبد إلاّ اللّه .
) ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضناً أرباباً من دون الله ( : كما فعلت اليهود والنصارى . قال اللّه : ) اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ( . قال عكرمة : هو سجود بعضهم لبعض .
وقيل معناه : لا تطع في المعاصي أحداً ، وفي الخبر من أطاع مخلوقاً في معصية اللّه فكأنّما سجد سجدة لغيره .
) فإن تولوا فقولوا ( : أنتم لهم ) اشهدوا بأنّا مسلمون ( : مخلصون بالتوحيد ، وكتب رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية إلى قيصر وملوك الروم ، ( من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم . . .
سلام على من اتبع الهدى .
( أمّا بعد . . . . فإنّي أدعوك إلى الإسلام أسلم تسلم . أسلم يؤتك الله أجرك مرتين . فإن توليت فلن تملكوا إلا أربع سنين ، فإن توليت فعليك إثم الاريسيين ، يا أهل الكتاب ) تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ( الآية ) .
2 ( ) ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِىإِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإْنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ هاأَنتُمْ هَاؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَاذَا النَّبِىُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَاللَّهُ وَلِىُّ الْمُؤْمِنِينَ وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْل
(3/86)

" صفحة رقم 87 "
الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِأَيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ءَامِنُواْ بِالَّذِيأُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ ءَاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَىا أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ( 2
آل عمران : ( 65 ) يا أهل الكتاب . . . . .
) يا أهل الكتاب لِمَ تُحاجّون في إبراهيم ( : وتزعمون أنه كان على دينكم اليهودية والنصرانية ، وقد حدثت اليهودية بعد نزول التوراة ، والنصرانية بعد نزول الإنجيل .
) وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده ( : بعد مهلك إبراهيم بزمان طويل ، وكان بين إبراهيم وموسى ألف سنة وبين موسى وعيسى ألفا سنة .
) أفلا تعقلون ( : بعرض حجّتكم وبطلان قولكم .
آل عمران : ( 66 ) ها أنتم هؤلاء . . . . .
) ها أنتم ( : قرأه أهل المدينة بغير همز ولا مدّ إلا بقدر خروج الألف الساكنة ، وقرأ أهل مكّة مهموزاً مقصوراً على وزن هعنتم ، وقرأ أهل الكوفة بالمدّ والهمز ، وقرأ الباقون بالمدّ دون الهمز .
واختلفوا في أصله فقال بعضهم : أصله أنتم والهاء تنبيهاً . وقال الأخفش : أصله أأنتم فقلبت الهمزة الأولى هاء كقولهم : هرقت وأرقت .
) هؤلاءِ ( : مبني على الكسر ، وأصله أولاء فدخلت عليه هاء التنبيه ، وفيه لغتان : القصر والمد ، ومن العرب من يعضها .
أنشد أبو حازم :
لعمرك أنا و الأحاليف هؤلا
لفي محنة أطفالها لم تفطم
وهؤلاء ها ههنا في موضع النداء يعني يا هؤلاء .
) حاججتم فيما لكم بهِ علم ( : يعني في أمر محمد ، لأنهم كانوا يعلمونه مما يجدون من نعته في كتابهم فحاجّوا به بالباطل .
) فلم تُحاجّون فيما ليس لكم به علم ( : من حديث إبراهيم فليس في كتابكم أنّه كان يهودياً أو نصرانياً .
(3/87)

" صفحة رقم 88 "
) والله يعلم وأنتم لا تعلمون ( : نزّه إبراهيم ( عليه السلام ) وبرّأه من ادعائهم فقال :
آل عمران : ( 67 ) ما كان إبراهيم . . . . .
) ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً ( : فالحنيف الذّي يوحّد ويحج ويُضحّي ويختن ويستقبل القبلة وهو أسهل الأديان وأحبّها إلى اللّه وأهله أكرم الخلق على الله : / /
) وما كان من المشركين 2 )
آل عمران : ( 68 ) إن أولى الناس . . . . .
) إنّ أولى النّاس بإبراهيم للذين اتبعوه ( :
قال ابن عباس : قال رؤساء اليهود : واللّه يا محمد لقد علمت أنّا أولى بدين إبراهيم منك ومن غيرك ، وأنّه كان يهودياً وما بك إلاّ الحسد لنا ، فأنزل اللّه هذه الآية .
روى محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف عن أصحاب رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ويونس بن بكير عن محمد بن اسحاق رفعه . دخل حديث بعضهم في بعض . قالوا : لما هاجر رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة ، وكان من أمر بدر ما كان اجتمعت قريش في دار الندوة ، وقالوا : إنّ لنا في الذّين عند النجاشي من أصحاب محمد ثأراً بمن قتل منكم ببدر . فاجمعوا مالاً وهدوه إلى النجاشي لعلّهُ يدفع إليكم من عنده من قومكم ، ولينتدب لذلك رجلان من ذوي آرائكم .
فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أُبي معيط بالهدايا ، الأدُم وغيره . فركبا البحر وأتيا الحبشة ؛ فلمّا دخلا على النجاشي سجدا له ، وسلّما عليه وقالا له : إنّ قومنا لك ناصحون شاكرون ولصلاحك محبّون ، وإنّهم بعثونا إليك ؛ لنحذّرك هؤلاء القوم الذّين قدموا عليك لأنّهم قوم رجل كذّاب خرج فينا فزعم أنّه رسول اللّه ، ولم يبايعه أحد منّا إلا السفهاء وإنّا كنّا قد ضيّقنا عليهم الأمر . وألجأناهم إلى شعب أرضنا لا يدخل إليهم أحد . ولا يخرج منهم أحد . قد قتلهم الجوع والعطش . فلما اشتد عليه الأمر . بعث إليك ابن عم له ليفسد عليك دينك وملكك ورعيّتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم . قالوا : وآية ذلك أنّهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها النّاس رغبة عن دينك وسنّتك .
قال : فدعاهم النّجاشي فلمّا حضروا صاح جعفر بالباب : يستأذن عليك حزب اللّه . فقال النّجاشي : مروا هذا الصائح فليعد كلامه . ففعل جعفر . فقال النجاشي : نعم فليدخلوا بأمان اللّه وذمّته . فنظر عمرو بن العاص إلى صاحبه . فقال : ألا تسمع كيف يدخلون بحزب اللّه وما أجابهم النجاشي . فساءهما ذلك ، ثم دخلوا عليه ولم يسجدوا له .
فقال عمرو : ألا ترى إنّهم يستكبرون أن يسجدوا لك . فقال لهم النّجاشي : ما منعكم ألاّ تسجدوا لي وتحيوّني بالتحيّة التي يُحييّني بها من أتى من الآفاق . قالوا : نسجد للّه الذّي خلقك
(3/88)

" صفحة رقم 89 "
وملكك قال وإنما كان للملك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان . فبعث اللّه فينا نبياً صادقاً ، وأمرنا بالتحية التي رضيها اللّه لنا . وهو السلام تحية أهل الجنّة . فعرف النّجاشي أن ذلك حق فيما جاء في التوراة والانجيل . قال : أيّكم الهاتف : يستأذن عليك حزب اللّه ؟ قال جعفر : أنا . قال : تكلّم . قال : إنّك ملك من ملوك أهل الأرض ومن أهل الكتاب ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم ، وأنا أُحبّ أن أُجيب عن أصحابي فمن هذين الرّجلين أن يتكلّم أحدُهما وينصت الآخر . فتسمع محاورتنا . فقال عمرو لجعفر : تكلّم .
فقال جعفر للنجاشي : سل هذين الرجلين . أعبيد نحن أم أحرار ؟ فإن كنّا عبيداً أبقنا من أربابنا فارددنا إليهم . فقال النجاشي : أعبيد هم يا عمرو أم أحرار ؟ قال : لا ، بل أحرار كرام . فقال النجاشي : نجّوا من العبودية ، ثم قال جعفر : سلهما هل أهرقنا دماً بغير حق ؟ فاقتصّ منّا . فقال عمرو : لا ولا قطرة . فقال جعفر : سلهما هل أخذنا أموال النّاس بغير حق فعلينا إيفاؤها .
فقال النّجاشي : قل يا عمرو . وإن كان قنطاراً . فعليّ قضاؤه قال : لا ولا قيراط . قال النّجاشي : فما تطلبون منهم ؟ قال عمرو : كنّا وهم على دين واحد وأمر واحد على دين آبائنا ، وتركوا ذلك الدين واتبعوا غيره . ولزمناه نحن فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا .
فقال النجاشي : ما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الذّي اتبعتموه ؟ قال جعفر : أمّا الدين الذي كنّا عليه فتركناه فهو دين الشيطان وأمره . كنّا نكفر باللّه ونعبد الحجارة . وأما الذي تحولنا إليه فدين الإسلام جاءنا به من اللّه رسول وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقاً له . فقال النجاشي : يا جعفر تكلّمت بأمر عظيم فعلى رسلك . فأمر النجاشي فضرب بالناقوس . فاجتمع إليه كل قسّيس وراهب . فلمّا اجتمعوا عنده قال النّجاشي : أُنشدكم اللّه الذي أنزل الإنجيل على عيسى . هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيّاً مرسلاً ؟ فقالوا : اللهم نعم . قد بشرّنا به عيسى ( عليه السلام ) فقال : من آمن به فقد آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي . فقال النجاشي لجعفر : هيه : أي هات ماذا يقول لكم هذا الرّجل ؟ وما يأمركم به ؟ وما ينهاكم عنه ؟ فقالوا : يقرأ علينا كتاب اللّه ، ويأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويأمر بحسن الجوار ، وصلة الرحم ، ويأمر للوالدين واليتيم ، ويأمر بأن نعبد اللّه وحده لا شريك له . فقال : إقرأ عليّ شيئاً ممّا يقرأ عليكم . فقرأ عليهم سورة العنكبوت والرّوم . فغاضت أعين النّجاشي وأصحابه من الدمع . وقالوا : يا جعفر زدنا من هذا الحديث الطّيب . فقرأ عليهم سورة الكهف . فأراد عمرو أن يغضب النّجاشي . فقال : إنّهم يشتمون عيسى وأُمّه . فقال النّجاشي : ما تقولون في هذا ؟ فقرأ جعفر عليهم سورة مريم فلمّا أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النّجاشي نفسه من سواكه قدر ما يقذي العين وقال : ما زاد المسيح على ما يقولون .
ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال : إذهبوا فأنتم سيوم بأرضي يقول آمنون مَنْ سبّكم أو
(3/89)

" صفحة رقم 90 "
آذاكم غرّم ، ثم قال : أبشروا ولا تخافوا فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم ( عليه السلام ) قال عمرو للنّجاشي : ومن حزب إبراهيم ؟ قال : هؤلاء الرّهط وصاحبهم الذّي جاءوا من عنده ومن اتبعه ، ولكنّكم أنتم المشركون .
ثم ردّ النّجاشي على عمرو وأصحابه المال الذّي حملوه ، وقال : إنّما هديّتكم رشوة إلي . فاقبضوها ، ولكنّ اللّه ملّكني ولم يأخذ مني رشوة . قال جعفر : فانصرفنا فكنّا في خير دار ، وأكرم بلد وأنزل اللّه ذلك اليوم في خصومتهم على رسوله وهو في المدينة ) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ( : على مثله .
) وهذا النبّي ( : يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ) والذين آمنوا والله ولىّ المؤمنين ( .
روى مسروق عن عبد اللّه قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( لكلّ نبّي ولاء من النبيّين وإنّ وليّي منهم أبي وخليل ربّي ثم قرأ الآية ) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ ( . . . ) .
آل عمران : ( 69 ) ودت طائفة من . . . . .
) ودّت ( : تمّنت .
) طائفةٌ من أهل الكتاب . . . . ( الآية : نزلت في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمّار ابن ياسر حين دعاهم اليهود إلى دينهم ، قد مضت هذه القصة في سورة البقرة .
) ودّت ( : تمّنت . ) طائفة ( : جماعة من أهل الكتاب يعني اليهود .
) لو يُضّلونكم ( : يزّلونكم عن دينكم ويردّوكم إلى الكفر . وقال ابن جرير : يهلكونكم كقول الأخطل يهجو جرير بن عطية :
كنت القذى في موج أكدرمزبد
قذف الآتي به فضّل ضلالا
أي هلك هلاكاً .
) وما يُضّلون إلا أنفسهم وما يشعرون ( .
آل عمران : ( 70 ) يا أهل الكتاب . . . . .
) يا أهل الكتاب ( : يعني اليهود والنّصارى . ) لِمَ تكفرون بآيات الله ( : يعني القرآن وبيان نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم )
) وأنتم تشهدون ( : إنّ نعته مذكور في التوراة والإنجيل .
آل عمران : ( 71 ) يا أهل الكتاب . . . . .
) يا أهل الكتاب لم تلبسون ( : تخلطون ) الحقّ بالباطل ( : الإسلام باليهوديّة والنصرانيّة .
وقال ابن زيد : التوراة التّي أنزل اللّه على موسى بالباطل الذّي غيّرتموه ، وحرّفتموه ، وضيّعتموه ، وكتبتموه بأيديكم
(3/90)

" صفحة رقم 91 "
) وتكتمون الحقّ وأنتم تعلمون ( : أنّ محمداً رسول اللّه ودينه حقّ .
وقرأ أبو مجلز : تلبّسون بالتشديد . وقرأ حسن بن عمير : تلبسوا وتكتموا بغير نون ولا وجه له .
آل عمران : ( 72 ) وقالت طائفة من . . . . .
) وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذّي أُنزل على الذّين آمنوا ( : الآية .
قال الحسن والسّدي : تواطأ إثنا عشر حبراً من يهود خيبر وقرى عربية ، وقال بعضهم لبعض : أُدخلوا دين محمد أول النهار باللسان دون الإعتقاد ، واكفروا آخر النهار وقولوا : إنّا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمداً ليس بذلك ، وظهر لنا كذبه وبطلان دينه ؛ فإذا فعلتم ذلك شكّ أصحابه في دينهم ، وقالوا : إنّهم أهل الكتاب وهم أعلم به منّا فيرجعون عن دينهم إلى دينكم ، وقالوا : إنّهم أهل .
وقال مجاهد ومقاتل والكلبي : هذا في تبيان القبلة لما صُرفت إلى الكعبة . فشقّ ذلك على اليهود لمخالفتهم . فقال كعب بن الأشرف لأصحابه : آمنوا بالذّي أُنزل على محمد من أمر الكعبة ، وصلّوا إليها أول النّهار ثمّ اكفروا آخر النّهار ، وارجعوا إلى قبلتكم الصّخرة لعلّهم يقولون أهل الكتاب هم أعلم منّا فيرجعون إلى قبلتنا ، فحذّر اللّه نبيّه مكر هؤلاء وأطلعه على سرّهم . فأنزل : ) وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا ( ) وجه النّهار ( : أوّله وسّمى الوجه وجهاً لأنّه أحسنه ، وأول ما يواجه به الناظر فيرى ، ويقال لأول الشيب وجهه .
قال الربيع بن زياد :
من كان مسروراً بمقتل مالك
فليأتِ نسوتنا بوجه نهار
) واكفروا آخره لعلهم ( : يشكّون . ) يرجعون ( : عن دينهم .
آل عمران : ( 73 ) ولا تؤمنوا إلا . . . . .
) ولا تؤمنوا ( : ولا تصّدقوا .
) إلا من تبع دينكم ( : هذا من كلام اليهود أيضاً بعضهم لبعض ولا تؤمنوا ولا تصدّقوا إلا من تبع دينكم أي وافق ملّتكم وصلّى إلى قبلتكم واللام في قوله ) لمن ( : صلة يعني ولا تؤمنوا إلا من تبع دينكم اليهوديّة كقول اللّه تعالى ) قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون (
) قل إنّ الهدى هدى الله أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم ( الآية : اختلف القرّاء والعلماء فيه ، فقرأت العامّة : أن يؤتى بالفتح من الألف وقصرها ووجه هذه القراءة إنّ هذا الكلام معترض بين
(3/91)

" صفحة رقم 92 "
كلامين وهو خبر عن اللّه تعالى أنّ البيان وما يدلّ قوله
) قل إنّ الهدى هدى الله ( متصل بالكلام الأوّل إخباراً عن قول اليهود بعضهم لبعض ، ومعنى الآية : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أُؤتيتم من العلم والحكمة والحجّة في المنّ والسلوى ، وفلق البحر وغيرها من الفضائل والكرامات . ولا تؤمنوا أن يُحاجّوكم عند ربّكم لأنّكم أصحّ ديناً منه ، وهذا معنى قول مجاهد و الأخفش .
وقال ابن جريج وابن زيّات : قالت اليهود لسفلتهم : لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وأيّ فضل يكون لكم عليهم حيث علموا ما علمتم وحينئذ ) يُحّاجوكم عند ربّكم ( : يقولون عرفتم أنّ ديننا حقّ فلا تصدّقوهم لئلاّ يعلموا مثل ما عُلّمتم ولا يُحاجّوكم عند ربكم ، ويجوز أن يكون على هذا القول لا مضمراً كقوله تعالى ) يبين الله لكم أن تضلّوا ( يكون تقديره ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم لئلاّ يؤتى أحد من العلم مثل ما أوتيتم وألا يحاجّوكم عند ربكم .
وقرأ الحسن و الأعمش : إن يؤتى بكسر الألف ووجه هذه القراءة إنّ هذا كلّه من قول اللّه بلا اعتراض وأن يكون كلام اليهود تاماً عند قوله ) إلا لمن تبع دينكم ( ومعنى الآية : قل يا محمد إنّ الهدى هدى اللّه أن يؤتى ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أُمّة محمد أو يحاجّوكم ، يعني إلا أن يجادلكم اليهود بالباطل فيقولون نحن أفضل منكم وقوله : ) عند ربّكم ( أي عند فضل ربّكم لكم ذلك ويكون ( أنّ ) على هذا القول بمعنى الجحد والنفي .
وهذا معنى قول سعيد بن جبير والحسن وأبي مالك ومقاتل والكلبي . وقال الفرّاء : ويجوز أن يكون ( أو ) بمعنى حتّى كما يقال : تعلّق به أو يعطيك حقّك أي حتى يعطيك حقّك .
وقال امرؤ القيس :
فقلت له لا تبك عينك إنّما
نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
أي حتى نموت .
والمعنى لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، ما أعطى أحداً مثل ما أُعطيتم يا أُمة محمد من الدّين والحجّة حتّى يحاجّوكم عند ربّكم .
وقرأ ابن كثير : أن يؤتى بالمدّ وحينئذ يكون في الكلام إختيار تقديرها : أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم يا معشر اليهود من الكتاب والحكمة تحسدونهم ولا تؤمنون بهم وهذا قول قتادة والربيع
(3/92)

" صفحة رقم 93 "
و إلاّ هذا من قول اللّه عز وجّل : قل لهم يا محمد إنّ الهدى هدى اللّه لما أنزل كتاباً مثل كتابكم وبعث نبيّاً مثل نبيّكم حسدتموه وكفرتم به .
) قل إنّ الفضل بيد الله ( الآية .
قال أبو حاتم : إنّ معناه الآن فحذف لام الجزاء استخفافاً وأُبدلت مدّه كقراءة من قرأ : ) أن كان ذا مال ( أي الآن كان .
وقوله : أو يحاجّوكم على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين ويكون أو بمعنى أن لأنّهما حرفا شك وجزاء ويوضع أحدهما موضع الآخر وتقدير الآية : وإن يحاجّوكم يا معشر المؤمنين عند ربّكم فقل يا محمد : إنّ الهدى هدى اللّه ونحن عليه .
ويحتمل أن يكون الجميع خطاباً للمؤمنين ويكون نظم الآية : أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر المؤمنين ( فلا تشكّو عند تلبيس اليهود ) فقل إنّ الفضل بيد اللّه .
وإن حاجّوكم فقل إنّ الهدى هدى اللّه .
فهذه وجوه الآيات باختلاف القرآن . ويحتمل أن يكون تمام الخبر عن اليهود عند قوله ) لعلّهم يرجعون ( فيكون قوله ) ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ( إلى آخر الآية من كلام اللّه عزّ وجّل . وذلك إنّ اللّه تعالى مثبّتٌ لقلوب المؤمنين ومشحذٌ لبصائرهم لئلاّ يشكّوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم في دينهم أي : ولا تصدّقوا يا معشر المؤمنين إلا لمن تبع دينكم ولا تصدّقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدين والفضل ، ولا تصدّقوا أن يحاجّوكم في دينكم عند ربّكم فيقدرون على ذلك فإنّ الهدى هدى اللّه وأنّ الفضل بيد اللّه .
) يؤتيه من يشاء واللّهُ واسعٌ عليم ( : فتكون الآية كلّها خطاب اللّه عز وجّل للمؤمنين عند تلبيس اليهود عليهم لئلاّ يزلّوا ولا يرتابوا واللّه أعلم . يدل عليه قول الضحّاك قال : إنّ اليهود قالوا : إنّا نحاجّ عند ربنا من خالفنا في ديننا فبيّن اللّه تعالى أنّهم هم المدحضون أي المغلوبون ، وإنّ المؤمنين هم الغالبون .
وقال أهل الإشارة في هذه الآية : لا تعاشروا إلا من يوافقكم على أحوالكم وطريقتكم فإنّ من لا يوافقكم لا يرافقكم .
آل عمران : ( 74 ) يختص برحمته من . . . . .
) يختص برحمته ( : بنبوّته ودينه ونعمته .
) من يشاء والله ذو الفضل العظيم ( : وقال أبو حيّان : إجمال القول يبقى مع رجاء الرّاجي وخوف الخائف .
(3/93)

" صفحة رقم 94 "
2 ( ) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذاَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِى الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيًلا أُوْلَائِكَ لاَ خَلَاقَ لَهُمْ فِى الاَْخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَاكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَآ ءَاتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذالِكُمْ إِصْرِى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذاَلِكَ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ قُلْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاَْسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاَْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 2
آل عمران : ( 75 ) ومن أهل الكتاب . . . . .
) ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك ( : الآية : قال أكثر المفسّرين : نزلت هذه الآية في اليهود كلّهم ، أخبر اللّه تعالى إنّ فيهم أمانة وخيانة . والقنطار عبارة عن المال الكثير ، والدينار عبارة عن المال القليل .
فإن قيل : فأيّ فائدة في هذه الأخبار وقد علمنا أنّ النّاس كلّهم لم يزالوا كذلك منهم الأمين ومنهم الخائن .
قلنا : تحذير من اللّه تعالى للمؤمنين أن يأتمونهم على أموالهم أو يغترّوا بهم لاستحلالهم أموال المؤمنين .
وهذا كما روي في الخبر : أتراعون عن ذكر الفاجر ؟ اذكروه بما فيه كي يحذره النّاس .
وقال بعضهم : الأمانة راجعة إلى من أسلم منهم ، والخيانة راجعة إلى من لم يسلم منهم .
وقال مقاتل : ) ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك ( : عبد اللّه بن سلام أودعه رجل ألفاً ومائتي أوقية من الذّهب فأدّاه إليه فمدحه اللّه .
) ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك ( : في مخاض بن عازورا وذلك أنّ رجلاً من قريش استودعه ديناراً فخانه
(3/94)

" صفحة رقم 95 "
وفي بعض التفاسير : إنّ الذّي يؤدّي الأمانة في هذه الآية هم النصارى ، والذين لا يؤدّونه هم اليهود .
وفي قوله ) تأمنه ( : قراءتان .
قرأ الأشهب العقيلي : تِيمنهُ بكسر التاء وهي لغة بكر وتميم ، وفي حرف ابن مسعود مالك لا تيمنّا .
وقراءة العامّة تأمنه بالالف . والدينار أصله دنّار فعوّض من إحدى النّونين ياء طلباً للخفّة لكثرة استعماله ، يدلّ عليه أنّك تجمعه دنانير .
وفي قوله ) يؤدّه ( وأخواته خمس قراءات .
فقرأها كلّها أبو عمرو و الأعمش وعاصم وحمزة : ساكنة الهاء .
وقرأ أبو جعفر ويعقوب : مختلسة مكسورة . وقرأ سلام : مضمومة مختلسة . وقرأ الزهري : مضمومة مشبعة .
وقرأ الآخرون : مكسورة مشبعة فمّن سكّن الهاء فإنّ كثيراً من النحاة خطّئوه ، لأن الجزم ليس في الهاء إذا تحرك ما قبلها والهاء اسم المكنّى و الأسماء لا تجزم .
قال الفرّاء : هذا مذهب بعض العرب يجزمون الهاء إذا تحرّك ما قبلها فيقول : ضربته ضرباً شديداً ، كما يسكّنون ميم أنتم وقمتم وأصلها الرفع .
وأنشد :
لمّا رأى أن لا دعه ولا شبع
مال إلى أرطأة حقف فاضطجع
وقال بعضهم : إنّما جاز إسكان الهاء في هذه المواضع لأنّها وضعت في موضع الجزم وهو الياء الذاهب ، ومن اختلس فإنّه اكتفى بالضمّة عن الواو وبالكسر عن الياء وأنشد الفرّاء :
أنا ابن كلاب وابن أوس
فمن يكن قناعه مغطيّا فإنّي لمجتلى
وأنشد سيبويه :
فإن يكن غثّاً أو سميناً فإنّه
سيجعل عينيه لنفسه مغمضاً
ومن أشبع الهاء فعلى الأصل لما كان الحرف ضعيفاً قوي بالواو في الضم وبالياء في الكسر .
(3/95)

" صفحة رقم 96 "
قال سيبويه : يجيء بعد هاء المذّكر واو كما يجيء بعد هاء المؤنّث ألف . ومن ضمّ الهاء فعلى الأصل ؛ لأنّ أصل الهاء الضمّة مثل هو ، وهُما وهُم ، ومن كسر فقال ؛ لأنّ قبله ياء وإن كان محذوفاً فلأنّ ما قبلها مكسور .
) إلاّ ما دُمتَ عليه قائماً ( : قرأ يحيى وثابت و الأعمش وطلحة بكسر الدّال ، والباقون بالضّم .
من ضمّ فهو من دام يدوم ، ومن لغة العالية . ومن كسر فله وجهان ، قال بعضهم : هو أيضاً من دام يدوم إلا أنّه على وزن فعل يفعل ، يقول دمت تدوم مثل مت تموت ، قاله الأخفش . وليس في الأفعال الثلاثيّة فعِل يفعِلُ بكسر العين في الماضي وضمّها في الغابر من الصحيح الآخر فإنّ فضِل يفضُل ، ونعِم ينعُم ، ومن المعتّل متُّ أموتُ ودمتُ أدوم وهما لغة تميم .
قال أكثر العلماء : من كرام يدام فعِل يفعل مثل خاف يخاف ، وهاب يهاب .
) قائماً ( : قال ابن عبّاس : مُلحاً .
مجاهد : مواظباً . سعيد بن جبير : مرابطاً . قتادة : قائماً تقتضيه . السّدي : قائماً على رأسه .
العتيبي : مواظباً بالإقتضاء وأصله إنّ المطالب للشيء يقوم فيه والتّارك له يقعد عنه ، ودلالة قوله : أُمّة قائمة أي : عاملة بأمر اللّه غير تاركة .
أبو روق : يعترف بما دفعت إليه ما دمت قائماً على رأسه ، فإن سألته إيّاه في الوقت حينما تدفعه إليه يردّه عليك وإن أنظرته وأخّرته أنكر وذهب به وذلك الاستحلال والخيانة .
) بأنّهم قالوا ليس علينا في الأمييّن ( : أي في حال العرب . نظيره ) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الاْمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ (
) سبيل ( : إثم وحرج دليله قوله : ) مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيل ( وذلك ؛ إنّ اليهود قالوا لا حرج علينا في حبس أموال العرب قد أحلّها اللّه لنا ؛ لأنّهم ليسوا على ديننا ، وكانوا يستحلّون ظلم من خالفهم في دينهم يقولون لم يجعل اللّه لهم في كتابنا حرمة .
الكلبي : قالت اليهود إنّ الأموال كلّها كانت لنا فما كانت في أيدي العرب منها فهو لنا وإنّما ظلمونا وغصبونا ظلماً فلا سبيل علينا في أخذنا إيّاه منهم .
(3/96)

" صفحة رقم 97 "
الحسن وابن جريج ومقاتل : بايع اليهود رجالاً من المسلمين في الجاهلية فلمّا أسلموا تقاضوهم بقيمة أموالهم فقالوا : ليس لكم علينا حقّ ولا عندنا قضاء لكّم تركتم الدّين الذي كنتم عليه وانقطع العهد بيننا وبينكم ، وادّعوا إنّهم وجدوا ذلك في كتابهم فكّذّبهم اللّه تعالى فقال : ) ويقولون على الله الكذبَ وهم يعلمون ( .
وفي الحديث : لما نزلت الآية قال النبّي ( صلى الله عليه وسلم ) ( كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنّها موفاة إلى البرّ والفاجر ) .
وروى أبو إسحاق الهمداني عن صعصعة : إنّ رجلاً سأل ابن عباس فقال : إنّا نصيب في الغزو من أموال أهل المدينة الدّجاجة أو الشاة قال ابن عبّاس : ويقولون ماذا ؛ قال : يقولون : ليس علينا بأس . قال : هذا كما قال أهل الكتاب ) ليس علينا في الأمييّن سبيل ( إنهم إذا أدّوا الجزية لم يحلّ لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم ثمّ قال اللّه تعالى ردّاً عليهم :
آل عمران : ( 76 ) بلى من أوفى . . . . .
) بلى ( : أي ليس كما قالوا ولكن ) من أوفى بعهده ( : الذي عاهد اللّه في التوراة من الإيمان بمحمّد والقرآن وأداء الأمانة .
والهاء في قوله ) بعهده ( راجعة إلى اللّه عزّ وجّل قد جرى ذكره في قوله ) ويقولون على اللّه الكذب ( . ويجوز أن تكون عائدة إلى ) أوفى ( ) واتّقى ( : من الكفر والخيانة ونقض العهد .
) فإنّ الله يُحبُّ المتّقين ( : من هذه صفته .
وعن الحسن : قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثلاثة من كنّ فيه فهو منافق وإن صلّى و صام وزعم أنّه مؤمن ، إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتُمِن خان ) .
وعن أبي أمامة قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من ائتمن على أمانة فأدّاها ولو شاء لم يؤدّها زوجّه الله من الحور العين ما شاء ) .
الحسن عن أبي سعيد الخدري عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( التّاجر الصّدوق الأمين مع النبييّن والصدّيقين والشهداء ) .
وهب عن حذيفة قال : حدّثني رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر
(3/97)

" صفحة رقم 98 "
حدّثنا : ( إنّ الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجّال ، ونزل القرآن فتعلّموا من القرآن وتعلّموا من أصل السّنة ) .
ثم حدّثنا عن رفعهما فقال : ( ينام الرّجل النومة فينزع الأمانة من قلبه فيظل أثرها كأثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فتراه منتثراً وليس فيه شيء ) . ثم أخذ حذيفة حصاة فدحرجها على ساقه قال : فيصبح النّاس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتّى يقال له : فلان رجلا أميناً ، وحتّى يقال للرّجل : ما أجلده ، ما أعقله ، وأظرفه وما في قلبه مثقال حبّة خردل من إيمان . ولقد أتى عليّ حين ولا أبالي أيّكم بايعت لئن كان مسلماً ليردّن على إسلامه ولئن كان يهودياً أو نصرانياً ليردّنّ على ساعيه فأنا اليوم فما كنت لأبايع رجلاً منكم إلاّ فلاناً وفلاناً .
وقيل : أكمل الدّيانة ترك الخيانة ، وأعظم الجناية خيانة النّاس .
آل عمران : ( 77 ) إن الذين يشترون . . . . .
) إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً ( : اختلفوا في نزول هذه الآية :
فقال عكرمة : نزلت في أبي رافع وكنانة بن أبي الحقيق وحيي بن أحطب وغيرهم من رئيس اليهود كتبوا ما عهد اللّه إليهم في التوراة في شأن محمّد ( صلى الله عليه وسلم ) وبدّلوه وكتبوا بأيديهم غيره ، وحلفوا إنّه من عند اللّه لئلا يفوتهم الرّشى والمأكل التي كانت لهم على أتباعهم .
وقال الكلبي : إنّ ناساً من علماء اليهود أولي فاقة كانوا ذوي حظ من علم التوراة فأصابهم سِنَة . فأتوا كعب بن الأشرف يستميرونه فسألهم كعب : هل تعلمون أنّ هذا الرجّل رسول اللّه في كتابكم ؟ فقالوا : نعم ، وما تعلمه أنت ؟ قال : لا . قالوا : فإنّا نشهد إنّه عبد اللّه ورسوله ، قال كعب : قد كذبتم عليّ فأنا أريد أن أميركم وأكسوكم فحرمكم اللّه خيراً كثيراً .
قالوا : فإنّه شبّه لنا . فرويداً حتى نلقاه . قال : فانطلقوا فكتبوا صفة سوى صفته ، ثم أتوا نبي اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فكتموه ثم رجعوا إلى كعب ، فقالوا : قد كنّا نرى رسول اللّه فأتيناه ، فإذا هو ليس بالنعت الذّي نُعت لنا وأخرجوا الّذي كتبوه . ففرح بذلك كعب ، ومكرهم فأنزل اللّه عزّ وجّل هذه الآية ، نظيرها قوله : ) إنّ الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب يشترون به ثمناً قليلاً ( الآية .
وروى منصور بن أبي وائل قال : قال عبد اللّه : من حلف على عين يستحقّ بها مالاً وهو فيها فاجر لقي اللّه عزّ وجّل وهو عليه غضبان . فأنزل اللّه تعالى تصديق ذلك ) إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً ( الآية .
وقال الأشعث بن قيس : فيّ نزلت ، وكانت بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى
(3/98)

" صفحة رقم 99 "
رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( شاهداك أو يمينه ) . فقلت : إنّه إذاً يحلف ولا يبالي . فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من حلف على عين يستحقّ بها مالاً هو فيها فاجر لقي الله تعالى وهو عليه غضبان ) . فأنزل اللّه تعالى : ) إنّ الّذين يشترون . . . ( الآية .
وقال ابن جريج : إنّ الأشعث بن قيس اختصم هو ورجل إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) في أرض كانت في يده لذلك ليعزّره في الجاهلية : فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( أقم بيّنتك ؟ ) . قال الرجل : ليس يشهد لي على الأشعث بن قيس أحد . قال : ( لك يمينه ) . فقام الأشعث وقال : أُشهد اللّه وأُشهدكم أنّ خصمي صادق . فرّدَّ إليه أرضه وزاده من أرض نفسه زيادة كثيرة مخافة أن يبقى في يده شيء من حقّه فهو لعقب ذلك الرجل من بعده .
وروى بادان عن ابن عباس قال : نزلت في امرىء القيس بن عابس الكندي استعدى عليه عبدان بن أشرع فقضى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) بالحلف ، فلمّا همّ أن يحلف نزلت هذه الآية . فامتنع أمرىء القيس أن يحلف وأقرّ لعبدان بحقّه ودفعه إليه . فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) لك عليها الجنّة .
وقال مجاهد والشعبي : أقام رجلاً سلعته أوّل النّهار فلمّا كان آخره جاء رجل فساومه فحلف لقد منعها أوّل النّهار من كذا ولولا المساء لما باعها به . فأنزل اللّه تعالى ) إنّ الّذين يشترون بعهد الله ( : أي يستبدلون بعهد اللّه وإيفاء الأمانة ) وأيمانهم ( الكاذبة ) ثمناً قليلاً ( .
) أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ( : ونعيمها وثوابها ولا يكلمهم اللّه كلاماً ينفعهم ويسرّهم . قاله المفسرون ، وقال المفضل : ) ولا يكلمهم الله ( : بقبول حجّة يحتجّون بها .
) ولا ينظر إليهم يوم القيامة ( : أي لا يرحمهم ولا يعطف عليهم ولا يحسن إليهم ولا يكلمهم خيراً . يُقال نظر فلان لفلان ، ونظر إليه إذا رحمه وأحسن إليه .
قال الشاعر :
فقلت انظري ما أحسن النّاس كلّهم
لبني غلّة صدبان قد شفّهُ الوجد
وعن أبي عمرو الجوني قال : ما نظر اللّه إلى شيء إلا رحمه ؛ ولو قضى أن ينظر إلى ( أهل ) النّار لرحمهم ، ولكن قضى أن لا ينظر إليهم .
روى عبد اللّه بن كعب عن أبي أمامة الخازني : إنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من اقتطع حقّ امرىء مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النّار وحرّم عليه الجنّة ) ، فقال رجل وإن كان شيئاً يسيراً قال : ( وإن كان قضيباً من أراك )
(3/99)

" صفحة رقم 100 "
وروى محمد بن زيد القرشي عن عبد اللّه بن أبي أمامة الخازني عن عبد اللّه بن أنس قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس . والذي نفسي بيده لا يحلف أحد وإن كان على مثل جناح بعوضة إلا كانت وكنة في قلبه إلى يوم القيامة ) .
) ولا يزكيّهم ولهم عذاب أليم ( :
رجل على فضل ما بالطريق فمنع ابن السّبيل ، ورجل بايع رجلاً لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه ما يريد وفى له و إلاّ لم يفِ لهُ ، ورجل يساوم سلعته بعد العصر . فحلف باللّه لقد أعطي بها كذا وكذا فصدّقه الآخر وأخذها .
وروى الحارث الأعور عن علي ( عليه السلام ) قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( إيّاكم واليمين الفاجرة . فإنّها تدع الدّيار بلاقع من أهلها ) .
وروى معمّر في رجل من بني تميم عن أبي الأسود قال : سمعت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( اليمين الفاجرة تعقم الرحم ) .
العلاء بن عبد الرّحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب ) .
آل عمران : ( 78 ) وإن منهم لفريقا . . . . .
) وإنّ منهم ( : يعني من أهل الكتاب الذين تقدّم ذكرهم وهم اليهود .
) لفريقاً ( : طائفة وهم : كعب بن الأشرف ، ومالك بن الصّف ، وحيي بن الأخطب ، وأبو ياسر وحيي وسبعة بن عمرو الشاعر .
) يلوون ( : قرأ أهل المدينة ) يلوون ( مضمومة الياء مفتوحة اللام مشدّدة الواو على التكثير .
وقرأ حميد : ) يلون ( بواو واحدة على نية الهمز ، ثم ترك الهمزة ونقل حركتها إلى اللام . وقرأ الباقون بواوين ولام ساكنة مخففة ومعناها جميعاً يعطفون ) ألسنتهم ( : بالتحريف المتعنّت وهو ما غيّروا من صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وآية الرّجم . يقال : لوى لسانه عن كذا أي غيّره ، ولوى الشيء عمّا كان عليه إذا غيّره إلى غيره ، ولوى فلاناً عن رأيه ، إذا أماله عنه ، ومنه : ليُّ الغريم ، قال النابغة الجعدي
(3/100)

" صفحة رقم 101 "
لوى اللّه علم الغيب عم سواءه
ويعلم منه ما مضى وتأخرا
ونظيره قوله : ) وإن تلووا أو تعرضوا . . . . ( الآية .
) لتحسبوهُ ( : لتظنّوا ما حرّفوا ) من الكتاب ( : الذي أنزله اللّه .
) وما هو من الكتاب ويقولون على الله الكذِب وهم يعلمون ( : إنّهم كاذبون .
وروى جويبر عن الضحّاك عن ابن عباس : إنّ الآية نزلت في اليهود والنّصارى جميعاً والذين هم حرّفوا التوراة والإنجيل ، وضربوا كتاب اللّه بعضه ببعض وألحقوا به ما ليس منه فأسقطوا منه الدين الحنفي ، فبيّن اللّه تعالى كذبهم للمؤمنين .
آل عمران : ( 79 ) ما كان لبشر . . . . .
) ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة ( الآية .
قال الضحّاك ومقاتل : ما كان لبشر يعني عيسى ( عليه السلام ) ) أن يؤتيه اللّه الكتاب ( يؤتى الحكمة . نزلت في نصارى أهل نجران .
وقال ابن عباس وعطاء : ما كان لبشر يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) أن يؤتيه اللّه الكتاب : يعني القرآن ؛ وذلك أنّ أبا رافع القرظي من اليهود والرئيس من نصارى أهل نجران قالا : يا محمد أتريد أن نعبدك ونتخذك رباً ؟ فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غير الله ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني ) . فأنزل اللّه تعالى هذه الآية .
وقال الحسن : بلغني أنّ رجلاً قال : يا رسول اللّه نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض ، أفلا نسجد لك ؟ قال : ( لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيّكم واعرفوا الحق لأهله ) . فأنزل اللّه ) ما كان لبشر ( : يعني ما ينبغي لبشر ، كقوله ) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً ( وكقوله ) ما يكون لنا أن نتكلّم بهذا ( : يعني ما ينبغي .
وقال أهل المعاني : هذه اللام منقولة وأن بمعنى اللام ، وتقدير الآية : ما كان لبشر ليقول ذلك نظير قوله : ) ما كان للّه أن يتّخذ من ولد ( : أي ما كان الله ليتخذ ولداً وقوله ) ما كان لنبي أن يغل ( أي ما كان لنبىّ ليغلّ . والبشر جميع بني آدم لا واحد من لفظه : كالقوم والجيش ، ويوضع موضع الواحد والجمع
(3/101)

" صفحة رقم 102 "
) أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة ( : يعني الفهم والعلم ، وقيل أيضاً الأحكام عن اللّه تعالى ، نظير قوله تعالى ) أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوّة ( .
) ثمّ يقول للنّاس ( : نصب على العطف ، وروى محبوب عن أبي عمرو : ثُمّ يقولُ بالرفع على الإستئناف .
) كونوا عباداً لي من دون الله ( : قال ابن عباس : هذه لغة مُزينة تقول للعبيد عباد .
) ولكن كونوا ( : أي ولكن يقول كونوا ، فحذف القول .
) ربّانييّن ( : إختلفوا فيه : فقال عليّ وابن عباس والحسن والضحّاك : كونوا فقهاء علماء .
مجاهد : فقهاء وهم دون الأحبار . أبو رزين وقتادة والسّدّي : حكماء علماء ، وهي رواية عطية عن ابن عباس . وروى سعيد بن جبير عنه : فقهاء معلّمين .
وقال مرّة بن شرحبيل : كان علقمة من الرّبانييّن الذين يعلّمون النّاس القرآن .
وروى الفضل بن عياض عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير : حكماء أتقياء .
ابن زيد : ولاة النّاس ، وقادتهم بعضهم متعبدين مخلصين .
عطاء : علماء حكماء نصباء للّه في خلقه . أبو عبيد : لم يعرف العرب الرّبانييّن .
أبو ( عبيد ) : سمعتُ رجلاً عالماً يقول : الرّباني : العالم بالحلال والحرام و الأمر والنهي . العارف بأنباء الأمّة وما كان وما يكون .
المؤرّخ : كونوا ربّانييّن تدينون لرّبكم ، كأنّه فعلاني من الربوبية .
وقال بعضهم : كان في الأصل ربّي ، فأدخلت الألف للتضخيم وهو لسان السريّانية ، ثم أدخلت النون لسكون الألف كما قيل : صنعاني وبحراني وداراني .
المبرّد : الرّبانيوّن : أرباب العلم واحدها ربّان وهو الذي يرث العلم ويربّب النّاس أي يعلّمهم ويصلحهم فيقوم بأمرهم ، و الألف والنون للمبالغة . كما قالوا : ريّان وعطشان وشبعان وغوثان ونعسان من النّعاس ووسنان ثم ضُمّ إليه ياء النسبة كما قيل . وقال الشاعر :
لو كنت مرتهناً في الحقّ أنزلني
منه الحديث وربّاني أحباري
وقد جمع علي ( رضي الله عنه ) هذه الأقاويل أجمع فقال : هو الّذي يُربى علمه بعمله .
وقال محمد بن الحنفية يوم مات ابن عباس : مات ربّاني هذه الأمّة .
(3/102)

" صفحة رقم 103 "
) بما كنتم ( : معناه الوجوب أي : بما أنتم . كقوله ) وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِراً ( : أي وامرأتي ، وقوله ) مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً ( أي من هو في المهد صبيّاً .
) تعلّمون الكتاب ( : قرأ السلمي والنخعي وابن جبير والضحّاك وأهل الكوفة : تعلّمون بالتشديد من التعليم ، واختاره أبو عبيدة ، وقرأ الباقون تعلمون بالتخفيف من العلم ، واختاره أبو حاتم ، وقال أبو عمرو : وتصديقها ) وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ( فلم يقل يدرسون وقرأ الحسن تعلّمون ، التاء والعين وتشديد اللام على معنى تعلمون ، وقرأ أبو عبيدة : تدرسون من أدرسَ يُدرس . وقرأ سعيد بن جبير : تدرّسون من التدريس . الباقون : يدرسون من الدرس أي يقرأون ، نظيره في سورة الأعراف ) وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ( .
جويبر عن الضحّاك عن ابن عبّاس قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من مؤمن ذكر ولا أُنثى حرَ ولا عبد مملوك إلاّ وللّه عزّ وجّل عليه حقّ واجب أن يتعلّم من القرآن ويتفقّه فيه ، ثم تلا هذه الآية ) ولكن كونوا ربّانيين بما كنتم تعلّمون وبما كنتم تدرسون ( ) .
آل عمران : ( 80 ) ولا يأمركم أن . . . . .
) ولا يأمركم ( : قرأ الحسن وابن أبي إسحاق وعاصم وحمزة : ) ولا يأمركم ( بالنصب عطفاً على قوله ) ثمّ يقولَ ( .
وقيل : على إضمار أنّ وهو على هذه القراءة مردود على البشر . وقرأ الباقون بالرفع على الإستئناف والإنقطاع من الكلام الأوّل ، يدلّ عليه قراءة عبد اللّه وطلحة ) ولن يأمركم ( ثمّ اختلفوا فيه ، فقرأ الأكثر على معناه ) ولا يأمركم الله ( . وقال ابن جريح : ولا يأمركم محمد عليه الصّلاة والسّلام ، وقيل : ولا يأمركم البشر .
) أن تتخذوا الملائكة والنبييّن أرباباً ( : كقول قريش وبني مليح حيث قالوا : الملائكة بنات اللّه ، واليهود والنّصارى حيث قالوا في المسيح وعُزير ما قالوا .
) أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ( : على ظهر التعجّب والإنكار ، يعني : لا يفعل هذا .
آل عمران : ( 81 ) وإذ أخذ الله . . . . .
) وإذ أخذ الله ميثاق النّبييّن لمّا آتيتكم من كتاب وحكمة ( ، قرأ سعيد بن جبير ) لمّا ( بتشديد الميم ، وقرأ يحيى بن رئاب و الأعمش وحمزة والكسائي بجرّ اللام وتخفيف الميم .
وأما الباقون : بفتح اللام وتخفيف الميم ، فمن فتح اللام وخفّف الميم فقال الأخفش : هي
(3/103)

" صفحة رقم 104 "
لام الابتداء أدخلت على ما الخبر كقول القائل : لزيد أفضل منك ، وما آتيتكم والذي بعده صلة له وجوابه في قوله : ) لتؤمنن به ( فإن شئت جعلت خبر ما من كتاب الله وتقول من زائدة معناها : لما آتيتكم كتاب وحكمة ، ثم ابتدأ فقال : ) ثم ( يعني : ثم يجيئكم ، وإن شئت قلت : ثم أن جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم لتؤمنن به .
) ولتنصرنّه ( : اللام لام القسم تقديره : والله لتؤمننّ به . فأكدّ في أول الكلام بلام التأكيد ، وفي آخر الكلام بلام القسم .
وقال الفرّاء : من فتح اللام جعلها لاماً زائدة لقوله : اليمين إذا وقعت على جملة صيّرت فعل ذلك الجزاء على هيئة فعل ، وصيّرت جوابه كجواب اليمين ، والمعنى : أي كتاب آتيتكم ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ، للاّم في قوله لتؤمننّ به .
وقال المبرّد والزجّاج : هذه لام التحقيق دخلت على ما الجزاء كما تدخل على أن ، ومعناه : مهما آتيتكم من كتاب وحكمة ، ثمّ جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به ، اللام في قوله لتؤمننّ به جواب الجزاء كقوله : ) ولئن شئنا لنذهبن ( ونحوه .
وقال الكسائي : لتؤمننّ : متصل بالكلام الأول وجواب الجزاء في قوله : ) فمن تولى بعد ذلك ( ، ومن كسر اللام فهي لام الإضافة دخلت على ما الذي ، ومعناه : الذي آتيتكم يعني : أخذ ميثاق النبيين لأجل الذي أمامهم من كتاب وحكمة ثم أن جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمننّ به من بعد الميثاق ؛ لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف ، وهو كما نقول في الكلام أخذت ميثاقك لتفعلن كذا وكذا كأنك قلت : استحلفتك لتفعلن .
وقال صاحب النظم : من كسر اللام فهو بمعنى بعد يعني : بعد ما آتيتكم من كتاب وحكمة ، كقول النابغة :
توهّمت آيات لها فعرفتها
لستة أعوام وذا العام سابع
أي : بعد ستة أعوام ، ومن شدد الميم فمعناه : حين آتيتكم لقوله تعالى ) آتيتكم ( .
قرأ أهل الكوفة : آتيناكم على التعظيم ، وقرأ الآخرون : آتيتكم على التفريد ، وهو الاختيار لموافقة الخط كقوله : ) وأنا معكم ( والقول مثمر في الآية على الأوجه الثلاثة تقديرها : ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ) .
واختلف المفسّرون في معنى هذه الآية ، فقال قوم : إنّما أخذ الميثاق على الأنبياء أن
(3/104)

" صفحة رقم 105 "
يصدق بعضهم بعضاً ، ويأمر بعضهم بالإيمان ببعض ، فذلك معنى آخر بالتصديق ، وهذا قول سعيد بن جبير وطاووس وقتادة والحسن والسدّي ، يدل عليه ظاهر الآية ، وقال علي ( رضي الله عنه ) : لم يبعث الله نبياً آدم ومن بعده إلاّ أخذ عليه العهد في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأمره بأخذ العهد على قومه لتؤمنن به ولئن بعث وهم أحياء لينصرنّه ، وقال آخرون : إنّما أخذ الميثاق على أهل الكتاب الذين أرسل منهم النبيين ، وهو قول مجاهد والربيع .
قال مجاهد : هذا خلط من الكتاب وهو من قراءة عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أُوتوا الكتاب ، قالوا : ألا ترى إلى قوله ثم ) جائكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ( وإنّما كان محمد ( صلى الله عليه وسلم ) مبعوثاً إلى أهل الكتاب دون النبيين .
وقال بعضهم : إنّما أخذ الميثاق على النبيين وأُممهم ( ليؤمنن به ) ، ففرد الأنبياء عن ذكر الأمم لأن في أخذ الميثاق على المتبوع دلالة على أخذه على الأتباع ، وهذا معنى قول ابن عباس وهذا أولى بالصواب .
قال الله : ) أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ( أي وقبلتم على ذلك عهدي ، نظير قوله تعالى : ) إن أوتيتم هذا فخذوه ( أي فاقبلوه ، وقوله تعالى : ) لا يؤخذ منها عدل ( أي لا يقبل منها فداء ، وقوله : ) يأخذ الصدقات ( أي يقبلها ، ) قالوا أقررنا ( .
قال الله : ) فاشهدوا ( على أنفسكم وعلى أتباعكم ) وأنا معكم من الشاهدين ( عليكم وعليهم .
قال ابن عباس : فاشهدوا : يعني فاعلموا ، قال الزجّاج : فاشهدوا أي فبيّنوا لأن الشاهد هو الذي عين دعوى المدّعي ، وشهادة الله للنبيين بيّنوا أمر نبوتهم بالآيات والمعجزات ، وقال سعيد بن المسيب : قال الله تعالى للملائكة : فاشهدوا عليهم ، فتكون كناية عن غير مذكور .
آل عمران : ( 82 ) فمن تولى بعد . . . . .
) فمن تولى بعد ذلك ( الإقرار والإشهاد ) فأولئك هم الفاسقون ( العاصون ، الخارجون عن الإيمان .
آل عمران : ( 83 ) أفغير دين الله . . . . .
) أفغير دين الله يبغون ( الآية .
قال ابن عباس : اختصم أهل الكتاب إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيما اختلفوا بينهم من دين إبراهيم ( عليه السلام ) كل فرقة زعمت أنّه أولى بدينه ، قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم ، فغضبوا وقالوا : والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك ، فأنزل الله ) أفغير دين الله يبغون ( وهو قراءة الحسن وحميد ويعقوب وسلام وسهل وصفوان بالياء لقوله : ) أولئك هم
(3/105)

" صفحة رقم 106 "
الفاسقون ( ، وقرأ أبو عمرو : يبغون بالياء وترجعون بالتاء ، قال : لأن الأول خاص والثاني عام ؛ ففرّق بينهما لافتراقهما في المعنى ، وقرأ الباقون : بالتاء فيهما على الخطاب لقوله : ) لما آتيتكم من كتاب وحكمة ( ) وله أسلم ( خضع وانقاد من في السماوات والأرض ) طوعاً ( والطوع الانقياد والاتباع بسهولة من قولهم : فرسٌ طوع العنان ، أي منقاد ) وكرهاً ( والكره : ما كان بمشقة وإباء من النفس ، كرهاً بضم الكاف وهما مصدران وضعا موضع الحال ، كأنّه قال : وله أسلم من في السماوات والأرض طائعين وكارهين ، واختلفوا في قوله طوعاً وكرهاً ، فروى أنس بن مالك عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله : ) وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً ( قال : ( الملائكة أطاعوه في السماء ، والأنصار وعبد القيس أطاعوه في الأرض ) .
وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تسبّوا أصحابي فإنّ أصحابي أسلموا من خوف الله ، وأسلم الناس من خوف السيف ) .
وقال الحسن والمفضّل : الطوع لأهل السماوات خاصة ، وأهل الأرض منهم من أسلم طوعاً ومنهم من أسلم كرهاً .
ابن عباس : عبادتهم لله أجمعين طوعاً وكرهاً وانقياداً له .
الربيع عن أبي العالية في قول الله تعالى : ) وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً ( قال : كل بني آدم أقرّ على نفسه أنّ الله ربّي وأنا عبده ، فهذا الإسلام لو استقام عليه ، فلمّا تكلّم به صار حجة عليه ، ثم أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرهاً ، ومنهم من شهد أنّ الله ربّي وأنا عبده ، ثم أخلص العبودية فهذا الذي أسلم طوعاً ، وقال الضحّاك : هذا حين أخذ منه الميثاق وأقرّ به .
مجاهد : طوعاً : ظل المؤمن وكرهاً : ظل الكافر ، يدلّ عليه قوله : ) ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وظلالهم بالغدوّ والآصال ( ، وقوله : ) يتفيّؤا ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله ( .
الشعبي : هو استعاذتهم به عند اضطرارهم ، يدلّ عليه قوله تعالى : ) فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ( .
(3/106)

" صفحة رقم 107 "
قتادة : المؤمن أسلم طائعاً والكافر كارهاً ؛ فإما المؤمن فأسلم طائعاً فنفعه ذلك وقبل منه ، وأما الكافر فأسلم كارهاً في وقت البأس والمعاينة حتى لا يقبل منه ولا ينفعه ، يدل عليه قوله : ) فلم يكُ ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ( .
الكلبي : طوعاً : الذين ولدوا في الإسلام ، وكرهاً : الذين أجبروا على الإسلام .
عكرمة : وكرهاً : من اضطرته ( الحجة ) إلى التوحيد ، يدلّ عليه قوله تعالى : ) ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ( ، وقوله : ) ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولنّ الله ( .
ابن كيسان : وله أسلم أي خضع من في السماوات والأرض فيما صيّرهم عليه وصوّرهم فيه وما يحدث فهم لا يمتنعون عليه ، كرهوا ذلك أو أحبوه .
) وإليه يُرجعون ( الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال : إذا استصعبت دابة أحدكم أو كانت شموساً فليقرأ في أذنها هذه الآية .
آل عمران : ( 84 - 85 ) قل آمنا بالله . . . . .
) قل آمنّا بالله ( إلى قوله ) ومن يبتغ غير الإسلام ديناً ( الآية نزلت في اثني عشر رجلا ارتدّوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة ولحقوا بمكة كفاراً منهم : الحرث بن سويد الأنصاري أخو الحلاس بن سويد ، وطعمة بن أشرف الأنصاري ، ومقيس بن صبابة الليثي ، وعبد الله بن أنس بن خطل من بني تميم بن مرة ، ووجوج بن الأسلت ، وأبو عاصم بن النعمان ، فأنزل الله فيهم : ) ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (
.
) كَيْفَ يَهْدِى اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أُوْلَائِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذاَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الاَْرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (
(3/107)

" صفحة رقم 108 "
آل عمران : ( 86 ) كيف يهدي الله . . . . .
) كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم ( : لفظه استفهام ومعناه جحد ، أي لا يهدي الله .
قال الشاعر :
كيف نومي على الفراش ولمّا
تشمل الشام غارة شعواء أي لا نوم لي ، نظير قوله : ) كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله ( : أي لا يكون لهم عهد ، وقيل : معناه كيف يستحقون العبادة ؟ وقيل : معناه كيف يهديهم الله للمغفرة إلى الجنّة والثواب ؟
) والله لا يهدي القوم الظالمين ( أي لا يرشدهم ولا يوفقهم ، وهو خاص فيمن علم الله عز وجل منهم ، وأراد ذلك منهم ، وقيل : معناه : لا يثيبهم ولا ينجيهم ( إلى الجنة ) .
آل عمران : ( 87 - 89 ) أولئك جزاؤهم أن . . . . .
) أولئك جزاؤهم . . . ( إلى قوله : ) إلاّ الذين تابوا ( وذلك أنّ الحرث بن سويد لما لحق بالكفار ندم ، فأرسل إلى قومه أن اسألوا رسول الله هل له من توبة ؟ ففعلوا ذلك فأنزل الله تعالى : ) إلاّ الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإنّ الله غفورٌ رحيمٌ ( لما كان ، فحملها إليه رجل من قومه وقرأها عليه ، فقال الحرث : إنّك والله ما علمت لصدوق ، وأنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأصدق منك ، وأنّ الله عز وجل لأصدق الثلاثة ، فرجع الحرث إلى المدينة وأسلم وحسن إسلامه .
وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في رجل من بني عمرو بن عوف كفر بعد إيمانه ولحق بالروم فتنصّر ، فأنزل الله عز وجل فيه هذه الآيات :
آل عمران : ( 90 ) إن الذين كفروا . . . . .
) إنّ الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً . . . ( .
قال الحسن وقتادة وعطاء الخراساني : نزلت هذه الآية في اليهود ، كفروا بعيسى ( عليه السلام ) والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم وكتبهم ، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) والقرآن .
أبو العالية : نزلت في اليهود والنصارى ، كفروا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) لما رأوه وعرفوه بعد إيمانهم بنعته وصفته في كتبهم ، ثم ازدادوا ذنوباً في حال كفرهم . مجاهد : نزلت في الكفار كلهم ، أشركوا بعد إقرارهم بأنّ الله خالقهم ، ثم ازدادوا كفراً أي أقاموا على كفرهم حتى هلكوا عليه . الحسن : كلّما نزلت عليم آية كفروا بها فازدادوا كفراً . قطرب : كما ازدادوا كفراً بقولهم نتربص بمحمد ريب المنون
(3/108)

" صفحة رقم 109 "
الكلبي : نزلت في أحد عشر أصحاب الحرث بن سويد ، لما رجع الحرث قالوا : نقيم بمكة على الكفر ما بدا لنا ، فمتى ما أردنا الرجعة رجعنا ، فينزل فينا ما نزل في الحرث ، فلمّا فتح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مكة دخل في الإسلام من دخل منهم فقبلتْ توبته ، فنزل فيمن مات منهم كافراً
آل عمران : ( 91 ) إن الذين كفروا . . . . .
) إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفار ( الآية ، فإن قيل : فما معنى قوله تعالى : ) لن تُقبل توبتهم ( وقد سبقت حكمة الله تعالى في قبول توبة من تاب ؟ قلنا : اختلف العلماء فيه ، فقال بعضهم : لن يقبل توبتهم عند الغرغرة والحشرجة .
قال الحسن وقتادة وعطاء : لن يقبل توبتهم لأنّهم لا يؤمنون إلاّ عند حضور الموت ، قال الله تعالى : ) وليست التوبة للذين يعملون السيّئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنّي تبت الآن . . . ( الآية .
مجاهد : لن يقبل توبتهم بعد الموت إذا ماتوا على الكفر . ابن عباس وأبو العالية : لن يقبل توبتهم ما أقاموا على كفرهم ) إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ( أي حشوها ، وقدر ما يملأ الأرض من شرقها إلى غربها ذهباً ، نصب على التفسير في قول الفراء .
وقال المفضّل : ومعنى التفسير أن يكون الكلام تاماً وهو مبهم ، كقولك : عندي عشرون ، فالعدد معلوم والمعدود مبهم ، وإذا قلت : عشرون درهماً فسّرت العدد ، وكذلك إذا قلت : هو أحسن الناس ، فقد أخبرت عن حسنه ولم تبين في أي شيء هو ، فإذا قلت : وجهاً أو فعلا منه فإنّك بيّنته ونصبته على التفسير ، وإنّما نصبته لأنّه ليس له ما يخفضه ولا ما يرفعه ، فلمّا خلا من هذين نصب لأنّ النصب أخف الحركات فجُعل لكل ما لا عامل فيه ، وقال الكسائي : نصب ذهباً على إضمار من ، أي من ذهب كقولهم : وعدل ذلك صياماً أي من صيام .
) ولو افتدى به ( : روى قتادة عن أنس بن مالك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت مفتدياً به ؟ فيقول : نعم ، فيقال لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك ) ، قال الله : ) أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين ( .
آل عمران : ( 92 ) لن تنالوا البر . . . . .
) لن تنالوا البرّ ( : يعني الجنّة ، قاله ابن عباس ومجاهد وعمر بن ميمون والسدّي ، وقال عطية : يعني الطاعة .
أبو روق : يعني الخير ، مقاتل بن حيان : التقوى ، الحسن : لن يكونوا أبرارا
(3/109)

" صفحة رقم 110 "
) حتى تنفقوا مما تحبّون ( : أي مما تهوون ويعجبكم من كرائم أموالكم وأحبّها إليكم طيّبة بها أنفسكم ، صغيرة في أعينكم .
مجاهد والكلبي : هذه الآية منسوخة ، نسختها آية الزكاة .
وروى الضحاك عن ابن عباس قال : أراد بهذه الآية الزكاة يعني : حتى تخرجوا زكاة أموالكم ، وقال عطاء : لن تنالوا شرف الدين والتقوى حتى تتصدقوا وأنتم أصحّاء أشحّاء ، تأملون العيش ، وتخشون الفقر ، وقال الحسن : كل شيء أنفقه المسلم من ماله يبتغي به وجه الله تعالى فإنّه من الذي عنى الله سبحانه بقوله : ) لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبّون ( حتى التمرة .
وروي أنّ أبا طلحة الأنصاري كان من أكثر الأنصار نخلا بالمدينة ، وكان أحب أمواله إليه بئر ماء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب ، فلمّا نزلت ) لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبّون ( قام أبو طلحة فقال : يا رسول الله إنّ الله يقول : ) لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا ممّا تحبّون ( وإنّ أحبّ أموالي إليّ بئر ماء وإنّها صدقة أرجو برّها وذخرها عند الله عز وجل ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( بخ بخ ، ذلك مال رابح لك وقد عرفت ما قلت ، وإنّي أرى أن تجعلها في الأقربين ) .
فقال له : أفعل يا رسول الله ، فقسّمها في أقاربه وبني عمّه .
وروى معمّر عن أيوب وغيره قال : لما نزلت : ) لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبّون ( جاء زيد بن حارثة بفرس كانت له يحبّها وقال : هذه في سبيل الله ، فحمل عليها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أسامة بن زيد . فكان زيداً واجداً في نفسه وقال : إنّما أردت أن أتصدق به ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أما إنّ الله قد قبلها منك ) .
وقال حوشب : لمّا نزلت ) لن تنالوا البرّ ( قالت امرأة لجارية لها لا تملك غيرها : أعتقك وتقيمين معي غير أنّي لست أشرط عليك ذلك ، فقالت : نعم ، فلمّا أعتقتها ذهبت وتركتها فأتت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبرته به فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( دعيها فقد حجبتك عن النار ، وإذا سمعت بسبيي قد جاءني فأتيني ) ( 80 ) .
وروى شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قالوا : كتب عمر بن الخطّاب ( رضي الله عنه ) أن يبتاع جارية من سبي جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى ، فقال سعد بن أبي وقاص : فدعا بها
(3/110)

" صفحة رقم 111 "
عمر فأعجبته فقال : إنّ الله عز وجل يقول : ) لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون ( فأعتقها .
وروى حمزة بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر قال : خطرت على قلبي هذه الآية : ) لن تنالوا البرّ . . . ( فتذكرت ما أعطاني الله ، فما كان شيء أعجب إليّ من فلانة فقلت : هي حرة لوجه الله ، ولولا أنني لا أعود في شيء جعلته لله عز وجل لنكحتها .
ويقال : ضاف أبا ذر الغفاري ضيف فقال للضيف : إنّي مشغول فاخرج إلى أبواء فإنّ لي بها إبلا فأتني بخيرها ، فذهب وجاء بناقة مهزولة فقال له أبو ذر : جئتني بشرها ، فقال : وجدت خير الإبل فحلها فتذكرت يوم حاجتكم إليه ، فقال أبو ذر : إنّ يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي مع أنّ الله عز وجل يقول : ) لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون ( .
وعن رجل من بني سليم يقال له عبد الله بن سيدان عن أبي ذر قال : في المال ثلاث شركاء : القدر لا يستأمرك أن تذهب بخيرها أو شرها من هلاك أو موت أو فعل ، والوارث ينتظرك أن تضع رأسك ثم يستاقها وأنت ذميم ، والثالث أنت فإن استطعت أن لا يكون أعجب إليك مالا فإنّ الله عز وجل يقول : ) لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ( ، وإنّ هذا الجمل كان مما أحب من مالي فأحببت أن أقدّمه لنفسي .
وروي عن ربيع بن خيثم أنّه وقف سائل على بابه ، فقال : أطعموه سكراً فقيل : ما يصنع هذا بالسكّر فنطعمه خبزاً فهو أنفع له ، فقال : ويحكم أطعموه سكّراً ؛ فإنّ الربيع يحب السكّر .
وروي عن الربيع بن خيثم أيضاً أنّه جاءه سائل في ليلة باردة ، فخرج إليه فرآه كأنّه مقرور قال : ) لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ( فنزع برتشاً له وأعطاه إياه وذكر أنّه كساه عروة .
وبلغنا أن زبيدة أم جعفر اتخذت مصحفاً في تسعين قطعة كتب بالذهب على الرق وجعلت ظهورها من الذهب مرصعة بالجواهر ، فبينما هي تقرأ القرآن ذات يوم فقرأت هذه الآية ، فلم يكن شيء أحبّ إليها من المصحف ، فقالت : عليَّ بالصاغة ، فأمرت بالذهب والجواهر حتى بيعت وأمرت حتى حفرت الآبار وأشرف الحياض بالبادية .
وقال أبو بكر الورّاق : دلّهم بهذه الآية على الفتوة ، وقال : لن تنالوا برّي بكم إلاّ ببرّكم أخوانكم والإنفاق عليهم من أموالكم وجاهكم وما تحبّون ، فإذا فعلتم ذلك نالكم برّي وعطفي .
) وما تنفقوا من خير فإنّ الله به عليم ( : أي فإنّ الله يجازي عليه لأنّه إذا علمه جازى عليه ، وتأويل ( ما ) تأويل الشرط والجزاء وموضعها نصب لينفقوا ، المعنى : وأي شيء ينفقون فإنّ الله به عليم .
2 ( ) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِىإِسْرَاءِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَاءِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِك
(3/111)

" صفحة رقم 112 "
فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ فِيهِ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءَامِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِئَيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ ياأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ ءَامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ ءَايَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ( 2
آل عمران : ( 93 ) كل الطعام كان . . . . .
) كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل ( الآية .
قال أبو روق والكلبي : كان هذا حين قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنا على ملة إبراهيم ) .
فقالت اليهود : كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( كان ذلك حلالاً لإبراهيم فنحن نحّله ) فقالت اليهود : كل شيء أصبحنا اليوم نحرّمه فإنّه كان محرّماً على نوح وإبراهيم هاجراً حتى انتهى إلينا ، فأنزل الله تعالى تكذيباً لهم : ) كل الطعام ( المحلل لكم اليوم ) كان حلا لبني إسرائيل ( ) إلاّ ما حرّم إسرائيل ( وهو يعقوب ) على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة ( .
واختلف المفسّرون في ذلك الطعام ، فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي وأبو مجلز : هي العروق وكان ( سبب ) ذلك أنّ يعقوب ( عليه السلام ) اشتكى عرق النساء ، وكان أصل وجعه ذلك ، ما روى جويبر ومقاتل عن الضحاك أنّ يعقوب بن إسحاق كان قد نذر إن وهب الله له اثني عشر ولداً وأتى بيت المقدس صحيحاً أن يذبح آخرهم ، فتلقّاه ملك من الملائكة فقال له : يا يعقوب إنّك رجلٌ قوي ، هل لك في الصراع ؟ فعالجه فلم يصرع واحد منهما صاحبه ، ثم غمزه الملك غمزة فعرض له عرق النساء من ذلك ، ثم قال : أما أنّي لو شئت أن أصرعك لفعلت ، ولكن غمزتك هذه الغمزة لأنّك قد كنت نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحاً ذبحت آخر ولدك ، وجعل الله لك بهذه الغمزة مخرجاً ، فلمّا قدمها يعقوب أراد ذبح ابنه ونسي قول الملك ، فأتاه الملك فقال : أنا غمزتك هذه الغمزة للمَخرج وقد وفي نذرك فلا سبيل لك إلى ولدك .
(3/112)

" صفحة رقم 113 "
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي : أقبل يعقوب ( عليه السلام ) من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه عيص وكان رجلا بطّيشاً قوياً ، فلقيه ملك فظنّ ( يعقوب ) أنّه لصّ فعالجه أن يصرعه فغمز الملك فخذ يعقوب ثم صعد إلى السماء ويعقوب ينظر إليه ، فهاج به عرق النساء ولقي من ذلك بلاء شديداً وكان لا ينام بالليل من الوجع ( ويبيت ) وله زقاء أي صياح ، فحلف يعقوب ( عليه السلام ) لئن شفاه الله أن لا يأكل عرقاً ولا طعاماً فيه عرق ، فحرّمها على نفسه فجعل بنوه يبتغون العروق يخرجونها من اللحم ، وقال أبو العالية وعطاء ومقاتل والكلبي : كان ذلك لحمان الإبل وألبانها .
وروى شهر بن حوشب عن ابن عباس أن عصابة حضرت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : يا أبا القاسم أخبرنا أي الطعام حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ؟
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أشهدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أنّ يعقوب مرض مرضاً شديداً فطال سقمه عليه ، فنذر لله لئن عافاه الله من سقمه ليحرّمن أحبّ الطعام والشراب إلى نفسه ، وكان أحبّ الطعام إليه لحمان الإبل ، وأحب الشراب إليه ألبانها ) فقالوا : اللهم نعم .
وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : لما أصاب يعقوب عرق النساء ووصف له الأطباء أن يجتنب لحوم الإبل ، فحرّم يعقوب على نفسه لحوم الإبل ، فقالت اليهود : إنّا حرّمنا على أنفسنا لحوم الإبل ؛ لأنّ يعقوب حرّمها وأنزل الله تحريمها في التوراة فأنزل الله هذه الآية .
وقال الحسن : حرّم إسرائيل على نفسه لحوم الجزور تعبداً لله عز وجل فسأل ربّه عز وجل أن يجيز له ذلك ، فحرّمه الله على ولده ، وقال عكرمة : حرّم إسرائيل على نفسه زائدة الكبد والكليتين والشحم إلاّ ما على الظهور ، وروى ليث عن مجاهد قال : حرّم إسرائيل على نفسه لحوم الأنعام ثم اختلفوا في هذا الطعام المحرّم على إسرائيل بعد نزول التوراة ، وقال السدي : إنّ الله لما أنزل التوراة حرّم عليهم ما كانوا يحرّمونها قبل نزولها اقتداءً بأبيهم يعقوب ( عليه السلام ) ، وقال عطية : إنّما كان ذلك حراماً عليهم لتحريم إسرائيل ذلك عليهم وذلك أنّ إسرائيل قال حين أصابه عرق النساء : والله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد ، ولم يكن ذلك محرّماً عليهم في التوراة .
وقال الكلبي : لم يحرّمه الله عليهم في التوراة وإنّما حرّم عليهم بعد التوراة لظلمهم وكفرهم ، وكان بنو إسرائيل كلما أصابوا ذنباً عظيماً حرّم الله عليهم طعاماً طيباً ، أو صبّ عليهم
(3/113)

" صفحة رقم 114 "
رجزاً وهو الموت ، وذلك قوله تعالى : ) فبظلم من الذين هادوا حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم ( ، وقوله : ) وعلى الذين هادوا حرّمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرّمنا عليهم ( إلى قوله ) وإنّا لصادقون ( .
وقال الضحاك : لم يكن شيء من ذلك علينا حراماً ، ولا حرّم الله عليهم في التوراة وإنّما هو شيء حرّموه على أنفسهم اتّباعاً لأبيهم ، وأضافوا تحريمه إلى الله فكذّبهم الله تعالى فقال : قل لهم يا محمد ) فأتوا بالتوراة فاتلوها ( حتى يتبين أنّه كما يقول لا كما قلتم ، فلم يأتوا ، فقال الله
آل عمران : ( 94 ) فمن افترى على . . . . .
) فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون ( .
وروى أنس بن سيرين عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في عرق النساء يأخذ إليّة كبش عربي لا صغير ولا كبير فيقطع صغاراً فيخرج أهالته فيخرج على ثلاث قِسَم ، ويأكل كل يوم على ريق النفس ، قال أنس : فوصفته لأكثر من مائة فشفاهم الله .
وروى شعبة أنّه رأى شيخاً في زمن الحجاج بن يوسف يقول لعرق النساء : أقسم عليك بالله الأعلى لئن لم تنته لأكوينّك بنار أو لألحقنك بموسى ، قال شعبة : فإنّه يقول ذلك ويمسح على ذلك الموضع فيبرأ بإذن الله .
آل عمران : ( 95 - 97 ) قل صدق الله . . . . .
) قل صدق الله فاتّبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين ( ) إنّ أوّل بيت وضع للناس ( الآية .
قال مجاهد : تفاخر المسلمون واليهود ، فقال اليهود : بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة ؛ لأنّها مهاجر الأنبياء في الأرض المقدسة ، وقال المسلمون : بل الكعبة أفضل ، فأنزل الله تعالى : ) إنّ أوّل بيت وضع للناس ( وقرأ ابن السميقع : وضع بفتح الواو والضاد يعني وضعه الله ) للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ( ) فيه آيات بينات مقام إبراهيم ( وليس ذلك في بيت المقدس ) ومن دخله كان آمناً ( وليس ذلك في بيت المقدس ) ولله على الناس حج البيت ( وليس ذلك في بيت المقدس .
واختلف العلماء في تأويل قوله ) إنّ أوّل بيت ( فقال بعضهم : هو أول بيت ظهر على وجه الماء عندما خلق الله السماء والأرض فخلقه الله قبل الأرض بألفي عام ، وكان زبدة بيضاء على الأرض فدحيت الأرض من تحتها ، هذا قول عبد الله بن عمرو ومجاهد وقتادة والسدي
(3/114)

" صفحة رقم 115 "
وقال بعضهم : هو أوّل بيت وضع : بُني في الأرض ، يروى أنّ علي بن الحسين سُئل عن بدء الطوفان ، فقال : إنّ الله تعالى وضع تحت العرش بيتاً وهو البيت المعمور الذي ذكره الله ، وقال للملائكة : طوفوا به ودعوا العرش ، فطافت الملائكة به وتركوا العرش ، وكان أهون عليهم ، ثم أمر الله الملائكة الذين يسكنون في الأرض أن يبنوا له في الأرض بيتاً على مثاله وقدره ، فبنوا ، واسمه الضراح ، وأمر من في الأرض من خلقه أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور .
وقيل : هو أول بيت بناه آدم في الأرض ، قاله ابن عباس .
وقال الضحاك : إنّ أول بيت وضع فيه البركة وأحسن من الفردوس الأعلى .
وروى سماك عن خالد بن عرعرة قال : قام رجل إلى علي ( رضي الله عنه ) فقال : ألا تخبرني عن البيت ؟ أهو أول بيت كان في الأرض ؟ قال : لا ، فأين كان قوم نوح وعاد وثمود ، ولكنه أول بيت مبارك وهدىً وضع للناس .
وقيل : إنّ أول بيت وضع للناس يُحج إليه لله ، وروي ذلك عن ابن عباس أيضاً ، وقيل : هو أول بيت جُعل قبلة للناس .
وقال الحسن والكلبي والفراء : معناه : إن أول مسجد ومتعبد وضع للناس يعبد الله فيه ، يدل عليه قوله : ) أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً ( يعني مساجدهم واجعلوا بيوتكم قبلة ، وقوله : ) في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ( يعني المساجد .
إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه سُئل عن أول مسجد وضع للناس ، قال : ( المسجد الحرام ثم بيت المقدس ) ، وسُئل : كم بينهما قال : أربعون عاماً حيث ما أدركتك الصلاة فصلّ فثم سُجد للذي ببكة .
قال الضحاك والمدرج : هي مكة ، والعرب تعاقب بين الباء والميم ، فتقول : سبد رأسه وسمد ، واغبطت عليه الحمى واغمطت ، وضربة لازم ولازب .
وقال ابن شهاب وضمرة بن ربيعة : بكة : المسجد والبيت ، ومكة : الحرم كله .
وقال الآخرون : مكة اسم البلد كله ، وبكة موضع البيت والمطاف ، وسمّيت بكة لأن الناس يتباكون فيها : أي يزدحمون ، يُبكي بعضهم بعضاً ، ويصلي بعضهم بين يدي بعض ، ويمر بعضهم بين يدي بعض ، لا يصلح ذلك إلاّ بمكة .
(3/115)

" صفحة رقم 116 "
قال الراجز :
إذا الشريب أخذته أكه
فخلّه حتى يبك بكه
قال عطاء : مرّت امرأة بين يدي رجل وهو يصلي وهي تطوف بالبيت فدفعها ، فقال أبو جعفر الباقر : إنّها بكة يبكي بعضهم بعضاً .
وقال عبد الرحمن بن الزبير : سميت بكة لأنّها تُبك أعناق الجبابرة أي تدقها ، فلم يقصدها جبار يطلبها إلاّ وقصمه الله ، وأما مكة فسميت بذلك لقلة مائها من قول العرب : مكتَ الفصيل ضرع أُمّه وامتكّه إذا امتص كل ما فيه من اللبن ، قال الشاعر :
مكّتْ فلم تُبقِ في أجوافها دررا
عن الحسين عن ابن عباس قال : ما أعلم اليوم على وجه الأرض بلدة تُرفع فيها الحسنات بكل واحدة مائة ألف ما يرفع بمكة ، وما أعلم بلدة على وجه الأرض يُكتب لمن صلى فيها ركعة واحدة بمائة ألف ركعة ما يُكتب بمكة ، وما أعلم بلدة على وجه الأرض ( يُكتب لمن تصدّق فيها بدرهم ) واحد يكتب له مائة ألف درهم ما يُكتب بمكة ، وما أعلم بلدة على وجه الأرض ( يُكتب ) لمن فيها شراب الأحبار ومصلى الأخيار إلاّ بمكة ، وما أعلم على وجه الأرض بلدة ما مس شيئاً أحد فيها إلاّ كانت تكفير الخطايا إلاّ بمكة ، وما أعلم على وجه الأرض بلدة إذا دعا فيها آمن له الملائكة فيقولون : آمين آمين ليس إلاّ بمكة ، وما أعلم على وجه الأرض بلدة ( . . . . . . . . ) إلاّ بمكة ، وما أعلم على وجه الأرض بلدة يكتب لمن نظر إلى الكعبة من غير طواف ولا صلاة عبادة الدهر وصيام الدهر إلاّ بمكة ، وما أعلم على وجه الأرض بلدة ورد إليها جميع النبيين ( ما قد ) صدر إلى مكة ، وما أعلم بلدة يحشر فيها من الأنبياء والأبرار والفقهاء والعباد من الرجال والنساء ما يحشرون من مكة أي يُحشرون وهم آمنون يوم القيامة ، وما أعلم على وجه الأرض بلدة ينزل فيها كل يوم من روح الجنّة ورائحتها ما ينزل بمكة حرسها الله .
) مباركاً ( : نصب على الحال ) وهدىً للعالمين ( : لأنه قبلة المؤمنين ) فيه آيات بينات ( : قرأ ابن عباس : آية بينة .
) مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ( ( . . . . . . . . )
(3/116)

" صفحة رقم 117 "
آل عمران : ( 103 ) واعتصموا بحبل الله . . . . .
) واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً ( .
( حدثنا إبن حميد قال : حدثنا محمد بن إسحاق قال حدثنا بن أبي حبيب عن مرثد بن عبدالله المزني عن أبي عبدالرحمن بن عسيلة الضابحى عن عبادة بن الصامت قال : كنت فيمن حضر العقبة الأُولى وكنا اثنى عشر رجلا فبايعنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على بيعة النساء وذلك قبل أن تفترض الحرب على أن لا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصيه في معروف ، فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشّيتم شيئاً من ذلك ) .
فأخذتم ( بحدّه ) في الدنيا فهو كفارة له ، وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمْركم إلى الله إن شاء عذّبكم وإن شاء غفر لكم ، قال : وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب ، فلمّا انصرف القوم بعث معهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف ، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلّمهم الإسلام ويفقّههم ، وكان مصعب يسمى بالمدينة المقرئ ، وكان أول مقرئ بالمدينة ، وكان منزله على أسعد بن زرارة ، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير : انطلق إلى هذين الرجلين الذين قد أتيا دارنا ليسفّها ضعفاءنا فازجرهما ، فإنّ أسعد ابن خالتي ، ولولا ذاك لكفيتك ، وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سيدي قومهما من بني الأشهل ، وكلاهما مشركان ، فأخذ أسيد بن حضير حرسه ثم أقبل إلى مصعب وأسعد وهما جالسان في حائط ، فلمّا رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب : هذا سيّد قومه قد جاءك والله ، فاصدق الله فيه .
قال مصعب : إن يجلس نكلّمه ، قال : فوقف عليهما مشتّماً ، فقال : ما جاء بكما إلينا ؟ تسفّهان ضعفاءنا ، اعتزلانا إن كانت لكما في أنفسكما حاجة ، فقال له مصعب : أو تجلس فتسمع ، فإن رضيت أمراً قبلته ، وإن كرهته كفّ عنك ما تكرهه ، قال : أنصفت ثم ركز حربته وجلس إليهما ، فكلّمه مصعب بالإسلام وقرأ عليه القرآن .
قال : والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في أشراقه وتسهّله ، ثم قال : ما أحسن هذا وأجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين ؟ قالا له : تغتسل ، وتطهّر ثوبك ثم تشهد بشهادة الحق ، ثم تصلي ركعتين ، فقام واغتسل وطهّر ثوبه ، وشهد بشهادة الحق ، ثم قام وصلّى ركعتين ، ثم قال لهما : إنّ ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه ، وسأرسله إليكما الآن ، سعد بن معاذ .
ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه وهم جلوس في ناديهم ، فلمّا نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا قال : أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب من عندكم ، فلمّا وقف على النادي
(3/117)

" صفحة رقم 118 "
قال له سعد : ما فعلت ؟ قال : كلّمت الرجلين ، فوالله ما رأيت بهما بأساً وقد نهيتهما ، فقالا : لا نفعل إلاّ ما أحببت .
وفي الحديث أنّ بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه ؛ وذلك أنّهم عرفوا أنّه ابن خالتك ليحقروك ، فقام سعد مغضباً مبادراً للذي ذكره له ، فأخذ الحربة منه ، ثم قال : والله ما أراك أغنيت شيئاً ، فلمّا رآهما مطمئنين عرف أنّ أسيداً إنّما أراد أن يسمع منهما ، فوقف عليهما مشتّماً ثم قال لأسعد بن زرارة : يا أبا أمامة لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني ، تغشانا في دارنا بما نكره ، وقد قال لمصعب : جاءك والله سيد قومه إن تبعك لم يُخالفك منهم أحد ، فقال له مصعب : أو تقعد فتسمع ، فإن رضيت أمراً ورغبت فيه قبلته ، وإن كرهته قد كفاك ما تكره ، قال سعد : أنصفت ، ثم ركز الحربة فجلس ، فعرض عليه الإسلام ، وقرأ عليه القرآن ، قالا : فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلّم في إشراقه وتسهّله ، ثم قال لهما : كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين ؟ قالا : تغتسل وتطهّر ثوبك وتشهد بشهادة الحق ، ثم تصلّي ركعتين ، فقام فاغتسل فطهّر ثوبه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين ، ثم أخذ حربته فأقبل عامداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير ، فلمّا رآه قومه مقبلا قالوا : نحلف بالله لقد رجع سعد إليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ، فلمّا وقف عليه قال : يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم ؟
قالوا : سيدنا وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبةً ، قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله ، قال : فما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلاّ مسلماً ومسلمة ورجع أسعد ومصعب إلى منزل أسيد بن زرارة فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلاّ وفيها رجال ونساء من المسلمين إلاّ ما كان من بني أمية بن زيد وحطمة ووائل وواقف ( وتلك أوس الله وهم من أوس بن حارثة وذلك أنه ) كان فيهم أبو قيس الشاعر وكانوا يسمعون منه ويطيعونه ، فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة ومضى بدر وأحد والخندق قالوا : إنّ مصعب بن عمير رجع إلى مكة وخرج معه من الأنصار من المسلمين سبعون رجلا مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة ، فواعدوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) العقبة من أوسط أيام التشريق وهي بيعة العقبة الثانية .
قال كعب بن مالك وكان شهد ذلك : فلمّا فرغا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه ، فكنّا نكتم عمّن معنا من المشركين من قومنا أمرنا ، وكلّمناه وقلنا له : يا جابر إنّك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا ، وإنّك ترغب بك عمّا أنت فيه أن نكون حطباً للنار غداً ، ودعوناه إلى الإسلام فأسلم فأخبرناه
(3/118)

" صفحة رقم 119 "
بميعاد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فشهد معنا العقبة وكان تقياً ، فبتنا تلك الليلة في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنتسلّل مستخفين تسلل القطا ، حتى إذا اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن سبعون رجلا ، ومعنا امرأتان من نسائنا : نسيبة بنت كعب أم عمارة احدى نساء بني النجّار ، وأسماء بنت عمرو بن عدي إحدى نساء بني سلمة وهي أمّ منيع ، واجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى جاء ومعه عمّه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلاّ أنّه أحبّ أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثّق له فلمّا جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب فقال : يا معشر الخزرج وكانت العرب إنما يسمّون هذا الحي من الأنصار : الخزرج ؛ خزرجها وأوسها إنّ محمداً منا حيث قد علمتم ، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا ، وهو في عزّ من قومه ومنعة في بلده وإنه قد أبى إلاّ الانقطاع لكم واللحوق بكم .
فإن كنتم ترون أنكم وافون له ما دعوتموه إليه و ( مانعوه ) ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنّكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم ، فمن الآن دعوه فإنّه في عز ومنعة .
قال : فقلنا : سمعاً ما قلت ، فتكلم يا رسول الله ، وخذ لنفسك ولربك ما شئت .
قال : فتكلم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغّب في الإسلام وقال : ( أبايعكم على أن تمنعوني عمّا تمنعون منه نساءكم ) .
قال : فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال : والذي بعثك بالحق ، لنمنعك مما نمنع منه أزرنا ، فَبَايِعْنَا يا رسول الله ، فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة ( وإنّا ) ورثناها كابراً عن كابر .
قال : فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبو الهيثم بن التيهان فقال : يا رسول الله ، إن بيننا وبين الناس حبالا يعني اليهود وإنا قاطعوها ، فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ، ثم أظهرك ( الله ) أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ فتبسم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال : ( بل الدم الدم ، والهدم الهدم وأنتم مني وأنا منكم أُحارب من حاربتم وأُسالم من سالمتم ) .
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباً كفلاء على قومهم بما فيهم ، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم عليه السلام ) ، فأخرجوا اثني عشر نقيباً : تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس ) .
قال عاصم بن عمر بن قتادة : إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال العباس بن
(3/119)

" صفحة رقم 120 "
عبادة بن نضلة الأنصاري : يا معشر الخزرج هل تدرون على ما تبايعون هذا الرجل ؟ إنّكم تبايعونه على حرب الأسود والأحمر ، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة ؟ وأشرافكم قتل أسلمتموه ، فمن الآن فهو والله خزي في الدنيا والآخرة ، وإن كنتم ترون أنكم وافون بالعهد له فيما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا ؟ قال : ( الجنة ) . قالوا : ابسط يدك . فبسط يده فبايعوه ، فأول من ضرب على يده البراء بن معرور ، ثم تتابع القوم . قال : فلما بايعنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صرخ الشيطان من رأس العقبة بأبعد صوت سمعته قط : يا أهل الجباجب هل لكم في مذمم والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( هذا والله زنا العقبة اسمع أي عدو الله ، أما والله لأفرغن لك ) . ثم قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ارجعوا إلى رحالكم ) . فقال له العباس بن عبادة بن نضلة : والذي بعثك بالحق لئن شئت لنميلن غداً على أهل منى بأسيافنا . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لم نؤمر بذلك ، ولكن ارجعوا إلى رحالكم ) .
قال : فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا ( ف ) غدت علينا جلة قريش حتى جاؤونا في منازلنا وقالوا : يا معشر الخزرج بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا ، فإنه والله ما حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم . قال : فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه وصدقوا لم يعلموا وبعضنا ينظر إلى بعض ، فقام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي وعليه نعلان جديدان قال : فقلت له كلمة كأني أُريد أن أُشرك القوم بها فيما قالوا : يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش ؟
قال : فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه ، ثم رمى بهما إليّ وقال : والله لتنتعلنّهما ، فقال أبو جابر : والله أخفظت الفتى فاردد إليه نعليه . قال : قلت : لا أردهما ، قال : والله صلح ، والله لئن صدق لأسلبنه .
قال : ثم انصرف أبو جابر إلى المدينة ، وقد شدّدوا العقد ، فلما قدموها أظهروا الإسلام بها وبلغ ذلك قريشاً فآذوا أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأصحابه : ( إنّ الله قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون فيها ) .
فأمرهم بالهجرة إلى المدينة واللحوق بإخوانهم الأنصار ، فكان ممن هاجر أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، ثم عامر بن ربيعة ومعه امرأته ليلى بنت أبي خيثمة ، ثم عبد الله بن
(3/120)

" صفحة رقم 121 "
جحش . ثم تتابع أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إرسالا إلى المدينة ، فأقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ينتظر أن يؤذن له في الهجرة إلى أن أُذن ، فقدم المدينة فجمع الله أهل المدينة أوسها وخزرجها بالإسلام ، وأصلح ذات بينهم بنبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ورفع عنهم العداوة القديمة ، وألّف بينهم ، وذلك قوله ) واذكروا نعمة الله عليكم ( يا معشر الأنصار إذ كنتم أعداء قبل الإسلام ) فألّف بين قلوبكم ( بالإسلام ) فأصبحتم ( : فصرتم ، نظيره قوله في المائدة : ) وأصبح من الخاسرين ( وقوله : ) فأصبح من النادمين ( وفي ) حم ( السجدة ) فأصبحتم من الخاسرين ( وفي الكهف : ) أو يصبح ماؤها غوراً ( .
) بنعمته ( : بدينة الإسلام ) إخواناً ( في الدين والولاية ، نظيره قوله : ) إنما المؤمنون إخوة ( .
وعن أبي سعيد مولى عبد الله بن عامر بن كريز عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا تناجشوا ، وكونوا عباد الله إخواناً ، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ، ولا يحقره التقوى ههنا وأشار بيده إلى صدره حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ) .
أبو بردة عن أبي موسى قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ) ، وشبك بين أصابعه .
الشعبي عن النعمان بن بشير أنه قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) المؤمنون كرجل واحد .
قال : ( المؤمنون كرجل واحد لجسد إذا اشتكى رأسه تداعى له سائره بالحمى والسهر ) .
) وكنتم ( يا معشر الأوس والخزرج على شفا حفرة من النار . قال الراجز :
نحن حفرنا للحجيج سجلهْ
نابتة فوق شفاهاً بقلهْ
ومعنى الآية : كنتم على طرف حفرة من النار ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلاّ أن تموتوا على كفركم ، ) فأنقذكم منها ( بالإيمان . قال : وبلغنا أنّ أعرابياً سمع ابن عباس وهو يقرأ هذه
(3/121)

" صفحة رقم 122 "
الآية فقال : والله ما أنقذهم منها وهو يريد أن يوقعهم فيها . فقال ابن عباس : خذوه من غير فقيه . ) كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون (
) وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ تِلْكَ ءَايَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الاُْمُورُ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الاَْدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِئَايَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الاَْنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذالِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَاتِ اللَّهِ ءَانَآءَ الَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَائِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ( 2
آل عمران : ( 104 ) ولتكن منكم أمة . . . . .
) ولتكن منكم أُمة ( أي ولتكونوا أُمة من صلة ، كقوله ) فاجتنبوا الرجس من الأوثان ( ، ولم يرد اجتناب رجس الأوثان وإنما فاجتنبوا الأوثان وإنها رجس . واللام في قوله ) ولتكن ( لام الأمر . ) يدعون إلى الخير ( : الإسلام ) ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأُولئك هم المفلحون ( ، وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال : سمعنا ابن الزبير يقرأ : ( ولتكن منكم أُمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون على ما أصابهم ) . وروي مثله عن عثمان ( . . . . . . . . . . ) .
فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
روى حسان بن سليمان عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه ) .
(3/122)

" صفحة رقم 123 "
وعن عبد الله بن عمر عن درة بنت أبي لهب قالت : جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو على المنبر فقال : يا رسول الله من خير الناس ؟ قال : ( أَأْمرهم بالمعروف ، وأنهاهم عن المنكر ، وأتقاهم لله تعالى ، وأوصلهم لأرحامه ) .
عن ابن عباس قال : قلنا : يا رسول الله ، ما نعمل نأتمر بالمعروف حتى لا يبقى من المعروف شيء إلاّ ائتمرنا به ، وننتهي عن المنكر حتى لا يبقى من المنكر شيء إلاّ انتهينا عنه ، ولم نأمر بالمعروف ولم ننه عن المنكر ، فقال : ( مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به ، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله ) .
الشعبي عن النعمان بن بشير قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مثل الفاسق في القوم كمثل قوم ركبوا سفينة فاقتسموها فصار لكل إنسان منها نصيب فأخذ رجل منهم فأساً فجعل ينقر في موضعه ، وقال له أصحابه : أي شيء تصنع ، تريد أن تغرق وتغرقنا ؟ قال : هو مكاني ، فإن أخذوا على يده نجوا ونجا وإن تركوه غرق وغرقوا ) .
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : ( أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشنآن الفاسقين ؛ فمن أمر بالمعروف شدّ ظهر المؤمن ، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافق ، ومن شنأ المنافقين وغضب لله عز وجل غضب الله تعالى له ) .
وقال أبو الدرداء : لتأمرنّ بالمعروف ولتنهوُنّ عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم سلطاناً ظالماً لا يجلّ كبيركم ولا يرحم صغيركم ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم ، ويستنصرون فلا ينصرون ، ويستغفرون فلا يغفر لهم .
وقال حذيفة اليماني : يأتي على الناس زمان لئن يكون فيهم جيفة حمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر .
وقال الثوري : إذا كان الرجل مُحبّباً في جيرانه محموداً عند القوم فاعلم أنه مداهن .
آل عمران : ( 105 ) ولا تكونوا كالذين . . . . .
) ولا تكونوا كالذين تفرقوا ( الآية قال أكثر المفسرين : هم اليهود والنصارى . وقال بعضهم : هم المبتدعة من هذه الأُمّة . عن عبد الله بن شدّاد قال : وقف أبو أُمامة وأنا معه على رؤوس الحرورية بالشام عند باب حمص أو دمشق فقال لهم كلاب النار ، كلاب النار مرتين أو ثلاثة شرّ قتلى تظل السماء وخير قتلى قتلاهم . ( قيل ) : أشيء من قبل رأي رأيته أو شيء سمعته من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن هو من جل رأي رأيته ، إني إذن لجريء إن لم أسمعه من رسول
(3/123)

" صفحة رقم 124 "
الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلاّ مرة أو مرتين حتى عدّ سبع مرات ما حدثت به . فقال رجل فإني رأيتك دمعت عيناك . قال : هي رحمة رحمتهم إنهم كانوا مؤمنين فكفروا بعد إيمانهم ، ثم قرأ ) ولا تكونوا كالذين تفرقوا ( إلى قوله ) بعد إيمانكم ( ثم قال : هم الحرورية .
وروى قبيصة عن جابر أن عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) لما نزل بباب من أبواب دمشق يقال له الجابية ، حمد الله فأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : قام فينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كمقامي فيكم ثم قال : ( من سرّه بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الفذ وهو من الاثنين أبعد ) .
آل عمران : ( 106 ) يوم تبيض وجوه . . . . .
) يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ( ) يوم ( نصب على الظرف ، أي في يوم ، وانتصاب الظرف على التشبيه بالمفعول وقرأ يحيى بن وثّاب ( تِبيض وتِسود ) بكسر التاءين على لغة تميم . وقرأ الزهري : ( تبياض وتسواد ) . فأما الذين ( اسوادت ) .
و ( المعنى ) تبيض وجوه المؤمنين ، وتسود وجوه الكافرين . وقيل : يوم تبيض وجوه المخلصين ، وتسود وجوه المنافقين .
وقال عطاء : تبيض وجوه المهاجرين والأنصار ، وتسود وجوه قريظة والنضير . سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : ) يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ( قال : تبيض وجوه أهل السنة ، وتسود وجوه أهل البدعة .
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : إذا كان يوم القيامة رفع لكل قوم مما كانوا يعبدونه فيسعى كل قوم إلى ما كانوا يعبدون ، وهو قوله تعالى : ) نولّه ما تولى ( ، فإذا انتهوا إليه حزنوا فيسود وجوههم من الحزن . ويبقى أهل القبلة واليهود والنصارى لم يعرفوا شيئاً مما رفع لهم ، فيأتهم الله عز وجل فيسجد له من كان سجد في دار الدنيا مطيعاً مؤمناً ، ويبقى أهل الكتاب والمنافقون كأنهم لا يستطيعون السجود ثم يؤذن لهم فيرفعون رؤوسهم ووجوه المؤمنين مثل الثلج بياضاً ، والمنافقون وأهل الكتاب قيام كأن في ظهورهم السفافيد فإذا نظروا إلى وجوه المؤمنين وبياضها حزنوا حزناً شديداً واسودت وجوههم فيقولون : ربنا سوّدت وجوه من يعبد غيرك فما لنا مسودة وجوهنا فوالله ربنا ما كنا مشركين ؟ فيقول الله للملائكة : انظروا كيف كذبوا على أنفسهم .
(3/124)

" صفحة رقم 125 "
وقال أهل المعاني : ابيضاض الوجوه : إشراقها واستبشارها وسرورها بعملها وثواب الله عز وجل ، واسودادها حزنها وكآبتها وكسوفها بعملها وبعذاب الله تعالى يدل عليه : ) للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ( الآية وقوله : ) والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ( ، وقوله : ) وجوه يومئذ ناضرة ( ) ووجوه يومئذ باسرة ( .
ثم بين حالهم ومآلهم فقال ) فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم ( ، فيه اختصار يعني : فيقال لهم : أكفرتم بعد إيمانكم ؟ واختلفوا فيه ؛ فروى الربيع عن أبي العالية عن أُبيّ بن كعب أنهم كل من كفر بعد إيمانه بالله يوم الميثاق حين أخرجهم من صلب آدم ( عليه السلام ) وقال لهم : ) ألست بربكم قالوا بلى ( ، فيعرفهم الله عز وجل يوم القيامة بكفرهم فيقول : ) أكفرتم بعد إيمانكم ( يوم الميثاق .
قال الحسن : هم المنافقون أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم ، وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم . وقال يونس بن أبي مسلم : سألت عكرمة عن هذه الآية فقال : لو فسرتها لم أخرج من تفسيرها ثلاثة أيام ، ولكني سأُجمل لك : هؤلاء قوم من أهل الكتاب كانوا مصدقين بأنبيائهم ، مصدقين بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) قبل أن يبعث ، ولما بعث كفروا به ، فذلك قوله ) أكفرتم بعد إيمانكم ( .
وقال الآخرون : هم من أهل ملتنا .
قال الحارث الأعور : سمعت علياً ( رضي الله عنه ) على المنبر يقول : ( إن الرجل ليخرج من أهله فما يؤوب إليهم حتى يعمل عملاً يستوجب به الجنة ، وإنّ الرجل ليخرج من أهله فما يعود إليهم حتى يعمل عملاً يستوجب به النار ) . ثمّ قرأ ) يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ( الآية .
ثم نادى الذين كفروا بعد الإيمان ( أكفرتم ) ، يدل عليه حديث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يأتي على أُمتي زمان يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً يبيع دينه بعرض يسير من الدنيا ) .
وقال أبو أُمامة الباهلي : هم الخوارج . وقال قتادة : هم أهل البدع كلهم .
ودليل هذه التأويلات قوله : ) ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة (
(3/125)

" صفحة رقم 126 "
وقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليردنّ الحوض من صحبتي أقوام حتى إذا رأيتهم اختلجوا دوني ، فلأقولن : أصحابي ، أصحابي ، فيقال لي : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى ) .
آل عمران : ( 107 - 108 ) وأما الذين ابيضت . . . . .
) وأما الذين ابيضت وجوههم ( هؤلاء أهل طاعته والوفاء بعهده ، ) ففي رحمة الله ( : جنّة الله ) هم فيها خالدون ( إلى ) وما الله يريد ظلماً للعالمين ( فيعاقبهم بلا جرم .
آل عمران : ( 109 - 110 ) ولله ما في . . . . .
) ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأُمور كنتم خير أُمة أُخرجت ( الآية قال عكرمة ومقاتل : نزلت في ابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ وسالم مولى أبي حذيفة ، وذلك أن ابن الصيف ووهب بن يهود اليهوديين قالا لهم : إن ديننا خير مما تدعوننا إليه ونحن خير وأفضل منكم . فأنزل الله تعالى هذه الآية .
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : ) كنتم خير أُمة أُخرجت للناس ( هم الذين هاجروا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة . وروى جويبر عن الضحاك قال : هم أصحاب محمد خاصة الرواة الدعاة الذين أمر الله عز وجل بطاعتهم . يدل عليه ما روى السدي أن عمر الخطاب قال : ) كنتم خير أُمة أُخرجت للناس ( ، قال : تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا .
وعن عمر بن الحصين قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( طوبى لمن رآني ولمن رأى من رآني ولمن رأى من رأى من رأى من رآني ) .
الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهباً ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه ) .
وقال آخرون : هم جمع المؤمنين من هذه الأُمة وقوله : ) وكنتم ( يعني أنتم كقوله : ) من كان في المهد صبياً ( أي من هو في المهد . وإدخال ( كان ) واسقاطه في مثل هذا المعنى واحد ، كقوله : ) واذكروا إذ كنتم قليلا ( وقال في موضع آخر : ) واذكروا إذ أنتم قليل ( .
وقال محمد بن جرير : هذا بمعنى التمام ، وتأويله : خلقتم ووجدتم خير أُمة
(3/126)

" صفحة رقم 127 "
وقال : معنا ) كنتم خير أُمة ( عند الله في اللوح المحفوظ ، ) أُخرجت للناس ( قال قوم : للناس من صلة قوله : ) خير أُمة ( : يعني أنتم خير الناس للناس . قال أبو هريرة : معناه كنتم خير الناس للناس يجيئون بهم في السلاسل فيدخلونهم في الإسلام . قتادة هم أُمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لم يؤمر نبي قبله بالقتال فيسبون من سبي الروم والترك والعجم فيدخلونهم في دينهم ، فهم خير أُمة أُخرجت للناس .
مقاتل بن حيان : ليس خلق من أهل الأديان ولا يأمرون من سواهم بالخير وهذه الآية يأمرون كل أهل دين وأنفسهم لا يظلم بعضهم بعضاً ، بل يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر ؛ فأُمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) خير أُمم الناس .
وقال آخرون : قوله : ) للناس ( من صلة قوله : ) أُخرجت ( ومعناه ما أخرج الله للناس أُمّة خيراً من أُمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فهم خير أُمة أقامت وأُخرجت للناس ، وعلى هذا تتابعت الأخبار .
روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنّه سمع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول في قوله : ) كنتم خير أُمة أُخرجت للناس ( قال : ( إنكم تتمّون سبعين أُمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل ) .
وروى عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أهل الجنة عشرون ومئة صف ، منها ثمانون من هذه الأُمة ) .
نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من أُمة إلاّ وبعضها في النار ، وبعضها في الجنّة ، وأُمتي كلّها في الجنة ) .
ثابت البناني عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مثل أُمتي مثل المطر ؛ لا يُدرى أوله خير أم آخره ) .
وعن أنس قال : أتى رسولَ الله أسقف فذكر أنه رأى في منامه الأُمم كانوا يمنعون على الصراط ( . . . . . . . . . . ) حتى أتت أُمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) غرّاً محجلين قال : فقلت : من هؤلاء الأنبياء ؟ قالوا : لا ، قلت : مرسلون ؟ قالوا : لا ، فقلت : ملائكة ؟ قالوا : لا ، فقلت : من هؤلاء ؟ قالوا : أُمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) غرّاً محجلين عليهم أثر الطهور ، فلما أصبح الأسقف أسلم .
(3/127)

" صفحة رقم 128 "
عن سعيد بن المسيب ، عن عمر ، عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها ، وحرمت على الأُمم حتى تدخلها أُمتي ) .
وروى أبو بردة عن أبي موسى قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن أُمتي أُمة مرحومة ، إذا كان يوم القيامة أعطى الله كل رجل من هذه الأُمة رجلا من الكفّار فيقول : هذا فداؤك من النار ) .
وعن أنس قال : خرجت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإذا بصوت يجيء من شعب ، قال : ( يا أنس ، انطلق فانظر ما هذا الصوت ) ، قال : فانطلقت فإذا برجل يصلي إلى شجرة فيقول : ( اللهم اجعلني من أُمة محمد المرحومة ، المغفور لها ، المستجاب لها ، المتاب عليها ) . فأتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأعلمته ذلك فقال : ( انطلق فقل له إن رسول الله يقرئك السلام ويقول : من أنت ؟ ) . فأتيته فأعلمته ما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : ( أقرئ منّي رسول الله السلام وقل له : أخوك الخضر يقول ( أسألك ) أن يجعلني من أُمتك المرحومة المغفور لها المستجاب لها المتاب عليها ) .
وقيل لعيسى ( عليه السلام ) : يا روح الله ، هل بعد هذه الأُمة أُمة ؟ قال : ( علماء حلماء حكماء ، أبرار أتقياء ، كأنهم من العلم أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ، ويرضى الله منهم باليسير من العمل يدخلهم الجنة بشهادة أن لا إلاه إلاّ الله ) .
وبلغنا أن كعب الأحبار قيل له : لِم لم تسلم على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأبي بكر ، وأسلمت على عهد عمر ؟ فقال : لأن أبي دفع إلي كتاباً مختوماً ، وقال : لا تفكّ ختمه . فرأيت في المنام أيام عمر ( رضي الله عنه ) قائلا قال لي : إن أبي خانك في تلك الصحيفة ، ففككتها فإذا فيها نعت أُمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) سالوما وعالوما وحاكوما وصافوحا وخاروجا ، فسألوه عن تفسيرها ، فقال : هو أن شعارهم أن يسلم بعضهم على بعض ، وعلماؤهم مثل أنبياء بني إسرائيل ، وحكم الله لهم بالجنّة ، ويتصافحون فيغفر لهم ويخرجون من ذنوبهم كيوم ولدتهم أُمّهاتهم .
وقال يحيى بن معاذ : هذه الآية مدحة لأُمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يكن ليمدح قوماً ثم يعذبهم .
(3/128)

" صفحة رقم 129 "
ثم ذكر مناقبهم فقال : ) تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ( إلى ) لن يضروكم إلاّ أذى ( الآية قال مقاتل : إنّ رؤوس اليهود كعباً وعدياً والنعمان وأبا رافع وأبا ياسر وكنانة وأبو صوريا عمدوا إلى مؤمنيهم عبد الله بن سلام وأصحابه : فآذوهم لإسلامهم ، فأنزل الله تعالى ) لن يضروكم إلاّ أذى ( يعني لن يضركم أيها المؤمنون هؤلاء اليهود إلاّ أذى باللسان يعني وعيداً وطعناً . وقيل : دعاء إلى الضلالة . وقيل : كلمة الكفر إن يسمعوها منهم يتأذّوا بها ) وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ( منهزمين ، وهو جزم بجواب الجزاء ، ) ثم لا ينصرون ( استأنف لأجل رؤوس الآي لأنها على النون ، كقوله ) ولا يؤذن لهم فيعتذرون ( . تقديرها : ثم هم لا ينصرون .
وقال في موضع آخر : ) ولا يقضى عليهم فيموتوا ( ؛ إذ لم يكن رأس آية .
قال الشاعر :
ألم تسأل الربع القديم فينطق
أي فهو ينطق .
آل عمران : ( 111 ) لن يضروكم إلا . . . . .
قال الأخفش : قوله ) لن يضروكم إلاّ أذى ( استثناء خارج من أول الكلام ، كقول العرب : ما اشتكى شيئاً إلاّ خيراً ، قال الله تعالى ) لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً إلاّ حميماً وغساقاً ( ولأن هذا الأذى لا يضرهم . ومعناه لكن آذىً .
آل عمران : ( 112 ) ضربت عليهم الذلة . . . . .
) ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا ( : حيثما وجدوا ولقوا ، يعني : حيث ما لقوا غلبوا واستضعفوا وقتلوا فلا يؤمنون ) إلاّ بحبل ( : عهد من الله ) وحبل من الناس ( : محمد والمؤمنين يردون إليهم الخراج فيؤمنونهم . وفي الكلام اختصار ، يعني : إلاّ أن يعتصموا بحبل ، كقول الشاعر :
رأتني بحبليها فصدّت مخافة
وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق
أي أقبلت بحبليها .
وقال آخر :
حنتني حانيات الدهر حتى
كأني خامل أدنو لصيد
قريب الخطو يحسب من رآني
ولست مقيداً أني بقيد
(3/129)

" صفحة رقم 130 "
يعني : رآني مقيد ( بقيد ) .
) وباؤوا بغضب من الله ( إلى
آل عمران : ( 113 ) ليسوا سواء من . . . . .
) ليسوا سواء ( الآية قال ابن عباس ومقاتل : لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيد وأسيد بن سعيد وأسد بن عبيد ومن أسلم من اليهود قالت رؤوس اليهود : ما آمن بمحمد إلاّ شرارنا ، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم ، وقالوا لهم : لقد خسرتم حيث استبدلتم بدينكم ديناً غيره ، فأنزل الله تعالى ) ليسوا سواء ( وسواء يقتضي شيئين اثنين فصاعداً ، واختلفوا في وجه هذه الآية فقال قوم : في الكلام إضمار تقديره : ليسوا سواء . ) من أهل الكتاب أُمّة قائمة ( وأخرى غير قائمة فتزلّ الأخرى لاكتفائه بذكر أحد الفريقين كقول أبي ذؤيب :
عصيت إليها القلب إني لأمرها
مطيع فما أدري أرشد طلابها
أراد : أرشد أم غيّ ، فحذفه لدلالة الكلام عليه .
وهذا قول مجموع مقدم كقولهم : ( أكلوني البراغيث ) و ( ذهبوا أصحابك ) . وقال : تمام القول عند قوله : ) ليسوا سواء ( وهو وقف لأن ذكر الفريقين من أهل الكتاب قد جرى في قولهم ) منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ( ثم قال ) ليسوا سواء ( يعني المؤمنين والفاسقين ، ثم وصف الفاسقين فقال : ) لن يضروكم إلاّ أذى ( ، ثم وصف المؤمنين فقال : ) أُمة قائمة ( الآية فهو مردود على أول الكلام ، وهو مختار محمد بن جرير والزجاج ، قال : وإن شئت جعلت قوله : ) من أهل الكتاب ( ابتداءً لكلام آخر ؛ لأنّ ذكر الفريقين قد جرى ، ثمّ قال : ليس هذان الفريقان سواءً وهم ، ثمّ ابتدأ فقال : ) من أهل الكتاب ( .
قال ابن مسعود : معناها لا يستوي اليهود وأُمة محمد القائمة بأمر الله تعالى يعني الثابتة على الحقّ المستقيم . ابن عباس : أُمّة قائمة مهتدية قائمة على أمر الله لن تنزع عنه ولم تتركه كما تركه الآخرون وضيّعوه . مجاهد : عادلة ، السدي : مطيعة قائمة على كتاب الله وفرائضه وحدوده . وقيل : قائمة في الصلاة . قال الأخفس أُمة قائمة أي ذو أُمّة قائمة ، والأُمّة : الطريقة ، من قولهم : أممت الشيء أي قصدته . قال النابغة : وهل يأتمن ذو أُمّة وهو طائع .
أي ذو طريقة
(3/130)

" صفحة رقم 131 "
ومعنى الآية ذوا طريقة مستقيمة .
) يتلون آيات الله ( يقرؤون كتاب الله . قال مجاهد : يتبعون ، يقال : تلاه ، أي اتّبعه . قال الشاعر :
قد جعلت دلويَ تسيلينني
ولا أريد تبع القرين
إني لم أُردهما ( . . . ) .
أي تستتبعني .
) آناء الليل ( ، أي ساعاته ، وإحداها إنْيٌ مثل نحْي وأنحاء وإنىً مثل معىً .
قال الشاعر :
حلو ومر كعطف القدح شيمته
في كل إنْي قضاء الليل ينتعل
أي تسليه آناء الليل بأمر مضى فيه ولم يتأخر .
قال الراجز في اللغة الأخرى :
لله درّ جعفر أي فتى
مشمّر عن ساقه كلّ إنى
وقال السدي : آناء الليل جوفه . الأوزاعي عن حسان عطية قال : بلغنا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ركعتان يركعهما العبد في جوف الليل خير له من الدنيا وما فيها ، ولولا أن يشق على أمّتي لفرضتهما عليهم ) .
) وهم يسجدون ( أي يصلون ؛ لأنّ التلاوة لا تكون في الركوع والسجود ، نظيره قوله : ) وله يسجدون ( أي يصلّون وفي القرآن : ) وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان ( أي صلوا ، وقوله : ) فاسجدوا لله واعبدوا ( . واختلفوا في نزول الآية ومعناها ؛ فقال بعضهم : هي قيام الليل عن مجمع بن يحيى الأنصاري عن رجل من بني شيبة كان يدرس الكتب فقال : إنا نجد كلاماً من كلام ( الرب ) أيحسب راعي إبل وغنم ، إذا جنه الليل انخذل بكن وهو قائم وساجد آناء الليل .
(3/131)

" صفحة رقم 132 "
ابن مسعود : هو في صلاة العتمة ، يصلونها ومن حولهم من أهل الكتاب لا يصلونها . عاصم عن زرين عن ابن مسعود قال : أخر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة ، قال : ( أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله عز وجل ذه الساعة غيركم ) ، فأنزل الله هذه الآية : ) ليسوا سواء ( حتى بلغ قوله ) والله عليم بالمتقين ( .
وروى الثوري عن منصور قال : بلغنا أنها نزلت في قوم كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء .
وقال عطاء في قوله : ) ليسوا سواء من أهل الكتاب أُمة قائمة ( الآية تزيد أربعين رجلا من أهل نجران من العرب ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى ( عليه السلام ) وصدقوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وكان من الأنصار منهم عدة قبل قدوم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) منهم أسعد ابن زرارة والبراء بن معرور ومحمّد بن مسلمة وأبو قيس هرمة بن أنس ، وكانوا موحدين يغتسلون من الجنابة ويقرّون بما عرفوا من شرائع الحنيفية حتى جاءهم الله عز وجل بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فصدقوه ونصروه .
) وما يفعلوا من خير فلن يكفروه ( ، قرأ الأعمش وحمزة ويحيى والكسائي وحفص وخلف : بالياء فيهما ، اخبار عن الأُمة القائمة . وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيدة . وقرأ الآخرون بالتاء فيهما على الخطاب كقوله ) كنتم خير أُمة ( ، وهي اختيار أبي حاتم . وكان أبو عمرو يرى القراءتين جميعاً : الياء والتاء .
آل عمران : ( 115 ) وما يفعلوا من . . . . .
ومعنى الآية ) وما يفعلوا من خير فلن يكفروه ( : فلن يقدروا ثوابه ، ولن يُجحدوا جزاءه بل يُشكر ( لهم ) ويجازون عليه ، ) والله عليم بالمتقين ( : المؤمنين .
( ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِىَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَادُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هِاذِهِ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَاكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاَْيَاتِ إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ هَآأَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الاَْنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِن
(3/132)

" صفحة رقم 133 "
تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءَالاَفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ بَلَىإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَاذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ لَيْسَ لَكَ مِنَ الاَْمْرِ شَىْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 2
آل عمران : ( 116 ) إن الذين كفروا . . . . .
) إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً ( ، وإنما خص الأولاد ؛ لأنهم أقرب الأنساب إليه ) وأُولئك أصحاب النار ( ، إنما جعلهم من أصحابها ؛ لأنهم من أهلها الذين لا يخرجون منها ولا يفارقونها كصاحب الرجل الذي لا يفارقه ، وقرينه الذي لا يزايله . يدل عليه قوله : ) هم فيها خالدون 2 )
آل عمران : ( 117 ) مثل ما ينفقون . . . . .
) مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا ( ، قال يمان : يعني نفقات أبي سفيان وأصحابه ببدر وأحد على عداوة الرسول ( صلى الله عليه وسلم )
مقاتل : يعني نفقة سفلة اليهود على علمائهم ورؤسائهم ؛ كعب وأصحابه .
مجاهد : يعني جميع نفقات الكفار في الدنيا وصدقاتهم . وضرب الله مثلا فقال ) كمثل ريح فيها صر ( ، قال ابن عباس : يعني السموم الحارة التي تقتل ، ومنه خلق الله الجان . ابن كيسان : الصر ريح فيها صوت ونار .
سائر المفسرين : برد شديد .
) أصابت حرث قوم ( : زرع قوم ) ظلموا أنفسهم ( بالكفر والمعصية ومنع حق الله عز وجل ) فأهلكته ( . ومعنى الآية : مثل نفقات الكفار في بطلانها وذهابها وعدم منفعتها وقت حاجتهم إليها بعد ما كانوا يرجون من عائدة نفعها كمثل زرع أصابه ريح بارد أو نار فأحرقته وأهلكته ، فلن ينتفع أصحابه منه بشيء بعد ما كانوا يرجون من عائدها نفعه ، قال الله تعالى : ) وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ( بالكفر والمعصية ومنع حق الله .
آل عمران : ( 118 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذون بطانة من دونكم ( الآية عن أبي أُمامة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله : ) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ( قال : ( هم الخوارج ) .
(3/133)

" صفحة رقم 134 "
قال ابن عباس : كان رجل من المسلمين يواصل رجالا من اليهود ؛ لما كان بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع ؛ فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة منهم عليهم . مجاهد : نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصادفون المنافقين ويخالطونهم ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك فقال : ) يا أيّها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ( : أولياء وأصفياء من غير أهل ملّتكم . والبطانة : مصدر يوضع موضع الاسم فسمي بها الواحد والاثنان والجميع والمذكر والمؤنث ، قال الشاعر :
أُولئك خلصاني نعم وبطانتي
وهم عيبتي من دون كلّ قريب
وإنّما ما قيل لخليل الرجل : بطانة ؛ تشبيهاً لما ولي بطنه من ثيابه لحلوله منه في اطّلاعه من أسراره وما يطويه عن أباعده وكثير من أقاربه محل ما ولي جسده من ثيابه . ثم ذكر العلة في النهي عن مباطنتهم وعرفهم ماهم منطوون عليه من الغش والخيانة والبغي والغوائل فقال عز من قائل : ) لا يألونكم خبالاً ( ، أي لا يقصّرون ولا يتركون عهدهم وطاقتهم فيما يورّثكم فوق الشر والفساد . يقال : ما ألوته خيراً أو شراً أي ما قصرت في فعل ذلك . ومنه قول ابن مسعود في عثمان :
ولم تألُ عن خير لأُخرى باديهْ
وقال امرؤ القيس :
وما المرء مادامت حشاشة نفسه
بمدرك أطراف الخطوب ولا آل
أي مقصّر في الطلب .
الخبال : الشر والفساد ، قال الله تعالى : ) لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلاّ خبالاً ( ونصب ) خبالاً ( على المفعول الثاني ؛ لأن الإلوَ تتعدى إلى مفعولين . وإن شئت : المصدر ، أي يخبلونكم خبالا . وإن شئت بنزع الخافض ، أي بالخبال ، كما يقال أوجعته ضرباً أي بالضرب ) ودوا ما عنتّم ( أي تمنوا ضرّكم وشركم وإثمكم وهلاككم . ) قد بدت البغضاء ( قراءة العامة بالتاء ؛ لتأنيث البغضاء . ومعنى الآية قد ظهرت امارة العداوة ) من أفواههم ( بالشتيمة والوقيعة في المسلمين . وقيل : بإطلاع المشركين على أسرار المؤمنين . وقيل : هو مثل قوله : ) ولتعرفنّهم في لحن القول ( .
(3/134)

" صفحة رقم 135 "
) وما تخفي صدورهم ( من العداوة والخيانة ) أكبر ( أعظم ، قد بينا ) لكم الآيات إن كنتم تعقلون ( عن الأزهر بن راشد قال : كان أنس بن مالك يحدّث أصحابه ، فإذا حدّثهم بحديث لا يدرون ما هو أتوا الحسن يفسّره لهم ، فحدثهم ذات يوم وقال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربياً ) .
فأتو الحسن فأخبروه بذلك ، فقال : إنّما قوله : ( لا تنقشو في خواتيكم عربياً ) ، فإنه يقول : لا تنقشوا في خواتيمكم محمداً . وأما قوله : ( لا تستضيئوا بنور المشركين ) ، فإنّه يقول لا تستشيروا المشركين في شيء من أُموركم . وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى : ) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ( الآية .
وقال عياض الأشعري : وفد أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب ، فقال : إن عندنا كاتباً حافظاً نصرانياً من حاله كذا وكذا . فقال : مالك قاتلك الله ؟ أما سمعت قول الله تعالى ) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ( الآية ، وقوله ) لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ( ؟ هلا اتخذت حنيفيّاً قال : قلت : له دينه ولي ديني ، ولي كتابته ، لا أُكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلّهم الله ولا أُدنيهم إذ قصاهم الله .
آل عمران : ( 119 ) ها أنتم أولاء . . . . .
) ها أنتم أولاء ( ) ها ( تنبيه ، و ) أنتم ( كناية للمخاطبين من الذكور ، ) أولاء ( اسم الجمع المشار إليه ) تحبونهم ( خبر عنهم . ومعنى الآية : أنتم أيها المؤمنون تحبون هؤلاء اليهود الذين نهيتكم عن مباطنتهم للأسباب التي بينكم من المصاهرة والمحالفة والرضاع والقرابة والجوار ، ) ولا تحبونكم ( هم ؛ لما بينكم من مخالفة الدين . هذا قول أكثر المفسرين . وقال المفضل : معنى ) يحبونهم ( تريدون لهم الإسلام ، وهو خير الأشياء ، ولا تبخلون عليهم بدعائهم إلى الجنة ، ) ولا يحبونكم ( هم ؛ لأنهم يريدونكم على الكفر وهو الهلاك . أبو العالية ومقاتل : هم المنافقون يحبهم المؤمنون بما أظهروا من الإيمان ولا يعلمون ما في قلوبهم . قتادة : في هذه الآية والله إنّ المؤمن ليحب المنافق ويلوي إليه ويرحمه ، ولو أنّ المنافق يقدر على ما يقدر عليه المؤمن منه لأباد خضراءه .
) وتؤمنون بالكتاب كله ( يعني بالكتب كلها ولا يؤمنون هم بكتابكم ، ) فإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا (
(3/135)

" صفحة رقم 136 "
وكان بعضهم مع بعض ) عضوا عليكم الأنامل ( يعني أطراف الأصابع ، واحدتها أنمَلة وأنمُلة بضم الميم وفتحها ) من الغيظ ( والحنق ؛ لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم . وهذا من مجاز الأمثال وإن لم يكن ثم عضّ ، قال الشاعر :
إذا رأوني أطال الله غيظهم
عضوا من الغيظ أطراف الأباهيم
وقال أبو طالب :
وقد صالحوا قوماً علينا أشحّة
يعضّون غيضاً خلفنا بالأنامل
قال الله تعالى : ) قل موتوا بغيضكم ( ، إن قيل : كيف لا يموتون والله تعالى إذا قال لشيء كن فيكون ؟
فالجواب : أن المراد ابقوا بغيضكم إلى الممات فإن مناكم عن الاسعاف محجوبة .
وقال محمد بن جرير : خرج هذا الكلام مخرج الأمر وهو دعاء أمر الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه يدعو عليهم بالهلاك كمداً ممّا بهم من الغيظ ، قل يا محمد : اهلكوا بغيظكم : ) إن الله عليم بذات الصدور ( بما في القلوب من خير وشر . روى عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء قال : ذكر أصحاب الأهواء فقال والذي نفسي بيده لئن تمتلئ داري قردة وخنازير أحب إليّ من أن يجاورني رجل منهم . يعني صاحب هوىً ، ولقد دخلوا في هذه الآية : ) ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم ( الآية .
آل عمران : ( 120 ) إن تمسسكم حسنة . . . . .
) إن تمسسكم ( ، قرأ السلمي بالياء . الباقون بالتاء . يعني : إن تصبكم أيها المؤمنون ) حسنة ( بظفركم على عدوكم وغنيمة تنالونها منهم وتتابع من الناس في الدخول في دينكم وخفض في معاشكم ) تسؤهم ( : تحزنهم ) وإن تصبكم سيئة ( مساءة بإخفاق سريّة لكم ، أو إصابة عدوّ فيكم أو اختلاف يكون منكم ، أو حدث ونكبة ) يفرحوا بها وإن تصبروا على أذاهم وتتقوا ( وتخافوا ربّكم ) لا يضركم ( : لا ينقصكم ) كيدهم ( شيئاً .
واختلفت القراءة فيه ؛ فقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب : ) لا يضركم ( بكسر الضاد ( وراء ) خفيفة واختاره أبو حاتم ، يقال : ضار يضير ضيراً مثل باع يبيع بيعاً ، ودليله في القرآن : ) لا ضير ( . وهو جزم على جواب الجزاء .
(3/136)

" صفحة رقم 137 "
وقرأ الضحاك بضم الضاد وجزم الراء خفيفة من ( ضار يضور ) ، وذكر الفرّاء عن الكسائي أنه سمع بعض أهل العالية يقول : لا ينفعني ذلك ولا يضورني . وقرأ الباقون : بضم ( الضاد ، والراء ) مشددة ، واختاره . وهو من ( ضرّ يضرّ ضراً ) ، مثل ( ردّ يرد ردّاً ) . وفي رائه وجهان :
أحدهما : أنه أراد الجزم وأصله لا يضررْكم فأُدغمت الراء في الراء ، ونقلت ضمة الراء الأُولى إلى الضاد وضُمت الراء الأخيره إتباعاً لأقرب الحركات إليها وهي الضاد ؛ طلباً للمشاكلة كقولهم : مرّ يا هذا .
والوجه الثاني : أن يكون ) لا ( بمعنى ليس ويضمر الفاء فيه ، تقديره : وإن تصبروا وتتّقوا فليس يضركم . قاله الفرّاء وأنشد :
فإن كان لا يرضيك حتى تردني
إلى قطري لا إخالك راضيا
) إن الله بما تعملون ( قرأ الأعمش والحسن : بالتاء . الباقون بالياء ) محيط ( عالم .
آل عمران : ( 121 ) وإذ غدوت من . . . . .
) وإذ غدوت من أهلك ( الآية نظم الآية : وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً ولكن الله تعالى ينصركم عليهم كما نصركم ببدر وأنتم أذلة ، وإن أنتم لم تصبروا على أمري ولم تتقوا نهيي ، فإنه نازل بكم ما نزل بكم يوم أحد حيث خالفتم أمر الرسول ولم تصبروا ، فاذكروا ذلك اليومَ أو غداً بينكم ) تبوّئ المؤمنين ( واختلفوا في هذا اليوم الذي عنى الله تعالى بقوله : ) وإذ غدوت من أهلك ( ؛ فقال الحسن : هو يوم بدر . وقال مقاتل : هو الأحزاب . وقال سائر المفسرين : هو أُحد ، وهو أثبت . يدل عليه قوله في عقبه :
آل عمران : ( 122 ) إذ همت طائفتان . . . . .
) إذ همّت طائفتان منكم أن تفشلا ( وهذا إنما كان يوم أُحد .
قال مجاهد والكلبي والواقدي : غدا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من منزل عائشة فمشى على رجليه إلى أحد ، فجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدراً خارجاً قال : ( تأخر ) .
وذلك أن المشركين نزلوا بأُحد على ما ذكر محمد بن إسحاق والسدي عن رجالهما يوم الأربعاء ، فلما سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بنزولهم استشار أصحابه ودعا عبد الله بن أبي بن سلول ولم يدعه قط قبلها واستشاره ، فقال عبد الله بن أبي وأكثر الأنصار : يا رسول الله ، أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم ، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلاّ أصاب منّا ، ولا دخلها علينا إلاّ أصبنا منه ، فكيف وأنت فينا ؟ فدعهم يا رسول الله ؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مجلس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من وفوقهم ، فإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاؤوا
(3/137)

" صفحة رقم 138 "
فأُعجب رسول الله بهذا الرأي .
وقال بعض أصحابه : يا رسول الله أُخرج بنا إلى هذه الأكلب لا يرون إنا جبنّا عنهم وضعفنا . فأتى النعمان بن مالك الأنصاري فقال : يا رسول الله لا تحرمني الجنة فوالذي بعثك بالحق لأدخلنّ الجنة . فقال : ( بما ؟ ) . فقال : بأني أشهد أن لا إلاه إلاّ الله ، وأني لا أفر من الزحف ، قال : ( صدقت ) . فقتل يومئذ ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قد رأيت في منامي بقراً فأَوَّلتها خيراً ، ورأيت في ذباب سيفي ثلماً فأَوَّلتها هزيمة ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأَوَّلتها المدينة ؛ فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم ؛ فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا المدينة علينا قاتلناهم فيها ) .
وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة ( فيقاتل ) في الأزقة فقال رجال من المسلمين ممن كان ذا سهم يوم بدر ، وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد : اخرج بنا إلى أعدائنا . فلم يزالوا برسول الله من حبهم للقاء القوم حتى دخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فلبس لامته فلما رأوه لبس السلاح ندموا وقالوا : بئسما صنعنا نشير على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والوحي يأتيه ؟ فقاموا واعتذروا إليه وقالوا : اصنع ما رأيت . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ( إنه ليس لنبي ) أن يلبس ( لامته ) أن يضعها حتى يقاتل ) .
وكان قد أقام المشركون بأُحد يوم الأربعاء والخميس ، فراح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد يوم الجمعة بعدما صلّى بأصحابه الجمعة ، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار فصلّى عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم خرج إليهم فأصبح بالشعب من أُحد يوم السبت النصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة ، وكان من أمر حرب أُحد ما كان ، فذلك قوله : ) وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين ( ، قرأ يحيى بن ثاب : ( تبوي ) المؤمنين خفيفة غير مهموزة من ( أبوى يبوي ) مثل ( أروى يروي ) . وقرأ الباقون : مهموزة مشددة يقال : بوأت تبوئة ، وأبويتهم إبواء ، إذا أوطنتهم ، وتبوّأوا إذا تواطنوا ، قال الله تعالى ) أن تبوّأا لقومكما بمصر بيوتاً ( ، وقال ) والذين تبوّأوا الدار والإيمان من قبلهم (
.
(3/138)

" صفحة رقم 139 "
والتشديد أفصح وأشهر ، وتصديقه قوله تعالى : ) ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوّأ صدق ( ، وقال ) لنبوِّئنَّهم من الجنة غرفاً ( .
وقرأ ابن مسعود : تبْوِئ للمؤمنين .
) مقاعد للقتال ( ، أي مواطن وأماكن ، قال الله تعالى ) في مقعد صدق ( ، وقال : ) إنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع ( . وقرأ أشهب : ( مقاعد للقتال ) . ) والله سميع عليم إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا ( : تجبنا وتضعفا وتتخلّفا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وهم بنو أُسامة من الخزرج ، وبنو حارثة من الأوس ، وكانا جناحي العسكر ، وذلك أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خرج إلى أُحد في ألف رجل ، وقيل : تسعمائة وتسعين رجلا ، وقال الزجاج : كان أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في أُحد وقت القتال ثلاثة آلاف ، فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أُحد وقد وعد أصحابه الفتح إن صبروا ، فلما بلغوا الشوط انخزل عبد الله بن أُبيّ الخزرجي ثلث الناس فرجع في ثلاثمائة ، وقال : علام نقتل أنفسنا وأولادنا ؟ فتبعهم أبو جابر السلمي فقال : أُنشدكم الله في نبيكم وفي أنفسكم . فقال عبد الله بن أُبي : لو نعلم قتالا لاتّبعناكم . وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أُبي فعصمهم الله فلم ينصرفوا ، ومضوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فذكرهم الله عظيم نعمته بعصمته فقال : ) إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما ( ناصرهما وحافظهما . وقرأ ابن مسعود : ( والله وليهم ) لأنّ الطائفتين جمع ، كقوله ) هذان خصمان اختصموا في ربهم ( . ) وعلى الله فليتوكل المؤمنون ( وقال جابر بن عبد الله : ما يسرنا أنالهم نهمّ بالذي هممنا ، وقد أخبرنا الله أنه ولينا .
آل عمران : ( 123 ) ولقد نصركم الله . . . . .
) ولقد نصركم الله ببدر ( قال الشعبي : كانت بدر بئر رجل يقال له بدر فسميت باسم صاحبها . قال الواقدي : ذكرت قول ( الشعبي ) لعبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح فأنكراه وقالا : فلأي شيء سميت الصفراء ؟ ولأي شيء سميت الجار ؟ هذا ليس بشيء ، إنما هو اسم الموضع . قال : وذكرت ذلك ليحيى بن النعمان الغفاري فقال : سمعت شيوخنا من بني غفار يقولون هو ماؤنا ومنزلنا ، وما ملكه قط أحد غيرنا ، وما هو وهؤلاء من بلاد جهينة ، إنما هو من بلاد غفارة .
(3/139)

" صفحة رقم 140 "
التقى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمشركون بها ، وكان أول قتال قاتل فيه نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) . وقال الضحاك : بدر ماء بمنى على طريق مكة بين مكة والمدينة .
وقد مدحت القول في غزوات رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسراياه وجيزاً مجملاً ؛ فإنّه باب يعظم نفعه وبالله التوفيق .
ذكر مغازي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
جميع ما غزا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بنفسه ستّ وعشرون غزوة ، فأول غزوة غزاها غزوة ودّان ، وهي عزوة الأبواء ، ثم غزوة بواط إلى ناحية رضوى ، ثم غزوة العشيرة من بطن ينبع ، ثم غزوة بدر الأُولى بطلب كرز بن جابر ، ثم غزوة بدر الكبرى التي قتل الله فيها صناديد قريش ، ثم غزوة بني سليم حتى بلغ الكدر ماءً لبني سليم ، ثم غزوة السويق يطلب أبا سفيان بن حرب حتى بلغ قرقرة الكدر ، ثم غزوة ذي أمر وهي غزوة غطفان إلى نجد ، ثم غزوة نجران : موضع بالحجاز فوق الفرع ، ثم غزوة أُحد ثم غزوة الأسد ، ثم غزوة بني النضير ، ثم غزوة ذات الرقاع من نجد ، ثم غزوة بدر الأخيرة ، ثم غزوة دومة الجندل ، ثم غزوة الخندق ، ثم غزوة بني قريظة ، ثم غزوة بني لحيان ، ثم غزوة بني قردة ، ثم غزوة بني المصطلق من بني خزاعة لقي فيها ، ثم غزوة الحديبية لا يريد قتالا فصده المشركون ، ثم غزوة خيبر ، ثم غزوة الفتح : فتح مكة ، ثم غزوة حنين لقي فيها ، ثم غزوة الطائف حاصر فيها ، ثم غزوة تبوك .
قاتل منها في تسع غزوات : غزوة بدر الكبرى ، وهو يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان سنة اثنتين من الهجرة ، وأُحد في شوال سنة ثلاث ، والخندق ، وبني قريظة في شوال سنة أربع ، وبني المصطلق ، وبني لحيان في شعبان سنة خمس ، وخيبر سنة ست ، والفتح في رمضان سنة ثمان ، وحنين في شوال سنة ثمان . فأوّل غزوة غزاها بنفسه وقاتل فيها بدر وآخرها تبوك .
ذكر سراياه ( صلى الله عليه وسلم )
روي عن مقسم قال : كانت السرايا ستّاً وثلاثين ، وهي غزوة عبيدة بن الحارث إلى حنا من أسفل ثنية المرة وهو ما بالحجارة ، ثم غزوة حمزة بن عبد المطلب إلى ساحل البحر من ناحية الفايض وبعض الناس يقدم غزوة حمزة على غزوة عبيدة وغزوة سعد بن أبي وقاص إلى الخرار من أرض الحجاز ، ثم غزوة عبد الله بن جحش إلى نخلة ، وغزوة زيد بن حارثة القردة ماء من مياه نجد ، وغزوة مرثد بن أبي مرثد الغنوي الرجيعَ لقوا فيها ، وغزوة منذر بن عمرو بئر معونة لقوا فيها ، وغزوة أبي عبيدة الجراح إلى ذي القصة من طريق العراق ، وغزوة عمر بن
(3/140)

" صفحة رقم 141 "
الخطاب تربة من أرض بني عامر ، وغزوة علي بن أبي طالب اليمن ، وغزوة غالب بن عبد الله الكلبي كلبِ ليث الكديدَ لقوا فيها الملوح ، وغزوة علي بن أبي طالب إلى أبي عبد الله بن سعد من أهل فدك ، وغزوة ابن أبي العوجاء السلمي أرض بني سليم أُصيب بها هو وأصحابه جميعاً ، وغزوة عكاشة بن محصن العمرة ، وغزوة أبي سلمة بن عبد الأسد قطن ماء من مياه بني أسد من ناحية نجد لقوا فيها فقتل فيها مسعود بن عروة ، وغزوة محمد بن مسلمة أخي بني حارثة إلى القرطاء موضع من هوزان ، وغزوة بشير بن سعد بن كعب بن مرة لفدك ، وغزوة بشير بن سعد أيضاً إلى حيان بلد من أرض خيبر ، وغزوة زيد بن حارثة الجموم من أرض بني سليم ، وغزوة زيد أيضاً جذام من أرض حسمي لقوا فيها ، وغزوة زيد أيضاً إلى طرف من ناحية نخل من طريق العراق ، وغزوة زيد أيضاً وادي القرى لقي بني فزارة ، وغزوة عبد الله بن رواحة خيبر مرتين إحداهما التي أصاب فيها بشراً اليهودي ، وغزوة عبد الله بن عتيك إلى حنين فأصاب بها أبا رافع بن أبي الحقيق .
وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعث محمد بن مسلمة وأصحابه فيها من أُحد وبدر إلى كعب بن الأشرف فقتلوه ، وبعث عبد الله بن أنيس إلى خالد بن سفيان الهذلي وهو بنخلة لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليغزوه فقتله ، وغزوة الأُمراء : زيد بن حارثة ، وجعفر بن أبي طالب ، وعبد الله بن رواحة إلى مؤتة من أرض الشام فأُصيبوا بها ، وغزوة كعب بن عمرو الغفاري ذات الطلاح من أرض الشام فأُصيب بها هو وأصحابه جميعاً ، وغزوة عيينة بن حذيفة بن بدر الفزاري العنبر من بني تميم ، وغزوة غالب بن عبد الله الكلبي كلب ليث أرض بني مرة فأصاب بها مرداس بن نهيك وحليفاً لهم من جهينة ، قتله أُسامة بن زيد ، وهو الذي قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأسامة فيه : ( من لك ؟ من لك لا إلاه إلاّ الله ؟ ) .
وغزوة عمرو بن العاص ذات السلاسل من أرض بُلَي وعذرة وغزوة ، ( أبي قتادة ) وأصحابه إلى بطن إضم قبل الفتح لقوا فيها ، وغزوة الخيط إلى سيف البحر وعليهم أبو عبيدة الجراح وغزوة عبد الرحمن بن عوف .
) ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ( : جمع ذليل مثل عزيز وأعزة ولبيب وألبّة . وأراد هاهنا قلّة العدد ، ) فاتقوا الله لعلكم تشكرون }
آل عمران : ( 124 ) إذ تقول للمؤمنين . . . . .
) إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم ( واختلفوا في هذه الآية : فقال قتادة : ( . . . ) يوم بدر أمدهم الله بألف ، ثم صاروا ثلاثة
(3/141)

" صفحة رقم 142 "
آلاف ، ثم صاروا خمسة آلاف . يدل عليه قوله : ) إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ( ، الآية ،
آل عمران : ( 125 ) بلى إن تصبروا . . . . .
وقوله : ) بلى إن تصبروا وتتقوا ( إلى قوله ) مسوّمين ( ، فصبر المؤمنون يوم بدر ، واتّقوا الله فأمدّهم الله بخمسة آلاف من الملائكة على ما وعدهم ، فهذا كله يوم بدر . الحسن : فهؤلاء الخمسة آلاف رد للمؤمنين إلى يوم القيامة . وقال ابن عباس ومجاهد : لم تقاتل الملائكة إلاّ يوم بدر وفيما سوى ذلك يشهدون القتال ولا يقاتلون إنما يكونون عدداً ومدداً . وقال عمر بن أبي إسحاق : لما كان يوم أُحد انجلى عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وبقي سعد بن مالك يرمي ، وفتىً شاب ينبل له فلمّا فني النبل أتاه به فنثره فقال : ارمِ أبا إسحاق ، ارمِ أبا اسحاق كرتين فلما انجلت المعركة سئل عن الرجل فلم يعرف .
وقال الشعبي : بلغ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمين يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يمدّ المشركين ، فشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى ) ألن يكفيكم ( إلى قوله ) مسوّمين ( ، فلما بلغ الكرز الهزيمة فرجع ولم يأتهم ولم يمدّهم أمدّهم الله أيضاً بخمسة آلاف ، وكانوا قد أمدوا بألف .
وقال آخرون : إنما وعد الله تعالى المسلمين يوم بدر إن صبروا على طاعته فاتقوا محارمه أن يمدّهم في حروبهم كلها فلم يصبروا ولم يتقوا إلاّ في يوم الأحزاب فأمدهم الله تعالى حتى حاصروا قريظة . قال عبد الله بن أوفى : كنا محاصري بني قريظة والنضير ما شاء الله أن نحاصرهم فلم يفتح علينا فرجعنا ، فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بغسل ، فهو يغسل رأسه إذ جاءه جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : ( يا محمد ، وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها ؟ ) . فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بخرقة فلف بها رأسه ولم يغسله ثمّ نادى فينا فقمنا كالّين متعبين لا نعبأ بالسير شيئاً حتى أتينا بني قريظة والنضير ، فيومئذ أمدنا الله تعالى بثلاثة آلاف من الملائكة ، ففتح الله لنا فتحاً يسيراً وانقلبنا بنعمة الله وفضل .
وقال قوم : إنما كان هذا يوم أحد ، وعدهم الله عز وجل المدد إن صبروا ، فلم يصبروا ؛ فلم يُمدوا ولا بملك واحد ( و ) لو أُمدّوا لما هزموا . وهو قول عكرمة والضحاك . وكان هذا يوم أُحد حين انصرف أبو سفيان وأصحابه ؛ وذلك أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يخاف أن يدخل المشركون المدينة ، فبعث علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) فقال : ( اخرج على آثار القوم فانظر ما يصنعون وما يريدون ، فإن كانوا قد أجبنوا الخيل وركبوا وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة ، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة ، فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرنّ إليهم فيها ثم لأُناجزنهم )
(3/142)

" صفحة رقم 143 "
قال علي ( رضي الله عنه ) : ( فخرجت في آثارهم أنظر ما يصنعون ، فإذا هم قد أجبنوا الخيل وامتطوا الإبل وتوجهوا إلى مكة ، وقد كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : أي ذلك كان فأخفه حتى تأتيني ، فلما رأيتهم قد توجهوا إلى مكة أقبلت أصيح ما أستطيع أن أكتم لما بي من الفرح وانصرفوا إلى مكة وانصرفنا إلى المدينة ، فأنزل الله تعالى في ذلك ) ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم ( ) يعني أن انصرفوا إليكم ودخلوا المدينة . وفي قراءة أُبي ( ألا يكفيكم أن يمدكم ربكم ) ، أي يعطيكم ويعينكم .
قال المفضل : ( كل ) ما كان على جهة القوة والإعانة ، قيل فيه : أمده يمده إمداداً ، وكل ما كان على جهة الزيادة قيل : مدّه يمدّه مدّا ، ومنه قوله : ) والبحر يمدّه من بعده ( .
وقال بعضهم : المد في الشر ، والإمداد في الخير . يدل عليه قوله تعالى : ) ويمدّهم في طغيانهم يعمهون ( وقوله ) ونمدّ لهم من العذاب مداً ( .
وقال في الخير ) إني مُمدكم بألف ( وقال : ) يُمددكم ربكم بخمسة آلاف ( . وقال ) وأمددناكم بأموال وبنين ( .
وقال : ) أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين ( . وقال : ) وأمددناهم بفاكهة ( ، وقال : ) ويُمددكم بأموال وبنين ( ، ) يمدّكم بألف من الملائكة ( ) منزلين ( . قرأ أبو حيوة : بكسر الزاي ، مخفّفاً ، يعني منزلين النصر . وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف وعمر ابن ميمون وابن عامر مشددة مفتوحة الزاي على التكثير . وتصديقه قوله : ) ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة ( .
وقوله : ) مسومين ( . وقرأ الآخرون : بفتح الزاي خفيفة . ودليله قوله : ) لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ( وقوله : ) وأنزل جنوداً لم تروها ( . وتفسير الإنزال : جعل الشيء من علو إلى سفل ، ثم قال : ) بلى ( وهو تصديق لقول الله تعالى وقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
) إن تصبروا ( لعدوّكم ) وتتقوا ( معصية ربكم
(3/143)

" صفحة رقم 144 "
) وَيَأتُوكُمْ ( من المشركين ، ) مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا ( قال عكرمة والحسن وقتادة والربيع والسدي وابن زيد : من وجههم هذا ، وهو رواية عطية عن ابن عباس . مجاهد والضّحاك وزاذان : من غضبهم هذا ، وكانوا قد غضبوا يوم أُحد ليوم بدر ممّا لقوا ، وأصل الفور : القصد إلى الشيء والأخذ فيه بحدّه ، وهو من قولهم : فارت القدر تفور فوراً وفوراناً إذا غلت ) وَفَارَ التَّنُّورُ ( ، قال الشاعر :
تفور علينا قدرهم فيديمها
ويفثأُها عنا إذا حَمْيَها غلا
) بِخَمْسَةِ آلاف مِنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ( قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويعقوب : بكسر الواو ، واختاره أبو حاتم ، وقرأ الباقون : بالفتح ، واختاره أبو عبيد ، فمن كسر الواو أراد أنّهم سوّموا خيلهم ، ومن فتح أراد به أنفسهم ، والسّومة : العلامة التي يعلّم بها الفارس نفسه في الحرب ، واختلفوا في هذه السّمة الموصوفة بها الملائكة في هذه الآية ما هي ، فقال عمير بن إسحاق : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأصحابه يوم بدر : ( تسوّموا ، فإن الملائكة قد تسوّمت بالصوف الأحمر في قلانسهم ومغافرهم ) . الضحاك وقتادة : ( بالعهْن ) في نواصيها وأذنها . مجاهد : كانت مجزوزة أذناب خيلهم وأعرافها ونواصيها ( معلّمة ) ، الربيع : كانوا على خيل بلق ، عليّ وابن عباس رضي الله عنهم : كانت عليهم عمائم بيض قد أرسلوها بين أكتافهم ، هشام بن عروة الكلبي : عمائم صفر مرخاة على أكتافهم .
وقال عبد الله بن الزبير : إن الزبير كانت عليه ملاءة صفراء وعمامة صفراء يوم بدر ، فنزلت الملائكة يوم بدر مسوّمين بعمائم صفر .
وروى الزبير بن المنذر عن جدّه أبي أسيد وكان بدريّاً قال : لو كان بصري فرّج عنه ، ثم ذهبتم معي إلى بدر لأريتكم الشعب التي خرجت منه الملائكة في عمائم صفر قد طرحوها بين أكتافهم ، وقال عكرمة : كانت عليهم سيماء القتال ، السديّ : سيماء المؤمنين .
آل عمران : ( 126 ) وما جعله الله . . . . .
) وَمَا جَعَلَهُ اللهُ ( يعني : هذا الوعد والمدد ) إلاَّ بُشْرَى ( لتستبشروا به . ) وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ ( ولتسكن قلوبكم إليه ، فلا تجزع من كثرة عدوّكم وقلّة عددكم .
) وَمَا النَّصْرُ إلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ ( لأن العزّ والحكم له وهو : ) العَزِيزُ الحَكِيمُ ( نظيرها في
(3/144)

" صفحة رقم 145 "
الأنفال ، ثم قال : واستعينوا بالله وتوكلوا عليه
آل عمران : ( 127 ) ليقطع طرفا من . . . . .
) لِيَقْطَعَ طَرَفاً ( . نظم الآية : ولقد نصركم الله ببدر ليقطع طرفاً ، أي : ليهلك طائفة ) مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ( نظيره قوله : ) فَقُطِعَ دَابِرُ القَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ( أي : أهلك ، وفي الأنفال : ) وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ ( ، وفي الحجر : ) أنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ( ، السديّ : معناه ليهدم ركناً من أركان الشرك بالقتل والأسر ، فقتل من سادتهم وقادتهم يوم بدر سبعين ، وأُسر منهم سبعين .
) أوْ يَكْبِتَهُمْ ( بالخيبة ) فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ( لم ينالوا شيئاً ممّا كانوا يرجون من الظفر بكم . وقال الكلبي : ) أوْ يَكْبِتَهُمْ ( : أو يهزمهم بأن يصرعهم لوجوههم . المؤرّخ : يخزيهم . النضر بن شميل : يغيظهم ، المبرّد : يظفر عليهم ، السديّ : يلعنهم ، أبو عبيدة : يهلكهم ، قالوا : وأهل النظر ( يرون ) التاء منقلبة عن الدال ، لأن الأصل فيه يكبدهم ، أي : يصيبهم في أكبادهم بالحزن والغيظ ، يقال : قد أحرق الحزن كبده ، وأحرقت العداوة كبده ، ويقول العرب للعدوّ : أسود الكبد ، قال الأعشى :
فما أجشمت من إتيان قوم
هم الأعداء والأكبادسود
كأنّ الأكباد لمّا أحترقت بشدّة العداوة أسودّت ، والتاء والدال يتعاقبان ، كما يقال : هرت الثوب وهرده ، إذا خرقه ، يدل على صحة هذا التأويل قراءة لاحق بن حميد : أو يكبدهم ، بالدّال .
آل عمران : ( 128 ) ليس لك من . . . . .
) لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ( اختلف العلماء في سبب نزول هذه الآية ، فقال عبد الله بن مسعود : أراد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يدعوا على المدبرين عنه من أصحابه يوم أُحد ، وكان عثمان منهم ، فنهاه الله عزّ وجلّ عن ذلك وتاب عليهم ، فأنزل هذه الآية ، وقال عكرمة وقتادة : أَدْمى رجل من هذيل يقال له عبد الله بن قمية وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أُحد ، فدعا عليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وكان حتفه أن سلّط الله عليه تيساً فنطحه حتى قتله .
وشجّ عتبة بن أبي وقاص رأسه ، وكسر رباعيته فدعا عليه ، وقال : ( الّلهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافراً ) قال : وما حال عليه الحول حتى مات كافراً ، فأنزل الله هذه الآية .
وقال الكلبي والربيع : نزلت هذه الآية على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم أُحد ، وقد شجّ في وجهه وأُصيبت رباعيته ، فهمّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يلعن المشركين ويدعو عليهم ، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه
(3/145)

" صفحة رقم 146 "
الآية ، لعلمه فيهم أن كثيراً منهم سيؤمنون ، يدلّ عليه ما روى أبو بكر بن عياش ، عن حميد ، عن أنس قال : لمّا كان يوم أُحد شجّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في فوق حاجبه وكسرت رباعيته وجرح في وجهه ، فجعل يمسح الدم في وجهه ؛ وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم ، ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيّهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربّهم ) ، فأنزل الله تعالى : ) لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ( ، وقال سعيد بن المسيّب . والشعبي . ومحمد بن إسحاق بن يسار : لمّا قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اشتدّ غضب الله على من دمى وجه نبيّه ) . علت عالية من قريش على الجبل ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ( اللهم إنه ) لا ينبغي لهم أن يعلونا ) ، فأقبل عمر ورهط من المهاجرين حتى أهبطوهم ، ونهض رسول الله إلى صخرة ليعلوها وقد كان ظاهر بين درعين فلم يستطع ، فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى عليها ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أوجب طلحة الجنة ) ، فوقفت هند والنسوة معها يمثّلن بالقتلى من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يجدعنّ الآذان والأُنوف ، حتى أخذت هند من ذلك قلائد وأعطتها وحشيّاً ، وبقرت من كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع فلفظتها ، ثم علت صخرة مشرفة فصرخت :
نحن جزيناكم بيوم بدر
والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان من عتبة لي من صبر
أبي وعمي وأخي وبكري
شفيت صدري وقضيت نذري
شفيت وحشي من غليل صدري
قالوا : وقال عبد الله بن الحسن : قال حمزة : الّلهم إن لقينا هؤلاء غداً فإنّي أسألك أن يقتلوني ويبقروا بطني ويجدعوا أنفي وأُذني ، فتقول لي يوم القيامة : فيم فعل بك هذا ؟ فأقول : فيك . فلمّا كان يوم أُحد قتل فبقر بطنه وجدعت أُذنه وأنفه ، فقال رجل سمعه : أمّا هذا فقد أُعطي في نفسه ما سأل في الدنيا ، والله يعطيه ما سأل في الآخرة .
قالوا : فلمّا رأى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والمسلمون ما بأصحابهم من جدع الآذان والأُنوف وقطع المذاكير ، قالوا : لئن أدالنا الله عليهم لنفعلنّ بهم مثل ما فعلوا ، ولنمثلنّ بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قطّ ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
قال عطاء : قام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد أُحد أربعين يوماً يدعو على أربعة من ملوك كندة : مسرح ، وأحمد ، ولحي ، وأخيهم العمردة ، وعلى معن من هذيل ، يقال لهم : لحيان ، وعلى بطون من سليم وعلى ذكوان وعصبة والقارة ، وكان يقول : ( الّلهم أشدد وطاءك على مُضر
(3/146)

" صفحة رقم 147 "
واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف ) ، فأجاب الله دعاه وقحطوا حتى أكلوا أولادهم وأكلوا الكلاب والميتة والعظام المحرقة ، فلمّا انقضت الأربعون نزلت هذه الآية .
وعن سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الّلهم ألعن أبا سفيان ، الّلهم العن الحرث بن هشام ، الّلهم العن صفوان بن أُميّة ) ، فأنزل الله تعالى : ) لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ( وأسلموا فحسن إسلامهم .
الزهري عن سالم عن أبيه أنه سمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال في صلاة الفجر حين رفع رأسه من الركوع : ( ربّنا لك الحمد الّلهم العن فلاناً وفلاناً ) ، دعا على ناس من المنافقين فأنزل الله تعالى : ) لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ ( الآية . وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في بئر معونة وهم سبعون رجلا من قرّاء أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أميرهم المنذر بن عمرو ، وبعثهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى بئر معونة في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد ، ليعلّموا الناس القرآن والعلم ، فقتلهم جميعاً .
عامر بن الطفيل : وكان فيهم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر الصديق فلما قتل رفع بين السماء والأرض ، فوَجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من ذلك وَجداً شديداً وحزن عليهم شهراً فنزلت ) ليس لك من الأمر شيء ( وهذه الآية وإن كانت لفظاً للعموم ، فالمراد منها الخصوص تقديرها : ليس لك من الأمر بهواك شيء . واللام في قوله : ( لك ) بمعنى ( إليّ ) كقوله : ) إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان ( وقوله : ) الحمد لله الذي هدانا لهذا ( ونحوهما .
) أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ( ليس لك من الأمر شيء وهو وجه حسن .
وقال بعضهم : ( أو ) بمعنى ( حتى ) يعني : ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب عليهم أو يعذبهم .
آل عمران : ( 129 ) ولله ما في . . . . .
ثم قال : ) ولله ما في السموات ( إلى ) أضعافاً مضاعفة ( .
قرأ أبو جعفر وشيبة : مضعّفة .
عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى : ) يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة ( هو أن الرجل كأن يكون له على الرجل مال فإذا حل الأجل طلبه من
(3/147)

" صفحة رقم 148 "
صاحبه فيقول المطلوب أخّر عنّي فأزيدك على مالك فيفعلان ذلك فوعظهم الله تعالى .
فقال : ) واتقوا الله ( في أمر الربا فلا تأكلوه ) لعلكم تفلحون ( ثم خوفهم فقال : ) واتقوا النار التي أعدت للكافرين ( وفيه دليل على أن النار مخلوقة ردّاً على الجهمية ، لأن المعدوم لا يكون معداً ) وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ( لكي ترحموا فلا تعذبوا ) وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ( الآية .
قال عطاء : إن المسلمين قالوا للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) بنو إسرائيل كانوا أكرم على الله عزّ وجلّ منّا وكانوا إذا أذنبوا أصبحت كفارة ذنوبهم مكتوبة في عتبة بابهم : اجدع أنفك اجدع أذنك افعل كذا وكذا ، فسكت عليه الصلاة والسلام ، فأنزل الله تعالى ) وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ( أي سابقوا إلى الأعمال التي توجب المغفرة . وحذف أهل المدينة والشام الواو منه .
واختلفوا في العلة الجالبة لهذه المغفرة :
فقال ابن عباس : سارعوا إلى الإسلام ، أبو العالية وأبو روق : إلى الهجرة ، علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : إلى أداء الفرائض ، عثمان بن عفان : الاخلاص ، أنس بن مالك : هي التكبيرة الأولى ، سعيد بن جبير : إلى أداء الطاعة ، يمان : إلى الصلاة الخمس ، الضحاك : إلى الجهاد عكرمة : إلى التوبة ، مقاتل : إلى الأعمال الصالحة ، أبو بكر الوراق : إلى اتّباع الأوامر والانتهاء عن الزواجر ، سهل بن عبد الله : إلى السنّة ، بعضهم : إلى الجمع والجماعات .
) وجنة ( يعني إلى جنة ) عرضها السماوات والأرض ( أي عرضها كعرض السماوات والأرض كقوله ) ما خلقكم ولا بعثكم إلاّ كنفس واحدة ( أي كبعث نفس واحدة .
قال الشاعر :
حسبت بغام راحلتي عناقاً
وما هي ويب غيرك بالعناق
يريد صوت عناق .
ودليل هذا التأويل قوله في سورة الحديد : ) كعرض السماء والأرض ( يعني لو بسطت ووصل بعضها إلى بعض إنما أخص العرض على المبالغة لأن طول كل شيء في الأغلب أكثر من عرضه يقول هذه صفة عرضها فكيف طولها . يدل عليه قول الزهري إنما وصف عرضها فأما طولها فلا يعلمه إلاّ الله كقوله ) متكئين على فرش بطائنها ( فوصف البطانة بحسن ما يعلم من الزينة إذ معلوم أن الظواهر يكون أحسن وأنفس من البطائن
(3/148)

" صفحة رقم 149 "
وقال أكثر أهل المعاني : لم يرد العرض الذي هو ضد الطول وإنما أراد سعتها وعظمها ، كقول العرب : هو أعرض من الدهنا ، أي أوسع .
وقال جرير :
لجّت أمامة في لومي وما علمت
عرض السماوة روحاتي ولا بكري
وأنشد الأصمعي :
يجبن بنا عرض الفلاة
وما لنا عليهنّ إلاّ وخدهن سقاء
وقال آخر :
كأنّ بلاد الله وهي عريضة
على الخائف المطلوب كفه حابل
وعلى هذا التمثيل لا يريد أنها كالسماوات والأرض لا ، وغير معناه كعرض السماوات السبع والأرضين السبع عند ظنكم ، لأنهما لابد زائلتان كقوله : ) خالدين فيها مادامت السماوات والأرض ( لأنهما لابد زائلتان .
وقال يعلي بن مرة : لقيت التنوخي رسول هرقل إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بحمص شيخاً كبيراً قال : قدمت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بكتاب هرقل فناول الصحيفة رجلاً عن يساره قال : قلت : مَن صاحبكم الذي يقرأ ؟ قالوا : معاوية ، فإذا كتاب صاحبي : إنك كتبت إليَّ تدعوني إلى جنة عرضها السماوات والأرض ( أعدّت للمتّقين ) فأين النار ؟ فقال رسول الله : ( سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار ) .
وروى طارق بن شهاب : أن ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب وعنده أصحابه قالوا : أرأيت قولكم ) وجنة عرضها السماوات والأرض ( فأين النار ؟ فأحجم الناس ، فقال عمر ( رضي الله عنه ) : أرأيتم إذا جاء الليل أين يكون النهار ، وإذا جاء النهار أين يكون الليل ؟ فقالوا : إنما لمثلها في التوراة .
وسئل أنس بن مالك عن الجنة : أفي الأرض أم في السماء ؟ فقال : أي أرض وأي سماء تسع الجنة ؟ قيل : وأين هي ؟ قال : فوق السماوات السبع تحت العرش .
وقال قتادة : كانوا يرون أن الجنة فوق السماوات السبع ، وأن جهنم تحت الأرضين السبع .
(3/149)

" صفحة رقم 150 "
) أعدت للمتقين ( ثم وصفهم فقال : ) الذين ينفقون في السراء والضراء ( يعني في العسر واليسر والشدة والرخاء ، فأول خُلق من أخلاقهم الموجدة هو الحب والسخاء ، ولهذا أخبرنا أحمد بن عبدالله ، ( ثنا زيد بن عبد العزيز أبو جابر ثنا جحدر ثنا بقية ثنا الأوزاعي عن الزهري عن عائشة قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الجنة دار الأسخياء ) .
وروى الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( السخي قريب من الله قريب من الجنة قريب من الناس بعيد من النار ، والبخيل بعيد من الله بعيد من الجنة بعيد من الناس قريب من النار ) .
) فيه آيات بيّنات مقام إبراهيم ( آية بينة على الواحد أراد مقام إبراهيم وحده ، وقال : أثر قدميه في المقام آية بينة .
وقرأ الباقون : آيات بالجمع أرادوا مقام إبراهيم والحجر الأسود والحطيم وزمزم والمشاعر ، وقد مضى ذكر مقام إبراهيم في سورة البقرة ) ومن دخله كان آمناً ( من أن يهاج فيه ، لأنه حرم ، وذلك بدعاء إبراهيم ( عليه السلام ) حيث قال : ) رب اجعل هذا بلداً آمناً ( وكان في الجاهلية من دخله ولجأ إليه آمن من الغارة والقتل ولم يزده الإسلام إلاّ شدة .
وكتب أبو الخلد إلى ابن عباس : أن أول من لاذ بالحرم الحيتان الصغار والكبار هرباً من الطوفان ، وقيل : من دخله عام عمرة القضاء مع محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كان آمناً دليله قوله : ) لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ( .
وقال أهل المعاني : صورة الآية خبر ومعناها أمر تقديرها : ومن دخلوه فأمنوه ، كقوله : ) فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ( أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا . وقيل : ( ومن دخله ) لقضاء النسك معظماً له عارفاً لحقه متقرباً إلى الله عزّ وجلّ كان آمناً يوم القيامة وهذا كقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من كثرت صلوته بالليل حسن وجهه بالنهار ) أي في نهار يوم القيامة .
يدل عليه ما روى جويبر عن الضحاك ) ومن دخله كان آمناً ( يقول : من حجه ودخله كان آمناً من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك .
(3/150)

" صفحة رقم 151 "
وروى زياد بن أبي عياش عن يحيى بن جعدة في قوله تعالى : ) ومن دخله كان آمناً ( قال : من النار .
وقال جعفر الصادق ( رضي الله عنه ) : من دخله على الصفاء كما دخله الأنبياء والأولياء كان آمناً من عذابه .
وقال أبو النجم القرشي الصوفي : كنت أطوف بالبيت فقلت : يا سيدي ، قلت : ) ومن دخله كان آمناً ( من أي شيء ؟ فسمعت من ورائي ( قائلا ) يقول : آمناً من النار ، فالتفت فلم أر شيئاً .
ويدل على صحة هذا التأويل ما روى أبان بن عياش عن أنس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من مات في أحد الحرمين بعثه الله عزّ وجلّ مع الآمنين ) .
وروى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة وهما مقبرتا مكة والمدينة ) .
وروى شقيق بن سلمة عن ابن مسعود قال : وقف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على ثنية المقبرة وليس هما يومئذ مقبرة ، وقال : ( بعث الله من هذه البقعة من هذا الحرم كله سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ، يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر ) .
وبه عن عبد الرحمن بن زيد العمى عن أبيه عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من صبر على حرّ مكة ساعة من نهار ، تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام ، وتقربت منه الجنة مسيرة مائة عام ) .
وقال وهب بن منبه : مكتوب في التوراة : إن الله يبعث يوم القيامة سبعمائة ألف ملك من الملائكة المقربين بيد كل واحد منهم سلسلة من ذهب إلى البيت الحرام فيقول لهم : إذهبوا إلى البيت الحرام فزموه بهذه السلاسل ثم قودوه إلى المحشر فيأتونه فيزمونه بسبعمائة ألف سلسلة من ذهب ثم يمدونه وملك ينادي : يا كعبة الله سيري فتقول : لست بسائرة حتى أعطي سؤلي . فينادي ملك من جو السماء : سلي تعط . فتقول الكعبة : يا رب شفّعني في جيرتي الذين دفنوا حولي من المؤمنين . فيقول الله : قد أعطيتك سؤلك . قال : فيحشر موتى مكة من قبورهم بيض الوجوه كلهم محرمين ، فيجتمعون حول الكعبة يلبّون ثم يقول الملائكة : سيري يا كعبة الله ، فتقول : لست بسائرة حتى أعطي سؤلي ، فينادي ملك من جو السماء : سلي تعط ، فتقول الكعبة : يا رب
(3/151)

" صفحة رقم 152 "
عبادك المؤمنين الذين وفدوا إليَّ من كل فجّ عميق شعثاً غبراً ، تركوا الأهلين والأولاد والأحباب ، وخرجوا شوقاً إليَّ زائرين مسلمين طائعين ، حتى قضوا مناسكهم كما أمرتهم ، فأسألك أن تؤمنهم من الفزع الأكبر وتشفّعني فيهم وتجمعهم حولي ، فينادي الملك : إن منهم من ارتكب الذنوب بعدك وأصرَّ على الذنوب الكبائر حتى وجبت له النار ، فتقول الكعبة : إنما أسألك الشفاعة لأهل الذنوب العظام . فيقول الله : قد شفّعتك فيهم وأعطيتك سؤلك . فينادي منادي من جو السماء : ألا من زار الكعبة فليعتزل من بين الناس . فيعتزلون ، فيجمعهم الله حول البيت الحرام بيض الوجوه آمنين من النار يطوفون ويلبون ، ثم ينادى ملك من جو السماء : ألا يا كعبة الله سيري . فتقول الكعبة : لبيك لبيك والخير بيديك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك ، ثم ( يمدّونها ) إلى المحشر .
) ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ( .
قال عكرمة : لما نزلت ) ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ( قالت اليهود : فنحن مسلمون فأمروا أن يحجوا إن كانوا مسلمين ، واللام في قوله لله لام الايجاب والإلزام ، أي قد فرض وأوجب على الناس حجّ البيت . قرأ أبو جعفر والأعمش وحمزة والكسائي : حِج ، بكسر الحاء في هذا الحرف خاصة .
وقرأ ابن أبي إسحاق جميع ما في القرآن بالكسر ، وهي لغة أهل نجد .
وقرأ الباقون : بالفتح كل القرآن ، وهي لغة أهل الحجاز .
واختيار أبي عبيد ، وأبي حاتم ، فهما لغتان فصيحتان بمعنى واحد .
وقال الحسن الجعفي الفتح ( المصدر ) والكسر اسم الفعل ، ثم قال : ) من استطاع إليه سبيلا ( إعلم أن شرائط وجوب الحج تسعة أشياء هي : البلوغ والعقل والإسلام والحرية ؛ لقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( رفع القلم عن ثلاثة : عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى ينتبه ) .
ولقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أيّما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه حجة أخرى ، وأيّما أعرابي حج ثم هاجر فعليه حجة أخرى ) .
وأراد بالهجرة هاهنا : الإسلام وتخلية الطريق ، وهي أن يكون الطريق آمناً مسلوكاً ، لا مانع فيه من عدو ونحوه ، فإن كان غير مسلوك لم يجب الحج
(3/152)

" صفحة رقم 153 "
والدليل عليه : أنه لو كان محرماً فحصره العدو ، فله أن يحل منه ، فإذا جاز له الخروج منه بالحصر فبان بعض الدخول فيه ، والقصد إليه مع وجود الحصر أولى وأحرى ، وإمكان المسير وهو أن يكون في الوقت سعة ممكنة فيه الحج ، فإذا وجد شرائط الحج وهو ( . . . . ) وقد بلغ الحاج إلى ( الكرقة ) مثلا ، فلا يجب عليه ، لأنه جعل شرائطه في وقت تعذر فعله فيه ، فهو كالصبي الذي يبلغ في أثناء نهار الصيام ، فلا يجب عليه صوم ذلك اليوم ، وزاد كاف وراحلة مبلغة وقوة بدنية واختلف أقاويل الفقهاء في تفصيل هذه الشرائط الثلاثة .
فقال الشافعي ( رضي الله عنه ) : الإستطاعة وجهان : أن يكون مستطيعاً بدنه واجداً من ماله ما يبلغه الحج ، والثاني : أن يكون معضوباً في بدنه لا يثبت على مركبه ، وهو قادر على من يطعه إذا أمره أن يُحج عنه بأجرة وغير أجرة ، وأما المستطيع بالمال : فقد لزمه فرض الحج بالسنّة ، لحديث الخثعمية ، فأما المستطيع بنفسه : فهو القوي الذي لا يلحقه مشقة غير محتملة في الكون على الراحلة ، فإن هذا إذا ملك الزاد والراحلة لزمه فرض الحج ، فإن عدم الزاد والراحلة أو أحدهما يسقط فرض الحج عنه ، فإن كان قادراً على المشي مطبقاً له ووجد الزاد أو قدر على كسب الزاد في طريقه بصنعة مثل الخرز والحجامة ونحوهما ، فالمستحب له أن يحج ماشياً ، رجلا كان أو امرأة .
قال الشافعي : والرجل أقل عذراً من المرأة ، لأنه أقوى وهذا على طريق الإستحباب لا على طريق الإيجاب ، فأما إن قدر على الزاد بمسألة الناس في الطريق كرهت له أن يحج ، لأنه يصير كلاًّ على الناس ، وهذا الذي ذكرت من أن وجود الزاد والراحلة شرط في وجوب الحج ، وهو قول عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) وابنه عبد الله وعبد الله بن عباس ومن التابعين الحسن البصري وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه والشافعي والثوري وأحمد وإسحاق ، دليلهم ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ما السبيل إلى الحج ؟ قال : ( الزاد والراحلة ) .
ومثله روى ابن مسعود وابن عباس وعائشة وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك .
روى الحرث عن علي كرم الله وجهه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من ملك زاداً وراحلة تبلغانه إلى بيت الله فلم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً ، فإن الله تعالى يقول : ) ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ( )
(3/153)

" صفحة رقم 154 "
قال ابن عمر : قام رجل فقال : يا رسول الله ما يوجب الحج ؟ قال : ( الزاد والراحلة ) قال : فما الحاج ؟ قال : ( ( الشعث التفل ) ) قال : فما أفضل الحج ؟ قال : ( العج والثج ) .
وقال مالك : إذا قدر على المشي ووجد الزاد والراحلة لزمه الحج بلا خلاف ، وإن لم يجد الزاد والراحلة وقدر على المشي نظر ، فإن كان مالكاً للزاد فعليه فرض الحج لكل حال ، وإن لم يكن مالكاً للزاد ولكنه يقدر على كسب حاجته منه في الطريق اختلف هذا باختلاف حال الرجل ، فإن كان من أهل المروات وممّن لا يكسب بنفسه لم يجب عليه ، وإن كان ممن يكسب كفايته بتجارة أو صناعة لزمه فرض الحج ، وهكذا إذا كان عادته مسئلة الناس لزمه فرض الحج ، فأوجب مالك على المطبق للمشي الحج إذا لم يكن له زاد وراحلة ، وهذا قول عبد الله بن الزبير والشعبي وعكرمة .
وقال الضحاك : إن كان شاباً صحيحاً ليس له مال ، فعليه أن يؤاجر نفسه بأكله أو عقبه حتى يقضي حجته ، فقال : له قائل ما كلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت . فقال : لو أن لبعضهم ميراثاً بمكة أكان تاركه بل كان ينطلق إليه ولو حبواً ، كذلك يجب عليه الحج ، واحتج هؤلاء بقوله تعالى : ) وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا ( أي مُشاة .
قالوا : ولأن الحج من عبادات الأبدان من فرائض الأعيان ، فوجب أن لا يكون من فرض وجوبها الزاد والراحلة كالصلاة والصيام ، فإذا ( تقرر ) أن وجود الزاد والراحلة شرط في وجوب الحج على قول أكثر أهل العلم ، فوجب أن يبيّن كيفية اعتبار الراحلة والنفقة ، وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس .
وأما الراحلة : فهي ما لا يلحقه مشقة شديدة في الركوب عليها ، وأما النفقة : فإن كان ذا أهل وعيال يجب عليه نفقتهم ، فلا يلزمه الحج حتى يكون لهم نفقتهم مدة غيبته لذهابه ورجوعه ، لأن هذا الإنفاق فرض على الفور والحج فرض على التراخي ، وكان تقديم إنفاق العيال أولى وأهم .
وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( كفى بالمرء إثماً أن يضيّع من يقوت ) فإذا لم يكن له أهل وعيال فلابد من نفقته لذهابه ، وهل يعتبر فيه الرجوع أم لا ؟ فيه قولان للفقهاء
(3/154)

" صفحة رقم 155 "
قال بعضهم : لا يعتبر ، لأنه ليس عليه كثير مشقة في تركه القيام ببلده ، لأنه لا أهل له فيه ولا عيال له ، فكل البلاد له وطن .
وقال الآخرون : يعتبر ، وهو الظاهر من مذهب الشافعي ، لأنه قال في الإملاء : لا يجب عليه الحج حتى يكون له نفقته ذاهباً وجائياً . فأطلق ولم يفرّق ، وهذا أولى بالصواب ، لأن الإنسان يستوحش بفراق وطنه كما يستوحش بفراق مسكنه ، ألا ترى أن البكر إذا زنا جُلد وغرّب عن بلده سواء كان له أهل أو لم يكن ، فإن كان له عقار يستغله أو ثياب أو أثاث ونحوها ، لزمه فرض الحج وبيع العقار ورقاب الأموال وصرفها في الحج فأما المسكن والخادم .
قال الشافعي : في الأم : فإذا كان له مسكن وخادم له نفقة أهله بقدر غيبته لزمه الحج . وظاهر هذا أنه اعتبر أن يكون مال الحج فاضلا عن الخادم والمسكن ، لأنه قدّمه على نفقة أهله ، فكأنه قال : بعد هذا كله .
وقال أصحابه : يلزمه أن يبيع المسكن والخادم ويشتري مسكناً وخادماً لأهله ، فأما إذا كان له بضاعة يتجر بها وربحها قدر كفايته وكفاية عياله على الدوام ، ومتى أنفق من أصل البضاعة اختل عليه ربحها ولم يكن ربحها قدر كفايته ، فهل يلزمه الحج من أصل البضاعة أم لا ؟
قال أبوالعباس بن شريح : لا يلزمه ذلك وتبقى البضاعة على ما هي عليه ولا يحج من أصلها ، لأن الحج إنما يجب عليه في الفاضل من كفايته .
وقال الآخرون : بل عليه أن يحج من أصل البضاعة ، وهو الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور ، لأنه لا خلاف أنه لو كان له عقار يكفيه غلته لزمه بيع أصل العقار في الحج ، وكذلك البضاعة ، وجملته أن فرض الحج يتعلق بما يتعلق به فرض زكاة الفطر ، فما وجب بيعه في زكاة الفطر وجب بيعه في الحج ، فهذا القول في أحد وجهي الإستطاعة ، فأما الوجه الآخر : فهو أن يكون مغصوباً في بدنه لا يقدر أن يثبت على مركب بحال ، أو يكون فضو الخلقة ابتداء ، أو يكون مريضاً مزمناً شديداً لا يرجى برؤه ، أو يكون شيخاً كبيراً ضعيفاً ولكن يكون قادراً على من يطيعه إذا أمره بالحج عنه ، فهذا أيضاً مستطيع استطاعة ما . وهو على وجهين :
أحدهما : أن يكون قادراً على مال يستأجر عليه من يحج ، فإنه يلزمه فرض الحج ، وهذا قول علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) روى عنه أنه قال لشيخ كبير لم يحج : جهّز رجلا يحج عنك . وإليه ذهب الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وعبد الله بن المبارك وأحمد بن المبارك وإسحاق .
والثاني : أن يكون قادراً على من يبذل له الطاعة والنيابة فيحج عنه ، فهذا أيضاً يلزمه الحج عند الشافعي وابن حنبل وابن راهوية .
(3/155)

" صفحة رقم 156 "
وقال أبو حنيفة : لا يجب عليه الحج ببذل الطاعة بحال .
وقال مالك : إذا كان مغصوباً سقط عنه فرض الحج أصلا ، سواء كان قادراً على من يحج بالمال أو بغير المال ، أو كان عاجزاً فلا يلزمه فرض الحج ، ولو وجب عليه الحج ثم عضب وزمن سقط عنه فرض الحج ، ولا يجوز أن يحج عنه في حال حياته بحال بل إن أوصى أن يحج عنه حُج بعد موته عنه من الثلث وكان تطوعاً ، واحتج بقوله تعالى : ) وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى ( فأخبر أنه ليس له إلاّ ما سعى فمن قال له ما سعى غيره ، فقد خالف ظاهر الآية ويقول عزّ وجلّ : ) ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ( وهذا غير مستطيع ، لأن الحج هو القصد إلى البيت بنفسه ومن طريق الاعتبار هو أنه غير متمكن من الحج بنفسه ، فوجب أن لا يلزمه الحج عن نفسه ، كما لو كان مغصوباً لا مال له ، ولأن كل عبادة لا يدخلها النيابة مع القدرة عليها ، فوجب أن لا يدخلها النيابة مع العجز عنها كالصلاة وعكسه الزكاة ، ودليل الشافعي وأصحابه ما روى الزهري عن سليمان بن يسار عن ابن عباس أن امرأة من خثعم سألت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة ، فهل يجزي أن أحج عنه ؟ فقال : ( نعم ) ، فقالت : فهل ينفعه ذلك ؟ فقال ( عليه السلام ) : ( أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أما كان يجزي ؟ ) قالت : نعم ، قال : ( فدين له أحق ) .
فأوجب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) عليه الحج بطاعة ابنته إياه وبذلها نفسها له بأن تحج عنه ، فإذا وجب ذلك بطاعة البنت له كان بأن يجب عليه بقدرته على المال الذي يستأجر به أولى ، فأما إن بذل له المال دون الطاعة ، والصحيح أن لا يلزمه قبوله والحج به عن بنفسه ولا يصير ببذل المال له مستطيعاً ، وأما من به مرض يرجى زواله كالبرسام والحمى الشديدة وغيرهما فلا يجوز له أن يحج عنه ، لأنه لم ييأس عن الحج بنفسه فلم يحج له ، كالصحيح وعكسه المغصوب .
وقال أبو حنيفة : يجوز له أن يحج عن نفسه ولو حج عنه وبرأ سقط عنه فرض الحج والله أعلم .
) ومن كفر ( .
قال الحسن وابن عباس وعطاء والضحاك : جحد فرض الحج .
مجاهد : هو ما أن حج لم يره براً وإن قعد لم يره مأثماً .
وروى سفيان عن منصور عنه ) ومن كفر ( بالله واليوم الآخر ، يدل عليه ما روى ابن عمر
(3/156)

" صفحة رقم 157 "
عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال في قوله : ) ومن كفر ( قال : ( من كفر بالله واليوم الآخر ) .
وقال سعيد بن المسيب : نزلت في اليهود حيث قالت : الحج إلى ( . . . ) واجب .
الضحاك : لما نزلت آية الحج جمع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أهل الأديان كلهم فخطبهم ، وقال : ( إن الله عزّ وجلّ كتب عليكم الحج فحجّوا ) فآمنت إليه أهل ملة واحدة وهم المسلمون وكفرت به خمس ملل ، وقالوا : لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
عطاء بن السائب : ( ومن كفر ) بالبيت .
ابن زيد : ( ومن كفر ) بهذه الآيات التي ذكرها الله في قوله تعالى : ) فيه آيات بينات ( .
قال السدي : أما من كفر فهو من وجد ما يحج عنه ثم لم يحج حتى مات فهو كفره به .
فصل في إيجاب الحج
قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( صلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدّوا زكاة مالكم وحجّوا بيت ربكم تدخلوا جنة ربكم ) .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( حجّوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالثة ) .
وقال ابن مسعود : حجّوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلاّ نفقت .
وروى عبد الرحمن بن أبي سابط عن أبي أُمامة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من لم تمنعه حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً ) .
وحدثنا موسى بن جعفر عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من مات ولم يحج لم يقبل الله منه يوم القيامة عملاً . . . ) .
شعبة عن قتادة عن الحسين قال : قال عمر ( رضي الله عنه ) : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى الأمصار فينظرون إلى مَن كان له مال ولم يحج فيضربون عليه الجزية .
(3/157)

" صفحة رقم 158 "
) يا أهل الكتاب لِمَ تكفرون ( إلى ) تصدون عن سبيل الله ( أي يصرفون عن دين الله ) من آمن ( .
وقرأ الحسن : تُصِدون ، بضم التاء وكسر الصاد وهما لغتان ، صدّ وأصدّ مثل صَل اللحم وأصل ، وخمّ وأخم .
ودليل قراءة العامة قوله تعالى : ) أنحن صددناكم عن الهدى ( وقوله : ) وصدوكم عن المسجد الحرام ( ونظائرهما .
) تبغونها ( تطلبونها ) عوجاً ( زيغاً وميلا ، والكلام حال على الفعل ، مجازه : لِمَ تصدون عن سبيل الله باغين لها عوجاً .
قال أبو عبيدة : العِوج بالكسر في الدين والقول والعمل ، والعَوج بالفتح في الجدار والحائط وكل شخص قائم ) وأنتم شهداء ( الآن في التوراة مكتوب : إن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام ، وإن فيه نعت محمد ( صلى الله عليه وسلم )
2 ( ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِىأُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالاَْرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِى السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أُوْلَائِكَ جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِى الاَْرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَاذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ ( 2
) يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب ( قال زيد بن أسلم : مرَّ شاس ابن قيس اليهودي وكان شيخاً قد عسا في الجاهلية عظيم الكفر شديد الطعن في المسلمين شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه ، فغاظه ما رأى من جماعتهم والفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة فقال : لقد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار ، فأمر شاباً من اليهود كان معه قال : اعمد إليهم فاجلس معهم ثم ذكرهم
(3/158)

" صفحة رقم 159 "
يوم بعاث وما كان قيله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار وكان بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ففعل ، فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب ، أوس بن قبطي أحد بني حارثة من الأوس ، وحيان بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج ، فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم رددتها الآن جذعة ، وغضب الفريقان جميعاً وقالا : قد جعلنا السلاح موعدكم الظاهرة وهي حرة ، وخرجوا إليها وانضمت الأوس والخزرج بعضها على بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية ، فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم فقال : ( يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألّف بينكم ، ترجعون إلى ما كنتم إليه كفاراً الله الله ) فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيدهم من عدوهم ، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضهم بعضاً ثم انصرفوا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) سامعين مطيعين . فأنزل الله في شأن شاس بن قيس .
) يا أيها الذين آمنوا ( يعني الأوس والخزرج ) إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب ( يعني شاساً وأصحابه ) يردوكم بعد إيمانكم كافرين ( .
قال جابر بن عبد الله : ما كان من طالع أكره إلينا من رسول الله علينا فأومى إلينا بيده فكففنا وأصلح الله ما بيننا فما كان من شخص أحبُّ إلينا من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فما رأيت قط يوماً أقبح أولا وأحسن آخراً من ذلك اليوم ، ثم قال على وجه التعجب ) وكيف تكفرون ( يعني ولِمَ تكفرون ) وأنتم تتلى عليكم آيات الله ( من القرآن ) وفيكم رسوله ( محمد ( صلى الله عليه وسلم )
قال قتادة : في هذه الآية علمان بيّنان : نبي الله وكتاب الله ، فأمّا نبي الله فقد مضى وأمّا كتاب الله فأبقاه الله بين أظهركم رحمة منه ونعمة ، فيه حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته . ) ومن يعتصم بالله ( أي يمتنع بالله ويتمسك بدينه وطاعته ) فقد هدي إلى صراط مستقيم ( طريق واضح .
وقال ابن جريج : ( ومن يعتصم بالله ) أي يؤمن بالله ، وأصل العصم والعصمة المنع ، فكل مانع شيئاً فهو عاصم .
قال الفرزدق :
أنا ابن العاصمين بني تميم
إذا ما أعظم الحدثان ناباً
والممتنع معتصم . فقال : اعتصمت الشيء واعتصمت به وهو الأفصح .
(3/159)

" صفحة رقم 160 "
قال الشاعر :
يظل من خوفه الملاح معتصماً
بالخيزرانة بعد الأين والنجد
وقال آخر :
إذا أنت جازيت الأخاء بمثله
وآسيتني ثم اعتصمت حبالياً
وقال حميد بن ثور يصف رجلا حمل امرأة بذنبه :
وما كاد لما أن علته يقلها
بنهضته حتى أكلان واعتصما
) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ( .
قال مقاتل بن حيان : كان بين الأوس والخزرج في الجاهلية وصال حتى هاجر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة فأصلح بينهم ، فافتخر بعد ذلك منهم رجلان : ثعلبة بن غنم من الأوس وأسعد بن زرارة من الخزرج ، فقال الأوسي : منّا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، ومنّا حنظلة غسيل الملائكة ، ومنّا عاصم بن ثابت بن أفلح حمي الدين ، ومنّا سعد بن معاذ الذي اهتز عرش الرحمة له ورضى الله بحكمه في بني قريظة ، وقال الخزرجي : منّا أربعة أحكموا القرآن : أُبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد ، ومنّا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم فجرى الكلام بينهما فغضبا ، فقال الخزرجي : أما والله لو تأخر الإسلام قليلا وقدوم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لقتلنا ساداتكم ، واستعبدنا آبائكم ونكحنا نسائكم بغير مهر .
فقال الأوسي : قد كان الإسلام متأخراً زماناً طويلا فهلاّ فعلتم ذلك ، فقد ضربناكم حتى أدخلناكم الديار ، وأنشدا الأشعار وتفاخرا وتأذيا ، فجاء الأوس إلى الأوسي والخزرج إلى الخزرجي ومعهم سلاح ، فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فركب حماراً وأتاهم فأنزل الله تعالى هذه الآية ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ( الآيات ، فقرأها عليهم فاصطلحوا .
وقال عطاء : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صعد المنبر وقال : ( يا معشر المسلمين مالي أُوذى في أهلي ) يعني الطعن في قصة الإفك ، وقال : ( ما علمت على أهلي إلاّ خيراً ، ولقد ذكروا رجلًا ما علمت منه إلاّ خيراً وما كان يدخل على أهلي إلاّ معي ) .
فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله وأكفيك أمره وأنصرك عليه ، إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك .
فقام سعد بن عبادة وهو سيّد الخزرج وكان رجلا صالحاً ولكنه احتملته الحمية فقال لسعد
(3/160)

" صفحة رقم 161 "
ابن معاذ : كذبت لعمر الله . فقال سعد : والله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين فثار الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ودعوا بالسلاح ، فلم يزل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يخفضهم حتى سكنوا ، فأنزل الله تعالى ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ( .
عن عبد الله قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ) حق تقاته ( أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يُشكر فلا يُكفر ) .
وقال أبو عثمان : أن لا يعصى طرفة عين .
مجاهد : أن يجاهدوا حق جهاده .
) ولا تأخذكم في الله لومة لائم وتقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم وآبائكم وأبنائكم ( .
الحسن : هو أن تعطيه فيما تعبده .
قال الزجاج : أي اتقوا فيما يحق عليكم أن تتقوه واسمعوا وأطيعوا .
قال المفسرون : فلما نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله ومن يقوى على هذا وشق عليهم فأنزل الله تعالى ) فاتقوا الله ما استطعتم ( فنسخت هذه الآية .
قال مقاتل : وليس في آل عمران من المنسوخ إلاّ هذا .
) ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون ( .
قال طاوس : معناه اتقوا الله حق تقاته وإن لم تفعلوا ولم تستطيعوا ، ) ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون ( أي مؤمنون .
وقيل : مخلصون مفوضون أموركم إلى الله عزّ وجلّ .
وقال المفضل : المحسنون الظن بالله .
وروى الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلاّ وأنتم مسلمون ( فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في الأرض لأمرّت على أهل الأرض معيشتهم فكيف بمن هو طعامه ) .
وعن أنس بن مالك قال : لا يتقى الله عبد حق تقاته حتى يخزن من لسانه ) واعتصموا بحبل الله جميعاً ( أصل الحبل السبب الذي يوصل إلى البغية والحاجة ، ولذلك سمّي الأمان حبلا ، لأنه سبب يوصل به إلى زوال الخوف .
(3/161)

" صفحة رقم 162 "
وقال الأعشى بن ثعلبة :
وإذا تجوزها حبال قبيلة
أخذت من الأخرى إليك حبالها
واختلفوا في الحبل المعني بهذه الآية :
فقال ابن عباس : تمسكوا بدين الله .
وروى الشعبي عن ابن مسعود أنه قال في قوله : ) واعتصموا بحبل الله جميعاً ( قال الجماعة .
وقال ابن مسعود : يا أيها الذين آمنوا عليكم بالطاعة والجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به وإنّ ما تكرهون في الجماعة والطاعة خير ممّا تحبون في الفرقة .
وقال مجاهد وعطاء : بالعهد .
قتادة والسدي والضحاك : هو القرآن ، يدل عليه ما روى عن الحرث أنه قال : دخلت المسجد فإذا الناس قد وقعوا في الأحاديث ، فأتيت علياً كرم الله وجهه فقلت : ألا ترى أن الناس قد وقعوا في الأحاديث ؟ فقال : وقد فعلوا ؟ فقلت : نعم ، فقال : أما أني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إنها ستكون فتنة ) قال : قلت : فما الخروج منها يا رسول الله ؟ قال : ( كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، فهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يشبع منه العلماء ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه وهو الذي لم تنته الجن إذا سمعته إلاّ أن قالوا ) سمعنا قرآناً عجباً ( من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن حكم به عدل ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم خذها إليك يا أعور ) .
وروى أبو الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن هذا القرآن مأدبة الله تعالى فتعلموا من مأدبته ما استطعتم ، إن هذا القرآن هو حبل الله وهو النور المبين والشفاء النافع وعصمة من تمسك به ونجاة من تبعه ، لا يعوج فيقوّم ولا يزيغ فيستعتب ولا تقضى عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد ، فاقرأوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف عشر حسنات ، أما أني لا أقول ألم حرف ولكن ألف ولام وميم ثلاثون حسنة ) .
(3/162)

" صفحة رقم 163 "
وروى سعيد بن مسروق عن يزيد بن حيان قال : دخلنا على زيد بن أرقم فقلنا له : لقد صحبت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وصليت خلفه ؟ قال : نعم ، وإنه خطبنا فقال : ( إني تارك فيكم كتاب الله هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على الضلالة ) .
وروى عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله يقول : ( يا أيها الناس إني قد تركت فيكم خليفتين إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي ، أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله جل جلاله من السماء وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنّهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ الحوض ) .
فقال مقاتل بن حيان : ( بحبل الله ) أي بأمره وطاعته .
أبو العالية : بإخلاص التوحيد لله عزّ وجلّ .
ابن زيد : بالإسلام .
) ولا تفرقوا ( كما تفرقت اليهود والنصارى .
وروى الأوزاعي عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة وإن امتي ستفترق على اثنى وسبعين فرقة كلها في النار إلاّ واحدة ) فقيل يا رسول الله وما هذه الواحدة ؟ قال فقبض يده ، وقال : ( الجماعة ) ثم قرأ ) واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ( .
وروى أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد : نحن حبل الله الذي قال الله : ) واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ( .
أخبرني محمد بن كعب القرظي عن أبي سعيد : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إن الله رضى لكم ثلاثاً وكره لكم ثلاثاً : رضى لكم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واسمعوا وأطيعوا لمن ولاّه الله أمركم ، وكره لكم القيل والقال وكثرة السؤال وإضاعة المال ) .
وعن عبد الله بن بارق الحنفي عن سماك يعني الحنفي قال : قلت لابن عباس : قوم يظلموننا ويعتدون علينا في صدقاتنا ألا تمنعهم ؟ فقال : لا يا حنفي أعطهم صدقتهم وإن أتاك أهدل الشفتين منتفش المنخرين يعني زنجياً فأعطه ، فنعم القلوص قلوص يأمن بها المرؤس عروسه ووطنه يعني امرأته وقربة اللبن يا حنفي الجماعة الجماعة ، إنما هلكت الأمم الخالية بتفرقها أما سمعت قول الله : ) جميعاً ولا تفرقوا ( .
(3/163)

" صفحة رقم 164 "
) واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء ( .
قال محمد بن إسحاق بن يسار وغيره من أهل الأخبار قال : كانت الأوس والخزرج أخوين لأب وأم فوقعت بينهما عداوة بسبب سمير وحاطب ، وذلك أن سميراً هو سمير بن زيد ابن مالك أحد بني عمرو بن عوف ، قيل : حليفاً لملك بن عجلان ، ( والآخر من ) الخزرج يقال له : حاطب بن أبحر من مزينة ، فوقعت بين القبيلتين الحرب ، فزعم العلماء بأيام العرب أن تلك الحرب والعداوة تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة ، ولم يسمع بقوم كان بينهم من العداوة والحرب ما كان بينهم ، واتصلت تلك العداوة إلى أن أطفأها الله بالإسلام وألّف بينهم برسوله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان سبب الفتهم وارتفاع وحشتهم أن سويد بن صامت أخا بني عمرو بن عوف قدم مكة حاجاً أو معتمراً وكان سويد إنما تسميه قومه الكامل لجلادته وشعره ونسبه وشرفه وحكمته ، فقدم سويد مكة وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد بُعث وأمر بالدعوة إلى الله عزّ وجلّ ، فتصدّى له حين سمع به ، فدعاه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الله عزّ وجلّ وإلى الإسلام .
فقال له سويد : فلعل الذي معك مثل الذي معي ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( وما الذي معك ؟ ) قال : مجلة لقمان ، يعني حكمته ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اعرضها عليَّ ) فعرضها عليه فقال : ( إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل ، هذا قرآن أنزله الله عليَّ نوراً وهدى ) فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعده عنه وقال : إن هذا القول حسن ، ثم انصرف عنه وقدم المدينة ، فلم يلبث أن قتله الخزرج قبل يوم بعاث وكان قومه يقولون : قُتل وهو مسلم ، ثم قدم أبو الجيش أنس بن رافع ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم أياس بن معاذ ، يلتمسون الحلف من قريش على قوم من الخزرج ، فلما سمع بهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أتاهم فجلس إليهم فقال : ( هل لكم إلى خير ممّا جئتم له ؟ ) قالوا : وما ذلك ؟ قال : ( أنا رسول الله بعثني الله إلى العباد أدعوهم إلى ( الله أن يعبدوا الله و ) لا يشركوا بالله شيئاً وأنزل عليَّ الكتاب ) ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن .
فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً : أي قوم هذا والله خير ممّا جئتم به ، فأخذ أبو الجيش أنس بن رافع حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ وقال : دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا ، فصمت أياس وقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وانصرفوا إلى المدينة وكانت وقعة بعاث بين بني الأوس والخزرج ، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك ، فلما أراد الله إظهار دينه وإعزاز نبيه خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الموسم الذي لقى فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما يصنع في كل موسم ، فبينا هو عند العقبة إذ لقى رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً ، وهم ستة نفر أسعد بن زرارة ، وعوف بن عفراء ، ورافع بن ملك ، وقطبة بن عارف ، وعقبة ابن عامر ، وجابر بن عبد الله
(3/164)

" صفحة رقم 165 "
فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أنتم ؟ )
قالوا : نفر من الخزرج ، قال : ( أمن موالي اليهود ؟ ) قالوا : نعم ، قال : ( أفلا تجلسون حتى أكلمكم ؟ ) .
قالوا : بلى ، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن ، قال : وكان ممّا صنع الله لهم به في الإسلام أن يهوداً كانوا معهم ببلادهم وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا هم أهل أوثان وشرك ، وكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا : إن نبيّنا الآن مبعوث قد أظل زمانه نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم . فلما كلم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أولئك النفر ودعاهم إلى الله ، فقال بعضهم لبعض : يا قوم تعلمون والله إنه للنبي الذي تدعوكم به اليهود فلا يسبقنكم إليه ، فأجابوه وصدقوه وأسلموا وقالوا : إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، وعسى الله أن يجمعهم لك وستقدم عليهم فتدعوهم إلى حربهم ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز عليك . ثم انصرفوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) راجعين إلى بلادهم قد آمنوا . فلما قدموا المدينة ذكروا لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ودعوهم إلى الاسلام حتى فشاهم فيهم تبق لهم دار من دور الأنصار إلاّ وفيها ذكر من رسول الله حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار إثنا عشر رجلا وهم أسعد بن زرارة ، وعوف ومعوّذ ابنا عفراء ورافع بن مالك بن العجلاني الخزرجي وذكوان بن عبد القيس وعبادة بن الصامت ويزيد بن ثعلبة وعباس بن عبادة وعقبة بن عامر وقطبة بن عامر بن حديدة بن عمرو فهؤلاء خزرجيون ، وأبو الهيثم بن التيهان واسمه ملك وعويتم بن ساعدة من الأوس ، فلقوه بالعقبة وهي العقبة الأولى فبايعوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على بيعة النساء على أن لا يشركوا بالله شيئاً ولا يزنوا إلى آخر الآية ثم قال : ( إن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم شيئاً من ذلك ) فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم ) .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( السخي الجهول أحبَّ إلى الله من العالم البخيل ) .
عبد السلام بن عبد الله عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( السماح شجرة في الجنة أغصانها في الدنيا من تعلق بغصن من أغصانها قادته إلى الجنة ، والبخل شجرة في النار أغصانها في الدنيا من تعلق بغصن من أغصانها قادته إلى النار ) .
) والكاظمين الغيظ ( أي الجامعين الغيظ عند امتلاء أنفسهم منه ، والكافين غضبهم عن
(3/165)

" صفحة رقم 166 "
إمضائه يردّون غيظهم وحزنهم إلى أجوافهم ويصبرون فلا يظهرون ، وأصل الكظم : حبس الشيء عن امتلائه ، يقال : كظمت القربة إذا ملأتها ، وما يقال لمجاري الماء : كظائم ، لامتلائها بالماء وأخذ بها كظامة ، ومنه قيل : أخذت بكظمه ، يعني بمجاري نفسه ، ومنه كظم الإبل وهو حبسها جررها في أجوافها ولا تجتر ، وإنما يفعل ذلك من الفزع والجهل .
قال أعشى باهلة يصف رجلاً نحّاراً للإبل وهي تفزع منه :
قد تكظم البزل منه حين تبصره
حتى تقطع في أجوافها الجرر
ومنه قيل : رجل كظيم ومكظوم إذا كان ممتلئاً غضباً وغماً وحزناً . قال الله تعالى : ) وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم ( وقال : ) ظل وجهه مسوداً وهو كظيم ( وقال : ) إذ نادى وهو مكظوم ( وقال : ) إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ( .
وقال عبد المطلب بن هاشم :
فحضضت قومي فاحتبست قتالهم
والقوم من خوف المنايا كُظمُ
وفي الحديث : ( ما من جرعة أحمد عقباناً من جرعة غيظ مكظومة ) .
وروى سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من كظم الغيظ وهو يقدر على إنفاذه دعاه إلله يوم القيامة على رؤس الخلائق حتى يخيّره من أي الحور يشاء ) .
أنشدنا أبو القاسم محمد بن حبيب قال : أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح قال : أنشدنا ابن أبي الزنجي ببغداد قال : أنشدنا العرجي :
وإذا غضبت فكن وقوراً كاظماً
للغيظ تبصر ما تقول وتسمع
فكفى به شرفاً تصبر ساعة
يرضى بها عنك الإله وترفع
أي يرفع قدرك .
(3/166)

" صفحة رقم 167 "
) والعافين عن الناس ( .
قال الرباحي والكلبي : عن المملوكين ، وقال زيد بن أسلم ومقاتل : عمّن ظلمهم وأساء إليهم ، وقال مقاتل بن حيان في هذه الآية : بلغنا أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال عند ذلك : ( إن هؤلاء في أمتي قليل إلاّ من عصم الله وقد كانوا كثيراً في الأمم التي مضت ) .
وعن أبي هريرة أن أبا بكر ( رضي الله عنه ) كان مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في مجلس ، فجاء رجل فوقع في أبي بكر وهو ساكت والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يبتسم ، ثم ردَّ أبو بكر ( رضي الله عنه ) عنه بعض الذي قال ، فغضب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقام فلحقه أبو بكر فقال : يا رسول الله شتمني وأنت تبتسم ثم رددت عليه بعض ما قال فغضبت وقمت ، فقال : ( إنك حين كنت ساكتاً كان معك ملك يرد عنك فلما تكلمت وقع الشيطان فلم أكن لأقعد في مقعد يقعده الشيطان ، ثمّ قال : يا أبا بكر ثلاث كلّهن حق : أنه ليس عبد يظلم بمظلمة فيعفوا عنها إلاّ أعز الله نصره ، وليس عبد يفتح باب مسألة يريد به كثرة إلاّ زاده الله قلة وليس عبد يفتح باب عطية أو صلة إلاّ زاده الله بها كثرة ) .
وقال عروة بن الزبير :
لن يبلغ المجد أقوام وإن كرموا
حتى يذلوا ، وإن عزّوا لأقوام
ويشتموا فترى الألوان مشرقة
لاصفح ذل ولكن صفح أحلام
) والله يحب المحسنين ( .
قال مقاتل : يعني إن هذه الأشياء إحسان ومن فعل ذلك فهو محسن والله يحب المحسنين .
قال الحسن : الإحسان أن يعمّ ولا يخص كالريح والشمس والمطر .
سفيان الثوري : الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ، فإن الإحسان إلى المحسن ( مزاجرة ) كلمة السوق خُذ وهات .
السقطي : الإحسان أن يحسن وقت الإمكان ، فليس في كل وقت يمكنك الإحسان .
أنشدني أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدني أبو العباس عبد الله بن محمد الجماني :
ليس في كل ساعة و أوان
تتهيأ صنائع الإحسان
(3/167)

" صفحة رقم 168 "
فإذا أمكنت فبادر إليها
حذراً من تعذر الإمكان
ثابت البناني عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( رأيت قصوراً مشرفة على الجنة فقلت يا جبرئيل لمن هذه ؟ قال : للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ) .
آل عمران : ( 135 ) والذين إذا فعلوا . . . . .
) إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ( الآية .
قال ابن عباس : قال المؤمنون يا رسول الله كانت بنو إسرائيل أكرم على الله منّا ، كان أحدهم إذا ذنب ذنباً أصبحت كفارة ذنبهم مكتوبة في عتبة بابه اجدع أنفك وأذنك ، افعل كذا ، فسكت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا أخبركم بخير من ذلك ) فقرأ عليهم هذه الآيات .
وقال عطاء : نزلت هذه الآية في نبهان التمار وكنيته أبو مقبل أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمراً فقال لها : إن هذا التمر ليس بجيد وفي البيت أجود منه فهل لك فيه ؟ قالت : نعم ، فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبّلها ، فقالت له : اتق الله ، فتركها وندم على ذلك فأتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وذكر له ذلك فنزلت هذه الآية .
وقال مقاتل والكلبي : آخا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بين رجلين أحدهما من الأنصار والآخر من ثقيف ، فخرج الثقفي في غزاة واستخلف الأنصاري على أهله ، فاشترى لهم اللحم ذات يوم ، فلما أرادت المرأة أن تأخذه منه دخل على أثرها فدخلت المرأة بيتاً فتبعها فاتقته بيدها ، فقبّل يدها ثم ندم وانصرف ، فقالت له : والله ما حفظت غيبة أخيك ولا نلت حاجتك ، فخرج الأنصاري ووضع التراب على رأسه وهام على وجهه ، فلما رجع الثقفي لم يستقبله الأنصاري فسأل امرأته عن حاله .
فقالت : لا أكثر الله في الاخوان مثله ووصفت له الحال ، والأنصاري يسيح في الجبال تائباً مستغفراً ، وطلبه الثقفي حتى وجده ، فأتى به أبا بكر ( رضي الله عنه ) رجاء أن يجدا راحة عنده فخرجا ، وقال الأنصاري : هلكت ، قال : وما أهلكك ؟ فذكر له القصة ، فقال أبو بكر : ويحك أما علمت أن الله تعالى يغار للغازي ما لا يغار للمقيم ، ثم لقى عمر ( رضي الله عنه ) فقال : مثل ذلك ، فأتيا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له مثل مقالتهما ، فأنزل الله تعالى ) والذين إذا فعلوا فاحشة ( هي صفة لاسم متروك تقديره : ) والذين إذا فعلوا فاحشة ( يعني قبيحة خارجة عمّا أذن الله فيه ، وأصل الفحش القبيح والخروج عن الحد ، ولذلك قيل للمفرط في الطول أنه فاحش الطول ، والكلام القبيح غير ( القصد ) فالكلام فاحش والمتكلم به مفحش
(3/168)

" صفحة رقم 169 "
قال السدي : يعني بالفاحشة هاهنا الزّنا ، يدل عليه ما روى حماد بن ثابت عن جابر ) والذين إذا فعلوا فاحشة ( قال : زنى القوم وربّ الكعبة ، أو ظلموا أنفسهم بالمعصية .
وقال مقاتل والكلبي : وهو ما دون الزنا من قُبله أو لمسة أو نظرة فيما لا يحل .
الأصم : فعلوا فاحشة الكبائر أو ظلموا أنفسهم بالصغائر ، وقيل : فعلوا فاحشة فعلا وظلموا أنفسهم قولا .
) ذكروا الله ( قال الضحاك : ذكروا العرض الأكبر على الله عزّ وجلّ ، مقاتل والواقدي : تفكروا في أنفسهم أن الله سائلهم عنه ، مقاتل بن حيان : ذكروا الله باللسان عند الذنوب فاستغفروا لذنوبهم .
) ومن يغفر الذنوب إلاّ الله ( أي وهل يغفر الذنوب إلاّ الله وما يغفر الذنوب إلاّ الله ؛ فلذلك رفع . ) ولم يصرّوا على ما فعلوا ( واختلفوا في معنى الإصرار :
فقال أكثر المفسرين : معناه لم يقيموا ولم يدوموا ولم يثبتوا عليه ، ولكنهم تابوا وأقرّوا واستغفروا .
قتادة : إيّاكم والإصرار ، فإنما هلك المصرون الماضون قدماً قدماً في معاصي الله ، لا تنهاهم مخافة الله عن حرام حرّمه الله ، ولا يتوبون من ذنب أصابوه ، حتى أتاهم الموت وهم على ذلك .
وقال الحسن : اتيان العبد ذنباً عمداً إصراراً ، السدي : الإصرار السكوت وترك الاستغفار ، وفي الخبر قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما أصرَّ من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة ) .
وروى عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليس كبيرة بكبيرة مع الاستغفار وليس صغيرة بصغيرة مع الإصرار ) وأصل الإصرار الثبات على الشيء .
قال الحُطيئة : يصف الخيل :
عوابس بالشعث الكماة إذا ابتغوا
غلالتها بالمحصدات أصرّت
أي ثبتت على عدوّها ، نظم الآية : ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ولم يصرّوا على ما فعلوا وهم يعلمون ، ) ومن يغفر الذنوب إلاّ الله ( .
قال ابن عباس والحسن ومقاتل وابن يسار : ( وهم يعلمون ) أنها معصية
(3/169)

" صفحة رقم 170 "
الضحاك : ( وهم يعلمون ) أن الله يملك مغفرة ذنوبهم .
السدي : ( وهم يعلمون ) أنهم قد أذنبوا . وقيل : ( وهم يعلمون ) أن الإصرار ضار ، فإن ترك الإصرار خير من التمادي ، كما قيل :
أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزه
إن الجحود الذنب ذنبان
وقال الحسين بن الفضل : ( وهم يعلمون ) أن لهم ربّاً يغفر الذنوب ، وإنما اقتبس هذا من قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أذنب ذنباً وعلم أن له ربّاً يغفر الذنوب غفر له وإن لم يستغفر ) .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( يقول الله عزّ وجلّ : من علم أني ذو قدرة على المغفرة غفرت له ولا أُبالي ) .
وقال عبيد بن عمير : في بعض الكتب المنزلة : يابن آدم إنك ما دعوتني وما رجوتني فإني أغفر لك على ما كان منك ولا أبالي .
وروى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مرَّ رجل ممّن كان قبلكم في بني إسرائيل بجمجمة فنظر إليها فحدث نفسه بشيء ثم قال : أنت أنت وأنا أنا ، أنت العواد بالمغفرة وأنا العواد بالذنوب ثم خرَّ لله ساجداً ، فقيل له ارفع رأسك فأنا العواد بالمغفرة وأنت العواد بالذنوب فرفع رأسه فغفر له ) .
وقيل : وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غفر لهم وإن التوبة تمحق الحوبة .
آل عمران : ( 136 ) أولئك جزاؤهم مغفرة . . . . .
) أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري ( إلى ) العاملين ( ثواب المطيعين .
يقال : أوحى الله تعالى إلى موسى ( عليه السلام ) أن يا موسى ما أقل حياء من يطمع في جنتي بغير عمل ، يا موسى كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي .
وقال شهر بن حوشب : طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب .
وقال ثابت البناني : بلغني أن إبليس بكى حين نزلت هذه الآية ) والذين إذا فعلوا فاحشة ( الآية إلى آخرها .
آل عمران : ( 137 ) قد خلت من . . . . .
) قد خلت من قبلكم سُنن ( ، قال ابن زيد : أمثال . المفضّل : أُمم ، والسُنّة الأمّة .
قال الشاعر :
(3/170)

" صفحة رقم 171 "
ما عاين الناس من فضل كفضلكم
ولا رأوا مثلكم في سالف السنن
وقال بعضهم : معناه أهل السنن ، وقال عطاء : شرائع ، الكلبي : قد مضت لكل أمة سنّة ومنهاج إذا ابتغوها رضى الله عنهم ، مجاهد : قد خلت من قبلكم سنن بالهلاك فيمن كذب قبلكم ، والسنّة في اللغة : المثال المتبع والإمام المؤتم به ، فقال : سنّ فلان سنّة حسنة أو سنّة سيئة إذا عمل عملا يقتدى به من خير أو شر .
قال لبيد :
من معشر سنّت لهم أباؤهم
ولكل قوم سنّة وإمامها
قال سليمان بن قبة :
وإن الأُلى بالطف من آل هاشم
تأسوا فسنوا للكرام التآسّيا
ومعنى الآية : قد مضت وسلفت مني فيمن كان قبلكم من الأمم الماضية المكذبة الكافرة سنن بإمهالي واستدراجي إياهم حتى بلغ الكتاب فيهم أجلي على الذي أجلته لأدلة أنبيائي وإهلاكهم .
) فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة ( آخر أمرهم ) المكذبين ( منهم ، وهذا في يوم أُحد . يقول : فإذا أمهلهم واستدرجهم حتى يبلغ أجلي الذي أجلت في نصرة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأوليائه وهلاك أعدائه ، هكذا قال ابن إسحاق هذا الذي ذكرت .
آل عمران : ( 138 ) هذا بيان للناس . . . . .
) هذا القرآن ( ) بيان للناس ( عامة ) وهدىً وموعظة ( من الجهالة ) للمتقين ( خاصّة .
2 ( ) وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الاَْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الاَْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى اللَّهُ الشَّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاَْخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشَّاكِرِينَ ( 2
(3/171)

" صفحة رقم 172 "
آل عمران : ( 139 ) ولا تهنوا ولا . . . . .
) ولا تهنوا ولا تحزنوا ( الآية ، هذا تعزية من الله لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) وللمؤمنين على ما أصابهم من القتل والجرح يوم أُحد ، وحثّ منه إياهم على قتال عدوهم ، ونهى عن العجز والفشل فقال : ) ولا تهنوا ( أي ولا تضعفوا ولا تخيبوا يا أصحاب محمد على جهاد أعدائكم بما قاتلوكم يوم أُحد من القتل والقرح ) ولا تحزنوا ( على ظهور أعدائكم وعلى ما أصابكم من المصيبة والهزيمة ، وكان قد قتل يومئذ خمسة من المهاجرين : حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير صاحب راية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعبد الله بن جحش ابن عمة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعثمان بن شماس وسعد مولى عتبة ، ومن الأنصار سبعون رجلا .
) وأنتم الأعلون ( أي لكم تكون العاقبة والنصر والظفر .
) إن كنتم مؤمنين ( يعني إذ كنتم ، ولأنكم مؤمنون .
قال ابن عباس : انهزم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالشعب فبينا هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلوا عليهم الجبل ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللهم لا تعَلُ علينا اللهم لا قوة لنا إلاّ بك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر ) فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل ، فرموا خيل المشركين حتى هزموهم وعلا المسلمون الجبل ، فذلك قوله : ) وأنتم الأعلون ( .
وقال الكلبي : نزلت هذه الآية بعد يوم أُحد ، حين أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أصحابه بطلب القوم وقد أصابهم من الجراح ما أصابهم ، وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يخرج إلاّ من شهد معنا بالأمس ) واشتد ذلك على المسلمين فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ودليله قوله عزّ وجلّ : ) ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون ( الآية .
وقيل : ( ولا تهنوا ) لما نالكم من الهزيمة ( ولا تحزنوا ) على ما فاتكم من الغنيمة ( إن كنتم مؤمنين ) بقضاء الله ووعده .
آل عمران : ( 140 ) إن يمسسكم قرح . . . . .
) إن يمسسكم قرح فقد مس القوم ( الآية .
قال راشد بن سعد : لما انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كئيباً حزيناً جعلت المرأة تجيء بزوجها وابنها وأبيها مقتولين وهي تلدم فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أهكذا يفعل برسولك ؟ ) فأنزل الله تعالى ) إن يمسسكم قرح ( جرح يوم أُحد ) فقد مس القوم قرح مثله ( يوم بدر .
(3/172)

" صفحة رقم 173 "
وقرأ محمد بن السميقع : قَرَح بفتح القاف والراء على المصدر .
وقرأ الأعمش وعاصم وحمزة والكسائي وخلف : بضم القاف حيث كان ، وهي قراءة ابن مسعود .
وقرأ الباقون : بفتح القاف ، وهي قراءة عائشة واختيار أبي عبيدة وأبي حاتم ، قالا : لأنهما لغة تهامة والحجاز ، لغتان مثل الجُهد والوَجد والوُجد .
وقال بعضهم : القَرح بالفتح الجراحات واحدتها قرحة ، والقُرح بالضم وجع الجراحة .
) وتلك الأيام نداولها بين الناس ( فيوماً عليهم ويوماً لهم وذلك أنّ الله عزّ وجلّ أدال المسلمين من المشركين يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين وأدال المشركون من المسلمين يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا منهم خمسة وسبعين .
قال أنس بن مالك : أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يومئذ بعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعليه نيف وسبعون جراحة من طعنة وضربة ورمية ، فجعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يمسحها وهي تلتئم بإذن الله كأن لم تكن ، ونظير هذه الآية قوله : ) أولما أصابتكم مصيبة ( يوم أُحد قد أصبتم مثليها يوم بدر ، يعني المثلي والأسرى .
عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال : لما كان يوم أُحد صعد أبو سفيان الجبل فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنه ليس لهم أن يعلونا ) قال : فمكث أبو سفيان ساعة ثم قال : أين ابن أبي كبشة أين ابن أبي قحافة اين ابن الخطاب ؟ فقال عمر ( رضي الله عنه ) : هذا رسول الله وهذا أبو بكر وها أنا عمر . فقال أبو سفيان : يوماً بيوم وأن الأيام دول والحرب سجال .
فقال عمر : لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار .
فقال : إنكم لتزعمون ذلك فقد خبنا إذاً وخسرناهم .
قال أبو سفيان : أما إنكم سوف تجدون قتلاكم مثلى ولم يكن ذلك على رأي سراتنا ثم ركبته حمية الجاهلية ، فقال : أما إنه إذا كان ذلك لم نكرهه .
قال الثعلبي : أنشدني أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدنا أبو الحسن الكارزي قال : أنشدنا محمد بن القاسم الجمحي :
أرى الناس قد أحدثوا شيمة
وفي كل حادثة يؤتمر
يهينون من حقروا فقره
وإن كان فيهم تقي أو تبر
(3/173)

" صفحة رقم 174 "
فيوماً علينا ويوماً لنا
ويوم نساء ويوماً نسر
) وليعلم الله الذين آمنوا ( يعني وإنما كانت هذه المداولة ) ليعلم الله ( ليرى الله الذين كفروا منكم ممّن نافقوا فيهزأ بعضهم من بعض . وقيل : معناه ) وليعلم الله الذين آمنوا ( بأفعالهم موجودة كما علمها منهم قبل أن يكلّفهم ) ويتخذ منكم شهداء ( يكرم أقواماً بالشهادة ، وذلك أن المسلمين قالوا : أرنا يوماً كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونلتمس الشهادة . فلقوا المشركين يوم أُحد فاتخذ الله منهم شهداء
آل عمران : ( 141 ) وليمحص الله الذين . . . . .
) وليمحّص الله الذين آمنوا ( يعني يطهّرهم من ذنوبهم ) ويمحق الكافرين ( يفنيهم ويهلكهم وينقصهم ثم عزّاهم فقال
آل عمران : ( 142 ) أم حسبتم أن . . . . .
) أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ( ( ويعلم ) نصب على الظرف ، وقيل : بإضمار أن الخفيفة .
آل عمران : ( 143 ) ولقد كنتم تمنون . . . . .
) ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه ( وذلك أنهم تمنوا أن يكون لهم يوم كيوم بدر فأراهم الله تعالى يوم أُحد فذلك قوله : ) فقد رأيتموه ( أي أسبابه وآثاره ) وأنتم تنظرون }
آل عمران : ( 144 ) وما محمد إلا . . . . .
) وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل ( الآية .
قال أهل التفسير وأصحاب المغازي : خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى نزل الشعب في سبعمائة رجل وأمر عبد الله بن جبير أحد بني عمر وعمر بن عوف وهو أخو خوات بن جبير على الرماة وهم خمسون رجلا .
فقال : ( أقيموا بأصل الجبل وانضحوا عنّا بالنبل لانؤتا من خلفنا وإن كان لنا أو علينا ، ولا تبرحوا مكاناً لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم ) فجاءت قريش وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي ، جهل ومعهم النساء يضربن بالدفوف ويقلن الأشعار وكانت هند تقول :
نحن بنات طارق
نمشي على النمارق
الدر في المخانق
والمسك في المفارق
إن تقبلوا نعانق ونفرّق
النمارق أو تدبروا نفارق
فراق غير وامق
وكان أبو عامر عبد عمرو بن الصيفي أول من لقيهم بالأحابيش وعبيد أهل مكة ، فقاتلهم قتالا شديداً حتى حميت الحرب .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى ينحني ) فأخذه أبو دجانة سماك بن خرشبة الأنصاري وكان رجلا شجاعاً يحتال عند الحرب ، فلما أخذ السيف اعتمَّ بعمامة حمراء وجعل يتبختر ويقول :
(3/174)

" صفحة رقم 175 "
أنا الذي عاهدني خليلي
ونحن بالسفح لدى النخيل
ألاّ أقوم الدهر في الكيول
أضرب بسيف الله والرسول
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنها لمشية يبغضها الله إلاّ في هذا الموضع ) ثم حمل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه على المشركين فهزموهم .
وقتل علي بن أبي طالب طلحة بن أبي طلحة وهو يحمل لواء قريش ، فأنزل الله نصره على المؤمنين .
قال الزبير بن العوّام : فرأيت هنداً وصواحبها هاربات مصعدات في الجبل باديات خدادهن ما دون أخدهن شيء ، فلما نظرت الرماة إلى القوم قد انكشفوا ورأوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ينتهبون الغنيمة أقبلوا يريدون النهب . واختلفوا ، فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وقال بعضهم : ما بقي من الأمر شيء ، ثم انطلقوا عامتهم ولحقوا بالعسكر ، فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة واشتغال المسلمين بالغنيمة ورأوا ظهورهم خالية ، صاح في خيل المشركين ثم حمل على أصحاب النبي من خلفهم ، فهزموهم وقتلوهم ، ورمى عبد الله بن قمية الحارثي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجّه في وجهه فأثقله ، وتفرّق عنه أصحابه ، فأقبل عبد الله بن قميه يريد قتل رسول الله فذب مصعب بن عمير وهو صاحب راية رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم بدر ، ويوم أُحد وكان اسم رايته العقاب عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى قتل مصعب دونه ، قتله ابن قميه فرجع وهو يظن أنه قتل رسول الله ، فقال : إني قتلت محمداً وصاح صارخ : ألا أن محمداً قد قتل ، ويقال : إن ذلك الصارخ إبليس لعنه الله فانكفأ الناس وجعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يدعوا الناس ويقول : ( إليَّ عباد الله إليَّ عباد الله ) فاجتمع إليه ثلاثون رجلا فحموه حتى كشفوا عنه المشركين ، ورمى سعد بن أبي وقاص حتى اندقت سية قوسه وأصيبت يد طلحة بن عبد الله فيبست ، وقى بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذ حتى وقعت على وجنته فردّها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مكانها فعادت كأحسن ما كانت ، فلما انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أدركه أُبي بن خلف الجمحي وهو يقول : لا نجوت إن نجوت ، فقال القوم : يا رسول الله ألا يعطف عليه رجل منّا فقال : ( دعوه ) حتى إذا دنا منه ، وكان أُبي قبل ذلك يلقى رسول الله فيقول : عندي رمكة أعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها .
قال رسول الله : ( بل أنا أقتلك إن شاء الله ) فلما كان يوم أُحد ودنا منه تناول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه وخدشه خدشة فتدهده عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور ويقول : قتلني محمد ، واحتمله أصحابه فقالوا : ليس عليك
(3/175)

" صفحة رقم 176 "
شيء ، فقال : بلى ، لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلهم أليس قال لي : أقتلك إن شاء الله ، فلو بزق عليَّ بعد هذه المقالة لقتلني . فما لبث إلاّ يوماً حتى مات بموضع يقال له صرف .
فقال حسان بن ثابت في ذلك :
لقد ورث الضلالة عن أبيه
أُبي حين بارزه الرسول
أتيت إليه تحمل رم عظم
وتوعده وأنت به جهول
يقول فكيف يحيى الله هذا
وهذا العظم عار ومستحيل
( وقد قتلت بنو النجار منكم
أمية إذا يغوث : يا عقيل
وتب ابنا ربيعة إذ أطاعا
أبا جهل لأمهما الهبول
وأفلت حارث لما شغلنا
بأسر القوم ، أسرته فليل )
وقال حسان بن ثابت أيضاً :
ألا من مبلغ عني أُبيّا
فقد القيت في جوف السعير
تمنى بالضلالة من بعيد
وقول الكفر يرجع في غرور
فقد لاقتك طعنة ذي حفاظ
كريم الأصل ليس بذي فجور
له فضل على الأحياء طرّاً
إذا نابت مُلمّات الأمور
قالوا : وفشا في الناس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد قُتل ، فقال بعض المسلمين : ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أُبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان ، وبعض الصحابة جلسوا والقوا بأيديهم ، وقال أناس من أهل النفاق : إن كان محمد قد قُتل فالحقوا بدينكم الأول .
فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك وسمي أنس : يا قوم إن كان محمد قد قُتل فإن ربّ
(3/176)

" صفحة رقم 177 "
محمد لم يقتل ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله وموتوا على ما مات عليه ، ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك ممّا يقول هؤلاء يعني المسلمين ، وأبرأ إليك ممّا جاء به هؤلاء يعني المنافقين ثم شد بسيفه فقاتل حتى قُتل ، ثم إن رسول الله انطلق إلى الصخرة وهو يدعوا الناس ، فأول من عرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كعب بن مالك فقال : عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله ، فأشار إليَّ أن اسكت ، فانحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم النبي على الفرار فقالوا : يا نبي الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا الخبر بأنك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين ، فأنزل الله تعالى ) وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل ( ومحمد هو المستغرق بجميع المحامد ، لأن الحمد لا يستوجبه إلاّ الكامل ، والتحميد فوق الحمد فلا يستحقه إلاّ المستولي على الأمد في الكمال ، وأكرم الله عزّ وجلّ نبيّه وصفيّه بإسمين مشتقين من اسمه تعالى : محمد وأحمد ، وفيه يقول حسان بن ثابت :
ألم تر أن الله أرسل عبده ببرهانه
والله أعلى وأمجد
قد شق له من اسمه ليجله
فذوا العيش محمود وهذا محمد
نبي أتانا بعد يأس وفترة من الدين
والأوثان في الأرض تعبد
فأرسله ضوءاً منيراً وهادياً
يلوح كما لاح الصقيل المهنّد
روى أبو هريرة عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( ألم تروا كيف صرف الله عني لعن قريش وشتمهم يسبون مذمّما وأنا محمد ) .
وروى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن جدّه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا سمّيتم الولد محمداً فأكرموه وأوسعوا له في المجلس ولا تقبحوا له وجهاً فما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم من اسمه أحمد أو محمد فأدخلوه في مشورتهم إلاّ خيراً لهم وما من مائدة وضعت فحضرها من اسمه أحمد أو محمد إلاّ قدّس في كل يوم ذلك المنزل مرتين ) .
وعن حميد الطويل قال : سمعت أنس بن مالك يقول : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في السوق ، فقال رجل : يا أبا القاسم ، فالتفت إليه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال الرجل : إنما أدعوا ذلك ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( تسمّوا باسمي ولا تكنّوا بكنيتي ) .
وروى محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تجمعوا بين
(3/177)

" صفحة رقم 178 "
اسمي وكنيتي أنا أبو القاسم الله يعطي وأنا أقسم ) ثم رخص في ذلك لعلي وابنه ) .
وروى ليث عن محمد بن بشير عن محمد بن الحنفية عن علي ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن ولدَ لك غلام نحلته اسمي وكنيتي ) .
) أفإن مات ( على فراشه ) أو قتل انقلبتم على أعقابكم ( رجعتم إلى دينكم الأول الكفر ) ومن ينقلب على عقبيه ( فيرتد عن دينه ) فلن يضر الله شيئاً ( بارتداده وإنما يضر نفسه ) وسيجزي الله الشاكرين ( المؤمنين .
روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : لما توفي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قام عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) فقال : إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) توفي ، وأن رسول الله والله ما مات ولكنه ذهب إلى ربّه ، كما ذهب موسى بن عمران فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع بعد أن قيل قد مات ، والله ليرجعن رسول الله وليقطعن أيدي رجال وأرجلهم ، يزعمون أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مات قال : فأقبل أبو بكر ( رضي الله عنه ) حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر وعمر يكلّم الناس ، فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في بيت عائشة ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مسجّى ببردة خيبر ، فأقبل حتى كشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبّله ثم قال : بأبي أنت وأُمي ، أما الموتة التي كتبها الله عزّ وجلّ عليك فقد ذقتها ثم لم تصبك بعدها موتة أبداً ، ثم ردَّ الثوب على وجهه ثم خرج وعمر يكلم الناس فقال : على رسلك يا عمر فأنصت قال : فأبى إلاّ أن يتكلم ، فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس ، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، ثم تلا هذه الآية ) وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل ( . فقال : فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى تلاها أبو بكر يومئذ ، قال : فأخذها الناس عن أبي بكر فإنما هي في أفواههم .
قال أبو هريرة : قال عمر : والله ما هو إلاّ أن سمعت أن أبا بكر يتلوها فعقرت حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي ، وعرفت أن رسول الله قد مات .
آل عمران : ( 145 ) وما كان لنفس . . . . .
) وما كان لنفس أن تموت إلاّ بإذن الله ( يعني وما ينبغي لنفس أن تموت .
وقال الأخفش : اللام في قوله : ( لنفس ) مقتولة تقديره : ما كانت نفس لتموت ( إلاّ بإذن الله ) بعلم الله ، وقيل : بأمره
(3/178)

" صفحة رقم 179 "
) كتاباً مؤجلا ( يعني أنّ لكل نفس أجلا هو بالغه ورزقاً مستوفيه ، لا يقدر أحد على تقديمه وتأخيره .
قال مقاتل : من اللوح المحفوظ ، ونصب الكتاب على المصدر يعني : كتب الله كتاباً مؤجلا ، كقوله : ) رحمة من ربك ( وصنع الله وكتاب الله عليكم ، وقيل : هو إغراء أي : آمنوا بالقدر المقدور .
) ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ( يعني ومن يرد بطاعته الدنيا ويعمل لها نؤته منها ما يكون جزاءاً لعمله ، ونظيرها قوله : ) من كان يريد حرث الآخرة نزد له ( الآية .
وقال أهل المعاني : الآية مجملة ومعناها : نؤته من نشاء ما قدرناه له ، دليله قوله عزّ وجلّ : ) من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ( نزلت في الذين تركوا المركز يوم أُحد طلباً للغنيمة .
) ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ( يعني الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قُتلوا ) وسنجزي الشاكرين ( أي الموحدين المطيعين . والقراءة بالنون لقوله تعالى : ) نؤته منها ( .
قرأ الأعمش : وسيجزي بالياء ، يعني الله سبحانه .
وعن عمر بن الخطاب قال : سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( الأعمال بالنيّات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ) .
2 ( ) وَكَأَيِّن مِّن نَّبِىٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِىأَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَئْاتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الاَْخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَآ أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِى الاَْمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن
(3/179)

" صفحة رقم 180 "
بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاَْخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِىأُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاساً يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الاَْمْرِ مِن شَىْءٍ قُلْ إِنَّ الاَْمْرَ كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ فِىأَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الاَْمْرِ شَىْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِىَ اللَّهُ مَا فِى صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ( 2
آل عمران : ( 146 ) وكأين من نبي . . . . .
) وكأين من نبي قاتل معه ( . قرأ الحسن وأبو جعفر : ( كاين ) مقصوراً بغير همزة ولا تشديد حيث وقع .
وقرأ مجاهد وابن كثير وشيبة : ( وكأين ) مهموزاً ممدوداً مخففاً على وزن فاعل ، وهو اختيار أبي عبيد ، اعتباراً بقول أُبي بن كعب لزر بن حبيش : ( كاين ) بعد سورة الأحزاب . فقال : كذا آية .
وقرأ ابن محيصن : ( كأي ) ممدوداً بغير نون .
وقرأ الباقون : ( وكأيّن ) مشدوداً بوزن كعَيّن ، وهي لغة قريش واختيار أبي حاتم ، وكلها لغات معروفة بمعنى واحد .
وأنشد المفضل :
وكائن ترى في الحي من ذي صداقة
و غيران يدعو ويله من حذاريا
وقال في التشديد :
كأين من أناس لم يزالوا
أخوهم فوقهم وهم كرام
وجمع الآخر بين اللغتين ، فقال :
كأين أبدنا من عدوّ يغزنا
وكأين أجرنا من ضعيف وخائف
ومعناه كم ، وهي كاف التشبيه ضمت إلى أي الاستفهام ، ولم يقع التنوين صورة في الخط إلاّ في هذا الحرف خاصة .
(3/180)

" صفحة رقم 181 "
) قُتل ( . قرأ قتادة وابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب ( قتل ) : وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي حاتم .
وقرأ الآخرون : ( قاتل ) ، وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي عبيد ، فمن قرأ ( قاتل ) فلقوله : ) فما وهنوا ( ويستحيل وصفهم بأنهم لم يُهنوا بعدما قُتلوا ، ولقول سعيد بن جبير : ما سمعنا أن نبياً قط قُتل في القتال .
وقال أبو عبيد : إن الله تعالى إذا حمد من قاتل كان من قُتل داخلا فيه ، وإذا حمد من قُتل خاصة لم يدخل فيه غيرهم ، فقاتل أعم .
ومن قرأ ( قتل ) فله ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون القتل واقعاً على النبي وحده ، وحينئذ يكون تمام الكلام عند قراءة ( قتل ) فيكون في الآية اضمار معناه ومعه ) ربّيون كثير ( كما يقال : قتل الأمير معه جيش عظيم ، أي ومعه ، ويقول : خرجت معي تجارة ، أي ومعي .
والوجه الثاني : أن يكون القتل نال النبي ومعه من الربيين ، ويكون وجه الكلام : قتل بعض من كان معه ، تقول العرب : قتلنا بني تميم وبني فلان ، وإنما قتلوا بعضهم ويكون قوله : ) فما وهنوا ( راجعاً إلى الباقين الذين لم يقتلوا .
والوجه الثالث : أن يكون القتل للربيين لا غير .
) ربّيون كثير ( ، قرأ ابن مسعود وأبو رجاء والحسن وعكرمة : ( رُبيون ) بضم الراء ، وهي لغة بني تميم .
الباقون : بالكسر ، وهي اللغة الفاشية ( العالية ) .
والربيون جمع الربّية وهي الفرقة ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع .
السدي : جموع كثير .
قال حسان :
وإذا معشر تجافوا عن الحق
حملنا عليهم رُبيا
ابن مسعود : الربيون الألوف ، الضحاك : الربية الواحدة ألف ، الكلبي : الربية الواحدة عشر ألف ، الحسن : فقهاً علماً صبراً ، ابن زيد : هم الأتباع ، والرابيون : هم الولاة ، والربيون : الرعية ، وقال بعضهم : هم الذين يعبدون الرب ، والعرب تنسب الشيء إلى الشيء فيغير حركته
(3/181)

" صفحة رقم 182 "
كما يقول بصريٌّ منسوب إلى بصرة ، فكذلك ربيّون منسوب إلى الربّ ، وقال بعضهم : مطيعون منيبون إلى الله فما وهنوا .
قرأه العامة : بفتح الهاء ، وقرأ قعتب أبو السماك العدوي : بكسر الهاء ، فمن فتحه فهو من وَهن يهن وهناً ، مثل وعد يعِد وعداً ، قاله المبرد وأنشد :
إن القداح إذا اجتمعن فرامَها
بالكسر ذو جَلد وبطش أيد
عزّت ولم تكسر وإن هي بددت
قالوهن والتكسير للمتبدد
ومن كسر فهو من وَهِن يهن ، مثل وَرِم يرم قاله أبو حاتم .
فقال الكسائي : هو من وهن يوهن وهناً ، مثل وجل يوجل وجلاً .
قال الشاعر :
طلب المعاش مفرق بين الأحبة والوطن
ومصير جلد الرجال إلى الضّراعة والوهن
ومعنى الآية : فما ضعفوا عن الجهاد لما نالهم من ألم الجراح ، وقيل : الأصحاب وما عجزوا لقتل نبيّهم .
قال قتادة والربيع : يعني ما ارتدّوا عن بصيرتهم ودينهم ، ولكنهم قاتلوا على ما قاتل عليه نبيهم حتى لحقوا بالله ، السدي : وما ذلّوا ، عطاء : وما تضرّعوا ، مقاتل : وما استسلموا وما خضعوا لعدوهم ، أبو العالية : وما جبنوا ، المفضل والقتيبي : وما خشعوا ، ومنه أخذ المسكين لذله وخضوعه وهو مفعيل منه ، مثل مِعطير من العِطر ومنديل من الندل ، وهو دفعه من واحد إلى آخر ، وأصل الندل السوق ، ولكنهم صبروا على أمر ربّهم وطاعة نبيّهم وجهاد عدوهم .
) والله يحب الصابرين }
آل عمران : ( 147 ) وما كان قولهم . . . . .
) وما كان قولهم ( .
قرأ الحسن وابن أبي إسحاق : ( قولهم ) بالرفع على اسم كان وخبره في قوله : إن قالوا .
وقرأ الباقون : بالنصب على خبر كان والاسم في أن ، قالوا تقديره : وما كان قولهم إلاّ قولهم كقوله : ) وما كان جواب قومه ( و ) ما كان حجتهم ( ونحوهما ، ومعنى الآية : وما كان قولهم عند قتل نبيّهم ) إلاّ أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا ( يعني خطايانا الكبار ، وأصله مجاوزة الحد ) وثبت أقدامنا ( كيلا تزول ) وانصرنا على القوم الكافرين ( فهلاّ فعلتم وقلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد
آل عمران : ( 148 ) فآتاهم الله ثواب . . . . .
) فآتاهم الله ( ، وقرأ الجحدري : فأثابهم الله من
(3/182)

" صفحة رقم 183 "
الثواب ، ) ثواب الدنيا ( النصرة والغنيمة ) وحسن ثواب الآخرة ( الأجر والجنة ) والله يحب المحسنين }
آل عمران : ( 149 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا ( يعني اليهود والنصارى ، فقال علي ( رضي الله عنه ) : يعني المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم ، ) يردّوكم على أعقابكم ( يرجعوكم إلى أول أمركم الشرك بالله تعالى ) فتنقلبوا خاسرين ( فتنقلبوا مغبونين ثم قال
آل عمران : ( 150 ) بل الله مولاكم . . . . .
) بل الله مولاكم ( ناصركم وحافظكم على دينكم ) وهو خير الناصرين سنلقي ( .
قال السدي : لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أُحد متوجهين نحو مكة ، انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق ثم إنّهم ندموا وقالوا : بئسما صنعنا ، قتلناهم حتى لم يبق منهم إلاّ الشريد وتركناهم رجعوا . فلما عزموا على ذلك قذف الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عمّا همّوا به . وستأتي هذه القصة بتمامها إن شاء الله وما نزّل الله تعالى فيها .
آل عمران : ( 151 ) سنلقي في قلوب . . . . .
) سنلقي ( قرأ أيوب السختياني : سنلقي بالله يعني الله عزّ وجلّ لقوله : ) بل الله مولاكم ( ، قرأ الباقون : بالنون على التعظيم أي سنقذف ، ) في قلوب الذين كفروا الرعب ( الخوف وثقل عينه ، أبو جعفر وابن عامر والكسائي ويعقوب ، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وخففها الآخرون .
) بما أشركوا بالله ( هو ( ما ) المصدر ، تقديره باشراكهم بالله ) ما لم ينزل به سلطاناً ( حجة وبياناً وعذراً وبرهاناً ، ثم أخبر عن مصيرهم فقال : ) ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين ( مقام الكافرين .
آل عمران : ( 152 ) ولقد صدقكم الله . . . . .
) ولقد صدقكم الله وعده ( ، قال محمد بن كعب القرظي : لما رجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه إلى المدينة ، وقد أصابهم ما أصابهم بأُحد ، فقال ناس من أصحابه : من أين أصابنا وقد وعدنا بالنصر ، فأنزل الله تعالى : ) ولقد صدقكم الله وعده ( الذي وعد بالنصر والظفر ، وهو قوله : ) بلى إن تصبروا وتتقوا ( الآية ، وقول رسول الله للرماة : ( لا تبرحوا مكانكم فإنا لا نزل غالبين ما ثبتم ) ، والصدق يتعدى إلى مفعولين كالمنع والغصب ونحوهما ، ) إذ تحسونهم بإذنه ( وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جعل أُحداً خلف ظهره واستقبل المدينة وجعل حنين وهو جبل عن يساره ، وأقام عليه الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال لهم : ( احموا ظهورنا فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا ) .
وأقبلوا المشركون وأخذوا في القتال ، فجعل الرماة يرشفون بالنبل والمسلمون يضربونهم
(3/183)

" صفحة رقم 184 "
بالسيف حتى ولوا هاربين وانكشفوا منهزمين ، فذلك قوله : ) إذ تحسونهم بإذنه ( أي تقتلونهم قتلا ذريعاً سريعاً شديداً .
قال الشاعر :
حسسناهم بالسيف حسّاً فأصبحت
بقيتهم قد شردوا وتبددوا
وقال أبو عبيدة : الحس الاستيصال بالقتل ، يقال : جراد محسوس إذا قتله البرد ، وسَنَة حسوس إذا أتت على كل شيء .
قال روبة :
إذا شكونا سنة حسوساً
تأكل بعد الأخضر اليبيسا
) حتى إذا فشلتم ( ، قال بعض أهل المعاني : يعني إلى أن فشلتم ، جعلوا ( حتى ) غاية بمعنى إلى ، وحينئذ لا جواب له .
وقال الآخرون : هو بمعنى فلما وفي الكلام تقديم وتأخير قالوا : وفي قوله : ) وتنازعتم ( مقحمة زائدة ، ونظم الآية : حتى إذا تنازعتم ) في الأمر وعصيتم ( وفشلتم أي جبنتم وضعفتم ، ومعنى التنازع الاختلاف ، وأصله من نزع القوم الشيء بعضهم من بعض ، وكان اختلافهم أن الرماة تكلموا حين هُزم المشركون وقالوا : انهزم القوم فما مقامنا ، وقال بعضهم : لا تجاوزوا أمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فثبت عبد الله بن جبير في نفر يسير دون العشرة وانطلق الباقون ينهبون ، فلما نظر خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل إلى ذلك ، حملوا على الرماة فقتلوا عبد الله بن جبير وأصحابه وأقبلوا على المسلمين ، وحالت الريح فصارت دبوراً بعد ما كانت صبا ، وانتفضت صفوف المسلمين ، فاختلطوا وجعلوا يقتتلون على غير شعار ، فقتل بعضهم بعضاً وما يشعرون من الدهش ، ونادى إبليس ألا إن محمداً قد قتل ، وكان ذلك سبب هزيمة المؤمنين .
) من بعد ما أراكم ما تحبون ( يا معشر المؤمنين ما تحبون هو الظفر والغنيمة ) منكم من يريد الدنيا ( يعني الذين تركوا المركز فاقبلوا إلى النهب ) ومنكم من يريد الآخرة ( يعني الذين ثبتوا مع ابن جبير حتى قتلوا .
وقال عبد الله بن مسعود : ما شعرت أن أحداً من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أُحد فنزلت هذه الآية ) ثم صرفكم عنهم ( أي ردّكم عنهم بالهزيمة ) ليبتليكم ولقد عفا عنكم ( فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة ، قاله أكثر المفسرين ، ونظيره : ) ثم عفونا عنكم ( .
(3/184)

" صفحة رقم 185 "
وقال الكلبي : يعني تجاوز عنكم فلم يؤاخذكم بذنبكم .
) والله ذو فضل على المؤمنين }
آل عمران : ( 153 ) إذ تصعدون ولا . . . . .
) إذ تصعدون ( يعني ولقد عفونا عنكم إذ تصعدون هاربين .
قرأه العامة : ( تُصعِدون ) بضم التاء وكسر العين .
وقرأ أبو رجاء العطاردي وأبو عبد الرحمن والحسن وقتادة بفتح التاء .
وقرأ ابن محيصن وشبل : إذ يصعدون ويلوون بالياء ، يعني المؤمنين . ثم رجع إلى الخطاب فقال ) والرسول يدعوكم في أخراكم ( على البلوى .
قال أبو حاتم : يقال أصعدت إذا مضيت حيال وجهك ، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره ، والاصعاد السير في مستوى الأرض وبطون الأودية والشعاب ، والصعود الإرتفاع على الجبال والسطوح والسلالم والدّرج ، قال المبرد : أصعد إذا أبعد في الذهاب .
قال الأعشى :
إلاّ أيهذا السائلي أين أصعدت
فإنّ لها من بطن يثرب موعدا
وقال الفراء : الإصعاد الابتداء في كل سفر والانحدار والرجوع منه يقال : أصعدنا من بغداد إلى مكة وإلى خراسان وأشباه ذلك ، إذا خرجنا إليها وأخذنا في السفر وانحدرنا إذا رجعنا .
وأنشد أبو عبيدة :
لقد كنت تبكين على الاصعاد
فاليوم سرحت وصاح الحادي
ودليل قراءة العامة قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) للمنهزمين : ( لقد ذهبتم فيها عريضة ) .
وقرأ أُبي بن كعب : إذ تصعدون في الوادي ، ودليل فتح التاء والعين ما روى أنهم صعدوا في الجبل هاربين وكلتا القراءتين صواب ، فقد كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد . وقال المفضل : صعد وأصعد وصعّد بمعنى واحد .
) ولا يلوون على أحد ( يعني ولا يعرجون ولا يقيمون على أحد منكم ، لا يلتفت بعض إلى بعض هرباً .
وقرأ الحسن : ولا يلوُن بواو واحدة اتباعاً للخط ، كقولك : استحببت واستحبت على أحد
(3/185)

" صفحة رقم 186 "
قال الكلبي : يعني على محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) والرسول يدعوكم في أخراكم ( أي في آخركم ومن ورائكم إليَّ عباد الله فأنا رسول الله من بكّر فله الجنة ، يقال : جاء فلان في آخر الناس وآخرة الناس واقرى الناس وأُخراة الناس وأُخريات الناس ، فجاز لكم جعل الأنابة بمعنى العقاب وأصلها في الحسنات كقوله : ) فبشرهم بعذاب أليم ( .
قال الشاعر :
أخاف زياداً أن يكون عطاؤه
أداهم سودا أو محدرجة سمرا
يعني بالسود : القيود والسياط وكذلك معنى الآية ، جعل مكان الثواب الذي كنتم ترمون غمّاً بغمّ .
قال الحسن : يعني بغم المشركين يوم بدر .
وقال آخرون : الباء بمعنى على ، أي غمّاً على غمَ ، وقيل : غمّاً بغم ، فالغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة ، والغم الثاني ما نالهم من القتل والهزيمة ، وقيل : الغم الأول انحراف خالد ابن الوليد عليهم بخيل من المشركين ، والغم الثاني حين أشرف عليهم أبو سفيان ، وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) انطلق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة ، فلما رأوه وضع رجل سهماً في قوسه فأراد أن يرميه فقال : ( أنا رسول الله ) ففرحوا حين وجدوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفرح النبي حين رأى في أصحابه من يمتنع ، فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذهب عنهم الحزن ، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه ، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا ، فأقبل أبو سفيان وأصحابه حتى وقفوا بباب الشعب ، ثم أشرف عليهم ، فلما نظر المسلمون إليهم ، همّهم ذلك وظنّوا أنهم سوف يميلون عليهم فيقتلونهم ، فأنساهم هذا ما نالهم ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليس لهم أن يعلونا ، اللهم إن تُقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض ) ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم فنزلوا سريعاً .
) لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ( من الفتح والغنيمة ) ولا ما أصابكم ( ( ما ) في موضع خفض أي : ولا على ما أصابكم من القتل والهزيمة حين أنساكم ذلك هذا الغم ، وهمّكم ما أنتم فيه غماً قد أصابكم قبل .
فقال الفضل : ( لا ) صلة معناه : لكي تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم عقوبة لكم في خلافكم إياه ، وترككم المركز كقوله : ) لئلا يعلم أهل الكتاب (
.
(3/186)

" صفحة رقم 187 "
) والله خبير بما تعملون }
آل عمران : ( 154 ) ثم أنزل عليكم . . . . .
) ثم أنزل عليكم من بعد الغم ( ، روى عبد الله بن الزبير بن العوام عن أبيه قال : لقد رأيتني مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين اشتد علينا الخوف أرسل الله علينا النوم ، والله لا نسمع قول مصعب بن عمير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلاّ كالحلم يقول : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ، فأنزل الله تعالى ) ثم أنزل عليكم من بعد الغم ( يا معشر المؤمنين وأهل اليقين ، ) أمنةً ( يعني أمناً ، وهي مصدر كالعظمة والغلبة ، وقرأ ابن محيصن : أمنة بسكون الميم .
) نعاساً ( بدل من الأمنة ) يغشى طائفة منكم ( ، قرأ ابن محيصن والأعمش وحمزة والكسائي وخلف : ( تغشي ) بالتاء رداً إلى الأمنة ، وقرأ الباقون : بالياء رداً إلى النعاس ، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، قال أبو عبيد : لأن النعاس يلي الفعل ، فالتذكير أولى به ممّا بعد منّه .
قال ابن عباس : آمنهم يومئذ بنعاس يغشاهم بعد فرق ، وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام ، ونظيره في سورة الأنفال في قصة بدر .
روى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال : رفعت رأسي يوم أُحد فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلاّ وهو يميد تحت جُحفته من النعاس .
قال أبو طلحة : وكنت ممّن أُلقي عليه النعاس يومئذ ، وكان السيف يسقط من يدي فآخذه ، ثم يسقط السوط من يدي من النوم فآخذه .
) وطائفة ( يعني المنافقين ، وهب بن قشير وأصحابه ، وهو رفع على الابتداء وخبرها في قوله : ) ويظنون ( ) قد أهمتهم أنفسهم ( أي حملتهم على الهمّ ، يقال : أمر مهم ، ومنه قول العرب : همّك ما أهمّك .
) يظنون بالله غير الحق ( أي لا ينصر محمداً ، وقيل : ظنوا أن محمداً قد قتل ) ظن الجاهلية ( أي كظن أهل الجاهلية والشرك ) يقولون هل لنا ( أي ما لنا ، لفظ استفهام ومعناه هل ) من الأمر من شيء ( يعني النصر ) قل إن الأمر كله لله ( .
قرأ أبو عمرو ويعقوب : ( كلّه ) على الرفع بالابتداء وخبره في قوله : لله وصار هذا الابتداء والجملة خبراً لإنّ ، كما يقول : إن عبد الله وجهه حسن ، فيكون عبد الله مبتدأ ووجهه ابتداء ثانياً وحسن خبره ، وجملة الكلام خبر للإبتداء الأول .
وقرأ الباقون : ( كله ) بالنصب على البدل ، وقيل : على النعت .
وروى مجاهد عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى : ) يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ( يعني به التكذيب بالقدر ، وذلك أنّهم يظنوا في القدر ، فقال الله عزّ وجلّ : ) إن الأمر كلّه لله ( يعني القدر خيره وشرّه من الله وهو قولهم : ) لو كان لنا من الأمر من شيء ما قتلنا
(3/187)

" صفحة رقم 188 "
هاهنا ( وذلك أنّ المنافقين قال بعضهم لبعض : لو كان لنا عقول لم نخرج مع محمد إلى قتال أهل مكة ولمّا قتل رؤساؤنا ، فقال الله : قل لهم : ) لو كنتم في بيوتكم لبرز ( لخرج .
وقال ابن أبي حيوة : ( لبُرّز ) بضم الباء وتشديد الراء على الفعل المجهول .
) الذين كتب عليهم القتل ( ، قرأ قتادة : القتال ) إلى مضاجعهم ( مصارعهم ، ) وليبتلي الله ( ليختبر الله ) ما في صدوركم وليمحّص ( يخرج ويطهّر ) ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور ( بما في القلوب من خير أو شر
آل عمران : ( 155 ) إن الذين تولوا . . . . .
) إن الذين تولّوا ( انهزموا ) منكم ( يا معشر المؤمنين ) يوم التقى الجمعان ( جمع المسلمين والمشركين ) إنما استزلهم الشيطان ( .
قال المفضل : حملهم على الزلل ، وهو استفعل من الزلّة وهي الخطيئة .
وقال القتيبي : طلب زلتهم ، كما يقال : استعجلت عليها ، أي طلبت عجلته ، واستعجلته طلبت عمله ، وقيل : أزل واستزل بمعنى واحد .
وقال الكلبي : زيّن لهم الشيطان أعمالهم حينما كسبوا ، أي بشؤم ذنوبهم ، قال المفسرون : بتركهم المراكز ، وقال الحسن : ما كسبوا قبولهم من إبليس وما وسوس إليهم من الهزيمة .
) ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم ( .
وروى إبراهيم بن إسحاق الزهري ، أن جعفر بن عون حدثهم أن زائدة حدثهم عن كليب ابن وائل قال : جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان أكان شهد بدراً ؟ قال : لا ، قال : أكان شهد بيعة الرضوان ؟ قال : لا ، قال : أفكان من الذين تولّوا يوم التقى الجمعان ؟ قال : نعم ، فقيل له : إن هذا يرى أنك قد عبته ، فقال : عليّ به ، أمّا بدر فإن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد ضرب له بسهمه ، وأما بيعة الرضوان فقد بايع ( له ) رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خير من يد عثمان ، وأما الذين تولوا يوم التقى الجمعان ( فإن الله قال : ) إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم ( ) فاذهب فاجهد عليّ جهدك .
( ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِى الاَْرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذاَلِكَ حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيىِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الاَْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ إِن
(3/188)

" صفحة رقم 189 "
يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَاذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىءٍ قَدِيرٌ وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( 2
آل عمران : ( 156 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا ( يعني المنافقين عبد الله بن أُبي وأصحابه ، ) وقالوا لإخوانهم ( في النفاق ، وقيل : في النسب ) إذا ضربوا في الأرض ( ساروا وسافروا فيها لتجارة أو غيرها ) أو كانوا غزى ( غزاة فقتلوا ، والغزي جمع منقوص لا يتغير لفظها في رفع وخفض ونصب ، واحدها غاز مثل قائم وقوم ، وصائم وصوم ، وشاهد وشهد وقائل وقول ، ومن الناقص مثل هاب وهبي وعاف وعفي .
) لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة ( يعني قولهم وظنهم حزناً ) في قلوبهم ( والحسرة الاغتمام على فائت كان تقدر بلوغه .
قال الشاعر :
فواحسرتي لم أقضِ منهما لبانتي
ولم أتمتع بالجوار وبالقرب
ثم أخبر أن الموت والحياة إلى الله لا يتقدمان لسفر ولا يتأخران لحضر فقال : ) والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير ( .
قرأ ابن كثير وطلحة والأعمش والحسن وشبل وحمزة والكسائي وخلف : ( يعملون ) بالياء ، الباقون : بالتاء .
آل عمران : ( 157 ) ولئن قتلتم في . . . . .
) ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم ( .
قرأ نافع وأكثر أهل الكوفة ما كان من هذا الباب : بكسر الميم ، وقرأ الآخرون : بالضم ، فمن ضمّه فهو من قال : يموت كقولك من كان يكون كنت ، ومن قال يقول قلت ، ومن كسر فهو من مات يمات متّ كقولك من خاف يخاف خفت ومن هاب يهاب هبت
(3/189)

" صفحة رقم 190 "
) لمغفرة من الله ( في العاقبة ) ورحمة خير مما يجمعون ( من الغنائم .
قرأه العامة : ( تجمعون ) بالتاء لقوله : ) ولئن قتلتم أو متم ( ، وقرأ حفص : بالياء على الخبر عن الغالبين ، يعني خير ممّا يجمع الناس من الأموال .
آل عمران : ( 158 ) ولئن متم أو . . . . .
) ولئن قتلتم أو متّم لإلى الله تحشرون ( في العاقبة
آل عمران : ( 159 ) فبما رحمة من . . . . .
) فبما رحمة من الله ( أي فبرحمة من الله ( ما ) صلة كقوله عزّ وجلّ : ) فبما نقضهم ( و ) عمّا قليل ( و ) جند ما هنالك ( .
وقال بعضهم : يحتمل لأن تكون ( ما ) استفهاماً للتعجب تقديره : فبأي رحمة من الله ) لنت لهم ( أي سهّلت لهم أخلاقك وكثر احتمالك ، ولم يسرع إليهم فيما كان منهم يوم أُحد .
يقال : لآنَ له يَلين ليناً ولياناً إذا رقَّ له وحسن خلقه .
) ولو كنت فظاً ( يعني جافياً سيء الخلق قاسي القلب قليل الاحتمال ، يقال : فظظت تفظ فظاظة وفظاظاً فانت فظ ، والانثى فظة ، والجمع فظاظ .
وأنشد المفضل :
وليس بفظ في الأداني والاولى
يؤمون جدواه ولكنه سهل
وقال آخر :
أموت من الضر في منزلي
وغيري يموت من الكظة
ودنيا تجود على الجاهلين
وهي على ذي النهى فظة
) غليظ القلب ( ، قال الكلبي : فظاً في القول غليظ القلب في الفعل .
) لانفضّوا من حولك ( لنفروا وتفرقوا عنك يقال : فضضتهم وانفضوا ، أي فرقتهم فتفرقوا .
قال أبو النجم يصف إبلا :
مستعجلات القبض غير جرد
ينفض عنهنّ الحصى بالصّمد
وأصل الفض الكسر ، ومنه قولهم : لا يفضض الله فاك ، قال أهل الإشارة في هذه الآية : منه العطاء ومنه الثناء .
(3/190)

" صفحة رقم 191 "
) فاعف عنهم ( تجاوز عنهم ما أتوا يوم أُحد ) واستغفر لهم ( حتي أشفعك فيهم ) وشاورهم في الأمر ( أي استخرج آراءهم فأعلم ما عندهم ، وهو مأخوذ من قول العرب : وشرت الدابة وشورته ، إذا استخرجت جريه وأعلمت خبره وتفنن لما يظهر من حالها مستوراً ، وللموضع الذي يشور فيه أيضاً يتولد ، وقد يكون أيضاً من قولهم : شرت العسل واشترته فهو مشور ومشار ومشتار إذا أخذته من موضعه واستخرجته منه .
وقال عدي بن زيد :
في سماع يأذن الشيخ له
وحديث مثل ماذي مشار
واختلف العلماء في المعنى الذي لأجله أمر الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وسلم ) بالمشاورة مع كمال عقله وجزالة رأيه وتتابع الوحي عليه ووجوب طاعته على أمته بما أحبوا وكرهوا .
فقال بعضهم : هو خاص في المعنى وإن كان عاماً في بعض اللفظ ، ومعنى الآية : وشاورهم فيما يسر عندك فيه من الله عهد ، ويدل عليه قراءة ابن عباس : وشاورهم في بعض الأمر .
قال الكلبي : يعني ناظرهم في لقاء العدو ومكان الحرب عند الغزو .
وروى عمرو بن دينار عن ابن عباس في قوله : ) وشاورهم في الأمر ( يعني أبا بكر وعمر رضي الله عنهما .
وقال مقاتل وقتادة والربيع : كانت سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شُقّ عليهم ، فأمر الله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يشاورهم في الأمر الذي يريده ، فإن ذلك أعطف لهم عليه وأذهب لأضغانهم وأطيب لأنفسهم ، وإذا شاورهم عرفوا إكرامه لهم وأن القوم إذا عزموا وأرادوا بذلك وجه الله تعالى عزم الله لهم على الأرشد .
قال الشافعي ( رضي الله عنه ) : ونظير هذا قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( البكر تستأمر في نفسها ) إنما أمرنا استئذآنها لاستطابه نفسها وإنها لو كرهت كان للأب أن يزوجها .
وكمشاورة إبراهيم ( عليه السلام ) ابنه حين أمر بذبحه .
وقال الحسن : قد علم الله أنه مابه إليهم حاجة ولكنه أراد أن يستنّ به من بعده ، ودليل هذا التأويل ما روى أبو حازم عن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما شقى عبد قط بمشورة وما سعد باستغناء برأي ) ، يقول الله عزّ وجلّ : ) وشاورهم في
(3/191)

" صفحة رقم 192 "
الأمر ( فبالله وكتابه ورسوله غنى عن المشورة ، ولكن الله عزّ وجلّ أراد أن تكون بيّنة فلا يبرم أمر الدين والدنيا حتى تشاوروا ، وقد أثنى الله على ( أهل ) المشاورة فقال : ) وأمرهم شورى بينهم ( .
روى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( إذا كان أُمراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحاءكم وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير من بطنها وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم ولم يكن أمركم شورى بينكم فبطن الأرض خير من ظهرها ) .
أنشدني أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدني عمي :
إذا كنت في حاجة مرسلا
فأرسل حكيماً ولا توصه
وإن ناب أمر عليك التوى
فشاور لبيباً ولا تعصه
ونص الحديث إلى أهله
فإن الوثيقة في نصه
إذا المرء أضمر خوف الإله
تبين ذلك في شخصه
وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدنا أبو بكر محمد بن المنذر الضرير ، قال أبو سلمة المؤدب :
شاور صديقك في الخفي المشكل
واقبل نصيحة ناصح متفضل
فالله قد أوصى بذلك نبيّه
في قوله شاورهم وتوكل
) فإذا عزمت فتوكل على الله ( لا على مشاورتهم .
وقرأ جعفر الصادق ( رضي الله عنه ) وجابر بن زيد : ( فإذا عزمتُ ) بضم التاء أي عزمت لك ووفقتك وأنشدتك فتوكل على الله ، والتوكل التفعل من الوكالة يقال : وكّلت الأمر إلى فلان فتوكل أي ضمنه وقام به ، فمعنى قوله : ( توكل ) أي قم بأمر الله وثق به واستعنه .
فصل في التوكل
اختلفت عبارات العلماء في معنى التوكل وحقيقة المتوكل :
فقال سهل بن عبد الله رحمة الله عليه : أول مقام التوكل ، أن يكون العبد بين يدي الله
(3/192)

" صفحة رقم 193 "
كالميت بين يدي الغاسل ، يقلّبه كيف أراد لا يكون له حركة ولا تدبير ، والمتوكل لا يسأل ولا يرد ولا يحبس .
أبو تراب النخشبي : التوكل الطمأنينة إلى الله عزّ وجلّ . بشر الحافي : الرضا ، وعن ذي النون وقد قال له رجل : يا أبا الفيض ما التوكّل ؟ قال : خلع الأرباب وقطع الأسباب . فقال : زدني فيه حالة أخرى . فقال : إلقاء النفس في العبودية وإخراجها من الربوبية .
وقال إبراهيم الحواص : حقيقة التوكل إسقاط الخوف والرجاء ممّا سوى الله ، ابن الفرجي : ردَّ العيش لما يوم واحد واسقاط غم غد ، وعن علي الروذباري قال : مراعاة التوكل ثلاث درجات :
الأولى منها : إذا أعطى شكر وإذا مُنع صبر .
والثانية : المنع والإعطاء واحد .
والثالثة : المنع مع الشكر أحب إليه ، لعلمه باختيار الله ذلك له .
وروى عن إبراهيم الخواص أنه قال : كنت في طريق مكة ، فرأيت شخصاً حسناً فقلت : أجنيٌ أم إنسيٌ ؟ فقال : بل جنيٌّ . فقلت : إلى أين ؟ فقال : إلى مكة . قلت : بلا زاد ؟ قال : نعم ، فينا أيضاً من يُسافر على التوكل . فقلت له : ما التوكل ؟ قال : الأخذ من الله .
ذو النون أيضاً : هو انقطاع المطامع .
سهل أيضاً : معرفة معطي أرزاق المخلوقين ولا يصح لأحد التوكل حتى تكون السماء عنده كالصِفر والأرض عنده كالحديد ، لا ينزل من السماء مطر ولا يخرج من الأرض نبات ، ويعلم أن الله لا ينسى ما ضمن له من رزقه بين هذين .
وعن بعضهم : هو أن لا يعصي الله من أجل رزقه .
وقال آخر : حسبك من التوكل أن لا تطلب لنفسك ناصراً غير الله ولا لرزقك خازناً غيره ولا لعملك شاهداً غيره .
الجنيد ( رحمه الله ) : التوكل أن تقبل بالكلية على ربّك ، وتعرض ممّن دونه .
النوري : هو أن يفني تدبيرك في تدبيره ، وترضى بالله وكيلا ومدبراً ، قال الله عزّ وجلّ : ) وكفى بالله وكيلا ( وقيل : هو اكتفاء العبد الذليل بالربّ الجليل ، كاكتفاء الخليل بالخليل حين لم ينظر إلى عناية جبرئيل .
وقيل : هو السكون عن الحركات اعتماداً على خالق الأرض والسماوات
(3/193)

" صفحة رقم 194 "
وقيل لبهلول المجنون : متى يكون العبد متوكلاً ؟ قال : إذا كان النفس غريباً بين الخلق ، والقلب قريباً إلى الحق .
وعن محمد بن عمران قال : قيل لحاتم الأصم : على ما بنيت أمرك هذا من التوكل ؟ قال : أربع خلال : علمت أن رزقي ليس يأكله غيري فلست أُشغل به ، وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به ، وعلمت أن الموت يأتيني بغتة فأنا أُبادره ، وعلمت أني بعين الله في كل حال فأنا مستحي منه .
وعن أبي موسى ( الوبيلي ) قال : سألت عبد الرحمن بن يحيى عن التوكل فقال لي : لو أدخلت يدك في فم التنين حتى تبلغ الرسغ ، لم تخف مع الله شيئاً .
قال أبو موسى : ( ذهبت ) إلى أبي يزيد البسطامي : أسأله عن التوكل ، فدخلت بسطام ودفعت عليه الباب فقال لي : يا أبا موسى ما كان لك في جواب عبد الرحمن من القناعة حتى تجيء وتسألني ؟ فقلت : افتح الباب ، فقال : لو زرتني لفتحت لك الباب ، ( وإذا ) جاء الجواب من الباب فانصرف : لو أن الحيّة المطوقة بالعرش همّت بك لم تخف مع الله شيئاً .
قال أبو موسى : فانصرفت حتى جئت إلى دبيل فأقمت بها سنة ، ثم أعتقدت الزيارة فخرجت إلى أبي يزيد فقال : زرتني مرحباً بالزائرين ( لا ) أخرجك ، قال : فأقمت عنده شهراً لا يقع لي شيء إلاّ أخبرني قبل أن أسأله فقلت له : يا أبا يزيد أخرج وأريد فائدة منك أخرج بها من عندك .
قال لي : اعلم أن فائدة المخلوقين ليست بفائدة ، حدثتني أُمّي أنها كانت حاملة بي وكانت إذا قدمت لها القصعة من حلال امتدت يدها وأكلت ، وإذا قدمت من حرام جفت فلم تأكل ، اجعلها فائدة وانصرف . فجعلتها فائدة وانصرفت .
وروى طاوس اليماني ( رحمه الله ) قال : رأيت أعرابياً قد جاء براحلة له فأبركها وعقلها ، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال : اللهم إن هذه الراحلة وما عليها في ضمانك حتى أخرج إليها . فخرج الأعرابي وقد أخذت الراحلة وما عليها ، فرفع رأسه إلى السماء فقال : اللهم إنه ما سرق مني شيء وما سرق إلاّ منك . فقال طاوس : فنحن كذلك مع الأعرابي إذ رأينا رجلا من رأس أبي قبيس يقود الراحلة بيده اليسرى ويمينه مقطوعة معلقة في عنقه ، حتى جاء إلى الأعرابي وقال له : هاك راحلتك وما عليها . فقيل له : وما حالك ؟ فقال : استقبلني فارس على فرس أشهب في رأس أبي قبيس فقال : يا سارق مدّ يدك فمددتها فوضعها على حجر ثم أخذ آخر فقطعها به وعلقها في عنقي وقال : انزل فرد الراحلة وما عليها إلى الأعرابي .
(3/194)

" صفحة رقم 195 "
وعن أبي تميم الحبشاني قال : سمعت عمر يقول : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً وتروح بطانا ) .
روى محمد بن كعب عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله ، ومن سرّه أن يكون أكرم الناس فليتق الله عزّ وجلّ ومن سرّه أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق ممّا في يديه ) .
وكان عمر ( رضي الله عنه ) يتمثل بهذين البيتين :
هوّن عليك فإن الأمور
بأمر الإله مقاديرها
نفس ليأتيك مصروفها
ولا عادك عنك مقدورها
آل عمران : ( 160 ) إن ينصركم الله . . . . .
) إن ينصركم الله ( يعينكم الله من عدوكم ) فلا غالب لكم ( في يوم بدر ) وإن يخذلكم ( يترككم ولا ينصركم ، والخذلان : القعود عن النصرة والاستسلام للهلكة والمكروه ، ويقال للبقرة والظبية إذا تركت ولدها وتخلفت عنها : خذلت فهو خذول .
قال طرفة :
خذول تراعي ربرباً بخميلة
تناول أطراف البرير وترتدي
وأنشد :
نظرت إليك بعين جارية
خذلت صواحبها على طفل
وقرأ أبو عبيد بن عمير : ( وإن يُخذِلكم ) بضم الياء وكسر الذال ، أي نجعلكم مخذولين ونحملكم على الخذلان والتخاذل كما فعلتم بأُحد .
) فمن ذا الذي ينصركم من بعده ( أي من بعد خذلانه ) وعلى الله فليتوكل المؤمنون }
آل عمران : ( 161 ) وما كان لنبي . . . . .
) وما كان لنبي أن يغل ( الآية .
روى عكرمة ومقسم عن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ، فقال بعض الناس : أخذها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وروى جويبر بن الضحاك عنه : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما وقع في يده غنائم هوازن يوم حنين غلّه رجل بإبرة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية
(3/195)

" صفحة رقم 196 "
وقال الكلبي ومقاتل : نزلت في غنائم أُحد حين ترك الرماة المركز ، وطلبوا الغنيمة وقالوا : نخشى أن يقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من أخذ شيئاً فهو له ، وأن لا يقسّم الغنائم كما لم يقسّم يوم بدر ، فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري ؟ ) قالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفاً ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( بل ظننتم أن نغل ولا نقسم ) فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وروى بعضهم عن الضحاك عن ابن عباس أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعث طلائع فغنمت ، فقسمها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يقسم للطلائع ، فلما قدمت الطلائع قالوا : قسم الفيء ولم يقسم لنا ، فنزلت هذه الآية .
قال قتادة : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت على النبي ( عليه السلام ) وقد غلّ طوائف من أصحابه .
وفي بعض التفاسير : أن الأقوياء ألحّوا عليه يسألونه عن المغنم ، فأنزل الله عزّ وجلّ ) وما كان لنبي أن يغل ( فيعطي قوماً ويمنع آخرين ، بل عليه أن يقسم بالسوية ولا يحرم أحداً .
وقال محمد بن إسحاق بن يسار : هذا في الوحي يقول : ما كان لنبي أن يغل ويكتم شيئاً من وحي الله عزّ وجلّ رغبة أو رهبة أو مداهنة ، وذلك أنهم كانوا يكرهون ما في القرآن من عيب دينهم وسب آلهتهم ، فسألوه أن يطوي ذلك ، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية .
فأما التفسير فقرأ السلمي ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو وعاصم : ( يَغَل ) بفتح الياء وفتح الغين ، وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيدة .
وقرأ الباقون : بضم الياء وفتح الغين وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي حاتم ، فمعناه أن يخون ، والمراد به الأمة .
وقال بعض أهل المعاني : اللام فيه منقولة ، معناه : ما كان النبي ليغل ، وما كان الله عزّ وجلّ أن يتخذ من ولد ، أي ما كان الله ليتخذ من ولد .
وقال بعضهم : هذا من ألطف التعريض لها بأن ( برأ ساحة ) النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الغلول ، دلّ على أن الغلول في غيره ، ونظيره قوله عزّ وجلّ : ) وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ( وهذا معنى قول السدي .
وقال المفضل : معناه ما كان يظن به ذلك ولا يشبهه ولا يليق به ، فاحتج أهل هذه القراءة بقول ابن عباس : كيف لا يكون له أن يغل وقد كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من الأنبياء يقتل
(3/196)

" صفحة رقم 197 "
ومن قرأ بضم الياء فله وجهان :
أحدهما : أن يكون من الغلول ، أي ما كان النبي أن يغل ، أي أن يخان ، يعني أن تخونه أُمّته .
والوجه الآخر : أن يكون من الإغلال ، معناه ما كان لنبي أن يخون أو يُنسب إلى الخيانة أو يوجد خائناً أو يدخل في جملة الخائنين ، فيكون أغل وغلل بمعنى واحد ، كقوله : ) فإنهم لا يكذبونك ( وقوله : ) فمهل الكافرين أمهلهم رويداً ( .
وقال المبرد : تقول العرب : أكفرت الرجل بمعنى جعلته كافراً ونسبته إلى الكفر وحملته عليه ووجدته كافراً ولحقته بالكافرين .
) ومن يغل يأت بما غل يوم القيامة ( ، قال الكلبي : يمثل له ذلك الشيء في النار ثم يقال له : انزل فخذه ، فينزل فيحمله على ظهره ، فإذا بلغ موضعه وقع في النار ثم كلفه أن ينزل إليه فيخرجه فيفعل ذلك .
وروى أبو زرعة عن أبي هريرة قال : قام فينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً خطيباً فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره وقال : ( لا ألقينَّ أحدكم يجيء على رقبته يوم القيامة بعير له رغاء يقول : يا رسول الله أغثني ؟ فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك ، ولا ألقينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول : يا رسول الله أغنني ؟ فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك ، ولا ألقينَّ أحدكم بصامت يقول : يا رسول الله اغنني ؟ فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك ، ولا ألقينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة يقول : يا رسول الله أغنني ؟ فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك ، ولا ألقينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخنق يقول : يا رسول الله أغنني ؟ فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد أبلغتك ) .
وحدث سالم بن أبي الجعد عن عبد الله بن عمرو قال : كان على ثقل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رجل يقال له كركرة فمات ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( هو في النار ) فوجدوا عليه عباءة قد غلّها .
وحدث الزهري عن عروة عن أبي حميد الساعدي قال : بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رجلا من الأزد يقال له أبو اللبيبة على الصدقة ، فجاء فقال : هذا لكم وهذا أُهدي له ، فقام النبي صلى الله عليه وسل
(3/197)

" صفحة رقم 198 "
فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( ما بال العامل يبعث فيجيء فيقول هذا لكم وهذا أهدي إليَّ ، أفلا يجلس في بيت أبيه أو أمّه وينظر ما يُهدى إليه ، والذي نفس محمد بيده لا يبعث أحد منكم فيأخذ منه شيئاً إلاّ جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته ، إن كان بعيراً له رغاء أو بقرة له خوار أو شاة يثغر ثم رفع يديه حتى رأيت عفرة أبطيه فقال : اللهم قد بلغت ) .
وعن زيد بن خالد : أن رجلا من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) توفي يوم خيبر فذكروا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( صلّوا على صاحبكم ) فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال : ( إن صاحبكم غلَّ في سبيل الله ) ففتشنا متاعه لذلك ، فوجدنا خرزاً من خرز اليهود لا يساوي درهمين .
وعن أبي هريرة قال : خرجنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم خيبر فلم يغنم ذهباً ولا ورقاً إلاّ الثياب والمتاع قال : فتوجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) نحو وادي القرى وقد أُهدي لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقال له مدعم فبينا مدعم يحطّ رجل رسول الله إذ جاءه سهم فقتله ، فقال الناس : هنيئاً له الجنة .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كلاّ والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه ناراً ) . فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( شراك من نار أو شراكان من نار ) .
وعن عبيد الله بن عمير قال : كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيجمعه ويقسمه ، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال : يا رسول الله هذا فيما كنّا أصبنا من الغنيمة فقال : ( أسمعت قد نادى ثلاثاً ؟ ) قال : نعم ، قال : ( فما منعك أن تجيء به ) فاعتذر إليه ، فقال : ( كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله عنك ) .
وعن صالح بن محمد بن مائدة قال : دخلت مع مسلمة أرض الروم ، فأُتي برجل قد غَلّ فسئل سالم عنه فقال : سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا وجدتم الرجل قد غلّ فاحرقوا متاعه واضربوه ) قال : فوجدنا في متاعه مصحفاً ، فسأل رجل سالماً عنه فقال : بعه وتصدق بثمنه .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد حرقوا متاع الغال وضربوه وفي بعض الروايات ومنعوه سهمه .
وعن صالح بن محمد قال : غزونا مع الوليد بن هشام ومعنا سالم بن عبد الله بن عمر
(3/198)

" صفحة رقم 199 "
وعمر بن عبد العزيز فغلّ رجل متاعاً ، فأمر الوليد بمتاعه فأحرق وطيف به ولم يعطه سهمه
آل عمران : ( 162 ) أفمن اتبع رضوان . . . . .
) أفمن اتبع رضوان الله ( بترك الغلول ) كمن باء بسخط من الله ( فغلَّ ) ومأواه جهنم وبئس المصير }
آل عمران : ( 163 ) هم درجات عند . . . . .
) هم درجات ( يعني ذو درجات ) عند الله ( .
وقال ابن عباس : يعني أن من اتبع رضوان الله ومن باء بسخط من الله مختلف المنازل عند الله تعالى ، فلمن اتبع رضوان الله الكرامة والثواب العظيم ، ولمن باء بسخط من الله المهانة والعذاب الأليم .
) والله بصير بما يعملون }
آل عمران : ( 164 ) لقد من الله . . . . .
) لقد منّ الله على المؤمنين ( .
قال بعضهم : لفظ الآية عام ومعناها خاص ، إذ ليس حي من أحياء العرب إلاّ وقد قلّدوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وليس فيهم نسب إلاّ بني تغلب ، فإن الله طهّره منهم لما فيهم من دنس النصرانية إذ ثبتوا عليها ، وبيان هذا التأويل قوله : ) هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ( .
وقال الآخرون : ( هو ) أراد به المؤمنين كلهم ، ومعنى قوله : ) من أنفسهم ( بالإيمان والشفقة لا بالنسب كما يقول القائل : أنت نفسي ، يدل عليه قوله : ) لقد جاءكم رسول من أنفسكم ( الآية .
) يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل ( وقد كانوا من قبل بعثه ، وهو رفع على الغاية ) لفي ضلال مبين }
آل عمران : ( 165 ) أو لما أصابتكم . . . . .
) أولما ( أو حين ) أصابتكم مصيبة ( أُحد ) قد أصبتم مثليها ( ببدر ، وذلك أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أُحد سبعين وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين ) قلتم أنى هذا ( من أين لنا هذا القتل والهزيمة ونحن مسلمون ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فينا والوحي ينزل علينا وهم مشركون .
وروى عبيدة السلماني عن علي قال : جاء جبرئيل ( عليه السلام ) إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى ، وقد أمرك أن تخيّرهم بين أن يقدموا فتضرب أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم ، فذكر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك للناس فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وإخواننا ، لا بل نأخذ فداءهم فنتقوى بها على قتال عدونا ، منّا عدتهم فليس في ذلك ما نكره ، قال : فقتل منهم يوم أُحد سبعون رجلا عدد أُسارى يوم بدر ، فمعنى قوله : ) قل هو من عند أنفسكم ( على هذا التأويل أي : بأخذكم الفداء واختياركم القتل .
) إن الله على كل شيء قدير }
آل عمران : ( 166 ) وما أصابكم يوم . . . . .
) وما أصابكم ( يا معشر المؤمنين ) يوم التقى الجمعان ( بأُحد
(3/199)

" صفحة رقم 200 "
من القتل والجرح والهزيمة والمصيبة ) فبإذن الله ( بقضائه وقدره وعلمه ) وليعلم المؤمنين ( أي ليميّز ، وقيل : ليرى ، وقيل : لتعلموا أنتم أن الله عزّ وجلّ قد علم ما فيهم وأنتم لم تكونوا تعلمون ذلك
آل عمران : ( 167 ) وليعلم الذين نافقوا . . . . .
) وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله ( لأجل دين الله وطاعته ) أو ادفعوا ( عن أهلكم وبلدتكم وحريمكم .
وقال السدي والفراء وأبو عون الأنصاري : أي كثروا سواد المسلمين ، ورابطوا إن لم تقاتلوا ، كون ذلك دفعاً وقمعاً للعدو ) قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم ( وهم عبد الله بن أُبي وأصحابه الذين انصرفوا عن أُحد وكانوا ثلثمائة ، قال الله : ) هم للكفر ( أي إلى الكفر ) يومئذ أقرب منهم للإيمان ( أي في الإيمان ) يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ( وذلك أنهم كانوا ينكرون الإيمان ويضمرون الكفر ، فبيّن الله عزّ وجلّ نفاقهم ) والله أعلم بما يكتمون (
آل عمران : ( 168 ) الذين قالوا لإخوانهم . . . . .
) الذين قالوا لإخوانهم ( في النسب لا في الدين ، وهم بهذا واحد ) وقعدوا ( يعني وقعد هؤلاء القاعدون عن الجهاد ) لو أطاعونا ( وانصرفوا عن محمد وقعدوا في بيوتهم ) ما قتلوا قل ( لهم يا محمد ) فادرؤوا ( فادفعوا ) عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ( إن الحذر لا يغني عن القدر .
2 ( ) وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَوْاْ أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذاَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِى الاَْخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئاً وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاَِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ( 2
آل عمران : ( 169 ) ولا تحسبن الذين . . . . .
) ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ( الآية .
قال بعضهم : نزلت هذه الآية في شهداء بدر ، وكانوا أربعة عشر رجلاً ، ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين ، وقال آخرون : نزلت في شهداء أُحد ، وكانوا سبعين رجلاً ، أربعة من المهاجرين ، حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شماس وعبد الله بن جحش وسائرهم من الأنصار .
وروى ابن الزبير وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لما أُصيب
(3/200)

" صفحة رقم 201 "
إخوانكم يوم أُحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر تزور أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح من الجنة حيث شاءت ، وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش ، فلمّا وجدوا طيب مقيلهم ومطعمهم ومشربهم ، ورأوا ما أعد الله تعالى لهم من الكرامة .
قالوا : يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع الله بنا ، كي يرغبوا في الجهاد ولا ينكلوا عنه ، فقال الله تعالى : أنا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم ، ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل الله تعالى ) ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ( إلى قوله ) أجر المؤمنين ( ) .
قال قتادة والربيع : ذُكر لنا أنّ رجلا من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : يا ليتنا نعلم ما فعل بإخواننا الذين قتلوا يوم أُحد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال مسروق : سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية فقال : جعل الله عزّ وجلّ أرواح شهداء أُحد في أجواف طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش ، قال : فأطلع الله تعالى عليهم اطلاعة فقال : هل تشتهون من شيء فأزيدكموه ؟ قالوا : ربّنا ألسنا نسرح في الجنة في أيّها شئنا ، ثم اطلع عليهم الثانية فقال : هل تشتهون من شيء فأزيدكموه ؟ فقالوا : ربّنا أليس فوق ما أعطيتنا شيئاً إلاّ أن نحب أن تعيدنا أحياء ، ونرجع إلى الدنيا فنقاتل في سبيلك فنقتل مرة أخرى فيك قال : لا . فقالوا : فتقرىء نبيّنا منّا السلام وتخبره بأن قد رضينا ورضي عنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال جابر بن عبد الله : قتل أبي يوم أُحد وترك عليَّ بنات فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألاّ أُبشرك يا جابر ) قلت : بلى يا نبي الله قال : ( إنّ أباك حيث أُصيب بأُحد أحياه الله وكلمه كلاماً فقال : يا عبد الله سلني ما شئت قال : أسألك أن تعيدني إلى الدنيا فأُقتل فيك ثانياً ، فقال : يا عبد الله إني قضيت أن لا أعيد خليقة إلى الدنيا . قال : يا ربِّ فمن يبلّغ قومي ما أنا فيه من الكرامة . قال الله تعالى : أنا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ) .
حميد عن أنس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرّها أن ترجع إلى الدنيا ولها الدنيا وما فيها إلاّ الشهيد لما يرى من فضل الشهادة فيتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أُخرى ) .
وقال بعضهم : نزلت في شهداء بئر معونة ، وكان سبب ذلك على ما روى محمد بن
(3/201)

" صفحة رقم 202 "
إسحاق بن يسار عن أبيه عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحرث بن هشام ، وعبد الله بن أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم ، وعن حميد الطويل عن أنس بن مالك وغيرهم من أهل العلم قالوا : قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنّة وكان سيد بني عامر بن صعصعة على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة وأهدى إليه هدية ، فأبى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يقبلها وقال : ( يا أبا براء أنا لا أقبل هدية مشرك فأسلم إن أردت أن أقبل هديتك ) ثم عرض عليه ، وأخبره بما له فيها وما وعد الله المؤمنين من الثواب ، وقرأ عليه القرآن فلم يسلم ولم يبعد وقال : يا محمد إن أمرك هذا الذي تدعو إليه حسن جميل ، فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل نجد فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إني أخشى عليهم أهل نجد ) فقال أبو براء : أنا لهم جار أي هم في جواري فابعثهم ليدعوا الناس إلى أمرك . فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في سبعين رجلاً من خيار المسلمين ، فيهم الحارث بن الضمة وحَرام بن ملحان وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي ونافع بن ورقاء الخزاعي وعامر بن فهير مولى أبي بكر ، وذلك في صَفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أُحد ، فساروا حتى نزلوا بين معونة وهي أرض بين أرض بني عامر وحرة بني سليم ، فلما نزلوها قال بعضهم لبعض : أيّكم يبلغ رسالة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أهل هذا الماء ؟ فقال حَرام بن ملحان : أنا ، فخرج بكتاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أبي عامر بن الطفيل وكان على ذلك الماء ، فلما أتاهم حَرام بن ملحان لم ينظر عامر بن الطفيل في كتاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال حرام : يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله إليكم وإني أشهد أن لا إلاه إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله فآمنوا بالله ورسوله .
فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر ، فقال : الله أكبر فزت وربّ الكعبة . ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين ، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا : لن نخفر أبا براء وقد عقد لهم عقداً وجواراً . فاستصرخ قبائل من بني سليم عصبة ورعيل وذكوان فأجابوه إلى ذلك ، فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوهم في رجالهم ، فلما رأوهم أخذوا السيوف ثم قاتلوهم حتى قتلوا من آخرهم إلاّ كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق ، فارتث من بين القتلى فعاش حتى قتل يوم الخندق .
وكان في سرح القوم عمرو بن أميّة الضمري ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف ، فلم ينبههما على مصاف أصحابهما إلاّ الطير يحوم على العسكر فقالا : والله إن لهذا الطير لشأناً ، فأقبلا لينظرا إليه فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة ، فقال الأنصاري لعمرو بن أميّة : ماذا ترى ؟ قال : أرى أن نلحق برسول الله فنخبره الخبر ، فقال الأنصاري : لكني
(3/202)

" صفحة رقم 203 "
لا أرغب بنفسي عن موطن قُتل فيه المنذر بن عمرو ، ثم قاتل القوم حتى قُتل ، وأخذوا عمرو بن أمية أسيراً ، فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمّه ، فقدم عمرو بن أمية على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبره الخبر ، فقال رسول الله : ( هذا عمل أبي براء قد كنت لهذا كارهاً متخوفاً ) فبلغ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر إياه وما أصاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بسببه وجواره ، وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة .
وروى محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة : أن عامر بن الطفيل كان يقول : من الرجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه ، قالوا : هو عامر بن فهيرة .
قالوا وقال حسان بن ثابت يحرض أبي براء على عامر بن الطفيل :
فتى أم البنين ألم يرعكم
وأنتم من ذوايب أهل نجد
نهكم عامر بأبي براء
ليخفره وما خطأ كعمد
ألا أبلغ ربيعة ذا المساعي
فما أحدثت في الحدثان بعدي
أبوك أبو الحروب أبو براء
وخالك ماجد حكم بن سعد
وقال كعب بن مالك في ذلك .
لقد طارت شعاعاً كل وجه
خفارة ما أجار أبو براء
بني أم البنين أما سمعتم
دعاء المستغيث مع النساء
وتنويه الصريخ بلى ولكن
عرفتم أنه صدّق اللقاء
فلما بلغ ربيعة من البراء قول حسان وقول كعب بن مالك ، حمل على عامر بن الطفيل وطعنه فخر عن فرسه فقال : هذا عمل أبي براء ، إن متُّ فدمي لعمي ولأتبعنّ به وإن أعش فسأرى فيه الرأي . وقال إسحاق بن أبي طلحة حدثني أنس بن مالك قال : أنزل الله تعالى في شهداء بئر معونة قرآناً بلّغوا قومنا عنا إنا قد لقينا ربّنا فرضى عنّا ورضينا عنه ، ثم نسخت ورفعت بعد ما قرأناها زماناً وأنزل الله عزّ وجلّ ) ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً ( الآية .
وقال بعضهم : إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سروراً تحسروا على الشهداء وقالوا : نحن في النعمة والسرور وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور ، فأنزل الله عزّ وجلّ تنفيساً عنهم وإخباراً عن حال قتلاهم ) ولا تحسبن ( ولا تظنن وروى هشام عن أهل الشام : ( يحسبن )
(3/203)

" صفحة رقم 204 "
بالياء . وقرأ الحسن وابن عامر : ( الذين قتّلوا ) مشدداً ، ( أمواتاً ) كموت من لم يقتل في سبيل الله ، ونصب أمواتاً على المفعول الثاني ، لأن الحسبان يتعدى إلى مفعولين ، فإذا قلت : حسبت زيداً ، لا يكون كلاماً تاماً حتى تقول : قائماً أو قاعداً ) بل أحياء ( تقديره : بل هم أحياء .
وقرأ ابن أبي عبلة : أحياءً نصباً أي أحسبهم أحياء ) عند ربهم ( .
وقال بعضهم : يعني أحياء في الدنيا حقيقة ، وقيل : ( في العالم ) وقيل : بالثناء والذكر ، كما قيل :
موت التقي حياة لا فناء لها
قد مات قوم وهم في الناس أحياء
وقيل : ممّا هم أحياء .
) ربّهم يرزقون ( ويأكلون ويتنعمون كالأحياء ، وقيل : إنه يكتب لهم في كل سنة ثواب غزوة ويشتركون في فضل كل مجاهد يكون في الدنيا إلى يوم القيامة ، لأنهم سلوا أمر الجهاد ، فيرجع أجر من يقتدي بهم إليهم ، نظيره قوله : ) كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً ( الآية ، وقيل : لأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة ، كأرواح الأحياء من المؤمنين الذين باتوا على الوضوء . وقيل : لأن الشهيد لا يبلى في القبر ولا تأكله الأرض .
يقال : أربعة لا تبلى أجسادهم : الأنبياء والعلماء والشهداء وحملة القرآن .
وعن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة : أنه بلغه أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاريين ثم السلميين ، كانا قد خرّب السيل قبرهما وكانا في قبر واحد وهما من شهداء أُحد ، وكان قبرهما ممّا يلي السيل ، فحفر عنهما ليغيّروا عن مكانهما فوجدا لم يتغيرا ، كأنهما ماتا بالأمس ، وكان قد جرح فوضع يده على جرحه فدفن وهو كذلك ، فأميطت يده عن جرحه ثم أرسلت فرجعت كما كانت ، وكان بين يوم أُحد وبين يوم حُفر عنهما ستة وأربعون سنة . وقيل : سمّوا أحياءً لأنهم لا يغسّلون كما لا يغسل الأحياء .
وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( زمّلوهم في كلومهم ودمائهم ، اللون لون الدم والريح ريح المسك ) .
وقال عبيد بن عمر : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حين انصرف يوم أُحد مرَّ على مصعب بن عمير
(3/204)

" صفحة رقم 205 "
وهو مقتول فوقف عليه ودعا ثم قرأ : ) من المؤمنين رجال صدقوا ( الآية ، ثم قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن رسول الله يشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة ، فأتوهم وزوروهم وسلّموا عليهم ، فوالذي نفسي بيده لا يسلّم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلاّ ردّوا عليه ، يرزقون من ثمار الجنة وتحفها ) .
آل عمران : ( 170 ) فرحين بما آتاهم . . . . .
) فرحين ( نصب على الحال والقطع من قوله ) يرزقون ( .
وقرأ ابن السميقع : ( فارحين ) بالألف ، وهما لغتان كالفرة والفأرة والحذر والحاذر والطمع والطامع والبخل والباخل .
) بما آتاهم الله من فضله ( من ثوابه ) ويستبشرون ( يفرحون ، وأصله من البشرة ، لأن الإنسان إذا فرح ظهر أثر السرور في بشرة وجهه ) بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ( من إخوانهم الذين فارقوهم وهم أحياء في الدنيا على منهاجهم من الإيمان والجهاد ، لعلمهم بأنهم إن استشهدوا لحقوا بهم فصاروا من كرائم الله عزّ وجلّ إلى مثل ما صاروا هم إليهم ، فهم لذلك مستبشرون .
وقال السدي : يؤتى الشهيد بكتاب فيه من تقدم عليه من إخوانه وأهله فيقال : تقدم فلان عليك يوم كذا وتقدم فلان يوم كذا ، فيستبشر حين يقدم عليه كما يستبشر أهل الغائب بقدومه في الدنيا .
) ألاّ خوف عليهم ( يعني بأن لا خوف ) عليهم ولا هم يحزنون }
آل عمران : ( 171 ) يستبشرون بنعمة من . . . . .
) يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله ( يعني وبأن الله في محل الخفض على قوله : ) بنعمة من الله وفضل ( .
وقرأ الكسائي والفرّاء والمفضل ومحمد بن عيسى : ( وأن الله ) بكسر الألف على الاستثناء ، ودليلهم قراءة ابن مسعود ) والله ( ( لا يضيع أجر المؤمنين ) .
قال الكلبي باسناده : إن العبد إذا لقى العدو في سبيل الله ، فتح له باب من السماء وأطلعت عليه زوجتاه من الحور العين ، فإذا أقبل على العدو يقاتلهم قالتا : اللهم وفقه وسدّده ، وإذا أدبر عن العدو قالتا : اللهم أعف وتجاوز ، فإذا قتل يباهي الله عزّ وجلّ به الملائكة فيقول لهم : انظروا إلى عبدي بذل نفسه ودمه ابتغاء مرضاتي ، فتقول الملائكة : يا ربّ أفلا تذهب فتنصره على من يريد قتله ؟ فيقول لهم : خلّوا عن عبدي ، فقد سهر ونصب في طلب مرضاتي ، أحبَّ لقائي وأحببت لقاءه . فينزل إليه زوجتاه من الحور العين ، ويأمر الله الملائكة أن يأتوه من آفاق الأرض ، فيحبونه ويبشرونه بالجنة والكرامة من الله تعالى ، فإذا فعلوا ذلك بعث الله إليهم :
(3/205)

" صفحة رقم 206 "
أن خلّوا بين عبدي وبين زوجته حتى يستريح ، فتقول زوجتاه : لقد كنا إليك بالأشواق ، ويقول لهما مثل ذلك .
وعن الحسين بن علي ( عليه السلام ) قال : بينما علي بن أبي طالب يخطب الناس ويحثهم على الجهاد إذ قام إليه شاب وقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل الله ؟ قال : كنت رديف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على ناقته العصباء ونحن منقلبون من غزوة ، فسألته عمّا سألتني عنه فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الغزاة إذا همّوا بالغزو كتب الله تعالى لهم براءة من النار ، فإذا تجهزوا لغزوهم باهى الله تعالى بهم الملائكة ، فإذا ودعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان والبيوت ، ويخرجون من ذنوبهم كما تخرج الحية من سلخها ، يوكل عزّ وجلّ بكل رجل منهم أربعين ألف ملك يحفظونه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، ولا يعمل حسنة إلاّ ضعفت له ، وكتب له كل يوم عبادة ألف رجل يعبدون الله عزّ وجلّ ألف سنة كل سنة ثلاثمائة وستون يوماً ، اليوم مثل عمر الدنيا ، فإذا صاروا بحضرة عدوّهم انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب الله إياهم ، فإذا برزوا لعدوّهم وأشرعت الأسنّة وفوّقت السهام وتقدم الرجل إلى الرجل حفّتهم الملائكة بأجنحتها ويدعون الله لهم بالنصرة والتثبت ، ونادى مناد : الجنة تحت ظلال السيوف ، فتكون الضربة والطعنة على الشهيد أهون من شرب الماء البارد في اليوم الصائف ، وإذا زال الشهيد عن فرسه بطعنة أو ضربة لم يصل إلى الأرض حتى يبعث الله تعالى إليه زوجته من الحور العين فتبشره بما أعد الله له من الكرامة ، وإذا وصل إلى الأرض تقول له الأرض : مرحباً بالروح الطيب التي أُخرجت من البدن الطيب أبشر فإن لك ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
ويقول الله تعالى : أنا خليفته في أهله ، من أرضاهم فقد أرضاني ومن أسخطهم فقد أسخطني ، ويجعل الله روحه في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث تشاء تأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة بالعرش ، ويعطى الرجل منهم سبعين غرفة من غرف الفردوس ، سلوك كل غرفة ما بين صنعاء والشام يملأ نورها ما بين الخافقين ، في كل غرفة سبعون باباً ، على كل باب سبعون مصراعاً من ذهب ، وعلى كل باب سبعون غرفة مسبلة ، وفي كل غرفة سبعون خيمة ، في كل خيمة سبعون سريراً من ذهب قوائمها الدر والزبرجد ، مزمولة بقضبان الزمرد ، على كل سرير أربعون فراشاً ، غلظ كل فراش أربعون ذراعاً ، على كل فراش زوجة من الحور العين ) عُرباً أتراباً ( ) .
فقال الشاب : يا أمير المؤمنين أخبرني عن العروبة ؟ قال : ( هي الغنجة الرضية المرضية الشهية ، لها ألف وصيف وسبعون ألف وصيفة ، صفر الحلي بيض الوجوه ، عليهن تيجان اللؤلؤ
(3/206)

" صفحة رقم 207 "
على رقابهم المناديل ، بأيديهم الأكواب والأباريق ، وإذا كان يوم القيامة يخرج من قبره شاهراً سيفه تشخب أوداجه دماً ، اللون لون الدم والرائحة رائحة المسك ، يخطو في عرصة القيامة . فوالذي نفسي بيده لو كان الأنبياء على طريقهم لترجّلوا لهم ، ممّا يرون من بهائهم ، حتى يأتوا إلى موائد من الجواهر فيقعدون عليها ، ويشفع الرجل منهم في سبعين ألف من أهل بيته وجيرته ، حتى أن الجارين يتخاصمان أيهما أقرب جواراً فيقعدون معي ومع إبراهيم على مائدة الخلد ، فينظرون إلى الله في كل يوم بكرة وعشية ) .
وروى مكحول عن كثير بن مرة عن قيس الجذامي : رجل كانت له صحبة قال : قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يُعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه : يكفّر عنه كل خطيئة ، ويرى مقعده من الجنة ، ويزوَّج من الحور العين ، ويؤمن الفزع الأكبر وعذاب القبر ، ويحلّى بحلية الإيمان ) .
ثابت بن أسلم البناني عن أنس بن مالك قال : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في بعض غزواته فأتاه رجل أسود فقال : يا رسول الله إني أسود قبيح الوجه منتن الريح لا مال لي ، فإن قاتلت هؤلاء حتى أُقتل فأين أنا ؟ قال : ( في الجنة ) قال : فحمل عليهم فقاتل حتى قُتل ، قال : فجاء رسول الله ( عليه السلام ) حتى وقف على رأسه فقال : ( لقد بيّض الله وجهك وطيّب ريحك وأكثر مالك ) ثم قال : ( لقد رأيت زوجتيه من الحور العين في الجنة تنازعانه جبة له من صوف ، ليدخلا بينه وبين جبته ) .
أبو صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما يجد الشهيد من القتل في سبيل الله إلاّ كما يجد أحدكم مسَّ القرصة ) .
وفي غير هذا الحديث : ( عضة نملة أشد على الشهيد من مس السلاح ) .
وعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن لله عباداً يصونهم عن القتل والزلازل والأسقام ، يطيل أعمارهم في حسن العمل ، ويحسن أرزاقهم ويُحييهم في عافية ويقبض أرواحهم في عافية على الفرش ، ويعطيهم منازل الشهداء ) .
آل عمران : ( 172 ) الذين استجابوا لله . . . . .
) الذين استجابوا لله والرسول ( الآية ، وذلك أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا عن
(3/207)

" صفحة رقم 208 "
المسلمين من أُحد فبلغوا الروحاء ، ندموا على انصرافهم وتلاوموا وقالوا : لا محمداً قتلتم ولا الكواعب أردفتم قتلتموهم حتى لم يبق منهم إلاّ الشريد ، تركتموهم ارجعوا فاستأصلوهم ، فبلغ ذلك الخبر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأراد أن يذهب العدو ويريهم من نفسه وأصحابه قوة ، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان ، فقال : ( ألا عصابة تشدد لأمر الله تطلب عدوها فإنها أنكأ للعدو وأبعد للسمع ) فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من الجروح والقروح الذي أصابهم يوم أُحد ، ونادى منادي رسول الله : ألا لا يخرجن فيها أحد إلاّ من حصر يومنا بالأمس ، فكلمه جابر بن عبد الله فقال : يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع ، وقال لي : يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة ولا رجلٌ فيهم ، ولست بالذي أُؤثرك على نفسي بالجهاد مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فتخلف على أخواتك ، فتخلفته عليهن ، فأذن له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فخرج معه ، وإنما خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مرعباً للعدو ليبلغهم أنه خرج في طلبهم فيظنوا به قوة ، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم فينصرفوا ، فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلا ، حتى بلغوا حمراء الأسد وهي من المدينة على ثلاثة أميال .
وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت لعبد الله بن الزبير : يابن أُختي أما والله إن أباك وجدّك يعني أبا بكر والزبير لمن الذين قال الله : ) الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح ( .
وروى محمد بن إسحاق عن عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السايب : أن رجلا من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من بني عبد الأشهل كان شهد أُحداً ، قال : شهدت أُحداً أنا وأخ لي فرجعنا جريحين ، فلما أذّن مؤذّن رسول الله بالخروج في طلب العدو قلنا : لا تفوتنا غزة مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فوالله ما لنا دابة نركبها وما منّا إلاّ جريح ثقيل ، فخرجنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكنت أيسر جرحاً من أخي وكنت إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة حتى انتهينا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى حمراء الأسد ، فمرَّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) معبد الخزاعي بحمراء الأسد ، وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بتهامة ، صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئاً كان بها ، ومعبد يومئذ مشرك فقال : يا محمد والله لقد عزّ علينا ما أصابك في أصحابك ولوددنا أن الله كان أعفاك فيهم ، ثم خرج من عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى لقى أبا سفيان ومن معه بالروحاء ، قد أجمعوا على الرجعة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا : قد أصبنا جلّ أصحابه وقادتهم وأشرافهم ، ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم لنكرّن على بقيتهم فلنفرغن منهم ، فلما رأى أبو سفيان معبداً قال : ما وراءك يا معبد ؟ قال : محمد قد خرج في أصحابه بطلبكم في جمع لم أرَ مثله قط ، يتحرقون عليكم تحرقاً قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على صنيعهم ، فيهم من الحنق عليكم شيء لم أرَ مثله قط ، قال : ويلك ما تقول ؟ قال : والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل ، قال
(3/208)

" صفحة رقم 209 "
فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنأتي على بقيتهم . قال : فإني والله أنهاك عن ذلك فقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتاً .
قال : وما قلت ؟ قال : قلت :
كادت تهدّ من الأصوات راحلتي
إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردي بأسد كرام لا تنابلة
عند اللقاء ولا خرق معاذيل
فظلت عدواً أظن الأرض مائلة
لمّا سمعوا برئيس غير مخذول
فقلت : ويٌ لابن حرب من لقائكم
إذا تغطمطت البطحاء بالجيل
إني نذير لأهل السير ضاحية
ولكل ذي إربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا وحش قنابله
وليس يوصف ما أثبت بالقيل
قال : فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه ، ومرَّ به ركب من عبد القيس فقال : أين تريدون ؟ قالوا : نريد المدينة نريد الميرة .
قال : فهل أنتم مبلّغون محمداً عني برسالة أرسلكم بها وأُحمّل لكم إبلكم هذه زبيباً بسوق عكاظ إذا وافيتمونا ؟ قالوا : نعم ، قال : فإذا جئتموه فأخبروه إنا قد أجمعنا إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم . وانصرف أبو سفيان إلى مكة ومرَّ الركب برسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان .
فقال رسول الله وأصحابه : حسبنا الله ونعم الوكيل ، ثم انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعد الثالثة إلى المدينة وقد ظفر في وجهه بمعاوية بن المغيرة بن العاص وأبي غرة الجمحي ، هذا قول أكثر المفسرين .
وقال مجاهد وعكرمة : نزلت هذه الآيات في غزوة بدر الصغرى ، وذلك أن أبا سفيان قال يوم أُحد حين أراد أن ينصرف : يا محمد موعدنا بيننا وبينك موسم بدر الصغرى لقابل إن شئت .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ذلك بيننا وبينك إن شاء الله ) فلما كان العام المقبل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مجنة من ناحية من الظهران ، ثم ألقى الله عزّ وجلّ الرعب في قلبه قبل الرجوع ، فلقى نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمراً فقال له أبو سفيان : يا نعيم إني واعدت محمداً وأصحابه أن نلتقي بموسم بدر الصغرى ، وإن هذه عام جدب ولا يصلحنا إلاّ عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن ، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها ، وأكره أن يخرج محمد ولا أخرج أنا ، فيزيدهم ذلك جرأة ، ولأن يكون الخلف من جهتهم أحبُّ إليَّ من أن يكون من قبلي ، فالحق بالمدينة فثبطهم وأعلمهم أنّا في جمع كثير ولا طاقة لهم بنا ، ولك عندي عشرة من الإبل أضعها لك على يدي سهيل بن عمرو يضمنها .
(3/209)

" صفحة رقم 210 "
قال : فجاء سهيل فقال له نعيم : يا أبا يزيد أتضمن لي هذه الفرائض فانطلق إلى محمد وإثبطه . قال : نعم ، فخرج نعيم حتى قدم المدينة فوجد الناس يتجهزون بميعاد أبو سفيان ، فقال : أين تريدون ؟ فقالوا : واعدنا أبو سفيان بموسم بدر الصغرى أن نقتتل بها .
قال : بئس الرأي رأيتم ، أتوكم في دياركم وقراكم فلم يفلت منكم إلاّ شريد ، فتريدون أن تخرجوا وقد جمعوا لكم عند الموسم ، والله لا يفلت منكم أحد . فكره أصحاب رسول الله الخروج ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( والذي نفسي بيده لأخرجنّ ولو وحدي ) فأما الجبان فرجع وأما الشجاع فإنه تأهب للقتال وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في أصحابه حتى وافوا بدر الصغرى ، فجعلوا يلقون المشركين ويسألونهم عن قريش فيقولون : قد جمعوا لكم . يريدون أن يرعبوا المسلمين ، فيقول المؤمنون : حسبنا الله ونعم الوكيل ، حتى لقوا بدر وهو ماء لبني كنانة وكانت موضع سوق لهم في الجاهلية يجتمعون إليها في كل عام ثمانية أيام فأقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ببدر ينتظر أبا سفيان ، وقد انصرف أبو سفيان من مجنة إلى مكة ، فسماهم أهل مكة جيش السويق وقالوا : إنما خرجتم تشربون السويق ، فلم يلق رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه أحداً من المشركين ببدر ، ووافوا السوق وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوها وأصابوا الدرهم والدرهمين ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين . فذلك قوله تعالى : ) الذين استجابوا لله والرسول ( .
ومحل ( الذين ) خفض على صفة المؤمنين تقديره ) وإن الله لا يضيع أجر المؤمنين ( المستجيبين لله والرسول ومعنى الاستجابة : الاجابة والطاعة ، نظيره قوله تعالى : ) فليستجيبوا لي ( فليطيعوا لي ) من بعد ما أصابهم القرح ( أي نالهم الجراح والكلوم ، وتم الكلام هاهنا ثم ابتدأ فقال : ) للذين أحسنوا منهم ( بطاعة رسول الله وإجابته إلى الغزو ) واتقوا ( معصيته وطاعته ) أجر عظيم ( ثواب كثير
آل عمران : ( 173 ) الذين قال لهم . . . . .
) الذين قال لهم الناس ( ومحل ( الذين ) خفض أيضاً مردود على الذين الأول ، وأراد ( بالناس ) نعيم ابن مسعود في قول مجاهد ومقاتل وعكرمة والواقدي ، وهو على هذا التأويل من العام الذي أُريد به الخاص ، نظيره قوله : ) أم يحسدون الناس ( يعني محمداً وحده ، وقوله : ) لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ( يريد الرجال وحده .
وقال ابن اسحاق وجماعة : يريد ب ( الناس ) الركب من عبد القيس وقد مضت قصتهم .
وقال السدي : لما تجهز رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه للمسير إلى ميعاد أبي سفيان ، أتاهم
(3/210)

" صفحة رقم 211 "
المنافقون وقالوا : نحن أصحابكم الذين نهيناكم عن الخروج إليهم فعصيتمونا ، وقد أتوكم في داركم وقاتلوكم وظفروا ، فإن أتيتموهم في ديارهم لا يرجع أحد منكم . فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل .
وقيل : ( الناس ) ساروا الناس في هذه الآية هم المنافقون .
وقال أبو معشر : دخل ناس من هذيل من أهل تهامة المدينة ، فسألهم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن أبي سفيان فقالوا : قد جمعوا لكم جموعاً كثيرة فاجتنبوهم . فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، فأنزل الله تعالى ) الذين قال لهم الناس ( يعني أولئك القوم من بني هذيل ) إن الناس ( يعني أبا سفيان وأصحابه ) قد جمعوا لكم فاخشوهم ( فخافوهم واحذروهم ، فإنه لا طاقة لكم بهم ) فزادهم ( ذلك ) إيماناً ( يعني تصديقاً ويقيناً وقوة وجرأة .
ذكر بعض ما ورد في الأخبار في زيادة الإيمان ونقصانه
روى مالك عن نافع عن ابن عمر قال : قلنا يا رسول الله الإيمان يزيد وينقص ؟ قال : ( نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار ) .
عطاء : إنما مجادلة أحدكم في الحق ، فيكون له في الدنيا بأشد من مجادلة المؤمنين لربّهم في إخوانهم الذين أدخلوا النار . قال : فيقولون : ربّنا إخواننا كانوا يصلّون معنا ويصومون معنا ويحجّون معنا فأدخلتهم النار . قال : فيقول : إذهبوا فأخرجوا من قد عرفتم منهم ، فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم ، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه ومنهم من أخذته إلى كعبيه ، فيخرجونهم فيقولون : ربّنا قد أخرجنا من أمرتنا . قال : ثم يقول لهم : أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان ، ثم كان في قلبه وزن نصف دينار ، حتى يقول فمن كان في قلبه ذرة .
وعن سهل بن حنيف قال : سمعت أبا سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون عليَّ وعليهم قميص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك ، وعرض عليَّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره ) قالوا : فماذا أولت يا رسول الله ؟ قال : ( الدين ) .
وعن هذيل بن شرحبيل عن عمر ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض أو بإيمان هذه الأمة لربح به )
(3/211)

" صفحة رقم 212 "
وعن ابن سابط قال : كان عبد الله بن رواحة يأخذ بيد النفر من أصحابه فيقول : تعالوا نؤمن ساعة تعالوا نزدد إيماننا ، تعالوا نذكر الله تعالى ، ( تعالوا نذكره بطاعته لعله يذكرنا بمغفرته ) .
وعن عبد الله بن عمرو بن هند قال : قال علي كرم الله وجهه : إن الإيمان يبدأ نقطة بيضاء في القلب ، كلما ازداد الإيمان ازدادت بياضاً ، حتى يبيضّ القلب كله ، وإن النفاق يبدأ نقطة سوداء في القلب ، وكلما ازداد النفاق ازدادت سواداً ، حتى يسوّد القلب كله ، والذي نفسي بيده لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض القلب ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود القلب .
وعن عمير بن حبيب بن خماشة قال : الإيمان يزيد وينقص . فقيل له : وما زيادته ونقصانه ؟ قال : إذا ذكرنا ربّنا وخشيناه فذلك زيادته ، وإذا غفلنا ونسينا وضيقنا فذلك نقصانه .
وعن محمد بن طلحة عن زبيد عن زر قال : كان عمر ممّا يأخذ الرجل والرجلين من أصحابه فيقول : قم بنا نزدد إيماناً .
وعن محمد بن فضيل عن أبيه عن سماك عن إبراهيم عن علقمة أنه كان يقول لأصحابه : امشوا بنا نزدد إيماناً .
وعن الحرث بن عمير عن أبي الدرداء قال : الإيمان يزيد وينقص .
وعن عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس وأبي هريرة قالا : الإيمان يزداد وينقص .
الحرث بن الحصين عن أبي الدرداء قال : الإيمان يزداد وينقص .
أبو حذيفة : إن عمر بن عبد العزيز قال : الإيمان يزيد وينقص .
سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه قال : ما نقصت أمانة عبد قط إلاّ نقص من إيمانه .
وعن عثمان بن سعد الدارمي قال : سألت محمد بن كثير العبدي عن الإيمان فقال : هو قول وعمل يزيد وينقص ، قلت : أكان سفيان يقوله ؟ قال : نعم بلا شك .
وقال : سألت أبا حذيفة موسى بن مسعود عن الإيمان قال : هو قول وعمل يزيد وينقص ، قلت : أكان سفيان يقوله ؟ قال : نعم .
قال : وسألت عارم بن الفضل عن الإيمان ، فقال : هو قول وعمل يزيد وينقص ، قلت : أكان حماد بن يزيد يقوله ؟ قال : نعم .
(3/212)

" صفحة رقم 213 "
قال : وسألت أبا الوليد الطيالسي عن الإيمان ، فقال : قول وعمل ونية ، قلت : أيزداد وينقص ؟ قال : نعم .
قال : وسألت سليمان بن حرب عن الإيمان ، فقال : مثل ذلك .
قال : وسمعت مسلم بن إبراهيم يقول : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص .
قال : وسألت علي بن عبد الله المديني عن الإيمان ، قال : قول وعمل ونية ، قلت : أينقص ويزداد ؟ قال : نعم يزداد وينقص حتى لا يبقى منه شيء .
قال : وسألت عمر بن عون الواسطي عن الإيمان فقال : مثل ذلك . قال : وسمعت يحيى بن يحيى يقول : الإيمان قول وعمل والناس يتفاضلون في الإيمان . قال : وسألت أحمد بن يونس عن الإيمان . قال : هو عمل يزيد وينقص .
قال : وسألت عبد الله بن محمد ( الطفيل ) وكان مُتّقياً عن الإيمان فقال : هو قول وعمل يزيد وينقص ، فأروه عني .
قال : وسألت أبا بويه الجيلي عن الإيمان فقال : قول وعمل يزيد وينقص .
قال : وسمعت محبوب بن موسى الأنطاكي يقول : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، ومن كره الاستثناء فقد أخطأ السنّة . قلت : أكان أبو إسحاق الفراري يقوله ؟ قال : كان أبو إسحاق يخرج من المصيصة من لا يقول الإيمان يزيد وينقص .
قال : وسمعت محبوب بن موسى يقول : سمعت يوسف بن أسباط يقول : الإيمان يزيد وينقص .
قال : وسمعت الحسين بن عمر السجستاني يقول : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص .
قال الحسن : وكان وكيع بن الجراح وعمر بن عمارة وابن أبي برزة وزهير بن نعيم يقولون : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص .
قوله تعالى ) وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ( أي كافينا وثقتنا ، والنون والألف مخفوضتان بالإضافة كقولك : حسب زيد درهم ، لان حسب اسم وإن كان في مذهب الفعل ألا ترى ضمة الثانية .
قال الشاعر :
فتملأ بيتنا إقطا وسمنا
وحسبك من غنىً شبع وري
(3/213)

" صفحة رقم 214 "
) ونعم الوكيل ( أي الموكول إليه الأمور ، فعيل بمعنى مفعول .
قال الواقدي : ونعم الوكيل أي المانع . نظيره قوله : ) ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا ( أي مانعاً ، وقوله : ) إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا ( .
عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( كان آخر ما تكلم به رسول الله إبراهيم ( عليه السلام ) حين أُلقي في النار : حسبي الله ونعم الوكيل ) .
وعن عوف بن مالك الأشجعي قال : قضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بين رجلين فقال المقضي عليه : حسبي الله ونعم الوكيل .
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله يحمد على الكيس ويلوم على العجز ، وإذا غلبك أمر فقل : حسبي الله ونعم الوكيل ) .
آل عمران : ( 174 ) فانقلبوا بنعمة من . . . . .
) فانقلبوا ( فانصرفوا ورجعوا ، نظيره قوله : ) لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم ( أي رجعوا .
) بنعمة من الله ( أي بعافية لم يلقوا بها عدواً وبراء جراحهم ) وفضل ( بربح وتجارة ، وهو ما أصابوا من السوق فربحوا ) لم يمسسهم سوء ( لم يصبهم قتل ولا جرح ولا ينالهم سوء ولا أذى ولا مكروه ) واتبعوا رضوان الله ( في طاعة الله وطاعة رسوله ، وذلك أنهم قالوا : هل يكون هذا غزواً ؟ فأعطاهم الله ثواب الغزو ورضى عنهم ) والله ذو فضل عظيم }
آل عمران : ( 175 ) إنما ذلكم الشيطان . . . . .
) إنما ذلكم الشيطان ( يعني ذلك الذي قال لكم : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، من فعل الشيطان ألقى في أفواههم يرهبوهم ويجبنوا عنهم ) يخوف أولياءَهُ ( أي يخوفكم بأوليائه ، أي أولياء إبليس حتى يخوّف المؤمنين بالكافرين .
وقال السدي : يعظم أولياءه في صدورهم ليخافوهم ، نظيره قوله عزّ وجلّ : ) لينذر بأساً شديداً ( أي ببأس ، وقوله : ) لينذر يوم التلاق ( و ) تنذر يوم الجمع ( أي بيوم الجمع
(3/214)

" صفحة رقم 215 "
يخوف الناس أولياءه ، كقول القائل : ويعطى الدراهم ويكسي الثياب ، بمعنى هو يعطي الناس الدراهم ويكسي الناس الثياب . يدل عليه قراءة ابن مسعود : ( يخوف الناس أولياءه ) .
وروى يحيى بن اليمان عن طلحة عن عطاء أنه كان يقرأ ) إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ( .
وروى محمد بن مسلم بن أبي وضاح قال : حدثنا علي بن خزيمة قال : في قراءة أُبي بن كعب : يخوفكم بأوليائه .
) فلا تخافوهم وخافونِ ( في ترك أمري ) إن كنتم مؤمنين ( مصدقين بوعدي فإني المتكفل لكم بالنصر والظفر
آل عمران : ( 176 ) ولا يحزنك الذين . . . . .
) ولا يحزنك ( .
قرأ نافع : ( يُحزِنك ) بضم الياء وكسر الزاي ، وكذلك جميع ما في القرآن من هذا الفعل ، إلاّ التي في الأنبياء ) لا يَحزُنهم الفزع الأكبر ( فإنه بفتح الياء وضم الزاي ، وضده أبو جعفر ، وقرأ ابن محيصن كلها بضم الياء وكسر الزاي .
الباقون كلها بالفتح وضم الزاي ، وهما اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، وهما لغتان ، حزن يحزن وأحزن يحزن إلاّ أن اللغة العالية الفصيحة : حزن يحزن وأحزنته قال الشاعر :
مضى صحبي وأحزنني الديار
) الذين يسارعون في الكفر ( .
قرأه العامة : هكذا ، وقرأ طلحة بن مصرف : يسرعون .
قال الضحاك : هم كفار قريش ، وقال غيره : هم المنافقون يسارعون في الكفر بمظاهرة الكفار .
) إنهم لن يضروا الله شيئاً ( بمسارعتهم في الكفر ومظاهرتهم أهله ) يريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة ( نصيباً في ثواب الآخرة ، فلذلك خذلهم حتى سارعوا في الكفر ) ولهم عذاب عظيم ( وفي هذه الآية ردَّ على القدرية .
آل عمران : ( 177 ) إن الذين اشتروا . . . . .
) إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان ( استبدلوا الكفر بالإيمان ) لن يضروا الله شيئاً ( فإنهم يضرون أنفسهم ) ولهم عذاب أليم }
آل عمران : ( 178 ) ولا يحسبن الذين . . . . .
) ولا يحسبن الذين كفروا ( .
قراءة حمزة وأبي بحتريه : بالتاء .
الباقون : بالياء ، فمن قرأ بالياء ف ( الذين ) في محل الرفع على الفاعل تقديره : ولا يحسبن الكفار أن إملاءنا خير لهم .
(3/215)

" صفحة رقم 216 "
ومن قرأ بالتاء ، قال الفراء : هو على التكرير في المعنى ، ولا تحسبن يا محمد الذين كفروا ولا تحسبن إنما نملي ، لأنك إذا أعلمت الحسبان في الذين لم يجز أن يقع على إنما ، وهو كقوله : ) فهل ينظرون إلاّ الساعة أن تأتيهم بغتة ( يعني هل ينظرون إلاّ أن تأتيهم بغتة ، وقيل : موضع إنما نصب على البدل من الذين .
كقول الشاعر :
فما كان قيس هلكه هلك واحد
ولكنه بنيان قوم تهدّما
فرفع ( هلك ) على البدل ، من الأول ، والاملاء الإمهال والتأخير والإطالة في العمر والإنساء في الأجل ، ومنه قوله تعالى : ) واهجرني ملياً ( أي حيناً طويلا ويقال : عشت طويلا ، أي تمليت حيناً ، وأصله من الملاوة والملا وهما الدهر .
قال الشاعر :
وقد أراني للغوالي مصيداً
ملاوة كأن فوقي جلدا
والملوان : الليل والنهار .
قال تميم بن مقبل :
ألا يا ديار الحي
بالسبعان أمل عليها بالبلى
ثم قال ) إنما نملي لهم ( نمهلهم ) ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين ( نزلت هذه الآية في مشركي قريش .
قال مقاتل : قال عطاء : في قريظة والنضير .
وعن عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه أن رجلا قال : يا رسول الله أي الناس خير ؟ قال : ( من طال عمره وحسن عمله ) ، قال : فأي الناس شر ؟ قال : ( من طال عمره وساء عمله ) .
وقال ابن مسعود : ما من نفس برّة ولا فاجرة إلاّ والموت لها ، فأما الفاجرة فمستريح ومستراح منه ، وقرأ ) ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خيرٌ ( الآية ، وأما البرّة فقرأ ) نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار ( .
(3/216)

" صفحة رقم 217 "
2 ( ) مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِى مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ فَئَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَللَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لَّقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ وَقَتْلَهُمُ الاَْنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذالِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِى بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِى قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَواةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ لَتُبْلَوُنَّ فِىأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذالِكَ مِنْ عَزْمِ الاُْمُورِ ( 2
آل عمران : ( 179 ) ما كان الله . . . . .
) ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه ( ، اختلفوا في نزولها :
فقال الكلبي : قالت قريش : يا محمد تزعم أن من خالفك فهو في النار ، والله عليه غضبان وأن من اتبعك على دينك فهو من أهل الجنة والله عنه راض ، فأخبرنا من يؤمن بك ومن لا يؤمن بك ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال السدي : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( عرضت عليَّ أُمّتي في صورها في الطين كما عرضت على آدم ( عليه السلام ) وأُعلمت من يؤمن بي ومن لا يؤمن ) فبلغ ذلك المنافقين واستهزؤا وقالوا : زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر به ممّن لم يخلق بعد ، ونحن معه ولا يعرفنا ، فبلغ ذلك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقام على المنبر خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( ما بال ( القوم ) حملوني وطعنوا في حلمي ، لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة إلاّ أنبأتكم ) .
فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال : يا رسول الله من أبي ؟ فقال : ( حذافة ) ، فقام عمر ابن الخطاب ( رضي الله عنه ) فقال : يا رسول الله رضينا بالله ربّاً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبك نبيّاً فاعف عنّا عفا الله عنك .
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( فهل أنتم منتهون ، فهل أنتم منتهون ؟ ) ثم نزل عن المنبر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية
(3/217)

" صفحة رقم 218 "
فقالت أم حذافة له : ويحك ما أردت إلاّ أن تعرضني لرسول الله . فقال : كان الناس قد أذوني فيك فأحببت أن أسأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فإن كانوا صدقوا رضيت وسكت ، وإن كذبهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كفّوا عني .
وقال أبو العالية : سأل المؤمنون أن يُعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمنين والمنافقين ، فأنزل الله عزّ وجلّ ) ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه ( واختلفوا في حكم الآية ونظمها :
فقال بعضهم : الخطاب للكفار والمنافقين من الكفر والنفاق ) حتى يميز الخبيث من الطيب ( وهذا قول ابن عباس والضحاك ومقاتل والكلبي وأكثر المفسرين .
وقال آخرون : الخطاب للمؤمنين الذين أخبر عنهم ، ومعنى الآية : ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق ، حتى يميز الخبيث من الطيب ، وعلى هذا القول هو من خطاب التلوين ، رجع من الخبر إلى الخطاب كقوله : ) وجرين بهم ( .
وكقول الشاعر :
يا لهف نفسي كان جلدة خالد
وبياض وجهك للتراب الأعفر
وهذا قول أكثر أهل المعاني ، واللام في قوله : ) ليذر ( لام الجحد ، وهي في تأويل كي ، ولذلك نصب ما بعدها حتى يميّز .
قرأ الحسن وقتادة وأهل الكوفة : بضم الياء والتشديد وكذلك التي في الأنفال ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم .
الباقون : بفتح الياء مخففاً .
يقال : بان الشيء يميّزه ميزاً وميّزه تميّزاً ، إذا فرّقه وامتاز وانماز هو بنفسه .
قال أبو معاذ يقال : مزت الشيء أميزه ميزاً إذا فرقت بين شيئين ، فإذا كانت أشياء قلت : ميّزتها تمييزاً ، ومثله إذا جعلت الشيء الواحد شيئين ، قلت : فرّقت بينهما ، ومنه فرق الشعر ، فإن جعلت أشياء قلت : فرقه وفرقها تفريقاً ، ومعنى الآية : حتى يميّز المنافق من المخلص فيميّز الله المؤمنين يوم أُحد من المنافقين ، حيث أظهروا النفاق وتخلفوا عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
قتادة : حتى يميّز المؤمن من الكافر بالهجرة والجهاد ، ونظيرها في سورة الأنفال . ابن
(3/218)

" صفحة رقم 219 "
كيسان ) ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه ( من الإقرار حتى نفرض عليهم الجهاد والفرائض التي فيها تخليصهم ، ليميّز بها بين من يثبت على إيمانه ممّن ينقلب على عقبيه .
الضحاك : ) ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه ( في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، يا معشر المنافقين والمشركين حتى يفرّق بينكم وبين من في أصلابكم وأرحام نسائكم من المؤمنين .
وقال بعضهم : حتى يميّز الخبيث وهو المذنب ، من الطيب وهو المؤمن ، يعني حتى يحط الأوزار من المؤمن ما يصيبه من نكبة ومحنة ومصيبة .
) وما كان الله ليطلعكم على الغيب ( لأنه لا يعلم الغيب أحد غيره ) ولكن الله يجتبي ( يختار ) من رسله من يشاء ( بالغيب فيطلعه على بعض علم الغيب ، نظيره قوله تعالى : ) عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول ( .
وقال السدي : وما كان الله ليطلع محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) على الغيب ولكن الله اجتباه ) فآمنوا بالله ورسوله وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم ( .
وروى الفضل بن موسى عن رجل قد سمّاه قال : كان عند الحجاج منجم فأخذ الحجاج حصيات لم يعدّهن وقال للمنجم : كم في يدي ؟ فحسب فأصاب المنجم ، ثم اعتقله الحجاج ، فأخذ حصيات لم يعدّهن فقال للمنجم : كم في يدي ؟ فحسب وحسب ثم أخطأ ثم حسب أيضاً فأخطأ ، فقال : أيها الأمير أظنك لا تعرف عددها في يدك ؟ قال : فما الفرق بينهما ؟ قال : إن ذلك أحصيته فخرج عن حد الغيب فحسبت وأصبت ، وإن هذا لم يعرف عددها فصار غيباً ولا يعلم الغيب إلاّ الله .
آل عمران : ( 180 ) ولا يحسبن الذين . . . . .
) ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم ( .
من قرأ بالياء جعل هو ( ابتداء ) وجعل الاسم مضمراً وجعل الخير خيراً بحسبان تقديره : ولا تحسبن الباخلون البخل خيراً لهم ، فاكتفا بذكر ( يبخلون ) من البخل كما تقول في الكلام : قد قدم زيد فسررت به ، وأنت تريد سررت بقدومه .
قال الشاعر :
إذا نهي السفيه جرى إليه
وخالف والسفيه إلى خلاف
أي جرى إلى السفه ونظير هذا قوله : ) اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ( هو
(3/219)

" صفحة رقم 220 "
ابتداء والحق خبر كان ، وقوله : ) ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ( .
ومن قرأ بالتاء فعلى التكرير والبدل ، كما ذكرنا في آية الاملاء ، قال الله تعالى : ) بل هو ( يعني البخل ) شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ( .
قال المبرد : السين في قوله : ) سيطوقون ( سين الوعيد وتأويلها : سوف يطوقون ، واختلفوا في معنى الآية :
فقال قوم : معناها فجعل ما بخل به وما يمنعه من الزكاة حيّة تطوق في عنقه يوم القيامة تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه ، تقول : أنا مالك ، فلا يزال كذلك حتى يساق إلى النار ويغل ، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس وأبي ( وائِل ) وابن مالك وابن فرعة والشعبي والسدي ، ويدل عليه ما روى أبو وائل عن عبد الله عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلاّ جُعل له شجاع في عنقه يوم القيامة ) ثم قرأ علينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مصداق من كتاب الله تعالى ) سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ( .
وعن رجل من بني قيس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه يسأله من فضل الله إيّاه فيبخل به عنه إلاّ أخرج الله له من جهنم شجاع يتلمظ حتى يطوقه ) ثم تلا ) ولا يحسبن الذين يبخلون ( الآية .
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من عبد يكون له مال فيمنعه من حقه ويضعه في غير حقه إلاّ مثله الله شجاعاً أقرع منتن الريح لا يمر بأحد إلاّ استعاذ منه حتى دنا من صاحبه ، فإذا دنا من صاحبه أعوذ بالله منك ، قال : لمَ تستعيذ مني وأنا مالك الذي كنت تبخل به في الدنيا فيطوقه في عنقه فلا يزال في عنقه حتى يدخله الله جهنّم )
وتصديق ذلك في القرآن ) سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ( .
فقال إبراهيم النخعي : معناه يُجعل يوم القيامة في أعناقهم طوقاً من نار .
مجاهد : يكلفون يوم القيامة أن يأتوا ممّا بخلوا به في الدنيا من أموالهم يوم القيامة .
المؤرّخ : يلزمون أعمالهم مثل ما يلزم الطوق بالعنق ، يقال : طوق فلان عمله مثل طوق الحمامة
(3/220)

" صفحة رقم 221 "
عن يسار بن سعد عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( مانع الزكاة يوم القيامة في النار ) .
هشام بن عروة عن أبيه قال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا تخالط الصدقة مالا إلاّ أهلكته ) .
عن عكرمة عن جبير بن مهاجر عن أبي بريدة عن أبيه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما حبس قوم الزكاة إلاّ حبس الله عنهم القطر ) .
وعن الحسن البصري قال : كان أعرابي صاحب ماشية ، وكان قليل الصدقة فتصدق بعريض من غنمه ، فرأى فيما يرى النائم كأنما وثبت عليه غنمه كلها فجعل العريض يحامي عنه ، فلما انتبه قال : والله لئن استطعت لأجعلن أتباعك كثيراً . قال : وكان بعد ذلك يقسم .
قال الثعلبي : أنشدنا أبو القاسم الحسين بن محمد قال : أنشدنا أبو بكر محمد بن عبد الله قال : أنشدنا العلائي قال : أنشدني المهدي بن سابق :
يا مانع المال كم تضمن به
أتطمع بالله في الخلود معه
هل حمل المال ميت معه
أما تراه لغيره جمعه
ابن سعيد عن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ونبوته ، وأراد بالبخل كتمان العلم الذي أتاهم الله ، يدل عليه قوله تعالى في سورة النساء : ) الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله ( الآية ، ومعنى قوله : ) سيطوقون ما بخلوا به ( أي يحملون وزره وإثمه كقوله تعالى : ) يحملون أوزارهم على ظهورهم ( ) ولله ميراث السماوات والأرض ( يعني أنه الباقي الدائم بعد فناء خلقه وزوال أملاكهم فيموتون ويرثهم ، نظيره قوله : ) إنا نحن نرث الأرض ومن عليها ( ) والله بما تعملون خبير ( .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو : بالياء ، الباقون : بالتاء .
آل عمران : ( 181 ) لقد سمع الله . . . . .
) لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ( .
(3/221)

" صفحة رقم 222 "
قال الحسن ومجاهد : لما نزلت ) فمن ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً ( قال اليهود : إن الله فقير يستقرض منّا ونحن أغنياء ، ( والقائل فنحاص بن عازوراء ) عن ابن عباس .
وروى الحسن : أن قائل هذه المقالة حيي بن أخطب .
قال عكرمة والسدي ومقاتل ومحمد بن إسحاق : كتب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مع أبي بكر الصديق إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا لله قرضاً حسناً ، فدخل أبو بكر ( رضي الله عنه ) ذات يوم بيت مدارسهم فوجد ناساً كثيراً من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازوراء وكان من علمائهم ، ومعه حبرآخر يُقال له : أشيع ، فقال أبو بكر ( رضي الله عنه ) لفنحاص : إتق الله وأسلم إنك لتعلم أن محمداً قد جاءكم بالحق من عند الله ) يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ( فأمن وصدّق واقرض الله قرضاً حسناً يدخلك الجنة ويضاعف لك الثواب .
قال فنحاص : يا أبا بكر تزعم أن ربّنا يستقرضنا أموالنا ولا يستقرض إلاّ الفقير من الغني ، فإن كان ما تقول حقاً فإن الله إذاً لفقير ونحن أغنياء ، ولو كان غنياً ما أعطاناه ربّي ، فغضب أبو بكر ( رضي الله عنه ) وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال : والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله .
فذهب فنحاص إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : يا محمد أنظر ما صنع بيّ صاحبك ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأبي بكر : ( ما الذي حملك على ما صنعت ؟ ) فقال يا رسول الله : إن عدوّ الله قد قال قولا عظيماً ، زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء فغضبت لله وضربت وجهه فجحد ذلك فنحاص ، فأنزل الله عزّ وجلّ رداً على فنحاص وتصديقاً لأبي بكر ( رضي الله عنه ) ) لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ( ) سنكتب ما قالوا ( من الإفك والفرية على الله عزّ وجلّ فنجازيه به .
وقال مقاتل وابن عبيد : سيحفظ عليهم ، الكلبي : سنوجب عليهم في الآخرة جزاء ما قالوا في الدنيا ، الواقدي : سيؤمن الحفظة من الكتاب ، نظيره قوله : ) وإنا له كاتبون ( .
قرأ حمزة والأعمش والأعرج : بياء مضمومة
(3/222)

" صفحة رقم 223 "
) وقتلُهم ( برفع اللام ) ويقول ( بالياء ، اعتباراً بقراءة عبد الله ويقال ) ذوقوا عذاب الحريق ( أي النار ، والنار اسم جامع للملتهبة منها وغير الملتهبة ، والحريق اسم للملتهبة منها ، وهو بمعنى المحرق كما يقال : عذاب أليم وضرب وجيع .
آل عمران : ( 182 ) ذلك بما قدمت . . . . .
) ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد ( فيعذب بغير ذنبه ) الذين قالوا إن الله عهد إلينا ( الآية .
قال الكلبي : نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهودا وزيد بن تابوه وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب ، أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : يا رسول الله تزعم أن الله بعثك إلينا رسولا وأنزل علينا كتاباً ، فإن الله قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه جاء من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، فإن جئتنا به صدقناك ،
آل عمران : ( 183 ) الذين قالوا إن . . . . .
فأنزل الله عزّ وجلّ ) الذين قالوا ( يعني وسمع الله قول الذين قالوا ، ومحل ( الذين ) خفض ردّاً على الذين الأول ) إن الله عهد إلينا ( أي أمرنا وأوصانا في كتبه على ألسنة رُسله .
) ألاّ نؤمن لرسول ( أي لا نصدق رسولا يزعم أنه جاء من عند الله ) حتى يأتينا بقربان تأكله النار ( فيكون ذلك دلالةً على صدقه ، والقربان كل ما يتقرب به العبد إلى الله عزّ وجلّ من زكاة وصدقة وعمل صالح ، وهو فعلان من القربة مثل الرفعان من الرّفع ( والغنيان ) من الغنى ، ويكون اسماً ومصدراً فمثال الاسم : السلطان والبرهان ، ومثال المصدر : العدوان والخسران .
وكان عيسى بن عمر يقرأ : قُربان فبضم الراء والقاف كما يقال في جمع ظلمة : ظلمات ، وفي جمع حجرة : حجرات .
قال المفسرون : كانت القرابين والغنائم تحل لبني إسرائيل ، فكانوا إذا قرّبوا قرباناً وغنموا غنيمة فإن تقبل منهم ذلك جاءت نار بيضاء من السماء لا دخان لها ولها دوي وحفيف ، فتأكل ذلك القربان وتلك الغنيمة وتحرقهما ، فيكون ذلك علامة القبول ، وإذا لم يقبل بقي على حاله .
وقال عطاء : كانت بنو إسرائيل يذبحون لله فيأخذون الثروب وأطائب اللحم فيضعونها في وسط البيت والسقف مكشوف ، فيقوم النبي في البيت ويناجي ربّه ، وبنو إسرائيل خارجون حول البيت ، فتنزل نار فتأخذ ذلك القربان فيخر النبي ساجداً فيوحي الله عزّ وجلّ إليه بما شاء .
قال السدي : إن الله تعالى أمر بني إسرائيل في التوراة : من جاءكم من أحد يزعم أنه رسول فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار حتى يأتيكم المسيح ومحمد ، فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان ، قال الله تعالى إقامة للحجة عليهم ) قل ( يا محمد ) قد جاءكم ( يا معشر اليهود ) رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم ( من القربان ) فلم قتلتموهم ( يعني زكريا
(3/223)

" صفحة رقم 224 "
ويحيى وسائر من قتلوا من الأنبياء ، وأراد بذلك أسلافهم ، فخاطبهم بذلك لأنهم رضوا بفعل أسلافهم ، ومعنى الآية تكذيبهم يا محمد إياك مع علمهم بصدقك ، كقتل آبائهم الأنبياء مع الإتيان بالقربان والمعجزات ، ثم قال معزياً نبيه ( صلى الله عليه وسلم )
آل عمران : ( 184 ) فإن كذبوك فقد . . . . .
) فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر ( وبالزبر أي الكتب المزبورة يعني المكتوبة أصلها من زبرت أي كتبت ، واحدها زبور مثل رسول ورسل ، وكل كتاب فهو زبور .
قال امرؤ القيس :
لمن طلل أبصرته فشجاني
كخط زبور في عسيب يماني
وقال بعضهم : هو الكتاب الحسن حكاه المفضل وأنشد .
عرفت الديار كخط الدويّ
يحبره الكاتب الحميري
وقرأ ابن عامر : وبالزبر بزيادة باء ، وكذلك هو في مصاحفهم .
وقال عكرمة ومقاتل والواقدي : يعني بالزبر أحاديث من كان قبلهم ، نظيرها في سورة الحج والملائكة .
) والكتاب المنير ( الواضح المضيء
آل عمران : ( 185 ) كل نفس ذائقة . . . . .
) كل نفس ذائقة الموت ( .
قرأه العامة : بالإضافة ، وقرأ الأعمش : ( ذائقة ) بالتنوين ، ( الموت ) نصباً ، وقال : لأنها لم تذق بعد .
وقال أمية بن الصلت :
من لم يمت عبطة يمت هدما
للموت كأس والمرء ذائقها
أبو صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لما خلق الله عزّ وجلّ آدم ( عليه السلام ) اشتكت الأرض إلى ربّها لما أخذ منها ، فواعدها أن يرد منها ما أُخذ منها ، فما من أحد إلاّ يدفن في الثرى التي خُلق منها ) .
) وإنما توفون أجوركم ( توفون جزاء أعمالكم ) يوم القيامة ( إن خيراً فخير وإن شراً فشر ) فمن زحزح ( نجا وأُزيل ) عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز ( ظفر بما يرجوا ونجا ممّا يخاف ) وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور ( يعني منفعة ومتعة ، كالفأس والقدر والقصعة ثم يزول ولا يبقى ، قاله أكثر المفسرين .
(3/224)

" صفحة رقم 225 "
وقال عبد الرحمن بن سابط : كزاد الراعي ، الحسن : كخضرة النبات ولعب البنات لا حاصل له .
قتادة : هي متاع متروكة توشك أن تضمحل بأهلها ، فخذوا من هذا المتاع بطاعة الله ما استطعتم ، والغرور الباطل ، ونظيرها في سورة الحديد .
عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من سرّه أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إلاه إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ، ويأتي الناس ما يحب أن يؤتى إليه ) .
أبو سلمة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها فأقرؤا إن شئتم ) فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور 2 )
آل عمران : ( 186 ) لتبلون في أموالكم . . . . .
) لتبلون في أموالكم وأنفسكم ( الآية .
قال عكرمة ومقاتل والكلبي وابن جريج : نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق وفنحاص ، وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بعث أبا بكر الصديق ( رضي الله عنه ) إلى فنحاص بن عازورا سيد بني قينقاع يستمده وكتب إليه كتابه ، وقال لأبي بكر : ( لا تفتت عليَّ بشيء حتى يرجع ) ، فجاءه أبو بكر ( رضي الله عنه ) وهو متوشح بالسيف فأعطاه الكتاب فلما قرأه قال : قد أحتاج ربّكم إلى أن يمده ، فهمَّ أبو بكر أن يضربه بالسيف ثم ذكر قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا تفتت بشيء حتى يرجع ) ، فكفَّ ونزلت هذه الآية .
وقال الزهري : نزلت في كعب بن الأشرف وذلك أنه كان يهجوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويسب المؤمنين ويحرض المشركين على النبي وأصحابه في شعره وينسب بنساء المسلمين حتى آذاهم ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من لي بابن الأشرف ) .
فقال محمد بن سلمة الأنصاري : أنا لك به يا رسول الله ، أنا أقتله ، قال : ( فافعل إن قدرت على ذلك ) فرجع محمد بن سلمة فمكث ثلاثاً لا يأكل ولا يشرب إلاّ ما تعلق نفسه ، فذكر ذلك لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فدعاه فقال : ( لم تركت الطعام والشراب ؟ ) قال : يا رسول الله قد قلت قولا ولا أدري هل أفي به أم لا ؟
قال : ( إنما عليك الجهد ) فقال : يا رسول الله إنه لابد لنا من أن نقول ، قال : ( قولوا ما
(3/225)

" صفحة رقم 226 "
بدا لكم فأنتم في حل من ذلك ) فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة وسلكان بن سلاحة بن وقش وهو أبو نائلة وكان أخا كعب من الرضاعة وعباد بن بشر بن وقش والحرث بن أوس بن معاذ وأبو عبس بن جبر فمشى معهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى بقيع الغرقد ثم وجهّهم وقال : ( انطلقوا على اسم الله اللهم أعنهم ) .
ثم رجع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وذلك في ليلة مقمرة ، فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه فقدّموا أبا نائلة ، فجاءه فتحدث معه ساعة فتناشدا الشعر وكان أبو نائلة يقول الشعر ثم قال : ويحك يابن الأشرف إني قد جئتك بحاجة أريد ذكرها لك فأكتم عليَّ . قال : أفعل . قال : كان قدوم هذا الرجل بلاء ، عادتنا العرب ورمونا عن قوس واحدة ، وانقطعت عنا السبل حتى ضاعت العيال وجهدت الأنفس .
فقال كعب : أنا ابن الأشرف أما والله لقد أخبرتك يابن سلامة أن الأمر سيصير إلى هذا .
فقال أبو نائلة : إن معي أصحاباً أردنا أن تبيعنا طعامك و نرهنك ونوثق لك ونحسن في ذلك . قال : ترهنوني أبناءكم ؟ قال : إنّا نستحي أن يعير أبناؤنا . فقال : هذا رهينة وسق وهذا رهينة وسقين .
قال : أترهنونني نساءكم ؟ قالوا : أنت أجمل الناس ولا نأمنك ، وأي امرأة تمتنع منك لجمالك ، ولكنّا نرهنك الحلقة يعني السلاح ولقد علمت حاجتنا اليوم إلى السلاح .
فقال : نعم ائتوني بسلاحكم ، فأراد أبو نائلة أن لا ينكر السلاح إذا جاؤا بها ، فرجع أبو نائلة إلى أصحابه فأخبرهم خبره وأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه ، فهتف به أبو نائلة وكان حديث عهد بعرس فوثب في ملحفته ، وأخذت امرأته بناحيتها وقالت : إنك رجل محارب وإن صاحب الحرب لا ينزل في مثل هذه الساعة .
قال : إن هؤلاء لو وجدوني نائماً ما أيقظوني وإنه أبو نائلة أخي .
قالت : فكلمهم من فوق الحصن . فأبى عليها إلاّ أن ينزل إليهم ، فتحدث معهم ساعة ثم قالوا : يابن الأشرف هل لك أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث فيه بقية ليلتنا هذه . قال : إن شئتم فخرجوا يتماشون ، فمشوا ساعة ثم إن أبا نائلة شام يده في فود رأسه ثم شمّ يده فقال : ما رأيت كالليلة طيب عروس قط . قال : إنه طيب أم فلان ، يعني امرأته ثم مشى ساعة ثم عاد بمثلها حتى اطمأن ، ثم مشى ساعة فعاد لمثلها ، ثم أخذ بفودي رأسه حتى استمكن ثم قال : اضربوا عدو الله فاختلفت عليه أسيافهم فلم تغن شيئاً .
(3/226)

" صفحة رقم 227 "
قال محمد بن سلمة : فذكرت معولا في سيفي ، فأخذته وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلاّ أوقدت عليه ناراً . قال : فوضعته في ثندوّته ثم تحاملت عليه حتى بلغت عانته ، ووقع عدو الله وقد أصيب الحرث بن أوس في رأسه بجرح أصابه بعض أسيافنا . قال : فخرجنا وقد أبطأ علينا صاحبنا الحرث ونزفه ، الدم فوقفنا ساعة ثم أتانا يتبع آثارنا فاحتملناه ، فجئنا به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) آخر الليل وهو قائم يصلي ، فسلمنا عليه فخرج إلينا فأخبرناه بقتل كعب وجئنا برأسه إليه ، وتفل على جرح صاحبنا ورجعنا إلى أهلنا ، فأصبحنا وقد خافت اليهود لوقعتنا بعدو الله ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من ظفرتم به من رجال يهود فاقتلوه ) فوثب محيصة بن مسعود على سنينة رجل من تجار اليهود كان يلابسهم ويبايعهم فقتله ، وكان حويصة بن مسعود إذ ذلك لم يسلم ، وكان أسنّ من محيصة فلما قتله جعل حويصة يضربه وهو يقول : أي عدو الله قتلته ، أما والله لربّ شحم في بطنك من ماله . فقال محيصة : والله لو أمرني بقتلك من أمرني بقتله لضربت عنقك قال : فوالله إن كان لأول إسلام حويصة ، وفقال : لو أمرك محمد بقتلي لقتلنني ؟ قال : نعم . قال : والله إن ديناً بلغ بك هذا لعجب فأسلم حويصة ، فأنزل الله في شأن كعب بن الأشرف ) لتبلون ( لتخبرن واللام للتأكيد ، وفيه معنى القسم ، والنون تأكيد القسم .
) في أموالكم ( بالحوادث والعاهات والخسران والنقصان .
) وأنفسكم ( بالأمراض ، وقيل بمصائب الأقارب والعشائر .
قال عطاء : هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم وباعوا رباعهم وعذبوهم .
قال الحسن : هو ما فرض عليهم في أموالهم وأنفسهم من الحقوق ، كالصلاة والصيام والحج والجهاد والزكاة .
) ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ( يعني اليهود والنصارى ) ومن الذين أشركوا ( يعني مشركي العرب ، ) أذىً كثيراً وإن تصبروا ( على أذاهم ) وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ( من حق الأمور وجدّ الأمور وخيرها ، قال عطاء : من حقيقة الإيمان .
( ) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لاََيَاتٍ لاُِوْلِى الاَْلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ
(3/227)

" صفحة رقم 228 "
رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِى لِلإِيمَانِ أَنْ ءَامِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَئَامَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الاَْبْرَارِ رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِى سَبِيلِى وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلاَُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ( 2
آل عمران : ( 187 ) وإذ أخذ الله . . . . .
) وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ( في أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) لتبيّننه للناس ولا يكتمونه ( . قرأ عاصم وأبو عمر وأهل مكة : بالياء فيهما واختاره أبو عبيد .
الباقون : بالتاء واختاره أبو حاتم ، فمن قرأ بالتاء فعلى إضمار القول ، أي قال : ليبيننه ، ودليله قوله تعالى : ) وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم ( ومن قرأ بالياء فلقوله : ) فنبذوه وراء ظهورهم ( طرحوه وضيعوه وتركوا العمل به .
) واشتروا به ثمناً قليلا ( يعني المأكل ) فبئس ما يشترون ( .
قال قتادة : هذا لميثاق الله أخذ على أهل مكة ممّن علم شيئاً فليعلّمه ، وإيّاكم وكتمان العلم فإنه هلكة .
وقال محمد بن كعب : لا يحل لعالم أن يسكت على علمه ولا لجاهل أن يسكت على جهله ، قال الله : ) وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ( الآية ، وقال : ) فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ( .
ثابت بن البناني عن أبي رافع عن أبي هريرة أنه قال : لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ، ثم تلا هذه الآية ) وإذ أخذ الله ( . أبو عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من كتم علماً عن أهله أُلجم يوم القيامة لجاماً من نار ) .
وعن الحسن بن عمارة قال : أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألقيته على بابه فقلت : إن رأيت أن تحدثني ؟ فقال : أما علمت أني قد تركت الحديث فقلت : إما أن تحدثني وإما أن أُحدثك . فقال : حدثني . فقلت : حدثني الحكم ابن عيينة عن نجم الجزار قال : سمعت علياً ( عليه السلام ) يقول : ( ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا ) قال : فحدثني بأربعين حديثاً .
(3/228)

" صفحة رقم 229 "
آل عمران : ( 188 ) لا تحسبن الذين . . . . .
) لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ( يحسبن بالياء ، قرأه حميد بن كثير وأبو جعفر وشيبة ونافع وابن عامر وأبو عمرو ، وغيرهم بالتاء ، فمن قرأه بالياء فمعناه : ولا يحسبن الفارحون منجياً لهم من العذاب ، ومن قرأ بالتاء فمعناه : ولا تحسبن يا محمد الفارحين بمفازة من العذاب ، وخبره في الباء .
وقوله : ) لا تحسبن ( بالتاء ، وفتح الباء إعادة تأكيد .
وقرأ الضحاك وعيسى : ( لا تحسبن ) بالتاء وضم الباء ، أراد محمداً وأصحابه .
وقرأ محمد وابن كثير وأبو عمرو ويحيى بن يعمر : بالياء وضم الباء خبراً عن الفارحين ، أي فلا تحسبن أنفسم ، واختلفوا فيه فيمن نزلت هذه الآية .
روى عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري : أن رجالا من المنافقين كانوا على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقولون : يا رسول الله لو خرجت إلى الغزو لغزونا معك ، فإذا خرج ( عليه السلام ) خلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله ، فإذا قدم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اعتذروا إليه فيقبل عذرهم وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا .
وروى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن رافع بن خديج : أنه كان هو وزيد بن ثابت عند مروان وهو يومئذ أمير المدينة فقال مروان لرافع : في أي شيء أُنزلت هذه الآية : ) لا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ( ؟ فقال رافع : أنزلت في أناس من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في سفر تخلفوا عنهم ، فأنكر مروان وقال : ما هذا ؟ فجزع رافع من ذلك وقال لزيد بن ثابت : أنشدك الله هل تعلم ما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال زيد : نعم ، فخرجا من عند مروان ، فقال زيد لرافع وهو يمزح معه : أما تحمد في ما شهدت لك وقال رافع : وأي شيء هذا ؟ أحمدك على أن تشهد بالحق ؟ قال زيد : نعم قد حمد الله على الحق أهله .
وقال عكرمة : نزلت في فنحاص وأشيع وأشباههما من الأحبار ، يفرحون بإضلالهم الناس ، وبنسبة الناس إياهم إلى العلم ، وقولهم إنهم علماء وليسوا بأهل علم لم يحملوهم على هدى ولا خير .
الضحاك والسدي : هم يهود أهل المدينة كتبوا إلى يهود اليمن والشام وأطراف الأرض : أن محمداً ليس برسول فاثبتوا على دينكم . فاجتمعت كلمتهم على الكفر بمحمد والقرآن ففرحوا بذلك وقالوا : الحمد لله الذي جمع كلمتنا فنحن على دين إبراهيم ونحن أهل العلم الأول ، وليسوا كذلك .
مجاهد : هم اليهود فرحوا بإعجاب الناس تبديلهم الكتاب ، وجهدهم إياه عليه .
سعيد بن جبير : هم اليهود فرحوا بما أعطى الله إبراهيم وهم براء من ذلك
(3/229)

" صفحة رقم 230 "
وروى ابن أبي مليكة عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف : أنّ مروان بن الحكم قال لمولاه : يا أبا رافع اذهب إلى ابن عباس وقل له : إن كان كل امرىء منا يفرح بما أوتي وأحب أن يحمد لما لم يفعل معذباً لنغدين جميعاً . فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية ، إنما دعاء رسول الله اليهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره وأروه أنهم أخبروه بما قد سألهم عنه ، فاستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بكتمانهم إياه ذلك ، فنزلت هذه الآية .
قتادة ومقاتل : أتت يهود خيبر لنبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : نحن نعرفك ونصدقك وإنّا على رأيكم ونحن لكم ردأً ، وليس ذلك في قلوبهم ، فلما خرجوا من عنده قال لهم المسلمون : ما صنعتم ؟ قال : عرفناه وصدقناه ، فقال لهم المسلمون : أحسنتم هكذا فافعلوا ، فحمدوهم ودعوا لهم فأنزل الله لهم هذه الآية .
وروى شعبة عن مغيرة عن إبراهيم قال : نزلت في ناس من اليهود جهّزوا جيشاً إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأنفقوا عليهم ، وقرأها إبراهيم ( بما أوتوا ) ممدوداً أي أعطوا .
وقرأ سعيد بن جبير ) أوتوا ( أي أعطوا .
قال الله ) فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم }
آل عمران : ( 189 - 190 ) ولله ملك السماوات . . . . .
) ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ( .
عن عطاء بن أبي رباح قال : دخلت مع ابن عمر إلى عائشة رضي الله عنها فقال ابن عمر : أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله ؟ فبكت فأطالت ثم قالت : كل أمر رسول الله عجب ، أتاني في ليلتي فدخل معي في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي ثم قال : يا عائشة هل لك أن تأذني لي في عبادة ربّي عزّ وجلّ ؟ فقلت : والله يا رسول الله إني لأحبّ قربك وأحبّ هواك قد أذنت لك ، فقام عليه الصلاة والسلام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر صب الماء ، ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموع حجره ، ثم رفع يده فجعل يبكي حتى رأيت الدموع قد بلت الأرض ، فأتاه بلال بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال : يا رسول الله تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال : ( يا بلال أفلا أكون عبداً شكوراً ) ثم قال : ( ومالي لا أبكي وقد أنزل الله تعالى في هذه الليلة عليَّ ) إن في خلق السماوات والأرض ( الآية ثم قال : ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها ) .
وعن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما عن أبيه : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا قام من الليل يسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول : ) إن في خلق السماوات والأرض ( إلى قوله ) فقنا عذاب النار ( .
(3/230)

" صفحة رقم 231 "
عمرو بن موسى عن قتادة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أشدّ آية في القرآن على الجن ) إن في خلق السماوات والأرض ( ) الآية .
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أتت قريش اليهود فقالوا : ما جاءكم به موسى من الآيات ؟ فقالوا : عصاه ويده البيضاء للناظرين . وسألوا النصارى فقالوا : كيف كان عيسى فيكم ؟ قالوا : كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى . فأتوا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : ادع لنا ربّك يجعل لنا الصفا ذهباً ، فأنزل الله تعالى ) إن في خلق السماوات والأرض ( الآية ثم وصفهم فقال :
آل عمران : ( 191 ) الذين يذكرون الله . . . . .
) الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً ( .
قال علي وابن عباس والنخعي وقتادة : هذا في الصلاة يصلي قائماً ، فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى جنبه ، يسر من الله وتخفيف .
وقال سائر المفسرين : أراد به ذكر الله تعالى ، ووصفهم بالمداومة عليه ، إذ الإنسان قلما يخلوا من معنى هذه الحالات الثلاثة ، نظيره قوله في سورة النساء .
عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أراد أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله ) .
ويروى عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( ذكر الله تعالى علم الإيمان وبرء من النفاق وحصن من الشيطان وحرز من النيران ) .
وقال الله تعالى لموسى ( عليه السلام ) : يا موسى اجعلني منك على بال ولا تنس ذكري على كل حال ، وليكن همّك ذكري فإنّ الطريق إليَّ .
) ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ( إنّ لها صانعاً قادراً ومدبراً حكيماً .
روى حماد عن علي بن زيد عن أبي الصلت عن أبي هريرة : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما أُسري به إلى السماء السابعة فإذا ريح ودخان وأصوات قال : فقلت : ما هذا يا جبرئيل ؟ قال : هذه الشياطين يحرقون على أعين بني آدم أن لا يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض ، ولولا ذلك لرأوا العجائب .
وكان ابن عور يقول : الفكرة تذهب الغفلة وتحدث للقلب الخشية ، كما يحدث الماء الزرع والنبات ، وما جليت القلوب بمثل الأحزان ، ولا استنارت بمثل الفكرة . وحكى أن سفيان الثوري صلى خلف المقام ركعتين ثم رفع رأسه إلى السماء فلما رأى الكواكب غُشي عليه . وكان سفيان يبول الدم من طول حزنه وفكره .
(3/231)

" صفحة رقم 232 "
زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( بينما رجل مستلقي على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال : أشهد أن لي ربّاً وخالقاً اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له ) .
وقال أبو الأحوص : بلغني أن عابداً يعبد في بني إسرائيل ثلاثين سنة وكان الرجل منهم إذا تعبّد ثلاثين سنة أظلته غمامة ولم ير شيئاً ، فشكى ذلك إلى والده . فقال له : يا بُني فكّر هل أذنبت ذنباً منذ أخذت في عبادتك ؟ قال : لا ، ولا أعلمني هممت به منذ ثلاثين سنة . قال : يا بني بقيت واحدة إن نجوت منها رجوت أن يظلك ؟ قال : وما هي ؟ قال : هل رفعت طرفك إلى السماء ثم رددته بغير فكرة ؟ قال : كثير . قال : من هاهنا أتيت . ) ما خلقت هذا باطلا ( ذهب به إلى لفظ الخلق ولو ردّه إلى السماوات والأرض ، لقال : هذه باطلا عبثاً هزلا ، بل خلقته لأمر عظيم .
وانتصاب ( الباطل ) من وجهين : أحدهما : بنزع الخافض ، أي للباطل وبالباطل . والآخر : على المفعول الثاني .
) سبحانك فقنا عذاب النار }
آل عمران : ( 192 ) ربنا إنك من . . . . .
) ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ( أهنته .
وقال المفضل : أهلكته ، وأنشد :
أخزى الإله من الصليب عبيده
واللابسين قلانس الرهبان
وقيل : فضحته ، نظيره قوله : ) ولا تخزون في ضيفي ( . واتخذ القائلون بالوعيد هذه الآية جُنّة ، فقالوا : قد أخبر الله سبحانه أنه لا يخزي النبي والذين آمنوا معه ثم قال : ) إنك من تدخل النار فقد أخزيته ( فوجب أن كل من دخل النار فليس بمؤمن وأنه لا يخرج منها .
واختلف أهل التأويل في هذه الآية :
فروى قتادة عن أنس في قوله تعالى : ) إنك من تدخل النار فقد أخزيته ( قال : إنك من تخلد في النار .
وروى الثوري عن رجل عن ابن المسيب في قوله : ) إنك من تدخل النار فقد أخزيته ( فقال : هذه خاصة لمن لا يخرج منها .
وروى أبو هلال الرّاجي عن قتادة في قوله : ) إنك من تدخل النار فقد أخزيته ( إنك من تخلد في النار ، ولا نقول كما قال أهل حروراء ، حدثنا بذلك أنس بن مالك قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يخرج قوم من النار )
(3/232)

" صفحة رقم 233 "
وقال بعضهم : ( إنك من تدخل النار ) من خلد فيها ومن لم يخلد فقد أخزيته بالعذاب والهلاك والهوان . قال عمرو بن دينار : قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة ، فانتهيت إليه أنا وعطاء فقلت له : ( ربّنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) ، قال : وما إخزاؤه حين أحرقه بالنار إن دون ذلك لخزياً .
وقال أهل المعاني : الخزي يحتمل الحياء ، يقال : خزيٌ يخزي ، خزاية إذا استحيا .
قال ذو الرمّة :
خزاية أدركته عند جوليه
من جانب الحبل مخلوطاً بها الغضب
وقال القطامي في الثور والكلاب :
حرجاً وكر كرور صاحب نجدة
خزي الحرائر أن يكون جباناً
أي يستحي ، فخزي المؤمنين الحياء ، وخزي الكافرين الذل والخلود في النار .
) وما للظالمين من أنصار }
آل عمران : ( 193 ) ربنا إننا سمعنا . . . . .
) ربّنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ( يعني محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) ينادي للإيمان أي إلى الإيمان ، كقوله : ) لعادوا لما نهوا عنه ( .
وقيل : اللام بمعنى أجل .
قال قتادة : أخبركم الله عزّ وجلّ عن مؤمني الإنس كيف قالوا وعن مؤمني الجن كيف قالوا ، فأما مؤمنوا الجن فقالوا : ) إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد ( وأما مؤمنوا الإنس فقالوا ) ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان فآمنا ( .
) ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنّا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ( أي في جملة الأبرار
آل عمران : ( 194 ) ربنا وآتنا ما . . . . .
) ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ( على ألسِنَة رسلك كقوله : ) واسأل القرية ( .
وقرأ الأعمش : ( رسلك ) بالتخفيف .
) ولا تخزنا ( لا تعذبنا ولا تهلكنا ولا تفضحنا ولا تهنّا ) يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ( يعني قيل : ما وجه قولهم : ( ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ) وقد علموا وزعموا أن الله لا يخلف الميعاد ، والجواب عنه : إن لفظه الدعاء ، ومعناه الخبر تقديره : ( واغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنّا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ) ولا تخزنا ، وتؤتينا ما وعدتنا على ألسن رسلك من الفضل
(3/233)

" صفحة رقم 234 "
والرحمة والثواب والنعمة ، وقيل معناه : واجعلنا ممّن تؤتيهم ما وعدت على ألسنة رسلك ويستحقون ثوابك ، لأنهم ما تيقنوا إستحقاقهم لهذه الكرامة ، فسألوه أن يجعلهم مستحقين لها ، ولو كان القوم قد شهدوا بذلك لأنفسهم ، لكانوا قد زكّوها وليس ذلك من صفة الأبرار .
وقال بعضهم : إنما سألوا ربّهم تعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء وإعزاز الدين ، لأنها حكاية عن أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا : قد علمنا أنك لا تخلف وعدك من النصر والظفر على الكفار ، ولكن لا صبر لنا على حكمك ، فعجّل خزيهم وانصرنا عليهم .
ثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجز وعده ، ومن أوعد على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار ) .
عن الأصمعي قال : سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول : سألني عمرو بن عبيد : أيخلف الله وعده ؟ قلت : لا . قال : فيخلف الله وعيده ؟ قلت : نعم . قال : ولِمَ ؟ قلت : لأن في خلفه الوعد علامة ندم وفي خلفه الوعيد إظهار الكرم ، ثم أنشأ يقول :
ولا يرهب ابن العم ما عشت صولتي
ولا أختبي من خشية المتهدد
إني وإن أوعدته أو وعدته
لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
عن سعيد المقبري عن أبي هريرة : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقرأ عشر آيات من آخر آل عمران كل ليلة .
وعن يزيد بن أبي حبيب : أن عثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) قال : من قرأ في ليلة ) إن في خلق السماوات والأرض ( إلى آخرها كتبت له بمنزلة قيام ليلة .
آل عمران : ( 195 ) فاستجاب لهم ربهم . . . . .
) فاستجاب لهم ربّهم ( .
روى أبو بكر الهذلي عن الحسن قال : ما زالوا يقولون : ربّنا ربّنا حتى استجاب لهم ربّهم .
وروى عن الصادق أنه قال : من حزَّ به أمر فقال خمس مرات : ربنا أنجاه الله ممّا يخاف وأعطاه ما أراد . قيل له : وكيف ذلك ؟ قال : اقرؤا إن شئتم الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً إلى قوله تعالى الميعاد .
فأما نزول الآية : فقال مجاهد : قالت أم سلمة : يا رسول الله إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء بشيء ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
(3/234)

" صفحة رقم 235 "
قال : وقالت الأنصار : هي أول ظعينة قدمت علينا ) أني ( أي بأني أو لأني ، نصب بنزع الخافض .
وقرأ عيسى بن عمر : ( إني ) بكسر الألف ، كأنه أضمر القول أو جعل الإستجابة قولا .
) لا أضيع ( لا أحبط ولا أبطل ) عمل عامل منكم ( أيها المؤمنون ) من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ( .
قال الكلبي : يعني من الدين والنصرة والموالاة ، وقيل : حكم جميعكم في الثواب واحد ، وقيل : كلكم من آدم وحواء .
الضحاك : رجالكم بشكل نسائكم في الطاعة ونساؤكم بشكل رجالكم في الطاعة ، نظيرها قوله : ) والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ( ) فالذين هاجروا وأُخرجوا من ديارهم وأُوذوا في سبيلي ( أي في طاعتي ، وهم المهاجرون الذين أخرجهم المشركون من مكة وآذوهم ) وقاتلوا وقتلوا ( .
قرأ محارب بن دثار : ( وقتلوا ) بفتح القاف وقاتلوا .
وعن يزيد بن حازم قال : سمعت عمر بن عبد العزيز يقرأ : ( وقتلوا وقتلوا ) يعني أنهم قتلوا من قتلوا من المشركين ثم قتلهم المشركون .
وقرأ أبو رجاء والحسن وطلحة : ( وقاتلوا وقتِّلوا ) مشدداً .
قال الحسن : يعني إنهم قطّعوا في المعركة .
وقرأ عاصم وأبو عبيد وأهل المدينة : ( وقاتلوا وقتلوا ) يريد أنهم قاتلوا ثم قتلوا .
وقرأ يحيى بن وثَّاب والأعمش وحمزة والكسائي وخلف : ( وقتلوا وقاتلوا ) ولها وجهان : أحدهما وقاتل من بقى منهم ، تقول العرب : قتلنا بني تميم ، وإنما قتلوا بعضهم . والوجه الآخر : بإضمار ( قد ) أي وقتلوا وقد قاتلوا .
قال الشاعر :
تصابى وأمسى علاه الكبر
) لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنّهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند الله ( .
قال الكسائي : نصب ( ثواباً ) على القطع ، وقال المبرد : مصدر ومعناه : لأتينهم ثواباً .
(3/235)

" صفحة رقم 236 "
) والله عنده حسن الثواب ( .
عن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إن الله عزّ وجلّ يدعوا يوم القيامة بالجنة ويأتي بزخرفها وزينتها فيقول : أين عبادي الذين قاتلوا في سبيل الله وأوذوا في سبيلي وجاهدوا في سبيلي ادخلوا الجنة ، فيدخلونها بغير حساب ولا عذاب ، فتأتي الملائكة فيسجدون ويقولون : ربّنا نسبح الليل والنهار ونقدس لك من هؤلاء الذين آثرتهم علينا ، فيقول الله عزّ وجلّ : هؤلاء عبادي الذين أوذوا في سبيلي ، فيدخل عليهم الملائكة يقولون : سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) .
( ) لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِئَايَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلائِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ( 2
آل عمران : ( 196 ) لا يغرنك تقلب . . . . .
) لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ( نزلت في مشركي العرب ، وذلك أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش وكانوا يتجرون ويتنعمون ، فقال بعض المؤمنين : إن أعداء الله فيما يرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد ، فنزلت هذه الآية .
وقال الفراء : كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال ، فأنزل الله ) لا يغرنك ( .
وقرأ يعقوب : ( يغرنك ) وأخواتها ساكنة النون .
وأنشد :
لا يغرنك عشاء ساكن
قد يوافي بالمنيات السحر
) تقلب الذين كفروا ( : ضربهم وتصرفهم في البلاد للتجارات والبياعات وأنواع المكاسب والمطالب ، والخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد به غيره ، لأنه لم يغيّر لذلك .
قال قتادة في هذه الآية : والله ما غرّوا نبي الله ولا وكّل إليهم شيئاً من أمر الله تعالى حتى قبضه الله على ذلك ، نظيره قوله تعالى : ) فلا يغررك تقلبهم في البلاد ( ،
آل عمران : ( 197 ) متاع قليل ثم . . . . .
ثم قال : ) متاع قليل ( أي هو متاع قليل بُلغة فانية ومتعة زائلة ، لأن كل ما هو فان فهو قليل .
(3/236)

" صفحة رقم 237 "
الأعمش عن عمارة عن يزيد بن معاوية النخعي قال : إن الدنيا جعلت قليلا فما بقى منه إلاّ القليل من قليل .
روى سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن المستورد الفهري قال : سمعت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( ما الدنيا في الآخرة إلاّ مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ ، فلينظر بم يرجع ) .
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما الدنيا فيما مضى إلاّ كمثل ثوب شق باثنين وبقي خيط إلاّ وكان ذلك الخيط قد انقطع ) .
) ثم مأواهم ( مصيرهم ) جهنم وبئس المهاد }
آل عمران : ( 198 ) لكن الذين اتقوا . . . . .
) لكن الذين اتقوا ربّهم ( .
قرأ أبو جعفر : بتشديد النون ، الباقون : بتخفيفه .
) لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا ( .
قرأ الحسن والنخعي : ( نزلاً ) بتخفيف الزاي استثقالا لضمتين ، وثقّله الآخرون ، والنزل الوظيفة المقدرة لوقت .
قال الكلبي : جزاءً وثواباً من عند الله ، وهو نصب على التفسير ، كما يقال : هو لك صدقه وهو لك هبة ، قاله الفراء .
وقيل : هو نصب على المصدر ، أي انزلوا نزلا ، وقيل : جعل ذلك نزلا .
) وما عند الله خير للأبرار ( من متاع الكفار .
الحسن عن أنس بن مالك قال : دخلت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو على حصير مزمول بالشريط ، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف ، ودخل عليه عمر وناس من أصحابه فانحرف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) انحرافة فرأى عمر ( رضي الله عنه ) أثر الشريط في جنبه فبكى ، فقال له : ( ما يبكيك يا عمر ؟ ) فقال عمر : ومالي لا أبكي وكسرى قيصر يعيشان فيما يعيشان فيها من الدنيا وأنت على الحال الذي أرى .
فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا عمر ألم ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة ) قال : بلى . قال : ( هو كذلك ) .
آل عمران : ( 199 ) وإن من أهل . . . . .
) وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله ( الآية ، اختلفوا في نزولها
(3/237)

" صفحة رقم 238 "
فقال جابر بن عبد الله وابن عباس وأنس وقتادة : نزلت في النجاشي ملك الحبشة واسمه أضحمة وهو بالعربية عطية وذلك أنه لما مات نعاه جبرئيل لرسول الله في اليوم الذي مات فيه .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأصحابه : ( أُخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم ) .
قالوا : ومن هو ؟ قال : ( النجاشي ) ، فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى البقيع وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي ، وصلى عليه ركعتين وكبّر أربع تكبيرات واستغفر له ، وقال لأصحابه : ( استغفروا له ) .
فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
عطاء : نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران من بني الحرث بن كعب ، وأثني وثلاثين من أرض الحبشة ، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى فآمنوا بالنبي ( صلى الله عليه وسلم )
ابن جريج وابن زيد : نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه ، مجاهد : نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم .
) وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أُنزل إليكم ( يعني القرآن ) وما أُنزل إليهم ( يعني التوراة والإنجيل ) خاشعين لله ( خاضعين متواضعين ، وهو نصب على الحال والقطع ) لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلا ( يعني لا يحرّفون كتبهم ولا يكتمون صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) لأجل المأكلة والرئاسة ، كما فعلت رؤساء اليهود ) أولئك لهم أجرهم عند ربّهم إن الله سريع الحساب }
آل عمران : ( 200 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا اصبروا ( .
قال الحسن : ( اصبروا ) على دينكم فلا تدعوه لشدة ولا رخاء ولا سرّاء ولا ضرّاء ، قتادة : ( اصبروا ) على طاعة الله ، الضحاك ومقاتل بن سليمان : ( اصبروا ) على أمر الله عزّ وجلّ ، مقاتل ابن حيان : ( اصبروا ) على فرائض الله ، زيد بن أسلم : على الجهاد ، الكلبي : على البلاء .
قالت الحكماء : الصبر ثلاثة أشياء : ترك الشكوى ، وصدق الرضا ، وقبول القضاء . وقيل : الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنّة .
) وصابروا ( يعني الكفار ، قاله أكثر المفسرين .
قال عطاء والقرظي : ( وصابروا ) الوعد الذي وعدكم ، ) ورابطوا ( يعني المشركين ، وأصل الرباط أن يربط هؤلاء خيولهم وهؤلاء خيولهم ، ثم قيل ذلك لكل مقيم في ثغر يدفع عمّن وراءه وإن لم يكن له مركب ، قال الله تعالى : ) ومن رباط الخيل ( .
(3/238)

" صفحة رقم 239 "
قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا حامد ( الخازرنجي ) يقول : المرابطة اعتقال المبارزين في الحرب ، وأصل الربط الشد ، ومنه قيل للخيل : الرباط ، ويقال : فلان رابط الجأش ، أي قوي القلب .
قال لبيد :
رابط الجأش على كل وجل
قال عبيد : داوموا واثبتوا .
عن سمط بن عبد الله البجلي عن سلمان الفارسي : أنهم كانوا في جند المسلمين ، فأصابهم ضرّ وحصر فقال سلمان لصاحب الخيل : ألا أحدّثك حديثاً سمعته من رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيكون لك عوناً على الجند ، سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( من رابط يوماً أو ليلة في سبيل الله كان عدل صيام شهر وصلاته الذي لا يفطر ولا ينصرف من صلاة إلاّ لحاجة ، ومن مات مرابطاً في سبيل الله أجرى الله له أجرة حتى يقضي بين أهل الجنة وأهل النار ) .
الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( من رابط يوماً في سبيل الله جعل الله عزّ وجلّ بينه وبين النار سبعة خنادق ، كل خندق منها كسبع سماوات وسبع أرضين ) .
وفيه قول آخر وهو ما روى مصعب بن ثابت عن عبد الله بن الزبير عن عبد الله بن صالح قال : قال لي سلمة بن عبد الرحمن : يابن أخي هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية ) اصبروا وصابروا ورابطوا ( ؟ قال : قلت : لا . قال : إنه يابن أخي لم يكن في زمان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غزو يرابط فيه ، ولكنّه انتظار الصلاة خلف الصلاة . ودليل هذا التأويل ما روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ) قالوا : بلى يا رسول الله . قال : ( اسباغ الوضوء عند المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط ) .
وقال أصحاب اللسان في هذه الآية ) يا أيها الذين آمنوا اصبروا ( عند صيام النفس على احتمال الكرب ) وصابروا ( على مقابلة العناء والتعب ) ورابطوا ( في دار أعدائي بلا هرب .
) واتقوا الله ( بهمومكم من الألتفات إلى السبب ) لعلكم تفلحون ( غداً بلقائي على بساط الطرب .
(3/239)

" صفحة رقم 240 "
السري السقطي : اصبروا على الدنيا ، رجاء السلامة ( وصابروا ) عند القتال بالبينات والاستقامة ( ورابطوا ) هو النفس اللوامة ( واتقوا ) ما يعقب لكم الندامة ( لعلكم تفلحون ) غداً على بساط الكرامة . وقيل : ( اصبروا ) على بلائي ( وصابروا ) على نعمائي ( ورابطوا ) في دار أعدائي ( واتقوا ) محبة من سواي ( لعلكم تفلحون ) غداً بلقائي . وقيل : ( اصبروا ) على الدنيا ( وصابروا ) على البأساء والضراء ( ورابطوا ) في دار الأعداء ( واتقوا ) إلاه الأرض والسماء ( لعلكم تفلحون ) في دار البقاء .
(3/240)

" صفحة رقم 241 "
( سورة النساء )
مدنية ، وهي ستة عشر ألف وثلاثين حرفاً ، وثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأربعين كلمة ومائة ، وست وسبعين آية
عن أبي أُمامة عن أُبي بن كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة النساء فكأنما تصدق على كل مؤمن ورث ميراثاً ، وأعطى من الأجر كمن اشترى محرراً وبرئ من الشرك وكان في مشيئة الله من الذين يتجاوز عنهم ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
2 ( ) يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالاَْرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً وَءَاتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذالِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ وَءَاتُواْ النِّسَآءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَآءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ ءَانَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ( 2
النساء : ( 1 ) يا أيها الناس . . . . .
) يا أيها الناس اتقوا ربّكم الذي خلقكم من نفس واحدة ( يعني آدم ) وخلق منها زوجها ( يعني حواء ، ونظيرها في سورة الأعراف والزّمر ) وبث ( نشر وأظهر ) منهما رجالا كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به ( تسألون به ، وخففه أهل الكوفة على حذف إحدى التائين تخفيفاً كقوله : ) ولا تعاونوا ( ونحوها ، ) والأرحام ( .
قرأة العامة : نصب أي واتقوا الأرحام إن تقطعوها .
(3/241)

" صفحة رقم 242 "
وقرأ النخعي ويحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف وقتادة والأعمش وحمزة : بالخفض على معنى وبالأرحام ، كما يقال : سألتك بالله والرحمن ، ونشدتك بالله والرحمن ، والقراءة الأولى أصح وأفصح ، لأن العرب لا يكلأ بنسق بظاهر على المعنى ، إلاّ أن يعيدوا الخافض فيقولون : مررت به وبزيد ، أو ينصبون .
كقول الشاعر :
يا قوم مالي وأبي ذويب
إلاّ أنه جائز مع قوله ، وقد ورد في الشعر .
قال الشاعر :
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا
اذهب فمالك والأيام من عجب
وأنشد الفراء لبعض الأنصار :
نعلق في مثل السواري سيوفنا
وما بينها والكعب غوط نفانف
وقرأ عبد الله بن يزيد المقبري : ( والأرحام ) رفعاً على الابتداء ، كأنه نوى تمام الكلام عند قوله ) تساءلون به ( ثم ابتدأ كما يقال : زيد ينبغي أن يكرم ، ويحتمل أن يكون إغراء ، لأن العرب من يرفع المغري .
وأنشد الفراء :
أين قوماً منهم عمير
وأشباه عمير ومنهم السفاح
لجديرون باللقاء إذا قال
أخو النجدة السلاح السلاح
) إن الله كان عليكم رقيباً ( أي حافظاً ، قيل : بمعنى فاعل
النساء : ( 2 ) وآتوا اليتامى أموالهم . . . . .
) وآتوا اليتامى أموالهم ( الآية .
قال مقاتل والكلبي : نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ اليتيم طلب المال ، فمنعه عمه فترافع إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت هذه الآية ، فلما سمعها العم قال : أطعنا الله وأطعنا الرسول ، نعوذ بالله من الحوب الكبير فدفع إليه ماله .
قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من يوق شح نفسه ويطع ربّه هكذا فإنه يحل داره ) يعني جنته ، فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثبت الأجر وبقي الوزر )
(3/242)

" صفحة رقم 243 "
فقالوا : يا رسول الله قد عرفنا أنه ثبت الأجر فكيف بقي الوزر ؟ وهو بقي في سبيل الله .
فقال : ( يثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده ، وآتوا خطاب لأولياء اليتيم والأوصياء ) .
وقوله تعالى : ) اليتامى ( فلا يتم بعد البلوغ ، ولكنه من باب الاستعارة ، كقوله : ) وألقى السحرة ساجدين ( ولا سحرة مع السجود ، ولكن سمّوا بما كانوا عليه قبل السجود ، وقوله : ) وآتوا اليتامى أموالهم ( أي من كانوا يتامى إذا بلغوا وآنستم منهم رشداً ، نظيره : ) وابتلوا اليتامى ( ، ) ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ( يعني لا تستبدلوا مالهم الحرام عليكم بأموالكم الحلال لكم ، نظيره قوله : ) لا يستوي الخبيث والطيب ( واختلفوا في معنى هذا التأويل وكيفيته :
فقال سعيد بن المسيب والنخعي والزهري والسدي والضحاك : كان أولياء اليتامى وأوصيائهم يأخذون الجيد والرفيع من مال اليتامى ، ويجعلون مكانه الرديء والخسيس ، فربما كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من مال اليتيم ويجعل مكانها الشاة المهزولة ، ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف ، ويقول : درهم بدرهم ، فذلك تبدلهم فنهاهم الله تعالى عنها .
عطاء : لا تربح على يتيمك الذي عندك وهو غر صغير .
ابن زيد : كان أهل الجاهلية لا يورّثون النساء والصبيان ويأخذ الأكبر الميراث .
وقال ابن زيد : ( وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان ) لا يورثوهن شيئاً فنصيبه من الميراث طيب وهذا الذي أخذه خبيث . مجاهد وباذان : لا تعجل الرزق الحرام قبل أن يأتيك الحلال .
) ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ( أي مع أموالكم ، كقوله : ) مَن أنصاري إلى الله ( .
وأنشد المفضل سلمة بن الخرشب الأنصاري :
يسدون أبواب القباب بضمر
إلى عنن مستوثقات نقاب الأواصر
أي مع غنن .
) إنه كان حوباً كبيراً ( أي إثماً عظيماً ، وفيه ثلاث لغات
(3/243)

" صفحة رقم 244 "
قرأه العامة : حُوباً بالضم ، وهي لغة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأهل الحجاز ، يدل عليه ما روى أبو عبيد عن عباد بن عباد عن واصل مولى ابن عيينة قال : قلت لابن سيرين كيف يُقرأ هذا الحرف : إنه كان حوباً أو حَوباً ؟ فقال : إن أبا أيوب أراد أن يطلق أم أيوب ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن طلاق أم أيوب حُوب ) .
وقرأ الحسن : ( حَوباً ) بفتح الحاء وهي لغة تميم .
( وقال مقاتل : لغة الحبش ) .
وقرأ أُبي بن كعب : ( حاباً ) على المصدر ، مثل القال ، ويجوز أن يكون اسماً مثل الراد والنار ، ويقال للذنب حُوب وحَوب وحاب وللأذناب ، كذلك يكون مصدراً واسماً ، فقال : حاب يحوب حُوباً وحوباً وحاباً وحباية إذا أثم .
قال أبو معاذ : نزلنا منزلا قريباً من مدينة ، فرمى رجل غطاية صغيرة ( فقيل له ) : يا حاج لا تقتلها فتصيب حوباً إنها لا تؤذي ، ومنه قيل للقاتل حائب ، حكاه الفراء عن بني أسد .
وقال أمية بن الأسكن الليثي وكان ابنه قد هاجر بغير إذنه :
وإن مهاجرين تكنفاه
غداتئذ لقد خطئا وحابا
وقال آخر :
عض على شبدعه الأريب
فظل لا يلحي ولا يحوب
وقال آخر :
وابن ابنها منا ومنكم وبعلها
خزيمة والأرحام وعثاء حوبها
أي شديد إثمها .
وقال آخر :
فلا تبكوا عليَّ ولا تحنوا
بقول الإثم إن الإثم حوب
النساء : ( 3 ) وإن خفتم ألا . . . . .
) وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ( الآية ، اختلف المفسرون في تنزيلها وتأويلها
(3/244)

" صفحة رقم 245 "
فقال بعضهم : معناها وإن خفتم ألاّ تعدلوا يا معشر أولياء اليتامى فيهن ، إذا تزوجتم بهن فانكحوا غيرهن من الغرائب اللواتي أحلهن الله لكم .
وروى الزهري عن عروة عن عائشة قال : قلت لها ما قول الله تعالى : ) وإن خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى ( فقالت : يابن أخي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن ينكحها بأدنى من صداقها فنهي أن تنكحوهن إلاّ أن تقسطوا لهن في إكمال الصداق ، وأُمروا أن ينكحوا ما سواهنّ من النساء .
قال الحسن : كان الرجل من أهل المدينة يكون عنده الأيتام وفيهن من يحل له تزويجها فيقول لها : لا أدخل في رباعي أحداً كراهة أن يدخل غريب فيشاركه في مالهنّ ، فربما يتزوجهن لأجل مالهن ومن لا يعجبنه ثم نسى صحبتهن ويتربص بهن أن يمتن فيرثهن ، فعاب الله عزّ وجلّ ذلك وأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية .
عكرمة : كان الرجل من قريش يتزوج العشر من النساء والأكثر والأقل ، فإذا صار معدما لما يلزمه من مؤن نسائه ، مَالَ على مال يتيمته التي في حجره فأنفقه فقيل لهم : امسكوا عن النساء ولا تزيدوا على أربع حتى لا يخرجكم إلى أخذ أموال اليتامى ، وهذه رواية طاوس عن ابن عباس ، ومعنى رواية عطية عنه .
وقال بعضهم : كانوا يتحرجون ويتحوبون عن أموال اليتامى ويترخصون في النساء ولا يتعددون فيهن ويتزوجون ما شاؤا ، فربما عدلوا وربما لم يعدلوا ، فلما سألوا عن حال مال اليتامى أنزل الله ) وآتوا اليتامى أموالهم ( الآية ، وأنزل أيضاً هذه الآية ) وإن خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى ( يقول : كما خفتم ألاّ تقسطوا في اليتامى وهمّكم ذلك ، فكذلك فخافوا في النساء أن لا تعدلوا فيهن ولا تتزوجوا أكثر ممّا يمكنكم امساكهنّ والقيام بحقهن ، لأن النساء كاليتيم في الضعف والعجز ، فما لكم تراقبون الله عزّ وجلّ في شيء وتعصونه في مثله ، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي ، ورواية الوالبي عن ابن عباس .
وقال الحسن أيضاً : تحرجوا من نكاح اليتامى كما تحرجوا من أموالهم ، فأنزل الله هذه الآية ، ورخص فيهن وقصر بهن على عدد ، فعليكم العدل فيهن ، فإن خفتم يا معشر الأولياء في اليتامى التي أنتم ولاتهن ألاّ تقسطوا ، فأنكحوهن ولا تزيدوا على أربع ، لتعدلوا ، فإن خفتم ألاّ تعدلوا فيهن فواحدة .
قال ابن عباس : قصر الرجال على أربع من النساء من أجل اليتامى .
مجاهد : معناه إن تحرجتم من ولاية اليتامى فأموالهم إيماناً وتصديقاً ، فكذلك تحرجوا عن الزنا ، فانكحوا النساء الحلال نكاحاً طيباً ، ثم بيّن لهم عدداً محصوراً وكانوا يتزوجون ما شاؤا من غير عدد ، فأنزل الله ) وإن خفتم ألاّ تقسطوا ( أي أن لا تعدلوا .
(3/245)

" صفحة رقم 246 "
وقرأها إبراهيم النخعي : ( تَقسطوا ) بفتح التاء وهو من العدل أيضاً .
قال الزجاج : قسط واقسط واحد ، إلاّ أن الأفصح اقسط إذا عدل ، وقسط إذا جار ، وإن حملت قراءة إبراهيم على الجور وجعلت لا لغواً صحّ الكلام ، واليتامى جمع لذكران الأيتام .
) فانكحوا ما ( .
قرأ إبراهيم بن أبي عيلة : ( مَن ) لأن ما لما لا يعقل ومَن لما يعقل ، ومن قرأ ( ما ) فله وجهان :
أحدهما : أن ردّه إلى الفعل دون العين تقديره : فانكحوا النكاح الذي يحل لكم من النساء ، وهذا كما تقول : خذ من رفيقي ما أردت والإخوان ، تجعل ( ما ) بمعنى ( من ) ، والعرب يعقب ما من ومن ما .
قال الله تعالى ) والسماء وما بناها ( وأخواتها ، وقال : ) فمنهم من يمشي على بطنه ( الآية .
وحكى أبو عمرو بن العلاء : أن أهل مكة إذا سمعوا الرعد قالوا : ( سبحان ما يسبّح له الرعد ) ، وقال الله : ) قال فرعون وما ربّ العالمين ( .
) طاب ( حل ) لكم من النساء ( .
وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش ( طاب ) : بالإمالة وفي مصحف أُبيّ : ( طيب ) بالياء ، وهذا دليل الإمالة .
) مثنى وثلاث ورباع ( معدولات عن اثنين وثلاث وأربع ، فلذلك لا يصرفن ، وفيها لغات موحد ومثنى ومثلث ومربع ، وأحاد وثناء وثلاث ورباع ، وأحد وثنى وثلث وربع ، مثل عمر وزفر .
وكذلك قرأ النخعي في هذه الآية ، ولا يزاد من هذا البناء على الأربع إلاّ بيتاً جاء عن الكميت :
فلم يستريثوك حتى رميت
فوق الرجال خصالا عشاراً
يعني طعنت عشرة
(3/246)

" صفحة رقم 247 "
قالوا : وهاهنا بمعنى ( لو للتحقيق ) كقوله ) إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ( وقوله ) أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ( وهذا إجماع الأمة ، وخصائص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) غير مشتركة .
الكلبي عن خميصة بنت الشمردل : أن قيس بن الحرث حدثها أنه كان تحته ثمان نسوة حرائر ، قال : فلما نزلت هذه الآية قلت : يا رسول الله قد أنزل الله عليك تحريم تزوج الحرائر إلاّ أربع حرائر وأن تحتي ثمان نسوة ، قال : ( فطلّق أربعاً وأمسك أربعاً ) . قال : فرجعت إلى منزلي فجعلت أقول للمرأة التي ما تلد مني يا فلانة أدبري وللمرأة التي قد ولدت يا فلانة أقبلي ، فيقول للتي طلق أنشدك الله والمحبة قال : فطلقت أربعاً وأمسكت أربعاً .
) فإن خفتم ( خشيتم ، وقيل : علمتم ) ألاّ تعدلوا ( بين الأربع ) فواحدة ( .
قرأ العامة : بنصب .
وقرأ الحسن والجحدري وأبو جعفر : ( فواحدةٌ ) بالرفع ، أي فليكفيكم واحدة ، أي واحدة كافية ، كقوله عزّ وجلّ : ) فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ( .
) أو ما ملكت أيمانكم ( يعني الجواري والسراري ، لأنه لا يلزمكم فيهن من الحقوق والذي يلزمكم في الحرمة ، ولا قسمة عليكم فيهن ولا وقت عليكم في عددهن ، وذكر الإيمان بيان تقديره ) أو ما ملكت ( .
وقال بعض أهل المعاني : ( أو ما ملكت أيمانكم ) أي ما ينفذ فيه أقسامكم جعله من يمين الحلف لا يمين الجارحة ، واحتج بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم ) .
) ذلك أدنى ( أقرب ) ألاّ تعولوا ( .
(3/247)

" صفحة رقم 248 "
عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله عزّ وجلّ : ) ذلك أدنى ألاّ تعولوا ( قال : ( ألاّ تجوروا ) .
وروى هشام بن عروة عن عائشة أيضاً عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله عزّ وجلّ : ) ذلك أدنى ألاّ تعولوا ( أن لا تميلوا ، وأكثر المفسرين على هذا .
قال مقاتل : هو لغة جرهم ، يقال : ميزان عائل ، أي مائل . وكتب عثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه : أني لست بميزان لا أعول .
وأنشد عكرمة لأبي طالب :
بميزان صدق لا يغل شعيرة
له شاهد من نفسه غير عائل
وقال مجاهد : ذلك أدنى ألاّ تضلوا . وقال الفراء والأصم : أن لا تجاوزوا ما فرض الله عليكم ، وأصل العول المجاوزة ، ومنه عول الفرائض . وقال الشافعي : أن لا تكثر عيالكم وما قال هذا أحد غيره وإنما يقال : أعال يعيل إذا كثر عياله .
قال أبو حاتم : كان ( الشافعي ) أعلم بلغة العرب منّا ولعله لغة .
قال الثعلبي : قال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب : سألت أبا عمرو الدوري عن هذا وكان إماماً في اللغة غير مدافع فقال : هي لغة حمير .
وأنشد :
وإنّ الموت يأخذ كل حيّ
بلاشك وإن أمشى وعالا
أي كثرت ماشيته وعياله .
قال أبو عمرو بن العلاء : لقد كثرت وجوه العرب حتى خشيت أن آخذ عن لاحن لحناً .
وقرأ طلحة بن مصرف : ألاّ تعيلوا ، وهو قوة قول الشافعي . وقرأ بعضهم : ألاّ تعيلوا من العيلة أي لا تفتقروا .
قال الشاعر :
ولا يدري الفقير متى غناه
ولا يدري الغني متى يعيل
وقرأ طاووس : لا تعيلوا من العلة .
روى بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل ) .
(3/248)

" صفحة رقم 249 "
النساء : ( 4 ) وآتوا النساء صدقاتهن . . . . .
) وآتوا النساء صدقاتهن نِحلة ( .
قال الكلبي وجماعة من العلماء : هذا خطاب للأولياء ، وذلك أن ولي المرأة كان إذا زوّجها غريباً حملوها إليه على بعير ولا يعطونها من مهرها شيء ، فإن كانت معهم في العشيرة لم يعطها من مهرها قليلا ولا كثيراً ، وان كانت غريبة حملها على بعير إلى زوجها ولم يعطها شيئاً غير ذلك البعير ، ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت : هنيئاً لك النافجة ، يريدون أنه يأخذ مهرها إبلا فيضمها إلى إبله فينتفجها أي يعظمها ويكثرها .
قال بعض النساء في زوجها :
لا تأخذ الحلوان من بناتها
تقول : لا يفعل ما يفعله غيره ، فنهاهم الله عزّ وجلّ عن ذلك وأمرهم بأن يدفعوا الحق إلى أهله .
قال الحضرمي : كان أولياء النساء يعطي هذا أخته على أن يعطيه الآخر أخته لا مهر بينهما ، فنهوا عن ذلك وأمرهم بتسميته وأمروا المهر عند العقد .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا شغار في الإسلام ) .
وقال آخرون : الخطاب للأزواج أُمروا بإيفاء نسائهن مهورهنّ التي هي أثمان فروجهنّ ، وهذا أصح وأوضح بظاهر الآية وأشبه ، لأن الله تعالى خاطب الناكحين فيما قبله ، وهذا أصل خطابهم . والصَدُقات المهور واحدها صدقة بفتح الصاد وضم الدال على لفظ الجمع ، وهي لغة أهل الحجاز وتميم . يقول صُدقة بضم الصاد وجزم الدال ، فإذا جمعوا قالوا : صُدقات بضم الصاد وسكون الدال ، وصُدُقات بضم الصاد والدال مثل ظلمة وظلمات ، وظلمات نظيرها المثلات ، لغة تميم مثلة ومثلات ومَثُلات بفتح الميم وضم الثاء واحدتها مثلة على لفظ الجمع لغة الحجاز .
) نحلة ( قال قتادة : فريضة واجبة ، ابن جريح وابن زيد : فريضة مسمّاة . قال أبو عبيد : ولا تكون النحلة مسماة معلومة ، الكلبي : عطية وهبة ، أبو عبيدة : عن طيب نفس ، الزجاج : تديناً ، وفيه لغتان : نِحلة ونَحلة ، وأصلها من العطاء وهي نصب على التفسير وقيل على المصدر .
روى مرثد بن عبد الله عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج ) .
(3/249)

" صفحة رقم 250 "
وعن يوسف بن محمد بن عبد الحميد بن زياد بن صهيب عن أبيه عن جده صهيب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أدان بدين وهو مجمع أن لا يفي به لقى الله عزّ وجلّ سارقاً ، ومن أصدق امرأة صداقاً وهو مجمع على أن لا يوفيها لقى الله عزّ وجلّ زانياً ) .
) فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً ( يعني فإن طابت نفوسهنّ بشيء من ذلك فوهبن منكم فنقل الفعل من النفوس إلى أصحابها ، فخرجت النفس مفسرة ، ولذلك وحَدَّ النفس ، كما يقال : ضاق به ذرعاً وقرَّ به عيناً ، قال الله تعالى : ) وضاق بهم ذرعاً ( .
وقال بعض نحاة الكوفة : لفظها واحد ومعناها جمع ، والعرب تفعل ذلك كثيراً .
قال الشاعر :
بها جيف الحسرى فأما عظامها
فبيض وأما جلدها فصليب
وقال آخر :
في حلقكم عظم وقد شجينا
وقال بعض نحاة البصرة :
إذا ما دنا الليل المضى بذي الهوى
والهوى مصدر ، والمصادر لا تجمع ) فكلوه ( أي خذوه واقبلوه ) هنيئاً مريئاً ( قال الحضرمي : إن أُناساً كانوا يتأثمون أن يرجع أحدهم في شيء ممّا ساق إلى امرأته ، فقال الله : ) فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً ( من غير إكراه ولا خديعة فكلوه هنيئاً مريئاً أي سائغاً طيباً ، وهو مأخوذ من هنّات البعير إذا عالجته بالقطران من الجرب ، معناه فكلوه هنيئاً شافياً معافياً ، هنأني الطعام يهنيني بفتح النون في الماضي وكسره في الغابر يهنيني يهناني على الضد وهي قليلة ، والمصدر منهما هنؤ يقال : هنأني ومرأني بغير ألف فيها ، فإذا أفردوا قالوا : أمرأني بالألف وقيل الهنى الطيب المتاع الذي لا ينغصه شيء ، والمرىء المحمود العاقبة التام الهظم الذي لا يضر ولا يؤذي ، يقول : لا تخافون في الدنيا مطالبة ولا في الآخرة تبعة ، يدل عليه ما روى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه سأل عن هذه الآية ) فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً ( قال : ( إذا جادت لزوجها بالعطية غير مكرهة لا يقضي به عليكم سلطان ولا يؤاخذكم الله تعالى به في الآخرة ) .
(3/250)

" صفحة رقم 251 "
روى إبراهيم بن عيسى عن علي بن علي عن أبي حمزة قال : ( هنيئاً ) لا إثم فيه ( مريئاً ) لاداء فيه في الآخرة .
وروى شعبة عن علي قال : إذا ابتلى أحدكم شيئاً فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها ثم يشتر به عسلاً ، فليشربه بماء السماء فيجمع الله له الهنيء المريء والشفاء والماء المبارك .
النساء : ( 5 ) ولا تؤتوا السفهاء . . . . .
) ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً ( الآية .
اختلفوا في هؤلاء السفهاء من هم ؟
فقال قوم : هم النساء .
قال الحضرمي : عمد رجل فدفع ماله إلى امرأته فوضعته في غير الحق ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
مجاهد : نهى الرجال أن يؤتوا النساء أموالهم وبين سفهاء من كن أزواجاً أو كن أو بنات أو أُمهات .
جويبر عن الضحاك : النساء من أسفه السفهاء ، يدل على صحة هذا التأويل ما روى علي بن زيد عن القاسم عن أبي أُمامة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا إنما خلقت النار للسفهاء يقولها ثلاثاً ألا وإن السفهاء النساء إلاّ امرأة أطاعت قيّمها ) .
أبان عن ابن عياش عن أنس بن مالك قال : جاءت امرأة سوداء جريئة المنطق ذات ملح إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : بأبي وأمي أنت يا رسول الله قُل فينا خيراً مرة واحدة ، فإنه بلغني أنك تقول فينا كل شرّ . قال : ( أي شيء قلت لكُنّ ؟ ) قالت : سمّيتنا السفهاء في كتابه وسمّيتنا النواقص .
فقال : ( وكفى نقصاناً أن تدعن من كل شهر خمسة أيام لا تصلين فيهنَّ ، أما يكفي إحداكنَّ إذا حملت كان لها كأجر المرابط في سبيل الله ، وإذا وضعت كانت كالمتشحط بدمه في سبيل الله ، وإذا أرضعت كان لها بكل جرعة كعتق رقبة من ولد إسماعيل ، وإذا سهرت كان لها بكل سهرة تسهرها كعتق رقبة من ولد إسماعيل ، وذلك للمؤمنات الخاشعات الصابرات اللاتي لا يكفرن بالعشير ) . قالت السوداء : يا له فضلاً لولا ما تبعه من الشرط .
وروى عاصم عن مورق قال : مرّت امرأة بعبد الله بن عمر لها شارة وهيبة فقال لها ابن عمر : ) ولاتؤتوا السفهاء أموالكم ( . وقال معاوية بن قرة : عوّدوا نساءكم فإنهن سفيهات ، إن أطعت المرأة أهلكتك .
(3/251)

" صفحة رقم 252 "
وقال آخرون : هم الأولاد ، وهي رواية عطية عن ابن عباس .
قال الزهري وأبو مالك وابن يقول : لا تعط ولدك السفيه مالك الذي هو قوامك بعد الله فيفسده ، وقال بعضهم : هم النساء والصبيان . قال الحسن : هي امرأتك السفيهة وأبنك السفيه .
قتادة : أمر الله بهذا المال أن يُخزن فيحسن خزائنه ولا تملكه المرأة السفيهة ولا الغلام السفيه فيبذره ، قال الله تعالى : ) ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( .
عبيد عن الضحاك : ولا تعطوا نساءكم وأبناءكم أموالكم فيكونوا عليكم أرباباً .
ابن عباس : لا تعمد إلى مالك الذي خوّلك الله تعالى وجعله لك معيشة فتعطيه امرأتك وبنيك ، فيكونوا هم الذين يقومون عليك ، ثم تنظر إلى ما في أيديهم ، ولكن أمسك وأصلحه وكن أنت الذي تنفق عليهم في كسوتهم ورزقهم ومؤنتهم .
الكلبي : إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة وأن ولده سفيه مفسد ، فلا ينبغي له أن يسلط واحداً منهما على ماله ليفسده .
وقال السدي : لا تُعط المرأة مالها حتى تتزوج وإن قرأت التوراة والإنجيل والقرآن ، ولا تعط الغلام ماله حتى يحتلم .
وقال سعيد بن جبير وعكرمة : هو مال اليتيم يكون عندك ، يقول : لا تؤته إياه ، وأنفق عليه حتى يبلغ ، فإن قيل على هذا القول : كيف أضاف المال إلى الأولياء فقال : ( أموالكم ) وهي أموال السفهاء ؟ قيل : إنما أضاف إليهم لأنها الجنس الذي جعله الله أموالا للناس كقوله : ) لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ( وقوله : ) فاقتلوا أنفسكم ( ردّها إلى الجنس ، أي الجنس الذي هو جنسكم .
وقال محمد بن جرير : إنما أضيفت إلى الولاة لأنهم قوامها ومدبروها ، والسفيه الذي لا يجوز لوليه أن يؤتيه ماله ، هو المستحق للحجر بتضييعه ماله وإفساده وسوء تدبيره .
روى الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال : ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم : رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ، ورجل كان له على رجل دين فلم يُشهد عليه ، ورجل أعطى سفيهاً ماله وقد قال الله ) ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ( أي الجهال بموضع الحق .
) أموالكم التي (
.
(3/252)

" صفحة رقم 253 "
قرأ الحسن والنخعي : اللاتي ، وهما بمعنى واحد .
وأنشد :
من اللواتي والتي واللاتي
زعمن أني كبرت لذاتي
فجمع بين ثلاث لغات .
قال الفراء : العرب تقول في جمع النساء : اللاتي ، أكثر مما تقولون : التي ، ويقولون في جمع الأموال وسائر الأشياء : التي ، أكثر ممّا يقولون : اللاتي ، وهما جائزان .
) جعل الله لكم قياماً ( قرأ ابن عمر ( قَواما ) بالواو وفتح القاف كالدوام ، وقرأ عيسى بن عمر ( قِواما ) بكسر القاف على الفعل ، لأن الأصل الواو .
وقال الكسائي : هما لغتان ومعناهما واحد ، وكان أبو حاتم يفرّق بينهما فيقول : القوام بالكسر الملاك ، والقوام بالفتح امتداد القامة .
وقرأ الأعرج ونافع : ( قِيّما ) بكسر القاف .
الباقون : ( قياماً ) وأصله قواماً فانقلب الواو ياءً ، لانكسار ما قبلها ، مثل صيام ونيام ، وهن جميعاً ملاك الأمر وما يقوم به الإنسان ، يقال : فلان قوام أهل بيته ، وأراد هاهنا قوام عيشكم الذي تعيشون به .
وقال الضحاك : به يقام الحج والجهاد وأعمال البر ، وهي فكاك الرقاب من النار .
وقال بعضهم : أموالكم التي تقومون بها قياماً .
) وارزقوهم فيها ( أي أطعموهم ) واكسوهم ( لمن يجب عليكم رزقه ويلزمكم نفقته ، والرزق من الله عزّ وجلّ عطية غير محدودة ، ومن الناس الاجراء الموظف بوقت محدود ، يقال : رزق فلان عياله كذا وكذا ، أي أجرى عليهم ، وإنما قال : فيها ، ولم يقل : منها ، لأنه أراد أن يجعل لهم فيها رزقاً ، كأنه أوجب عليهم ذلك . ) وقولوا لهم قولا معروفاً ( عدة جميلة .
وقال عطاء : ( قولا معروفاً ) إذا ربحت أعطيتك كذا وإن غنمت في غزاتي جعلت لك حظاً .
الضحاك : ردوا عليهم رداً جميلا .
وقيل : هو الدعاء .
قال ابن زيد : إن كان ليس من ولدك ولا ممّن يجب عليك نفقته فقل له قولا معروفاً ، قل له عافانا الله وإيّاك بارك الله فيك .
(3/253)

" صفحة رقم 254 "
وقال المفضل : قولا ليناً تطيب به أنفسهم ، وكلما سكنت إليه النفس أحبته من قول أو عمل فهو معروف ، وما أنكرته وكرهته ونفرت منه فهو منكر
النساء : ( 6 ) وابتلوا اليتامى حتى . . . . .
) وابتلوا اليتامى ( الآية ، نزلت في ثابت بن رفاعة وفي عمه ، وذلك أن رفاعة توفى وترك ابنه ثابتاً وهو صغير ، فأتى عمُ ثابت إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إن ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله ، ومتى أدفع إليه ماله ، فأنزل الله تعالى ) وابتلوا اليتامى ( أي اختبروهم في عقولهم وأبدانهم وحفظهم أموالهم ) حتى إذا بلغوا النكاح ( أي مبلغ الرجال والنساء ) فإن أنستم ( أبصرتم ، قال الله : ) آنس من جانب الطور ناراً ( .
قال الشاعر :
آنست نبأة وأفزعها القناص
عصراً وقد دنا الإمساء
وفي مصحف عبد الله : فإن أحسنتم بمعنى أحسستم ، فحذف إحدى السينين كقولهم : ) فظلتم تفكهون ( .
قال الشاعر :
خلا إن العتاق من المطايا
أحسن به فهنّ إليه شوس
) منهم رشداً ( . قرأه العامة : بضم الراء وجزم الشين . وقرأ السلمي وعيسى : بفتح الراء والشين ، وهما لغتان .
قال المفسرون : يعني عقلا وصلاحاً وحفظاً للمال وعلماً بما يصلحه .
قال سعيد بن جبير ومجاهد والشعبي : إن الرجل يأخذ بلحيته وما بلغ رشده فلا يدفع إلى اليتيم ماله وإن كان شيخاً ، حتى يؤنس منه رشده .
قال الضحاك : لا يُعطى اليتيم وإن بلغ مائة سنة حتى يعلم منه إصلاح ماله .
ذكر حكم الآية :
اعلم أن الله تعالى علق زوال الحجر عن اليتيم الصغير وجواز دفع ماله إليه بشيئين : البلوغ والرشد ، بعد أن أمر الأولياء بالابتلاء .
ومعنى الابتلاء على ما ذكره جماعة من الفقهاء : الصغير لا يخلو من أحد أمرين : إما أن
(3/254)

" صفحة رقم 255 "
يكون غلاماً أو جارية ، فإن كان غلاماً رُدَّ النظر في نفقة الدار إليه شهراً أو إعطائه شيئاً نزراً يتصرف فيه ليعرف كيف تدبيره وتصرفه فيه ، وإن كان جارية رُدَّ إليها ما يُرد إلى ربّة البيت من تدبير بيتها والنظر فيه ، وفي الاستغزال والاستقصاء على الغزالات في دفع القطن وأجرته واستيفاء الغزل وجودته ، فإن رشدا وإلاّ بقيا تحت الحجر حتى يؤنس رشدهما ، فأما البلوغ فإنه يكون بأحد خمسة أسباب ، ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء واثنان يختص بهما النساء ، والتي يشترك فيها الرجال والنساء : فالاحتلام وهو إنزال المني ، فمتى أنزل واحد منهما فقد بلغ ، سواء كان من جُماع أو احتلام أو غيرهما ، والدليل عليه قوله : ) وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا ( وقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن : ( خذ من كل حالم ديناراً أوعدله من المعافر ) .
واختلف العلماء فيه ، فقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد : إذا استكمل الصبي خمس عشرة سنة أو أنبت حكمنا ببلوغه .
وقال أبو حنيفة : إن كانت جارية فبلوغها سبع عشرة سنة ، وعنه في الغلام روايتان :
أحدهما : تسع عشرة سنة ، وهي الأشهر وعليها النظر .
وروى اللؤلؤي عنه : ثمان عشرة سنة . وقال مالك وداود : لا يبلغ بالسن ثم اختلفا ، فقال داود : لا يبلغ بالسن مالم يحتلم ولو بلغ أربعين سنة ، وقال مالك : بلوغه بأن يغلظ صوته أو تنشق أرنبته .
والدليل على أن جدّ البلوغ بالسن خمس عشرة سنة حديث عبد الله بن عمر قال : عرضت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عام أُحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني فلم يرني بلغت أي ، وعرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني الله في المقاتلة .
والإنبات وهو أن ينبت : في الغلام أو الجارية الشعر الخشن حول الفرج .
وللشافعي في الإنبات قولان :
أحدهما : أنه بلوغ ، والثاني : دلالة البلوغ .
وقال أبو حنيفة : لا يتعلق بالإنبات حكم ، وليس هو ببلوغ ولا دلالة عليه .
والدليل على أن البلوغ بالإنبات متعلق بما روى عطية القرظي عن سعد بن معاذ أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حكّمه في بني قريظة قال : فمكثت أكشف عنهم فكل من أنبت قتلته ، ومن لم ينبت جعلته في الذرّية
(3/255)

" صفحة رقم 256 "
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ) .
قال عطية : فكنت ممّن لم ينبت فجعلني في الذرّية .
وأما ما يختص به النساء : فالحيض والحبل ، يدل عليه ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( لا يقبل صلاة حائض إلاّ بخمار ) فجعلها مكلفة بالحيض ، وهذا القول في حدّ البلوغ .
فأما الرشد : فقد اختلف الفقهاء فيه ، فقال الشافعي : هو أن يكون صالحاً في دينه مُصلحاً في ماله ، والصلاح في الدين أن يكون متجنباً للفواحش التي يفسق بها ، وتسقط عدالته كالزنا واللواط والقذف وشرب الخمر ونحوها .
وإصلاح المال : أن لا يضيّعه ولا يبذّره ولا يغبن في التصرف غبناً فاحشاً ، فالرشد شيئان : جواز الشهادة وإصلاح ، المال وهذا قول الحسن وربيعة ومالك .
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : إذا بلغ عاقلا مصلحاً لماله ، زال الحجر عنه بكل حال ، سواء كان فاسداً في دينه أو صالحاً فيه . فاعتبروا صلاح المال ولم يعتبروا صلاح الدين .
ثم اختلفوا فيه إذا بلغ عاقلا مفسداً لماله :
فقال أبو يوسف ومحمد : لا يزول الحجر عنه ويكون تصرفه باطلا إلاّ النكاح والعتق ، ويبقى تحت الحجر أبداً إلى أن يظهر رشده .
وقال أبو حنيفة : إذا بلغ عاقلا زال الحجر عنه ، فإن كان مفسداً لماله منع من تسليم ماله إليه حتى يبلغ خمساً وعشرين سنة ، فإذا بلغها يسلّم المال إليه بكل حال ، سواء كان مفسداً له أو غير مفسد . وقيل : إنّ في مدة المنع من المال إذا بلغ مفسداً ينفذ تصرفه على الإطلاق ، وإنما منع من تسليم المال إليه احتياطاً لماله ، فقال : وجه تحديده بخمس وعشرين سنة أنه قد يُحبل منه لاثني عشرة سنة ثم يولد له لستة أشهر ثم يُحمل لولده بأثني عشر سنة ثم يولد له لستة أشهر فيصير جداً .
قال : وأستحي أن أحجر على من يصلح أن يكون جدّاً ، وإذا حصل البلوغ والرشد دفع المال إليه سواء تزوج أو لم يتزوج .
وقال مالك : إن كان صاحب المال جارية وتبلغ رشيدة ، فالحجر باق عليها ، وتمنع من مالها حتى تتزوج ، وإذا تزوجت يسلّم مالها ، إليها ولا يجوز لها أن تتصرف في مالها بغير إذن زوجها حتى تكبر وتجرّب ثم حينئذ يبعد تصرفها بغير إذنه ، واطلاق في الغلام . والذي يدل على
(3/256)

" صفحة رقم 257 "
فساد هذا المذهب ما روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خطب يوم العيد ثم نزل فذهب إلى النساء فوعظهن فقال : ( تصدقن ولو من حليكنَّ ) فكنَّ تتصدقنَّ فجعلت المرأة تلقي حرصها وسخائها ، فأمرهنَّ عليه السلام بالصدقة وقبلها منهنَّ ، ولم يفصل بين متزوجة وغير متزوجة ولا بين من تصدقت بإذن زوجها أو بغير إذنه ، فهذا القول في الحجر على الصغير ، وبيان حكم قوله : ) وابتلوا اليتامى ( ، فأما قوله : ) ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ( الآية .
حكم الكلام في الحجر على السفيه
فاختلف العلماء فيه :
فقال أبو حنيفة ونفر : لا حجر على حر بالغ عاقل بوجه ، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيراً . وهو مذهب النخعي ، واحتجوا في ذلك بما روى قتادة عن أنس : أن حيان بن منقذ كان يخدع في البيع فأتى أهله النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : إن حيان بن منقذ يعقد وفي عقده ضعف فأحجر عليه .
فاستدعاه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له : ( لا تبع ) فقال : لا أصبر عن البيع ، فقال له : ( إذا بايعت فقل لا خلابه ولك الخيار ثلاثاً ) .
فلما سأله القوم الحجر عليه على ما كان في تصرفه من الغبن ولم يفعل ، ثبت أنه لا يجوز .
قال الشافعي : إن كان مفسداً لماله ودينه أو كان مفسداً لماله دون دينه حجر عليه ، وإن كان مفسداً لدينه مصلحاً لماله فعلى وجهين :
أحدهما : يحجر عليه ، وهو اختيار أبي العباس بن شُريح .
والثاني : لا يحجر عليه ، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي ، والأظهر من مذهب الشافعي ، وهو الذي ذكرناه من الحجر على السفيه ، قول عثمان وعلي والزبير وعائشة وابن عباس وعبد الله بن جعفر ، ومن التابعين شُريح وبه قال من الفقهاء : مالك وأهل المدينة والأوزاعي وأهل الشام وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو ثور ، وادّعى أصحابنا الإجماع في هذه المسألة ، ما روى هشام بن عروة عن أبيه : أنّ عبد الله بن جعفر ابتاع أرضاً سبخة بستين ألف درهم ، فغبن فيها فأراد عليّ أن يحجر عليه ، فأتى ابن جعفر إلى الزبير فقال : إني اشتريت وأن علياً يريد أن يأتي حبر المؤمنين فيسأله أن يحجر عليَّ .
(3/257)

" صفحة رقم 258 "
فقال الزبير : أنا شريكك في البيع ، فقال : عليَّ عثمان .
وقال علي : إن ابن جعفر اشترى كذا وكذا أحجر عليه .
وقال الزبير : أنا شريكه في البيع ، فقال عثمان : كيف أحجر على رجل في بيع شريكه فيه الزبير . فثبت من هذه القصة إجماع الصحابة على جواز الحجر ، لأن عبد الله بن جعفر خاف من الحجر ، والزبير احتال له فيما يمنعه منه ، وعليّ سأل ذلك عثمان ، وعثمان اعتذر إليه في الامتناع منه .
) ولا تأكلوها ( يا معشر الأوصياء والأولياء بغير حقها ) إسرافاً ( والإسراف مجاوزة الحد والإفراط والخطأ ووضع الشيء في غير موضعه ، يقال : مررت بكم فسرقتكم ، أي فسهوت عنكم وأخطأتكم .
قال جرير :
أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية
ما في عطائهم منَ ولا سرف
أي خطأ ، يعني أنهم يصيبون مواضع العطاء ) وبداراً ( مبادرة ) أن يكبروا ( أن في محل النصب يعني لا تبادروا كبرهم ورشدهم حذراً أن يبلغوا فيلزمكم تسليمها إليهم ، ثم بيّن ما يحل لهم من مالهم ، فقال عز من قائل : ) ومن كان غنياً ( عن مال اليتيم ) فليستعفف ( عن مال اليتيم ، فلا يجوز له قليلا ولا كثيراً ، والعفة الامتناع ممّا لا يحل ولا يجد فعله ، قال الله تعالى : ) وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا ( ) ومن كان فقيراً ( محتاجاً إلى مال اليتيم وهو يحفظه ويتعهده ) فليأكل بالمعروف ( واختلف العلماء فيه :
فقال بعضهم : المعروف القرض ، نظيره قوله : ) إلاّ من أمر بصدقة أو معروف ( يعني القرض ، ومعنى الآية : تستقرض من مال اليتيم فإذا أيسر قضاه ، فإن لم يقدر على قضائه فلا شيء عليه .
وقال به سعيد بن جبير وعبيدة السلماني وأبي العالية ، وأكثر الروايات عن ابن عباس .
قال مجاهد : ليستسلف منه فيتجر فيه فإذا أيسر أدى ، ودليل هذا التأويل ما روى إسرابيل وسفيان عن إسحاق عن حارثة بن مصرف قال : قال عمر بن الخطاب : ألا إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت فإن افتقرت أكلت بالمعروف وإن أيسرت قضيت .
(3/258)

" صفحة رقم 259 "
وقال الشعبي : لا تأكله إلاّ أن تضطر إليه كما تضطر إلى الميتة .
وقال آخرون : ( بالمعروف ) هو أن يأكله من غير إسراف ولا قضاء عليه فيما يأكل ، ثم اختلفوا في كيفية هذا الأكل بالمعروف :
فقال عطاء وعكرمة والسدي : يأكل بأطراف أصابعه ولا يسرف في الأكل ، ولا يكتسي منه .
وقال النخعي : لا يلبس الحلل ولا الكتان ، ولكن ما سدَّ الجوعة ووارى العورة .
وقال بعضهم : هو أن يأكل من ثمر نخيله ولبن مواشيه بالمعروف ولا قضاء عليه ، فأما الذهب والفضة فلا ، فإن أكله فلابد من أن يرده ، وهذا قول الحسن وجماعة .
قال قتادة : كان اليتيم يكون له الحائط من النخل فيقوم وليّه على صلاحه وسقيه فيصيب من ثمرته ويكون له الماشية ، فيقوم وليه على صلاحها وعلاجها فيصيب من جزازها وعوارضها ، فأما رقاب المال وأصولها فليس له أن يستهلكها .
وقال الضحاك : المعروف ركوب الدابة وخدمة الخادم وليس له أن يأكل من ماله شيئاً .
وروى بكر بن عبد الله بن الأشج عن القاسم بن محمد قال : حضرت ابن عباس ، فجاءه رجل فقال : يابن عباس إن لي أيتاماً ولهم ماشية ، فهل عليَّ جُناح في رسلها وما يحل لي منها ؟ فقال : إن كنت ترد نادتها وتبغي ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حوضها وتفرط لها يوم وردها ، فاشرب من فضل ألبانها عنهم غير مضر بأولادها ولا تنهكها في الحلب .
قال بعضهم : المعروف هو أن يأخذ من جميع ماله ، إذا كان يلي ذلك بقدر قيامه ( وخدمته ) وعمله وأُجرته ، وإن أتى على جميع المال ولا قضاء عليه ، وهذا طعمة من الله تعالى له وبه .
قالت به عائشة وجماعة من العلماء ، وقال محمد بن كعب القرظي ) من كان غنياً فليستعفف ( : عن مال اليتيم ولا تأكل منه شيئاً وأجره على الله ) ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف ( يتقرم بتقرم البهيمة ، وينزل نفسه بمنزلة الأجير فيما لابد له منه والتقرم : الالتقاط من نبات الأرض وبقلها ، ودليل هذا التأويل ما روى ابن أبي نجيح عن المحسن العوفي عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله إن في حجري يتيماً أفأضربه ؟ فقال : ( ممّا كنت ضارباً منه ولدك ) قال : يا رسول الله أفآكل من ماله ؟ قال : ( بالمعروف غير متأثل من ماله ولا واقياً مالك بماله ) .
(3/259)

" صفحة رقم 260 "
وأصل المعروف ما تيسر على الإنسان فطابت نفسه به ، قال الله تعالى : ) متاع بالمعروف ( ) فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم ( هذا أدب من الله تعالى ، ليعلم أن الولي قد أدى الأمانة وينقطع عنه الظنّة وتزول عنه الخصومة وليس بفريضة ) وكفى بالله حسيباً ( محاسباً ومجازياً وشاهداً .
( ) لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاَْقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاَْقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ اللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِىأَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُْنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلاَِبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلاُِمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلاُِمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ ءَابَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذالِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِى الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَرُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ( 2
النساء : ( 7 ) للرجال نصيب مما . . . . .
) للرجال نصيب ممّا ترك الوالدان والأقربون ( الآية ، وذلك أن أوس بن ثابت الأنصاري توفى وترك امرأة يقال لها : أم كحة وثلاث بنات له منها ، فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصيّاه واختلف في اسميهما فقال الكلبي وقتادة : عرفطة ، وقال غيره : سويد وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئاً وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكراً ، وإنما كانوا يورثون الرجال الكبار ، فكانوا يقولون : لا نعطي إلاّ من قاتل على ظهر الخيل
(3/260)

" صفحة رقم 261 "
وجاز القسمة قال : فجاءت أم كحة إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو في مسجد الفضيح فقالت : يا رسول الله إن أوس بن ثابت مات وترك عليَّ بنات له ثلاثاً وأنا امرأته وليس عندي ما أنفق عليهن ، وقد ترك أبوهن مالا حسناً وهو عند سويد وعرفجة ، فلم يعطياني ولا بناته من المال شيئاً وهنّ في حجري ، ولا يطعمن ولا يسقين ولا يرفع لهن رأس . فدعاهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالا : يا رسول الله ولدها لا يركب فرساً ولا يحمل كلأ ولا ينكأ عدواً .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( انصرفوا حتى أنظر ماذا يحدث الله لي فيهن ) فانصرفوا فأنزل الله تعالى ههذه الآية . ) للرجال ( يعني الذكور من أولاد الميت وأقربائه نصيب وحظ وسهم ممّا ترك الوالدان والأقربون من الميراث ، والأناث لهن حصّة من الميراث .
) ممّا قل منه ( المال ) أو كثر نصيباً مفروضاً ( حظاً معلوماً واجباً ، نظيرها فيما قال : ) لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً ( وهو نصب لخروجه مخرج المصدر كقول القائل : لك عليَّ حق حقاً واجباً ، وعندي درهم هبة مقبوضة ، قاله الفراء .
وقال أبو عبيدة : هو نصب على الخروج ، الكسائي : على القطع ، الأخفش : جعل ذلك نصيباً فأثبت لهم في الميراث حقاً ، ولم يبيّن كم هو .
فأرسل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى سويد وعرفجة : ( لا تفرّقا من مال أوس بن ثابت شيئاً ، فإن الله تعالى جعل لبناته نصيباً ممّا ترك ولم يبين كم هو ، حتى ننظر ما ينزل الله عزّ وجلّ فيهن ) ، فأنزل الله عزّ وجلّ ) يوصيكم الله في أولادكم ( إلى قوله ) ذلك الفوز العظيم ( فلما نزلت أرسل رسول الله إلى سويد وعرفجة : ( أن ادفعا إلى أم كحة الثمن ممّا ترك وإلى بناته الثلثين ، ولكما باقي المال ) .
النساء : ( 8 ) وإذا حضر القسمة . . . . .
) وإذا حضر القسمة ( يعني قسمة المواريث ) أولوا القربى ( الذين لا يرثون ) واليتامى والمساكين فارزقوهم منه ( أي فارضوهم من المال قبل القسمة ، واختلف العلماء في حكم هذه الآية :
فقال قوم : هي منسوخة . وقال سعيد بن المسيب والضحاك وأبو مالك : كانت هذه قبل آية المواريث ، فلما نزلت آية الميراث جعلت الميراث لأهلها الوصية ونسخت هذه الآية ، وجعلت لذوي القربى الذين يحزنون ولا يرثون واليتامى والمساكين ، وهذه رواية العوفي عن ابن عباس .
وقال آخرون : هي محكمة ، وهو قول الأشعري والنخعي والشعبي والزهري ورواية عكرمة ومقسم عن ابن عباس . وقال مجاهد : واجبة على أهل الميراث ما طابت بها أنفسهم
(3/261)

" صفحة رقم 262 "
قتادة عن الحسن : ليست بمنسوخة ولكن الناس شحوا وبخلوا .
وروى عبد الرزاق عن معمّر عن هشام بن عروة : أن أباه أعطاه من ميراث مصعب حين قسم ماله ، قاله الحسن .
وقال التابعون : كانوا يعطون التابوت والأواني وباقي المتاع والثياب ، والشيء الذي يستحي من قسمته ، فإن كان بعض الورثة طفلا ، فاختلفوا :
فقال ابن عباس والسدي وغيرهما : إذا حضر القسمة هؤلاء ، فإن كان الميّت أوصى لهم بشيء أنفدت لهم وصيته ، وإن كانت الورثة كباراً رضخوا لهم ، وإن كانت صغاراً اعتذروا إليهم ، فيقول الولي والوصي : إني لا أملك هذا إنما هو لهؤلاء الضعفاء الصغار الذين لا يعقلون ما عليهم من الحق ، ولو كان لي من الميراث شيء لأعطيتكم ، وإن يكبروا فسيعرفون حقكم ، وإن ماتوا فورثناهم أعطيناكم حقكم ، وهذا هو القول المعروف .
وقال سعيد بن جبير : هذه الآية ممّا يتهاون به الناس ، هما وليان : وليّ يرث وهو الذي يعطي ويكسي ، ووليّ لا يرث وهو الذي يقال له قول المعروف .
وقال بعضهم : ذلك حق واجب في أموال الصغار والكبار ، فإن كانوا كباراً تولوا إعطاهم ، وإن كانوا صغاراً تولى إعطاء ذلك وليّهم .
روى محمد بن سيرين : أن عبيدة السلماني قسّم أموال أيتام فأمر بشاة فذبحت فصنع طعاماً لأهل هذه الآية ، وقال : لولا هذه الآية لكان هذا من مالي .
روى قتادة عن يحيى بن يعمر قال : تلك آيات محكمات مدنيات تركهن الناس ، هذه الآية وآية الاستئذان ) يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم ( وقوله : ) يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ( .
وقال بعضهم : هذا على الندب والاستحباب لا على الحَتم والايجاب ، وهو أول الأقاويل بالصواب .
وقال ابن زيد وغيره : هذا في الوصية لا في الميراث ، كان الرجل إذا أوصى قال : فلان ماله أمر أن يوصي بثلث ماله لمن سمّى الله في هذه الآية .
وروى ابن أبي مليكة عن أسماء بنت عبد الرحمن وأبي بكر والقاسم بن محمد بن أبي بكر : أخبرا أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسّم ميراث أبيه عبد الرحمن وعائشة حيّةٌ ،
(3/262)

" صفحة رقم 263 "
قالا : فلم يترك في الدار مسكيناً ولا ذا قرابة إلاّ أعطاهم من مال أبيه ، وتلا هذه الآية ) وإذا حضر القسمة ( .
قال القاسم : فذكرت ذلك لابن عباس فقال : ما أصاب ، ليس ذلك له إنما ذلك في الوصية .
النساء : ( 9 ) وليخش الذين لو . . . . .
) وليخش الذين لو تركوا ( الآية .
قال أكثر المفسرين : هذا في الرجل يحضره الموت فيقول من بحضرته عند وصيته : أُنظر لنفسك فإن أولادك وورثتك لا يغنون عنك شيئاً ، فقدّم لنفسك اعتق وتصدق وأعط فلاناً كذا وفلاناً كذا حتى يأتي على عامّة ماله ويستغرقه ولا يبقي لورثته شيئاً ، فنهاهم الله عزّ وجلّ من ذلك وأمرهم أن يأمروه أن يُبقي لولده ولا يزيد في وصيته على الثلث ولا يجحف بورثته ، كما لو كان هذا الميت هو الموصي ، لسرّه أن يحثه من يحضره على حفظ ماله لولده ولا يدعهم عالة مع ضعفهم ، ويجرهم إلى التصرّف والحيلة .
وقال مقسم الحضرمي : الرجل يحضره الموت فيقول له من بحضرته : اتق الله وأمسك عليك مالك فليس أحد أحق بمالك من أولادك ، وينهاه عن الوصية لأقربائه ولليتامى والفقراء ، ولو كان هذا هو الموصي لسرّه أن يوصي لهم .
وقال الكلبي : هذا الخطاب لولاة اليتامى يقول : من كان في حجره يتيم فليحسن إليه ، فليقل وليفعل خيراً وليأت إليه ما يحب أن يفعل بذريته من بعده . وهي رواية عطية عن ابن عباس .
وقال الشعري : كنّا بالقسطنطينيّة أيام مسلمة بن عبد الملك وفينا ابن محبرين وابن الديلمي وهاني بن مكتوم ، وجعلنا نتذاكر ما يكون في آخر الزمان ، فضقت ذرعاً لما سمعت فقلت لابن الديلمي : يا أبا بشير عليّ ودّي أنه لا يولد لي ولد أبداً قال : فضرب بيده على منكبي وقال : يابن أخي لا تفعل فإنه ليست من قسمة كتب الله لها أن تخرج من صلب رجل إلاّ وهي خارجة شئنا أو أبينا ، ألا أدلك على أمر إن أنت أدركته نجّاك الله منه ، وإن تركت ولداً من بعدك حفظهم الله فيك ؟ قلت : بلى فتلا هذه الآية ، ) وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديداً ( والسديد العدل والصواب من القول
النساء : ( 10 ) إن الذين يأكلون . . . . .
) إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً ( الآية .
قال مقاتل بن حيان : نزلت في رجل من غطفان يقال له مرثد بن زيد ، ولّي مال ابن أخيه وهو يتيم صغير فأكله فأنزل الله عزّ وجلّ فيه ) إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً ( حراماً بغير حق ) إنما يأكلون في بطونهم ناراً ( أخبر عن ماله وأخبر عن حاله ، والعرب تقول للشيء الذي يؤدى إلى الشيء : هذا كذا لما يؤدى إليه ، مثل قولهم : هذا الموت ، أي يؤدي إليه .
(3/263)

" صفحة رقم 264 "
وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في الشارب من أواني الذهب والفضة ( إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ) .
وقال ( عليه السلام ) : ( البحر نار في نار ) أي عاقبتها كذلك ، وذكر البطون تأكيداً كما يقال : نظرت بعيني وقلت بلساني وأخذت بيدي ومشيت برجلي ) وسيصلون سعيراً ( وقوداً .
قرأه العامة بفتح الياء ، أي يدخلون ، تصديقها إلاّ من هو صال الجحيم ، وقوله : ) لا يصلاها إلاّ الأشقى ( .
وقرأ أبو رجاء والحسن وابن عامر وعاصم وأبو جعفر : بضم الياء ، أي يدخلون النار ويحرقون نظيره ، قوله : ) سأصليه سقر ( وقوله : ) فسوف نصليه ناراً ( .
وقرأ حميد بن قيس : ( وسيُصلّون ) بضم الياء وتشديد اللام ، من التصلية ، لكثرة الفعل ، أي مرّة بعد مرّة ، دليله قوله : ) ثم الجحيم صلّوه ( وكل صواب ، يقال : صَلَيت الشيء إذا شويته .
وفي الحديث : أتى بشاة مصلية ، فاصليته ألقيته في النار ، وصليته مرّة بعد مرّة ، وصُلِيت بكسر اللام دخلت النار وتصلّيت استدفأت بالنار . قال الشاعر :
وقد تصليت حرَّ حربهم
كما تصلّى المقرور من قرس .
وقال السدي : يبعث آكل مال اليتيم ظلماً يوم القيامة ، ولهب النار ودخانه يخرج من فيه وأذنيه وأنفه وعينيه ، يعرفه كل من رآه يأكل مال اليتيم .
وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( رأيت ليلة أُسري بي قوماً لهم مشافر كمشافر الإبل أحديهما عالية على منخريه وأخرى على بطنه ، وخزنة النار يلقمونهم جمر جهنم وصخرها ، ثم يخرج من أسافلهم ، فقلت : يا جبرئيل من هؤلاء ؟ قال : الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً ) .
النساء : ( 11 ) يوصيكم الله في . . . . .
) يوصيكم الله ( .
(3/264)

" صفحة رقم 265 "
فصل في بسط الآية
اعلم أن الوراثة كانت في الجاهلية بالرجولية والقوة ، وكانوا يورثون الرجال دون النساء والأطفال ، فأبطل الله عزّ وجلّ ذلك بقوله : ) للرجال نصيب ممّا ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب ( وكانت الوراثة أيضاً في الجاهلية ، وبدأ الإسلام بالمحالفة قال الله : ) والذين عقدت أيمانكم ( يعني الحلفاء ) فأتوهم نصيبهم ( وأعطوهم حظهم من الميراث ، ثم صارت بعد الهجرة ، قال الله تعالى : ) والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا ( فنسخ هذا كله وصارت الوراثة على وجهين : بالسبب والنسب ، فأما السبب فهو النكاح والولاء ، وهذا علم عريض لذلك .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( عليكم بالفرائض فإنها نصف العلم وهو أول علم ينزع من أمتي ) .
ولا يمكن معرفة ذلك إلاّ بمعرفة الورثة والسهام ، وقد أفردت فيه قولا وجيزاً جامعاً كما يليق بشرط الكتاب والله الموفق للصواب .
اعلم أن الميت إذا مات يبدأ أولا بالتجهيز ثم بقضاء ديونه ثم بإنفاذ وصاياه ، فما فضل يقسّم بين الورثة ، والورثة على ثلاثة أقسام :
منهم من يرث بالفرض ، ومنهم من يرث بالتعصيب ، ومنهم من يرث بهما جميعاً ، فصاحب الفرض : من له سهم معلوم ونصيب مقدّر ، مثل البنات والأخوات والأمهات والجدّات والأزواج والزوجات ، وصاحب التعصيب : من يأخذ جميع المال عند عدم أصحاب الفروض ، أو يأخذ الفاضل منهم ويكون محروماً إذا لم يفضل من أصحاب السهام شيء ، مثل الأخ والعم ونحوهما ، والذي يرث بالوجهين : هو الأب مع البنت وبنت الابن ، يأخذ نصيبه المقدر وهو السدس ، ثم يأخذ ما فضل منهما وجملة الورثة سبعة عشر ، عشرة من الرجال : الابن وابن الابن وإن سفل والأب وأب الأب وإن علا والأخ وابن الأخ والعم وابن العم والزوج ومولى العتاق ، ومن النساء سبع : البنت وبنت الابن والأم والجدّة والأخت والزوجة ومولاة العتاق ، والذين لا يسقطهم من الميراث أحد الستة ، الأبوان والولدان والزوجان .
والعلة في ذلك : أنه ليست بينهم وبين الميت واسطة ، والذين لا يرثون بحال ستة : العبد والمدبّر والمكاتب وأم الولد وقاتل العمد وأهل الملتين ، والسهام المحدودة في كتاب الله عزّ وجلّ ستة : النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس .
(3/265)

" صفحة رقم 266 "
والنصف فرض خمسة : بنت الصلب ، وبنت الابن إذا لم يكن بنت الصلب ، والأخت للأب والأم ، والأخت للأب إذا لم يكن الأخت للأب والأم ، والزوج إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن .
والربع فرض اثنين : الزوج إذا كان للميت ولد أو ولد ابن ، والزوجة والزوجات إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن .
والثمن فرض واحد : الزوجة والزوجات إذا كان للميت ولد أو ولد ابن .
والثلثان فرض كل اثنين فصاعداً ممّن فرضه النصف .
والثلث فرض ثلاثة : الأم إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن ولا اثنان من الأخوة والأخوات إلاّ في مسألتين : أحدهما زوج وأبوان ، والأُخرى امرأة وأبوان ، فإن للأم فيهما ثلث ما يبقى بعد نصيب الزوج ، وهو في الحقيقة سدس جميع المال ، والزوجة وهو ربع جميع المال ، وفرض الاثنين من ولد الأم ذكورهم واناثهم سواء ، وفرض الجدّ مع الأخوة والأخوات إذا كانت المقاسمة خيراً له من الثلث .
والسدس فرض سبعة : بنت الابن مع بنت الصلب ، والأخت للأب مع الأخت للأب والأم ، والواحد من ولد الأم ، والأم إذا كان للبنت ولداً ، وولد ابن أو اثنان من الأخوة والأخوات ، وفرض الجدة والجدات وفرض الأب مع الولد وولد الابن ( . . . . ) مع الابن وابن الابن ، وأما العصبات فأقربهم البنون ثم بنوهم ثم بنو بنيهم وإن سفلوا ( . . . ) أخواتهم للذكر مثل حضّ الأُنثيين ، ثم الأب وله ثلاثة أحوال : حال ينفرد بالتعصيب ، وهو مع عدم الولد وولد الابن ، وحال ينفرد بالفرض ، وهو مع الابن أو ابن الابن ، وحال يجمع له الفرض والتعصيب ، وهو مع البنت وابنة الابن ، ثم الجد إن لم يكن له أخوة ، وإن كان له أخوة قاسمهم ، ثم الأخوة والأخوات للأب والأم ، ثم الأخوة والأخوات للأب يقسمون المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ، والواحدة منهن عصبة مع البنات ، وسائر العصبات ينفرد ذكورهم بالتعصيب ، دون الأناث ، ثم بنو الأخوة للأب والأم ، ثم بنو الأخوة للأب ، ثم الأعمام للأب والأم ، ثم الأعمام للاب ، ثم بنو الأعمام للأب والأم ، ثم بنو الأعمام للأب ، ثم بنو الأعمام للأب والأم ، ثم بنو الأعمام للأب ، ثم أعمام الأب كذلك ، ثم أعمام الجد ، على هذا الترتيب لا يرث بنو أب أعلى وبنو أب أقرب منهم موجود ، ثم مولى العتق ، ثم عصبته على هذا الترتيب ، فهذه جملة من هذا العلم .
(3/266)

" صفحة رقم 267 "
رجعنا إلى تفسير الآية ، اختلف المفسرون في سبب نزولها :
فأخبر محمد بن المنكدر أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : مرضت فعادني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأبو بكر ( رضي الله عنه ) وهما يتمشيان ، فأُغشي عليَّ فدعا بماء فتوضأ ثم صبّه عليَّ فأفقت ، فقلت : يا رسول الله كيف أمضي في مالي ؟ كيف أصنع في مالي ؟ فسكت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت فيَّ آية المواريث .
وقال عطاء : استشهد سعد بن الربيع النقيب يوم أُحد وترك امرأة وابنتين وأخاً ، فأخذ الأخ المال فأتت امرأة سعد إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : يا رسول الله إن هاتين ابنتا سعد ، وإن سعداً قُتل يوم أحد معك شهيداً ، وإن عمّهما أخذ مالهما ولا ينكحان إلاّ ولهما مال ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ارجعي فلعل الله سيقضي في ذلك ) فأقامت حيناً ثم عادت وشكت وبكت ، فنزل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) يوصيكم الله في أولادكم ( إلى آخرها .
فدعا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عمّهما وقال : ( أعطِ بنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك ) ، فهذا أول ميراث قُسّم في الإسلام .
وقال مقاتل والكلبي : نزلت في أم كحة وقد مضت القصة .
وقال السدي : نزلت في عبد الرحمن أخي حسان الشاعر ، وذلك أنه مات وترك امرأة وخمس أخوات ، فجاء الورثة فأخذوا ماله ولم يعطوا امرأته شيئاً ، فشكت ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله آية المواريث .
وقال ابن عباس : كانت المواريث للأولاد وكانت الوصية للوالدين والأقربين ، فنسخ الله ذلك ، وأنزل آية المواريث ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن الله لم يرض بملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسم التركات وأعطى كل ذي حق حقه ألا فلا وصية للوارث ) وقوله تعالى : ) يوصيكم الله ( أي يعهد إليكم ويفرض عليكم ) في أولادكم ( أي في أمر أولادكم إذا متم ) للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كنّ نساءً ( يعني المتروكات ) فوق اثنتين ( فصاعداً يعني البنات ) فلهن ثلثا ما ترك ( و ( فوق ) صلة ، كقوله عزّ وجلّ : ) فاضربوا فوق الأعناق ( ) وإن كانت ( يعني البنت ) واحدة ( .
قرأه العامة : نصب على خبر كان ، ورفعهما أهل المدينة على معنى : إن وقعت واحدة ، وحينئذ لا خبر له
(3/267)

" صفحة رقم 268 "
) فلها النصف ( ثم قال : ) ولأبويه ( يعني لأبوي الميت ، كناية عن غير المذكور ) لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد ( أو ولدان ، والأب هاهنا صاحب فرض ) فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأُمه الثلث ( قرأ أهل الكوفة : ( فلأمه ) بكسر الهمزة ، وقرأ الباقون : بالضم على الأصل .
) فإن كان له أخوة ( اثنين كانا أو أكثر ذكراناً أو أناثاً ) فلأمه السدس ( هذا قول عامة الفقهاء ، وكان ابن عباس لا يحجب الأم عن الثلث إلى السدس بأقل من ثلاثة أخوة ، وكان يقول في أبوين وأخوين : للأم الثلث وما بقي فللأب ، اتبع ظاهر اللفظ .
وروى : أن ابن عباس دخل على عثمان فقال : لِمَ صار الأخوان يردان الأم إلى السدس ، وإنما قال الله عزّ وجلّ : ) فإن كان له أخوة ( والأخوان في لسان قومك ليسا بأخوة ؟ فقال عثمان : هل أستطيع نقض أمرٌ قد كان قبلي وتوارثه الناس ومضى في الأمصار . وقول ابن عباس في هذا غير مأخوذ به ، وأما الآية فإن العرب توقع اسم الجمع على التثنية ، لأن الجمع ضمُّ شيء إلى شيء ، فأقل الجموع اثنان وأقصاها لا غاية له ، قال الله تعالى : ) فقد صغت قلوبكما ( .
وتقول العرب : ضربت من زيد وعمرو رؤوسهما فأوجعت من إخوتك ظهورهما .
وأنشد الأخفش :
لما أتتنا المرأتان بالخبر
أن الأمر فينا قد شهر
قال الثعلبي : وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدني أبو سعيد أحمد بن محمد بن رمح الزيدي :
ويُحيى بالسلام غني قوم
ويبخل بالسلام على الفقير
أليس الموت بينهما سواء
إذا ماتوا وصاروا في القبور
) من بعد وصية يوصى بها أو دين ( قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم : ( يوصَى ) بفتح الصاد ، الباقون : بالكسر وكذلك الآخر .
واختلفت الرواية فيهما عن عاصم ، والكسر اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأنّه جرى ذكر الميت قبل هذا ، قال الأخفش : وتصديق الكسر يوصين ويواصون .
) آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً ( .
(3/268)

" صفحة رقم 269 "
قال مجاهد : في الدنيا ، وقرأ بعضهم : ( أيهما أقرب لكم نفعاً ) أي رفع بالابتداء ، ولم يعمل فيه ال ( ما ) قبله ، لأنه استفهام و ( أقرب ) خبره و ( نفعاً ) نصب على التمييز ، كأنه يقول : لا يدرون أي الوارثين والموروثين أسرع موتاً فيرثه صاحبه ، فلا تتمنوا موت الموروث ولا تستعجلوه .
وقال ابن عباس : أطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة يوم القيامة ، لأن الله عزّ وجلّ يشفّع المؤمنين بعضهم في بعض ، فإن كان الوالد أرفع درجة في الجنة من ولده رفع الله إليه ولده في درجته ليقرّ بذلك عينه ، وإن كان الولد أرفع درجة من والديه رفع الله والديه إلى درجته ليقرّ بذلك عينيهما .
قال الحسن : لا تدرون بأيّهم أنتم أسعد في الدين والدنيا .
) فريضة من الله إن الله كان عليماً حكيماً }
النساء : ( 12 ) ولكم نصف ما . . . . .
) ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهنّ ولد فلكم الربع ممّا تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن ( يعني وللزوجات ) الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن ممّا تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة ( نظم الآية : وإن كان رجل أو امرأة يورث كلالة ، وهو نصب على المصدر ، وقيل : على الحال ، وقيل : على خبر ما لم يسمّ فاعله ، تقديرها : وإن كان رجل يورث ماله كلالة .
وقرأ الحسن وعيسى : ( يورِث ) بكسر الراء ( جعلا ) فعلا له .
واختلفوا في الكلالة :
فقال الضحاك والسدي : هو الموروث . سعيد بن جبير : هم الورثة . النضر بن شميل : هو المال . واختلفوا أيضاً في معناه وحكمه :
فروى أنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه سئل عن الكلالة ، فقرأ آخر سورة النساء ، فردَّ عليه السائل فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( لست بزائدك حتى أُزاد ) .
وروى شعبة عن عاصم الأحول قال : سمعت الشعبي يقول : إن أبا بكر ( رضي الله عنه ) قال في الكلالة : أقضي فيها قضاءاً وأن كان صواباً فمن الله وإن يكن خطأ فمن الشيطان ومني ، والله بريء منه : هو ما دون الوالد والولد ، يقول : كل وارث دونهما كلالة قال : فلما كان عمر ( رضي الله عنه ) بعده قال : إني لأستحي من الله أن أُخالف أبا بكر : هو ما خلا الوالد والولد .
وقال طاوس : هو ما دون الولد . والحكم : هو ما دون الأب . عطية : هم الأُخوة للأُم . عبيد بن عمير : هم الأخوة للأب . وقيل : هم الأخوة والأخوات .
(3/269)

" صفحة رقم 270 "
قال جابر بن عبد الله : قلت يا رسول الله إنما يرثان أُختان لي فكيف بالميراث ؟ فنزلت : ) يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ( .
وقال الأخفش : كل من لم يرثه أب أو أم فهو كلالة .
وقال أهل اللغة : هو من نكللهُ النسب إذا أحاط به كالإكليل .
قال أمرؤ القيس :
أصاح ترى برقاً أريك وميضه
كلمع اليدين في حبّي مكلل
فسمّوا كلالة ، لأنهم أحاطوا بالميت من جوانبه وليسوا منه ولا هو منهم ، وأحاطتهم به أنهم ينسبون معه .
قال الفرزدق :
ورثتم قناة الملك غير كلالة
عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
وقال بعضهم :
وإن أبا المرؤ أحمى وله
ومولى الكلالة لا يغضب
) وله أخ أو أخت ( ولم يقل : ( ولهما ) وقد مضى ذكر الرجل والمرأة على عادت العرب إذا ذكرت اسمين ثم أخبرت عنهما كانا في الحكم سواء ، ربّما أضافت إلى أحدهما وربما أضافت إليهما جميعاً ، يقول : من كان عنده غلام وجارية فليحسن إليه وإليها وإليهما كلها جائز ، قال الله عزّ وجلّ : ) واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة ( ونظائرها ، وأراد بهذا الأخ والأُخت من الأمر ، يدل عليه قراءة سعد بن أبي وقاص : وله أخ أو أخت من الأم ) فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث ( بينهم بالسوية ذكورهم وإناثهم سواء ) من بعد وصية يوصى بها أو دين ( .
قال علي ( عليه السلام ) : إنكم تقرؤون الوصيّة قبل الدين وبدأ رسول الله بالدين قبل الوصية . وهذا قول عامة الفقهاء ، ومعنى الآية الجمع لا الترتيب ) غير مضار ( مدخل الضرر على الورثة .
قال الحسن : هو أن توصي بدين ليس عليه ) وصية من الله ( .
وقرأ الأعمش : ( غير مضار وصية من الله ) على الإضافة .
) والله عليم حكيم ( .
(3/270)

" صفحة رقم 271 "
قال قتادة : إن الله عزّ وجلّ كره الضرار في الحياة وعند الموت ونهى عنه وقدر فيه ، ولا يصلح مضارة في حياة ولا موت . وفي الخبر من قطع ميراثه في الجنة
النساء : ( 13 ) تلك حدود الله . . . . .
) تلك حدود الله ( إلى قوله :
( ) وَاللَاتِى يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِى الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً وَاللَّذَانَ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَئَاذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَائِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّى تُبْتُ الاَْنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَائِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً وَإِنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءَاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً ( 2
النساء : ( 15 ) واللاتي يأتين الفاحشة . . . . .
) واللاتي يأتين الفاحشة ( يعني الزنا ، وفي مصحف عبد الله الفاحشة ) من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم ( يعني من المسلمين ) فإن شهدوا ( عليها بالزنا ) فأمسكوهن ( فأحبسوهن ) في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهنّ سبيلا ( وإنما كان هذا قبل نزول الحدود ، كانت المرأة في أول الإسلام لو أذنبت حبست في البيت حتى تموت ؛ وإن كان لها زوج كان مهرها له ، حتى نزلت قوله : ) الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما ( .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ، والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ) .
فنسخت تلك الآية بعض هذه الآية ، وهو الإمساك في البيوت وبقي بعضها محكماً وهو الإستشهاد
النساء : ( 16 ) واللذان يأتيانها منكم . . . . .
) واللذان يأتيانها منكم ( يعني الرجل والمرأة ، المذكر والمؤنث إذا اجتمعا قلب المذكر على المؤنث ، والهاء راجعة إلى الفاحشة .
قال المفسرون : فهما البكران يزنيان ) فآذوهما ( قال عطاء وقتادة والسدي : يعني عيّروهما
(3/271)

" صفحة رقم 272 "
وعنفوهما باللسان : أما خفت الله أما استحيت الله حين أتيت الزنا ، وأشباهه . مجاهد : سبّوهما واشتموهما . ابن عباس : هو باللسان واليد كأن ( يوذي ) بالتعيير والضرب بالنعال .
) فإن تابا ( من الفاحشة ) وأصلحا ( العمل فيما بعد ) فأعرضوا عنهما ( ولا تؤذوهما ، وإنما كان قبل نزول الحدود ، فلما نزلت الحدود نسخت هذه الآية والإمساك من الآية الأولى بالرجم للبنت والجلد والنفي للبكر ، والجلد في القرآن والنفي والرجم في السنة .
روى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني : إنما أخبراه أن رجلين اختصما إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أحدهما : يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله . وقال الآخر وهو أفقههما : أجل يا رسول الله أقضِ بيننا بكتاب الله وائذن لي في أن أتكلم ؟ فقال : ( تكلم ) . فقال : إن ابني كان عسيفاً على هذا قال مالك : والعسيف الأجير فزنا بامرأته ، فأخبروني أن على ابني الرجم ، فافتديت منه مائة شاة وبجارية ، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وإنما الرجم على امرأته ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله ، أما غنمك وجاريتك فردَّ عليك ، وجلد ابنك مائة وتغريبه عاماً ) .
وأمر أنيس الأسلمي أن يأتي إمرأة الرجل فان اعترفت رجمها ، فاعترفت فرجمها .
روى الزهري عن أبي سلمة عن عروة بن الزبير : أن عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) غرّب في الزنا ولم تزل تلك السنّة حتى غرَّب مروان في إمارته .
وروى الزهري عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله : أن رجلا من أسلم جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فاعترف عنده بالزنا : فأعرض عنه ثم اعترف فاعترض حتى شهد على نفسه أربع مرات ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنك مجنون ؟ ) قال : لا ، قال : ( أحصنت ؟ ) قال : نعم ، فأمر به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فرجم بالمصلّى ، فلما أذاقته الحجارة فرَّ ، وأدرك فرجمه حتى مات .
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيه خيراً ولم يصل عليه .
سليمان بن بريدة عن أبيه قال : جاء ماعز بن مالك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله طهّرني ، قال : ( ويحك إرجع فاستغفر الله وتب إليه ) قال : فرجع غير بعيد وقال مثل ذلك ، حتى إذا كانت الرابعة قال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ممَّ أطهرك ؟ ) قال : من الزنا ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنك مجنون ؟ ) وأخبر أنه ليس به جنون ، فقال : ( أَشَرِبَ خمراً ) ، فقام رجل فاستشمه فلم يجد منه ريح خمر
(3/272)

" صفحة رقم 273 "
فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أزنيت أنت ؟ ) قال : نعم فأمر به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فرجم ، وجاء النبي فقال : ( استغفروا لماعز بن مالك ) ، فقالوا : أيغفر الله لماعز بن مالك ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لقد تاب ماعز توبة لو قسّمت بين أمة لوسعتها ) .
وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب قال : لقد خشيت أن يطول الناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، ألا وإن الرجم حق على من زنا ، إذا أحصن وقامت البينة أو الحمل أو الإعتراف ، وقد قرأتها : الشيخ والشيخة فارجموهما البتة ، ألا وقد رجم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ورجمنا بعده .
النساء : ( 17 ) إنما التوبة على . . . . .
) إنما التوبة على الله ( قال الحسن : يعني التوبة التي يقبلها الله ، فتكون على بمعنى عند ، أقامه مقام صفة .
قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبا بكر بن عياش يقول : ( على ) هاهنا بمعنى ( من ) يقول : إنما التوبة من الله للذين يعملون السوء بجهالة ، اختلفوا في معنى الجهالة :
فقال مجاهد والضحاك : هي العمد .
وقال الكلبي : لم يجهل أنه ذنب ولكنه جهل عقوبته .
وقال سائر المفسرين : يعني المعاصي كلها ، فكل من عصى ربّه فهو جاهل حتى ينزع عن معصيته .
قتادة : اجتمع أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فرأوا أنّ كل شيء عُصيَ به ربّه فهو جهالة ، عمداً كان أو غيره .
وقال الزجاج : معنى قوله : ) بجهالة ( اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية ، نظيرها في الأنعام ) من عمل منكم سوءا بجهالة ( ) ثم يتوبون من قريب ( معناه قبل أن يحبطون السوء بحسناته فيحبطها .
قال السدي والكلبي : القريب ما دام في صحته قبل المرض والموت .
عكرمة وابن زيد : ما قبل الموت فهو قريب .
أبو مجلن والضحاك : قبل معاينة ملك الموت .
أبو موسى الأشعري : هو أن يتوب قبل موته بفواق ناقة .
(3/273)

" صفحة رقم 274 "
زيد بن أسلم عن عبد الرحمن ( السلماني ) قال : اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال أحدهم : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إن الله عزّ وجلّ يقبل توبة العبد قبل أن يموت بيوم ) .
قال الثاني : وأنا سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إن الله عزّ وجلّ يقبل توبة العبد قبل أن يموت بنصف يوم ) .
قال الثالث : وأنا سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إن الله عزّ وجلّ يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضحوة ) .
فقال الرابع : وأنا سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إن الله عزّ وجلّ يقبل توبة العبد ما لم يغرغر بنفسه ) .
خالد بن ( سعدان ) عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه ) ثم قال : ( إن السنة لكثير ، من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه ) ثم قال : ( إن الشهر لكثير ، من تاب قبل موته بجمعة تاب الله عليه ) ثم قال : ( إن الجمعة لكثير ، من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه ) ثم قال : ( إن الساعة لكثير ، من تاب قبل موته قبل أن يُغرغر بها تاب الله عليه ) .
المسيب بن شريك عن عمرو بن عبيد عن الحسن قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لما هبط إبليس قال وعزتك وعظمتك لا أُفارق ابن آدم حتى يفارق روحه جسده فقال الله عزّ وجلّ : وعزتي وعظمتي لا أحجب التوبة عن عبدي حتى يغرغر ) .
وعن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إنّ الشيطان قال وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، قال الربّ تبارك وتعالى : وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروا لي ) .
قال الثعلبي : وسمعت أبا عبد الرحمن السلمي يقول : سمعت أبا بكر الرازي يقول : سمعت محمد بن عبد الجبار يقول : يقال للتائب المخلص في توبته ولو بمقدار ساعة من النهار أو بمقدار نفس واحد قبل موته : ما أسرع ما جئت .
النساء : ( 18 ) وليست التوبة للذين . . . . .
) وليست التوبة للذين يعملون السيئات ( يعني المعاصي ) حتى إذا حضر أحدهم الموت (
(3/274)

" صفحة رقم 275 "
ووقع في النزع ) قال إني تبت الآن ( فحينئذ لا يقبل من كافر إيمانه ولا من عاص توبته ) ولا الذين يموتون ( موضع ( الذين ) خفض يعني ولا الذين يتوبون ) وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذاباً أليماً ( أي هيّئنا ، والاسم منه العتاد .
قال عدي بن الرقاع :
تأتيه أسلاب الأعزة عنوة
قسراً ويجمع للحروب عتادها
وقال للفرس المعد للحرب : عتّد وعتد .
وقال الشاعر الجعفي :
حملوا بصائرهم على أكتافهم
وبصيرتي يعدوا بها عتد وأي
النساء : ( 19 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ( أي على كره منهن .
قال المفسرون : كان أهل المدينة في الجاهلية وفي أول الإسلام ، إذا مات رجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من جنسه فيلقي ثوبه على تلك المرأة أو على خبائها ، فصار أحق بها من نفسها ومن غيره ، فإن شاء أن يتزوجها تزوجها بغير صداق ، إلاّ بالصداق الأول الذي أصدقها الميت ، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ، ولم يعطها منه شيئاً ، وإن شاء عضلها ومنعها من الازواج فطوّل عليها وضارها ، لتفتدي نفسها بما ورتث من الميت ، أو تموت هي فيرثها ، وإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقي عليها ولي زوجها ثوبهُ فهي أحق بنفسها ، فكانوا يفعلون ذلك حتى توفى أبو قيس بن صلت الأنصاري وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية ، فقام ابن له من غيرها يقال له : ( حصن ) .
وقال مقاتل بن حيان : اسمه قيس بن أبي قيس ، فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها ، ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارّها بذلك لتفتدي بمالها ، وكذلك كانوا يفعلون إذا ورث أحدهم نكاحها ، فإن كانت جميلة موسرة دخل بها ، وإن لم تكن جميلة طوّل عليها لتفتدي منه ، فأتت كبيشة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقالت : يا رسول الله إن أبا قيس توفى وورث نكاحي ابنه وقد أضرّني حصن وطوّل عليّ فلا هو ينفق علي ولا يدخل بي ولا يخلي سبيلي ، فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( اقعدي في بيتك حتى يأتي فيك أمر الله ) قالت : فانصرفت وسمعت بذلك النساء في المدينة ، فأتين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو في مسجد الفضيح فقلن : يا رسول الله ما نحن إلاّ كهيئة كبشة غير أننا لم ينكحنا الأبناء وينكحنا بنو العم فأنزل الله تعالى ) يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم ( الآية
(3/275)

" صفحة رقم 276 "
وقرأ الكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب : بضم الكاف هاهنا وفي التوبة .
والباقون : بالفتح .
قال الكسائي : هما لغتان . وقال الفراء : الكره والإكراه ، والكره المشقة ، فما أُكره عليه فهو كَره بالفتح ، وما كان من قبل نفسه وهو كُره بضم الكاف .
) ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ( كفعل أهل الجاهلية .
و عن الضحاك : نزلت هذه الآية في الرجل تكون في حجره اليتيمة ، فيكره أن يزوجها لأجل مالها ، فتكون تحته العجوز ونفسه تشوق إلى الشابة ، فيكره فراق العجوز بتوقع وفاتها ليرثها مالها وهو معتزل لفراشها .
وقال ابن عباس : هذا في الرجل تكون لهُ المرأة وهو كاره لصحبتها ، ولها عليه مهر فيطوّل عليها ويضارّها لتفتدي بالمهر أو يردّ إليه ما ساق إليها من المهر ، فنهى الله عزّ وجلّ عن ذلك ، ثم قال :
) إلاّ أن يأتين بفاحشة مبيّنة ( فحينئذ يحل لكم أضرارهن ليفتدين منكم وعضلهن ، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن ، واختلفوا في الفاحشة :
فقال بعضهم : هي الزنا . قال الحسن : إن زنت حلَّ لزوجها أن يسألها الخلع . قال عطاء : كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها ، فنسخ ذلك بالحدود . وقال ابن مسعود والضحاك وقتادة : هي النشوز .
جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خطب الناس فقال : ( اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ) .
وقوله ) مبيَّنة ( بفتح الياء قاله ابن عباس وعاصم وابن كثير ، الباقون : بالكسر .
) وعاشروهن بالمعروف ( .
قال الحسن : رجع إلى أول الكلام يعني ) وأتوا النساء صدقاتهم نحلة وعاشروهن بالمعروف (
.
(3/276)

" صفحة رقم 277 "
وقال بعضهم : هو أن يصنع بها كما يصنع له .
) فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ( وهو ولد صالح أو يعطفه الله عليها بعد ذلك ، كذا قاله المفسرون .
مكحول الأزدي قال : سمعت ابن عمر يقول : إن الرجل يستخير الله فيختار له ، فيسخط على ربّه عزّ وجلّ ، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له .
النساء : ( 20 ) وإن أردتم استبدال . . . . .
) وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج ( ما لم يكن من قبلها نشوز ولا اتيان فاحشة ) وآتيتم إحداهن قنطاراً ( وهو المال الكثير ، وقد مرَّ تفسيره ) فلا تأخذوا منه شيئاً ( أي من القنطار شيئاً ) أتأخذونه ( استفهام نهي وتوبيخ ) بهتاناً وإثماً مبيناً ( انتصابها من وجهين : أحدهما بنزع الخافض ، والثاني بالإضمار ، تقديره : تصيبون في أخذه بهتاناً وإثماً مبيناً ، ثم قال :
النساء : ( 21 ) وكيف تأخذونه وقد . . . . .
) وكيف تأخذونه ( على معنى الاستعظام ، كقوله : ) كيف تكفرون بالله ( ) وقد أفضى بعضكم إلى بعض ( .
قال المفسرون : أراد المجامعة ، ولكن الله كريم يكني بما شاء عمّا شاء ، وأصل الإفضاء الوصول إلى شيء من غير واسطة .
) وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً ( .
قال الحسن وابن سيرين والضحاك وقتادة والسدي : هو قولهم عند العقد : زوجتكها على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان .
مجاهد : هو كلمة النكاح التي يُستحل بها الفروج وهي كقوله : نكحته .
الشعبي وعكرمة والربيع : هو قوله : أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله .
فصل فيما ورد من الأخبار في الرخصفي مغالاة المهر لقوله : ) وآتيتم إحداهن قنطاراً (
عن عطاء الخراساني : قال خطب عمر إلى علي ابنته أم كلثوم وهي من فاطمة بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إنها صغيرة ، فقال عمر : إني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إن كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلاّ نسبي وصهري ) فلذلك رغبت فيها .
فقال علي ( رضي الله عنه ) : إني مرسلها إليك حتى تنظر إلى صغرها فأرسلها إليه ، فجاءته
(3/277)

" صفحة رقم 278 "
فقالت : إن أبي يقول لك هل رضيت النحلة . فقال : رضيتها . قال : فأنكحه ابنته وصدقها عمر أربعين ألف درهم .
وعن ابن سيرين : إن الحسن ( رضي الله عنه ) تزوج بامرأة ، فبعث إليها بمائة جارية مع كل جارية ألف درهم .
وروى مرشد بن عبد الله البرني عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( خير النكاح أيسرهُ ) وقال ( صلى الله عليه وسلم ) لرجل : ( أترضى أن أُزوجك فلانة ؟ ) قال : نعم ، قال للمرأة : ( أترضين أن أزوجك فلاناً ؟ ) قالت : نعم ، فزوج أحدهما بصاحبه ، فدخل عليها الرجل ولم يفرض لها صداقاً ولم يعطها شيئاً ، وكان ممّن شهد الحديبية وله سهم بخيبر ، فلما حضرته الوفاة قال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قد زوّجني بفلانة ولم أفرض لها صداقاً ولم أعطها شيئاً ، وأني قد أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر ، فأخذت سهمها ذلك فباعته بمائة ألف .
وعن ضمرة بن حبيب أن أم حبيبة كانت بأرض الحبشة مع جعفر بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) وأن رسول الله زوّجها فأصدق عنه النجاشي أربعمائة دينار .
وبه عن ابن سيرين عن ابن عباس أنه تزوج سليمة السلمية على عشرة آلاف درهم .
حماد بن سلمة عن ابن بشر أن عروة البارقي تزوج بنت هاني بن قبيصة على ألف درهم .
وعن غيلان بن جرير أن مطرفاً تزوج امرأة على عشرة ألف أواق .
فصل فيمن كره ذلك ، والكلام في أقل المهر
عن ابن سيرين قال : حدثنا أبو العجفا السلمي ، قال : سمعت عمر وهو يخطب الناس فحمد الله واثنى عليه وقال : ألا لا تغالوا في صداق النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم به النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما أصدق امرأة من نسائه ولا امرأة من بناته فوق اثنتي عشرة أوقية ، ألا وإن أحدكم ليغلي بصدقة امرأة حتى يُبقي لها عداوة في نفسه ، فيقول : كانت لك حلق القربة أو عرق القربة .
عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من يُمن المرأة تيسير صداقها وتيسر رحمها ) .
(3/278)

" صفحة رقم 279 "
قال عروة : وأنا أقول من عندي من أول شؤمها أن يكثر صداقها .
سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال : كان صداقنا مُذ كان فينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عشرة أواق وهو أربعة دراهم .
ثابت البناني عن أنس : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رأى على عبد الرحمن أثر صفرة وقال : ( ما هذا ؟ ) فقال : يا رسول الله تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب . فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( بارك الله لك أولم ولو بشاة ) .
يقال : هي خمسة دراهم .
وعن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جاءته امرأة فقالت : يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك فقامت قياماً طويلا ، فقام رجل فقال : يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( هل عندك من شيء تصدقها إياه ؟ ) قال : ما عندي إلاّ إزاري هذا . فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن أعطيتها إياه جلست لا إزار لك فالتمس شيئاً ) فقال : ما أجد شيئاً . فقال : ( التمس ولو خاتماً من حديد ) ، فالتمس فلم يجد شيئاً ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( هل معك من القرآن شيء ؟ ) قال : نعم ، سورة كذا و سورة كذا ، لسور سمّاها ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( زوجتك بما معك من القرآن ) .
وعن عبد الله بن عامر عن أبيه : أن رجلا تزوج امرأة على نعلين فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أرضيت مالك بهاتين النعلين ؟ ) قال : نعم فأجازه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) .
وعن أبي حدرد الأسلمي قال : أتيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) استعينه في مهر امرأة فقال : ( كم تصدقها ؟ ) قلت : مائتي درهم . فقال : ( لو كنتم تغرفون من بطحان ما زدتم ) .
مسلم بن رومان عن أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أعطى في صداق ملء كفيه سويقاً أو تمراً فقد استحل ) .
وعن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تزوج بامرأة على عشرة دراهم .
أحمد بن حنبل عن الحسن بن عبد العزيز قال : كتب إلينا ضمره عن إبراهيم بن عبد الله الكناني أن سعيد بن المسيب زوج ابنته على درهمين .
(3/279)

" صفحة رقم 280 "
وكيع عن يحيى بن عبد الرحمن بن أبي شيبة عن جدّه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من استحل بدرهم فقد استحل ) قال وكيع : في النكاح .
وعن عبد الله بن يزيد مولى الأسود أن رجلا تسرَّ جارية له فكرهها ، فقال له رجل : هبها لي ، فوهبها له فذكر ذلك لسعيد بن المسيب ، فقال : إن الهبة لم تجز لأحد بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولو أصدقها سوطاً لحلت .
المغيرة عن إبراهيم قال : السنة في الصداق الرطل من الورق ، كانوا يكرهون أن يكون مهر الحرائر مثل مهور البغايا بالدرهم والدرهمان ، ويحبون أن يكون عشرين درهماً .
2 ( ) وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الاَْخِ وَبَنَاتُ الاُْخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ الْلاَّتِى أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِى فِى حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللَّاتِى دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَآئِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاُْخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَءَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِىَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً ( 2
النساء : ( 22 ) ولا تنكحوا ما . . . . .
) ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ( نزلت في حصن بن أبي قيس تزوج امرأة أبيه كبيشة بنت معن ، وفي الأسود بن خلف تزوج امرأة أبيه ، وفي صفوان بن أمية بن خلف تزوج بامرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطلب ، وفي منصور بن مازن تزوج امرأة أبيه مليكة بنت خارجة ، وفي ( أبي مكيل ) العدوي تزوج امرأة أبيه
(3/280)

" صفحة رقم 281 "
.
وقال الأشعث بن يسار : توفى أبو قيس وكان من صالحي الأنصار ، فخطب ابنه قيس امرأة أبيه ، فقالت : إني أعدك ولداً وأنت من صالح قومك ، ولكني آتي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أستأمره ، فأتته فأخبرته ، فقال لها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ارجعي إلى بيتك ) فأنزل الله عزّ وجلّ : ) ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم ( .
( ما ) بمعنى من ، وقيل : ولا تنكحوا النكاح يعني ما نكح ( آباؤكم من النساء ) اسم الجنس ليدخل فيه الحرائر والإماء ، أما الحرائر فتحرم بالعقد ، والإماء بالوطئ .
) إلاّ ما قد سلف ( قال المفضّل : يعني بعد ما سلف فدعوه واجتنبوه .
قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا زكريا العنبري يقول : معناه كما قد سلف ) إنه كان فاحشة ومقتاً ( يورث بغض الله ، والمقت أشد البغض ) وساء سبيلا ( وبئس ذلك طريقاً . كانت العرب يقولون لولد الرجل من امرأة أبيه مقيت ومقي ، وكان منهم الأشعث بن قيس وأبو معيط بن عمرو بن أمية .
السدي عن عدي بن ثابت عن البراء قال : لقيت خالي ومعه الراية فقلت : أين تريد ؟ فقال : أرسلني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى رجل تزوج بامرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه أو أقتله .
النساء : ( 23 ) حرمت عليكم أمهاتكم . . . . .
) حرمت عليكم أمهاتكم ( هي جمع أم ، والأم في الأصل أمهه على وزن فعلة ، مثل قبرة وحمرة فسقطت الهاء في ( التوحيد وعادت ) في الجمع كقولهم : شاه ومياه .
قال الشاعر :
أمهتي خندف والروس أبي
وقيل : أصل الأم أمة ، وأنشدوا :
تقبلتها عن أمة لك طالما
تثوب إليها في النوائب أجمعا
فيكون الجمع حينئذ أمهات . ومثاله في الكلام عمّة وعمّات .
وقال الراعي :
كانت نجائب منذر ومحرق
أُماتهن وطرقهن فحيلا
فحرم الله تعالى في هذه الآية نكاح أربع عشرة امرأة : سبعاً بنسب وسبعاً بسبب ، فأما
(3/281)

" صفحة رقم 282 "
النسب قوله : ) أمهاتكم ( فهي أمهات النسبة ) وبناتكم ( جمع البنت ) وأخواتكم ( جمع الأخت ) وعماتكم وخالاتكم ( جمع العمّة والخالة ) وبنات الأخ وبنات الأخت ( .
وأما السبب فقوله : ) وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ( وهي أمهات الحرمة كقوله تعالى : ) وأزواجه أُمهاتهم ( ثم قال : ) ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً ( . وقرأ عبد الله : ( واللاي ) بغير تاء كقوله : ) واللائي يئسنَ من المحيض ( .
قال الشاعر :
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة
ولكن ليقتلن البرئ المغفلا
عروة عن عائشة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ما حرمته الولادة حرمه الرضاع ) .
ومالك بن أنس عن عبد الله بن أبي بكر عن عميرة عن عائشة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ) .
الأعمش عن سعيد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي كرم الله وجهه قال : قلت يا رسول الله مالك تنوق في قريش وتدعنا قال : ( وعندك أحد ؟ ) قلت : نعم بنت حمزة ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة ) .
وهب بن كيسان عن عروة عن عائشة : أن أبا القعيس وهو أفلح إستأذن على عائشة بعد آية الحجاب ، فأبت : أن تأذن له فذكر ذلك للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( إئذني له فإنّه عمك ) فقالت : إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل ، قال : ( إنه عمك فليلج عليك ) .
وإنما يحرم الرضاع بشرطين إثنين أحدهما : أن يكون خمس رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات ، وتوفى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهي ممّا يقرأ من القرآن .
وروى عبد الله بن الحرث عن أم الفضل : أن نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) سُئل عن الرضاع فقال : ( لا تحرم الاملاجة ولا الأملاجتان )
(3/282)

" صفحة رقم 283 "
قال قتادة : المصة والمصتان .
والشرط الثاني : أن يكون من الحولين ، وما كان بعد الحولين فإنه لا يحرم ، وكان أبو حنيفة يرى ذلك بعد الحولين ستة أشهر .
ومالك : بعد الحولين شهراً ، والدليل على أن ما بعد الحولين من الرضاع بقوله : ) والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ( وليس بعد الكمال والتمام شيء ، وقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا رضاع بعد الحولين ، وإنما الرضاع ما أنبت اللحم وأنشر العظم ) .
) وأمهات نسائكم ( أم المرأة حرام دخل بها أو لم يدخل ، وهو قول أكثر الفقهاء ، وعليه الحكم والفتيا ، وقد شدد أهل العراق فيها حتى قالوا : لو وطأها أو قبّلها أو لامسها بالشهوة حرمت عليه ابنتها . وعندنا إنما يحرم بالنكاح الصحيح ، والحرام لا يحرم الحلال ، وكان ابن عباس يقرأ ( وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن ) ويحلف بالله ما نزل إلاّ هكذا ويقول : هي بمنزلة الربائب ، فلما كانت الربائب لا يحرمن بالعقد على أمهاتهن دون الوطىء ، كذلك أمهات النساء لا يحرمن بالعقد على بناتهن دون الوطىء ، وهو قول علي وزيد وجابر وابن عمر وابن الزبير قالوا : نكاح أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهن حلال ، والقول الأول هو الأصح .
قال ابن جريح : قلت لعطاء : الرجل ينكح المرأة ثم يراها ولا يجامعها حتى يطلقها ، أيحل له أُمّها ؟ قال : لا ، هي مرسلة دخل بها أو لم يدخل . فقلت له : كان ابن عباس يقرأ : ( وامهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن ) قال : لا .
و روى عمرو بن المسيب عن أبيه عن جدّه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل وإذا تزوج الأم ولم يدخل ، بها ثم طلقها فإن شاء تزوج بالبنت ) .
) وربائبكم ( جمع الربيبة وهي ابنت المرأة ، قيل لها : ربيبة ، لتربيته إياها ، فعيلة بمعنى مفعولة ) اللاتي في حجوركم ( أي في ضمانكم وتربيتكم ، يقال : فلان في حجر فلان إذا كان يلي تربيته ، ويقال : امرأة طيبة الحجر إذا لم تُربّ ولداً إلاّ طيب الولد .
قال الكميت :
الكرمات ( نسبة ) في قريش
( وسواهم ) والطيبات الحجورا
ومنه قيل للحظر حجر ، والأصل فيه الناحية ، يقال : فلان يأكل في حجره ويريض حجره .
(3/283)

" صفحة رقم 284 "
) من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ( أي جامعتموهن ) فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم ( نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن عنكم .
روى الزهري عن عروة : أن زينب بنت أبي سلمة وأمها أم سلمة زوج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أخبرته أن أم حبيبة بنت أبي سفيان أخبرتها أنها قالت : يا رسول الله انكح أختي قالت : فقال لي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أو تحبين ذلك ؟ ) قلت : نعم ليست لك بمخلية وأحب من يشاركني في خير أختي . فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ ذلك لا يحلّ لي ) . فقلت : والله يا رسول الله إنّا لنتحدث أنك تريد أن تنكح درّة بنت أبي سلمة فقال : ( بنت أم سلمة ؟ ) فقلت : نعم ، قال : ( والله إنها لو تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها لبنت أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة فلا تعرضن عليَّ بناتكن ولا أخواتكن ) .
) وحلائل أبنائكم ( يعني أزواج أبنائكم ، والذكر حليل ، وجمعه أحلّه وأحلاّء ، مثل عزيز وأعزة وأعزّاء ، وإنما سمّي بذلك لأن كل واحد منهما حلال لصاحبه ، يقال : حلّ وهو حليل ، مثل صحّ وهو صحيح ، وقيل : سمّي بذلك لأن كل واحد منهما يحلّ حيث يحلّ صاحبه من الحلول وهو النزول ، وقيل : لأن كلّ واحد منهما يحل إزار صاحبه ، من الحل وهو ضد العقد .
قال الشاعر :
يدافع قوماً على مجدهم
دفاع الحليلة عنها الحليلا
يدافعه يومها تارة
ويمكنه رجلها أن يشولا
) الذين من أصلابكم ( دون من تبنيتموهم .
قال عطاء : نزلت في محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حين نكح امرأة زيد بن حارثة .
) وأن تجمعوا بين الأختين ( حرّتين كانتا بالعقد أو أمتين بالوطئ ) إلاّ ما قد سلف ( .
قال عطاء والسدي : يعني إلاّ ما كان من يعقوب ( عليه السلام ) ، فإنه جمع بين ليا أم يهوذا وراجيل أُم يوسف وكانتا أُختين .
) إن الله كان غفوراً رحيماً }
النساء : ( 24 ) والمحصنات من النساء . . . . .
) والمحصنات من النساء ( الآية .
قال عمرو بن مرّة : قال رجل لسعيد بن جبير : أما رأيت ابن عباس حين يُسأل عن هذه الآية ) والمحصنات من النساء ( فلم يقل فيها شيئاً ، فقال سعيد : كان لا يعلمها .
وقال مجاهد : لو أعلم من يفسّر في هذه الآية لضربتُ إليه أكباد الإبل ، قوله تعالى : ) والمحصنات من النساء (
.
(3/284)

" صفحة رقم 285 "
قال المفسرون : هذه السابعة من النساء اللواتي حُرّمن بالسبب .
قرأه العامة : ( والمحصَنات ) بفتح الصاد ، يعني في زوال الأزواج أحصنهنّ أزواجهن .
قال أبو سعيد الخدري : نزلت في نساء كُنَّ يهاجرن إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولهنّ أزواج فيتزوجهن بعض المسلمين ، ثم يقدم أزواجهن مهاجرين ، فنهى المسلمين عن نكاحهنّ ثم استثنى فقال : ) إلاّ ما ملكت أيمانكم ( يعني السبايا اللاتي سبين ولهم أزواج في دار الحرب ، فحلال لمالكهن وطأهن بعد الإستبراء .
فقال أبو سعيد الخدري : بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم حنين جيشاً إلى أوطاس ، فلقوا العدو فأصابوا سبايا لهن أزواج من المشركين ، فكرهوا وطأهنّ وتأثموا من ذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقرأ علقمة : ( والمحصِنات ) بكسر الصاد ، ودليله قول عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) وعبيدة وأبي العالية والسدي ، قالوا : والمحصنات في هذه الآية والعفائف ومعناها : والعفائف من النساء عليكم حرام إلاّ ما ملكت إيمانكم منهن بنكاح أو ملك يمين وثمن ، وقيل : معناه الحرائر .
قال الباقر ويمان : معناه والمحصنات من النساء عليكم حرام ما فوق الأربع ، إلاّ ما ملكت إيمانكم فإنه لا عدد عليكم فيهن .
وقال ابن جريح : سألنا عطاء عنها فقال : معنى قوله : ) إلاّ ما ملكت إيمانكم ( أن تكون لك أَمة عند عبد لك قد أحصنها بنكاح وتنزعها منه إن شئت .
) كتاب الله عليكم ( نصب على المصدر ، أي كتب الله عليكم كتاباً ، وقيل : نصب على الإغراء ، أي الزموا واتقوا كتاب الله عليكم .
وقرأ ابن السميقع : ) كتاب الله عليكم ( أي أوجب ، وهذه أربعة عشر امرأة ، محرمات بالكتاب .
فأما الستّة : فقد حرّمت امرأتين ، وهو ما روى هشام عن محمد عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا تنكح المرأة على عمّتها ولا على خالتها ) .
) وأحلّ لكم ( قرأ أبو جعفر وأهل الكوفة : ( وأُحل لكم ) بضم الألف .
الباقون : بالنصب ، وهي قراءة علي وابن عباس واختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، فمن رفع فلقوله : ) حُرّمت ( ، ومن نصب ، فللقرب من ذكر الله في قوله : ) كتاب الله (
.
(3/285)

" صفحة رقم 286 "
) ما وراء ( ما سوى ) ذلكم ( الذي ذكرت من المحرمات ) إن تبتغوا ( بدل من ( ما ) فمن رفع أحلّ ف ( إن ) عنده في محل الرفع ، ومن نصب ف ( إن ) عنده في محل النصب .
قال الكسائي والفراء : موضعه نصب في القراءتين بنزع الخافض ، يعني : لأن تبتغوا وتطلبوا .
) بأموالكم ( أما بنكاح وصداق أو بملك وثمن ) محصنين ( مُتعففين ) غير مسافحين ( زانين ، وأصله من سفح المذي والمني ) فما استمتعتم به منهن ( اختلف في معنى الآية : فقال مجاهد والحسن : يعني ممّا انتفعتم وتلذذتم للجماع من النساء بالنكاح الصحيح .
) فآتوهن أجورهن ( أي مهورهن ، فإذا جامعها مرّة واحدة فقد وجب لها المهر كاملا .
وقال آخرون : هو نكاح المتعة ، ثم اختُلف في الآية أمحكمة هي أم منسوخة ؟
فقال ابن عباس : هي محكمة ورخّص في المتعة ، وهي أن ينكح الرجل المرأة بولي وشاهدين إلى أجل معلوم ، فإذا انقضى الأجل فليس له عليها سبيل ، وهي منه بريئة ، وعليها أن تستبري ما في رحمها وليس بينهما ميراث .
قال حبيب بن أبي ثابت : أعطاني ابن عباس مصحفاً فقال : هذا على قراءة أُبي ، فرأيت في المصحف ( فما استمتعم به منهن إلى أجل مسمى ) .
وروى داود عن أبي نضرة قال : سألت ابن عباس عن المتعة فقال : أما تقرأ سورة النساء ؟ قلت : بلى ، قال : فما تقرأ : ( فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى ) ؟ قلت : لا أقرأها هكذا . قال ابن عباس : والله لهكذا أنزلها الله ، ثلاث مرّات .
وروى عيسى بن عمر عن طلحة بن مصرف أنه قرأ : ( فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى ) .
وروى عمرو بن مرّة عن سعيد بن جبير : أنه قرأها : ( فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى ) .
وروى شعبة عن الحكم قال : سألته عن هذه الآية : ) فما استمتعتم به منهن ( أمنسوخة هي ؟ قال : لا . قال الحكم : قال علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه : لولا أن عمر نهى عن المتعة مازنا إلاّ شقي .
أبو رجاء العطاردي عن عمران بن الحصين قال : نزلت هذه الآية ( المتعة ) في كتاب الله ، لم تنزل آية بعدها تنسخها ، فأمرنا بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وتمتعنا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم ينهنا عنه ، وقال رجل بعد برأيه ما شاء
(3/286)

" صفحة رقم 287 "
قال الثعلبي : قلت ولم يرخص في نكاح المتعة إلاّ عمران بن الحصين وعبد الله بن عباس وبعض أصحابه وطائفة من أهل البيت ، وفي قول ابن عباس .
يقول الشاعر :
أقول للرّكب إذ طال الثواء بنا
يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
هل لك في رخصة الاطراف ناعمة
تكون مثواك حتى مرجع الناس
وسائر العلماء والفقهاء والصحابة والتابعين والسلف الصالحين على أن هذه الآية منسوخة ومتعة النساء حرام .
وروى الربيع بن بسرة الجهني عن أبيه قال : كنّا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في عمرته فشكونا إليه العزبة ، فقال : ( يا أيها الناس استمتعوا من هذه النساء ) ثم صبحت غاديا على رسول الله فإذا هو يقول : ( يا أيها الناس إني كنت أمرتكم بالإستمتاع من هذه النساء إلاّ أن الله حرّم ذلك إلى يوم القيامة ) .
وقال خصيف : سألت الحسن عن نكاح المتعة ، فقال : إنما كان ثلاثة أيام على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم نهى الله عزّ وجلّ عنه ورسوله ( صلى الله عليه وسلم )
وقال الكلبي : كان هذا في بدء الإسلام ، أحلّها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بثلاثة أيام ثم حرّمها ، وذلك أنه كان إذا تم الأجل الذي بينهما أعطاها أجرها الذي كان شرط لها ، ثم قال : زيديني في الأيام فأزيدك في الأجر ، فإن شاءت فعلت ذلك ، فإذا تم الأجل الذي بينهما أعطاها الأجر وفارقها ، ثم نسخت بآية الطلاق والعدة والممات .
وروى الزهري عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي بن أبي طالب عن أبيهما أن علياً قال لابن عباس : نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل الحمر الأهلية .
وروى الفضل بن دكين عن البراء بن عبد الله القاص عن أبي نضرة عن ابن عباس أن عمر ( رضي الله عنه ) نهى عن المتعة التي تذكر في سورة النساء فقال : إنما أحل الله ذلك على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والنساء يومئذ قليل ، ثم حرّم عليهم بعد أن نهى عنها .
وعن سالم بن عبد الله بن عمر عن عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) أنه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه فقال : ما بال رجال ينكحون هذه المتعة وقد نهى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عنها لا أجد رجلا ينكحها إلاّ رجمته بالحجارة .
(3/287)

" صفحة رقم 288 "
وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( هدم المتعة النكاح والطلاق والعدة والميراث ) .
وقال ابن أبي مليكة : سألت عائشة عن المتعة فقالت : بيني وبينهم كتاب الله ) والذين هم لفروجهم حافظون إلاّ على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ( .
وعن عائشة : والله ما نجد في كتاب الله إلاّ النكاح والاستسراء . وقال ابن عمر : المتعة سفاح .
عطاء : المتعة حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير .
قال الثعلبي : سمعت أبا القاسم بن جبير يقول : سمعت أبا علي الحسين بن أحمد الخياط يقول : سمعت أبا نعيم بن عبد الملك بن محمد بن عدي يقول : سمعت ( . . . ) يقول : الشافعي يقول : لا أعلم في الإسلام شيئاً أحل ثم حرّم ثم أحل ثم حُرّم غير المتعة .
) فآتوهن أجورهن فريضة ( أي مهورهن ، سمّيَ المهر أجراً ، لأنه ثمن البضع وأجر إلاّ ستمتاع ألا تراهُ يتأكد بالخلوة والدخول .
واختلفوا في حدّه ، فأكثره لا غاية له ، وأما أقلّه فقال أبو حنيفة : لا مهر دون عشرة دراهم أو قيمتها من الذهب ، لأن الله عزّ وجلّ قال : ) إن تبتغوا بأموالكم ( ولا يطلق اسم المال على أقل من هذا القدر .
وعند الشافعي : لا حدّ له ، فأجاز الشيء الطفيف حتى القبضة من الطعام ، وكذلك كل عمل أوجب أجراً قليلا كان أو كثيراً ، والسورة من كتاب الله عزّ وجلّ أو آية لقوله : ) فآتوهن أجورهن ( .
وعن سلمة بن وردان قال : سمعت أنس بن مالك يقول : سأل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رجلا من أصحابه ، فقال : ( يا فلان هل تزوجت ؟ ) قال : لا ، وليس عندي ما أتزوج ، قال : ( أليس معك ) قل هو الله أحد ( ؟ ) قال : بلى ، قال : ( ربع القرآن ) قال : ( أليس معك ) إذا جاء نصر الله ( ؟ ) قال : بلى ، قال : ( ربع القرآن ) قال : ( أليس معك ) قل يا أيها الكافرون ( ؟ ) قال : بلى ، قال : ( ربع القرآن ) ، قال : ( أليس معك ) إذا زلزلت (
(3/288)

" صفحة رقم 289 "
؟ ) قال : بلى ، قال : ( ربع القرآن ) قال : ( أليس معك آية الكرسي ؟ ) قال : بلى ، قال : ( ربع القرآن ) ، قال : ( تزوج تزوج تزوج ) .
وقد ذكرت حجج الفريقين فيما قيل .
) ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ( يعني فيما تفتدي به المرأة نفسها ، ) إن الله كان عليماً حكيماً ( .
النساء : ( 25 ) ومن لم يستطع . . . . .
) ومن لم يستطع منكم طولا ( فضلا وسعة .
المسيب بن شريك عن عمران بن جرير عن النزال بن سبرة عن ابن عباس قال : من ملك ثلاثمائة درهم فقد وجب عليه الحج وحُرّم عليه نكاح الإماء .
) أن ينكح المحصنات ( الحرائر ، وقرأ الكسائي : ( المحصِنات ) بكسر الصاد ، كل القرآن إلاّ في أول هذه السورة ، الباقون : بالفتح .
) المؤمنات فممّا ملكت أيمانكم ( إلى قوله ) بإذن أهلهن ( سادتهن ) فآتوهن أجورهن ( مهورهن ) بالمعروف ( من غير ضمار ) محصنات ( عفائف ) غير مسافحات ( زانيات ) ولا متخذات أخدان ( أحباب يزنون بهن في السر .
) فإذا أحصن ( قرأ أهل الكوفة : بفتح الألف ، على معنى حفظن فروجهن ، وقرأ الآخرون : بالضم ، على معنى أنهنّ أُحصنّ بأزواجهنّ ) فإن أتين بفاحشة ( يعني الزنا ) فعليهن نصف ما على المحصنات ( الحراير إذا زنين ) من العذاب ( يعني الحدّ ، نظيره : ) ويدرأ عنها العذاب ( وهو خمسون جلدة وتغريب نصف سنة على الصحيح من مذهب الشافعي ، ويحتاج أن يغرّب الزاني إلى موضع يقصر إليه الصلاة ، وللسيد إقامة الحدّ بالزنا على عبده وأمته .
سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ولا يغيرها ، فإن عادت فليجلدها ولا يغيرها ، فإن عادت فليجلدها ولا يغيرها ، فإن عادت الرابعة فليبعها ولو بضفير أو حبل ) .
) ذلك ( يعني نكاح الإماء عند عدم الطول ) لمن خشي العنت منكم ( يعني الإثم والضرر بغلبة الشهوة ) وأن تصبروا ( عن نكاح الإماء متعففين ) خير لكم والله غفور رحيم ( .
عن يونس بن مرداس وكان خادماً لأنس قال : كنت بين أنس وأبي هريرة ، فقال أنس : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( من أحبّ أن يلقى الله طاهراً مطهراً فليتزوج الحرائر ) .
(3/289)

" صفحة رقم 290 "
فقال أبو هريرة : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( الحرائر صلاح البيت والإماء فساد البيت ) .
النساء : ( 26 ) يريد الله ليبين . . . . .
) يريد الله ليبيّن لكم ( أي أن يبيّن ، ( اللام ) بمعنى أن ، والعرب تعاقب بين لام كي وبين أن فتضع إحداهما مكان الأُخرى كقوله : ) وأمرت لأعدل بينكم ( وقوله : ) وأمرنا لنسلم لربّ العالمين ( ، ثم قال في موضع آخر : ) وأمرت أن أسلم لربّ العالمين ( ، وقال : ) يريدون ليطفئوا نور الله ( ، ثم قال في موضع آخر : ) يريدون أن يطفئوا نور الله ( .
وقال الشاعر :
أريد لأنسى ذكرها فكأنما
تمثل لي ليلى بكل سبيل
يريد أن أنسى ، ومعنى الآية : يريد الله أن يبيّن شرائع دينكم ومصالح أمركم .
الحسن : يعلمكم ما تأتون وما تذرون . عطاء : يبيّن لكم ما يقربكم منه . الكلبي : ليبيّن لكم أن الصبر من نكاح الإماء خير لكم .
) ويهديكم سنن ( شرايع ) الذين من قبلكم ( في تحريم الأمهات والبنات والأخوات ، كما ذكر في الآيتين . هكذا حرّمها على من كان قبلكم من الأمم ) ويتوب عليكم ( يتجاوز عنكم ما أصبتم قبل أن يبيّن لكم ، قاله الكلبي .
وقال محمد بن جرير : يعني يرجع بكم من معصيته التي كنتم عليها قبل هذا إلى طاعته التي أمركم بها في هذه الآية ) والله عليم ( بما يصلح عباده من أمر دينهم ودنياهم ) حكيم ( في تدبيره فيهم
النساء : ( 27 ) والله يريد أن . . . . .
) والله يريد أن يتوب عليكم ( إن وقع تقصير منكم في أمره ) ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ( عن الحق ) ميلا عظيماً ( بإتيانكم ما حرّم عليكم ، واختلفوا في الموصوفين باتباع الشهوات من هم :
فقال السدي : هم اليهود والنصارى .
وقال بعضهم : هم اليهود ، وذلك أنهم ينكحون بنات الأخ وبنات الأخت ، فلما حرّمهما الله قالوا : إنكم تحلّون بنات الخالة والعمّة ، والخالة والعمّة عليكم حرام ، فانكحوا بنات الأخ والأخت كما تنكحون بنات الخالة والعمّة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
(3/290)

" صفحة رقم 291 "
مجاهد : هم الزناة ، يريدون أن تميلوا عن الحق فتكونوا مثلهم تزنون كما يزنون .
ابن زيد : هم جميع أهل الكتاب في دينهم .
النساء : ( 28 ) يريد الله أن . . . . .
) يريد الله أن يخفف عنكم ( في نكاح الأمة ، إذا لم تجدوا طول الجرة وفي كل أحكام الشرع ) وخُلق الإنسان ضعيفاً ( في كل شيء .
طاوس والكلبي وأكثر المفسرين : يعني في أمر الجماع لا يصبر على النساء ولا يكون الإنسان في شيء أضعف منه في أمر النساء .
قال سعيد بن المسيب : ما آيس الشيطان من بني آدم إلاّ أتاه من قِبل النساء ، وقد أتى عليَّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عينيّ وأنا أعشى بالأخرى ، وأن أخوف ما أخاف عليّ فتنة النساء .
مالك بن شرحبيل قال : قال عبادة بن الصامت : ألا ترونني لا أقوم إلاّ رفدا ولا آكل إلاّ ما لوق لي وقد مات صاحبي منذ زمان ، وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي وأن لي ما تطلع عليه الشمس مخافة أن يأتيني الشيطان فيحكيه عليّ أنه لا سمع له ولا بصر .
قال الحسن : هو أن خلقه من ماء مهين بيانه قول الله : ) الذي خلقكم من ضعف ( .
ابن كيسان : ( خلق الإنسان ضعيفاً ) يستميله هواه وشهوته ويستطيشه خوفه وحزنه .
قال ابن عباس : ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة ممّا طلعت عليه الشمس وغربت : ) يريد الله ليبيّن لكم ( ، ) والله يريد أن يتوب عليكم ( ) يريد الله أن يخفف عنكم ( ) إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ( ) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك ( ، ) إن الله لا يظلم مثقال ذرة ( ) ومن يعمل سوء أو يظلم نفسه ( ، ) ما يفعل الله بعذابكم (
.
) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكَانَ ذالِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ
(3/291)

" صفحة رقم 292 "
مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيماً وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِىَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالاَْقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَئَاتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيداً الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَآءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَآ أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَفِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلَاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً ( 2
النساء : ( 29 ) يا أيها الذين . . . . .
قوله تعالى : ) يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ( بالحرام يعني الربا والقمار والقطع والغصب والسرقة والخيانة .
وقال ابن عباس : هو الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول : إن رضيت أخذته وإلاّ رددته ورددت معه درهماً ، ثم قال : ) إلاّ أن تكون تجارة ( يعني لكن إذا كانت تجارة استثناء منقطع ، لأن التجارة ليست بباطل .
قرأ أهل الكوفة : ( تجارة ) بالنصب وهو اختيار أبي عبيد .
وقرأ الباقون : بالرفع وهو اختيار أبي حاتم ، فمن نصب فعلى خبر كان تقديره : إلاّ أن تكون الأموال تجارة .
كقول الشاعر :
إذا كان طاعناً بينهم وعناقاً
ومن رفع فعلى معنى الا أن تقع تجارة وحينئذ لا خبر له . كقول الشاعر :
فدىً لبني ذهل بن شيبان ناقتي
إذا كان يوم ذو كواكب أشهب
ثم وصف التجارة فقال : ) عن تراض منكم ( يرضى كل واحد منهما بما في يديه .
قال أكثر المفسرين : هو أن يخبر كل واحد من المتبايعين صاحبه بعد عقد المبيع حتى يتفرقا من مجلسهما الذي تعاقدا فيه ، كقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ) .
(3/292)

" صفحة رقم 293 "
وقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( البيع عن تراضي بالخيار بعد الصفقة ولا يحلّ لمسلم أن يغش مسلماً ) .
وروى حكيم بن حزام عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما ، فإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما ) .
وابتاع عمر بن جرير فرساً ثم خير صاحبه بعد البيع ، ثم قال : سمعت أبا هريرة يقول : هذا البيع عن تراض .
) ولا تقتلوا أنفسكم ( يعني إخوانكم ، أي لا يقتل بعضكم بعضاً .
قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبي عن جدّي عن علي بن الحسين الهلالي قال : سمعت إبراهيم بن الأشعث يقول : سأل الفضل بن عياض عن قوله : ) ولا تقتلوا أنفسكم ( قال : لا تغفلوا عن حظ أنفسكم ، فمن غفل عن حظ نفسه فكأنه قتلها .
) إن الله كان بكم رحيماً ( .
عبد الرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص أنه قال : لما بعثه رسول الله عام ذات السلاسل قال : احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيمّمت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح ، فلما قدمنا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ذكرت ذلك له فقال : ( يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ ) .
قلت : نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك وذكرت قول الله تعالى : ) ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً ( فتيمّمت ثم صليت ، فضحك رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يقل شيئاً .
وعن الحسن : أن الحرث بن عبد الله خلا بالنفر من أصحابه وقال : إن هؤلاء ولغوا في دمائهم فلا يحولنّ بين أحدكم وبين الجنة مل كف من دم مسلم أهراقه ، فأني سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إن رجلا ممّن كان قبلكم خرجت به قرحة بيده فأخذ حزة فحزّها بيده حتى قطعها فما رقأ دمها حتى مات فقال ربّكم تعالى : بادرني ابن آدم بنفسه فقتلها فقد حرمت عليه الجنة ) .
سماك عن جابر بن سمرة : أن رجلا ذبح نفسه فلم يصل عليه النبي ( صلى الله عليه وسلم )
(3/293)

" صفحة رقم 294 "
حماد بن زيد عن عاصم الأسدي : ذكر بأن مسروقاً بن الأجدع أتى صفين فوقف بين الصفين ثم قال : يا أيها الناس أنصتوا ، ثم قال : أرأيتم لو أنّ منادياً ناداكم من السماء فسمعتم كلامه ورأيتموه فقال : إن الله ينهاكم عمّا أنتم فيه ، أكنتم مطيعيه ؟ قالوا : نعم . قال : فوالله لنزل بذلك جبرئيل على محمد فما زال يأتي من هذا ثم تلا ) يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم ( الآية ثم انساب في الناس فذهب .
النساء : ( 30 ) ومن يفعل ذلك . . . . .
) ومن يفعل ذلك ( الذي ذكرت من المحرمات ) عدواناً وظلماً فسوف نصليه ( ندخله في الآخرة ناراً ) وكان ذلك على الله يسيراً ( هيّناً
النساء : ( 31 ) إن تجتنبوا كبائر . . . . .
) إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ( الآية .
اختلفوا في الكبائر التي جعل الله اجتنابها تكفيراً للصغائر .
فروى عمرو بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود قال : قلت : يا رسول الله أي الذنب أعظم ؟ قال : ( أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك ) قال : قلت : ثم ماذا ؟ قال : ( أن تزني بحليلة جارك ) هذا الحديث من قول الله : ) والذين لا يدعون مع الله إلاهاً آخر ( الآية .
صالح بن حيان عن أبي بُريدة عن أبيه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين ومنع فضول الماء بعد الري ) .
الشعبي عن عبد الله بن عمر أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( الكبائر الإشراك بالله ، واليمين الغموس ، وعقوق الوالدين ، وقتل النفس التي حرّم الله ، وقول الزور أو قال شهادة الزور ) .
سفيان عن سعد بن إبراهيم عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد الله بن عمرو قال : من الكبائر أن يشتم الرجل والديه . قالوا : وكيف يشتم الرجل والديه ؟ قال : يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أُمّه فيسب أُمّه .
أبو الطفيل عن ابن مسعود قال : الكبائر أربع : الإشراك بالله ، والأياس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله .
عكرمة عن عمار قال : حدثنا طيسلة بن علي النهدي قال : سألت ابن عمر عن الكبائر ، فقال : هي تسع قلت ما هن ؟ قال : الإشراك بالله تعالى ، وقتل المؤمن متعمداً ، وعقوق الوالدين
(3/294)

" صفحة رقم 295 "
المسلمين ، وأكل الربا ، وأكل أموال اليتامى ، وقذف المحصنات ، والفرار من الزحف ، والسحر ، وإستحلال الميتة قبلكم أحياءً وأمواتاً .
وقال جعفر الصادق : الكبائر ثلاث : تركك ملتك ، وتبديلك سنّتك ، وقتالك أهل صفقتك .
وقال فرقد المسيحي : قرأت في التوراة : أُمهات الخطايا ثلاث وهي : أول ذنب عصى الله به الكبر ، وكان ذلك لإبليس عليه اللعنة ، والحرص ، وكان ذلك لآدم ( عليه السلام ) ، والحسد ، وكان لقابيل حين قتل هابيل .
عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الكبائر أولهنّ : الإشراك بالله ، وقتل النفس بغير حقها وأكل الربا وأكل مال اليتيم بداراً أن يكبر والفرار من الزحف ورمي المحصنة والإنقلاب على الأعراب بعد الهجرة فهذه سبع ) .
سعيد بن جبير عن ابن عباس : أن رجلا سأله عن الكبائر السبع ، قال : هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى السبع إلاّ أنه لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار .
علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس قال : الكبائر عشرون : الشرك بالله عزّ وجلّ ، وعقوق الوالدين ، وقتل المؤمن ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، واليأس من روح الله ، والسحر ، والزنا والربا ، والسرقة ، وأكل مال اليتيم ، وترك الصلاة ، ومنع الزكاة ، وشهادة الزور ، وقتل الولد خشية أن يأكل معك ، والحسد ، والكبر ، والبهتان ، والحرص ، والحيف في الوصية ، وتحقير المسلمين .
السدي عن ابن مالك قال : ذكروا الكبائر عند عبد الله فقال عبد الله : افتحوا سورة النساء ، وكل شيء نهى الله عنه حتى ثلاث وثلاثون آية فهو كبيرة ، ثم قال : مصداق ذلك ) إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ( الآية .
وقال ابن سيرين : ذكر عند ابن عباس الكبائر فقال : كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة ، حتى الطرفة وهي النظرة .
سعيد بن جبير عنه : كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة ، فمن عمل شيئاً منها فليستغفر ، فإن الله لا يخلد في النار من هذه الأمة إلاّ راجعاً عن الإسلام أو جاحد فريضة أو مكذباً بقدر .
علي بن أبي طلحة عنه : كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب .
سعيد بن جبير : كل ذنب نسبه الله إلى النار وأوعد عليه النار فهي كبيرة .
الحسن : الموجبات للحدود
(3/295)

" صفحة رقم 296 "
الضحاك : ما وعد الله تعالى عليه حدّاً في الدنيا وعذاباً في الآخرة .
الحسين بن الفضل : ما سمّاه الله في كتابه القرآن كبيراً أو عظيماً ، نحو قوله : ) إنه كان حوبا كبيرا ( ) إن قتلهم كان خطأ كبيراً ( ) ، ) إن الشرك لظلم عظيم ( ) إنّ كيدكنّ عظيم ( ) ، ) سبحانك هذا بهتان عظيم ( ) إنّ ذلكم كان عند الله عظيماً ( ) .
مالك بن معول : الكبائر ذنوب أهل البدع والسيئات ذنوب أهل الشيّنة .
وكيع : كل ذنب أصرّ عليه العبد فهو كبيرة ، وليس من الكبائر ما تاب منه العبد واستغفر منه .
أحمد بن عاصم الأنطاكي : الكبائر ذنوب العمد ، والسيئات الخطأ ، والنسيان ، والإكراه ، وحديث النفس ، المرفوعة من هذه الأمة .
سفيان الثوري : الكبائر ما فيه المظالم بينك وبين العباد ، والصغائر ما بينك وبين الله تعالى ، لأن الله كريم يغفره ، واحتجّ بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ينادي يوم القيامة مناد من بطنان العرش يا أُمّة محمد إن الله عزّ وجلّ يقول : أمّا ما كان لي قبلكم فقد وهبتها لكم وبقي التبعات ، فتواهبوا وادخلوا الجنة برحمتي ) .
المحاربي : الكبائر ذنوب المذنبين المستحلين مثل ذنب إبليس ، والصغائر ذنوب المستغفرين مثل ذنب آدم .
السدي : الكبائر ما نهى الله عنه من الذنوب الكبار والسيئات مقدماتها ، وتبعاتها ما يجتمع فيه الصالح والفاسق ، مثل النظرة واللمسة والقبلة وأشباهها .
قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( العينان تزنيان واليدان تزنيان ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه ) .
وقال قوم : الكبيرة ما قبح في العقل والطبع مثل القتل والظلم والزنا والكذب ونحوها ، والصغيرة ما نهى الله عنه شرعاً وسمعاً .
وقال : كل ذنب يتجاوز عنه بفضله يوم القيامة فهو صغيرة ، وكل ذنب عذّب عليها بعدله فهو كبيرة . وقيل : الكبائر الذنوب الباطنة والسيئات الذنوب الظاهرة .
وقال بعضهم : الصغائر ما يستحقرونه العباد والكبائر ما يستعظمونه فيخافون واقعته .
(3/296)

" صفحة رقم 297 "
وقال أنس بن مالك : إنكم تعملون أعمالا هي أدق من الشعر في أعينكم كنّا نعّدها على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من الكبائر .
وقال بعضهم : الكبائر الشرك وما يؤدّي إليه ، وما دون الشرك فهو من السيئات ، قال الله تعالى : ) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ( .
فصل في تفصيل أقاويل أهل التأويل في عددالكبائر مجموعة من الكتاب والسنة مقرونة بالدليل والحجة
أحدها : الإشراك بالله لقوله تعالى : ) إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ( .
الثاني : الأياس من روح الله لقوله : ) ولا تيأسوا من روح الله ( الآية .
والثالث : القنوط من رحمة الله لقوله : ) ومن يقنط من رحمة ربه إلاّ الضالون ( .
والرابع : الأمن من مكر الله لقوله : ) فلا يأمن مكر الله إلاّ القوم الخاسرون ( .
والخامس : عقوق الوالدين لقوله : ) وقضى ربك ألاّ تعبدوا إلاّ إياه وبالوالدين إحساناً ( .
والسادس : قتل النفس التي حرّم الله لقوله : ) ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم ( .
والسابع : قذف المحصنة لقوله : ) إن الذين يرمون المحصنات الغافلات ( الآية .
والثامن : الفرار من الزحف لقوله : ) يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً ( الآية .
التاسع : أكل الربا لقوله : ) الذين يأكلون الربا ( الآية .
والعاشر : السحر لقوله : ) ولقد علموا لمن اشتراه ( الآية .
والحادي عشر : الزنا : ) ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً ( .
والثاني عشر : اليمين الكاذبة لقوله : ) إن الذين يشترون بعهد الله وايمانهم ثمناً قليلا (
.
(3/297)

" صفحة رقم 298 "
والثالث عشر : منع الزكاة لقوله : ) والذين يكنزون الذهب والفضة ( الآيتين .
والرابع عشر : الغلول لقوله : ) ومن يغلل يأتي بما غل يوم القيامة ( .
والخامس عشر : شهادة الزور لقوله : ) ولا تكتموا الشهادة ( الآية .
والسادس عشر : الميسر وهو القمار لقوله : ) الميسر والأنصاب والأزلام ( .
والسابع عشر : شرب الخمر لقوله : ) إنما الخمر والميسر ( الآية .
والثامن عشر : ترك الصلاة متعمداً لقوله : ) حافظوا على الصلوات ( الآية .
والتاسع عشر : قطيعة الرحم لقوله ) واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ( وقوله : ) وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله ( .
والعشرون : الحيف من الوصية لقوله : ) فمن خاف من موصٍ جنفاً أو إثماً ( الآية .
والحادي والعشرون : أكل مال اليتيم لقوله : ) إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً ( الآية .
والثاني والعشرون : التغرب بعد الهجرة لقوله : ) ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً ( .
والثالث والعشرون : استحلال الحرم لقوله : ) لا تحلوا شعائر الله ( ، وقوله : ) ومن يرد فيه بإلحاد ( .
والرابع والعشرون : الإرتداد لقوله : ) إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين ( الآية .
والخامس والعشرون : نقض العهد لقوله : ) والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ( .
فذلك قوله تعالى : ) إن تجتنبوا كبائر ( .
وقرأ ابن مسعود : كبر ما تنهون عنه ، على الواحد ، وفيه معنى مع ) نكفّر عنكم سيئاتكم (
(3/298)

" صفحة رقم 299 "
من الصلاة إلى الصلاة ومن الجمعة إلى الجمعة ومن رمضان إلى رمضان ومن الحج إلى الحج ، كما قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الصلاة الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنب الكبائر ) .
) وندخلكم مدخلا كريماً ( وهي الجنة .
وقرأ عاصم وأهل المدينة : ( مدخلا ) بفتح الميم وهو موضع الدخول .
وقرأ الباقون : بالضم على المصدر ، معنى الأدخال .
وروي عن أبي هريرة وعن أبي سعيد أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جلس على المنبر ثم قال : ( والذي نفسي بيده ) ثلاث مرات ثم سكت فأقبل كل رجل منّا يبكي حزناً ليمين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال : ( ما من عبد يأتي بالصلوات الخمس ويصوم رمضان ويجتنب الكبائر إلاّ فتحت له أبواب الجنة يوم القيامة حتى أنها لتصطفق ) ثم تلا ) إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ( الآية .
النساء : ( 32 ) ولا تتمنوا ما . . . . .
) ولا تتمنّوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ( الآية .
يقال : جاءت وافدة النساء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : يا رسول الله أليس الله ربّ الرجال والنساء وأنت رسول الله إليهم جميعاً ، فما بالنا يذكر الله الرجال ولا يذكر النساء ؟ نخشى أن لا يكون فينا خير ولا لله فينا حاجة ؟ فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية ، وقوله : ) إن المسلمين والمسلمات ( الآية ، وقوله : ) من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن ( .
وقيل : لمّا جعل الله للذكر مثل حظ الأُنثيين في الميراث ، قالت النساء : نحن أحوج إلى أن يكون لنا سهمان وللرجال سهم ، لأنا ضعفاء وهم أقوى وأقدر على طلب المعاش منّا ، فنزّل الله هذه الآية .
وقال مجاهد : قالت أم سلمة : يا رسول الله يغزوا الرجال ولا نغزوا ، وإنما لنا نصف الميراث ، فليتنا رجال فنغزوا ونبلغ ما يبلغ الرجال ، فنزلت هذه الآية .
وقال قتادة والسدي : لما نزل قوله : ) للذكر مثل حظ الأنثيين ( ، قال الرجال : إنا لنرجوا أن يفضل علينا النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث ، فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء . وقالت النساء : إنا لنرجوا أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا ، فأنزل الله ) للرجال نصيب ممّا اكتسبوا ( من الثواب والعقاب ) وللنساء (
(3/299)

" صفحة رقم 300 "
كذلك ، قاله قتادة ، وقال أيضاً : هو أن الرجل يجزي بالحسنة عشرة والمرأة تجزي بها عشراً .
وقال ابن عباس : للرجال نصيب ممّا اكتسبوا من الميراث ، وللنساء نصيب منه ) للذكر مثل حظ الأنثيين ( ، والإكتساب على هذا القول بمعنى الإصابة والأحراز ، فنهى الله تعالى عن التمني على هذا الوجه لما فيه من دواعي الحسد .
قال الضحاك : لا يحل لمسلم أن يتمنى مال أحد ، ألم يسمع الذين قالوا : ) يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون ( إلى أن قال ) وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس ( حين خسف بداره وأمواله يقولون : ) لولا أن منَّ الله علينا لخسف بنا ( .
وقال الكلبي : لا يتمنى الرجل مال أخيه ولا امرأته ولا خادمه ولا دابته ، ولكن ليقل : اللهم ارزقني مثله ، وهو كذلك في التوراة ، وذلك قوله في القرآن : ) واسألوا الله من فضله ( .
قرأ ابن كثير وخلف والكسائي : ( وَسلوا الله ) وسل وفسل بغير همزة فنقل حركة الهمزة إلى السين .
الباقون : بالهمزة .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( سلوا الله من فضله فإنه يحبّ أن يُسأل وأن من أفضل العبادة إنتظار الفرج ) .
أبو صالح عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من لم يسأل الله عزّ وجلّ من فضله غضب عليه ) .
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت : سلوا ربّكم حتى الشبع من لم يُيسّره الله لم يتيسّر .
وقال سفيان بن عيينة : لم يأمر بالمسألة إلاّ ليعطي .
النساء : ( 33 ) ولكل جعلنا موالي . . . . .
) ولكل جعلنا موالي ( أي ولكل واحد من الرجال والنساء موالي ، أي عصبة يرثونه ) ممّا ترك الوالدان والأقربون ( من ميراثهم له ، والوالدون والأقربون على هذا التأويل هم الموروثون ، وقيل : معناه ولكل جعلنا موالي ، أي قرابة من الذين تركهم ، ثم فسّر الموالي فقال : ) الوالدان والأقربون ( أي هم الوالدان والأقربون خبر مبتدأ محذوف فالمعنى : من تركة الوالدان والأقربون ، وعلى هذا القول هم الوارثون ) والذين عقدت ( في محل الرفع بالإبتداء ، والمعاقدة هي المعاهدة بين اثنين
(3/300)

" صفحة رقم 301 "
وقرأ أهل الكوفة : عقدت خفيفة بغير ألف أراد عقدت لهم ) أَيمانكم ( وقرأت أم سعد بنت سعد بن الربيع : ( عقّدت ) بالتشديد يعني وثقته وأكدته ، والأيمان جمع يمين من اليد والقسم ، وذلك أنهم كانوا يضربون صفقة البيعة بأيمانهم ، فيأخذ بعضهم بيد بعض على الوفاء والتمسك بالعهد ويتحالفون عليه ، فلذلك ذكر الأيمان .
قتادة وغيره : أراد بالذين عاقدت إيمانكم الحلفاء ، وذلك أن الرجل في الجاهلية كان يعاقد الرجل فيقول : دمي دمُك وهدمي هدمك وثاري ثارك وحربي وحربك وسلمي وسلمك وترثني وارثك وتطلب لي وأطلب لك وتعقل عني وأعقل عنك ، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف ، وعاقد أبو بكر مولى له فورثه لذلك قوله : ) فآتوهم نصيبهم ( أي وأعطوهم حظهم من الميراث ، ثم نسخ ذلك بقوله : ) وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ( .
وقال إبراهيم ومجاهد : أراد فآتوهم نصيبهم من النصر والعقل والرفد ، ولا ميراث ، وعلى هذا القول تكون الآية غير منسوخة لقوله تعالى : ) أوفوا بالعقود ( ، ولقول رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أوفوا للحلفاء بعهودهم التي عقدت أيمانكم ) .
ولقوله ( عليه السلام ) في خطبته يوم فتح مكة : ( ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به فإنه لم يزده الإسلام إلاّ شدة ولا تحدثوا حلفا في الإسلام ) .
وروى عبد الرحمن بن عوف ، أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، قال : ( شهدت حلف المطيبين وأنا غلام مع عمومتي ، فما أحب أن لي حمر النعم وإنّي أنكثه ) ، وقال ابن عباس وابن زيد : نزلت هذه الآية في الذين آخى بينهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من المهاجرين والأنصار حين أتوا إلى المدينة ، وكانوا يتوارثون تلك المؤاخاة ، ثم نسخ الله ذلك بالفرائض .
وقال سعيد بن المسيّب : نزلت في الذين كانوا يتبنّون أبناء غيرهم في الجاهلية ، ومنهم زيد مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فأُمروا في الإسلام ( أن ) يوصوا إليهم عند الموت بوصية ، وردّ الميراث إلى ذوي الرحم ، وأبى الله أن يجعله يجعل للمدّعى ميراثاً ممّن ادّعاهم وتبنّاهم ، ولكن جعل الله لهم نصيباً في الوصية ، فذلك قوله : ) فآتوهم نصيبهم ( ) إنّ الله على كلِّ شيء شهيد ( وقال أبو روق : نزل قوله : ) ولكلَ جعلنا موالي ( الآية
(3/301)

" صفحة رقم 302 "
في أبي بكر الصديق ، وابنه عبد الرحمن ، وكان كافراً ، أن لا ينفعه ولا يورثه شيئاً من ماله ، فلمّا أسلم عبد الرحمن أُمر أن يؤتى نصيبه من المال .
النساء : ( 34 ) الرجال قوامون على . . . . .
) الرجال قوّامون على النساء ( الآية قال مقاتل : نزلت هذه الآية في سعيد بن الربيع بن عمرو وكان من النقباء وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير وهما من الأنصار وذلك أنها نشزت فلطمها ، فانطلق أبوها معها إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : أفرشته كريمتي ولطمها ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( لتقتصَّ من زوجها ) ، فانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليرجعوا ، هذا جبرئيل ) ، وأُنزلت هذه الآية ، وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أردنا أمراً وأراد الله أمراً ، فالذي أراد الله خير ) ، ورُفع القصاص .
وقال الكلبي : نزلت في أسعد بن الربيع وامرأته بنت محمد بن مسلم ، وذكر نحوها أبو روق : نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أُبي ، وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس ، وذلك أنّها نشزت عليه فلطمها ، فأتت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) تستعدي ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ) الرجال قوّامون على النساء ( أي مسلّطون على تأديب النساء ) بما فضّل الله بعضهم على بعض ( فليس بين الرجل وامرأته قصاص فيما دون النفس ، فلو شجّ رجل امرأته ، أو جرحها لم يكن عليه قود ، وكان عليه العقل إلاّ التي يقتلها فيُقتل بها ، قاله الزهري وجماعة من العلماء ، وقال بعضهم : ليس بين الزوج والمرأة قصاص إلاّ في النفس والجرح .
والقوّامون : البالغون في القيام عليهن بتعليمهنّ وتأديبهنّ وإصلاح أمرهنّ ) بما فضّل الله بعضهم على بعض ( قيل : بزيادة العقل ، وقيل : بزيادة الدّين واليقين ، وقيل : بقوة العبادة ، وقيل : بالشهادة ، قال الله : ) فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ( ، قال القرظي : بالتصرّف والتجارات ، وقيل : بالجهاد ، قال الله : ) انفروا خفافاً وثقالا ( ، وقال للنساء : ) وقرْن في بيوتكن ( ، الربيع : الجمعة والجماعات ، قال الحسن : بالإنفاق عليهنّ ، قال الله تعالى : ) وبما أنفقوا من أموالهم ( .
وقال بعضهم : يمكن للرجل أن ينكح أربع نسوة ، ولا يحلّ للمرأة غير زوج واحد ، وقيل : هو إنّ الطلاق إلى الرجال وليس إليهنّ منه شيء ، وقيل : بالدّية ، وقيل : بالنبوّة ، وقيل : الخلافة والإمارة ، إسماعيل بن عياش ( . . . . . . . . . ) عن بعض أشياخه رفعه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( المرأة مسكينة ما لم يكن لها زوج ) .
(3/302)

" صفحة رقم 303 "
فقيل : يا رسول الله ، وإن كان لها مال ؟ قال : ( وإن كان لها مال ، الرجال قوّامون على النساء ) .
سعيد ( عن أبي سعيد المقبري ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرّتك ، وإن أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها ، ثم تلا ( صلى الله عليه وسلم ) ) الرجال قوامون على النساء ( ) فالصالحات قانتات ( مطيعات ) حافظات للغيب ( يعني لغيب أزواجهنّ إذا غابوا ، وقيل : سرّهم ) بما حفظ الله ( أي بحفظ الله لهنّ ، وقرأ أبو جعفر بفتح الهاء ، ومعناه : بحفظ من الله في الطاعة ، وهذا كقوله عليه السلام : ( احفظ الله يحفظك ) ، و ) ما ( على القراءتين ( مصدريّة ) ، كقوله : ) بما غفر لي ربّي ( ، أي يغفر لي ربّي .
) واللاتي تخافون نشوزهنّ ( عصيانهن ، وأصله من الحركة ) فعظوهنّ ( ، فإنْ نزعن عن ذلك وإلاّ ) واهجروهن في المضاجع ( ، وقيل : ولّوهنّ ظهوركم في المضاجع ، فإن نزعن وإلاّ ) واضربوهنّ ( ضرباً غير مبرح ولا شائن .
ابن أبي ليلى عن داود بن علي عن أبيه عن جده عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( علّق السوط حيث يراه أهل البيت ) . هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر قالت : كنت رابعة أربع نسوة عند الزبير بن العوام ، فإذا غضب على إحدانا ضربها بعود المشجب حتى يكسره عليها .
) فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلا ( أي لا ( تطلبوا ) عليهنّ بالذنوب ، قال ابن عينه : لا تكلفوهن الحبّ .
) إنّ الله كان عليّاً كبيراً (
النساء : ( 35 ) وإن خفتم شقاق . . . . .
) وان خفتم شقاق بينهما ( أي خلافاً بين الزوجين ، ) فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ( يتوسطون ، ) إن يُريدا اصلاحاً ( يعني الزوجين وقيل : الحكمين ، ) يوفق الله بينهما ( بالصلاح والإلفة ، ) إنّ الله كان عليماً خبيراً ( .
وعن عبيدة السلماني قال : جاء رجل وامرأة علياً ( عليه السلام ) ، مع كل واحد منهما قيام من النّاس ، فقال عليٌّ : ( ما شأن هذين ؟ ) . قالوا : وقع بينهما شقاق . قال عليٌّ : ) فابعثوا
(3/303)

" صفحة رقم 304 "
حكماً من أهله وحكماً من أهلها ( . قال : فبعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ، فقال عليٌ للحكمين : ( هل تدريان ما عليكما ؟ إنّ عليكما إنْ رأيتما أن يُجمعا جمعتما ، وإن رأيتما أن يُفرّقا فرقتما ) ، قالت المرأة : رضيت بكتاب الله بما عليّ فيه ولي ، فقال الرجل : أمّا الفرقة فلا ، قال عليٌ : ( كذبت والله ، لا تنقلب منّي حتى تقرّ بما أقرّت به ) .
النساء : ( 36 ) واعبدوا الله ولا . . . . .
) واعبدوا الله ( وحّدوا الله وأطيعوه ، قالت الحكماء : العبودية ترك العصيان ، وملازمة الذلّ والانكسار ، وقيل : العبودية أربعة أشياء : الوفاء بالعهود ، والحفظ للحدود ، والرّضا بالموجود ، والصبر على المفقود .
) ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ( برّاً بهما وعطفاً عليهما . وقرأ ابن جني : ( إحسانٌ ) بالرفع ، أي وجب الإحسان بهما ، ) وبذي القربى واليتامى والمساكين ( عن أبي هريرة أن رجلا شكا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قسوة قلبه ، فقال : ( إن أردت أن يلين قلبك فاطعم المسكين ، وامسح رأس اليتيم وأطعمه ) .
) والجار ذي القربى ( : قرأ العامة بالخفض عطفاً على الكلام الأول ، وقرأ ابن أبي عبلة : ) والجار ( وما يليه نصباً . و ) الجار ذي القربى ( ذو القرابة ) والجار الجُنب ( البعيد الذي بينك وبينه قرابة ، وقال الضحاك : هو الغريب من قوم آخرين ، وقرأ الأعمش والفضل : ( والجار الجنب ) بفتح الجيم وسكون النون ، وهما لغتان : رجل جَنْب وجُنُب وجانب وأجنب وأجنبيّ ، إذا لم يكن قريباً ، وجمعها أجانب ، وقال الاّعشى :
أتيت حريثاً زائراً عن جنابة
فكان حريث في عطائي جامدا
أي عن غربة من غير قربة ، ومنه يقال : اجتنب فلان فلاناً ، إذا بعد منه ، ومنه قيل للمجنب : جنب لاعتزاله الصّلاة ، وبُعده من المسجد حتى يغتسل ، وقال نوف البكالي : الجار الجُنب هو الكافر ، ) والصاحب بالجنب ( يعني الرفيق في السفر ، قال ابن عباس ومجاهد وأبو جعفر وعكرمة وقتادة ، عن سعيد بن معروف بن رافع ، عن أبيه ، عن جدِّه قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( التمسوا الجار قبل الدار ، والرفيق قبل الطريق ) .
وقال بعضهم : الجار الجُنب هو الجار اللاصق داره بدارك ، فهو إلى جنبك ، وقال علي وعبد الله وابن أبي ليلى والنخعي : هو المرأة تكون معه إلى جنبه . ابن زيد وابن جريح : هو
(3/304)

" صفحة رقم 305 "
الذي يلزمك ويصحبك رجاء برّك ورفدك . وقال ابن عباس : إنّي لاستحي أن يطأ الرجل بساطي ثلاث مرات لا يُرى عليه أثر من برّي . وقال المهلّب : إذا غدا عليكم الرجل وراح ، فكفى به مسألة وتذكرة بنفسه . وقد قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ خير الأصحاب عند الله عز وجلّ خيرهم لصاحبه ، خير الجيران عند الله خيرهم لجاره ) .
عثمان بن عطا ، عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ليس بمؤمن من لا يؤمن جاره بوائقه ، فأيّما رجل أغلق أبوابه دون جاره ، فخافه على أهله وماله فليس ذلك بمؤمن ) . قالوا : يا رسول الله ، وما حق الجار ؟ قال : ( إن دعاك أجبته ، وإن أصابته فاقة عُدت عليه ، وإن استقرضك أقرضته ، وإن أصابه خير هنأته ، وإن مرض عُدته ، وإن أصابه مصيبة عزّيته ، وإن توفي شهدت جنازته ، ولا تستعلُ عليه بالبنيان لتحجب عنه الريح إلاّ بإذنه ، ولا تؤذه بقتار قِدرك إلاّ أن يُغرف له منها ، وإن ابتعت فاكهة فأهدِ له منها ، وإن لم تفعل فأدخلها سرّاً ، ولا يخرج ولدك منها فيغيظ ولده ) .
ثم قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( الجيران ثلاثة : فمنهم من له ثلاثة حقوق ، ومنهم من له حقّان ، ومنهم من له حق واحد ؛ فأما صاحب الثلاثة الحقوق : فالمسلم الجار ذو الرحم ، له حق الإسلام وحق الجوار وحق الرحم ، وأمّا صاحب الحقّين : فالمسلم الجار له حق الإسلام وحق الجار ، وأمّا صاحب الحق الواحد ، فالمشرك الجار ، له حق الجوار ، وإن كان مشركاً ) .
أبو هشام القطان ، عن أنس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من آذى جاره فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن حارب جاره فقد حاربني ، ومن حاربني فقد حارب الله عزّ وجلّ ) .
) وابن السبيل وما ملكت أيمانكم ( يعني المماليك ، عن أبي أُمامة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دفع إلى أبي ذّر غلاماً ، فقال : ( يا أبا ذّر أطعمه مما تأكل واكسُه مما تلبس ) ، قال : لم يكن له سوى ثوب واحد فجعله نصفين ، فراحَ إلى نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( ما شأن ثوبك هذا ؟ ) ، فقال : إن الفتى الذي دفعته إليّ أمرتني أن أُطعمه مما آكل واكسوه مما ألبس ، وإنه لم يكن معي إلاّ هذا الثوب فناصفته ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أُشير عليك بأن تعتقه ) ، ثم قال رسول الله : ( ما فعل فتاك ؟ ) قال : ليس لي فتًى فقد أعتقته ، قال : ( آجرك الله يا أبا ذّر )
(3/305)

" صفحة رقم 306 "
الأعمش عن عتيق عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الغنم بركة ، والإبل عزّ لأهلها ، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، والعبد أخوك فإن عجز فأعنه ) .
وعن عليِّ ( رضي الله عنه ) قال : ( كان آخر كلام رسول إلاه ( صلى الله عليه وسلم ) الصلاة واتقوا الله فيما ملكت أيمانكم ) .
) إنّ الله لا يحبُّ من كان مختالا فخوراً (
.
) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِم عَلِيماً إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَاؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الاَْرْضُ وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً ( 2
النساء : ( 37 ) الذين يبخلون ويأمرون . . . . .
) الذين ( في محل النصب ردّاً على ) من ( وقيل : ( المختال الفخور ) ، ) يبخلون ( البخل في كلام العرب : منع الرجل سائله ما لديه من فضل عنه ، وفي الشرع : منع الواجب ، وفيه أربع لغات : البخل بفتح الباء والخاء وهي قراءة أنس بن مالك وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وحمزة والكسائي وخلف والمفضل ولغة الأنصار . والبَخْل بفتح الباء وسكون الخاء وهي قراءة قتادة وعبد الله بن سراقة ، وأيّوب السجستاني ، والبُخُل بضم الباء والخاء وهي قراءة عيسى بن عمرو . والبُخْل بضم الباء وجزم الخاء وهي قراءة الباقين ، واختيار أبي عبيد وأبي مسلم لأنها اللغة العالية ، وفي الحديد مثله . وكلُّها لغات ، ونظيره في الكلام : ( أرض جَرز ، وجُرُز ، وجُرْز ) .
واختلف العلماء في نزول الآية ومعناها ، فقال أكثرهم : نزلت في اليهود ؛ كتموا صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولم يبيّنوها للنّاس ، وهم يجدونها مكتوبة عندهم في التوراة . يمان عن أشعث عن جعفر عن سعيد بن جبير : ) الذين يبخلون ويأمرون النّاس بالبخل ( ، قال هذا في العلم ليس للدنيا منه شيء .
قال ابن عباس وابن زيد : نزلت في كردم بن زيد وأُسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع ويحيى بن يعمر وحيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت ، كانوا يأتون رجالا من الأنصار
(3/306)

" صفحة رقم 307 "
ويخالطونهم وينصحونهم ، فيقولون لهم لا تنفقوا أموالكم ؛ فإنّا نخشى عليكم الفقر ، ولا ندري ما يكون ، فأنزل الله عزّ وجلّ ) الذين يبخلون ( إلى قوله : ) من فضله ( يعني المال .
وقال يمان : يعني يبخلون بالصدقة . الفضل بن فضالة ، عن أبي رجاء قال : خرج علينا عمران بن حصين في مطرف من خزّ لم نره عليه قبل ولا بعد ، فقال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ الله عزّ وجلّ إذا أنعم على عبد نعمة ، أحبَّ أن يُرى أثر نعمته عليه ) .
) وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً }
النساء : ( 38 ) والذين ينفقون أموالهم . . . . .
) والذين ينفقون ( إلى الأخير ، محل الذين نصب عطفاً على قوله : ) الذين يبخلون ( ، وإن شئت جعلته في موضع الخفض عطفاً على قوله : ) وأعتدنا للكافرين ( نزلت في اليهود ، وقال السدي : في المنافقين ، وقيل : في مشركي مكة المتفقين على عداوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
) ومن يكن الشيطان له قريناً ( صاحباً وخليلا ، وهو فعيل من الاقتران ، قال عدي بن زيد :
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن يقتدي
) فساء قريناً ( فبئس الشيطان قريناً ، وقد نصب على التمييز ، وقيل : على الحال ، وقيل : على القطع بإلقاء الألف واللام منه ، كما نقول : نعم رجلا ، عبد الله ، تقديره : نعم الرجل عبد الله ، فلمّا حذف الألف واللام نصب ، كقوله ) بئس للظالمين بدلا ( ، ) وساء مثلا ( ، و ) ساءت مرتفقاً ( ، ) وساءت مستقرّاً ( ، ) وحسن أُولئك رفيقاً ( ، و ) كبر مقتاً ( ، قال المفسرون : ) فساء قريناً ( أي يقول : ) ياليت بيني وبينك بُعد المشرقين فبئس القرين ( .
النساء : ( 39 - 40 ) وماذا عليهم لو . . . . .
) وماذا عليهم ( وما الذي عليهم ) لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا ممّا رزقهم الله وكان الله بهم عليماً إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة ( إلى آخر الآية ، وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر ، وأنفقوا مما رزقهم الله ؟ فإنّ الله لا يظلم أي لا يبخس ولا ينقص أحداً من خلقه من ثواب عمله شيئاً مثقال ذرّة مثلا ، بل يجازيه بها ويثيبه عليها وهذا مثل يقول : إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة ، فكيف بأكثر منها ؟ والمراد من الكلام : لا يظلم قليلا ، لأن الظلم مثقال ذرّة لا ينتفع به الظالم ، ولا يبين ضرره في المظلوم . وقيل : ( . . . ) ، ودليله من التأويل قوله تعالى : ) إنّ الله لا يظلم الناس شيئاً ( في الدنيا .
(3/307)

" صفحة رقم 308 "
واختلفوا في الذرّة ، فقال ابن عباس : هي النملة الحميراء الصغيرة ، لا تكاد تبين في رأي العين . وقال يزيد بن هارون : وزعموا أنّ الذرة ليس لها وزن ، ويحكى أنّ رجلا وضع خبزاً حتى علاه الذرّة يستره ، فلم يزد على وزن الخبز شيئاً . ودليل هذا التأويل ما روى بشير بن عمرو عن عبد الله أنّه قرأ : ( إنّ الله لا يظلم مثقال نملة ) .
يزيد بن الأصم عن ابن عباس في قوله عزّ وجلّ : ) مثقال ذرّة ( ، قال : أدخل ابن عباس يده في إناء ثم رفعها ، ثم نفخ فيها ، ثم قال : كلُّ واحدة من هؤلاء ذرّة ، وقال بعضهم : أجزاء الهباء في الكوّة كلّ جزء منها ذرّة . وقيل : هي الخردلة .
وفي الجملة هي عبارة عن أقلّ الأشياء وأصغرها ، روى أنس أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إنّ الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة ، وأمّا الكافر ، فيطعم بها في الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة ، لم يكن له حسنة ) .
قتادة : كان بعض أهل العلم يقول : لئن يفضل حسناتي على سيئاتي وزن ذرّة أحبُّ إليّ من أن يكون لي الدنيا جميعاً .
عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا خلص المؤمنون من النار يوم القيامة ، وأمنوا فما مجادلة أحدكم صاحبه في الحق يكون له في الدنيا بأشدّ من مجادلة المؤمنين لربّهم في إخوانهم الذين أُدخلوا النار ) ، قال : ( يقولون : ربّنا إخواننا كانوا يُصلّون معنا ، ويصومون معنا ، ويحجّون معنا ، فأدخلتهم النار ؟ فيقول الله عزّ وجلّ : اذهبوا وأخرجوا من عرفتم ، فيأتونهم فيعرفونهم بصورهم ، لا تأكل النار صورهم ، فمنهم من أخذته النار إلى أنصاف ساقيه ، ومنهم من أخذته إلى كعبه ، فيخرجونهم فيقولون : ربّنا أخرجْنا من أَمرتَنا ، ثم يقول تعالى : أخرجوا من كان في قلبه وزن دينار من الإيمان ، ثم من كان في قلبه وزن نصف دينار ، حتى يقول : من كان في قلبه مثقال ذرّة ) .
وقال أبو سعيد : فمن لم لم يصدق بهذا فليقرأ هذه الآية ) إنّ الله لا يظلم . . . ( .
قال : ( فيقولون : ربّنا قد أخرجنا من أمرتنا ، فلم يبقَ في النار أحد فيه خير ) . قال : ( ثم يقول الله عزّ وجلّ : شُفعت الملائكة ، وشُفعت الأنبياء ، وشُفعت المؤمنون ، وبقي أرحم الراحمين ) ، قال : ( فيقبض قبضة من النار أو قال : ( قبضتين ) ممن لم يعملوا له عزّ وجلّ خيراً قط ، قد احترقوا حتى صاروا حمماً ، قال : فيؤتى بهم إلى ماء يقال له ماء الحياة فيصبّ عليهم
(3/308)

" صفحة رقم 309 "
فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ، فيخرجون وأجسادهم مثل اللؤلؤ في أعناقهم الخاتم : ( عتقاء الله عزّ وجلّ ) ، فيقال لهم : ادخلوا الجنة فما تمنيتم أو رأيتم من شيء فهو لكم عندي أفضل من هذا ) .
قال : ( فيقولون : ربّنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين ) . قال : ( فيقول : ان لكم عندي أفضل من هذا ، فيقولون : ربّنا وما أفضل من ذلك ؟ ) قال : ( فيقول : رضائي عنكم فلا أسخط عليكم أبداً ) .
وقال آخرون : هذا في الخبر عن ابن ( . . . ) عن عبد الله بن مسعود قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأوّلين والآخرين ، ثم نادى مناد من عند الله : ألا من كان يطلب مظلمة إلى أخيه فليأخذ . قال : فيفرح والله المرء أن يكون له الحق على والده وولده أو زوجته أو أخيه ، فيأخذ منه ، وإن كان صغيراً ، ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى : ) فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم ولا يتساءلون ( ، فيؤتى بالعبد وينادي مناد على رؤوس الأشهاد : الأولين والآخرين ، هذا فلان بن فلان من كان له عليه حق ، فليأتِ إلى جنبه ثمّ يقال له : آتِ هؤلاء حقوقهم . فيقول : من أين وقد ذهبت الدنيا ؟ فيقول الله تعالى لملائكته : انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها ، فإن بقي مثقال ذرّة من حسنة ، قالت الملائكة : ربّنا أنت أعلم بذلك منهم ، أعطينا كلّ ذي حق حقه وبقي له مثقال ذرّة من حسنة ، فيقول للملائكة : ضاعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل منّي الجنّة ، ومصداق ذلك في كتاب الله ) إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤتِ من لدنه أجراً عظيماً ( .
وإن كان العبد شقيًّا ، فتقول الملائكة : إلهنا فنيت حسناته وبقيت سيئاته ، وبقي طالبون كثير ، فيقول عزّ وجلّ : خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم صكّوا له صكاً إلى النار .
فمعنى الآية على هذا التأويل : لا يظلم ، مثقال ذرّة للخصم على الخصم ، بل يثيبه عليها ويضاعفها له ، وذلك قوله ) وإن تك حسنة يضاعفها ( قراءة العامة ) حسنة ( بالنصب على معنى : وان يكن زنةُ الذرّة . وقرأها أهل الحجاز رفعاً ، بمعنى أن يقع أو يوجد حسنة ، وقال المبرّد : معناه وإن تك حسنة باقية يضاعفها .
وقرأ الحسن : ( نضاعفها ) بالنون الباقون : بالياء ، وهو الصحيح ؛ لقوله : ) ويؤت من لدُنه ( وقرأ أبو رجاء وأهل المدينة يُضعّفها . الباقون : يُضْعِفها وهما لغتان معناهما التكثير . وقال
(3/309)

" صفحة رقم 310 "
أبو عبيده : يضاعفها معناه يجعلها أضعافاً كثيرة ، ويضعّفها بالتشديد يجعلها ضعفين .
) ويؤت من لدنه ( أي من عنده ، قال الكسائي : في ( لدن ) أربع لغات لدن ، ولدى ولدُ ولدُنْ . ولمّا أضافوها إلى انفسهم شدّدوا النون .
) أجراً عظيماً ( وهو الجنّة . عن أبي عثمان قال : بلغني عن أبي هريرة أنه قال : إنّ الله عزّ وجلّ يعطي عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة ، قال أبو هريرة : لا بل سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إن الله يعطيه ألفي ألف حسنة ) ، ثم تلا : ) إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة ( ، إلى ) أجراً عظيماً ( ( 320 ) .
وقال : ( إذا قال الله : أجراً عظيماً ، فمن بعد يدري قدره ؟ ) .
النساء : ( 41 ) فكيف إذا جئنا . . . . .
) فكيف إذا جئنا من كلِّ أُمّة بشهيد ( يعني فكيف يصنعون إذا جئنا من كلِّ أُمّة بشهيد حق منها ، يشهد عليهم بما عملوا ، ) وجئنا بك ( يا محمد ) على هؤلاء شهيداً ( ؟ نظيره في البقرة والنحل والحج .
عاصم عن زر عن عبد الله قال : قال لي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( اقرأ ) . فقرأت سورة النساء ، حتى إذا بلغت ، ) فكيف إذا جئنا من كلِّ أُمّة بشهيد ( دمعت عينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقال : ( حسبنا ) .
النساء : ( 42 ) يومئذ يود الذين . . . . .
) يومئذ يودّ الذين كفروا وعصوا الرسول لو تُسوّى بهمُ الأرض ( قرأ أهل المدينة والشام بفتح التاء وتشديد السين ، على معنى : تتسوّى فأُدغمت التاء بالسين ، وقرأ أهل الكوفة إلاّ عاصماً بفتح التاء وتخفيف السين ، على حذف تاء تفعل ، كقوله : ) لا تكلّم نفس إلاّ بإذنه ( ، وقرأ الباقون بضم التاء وتخفيف السين على المجهول ، قالوا : سُوّيت بهم الأرض وصاروا هم والأرض شيئاً واحداً ، وقال قتادة وعبيدة : يعني لو تحركت الأرض فساروا فيها ، وعادوا إليها كما خرجوا منها ، ثم تسوى عليهم حتى تعلوهم ، ابن كيسان : ودوّا أنهم لم يبعثوا طرّاً ، وإنما نقلوا من التراب وكانت الأرض مستوية بهم . 6 الكلبي : يقول الله عزّ وجلّ للبهائم والوحش والطير والسباع : كنّ تراباً فتسوّى بها الأرض ، فعند ذلك يتمنى الكافرون لو كانوا تراباً يمشي
(3/310)

" صفحة رقم 311 "
عليهم أهل الجمع ، بيانه قوله عزّ وجلّ : ) ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً ) .
قال الثعلبي : وحكي أُستاذنا أبو القاسم الحسين أنّه سمع من تأول هذه الآية : يعدل بهم ما على الأرض من شيء فدية ، بيانه : يودّ المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه ( الآية .
) ولا يكتمون الله حديثاً ( ؟ : قال عطاء : ودّوا لو تسوّى بهم الأرض ، وإنّهم لم يكونوا كتموا أمر محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ولا نعته ، وقال آخرون : بل هو كلام مستأنف ، يعني ويكتمون الله حديثاً ؛ لأنّ ما عملوا لا يخفى على الله عزّ وجلّ ، ولا يقدرون على كتمانه ، الكلبي وجماعة : لا يكتمون الله حديثاً لأنّ خزنة جهنم تشهد عليهم .
سعيد بن جبير : جاء رجل إلى ابن عباس ، فقال : أشياء تختلف عليّ في القرآن ، أهو شك فيه ؟ قال : لا ، ولكن اختلاف في آيات الاختلاف عليك من ذلك ، فقال : اسمع ، الله عزّ وجلّ يقول : ) ثم لم تكن فتنتهم إلاّ أن قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين ( ، وقال : ) لا يكتمون الله حديثاً ( فقد كتموا ، فقال ابن عباس : أمّا قولهم ) والله ربّنا ما كنّا مشركين ( فإنهم لما رأوا يومَ القيامة أنّ الله يغفر لأهل الإسلام قالوا : تعالوا فلنشهد فجحد المشركون ، فقالوا : ) والله ربّنا ما كنّا مشركين ( رجاء أن يغفر لهم فيختم على أفواههم ، وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، فعند ذلك ) يودّ الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثاً ( . الحسن : إنّها مواطن ، ففي موطن لا يتكلمون ولا يسمع الاّ همساً ، وفي مواطن يتكلمون ويكذبون ، ويقولون : ) ما كنا مشركين ( وما كنّا نعمل من سوء ، وفي موطن يعترفون على أنفسهم ، وهو قوله عزّ وجلّ ) فاعترفوا بذنبهم ( ، وفي موضع آخر يسألون الرحمة ، وإنّ آخر تلك المواطن أنّ أفواههم تختم ، وجوارحهم تتكلم ، وهو قوله تعالى ) ولا يكتمون الله حديثاً ( .
2 ( ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلَواةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِى الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرا
(3/311)

" صفحة رقم 312 "
لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّى مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَاؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلاً أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً ( 2
النساء : ( 43 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ( نزلت في ناس من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) انوا يشربون الخمرة ، ويشهدون الصلاة وهم نشاوى ، فلا يدرون كم يُصلّون ، ولا يدرون ما يقولون في صلواتهم ، فأنزل الله عزّ وجلّ ) يا أيّها الذين آمنوا لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى ( نشاوى من الخمر ، جمع سكران ، وقرأ النخعي : ( جُنباً ) وهما لغتان .
) حتى تعلموا ما تقولون ( وتقرؤون في صلاتكم ، وكانوا بعد نزول هذه الآية يجتنبون السكر أوقات الصّلاة ، حتى نزل تحريم الخمر في سورة المائدة . سلمة بن نبيط عن الضحاك بن مزاحم : ) لا تقربوا الصّلاة وأنتم سكارى ( ، قال : لم يعنِ سكر الخمر ، إنّما يعني سكر النوم .
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا نعس أحدكم وهو في الصّلاة ، فليرقد حتى يذهب عنه النوم ، فإنّه إذا صلّى وهو ينعس ، لعلّه يذهب فيستغفر فيسبّ نفسه ) .
هشام بن عروة أيضاً عن أبيه عن عائشة ، قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا نعس الرجل وهو يصلّي ، فلينصرف فلعلّه يدعو على نفسه وهو لا يدري ) .
همام بن منبه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه ، فلم يدرِ ما يقول ، فليضطجع ) .
وروي عن عبيدة السلماني في هذه الآية أنّه قال : هو الحاقن ، دليله قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يصلينَّ أحدكم وهو يدافع الأخبثين )
(3/312)

" صفحة رقم 313 "
) ولا جُنباً ( نصب على الحال ، يعني ولا تقربوا الصلاة وأنتم جُنب ، وقرأ إبراهيم النخعي : ( جُنْباً ) بسكون النون ، يقال : رجل جنب ، ورجلان وامرأتان جُنب ، ورجال ونساء جُنب ، والفعل منه أجنب يجنب ، وأصل الجنابة البُعد ، فقيل له : جنب لأنّه يجتنب حتى يتطهر ، ثم استثنى فقال : ) إلاّ عابري سبيل ( واختلفوا في معناها ، فقال : بعضهم : الاّ إن يكونوا مسافرين ولا يجدون الماء فيتيمّموا ، وهذا قول عليّ وابن عباس وابن جبير وابن زيد ومجاهد والحكم والحسن بن مسلم وابن كثير .
وقال الآخرون : معناه إلاّ مجتازين فيه للخروج منه مثل أن ينام في المسجد ، فيجنب ، أو يكون الماء فيه ، أو يكون طريقه عليه ، فرخص له أن يمرّ عليه ولا يُقيم ، وعلى هذا القول تكون الصلاة بمعنى المصلّى والمسجد كقوله ) صلوات ( اي موضع الصلوات ، وهذا قول عبد الله وابن المسيّب وابن يسار والضحاك والحسن وعكرمة وإبراهيم وعطاء الخراساني والنخعي والزيدي ، يدلّ عليه ماروى الليث عن يزيد بن أبي حبيب أنّ رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد ، فيصيبهم الجنابة ، ولا ماء عندهم فيريدون الماء ولا يجدون ممرّاً للماء إلاّ في المسجد ، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية .
وأصل العبور : القطع يقال : عبر الطريق والنهر إذا قطعهما وجال فيهما .
) وإنْ كنتم مرضى ( جمع مريض . إسماعيل عن أبيه عن الحسين عن أم سلمة قالت : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ألا إنّ مسجدي حرام على كلِّ حائض من النساء ، وعلى كلِّ جُنب من الرجال إلاّ على محمد وأهل بيته علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ) .
وأراد به مرضاً يضرّه مساس الماء كالجدري والجروح والقروح ، أو كسر قد وضع عليه الجبائر ، فإنّه رخّص له في التيمّم ، هذا قول جماعة من الفقهاء ، إلاّ ما ذهب ( إليه ) عطاء والحسن أنه لا يتيمّم مع وجود الماء ، واحتّجا بقوله تعالى ) فلم تجدوا ماء فتيمّموا ( ، وهذا واجد الماء .
وهذا غلط ، لما روى عطاء عن جابر قال : خرجنا في سفر وأصاب رجلا معنا حجر فشجّه في رأسه ، ثم احتلم ، فسأل أصحابه فقال : هل تجدون لي رخصة ؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء ، فاغتسلَ ، فمات ، فلمّا قدمنا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أُخبر بذلك ، فقال
(3/313)

" صفحة رقم 314 "
( قتلوه قتلهم الله ، هلاّ سألوا إذا لم يعلموا ، فإنّما شفاء العىّ السّؤال ، إنّما كان يكفيه أن يتيمّم ويعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ، ويغسل سائر جسده ) .
) أو على سفر ( طويلا كان أو قصيراً ، فله التيمّم عند عدم الماء ، فإذا لم يكن مرض ولا سفر لكنه عدم الماء في موضع لا يُعدم فيه الماء ( عادة ) ، مثل أن يكون في مصر فانقطع الماء عنه رأساً ، أو في قرية فانقطع ماؤها ، ففيه ثلاث مذاهب : ذهب الشافعي ومحمد بن الحسن إلى أنّ عليه التيمم والصّلاة ويعيد الصّلاة ، وذهب مالك والأوزاعي وأبو يوسف إلى إنّه يتيمّم ويصلّي ولا إعادة عليه ، وذهب أبو حنيفة إلى أنّه لا يتيمّم ولا يصلّي ، ولكنّه يصبر حتى يجد الماء ويتوضأ ويصلّي .
) أو جاء أحدٌ منكم من الغائط ( قرأ الزّهري : ( من الغيط ) ، والغيط والغوط والغائط كلُّها بمعنًى واحد ، وهي الخبت المطمئن من الأرض ، وقال مجاهد : هو الوادي ، الحسن : الغور من الأودية ، وتصوّب . المؤرّخ : قرارة من الأرض يحفها الكرم ويسترها ، وجمعها غيطان ، والفعل منه ( غاط يغوط ) ، مثل ( عاد يعود ) . وتغوّط يتغوّط ، إذا أتى الغائط ، وكانوا يتبرّزون هناك فكنّى عن الحدث بالغائط مثل العذرة والحدث ، وهو هاهنا كناية عن حاجة البطن .
) أو لامستم النّساء ( قرأ حمزة والكسائي وخلف : ( لمستم ) بغير ألف هاهنا ، وفي المائدة وهو اختيار أبي عبيد ، وقرأ الباقون بالألف فيهما وهو اختيار أبي حاتم .
واختلف المفسّرون في معنى اللمس والملامسة ، فقال قوم : المجامعة ، وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة ، وقال سعيد بن جبير : ذكروا اللمس فقال ناس من الموالي : ليس بالجماع ، وقال ناس من العرب : هو الجماع ، فأتيت ابن عباس فذكرت له ، فقال : من أيّ الفريقين كنت ؟ قلت : من الموالي . قال : غُلب فريق الموالي ، إنّ اللمس والمسّ والمباشرةَ الجماعُ ، لكنّ الله يكنّي عمّا يشاء بما يشاء ، وعلى هذا القول إنّما كنّى عن اللمس بالجماع ؛ لأنّ اللمس يوصَل إليه ، كما يقال للسّحاب : سماء ، وللمطر : سماء وللكلأ سماء لأنّ بالسحاب يوصل إلى المطر ، وبالمطر يوصل إلى الكلأ ، قال الشاعر :
إذا سقط السّماء بأرض قوم
رعيناه وإنْ كانوا غضابا
وقال الآخرون : هو التقاء البشرتين سواء كان بجماع أو غير جماع ، وهو قول ابن مسعود
(3/314)

" صفحة رقم 315 "
وابن عمر وأبي عبيدة ومنصور وعبيدة والشعبي والنخعي وحماد والحكم .
واختلف العلماء في حكم الآية على خمسة مذاهب ، فقال الشافعي : إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى شيء من بدن المرأة سواء كان باليد أو بغيرها من أعضاء الجسد تعلّق نقض الطهارة به ، وهو قول ابن مسعود وابن عمر والزهري وربيعة .
وقال الأوزاعي : إن كان للمس باليد نقض الطهر ، وإن كان بغير اليد لم ينقضه ، فأجراه مجرى مسّ الفرج .
وقال مالك والليث بن سعد ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه : إذا كان اللمسّ للشهوة نقض ، وإنْ كان لغير شهوة لم ينقض ، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : إنْ كانت ملامسة فاحشة نقضت وإلاّ لم تنقض ، والملامسة الفاحشة : ما تحدث الإفساد .
وذهبت طائفة إلى إنّ الملامسة لا تنقض الطهارة بحال ، وبه قال من الصحابة ابن عباس ، ومن التابعين الحسن البصري ، وإليه ذهب محمد بن الحسين .
وعن الثوري روايتان : إحداهمها هذا ، والثانية مثل ( قول مالك بدليل الشافعي من الآية ) أنّ الملامسة باليد ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه نهى عن بيع الملامسة ، واللمس أكثر ما يستعمل في لمس اليد ، وأنشد الشافعي :
لمست بكفي كفّه طلب الغنى
ولم أدر أن الجود من كفّه يُعدي
فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى
أفدت وأعداني فأنفقت ما عندي
روى الزهري عن سالم عن أبيه قال : جسها بيده من الملامسة ، ويدل عليه ما روى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ أنّ رجلا سأل النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) عن الرجل ينال من امرأة لا تحل له ما يناله من امرأته إلاّ الجماع ، فقال : ( يتوضّأ وضوءاً حسناً ) ، فثبت أنّ اللمسّ ينقض الوضوء .
احتج من لم يوجب الوضوء بالملامسة نفسها ، بما روى مالك عن أبي النضر عن أبي
(3/315)

" صفحة رقم 316 "
سلمة عن عائشة قالت : كنت أنام بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ورجلاي في قبلته ، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلىّ ، فإذا قام بسطتها والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح .
وروى عبد الرحمن بن القاسم عن القاسم عن عائشة قالت : إن كان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يصلّي وأنا لمعترضة بين يديه اعتراض الجارية حتى إذا أراد أن يوتر مسّني برجله .
وروي الأعرج عن أبي هريرة عن عائشة قالت : فقدت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ات ليلة ، فجعلت أطلبه بيدي فوقعت يدي على قدميه وهما منصوبتان وهو ساجد يقول : ( أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من غضبك ، وأعوذ بك منك ، لا أحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك ) .
وفي بعض الاخبار : فلما فرغ من صلاته قال لي : ( يا عائشة أتاكِ شيطانكِ ؟ ) ، قالوا : فلمسته عايشة وهو في الصلاة فمضى فيها .
ولأجل هذه الأخبار خصّ من ذكرنا مسّ الشهوة بنقض الوضوء . روى أبو روق عن إبراهيم التيمي عن عائشة أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يُقبّل بعض أزواجه ثم يصلّي ولا يتوضأ .
وأمّا الغسل وكيفية الملامسة على مذهب الشافعي فهو على ثلاثة أوجه : لمس ينقض الوضوء قولا واحداً ، ولمس لا ينقض الوضوء ، ولمس مختلف فيه ، فالذي ينقض الوضوء ملامسة الرجل المرأة الشابة ( . . . . ) متعمداً حية كانت أو ميتة ، والذي لا ينقضه ملامسة الشعر والسنّ والظفر ، والذي اختلف فيه هو أن يلمس فتاة صغيرة ، أو امرأة كبيرة ، أو واحدة من ذوات محارمه ممن لا يحلّ له نكاحها ، ( وفيه ) قولان : أحدهما ينقض الوضوء لأنه لمس متعمد ( . . . . ) ، والثاني لا ينقض لانّه لا تدخل للشهوة فيهن ، يدلّ عليه ما روي عن أبي قتادة السلمي الانصاري أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصلي وهو حامل أُمامة بنت زينب بنت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس ، فإذا سجد وضعها وإذا قام رفعها . وهذا حكم الملامسة إذا لم يكن حائل ، فأمّا إن كانت من دون حائل فإنها تنقض الطهارة سواء كان الحائل صفيقاً أو رقيقاً ، هذا قول الجمهور .
وقال مالك : ينقضها إن كان رقيقاً ولا ينقضها إن كان صفيقاً ، وقال الليث وربيعة : ينقضها
(3/316)

" صفحة رقم 317 "
سواء كان صفيقاً أو رقيقاً ، والدليل على أنّها لا تنقض الوضوء إذا كانت من دون حائل ظاهر الآية ) أو لامستم ( فإذا لمسها مع الحائل فما لمسها وإنّما لمس الحائل ، وعليه إنّه لو حلف ألاّ يلمسها ولمسها من وراء حائل لم يحنث .
فهذا كلّه حكم اللامس ، وأما الملموس فهل ينتقض به طهره أم لا ؟ فعلى قولين للشافعي :
أحدهما : أنّه ينتقض لاشتراكهما في الالتذاذ .
والثاني : لا ينتقض لخبر عائشة : ( فوقعت يدي على أخمص قدمي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) والله أعلم .
قوله تعالى : ) فلم تجدوا ماءً فتيمّموا ( اعلم أنّ التيمّم من خصائص هذه الأُمة لما روى ربّعي بن خمّاش ، عن حذيفة قال قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فُضّلنا على الناس بثلاث : جُعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، جُعلت الأرض لنا مسجداً ، وجُعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء ) .
وأما بدء التيمّم فأخبر مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة ، وهشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : كنّا مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالأبواء ، حتى إذا كنّا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي وكنت استعرتها من أسماء ، فصلّ ، فأخبرت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأمر بالتماسه فالتُمس ، فلم يوجد ، فأناخ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فباتوا ليلتهم تلك ، وأقاموا على النجاسة وليسوا على ماء وليس عندهم ماء ، فأتى الناس أبا بكر ، فقالوا : ألا ترى إلى عائشة حبست رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على غير ماء ؟ فجاء أبو بكر ، ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) واضع رأسه على فخذي قد نام فعاتبني ، وقال : ما شاء الله وقال : قبّحها الله من قلادة حبست الناس على غير ماء وقد حضرت الصلاة ، ثم طعن بيده على خاصرتي فما منعني من التحريك إلاّ أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان واضعاً رأسه على فخذي ، فقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أصبح على غير ماء ، فأنزل الله عزّ وجلّ آية التيمّم .
قالت : فبعثت البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته ، فقال أُسيد بن حضير : ما هي بأوّل بركتكم يا آل أبي بكر جزاكم الله خيراً ، فوالله ما نزل بكِ أمر قط تكرهينه إلاّ جُعل لكِ وللمسلمين فيه خيرٌ .
فأباح الله تعالى التيمّم لخمس شرائط :
أحدها : دخول وقت الصلاة ، فلا يجوز التيمّم إلاّ بعد دخول وقت الصّلاة ، وقد يجمع
(3/317)

" صفحة رقم 318 "
بالتيمم بين صلاتي فرض ، هذا قول عليّ وابن عباس وابن حمزة ومذهب مالك والشافعي والليث بن سعد وأحمد بن حنبل ، قالوا : لأنها طهارة ضرورة ، فقسناها على المستحاضة ، ولأنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( فأينما أدركتكم الصّلاة فتيمّموا وصلّوا ) .
وروى أبو إسحاق عن الحريث عن عليَ رضى الله عنه قال : ( تيمّموا لكلِّ صلاة ) .
وروي ابن المهدي عن عاصم الأحول عن عمرو بن قيس قال : بل تتيمم لكلِّ صلاة وإن لم تحدث .
وذهبت طائفة إلى أنّ التيمم كالطهارة بالماء يجوز تقديمه على وقت الصلاة ويصلّي من الحدث الأكبر إلى الحدث لمساً من الفرايض والنوافل ، وهو قول سعيد بن المسيّب والحسن والثوري وأبي عبيدة واحتجوا بقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( الصّعيد الطيّب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج ) .
والشرط الثاني من الشرايط المبيحة للتيمم : طلب الماء ، وكيفيّة الطلب أن يطلبه في رحله فإنْ لم يجد طلب من أصحابه ، فإنْ لم يجد عندهم طلبَ يميناً وشمالا ووراء وأمام ، فإن كان هناك تلّ صعد ونظر ، فإنْ رأى إنساناً قادماً فليتعرّف منه ، فإنْ تيمم قبل الطلب لم يصح عند أكثر الفقهاء .
وقال أبو حنيفة : طلب الماء ليس بشرط في جواز التيمم بل مستحب ، فان تيمم قبله أجزأه ، لأنه لو كان شرطاً فيه لكان شرطاً في النافلة لعدم الماء ، ولما كان التيمم للنافلة دون طلب الماء جاز أيضاً للفريضة دونه ، دليلها قوله تعالى : ) فلم تجدوا ماءاً فتيمموا صعيداً طيباً ( ، ولا يقال : لم يجز إلاّ لمن طلب الماء ، والدليل عليه أنّه لو وكّل وكيلا ليشتري له شيتاً فان لم يجد فخيّره فاشترى الشيء الثاني قبل طلبه الأول ضمن .
والشرط الثالث : إعوازه بعد طلبه ، فأمّا إذا كان بينه وبين الماء حائل من لص أو عدو أو سبع أو جمل صائل أو نار ونحوها فهو عادم للماء ، وكذلك إن كان عليه ضرر في إتيانه مثل أن يخاف على رحله إن غاب عنه ، وكذلك إن كان الماء في بئر ولم يمكنه الوصول إليه .
والشرط الرابع : العذر من مرض أو سفر لقوله : ) وإن كنتم مرضى أو على سفر ( .
والمرض على ثلاثة أضرب : مرض لا يضرّ استعمال الماء معه ، فلا يجوز التيمم معه ،
(3/318)

" صفحة رقم 319 "
وضرب يخاف معه من استعمال الماء التلف فيجوز معه التيمم ، وكذلك إن كان على قرحه دم يخاف إن غسله التلف تيمّمَ ، وأعاد إذا قدر على غسل الدم ، وضرب يخاف باستعماله الماء الزيادة في العلّة بطء البرء ، والمتعيّن فيه أوجه :
الأول : أنه يجوز التيمم ، وهو مذهب أبي حنيفة .
والثاني : أنه لا يجوز فإنْ كانت الجراحة في بعض جسده دون بعض ، غسل ما لا ضرر عليه وتيمّم ، ولا يجزيه أحدهما دون الآخر ، وقال أبو حنيفة : إذا كان أكثر بدنه لزمه الوضوء واستعمال الماء ، ولم يُجزِهِ معه التيمم ولا دونه ، وإن كان أكثر بدنه جريحاً يسقط عنه فرض الوضوء والغسل ويجزيه التيمم في الجميع .
قال : ( ولا يجوز الجمع بين استعمال الماء في بعض الأعضاء والتيمم في بعضها ) ، وكذلك لو وجد الجُنب أو المحدث من الماء ما لا يسع المحدث لوضوئه ، ولا الجُنب لأغساله ، وللشافعي فيه قولان :
أحدهما : أنه يسقط فرض استعماله الماء ويكفيه التيمم ، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك والمزني .
والقول الثاني : يلزمه استعمال القدر الذي وجده ، والتيمم كما حُدّثته ، وإن كان جُنباً غسل به أي أعضائه شاء ثم تيمّم على الوجه واليدين ، وإن كان محدثاً غسل وجهه ثم يديه على الترتيب ثم تيمّم لما لم يغسل من أعضاء الوضوء ، حتى لو غسل جميع أعضاء وضوئه وبقيت لمعة من رجله لم يصبها ماء فإنه يتيمّم لها .
وإن انكسر بعض أعضائه فجبرها ، فإنه لا يعدو في الجبائر موضع الكسر ، ولا يضعها إلاّ على وضوء كالخفين ، فان وضعها على الطهارة فله أن يمسح على الجبيرة ما دام العذر باقياً ثم هل يلزمه إعادة الصلوات التي صلاّها بالمسح على الجبائر أم لا ؟ فيه قولان :
أحدهما : عليه الإعادة .
والثاني : لا إعادة عليه ، وهو اختيار المزني ، والدليل عليه ما روى زيد بن علي عن أبيه عن جده أن حزماً انكسر إحدى زنديه فأمره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يمسح على الجبائر ، قال الشافعي : إن صح حديث عليّ قلت به ، وهذا مما استخير الله فيه . وإن وضعها على غير الطهارة وعدا بها إلى غير موضع الكسر ينظر ؛ فإن لم يخشَ تلف يديه أو عضو من أعضائه نزعها ، وإن خاف على ذلك لم ينزعها ، ولكنه يغسل ما يقدر عليه ، ويعيد الصلاة إذا قدر على نزعها .
وأمّا السفر فهو أقل ما يقع عليه اسم سفر ، طالت أو قصرت ؛ لأنّ الله تعالى لم يفرّق
(3/319)

" صفحة رقم 320 "
بينهما ، دليله ما أخبر الشافعي عن ابن عيينة عن ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر : إنّه أقبل من الجُرف حتى إذا كان بالمدينة تيمّم فمسح وجهه ويديه وصلّى العصر ، ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة ، فلم يُعد الصلاة ، والجرف قريب من المدينة .
والشرط الخامس : النية المكنونة .
وقوله تعالى : ) فتيمّموا صعيداً طيّباً ( عنى : اقصدوا تراباً طيباً ، واختلف العلماء في الممسوح به في التيمم على أربعة مذاهب :
قال أبو حنيفة : يجوز التيمم بالأرض ومما كان من جنسها ، وإن لم يعلق بيده منها شيء ، فأجاز بالكحل والزرنيخ والنورة من الجصّ والحجر المسحوق ، بل وحتّى الغبار ، وحتى فيما لو ضرب يده على صخرة ملساء فمسح أجزاه ، فأمّا إن تيمّم بسحالة الذهب والفضة والصفر والرصاص والنحاس لم يجزه ، لإنّه ليس من جنس الأرض .
قال مالك : يجوز بالأرض وبكلِّ ما اتّصل فيها ، فأجاز التيمم بأجناس الأرض والشجر ، فقال : لو ضرب يده على غيره ثم مسح بها أجزأه .
وقال الأوزاعي والثوري : يجوز بالأرض وبكلِّ ما عليها من الشجر والحجر والمدر وغيرها حتى قالا : لو ضرب يديه على الجمد والثلج أجزاه ، واحتجوا بما روى عبد الرحمن بن هرمز عن عمير مولى ابن عباس أنه سمعه يقول : أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة ، حتى دخلنا على أبي جهيم الحارث بن الصمة الأنصاري ، فقال أبو جهيم : أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من نحو بئر الجمل فلقيه رجل فسلّم عليه فلم يرد على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) حتى أقبل على الجدار فمسح بوجهه ويديه ثم ردّ عليه .
وذهب الشافعي إلى أن الممسوح به تراب طاهر ذو غبار تعلّق باليد وهو الاختيار لهذا ؛ لأن الله عزّ وجلّ قال : ) وتيمّموا صعيداً طيّباً ( فالصعيد اسم التراب ، والطيب اسم لما ينبت ، فأمّا ما لا ينبت من الأرض فليس بطيّب ، والدليل عليه قوله تعالى : ) والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربّه ( ، ولقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( جُعلتْ لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً ) ، فخصّ التراب ذلك ، والله أعلم .
) فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إنّ الله كان عفوّاً غفوراً ( وقد مضى الكلام في الممسوح به ، فأما قدر الممسوح وكيفية التيمم ، فاختلف الناس فيه على خمسة مذاهب :
فقال الزهري : تمسح على الوجه واليدين إلى الآباط والمناكب ، واحتجّ بما روى عبد الله ابن عتبة عن ابن عباس عن عمار بن ياسر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنّه كان في سفر ومعه عائشة فضلّ عقدها ، فاحتبسوا في طلبه يوماً ، قال : فنزلت آية التيمم ، فضربوا بأيديهم إلى الأرض ، ثم رفعوا
(3/320)

" صفحة رقم 321 "
أيديهم ، ولم يقبضوا من التراب شيئاً ، فمسحوا وجوههم وأيديهم إلى المناكب ، ثم بطون أيديهم إلى الآباط .
وقال ابن سيرين : ثلاث ضربات : ضربة للوجه ، وضربة لليدين ، وضربة للمرفقين ، وبه قال من الصحابة عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله ، ومن التابعين الحسن البصري والشعبي ، ومن الفقهاء أبو حنيفة وحنبل ومالك والليث ، رضي الله عنهم ، واحتجوا بما روى الأعرج عن أبي الصمّة أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تيمّم فمسح وجهه وذراعيه .
وروى أبو أُمامة وابن عمر أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( التيمّم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين ) .
وروى ربيع بن سبرة عن أبيه عن جده عن أسلع قال : قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ارجل بنا يا أسلع ) . فقلت : أنا جُنب . فسكت ، إلى مكة فنزلت آية التيمّم ، فقال : ( يكفيك هذا ) . فضرب بكفّيه الأرض ثم نفضهما ثم مسح ذراعيه ؛ ظاهرهما وباطنهما . وقال عليٌّ كرم الله وجهه : ( هو ضربتان : ضربة للوجه وضربة للكفين ) .
وذهبت طائفة إلى أنه ضربة واحدة للوجه والكفين ، وهو قول سعيد بن المسيّب ، والأوزاعي وأحمد وإسحاق ، واحتجوا بقول الله تعالى : ) وأيديكم ( ، قالوا واليد على الإطلاق يتناول الكفّ إلى الكوع ، بدليل أنّ السارق تقطع يده إلى الكوع ، وقد قال الله تعالى : ) والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ( ، فاحتجوا بما روى سعيد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمار بن ياسر أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال في التيمم : ( ضربة للوجه والكفين ، والتيمّم من الجنابة كالتيمّم من الحدث ) .
فإذا عدم الجنب الماء تيمّم كما يتيمّم المحدث بلا خلاف فيه إلاّ ما روي عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود أنهما قالا : لا يحقّ للجُنب التيمّم ، ولكنه يصبر إلى أن يجد الماء فيغتسل ، وقال مفسرّاً قوله عزّ وجلّ : ) أو لامستم النساء ( أراد اللمس باليد دون الجماع .
وروى الأعمش عن سلمة بن كهيل ، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أزي أنّ رجلا سأل عمر عن جُنب لا يجد الماء ، فقال : لا يصلّي حتى يجد الماء ، فقال عمار بن ياسر : أما تذكر حين بعثنا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أنا وأنت وأجنبت فتمعكت في التراب ، فأتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فذكرت ذلك له ، فقال : ( قد كان يكفيك أن تفعل كذا وكذا ) . وضرب بيده على الأرض فمسح
(3/321)

" صفحة رقم 322 "
وجهه وبدنه ؟ فقال : اتّقِ الله يا عمار ، فقال : إن شئت لم أذكره أبداً .
وروى عمار بن ياسر عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن عبد الرحمن بن أزي ، قال : كنت عند عمر رضي الله عنه ، فسأله إعرابي فقال : إنّا نمكث الشهر والشهرين لا نجد الماء ، فقال : أمّا أنا فلو كنت لم أصلّ ، فقال عمار بن ياسر : أما تذكر يا أمير المؤمنين أني كنت أنا وأنت في الإبل ؟ فقال : بلى . قال : فأنت أجنبت فتمعكت في التراب فأتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فذكرت ذلك له فضحك ، وقال : ( كان يجزيك هكذا ) . وبسط عمّار كفيه ، ووضعهما على الأرض ثم نفض إحداهما بالأُخرى فمسح بهما وجهه ، ووصل الكفين بشيء من الذراعين يسير ، فقال عمر : اتّقِ الله يا عمار . فقال : يا أمير المؤمنين لو شئت لم اتفوّه به أبداً ، قال : لا بل نولّيك ( ما تولّيت ) .
وروى الأعمش عن شقيق قال : كنت جالساً مع عبد الله وأبي موسى ، فقال أبو موسى : يا أبا عبد الرحمن ، الرجل جُنب فلا يجد الماء أُيصلّي ؟ فقال : لا . فقال : أما تذكر قول عمار لعمر : بعثنا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنا وأنت فأجنبت فتمعّكت في التراب ، فأتيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فذكرت ذلك له ، فقال : ( كان يكفيه هكذا ) .
وضرب بيديه الأرض فسمح وجهه ويديه ؟ فقال : لم أر عمر قنع بذلك ، قال : فما يصنع بهذه الآية ) فلم تجدوا ماءاً فتيمّموا صعيداً طيباً ( ؟ فقال : أما إنّا لو رخّصنا لهم في هذا لكان أحدهم إذا وجد برد الماء تيمّم بالصعيد ، قال الأعمش : فقلت لشقيق فلم يكن هذا إلاّ حباً له ، قال : يدلّ علي أن صلاة الجُنب بالتيمّم جايز ، ما روى ابن عوف عن أبي رجاء ، قال : سمعت عمران بن حصين يقول : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رأى رجلا معتزلا لم يصلِّ في القوم ، فقال : ( يا فلان ، ما منعك أن تصلّي مع القوم ؟ ) . فقال : يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء ، قال : ( عليك بالصعيد فإنّه يكفيك ) .
وروى مسلم عن أبي رجاء عن عمران بن حصين قال : صلّيت خلف النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكان رجل جُنب ، فأمره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يتيمّم ويصلّي ، فلمّا وجد الماء أمره النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يغتسل ولم يأمره أن يعيد .
عن أبي ذر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين )
(3/322)

" صفحة رقم 323 "
النساء : ( 44 ) ألم تر إلى . . . . .
قوله عزّ وجلّ : ) ألم تر إلى الذين أُوتوا نصيباً من الكتاب ( يعني يهود المدينة ، وقال ابن عباس : نزلت في رفاعة بن زيد بن السائب ومالك بن دخشم ، كانا إذا تكلّم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لويا لسانيهما وعاباه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية .
) يشترون الضّلالة ( مختصر تقديره : ويشترون الضّلالة بالهدى ) ويريدون أن تضلّوا ( يا معشر المؤمنين ، وقرأ الحسن تُضَلّوا ، ) السبيل ( أي عن السبيل .
النساء : ( 45 ) والله أعلم بأعدائكم . . . . .
) والله أعلم بأعدائكم ( منكم ، فلا تستنصحوهم فإنهم أعداؤكم ، ويجوز أن يكون ) أعلم ( بمعنى عليم ( كقوله تعالى : ) وهو أهون عليه ( ) وكفى بالله وليّاً وكفى بالله نصيراً من الذين هادوا ( ، فإنّ شئت جعلتها متصلة بقوله ) ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب (
النساء : ( 46 ) من الذين هادوا . . . . .
) من الذين هادوا ( ، وإنّ شئت جعلتها منقطعة عنها مستأنفة ، ويكون المعنى : من الذين هادوا مَن يحرّفون ، كقوله : ) وما منّا إلاّ له مقام معلوم ( اي من له مقام معلوم ، وقال ذو الرمّة :
فظلوا ومنهم دمعُهُ سابق له
وآخر يذري دمعة العين بالمهل
يريد : ومنهم من دمعه .
) يحرّفون ( يغيّرون ، ) الكلِمَ ( وقال علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) : ( الكلام عن مواضعه ، يعني صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ، وآية الرجم ) ، وقال ابن عباس : كان اليهود يأتون رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويسألونه عن الأمر فيخبرهم ، ويرى أنّهم يأخذون بقوله ، فإذا انصرفوا من عنده حرّفوا كلامه . ) ويقولون سمعنا ( قولك ) وعصينا واسمع غير مسمع ( أي غير مقبول منك ، وقيل : هو مثل قولهم : اسمع لا سمعت .
) وراعنا ( : وارعنا ، وقد مضت القصة في سورة البقرة ، ) ليّاً بألسنتهم وطعناً ( قدحاً ) في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا ( مكان راعنا ) لكان خيراً لهم وأقوم ( أصوب وأعدل ، ) ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلاّ قليلا (
النساء : ( 47 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين أُوتوا الكتاب ( خاصة باليهود ، ) آمنوا بما نزّلنا ( يعني القرآن ، ) مصدقاً لما معكم ( قال ابن عباس : كلّم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رؤساء من أحبار اليهود منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن أسد ، فقال لهم : ( يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا ، فوالله إنّكم تعلمون أنّ الذي جئتكم به لحقّ ) ، فقالوا : ما نعرف ذلك يا محمد وأنكروا وأصرّوا على الكفر ، فأنزل الله عزّ وجلّ ) يا أيّها الذين أُوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدّقاً لما معكم ( .
(3/323)

" صفحة رقم 324 "
) من قبل أن نطمِس وجوهاً فنرُدّها على أدبارها ( قراءة العامة بكسر الميم ، وقرأ أبو رجاء بضمّها ، وهما لغتان ، قال ابن عباس : يجعلها كخفّ البعير أو كحافر الدابة . قتادة والضحاك : نعميها ، ذَكر الوجه والمراد به العين ) نردّها على أدبارها ( أي نحوّل وجوهها إلى ظهورها ، ونجعل أبصارها من جهة أقفائها ، وهذه رواية عطية عن ابن عباس . الفرّاء : الوجوه منابت للشعر كوجوه القردة ، لأنّ منابت شعور الآدميين في أدبار وجوههم . القتيبي : نمحو آثارها وملامحها من عين وحاجب وأنف وفم ، فنردّها على أدبارها أي كالأقفاء .
فإن قيل : كيف جاز أن يهدّدهم بطمس وجوههم إن لم يؤمنوا ، ثم لم يؤمنوا ولم يفعل بهم ذلك ؟
فالجواب أن نقول : جعل بعضهم هذا الوعيد باقياً منتظراً ، فقال : لابد من طمس وجوه اليهود أي بالمسخ قبل الساعة ، وهذا قول المبرّد ، وقال بعضهم : كان هذا وعيداً بشرط ، فلمّا أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه رفع الباقين ، وقيل : لمّا أُنزلت هذه الآية ، أتى عبد الله بن سلام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قبل أن يأتي أهله فأسلم ، وقال : يا رسول الله ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي . وقال النخعي : قرأ عمر هذه الآية على كعب الأحبار ، فقال كعب : يا ربّ أسلمت ، يا ربّ أسلمت مخافة أن يشمله وعيد هذه الآية .
وقال سعيد بن جبير : الطمس أن يرتدّوا كفاراً فلا يهتدوا أبداً . الحسن ومجاهد : من قبل أن نُعميَ قوماً عن الصراط وعن بصائر الهدى ، فنردّها على أدبارها حتى يعودوا إلى حيث جاؤوا منه بدءاً ، وهو الشام . وأصل الطمس : المحو والإفساد والتحويل ، ومنه يقال : رسم طاسم ، وطامس أي دارس ، والريح تطمس الأثر أي تمحوه وتعفوه .
) أو نلعنهم كما لعنّا أصحاب السَّبت ( فنجعلهم قردة وخنازير ) وكان أمر الله مفعولا إنّ الله لا يغفر أن يُشرك به ( الآية ، قال الكلبي : نزلت في المشركين : وحشي بن حرب وأصحابه ، وقال : إنّه لما قَتل حمزة ، وكان قد جُعل له على قتله أن يعتق ، ولم يوفَ له بذلك فلمّا قدم مكة ندم على صنيعه هو أصحابه ، فكتبوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنّا قد ندمنا على الذي صنعنا وإنه ليس يمنعنا عن الإسلام إلاّ أنّا سمعناك تقول وأنت بمكة : ) والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله الاّ بالحق ولا يزنون ( ، وقد دعونا مع الله إلهاً آخر ، وقتلنا النفس التي حرّم الله ، وزنينا ، ولولا هذه الآية لاتبعناك ، فنزلت ) إلاّ من تاب وآمن ( الآيتين فبعث بهما رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى وحشي وأصحابه ، فلمّا قرأوها كتبوا إليه : هذا شرط شديد نخاف ألاّ نعمل عملا صالحاً فلا نكون من ( أهل ) هذه الآية ) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ( فبعث بها إليهم فقرؤوها ، فبعثوا إليه : إنا نخاف ألا
(3/324)

" صفحة رقم 325 "
ّ نكون من أهل مشيئته ، فنزلت : ) ياعباد الذين أسرفوا على أنفسهم . . . ( ، فبعث بها إليهم فلما قرؤوها دخل هو أصحابه في الإسلام ، ورجعوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقبل منهم ، ثم قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لوحشي : ( أخبرني كيف قتلت حمزة ؟ ) ، فلما أخبره قال : ( ويحك غيّب وجهك عنّي ) ، فلحق وحشي بالشام فكان بها إلى أن مات .
النساء : ( 48 ) إن الله لا . . . . .
وقال مقاتل : نزلت هذه الآية في اليهود ) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ( فمشيئته لأهل التوحيد . أبو مجلز ، عن ابن عمر : نزلت في المؤمنين ، وذلك أنّه لمّا نزلت ) يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ( الآية قام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) على المنبر فتلاها على الناس ، فقام إليه رجل ، فقال : والشرك بالله ؟ فسكت ثم قام إليه مرّتين أو ثلاثاً ، فنزلت : ) إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ( الآية ، فأُثبتت هذه في الزمر وهذه في النساء .
المسيب بن شريك ، عن مطرف بن الشخير قال : قال ابن عمر : كنّا على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إذا مات الرجل منّا على كبيرة شهدنا أنّه من أهل النار ، حتى نزلت هذه الآية ) إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ( ، فأمسكنا عن الشهادات .
عن جابر بن عبد الله أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ( لا تزال ) المغفرة تحل بالعبد ما لم يرفع الحجاب ) . قيل : يا رسول الله ، وما ( وقوع ) الحجاب ؟ قال : ( الإشراك بالله ) ثم قرأ : ) إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ( الآية .
مسروق عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنّة ولم يضرّه معه خطيئة ، كما لو لقيه وهو يشرك به شيئاً دخل النار ولم تنفعه حسنة ) . وعن عليّ ( رضي الله عنه ) عنه قال : ( ما في القرآن أرجى إليّ من هذه الآية ) إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ( ) ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً (
النساء : ( 49 ) ألم تر إلى . . . . .
) ألم تر إلى الذين يُزكّون أنفسهم ( الآية ، قال الكلبي : نزلت في رجال من اليهود ، أتوا بأطفالهم إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) منهم عدي بن عمرو والنعمان ابن أوفى وصهيب بن زيد ، فقالوا : يا محمد هل على هؤلاء من ذنب ؟ فقال : ( لا ) ، فقالوا :
(3/325)

" صفحة رقم 326 "
والله ما نحن إلاّ كهيئتهم ، ما عملناه بالنهار كفّر عنّا بالليل ، وما عملناه بالليل كفّر عنا بالنهار ، فكفّرهم الله تعالى ، وأنزلت هذه الآية . الحسن والضحاك وقتادة وسفيان والسّديّ : نزلت في اليهود والنصارى ممن قالوا : ) نحن أبناء الله وأحبّاؤه ( وقالوا : ) لن يدخل الجنّة إلاّ من كان هوداً ونصارى ( .
مجاهد وعكرمة : هو أنّهم كانوا يقدّمون أطفالهم في الصّلاة يزعمون أنهم لا ذنب لهم ، فتلك التزكية . عطية عن ابن عباس : هو أنّ اليهود قالوا : إنّ آباءنا وأبناءنا تُوفوا ، فهم سيشفعون لنا ويزكوننا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقال عبد الله : هو تزكية بعضهم لبعض ، وعن طارق ابن شهاب قال : سمعت ابن مسعود يقول : إن الرجل ليغدو من بيته ومعه دينه ، فيلقى الرجل لا يملك له ولا لنفسه ضرّاً ولا نفعاً ، فيقول : والله إنّك لذيت لذيت ، فلعله لا يخلو منه شيء ، فيرجع إلى بيته وما معه من دينه شيء ، ثم قرأ عبد الله : ) ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ( ) بل الله يزكّي ( أي يطهّر من الذنوب ) من يشاء ( ( . . . ) لذلك ) ولا يُظلمون فتيلا ( وهو ما يكون في شق النواة ، وقيل : هو ما فتلته بين إصبعيك من الوسخ فيكون فعيلا بمعنى مفعول قال الشاعر :
يجمع الجيش ذا الالوف فيغزو
ثم لا يرزأ العدوّ فتيلا
النساء : ( 50 ) انظر كيف يفترون . . . . .
) انظر ( يا محمد ) كيف يفترون ( يحيكون على الله الكذب في تفسيرهم كتابه ) وكفى به إثماً مبيناً (
النساء : ( 51 ) ألم تر إلى . . . . .
) ألم تر إلى الذين أوتُوا نصيباً من الكتاب ( قرأ السلميّ : ( ألم تره ) في كلّ القرآن ، وهي لغة قوم لا يكتفون من الجزم بحذف الحرف حتى يسكنوا حركته ، كقول الشاعر :
من يهدِه الله يهتدْ لا مضل له
ومن أضل فما يهديه من هادي
) يؤمنون بالجبت والطاغوت ( اختلفوا فيهما ، فقال عكرمة : هما صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله . أبو عبيدة : هما كلّ معبود من حجر أو مدر أو صورة أو شيطان ، يدل عليه قوله : ) أن اعبدوا الله واجتنبوا الطّاغوت ( ، وقوله : ) الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ( .
عطية عن ابن عباس : الجبت : الأصنام ، والطاغوت : تراجمة الأصنام الذين يكونون بين
(3/326)

" صفحة رقم 327 "
أيديهم يفترون عنها الكذب ليضلوا النّاس ، وقيل : الجبت : الأوثان ، والطاغوت : شياطين الأصنام ، لكل صنم شيطان يفسّر عنها فيغترّ بها النّاس . أبو عمرو الشّعبي ومجاهد : الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطان . زيد بن أرقم : الجبت : الساحر ، ويقال له : الجبس ، قلبت سينه تاء ، والطاغوت : الشيطان ، يدلّ عليه قوله : ) الذين كفروا أولياؤهم الطّاغوت ( .
قال محمد بن سيرين ومكحول : الجبت : الكاهن ، والطّاغوت : الساحر ، وهو رواية الوالبي عن ابن عباس . سعيد بن جبير وأبو العالية ، الجبت : شاعر بلسان الحبشة ، والطّاغوت : الكاهن . عكرمة : كان أبو هريرة كاهناً في الجاهلية ممن أقرّ إليه ناس ممّن أسلم ، فنزلت هذه الآية . الضحاك والكلبي ومقاتل : الجبت : حيي بن أخطب ، والطاغوت : كعب بن الأشرف ودليله قوله : ) يريدون أن يتحاكموا إلى الطّاغوت ( .
حكى أبو القاسم الحسين ، عن بعضهم أنّ الجبت إبليس ، والطاغوت أولياؤه ، عن قطر بن قيصيه ، عن مخارق عن أبيه ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الطرق والطيرة والعيافة من الجبت ، والجبت كلّ ما حرّم الله ، والطّاغوت هو ما يُطغي الإنسان ) .
) ويقولون للّذين كفروا هؤلاء أهدى من الّذين آمنوا سبيلا ( قال المفسّرون : خرج كعب ابن الأشرف في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشاً على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه ، ونزلت اليهود في دور قريش ، فقال أهل مكة : إنّكم أهل كتاب ، ومحمد صاحب كتاب ونحن أُمية ، ولا نأمن أن يكون هذا مكراً منكم ، وإن أردت أن نخرج معك ، فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ، ففعل ذلك ، فذلك قوله : ) يؤمنون بالجبت والطاغوت ( ثم قال كعب لأهل مكة : ليجئ منكم ثلاثون ومنّا ثلاثون فلنلزق أكبادنا بالكعبة ، فنعاهد ربّ البيت لنجهدنَّ على قتال محمد ففعلوا ذلك ، فلمّا فرغوا قال أبو سفيان : إنّك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ، ونحن أمّيون لا نعلم فأيّنا أهدى طريقاً وأقرب إلى الحق ؟ أنحن أم محمد ؟
فقال كعب : اعرضوا عليَّ دينكم ، فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحاج الكرماء ونسقيهم الماء ونقري الضيف ونفكّ العاني ونصل الرحم ونعمّر بيت ربّنا ونطوف به ، ونحن أهل الحرم ، ومحمد فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم ، وديننا القديم ودين محمد الحديث . فقال
(3/327)

" صفحة رقم 328 "
كعب : أنتم والله أهدى سبيلا ممّا عليه محمد ، فأنزل الله الآية ) إلى الذين اوتوا نصيباً من الكتاب ( : يعني كعباً وأصحابه ، يؤمنون بالجبت والطاغوت يعني الصنمين ) يقولون للذين كفروا ( أبي سفيان وأصحابه : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا ؛ محمد وأصحابه سبيلا أي ديناً .
النساء : ( 52 - 53 ) أولئك الذين لعنهم . . . . .
أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ) أم لهم ( يعني ألهمْ ، والميم صلة ) نصيب ( حظ ) من الملك ( وهذا على وجه الإنكار ، يعني ليس لهم من الملك شيء ، ولو كان لهم من الملك ) فإذاً لا يؤتون الناس ( محمداً وأصحابه ) نقيراً ( من حسدهم وبخلهم وبغضهم . رفع قوله ( يؤتون ) ( . . . . . . . . . ) .
وفي قراءة عبدالله : فإذاً لا يؤتوا الناس بالنصب ( . . . . . . . . . ) .
واختلفوا في النقير ، فقال ابن عباس : هو النقطة في ظهر النواة ، ومنها : ( . . . . . . . ) مجاهد : حبّة النواة التي وسطها .
الضحّاك : يعني النواة الأبيض الذي يكون وسطها . أبو العالية : هو نقر الرجل الشيء بطرف إصبعه ، كما يُنقر الدرهم وقال : سألت ابن عباس عنه فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم رفعها وقال : هذا هو النقير .
2 ( ) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآ ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَّنْ ءَامَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِئَايَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحَمَانَاتِ إِلَىأَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ ذالِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً
(3/328)

" صفحة رقم 329 "
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً أُولَائِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِىأَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ( 2
النساء : ( 54 ) أم يحسدون الناس . . . . .
) أم يحسدون ( يعني اليهود ) الناس ( : قال قتادة : يعني العرب حسدوهم على النبّوة وبما أكرمهم الله تعالى به محمد ( صلى الله عليه وسلم )
عن محمد بن كعب القرظي قال : سمعت علياً ( عليه السلام ) على المنبر في قوله ) أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ( قال : هو رسول الله وأبو بكر وعمر ( عليهم السلام ) .
وقال آخرون : المراد بالناس هنا يعني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، حسدوه على ما أحل الله له من النساء ؛ وذلك ما روى علي بن علي عن أبي حمزة الثمالي في قوله ) أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ( يعني بالناس في هذه الآية نبيّ الله ، قالت اليهود : انظروا إلى هذا النبي ، والله ما يشبع من طعام ، لا والله ماله همّ إلاّ النساء ، لو كان نبي لشغله أمر النبوة عن النساء ، فحسدوه على كثرة نسائه وعيّروه بذلك فقالوا : لو كان نبيّاً ما رغب في كثرة النساء ، فأكذبهم الله تعالى فقال : ) فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة ( ، يعني بالحكمة النبوّة .
) وآتيانهم ملكاً عظيماً ( فأخبرهم بما كان لداود وسليمان من النساء ، فوبّخهم لذلك ، فأقرت اليهود لنبي الله ( عليه السلام ) أنّه اجتمع عند سليمان ألف امرأة ، ثلثمائة مهرية وسبعمائة سرية ، وعند داود مائة امرأة . فقال لهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ألف امرأة عند رجل ، ومائة امرأة عند رجل أكثر أو تسع نسوة ؟ وكان يومئذ تسع نسوة عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فسكتوا .
النساء : ( 55 ) فمنهم من آمن . . . . .
قال الله تعالى : ) فمنهم من آمن به ( يعني بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) يعني عبدالله بن سلام وأصحابه ) ومنهم من صدّ عنه ( أعرض عنه فلم يؤمن به ) وكفى بجهنم سعيرا ( وقوداً .
قال السدي : ( الآيتان ) راجعتان إلى إبراهيم ( عليه السلام ) ؛ وذلك أنه زرع ذات سنة وزرع الناس ، فهلكت زروع الناس وزكا زرع إبراهيم ، واحتاج الناس إليه ، وكانوا يأتون إبراهيم ( عليه السلام ) يسألونه ، فقال لهم : من آمن بالله أعطيته ، ومن أبى منعته ، فمن آمن به أتاه الزرع ومن أبى لم يعطهِ .
عن عمرو بن ميمون الأودي قال : لمّا تعجل موسى ( عليه السلام ) إلى ربّه عزَّ وجل ، مرّ
(3/329)

" صفحة رقم 330 "
برجل غبطه لقربه من العرش ، فسأل عنه ، فقال : يا ربّ من هذا ؟ فقيل له : لن يخبرك اسمه ، وسيخبرك بعمله ، كان لا يمشي بالنميمة ، ولا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله ، وكان لا يعقّ والديه .
أبو زياد عن أنس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ) .
وعن يوسف بن الحسين الرازي قال : سمعت ذا النون يقول : الحسود لا يسود .
الأصمعي قال : قال سفيان لمغني : إنَّ الله يقول : ( الحاسد عدوّ نعمتي غير راض بقسمتي بين عبادي ) .
قال الثعلبي : وأنشدت لمنصور الفقيه في معناه :
آلا قل لمن كان لي حاسداً
أتدري على من أسأت الأدبْ
أسأت على الله في فعله
إذا أنت لم ترضَ لي ما ذهبْ
جزاؤك منه الزيادات لي
وأن لا تنال الذي تطلب
النساء : ( 56 ) إن الذين كفروا . . . . .
) إنّ الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم ناراً ( ندخلهم ناراً ، وقرأ حميد بن قيس : نصليهم بفتح النون : أي نسوّيهم ، وقيل : معناه نَصليهم . فنصب ناراً على هذه القراءة بنزع الخافض تقديره بنار .
) كلّما نضجت بدّلناهم جلوداً غيرها ( غير الجلود المحترقة . قال ابن عبّاس : يُبدّلون جلوداً بيضاً كأصناف القراطيس . نافع عن ابن عمر قال : قرأ رجل عند عمر ) كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها ( قال عمر : أعدْها ، فأعادها ، قال معاذ بن جبل : عندي تفسيرها : بدّلت في ساعة مائة مرّة ؟ ، قال عمر : هكذا سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول .
هشام عن الحسن في قوله تعالى : ) كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلوداً غيرها ( قال : تأكلهم كل يوم سبعين ألف مرّة كلّما أكلتهم فأنضجتهم قيل لهم : عودوا فيعودون كما كانوا .
المسيّب عن الأعمش عن مجاهد قال : ما بين جلده ولحمه ودمه دود فأجلدت كجلدة حمر الوحش .
الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعاً وضرسهُ مثل أُحد ) .
(3/330)

" صفحة رقم 331 "
فإن قيل : كيف جاز أن يعذّب جلد لم يعصه قلنا : إنّ المعاصي والألم واقع على نفس . الإنسان لا الجلد ، لأن الجلود إنما تألم بالأرواح ، والدليل على من يقصد تعذيب الأبدان لا يعذّب ) الجلود ( قوله : ) ليذوقوا العذاب ( ، لم يقل ليذوق العذاب .
وقيل : معناه : يبدّل جلوداً هي تلك الجلود المحترقة ، وذلك أنّ غير على ضربين : غير تضاد ، وغير تناف ، وغير تبديل ، فغير تضاد مثل قولك : للصّائغ صغ لي من هذا الخاتم خاتماً غيره فيكسره ويصوغ لك خاتماً ، فالخاتم المصوغ هو الأول ولكن الصياغة تغيّرت والفضّة واحد .
وهذا كعهدك بأخٍ لك صحيحاً ثم تراه بعد ذلك سقيماً مدنفاً فتقول : فكيف أنت ؟ فيقول : أنا على غير ما عهدت ، فهو هو ، ولكن حالهُ تغيّرت ، ونظير هذا قوله تعالى ) يوم تبدّل الأرض غير الأرض ( وهي تلك الأرض بعينها إلاّ أنها قد بُدّلت جبالها وآكامها وأنهارها وأشجارها ، وأنشد :
فما النّاس بالنّاس الذين عهدتهم
ولا الدّار بالدّار التي كنت أعرف
قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبا نصير محمد بن محمد بن مزاحم يقول : سمعت مزاحم بن محمد بن شاردة الكشي يقول : سمعت جابر بن زيد يقول : سمعت وكيع بن الجراح يقول : سمعت إسرائيل يقول : سمعت الشعبي يقول : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : ألا ترى ما صنعت عائشة ذمَّت دهرها وذلك ( أنها ) أَنشدت بيتي لبيد :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
يتلذّذون مجانة ومذلّة
ويعاب قائلهم وإن لم يشغب
فقالت : رحم الله لبيد وكيف لو أدرك زماننا هذا .
فقال له ابن عباس : لئن ذمّت ( عائشة ) دهرها لقد ذمت عاد دهرها ، وذلك إنه وجد في خزانة عاد بعدما هلكت سهم كأطول ما يكون من رماحاً عليه مكتوب :
وليس لي أحناطي بذي اللوى
لوى الرمل من قبل النفوس معاد
بلاد بها كنا ونحن من أهلها
إذ الناس ناس والبلاد بلاد
(3/331)

" صفحة رقم 332 "
البلاد باقية كما هي إلاّ أن أحوالها وأحوال أهلِها تنكرت وتغيرت .
وقالت الحكماء : كما إن الجلد يلي قبل البعث فأنشىء كذلك تبدل ( ورجع ) .
وقال : ( السدّيّ ) : إنما تبدل الجلود جلوداً غيرها من لحم الكافر ، يعيد الجلد لحماً ويخرج من اللحم جلداً آخر لم يبدّل بجلد لم يعمل خطيئة .
وقيل : أراد بالجلود سرابيلهم من قطران سمّيت بها للزومها جلودِهم على ( المجاورة ) كما يقال للشيء ( الخاص ) بالانسان هو جلدة مابين ( عضمه ) ووجهه فكلما احترقت السرابيل عذّب . قال الشاعر :
كسا اللؤم تيماً خضرة في جلودها
فويل لتيم من سرابيلها الخضر
فكنّى عن جلودهم بالسرابيل .
قال عبد العزيز بن يحيى : إن الله تعالى أبدل أهل النار جلوداً لاتألم ويكون ( رماده ) عذاب عليهم فكلّما أُحرق جلدهم أبدلهم الله تعالى جلداً غيره .
يكون هذا عذاباً عليهم كما قال : ) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَان ( فتكون السرابيل تؤلمهم ولا يألم .
النساء : ( 57 ) والذين آمنوا وعملوا . . . . .
) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ( إلى قوله ) ظِلاّ ظَلِيلا ( .
كثيف لا يسخنه الشمس .
النساء : ( 58 ) إن الله يأمركم . . . . .
) إنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إلَى أهْلِهَا ( . نزلت في عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار وكان سادن الكعبة ، فلما دخل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) مكة يوم الفتح ، أغلق عثمان باب البيت وصعد السطح فطلب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المفتاح ، فقيل : إنّه مع عثمان ، فطلب منه علي ( رضي الله عنه ) فأجاب : لو علمت إنه رسول الله لم أمنعه المفتاح ، فلوى عليّ بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) يده ، فأخذ منه المفتاح وفتح الباب ، ودخل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وصلى فيه ركعتين ، فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح وجمع له بين السقاية والسدانة فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) علياً أن يردّ المفتاح إلى عثمان ، فأوعز إليه ففعل ذلك علي ( رضي الله عنه ) .
فقال له عثمان : يا علي ( كرهت ) وآذيت ثم جئت ترفق ، فقال له : بما أنزل الله تعالى في شأنك ؟ وقرأ عليه هذه الآية .
(3/332)

" صفحة رقم 333 "
فقال عثمان : أشهد أن لا إلاه إلاّ الله وأشهد أنّ محمداً رسول الله ، وأسلم ، فجاء جبرائيل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنه مادام هذا البيت أول لبنة من لبناته قائمة فإن المفتاح والسدانة في أولاد عثمان وهو اليوم في أيديهم .
) وَإذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ إنَّ اللهَ نِعِمَّا ( أي نعم الشيء أي ) يَعِظُكُمْ بِهِ إنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً (
النساء : ( 59 ) يا أيها الذين . . . . .
) يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللهَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ ( .
اختلفوا فيهم ، فقال عكرمة : أولي الأمر منكم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، ويدلّ عليه ما روى مالك بن أنس عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر إن لي وزيرين في السماء ووزيرين في الأرض أما في السماء جبرئيل وميكائيل ، وفي الأرض أبو بكر وعمر ) وهما عندي بمنزلة الرأس من الجسد ومثلهما في الدنيا بالرأفة فمثل أبي بكر كمثل إبراهيم وعيسى ، قال إبراهيم : ) فَمَنْ تَبِعَنِي فَإنَّهُ مِنِّي ( .
وقال عيسى : ) إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإنَّهُمْ عِبَادُكَ ( الآية .
ومثل عمر كمثل موسى ونوح قال موسى : ) رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أمْوَالِهِمْ ( .
وقال نوح : ) رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً ( .
وقال أبو بكر ( الورّاق ) : هُم الخلفاء الراشدون : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ( عليهم السلام ) ، ويدلّ عليه ما روى ( هشيم ) عن ابن بشير عن أبي ( الزبير عن ) جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( الخلافة بعدي في أُمتي في أربع في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ) .
وروي سعيد بن جمهان عن سفينة مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : لما بنى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المسجد ، جاء أبو بكر بحجر فوضعه ، ثم جاء عمر بحجر فوضعه ، ثم جاء عثمان بحجر فوضعه فقال : هؤلاء ولاة الأمر من بعدي
(3/333)

" صفحة رقم 334 "
عطاء : هم المهاجرون والأنصار والتابعون بالإحسان ، دليل قوله تعالى : ) وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأنصَارِ ( الآية .
بكر بن عبد الله المزني : هم أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يدلّ عليه قول النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) ( أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم ) .
وعن الحسن : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( مثل أصحابي في الناس مثل الملح في الطعام فلما ذهب فسد الطعام ) .
جابر بن عبد الله والحسن والضحاك ومجاهد والمبارك بن فضالة واسماعيل بن أبي خالد : هم الفقهاء والعلماء أهل الدين والفضل الذين يعلّمون الناس معالم دينهم ويأمرونكم بالمعروف وينهونكم عن المنكر ، وأوجب الله طاعتهم على العباد .
هذه رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو دليل هذا التأويل .
قوله تعالى : ) وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ ( الآية .
فقال أبو الاسود الدؤلي : ليس شيء أعزّ من العلم الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك .
إبن كيسان : أُولو العقل والرأي الذين ( يهتمّون ) بأمور الناس .
قال ابن عباس : أساس الدين بني على العقل وفرضت الفرائض على العقل ، وربُّنا يُعرف بالعقل ويتوسل إليه بالعقل ، والعاقل أقرب إلى ربه من جميع المجتهدين بغير عقل ، ولمثقال ذرّة من ( بر ) العاقل أفضل من جهاد الجاهل ألف عام .
وعن إسماعيل بن عبد الملك قال : قال : ( الثوري ) أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء : إذا رأيت عاقلاً فكن له خادماً .
ميمون بن مهران ومقاتل والسدي ( والشعبي ) : أمراء السرايا .
( سعيد بن جبير ) عن ابن عباس قال : بعث رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خالد بن الوليد في سرية إلى حي من أحياء العرب وكان معه عمار بن ياسر فسار خالد حتى إذا دنا من القوم عرّس لكي ينصحهم فأتاهم ( النذير ) وهربوا غير رجل كان قد أسلم فأمر أصحابه تهيّأوا للمسير فثم انطلق حتى اتى عسكر خالد فدخل على عمار فقال : يا أبا اليقظان إني مسلم وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا وأقمت كلامي ونافعي ذلك أو أهرب كما هرب قومي .
(3/334)

" صفحة رقم 335 "
فقال : أقم فإنّ ذلك نافعك ، فانصرف الرجل إلى أهله وأمرهم بالمقام ، فاصبح خالد وقام على القوم فلم يجد غير ذلك الرجل فأخذه وأخذ ماله فأتاه عمار فقال : خلِّ سبيل الرجل فإنه مسلم وقد كنت آمنته وأمرته بالمقام .
فقال خالد : إنك تجير عليَّ وأنا الأمير ، فقال : نعم . أجير عليك وأنا الأمير ، وكان في ذلك منهما كلام ، فانصرفوا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبروه خبر الرجل فآمنه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأجاز أمان عمار ونهاه بعد ذلك على أمير بغير إذنه .
قال : فاستبّ عمار وخالد أمام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأغلظ عمار لخالد وغضب خالد وقال : يا رسول الله اتدع هذا العبد يسبني فوالله لولا أنت ما سبّني عمار .
وكان عمار مولى لهاشم بن المغيرة .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا خالد كف عن عمار فإنه من يسبّ عماراً يسبّه الله ومن يبغض عماراً يبغضه الله ) ، فقام عمار وتبعه خالد فأخذ بثوبه وسأله أن يرضى عنه فرضي عنه .
وأنزل الله هذه الآية وأمر بطاعة أولي الأمر .
وقال أبو هريرة وابن زيد : هم الأمراء والسلاطين لما أُمروا بأداء الأمانة في الرعيّة ، لقوله : ) إنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إلَى أهْلِهَا ( ( أمرت الرعية ) بحسن الطاعة لهم .
وقال عليّ كرم الله وجهه : ( حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة ، فإذا فعل ذلك حق على الرعية أن يسمعوا له ويطيعوا ويجيبوا إذا دعوا ) .
قال الشافعي ( رضي الله عنه ) : إن من كان حول مكة من العرب لم يكن يعرف أمارة وكانت تأنف أن يعطي بعضها بعضاً طاعة الأمارة ، فلما دانت لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالطاعة لم تكن ترى ذلك يصلح لغير رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأُمروا أن يطيعوا أولي الأمر .
وقال عكرمة : أمهات الأولاد أحرار بالقرآن .
قيل له : أي القرآن قال : اعتقهن عمر بن الخطاب . ألم تسمع قول الله تعالى ) وأولي الأمر منكم ( وأن عمر من أولي الأمر وأنه قال : اعتقها ولدها وإن كان سقطاً .
عبد الرحمن بن الاعرج وهمام بن منبه وأبو صالح كلهم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني ومن يعص الأمير فقد عصاني ) .
(3/335)

" صفحة رقم 336 "
وعن أبي حازم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن بني اسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء فإذا مات نبي قام نبي وانه ليس بعدي نبي ) .
فقال رجل : فما يكون بعدك ؟ قال يكون خلفاء ( ويكثر ) .
قالوا : وكيف نصنع ؟ قال : ( ( أدوا ) بيعة الأول فالأول ، وأدّوا إليهم مالهم فإن الله سائلهم عن الذي لكم ) .
علقمة بن وائل عن أبيه قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ورجل يسأله : أرايت إن كان علينا أُمراء يمنعوننا حقّنا ويسألوننا حقّهم ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إسمعوا وأطيعوا فإنّ عليهم ما حمّلوا وعليكم ما حمّلتم ) .
وعن أبي إمامة قال : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : في حجة الوداع : ( وهو على ( الجدعاء ) يعني ناقته فدعا في الركاب يتطاول ) .
قال : ليسمع الناس فقال : ألا تسمعون ؟ يطول بها صوته فقال قائل من طوائف الناس : ما تعهد إلينا يا رسول الله ؟ فقال : ( إعبدوا ربكم وصلّوا خَمْسكم وصوموا شهركم وأدّوا زكاة أموالكم وأطيعوا أُولي الأمر تدخلوا جنة ربكم ) .
مكحول عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا معاذ أطع كل أمير وصل خلف كل إمام ولا تسبّنّ أحداً من أصحابي ) .
هشام عن أبي صالح عن أبي هريرة أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( سيليكم بعدي ولاة فيليكم البر ببرّه والفاجر بفجوره فاسمعوا لهم وأطيعوا في كلّ ما وافق الحقّ وصلّوا وراءهم فإن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساءوا فلكم وعليهم ) .
) فَإنْ تَنَازَعْتُمْ ( اختلفتم ) فِي شَيْء ( من أمر دينكم اختلاف الآراء فيتعاطى كلّ واحد مايرى خلاف رأي صاحبه وأصله من النزع كان المتنازعين يتحازبان ويتحالفان ، ومنه قال : مناوأة : منازعة .
قال الأعشى :
نازعتم قضب الريحان متكئاً
وقهوة مرّة راووقها خضل
) فَرُدُّوهُ إلَى اللهِ ( يعني إلى كتاب الله والرسول مادام حيّاً ، فإذا مات فإلى سنّته ، وقوله
(3/336)

" صفحة رقم 337 "
) ذَلِكَ خَيْرٌ ( أي ذلك الردّ خير لكم ) وَأحْسَنُ تَأوِيلا ( جزاء وعاقبة ، والتأويل ما يؤول للأمر .
أبو المليح الهذلي عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إعملوا بالقرآن ، أحلّوا حلاله وحرّموا حرامه وآمنوا به ولا تكفروا بشيء منه ، وما اشتبه عليكم ، فردّوه إلى الله وإلى أولي العلم من بعدي كيما يخبروكم ، وآمنوا به وآمنوا بالتوراة والانجيل والزبور وما أنزل إليكم من ربكم وليسعكم القرآن وما فيه من البيان فإنّه شافع مشفّع وكامل مصدّق وله بكلّ حرف نور يوم القيامة ) .
النساء : ( 60 ) ألم تر إلى . . . . .
) ألَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أنَّهُمْ آمَنُوا ( الآية .
قال الحسن : انطلق رجل يحاكم آخر إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : الآخر لابل إنطلق إلى وثن بيت فلان ( فأنزل ) الله هذه الآية .
قال الشعبي : كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي : أحاكمك إلى محمّد ، وقال المنافق : لا ، فجعل اليهودي يدعو إلى المسلمين لأنّه علم أنهم لايقبلون الرشوة ولا يجورون في الحكم ، وجعل المنافق يدعو إلى اليهود لأنّه علم أنّهم يقبلون الرشوة ويميلون في الحكم فاختلفا . ثم اتّفقا على أن يأتيا كاهناً في جهينة فيتحاكما إليه فأنزل الله تعالى هذه الآية .
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزلت في رجل من المنافقين يقال له بسر ، كان بينه وبين يهودي خصومة ، فقال : إنطلق بنا إلى محمّد وقال المنافق بل إلى كعب بن الأشرف ، وهو الذي سماه الله الطاغوت ، فأبى اليهودي أن يخاصمه إلاّ إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلمّا رأى المنافق ذلك أتى معه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فاختصما إليه ، فقضى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لليهودي فلما خرجا من عنده لزمه المنافق ، وقال : انطلق بنا إلى عمر ( رضي الله عنه ) فأقبلا إلى عمر ، فقال اليهودي : اختصمت أنا وهذا إلى محمّد فقضى لي عليه فلم يرضَ بقضائه وزعم أنه يخاصم إليكم وأنه تعلق بي فجئت معه فقال عمر للمنافق : أكذلك ؟ قال : نعم .
فقال لهما : رويدكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر البيت وأخذ السيف ثم خرج إليهما فضرب به المنافق حتى برد وقال . هكذا أقضي بين من لم يرضَ بقضاء الله وقضاء رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهرب اليهودي ونزلت هذه الآية .
وقال جبريل : إن عمر فرق بين الحق والباطل فسمي الفاروق .
وقال السدي : كان ناس من اليهود أسلموا وأبى بعضهم وكانت قريضة والنضير في الجاهلية إذ
(3/337)

" صفحة رقم 338 "
ا قتل رجل من بني قريضة رجلاً من بني النضير قتل به وأخذ ديته مائة وسق تمر وإذا قتل رجل من بني النضير رجلاً من قريضة لم يقتل به وأعطى ديته ستّين وسقاً من تمر وكانت النضير وهم حلفاء الأوس أكثر وأشرف من قريضة وهم حلفاء الخزرج .
فلما جاء الله بالإسلام وهاجر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة . قتل رجل من بني النضير رجلاً من قريضة فاختصموا في ذلك .
فقالت بنو النضير : قد كنا وأنتم اصطلحنا في الجاهلية على أن نقتل منكم ولا تقتلون منا ، وعلى أن ديتكم ستون وسقاً والوسق ستون صاعاً وديتنا مئة وسق فنحن نعطيكم ذلك .
وقالت الخزرج : هذا شيء كنتم قلتموه في الجاهلية لأنكم كثرتم وقللنا ، فقهرتمونا ونحن وأنتم اليوم إخوة وديننا ودينكم واحد وليس لكم علينا فضل ، وقالت بنو النضير : لا بل نحن على ما كنا .
فقال المنافقون منهم : انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي ومالك بن خزيمة ، وقال المسلمون من الفريقين : لا بل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأبى المنافقون فانطلقوا إلى أبي بردة ليحكم بينهم .
فقال : أعظموا اللقمة يعني الرشوة فقالوا : لك عشرة أوسق قال : لا . بل مائة وسق ديتي فاني أخاف إن نصرت النضيري قتلتني قريظة أو أنصر قريظة قتلتني النضير ، فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوسق وأبى أن يحكم بينهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وأنزل قوله : ) يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى ( وقوله ) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ( الآية فدعا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كاهن ) اسلم ( إلى الإسلام فأتى وانصرف فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لإبنيه : ( أدركا أباكما فإنّه إن جاوز عقبة كذا لم يسلم أبداً ) فأدركاه فلم يزالا به حتى انصرف وأسلم ، فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) منادياً ينادي ذلك الكاهن أسلم قد أسلم ، فذلك قوله : ) ألَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أنْ يَتَحَاكَمُوا إلَى الطَّاغُوتِ ( يعني الصنم ، وقيل : الكاهن ، وقيل : كعب بن الأشرف ، وقيل : حيي بن أخطب .
) وَقَدْ أُمِرُوا أنْ يَكْفُرُوا بِهِ ( إلى قوله : ) يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً ( إعراضاً فكل الفعل بمصدره كقوله : ) وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً ( وقوله : ) ويسلموا تسليما 2 )
النساء : ( 62 ) فكيف إذا أصابتهم . . . . .
) فكَيْفَ إذَا أصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ ( يعني فكيف يصنعون إذا أصابتهم مصيبة ) بِمَا قَدَّمَتْ أيْدِيهِمْ ( يعني عقوبة صدودهم ، هذا وعيد وتهديد وتم الكلام . ثم أبتدأ الخبر عن فعلهم يعني يتحاكمون إلى الطاغوت وهم يكفرون بالله ومعنى قوله ) ثمّ جاءُوك ( أي يحيوك .
(3/338)

" صفحة رقم 339 "
وقيل : أراد بالمصيبة قتل صاحبهم وذلك أنّ عمر ( رضي الله عنه ) لما قتل المنافق جاءوا قومه يطلبون الدية ويحلفون ( إن أردنا ) ما أردنا بكون إن بمعنى إذ وبمعنى ما ، أي ما أردنا بالترافع إلى عمر . ) إلاَّ إحْسَاناً وَتَوْفِيقاً ( .
قال الكلبي : إلاّ إحساناً في القول وتوفيقاً صواباً .
ابن كيسان : حقاً وعدلاً نظيرها ) وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أرَدْنَا إلاَّ الحُسْنَى (
النساء : ( 63 ) أولئك الذين يعلم . . . . .
) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ ( من النفاق ) فَأعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ ( في الملأ ) وَقُلْ لَهُمْ فِي أنفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغاً ( وقيل : فأعرض عنهم وعظهم باللسان ولاتعاقبهم ، وقيل : توعّدهم بالقتل إن لم يتوبوا من الشرك أعرض عنهم وعظهم يعني في الملأ . ) وَقُلْ لَهُمْ . . . قَوْلا بَلِيغاً ( في السر والملأ ، وقيل : هذا منسوخ بآية القتال .
2 ( ) وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِىأَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لاََتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّآ أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَائِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَائِكَ رَفِيقاً ذالِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُواْ جَمِيعاً وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَىَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يالَيتَنِى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ( 2
النساء : ( 64 ) وما أرسلنا من . . . . .
) وَمَا أرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إلاَّ لِيُطَاعَ بِإذْنِ اللهِ وَلَوْ أنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أنفُسَهُمْ ( بالتحاكم إلى الطاغوت ) جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً ( .
روى الصادق عن علي ( عليهما السلام ) قال : قدم علينا أمرؤ عندما دفنّا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبر النبي عليه الصلاة والسلام وحثا على رأسه من ترابه وقال : يا رسول الله قلت فسمعنا قولك ووعيت من الله فوعينا عنك وكان فيما أنزل الله عليك ) وَلَوْ أنَّهُمْ إذْ ظَلَمُوا أنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً ( فقد ظلمت نفسي فجئتك لتستغفر لي فنودي من القبر أنه قد غفر لك
(3/339)

" صفحة رقم 340 "
النساء : ( 65 ) فلا وربك لا . . . . .
) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ ( الآية .
نزلت في الزبير بن العوام وخصمه ، واختلف في اسمه ، فقال الصالحي : ثعلبة بن الحاطب ، وقال الآخرون : حاطب بن أبي بلتعة وذلك أنهما اختصما إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في شراج من الخزة كانا يستقيان به النخل فقال ( صلى الله عليه وسلم ) إسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك ، فغضب الرجل ، فقال : يا رسول الله أكان ابن عمتك ؟ فتغيّر وجه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أرسل يازبير ثم احبَسْ الماء حتى ترجع الجدد فاستوف حقك ثم أرسل إلى جارك .
وكان رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أشار إلى الزبير بالسقي له ولخصمه فلما احفظ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) استوعب الزبير حقه في صريح الحكم . ثم خرجا فمرّا على المقداد ، فقال : لمن كان القضاء بالسقاية ؟ فقال : قضى لابن عمته ، ولوى شِدْقَه .
ففطن به يهودي كان مع المقداد ، فقال : قاتل الله فلولا يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه كانوا أقضى منهم ، وأيمُ الله لقد أذنبنا ذنباً مرة واحدة في حياة موسى ( عليه السلام ) فدعانا موسى إلى التوبة منه ، وقال : فاقتلوا أنفسكم ففعلنا مع ذلك فقتلنا سبعين ألفاً في طاعة ربنا حتى رضي عنا .
فقال ثابت بن قيس بن شماس : أما والله إن الله ليعلم مني الصدق لو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت ، فأنزل الله تعالى في شأن حاطب ابن أبي بلتعة ، وليِّهِ شِدْقه ) فلا وربك لايؤمنون ( الآية .
وقال مجاهد والشعبي : نزلت في قصة بشر المنافق واليهودي اللذين اختصما إلى عمر ( رضي الله عنه ) وقد مضت القصة .
قوله ) فلا ( يعني ليس الأمر كما يزعمون انهم مؤمنون ثم لايرضون بحكمك ويصدون عنك ثم استأنف القسم فقال ) وربك لايؤمنون ( ويجوز أن يكون لأصله كقولهم وهم ممن يحكموك أي يجعلوك حكماً ) فيما شجر بينهم ( أي اختلف واختلط من أُمورهم والتبس عليهم حكمه ، ومنه الشجر لا ختلاف أعضائه وقل يعطي الهودج شجار لتداخل بعضها في بعض .
قال الشاعر :
نفسي فداؤك والرماح شواهر
والقوم في ضنك للقاء قيام
) ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أنفُسِهِمْ حَرَجاً ( أي ضيقاً وشكاً ) مِمَّا قَضَيْتَ ( ومنه قيل للشجر الملتف الذي لا يكاد يوصل إليه حرج وحرجة وجمعها حراج
(3/340)

" صفحة رقم 341 "
وقال الضحاك : أي إثماً يأتون بإنكارهم لما قضيت ) وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ( أي يخضعوا وينقادوا إليك إنقياداً
النساء : ( 66 ) ولو أنا كتبنا . . . . .
) وَلَوْ أنَّا كَتَبْنا ( فرضنا وأوجبنا ) عَلَيْهِمْ أنْ اقْتُلُوا أنفُسَكُمْ ( ما أمرنا بني اسرائيل . ) أوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ ( كما أمرناهم بالخروج من مصر ) مَا فَعَلُوهُ ( أرجع الهاء إلى فعل القتل والخروج لأن الفعل وإن اختلفت أجناسه فمعناه واحد ) إلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ ( وهذه الآية نزلت في قول ثابت بن قيس وكان هو من القليل الذي استثنى الله عز وجل ورفع القليل على ضمير الفاعل بأنهم فعلوه وقلّ على التكرار تقديره : ما فعلوه ، تم الكلام . ثم قال : إلاّ أنه فعله قليل منهم . كقول عمر بن معدي كرب :
فكلُّ أخ مفارقه أخوه
لعمر أبيك إلاّ الفرقدان
وقرأ أُبي بن كعب وعيسى بن عمر وابن أبي اسحاق وابن عامر ( قليلاً ) بالنصب ، وكذا هو في مصاحف أهل الشام على ( النصب ) وقيل : فيه اضمار تقديره إلاّ أن يكون قليلاً منهم .
قال الحسن ومقاتل : لما نزلت هذه الآية قال عمر وعمار وابن مسعود وناس صحبوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهم القليل : والله لو أمرنا لفعلنا ، فالحمد لله الذي عافانا ، فبلغ ذلك النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( إن من أُمتي لرجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي ) .
قال الله تعالى : ) وَلَوْ أنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأشَدَّ تَثْبِيتاً ( تحقيقاً وتصديقاً لإيمانهم .
النساء : ( 67 ) وإذا لآتيناهم من . . . . .
) وَإذاً لأَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أجْراً عَظِيماً ( ثواباً .
النساء : ( 68 - 69 ) ولهديناهم صراطا مستقيما
) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ ( نزلت هذه الآية في ثوبان مولى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان شديد الحب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قليل الصبر عنه ، فأتاه ذات يوم ، وقد تغير لونه ( ونحل جسمه يعرف في وجهه الحزن ) وقلّ لحمه ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا ثوبان ما غيّر لونك ؟ ) ؟
فقال : يا رسول الله مابي مرض ، ولا وجع ، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك ، وتوجّست وحشة شديدة حتى ألقاك ، ثم ذكرت الآخرة وأخاف أن لا أراك هناك ، لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين وأني وإن ادخلت الجنة ، كنت في منزلة أدنى من منزلتك ، وإن لم أدخل الجنة فذلك حين لا أراك أبداً
(3/341)

" صفحة رقم 342 "
فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( والذي نفسي بيده لايؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين ) .
وقال قتادة ومسروق بن الأجدع : أنّ أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) قالوا : ما ينبغي لنا أن نفارقك فإنا لا نراك إلاّ في الدنيا فأما في الآخرة فإنك ترفع فوقنا بفضلك فلا نراك ، فأنزل الله تعالى ) ومن يطع الله ( في الفرائض ) والرسول ( في السنن ) فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ ( وهم أفاضل أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وَالشُّهَدَاءِ ( وهم الذين استشهدوا في سبيل الله ) وَالصَّالِحِينَ ( من صلحاء أمة محمد ( صلى الله عليه وسلم )
قال عكرمة : النبيون : محمّد ، والصديقون : أبو بكر الصديق ، والشهداء عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، والصالحون سائر أصحابه . ) وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً ( يعني دوماً في الجنة كما يقول : نعم الرفقا هم .
والعرب تضع الولي في معنى الجمع كثيراً ، كقوله : نحن منكم قبلاً أي اطياداً ، ويولون الدبر أي الأدبار ويقولون ينظرون من طرف خفي .
وقوله ورفيقاً نصب على خبر
النساء : ( 70 ) ذلك الفضل من . . . . .
) ذَلِكَ الفَضْلُ ( ( احسان ) ) مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللهِ عَلِيماً ( يعني بالآخرة وثوابها .
وقيل : بمن أطاع رسول الله وأحبه ، وفي هذه الآية دلالة على خلافة أبي بكر الصديق ( رضي الله عنه ) وذلك أن الله تعالى لما ذكر مراتب أوليائه في كتابه بدأ بالأعلى منهم ، وهم النبيون فجعل الروضة الأعلى للنبيين فلم يجز أن يتقدمهم فيها أحد وثنى بذكر الصديقين فلا يجوز ان يتقدمهم أحد غير النبيين ولأن يكون من النبي صديق سرهم ، وقد أجمع المسلمون على تسمية أبي بكر صديقاً كما أجمعوا على تسمية محمد رسول الله ولم يجز أن يكونوا غالطين في تسميتهم محمد الرسول كذلك لايجوز أن يكونون غالطين في تسمية أبي بكر صديقاً فإذا صح انه صديق وأنه ثاني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يجز أن يتقدّمه بعده أحد والله أعلم ، وفي قوله ) الفضل من الله ( دليل على أنّهم لم ينالوا تلك الدرجة بطاعتهم بل نالوها بفضل الله خلافاً ، لما قالت المعتزلة ان العبد إنما ينال ذلك بفعله فلما احسن الله على عباده بما آتاهم من فضله فكان لايجوز أن يثني على نفسه بمالم يفعله ، فثبت ذلك على بطلان قولهم ثم علّمهم مباشرة الحروب ، فقال :
النساء : ( 71 ) يا أيها الذين . . . . .
) يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ( من عدوكم أي عدتكم وآلاتكم من
(3/342)

" صفحة رقم 343 "
السلاح ) وَلا تُلْقُوا بِأيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ ( والحِذر والحَذر واحد ، كالمِثل والمَثل ، والعِدل والعَدل ، والشِبه والشَبه ، ) فَانفِرُوا ( أي اخرجوا ) ثُبَات ( أي سرايا ) متفرقين ( كسرية بعد سرية وجماعة بعد جماعة ، والثبات الجماعات في تفرقه واحدها ثبة ) أوِ انفِرُوا جَمِيعاً ( أي مجتمعين كلّكم مع سلم واستدل أهل القدر بهذه الآية .
بقوله ) خُذُوا حِذْرَكُمْ ( قالوا : لولا أن الحذر يمنع عنهم مكايد الأعداء ما كان لأمره بالحذر إياهم معنى .
فيقال لهم : الإئتمار لأمر الله والانتهاء عن نهيه واجب عليهم لأنهم به يسلمون من معصية الله عز وجل لأن المعصية تزل ، فائتمروا وانتهوا عمّا نهوا عنه .
وليس في هذه الآية دليل على أن حذرهم ينفع من القدر شيئاً ، وهذا كقول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( إعقلها وتوكّل ) .
والمراد به طمأنينة النفس لا أن ذلك يدفع القدر ، كذلك في أخذ الحذر فهو الدليل على ذلك ، أن الله تعالى أثنى على أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بقوله حاكياً عنهم ) لَنْ يُصِيبَنَا إلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا ( وأمر بذلك رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يصيبهم غير ما قضى عليهم ما كان هذا مني .
النساء : ( 72 ) وإن منكم لمن . . . . .
) وَإنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ( . قال بعضهم : نزلت هذه الآية في المؤمنين لأن الله خاطبهم بقوله ) وَإنَّ مِنْكُمْ ( وقد فرق الله بين المؤمنين والمنافقين بقوله ) مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ ( .
وقال : أكثر أهل التفسير : إنّها نزلت في المنافقين وإنما جمع منهم في الخطاب من جهة الجنس والسبب ومن جهة الإيمان من ) لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ( أي ليثاقلن ويتخلفنّ عن الجهاد والغزو .
وقيل : معناه ليصدّقن غيره ، وهو عبد الله بن أُبيّ المنافق وإنما دخلت ( اللام ) في ( من ) لمكان ( من ) كما تقول : إنّ فيها لأخاك فاللام في ليبطئن لام القسم وهي صلة لمن على اعتماد شبه باليمين كما يقال هذا الذي ليقومن وأرى رجلاً ليفعلن .
) فَإنْ أصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ ( أي قتل وهزيمة ) قَالَ قَدْ أنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ ( عهد ) إذْ لَمْ أكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً ( أي حاضراً في تلك الغزاة فيصيبني مثل ما أصابهم ، يقول الله ) كأن لم يكن بينكم وبينهم مودة ( أي معرفة .
وقال معقل بن حيان : معناه كأن ليس من أهل دينكم وان نظم الآية وقوله كأن لم يكن متصل بقوله ) فَإنْ أصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ (
النساء : ( 73 ) ولئن أصابكم فضل . . . . .
) وَلَئِنْ أصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللهِ ( أي فتح وغنيمة ) لَيَقُولَنَّ ( هذا المنافق قول نادم حاسد : ياليتني كنت معهم في تلك الغزاة ) فَأفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ( أي آخذ نصيباً وافراً من الغنيمة
(3/343)

" صفحة رقم 344 "
وقوله ( فأفوز ) نصب على نحو التمني بالفاء ، وفي ( التمني ) معنى يسرني أن افعل مافعل كأنه متشوق لذلك النصيب ، كما يقول : وددت ان أقوم فمنعني أُناس ثم نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن أُحدْ .
2 ( ) فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا بِالاَْخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَاذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً الَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلَواةَ وَءَاتُواْ الزَّكَواةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلاأَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالاَْخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَاذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ فَمَا لِهَاؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ( 2
النساء : ( 74 ) فليقاتل في سبيل . . . . .
) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ ( أي انهم يختارون الحياة الدنيا على الآخرة ومعنى يشرون يشترون ، يقال شريت الشيء أي اشتريت ، وحينئذ يكون حكم الآية : آمنوا ثم قاتلوا ، لأنه لايجوز ان يكون الكافر مأموراً بشيء مقدم على الإيمان .
وقال بعضهم : نزلت هذه الآية في المؤمنين المخلفين ومعناه ( فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يبتغون الحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ ) .
ثم قال : ) وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ ( أو من يستشهد أو يعذب أو يظفر ) فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ ( في كلا الوجهين ) أجْراً عَظِيماً ( يعني الجنة ثم خصَّ المؤمنين على السعي في تخليص المستضعفين مثل
النساء : ( 75 ) وما لكم لا . . . . .
) وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ ( أي تجاهدون ) فِي سَبِيلِ اللهِ ( يعني في طاعة الله ) والمستضعفين ( في موضع الخفض .
قال الكلبي : عن أبي صالح عن ابن عباس ومعناه عن المستضعفين وكانوا بمكة يلقون من المشركين أذى كثيراً وكانوا يدعون ويقولون : ربنا أخرجنا من هذه القرية يعني مكة الظالم أهلها أي التي من صفتها إن أهلها ظالمون مشركون وإنّما خفض الظالم لأنه نعت الأهل فلما عاد الأهل إلى القرية كان فعل ما أضيف إليها بمنزلة فعلها كقوله : مررت بالرجل الواسعة داره ، ومررت برجل حسنة عينه
(3/344)

" صفحة رقم 345 "
) وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ( يمنعنا من المشركين فأجاب الله دعاءهم .
فلما فتح رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مكة جعل الله لهم النبي ولياً فاستعمل عليها عتّاب بن أُسيد .
فجعله الله لهم نصيراً وكان ينصف للضعيف من الشديد فنصرهم الله به وأعانهم وكانوا أعز بها من الظلمة قبل ذلك .
وفي هذه الأُية دليل على إبطال قول من زعم أنّ العبد لايستفيد بالدعاء معنى لأن الله تعالى حكى عنهم إنّهم دعوه وأجابهم وآتاهم ماسألوه ولولا أنّه أجابهم إلى دعائهم لما كان لذكر دعائهم معنى ، والله اعلم .
النساء : ( 76 ) الذين آمنوا يقاتلون . . . . .
) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ( أي طاعته ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ ( أي في طاعة الشيطان ) فَقَاتِلُوا ( أيها المؤمنين ) أوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ( أي حزبه وجنده ) إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ ( ومكره وصنيعه ومكر من اتّبعه ) كَانَ ضَعِيفاً ( كما خذلهم يوم بدر .
النساء : ( 77 ) ألم تر إلى . . . . .
) ألَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أيْدِيَكُمْ ( .
قال الكلبي : نزلت في عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجهني وسعد بن أبي وقاص الزهري وكانوا يلقون من المشركين أذى كثيراً وهم بمكة قبل أن يهاجروا إلى المدينة فيشكون إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ويقولون يا رسول الله أئذن لنا في قتال هؤلاء فإنّهم آذونا فيقول لهم : ( كفّوا أيديكم ( عنهم ) فإني لم أُومَر بقتالهم ) .
فلما هاجروا إلى المدينة وأمرهم الله بقتال المشركين وأمرهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المسير إلى بدر فلما عرفوا إنه القتال كرهه بعضهم وشق عليهم فأنزل الله تعالى ) ألَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أيْدِيَكُمْ ( بمكة عن القتال ) وَأقِيمُوا الصَّلاةَ وَآ تُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القِتَالُ ( بالمدينة أي فرض ) إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ ( يعني مشركي مكة ) كَخَشْيَةِ اللهِ أوْ أشَدَّ ( أي أكبر ) خَشْيَةً ( .
وقيل : وأشد خشية كقوله آية ) وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القِتَالَ ( لَمِ فرضت علينا القتال ) لَوْلا أخَّرْتَنَا إلَى أجَل قَرِيب ( يعني الموت ألا تركتنا إلى أن نموت بآجالنا .
واختلفوا في قوله تعالى ) إذا فَرِيقٌ مِنْهُم ( فقال قوم : نزلت في المنافقين لأن قوله ) لِمَ كتبت علينا القتال ( أي لِمَ فرضت ، لايليق بالمؤمنين ، وكذلك الخشية من غير الله
(3/345)

" صفحة رقم 346 "
وقال بعضهم : بل نزلت في قوم من المؤمنين لم يكونوا راسخين في العلم ، وأهل الإيمان يتفاضلون في الإيمان منهم الكامل الذي لايخرجه إيمانه من غلبة الطبع عليه . ومنهم من ينقص عن تلك الحالة فينفّر نفسه عمّا يؤمر به فيما يلحقه فيه الشدة .
وقيل : نزلت في قوم كانوا مؤمنين فلما فرض عليهم الجهاد نافقوا عن الجهاد من الجبن ، وتخلفوا عن الجهاد .
ويدلّ عليه إن الله لايتعبد الكافر والمنافق بالشرائع بل يتعبدهم أولاً بالإيمان ثم بالشرائع فلما نافقوا نبّه الله على أحوالهم .
وقد قال الله مخبراً عن المنافقين ) أنهم آمنوا ثم كفروا ( ) قل ( يا محمّد لهم ) مَتَاعُ الدُّنْيَا ( أي منفعتها والاستمتاع بها ) قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ ( يعني وثواب الآخرة ) خَيْرٌ ( أفضل ) لِمَنِ اتَّقَى ( الشرك بالله ونبوة الرسول ) وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا ( .
قال ابن عباس وعلي بن الحكم : الفتيل الشق الذي في بطن النواة .
النساء : ( 78 ) أينما تكونوا يدرككم . . . . .
) أيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ ( أي ينزل بكم ) المَوْتُ ( نزلت في قول المنافقين لما أُصيب أهل أحد ، ) لَوْ كَانُوا عِنْدَنا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا ( فردَّ الله عليهم بقوله : ) أَيْنَما تَكُوْنُوا يُدْرِكُّكمُ الْمَوْت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوج مُشَيَّدَة ( .
قتادة : في قصور محصنة ، عكرمة : مجصّصة مشيّدة مُزيّنة ، القتيبي : مطولة .
الضحاك عن ابن عباس البروج : الحصون والآطام والقلاع .
وفي هذه الآية ردّ على أهل القدر ، وذلك أنّ الله حكى عن الكفار أنهم قالوا : ) لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا ( وقال : ) قَدْ أنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إذْ لَمْ أكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً ( ردَّ على الفريقين بقوله : ) أيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ ( فعرّفهم بذلك أن الآجال متى انقضت فلابد من زوال الروح ، ومفارقتها الأجسام .
فإن كان ذلك بالقتل ، وإلاّ فبالموت . خلافاً لما قالت المعتزلة من أن هذا المقتول لو لم يقتله هذا القاتل لعاش ، فوافق قولهم هذا الكفار ، فردَّ الله عليهم جميعاً ) إن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ ( الآية .
نزلت في المنافقين واليهود ، وذلك أنهم قالوا لما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة : ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ، ومزارعنا ، منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه ، فأنزل الله تعالى ) وإن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ ( يعني اليهود والمنافقين ، أي خصب ( وريف ) ورخص في السعر ) يَقُولُوا هَذِهِ
(3/346)

" صفحة رقم 347 "
مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ( يعني الجدب وغلاء السعر وقحط المطر ) يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ( أي من قوم محمد واصحابه .
وقال بعضهم : معناه إن تصبهم حسنة يعني الظفر والغنيمة ، يقولوا هذه من عند الله فإن تصبهم سيئة يعني بالقتل والهزيمة ، يقولوا هذه من جندك ، نزلت الذي حملتنا عليه يا محمد ) قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ ( أي الحسنة والسيئة كلها من عند الله .
ثم عيّرهم بالجهل .
فقال : ) مَا لِهَؤُلاءِ القَوْمِ ( يعني المنافقين واليهود ) لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ( أي ليسوا يفقهون قولاً إلاّ التكذيب بالنعمة .
قال الفراء : قوله فما لهؤلاء القوم كذبوا في الكلام ، حتى توهّموا إن اللام متصلة بها ، وإنهما حرف واحد ، ففصلوا اللام في هؤلاء في بعض المصاحف ، ووصلوها في بعضها والاتصال بالقراءة ، ولايجوز الوقوف على اللام لأنّها لام خافضة .
( ) مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الاَْمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِى الاَْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً فَقَاتِلْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً ( 2
النساء : ( 79 ) ما أصابك من . . . . .
) مَا أصَابَكَ مِنْ حَسَنَة ( أي من خير ونعمة ) فَمِنَ اللهِ وَمَا أصَابَكَ مِنْ سَيِّئَة ( أي بلية وأمر تكرهه ) فمن نفسك ( أي ، من عندك وأنا الذي قدرتهما عليك ، الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد به غيره ، نظيره .
قوله ) وَمَا أصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَة فَبِمَا كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ ( .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من خدش بعود ولا اختلاج عرق ولا عثرة قدم إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر )
(3/347)

" صفحة رقم 348 "
وروى الهروي عن سفيان بن سعيد عمن سمع الضحاك بن مزاحم يقول : ماحفظ الرجل القرآن ثم نسيه إلاّ بذنب ، ثم قرأ ) وَمَا أصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَة فَبِمَا كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ ويعفو عن كثير ( قال : فنسيان القرآن أعظم المصائب .
وقال بعضهم : هذه الآية متصلة بما قبله ، وتقديره : فما لهؤلاء القوم لم يكونوا يفقهون حديثاً حتى يقولوا : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيّئة فمن نفسك ؟ وتعلق أهل القدر بهذه الآية وقالوا : نفى الله السيئة عن نفسه بقوله ) وَما أصَابَكَ مِنْ مُصِيبَة فَمِنْ نَفْسِكَ ( ونسبها إلى العبد ، فيقال لهم : إن ما حكى الله تعالى لنبيه من قول المنافقين ، إنهم قالوا إذا أصابتهم حسنة ، هذه من عند الله ، فإن تصبهم سيئة يقولوا : هذه من عندك ، لم يرد به حسنات الكسب ، ولا سيئاته ، لأن الذي منك فعل غيرك بك لا فعلك ، ولذلك نسب إلى غيرك .
كما قال ) إن تمسسكم حسنة تسؤهم ( ) وإنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّروا بِمُوسى وَمَن مَعَهُ ( وكل هذه سبب من الأسباب لامن الكسب ألا ترى إنه نسبها إلى غيرك ، ولم يذكر بذلك ثواباً ولا عقاباً ، فلما ذكر حسنات العمل والكسب وسيآتهما نسبهما إليك وذكر فيها الثواب والعقاب . كقوله ) مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إلاَّ مِثْلَهَا ( وكان ما حكى الله عن المنافقين من قولهم في الحسنات والسيئات لم يكن حسنات الكسب ولا سيئاته ، ثم عطف عليه قوله ) مَا أصَابَكَ مِنْ حَسَنَة فَمِنَ اللهِ ( إلى نفسك فلم يكن بقوله ) فمن نفسك ( مثبتاً لما قد نفاه ، ولا نافياً لما قد أثبته ، لأن ذلك لايجوز على الحكيم جل جلاله ، لكن من السبب الذي استحق هذه المصيبة ، وكان ذلك من كسبه ، ومنه قوله ) وَمَا أصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَة فَبِمَا كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ ( فجعل هذه المصيبة جزاءً للفعل فإذا أوقع الجزاء لم يوقعه إلاّ على ما نسبه إلى العباد ، كقوله ) جزاء بما كانوا يعملون ( ) جزاءً بما كانوا يكسبون ( وقوله ) وَمَا أصَابَكَ مِنْ سَيِّئَة فَمِنْ نَفْسِكَ ( ليس فيه دليل على إنه لايريد السيئة ولا يفعلها ولكن ما كان جزاءً ، فنسبته إلى العبد على ( طريق ) الجزاء .
) وَأرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ ( يامحمد ) رَسُولا وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً ( على إنك رسول صادق .
وقيل فيك ) وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً ( على أن الحسنة والسيئة كلها من الله
النساء : ( 80 ) من يطع الرسول . . . . .
) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطَاعَ اللهَ ( وذلك أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول : ( من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبّني ( أحبّه الله ) ) ، فقال بعض المنافقين : ما يريد هذا الرجل إلاّ أن نتّخذه رباً ، كما في
(3/348)

" صفحة رقم 349 "
حديث النصارى لعيسى ، فأنزل الله تعالى ) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ ( فيما أمر به فقد أطاع الله ) وَمَنْ تَوَلَّى ( عنه ) فَمَا أرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ( أي حافظاً ورقيباً .
وقال القتيبي : محاسباً ، فنسخ الله تعالى هذه الآية الشريفة ، وأمره بقتال من خالف الله ورسوله
النساء : ( 81 ) ويقولون طاعة فإذا . . . . .
) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ ( يعني المنافقين وذلك إنهم كانوا يقولون لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنّا آمنّا بك فمرنا من أمرك طاعةً ، وهم يكفرون به في السر ، وقوله ( طاعة ) مرفوعة على معنى منّا طاعة وأمرك طاعة وكذلك قوله ( لا تقسموا طاعة ) مرفوعة أي قولوا ، سمعاً وطاعة ، وكذلك قوله ) فأولى لهم طاعة وقول معروف ( وليست مرتفعة إليهم بل مني مرتفعة على الوجه الذي ذكرت . ) فَإذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ ( أي خرجوا ) بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ ( أي زوّر وموّه وقيل هنا .
فقال قتادة والكلبي : بيّت أي غيّر وبدّل الذي عهد إليهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويكون السبب معنى التبديل .
قال الشاعر :
بيّت قولي عبد المليك
قاتله الله عبداً كفوراً
وقال القتيبي وأبو عبيدة : ( بيّت طائفة منهم ) أي قالوا وقدروا ليلاً غير الذي أعطوك نهاراً ، وكل شيء قدرّ بليل من شر فهو تبييت .
قال عبيدة بن الهمام :
أتوني فلم أَرض ما بيّتوا
وكانوا أتوني بشيء نكر
لأنكح أيّمهم منذراً
وهل ينكح العبد حر بحر
وقال النمر بن تولب :
هبت لتعذلني بليل أسمعي
سفهاً تبيتك الملامة فاهجعي
وقال أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش : يقول العرب للشيء إذا قدر قد بيّت ، يشبهونه تقدير بيوت ( الشعر ) .
) وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ ( أي ما يغيرون ويزورون ويقدرون .
الضحاك عن ابن عباس : يعني ما تسرّون من النفاق ) فَأعْرِضْ عَنْهُمْ ( يا محمد فلا تعاقبهم ) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلا ( أي كفيلاً ، وثقةً ، وناصراً بالانتقام لك منهم ، فنسخ الله
(3/349)

" صفحة رقم 350 "
تعالى قوله ) فَأعْرِضْ عَنْهُمْ ( بقوله : ) يَا أيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ ( بالسيف ) والمنافقين ( بالكلام الغليظ .
فإن قيل : ما وجه الحكمة في ( أعدائه ) ذكر مهلهم . ثم قال ( بيت طائفة منهم ) فصرف الخطاب من ( جلهم ) إلى بعضهم .
يقال : إذ إنما عَبر عن حال من علم الله وبقي على كفره ونفاقه ، فأما من علم أنه يرجع عن ذلك فإنه صفح عن ذكرهم ، وقد قيل : إنه غير عن حال من أحوالهم قد تستّر في أمره ، فأما من سمع وسكت فإنه لم يذكرهم ، وفي قوله ) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطَاعَ اللهَ ( دليل على إبطال قول من زعم أنّ السنّة تعرُض على الكتاب لم يعمل بها وذلك إن كل ما نص الله عز وجل ، عليه فإنّما صار فرضاً بالكتاب ، فإذا عدم النص من الكتاب ، وورد به السنّة فوجب إتباعها ، ومن خالفها فقد خالف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومن خالف رسول الله فقد خالف الله ، لأن في طاعة الرسول طاعة الله ، فمن زعم أنه لم يقبل خبره إلاّ بعد أن يعرض على كتاب الله ، فقد أبطل كلّ حكم ورد عنه ما لم ينصّ عليه الكتاب .
وأما قوله ) ويقولون طاعة ( ففيه دليل على أنّ من لم يعتقد الطاعة فليس بمطيع على الحقيقة ، وذلك أن الله تعالى لمّا تحقّق طاعتهم فيما أظهروه ، فقال : ويقولون ذلك لأنّه لو كان للطاعة حقيقة إلاّ بالاعتقاد لحكم لهم بها ( فثبت ) أنه لا يكون المطيع مطيعاً ، إلاّ باعتقاد الطاعة مع وجودها .
النساء : ( 82 ) أفلا يتدبرون القرآن . . . . .
) أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ ( يعني أفلا يتفكّرون في القرآن ، فيرون بعضه يشبه بعضاً ، ويصدق بعضه بعضاً ، وإن أحداً من الخلائق لم يكن يقدر عليه فسيعلمون بذلك إنه من عند الله إذ ) وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ( أي تفاوتاً وتناقضاً ) كَثِيراً ( هذا قول ابن عباس .
وقال بعضهم : ولو كان هو من عند غير الله لوجدوا فيه أي في الإخبار عما غاب عنهم . ما كان وما يكون إختلافاً كثيراً ، يعني تفاوتاً بيناً . إذا الغيب لايعلمه إلاّ الله فيعلم بذلك أنه كلام الله وأنّ محمداً رسول الله صادق ، وفي هذه الآية دليل على أنّ القرآن غير مخلوق إذ هو معرى عن الإخلاق من كل الجهات ولو كان مخلوقاً لكان لا يخلو من اختلاف وتفاوت .
النساء : ( 83 ) وإذا جاءهم أمر . . . . .
) وَإذا جَاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أوْ الخَوْفِ ( الآية ، وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يبعث السرايا فإذا غلبوا أو غُلبوا بادر المنافقون إلى الاستفسار عن حال السرايا فيفشون ويحدّثون به قبل أن يحدّث به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله ) وَإذا جَاءَهُمْ ( يعني المنافقين ، ) أمْرٌ مِنَ الأمْنِ (
(3/350)

" صفحة رقم 351 "
( كظفر المسلمين وقتل عدوّهم ) ) أو الخَوْفِ ( كالهزيمة والقتل . ) أذَاعُوا بِهِ ( أي أشاعوه وأفشوه ) وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ ( أي وإن لم يحدّثوا به ولم يفشوه حتى يكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) هو الذي يحدّث به ويفشيه ، وأولي الأمر أهل الرأي من الصحابة ، مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم .
) لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ ( .
الكلبي عن أبي صالح وابن عباس ، وعلي بن الحكم عن الضحاك : يستنبطونه أي يتّبعونه .
وقال عكرمة : يحرصون عليه ويسألون عنه ، وقال ابن عبيدة والقتيبي : يخرجونه ، ويقال : استنبط إستنبطه الماء إذا أخرجه .
( جويبر ) عن الضحاك عن ابن عباس في قوله ) وَإذا جَاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أوْ الخَوْفِ أذَاعُوا بِهِ ( إنّ المنافقين كانوا إذا أمُروا بالقتال لم يطيعوا الله فيما أمرهم به ، وإن نهاهم عن محارمه لم ينتهوا عنها ، وإن أفضى الرسول إليهم سراً أذاعوا به إلى العدوّ ليلاً بتكتّم ، فأنزل الله تعالى ردّاً عليهم ) وَلَوْ رَدُّوهُ ( يعني آمورهم في الحلال والحرام ( إلى الرسول ) في التصديق به والقبول ( وإلى أولي الأمر منهم ) يعني حملة الفقه والحكمة ) لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ منهم ( يعني الذين يفحصون عن العلم . ثم قال ) وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إلاَّ قَلِيلا ( أي معناه لاتّبعتم الشيطان كلّكم .
قال الضحاك : هم أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) يأمرهم بأمر من أمور الشيطان .
قال ابن عباس : فضل الله الإسلام ورحمته القرآن ( لاتّبعتم الشيطان إلاّ قليل ) يعني بالقليل الذي امتحن الله قلوبهم يعني على هذا القول يكون قوله ) إلاَّ قَلِيلا ( مستثنى من قوله ) لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ ( .
وقال بعضهم : في الآية تقديم وتأخير معناه : لعلمه الذين يستنبطونه إلاّ قليلاً .
وقال بعضهم : معناه : إذا أذاعوا به قليلاً لم يذع ولم يفش ، وهكذا قال الكلبي : واختار الفرّاء أيضاً هذا القول . وقال : لأنّ علم الله فاعتبر علمه المستنبط وغيره ، والإذاعة قد تكون في بعضهم دون بعض لذلك أُستحسن الاستثناء من الإذاعة ، وفي هذه الآية دليل ممن يحبون القول بالإجتهاد عند عدم النص .
قال الله تعالى ) وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإلَى أُوْلِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم ( فالعلم محيط بالاستنباط ، ليس تلاوة
(3/351)

" صفحة رقم 352 "
وإذا كان إدراكه بالاستنباط ، فقد دل بذلك على أن من العلم مايدرك بالتلاوة والرواية وهو النص .
ومنه ما يدرك منه ومن المعنى ، وحقيقة الاعتبار والاستنباط من القياس للحكم بالمعاني المودعة في النصوص غير الحكم بالنصوص
النساء : ( 84 ) فقاتل في سبيل . . . . .
) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ ( وذلك أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لما التقى هو وأبو سفيان بن حرب يوم أُحد وكان من هربهم ما كان ، ورجع أبو سفيان إلى مكة فواعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد قال الناس : اخرجوا إلى العدو .
فكرهوا ذلك كراهه شديدة أو بعضهم ، فأنزل الله تعالى ) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إلاَّ نَفْسَكَ ( أي لاتدع جهاد العدو وإنصاف المستضعفين من المؤمنين ولو وحدك .
وقيل : معناه لاتلزم فعل غيرك ولاتؤخذ به ولم يرد بالتكليف الأمر لأنه يقتضي على هذا القول ألا يكون غيره مأموراً بالقتال .
والفاء في قوله ( فقاتل ) جواب عن قوله ) وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْراً عَظِيماً ( فقاتل ) وَحَرِّضِ المُؤْمِنِينَ ( على القتال أي حثَّهم على الجهاد ورغّبهم فيه ، فتثاقلوا عنه ولم يخرجوا معه إلى القتال ، فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في سبعين راكباً حتى أتى موسم بدر ، فكفّ بهم الله تعالى بأس العدو ولم يوافقهم أبو سفيان ولم يكن له أن يُوافق ، فانصرف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أصحابه .
وذلك قوله ) عَسَى اللهُ ( أي لعل الله ) أنْ يَكُفَّ بَأسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ( أي قتال المشركين وصولتهم حين ولّيتم وهي من الله واجب ، حيث كان ، وقد جاء في كلام العرب بمعنى اليقين .
قال ابن مقبل :
ظنّي أنهم كعسى ، وهم بنتوفة
يتنازعون جوائز الأمثال
) وَاللهُ أشَدُّ بَأساً ( أي أشد صولة وأعظم سلطاناً وأقدر على مايريد ) وَأشَدُّ تَنكِيلا ( أو عقوبة .
فإن قيل : إذا كان من قولكم : إن عسى من الله واجب فقد قال الله ) عَسَى اللهُ أنْ يَكُفَّ بَأسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ( ونحن نراهم في بأس وشدة ، فأين ذلك الوعد ؟ فيقال لهم : قد قيل : إن المراد به الكفرة الذين كفّ بأسهم في بدر الصغرى ، والحديبية بقوله ) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ( الآية ، فإن كان ظاهرها العموم فالمراد منها الخصوص .
(3/352)

" صفحة رقم 353 "
وقيل : أراد به المدة التي أمر الله فيها القتال لزوال الكفر بقوله ) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ ( فعند ذلك يكف بأس الذين كفروا ، وهو الوقت . حتى ينزل فيه ( المهدي ) فيكون حكماً قسطاً ويظهر الإسلام على الدين كله .
وقيل : إن ذلك في القوم قذف الله في قلوبهم الرعب وأخرجهم من ديارهم وأموالهم بغير قتال من المؤمنين لهم وهذا بأس قد كفّه الله عن المؤمنين .
وقد قيل : إنه أراد به اليهود والنصارى وهم يعطون الجزية وتركوا المحاربة ، وقد كف بأسهم عن المؤمنين إذا صاروا يؤدّون الجزية صاغرين .
( ) مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مَّنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ مُّقِيتاً وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ حَسِيباً اللَّهُ لاإِلَاهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً فَمَا لَكُمْ فِى الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّى يُهَاجِرُواْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً سَتَجِدُونَ ءَاخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً ( 2
النساء : ( 85 ) من يشفع شفاعة . . . . .
) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً ( أي يحسن القول في الناس ويسعى في إصلاح ذات البين ) يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ ( أي حظ ) مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً ( فيسيء القول في الناس ويمشي بينهم بالنميمة والغيبة . ) يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها ( .
قال ابن عباس وقتادة : الكفل الوزر والإثم ، وقال الفراء وأبو عبيدة : الحظ والنصيب ، مأخوذ من قولهم : اكتفلت البعير إذا ( أدرت ) على سنامه أو موضع من ظهره كساءً وركبت عليه .
وقيل له : اكتفل لأنه لم يستعمل الظهر كلّه وإنما شغل شيئاً من الظهر .
وقال مجاهد : شفاعة حسنة وشفاعة سيئة شفاعة الناس وهم البعض .
) وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْء مُقِيتاً ( مقتدراً .
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : مقيتاً أي مقتدراً مجازياً بالحسنة حسنة يقال : أقات أي اقتدر .
(3/353)

" صفحة رقم 354 "
قال الشاعر :
وذي ضغن كففت النفس عنه
وكنت على مساءته مقيتاً
وأنشد النضر بن ( شميل ) :
ولا تجزع وكن ذا حفيظه
فأني عليَّ ما ثناه لمقيت
المبرد : قتّ الشيء أقوته وأقيته أي كففته أمر قوته ، ومجاهد : شاهداً ، وقال قتادة : حافظاً ، والمقيت للشيء الحافظ له .
وقال الشاعر ، في غير هذا المعنى :
ليت شعري وأشعرن إذا ما
قربوها منشورة ودعيت
إليّ الفضل أم عليّ إذا حوسبت
إنّي على الحساب مقيت
أي موقوف عليه وقال الفرّاء : المقيت المقتدر أن يعطي كل رجل قوته .
وجاء في الحديث : وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت ويقيت ، ثم نزل في قوم بخلوا برد السلام
النساء : ( 86 ) وإذا حييتم بتحية . . . . .
) وَإذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّة فَحَيُّوا بِأحْسَنَ مِنْهَا ( على المسلمين أي زيدوا عليها كقول القائل : السلام عليكم فيقول : وعليكم السلام ورحمة الله ونحوها ، ومن قال لأخيه المسلم : السلام عليكم كتب له بها عشر حسنات ، فإن قال : السلام عليكم ورحمة الله كتبت له عشرون حسنة ، فإن قال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كتب له ثلاثون حسنة ، وكذلك لمن ردّ من الأجر .
قال ابن عباس : ومن يسلم عشر مرات فله من الأجر عتق رقبة وكذلك لمن ردَّ السلام عشر مرات ) أوْ رُدُّوهَا ( بمثلها على أهل الكتاب وأهل الشرك فإن كان من أهل دينه فليزد عليه بأحسن منها ، وإن كان من غير أهل دينه فليقل وعليكم لايزيد على ذلك .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم ) .
) إنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْء حَسِيباً ( من رد السلام مثله أو بأحسن منه حسيباً أي حاسباً مجازياً .
وقال مجاهد : حافظاً . أبو عبيدة : كافياً مقتدراً ، يقال حسبي كذا أي كفاني
(3/354)

" صفحة رقم 355 "
وأعلم إن بكل موضع وجُد ذكرٌ كان موصولاً بالله فإن ذلك صلح للماضي ، والخبر هو المستدل ، فإذا كان لغير الله فإنه يكون على خلاف هذا المعنى .
ثم نزل في الذين أنكروا البعث
النساء : ( 87 ) الله لا إله . . . . .
) اللهُ لا إلَهَ إلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ( لاشك فيه ، واللام في قوله ليجمعنكم لام القسم ومعناه ، والله الذي لا إلاه إلاّ هو أعلم منكم في الموت وفي أحيائكم إلى يوم القيامة .
وسمّيت القيامة قيامة ، لأن الناس يقومون من قبورهم . قال الله تعالى ) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجْدَاثِ سِرَاعاً ( وقيل : سميت قيامة لقيامهم إلى الحساب . قال الله تعالى : ) يوم يقوم الناس لرب العالمين ( ) وَمَنْ أصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً ( أي قولاً ووعداً
النساء : ( 88 ) فما لكم في . . . . .
) فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ( الآية .
نزلت هذه الآية في ناس من قريش ، قدموا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة فأسلموا فأقاموا بها ثم ندموا على ذلك وأرادوا الرجعة ، فقال بعضهم لبعض : كيف نخرج ؟ قالوا : نخرج كهيئة البدو فإن فطن بنا قلنا : خرجنا نتنزّه ، وإن غفل عنّا مضينا ، فخرجوا بهيئة المتنزهين ، حتى باعدوا من المدينة . ثم كتبوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنّا على الذي فارقناك عليه من الإيمان والتصديق بالله وبرسوله ، ولكنا ( اجتوينا ) المدينة ، واشتقنا إلى أرضنا . ثم إنّهم خرجوا في تجارة لهم ، على الشام ، فبلغ ذلك المسلمين ، فقال بعضهم : ما يمنعنا أن نخرج إلى هؤلاء الذين رغبوا عن ديننا ، وتركوا هجرتنا ، وظاهروا على عدوّنا ، فنقتلهم ونأخذ مالهم وقالت طائفة منهم : كيف تقتلون قوماً على دينكم ، إن لم يذروا ديارهم ، وكان هذا بين يدي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو ساكت لاينهى واحداً من الفريقين ، حتى نزلت هذه الآية والآيات بعدها ، فبين الله تعالى للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) شأنهم .
وقال زيد بن ثابت : نزلت في ناس رجعوا يوم أحد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وكان أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فيهم فرقتين فرقة تقول : نقتلهم ، وفرقة تقول : لانقتلهم ، فنزلت فيهم هذه الآية وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي النار خبث الفضة ) يعني المدينة .
وقال قتادة : ذكرهما أنهما كانا رجلين من قريش بمكة تكلّما بالإسلام ولم يهاجرا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لقيهما ناس من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مقبلين إلى مكة فقال بعضهم : إنّ دماءهما وأموالهما حلال ، وقال بعضهم : لا ، ( جلَّ ذلك منا ) فأنزل الله تعالى ) فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ ( الآية .
(3/355)

" صفحة رقم 356 "
وقال عكرمة : هم ناس ممن قد صبوا ليأخذوا أموالاً من أموال المشركين فانطلقوا بها إلى اليمامة فاختلف المسلمون فيهم فنزلت فيهم هذه الآية .
وقال مجاهد : هم قوم خرجوا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى المدينة ثمّ ارتدّوا بعد ذلك واستأذنوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ليأتوا بضائع لهم يتاجرون فيها ، فخاف المسلمون منهم فقائل يقول : هم منافقون ، وقائل يقول : هم مؤمنون ، فبيّن الله تعالى نفاقهم .
وقال الضحاك : هم قوم أظهروا الإسلام بمكة فلما هاجر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لم يهاجروا فاختلف المسلمون فيهم ، فنزلت هذه الآية ( فمالكم ) يامعشر المؤمنين ( في المنافقين فئتين ) أي صرتم في المنافقين فئتين فمحلّ ومحرّم ، ونصب فئتين على خبر صار ، وقال بعضهم : نصب على إلاّ . ) وَاللهُ أرْكَسَهُمْ ( أي أهلكهم ، ولكنهم تركوهم بكفرهم وضلالتهم بأعمالهم غير الزاكية يقال : أركست الشيء ركسته أي نكسته ورددته ، وفي قراءة عبدالله : وإني والله أنكسهم ، وقال ابن رواحة :
أركسوا في فتنة مظلمة
كسواد الليل يتلوها فتن
) أتُرِيدُونَ أنْ تَهْدُوا ( أي ترشدوا إلى الهدى ) مَنْ أضَلَّ اللهُ ( وقيل : معناه : أيقولون أنّ هؤلاء يهتدون والله قد أضلّهم ) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ ( عن الهدى ) فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا ( أي ديناً وطريقاً إلى الهدى
النساء : ( 89 ) ودوا لو تكفرون . . . . .
) وَدُّوا ( أي تمنّوا ) لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء ( شركاء في ذلك مثلهم كفاراً ، ثمّ أمرهم بالبراءة منهم فقال ) فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله ( الثانية معكم .
قال عكرمة : هي هجرة أخرى وبيعة اخرى ، والهجرة على ثلاثة أوجه : أما هجرة المؤمنين أوّل الإسلام فمضى في قوله ) لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأمْوَالِهِمْ ( وقوله ) ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ( ، وأما هجرة ( المؤمنين ) فهي الخروج في سبيل الله مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صابراً محتسباً . قال الله ) حتى يهاجروا في سبيل الله ( ، وأما هجرة المؤمنين فهي أن يهجروا ما نهى الله عنه كما قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ) فَإنْ تَوَلَّوْا ( عن التوحيد والهجرة ) فَخُذُوهُمْ ( يقول اسروهم ) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ( يعني في الحل والحرم ) وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً ( يعني ما ينافي العون والنصرة ، وقوله ) لو تُدْهِنُ ( لم يرد به جواباً التمني لأن جواب التمني بالفاء منصوب بما أراد به الفسق على من نزل ) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ( وودّوا لو
(3/356)

" صفحة رقم 357 "
تكونون سواء مثل قوله تعالى : ) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ( أي ودّوا لو تدهن وودّوا لو تكفرون ، ومثله ) وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أسْلِحَتِكُمْ وَأمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ ( أي ودّوا لو تغفلون وودّوا لو تميلون ، ثم إستثنى طائفة منهم فقال
النساء : ( 90 ) إلا الذين يصلون . . . . .
) إلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إلَى قَوْم ( أي يتصلون بقوم وينتسبون اليهم يقال : إتصل أي انتسب ، وفي قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( من تعزى بعزاء الجاهلية فاعضوه ) أي من إدعى بدعوى الجاهلية .
قال الأعشى :
إذا اتصلت قالت لبكر بن وائل
وبكر سبتها والأنوف رواغم
أي إذا انتسب .
ويقال : يصلون من الوصول أي يلحقون إليهم إلى قوم ) بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ( أي عهد وهم ( الأسلميون ) وذلك إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وادع هلال بن عويمر الأسلمي عند خروجه إلى مكة على أن لا يعنيه ولا يعين عليه حتى أتى ويرى ، ومن وصل إلى هلال من قومه أو غيرهم ولجأ إليه فلهم من الجوار مثل الذي لهلال .
الضحاك عن ابن عباس : أراد بالقوم الذين بينهم وبينكم ميثاق . بني بكر بن زيد مناة وكانوا في الصلح والهدنة وقوله ) أوْ جَاؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ( أي ضاقت صدروهم عن قتالكم ، وهم بنو مدلج جاءوا المؤمنين ) أو يقاتلوا قومهم ( يعني من آمن منهم ، ويجوز أن يكون معناه إنهم لايقاتلوكم ولايقاتلون قومهم فعلم المؤمنون لا عليكم ولا عليهم ولا لكم .
وقال بعضهم : وبمعنى الواو . كانه يقول : إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق وجاءوكم ضيقت صدورهم عن قتالكم ، والقتال معكم ، وهم قوم هلال الأسلميون وبني بكر بن زيد ( مناة ) وقوله ) أوْ جَاؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ( أي قد حصرت ، كقول العرب أي ذهب ( نظره ) يريدون قد ذهب .
قال الفراء : سمع الكسائي بعضهم يقول : أصبحت فنظرت إلى ذات ( البساتين ) .
) وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ( يعني سلط الله المشركين على المؤمنين عقوبة ونقمة .
) فَإنْ اعْتَزَلُوكُمْ ( عند القتال ، ويقال يوم فتح مكة فهم يقاتلوكم مع قومهم ) وَألْقَوْا إلَيْكُمُ السَّلَمَ ( أي المسالمة والمصالحة ) فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا ( أي حجة في قتالهم ، وعلى دينهم فأمر الله رسوله بالكف عن هؤلاء
النساء : ( 91 ) ستجدون آخرين يريدون . . . . .
) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ ( غيرهم .
(3/357)

" صفحة رقم 358 "
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : هم أسد وغطفان ( قدموا ) المدينة ، وكانوا قد تكلموا بالإسلام ، وأقروا بالتوحيد ديناً وهم غير مسلمون .
وكان الرجل منهم يقول له قومه : بماذا أسلمت ؟ فيقول : هذا الرد بهذا العقرب والخنفساء .
وإذا لقوا محمداً وأصحابه قالوا : إنا على دينكم ، يريدون بذلك الأمن في الفريقين جميعاً ، فذلك قوله ) يُرِيدُونَ أنْ يَأمَنُوكُمْ ( ولا تعرضوا لهم ) وَيَأمَنُوا قَوْمَهُمْ ( ولا تعرضوا لهم يرضونكم ويرضونهم .
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس : التوحيد ، الذين كانوا بهذه الصفة ) كُلّما رُدُّوا إلَى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا ( يعني إذا دَعوا إلى الشرك رجعوا وعادوا إليه ودعوا عليه .
ثم بيّن لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) أمرهم فقال ) فَإنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ ( أي فإن لم يكفّوا عن قتالكم ويعتزلوكم حتى تسيروا ( . . . . . . ) ) وَيُلْقُوا إلَيْكُمُ السَّلَمَ ( أي المقاد والصلح ) وَيَكُفُّوا أيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ ( أي أهل هذه الهدنة ) جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً ( أي عهداً وحجة بيّنة في قتالهم .
( ) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىأَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَىإِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذالِكَ كُنتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً لاَّ يَسْتَوِى الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (
(3/358)

" صفحة رقم 359 "
النساء : ( 92 ) وما كان لمؤمن . . . . .
) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إلاَّ خَطَأً ( الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وذلك إنه أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بمكة قبل أن يهاجر رسول الله إلى المدينة وأسلم معه ، ثم خاف أن يظهر إسلامه لأهله ، وأن يبلغ أهل مكة إسلامه ، فخرج هارباً من مكة إلى المدينة ، ثم قدمها فكان أطماً من آطامها فتحصن فيه ، فجزعت لذلك امه جزعاً شديداً ، حين بلغها إسلامه ، وخروجه إلى المدينة ، فقالت : لابنها الحرث وأبي جهل بن هشام وهما أخواه لأمه ، والله لايظلني سقف ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى تأتوني به ، فخرج في طلبه وخرج معهم الحرث ابن زيد بن أبي أنيسة من الكعبة إلى المدينة ، فأتوا بالمدينة ، فاتوا عياشاً وهو في الأطم ( يعني الجبل ) فقالا له : إنزل فإن أمك لم يؤوها سقف بيت بعدك ، وقد حَلفت أن لا تأكل طعاماً ولا تشرب شراباً حتى ترجع إليها . ذلك عهد الله علينا ان لا نكرهك على شيء ولا نحول بينك وبين دينك ، فلما ذكروا له خرج اليهم ثم حلفوا بالله ، فنزل إليهم فأخرجوه من المدينة ، ثم أوثقوه بنسع فجلده كل رجل منهم مائة جلدة ، ثم قدموا به على أمه وهي أسماء بنت مخرمة ، فلما دخل قالت : والله لا أفكك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به .
ثم تركوه متروكاً موثقاً في الشمس ماشاء الله ثم أعطاهم الذي أرادوا فأتاه الحرث بن زيد ، فقال له : ياعياش هذا الذي كنت عليه ، فوالله لئن كان هدى لقد تركت الهدى ولئن كانت ضلالة لقد كنت عليها فغضب عياش من مقاله ، وقال : والله لا ألقاك خالياً أبداً إلاّ قتلتك ، ثم أن حارثاً بعد ذلك أسلم وهاجر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالمدينة وكان عياش يؤمئذ حاضراً ، ولم يشعر باسلامه فبينا عياش حاضر إذ لقي الحرث بن زيد ولما رآه حمل عليه فقتله فقال الناس : أي شيء ( صنعت ) إنه قد أسلم ، فرجع عياش إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله قد كان أمري وأمر الحرث ماقد علمت وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلته ، فنزل عليه قوله تعالى ) مَا كَانَ لِمُؤْمِن ( أي لا ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطئاً وليس معنى قوله ) وما كان ( على النفي وإنما هو على التحريم والنهي كقوله ) مَا كَانَ لَكُمْ أنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ ( .
ولو كان ذلك على النفي لما وجدت مؤمناً قتل مؤمناً قط لأنّ ما نفى الله لم يجز وجوده . كقوله تعالى ) مَا كَانَ لَكُمْ أنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا ( ولايقدر العباد على إنبات شجرها البتة .
وقوله تعالى ) إلاّ خطأً ( عندنا ليس من الأول للمعنى .
) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً ( البتة إلاّ أن المؤمن قد يخطىء في القتل وكفّارة خطأه ما ذكر بعده
(3/359)

" صفحة رقم 360 "
قال أبو عبيدة : العرب تستثني الشيء من الشيء فليس منه على اختصار وضمير ، أي ليس مؤمناً على حال ، إلاّ أن يقتل مخطئاً فإن قتله مؤمناً فعليه ، كذا وكذا ، ومثله قوله ) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالفَوَاحِشَ إلاَّ اللَّمَمَ ( واللمم ليس من الكبائر ومعناه إلاّ أن يلم بالفواحش والكبائر أي يقرب منها .
ومثله قول جرير :
من البيض لم تظعن بعيداً ولم تطأ
على الأرض إلاّ ذيل برد مرجّل
فكأنه قال : لم يطأ على الأرض إلاّ أن يطأ ذيل البرد فليس هو من الأرض .
وقال أبو خراش الهذلي :
أمست سقام خلاء لا أنيس به
إلاّ السباع ومرّ الريح بالغرف
الغرف متجر يعمل فيها الغرابيل ، وسقام واد لهذيل وكان أبو عمر الهذلي يرتع ذلك ومثله قول الشاعر :
وبلدة ليس بها أنيس
إلاّ اليعافير وإلاّ العيس
يقول : إلاّ أن يكون بها اليعافير والعيس .
وقال بعضهم : إلاّ ههنا معنى لكن فكأنه قال ) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِن أنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إلاَّ خَطَأً ( ولا عمداً إلاّ بحال . لكن إن قتله خطأ فكذا وكذا وهذا كقوله ) وَلا تَأكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ إلا أن تكون تجارة ( معناه لكن تجارة عن تراض منكم .
وقوله ) وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَة ( أي فعليه تحرير أي إعتاق ) رَقَبَة مُؤْمِنَة ( .
قال المفسرون : المؤمنة المصلية المدركة التي حصّلت الإيمان ، فإذا لم تكن المؤمنة جبرها الصغيرة المولود فما فوقه ممن ليس بها زمانة ) وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ ( أي كاملة إلى أهل القتيل الذين يرثهم ويرثونه ) إلاَّ أنْ يَصَّدَّقُوا ( أي يتصدقوا بالدية فيعفوا ويتركوا الدية .
) فَإنْ كَانَ مِنْ قَوْم عَدُوَ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُؤْمِنَة ( الآية على القاتل ولا دية لأهل القتيل ، لأنهم كفار محاربون ومالهم في المسلمين وليس بينهم وبين الله عهد ، ولا ذمّة وذلك ان الرجل كان يسلم ولا يسلم من تبعه غيره وقومه حرب للمسلمين فيصيبه الرجل .
(3/360)

" صفحة رقم 361 "
وروى حمّاد عن عطاء بن السائب عن ابن عباس قال : كان الرجل يسلم ، ثم يأتي قومه وهم مشركون ، فيمرّ بهم جيش من جيش النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( فيقتل فيمن يقتل فيعتق قاتله رقبة ولا دية له ) فنزلت هذه الآية ) فَإنْ كَانَ مِنْ قَوْم عَدُوَ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُؤْمِنَة ( وليست له دية ، وكان الحرث بن زيد قتل مؤمناً من قوم كانوا حرباً لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكان فيه تحرير رقبة ولم يكن فيه دية ولكنّه لم يكن بين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وبين قومه عهد ثم قال ) وَإنْ كَانَ مِنْ قَوْم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ( أي عهد فأصبتم رجلاً منهم ) فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَة مُؤْمِنَة ( على الفاعل ) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ( الرقبة ) فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ( لا تفرق بين صيامه ) تَوْبَةً مِنَ اللهِ ( وجعل الله ذلك توبة لقاتل الخطأ ) وَكَانَ اللهُ عَلِيماً ( بمن قتله خطئاً ) حَكِيماً ( فيمن حكم عليه .
والدية في الخطأ ، مائة من الإبل ، عشرون بنت مخاض ، وعشرون بنت لبون ، وعشرون حقّة ، وعشرون جذعة ، ويكلف العاقلة غير إبله وجعل دونها ، وإن لم يكن في بلده إبل كلّف إبل أقرب البلدان إليه ، فإن أعوزت الإبل فقيمتها بالدنانير أو بالدراهم كما قوّمها عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) وكان قد كلف الأعرابي الذهب والورق لأنه لم يجد الإبل ويؤخذ ذلك من القروي لإعواز الإبل .
فقال الشافعي في القديم : على أهل الذهب ألف دينار ، وعلى أهل الورق إثنا عشر ألف درهم .
وأما ( اسنان ) المغلظة في شبه العمد والعمد إذا ردَّ إلى الدية ليربطون خلفه ، ( . . . . . . ) حقّه ، وثلاثون جذعة .
النساء : ( 93 ) ومن يقتل مؤمنا . . . . .
) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ( الآية نزلت في معين بن ضبابة الكناني ، وذلك إنه وجد أخاه هشام بن ضبابة قتيلاً في بني النجار وكان مسلماً فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فذكر له ذلك فأرسل معه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) رجلاً من بني فهر ، فقال له : أيت بني النجار ؟ وأقرأهم السلام وقل لهم : إن رسول الله يأمركم ان علمتم قاتل هشام بن ضبابة فيقتص منه وإن لم تعلموا له قاتلاً أن تدفعوا له ديته فأبلغهم الفهري ذلك عن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : سمعاً وطاعة لله ولرسوله والله ما نعلم له قاتلاً ولكن نؤدي ديته قال : فأعطوه مائة من الإبل ثم إنصرفا راجعين إلى المدينة وبينهما وبين المدينة قريب غَرَّهُ الشيطان قال : فوسوس إليه ، فقال : أي شيء صنعت تقبل دية أخاك فيكون عليك سبّة أقتل الذي معك فيكون نفساً مكان نفس ومعك الدية
(3/361)

" صفحة رقم 362 "
قال : فغفل معين الفهري فرماه بصخرة فشدخ رأسه ، ثم ركب بعيراً منها وساق بقيّتها راجعاً إلى مكة كافراً ، فجعل يقول في شعره :
قتلت به فهراً وحملت عقله
سراة بني النجار ، أرباب فارع
وأدركت ثاري واضطجعت موسّداً
وكنت إلى الأوثان ، أوّل راجع
قول فيه ) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا ( بكفره ، وارتداده عن الإسلام .
حكم هذه الآية
فقالت الخوارج والمعتزلة : إنّها نزلت في المؤمن إذا قتل مؤمناً وهذا الوعيد لاحق به .
وقالت المرجئة : إنّها نزلت في كافر قتل مؤمناً ، فأما المؤمن إذا قتل مؤمناً فإنه لايدخل النار .
وقالت طائفة من أصحاب الحديث ، إنها نزلت في مؤمن قتل مؤمناً وواعد عليه مالبث إلاّ أن يتوب أو يستغفر .
وقالت طائفة منهم : كل مؤمن قتل مؤمناً فهو خالد في النار غير مؤيد ويخرج منها بشفاعة وجزاء وزعموا انه لا توبه لمن قتل مؤمناً متعمداً .
وعندنا أن المؤمن إذا قتل مؤمناً متعمداً فإنه لايكفر بفعله ولا يخرج عن الإيمان ، إلاّ إذا فعل ذلك على جهة الاستحلال والديانة .
فأما إذا لم يفعله على جهة الاستحلال والديانة فإنّ ديته قتيلاً ممن قتله وذلك كفارة له ، فإن كان تائباً من ذلك ولم يكن منقاداً ممن قيل كانت التوبة لهذا كفارة له .
وإن خرج من الدنيا بلا توبة ولا ( قود ) فأمره إلى الله إن شاء غفر له وأرضى خصمه بما شاء ، وإن شاء عذبه على فعله ثم يخرجه بعد ذلك إلى الجنة التي وعدها إن شاء الله لايخلف وعداً وترك المجازاة بالوعيد يكون تفضلاً ، وترك المجازاة بالوعد يكون خلفاً تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
والدليل على أن المؤمن لايصير بقتله المؤمن كافراً ولا خارجاً من الإيمان أنّ الله تعالى حين ذكر إيجاب القصاص سمّى القاتل مؤمناً بقوله ) يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى ( .
(3/362)

" صفحة رقم 363 "
والقصاص لايكون إلاّ في قتل العمد فسمّاهم مؤمنين وآخى بينهم كقوله : ) فمن عُفِيَ لهُ مِن أَخِيْهِ شيء ( فلم يرد به إلاّ أخوة الإيمان ، والكافر لايكون أخاً للمؤمن .
ثم قال ) ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ( وذلك لا يلحق الكفار ثم أوجب على المعتدين بعد ذلك عذاباً أليماً بقوله ) فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ ألِيمٌ ( .
ولم يرد مع مثلها الغضب ، ولا التخليد في النار ولا يسمى هذا العذاب ناراً ، والعذاب قد يكون ناراً وقد يكون غيرها في الدنيا ، ألا ترى إلى قوله ) يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأيْدِيكُمْ ( يعني القتل والأسر ، والدليل عليه قوله ) يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ ( مخاطباً المقاتلين فخاطب به المصلين ولو كان القتل يخرجهم من الإيمان ، لجاز مخاطبتهم به لذلك قال الله ) وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ( واقتتال الطائفتين كان على العمد أو على الخطأ ، والدليل عليه أيضاً ما روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنه كان يبلّغ أصحابه على أن لا يشركوا بالله شيئاً ولا يقتلوا النفس التي حرم الله إلاّ بالحق وعلى مافي القرآن ممن فعل من ذلك شيئاً ، فكان عليه أجراً فهو كفارة له ، ومن كفر بالله فأمره إلى الله عز وجل إن شاء غفر له وإن شاء عذبه ، ولو كان القاتل خارجاً عن الإسلام . لم يكن لقول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) معنى ، وروي أنّ مؤمناً قتل مؤمناً متعمّداً على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فلم يأمر القاتل بالايمان من فعله ولو كان ( كافراً ) أو خارجاً عن الإيمان . لأمره أولاً بالإيمان .
وقال : لطالب الدم أتعفو ؟ قال : لا ثم قال أتأخذ الدية ؟ قال : لا ، فأمره بقتله ثم أعاد عليه مرتين أو ثلاثة حتى قبل الدية ولم يحكم على القاتل بالكفر ، ولو كان ذلك كفراً لبينهُ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لأن بكفر كان قد حَرُمَ بها أهله عليه ، ولم يجز على الرسول الإغفال عنه لأنه الناصح ، الشفيق ، المبعوث بالتأديب والتعليم .
وقد روي عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنه قال : ( ثلاثة من أهل الإسلام . الكفّ عمّن قال : لا إلاه إلاّ الله لا نكفره بذنب ( ولا نخرجه من الإسلام بعمل ) ، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن تقوم الساعة ، والإيمان بالأقدار ) .
ودليل آخر على إن القاتل لا يصير كافراً بالقتل وهو أن الكفر من الجحود وأيضاً الشرك اضافة ، والقاتل لم يجحد ولم قبول الفرائض ولا أضاف إلى الله شركاء ، ولو جاز أن يكون كافراً من لم يأت بالكفر فجاز أن يكون مؤمناً من لم يأت بالإيمان ( . . . . . . ) .
(3/363)

" صفحة رقم 364 "
وقد تكلفت الخوارج والمعتزلة بهذه الآية .
وقيل : إن المؤمن إذا قتل مؤمناً متعمداً يدخل في النار مؤبداً لأنّ الله تعالى قال : ) خالداً فيها ( .
يقال لهم : إن هذه الآية نزلت في كافر قتل مؤمناً متعمداً .
وقد ذكرنا القصة فيه وسياق الآية وروايات المفسرين ( لها ) على أنّا لو سلمّنا إنّها نزلت في مؤمن قتل مؤمناً متعمداً ، فإنا نقول لهم : لِمَ قلتم إن الخلود هو التأبيد ، خبرونا عن قول الله ) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَر مِنْ قَبْلِكَ الخُلْدَ ( فما معنى الخلد ههنا في النار ، يقولون : إنه المراد به التأبيد في الدنيا .
والدنيا تزول وتفنى .
ومثله قوله ) أفَإنْ مِتَّ فَهُمُ الخَالِدُونَ ( وكذلك قوله ) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ( إنما يعني في الدنيا أفتقولون إنّه أراد به التأبيد ؟
فإن قالوا : لا ولابد منه ، فيقال لهم : قد ثبت أن معنى الخلود هو معنى التأبيد ، فكذلك يقول العرب : لأُودعنَّ فلاناً في السجن ، أفتقولون إنه أراد به التأبيد والسجن ينقطع ويفنى ؟
وكذلك المسجون يدخل ويخرج منه فإن قالوا : إن الله لما قال : ) وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ ( دَلَّ على كفره لأن الله لا يغضب إلاّ على من كان كافراً أو خارجاً من الإيمان .
قلنا : إن هذه الآية لاتوجب عليه الغضب لأن معناه ) فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ( ان يغضب عليه ويلعنه ، وما ذكر الله من شيء وجعله جزاء لشيء فليس يكون ذلك واجباً كقوله ) إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ( وكم محارب لله ولرسوله لم يحلّ به شيء من هذه المعاني . إلى أن فارق الدنيا . ) وَجَزَاءُ سَيِّئَة سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ( .
ولم يقل : أجزي بكل سيئة بسيئة مثلها .
ولو كان المعنيان في ذلك سواء لم يكن إذاً لقوله ) وَيَعْفُو عَنْ كَثِير ( معنى ، فكذلك ههنا .
ولو كان ذلك على معنى الوجوب
(3/364)

" صفحة رقم 365 "
كان لقوله ) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إنِّي إلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ( ووجدنا في لغة العرب . إنه إذا قال القائل : جزاؤه كذا ثم لم يجازه لم يكن كاذباً ، وإذا قال : أجزيه ، ولم يفعل كان كاذباً ، فعلم أن منهما فرضاً واضحاً يدل على صحة هذا التأويل .
ما روى العلاء بن المسيب عن عاصم بن أبي النجود عن ابن عباس .
قوله ) فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ( أي في جزائه إن شاء عذبه وان شاء غفر له .
وروى شعبة عن يسار عن أبي صالح قال : فهو جزاؤه إن جازاه فهو جزاؤه .
روى الحجاج بن الأسود عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله تعالى : ) فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ( قال : جزاؤه إن جازاه ( قال : فليس ) قوله ) وغضب عليه ولعنه ( من الأفعال الماضية .
ومتى قلتم أن المراد منه : فجزاؤه ذلك أن جازاه كان من الأفعال المستقبلة ؟ يقال لهم : قد يرد الخطاب بصفة الماضي والمراد المستقبل .
وهو قوله ) ونفخ في الصور ( ) وَحَشَرْنَاهُمْ ( ) وَقَالَ قَرِينُهُ ( كل ذلك يكون مستقبلاً ، وقد يرد بلفظ المستقبل ، والمراد به الماضي كقوله ) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلاَّ أنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ ( .
بمعنى إلاّ ان آمنوا ، ومثله كثير ، وقد قيل في تأويل هذه الآية : إن هذا الوعيد ) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ( مستحلاً لقتله ، وأما قوله : من زعم أنه لا توبة له فأنه خارج من الكتاب والسنّة . وذلك يغفر الله لهم الذنوب .
وأمر بالتوبة منها فقال ) وَتُوبُوا إلَى اللهِ جَمِيعاً ( ونحوه من الآيات . ولم يفصل بين ذنب وذنب ، وإذا كان الله قابل التوبة من الكفر فقبول التوبة من القتل أولى . .
قال الله ) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إلَهاً آخَرَ ( إلى قوله ) وَعَمِلَ صَالِحاً ( وقال إخوة يوسف ) اقْتُلُوا يُوسُفَ ( ثم قال ) وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ ( يعني بالتوبة وسُئل النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أمن كل ذنب يقبل التوبة ؟ فقال : نعم ، فإن قيل : فلم يقولون في الاخبار التي وردت أنّ القاتل لا توبة له ؟ قيل : تأويلها إن صح الخبر بها على أنه إذا لم يرتكب ذنباً ولم يستغفر الله منه ويدل على هذا ما حدّث :
(3/365)

" صفحة رقم 366 "
خالد بن دهقان عن أبي زكريا قال : سمعت أم ( الدرداء ) تقول : سمعت أبا الدرداء يقول : سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( كل ذنب عسى الله أن يغفر إلاّ من مات مشركاً أو قتل مؤمناً متعمداً ) .
قال خالد بن دهقان : فقال هاني بن كلثوم : سمعت محمود بن ربيع يحدّث عن عبادة بن الصامت عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من قتل مؤمناً ثم اغتبط بقتله لم يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ) .
قال خالد : سألت يحيى بن يحيى الغساني عن قوله : اغتبط بقتله ، قال : هم الذين يقتتلون في الفتنة فيقتل أحدهم فيرى أنه على هدى ولا يستغفر الله منه أبداً .
سفيان عن أبي حصين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لا أعلم للقاتل توبة إلاّ أن يستغفر الله .
وروى أبو الأشهب عن سليمان بن علي الكلبي عن الحسن أنه قرأ هذه الآية ) من أجل ذلك كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ ( إلى قوله ) جميعاً ( . هات يا أبا سعيد ، أي علينا كما كانت على بني إسرائيل .
فقال : إي والله الذي لا إلاه إلاّ هو ما جعل دماء بني اسرائيل أكرم من دمائنا ، فإن قيل : فما تقولون فيما روى سفيان عن المغيرة بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ( قال : ما ( نسخها ) شيء .
وروى الحجاج عن ابن جريج عن القاسم بن أبي ( بزة ) أنه سأل سعيد : هل لمن قتل مؤمناً من توبة ؟ فقال : لا ، فنزلت عليه الآية ) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إلَهاً آخَرَ ( إلى قوله ) إلاَّ مَنْ تَابَ ( .
قال سعيد : فقرأها عليّ ابن عباس ( كما قرأتها ) عليّ فقال : هذه مكّية نسختها أي مدنية التي في سورة النساء .
وروى أبو الزناد عن خارجة بن زيد عن أبيه زيد بن ثابت قال : لما نزلت هذه الآية التي
(3/366)

" صفحة رقم 367 "
في الفرقان ) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إلَهاً آخَرَ ( إلى قوله ) إلاَّ مَنْ تَابَ ( عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت في سورة النساء ) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ ( الآية فنسخت الغليظة اللينة يقال : إن الغليظة نزلت بعد اللينة بستة أشهر .
نقول ومن الله التوفيق : إن قول المفسرين واختلافهم في الآيتين أيهما أنزلت قبل ، وقوله : إن واحدة منها ناسخة والأخرى منسوخة فلا فائدة منه إذ ليس سليماً سبيل الناسخ والمنسوخ ، لأن النسخ لايقع في الأخبار ، وإنما يقع في الأحكام والآيتان جميعاً ( خبر أنّ ) .
فإن تكن الآية التي أنزلت في النساء أولاً فإنها مجملة لم يستوف حكمها بالنص .
وفسر حكمها في الآية التي في الفرقان .
وإن كانت هي في الفرقان نزلت متقدمة . ثم أُنزلت التي في النساء فإنه استغنى بتفسير ما في القرآن عن إعادة تفسيرها في النساء والله أعلم .
وأما قول من زعم أن من وافى القيامة وهو مرتكب الكبائر . وهو مؤمن لم يضره ذلك فإنه ( رادّ ) لكتاب الله تعالى لأن الله تعالى قال ) إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ( ، فلم يطلق المغفرة لما دون الشرك بل ردّه إلى المشيئة ليعلم إن منه ما يكون مغفوراً أي ما يكون صاحبه معذوراً ثمّ يخرج من النار فلا يؤبد فيها ، ويؤيد ذلك . قضية الشفاعة وغيرها .
فدلت هذه الدلائل على بطلان قول الوعيدية والمرجئة ، وصحة قولنا ، فهذا حكم الآية .
النساء : ( 94 ) يا أيها الذين . . . . .
) يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ( الآية .
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في رجل من بني مرة بن عوف بن سعد ( بن ذبيان ) يقال له : مرداش بن نهيك وكان من أهل فدك وكان مسلماً لم يسلم من قومه غيره ، فسمعوا بسرية لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) تريدهم وكان على السرية يومئذ رجل يقال له غالب بن فضالة الليثي فهربوا وأقام الرجل لأنهُ كان على دين المسلمين .
فلما راى الخيل خاف أن تكون من غير أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فألجأ غنمه إلى عاقول في الجبل وصعد هو إلى الجبل ، فلما تلاحقت الخيل سمعهم يكبّرون ، فلما سمع التكبير عرف أنهم من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكبّر فنزل وهو يقول : لا إلاه إلاّ الله محمد رسول الله السلام عليكم فتغشاه أُسامة بن زيد بن حارثة فقتله وأخذوا غنمه ثم رجعوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبروه الخبر فوجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من ذلك وجداً شديداً
(3/367)

" صفحة رقم 368 "
وقد كان سبقهم قبل ذلك الخبر .
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( قتلتموه إرادة ما معه ) ثم قرأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) هذه الآية على اسامة بن زيد فقال : يا رسول الله استغفر لي وقال : ( فكيف بلا إلاه إلاّ الله ) قالها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثلاث مرات .
قال أُسامة : فما رآني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعدها حتى وددت أني لم أكن أسلمت إلاّ يومئذ ثم إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) استغفر لي بعد ، ثلاث مرات . فقال : إعتق رقبة .
وبمثله قال قتادة ، وروى سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس . قال : مرّ رجل من بني سليم على نفر من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) معه غنم فسلّم عليهم فقالوا : ما سلم عليكم إلاّ متعوّذاً ، فعمدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه فأتوا بها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله ) يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ( .
وروى المبارك عن الحسن أنّ أُناساً من المسلمين لقوا أُناساً من المشركين فحملوا عليهم فهزموهم قال : فشدَّ رجل منهم وتبعه رجل وأراد متاعه فلما غشيه بالسيف . قال : إني مسلم إنّي مسلم وكذّبه ثم أوجره السنان فقتله وأخذ متاعه .
قال : وكان والله قليلاً نزراً .
قال : فرفع ذلك إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : أقتلته بعد ما زعم أنه مسلم ، فقال : يا رسول الله إنما قالها متعوذاً ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( فهلاّ شققت عن قلبه ؟ ) .
قال : لِمَ يا رسول الله ؟ قال : ( لتنظر صادقاً كان أو كاذباً ) قال أو كنت أعلم ذلك يا رسول الله ؟ قال : ( إنما ينبىء عنه لسانه ) قال : فما لبث القاتل أن مات ودفن فأصبح . وقد وضع إلى جنب قبره ، ثم عادوا فحفروا له فأمكنوا ودفنوه فأصبح وقد وضع إلى جنب قبره مرتين أو ثلاثاً فلما رأى أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن الأرض لا تقبله أخذوا رجله وألقوه في بعض تلك الشعاب ، قال : فأنزل الله ) يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ( الآية .
قال الحسن : أما ذاك ما كان أن تكون الأرض ( تحبس ) من هو شر منه ولكن وعظاً لقوم أن لا يعودوا إلى مثل فعله .
) يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ( أي إذا سرتم في الأرض مجاهدين ) فَتَبَيَّنُوا ( يعني المؤمن من الكافر ، ومن قرأ بالتاء والثاء أي قفوا حتى تعرفوا المؤمن من الكافر
(3/368)

" صفحة رقم 369 "
) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ( لأن تحية المؤمن السلام بها يتعارفون وبها يحيي بعضهم بعضاً .
قال : ابن سيرين : إنما قال : ( إليكم ) لأنه سلّم عليهم رجل فقتلوه ومن قرأ السّلام فمعناه المقادة يعني يطلبون بذلك الغنم والغنيمة وسلب وعرض الدنيا منافعها ومتاعها ، ويقال : العرض ماسوى الدراهم والدنانير ) فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ( يعني ثواباً كثيراً لمن ترك قتل المؤمن ) كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ ( تأمنون في قومكم من المؤمنين بلا إلاه إلاّ الله قبل الهجرة فلا تخيفوا من قالها ، فنهاهم أن يخيفوا أحداً بأمر كانوا يأمنون بمثله وهم في قومهم ) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ ( بالهجرة ) فَتَبَيَّنُوا ( أن تقتلوا مؤمناً ) إنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ ( من الخير والشر ) خَبِيراً ( .
روى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله ) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ( ، قال : حرّم الله على المؤمن أن يقول لمن عهد أن لا إلاه إلاّ الله : لست مؤمناً ، كما حرّم عليهم الميتة فهو آمن على ماله ودمه فلا يردّوا عليه قوله ( وهو مؤمن ) .
زعم ابن ( سيرين ) هو القول بهذه الآية .
وقالوا لما قال الله ) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ( منعهم من قبلهم بعد اظهارهم الإسلام ولم يكن ذلك إلاّ قولهم فلولا أن الإيمان هو القول ، وذلك أن القوم لما شكّوا في حال أصله كان هذا القول منه تعوذاً ؟ فقتلوه والله تعالى لم يجعل إلى عبده غير الحكم بالظاهر .
وقد قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أُمرتُ أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إلاه إلاّ الله ) وليس في ذلك أن الإيمان هو الإقرار فقط ) . ألا ترى أنّ المنافقين كانوا يقولون هذا القول . ثم لم يكن ذلك ايماناً منهم .
وقد تبين من معنى هذه الآية ان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( هلا شققت عن قلبه ) فثبت أن الإيمان هو الإقرار وغيره ، وأنّ حقيقة التصديق بالقول ، ولكن ليس للعبد حكم إلاّ على ما سمعه منه فقط ، وفي هذه الآية ردٌّ على أهل القدر وهو أنّ الله تعالى أخبر أنه منَّ على المؤمنين من بين جميع الخلق . ممن خصّهم بالتوفيق فصاروا مخصوصين بالإيمان وأنّ الله لو خلق الخلق كلّهم للإيمان . كما زعمت القدرية فما معنى اختصاصهم بالمنة من بين الخلق كلّهم ، وبالفصل بينهم وبين من قال إنّ المتنعم في الإيمان بالله إذ كانوا مساوين لغيرهم في جميع المعاني فأقروا ولم يعاندوا كما عاند غيرهم منع مساواتهم لهم في جميع المعاني
(3/369)

" صفحة رقم 370 "
النساء : ( 95 ) لا يستوي القاعدون . . . . .
) لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ ( الآية .
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : لما ذكر الله فضيلة المجاهدين على القاعدين عن غيرهم في الجهاد أتى عبد الله بن أم مكتوم وعبد الله بن جحش الأسدي وليس الأزدي وهما عميان فقال : يا رسول الله ذكر الله فضيلة المجاهدين على القاعدين فأمر بالجهاد وحالنا على ماترى ونحن نلبي الجهاد فهل لنا من رخصة فنزل ) غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ ( في البصر فهم من الذين جاهدوا مع المجاهدين لزمانتهم .
وروى مجاهد عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : لما نزلت هذه الآية ) لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ( قال ابن أم مكتوم : اللهم أنزل عذري ، فنزلت ( غير أولي الضرر ) فوضعت بينهم وكان بَعد ذلك يغزو ويقول إدفعوا إليّ اللواء ويقول : أقيموني بين الصفين فإني لا ( استطيع ) أن أفرّ .
معمر عن ابن شهاب عن زيد بن ثابت قال : كنت جالساً عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وفخذه على فخذي وقد أملى عليّ ) لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ( فعرض ابن أم مكتوم قال : فبقيت فخذ رسول الله على فخذي حتى كادت تتحطّم ونزلت عليه ) غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ ( وبقية الآية ) لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ( عن الغزو أو الجهاد ، الذين هم غير أولي الضرر وهم أولي الزمانة والضعف في الدين والبصر ، والضرر مصدر ، يقال : رجل ضرير من الضرر .
وروى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أولي . الضرر .
) وَالمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأمْوَالِهِمْ وَأنفُسِهِمْ ( أي ليس المؤمنين القاعدون عن الجهاد من غيرهم والمؤمنون المجاهدون غير أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين ، لأن الضرر أقعدهم عنه والضرر رفع على نعت القاعدين ، ونُصِبَ على الاستثناء ) فَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ بِأمْوَالِهِمْ وَأنفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً ( أي فضيلة ) وَكُلاّ ( يعني المجاهد والقاعد ) وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى ( ومن يجاهد ( الجنّة ، وزاد ) من فضل المجاهدين فقال ) وَفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أجْراً عَظِيماً }
النساء : ( 96 ) درجات منه ومغفرة . . . . .
) دَرَجَات مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ( قال : كان يقال : الإسلام درجة ، والهجرة في سبيل الله درجة ، والجهاد في الهجرة درجة والقتل في الجهاد درجة .
وقال ابن ( محيريز ) في هذه الآية : هي سبعون درجة مابين كل درجتين عدد ( حضر الفرس الجواد المضمر ) سبعين خريفاً .
(3/370)

" صفحة رقم 371 "
2 ( ) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِىأَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى الاَْرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُوْلَائِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً وَمَن يُهَاجِرْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِى الاَْرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى الاَْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلواةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَواةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَىأَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَواةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلَواةَ إِنَّ الصَّلَواةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً ( 2
النساء : ( 97 ) إن الذين توفاهم . . . . .
) إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أنفُسِهِمْ ( الآية . نزلت في ناس من أهل مكة دخلوا في الإسلام ولم يهاجروا ، منهم قيس بن الفاكه بن المغيرة . وقيس بن الوليد بن المغيرة وانهم أظهروا الإيمان وأسرّوا النفاق فلما كان يوم بدر خرجوا مع المشركين إلى حرب المسلمين فلما التقى الناس .
ورأوا قلة المؤمنين قالوا : غرّ هؤلاء دينهم ، فقتلوا يوم بدر فضربت الملائكة وجوههم وأدبارهم وهزموهم ، فذكر الله تعالى ) إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ( أي يقبض أرواحهم ملك الموت .
وقوله ) توفّاهم ( إن نَصَبْتَ جعلته ماضياً فيكون في موضع النصب وإن نصبت أمسى فيكون على مستقبل ومعنى ) تتوفاهم ( وأراد بالملائكة ملك الموت لأن الله تعالى قد يحمل الخطاب في موضع ويفسره في موضع فيكون الحكم للمفّسر فيرد عهد الله وقوله ) إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ( يحتمل أن يكون أراد به ملك الموت واحتمل أن يكون غيره لكنه لمّا فسّره في موضع آخر بقوله ) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ( علم أن المراد بقوله ( توفاهم الملائكة ) ملك الموت والله أعلم .
فإن قيل : فلم أخرجه بلفظ الجماعة ؟ قيل : قد يرد الخطاب بلفظ الجمع والمراد به الواحد كقوله عز وجل ( انا نحن ) ولا عليك إن الله واحد .
(3/371)

" صفحة رقم 372 "
ومثله في القرآن كثير وقوله ( ظالمي ) ظالمي أنفسهم بالشرك ، والنفاق ، ونصب ظالمي على الحال من ( توفاهم الملائكة ) في حال تحملهم أي شركهم ) قَالُوا ( يعني الملائكة .
) فِيمَ كُنتُمْ ( أي فيماذا كنتم ؟ سؤال تقريع وتوبيخ ويجوز أن يكون معناه : فيمن كنتم أفي المشركين أم في المسلمين ؟
) قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ ( أي مقهورين عاجزين ) فِي الأرْضِ ( يعني أرض مكة فأخرجونا معهم كارهين ) قَالُوا ( يعني الملائكة ) ألَمْ تَكُنْ أرْضُ اللهِ ( يعني أرض المدينة ) وَاسِعَةً ( أي آمنة ) فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ( فتضلّوا بها وتخرجوا من بين أظهر مكة .
وروى سليمان بن عمرو عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن سعيد بن جبير في قوله ) ألَمْ تَكُنْ أرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ( قال إذا عمل بالمعاصي في أرض فأُخرج منها .
وروى سليمان بن عمرو عن عباد بن منصور بن الناجي عن الحسن قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من فرَّ بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجب به الجنة وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) .
فأكذبهم الله عز وجل وإنّما أنّهم كانوا مستطيعين الهجرة فقال ) فَأُوْلَئِكَ مَأوَاهُمْ ( أي منزلهم ) جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً ( أي بئس المصير إلى جهنم .
ثم استثنى أهل مكة منهم فقال :
النساء : ( 98 ) إلا المستضعفين من . . . . .
) إلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ ( يعني المؤمنين المخلصين المقهورين بمكة لم يستطيعوا الهجرة ومنعوا من اللحوق بالنبي ( صلى الله عليه وسلم ) ويتجهزون للحوق به ) مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ ( والمستضعفين نصب على الاستثناء من مأواهم ) لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً ( لا يقدرون على حيلة ولاقوة ولانفقة للخروج منها ) وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا ( لا يعرفون طريقاً إلى الخروج منها وقال : إنّما يعني طريق المدينة قال ابن عباس : كنت أنا وأمي من الذين لايستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً وكنت غلاماً صغيراً
النساء : ( 99 ) فأولئك عسى الله . . . . .
) فَأُوْلَئِكَ ( الذين هم بهذه الصفة ) عَسَى اللهُ أنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ( أي يتجاوز ) وَكَانَ اللهُ عَفُوّاً غَفُوراً ( وفي هذه الآية دليل على إمكان قول مَنْ قال إن الإيمان هو الأقرار فقط وذلك إن هؤلاء القوم كانوا قد أظمروا الإقرار فلم ينفعهم ذلك بعد أن لم تكن سرائرهم موافقه لأقوالهم
النساء : ( 100 ) ومن يهاجر في . . . . .
) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ ( أي في طاعة الله ) يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً ( .
مجاهد : مراغماً كثيراً : أي متزحزحاً على كره .
علي بن أبي طلحة : عن ابن عباس ، وعليّ بن الحكم عن الضحاك : المراغم : السهول من الأرض إلى الأرض .
(3/372)

" صفحة رقم 373 "
أما السعة فسعة من الرزق ، وبه قال مقاتل بن حيان .
وقال أبو عبيدة : المراغم والمهاجر واحد ، يقال : راغمت قومي وهاجرتهم وهو المضطرب ، والمُذهب في الأرض .
قال النابغة الجعدي :
كطود يلاذ بأركانه
عزيز المراغم والمهرب
وقال الشاعر :
إلى بلد غير داني المحل
بعيد المراغم والمضطرب
قال القيسي : فأصله أن الرجل كان إذا أسلم خرج من قومه مراغماً أي مغاضباً لهم ومهاجراً أي مقاطعاً عن دينهم ، وقيل للمذهب مراغم وللمصير للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) هجرة لأنها كانت هجرة الرجل قومه .
وقيل : إن أصله من الرغام وهو التراب أي راغمته أي هاجرته ولم أبال وإن رغم أنفه أي ألصق بالتراب .
فلما نزلت هذه الآيات سمعها رجل من بني ليث شيخ كبير ( وضيئاً ) يقال له : جندع فقال : والله ما أنا ممن استثنى الله وإني لأجد حيلة وإن لي من المال ما يبلغني المدينة وأبعد منها ، والله لا أبقى الليلة بمكة ، أخرجوني ، فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به إلى التسنيم فأدركه الموت بها فصفق يمينه على شماله . ثم قال : هذه لك هذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك فمات شهيداً فأتى خبره أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : لو وافى المدينة لكان مهاجراً ، وقال المشركون وضحكوا منه ما أدرك هذا ما طلب ، فأنزل الله تعالى ) وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ ( قبل بلوغه إلى مهاجره ) فَقَدْ وَقَعَ أجْرُهُ ( أي وجب ثوابه ) عَلَى اللهِ ( بإيجابه ذلك على نفسه ) وَكَانَ اللهُ غَفُوراً ( كان منه في حال الشرك ) رَحِيماً ( بما كان منه في الإسلام .
النساء : ( 101 ) وإذا ضربتم في . . . . .
) وَإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ ( أي هاجرتم فيها ) فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ( أي حرج وإثم ) أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ( يعني من الأربع ركعات إلى ركعتين ) إنْ خِفْتُمْ ( أي علمتم ) أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ( في الصلاة ) إنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً ( مجاهراً بعداوته وقال : ( . . . . ) عدوا بمعنى أعداء والله أعلم
(3/373)

" صفحة رقم 374 "
قوله ) إذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ( .
تمام الكلام ههنا .
ثم أصبح يقصر صلاة المسافر واو العطف فقال : ( فإن خفتم ان يفتنكم الذين كفروا ) يريد فإن خفتم وهو حرف شرط وفي القرآن مثل هذا كثير أي خفي الخبر بتمامه ثم عطف عليه حرف منفصل عنه في الباطن وهو في الظاهر كالمتصل كقوله ) الآنَ حَصْحَصَ الحَقُّ أنَا رَاوَدتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ( الآية .
هذا اعتراف امرأة العزيز ثم وصل بها حكاية أُخرى عن يوسف وهو قوله ) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ ( لأن بعد الاعتراف بالذنب لا معنى لقولها ) لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ ( .
وفي التفسير : أنَّ يوسف لما قال هذه المقالة . قال له جبرئيل ( عليه السلام ) ولا حين هممت ؟ وعندئذ قال يوسف ) وما أُبرئ نفسي ( ومثل قوله تعالى ) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ( وقال : ) مَا كَانَ لَهُمُ الخِيَرَةُ ( افتتاح كلام آخر يريد به النفي لأنه لو كان متصلاً بأول الكلام كان معناه ( . . . . ) .
قال : وحَمْل الآية على نحو ما أشرنا إليه من النظم يفيد زيادة معنى وهو وجوب القصر في السفر من غير خوف نص الآية لأنك متى مافصلت قوله تعالى ) أنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ( متصلاً بذكر قصر الصلاة لزمك أن تقول قصر الصلاة في السفر من غير خوف بالسنّة وأن السُنّة ناسخة الكتاب ، قيل : على زيادة معنى مع إستقامة نظمها أولى من حملها على غيرها .
حكم الآية
اختلف أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ومن بعدهم في إتمام الصلاة في السفر أربع ركعات ولكن أُبيح له القصر تخفيفاً عنه وإليه ذهب الشافعي ، ورجّح الوجوب طلحة بن عمرو عن عطاء بن أبي رباح عن عائشة رضي الله عنها قالت : كل ذلك قد فعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بعسفان في غزوة بني لحيان .
النساء : ( 102 ) وإذا كنت فيهم . . . . .
) وَإذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ( الآية .
روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وجابر قالا : إن المشركين لما رأوا أن رسول
(3/374)

" صفحة رقم 375 "
الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ( قاموا إلى ) صلاة الظهر يصلّون جميعاً ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يؤمهم ندموا على تركهم إلاّ كانوا كبراً عليهم فقال بعضهم لبعض : دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحبَّ إليهم من آبائهم وأبنائهم يعني صلاة العصر . وإذا رأيتموهم قد قاموا فيها فشدّوا عليهم فاقتلوهم .
فلما قاموا إلى صلاة العصر نزل جبرئيل ( عليه السلام ) فقال : يا محمد إنها صلاة الخوف فإن الله يقول ) وَإذَا كُنتَ فِيهِمْ ( مقيماً يعني شهيداً معهم ) فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ( ) فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأخُذُوا أسْلِحَتَهُمْ فَإذَا سَجَدُوا ( إلى آخر الآية قال : فعلمه جبرئيل صلاة أُخرى .
فلما قام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الصلاة وقف أصحابه صفين ثم كبر فكبروا جميعاً ، ثم إن الصف الآخر استقبلوا العدو بوجوهم يحمون النبي وأصحابه ، فصلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بالصف الذي معه ركعة وسجدتين ثم قاموا وكبروا وراءهم من غير أن يتكلموا إلى مصاف أصحابهم ونكص آخرون حتى قاموا خلف رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فصلى بهم ركعة وسجدتين ثم تشهد وسلم ثم قام الصف الذي خلفه فرجعوا إلى مصاف أصحابهم ، وكانت لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ركعتان وأربع سجدات والقوم ركعة وسجدتين وصلى كل إنسان منهم لنفسه ركعة وسجدتين .
كيفية صلاة الخوف
اختلف العلماء في كيفية صلاة الخوف .
فقال الشافعي : إذا صلى في سفر صلاة الخوف من عدو غير مأمون ، صلى الإمام بطائفة ركعة وطائفة فجاءه العدو فإذا فرغ العدو قام فلبث قائماً وأطال وأتمم الطائفة للركعة التي بقيت عليها يقرأ بأم القرآن وسورة ، ويخفف ويسلم وينصرف فيقف وجاءه العدو ، ويأتي الطائفة الأُخرى فيصلي بها الإمام الركعة الثانية التي بقيت عليه فيقرأ فيها بعد إتيانهم بأم القرآن وسورة قصيرة ويثبت جالساً وتقوم الطائفة تتم لنفسها الركعة التي بقيت عليها بأم القرآن وسورة قصيرة ثم تجلس مع الإمام كل واحدة منهما مع إمامها ما أحدثت الأُخرى منه .
واحتج بقول الله تعالى . ) وَإذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ ( الآية .
فاحتج أيضاً بأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فعل ذلك يوم ذات الرقاع .
وروى معاوية عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله ) وَإذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ( قال : هذا في الصلاة عند الخوف يقيم الإمام ويقوم معه طائفة منهم وطائفة يأخذون أسلحتهم ويقفون بأزاء العدو فيصلي الإمام بمن معه ركعة ثم يثبت قائماً فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية ثم ينصرفون حتى يأتوا بأصحابهم فيقفون موقفهم . ثم يقبل الآخرون فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية ثم يجلس الإمام فينظرهم فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية ويشهدون ثم يسلم بهم الإمام ، فهكذا صلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم ذات الرقاع
(3/375)

" صفحة رقم 376 "
ويدل على صحة هذا التأويل أيضاً حديث سهل بن أبي خيثمة في صلاة الخوف وكان من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : يقوم الإمام في صلاة الخوف ويقوم صف خلفه وصف موازي العدو فيصلي بهؤلاء ركعة . قال : فإذا صلى بهم ركعة قاموا مكانهم والإمام قائم فيصلوا ركعة ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف اولئك وجاء أولئك فيصلي بهم ركعة . ثم قاموا مكانهم فصلّوا ركعة .
قال الشافعي : فإن كانت صلاة المغرب فإن صلّى ركعتين بالطائفة الاولى فيثبت قائماً وأتموا لأنفسهم فحسن ، وإن ثبت جالساً وأتموا لأنفسهم ( فجائز ) ثم يأتي بالطائفة الأخرى فيصلي بها ما بقي عليه ثم يثبت جالساً حتى يقضي مابقي عليها ثم يسلم بهم .
قال : وإن كانت صلاة حضر فلينتظر جالساً في الثانية أوقائماً في الثالثة حتى يتم الطائفة التي معه . ثم تأتي الطائفة الأخرى فيصلي بها كما وصفت الأخرى .
قال : وإن كان العدو قليلاً من ناحية القبلة والمسلمون كثير يأمنوهم في مستوى لايسترهم شيء إن حملوا عليهم زادهم صلى بهم الإمام جميعاً وركع وسجد بهم جميعاً إلاّ صف عليه أو بعض صف الوراء وإذا قاموا بعد السجدتين سجد الذين حرسوا .
وإذا ركع ركع بهم جميعاً وإذا سجد سجد معه الذين حرسوا أولئك إلاّ صفاً أو بعض صف يحرسونهم فيهم فإذا سجدوا سجدتين وجلسوا سجد الذين يحرسونهم ثم يتشهد ويتشهدون ثم يسلم بهم جميعاً معاً وقال : وهو تأخر منهم يحرسونهم إلى الصف الثاني .
ويقدم الثاني فحرسوا فلا بأس ، وهذا نحو صلاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوم عُسفان .
روى شبل عن محمّد بن يوسف عن مجاهد في قوله ) فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ( قال قوم : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان فتوافقوا فصلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بأصحابه صلاة الظهر أربعاً ركوعهم وسجودهم وقيامهم معاً جميعاً فهمّ بهم المشركون أن يغيروا على صفوفهم ، وأثقالهم وأنزل الله تعالى ) فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ( فصلى العصر فصف أصحابه صفين . ثم كبر بهم جميعاً ثم سجد الأولون سجدة فالآخرون ثم سجدوا حين . قام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) والصف الأقل ثم كبَّر بهم وركعوا بهم جميعاً فتقدم الصف الآخر وليتأخر الصف الأول فيها فصلوا جميعاً كما فعلوا أول مرة وقصر صلاة العصر في ركعتين ، وتشهد ، فهذا حديث جابر في صلاة الخوف .
عطاء عن جابر قال : صلينا مع الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة الخوف وكان العدو بيننا وبين القبلة فأقيمت الصلاة فصففنا خلفه صفين . وكبَّر وكبَّرنا معه جميعاً ثم ركع وركعنا معه ثم رفع رأسه فسجد فلما سجد هو والصف الذي يليه وقام الصف المؤخر في نحو العدو .
(3/376)

" صفحة رقم 377 "
وكلما قضى رسول الله السجود هو والصف الذي يليه . قاموا بحذاء الصف المؤخّر بالسجود فسجدوا ثم تأخر الصف المقدم وتقدم الصف المؤخر ثم كبّر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم ركع وركعنا جميعاً .
ثم رفع رأسه فاستوى قائماً فسجد هو والصف الذي يليه الذي كان مؤخراً في الركعة الاولى ، فلما قضى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) السجود هو والصف الذي يليه سجد الصف المؤخر بالسجود فسجدوا ثم سلم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وسلموا جميعاً ، كما نصنع وسلم هؤلاء بأقرانهم .
قال الشافعي : ولو صلى بالخلف ( . . . . ) .
فإذا صلى بالطائفة الأخرى ركعتين ثم يُسلم جائز وهكذا صلاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ببطن المحل .
وروى يحيى بن أبي كبر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله أخبره إنه صلى مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة الخوف فصلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) بأحدى الطائفتين ركعتين وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين ، فصلى رسول الله أربع ركعات وصلى كل طائفة ركعتين .
قال المزني : وهذا يدل عندي بوجوب فريضة خلف من يصلي نافلة لأن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى بالطائفة الثانية فريضة لهم ونافلة له ( صلى الله عليه وسلم ) فهذا مذهب الشافعي في صلاة الخوف .
وقال أبو حنيفة : السنٌّ ة أن يفرّق الإمام المسلمين فرقتين ، فيصلّي بفرقة ركعة ، وفرقة فجاءه العدو ثمّ يتشهّد بالفرقة التي سلَّمت فيصلي بركعة وهم في الصلاة فيقفون .
وجاءه العدو وجاءت الفرقة الأخرى فصلت مع الإمام الركعة الأخرى . ثم انصرفت وعادت الفرقة الاولى وصلت صلاتها فعادت إلى مواجهة العدو وانصرفت الفرقة الأخرى . وأتمّت صلاتها ، وذهب أبو حنيفة في هذا إلى حديث ابن عمر في صلاة الخوف .
وهو ما روى ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر كان يحدث انه صلاها مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فَصَفَّ وراءه طائفة وأقبلت طائفة على العدو ، فركع ( بهم ) رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ركعة وسجدتين ، ( سجد ) مثل نصف صلاة الصبح ثم انصرفوا وأقبلوا على العدو وصلت الطائفة الأخرى فصلوا مع النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ففعل مثل ذلك ، ثم سلم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقام كل رجل من الطائفتين فصلى لنفسه ركعة ( وسجدتين ) .
قال نافع عن ابن عمر : فإن كان خوفاً أشد من ذلك ، فليصلوا قياماً وركباناً حيث جهتهم وهذه صلاته بذي قردة .
(3/377)

" صفحة رقم 378 "
وروي عن أبي بكر بن أبي الجهم عن عبيد الله بن عتبة عن ابن عباس قال : صلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة الخوف بذي قرد فصف صفاً يوازي العدو .
وقال : فصلى بالصف الذي معه ركعة ثم ذهب هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء فصلوا ركعة ثم سلم فيهم جميعاً ثم إنصرف وكان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) صلى ركعتين ولكل واحد من الفريقين ركعة .
حديث أبي هريرة في صلاة الخوف
وروى عروة بن الزبير عن مروان بن الحكم انه سأل أبا هريرة : هل صليت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) صلاة الخوف ؟ فقال أبو هريرة : نعم ، فقال مروان : متى ؟ قال : عام غزوة نجد ، قام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لصلاة العصر . وقامت معه طائفة وطائفة اخرى مما يلي العدو ، وأظهرهم إلى القبلة فكبّر رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وكبّر الذين معه ، والذين يقاتلون العدو جميعاً . ثم ركع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ركعة واحدة وركع معه الطائفة التي تليه ثم سجد وسجدت الطائفة التي تليه . والآخرون قيام مما يلي القوم ، وقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقامت معه الطائفة الذين معه فذهبوا إلى العدو ، فقاتلوهم فأقبلت الطائفة التي كانت مقابلة العدو وركعوا ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قائم كما هو .
ثم قاموا فركع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ركعة أخرى وركعوا معه وسجد ، وسجدوا ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابلة العدو . فركعوا ، وسجدوا ورسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قاعد كما هو فثم سلم وسلموا جميعاً ، فصلى رسول الله ركعتين . ولكل رجل من الطائفتين ركعتان .
واعلم أن صلاة الخوف جائزة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) دون خلاف في هذا بين العلماء إلاّ ما حكى عن أبي يوسف والمزني أنهما قالا : لايصلي صلاة الخوف بعد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وليس هذا موضع الكلام طلبهما في هذا بالقدر الذي ذكرت في هذا الموضع ينفع إن شاء الله .
) وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ كَانَ بِكُمْ أذىً مِنْ مَطَر ( نزلت هذه الآية في رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) خاصة .
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : إن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) غزا محارباً وبني أنمار ( فهزمهم الله وأحرزوا الذراري والمال ) فنزل رسول الله والمسلمون معه ولايرون من العدو واحداً فوضع الناس اسلحتهم وأمتعتهم من ناحية ( وخرج رسول الله ) فمشى لحاجات وقد وضع سلاحه حتى قطع الوادي ، ( والسماء ترش ) فحال الوادي بين رسول الله وبين أصحابه وجلس رسول الله وهوى بصخرة ليضربه غويرث بن الحرث المحاربي ، ثم الحضرمي ، فقال أصحابه : يا غويرث . هذا محمد قد انقطع من إصحابه . قال : قتلني الله إن تركته ثم انحدر من الجبل ومعه
(3/378)

" صفحة رقم 379 "
السيف فلم يشعر به رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلاّ وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سلّه من غمده وقال : يا محمد من يعصمك مني الآن ؟ قال الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ( الله ) ثم دعا : اللهم اكفني غويرث بن الحرث بما شئت . ثم أهوى بالسيف على رسول الله ليضربه فانكبّ لوجهه من زلخة زلخها من بين كتفيه وبدر سيفه ، فقام رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأخذه ثم قال : ( من يعصمك الآن يا غويرث ) قال : لا أحد .
قال : إشهد أن لا إلاه إلاّ الله وأني عبده ورسوله ، فقال : لا ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبداً ولا أعين عليه ، فأعطاه رسول الله سيفه فقال غويرث : للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأنت خير مني . قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أجل أنا أحق بك منك ثم رجع غويرث إلى أصحابه ) . فقالوا : ويلك لقد رأيناك أهويت بالسيف قائماً على رأسه ما منعك منه ؟ قال : والله إني أهويت إليه بالسيف لكني لا أدري من زلخني من كتفي فخررت لوجهي وخر سيفي من بين يدّي فسبقني فأخذه وقال : يا غويرث من يمنعك مني الآن ، فقلت : لا ثم قال : اشهد أن لا إلاه إلاّ الله وإني رسول الله وأعطيك سيفك فقلت : لا ، ولكني أُعطيك موثقاً أن لا أقاتلك أبداً ولا أعين عليك عدواً ، فردّ السيف إليّ .
قال : وسكن الوادي فقطعه رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أصحابه وأخبرهم الخبر ، وأقرأهم هذه الآية ) ولا جناح عليكم ( أي لاضرر ) إن كان بكم أذى من مطر أوْ كُنتُمْ مَرْضَى أنْ تَضَعُوا أسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ ( من عدوكم ) إنَّ اللهَ أعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً ( يهانون فيه .
قال الزجاج : الجناح الإثم وأصله من جنحت إذا عدلت عن المكان وأخذت جانباً عن القصد ثمّ قال ) لا جناح عليكم ( أي لا تعدلون عن الحق إن وضعتم أسلحتكم ، والأذى مقصور ، يقال : أذى يأذي أذىً ، مثل فرع يفرع فرعاً
النساء : ( 103 ) فإذا قضيتم الصلاة . . . . .
) فَإذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ ( يعني صلاة الخوف أي فرغتم منها ) فَاذْكُرُوا اللهَ ( يعني فصلوا لله ) قِيَاماً ( للصحيح ) وَقُعُوداً ( للسقيم ) وَعَلَى جُنُوبِكُمْ ( للجرحى والمرضى لمن لا يستطيعون الجلوس ، ويقال : معناه فاذكروا الله بتوحيده وتسبيحه وشكره على كل حال ) فَإذَا اطْمَأنَنتُمْ ( يعني صلاة الخوف والمرض والقتال ، ورجعتم إلى منازلكم ) فَأقِيمُوا الصَّلاةَ ( أي أتموا الصلاة أربعاً ) إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً ( أي واجباً مفروضاً في الحضر والسفر ، فركعتان في السفر وأربع في الحضر ، وكتب الله عليهم ووقته أي جعل للأوقات ومنه قوله تعالى ) فإذا الرسل أُقّتت ( ووقتت مخففة .
( ) وَلاَ تَهِنُواْ فِى ابْتِغَآءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً إِنَّآ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً هَاأَنْتُمْ هَاؤُلا ( صلى الله عليه وسلم )
(3/379)

" صفحة رقم 380 "
1764 ءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى الْحَيَواةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَىْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ( 2
النساء : ( 104 ) ولا تهنوا في . . . . .
) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ ( لا تضعفوا في طلب القوم . أبي سفيان واصحابه يوم أحد وقد مضت هذه القصة في سورة آل عمران .
) إنْ تَكُونُوا تَألَمُونَ ( أي تتوجعون وتشتكون من الجراح ) فَإنَّهُمْ يَألَمُونَ ( أي يتوجعون ويشتكون من الجراح ) كَمَا تَألَمُونَ ( وأنتم مع ذلك امنون ) وَتَرْجُونَ مِنَ اللهِ ( الأجر والثواب والنصر الذي وعدكم الله وإظهار دينكم على سائر الأديان .
) مَا لا يَرْجُونَ ( وقيل : ( تفسر ) الآية : وترجون من الله ما لا يرجون أي تخافون من عذاب الله ما لا يخافون . قال الفراء : لا يكون الرجاء بمعنى الخوف إلاّ مع الجحد ، كقول الله تعالى ) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أيَّامَ اللهِ ( أي لا يخافون أيام الله وكذلك قوله تعالى : ) مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ للهِ وَقَاراً ( أي لاتخافون لله عظمة ، وهي لغة حجازية .
قال الشاعر :
لا ترتجي حين تلاقي الذائذا
أسبعة لاقت معاً أم واحداً
وقال الهذلي : يصف ( معتار ) العسل ذا النوب وهي النحل .
ويروى في بيت نوب عوامل
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
وخالفها في بيت نوب عوامل .
قال : ولا يجوز رجوتك وأنت تريد خفتك ولاخفتك وأنت تريد رجوتك .
النساء : ( 105 ) إنا أنزلنا إليك . . . . .
) إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ ( ، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار ، يقال له طعمة بن أبرق أحد بني ظفر حي من سليم سرق درعاً من جار له يقال له قتادة بن النعمان ، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق ، وكان الدقيق يُنشَر من خرق
(3/380)

" صفحة رقم 381 "
في الحراب ، حتى إنتهى إلى الدار وفيها أثر الدقيق ، ثم خبأها عند رجل من اليهود ، يقال له زيد ابن السمين ، والتمست الدرع عند طعمة فلم يوجد عنده ، وحلف لهم والله ما أخذها وماله بها من علم فقال أصحاب الدرع ، بلى والله لقد أولج علينا فأحضرها وعلينا بأثره حتى دخل داره ، فرأينا أثر الدقيق منتشراً فلما أن حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق . حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوه وقال اليهودي : دفعها لي طعمة بن البرق ، وشهد له ناس من اليهود على ذلك ، فقالت بنو ظفر وهم قوم طعمة : أيطلبوا بنا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنكلمه في صاحبنا فنعذره ونجادل عنه وإن صاحبنا يُرى معذوراً فأتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فكلموه في ذلك ، وسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا : إنك إنْ لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح ، وبرئ اليهودي فهمّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) أن يفعل وأن يعاقب اليهودي ، فأنزل الله تعالى يعاتبه ) إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ ( الآيات .
وفي رواية أُخرى عن ابن عباس قال : إن طعمة سرق درعاً من أنصاري وكان الدرع في جراب فيه نخاله فخرق الجراب حتى كان متناثر النخالة منه طول الطريق ، فجاء به إلى دار زيد ابن السمين على أثر النخالة ( فأخذه ) وحمله إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فهم رسول الله أن يقطع يد زيد اليهودي فأنزل الله تعالى هذه الآية .
علي بن الضحاك : نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار ، استودع درعاً فجحده صاحبها فخوّنه رجال من أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فجاء قومه فعذروه وأتوا عليه فصدّقهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وعذرهم وردّ الذين قالوا فيه ما قالوا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فلما تبين خيانته ارتد عن الإسلام ولحق بمكة ، فأنزل الله تعالى ) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ ( الآية .
وقال مقاتل : إن زيد السمين أودع درعاً عند طعمة بن أبرق فجحده طعمة فلما جاء زيد يطلبه أغلق الباب ، فأشرف على السطح ، فألقى الدرع في دار جاره أبي هلال . ثم فتح الباب فلم يجدوا فيه فصعد السطح فقال : أرى درعاً في دار أبي هلال ، فلعله درعكم فنظروا وإذا هو ذلك فرفعوه . ثم جمع طعمة قومه وجاءوا إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فَشكوا وقالوا : إنهم قد فضحونا وسرقونا ، فعاتبهم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله عز وجل ) إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ ( أي بالأمر والنهي والفصل ) لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أرَاكَ اللهُ ( أي ماعلمك الله وأوحى إليك ) وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ( أي معيناً
النساء : ( 106 ) واستغفر الله إن . . . . .
) وَاسْتَغْفِرِ اللهَ ( ابن عباس قال : واستغفر الله مما هممت به من قطع يد زيد .
الكلبي : واستغفر الله يا محمد من همك باليهودي أن تضربهِ .
مقاتل : واستغفر الله من جدالك الذي جادلت عن طعمة ) إنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً (
.
(3/381)

" صفحة رقم 382 "
النساء : ( 107 ) ولا تجادل عن . . . . .
) وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أنفُسَهُمْ ( يعني يظلمون أنفسهم بالخيانة والسرقة ويرمي بها اليهودي ) إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً ( يعني خائناً في الدرع ) أثِيماً ( في رميه اليهودي وقوله ) وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً ( . قد قيل فيه : إن الخطاب للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) والمراد به غيره ، كقوله ) فَإنْ كُنْتَ فِي شَكَ مِمَّا أنْزَلْنَا إلَيْكَ ( والنبي لايشك ممّا أنزل الله ، فإن قيل : قد أمر بالاستغفار ( قلنا ) هو لا يوجب وجود الذنب ولا يجب أن يستغفر كما أمر في سورة الفتح بالاستغفار من غير ذنب مقدم .
واعلم أن الاستغفار في جميع الأنبياء يعد وجوه منها ثلاثة أوجه : يكون لذنبه مقدم مثل النبوة ويكون لذنب أمته وقرابته ويكون لترك المباح قبل ورود الحضر ، ومعناه بالسمع والطاعة لما أمرت به ونهيت عنه وحملت التوفيق عليه
النساء : ( 108 ) يستخفون من الناس . . . . .
) يستخفون من الناس ( أي يستترون ويستحيون من الناس ) وَلا يَسْتَخْفُونَ ( أي يستترون ولا يستحيون ) مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ ( يعني علمه .
) إذْ يُبَيِّتُونَ ( . الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : يعني يقولون ، عن سفيان عن الأعمش عن أبي رزين : يولعون ) مَا لا يَرْضَى مِنَ القَوْلِ ( يعني بأن اليهودي سرقه ) وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ( يعني قد احاط الله بأعمالهم الحسنة .
وتعلقت الجهمية والمعتزلة بهذه الآية ، استدلوا منها على إن الله بكل مكان قالوا لمّا قال ) وَهُوَ مَعَهُمْ ( ثبت إنه بكل مكان لأنه قد اثبت كونه معهم وقال لهم حق قوله وهو معهم إنه يعلم ما يقولون ولا يخفى عليه فعلهم لأنه العالم بما يظهره الخلق وبما يستره ، وليس في وله وهو معهم ما يوجب انه بكل مكان لأنه قال ) أأمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ ( ولم يرد قوله انه في السماء يَعني غير الذات لأن القول : أنّ زيداً في موضع كذا من غير أن يعتد بذكر فعل أو شيء من الأشياء لايكون إلاّ بالذات ، وقال تعالى ( إليه يصعد الكلم الطيب ) وقال : ) يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ( فأخبر أنه ( يرفع ) الأشياء من السماء ولا يجوز أن يكون معهم بذاته ثم يدبر الأمر من السماء وإليه يصعد الكلم الطيب ، ولو كان قوله ( وهو معهم إذ يقولون ما لا يرضى من القول ) ثم أقبل على قوم طعمة وقال
النساء : ( 109 ) ها أنتم هؤلاء . . . . .
) ها أنْتُمْ هؤُلاءِ ( أي يا هؤلاء للتنبيه ) جَادَلْتُم ( أي خاصمتم عن ( أبي ) طعمة ، ومتى سافر أبي بن كعب ) عَنْهُمْ في الحَياةِ الدُّنْيا ( والمطلب به في اللغة بشدة ( المخاصمة ) وهو من الجدل وهو ( شدّة الفتل وفيه : رجل مجدول الخلق ، وفيه : الأجدل للصقر ) لأنّه من أشدّ الطيور قوّة
(3/382)

" صفحة رقم 383 "
) فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ ( أي عن طعمة ) يَوْمَ القِيَامَةِ ( لما أخذه الله بعذابه وأدخله النار ) أمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا ( كفيلاً .
النساء : ( 110 ) ومن يعمل سوءا . . . . .
ثم استأنف وقال ) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً ( يعني يسرق الدرع ) أوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ( برميه البريء في السرقة ، يقال : ومن يعمل سوءاً أي شركاً أو يظلم نفسه يعني بما دون الشرك ) ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ ( أي يتوب إلى الله ) يَجِدِ اللهَ غَفُوراً ( متجاوزاً ) رَحِيماً ( به حين قبل توبته
النساء : ( 111 ) ومن يكسب إثما . . . . .
) وَمَنْ يَكْسِبْ إثْماً ( يعني يمنه بالباطل ) فَإنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ ( يقول فإنما يضرُ به نفسه ولا يُؤخذ غير الاثم بإثم الإثم ) وَكَانَ اللهُ عَلِيماً ( بسارق الدرع ) حَكِيماً ( حكم القطع على طعمة في السرقة
النساء : ( 112 ) ومن يكسب خطيئة . . . . .
) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً ( أي بيمينه الكاذبة ، ) أوْ إثْماً ( بسرقته الدرع ، وبرميه اليهودي ) ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً ( أي يقذف بما جناه من مأمنه ) فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً ( والبهتان أي يبهت الرجل بما لم يفعل .
وقال الزجاج : البهتان الكذب الذي يتخير من ( عظمه ) . ) وَإثْماً مُبِيناً ( ذنباً بيناً .
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس ( ومن يكسب خطيئة أو إثماً ) عبد الله بن أبي بن سلول ( ثم يرم به بريئاً ) يعني به عائشة أم المؤمنين حيث كذب عليها وكان من ذلك ، وقوله ( ثم يرم به ) ولم يقل فيهما وقد ذكر الخطيئة ولم يقل كفراً ، يجوز ان يكنى عن النفس والثلاثة والأكثر واحدها مؤنث بالتذكير ، والتوحيد لأن الأنفس يقع عليها فعل واحد ، فذلك جائز وإن شئت ضممت الخطيئة والإثم فجعلتها كالواحد ، وإن شئت جعلت الهاء للإثم خاصة كما قال الله تعالى ) وَإذَا رَأوْا تِجَارَةً أوْ لَهْواً انفَضُّوا إلَيْهَا ( جعله للتجارة ولو أتى بالتذكير فجعل كالفعل الواحد لجاز ثم قال لمحمد
النساء : ( 113 ) ولولا فضل الله . . . . .
) وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ ( بالنبوة ) وَرَحْمَتُهُ ( نصرك بالوحي ) لَهَمَّتْ ( يقول لقد همّت يعني أضمرت ) طَائِفَةٌ ( يعني جماعة ) مِنْهُمْ ( يعني طعمة ) أنْ يُضِلُّوكَ ( أي يخطؤك ) وَمَا يُضِلُّونَ إلاَّ أنفُسَهُمْ ( يقول ومايخطؤن إلاّ أنفسهم ) وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْء ( وكان ضره على من شهد بغير حق ) وَأنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ( يعني القرآن والحكمة يعني القضاء بالوحي ) وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ( قبل الوحي ) وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ ( منّ الله عليك ) عَظِيماً ( بالنبوة .
هذا قول الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس .
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس ، ثم قال : ) ولولا فضل الله . عليك ورحمته ( يعني به الإسلام والقرآن ) لهمت طائفة منهم ( يعني من ثقيف ) أن يضلوك ( وذلك أن وفد ثقيف قدموا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : يا محمد قد جئناك نبايعك على أن لا حشر ولا بعث ولا نكسر أصناماً بأيدينا على أن تمتّعنا بالعزّى سنة ، فلم يجبهم إلى ذلك وعصمه الله بمنّه وأخبره بنعمته
(3/383)

" صفحة رقم 384 "
عليه انّه في حفظه وكلاءته فلا يخلص إليه أمر يكرهه ، فقال ) وما يضلون إلاّ أنفسهم ( يعني وفد ثقيف ) وما يضرونك من شيء ( يعني لايستطيعون أن يزيلوا عنك النبوة وقد جعلك الله لها أهلاً ثم قال ) وَأنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ( يعني الاحكام وعلمك مالم تكن تعلم من الشرائع وكان فضل الله أي منّ الله عليك بالإيمان عظيماً .
( ) لاَّ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذالِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً ( 2
النساء : ( 114 ) لا خير في . . . . .
) لا خَيْرَ فِي كَثِير مِنْ نَجْوَاهُمْ ( .
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس يعني قوم طعمة ) إلاَّ مَنْ أمَرَ بِصَدَقَة ( أي حثّ عليها ) أوْ مَعْرُوف ( يعينه بفرض أسباب ) أوْ إصْلاح بَيْنَ النَّاسِ ( يعني بين طعمة واليهودي ) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ( القرض بمنح أو هدية ) ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ ( أي طلب رضاه ) فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ ( في الآخرة ) أجْراً عَظِيماً ( يعني جنة .
وعن ابن سيرين : معنى النجوى في الكلام المفرد به الجماعة ، والانسان سراً كان أو ظاهراً ، ومعنى النجوى في لغة خاصة ومنه نجوت الجلد عن البعير وغيره أي ألقيته عنه .
قال الشاعر :
فقلت أنجوا منها نجا الجلد انه
سيرضيكما منها سنام وغار به
ويقال : نجوت فلاناً إذا استنكهته .
قال الشاعر :
نجوت مجالداً فوجدت منه
كريح الكلب مات حديث عهد
ونجوت وتر واستنجيته إذا أخلصه .
قال الشاعر :
فتبازت فتبازخت لها
كجلسة الأعسر يستنجي الوتر
(3/384)

" صفحة رقم 385 "
وأصله كله من النجوة فهو مرتفع من الأرض .
قال الشاعر :
كمن بنجوته كمن بعقوته
والمستكن كمن يمشي بقرواح
فمعنى ) لا خير في كثير من نجواهم ( يعني ما دوّن منهم من الكلام ( إلاّ من أمر بصدقة ) يجوز ان يكون في موضع الخفض والنصب والرفع ، فوجه الخفض على قولك : لاخير في كثير من نجواهم إلاّ فيمن أمر بصدقة .
والنجوى ههنا الرجال المتناجون كما قال : ولاهم نجوى .
وقال قائلون : النجوى لمنة فيه فالمنصوب يعلا أن يجعل النجوى فعلاً ويكون قوله إلاّ استنثاء من غير الجنس فيكون وجه النصب ظاهراً .
قال النابغة :
إلاّ الأواري لأيّا ما أبينها
والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
وقد يكون في موضع رفع فمن نصب على المعرفة .
وقال الشاعر :
وبلدة ليس بها أنيس
إلاّ اليعافير وإلاّ العيس
النساء : ( 115 ) ومن يشاقق الرسول . . . . .
) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى ( نزلت في طعمة بن الأبرق أيضاً وذلك إنه لما نزل القرآن فيه وعلم قومه إنه ظالم وخاف هو على نفسه من القطع والفضيحة ، هرب إلى مكة فأنزل الله فيه ) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ ( أي يخالف ( من بعد ما تبين له الهدى ) أي التوحيد بحدوده ) وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ ( يقول غير دين المؤمنين دين أهل مكة عبادة الاوثان ) نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ( نكله وما أدخره إلى ما تولى في الدنيا ) وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً ( فلم ينتهِ طعمة ولم يراجع وتعمد فأدلج على الرجل من بني سليم من أهل مكة فقال له الحجاج : كف أخلاط فنقب بيته فسقط عليه حجر من البيت فتسبب فيه فلم يستطع أن يدخل فقال رجّحني بمعنى أصبح فأخذ ( يتفل ) ، فقال بعضهم : دعوه فإنه لجأ إليكم ، فتركوه وأخرجوه من مكة فخرج مع تجار من قضاعة نحو الشام فرد فراراً منهم فسرق بعض بضاعتهم وهرب فطلبوه وأخذوه فرموه بالحجارة حتى قتلوه ، فصار قبره تلك الاحجار ويقال انه ركب البحر إلى جدّة فسرق من السفينة كيساً فيه
(3/385)

" صفحة رقم 386 "
دنانير فأمسكوا به فأخذ وأُلقي في البحر ، ويقال إنه نزل في حرة بني سليم وكان يعبد صنماً لهم إلى إن مات ، فأنزل الله فيه ) إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً ( فنزل فيه ) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أيْدِيَهُمَا ( الآية .
جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله ) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ ( : نزلت هذه الآية في نفر من قريش ، قدموا على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة ودخلوا في الإسلام ، فأعطاهم رسول الله ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين ورجعوا إلى عبادة الاوثان ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية ) ومن يشاقق الرسول ) أي يفارق الرسول ، ويعاديه ويحاربه ( من بعد ما تبين له الهدى ( يعني من بعد ماوضح له إن محمد عبده ورسوله ) وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ ( أي غير طريق المسلمين ) نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى ( أي نكله إلى الأصنام يوم القيامة ، وهي لا تملك ضراً ولانفعاً ولا ينجيهم من عذاب الله ونصله جهنم بعبادة الأصنام .
) وَسَاءَتْ مَصِيراً ( يعني بئس المنزل حلوا به يوم القيامة .
النساء : ( 116 ) إن الله لا . . . . .
الضحاك عن ابن عباس : قوله تعالى ) إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ( قال : إن شيخاً من الاعراب جاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يانبي الله أني شيخ منهمك في الذنوب والخطايا إلاّ إني لم اشرك بالله شيئاً منذ عرفته ، وآمنت به ولم اتخذ من دونه ولياً ولم أواقع المعاصي جرأة على الله ولا مكابرة له ولا توهمت طرفة عين ، إني أعجز الله هرباً وإني لنادم تائب مستغفر فما حالي عند الله ؟ فأنزل الله عز وجل ) إنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ( والشرك ذنب لا يغفر لمن مات عليه ) ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً ( يعني فقد ذهب عن الطريق وحرم الخير كله .
واعلم أن في قوله تعالى ) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ ( دليل على قوة حجة الاجماع وفي قوله : ) إن الله لايَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ( دليل على فساد قول الخوارج حين زعموا أن مرتكب الكبيرة كافر وذلك قوله عز وجل قال : ) إنّ اللهَ لايَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ( ففرّق بين الشرك وسائر الذنوب وحَتم على نفسه بأن لايغفر الشرك .
لو كان الكبيرة كفراً لكان قوله ) إن الله لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بهِ ( مستوعباً فلما فرّق بين الشرك وسائر الذنوب بان فساد قولهم ، وقد بيّن الله تعالى بأنه الشرك في آخر القصة وهو قوله ) إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلاَّ إنَاثاً وَإنْ يَدْعُونَ إلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً ( وقد علم أن صاحب الكبيرة غير مستحل لها فلم يجز أن يكون حكمه حكم الكافر ، وفيه دليل على فساد قول المعتزلة في المنزلة ( بين الشرك والإيمان ) إذ الله تعالى لم يجعل بين الشرك والإيمان منزلة ولم يجعل الذنوب ضداً للإيمان
(3/386)

" صفحة رقم 387 "
وكان فيه فساد قول من جعل الكبيرة الكفر ، وفيه دليل على فساد قول المرجئة حين قالوا : إن المؤمن لايعذّب ، وإن كان مرتكباً للذنوب . لأن الله أخرج المشرك من المشيئة وجعل الحكم فيه حتماً ، فلو لم يجز تعذيب المؤمن المذنب لأخرجه من باب الاستثناء وأطلق الحكم فيه كما ( علّقه ) في الشرك ، وفيه دليل على فساد قول الوعيدية وقد ذكرناه من قبل .
النساء : ( 117 ) إن يدعون من . . . . .
ثم نزلت في أهل مكة ) إن يدعون إلاّ إناثاً ( من دونه كقوله تعالى ) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُو نِي أسْتَجِبْ لَكُمْ ( أي اعبدوني أستجب ، لكم يدلّ عليه قوله بعده ) إن الذين يستكبرون عن عبادتي ( من دونه ، أي من دون الله وكان في كل واحدة فيهن شيطان يتراءى للسَدنة والكهَنة يكلمهم فذلك قوله ) وَإنْ يَدْعُونَ إلاَّ شَيْطَاناً مَرِيداً ( وكان المشركون يدعون اصنامهم باسمها وكان هذا قول مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين .
ويدل على صحة هذا التأويل قراءة ابن عباس : إن يدعون من دونه إلاّ إناثاً جمع الوثن فصيّر الواو همزة كقوله أقب ووقب .
وأصله وثن وقرئت إنثا على جمع الإناث كمثل مثال ومثل وثمار وثمر . قال الحسن وقتادة وأبو عبيدة : إن يدعون من دونه إلاّ إناثاً يعني أمواتاً لاروح فيه خشبة وحجر ومدر ونحوها .
وذلك إن الموات كلها يخبر عنها كما يخبر عن المؤنث يقول من ذلك الأصنام متعجبين ، فإن يدعون وما تعبدون إلاّ شيطاناً مريداً والمريد المارد فقيل : بمعنى فاعل . نحو قدير وقادر وهو الشديد العاتي الخارج من الطاعة . يقال : مرد الرجل يمرد مروداً ومراده إذا عتى وخرج من الطاعة وأصل المريد من قول العرب : حدثنا ممرد أي مملس .
ويقال : شجرة مردا إذا يتناثر ورقها ، ولذلك سمي من لم تنبت لحيته أمرد ، أي أملس موضع اللحية .
فالمراد : الخارج من الطاعة المتملّص منها .
2 ( ) لَّعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لاََتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً وَلاَُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلاََمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ الاَْنْعَامِ وَلاََمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً أُوْلَائِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا
(3/387)

" صفحة رقم 388 "
1764 أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَائِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ مُّحِيطاً ( 2
النساء : ( 118 ) لعنه الله وقال . . . . .
) لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ ( يعني إبليس ) لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً ( يعني حظاً معلوماً فما اطاع فيه إبليس فهو مفروضه . قال الفراء ما جعل عليه سبيل ، وهو كالمفروض ، في بعض التفسير وكل ألف الله عز وجل وسائرهم لإبليس .
وأصل الفرض في اللغة القطع ومنه الفرضة في النهر وهي الثلمة تكون فيه يقال معناها بالفراض والفرض ، والفرض الجز الذي يكون في الشباك يشد فيه الخيط ، والفريض في القوس الجز الذي يشد فيه الوتر ، والفريضة في سائر ما افترض الله عز وجل . ما أمر به العباد وجعله أمراً حتماً عليهم قاطعاً وقوله ) وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً ( يعني لهن قطعة من المال .
وقد فرضت للرجل أي جعلت له قطعة من المال .
قول الشاعر :
إذ أكلت سمكاً وفرضاً
ذهبت طولا وذهبت عرضاً
فالفرض ههنا التمر ، وقد سمي التمر فرضاً لأنه يؤخذ في فرائض الصدقة .
النساء : ( 119 ) ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم . . . . .
ثم قال إبليس ) وَلأُضِلَّنَّهُمْ ( ( بمعنى هؤلاء ) ) وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ ( أنّه لا جنة ، ولا نار ، ولابعث .
وقال بعضهم : ولأمنينّهم أي أُلقي في قلوبهم ( الهيمنة ) ) وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأ نْعَامِ ( أي يقطعونها ويشقونها وهي البحيرة ) وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ ( . قال ابن عباس عن الحسن وقتادة ومجاهد والضحاك وسعيد بن جبير : يعني دين الله نظير قوله تعالى : ) لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ( أي لدين الله .
وقال عكرمة وقوم من المفسرين : معناه : فلنغيرنّ خلق الله ( بالخضاب ) والوشم وقطع الآذان وفقء العيون
(3/388)

" صفحة رقم 389 "
قال أهل المعاني : معنى قوله ( فليغيرن خلق الله ) إن الله خلق الانعام لتركبوها وتأكلوها فحرموها على أنفسهم ، وخلق الشمس والقمر والحجارة مسخرة للناس ينتفعون بها فعبدها المشركون فغيروا خلق الله ) وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً ( أي ربّاً ) مِنْ دُونِ اللهِ ( فيطيعوه ) فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً (
النساء : ( 120 ) يعدهم ويمنيهم وما . . . . .
يعدهم إلا يلقون خيراً ) وَيُمَنِّيهِمْ ( الفقر ألاّ ينفقون في خير ولايصلون رحماً ، فقال يمينهم ان لابعث ولاجنة ولانار ) وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلاَّ غُرُوراً ( أي باطلاً
النساء : ( 121 ) أولئك مأواهم جهنم . . . . .
) أُوْلَئِكَ مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ ( يعني مصيرهم جهنم ) وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً ( أي منعاً قال عوف : بلغني من المؤمن بكيده من الشيطان بأكثر من مضر لو أبدلهم الله له لمات ، وإن قيل خبرونا عن قول إبليس ) لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً ( كيف علم ذلك ؟
يقال : قد قيل في هذا أجوبة ، منها : إن قالوا إنّ الله تبارك وتعالى كان خاطبه بقوله ) لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِن الجنّة والناس أجْمَعِينَ ( فعلم إبليس انه ينال من ذرية آدم ما يتمناه .
ومنها : ان قالوا إنه لما وسوس لآدم نال منه ما نال ، طمع في ولده ولم ينل من آدم جميع ما يتمناه من الغواية فكذلك طمع في بعض ولده وأيس من جميعهم .
ومنها ان قالوا ان ابليس قد عاين الجنة والنار وعلم ان الله خلقهما لأن يسكنهما من الناس والشياطين ، فعلى هذا التأويل قال ) لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً ( وإن قيل : لخبرونا عن إضلال الشيطان هل إليه نجح فعله وانفاذ أمره أم لا ؟
يقال له : معنى إضلاله الدعاء إلى الضلالة والتزين له ولو كانت الضلالة إليه لأضل الخلق جميعاً ولذلك مَنّ به أباهم
النساء : ( 122 ) والذين آمنوا وعملوا . . . . .
) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ( أي من تحت الغرف والمساكن ) خَالِدِينَ فِيهَا أبَداً وَعْدَ اللهِ حَقّاً وَمَنْ أصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلا ( أي وهذا
النساء : ( 123 ) ليس بأمانيكم ولا . . . . .
) لَيْسَ بِأمَانِيِّكُمْ وَلا أمَانِيِّ أهْلِ الكِتَابِ ( .
قال قتادة والضحاك : إن المسلمين وأهل الكتاب تناظروا ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابكم ، ونحن أولى بالله منكم ، فقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم ونبينا خاتم النبيين ، وكتابنا ( يفي ) على الكتب التي كانت قبله فأنزل الله تعالى ) لَيْسَ بِأمَانِيِّكُمْ ( الآية .
وقال مجاهد : قالت قريش : لا نبعث ولانحاسب .
وقال أهل الكتاب ) لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أيَّاماً مَعْدُودَةً ( فأنزل الله ) لَيْسَ بِأمَانِيِّكُمْ وَلا أمَانِيِّ أهْلِ الكِتَابِ ( .
(3/389)

" صفحة رقم 390 "
وإسم ليس مضمر المعنى ليس ثواب الله بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ) مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ( لاينفعه يمينه ) وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً ( .
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : لمّا نزلت هذه الآية شقّت على المسلمين مشقّة شديدة ، وقالوا : يا رسول الله وأيّنا لم يعمل سوءاً غيرك وكيف الجزاء ؟ فقال : ( منه ما يكون في الدنيا فمن يعمل حسنة فله عشر حسنات ، ومن يجازي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقيت له تسع حسنات ، فويل لمن غلب إحداه عشراه .
وأما ما كان جزاءه في الآخرة فإنه يؤخر إلى يوم القيامة فيقابل بين حسناته وسيئاته ، وينظر في الفضل فيعطى الجزاء في الجنة ، فيعطى كل ذي عمل فضله ) .
وروى إسماعيل عن أبي خالد عن أبي بكر بن أبي زهير عن أبي بكر الصديق قال : يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أية آية ؟ ) فقال يقول الله ) لَيْسَ بِأمَانِيِّكُمْ وَلا أمَانِيِّ أهْلِ الكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ( قال : ما عَلِمنا جزينا فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( قد هلك يا أبا بكر ألست تمرض ألست تغبْ ألست يصبك القرف ) قال : بلى ، قال : ( فهو ما يجزون به ) .
وعن عبد الله بن عمر يحدث عن أبي بكر الصديق ( رضي الله عنه ) قال : كنت عند رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فنزلت هذه الآية في سورة النساء ) مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً ( فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا أبا بكر ألا اقرئك آية نزلت عليَّ ؟ ) قلت : بلى يا رسول الله ، قال : ( فاقرأنيها فلا أعلم أني وجدت انفصاماً في ظهري حتى تمطّيت لها ) فقال : ( مالك يا أبا بكر ) .
فقلت : بأبي أنت وأمّي ، وأينا لم يعمل سوءاً وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أما أنت يا أبابكر وأصحابك المؤمنون فتُجزون ذلك في الدنيا حتى تلقوا الله وليس لكم ذنوب ) .
وأما الآخرون فتجمع ذنوبهم حتى يجزوا يوم القيامة .
وقال عطاء : لما نزلت ) لَيْسَ بِأمَانِيِّكُمْ وَلا أمَانِيِّ أهْلِ الكِتَابِ ( . ( قال أبو بكر : يا رسول الله ما أشدّ هذه الآية قال : ( يا أبا بكر إنّك تمرض ، وإنّك تحزن ، وإنك يصيبك أذى ، فذاك بذاك ) ، وقال عطاء )
(3/390)

" صفحة رقم 391 "
قال أبو بكر : جاءت قاصمة الظهر يا رسول الله ، قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّما هي المصيبات في الدنيا ) .
وروى عبد الله بن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت : قلت : إني لأعلم أي آية من كتاب الله نزلت ببعض من يعمل سوءاً يجز به . قال : إن المؤمن يجازى بأسوء عمله في الدنيا ثم ذكر أشياء منه المرض والنصب وكان آخرون يذكر نصبه إليك كله كل يجازي بعمله ، يا عائشة ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا يعذب قالت : فقلت : أليس يقول الله تعالى ) فسوف يحاسب حساباً يسيراً ( قال : ما ذلك ( العرض ) إنه من نوقش في العذاب عذِب فقال بيده : على المصيبة كان ينكث .
وروى ابن ميثم بن يزيد عن عبد الله بن الأرقم قال عن أبي هريرة يقول : لما نزلت ) لَيْسَ بِأمَانِيِّكُمْ وَلا أمَانِيِّ أهْلِ الكِتَابِ ( بكينا وحزنّا وقلنا : يا رسول الله ما أبقت هذه الآية من شيء ، قال : ( أما المذنب فمن يده إنها لكم انزلت ولكن أبشروا وقاربوا وسدّدوا إلاّ أنه لا يصيب أحداً منكم مصيبة في الدنيا إلاّ كفَّر الله به خطيئة حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه ) .
وقال الحسن : في قوله تعالى ) مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ( قال : هو الكافر ، لايجزي الله المؤمن يوم القيامة ، ولكن المؤمن يجزى بأحسن عمله ويتجاوز عن سيئاته . ثم قرأ ) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ ( الآية ، وقرأ أيضاً ، ) وَهَلْ نُجَازِي إلاَّ الكَفُورَ ( .
قال الثعلبي : وقلت : لولا السيئة لأُتيَ ( الجزاء ) في الكفار . لقوله في سياق الآية ) وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً ( ومن لم يكن له في القيامة نصير ولا ولي كان كافراً فإن الله عز وجل قد ضمن بنصرة المؤمنين في الدارين بقوله ) إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا ( الآية .
ولكن الخطاب متى ورد مجملاً وبيّن الرسول ( ذلك على ) لسانه إذ البيان إليه قال الله تعالى ) ليُبيِّنَ للنّاسِ ( وأنزل إليهم ثم بين الله تعالى فضل المؤمنين على مخالفيهم فقال ) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَر أوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً ( الآية يعني تكون في ظهر النواة .
عن مسروق قال : لما نزلت هذ الآية ) لَيْسَ بِأمَانِيِّكُمْ وَلا أمَانِيِّ أهْلِ الكِتَابِ مَنْ يَعْمَل
(3/391)

" صفحة رقم 392 "
سُوءاً يُجْزَ بِهِ ( قال أهل الكتاب : نحن وأنتم سواء حتى نزلت
النساء : ( 124 ) ومن يعمل من . . . . .
) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَر أوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ( ونزل فيهم أيضاً
النساء : ( 125 ) ومن أحسن دينا . . . . .
) وَمَنْ أحْسَنُ دِيناً ( ( قد علم ربّنا ) ) مِمَّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ للهِ ( .
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : يعني أخلص لله عمله ، وقيل : فوّض أمره إلى الله ، وقيل : مفلح ) وَهُوَ مُحْسِنٌ ( أي موحد ) وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ ( يعني دين إبراهيم ) حَنِيفاً ( مسلماً مخلصاً .
قال ابن عباس : ومن دين إبراهيم الكعبة والصلاة ويطوفون بها وحولها والسعي بين الصفا والمروة ورمى الجمرات وحلق الرأس والموقفان ، وسائر المناسك فمن صلى نحو القبلة وأقرّ بهذه الصفة فقد اتبع إبراهيم ( عليه السلام ) ) وَاتَّخَذَ اللهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلا ( .
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس ، في قوله تعالى ) وَاتَّخَذَ اللهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلا ( صفياً وخليلا من ( قولهم ) : أبا الضيفان يضيف من مرّ بهِ من الناس ، وكان منزله على ظهر الطريق ، فأصاب الناس سنة وجهدوا عنها واجتمعوا على باب داره يطلبون الطعام ، وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر فبعث غلمانه بالإبل إلى ذلك الخليل فسأله الميرة . قال خليله لغلمانه : لو كان إبراهيم إنّما يريده لنفسه احتملنا ذلك له فقد دخل علينا مادخل على الناس من الشدة ، فرجع رُسُلُ إبراهيم إليه فمروا بالبطحاء يعني السهلة ، فقالوا : لو انا حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس إنا قد جئنا بميرة ، إنا نستحي أن نمر بهم وإبلنا فارغة ، قال : فملأوا تلك الغرائر سهلة ثم إبراهيم ( عليه السلام ) وساره نائمة ، فأعلموا ذلك ، واهتم إبراهيم لمكان الناس ببابه ، فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة ، وقد ارتفع النهار ، فقالت : سبحان الله ما جاء الغلمان فقالوا لها : بلى قالت : فما جاءوا بشيء ، قالوا : بلى ، فقامت إلى تلك الغرائر ففتحتها فإذا هو أجود حواري يكون فأمرت الخبازين فخبزوا وطعموا ، قال : فلمّا استيقظ إبراهيم فوجد ريح الطعام ، فقال : ياسارة من أين هذا الطعام ؟ قالت : من عند خليلك المصري ؟
قال : هذا من عند خليلي الله ، لا من عند خليلي المصري . قال : فيومئذ إتخذه الله خليلاً مصافياً .
وقال الزجاج : الخليل الذي ليس في محبته خلل فجائز أن يكون سمي خليل الله بانه الذي أحبه واصطفاه بالجنة تامة .
وجائز أن يسمّى خليل الله أي فقير إلى الله لأنه لم يجعل فقره وفاقته إلاّ إلى الله مخلصاً في ذلك
(3/392)

" صفحة رقم 393 "
قال الله ) أنْتُمُ الفُقَرَاءُ إلى اللهِ ( لإن معنى الخليل في اللغة . قد قيل : هو الفقير .
قال زهير يمدح حرم بن سنان :
فإن أتاه خليل يوم مسألة
يقول لا غايب مالي ولا حرم
والخلة : الصداقة ، والخلة : ( الحاجة ) ، فإذا جعلنا اشتقاق الخليل من الخلة فهو الإخلال الذي يلحق الانسان فيما يحتاج إليه ، وإن جعلنا من الخلة فهو أصل الصداقة ومعناهما جميعاً واحد لأن كل واحد منهما يسد خلل صاحبه في المودة والحاجة إليه .
والخلل : كل فرجة يقع في شيء ، والخلال الذي يتخلل به ، وإنما سمي خلالاً لأنه منع به الخلل من الأسنان ، والخل : الطريق في الرمل ، معناه إنه إنفرجت فيه فرجة ، فصارت طريقاً في الأرض والخلّ الذي يؤكل إنما سمي خلا لأنه أخل منه طعم الحلاوة
النساء : ( 126 ) ولله ما في . . . . .
) وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْء مُحِيطاً ( أي لبساطة عمله لجميع الاشياء .
2 ( ) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النِّسَآءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ فِى يَتَامَى النِّسَآءِ الَّلَاتِى لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَلَن تَسْتَطِيعُواْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً ( 2
النساء : ( 127 ) ويستفتونك في النساء . . . . .
) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ ( .
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في بنات أم كحه وميراثهن من أُمّهن ، وقد مضت هذه القصة في أول السورة .
معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ، قال : كان الرجل بالجاهلية يكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه ، فإذا فعل بها ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبداً ، فإن كانت جميلة وهواها تزوجها وأكل مالها وإن كانت دميمة منعها الرجال أبداً حتى تموت ، فإذا ماتت ورثها ، فحرّم الله تعالى ذلك ونهى عنه وأنزل هذه الآية .
مجاهد والضحاك وقتادة وإبراهيم : كان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والصبيان شيئاً ، وكانت المرأة تكون دميمة في الجاهلية ، دميمة ولها مال فيكره وليّها أن يتزوجها من أجل دمامتها ، ويكره أن يزوّجها غيره من أجل مالها ، وكان وليّها لايتزوجها ويحبسها عنده حتى تموت ، ويرثها
(3/393)

" صفحة رقم 394 "
سعيد بن جبير : كان وليّ اليتيمة إذا كانت ذات مال وجمال ، رغب فيها ونكحها واستأثر بها ، وإذا لم تكن ذات مال ولا جمال لم ينكحها ولم ينكّحها فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وعن عبد الله بن عبيدة قال : جاءت امرأة من الأنصار يقال لها خولة بنت حكيم إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقالت : يا رسول إن أخي توفّي وترك بنات وليس عندهن من الحُسن مايرغب فيهن الرجال ولا يقسم لهن من ميراث إبيهنّ شيئاً فنزلت فيها . ) ويستفتونك ( أي يستخبرونك في النساء ) قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ ( يخبركم ) فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى ( أي والذي يقرأ ) عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ ( أي في القرآن ، وموضع مارفع معناه ) قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ ( ويفتيكم أيضاً فيهن ، ويجوز أن يكون في موضع الخفض ، فيكون معناه قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى بينكم ، وهو بعيد لأن الظاهر لا يعطف على المضمر ، وجه الرفع أبين لأن مايتلى في الكتاب ويتلى بين ما سألوه عنه معنى ، قل الله يفتيكم فيهن في كتابه يفتيكم فيهن وهو قوله ) وَآ تُوا اليَتَامَى أمْوَالَهُمْ ( الآية وقوله ) فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ( أي لاتعطونهن ) مَا كُتِبَ لَهُنَّ ( يعني فرض لهن من الميراث ) وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنكِحُوهُنَّ ( أي وترغبون عن نكاحهن لملكهن ، وقيل : ترغبون في نكاحهن لمالهن ) وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الوِلْدَانِ ( يعني الصغار من الصبيان وهو في موضع الخفض والمعنى : قل الله يفتيكم فيهن والمستضعفين ) وَأنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالقِسْطِ ( أي بالعدل ) وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْر فَإنَّ اللهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً ( .
وروى شعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب إنّ آخر آية كانت ( ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن ) وآخر سورة براءة
النساء : ( 128 ) وإن امرأة خافت . . . . .
) وَإنِ امْرَأةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أوْ إعْرَاضاً ( نزلت في عمرة ويقال خويلة بنت محمد بن سلمة في زوجها رافع بن الرفيع ويقال رافع بن خديج تزوجها وهي شابة فلمّا أدبرت وعلاها يعني تزوج عليها امرأة شابة وآثر عليها وحفا ابنه محمد بن سلمة وأتت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فشكت إليه ، فنزلت فيها هذه الآية هذا قول : الكلبي وجماعة المفسرين ، وقال سعيد بن جبير : كان رجل وله إمرأة قد كبرت وكان له منها أولاد فأراد أن يطلقها ، ويتزوج غيرها فقالت لاتطلقني ودعني أقوم على ولدي وأقسم لي في كل شهرين إن شئت أو أكثر وإن شئت فلا تقسم لي ، فقال : إن كان يمنع ذلك فهو أحبّ إليّ ، فأتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فذكر له ذلك ، فقال : قد سمع الله ما تقول فإن شاء أجابك فأنزل الله عز وجل ) وإن خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أوْ إعْرَاضاً ( أي علمت من زوجها نشوزاً يعني بغضاً .
قال الكلبي : يعني ترك مجامعتها ومضاجعتها أو إعراضاً عن مساكنتها ، وعن مجالستها وعن محادثتها ) فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ( يعني على الزوج والمرأة ) أنْ يُصْلِحَا ( أي يستصلحا ) بَيْنَهُمَا صُلْحاً ( أي في القسمة والنفقة وهو أن يقول لها : إنك امرأة دميمة وقد دخلت في العنّ وأريد أن أتزوج عليك امرأة شابّة جميلة ، فيؤثرها في القسمة عليها لشبابها ، فإن رضيت بهذا فأقيمي ، وإن كرهت خلّيت سبيلك ، فإن رضيت بذلك كانت هي المحسنة ولايعسر عليّ ذلك
(3/394)

" صفحة رقم 395 "
وإن لم ترض ( أُعطيتْ ) حقّها ، فالواجب على الزوج أن يوفّيها حقّها من المقام والنفقة أو يسرّحها بإحسان ولايحبسها على الخسف ، وإن يقام عليها وفّاها حقّها مع كراهيته صحبتها ، فهو المحسن الذي مدحه الله وأخبره انه عالم بصنيعه ومجازيه على فعله ولايجبر الرجل على وطء واحدة لأنه هو الزوج وهو حظه وإذا تركه لم يجبر عليه وليس هو كالمقام والنفقة .
وقوله ) وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ( يعني إقامتها بعد تخييره إياها ومصالحتها على شيء معلوم في المقام والنفقة ، وهكذا فعل رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) مع زوجته ومكثت معه وذلك أنها كانت امرأة كبيرة فأراد النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يسرحها فطلبت إليه أن لا يفعل وقالت : إنّي أُحبّ أن أُبعث في نسائك يوم القيامة ، ألا فإنّ يومي وليلتي لعائشة .
وقال علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : في قوله ) وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ( قال : المرأة تكون عند الرجل فتكون صغيرة أو كبيرة أو لايحبّها زوجها ، فيصطلحان على صلح .
وقال سعيد بن جبير : فهو أن يتراضيا على شيء معلوم في نفسه وماله .
قال الضحاك : الصلح أن ينقصها من حقها إذا تزوج أشبّ منها وأعجب إليه .
وقال مقاتل بن حيان في هذه الآية : فهو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوّج عليها الشابة ، فيقول للمرأة الكبيرة : أُعطيك من زماني نصيباً على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أقسم لك من الليل والنهار وترضى الأخرى بما أصطلحا عليه فإن أبت ألا ترضى فعليه أن يعدل بينهما على القسمة .
وروى إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة عن سليمان بن يسار عن ابن عباس : في قوله تعالى ) فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أن يصلحا بينهما صلحاً وَالصُّلْحُ خير ( . قال : المرأة الكبيرة الدميمة تكون عند الرجل يريد طلاقها والإستبدال بها ( فصالحها ) هذه على بعض حقها من القسمة والنفقة ، فذلك جائز بعد ما رضيت ، فإن أنكرت بعد الصلح ، فذلك لها ، ولها حقّها ، أمسك أو طلق .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هي المرأة تكون عند الرجل وله إمرأة غيرها أحبّ إليه منها فيؤثرها عليها ، فأمر الله تعالى إذا كان ذلك أن يقول لها : يا هذه إن شئت أن تقيمي على ماترين من هذه فآويك وأنفق عليك فأقيمي ، وأن كرهت خليت سبيلك ، فإن هي رضيت أن تقيم بعد ان خيَّرها فلا جناح عليه وهو قوله ( والصلح خير ) وهو التخيير
(3/395)

" صفحة رقم 396 "
وروى إسرائيل عن سماك بن حرب عن خلد بن عرعرة قال : سأل رجل علياً عن قوله عز وجل ) وَإنِ امْرَأةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أوْ إعْرَاضاً ( الآية قال : تكون المرأة عند الرجل فتنبو عينه عنها من دمامة أو كبر فتفتدي منه تكره فرقته ، وإن أعطته من ماله فهو حل له أو أعطته من أثاثها فهو حل له ) وَأُحْضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ ( يقول : شحت المرأة نصيبها من زوجها وشح الرجل نصيبه من الأخرى .
قال ابن عباس : والشح هو في الشيء يحرص عليه ) وَإنْ تُحْسِنُوا ( يعني تصلحوا بينهما بالسوية ) وَتَتَّقُوا ( الجور والميل .
وقيل : هذا الخطاب للزوج يهني : وإن تحسنوا بالإقامة عليها ، مع كراهتكم لصحبتهما وتتّقوا ظلمها ) فَإنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ( فيخبركم بأعمالكم .
النساء : ( 129 ) ولن تستطيعوا أن . . . . .
) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ ( يقول : لن تقدروا ان تسوّوا بينهن في الحب ) وَلَوْ حَرَصْتُمْ ( على العدل ) فَلا تَمِيلُوا ( إلى الشابة الجميلة التي تحبّونها ) كُلَّ المَيْلِ ( في النفقة والقسمة والإقبال عليها ( وتدّعوا الأخرى كالمعلّقة ) أي كالمنوطة لا أيمّاً ولا ذات متاع .
قتادة والكلبي : كالمعلقة كالمحبوسة وهي في امرأة أُبيّ بن كعب كأنها مسجونة .
وقال مجاهد : لن تستطيعوا العدل بينهن فلا يتعمدوا ( ذلك ) .
وذُكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول : اللهم أما قلبي فلا أملك وأما ماسوى ذلك فأرجو أن أعدل .
) وَإنْ تُصْلِحُوا ( بالعدل في القسمة بينهن ) وَتَتَّقُوا ( الجور ) فَإنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً ( بما قلت إلى التي تحبّها بقلبك بعد العدل في القسمة
النساء : ( 130 ) وإن يتفرقا يغن . . . . .
) وَإنْ يَتَفَرَّقَا ( يعني عن المرأة بالطلاق ) يُغْنِ اللهُ كُلاّ مِنْ سَعَتِهِ ( أي من النفقة يعني المرأة بزوج والزوج بإمرأة . ) وَكَانَ اللهُ وَاسِعاً ( لهما في النكاح ) حَكِيماً ( يمكن للزوج إمساكاً بمعروف أو تسريحاً بإحسان .
حكم الآية
علم أن الله عز وجل الرأفة بالعباد وعلمه بأحوالهم فنبّههم على نحو وجب عليهم من حقوق النساء ونهاهم عن الميل في افعالهم إذا لم يكن لهم سبيل إلى التسوية بينهن في المحبة ومتى جمع العبد من الفعل لمال عنه إلى واحدة بعينها دون غيرها كان ذلك جوراً ، وقد روي أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقسم ويقول : ( اللهم هذا قسمي فيما أملك وليس أحكم ( فيما لا يملك ) ) .
(3/396)

" صفحة رقم 397 "
يعني به قلبه ، وكان يطوف به على نسائه في مرضه حتى حلّلته ( نساءه ) فأقام عند عائشة ، وعماد القسم الليل ، لأنه يسكن فيه قال الله تعالى : ) وَلَهُ مَا سَكَنَ باللَّيلِ ( فمتى كان عند الرجل حرائر مسلمات وذمّيات فهو في القسم سواء ويقسم للحرّة ليلتين ، وللأمة ليلة إذا خلى المولى بينه وبينها في ليلتها ويومها ، وللأمة أن تحلله من قسمها دون المولى لأنه حقها في خاصة نفسها ولايجامع المرأة في غير يومها ، ولا لرجل أن يدخل في الليل على التي لم يقسم لها ، ولابأس أن يدخل عليها بالنهار في حاجة ويعودها في مرضها في ليلة غيرها ، فإن ثقلت فلا بأس أن يقيم حتى تخف أو تموت ثمّ يوفي من بقي من نسائه مثل مابقي عندها ، وإن أراد أن يقسم بين ليلتين ليلتين أو ثلاثاً كان له ذلك .
ذكر إستدلال من إستدل من هذه الآية على تكليف ما لايطاق
قالوا : قال الله عز وجل ) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ ( فأمرهم الله عز وجل أن يعدلوا ، وأخبر أنهم لايستطيعون أن يعدلوا فقد أمرهم بمالا يستطيعون وكلفهم مالا يطيقون .
إن قال قائل : هل كلف الله الكفار مالا يطيقون ؟ قيل له : إن أردت أنه كلفهم مالا يطيقون لعجز حائل وآفة مانعة ، فلا ، لأنه قد صحح أبدانهم وأكمل نطقهم وأوجدهم ( في الأرض ) ودفع عنهم العلل والآفات ، وإن أردت أنه كلّفهم مالا يقدرون عليه بتركهم له واشتغالهم بضدّه ، فقد كلفهم ذلك .
فإن قالوا : أفيقدر الكافر لايتشاغل للكفر ؟ قيل لهم : إن معنى لا يتشاغل بالكفر هو أن تؤمن فكأنكم قلتم : يقدر ان يؤمن وهو مقيم على كفره فقد قلنا إنه مادام مشغولاً بكفر ليس بقادر على الإيمان على ما جوزت اللغة من أن الانسان قادر على الفعل بمعنى أنه إن لم يفرط فأثر فيه كما قالوا فلان يقدر على رجل يعني يقدر عليه لو رامه وقصد إلى حمله ، نضير قولهم : فلان يفهم أي إنه يفهم الشيء ، إذا أُورد عليه ، وكذلك يقولون : الطعام مشبع ، والماء مروي ، ويعني في ذلك أن الطعام يشبع إذا أُكل .
والماء يروي إذا شرب .
والذي يوضح ذلك ما يتداوله الناس بينهم من قول الرجل : قم معي في حال كذا ،
(3/397)

" صفحة رقم 398 "
والجواب : لا أقدر على المجيء معك لما أنا فيه من الشغل ، وقد قال الله تعالى ) ما كانوا يستطيعون السمع ( يعني القبول لاستثقالهم إيّاه ، ومن المشتبه من ( قال : ) وهل يقدر الكافر على الإيمان ؟ يقول : إن ارادهُ كان قادراً عليه ، فإذا قال له : فيقدر أن يريده ؟ قال : إن كره الكفر ، وإذا قيل له : هل يقدر على الكفر ؟ قال : يقدر على ذلك إن أراد الإيمان ، فكلّما كرّر عليه السؤال كرّر هذا الجواب .
النساء : ( 131 ) ولله ما في . . . . .
) وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ( لها مالكاً .
2 ( ) وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً وَللَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِاخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذالِكَ قَدِيراً مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ وَلَوْ عَلَىأَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالاَْقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ( 2
) وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ( يعني أهل التوراة والإنجيل وسائر الكتب المتقدمة على الإسلام ) وَإيَّاكُمْ ( يا أهل القرآن في كتابكم ) أنْ اتَّقُوا اللهَ ( أي وحّدوا الله وأطيعوه ولا تشركوا به شيئاً ) وَإنْ تَكْفُرُوا ( بما أوصاكم الله به ) فَإنَّ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ( يعنى فإن لله ملائكة هم أطوع له منكم ) وَكَانَ اللهُ غَنِيّاً ( عن جميع خلقه غير محتاج إلى شيء ممّا في ايديهم .
وحقيقية الغنيّ عند أصحاب الصفات من له غنى .
والغنى هو القدرة على مايريد ، والغنيّ القادر على مايريد ، ثم ينظر فإن كان قادراً على ( وصف ) الحاجة عليه وَسَمْنَاهُ بذلك ، وإن كان الوصف بالحاجة عليه لم يصفه به ، والفقر العجز عن ذلك وعدمه . وإلى هذا ذهب ( المعتزلة ) .
وقال الجبائي : إن معنى الوصف لله بإنه غني هو أنّه لا تصل إليه المنافع والمضار ، ولايجوز عليه اللذات والسرور والآلام ، والأول أصوب بذلك في الشاهد والغائب ، وإطلاق المسلمين بعضهم لبعض إنه غني وفقير ، والله اعلم .
النساء : ( 132 ) ولله ما في . . . . .
) وَللهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلا ( .
(3/398)

" صفحة رقم 399 "
الضحاك عن ابن عباس : يعني دافعاً مجيراً .
عكرمة عن ابن عباس : يعني شهيداً
النساء : ( 133 ) إن يشأ يذهبكم . . . . .
) إنْ يَشَأ يُذْهِبْكُمْ أيُّهَا النَّاسُ ( فيميتكم يعني الكفار ) وَيَأتِ بِآخَرِينَ ( يعنى بغيركم خيراً منكم وأطوع ) وَكَانَ اللهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً ( أي مستطيعاً على ذلك .
القادر والقدير عند أصحاب الصفات من له قدرة قائمة به بائن بها عن العاجز ثم يختلف القادرون بعد ذلك فمنهم من تكون قدرته حالّة في بعضه ، ومنهم من تكون قدرته غير موصوفة بالحلول ، والقدرة هي التي يكون بها الفعل من غير ان يموت بموته ولايموت ويعود للعجز معها .
قالت المعتزلة : القادر هو الذي يجوز منه الفعل ، والدليل على صحة ما قال أصحاب الصفات إن القادر رأيناه مخالفاً للمعاجز فيما قدر عليه وقد بطل أن يخالفه من أجل إنه صفة لموصوف يخالف سائر الموصوفين بها أو يخالف من أجل إنه محدث به خلاف العاجز فلما يتعلق هذه الأقسام صح إنه إنما يخالفه لأن له قدرة ليست للعاجز فلذلك قلنا إن القديم جل جلاله قادر بقدرة دون أن يكون قادر بنفسه .
النساء : ( 134 ) من كان يريد . . . . .
) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ( .
يقول : من كان يريد بعمله الذي فرضه الله ( بقدرته ) عرضاً من الدنيا ولايريد به الله أثابه الله عليه ما أحب الله من عرض الدنيا أو دفع عنه فيها ما أحب الله ، وليس له في الآخرة من ثواب لأنه عمل لغير الله ، ومن أراد بعمله الذي افترضه الله عز وجل عليه في الدنيا ثواب الآخرة أثابه الله عليه من عرض الدنيا ما أحب الله ودفع عنه ما أحب الله وجزاه في الآخرة الجنة بعمله .
وروى سليمان بن عمرو عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( نيّة المؤمن خير من عمله ، وعمل المنافق خير من نيته ، وكل يعمل على نيته ، وليس من مؤمن يعمل عملاً إلاّ صار في قلبه صورتان ) .
فإن كانت الأولى لله فلا يهده الآخرة
النساء : ( 135 ) يا أيها الذين . . . . .
) يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ ( الآية يعني كونوا قوامين بالشهادة ويعني بالقسط العدل .
قال ابن عباس : معناه : كونوا قوّامين بالعدل في الشهادة على من كانت ) وَلَوْ عَلَى أنفُسِكُمْ أوِ الوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ ( في الرحم فأقيموها عليهم لله تعالى ، ولا تحابوا غنياً لغناه ، ولا ترحموا
(3/399)

" صفحة رقم 400 "
فقيراً لفقره فذلك قوله تعالى ) إنْ يَكُنْ غَنِيّاً أوْ فَقِيراً فَاللهُ أوْلَى بِهِمَا ( منكم فهو يتولى ذلك منهم ) وَلا تَتَّبِعُوا الهَوَى أنْ تَعْدِلُوا ( يعني أن تتركوا الحق وتتبرأوا .
قال الفراء : ويقال معناه : لاتتبعوا الذنوب لتعدلوا كما يقال : لا تتبعن هواك ليرضى عنك أي أنهاك عن هذا كيما يرضى ربّك .
ويقال : فلا تتبعوا الهوى فراراً من إقامة الشهادة ) وَإنْ تَلْوُوا ( باللسان فتحرفوا الشهادة لتبطلوا الحق ) أوْ تُعْرِضُوا عنها ( فتكتمونها ولاتقيمونها عند الحكام ) فَإنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ ( من إقامتها وكتمانها ) خَبِيراً ( ويقال : معناه : وإن تلووا أي تدافعوا في إقامة الشهادة ، يقال : لويت حقّه أي دافعته وبطلته .
وقال ابن عباس : هذه الآية في ( القاضي ) وليّه شدقه وإعراضه عن أحد الخصمين .
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عند نزول هذه الآية : ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقم شهادته على ما كانت ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجحد حقّاً هو عليه ، وليؤدّه عفواً ، ولا يلجئه إلى سلطان ( ليأخذ ) بها حقه ، وأما رجل خاصم إليّ فقضيت له إلى أخيه بحق ليس هو له عليه ، فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من جهنم ) .
مسألة في اللغة
قال أهل المعاني : معنى القسط العدل ، يقال أقسط الرجل يقسط إقساطاً إذا عدل وقسط يقسط قسوطاً إذ جار .
قال الله تعالى : ) وَأقْسِطُوا إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ( وقال تعالى : ) وَأمَّا القَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ( .
ويقال : قسط البعير يقسط قسطاً إذا يبست يده ، ويد قسطاً أي يابسة ، فكان أقسط معناه أقام الشيء على حقيقته في العدل ، وكان معنى قسط أي ( خيار ) أي يبس الشيء وأفسد جهته المستقيمة .
2 ( ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِى نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِىأَنَزلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ءَامَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً بَشِّر
(3/400)

" صفحة رقم 401 "
الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِى الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِى جَهَنَّمَ جَمِيعاً الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ( 2
النساء : ( 136 ) يا أيها الذين . . . . .
) يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ( الآية .
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأسد وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس بن كعب وسلام ابن اخت عبد الله بن سلام ، وسلامة بن أخيه ويامين ابن يامين ، فهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب . أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا : يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك ، وبموسى والتوراة ، وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل ، فقال لهم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( بل آمنوا بالله ورسوله محمد وبكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله ) فقالوا : لا نفعل ، فأنزل الله تعالى ) يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ( ) وَالكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ ( يعني القرآن ) وَالكِتَابِ الَّذِي أنزَلَ مِنْ قَبْلُ ( يعني الكتب المتقدمة التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب المتقدمة ) وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ ( إلى قوله ) ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً ( يعني خطأ خطأً بعيداً ، فلما نزلت هذه الآية ، قالوا : يا رسول الله فإنّا نؤمن بالله ورسوله وبالقرآن وبكلّ رسول وكتاب كان قبل القرآن والملائكة واليوم الآخر لانفرق بين أحد منهم كما فعلت اليهود والنصارى ، ونحن له مسلمون فدخلوا في الإسلام .
وقال الضحاك : هي في اليهود والنصارى ، ومعنى الآية : يا أيها الذين آمنوا بموسى والتوراة وعيسى والإنجيل آمنوا بمحمد والقرآن .
وقيل : إنه ورد في اليهود خاصة ، والمعنى : يا أيها الذين آمنوا في وجه النهار آمنوا في آخر النهار ، وذلك قوله تعالى ) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أهْلِ الكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ ( الآية .
وقال ( أبو العالية ) وجمع من المفسرين : هذه الآية خطاب للمؤمنين وتأويله : يا أيها الذين آمنوا آمنوا أي أقيموا واثبتوا على الإيمان ، وكقوله لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) ( فإعلم إنه لا إلاه إلاّ الله ) أي اثبت على ما أنت عليه وكقوله ) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأجْرٌ عَظِيمٌ (
(3/401)

" صفحة رقم 402 "
ومعناه : وعد الله الذين آمنوا على الإيمان من أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) الذين هم في هذه القصة مغفرة وأجراً عظيماً ، ويقال في الكلام للقائم : قم ، وللقاعد : أُقعد ، والمراد منه الاستدامة .
ويقال : أنها خطاب للمنافقين الذين أصروا التكذيب ومعناها : يا أيها الذين آمنوا في الملأ آمنوا في الخلاء ، وقال آخرون : المراد منه الكفار يعني : يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى والطاغوت آمنوا بالله ، ومعناه : إن كان لابد للإيمان يعني فالإيمان بالله تعالى ورسله والكتب أحق وأولى من الإيمان بما لا يضر ولاينفع ولا ينفق ولا يرزق ولايحيي ولا يميت ، والله أعلم .
ثم ذكر من لم يؤمن من أهل الكتاب ، فقال :
النساء : ( 137 ) إن الذين آمنوا . . . . .
) إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ( بموسى ) ثُمَّ كَفَرُوا ( بموسى ) ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ( بعد عزير بالمسيح وكفرت النصارى بما جاء به موسى وآمنوا بعيسى بن مريم ) ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً ( بمحمد وبما جاء به .
قتادة : هم اليهود والنصارى آمنت اليهود بالتوراة ثم كفروا وآمنت النصارى بالانجيل ثم كفرت وكفرهم هو ( تكذيبهم ) إياه ، ثم ازدادوا كفراً بالقرآن وبمحمد ( صلى الله عليه وسلم )
وقال مجاهد : ثم ازدادوا كفراً أي ماتوا عليه ) لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ ( ما أقاموا على ذلك ولا ليهدهم ) سَبِيلا ( سبيل هدى .
وقال ابن عباس : يدخل في هذه الآية كل منافق كانوا على عهد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )
قال نحو ذكر ما في هذه الآية من الكلام على أهل القدر .
يقال لأهل القدر : خبرونا عن الكفار هل هداهم الله عز وجل إلى الإسلام ؟ فإن قالوا : نعم . قيل كيف يجوز أن يقال إن الله هداهم وقد قال الله تعالى ) وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا ( ؟ قيل : ومعناه إنه لايهديهم إلى طريق الجنة يقال لهم كيف يهديه إلى طريق الجنة وقد هداه عندك لأن من أصلك إن العبد إنما يدخل الجنة فمعناه أنه يدخل الجنّة لفعله ويدخل النار بفعله ، وقد هداه إلى طريق الجنة بهدايته إلى الإسلام فكيف يصح هذا التأويل على أصلك ؟
واعلم أنهم إذا ألزمهم الشيء ، فقالوا في التأويل ، فإذا فحصت عن تأويلهم بان لك فساد قولهم .
واعلم إن الله عز وجل قد بيّن لك إنه لايهديهم سبيلاً ليعلم العبد إنما يقال هُدي بالله عز وجل ويحرم الهدى بإراده الله عز وجل ثم لايكون لهم عاذر بنفي الهدى عنهم ، ولا مزيلاً للحجة
النساء : ( 138 ) بشر المنافقين بأن . . . . .
) بَشِّرِ المُنَافِقِينَ ( نبّئهم يا محمّد ) بِأنَّ لَهُمْ عَذَاباً ألِيماً ( .
قال الزجاج : بشّر أي اجعل في موضع بشارتك لهم العذاب الأليم ، والعرب تقول : تحيتك الضرب ، وعتابك السيف ، أي تضع الضرب موضع التحية ( والسيف موضع العتاب )
(3/402)

" صفحة رقم 403 "
وقال الشاعر :
وخيل قد دلفت لها بخيل
تحية بينهم ضرب وجمع
ثم وصف المنافقين فقال
النساء : ( 139 ) الذين يتخذون الكافرين . . . . .
) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أوْلِيَاءَ ( أنصاراً وبطانة ) مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ ( يعني الرفد والمعونة والظهور على محمّد وأصحابه .
وقال الزجاج : العزة يعني المنعة والشدة والغلبة مأخوذ من قولهم : أرض عزاز أي صلبة لايفيد عليها شيء ويقال : إستعز على المريض إشتد وجعه ، وقولهم يعز عليّ أي يشتد ، وقولهم إذا عز الشيء لم يوجد فتأويله قد اشتد وجود وصف إن وجد ) فَإنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعاً ( أي القدرة لله جميعاً وهو سيد الأرباب . ثم قال
النساء : ( 140 ) وقد نزل عليكم . . . . .
) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ ( يا معشر المسلمين بمكة ) فِي الكِتَابِ أنْ إذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ ( يعني القرآن ) يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيث غَيْرِهِ ( أي يأخذوا في حديث غير الإستهزاء بمحمد وأصحابه والقرآن .
وذلك إن المنافقين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود فيستهزئون بالقرآن ويكذبون به ويحرفونه عن مواضعه فنهى الله تعالى المسلمين عن مجالستهم ومخالطتهم ، والذي نزل في الكتاب قوله تعالى ) وَإذَا رَأيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأعْرِضْ عَنْهُمْ ( الآية .
الضحاك عن ابن عباس : ودخل في هذه الآية كل محدث في الدين ، وكل مبتدع إلى يوم القيامة .
الكلبي عن أبي صالح : صح هذا القول بقوله عز وجل وما على الذين يتقون الشرك والاستهزاء من حسابهم من شيء ولكن ذكرى أي ذكروهم وعظوهم بالقرآن لعلهم يتقون الاستهزاء بمحمّد والقرآن ) إنَّكُمْ إذاً مِثْلُهُمْ ( إذا قعدتم عندهم فأنتم إذاً مثلهم ) إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا 2 )
النساء : ( 141 ) الذين يتربصون بكم . . . . .
) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ( أي ينتظرون بكم الدوائر يعني المنافقين ) فَإنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ ( يعني النصر والغنيمة ) قَالُوا ألَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ ( على دينكم فأعطونا من الغنيمة ) وَإنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ ( يعني دولة وظهوراً على المسلمين ) قَالُوا ( يعني المنافقين ) ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ ( ألم نخبركم بعزيمة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه ونطلعكم على سرّهم .
وقال أهل اللغة : ألم نستحوذ عليكم ويغلب عليكم قال : إستحوذ أي غلب .
وفي الحديث كان عمر أحوذنا أي غالب أمرنا في الحق .
وقال العجّاج : يحوذهن وله حوذى .
( كما يحوذ الفئة ) الكميّ
(3/403)

" صفحة رقم 404 "
الكميّ . أي يغلب عليها ويجمعها ، ويروى بالزاي فيهما .
وقال النحويون : استحوذ خرج على الأصل ، فمن قال : حاذ يحوذ لم يقل إلاّ استحاذ يستحذ وإن كان أحوذ يحوذ كما قال بعضهم : أحوذت ( وأطّيبت ) بمعنى أحذتُ وأطبت . قال إستحوذ إستخرجه على الأصل ) وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ المُؤْمِنِينَ ( ونمنعكم منازلة المؤمنين ) فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ ( يعني بين أهل الإيمان وأهل النفاق ثم يفصل بينهم ) وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلا ( .
عكرمة والضحاك عن ابن عباس يعني حجة .
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : ولن يجعل الله الكافرين على المؤمنين يعني أصحاب محمد ( صلى الله عليه وسلم ) سبيلاً يعني ظهوراً عليهم .
وقال علي ( رضي الله عنه ) : ولن يجعل الله الكافرين على المؤمنين في الآخرة ، وفي هذه الآية دليل على أن المنافق ليس بمؤمن وليس الإيمان هو الإقرار فقط ، اذ لو كان الإيمان هو الإقرار لكانوا بذلك هم مؤمنين .
وفيه دليل أيضاً على صحة نبوة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لأن القوم كانوا كاتمين اعتقادهم فأظهر الله عز وجل رسوله على اعتقادهم وكان ذلك حجة له عليهم إذ علموا إنه لايطلع على ضمائر القلوب إلا البارىء جل وعز .
( ) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَواةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذالِكَ لاَ إِلَى هَاؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَاؤُلاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِى الدَّرْكِ الاَْسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ فَأُوْلَائِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَءَامَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً ( 2
النساء : ( 142 ) إن المنافقين يخادعون . . . . .
) إنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ ( قد مرّ تفسيره .
) وَهُوَ خَادِعُهُمْ ( أي يجازيهم جزاء خداعهم ، وذلك أنهم على الصراط يعطون نوراً كما يعطي المؤمنين ، فإذا مضوا على الصراط ( يسلبهم ذلك النور ) ويبقى المؤمنون ينظرون بنورهم فينادون المؤمنين ) انظرونا نقتبس من نوركم ( فيناديهم الملائكة على الصراط ) ارجعوا ورائكم فالتمسوا نوراً ( وقد علموا أنهم لايستطيعون الرجوع ( فيشفق ) المؤمنون حينئذ من نورهم أن
(3/404)

" صفحة رقم 405 "
يطفىء فيقولون : ) رَبَّنا أتْمِمْ لَنا نورَنا وإغْفِرْ لَنا إنَّكَ على كُلِّ شيء قَدِير ( ) وَإذَا قَامُوا ( يعني ( تهيّأوا ) ) إلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى ( يعني متثاقلين ، يعني لايريدون بها ( وجه ) الله فإن رآهم أحد صلّوا وإلاّ انصرفوا ولم يصلّوا ) يُرَاؤُونَ النَّاسَ ( يعني المؤمنين بالصلاة ) وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إلاَّ قَلِيلا ( ابن عباس والحسن : إنما قال ذلك لأنهم يصلونها رياء وسمعة ولو كانوا يريدون بذلك وجه الله عز وجل لكان ذلك كثيراً .
قتادة : إنما قلّ ذكر المنافقين لأن الله عز وجل لم يقبله وكما ذكر الله قليل وكلما قبل الله كثير
النساء : ( 143 ) مذبذبين بين ذلك . . . . .
) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ ( أي مترددين متحيرين بين الكفر والإيمان ) لا إلى هولاء ولا إلى هؤلاء ( ليسوا من المؤمنين فيجب لهم ما يجب للمسلمين ، فليسوا من الكفار فيؤخذ منهم ما يؤخذ من الكفار فلا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء .
( القاسم بن طهمان ) عن قتادة : ماهم بمؤمنين مخلصين ولا بمشركين مصرحين بالشرك ) وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا ( أي طريقاً إلى الهدى .
وذكر لنا ان نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) كان يضرب مثلاً للمؤمن والمنافق والكافر كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر فوقع المؤمن فقطع ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر أن هلمّ إليّ فإني أخشى عليك وناداه المؤمن هلمَّ إلي فأن عندي الهدى وكفى له ما عنده ، فما زال المنافق يتردد منهما حتّى أتى على أذى فعرفه فإن المنافق لم يزل في شك وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك .
وروى عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إنّما مثل المنافق مثل الشاة العايرة من الغنمين يبدي إلى هذه مرة وإلى هذه مرة لايدري أيهما يتبع ) .
ثم ذكر المؤمنين ونهاهم عن الإتيان بما أتى المنافقون .
النساء : ( 144 ) يا أيها الذين . . . . .
فقال تعالى ) يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الكَافِرِينَ أوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أتُرِيدُونَ أنْ تَجْعَلُوا للهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً ( ثم ذكر منازل المنافقين فقال :
النساء : ( 145 ) إن المنافقين في . . . . .
) إنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ ( يعني في أسفل برج من النار ، والدُرك والدَرك لغتان مثل الطُعن والطَعن والنُهَر والنَهر واليُبس واليَبس .
قال عبد الله بن مسعود : الدرك الأسفل من النار توابيت مقفلة في النار تطبق عليهم ) وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ( ( عوناً )
(3/405)

" صفحة رقم 406 "
عن عوف عن أبي المغيرة القواس عن عبد الله بن عمر قال : إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة ثلة المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون .
قال الثعلبي : وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى فأما أصحاب المائدة فقوله عز وجل ) فَإنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أحَداً مِنَ العَالَمِينَ ( ، وأما آل فرعون فقوله تعالى : ) أدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدَّ العَذَابِ ( ، وأما المنافقون فقوله تعالى ) إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار 2 )
النساء : ( 146 ) إلا الذين تابوا . . . . .
) إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا ( من النفاق ) وَأصْلَحُوا ( عملهم ) وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ ( أي وثقوا بالله ) وَأخْلَصُوا دِينَهُمْ للهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ ( على دينهم . قال الفراء : مع المؤمنين تفسيره من المؤمنين . قال القتيبي : حاد عن كلامهم غيظاً عليهم فقال ( فأولئك مع المؤمنين ) ، ولم يقل فأولئك هم المؤمنون ) وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ المُؤْمِنِينَ ( في الآخرة ) أجْراً عَظِيماً ( وهي الجنة وإنما حذفت الياء من : يؤتي في الخط كما حذف في اللفظ لأن الياء سقطت من اللفظ لسكونها وسكون اللام في الله وكذلك قوله ) يوم ينادي المناد ( حذفت الياء في ( الخط ) لهذه العلة وكذلك ) سندع الزبانية ( ) يوم يدع الداع ( قالوا : والياء هذه حذفت لالتقاء الساكنين .
وأما قوله ) ما كنا نبغ ( حذفت لأن الكسرة دلت على الياء فحذفت لثقل الياء ، وقد قيل حذفت الياء من المناد والدّاع لأنك تقول : داع ومناد حذفت اللام بها كما حذفت قبل دخول الألف واللام .
وأما قوله تعالى ) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ ( فحذفت الياء لأنها مابين آية ورؤس الآية يجوز فيها الحذف
النساء : ( 147 ) ما يفعل الله . . . . .
) مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إنْ شَكَرْتُمْ ( نعماه ) وَآمَنْتُمْ ( به وفي الآية تقديم ، وتأخير ، تقديرها ما يفعل الله بعذابكم ان آمنتم وشكرتم لأن الشكر لاينفع مع عدم الإيمان بالله والله تعالى عرف خلقه بفضله على ان تعذيبه عباده لايزيد في ملكه . وتركه عقوبتهم على افعالهم ، لاينقص من سلطانه ) وَكَانَ اللهُ شَاكِراً ( للقليل من اعمالكم ) عَلِيماً ( بإضعافها لكم إلى عشرة إلى سبعمائة ضعف .
قال أهل اللغة : أصل الشكر إظهار النعمة والتحدث بها . قال الله تعالى ) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ( وذكر بعض أهل اللغة إن الشكر مأخوذ من قول العرب لغة شكور إذا كان يظهر
(3/406)

" صفحة رقم 407 "
سمنها على القليل من العلف فكان الله تعالى سمّى نفسه شاكراً إلا أنه يرضى من عباده بالقليل من العبادة ، بعد رتبة التوحيد .
وقال بعض المعتزلة : إن الوصف لله بأنه شكور وشاكر على جهة المجاز لأن الشكر في الحقيقة هو الاعتراف بنعم المنعم فلما كان القديم تعالى ذكره مجازياً للمطيعين على طاعتهم سمي مجازاته إياهم عليها شكراً على التوسعة ، وليس الحمد عنده هو الشكر لأن الحمد ضد ( الذم ) والشكر ضد الكفر ، فيقال له : إن لم يجز أن يكون الباري تعالى شاكراً على الحقيقة لما ذكرته لم يجز أن يكون مثيباً ، لأن المثيب من كافى غيره على نعمة ( قدمت ) إليه ابتداءً ، ( وإلاّ لم يجزيه ) أن يكون شاكراً في الحقيقة ، والشكر من الله تعالى الثواب .
ومن العباد الطاعة وحقيقة مقابلة الطاعة بغيرها ، فإذا قابلت أوامر الله بطاعتك فقد شكرته وإذا قابلك الله طاعتك بثوابه فقد شكرك عليها .
2 ( ) لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذاَلِكَ سَبِيلاً أُوْلَائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَائِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ( 2
النساء : ( 148 ) لا يحب الله . . . . .
) لا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ ( يعني القول القبيح ) إلاَّ مَنْ ظُلِمَ ( فقد اذن للمظلوم ان ينتصر بالدعاء على ظالمه ) وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً ( لدعاء المظلوم ) عَلِيماً ( بعقاب الظالم ، نظير قوله ) وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيل ( مجاهد : هذا في الضيف النازل إذا لم يضيف ومنع حقه أو اساءوا قراه فقد رخص الله له أن يذكر منه ماصنع به ، وزعم أن ضيفاً نزل بقوم فأساءوا قراه فاشتكاهم ، فنزلت هذه الآية رخصة في أن يشكو . والضيافة ثلاثة أيام ومافوق ذلك فهو صدقة .
وقوله ( من ظلم ) من في محل النصب لأنه استثناء ليس من الأول ، وإن شئت جعلت من رفعاً فيكون المعنى ) لا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلاَّ مَنْ ظُلِمَ ( فيكون من بدلاً من معنى أحد والمعنى لايحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول إلاّ المظلوم ، وقرئ إلاّ مَنْ ظلم بفتح الظاء واللام على معنى إن الظالم يجهر بالسوء من القول ظلماً واعتداءً ، ويكون المعنى لكن الظلم الجهر بذلك ظلماً ومحل من في ) مَن ظُلم ( النصب لأنه استثناء من الأول ، وفيه
(3/407)

" صفحة رقم 408 "
وجه آخر : وهو أن يكون إلاّ من ظلم على معنى لكن الظالم جهروا له بالسوء من القول وهو بعد استثناءه من الأول ، وموضعه نصب وهو وجه حسن .
النساء : ( 149 ) إن تبدوا خيرا . . . . .
) إنْ تُبْدُوا خَيْراً ( يعني حسنة فتعمل بها كتبت له عشر وإن همّ بها ولم يعمل بها كتبت له حسنة واحدة ) أوْ تُخْفُوهُ ( وقيل الخير ماصفى المال ومعناه ان تبدوا الصدقة والمعروف أو تصدّقوا بسرّ ) أوْ تَعْفُوا عَنْ سُوء ( عن ظلم ) فَإنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً ( يعني فإنّ الله عز وجل أولى أن يتجاوز عنكم يوم القيامة عن الذنوب العظام .
النساء : ( 150 ) إن الذين يكفرون . . . . .
) إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ ( الآية نزلت في اليهود وذلك إنهم آمنوا بموسى وعزير والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل وبمحمّد والقرآن وذلك قوله ) وَيُرِيدُونَ أنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْض وَنَكْفُرُ بِبَعْض وَيُرِيدُونَ أنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ( أي ديناً من اليهودية والإسلام ، قال الله تعالى :
النساء : ( 151 - 152 ) أولئك هم الكافرون . . . . .
) أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ( ) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ( كلهم ) وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أحَد مِنْهُمْ ( يعني بين الرسل وهم المؤمنون ، قالوا : ) لانفرق بين أحد من رسله ( كما علمهم الله ، فقال ) قولوا آمنا إلى قوله لانفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ( ) أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ( بايمانهم بالله وكتبه ورسله ) وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً ( كما كان منهم في الشرك .
( ) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَآءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذالِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذالِكَ وَءَاتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِى السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَئَايَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الاَْنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَاكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ( 2
النساء : ( 153 ) يسألك أهل الكتاب . . . . .
) يَسْألُكَ أهْلُ الكِتَابِ أنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ ( الآية ، وذلك إن كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازورا قالا لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إن كنت نبياً حقاً فأتنا بكتاب من السماء فما أتى به موسى فأنزل الله عز وجل ) يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ( ) فَقَدْ سَألُوا مُوسَى أكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ ( يعني السبعين الذين خرج بهم موسى ( عليه السلام ) إلى الجبل ) فَقَالُوا أرِنَا اللهَ جَهْرَةً ( عياناً ) فَأخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا العِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ ( ولم نستأصلهم ) وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً ( الآية .
(3/408)

" صفحة رقم 409 "
يعني الآيات التسع
النساء : ( 154 ) ورفعنا فوقهم الطور . . . . .
) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمْ ادْخُلُوا البَابَ سُجَّداً ( قتادة : كنا نتحدث أنه باب من أبواب بيت المقدس ، وقيل : إيليا ، وقيل : أريحا ، وقيل : هي لهم قربة .
) وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ ( أي لاتظلموا باصطيادكم الحيتان فيها ) وَأخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً ( يعني العهد الذي أخذ الله عليهم في الصيد
النساء : ( 155 ) فبما نقضهم ميثاقهم . . . . .
) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ ( أي فبنقضهم ميثاقهم كقوله ) فَبِما رَحْمَة مِنَ اللهِ ( ، و ) عَمَّا قَلِيل ( و ) جندٌ مّا هنالك ( أي فبرحمة وعن قليل ، وبجند ما هنالك .
) وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقَ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ( تقدير الآية ، فنقضهم ميثاقهم وكفرهم وقتالهم وقولهم طبع الله على قلوبهم ولعنهم ) فَلا يُؤْمِنُونَ ( بمعنى من ممن كذب الرسل إلاّ من طبع الله على قلبه وإن من طبع الله على قلبه ، فلا يؤمن أبداً ، ثم قال تعالى ) إلاَّ قَلِيلا ( يعني عبد الله بن سلام ، وقيل معناه : فلا يؤمنون لا قليلاً ولا كثيراً
النساء : ( 156 ) وبكفرهم وقولهم على . . . . .
) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً ( حين رموها بالزنا
النساء : ( 157 ) وقولهم إنا قتلنا . . . . .
) وَقَوْلِهِمْ إنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ ( الآية .
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : إنّ عيسى ( عليه السلام ) استقبل رهطاً من اليهود وقالوا : الفاجر بن الفاجرة والفاعل بن الفاعلة ، فقذفوه وأُمّه فلما سمع عيسى ذلك دعا عليهم ، وقال : اللهم أنت ربي وأنا عبدك من روح نفخت ولم أُتَّهم من تلقاء نفسي ( اللهم فالعن من سبّني وسبَّ أُمّي )
فاستجاب الله دعاءه ومسخ الذين سبوّه وسبّوا أُمّه خنازير ، فلما رأى رأس اليهود ما جرى بأميرهم فزع لذلك وخاف دعوته آنفاً فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى فاجتمعوا عليه وجعلوا يسألونه فقال لهم : كفرتم وان الله يبغضكم ، فغضبوا من مقالته غضباً شديداً وثاروا إليه ليقتلوه فبعث الله تعالى جبرئيل ، وأدخله خوخة فيها روزنة في سقفها فصعد به إلى السماء من تلك الروزنة فأمر يهودا رأس اليهود رجلاً من أصحابه يقال له ططيانوس أن يدخل الخوخة ويقتله فلما دخل ططيانوس الخوخة لم ير عيسى بداخلها فظنوا إنه يقاتله فيها وألقى الله تعالى عليه شبه عيسى ، فلما خرج ظن إنه عيسى فقتلوه وصلبوه .
مقاتل : إن اليهود وكّلوا بعيسى رقيب عليه يدور معه حيثما دار فصعد عيسى الجبل ، فجاء
(3/409)

" صفحة رقم 410 "
الملك فأخذ ضبعيه ورفعه إلى السماء فألقى الله تعالى على الرقيب شبه عيسى ، فلما رأوه ظنوا انه عيسى فقتلوه وصلبوه ، وكان يقول : أنا لست بعيسى ، أنا فلان بن فلان ، فلم يصدّقوه فقتلوه .
وقال السدّيّ : إنهم حبسوا عيسى مرّتين في بيت فدخل عليهم رجل منهم وألقى الله تعالى عليه شبه عيسى ورفع عيسى إلى السماء من كوّة في البيت فدخلوا عليه وقتلوه بعيسى .
قتاده : ذكر لنا إن نبي الله عيسى بن مريم قال لأصحابه : أيّكم يقذف عليه شبهي فإنّه مقتول فقال رجل من القوم : أنا يا نبيّ الله فشبّه الرجل ومنع الله تعالى عيسى ورفعه إليه فلما رفعه الله إليه كساه الريش وألبسه النور وحطّ عنه لذة المطعم والمشرب وصار مع الملائكة يدور حول العرش وكان إنسياً ملكياً سمائياً أرضياً .
وهب بن منبه : أوحى الله تعالى إلى عيسى على رأس ثلاثين سنة ثم رفعه الله إليه وهو ( أربع ) وثلاثين سنة وكانت نبوته ( ثلاثة سنين ) .
قوله تعالى ) وقولهم ( يعني اليهود ) إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ( فكذبهم الله تعالى ) وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكَ مِنْهُ ( .
الكلبي : إختلافهم فيه فاليهود قالت : نحن قتلناه وصلبناه . وقالت طائفة من النصارى : بل نحن قتلناه ، وقالت طائفة منهم : ماقتلوه هؤلاء ولا هؤلاء بل رفعه الله إليه ( ونحن ننظر إليه ) وقال الذين لمّا قتل ططيانوس : ألم تروا إنه قتل وصلب فهذا إختلافهم وشكهم .
قال محمد بن مروان : ويقال أنّ الله وضع في شبه من عيسى على وجه ططيانوس ولم يلق عليه شبه جسده وخلقه ، فلما قتلوه نظروا إليه ، فقالوا : إن الوجه وجه عيسى وإنّما هو ططيانوس ، وقد قيل إن الذي شبَّه لعيسى وصلب مكانه رجل إسرائيلي وكان يقال له إيشوع بن مدين .
قال السدي : اختلافهم فيه أنهم قالوا إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى ، قال الله تعالى ) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْم إلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً ( أي ما قتلوا عيسى يقيناً
النساء : ( 158 ) بل رفعه الله . . . . .
) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إلَيْهِ ( .
قال الفراء والقتيبي : والهاء في قوله ) إليه ( إلى العلم يعني : وما قتلوا العلم يقيناً كما يقال قتلته عِلْماً وقتلته يقيناً للرأي والحديث .
وقال المقنع الكندي :
كذلك نخبر عنها الغانيات
). . . . ) فلكم يقيناً
ويؤيد هذا التأويل ما روى معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : وما
(3/410)

" صفحة رقم 411 "
قتلوه يقيناً يعني ما قتلوه ظنهم يقيناً ) وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً ( أي قوياً بالنقمة من اليهود فسلط عليه طغرى بن اطسيانوس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة ) حَكِيماً ( حكم عليهم ) باللعنة والغضب ) .
النساء : ( 159 ) وإن من أهل . . . . .
) وإن من أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن به قبل موته ( قال الأستاذ الإمام : معناه ومامن أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن به وتلا قوله تعالى ) وما منا إلاّ وله مقام معلوم ( أي ومامنا أحد إلاّ له مقام معلوم .
وقوله ) وَإنْ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُهَا ( المعنى : ومامنكم أحد إلاّ واردها . قال الشاعر :
لو قلت ما في قومها لم تيثم
يفضلها في حسب ومبسم
المعنى : ما في قومها أحد يفضلها ، ثمّ حذف .
عن قتادة والربيع بن انس وابو مالك وابن زيد : هما راجعتان إلى عيسى ، المعنى فإن من أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى وينزل من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلاّ آمن به حتى تكون الملة واحدة ملة الإسلام ، وهو رواية سعيد بن جبير وعطية عن ابن عباس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة ، وروى قتادة عن عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( الأنبياء إخوة لعلاّت أُمهاتهم شتّى ودينهم واحد وإني أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن بيني وبينه نبي ، ويوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً فإذا رأيتموه وهو رجل مربوع فلق إلى الحمرة والبياض سبط الشعر كان رأسه يقطره وان لم يصبه بلل بين ممصّرتين ، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملل كلها غير الإسلام وتكون السجدة واحدة لله تعالى ويهلك الله في زمانه الرجل الكذاب الدجال يقع الأمنة في الأرض في زمانه حتى ترتع الأُسود مع الإبل ، والنمور مع البقرة ، والذئاب مع الغنم ، ويلعب الصبيان مع بعضهم بعضاً ثم يلبث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه وإقرأوا إن شئتم ( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به قبل موته ) عيسى بن مريم ) رددها أبو هريرة ثلاث مرات
(3/411)

" صفحة رقم 412 "
عكرمة ومجاهد والضحاك والسدي : الهاء في قوله تعالى ( به ) راجعتين إلى عيسى ابن مريم إلى الكتابي الذي يؤمن والمعنى وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنَنَّ بعيسى قبل موته إذا عاين الملك فلا ينفعه حينئذ ايمانه ، لأن كل من نزل عليه الموت يعاين نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه وهذه رواية أبي هريرة عن أبي عليّ عن ابن عباس قالوا : لايبقى يهودي ولاصاحب كتاب حتى يؤمن بعيسى ، وإن احترق أو غرق أو تردى أو سلط عليه حيتان أو أكله السبع أو أي ميتة كانت .
قيل لابن عباس : أرأيت إن خرّ من فوق بيت ؟ قال : يتكلم به في الهواء ، فقال : أرأيت إن ضرب عنق أحدهم ؟ قال : يتلجلج بها لسانه .
يدل على صحة هذا التأويل ، قراءة أُبيّ : قبل موتهم .
الكلبي : خرجت من الكوفة حتى أتيت طابت وهي قرية دون واسط فنزلتها فإذا أنا بشهر بن حوشب فتذاكرنا هذه الآية . ) فإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به ( فقال شهر : خرج العطاء والحجاج يؤمئذ بواسط فأمر بالعطاء فوضع بين يديه فجعل يدعو الرجل فيدفع العطاء بما قال ، فدعا باسمي وجئت على فرس لي عجفاء رثّة الهيئة وعليّ ثياب رثّة ، فلما رآني الحجاج قال لي : ياشهر مالي أرى ثيابك رثة وفرسك رثة ، فقلت : أصلح الله الأمير أما ماذكرت من فرسي فإني قد اشتريتها ولم آل نفسي خيراً ، وأما ما تذكر من الثياب فحسب المؤمن من الثياب ما وارى عورته ، فقال : لا ولكنك رجل تكره الخز وتعيب من يلبسه ، فقلت : إني لا أكره ذلك ولا أعيب على من يلبسه ، قال : فدعا بقطعة له خزّ فأعطانيها فصببتها عليه فلما أردت أن أخرج ، قال لي : هلم ، فرجعت فقال : آية من كتاب الله تعالى ماقرأتها قط إلاّ اختلج في نفسي منها شيء ، قلت : أصلح الله الأمير ، ماهي ؟ فقرأ هذه الآية ) وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتَابِ إلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ( فإني لأُوتى بالأسير من اليهود والنصارى فآمر بضرب أعناقهم فما أسمعه يتكلّم بشيء ، فقلت : إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة وجهه ودبره ، وقالت : ياعدوّ الله أتاك عيسى ابن مريم عبداً نبياً فكذبت به ، فيقول : إني آمنت به إنه نبي عبد فيؤمن به حين لاينفعه إيمانه ، ويؤتى بالنصراني فيقولون له : ياعدو الله أتاك عيسى عبد نبي فقلت : إنه الله وابن الله ، فيؤمن به حين لا ينفعه إيمانه .
قال شهر : فنظر إليّ الحجاج وقال : من حدثك بهذا الحديث ؟ فقلت : محمد بن الحنفية ، قال : وكان متكئاً فجلس ثم نكث بقضيبه في الأرض ساعة ثم رفع رأسه إليّ وقال : أخذتها من عين صافية أخذتها من معدنها .
(3/412)

" صفحة رقم 413 "
قال الكلبي : فقلت : يا شهر ما الذي أردت أن تقول : حدثني محمد بن الحنفية وهو يكرهه ويكره ماجاء من قبلهم ، قال : أردت أن أُغيظه .
وقال بعضهم : الهاء في ( به ) راجعة إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وفي ( موته ) راجعة إلى الكتابي .
وهو رواية حماد بن حميد عن عكرمة قال : لايموت اليهودي ولا النصراني حتى يؤمن بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل الهاء في ( به ) راجعة إلى الله تعالى ، وإن من أهل الكتاب إلاّ ليؤمننّ به قبل أن يموت عند المعاينة ولاينفعه إيمانه في وقت البأس ) وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَكُونُ ( عيسى ) عَلَيْهِمْ شَهِيداً ( بأنّه قد بلّغهم رسالة من ربه وأقرَّ له بالعبودية على نفسه ، نظير قوله ) وكنت عليهم شهيداً مادمت فيهم ( وهو نبي شاهد على أُمّته ، قال الله تعالى : ) فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّة بِشَهِيد ( الآية ، وقال تعالى ) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّة شَهِيداً (
.
) فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً لَّاكِنِ الرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَواةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ أُوْلَائِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالاَْسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَءَاتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً لَّاكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً ( 2
النساء : ( 160 ) فبظلم من الذين . . . . .
) فَبِظُلْم مِنَ الَّذِينَ هَادُوا ( وهو ما تقدّم ذكره من نقضهم الميثاق وكفرهم بالآيات وبهتانهم على مريم وقولهم : إنا قتلنا المسيح .
ونظم الآية ) فبظلم من الذين هادوا ( وبصدهم أي صرفهم انفسهم وغيرهم عن سبيل الله عن دين الله صداً كبيراً
النساء : ( 161 ) وأخذهم الربا وقد . . . . .
) وَأخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأكْلِهِمْ أمْوَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ ( مثل الاكل التي كانوا يصيبونها من عوامهم ، وما كانوا يأخذونها في ايمان كتبهم التي كتبوها ، وقالوا هذه من عند الله ، وما كانوا يأخذون من الرشاء في الحكم ، كقوله تعالى ) وَأكْلِهِمُ السُّحْتَ ( عاقبناهم بأن حرّمنا عليهم الطيبات وكانوا كلما ارتكبوا كبيرة حرم عليهم شيئاً من الطيبات التي
(3/413)

" صفحة رقم 414 "
كانت حلالاً لهم ، يدلّ عليه قوله تعالى ) وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر و ( ) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ( .
نكتة قال لهم : ) وحرّمنا عليهم طيبات ( وقال لنا : ) ويحل لهم الطيبات ( ، وقال : ) وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً ( فلم يحرّم علينا شيئاً بذنوبنا فكما أمننا من تحريم الطيبات التي ذكر في هذه الآية نرجوا أن يؤمننا في الآخرة من العذاب الأليم وقال الله تعالى ) وَأعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً ألِيماً ( لأنه جمع بينهما في الذكر .
نكتة اطلق في تحريم الطيبات اللفظ في العذاب ، لأن التحريم شيء قد مضى له العذاب مستقبل ، وقد علم ان منهم من يؤمن فيأمن من العذاب ، فقال ) وأعتدنا للكافرين منهم عذاباً أليماً ( ثمّ استثنى مؤمني أهل الكتاب فقال :
النساء : ( 162 ) لكن الراسخون في . . . . .
) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ مِنْهُمْ ( يعني ليس أهل الكتاب كلّهم كما ذكرنا لكن الراسخون التائبون المناجون ، في العلم ) وَالمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ( .
واختلفوا في وجه انتصابه .
فقالت عائشة وأبان بن عثمان : هو غلط من الكاتب ، ونظيره قوله : ) إنّ الذين آمنوا والَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى ( وقوله تعالى : ) إنْ هَذانِ لَسَاحِرَانِ ( وقال بعض النحويين : هو نصب على المدح والعرب تفعل ذلك في صفة الشيء الواحد إذا تطاولت بمدح أو ذم خالفوا من اعراب أوله وأوسطه ، نظيره قوله ) وَالمُوفُونَ بِعهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأسَاءِ ( وقيل : نصب على فعل ، تقديره : اعني المقيمين ، على معنى : أذكر النازلين وهم الطيبون .
وقال قوم : موضعه خفض ، واختلفوا في وصفه ، قال بعضهم : معناه : لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة ، وقيل معناه : يؤمنون بما أُنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة ، وقال بعضهم : يؤمنون بما أُنزل إليك من الكتاب والمقيمين الصلاة .
ثم اختلفوا فيهم من هم ؟ فقيل : هم الملائكة ، وقيل : هم الأنبياء ، وقيل : هم المؤمنون ، وقيل : مؤمنوا أهل الكتاب وهم الراسخون .
النساء : ( 163 ) إنا أوحينا إليك . . . . .
قوله تعالى ) إنَّا أوْحَيْنَا إلَيْكَ ( الآية ، نزلت في اليهود وذلك لما أنزل الله تعالى قوله
(3/414)

" صفحة رقم 415 "
) يَسْألُكَ أهْلُ الكِتَابِ أنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ ( إلى قوله تعالى : ) وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً ( .
لفضحهم وذكر عيوبهم وذنوبهم ؛ غضبوا وقالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء وأنزل ) إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح ( جعله الله تعالى ثاني المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) في موضعين من كتابه في أهل الميثاق بقوله تعالى : ) وَإذْ أخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوح ( والثاني في الوحي ، فقال : ) إنَّا أوْحَيْنَا إلَيْكَ كَمَا أوْحَيْنَا إلَى نُوح ( فإن قيل : ما الحكمة في تقديم نوح على سائر الأنبياء وفيهم من هو أفضل منه ؟ يقال : لأنه كان أبو البشر قال الله تعالى ) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ البَاقِينَ ( وقيل : لأنه أول نبي من أنبياء الشريعة وأول داع ونذير عن الشرك .
وقيل : لأنه أول من عذب أمّته لردّهم دعوته وأهلك كل الأرض بدعائه عليهم لأنه كان أطول الأنبياء عمراً .
وقيل : إنه كبير الأنبياء ، وجعل معجزته في نفسه لأنه عُمِّر ألف سنة ولم ينقص له سن ولم تنقص له قوة ولم يشب له شعر .
وقيل لأنه لم يبالغ أحد من الأنبياء في الدين ما بالغ نوح ولم يصبر على أذى قوم ما صبر نوح وكان يدعو قومه ليلاً ونهاراً إعلاناً وإسراراً وكان يشتم ويضرب حتى يغمى عليه فإذا فاق دعا وبالغ وكان الرجل منهم يأخذ بيد إبنه فيقول له : يابني إحذر هذا فإنه ساحر كذاب . قال الله تعالى ) وقوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم وأطغى (
وقال من عتق عنه ( . . . . . . ) يوم القيامة بعد محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقيل لأن مقامه الشكر قال الله تعالى ) إنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً ( فكما ( . . . . . . ) القرآن فكذلك نوح ( عليه السلام ) صدر ( . . . . . . ) وقال أول من يُدَعى إلى الجنة الحمّادون لله على كل حال .
) وَأوْحَيْنَا إلَى إبْرَاهِيمَ وَإسْمَاعِيلَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ ( وهم أولاد يعقوب ) وَعِيسَى وَأيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً ( قرأ يحيى بن وثاب ، والأعمش وحمزة ) زبوراً ( بضم الزاي بمعنى جمع زبر وزبور كأنه قال : قد كتبنا صحفاً من بعده أي مكتوبة ، والباقون بفتح الزاي على أنه كتاب داود المسمى زبوراً ، وكان داود يبرز إلى البرّية فيدعو بالزبور وكان يقوم معه علماء بني اسرائيل فيقومون خلفه . ويقوم الناس خلف العلماء ويقوم الجن خلف الناس ، الأعظم فالأعظم في ( فلاة ) عظيمة ويقوم ( الناس ) لهذا الجن الأعظم
(3/415)

" صفحة رقم 416 "
فالأعظم وتجيء الدواب التي في الجبال ، إذا سمعن صوت داود فيقمن بين يديه تعجبّاً لما سمعن منه ، وتجيء الطير حتى يظللن داود وسليمان والجن والإنس في كثرة لايحصيهم إلاّ الله عز وجل يرفرفن على رؤسهم ثم تجيء السباع حتى تخالط الدواب والوحش لما سمعن حتى من لم ير ذلك ، فقيل له : ذاك انس الطاعة ، وهذه وحشة المعصية .
وروى طلحة بن يحيى عن أبي بردة أبي موسى عن أبيه قال : قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقرآنك ، لقد أُعطيت مزماراً من مزامير آل داود ) قلت : أما والله يا رسول الله لو علمت إنّك تسمع قراءتي لحسّنت صوتي وزدته ( تحبيراً ) .
وكان عمر ( رضي الله عنه ) إذا رآه قال : ذكّرنا يا أبا موسى فيقرأ عنده .
وعن أبي عثمان ( النهدي ) وكان قد أدرك الجاهلية ، قال : ما سمعت ( طنبوراً ولا صنجاً ) ولا مزماراً أحسن من صوت أبي موسى وإن كان لَيَؤُمّنا في صلاة الغداة لنودّ أنه يقرأ سورة البقرة من حسن صوته حيث نزع حرف الصفة فالمعنى : كما أوحينا إلى نوح وإلى رسل .
وقيل معناه وقصصنا عليك رسلاً نصب بعائد الذكر ، وفي قراءة
النساء : ( 164 ) ورسلا قد قصصناهم . . . . .
) وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ( بمكة في سورة الأنعام لأن هذه السورة مدنية أُنزلت من بعد الأنعام ) وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً (
النساء : ( 165 ) رسلا مبشرين ومنذرين . . . . .
) رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ( سمّى الله تعالى النبيين بهذين الإسمين ، فقال : ) كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ( ثم سمّى المرسلين خاصة بهذا الإسم ، فقال ( مبشرين ومنذرين ) ثم سمّى نبينا خاصة بهذين الإسمين ، فقال : ) إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا لتؤمنوا بالله ورسوله ( ) لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ( فيقول : ما أرسلت إلينا رسولاً فنتبع وما أنزلت علينا كتاباً . وقال في آية أخرى ) وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ( .
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما أحد أغير من الله تعالى ) . ولذلك ) حرم ربّي الفواحش ماظهر منها وما بطن ( وما ( أحسن ) إليه المدح من الله تعالى ولذلك مدح نفسه جل
(3/416)

" صفحة رقم 417 "
جلاله وما أحد أحبّ إليه العذر من الله تعالى لذلك ارسل الرسل ، وأنزل الكتب
النساء : ( 166 ) لكن الله يشهد . . . . .
) لكن الله يشهد ( الآية . اعلم أن الله تعالى شهد على سبعة أشياء على التوحيد ، فقال : ) شهد الله أنه لا إلاه إلا هو ( والثاني على العدل ) وكفى بالله شهيدا ( ) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ ( وقال تعالى ) قُلْ كَفَى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً ( وقال : ) قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ( وقال : ) فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ( والثالث على اعمال العباد فقال : ) يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا ( الآية وقال : ) إلا كنا عليكم شهوداً ( أي تفيضون فيه وقال : ) والله شهيد على ما تَعْمَلُونَ ( ، والرابع على جميع الأشياء فقال ) أو لم يكف بربك انه على كل شيء شهيد ( والخامس على كذب المنافقين قال تعالى : ) وَاللهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ( ، والسادس على شريعة المصطفى فقال عز من قائل ) قل الله شهيد بيني وبينكم ( أي شهيد على القرآن ) لَكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أنزَلَ إلَيْكَ أنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ( الآية .
وقال ابن عباس : إن رؤساء مكة أتوا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقالوا : يا محمد أخبرنا أولاً عن صفتك ونعتك في كتابهم فزعموا إنهم لايعرفونك ، ودخل على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) جماعة من اليهود فقال لهم : ( إني والله أعلم أنكم تعرفون أني رسول الله ) .
فقالوا : نعلم ، فأنزل الله تعالى إن كذبوك وجحدوك لكن الله يشهد ) بِمَا أنزَلَ إلَيْكَ أنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيداً (.
) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَالاَ بَعِيداً إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَكَانَ ذاَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً ياأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَئَامِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ياأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَئَامِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلَاثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَاهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ وما فِى السَّمَاوَات وَمَا فِى الاَْرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا
(3/417)

" صفحة رقم 418 "
ْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ( 2
النساء : ( 167 - 168 ) إن الذين كفروا . . . . .
) إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيداً إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا ( يعني اليهود الذين علم الله تعالى منهم إنهم لايؤمنون ) لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً ( يعني دين الإسلام
النساء : ( 169 - 171 ) إلا طريق جهنم . . . . .
) إلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ ( يعني اليهودية ) خَالِدِينَ فِيهَا أبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً ( إلى قوله تعالى ) يَا أهْلَ الكِتَابِ لا تَغْلُوا ( الآية نزلت في النسطورية والماريعقوبية والملكانية والمرقوسية وهم نصارى نجران وذلك إن الماريعقوبية قالوا لعيسى : هو الله ، وقالت النسطورية : هو ابن الله ، وقالت المرقوسية : هو روح الله ، فأنزل الله تعالى ) يا أهل الكتاب ( يعني يا أهل الانجيل وهم النصارى ) لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ( أي لا تتشددوا في دينكم فتفتروا عليّ بالكذب ، وأصل الغلو مجاوزة الحد في كل شيء ، يقال : غلا بالجارية لحمها وعظمها إذا أسرعت الشباب فجاوزت لداتها يغلو بها غلواً وغلاء .
خالد المخزومي :
خمصانة فلق موشحها
رؤد الشباب غلا بها عِظَم
) وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إلاَّ الحَقَّ ( لا تقولوا أن لله شركاء أو ابناً ، ثم بين حال عيسى وصفته فقال ) إنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ( وهو الممسوح المطهر من الذنوب والأدناس التي تكون في الناس كما يمسح للشيء من الاذى الذي يكون فيه فيطهر ، عيسى ابن مريم لا ابن الله بل رسول الله ( وعبده قال : ) إنّي عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبّياً ( ) ردَّ بهذا على اليهود والنصارى جميعاً ) وَكَلِمَتُهُ ( يعني قوله : كن ، فكان بشراً من غير أب وذلك قوله تعالى ) كمثل آدم خلقه من تراب ( الآية وقيل : هي بشارة الله مريم بعيسى ورسالته إليها على لسان جبرئيل وذلك قوله تعالى ) إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بغلام اسمه المسيح ( وقال تعالى مصدّقاً بكلمة من الله ) ألْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ ( يعني أعلمها وأخبرها بها كما يقال : ألقيت إليك كلمة حسنة ) وَرُوحٌ مِنْهُ ( الآية .
قال بعضهم : معناه ونفخة منه وذلك أن جبرئيل نفخ في درع مريم فحملت بإذن الله ، فقال : ) وروح منه ( لأنه بأمره كان المسيح وربما لأنه ريح يخرج من الروح ، قال ذو الرمة يصف شرر النار التي تسقط من القداحة
(3/418)

" صفحة رقم 419 "
فقلت له ارمها إليك وأحيها
بروحك واقتته لها قيتة قدراً
واجعل لها قوتاً بقدر . يدل عليه قوله تعالى ) وَالَّتِي أحْصَنَتْ فَرْجَهَا ( الآية هذا معنى قول عذرتها .
وقال أبو عبيدة : إنّه كان إنساناً بإحياء الله عز وجل إياه ، يدل عليه قول السدّي ) وروح منه ( أي مخلوق من عنده ، وقيل : معناه ورحمة من الله تعالى ، عيسى رحمة لمن شهد وآمن به ، يدل عليه قوله في المجادلة ) وَأيَّدَهُمْ بِرُوح مِنْهُ ( أي قوّاهم برحمة منه ، فدلّ الروح بالوحي أوحى إلى مريم بالبشارة وأوحى إلى مريم بالمسيح وأوحى أنه ابن مريم يدلّ عليه ( قوله تعالى : ) بروح منه ( ) يعني بالوحي ، وقال في حم المؤمن : ) يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ( .
وقال : ) وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ( أي وحينا ، وقيل : إهدنا بروح جبرئيل فقال : ) وكلمة ألقاها إلى مريم ( وألقى إليها أيضاً روح منه وهو جبرائيل . يدل عليه قوله في النحل ) قل نزله روح القدس ( نظيره في الشعراء قال : ) انزله الروح الأمين ( وقال ) وَأيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القُدُسِ ( وقال ) يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أمْرِهِ ( يعني جبرئيل ، وقال ) فَأرْسَلْنَا إلَيْهَا رُوحَنَا ( الروح الوحي يعني من الإضافة إليه على التخصيص كقوله لآدم ( عليه السلام ) ) وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ( .
قال الثعلبي : وسمعت الأستاذ أبا القاسم الحبيبي يقول : كان لهارون الرشيد غلام نصراني متطبّب وكان أحسن خلق الله وجهاً وأكملهم أدباً وأجمعهم للخصال التي يتوسل بها إلى الملوك وكان الرشيد مولعاً بأن يسلم وهو ممتنع وكان الرشيد يمنيه الأماني ( فيأبى ) فقال له ذات يوم : مالك لاتؤمن ؟ قال : لأن في كتابكم حجة على من انتحله ، قال وما هو ؟ قال : قوله ) وَكَلِمَتُهُ ألْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ( أفغير هذا دين النصارى أن عيسى جزء منه ، ( فغمّ ) قلب الرشيد لذلك فدعا العلماء والفقهاء فلم يكن منهم من يزيل تلك الشبهة حتى قيل : قدم حجاج خراسان وفيهم رجل يقال له علي بن الحسين بن واقد من أهل مرو إمام في أهل القرآن ، فدعاه وجمع بينه وبين الغلام ، فسأل الغلام فأعاد قوله ، فاستعجم على علي بن الحسين الوقت جوابه فقال : يا أمير المؤمنين قد علم الله في سابق علمه أن مثل هذا ( الحدث ) يسألني في مجلسك ، وإنه لم
(3/419)

" صفحة رقم 420 "
يخل كتابه من جوابي وليس يحضرني في الوقت لله عليَّ أن لا أُطعم حتى آتي الذي فيأمن حقها ان شاء الله ، فدخل بيتاً مظلماً ، وأغلق عليه بابه ( وانشغل ) في قراءة القرآن حتى بلغ سورة الجاثية ) وسخر لكم مافي السماوات وما في الأرض جميعاً منه ( فصاح بأعلى صوته : إفتحوا الباب فقد وجدت ، ففتحوا ، ودعا الغلام وقرأ عليه الآية بين يدي الرشيد ، وقال : إن كان قوله ( وروح منه ) توجبان عيسى بعض منه وجب أن يكون ما في السماوات وما في الأرض بعضاً منه ، فانقطع النصراني وأسلم وفرح الرشيد فرحاً شديداً ووصل علي بن الحسين بصلة فاخرة فلما عاد إلى مرو صنف كتاب ( النظائر في القرآن ) وهو كتاب لايوازيه في بابه كتاب .
) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ ( قال أبو عبيدة : معناه ولاتقولوا هم ثلاثة .
وقال الزجاج : ولاتقولوا آلهتنا ثلاثة ، وذلك أنهم قالوا : أب وابن وروح القدس ، ) انْتَهُوا ( عن كفركم ) خَيْراً لَكُمْ ( إلى قوله
النساء : ( 172 ) لن يستنكف المسيح . . . . .
) لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ أنْ يَكُونَ عَبْداً للهِ ( وذلك إن وفد نجران قالوا : يا محمد لم تعيب صاحبنا ؟ قال : ومن صاحبكم ؟
قالوا : عيسى . قال : وأي شي أقول ؟ قال : تقول أنه عبد الله ورسوله ، فقال لهم : إنه ليس بعار لعيسى إن يكون عبداً لله . قالوا : بلى ، فنزلت ) لَنْ يَسْتَنْكِفَ المَسِيحُ أنْ يَكُونَ عَبْداً للهِ ( الآية . لم يأنف ولم يتعظّم ولم ( يختتم ) وأصله الأنفة ، والتجنب وأصله في اللغة من قولهم نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك عن خدك .
قال الشاعر :
فباتوا فلولا ما تذكر عنهم
من الحلف لم ينكف لعينيك تدمع
) وَلا المَلائِكَةُ المُقَرَّبُونَ ( هم حملة العرش لايأبون ان يكونوا عبيداً لله ، لأن من الكفار من اتخذ الملائكة آلهة فلذلك ذكرهم ثم أوعدهم فقال ) وَمَنْ يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إلَيْهِ جَمِيعاً ( المستكبر والمقر ^
النساء : ( 173 ) فأما الذين آمنوا . . . . .
) فَأمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ( في ( التضعيف ) ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
) وَأمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا ( عن عبادته ) وَاسْتَكْبَرُوا ( عن السجود ) فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً ألِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً ( ثم قال ( الله ولي الذين آمنوا ) .
2 ( ) يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّه
(3/420)

" صفحة رقم 421 "
يُفْتِيكُمْ فِى الْكَلَالَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُْنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ ( 2
النساء : ( 174 - 176 ) يا أيها الناس . . . . .
قوله تعالى ) يَا أيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ( يعني محمد ( صلى الله عليه وسلم ) إلى قوله تعالى ) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ ( .
روى محمد بن المنكدر وابو الزبير عن جابر بن عبد الله قال : مرضت فأتاني رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يعودني هو وأبو بكر فلما غشياني فوجدني قد أغمي عليّ فتوضّأ رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم صَبّ عليّ من وضوئه فأفقت ، فقلت : يا رسول الله كيف أصنع في مالي وكان لي سبع أخوات ولم يكن لي ولد ولا والد ؟ قال : فلم يجبني شيئاً ثمّ خرج وتركني ثم رجع إليّ وقال : ( يا جابر إني لا أراك ميّتاً من وجعك هذا وإن الله عز وجل ، قد أنزل في أخواتك وجعل لهن الثلثين ) ، وقرأ هذه الآية ) يستفتونك ( إلى آخرها .
وكان جابر يقول : نزلت هذه الآية فيَّ .
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في جابر وفي أخته أتى رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول الله إن لي أُختاً فما لي ( وما لها ) .
فنزلت هذه الآية وابتدأ بالرجل ، فيقال : إنه مات قبل أُخته .
سعيد عن قتادة قال : قال بعضهم على الكلالة فقالوا يا نبي الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل الله عز وجل هذه الآية ) يستفتونك ( أي يستخبرونك ويسألونك ( قل الله يفتيكم في الكلالة ) .
قال الشعبي : اختلف أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في الكلالة وقال أبو بكر : هو ما عدا الولد ، وقال عمر : هو ما عدا الوالد .
ثم قال عمر : إني لأستحي من الله أن أُخالف أبا بكر .
وقال عمر ( رضي الله عنه ) : لأن يكون النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بينهنّ لكان أحب إلينا من الدنيا وما فيها ، الكلالة والخلافة وأبواب الربا .
وقال محمد بن سيرين : نزلت هذه الآية والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) في مسيره إلى حجة الوداع ، وإلى جنبه حذيفة بن اليمان ( وإلى جنبه عمر ) فبلغها النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلى حذيفة وبلغها حذيفة إلى عمر وهو يسير خلف حذيفة ، فلما استخلف عمر سأل حذيفة عنها ورجا أن يكون عنده تفسيرها ، فقال له
(3/421)

" صفحة رقم 422 "
حذيفة : والله إنك لأحمق أن ظننت أنّ إمارتك تحملني أن أُحدّثك فيها ما لم أُحدّثك يومئذ لما لقّانيها رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( والله ، لا أزيدك عليها شيئاً أبداً ) فقال عمر : لم أرد هذا رحمك الله ، ثم قال عمر : من كنت بيّنتها له فإنها لم تبين لي وما شهدك أفهمتها له فإني لم أفهمها .
وقال طارق بن شهاب : أخذ عمر كتفاً وجمع أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثم قال : لأقضينّ في الكلالة قضاءً تحدّث به النساء في خدورها فخرجت حينئذ حية من البيت فتفرّقوا ، فقالوا : لو أراد الله أن يتم هذا الأمر لأتمّه .
وقال أبو الخير : سأل رجل عتبة عن الكلالة ، فقال : ألا تعجبون من هذا ، يسألني عن الكلالة ( ما شغل ) أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) شيء مثل ما شغلت بهم الكلالة .
وخطب عمر الناس يوم الجمعة فقال : والله إني ما أدع بعدي شيئاً هو أهم من الكلالة ، قد سألت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) عنها فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها حتى طعن الناس فيّ وقال : تكفيك الآية التي في آخر سورة النساء ، وقيل لها : آية الصيف لأنها نزلت في الصيف .
وقال أبو بكر ( رضي الله عنه ) في خطبته : ألا إن الآية التي أنزلها الله في سورة النساء من شأن الفرائض أنزلها في الولد والوالد ، والآية الثانية في الزوج والزوجة والأُخوة منهم ، والآية التي ختم بها سورة النساء من ذكر بعضهم .
(3/422)

" صفحة رقم 5 "
( سورة المائدة )
مدنية ، فيها من المنسوخ تسع آيات منها قوله : ) لا تحلوا شعائر اللّه ( نسختها آية السيف
قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) في خطبته يوم حجة الوداع قال : ( يا أيها الناس إن سورة المائدة من آخر القرآن نزولاً فأحلوا حلالها وحرموا حرامها ) وهي إحدى عشر ألفاً وتسعمائة وثلاثة وثلاثون حرفاً ، وألفان وثمانمائة وأربع كلمات ، ومائة وعشرون آية .
عن عبد اللّه بن عمر قال : قرأ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) سورة المائدة وهو على راحلة فلم تستطع أن تحمله حتى نزل عنها .
أبو أمامة عن أبي بن كعب قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ سورة المائدة أُعطي من الأجر بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في الدنيا عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ) .
بسم اللّه الرحمن الرحيم
( ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الاَْنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ وَلاَ الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلاَ الْهَدْىَ وَلاَ الْقَلَائِدَ وَلاءَامِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ آلْعِقَابِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِه
(4/5)

" صفحة رقم 6 "
ِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالاَْزْلاَمِ ذاَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِىأَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الاَْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 2
المائدة : ( 1 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها ( يا نداء أي إشارة ، ها تنبيه ) الذين آمنوا ( ( نصب على البدل من : أيّها ) ) أوفوا بالعقود ( يعني بالعهود .
قال الزجّاج : العقود أو كل العهود . يقال : عاقدت فلاناً وعاهدت فلاناً ، ومنه ذلك باستيثاق وأصله عقد الشيء بغيره . وهو وصله به كما يعقد الحبل بحبل إذا وصل شّداً قال الحطيئة :
قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم
شدّوا العناج وشدّوا فوقه الكربا
واختلفوا في هذه العقود ما هي ، قال ابن جريح : هذا الخطاب خاص لأهل الكتاب وهم الذين آمنوا بالكتب المقدسة والرسل المتقدمين .
أوفوا بالعهود التي عهد بها بينكم في شأن محمد ، وهو قوله ) وإذ أخذ اللّه ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ( . وقوله ) وإذ أخذ اللّه ميثاق الذين أُوتوا الكتاب لتبيّننه للناس ولا تكتمونه ( وقال الآخرون : فهو عالم .
قال قتادة : أراد به الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية دليله قوله ) والذين عقدت أيمانكم ( .
(4/6)

" صفحة رقم 7 "
ابن عباس : هي عهود الأيمان و ( الفراق ) ، غيره : هي العقود التي عقدها الناس بينهم ، ) أُحلت لكم بهيمة الأنعام ( اختلفوا فيها ، فقال الحسن وقتادة والربيع والضحّاك والسدّي : هي الأنعام كلها وهي إسم للبقر والغنم والإبل ، يدل عليه قوله تعالى ) ومن الأنعام حمولةً وفرشاً ( ثم بيّن ما هي ، فقال ) ثمانية أزواج من الضأن اثنين ( وأراد بها ما حرّم أهل الجاهلية على أنفسهم من الأنعام .
وقال الشعبي : بهيمة الأنعام : الأجنّة التي توجد ميتة في بطن أمهاتها إذا ذُبحت .
وروى عطية العوفي عن ابن عمر في قوله تعالى ) أُحلت لكم بهيمة الأنعام ( قال ما في بطونها ، قلت : إن خرج ميتاً آكله . قال : نعم هي بمنزلة رئتها وكبدها .
وروى قابوس عن أبيه عن ابن عباس أن بقرة نُحرت فوجد في بطنها جنين ، فأخذ ابن عباس بذنب الجنين وقال : هذا من بهيمة الأنعام التي أُحلت لكم .
وقال أبو سعيد الخدري : سألنا رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) عن الجنين ، فقال : ( ذكاته ذكاة أمّه ) .
قال الكلبي : بهيمة الأنعام وحشها ، كالظباء وبقر الوحش مفردين ، وإنما قيل لها بهيمة لأن كل حي لا يمّيز فهو بهيمة ، سمّيت بذلك لأنها أُبهمت عن أن تميّز .
) إلاّ ما يتلى عليكم ( يقول : عليكم في القرآن ( لأنه حاكم ) وهو قوله ) حرّمت عليكم الميتة والدم ( إلى قوله ) وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق ( وقوله ) ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه وإنه لفسق ( .
) غير محلي الصيد وأنتم حرم ( قال الأخفش : هو نصب على الحال يعني أوفوا بالعقود منسكين غير محلي الصيد وفيه ( معنى النهي ) .
وقال الكسائي : هو حال من قوله ) أُحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلي الصيد ( كما يقول : أُحل لكم الطعام غير معتدين فيه .
معناه أنّه أحلت لكم الأنعام كلها إلاّ ما كان منها وحشياً فإنه صيد ولا يحل لكم إذا كنتم
(4/7)

" صفحة رقم 8 "
محرمين . فذلك قوله تعالى ) وأنتم حرم ( قرأه العامة بضم أوّله وهي من حرم يحرم حراماً في الحركات وهما جميعاً جمع حرام ، ويقال : رجل حرام وحُرم ومحرِم ، وحلال وحِلّ ومحلّ ) إن اللّه يحكم ما يريد ( ( يحرم ما يريد على من يريد ) .
المائدة : ( 2 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر اللّه ( الآية نزلت في الحطم واسمه شريح بن ضبيعة بن هند بن شرحبيل البكري ، وقال : إنه لما أتى المدينة وخلف خيله خارج المدينة ودخل وحده على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال له : إلى ما تدعو الناس ؟ فقال : ( إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ) . فقال : حسنٌ إلاّ إن لي مَنْ لا أقطع أمراً دونهم ولعلي أُسلم وآتي بهم .
وقد كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأصحابه : يدخل عليكم بعض من ربيعة يتكلم بلسان الشيطان ، ثم خرج شريح من عنده ، فلما خرج ، قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) لقد دخل بوجه كافر ، وخرج بعقب غادر ، فمرّ بسرح المدينة فاستاقه وانطلق به وهو يرتجز :
لقد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر الوضم
باتوا نياماً وابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم
خلج الساقين مسموح القدم
فلما كان في العام القابل خرج حاجّاً في حجاج بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة عظيمة وقد قلّدوا الهدي فقال ناس من أصحابه للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) هذا الحطم خرج حاجّاً فحل بيننا وبينه ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( مه قد قلد الهدي ) .
فقال لرسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنّما هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية . فأبى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأنزل اللّه عزّ وجل ) يا أيها الذين آمنوا لا تُحّلوا شعائر اللّه ( .
ابن عباس ومجاهد : هي مناسك الحج ، وكان المشركون يحجّون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم اللّه تعالى عنها ، ( وقال الحسن دين الله كلّه ) يدل عليه قوله ) ومن يعظم شعائر اللّه فإنها من تقوى القلوب ( .
عطية عن ابن عباس : هي أن تصيد وأنت محرم ، يدل عليه قوله ) فإذا حللتم فاصطادوا ( .
عطاء : شعائر حرمات اللّه اجتناب سخطه واتباع طاعته بالذّي حرم اللّه .
أبو عبيدة : هي الهدايا المشعرة وهي أن تطعن في سنامها ويحلل ويقلّد ليعلم أنها هدي ،
(4/8)

" صفحة رقم 9 "
والإشعار العلامة ، ومنه ( الحديث ) : حين ذبح عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) أشعر أمير المؤمنين بها كأنه أعلم بعلامة ، وهي على هذا القول فعيلة ، بمعنى مفعّلة .
قال الكميت :
نقتلهم جيلا فجيلاً تراهم
شعائر قربان بهم يتقرب
ودليل هذا التأويل قوله : ) والبدن جعلناها لكم من شعائر اللّه لكم فيها خير ( وقيل : الشعائر المشاعر .
وقال القتيبي : شعائر اللّه واحدتها شعيرة ، وهي كل شيء جعل علماً من أعلام طاعته .
) ولا الشهر الحرام ( بالقتال فيه فإنه محرم لقوله ) يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ( .
وقال : النسّيء ، وذلك أنهم كانوا يحلّونه عاماً ويحرمونه عاماً ، دليله قوله ) إنما النسيء زيادة في الكفر ( ) ولا الهدي ( وهو كل ما يهدى إلى بيت اللّه من بعير أو بقرة أو شاة .
) ولا القلائد ( قال أكثر المفسّرين هي الهدايا ، والمراد به ( المقلدات ) وكانوا إذا أخرجوا إلى الحرم في الجاهلية قلّدوا السمر فلا يتعرض لهم أحد وإذا رجعوا تقلّدوا قلادة شعر فلم يتعرّض لهم أحد فهي عن استحلال واجب منهم .
وقال مطرف بن الشخيّر وعطاء : هي القلائد نفسها وذلك أنّ المشركين كانوا يأخذون من لحاء شجر مكّة ونحوها فيقلّدونها فيأمنون بها في الناس فنهى اللّه عز وجل أن ينزع شجرها فيقلدوه كفعل أهل الجاهلية ) ولا آمين ( قاصدين ) البيت الحرام ( يعني الكعبة .
وقرأ الأعمش : ولا آمّي البيت الحرام بالإضافة كقوله تعالى ) غير محلي الصيد ( ) يبتغون ( يطلبون ) فضلاً من ربهم ( يعني الرزق بالتجارة ) ورضواناً ( معناه على زعمهم وعدهم لأن الكافر لا نصيب له في الرضوان ، وهذا كقوله ) وانظر إلى إلاهك ( فلا يرضى اللّه تعالى عنهم حتى يسلموا
(4/9)

" صفحة رقم 10 "
قتادة : هو أن يصلح معايشهم في الدنيا ولا يعجل لهم العقوبة فيها .
وقيل : إبتغاء الفضل للمؤمنين والمشركين عامّة ، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة لأن الناس كانوا يحجون من بين مسلم وكافر ، يدل عليه قراءة حميد بن قيس ) يبتغون فضلاً من ربّكم ( على الخطاب للمؤمنين ، وهذه الآية منسوخة بقوله ) فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ( وقوله ) فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ( .
فلا يجوز أن يحجّ مشرك ، ولا يأمن الكافر بالهدي والقلائد والحج .
) وإذا حللتم ( من إحرامكم ) فاصطادوا ( أمر إباحة وتخيير كقوله ) فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل اللّه ( ) ولا يجرمنكم شنآن قوم ( .
روح ابن عبادة عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : أقبل رجل مؤمن كان حليفاً لأبي سفيان بن الهذيل يوم الفتح بعرفة لأنه كان يقتل حلفاء محمد ( صلى الله عليه وسلم ) فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( لعن اللّه من قبل دخل الجاهلية ( ما شيء كان في الجاهلية إلاّ وهو ) تحت قدميّ هاتين إلاّ سدانة الكعبة وسقاية الحج فإنّهما مردودتان إلى أهليهما ) .
وقال الآخرون : نزلت في حجاج كفار العرب ، وقوله ) لا يجرمنّكم ( ، قرأ الأعمش وعيسى ويحيى بن أبي كثير : يجرمنكم بضم الياء وقرأ الباقون بالفتح ، وهما لغتان ولو أن الفتح أجود وأشهر وهو اختيار أبي محمد وأبي حاتم ، قال أبو عبيد : لأنها اللغة الفاشية وإن كانت الأُخرى مقبولة .
واختلفوا في معناه ، فقال ابن عباس وقتادة : لا يحملنكم . قال أبو عبيد : يقال جرمني فلان على أن صنعت كذا أي حملني .
قال الشاعر ، وهو أبو أسماء بن الضرية :
يا كرز إنك قد فتكت بفارس
بطل إذا هاب الكماة مجرّب
ولقد طعنت أبا عيينة طعنةً
جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
والمؤرج : لا يدعونكم . الفرّاء : لأكسبنكم ، يقال فلان جُرمه أهله أي كافيهم .
وقال الهذلي يصف عقاباً :
(4/10)

" صفحة رقم 11 "
جرمة ناهض في رأس نيق
ترى لعظام ما جمعت صليبا
وقال بعضهم وهو الأخفش : قوله ) لا جرم إنَّ لهم النار ( : أي حق لهم النار .
) شنآن قوم ( أي بغضهم وعداوتهم وهو مصدر شنئت .
قرأ أهل المدينة والشام ، وعاصم والأعمش : بجزم النون الأول ، وقرأ الآخرون بالفتح ، وهما لغتان إلاّ أن الفتح أجود لأنه أفخم اللغتين . فهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأن المصادر نحوه على فعلان بفتح العين مثل الضربان والنزوان والعسلان ونحوها .
) أن صدوكم ( قرأ ابن كثير وابن أبي إسحاق وأبو عمر : إن صدّوكم بكسر الألف على الاستيناف والجزاء واختاره أبو عبيد اعتباراً بقراءة عبد اللّه : أن يصدّوكم ، وقرأ الباقون بفتح الألف أي لأن صدّوكم ، ومعنى الآية لا يحملنكم بغض قوم على الاعتداء لأنهم صدّوكم ، واختاره أبو حاتم ومحمد بن جرير ، قال ابن جرير : لأنه لا يدافع بين أهل العلم أن هذه السورة نزلت بعد قصة الحديبية فإذا كان كذلك فالصدّ قد يقدم .
) أن تعتدوا ( عليهم فتقتلوهم وتأخذوا أموالهم .
) وتعاونوا ( أي ليعين بعضكم بعضاً ، ويقال للمرأة إذا كسى لحمها وتراجمها : متعاونة ) على البرّ ( وهو متابعة الأمر ) والتقوى ( وهو مجانبة الهوى ) ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ( يعني المعصية والظلم .
عن واصب بن معبد صاحب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : جئت إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أسأله عن البر والإثم قال : ( جئت إليّ تسألني عن البر والإثم ) ؟ فقلت : والذي بعثك بالحق ما جئت أسألك عن غيره ، فقال : ( البر ما انشرح به صدرك ، والإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك عنه الناس ) .
عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي ، قال : حدّثني أبي قال : سمعت النؤاس بن سمعان الأنصاري ، قال : سألت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) عن البر والإثم فقال : ( البر حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك فكرهت أن يطلع عليه الناس ) ) واتقوا الله إن الله شديد العقاب (
المائدة : ( 3 ) حرمت عليكم الميتة . . . . .
) حرّمت عليكم الميتة ( وهي كل ما له نفس سائلة مما أباح اللّه عز وجل أكلها ، فارقتها روحها بغير تذكية ، وإنما قلنا : نفس سائلة لأن السمك والجراد دمان وهما حلال .
) والدّم ( أُجْمِل هاهنا وفسر في آية أخرى فقال عز من قائل : ) أو دماً مسفوحاً ( فالدم الملطخ فهو كاللحم في أكله لأن الكبد والطحال دمان وهما حلال .
(4/11)

" صفحة رقم 12 "
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( أُحلّت لنا ميتتان ودمان فالميتتان الحوت والجراد وأما الدّمان فالطحال والكبد ) .
) ولحم الخنزير ( وكل شيء منه حرام وإنما خصّ اللحم لأنّ اللحم من أعظم منافعه . ) وما أُهلّ به ( ذبح ) لغير اللّه ( وذكر عليه غير اسم اللّه .
قال أبو ميسرة : في المائدة ثمان عشرة فريضة ليس في سورة من القرآن وهي آخر سورة نزلت ليس فيها منسوخ .
) والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلاّ ما ذكّيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ( ، ) وما علمتم من الجوارح مكلبين ( ) وطعام الذين أُوتوا الكتاب حلّ لكم وطعامكم حلّ لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ( ، ) إذا قمتم إلى الصلاة ( ) والسارق والسارقة ( .
) ولا تقتلوا الصيد ( إلى قوله ) ذو انتقام ( ) ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ( ) شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ( .
فأما المنخنقة فهي التي تختنق فتموت ، قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها ، والموقوذة : التي تضرب بالخشب حتّى تموت .
قال قتادة : كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصا حتّى إذا ماتت أكلوها . فقال فيه : قذّه يقذّه وقذا إذا ضربه حتى شفى على الهلاك .
قال الفرزدق :
شغارة تقذ الفصيل برجلها
طارة لقوادم الأبكار
والمتردية : التي تتردى من مكان عال أو في بئر فتموت .
والنطيحة : التي تنطحها صاحبتها فتموت ، و ( هاء ) التأنيث تدخل في الفعيل بمعنى الفاعل فإذا كان بمعنى المفعول إستوى فيها المذكر والمؤنث نحو لحية دهين ، وعين كحيل ، وكف خضيب ، فإنما أُدخل الهاء ها هنا لأن الإسم لا يسقط منها ولو أسقط الهاء منها لم يدرَ أهي
(4/12)

" صفحة رقم 13 "
صفة لمؤنث أو مذكر ، والعرب تقول لحية دهين ، وعين كحيل ، وكف خضيب فإذا حذفوا الإسم وأفردوا الصفة أدخلوا الهاء ، قالوا : رأينا كحيلة وخضيبة ودهينة ، وأكيلة السبع فأدخلوا الهاء مثل الذبيحة والسكينة وما أكل السبع غير ( المعلم ) .
وقرأ ابن عباس : وأكيل السبع ، وقرأ ابن أبي زائدة : وأكيلة السبع ، وقرأ الحسن وطلحة ابن سليمان : وما أكل السبع بسكون الباء ( وهي لغة لأهل نجد ) .
قال حسّان بن ثابت في عتبة بن أبي لهب :
من يرجع العام إلى أهله
فما أكيل السبع بالراجع
قال قتادة : كان أهل الجاهلية إذا أكل السبع ملياً أو أكل منه أكلوا ما بقي ) إلاّ ما ذكيّتم ( يعني إلاّ ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء ، والتذكية تمام فري الأوداج ، وإنهار الدم ، ومنه الذكاة في السنّ وهو أن يأتي على قروحه سنة ، وذلك تمام استكمال القوة ومثله المثل السائد : جري المذكيات غلاب .
قال الشاعر :
يفضله إذا اجتهدوا عليه
تمام السن منه والذكاء
ومنه الذكاء في الفهم إذا كان تام العقل سريع القبول .
ويقول في الذكاة إذا أتممت إشعالها ، فمعنى ذكيتم أدركتم ذبحه على التمام .
وقال ابن عباس وعتبة بن عمير : إذا طرفت بعينها أو ظربت بذَنبِها أو ركضت برجلها أو تحركت فقد حلت لك .
وعن زيد بن ثابت : أن ذئباً نيب في شاة فذبحوها بمروة فرخص النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في أكله .
أبو قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن شداد بن أوس قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن اللّه كتب الإحسان على كلّ شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته )
(4/13)

" صفحة رقم 14 "
قال عاصم عن عكرمة : إن رجلاً أضجع شاته وجعل يحدّ شفرته ليذبحها ، فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( تريد أن تميتها موفات قبل أن تذبحها ) .
) وما ذبح على النصب ( قال بعضهم : فهو جمع واحدها نصاب ، وقيل : هو واحدة جمعها أنصاب مثل عنق وأعناق .
وقرأ الحسن بن صالح وطلحة بن مصرف : النصب بجزم الصّاد .
وروى الحسن بن علي الجعفي عن أبي عمرو : النصب بفتح النون وسكون الصّاد .
وقرأ الجحدري : بفتح النون والصّاد ( جعله ) إسماً موحداً كالجبل والجمل والجمع أنصاب كالأجمال والأجبال وكلها لغات وهو الشيء المنصوب ، ومنه قوله تعالى ) كأنهم إلى نصب يوفضون ( واختلفوا في معنى النصب ها هنا .
فقال مجاهد وقتادة وابن جريح : كان حول البيت ثلاثمائة وستين حجراً وكان أهل الجاهلية يذكّون عليها يشرّحون اللّحم عليها وكانوا يعظمون هذه الحجارة ويعبدونها ويذبحون لها ، وكانوا مع هذا يبدلونها إذا شاؤوا لحجارة ( من قبالهم ) منها ، قالوا : وليست هي بأصنام إنما الصنم ما يصوّر وينقش .
وقال الآخرون : هي الأصنام المنصوبة .
قال الأعشى :
وذا النصب المنصوب لا تستكّنه
لعاقبة واللّه ربك فاعبدا
ثم اختلفوا في معناها . فقال بعضهم : تقديره على إسم النصب . ابن زيد ) وما ذبح على النصب وما أهلّ لغير اللّه به ( هما واحدة .
قطرب : معناه : ما ذبح للنصب أي لأجلها على معنى اللام وهما يتعاقبان في الكلام . قال اللّه تعالى ) فسلام لك ( أي عليك ، وقال ) وإن أسأتم فلها ( أي فعليها ، ) وأن تستقسموا ( معطوف على ما قبله ، وأن في محل الرفع أي وحرم عليكم الإستقسام بالأزلام ، والاستقسام طلب القسم والحكم من الأزلام وهي القداح التي لا ريش لها ولا نصل ، واحدها زلم مثل عمر ، وزلم وهي القداح .
(4/14)

" صفحة رقم 15 "
قال الشاعر :
فلئن جذيمة قتّلت سرواتها
فنساؤها يضربن بالأزلام
وكان استقسامهم بالأزلام على ما ذكره المفسّرون أن أهل الجاهلية إذا كان سفراً أو غزواً أو تجارة أو تزويجاً أو غير ذلك ضرب القداح وكانت قداحاً مكتوب على بعضها : نهاني ربي ، وعلى بعضها : أمرني ربي ، إن خرج الآمر مضى لأمره ، وإن خرج الناهي أمسك .
وقال سعيد بن جبير : الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها .
أبو هشام عن زياد بن عبد اللّه عن محمد بن إسحاق قال : كانت هبل أعظم أصنام قريش بمكة ، وكانت على بئر في جوف الكعبة وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يهدى للكعبة وكانت عند هبل أقداح سبعة كل قدح منها فيه كتاب ، قدح فيه : العقل ، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة فإن خرج العقل حمله ، وقدح فيه : نعم ، للأمر ، إذا أرادوا أمراً ضربوا به في القداح فإن خرج ذلك القدح فعلوا ذلك الأمر .
وقدح فيه : لا إذا أرادوا أمر يضربون فإن خرج قدح ( لا ) لم يفعلوا ذلك الأمر ، وقدح فيه : منكم وقدح فيه : ملصق وقدح فيه : من غيركم ، وقدح فيه المياه إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القداح فحيثما خرج عملوا به .
وكانوا إذا أرادوا أن يختتنوا غلاماً أو أن ينكحوا امرأة أو يدفنوا ميّتاً أو شكّوا في نسب خصمهم ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وبجزور فأعطوها صاحب القداح الذي يضربها ثم قرّبوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ثم قالوا : يا إلهنا هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا فأخرج الحق ، ثم يقولون لصاحب القداح : اضرب فيضرب ، فإن خرج عليه : منكم ، كان وسيطاً منهم وإن خرج عليه : من غيركم ، كان حليفاً ، وإن خرج عليه : ملصق ، كان على منزلته منهم لا نسب له ولا حليف ، وإن كان في شيء مما سوى هذا مما يعملون به كنعم عملوا به ، فإن خرج : لا ، أخّروا عامهم ذلك حتى يأتوه مرة أخرى ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح . فقال اللّه عز وجل ) ذلكم فسق ( .
قال مجاهد : هي كعاب فارس والرّوم التي يتقامرون بها .
قال سفيان بن وكيع : الشطرنج .
رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من تكهّن أو استقسم أو تطيّر
(4/15)

" صفحة رقم 16 "
طيرة تردّه عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة ) .
) اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ( يعني عن أن يرجعوا إلى دينهم كفّاراً ، وفيه لغتان قال : الشعبي وائس يايس إياساً وإياسة .
قال النضر بن شميل : ) فلا تخشوهم واخشوني اليوم أكملت لكم دينكم ( نزلت الآية في يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر للهجرة والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) اقف بعرفات على ناقته العضباء وكادت عضد الناقة ينقد من ثقلها فبركت .
وقال طارق بن شهاب : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) فقال : آية ( نقرؤها ) لو علينا نزلت في ذلك اليوم لاتخذناه عيداً ، قال : أية آية ؟ قال : ) اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت ( ، قال عمر : قد علمت في أي يوم نزلت وفي أي مكان ، إنها نزلت يوم عرفة في يوم جمعة ونحن مع رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وقوفاً بعرفات وكلاهما بحمد اللّه لنا عيد ، ولا يزال ذلك اليوم عيداً للمسلمين ما بقي منهم أحد وقد صار من ذلك اليوم خمسة أعياد جمعة وعرفة وعيد اليهود والنصارى والمجوس ولا يجمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده .
وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال : لما نزلت هذه الآية بكى عمر ( رضي الله عنه ) فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما يبكيك يا عمر ) قال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأمّا إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلاّ نقص ، فقال : ( صدقت ) .
وكانت هذه الآية نعي رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وعاش بعدها أحد وثمانون يوماً أو نحوها .
واختلف المفسّرون في معنى الآية فقال ابن عباس والسدّي : ) اليوم ( وهو يوم نزول هذه الآية ) أكملت لكم دينكم ( أي الفرائض والسنن والحدود والأحكام والحلال والحرام فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض . فهذا معنى قول ابن عباس والسدي .
وقال سعيد بن جبير وقتادة : اليوم أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك ، وقيل : هو أن اللّه تعالى أعطى هذه الأُمة من أنواع العلم والحكمة جميع ما أعطى سائر الرسل والأُمم فزادهم .
وقيل : إن شرائع الأنبياء زالت ونقضت وشريعة هذه الأمة باقية لا تنمح ولا تتغيّر إلى يوم القيامة ( . . . . . . . ) هو بايعك ثم فرّقوه ، يكن هذا لغيرهم ، وقيل : لم يكن إلاّ هذه الأُمة
(4/16)

" صفحة رقم 17 "
وقيل : هو أن اللّه تعالى جمع بهذه الآية جميع ( . . . . . . . . ) الولاية وأسبابها .
قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم بن حسيب قال : سمعت أبا جعفر محمد بن أحمد بن سعيد الرّازي قال : سمعت العباس بن حمزة قال : سمعت ذا النون يقول يعلمنا من سياسة فيقول أربعة أشياء : الكتاب والرسول ، والخلعة والولاية .
قال : كتاب جعله أشرف الكتب وأكثرها يسراً وأخفّها أمراً وأغزرها علماً وأوفرها حكماً ، ورسول اللّه جعله أعظم الرسل وأفضلهم ، والخلعة جعله عطاءً ولم يجعلها عارية ، والولاية جعلها دائمة إلى نفخ الصور .
) وأتممت عليكم نعمتي ( حققت وعدي في قولي ولأُتم نعمتي عليكم فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة آمنين وعليها ظاهرين وحجوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين .
وقال الشعبي : نزلت هذ الآية بعرفات حيث هدم منار الجاهلية ومناسكهم واضمحل الشرك ولم يحج معهم في ذلك العام مشرك ، ولم يطف بالبيت ( غيرهم ) .
السّدي : أظهرتكم على العرب .
) ورضيت لكم الإسلام ديناً فمن اضطر ( إجتهد ) في مخمصة ( مجاعة يقال : هو خميص البطن إذا كان طاوياً خاوياً ، ورجل خمصان وامرأة خمصانة إذا كانا ضامرين مضيمين والخَمص والخُمص الجوع .
قال الشاعر :
يرى الخمص تعذيباً وإن يلق شبعة
يبت قلبه من قلّة الهمّ مبهماً
) غير متجانف لإثم ( .
قال أبو عبيدة : غير متحرف مائل ، قطرب : مائل ، المبرّد : ( زايغ ) وقرأ النخعي : متجنف وهما بمعنى واحد يقال : تجنّف وتجانف مثل تعهد وتعاهد .
قتادة : غير متعرض بمعصية في مقصده وهو قول الشافعي .
وقال أبو حنيفة : ما أكل فوق الشبع ) فإن اللّه غفور رحيم ( فيه إضمار ، تقديره : فأكله ، ويكتفى بدلالة الكلام عليه ، فإن اللّه غفور رحيم أي غفور له غفور كما يقول عبد اللّه : ضربت ، فيريد ضربته .
قال الشاعر
(4/17)

" صفحة رقم 18 "
ثلاث كلّهنّ قتلت عمداً
فأخزى اللّه رابعة تعود
وقد فسر رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) المخمصة ( بما رواه ) ( الأوزاعي ) عن حسان بن عطية عن أبي واقد قال : سألت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) إنا بأرض يصيبنا بها مخمصة فمتى تحل لنا الميتة ؟
قال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بقلا فشأنكم بها ) .
المائدة : ( 4 ) يسألونك ماذا أحل . . . . .
) يسألونك ماذا أحلّ لهم ( الآية .
قال أبو رافع : جاء جبرئيل إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ وأخذ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) رداءه فخرج فقال : قد أذنا لك يا رسول اللّه ، قال : أجل يا رسول اللّه ولكنا لا ندخل بيتاً فيه صورة ولا كلب فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو .
عن عبد اللّه بن يحيى عن أبيه عن علي بن أبي طالب عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة ولا كلب ولا جنب ) .
رجعنا إلى حديث أبي رافع قال : فأمرني أن لا أدع كلباً بالمدينة إلاّ قتلته وقلت حتى خفت العوالي ( فأتيت ) إلى امرأة في ناحية المدينة عندها كلب يحرس عنها فرحمته فتركته ، فأتيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فأخبرته بأمري ، فأمرني بقتله فرجعت إلى الكلب فقتلته .
وقال ابن عمر : سمعت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يقول رافعاً صوته : ( اقتلوا الكلاب ) .
قال : وكنا نلقى المرأة ( تقدم من ) المدينة بكلبها فنقتله ، فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقتلها وحرم ثمنها .
وروى علي بن رباح اللخمي عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يحل ثمن الكلاب ولا حلوان الكاهن ولا مهر البغي ) .
ونهى عن اقتنائها وإمساكها وأمر بغسل الإناء من ولوغها سبع مرات أُولاهنّ بالتراب نرجع إلى الحديث الأول .
قال : فلما أمر رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) بقتل الكلاب جاء ناس فقالوا : يا رسول اللّه ماذا يحلّ لنا من هذه الآمة التي نقتلها ، فسكت رسول اللّه فأنزل اللّه هذه الآية وأذن رسول اللّه في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها ، وأمر بقتل الكلب العقور وما يضر ويؤذي ورفع القتل عمّا سواها ممّا لا ضرر فيه
(4/18)

" صفحة رقم 19 "
وروى الحسن عن عبد اللّه بن معقل قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( لولا أنّ الكلاب أُمّة من الأُمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها الأسود البهيم وأيما قوم اتخذوا كلباً ليس بكلب حرث أو صيد أو ماشية نقصوا من أجورهم كل يوم قيراطاً ) .
عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من اقتنى كلباً ليس كلب صيد ولا ماشية ولا أرض فإنه ينتقص من أجره قيراطان كل يوم ) .
والحكمة في ذلك ما روى أبو بكر بن أبي شيبة عن عبد الرزاق السريعي قال : قيل لعبد اللّه بن المبارك : ما تقول في قول المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) ( من اقتنى كلباً لا كلب صيد ولا ماشية نقص من عمله كل يوم كذا وكذا من الأجر ) .
فقال حدّثني ( الأصمعي ) قال : قال أبو جعفر المنصور لعمرو بن عبيد : ما بلغك في الكلب ؟ قال : بلغني أن من أخذ كلباً لغير زرع ولا حراسة نقص من أجره كل يوم قيراط . فقال له : ولم ذلك ؟ قال : هكذا جاء الحديث ، قال : خذها بحقّها إنّما ذلك لأنّه ينبح على الضيف ويروع السائل .
وكانت أسخياء العرب تبغض الكلاب لهذا المعنى وتذم من ربطه وهمّ بقتله .
قال الثعلبي : أنشدني أبو الحسن الفارسي قال : أنشدني أبو الحسن الحراني البصري أنّ بعض شعراء البصرة نزل بعمّار فسمع لكلابه نبحاً فأنشأ يقول :
نزلنا بعمار فأشلى كلابه
علينا فكدنا بين بيتيه نؤكل
فقلت لأصحابي أسر إليهم
إذا اليوم أم يوم القيامة أطول
قال عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال : نزلت في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل ( الطائيين ) وهو زيد الخيل الذي سمّاه رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) زيد الخير وذلك إنهما جاءا إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قالا : يا رسول اللّه إنّا قوم نصيد الكلاب والبزاة فإن كلاب آل درع وآل حورية تأخذ البقر والحمر والظباء والضب فمنه ما يدرك ذكاته ومنه ما يقتل فلا يدرك ذكاته وقد حرّم الله الميتة فماذا يحل لنا منها فنزلت ) يسألونك ( يا محمد ) ماذا أحلّ لهم ( قل : ) أحلّ لكم الطيّبات ( يعني الذبائح التي أحلّها الله ) وما علمتم ( يعني وصيد ما علمتم ) من الجوارح (
.
(4/19)

" صفحة رقم 20 "
واختلفوا في هذه الجوارح التي يحل صيدها بالتعليم غير المدرك ذكاته وما أدركت فما ذكاته فهو لك ، وإلاّ فلا يطعم ، وهذا غير معمول به .
وقال سائر العلماء : هي الكواسب من السباع والبهائم والطير مثل النمر والفهد والكلب والعقاب ، والصقر ، والبازي ، والباشق ، والشاهين ونحوها مما يقبل التعليم ، فسميت جوارح لجرحها أربابها أقواتهم من الصيد أي كسبها . يقال : فلان جارحة أهلها أي كاسبهم ولا جارحة لفلان إذ لم تكن لها كسب ) مكلبين ( منصوب على الحساب في المعنى وصيد ما علمتم من الجوارح مكلبين إلى هذه الحال أي في حال صيدكم ( أصحاب ) كلاب ، والتكليب إغراء الصيد وإشلاؤه على الصيد .
قال الشاعر :
باكره عند الصباح مكلّب
أزلّ كسرحان القصيمة أغبر
قرأ أبن مسعود وأبو زرين والحسن : مكلبين بتخفيف اللام على هذا المعنى ، وهي قراءة الحسن والقتيبي أيضاً ، ويجوز أن يكون من قولهم : أكلب الرجل ، إذا كثرت كلابه ، مثل : وأمشى إذا كثرت ماشيته ، وذكر الكلاب لإنها أكثر وأعم والمراد به جميع الجوارح .
) تعلّمونهن ( آداب الصيد ) مما علّمكم اللّه ( أي من العلم الذي علمكم اللّه ، وقال السّدي : من بمعنى الكاف ، أي كما علّمكم اللّه ، وهو أن لا ( يجثمن ) ولا يعضنّ ولا يقتلن ولا يأكلن ) فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم اللّه عليه ( عند إرسال البهم والجوارح .
حكم الآية
والمعلم من الجوارح الذي يحلّ صيده هو أن يكون إذا أرسله صاحبه وأشلاه استشلى وإذا أخذ أمسك ولم يأكل . فإذا دعاه أجابه ، وإذا أراده لم يفرّ منه ، فإذا فعل ذلك مرّات فهو معلّم فمتى كان بهذا الوصف فاصطاد جاز أكله فإذا أمسك الصيد ولم يأكل منه جاز أكله ، وكان حلالاً ، فإن أكل منه ، فللشافعي فيه قولان : أحدهما : لا يحلّ ولا يؤكل وهو الأشهر والأظهر من مذهبه لأنّ اللّه عز وجل قال : ) فكلوا مما أمسكن عليكم ( وهو لم يمسك علينا وإنما أمسك على نفسه ، وهذا قول الحسن وطاووس والشعبي وعطاء والسدّي .
وقال ابن عباس : إذا أرسلت الكلب فأكل من صيد فهي ميتة لا يحل أكله لأنه سبع أمسكه على نفسه ، ولم يمسك عليك ولم يتعلم ما علّمته ، فاضربه ولا تأكل من صيده
(4/20)

" صفحة رقم 21 "
يدل عليه ما روى الشعبي عن عدي بن حاتم أنه سأل رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) عن الصيد فقال : ( إذا
أرسلت كلبك فاذكر اسم اللّه عليه فإن أدركته لم يقتل ، فاذبح واذكر اسم اللّه عليه وإن أدركته قد قتل ولم يأكل فكل فقد أمسك عليك ، فإن وجدته قد أكل منه فلا تطعم منه شيئاً ، فإنما أمسك على نفسه ، فإن خالط كلبَك كلابٌ فقتلن ولم يأكلن فلا تأكل منه فإنك لا تدري أيّها قتل ) . ( وإذا رميت سهمك فاذكر اسم اللّه ، فإن أدركته فكل ، إلاّ أن تجده وقع في ماء فمات فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك ) فإن وجدته بعد ليلة أو ليلتين ولم تر فيه سهمك فإن شئت أن تأكل منه فكل ) .
والقول الثاني : أنه يحلّ وإن أكل وهو قول سلمان الفارسي ، وسعد بن أبي وقّاص ، وابن عمر ، وأبي هريرة ، قال حميد بن عبد اللّه وسعد ابن أبي وقّاص : لنا كلاب ضواري يأكلن ويبقين ، قال : كل وإن لم يبق إلاّ نصفه أو ثلثيه فكل ميتة .
وروى ذلك عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ولا فرق في حمله على ما ذكرنا من الطيور والسباع المعلمة .
وروى أبو قلابة عن ثعلبة الخشني : أنه جاء إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : يا رسول اللّه إن أرضنا أرض صيد فأُرسل سهمي وأذكر اسم اللّه وأرسل كلبي المعلم وأذكر اسم اللّه وأرسل كلبي الذي ليس معلم فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما حبس عليك سهمك ، وذكرت اسم اللّه ( فكل ) ، وما حبس عليك كلبك المعلم وذكرت اسم اللّه ، فكل وما حبس عليك كلبك الذي ليس معلم فأدركت ذكاته فكل وإن لم تدرك ذكاته فلا تأكل ) .
) واتقوا الله إن الله سريع الحساب 2 )
المائدة : ( 5 ) اليوم أحل لكم . . . . .
) اليوم أحل لكم الطيبات ( يعني الذبائح ) وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم ( يعني ذبائح اليهود والنصارى ، ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل أن يبعث محمد ( صلى الله عليه وسلم ) حلال لكم ، فمن دخل في دينهم بعد بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلا تحل ذبيحته ، فأما إذا سمّى أحدهم غير اللّه عند الذبح مثل قول النصارى : باسم المسيح ، اختلفوا فيه .
فقال ربيعة : سمعت ابن عمر يقول : لا تأكلوا ذبائح النصارى ، فإنهم يقولون : باسم المسيح ، فإنهم لا يستطيعون أن تهدوهم وقد ظلموا أنفسهم ، دليله قوله ) ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه فإنه فسق ( .
والقول الثاني : إنّه يجوّز ذبيحتهم ، الكتابي ، وإن سمّي غير اللّه فإن هذا مستثنى من قوله
(4/21)

" صفحة رقم 22 "
تعالى ) ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم اللّه عليه ( وهي إنما نزلت في ذبائح المشركين وما كانوا يذبحونها لأصنامهم ، وعلى هذا أكثر العلماء .
قال الشعبي وعطاء : في النصراني يذبح فيقول : باسم المسيح قالا : يحلّ . فإنّ اللّه عز وجل قد أحل ذبائحهم وهو أعلم بما يقولون .
وسأل الزهري ومكحول عن ذبائح عبدة أهل الكتاب ، ( والمربيات ) لكنائسهم وما ذبح لها فقالا : هي حلال ، وقرأ هذه الآية .
وقال الحسن والحرث العكلي : ما كنت أسأله عن ذبحه فإنه أحل اللّه لنا طعامه ، فإذا ذبح اليهودي والنصراني فذكر غير اسم اللّه وأنت تسمع فلا تأكله ، فإذا غاب عنك فكل ، فقد أحل اللّه لك ( ما في ) القرآن ، فذبح اليهود والنصارى ونحرهم مكروه .
قال علي ( رضي الله عنه ) : ( لا يذبح ضحاياكم اليهود ولا النصارى ولا يذبح نسكك إلاّ مسلم ) .
قوله عز وجل ) والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ( اختلف العلماء في معنى الآية وحكمها ، فقال قوم : عنى بالإحصان في هذه الآية الحرية وأجازوا نكاح كل حرّة ، مؤمنة كانت أو كتابية فاجرة كانت أو عفيفة وحرّموا إماء أهل الكتاب أن يتزوجهن المسلم بحال ، وهذا قول مجاهد وأكثر الفقهاء ، والدليل عليه قوله : ) فمن لم يستطع منكم طولاً ( الآية ، فشرط في نكاح الإماء الإيمان .
وقال آخرون : إنما عنى اللّه تعالى بالمحصنات في هذه الآية العفائف من الفريقين إماءً كنّ أو حرائر ، فأجازوا نكاح إماء أهل الكتاب بهذه الآية ، وحرّموا البغايا من المؤمنات والكتابيات ، وهذا قول أبي ميسرة والسّدي .
وقال الشعبي : إحصان اليهودية والنصرانية أن تغتسل من الجنابة ، وتحصن فرجها .
وقال الحسن : إذا رأى الرجل من امرأته فاحشة فاستيقن فإنه لا يمسكها ، ثم اختلفوا في الآية أهي عامة أم خاصة . فقال بعضهم : هي عامة في جميع الكتابيات حربيّة كانت أو ذميّة ، وهو قول سعيد بن المسيّب والحسن .
وقال بعضهم : هي الذميّات ، فإما الحربيات فإنّ نساءهم حرام على المسلمين ، وهو قول ابن عباس .
السدّي عن الحكم عن مقسم عنه قال : من نساء أهل الكتاب من تحلّ لنا ومنهم من لا
(4/22)

" صفحة رقم 23 "
تحل لنا ، ثم قرأ : ) قاتلوا الذين لا يؤمنون . . ( إلى قوله ) صاغرون ( . فمن أعطى الجزية حلّ لنا نساؤه ومن لم يعط الجزية لم يحل لنا نساؤه .
قال الحكم : فذكرت ذلك لإبراهيم فأعجبه ، وكان ابن عمر لا يرى نكاح الكتابيات ، ويفسر هذه الآية بقوله : ) ولا تنكحوا المشركات حتّى يؤمنّ ( يقول : لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى .
وروى المبارك عن سليمان بن المغيرة قال : سأل رجل الحسن : أيتزوّج الرجل المرأة من أهل الكتاب ؟ قال : ماله ولأهل الكتاب وقد أكثر الله المسلمات : فإن كان لا بدّ فاعلا فليعمد إليها حصاناً غير مسافحة . قال الرجل : وما المسافحة ، قال : هي التي إذا ألمح الرجل إليها بعينه أتبعته ) ومن يكفربالإيمان فقد حبط عمله ( .
قال قتادة : ذكر لنا ان رجالاً قالوا لما نزل قوله ) والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ( : كيف نتزوّج نساء لسن على ديننا ؟ فأنزل اللّه هذه الآية .
وقال مقاتل ابن حيّان : نزلت فيما أحصن المسلمون من نساء أهل الكتاب ، يقول : ليس إحصان المسلمين إيّاهنّ بالذي يخرجهنّ من الكفر يعني عنهن في دينهن ( . . . ) وجعلهن ممن كفر بالإيمان ، فقد حبط عمله وهو بعد للناس عامّة ، ) ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين ( يعني من أهل النّار .
وقال ابن عباس : ومن يكفر باللّه قال الحسن بن الفضل : إن صحت هذه الرواية كان فمعناه برب الإيمان وقيل : بالمؤمنين به .
قال الكلبي : ومن يكفر بالإيمان أي بما أنزل على محمد ( صلى الله عليه وسلم )
قال الثعلبي رحمه اللّه : وسمعت أبا القاسم الجهني قال : سمعت أبا الهيثم السنجري يقول : الباء صلة كقوله تعالى : ) يشرب بها عباد الله ( ) تنبت بالدهن ( والمعنى ومن يكفر بالإيمان أي يجحده فقد حبط عمله .
وقرأ الحسن بفتح الباء ، قرأ ابن السميع : فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين .
2 ( ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلواةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىأَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَد
(4/23)

" صفحة رقم 24 "
مِّنْكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَاكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِى وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىأَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَآ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ( 2
المائدة : ( 6 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ( الآية ، أمر اللّه تعالى بالوضوء عند القيام إلى الصلاة . واختلف العلماء في حكم الآية ، فقال قوم : هذا من العام الذي أريد به الخاص . والمجمل الذي وكل بيانه إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ومعنى الآية : إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم على غير طهر ، يدلّ عليه ما روي عن عكرمة إنه سأل عن هذه الآية قال : أو كلّ ساعة أتوضأ ؟ فقال : إن ابن عباس قال : لا وضوء إلاّ من حدث .
وقال الفضل بن المبشر : رأيت جابر بن عبد اللّه يصلي الصلوات الخمس بوضوء واحد . فإن بال أو أحدث توضأ ومسح بفضل مائه الخفين . فقيل : أي شيء تصنعه برأيك ؟ فقال : بل رأيت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يصنعه وأنا أصنع كما رأيت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يصنع .
وروى محارب بن دثار عن ابن عمر أن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بوضوء واحد .
وقال المسوّر بن مخرمة لابن عباس : هل لك في عبيد بن عمير إذا سمع النداء خرج من المسجد . فقال ابن عباس : هكذا يصنع الشيطان ، فدعاه فقال : ما يحملك على ما تصنع إذا سمعت النداء خرجت وتوضأت ، قال إن اللّه عز وجل يقول : ) إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ( . . . الآية . قال : ليس هذا إذا توضأت فإنك على طهر حتّى تحدث ، ثم قال : هكذا يصنع الشيطان إذا سمع النداء ولّى وله ضراط .
وروى الأعمش عن عمارة قال : كان للأسود قعب قد ري رجل وكان يتوضأ به ثم يصلي بوضوئه ذلك الصلوات كلها .
وقال زيد بن أسلم والسّدي : معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة من النوم ، وقال بعضهم : أراد بذلك كل قيام العبد إلى صلاته أن يجدّد لها طهراً على طريق الندب والاستحباب ، قال عكرمة : كان علي يتوضأ عند كل صلاة ويقرأ هذه الآية ) يا أيّها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ( .
(4/24)

" صفحة رقم 25 "
عن أبي عفيف الهذلي إنه رأى ابن عمر يتوضأ للظهر ثم العصر ثم المغرب ، فقلت : يا أبا عبد الرحمن أسنّة هذا الوضوء ؟ قال : إنه كان كافياً وضوئي للصلاة كلها مالم أُحدث ولكني سمعت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( من توضأ على طهر كتب اللّه له عشر حسنات ) ففي ذلك رغبت يا ابن أخي .
وقال بعضهم : بل كان هذا أمراً من اللّه عز وجل لنبيه وللمؤمنين حتماً وامتحاناً أن يتوضأ لكل صلاة ، ثم نسخ للتخفيف .
وقال محمد بن يحيى بن جبل الأنصاري قلت : لعبيد اللّه بن عمر : أخبرني عن وضوء عبد اللّه لكل صلاة طاهراً كان أو غير طاهر عمّن هو ؟ قال : حدّثتنيه أسماء بنت زيد الخطاب أن عبد اللّه بن حنظلة بن أبي عامر الغسيلي حدثها أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أُمر بالوضوء عند كل صلاة ، فشق ذلك عليه فأُمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلاّ من حدث ، وكان عبد اللّه يرى أن به قوّة عليه فكان يتوضأ .
وروى سليمان بن بريد عن أبيه أن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) كان يتوضأ لكل صلاة ، فلما كان يوم فتح مكّة صلّى الصلوات الخمس كلها بوضوء واحد ، فقال عمر ( رضي الله عنه ) : إنك تفعل شيئاً لم تكن تفعله قال : ( عمداً فعلته يا عمر ) .
وقال بعضهم : هذا إعلام من اللّه تعالى لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) أن لا وضوء عليه إلاّ إذا قام إلى صلاته دون غيرها من الأعمال .
وذلك إنه إذا كان أحدث امتنع من الأعمال كلها حتّى يتوضأ فأذن اللّه عز وجل بهذه الآية أن يفعل كل ما بدا له من الأفعال بعد الحدث غير الصلاة .
وروى عبد اللّه بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عبد اللّه بن علقمة بن وقاص عن أبيه قال : كان رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا ونسلم عليه فلا يرد علينا حتى يأتي منزله فيتوضأ لوضوء الصلاة حتّى نزلت آية الرخصة ) يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ( .
وحّد الوجه من منابت شعر الرأس إلى طرف الذقن طولاً ، وما بين الأُذنين عرضاً ، فأما ما استرسل من اللحية عن الذقن ؛ فللشافعي هنا قولان :
أحدهما : أنه لا يجب على المتوضىء غسله ، وهو مذهب أبي حنيفة واختيار المزني
(4/25)

" صفحة رقم 26 "
واحتجّوا بأن الشعر النازل من الرأس لا يُحكم بِحُكم الرأس . وكذلك من الوجه .
والثاني : أنه يجب غسله ، ودليل هذا القول من ظاهر هذه الآية ، لأن الوجه ما يواجه به ، فكلّ ما تقع به المواجهة من هذا العضو يلزمه غسله بحكم الظاهر .
ومن الحديث قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) حيث نهى عن تغطية اللحية في الصلاة إنها من الوجه ، ومن اللغة قول العرب بدل وجه فلان وخرج وجهه إذا نبتت لحيته .
) وإيديكم إلى المرافق ( غسل اليدين من المرفقين واجب بالإجماع واختلفوا في المرفقين .
فقال الشعبي ومالك والفراء ومحمد بن الحسن ومحمد بن جرير : لا يجب غسل المرفقين في الوضوء ، وإلى ها هنا بمعنى الحدّ والغاية ، ثم استدلوا بقوله تعالى ) ثم أتموا الصيام إلى الليل ( والليل غير داخل في الصوم ، وقال سائر الفقهاء : يجب غسلهما و ( إلى ) بمعنى مع واحتجوا بقوله تعالى ) ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ( وقوله ) فزادتهم رجساً إلى رجسهم ( وقوله ) من أنصاري إلى الله ( ) وامسحوا برؤوسكم ( اختلف الفقهاء في القدر الواجب من مسح الرأس .
فقال مالك والمزني : مسح جميع الرأس في الوضوء واجب .
وجعلوا الباء بمعنى التعميم ، كقوله عز وجل ) فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ( وقوله ) وليطّوّفوا بالبيت العتيق ( .
وقال أبو حنيفة : مسح ربع الرأس واجب . أبو يوسف : نصف الرأس ، الشافعي : يجوز الاقتصار على أقل من ربع الرأس ، فإذا مسح مقدار ما يسمى مسحاً أجزأه ، واحتج بقوله ) وامسحوا برؤوسكم ( ، وله في هذه الآية دليلان ، أحدهما : مسح بعض رأسه وإن قلّ فقد حصل من طرفي ( اللسان ) ماسحاً رأسه . فصار مؤدياً فرض الأمر .
والثاني : إنه قال في العضوين اللذين أمر بتعميمها بالطهارة ) فاغسلوا وجوهكم وأيديكم ( فأطلق الأمر في غسلهما وقال في الرأس ) فامسحوا برؤوسكم ( فأدخل الباء للتبعيض لأنّ الفعل إذا
(4/26)

" صفحة رقم 27 "
تعدى إلى المفعول من غير حرف الباء كان دخول الباء للتبعيض ، كقول القائل : مسحت يدي بالمنديل وإن كان مسح ببعضه .
قال عنترة :
شربت بماء الدحرضين فأصبحت
زوراء تنفر عن حياض الديلم
ويدل عليه من السنة ما روى عمرو بن وهب النقعي عن المغيرة بن شعبة أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته وخفّيه ، فاقتصر في المسح على الناصية دون سائر الرأس .
) وأرجلكم ( اختلف القرّاء فيه ، فقرأ عروة بن الزبير وابنه هشام ومجاهد ، وإبراهيم التميمي وأبو وائل ، والأعمش ، والضحّاك وعبدالله بن عامر ، وعامر ونافع ، والكسائي وحفص وسلام ويعقوب : ( وأرجلكم ) بالنصب وهي قراءة علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) .
وروى عاصم بن كليب عن أبي عبد الرحمن السّلمي ، قال : قرأ عليّ الحسن والحسين فقرأا : وأرجلَكم بالخفض ، فسمع عليّ ذلك وكان يقضي بين الناس ، فقال : وأرجلِكم بالنصب ، وقال : هذا من المقدم والمؤخر من الكلام .
وقراءة عبد اللّه وأصحابه . قال الأعمش : كان أصحاب عبد اللّه يقرؤن : وأرجلكم نصباً فيغسلون .
وقراءة ابن عباس ، روى عكرمة عنه أنه قرأها : وأرجلكم بالنصب وقال : عاد الأمر إلى الغسل وهو اختيار أبي عبيد ، وقرأ الباقون بالكسر ، وهي قراءة أنس والحسن وعلقمة والشعبي ، واختيار أبي حاتم ، فمن نصب فمعناه واغسلوا أرجلَكم ، ومن خفض فله وجوه ثلاث : أحدها أن المسح يعني الغسل والباء بمعنى التعميم ، يقول تمسّحت للصلاة أي توضأت ، وذلك أن المتوضىء لا يرضى أن يصيب وجهه وذراعيه وقدميه حتّى يمسحها فيغسلها فلذلك سمي الغسل بها ، وهذا قول أبي زيد الأنصاري وأبي حاتم السجستاني .
وقال أبو عبيدة والأخفش وغيرهما : إن الأرجل معطوفة على الرؤس على الإتباع بالجواز لفظاً لا معنى . كقول العرب ( جحر ضب خرب ) قال تعالى ) ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ( .
قال الشاعر :
ورأيت زوجك في الوغى
متقلداً سيفاً ورمحاً
(4/27)

" صفحة رقم 28 "
والرمح لا يتقلد إنّما يحمل .
وقال لبيد :
وأطفلت بالجلهتين
ظباؤها ونعامها
والنعام لا تطفل وإنما تفرخ .
وقال بعضهم : أراد به المسح على الأرجل لقرب الجوار . كقوله : غمر الردا أي واسع الصدر . ويقال : قبّلَ رأس الأمير ويده ورجله ، وإن كان في العمامة رأسها وفي الكم يده وفي الخف رجله . وفي الحديث أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان إذا ركع وضع يده على ركبتيه . وليس المراد إنه لم يكن بينهما حائل . قال اللّه تعالى : ) وثيابك فطّهر ( قال كثير من المفسرين : أراد به قلبك فطهر .
قال همام بن الحرث : بال جرير بن عبد اللّه فتوضأ ومسح على خفيه فقيل له في ذلك ، فقال : رأيت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يفعله .
قال الأعمش : كان إبراهيم يعجبه هذا الحديث ، وهو أن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة .
وأجرى قوم من العلماء الآية على ظاهرها ، وأجازوا المسح على القدمين ، وهو قول ابن عباس قال : الوضوء مسحتان وغسلتان .
وقول أنس : روى ابن عليّة عن حميد عن موسى بن أنس إنه قال لأنس ونحن عنده : إن الحجاج خطبنا بالأهواز فذكر الطهر فقال : إغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤسكم ، فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وكعبهما وعراقيبهما .
فقال : صدق اللّه وكذب الحجاج ، قال اللّه تعالى ) وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ( وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما .
وروى حماد عن عاصم الأحول عن أنس قال : نزل القرآن بالمسح ، والسّنة بالغسل .
وقول الحسن والشعبي ، قال الشعبي : نزل جبرئيل بالمسح ، ثم قال : ألا ترى المتيمم يمسح ما كان غسلاً ويلغي ما كان مسحاً .
وقول عكرمة قال يونس : حدّثني من صحب عكرمة إلى واسط قال : فما رأيته غسل رجليه إنما كان يمسح عليهما حتى خرج منها .
(4/28)

" صفحة رقم 29 "
وقول قتادة قال : إفترض اللّه غسلين ومسحين ، ومذهب داود بن علي الأصفهاني ومحمد ابن جرير الطبري وأبي يعلى وذهب بعضهم إلى إن المتوضىء يتخير بين غسلهما ومسحهما ، والدليل على وجوب غسل الرجلين في الوضوء قول اللّه عز وجل : ) إلى الكعبين ( فتحديده بالكعبين دليل على الغسل كاليدين لما حدّهما إلى المرفقين كان فرضهما الغسل دون المسح .
ويدل عليه من السّنة ما روي عن عثمان وعلي وأبي هريرة وعبد اللّه بن زيد إنهم حكوا وضوء رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فغسلوا أرجلهم .
وروى خلاد بن السائب عن أبيه عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) أنه قال : ( لا يقبل اللّه صلاة إمرىء حتّى يضع الوضوء مواضعه فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل أرجله ) .
وروى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عطاء عن جابر أنه قال : أمرنا رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) أن نغسل أرجلنا إذا توضأنا .
وقال ابن أبي ليلى : أجمع أصحاب رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) على وجوب غسل الرجلين .
أبو يحيى عن عبد اللّه بن عمرو قال : مرّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على قوم عراقيبهم تلوح فقال : ( أسبغوا الوضوء ويل للعراقيب من النار ) .
وقال حميد الطويل : رأى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) أعمى يتوضأ فقال : ( إغسل باطن قدميك ) فجعل يغسل حتّى سمّي أبا غسيل ) .
روى أبو قلابة أن عمر ( رضي الله عنه ) رأى رجلاً يتوضأ فترك باطن قدميه فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة .
وقالت عائشة رضي اللّه عنها : لإن تقطعا أحبّ إلّي من أن أمسح على القدمين بغير خفين إلى الكعبين .
وهما النابتان من جانبي الرجل ومجمع مفصل الساق والقدم . وسمّتهما العرب المنجمين ، وعليهما الغسل كالمرفقين ، هذا مذهب الفقهاء وخالفهم محمد بن الحسن في الكعب فقال : هو الناتىء من ظهر القدم الذي يجري عليه الشراك . قال : وسمي ذلك لارتفاعه ومنه الكعبة .
ودليلنا قوله تعالى ) وأرجلكم إلى الكعبين ( فجمع الأرجل وثنّى الكعبين فلو كان لكل رجل كعب واحد لجمعهما في الذِكر كالمرافق لما كان في كل يد مرفق واحد ، بجمع المرافق
(4/29)

" صفحة رقم 30 "
فلما جمع الأرجل وثنّى الكعبين ثبت أن لكل رِجل كعبين ويدل عليه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) للمحرم : ( فليلبس النعلين فإن لم يجد النعلين فليلبس ( خفّين ) وليقطعهما أسفل من الكعبين ) .
فدلّ على أن الكعبين ما قلنا ، إذ لو كان الكعب هو الناتىء من ظهر القدم لكان إذا قُطع الخف من أسفله لم يكن استعماله ولا المشي فيه ، والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا يأمر بإضاعة المال وإتلافه .
ويدل عليه ما روي أيضاً عنه ( صلى الله عليه وسلم ) إنه مرّ في سوق مكّة يقول : ( قولوا لا إله إلاّ اللّه تفلحوا ) .
وأبو لهب يرميه من ورائه بالحجارة حتّى أدمى كعبيه .
فلو كان ما ذهب إليه محمد بن الحسن ، ما قيل : حتى أُدمي ، إذ رميت من ورائه .
ويدل عليه ما روي أن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( أقيموا صفوفكم أو ليخالفنّ اللّه بين قلوبكم ) ، حتّى كان الرجل منّا يلزق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكبه ، فيدل عليه قوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( ويل للأعقاب والعراقيب من النار ) أصل الأعقاب والعراقيب إنما يحصل لمن غسل المنجمين .
وروى أبو إدريس عن أبي ذر عن عليّ كرم اللّه وجهه قال : بينا رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) في ملإ من المهاجرين إذ أقبل إليه عشرة من أحبار اليهود فقالوا : يا محمد إنا أتيناك لنسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ من كان نبيّاً مرسلا وملكاً مقرّباً . فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( سلوني تفقهاً ولا تسألوني تعنّتاً ) فقالوا : يا محمد أخبرنا لِمَ أمر اللّه بغسل هذه الأربعة المواضع وهي أنظف المساجد ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ آدم لمّا نظر إلى الشجرة قصد إليها بوجهه ثم مشى إليها وهي أوّل قدم مشت إلى المعصية ثمّ تناول بيده وشمّها فأكل منها فسقطت عنه الحلي والحلل فوضع يده الخاطئة على رأسه فأمر اللّه عز وجل بغسل الوجه لما أنه نظر إلى الشجرة وقصدها وأمر بغسل الساعدين وغسل يده وأمر بمسح رأسه ، إبتلته الشجرة ووضع يده على رأسه وأمر بغسل القدمين لما مشى إلى الخطيئة فلمّا فعل آدم ذلك كفّر اللّه عنه الخطيئة فافترضهنّ اللّه على أمتي ليكفّر ذنوبهم من الوضوء إلى الوضوء ) .
قالوا : صدقت ، فأسلموا .
(4/30)

" صفحة رقم 31 "
فاختلف الفقهاء في حكم الروايات المذكورة في الآية . فجعلوها بمعنى الترتيب والتعقيب وأوجبوا الترتيب في الوضوء وهو أن يأتي بأفعال الوضوء تباعاً واحداً بعد واحد . فيغسل وجهه ثم يديه ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه ، وهو اختيار الشافعي ، فاحتج بقوله ) إنّ الصفا والمروة من شعائر اللّه ( .
قال جابر بن عبد اللّه : خرجنا مع رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) في الحج وذكر الحديث إلى أن قال : فخرج رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) إلى الصفا وقال : ( إبدأوا بما بدأ اللّه به ) فدّل هذا على شيئين : أحدهما : أن الواو يوجب الترتيب ، والثاني أن البداية باللفظ توجب البداية بالفعل إلاّ أن يقوم الدليل .
واحتج أيضاً بقوله ) اركعوا واسجدوا ( فالركوع قبل السجود ، واحتج أيضاً بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) ( لا يقبل اللّه صلاة امرىء حتّى يضع الوضوء مواضعه فيغسل وجهه ثم يغسل يديه ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه ) . و ( ثم ) في كلام العرب للتعقيب .
عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه إنه قال لعبد اللّه بن زيد الأنصاري قال : أتستطيع أن تري كيف كان رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يتوضأ ؟ فقال عبد اللّه : نعم ، فدعا بوضوء وأفرغ على يديه فغسل وجهه ثلاثاً ويديه ثلاثاً ومسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثمّ ذهب بهما إلى المكان الذي بدأ منه ، ثم غسل رجليه .
وقال مالك : إن ترك الترتيب في الوضوء عامداً ، أعاد وضوءه فإن تركه ناسياً لم يعد ، وهو اختيار المزني .
وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وصاحباه : الترتيب في الوضوء سنّة فإن تركه ساهياً أو عامداً فلا إعادة عليه ، وجعلوا الواو بمعنى الجمع ، واحتجوا بقوله تعالى ) إنّما الصدقات للفقراء والمساكين ( ولا خلاف أن تقديم بعض أهل السهمين على بعض في الإعطاء بتمايز . وبقوله ) يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما ( . ويحرم تقديم أحدهما على الآخر .
وأما فضل الوضوء
فروى يحيى بن أبي كثير عن زيد عن ابن سلام عن أبي مالك قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( الطهور شطر الإيمان ) .
(4/31)

" صفحة رقم 32 "
وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عثمان النهدي قال : كنت مع سلمان فأخذ غصناً من شجرة يابسة فحتّه ثم قال : سمعت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( من توضأ فأحسن الوضوء ( ثمّ صلى الصلوات الخمس ) تحاتّت عنه خطاياه كما تحات هذه الورق ) .
وروى زر بن حبيش عن عبد اللّه بن مسعود قال : قيل : يا رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) كيف تعرف من لم تر من أمتك يوم القيامة ؟ قال : ( هم غر محجلون من آثار الوضوء ) .
وروى أبو أمامة عن عمرو بن عبسة قال : قلت : يا رسول اللّه ما الوضوء حدّثني عنه ؟ قال : ( ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق وينثر إلاّ جرت خطايا فيه وخياشيمه مع الماء ثم إذا غسل وجهه كما أمر اللّه إلاّ جرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ، ثم إذا غسل يديه من المرفقين إلاّ جرت خطايا يديه من أنامله مع الماء ، ثم يمسح رأسه إلاّ جرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلاّ جرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء ، فإذا هو قام فصلّى وحَمِدَ اللّه وأثنى عليه ومجّده وفرّغ قلبه للّه إلاّ انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أُمه ) .
وعن أنس بن مالك قال : خدمت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا ابن ثمان سنين وكان أول ما علّمني أن قال : ( يا أنس يا بني أحسن وضوءك لصلاتك يحبك اللّه ويزاد في عمرك ) .
وروى سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن حمزة الأنصاري قال : خرج علينا رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ونحن في مسجد المدينة فقال : ( لقد رأيت البارحة عجباً ، رأيت رجلاً من أُمتي قد بُسِطَ عليه عذاب القبر فجاء وضوؤه فاستنقذه من ذلك ) .
) فإن كنتم جُنُباً فاطّهروا ( فاغتسلوا .
روى أبو ذر عن علي ( عليه السلام ) فقال : أقبل عشرة من أحبار اليهود ، فقالوا : يا محمد لماذا أمر اللّه بالغسل من الجنابة ولم يأمر من البول والغائط وهما أقذر من النطفة ؟ فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( إنّ آدم لما أكل من الشجرة تحوّل في عروقه وشعره ، وإذا جامع الإنسان نزل من أصل كل شعرة فافترضه اللّه عز وجل عليّ وعلى أمتي تكفيراً وتطهيراً وشكراً لِما أنعم عليهم من اللذة التي يصيبونها منه ) .
قالوا : صدقت يا محمد ، فأخبرنا بثواب ذلك من اغتسل من الحلال ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن
(4/32)

" صفحة رقم 33 "
ّ المؤمن إذا أراد أن يغتسل من الحلال بنى اللّه له قصراً في الجنّة وهو سرّ بين المؤمن وبين ربه ، والمنافق لا يغتسل من الجنابة فما من عبد ولا أمة من أمتي قاما للغسل من الجنابة تيقناً أني ربهما ، أُشهدكم أني غفرت لهما كتبت لهما بكل شعرة على رأسه وجسده ألف ( سنة ) ومحى عنه مثل ذلك ورفع له مثل ذلك ) . قالوا : صدقت ، نشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّك رسول اللّه .
وعن أبي محمد الثقفي قال : سمعت أنس بن مالك يقول : قال لي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا بني الغسل من الجنابة فبالغ فيه فإنّ تحت كلّ شعرة جنابة ) . قلت : يا رسول اللّه كيف أبالغ ؟ قال : ( نقّوا أصول الشعر وأنق بشرتك تخرج من مغتسلك وقد غفر لك كل ذنب ) .
وقال عبد الرحمن بن حمزة : خرج علينا رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ذات يوم ونحن في مسجد المدينة . فقال : ( إني رأيت البارحة عجباً ، رأيت رجلاً من أُمتي والنبيون قعود حلقاً حلقاً كلما دنا إلى حلقه طردوه فجاءه اغتساله من الجنابة ( فأخذ بيده ) فأقعده إلى جنبي ) .
) وإن كنتم مرضى أو على سفر ( إلى قوله ) بوجوهكم وأيديكم منه ( أي من الصعيد ) وما يريد اللّه ليجعل عليكم ( بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم ) من حرج ( من ضيق ) ولكن يريد أن يطهركم ( من الأحداث والجنابات والذنوب والخطيئات ) وليتم نعمته عليكم ( فيما أباح اللّه لكم من التيمم عند عدم الماء وسائر نعمه التي لا تحصى ) لعلكم تشكرون ( اللّه عليها .
وروى محمد بن كعب القرضي عن عبد اللّه بن داره مولى عثمان بن عفّان ( رضي الله عنه ) عن عمران مولى عثمان قال : مرّت على عثمان فخارة من ماء فدعا به فتوضأ فأسبغ وضوءه ثم قال : لو لم أسمعه من رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) إلاّ مرّة أو مرّتين أو ثلاثاً ما حدّثتكم به .
سمعت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( ما توضّأ عبد فأسبغ وضوءه ثم قام إلى الصلاة إلاّ غفر ( الله ) له ما بينه وبين الصلاة الأخرى ) .
قال محمد بن كعب : فكنت إذا سمعت الحديث من رجل من أصحاب رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) التمسته في القرآن فالتمست هذا في القرآن فوجدته ) إنّا فتحنا لك فتحاً مبينا ليغفر لك اللّه ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ( فعلمت أن اللّه لم يتم عليه النعمة حتّى غفر له ذنوبه .
(4/33)

" صفحة رقم 34 "
ثم قرأت الآية التي في المائدة ) إذا قمتم إلى الصلاة ( حتّى بلغ قوله ) يريد اللّه ليطهّركم وليتمّ نعمته عليكم ( فعرفت أنّ اللّه لم يتم عليهم النعمة حتى غفر لهم .
قتادة عن شهر بن حوشب عن الصّدي بن عجلان وهو أبو إمامة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنه قال : ( الطهور يكفر ما قبله ( ثمّ ) تصير الصلاة نافلة ) .
المائدة : ( 7 ) واذكروا نعمة الله . . . . .
) واذكروا نعمة اللّه عليكم ( يعني النعم كلها ) وميثاقه ( عهده ) الذي واثقكم به ( عاهدتم به أيها المؤمنون ) إذ قلتم سمعنا وأطعنا ( وذلك حين بايعوا رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) على السمع والطاعة فيما أحبوا وكرهوا . هذا قول أكثر المفسرين .
وقال مجاهد : من الميثاق الذي أخذ اللّه على عباده حين أخرجهم من صلب آدم ( عليه السلام ) ) واتقوا اللّه إن اللّه عليم بذات الصدور ( عليم ما في القلوب من خير وشر
المائدة : ( 8 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين للّه شهداء بالقسط ( أمرهم بالصدق والعدل في أقوالهم وأفعالهم ) ولا يجرمنّكم شنآن قوم ( ولا يحملنكم بغض قوم ) على أن لا تعدلوا ( أي على ترك العدل فيهم لعداوتهم ، ثم قال : ) إعدلوا ( بين أوليائكم وأعدائكم ) هو أقرب للتقوى ( يعني إلى التقوى ) واتقوا اللّه إنّ اللّه خبير ( عالم ) بما تعملون ( مجازيكم به
المائدة : ( 9 - 10 ) وعد الله الذين . . . . .
) وعد اللّه الذين آمنوا وعلموا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم ( تقديرها : وقال لهم مغفرة ، لأنّ الوعد قول ، فلذلك جمع الكلام ) والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ( .
2 ( ) يَاأَيُّهَآ الَّذِينَ ءَامَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِىإِسْرَاءِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَىْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللَّهُ إِنِّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلواةَ وَءَاتَيْتُمْ الزَّكَواةَ وَءَامَنتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلاَُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذاَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السَّبِيلِ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( 2
المائدة : ( 11 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيّها الذين آمنوا اذكروا نعمة اللّه عليكم ( بالدفع عنكم ) إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ( بالقتل ) فكفّ إيديهم عنكم واتقوا اللّه وعلى اللّه فليتوكل المؤمنين ( .
نزلت هذه الآية على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وهو ببطن نخل في الغزوة السابعة فإذا بنو ثعلبة ، وبنو
(4/34)

" صفحة رقم 35 "
محارب أرادوا أن يمسكوا به وبأصحابه إذا اشتغلوا بالصلاة ، قالوا : إن لهم صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم فإذا سجدوا فيها أوقعنا بهم ، فأطلع اللّه نبيّه على ذلك ، وهي صلاة الخوف .
وقال الحسن : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) محاصراً بطن نخلة . فقال رجل من المشركين : هل لكم في أن أقتل محمداً ، قالوا : فكيف تقتله ؟ قال أمسك به ، قالوا : وددنا إنّك فعلت ذلك . فأتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو متقلد سيفه ، فقال : يا محمد أرني سيفك فأعطاه إياه فجعل الرجل يهز السيف وينظر مرّة إلى السيف ومرّة إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : من يمنعك مني يا محمد ؟ قال : اللّه ، فتهدّده أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأغلظوا له فشام السيف ومضى . فأنزل اللّه هذه الآية .
الزهري عن ابن سلام عن جابر بن عبد اللّه : أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) نزل منزلاً وتفرق الناس في العضاة يستظلون تحتها فعلّق النبي ( صلى الله عليه وسلم ) سلاحه بشجرة فجاء أعرابي إلى سيف رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فسلّه ثمّ أقبل على النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : من يمنعك منّي ؟ قال : اللّه ، قال الأعرابي مرّتين أو ثلاثاً : من يمنعك منّي ؟ والنبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : الله ، فشام الأعرابي السيف ، فدعا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أصحابه فأخبرهم بخبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه .
وقال مجاهد وعبد اللّه بن كثير وعكرمة والكلبي ، وابن يسار عن رجاله : بعث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) المنذر ابن عمرو الأنصاري الساعدي وهو أحد النقباء ليلة العقبة في ثلاثين راكباً من المهاجرين والأنصار بني عامر بن صعصعة فخرجوا فلقوا عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر على بئر معونة وهي من مياه بني عامر ، فاغتسلوا فقتل المنذر بن عمرو الأنصاري الساعدي وأصحابه إلاّ ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم أحدهم : عمرو بن أميّة الصيمري ، فلم يرعهم إلاّ والطير تحوم في السماء تسقط من بين خراطيمها علق الدّم ، فقال أحد النفر : قتل أصحابنا ، ثم تولى يشتد حتّى لقي رجلاً فاختلفا ضربتين فلما خالطت الضربة رفع رأسه إلى السماء وفتح عينيه وقال : اللّه أكبر الحمد للّه ربّ العالمين . ورجع صاحباه ، فلقيا رجلين من بني سليم وبين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبين قومهما موادعة ، فانتسبا لهما إلى بني عامر فقتلاهما وقدم قومهما إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يطلبون الدية فخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف حتّى دخلوا على كعب بن الأشرف وبني النظير فاستعانهم في عقلهما ، فقال : نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة . إجلس حتّى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا ، فجلس النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأصحابه فخلا بعضهم ببعض ، وقالوا : إنّكم لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيرتحل عنّا . فقال عمرو بن جحش بن كعب : أنا ، فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك اللّه أيديهم وجاء جبرئيل ( عليه السلام ) وأخبره بذلك فخرج النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ثمّ دعا علياً فقال : لا تبرح من مكّة ، فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عنّي فقل توجه إلى المدينة ، ففعل ذلك علي ( عليه السلام ) حتّى قاموا إليه ثم لقوه فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية .
(4/35)

" صفحة رقم 36 "
قال الثعلبي : وهذا القول أولى بالصواب لأنّ اللّه تعالى عقّب هذه الآية بذم اليهود ، وذكر قبح أفعالهم وأعمالهم فقال عز من قائل ) ولقد أخذ اللّه ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم ( الآية ، وذلك أنّ اللّه تعالى وعد موسى أن يورثه وقومه الأرض المقدسة وهي الشام وكان يسكنها الكنعانيون الجبارون ، ووعده أن يهلكهم ويجعل أرض الشام مساكن بني إسرائيل ، فلما تركت بني إسرائيل الدّار بمصر أمرهم اللّه تعالى المسير إلى أريحا أرض الشام وهي الأرض المقدسة .
وقال : يا موسى إني قد كتبتها لكم داراً قراراً فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدو فإني ناصركم عليهم ، وخذ من قومك إثني عشر نقيباً من كلّ سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء منهم على ما أُمروا ، به فاختار موسى ( عليه السلام ) النقباء وهذه أسماؤهم : من سبط روبيل : شامل بن ران ، ومن سبط شمعون : شاقاط بن ( حوري ) ، ومن سبط يهودا : كالب بن يوقنا ، ومن سبط آبين : مقايل بن يوسف ، ومن سبط يوسف ، وهو سبط إفراهيم ويوشع بن نون ، ومن سبط بيامين : قنطم بن أرقون ومن سبط ريالون : مدي بن عدي ، ومن سبط يوسف وهو ميشا بن يوسف : جدي بن قامن ، ومن سبط آهر : بيانون بن ملكيا ومن سبط تفتال : نفتا لي محر بن وقسي ، ومن سبط دان : حملائل بن حمل ، ومن سبط أشار : سابور بن ملكيا .
فسار موسى ببني إسرائيل حتّى إذا قربوا من أرض كنعان وهي أريحا . بعث هؤلاء النقباء إليها يتجسّسون له الأخبار ويعلمونه فلقيهم رجل من الجباريّن يقال له عوج بن عنق وكان طوله ثلاثة آلاف وعشرون ألف ذراع وثلاثمائة وثلاثون ذراعاً وثلث ذراع .
قال ابن عمر : كان عوج يحتجز بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من أقرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله .
ويروى له أنه رأى نوحاً يوم الطوفان فقال : إحملني معك في سفينتك ، فقال له : أُخرج يا عدو اللّه فإنّي لم أُؤمر بك وطبق الماء ما على الأرض من جبل وما جاوز ركبتي عوج ، وعاش عوج ثلاثة ألاف سنة ثم أهلكه اللّه على يد موسى ، وكان لموسى ( عليه السلام ) عسكر فرسخاً في فرسخ ، فجاء عوج حتى نظر إليهم ثم جاء فنحت الجبل فأخذ منه بصخرة على قدر العسكر ثم حملها ليطبقها عليهم فبعث اللّه تعالى إليه الهدهد ومعه المص يعني منقاره حتّى نقر الصخرة فانثقبت فوقعت في عنق عوج فطوقته وأقبل موسى ( عليه السلام ) وطوله عشرة أذرع وطول عصاه عشرة أذرع وتراقي السماء عشرة أذرع فما أصاب إلاّ كعبه وهو مصروع بالأرض فقتله .
قالوا : فأقبلت جماعة كثيرة ومعهم الخناجر فجهدوا حتّى جزّوا رأسه فلما قتل وقع في نيل مصر
(4/36)

" صفحة رقم 37 "
فجسرهم سنة وكانت أمّه عنق ويقال عناق إحدى بنات آدم ، ويقال : إنّها كانت أوّل من بغت على وجه الأرض وكان كل إصبع من أصابعها ثلاثة أذرع وذراعين ، وفي كل إصبع ظفران حديدان مثل المنجلين . وكان موضع مجلسها جريباً من الأرض . فلمّا بغت بعث اللّه عز وجل عليها أسداً كالفيلة وذئباً كالإبل ونسوراً كالحمر وسلّطهم عليها فقتلوها وأكلوها .
قالوا : فلما لقيهم عوج وعلى رأسه حزمة حطب أخذ الإثني عشر فجعلهم في حجزته وحجزة الإزار معقد السراويل التي فيها التكّة فانطلق بهم إلى امرأته وقال : أُنظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا ، فطرحهم بين يديها .
وقال : ألا أطحنهم برجلي ، فقالت إمرأته : لا بل خلِّ عنهم حتّى يخبروا قومهم بما رأوا ، ففعل ذلك فجعلوا يتعرّفون أحوالهم ، وكان لا يحمل عنقود عنبهم إلاّ خمسة أنفس منهم في خشبة ويدخل في شطر الرّمانة إذا نزع حبّها خمسة أنفس أو أربعة ، فلمّا خرجوا قال بعضهم لبعض : يا قوم إنّكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبر القوم إرتدّوا عن نبي اللّه ولكن اكتموا وأخبروا موسى ( عليه السلام ) وهارون فيكونان هما يريان رأيهما ، فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك . ثم انصرفوا إلى موسى وحاول بحبّة من عنبهم وفرّ رجل منهم ، ثم إنّهم نكثوا العهد ، وكل واحد منهم نهى سبطه عن قتالهم ويخبرهم بما رأى ، إلاّ رجلان منهم يوشع وكالب ، فذلك قوله تعالى
المائدة : ( 12 ) ولقد أخذ الله . . . . .
) ولقد أخذ اللّه ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم إثني عشر نقيباً ( .
وقال اللّه لبني إسرئيل ) إنّي معكم ( ناصركم على عدّوكم .
ثم ابتدأ الكلام فقال عزّ من قائل : ) لئن أقمتم ( يا معشر بني إسرائيل ) الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم ( أي ونصرتموهم ووقرتموهم .
وأشعر أبو عبيدة :
وكم من ماجد منهم كريم
ومن ليث يعزّر في الندي
ويروى : وكم من سيّد يُحصى نداه ومن ليثِ .
) وأقرضتم اللّه قرضاً حسناً ( ولم يقل أقراضاً ، وهذا مما جاء من المصدر بخلاف المصدر كقوله ) فتقبلها ربها بقبول حسن ( ) لأُكفرنّ ( لأستبرءنّ ولأمحوّنّ ) عنكم سيّئاتكم ولأُدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضلّ سواء السبيل ( أي أخطأ قصد
(4/37)

" صفحة رقم 38 "
السبيل وهو لكل شيء وسطه ، ومنه قيل للظهر : سواء
المائدة : ( 13 ) فبما نقضهم ميثاقهم . . . . .
) فبما نقضهم ميثاقهم ( أي فبنقضهم وما فيه ما المصدر ، وكلّ ما ورد عليك من هذا الباب فهو سبيله .
قال قتادة : نقضوه من وجوه : كذّبوا الرسل الذين جاؤا بعد موسى فقتلوا أنبياء اللّه ونبذوا كتابه وضيّعوا فرائضه .
قال سلمان : إنما هلكت هذه الأمّة بنكثها عهودها .
) لعنّاهم ( قال ابن عباس : عذّبناهم بالجزية . الحسن ومقاتل : بالمسخ عطاء أبعدناهم من رحمتنا ) وجعلنا قلوبهم قاسية ( .
قرأ يحيى بن رئاب وحمزة والكسائي قسّية بتشديد الياء من غير ألف . وهي قراءة النخعي ، وقرأ الأخفش : قسية بتخفيف الياء على وزن فعلية نحو عمية وشجية من قسى يقسي لا من قسى يقسو ، وقرأ الباقون : قاسية على وزن فاعلة ، وهو اختيار أبو عبيدة ، وهما لغتان مثل العلية والعالية والزكية والزاكية .
قال ابن عباس : قاسية يائسة ، وقيل : غليظة لا تلين ، وقيل : متكبرة لا تقبل الوعظ ، وقيل : ردية فاسدة ، من الدراهم القسية وهي الودية المغشوشة ) يحرّفون الكلم عن مواضعه ( قرأه العامّة بغير ألف ، وقرأ السلمي والنخعي : الكلام بالألف ) ونسوا حضاً ممّا ذكّروا به ( وتركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وبيان نعمته ) ولا تزال ( يا محمد ) تطّلع على خائنة منهم ( .
وإختلفوا في الخائنة :
قال المبرّد : هي مصدر ، كالكاذبة ، واللاّغية ، وقيل : هي إسم كالعاقبة والمعاقبة ، وقيل : هي بمعنى المبالغة ، والهاء هنا للمبالغة مثل : راوية وعلامة ونسابة .
قال الشاعر :
حدّثت نفسك بالوفاء ولم تكن
للغدر خائنة مغلّ الإصبع
ويجوز أن يكون جمع الخائن كقولك فرقة كافرة وطائفة خارجة .
قال ابن عباس : خائنة أي معصية ، وقيل : كذب وفجور ، وكانت خيانتهم نقضهم العهد ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وهمهم بقتله وسمّه ونحوها من عمالتهم وخيانتهم التي أخبرت ) إلاّ قيلاً منهم ( لم يخونوا أو لم ينقضوا العهد ، ( من ) أهل الكتاب ) فاعف عنهم واصفح إنّ اللّه يحب المحسنين ( وهذا منسوخ بآية السيف .
(4/38)

" صفحة رقم 39 "
2 ( ) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الاَْرْضِ جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ( 2
المائدة : ( 14 ) ومن الذين قالوا . . . . .
) ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم ( في التوحيد والنبوة ) فنسوا حظّاً مما ذكّروا به فأغرينا ( بالعهد ) بينهم العدواة والبغضاء إلى يوم القيامة ( ألا وهو الخصومات والجدال في الدين .
قال معاوية بن قرة : الخصومات في الدين تحبط الأعمال واختلفوا في المعنى بالهاء والميم في قوله ) بينهم ( .
فقال مجاهد وقتادة والسدّي وابن زيد : يعني بين اليهود والنصارى .
وقال ابن زيد : كما تغري بين البهائم . وقال الربيع : هم النصارى وحدها ، وذلك راجع إلى فرق النصارى النسطورية واليعقوبية والملكية ، ) بعضهم لبعض عدو ( ) وسوف ينبئهم اللّه بما كانوا يصنعون ( في الآخرة ويجازيهم به وهذا وعيد من اللّه تعالى
المائدة : ( 15 ) يا أهل الكتاب . . . . .
) يا أهل الكتاب لقد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ( التوراة والإنجيل مثل صفة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) وآية الرجم ) ويعفوا عن كثير ( ويترك أخذكم بكثير ممّا تخفون ) قد جاءكم من اللّه نور ( يعني محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) وكتاب مبين ( بيّن ، وقيل : مبيّن وهو القرآن
المائدة : ( 16 ) يهدي به الله . . . . .
) يهدي به اللّه ( مجاهد وعبيد بن عمير ومسلم بن جندب : يهدي به اللّه بضم الهاء على الأصل لأن أصل الهاء الضمة ، وقرأ الآخرون بكسر الهاء إتباعاً . ) من اتبع رضوانه ( رضاه ومعنى رضاه بالشيء قبوله ومدحه له فأثابه عليه وهو خلاف السخط والغضب ) وسبل السلام ( لطرف السلم وهو الله تعالى وسبيله دينه الذي شرع لعباده وبعث به رسله ) ويخرجهم من الظلمات إلى النور ( أي من ظلام الكفر إلى نور الإيمان ) بإذنه ( بتوفيقه وهدايته وإرادته ومشيئته ) ويهديهم إلى صراط مستقيم ( ،
المائدة : ( 17 ) لقد كفر الذين . . . . .
) لقد كفر الذين قالوا إنّ اللّه هو المسيح بن مريم قل فمن يملك من اللّه شيئاً ( أي من يطيق أن يدفع من أمر الله شيئاً فيرده إذا قضاء ، وهو من قول القائل : ملكت على فلان أمره إذا ضلّ لا يقدر أن ينفّذ أمراً
(4/39)

" صفحة رقم 40 "
الآية ) إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمّه ومن في الأرض جميعاً وللّه ملك السموات والأرض وما بينهما ( ولم يقل : وما بينهنّ لأنّ المعنى : وما بين هذين النوعين من الأشياء ) يخلق ما يشاء واللّه على كل شيء قدير ( .
2 ( ) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ( 2
المائدة : ( 18 ) وقالت اليهود والنصارى . . . . .
) وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء اللّه وأحبّاؤه ( .
قال السدّي : قالت اليهود : إنّ اللّه أوحى إلى إسرائيل أن ولداً من ولدك أدخلهم النار فيكونون فيها أربعين يوماً حتى تطهركم وتأكل خطاياهم ثم ينادي أن أخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل فأخرجهم فذلك قولهم ) لن تمسنا النار إلاّ أيّاماً معدودة ( ، وأمّا النصارى ، فإن فرقة منهم قالت : المسيح ابن اللّه .
فأخرجهم الخبر عن الجماعة ) قل فلم يعذبكم بذنوبكم ( كان لأمر ما زعمتم أنكم أحباؤه وأولياؤه فإن الحبيب لا يعذب حبيبه ، وأنتم مقرّون إنّه معذبكم ) بل أنتم بشر ممن خلق ( كسائر بني آدم ، ثم قال بالإحسان والإيتاء ) يغفر لمن يشاء ( فضلاً ) ويعذب من يشاء ( عدلاً .
وقال السدّي : يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له ، ويميت من يشاء منكم على كفره فعذّبه ) وللّه ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير (
المائدة : ( 19 ) يا أهل الكتاب . . . . .
) يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا ( محمد ) يبين لكم ( أعلام الهدى وشرائع الدين ) على فترة ( إنقطاع ) من الرسل ( واختلفوا في قدر مدّة تلك الفترة .
وروى عبيد بن سلمان عن الضحاك قال : الفترة فيما بين عيسى ومحمد ( عليهما السلام ) ستمائة سنة .
معمّر عن قتادة قال : كان بين عيسى ومحمد ( عليهما السلام ) خمسمائة وستون سنة .
قال معمّر وقال الكلبي : خمسمائة وأربعون سنة ، الضحّاك : أربعمائة وبضع وثلاثون سنة ) إن تقولوا ما جاءنا من بشير ونذير فقد جاءكم بشير ونذير واللّه على كل شيء قدير ( .
حمّاد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي رافع عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسل
(4/40)

" صفحة رقم 41 "
( أربعة ( كلّهم ) يدلي على اللّه يوم القيامة بحجة وعذر ، رجل مات فى الفترة ورجل أدرك ( الفترة الأخيرة ) ، ورجل أصم أبكم ورجل معتوه ، فيبعث اللّه عزّ وجل إليهم ملكاً رسولاً فيقول أطيعوه فيأتهم الرسول فيؤجج لهم ناراً فيقول : إقتحموها فمن اقتحمها كانت عليهم برداً وسلاماً ومن قال لا حقت عليه كلمة العذاب ) .
2 ( ) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَءَاتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الاَْرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَامُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ قَالُواْ يَامُوسَىإِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاإِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّى لاأَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِى وَأَخِى فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِى الاَْرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ( 2
المائدة : ( 20 ) وإذ قال موسى . . . . .
) وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكاً ( إختلفوا في معنى الملوك .
فروى أبو الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكاً ) .
وقال ابن عباس ومجاهد والحسن والحكم : من كان له بيت وخادم وامرأة فهو ملك .
وقال أبو عبد الرحمن : قال : سمعت عبد اللّه بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال : ألسنا من فقداء المهاجرين ؟ فقال له عبد اللّه : ألك إمرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم . قال : ألك مسكن تسكنه ؟ قال نعم ، قال : فأنت من الأغنياء ، قال : إنّ لي خادماً ومالاً . قال : فأنت من الملوك .
وروى أبو عبلة عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أصبح معافى في بدنه آمناً في سربه وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ، ياابن جعشم يكفيك منها ما يسدّ جوعك ويواري عورتك فإن كان بيت يواريك فذاك ، وإن كان دابة تركبها فبخ ، فلق الخبز وماء البحر وما فوق ذلك حساب عليك )
(4/41)

" صفحة رقم 42 "
وقال الضحّاك : كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية فمن كان مسكنه واسعاً وفيه ماء جار فهو ملك .
وقال قتادة : كانوا أول من ملك الخدم وأول من سخّر لهم الخدم من بني آدم .
قال السدّي : يعني وجعلكم أحراراً تملكون أنفسكم بعد أن كنتم في أيدي القبط بمنزلة أهل الجزية فينا فأخرجكم اللّه من الذّل ) وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين ( يعني عالمي من غيركم .
وقال مجاهد : يعني المن والسلوى والحجر والغمام
المائدة : ( 21 ) يا قوم ادخلوا . . . . .
) يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة ( إختلفوا في الأرض المقدسة ما هي .
فقال مجاهد : هي الطور وما حوله . وقال الضحّاك : هي إيليا وبيت المقدس الحرام محرم مقداره ، السماوات والأرض بيت المقدس مقدّس مقداره من السماوات والأرض .
عكرمة والسدّي وابن زيد : هي أريحا .
الكلبي : دمشق وفلسطين وبعض الأردن .
قتادة : هي الشام كلها .
قال زيد بن ثابت : بينما نحن حول رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يؤلف القرآن من الرقاع إذ قال : ( طوبى للشام ) قيل : يا رسول اللّه ولم ذاك ؟ قال : ( إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليهم ) .
نصير بن علقمة الحمصي عن جبير بن نقير عن عبد اللّه بن حواله قال : كنّا عند النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( واللّه لا يزال هذا الأمر فيكم حتى يفتح اللّه أرض فارس والرّوم وأرض حمْير وحتى تكونوا أجناداً ثلاثة ، جنداً بالشام ، وجنداً بالعراق وجنداً باليمن ) .
فقال ابن حوالة : يا رسول اللّه أن أدركني ذلك ، قال : ( إختار لك الشام فإنها صفوة اللّه من بلادكم وإليها ( يجتبي ) صفوته من عباده ، يا أهل الإسلام فعليكم بالشام فإن صفوة اللّه من الأرض الشام فمن أبى فليلحق بيمينه وليستق من غدره إن اللّه قد تكفّل لي بالشام وأهله ) .
روى الأعمش عن عبد اللّه بن صبّار عن أبيه عن عبد اللّه بن مسعود قال : قسّم الخير عشرة أعشار فجعل منه تسعة بالشام وواحد بالعراق . وقسم الشّر عشرة أعشار فجعل منه تسعة بالعراق وواحد بالشام . ودخل الشام عشرة ألف عين رأت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ونزل خمس وسبعمائة من
(4/42)

" صفحة رقم 43 "
أصحاب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيهم سبعون ( صحابياً ) ) التي كتب اللّه لكم ( يعني كتبه في اللوح المحفوظ إنها لكم مساكن .
وقال ابن إسحاق : ذهب اللّه لكم . السّدي : أمركم به يدعو لها ، وقتادة : أمروا بها كما أمروا بالصلاة ) ولا ترتدوا على أدباركم ( أعقابكم بخلاف اللّه ) فتنقلبوا ( .
قال الكلبي : صعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام جبل لبنان فقيل له : أنظر فما أدركه بصرك فهو مقدس وهو ميراث لذريّتك من بعدك ، قالوا : يعني بني إسرائيل ، يا موسى إكتموا أمرهم لا تخبروا به أحداً من أهل العسكر فيفشيانه فذهب كل رجل منهم فأخبر قريبه وابن عمّه إلاّ رجلين وفيا . فقال لهم موسى : وهما يوشع بن نون بن أفراثيتم بن يوسف فتى موسى وكالب بن يوفنا ختن موسى على أخته مريم ابنت عمران وهما من إيليا فعلمت جماعة بني إسرائيل ذلك ، ورفعوا أصواتهم بالبكاء ، وقالوا : يا ويلتنا متنا في أرض مصر ، وليتنا نموت في هذه البرية ولا يدخلنا اللّه لدينهم فيكون نساؤنا وأولادنا وأثقالنا غنيمة لهم ، وجعل الرجل يقول لأصحابه : تعالوا نجعل علينا رأساً وننصرف إلى مصر وذلك قوله عز وجل إخباراً عنهم :
المائدة : ( 22 ) قالوا يا موسى . . . . .
) قالوا : يا موسى إنّ فيها قوماً جبّارين وإنّا لن ندخلها ( .
وقال قتادة : كانت لهم أجسام وخلق عجيب ليست لغيرهم ) وإنّا لن ندخلها حتّى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنّا داخلون ( فلما قالوا ذلك وهمّوا بالإنصراف إلى مصر خرّ موسى وهارون ( عليهم السلام ) ساجدين وخرق يوشع وكالب ثيابهما وهما اللذان أخبر اللّه عز وجل عنهما في قوله
المائدة : ( 23 ) قال رجلان من . . . . .
) قال رجلان من الذين يخافون ( أي يخافون اللّه .
قرأ سعيد بن جبير يخافون بضم الياء وقال : كانا من الجبّارين فأسلما واتّبعا موسى
) أنعم اللّه عليهما ( بالتوفيق والعصمة ) أدخلوا عليهم الباب ( يعني قرية الجبّارين ) فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ( لأنّ اللّه منجز وعده ولا ينساهم فكانت أجسامهم عظيمة قوية ، وقلوبهم ضعيفة فلا يخشونهم ) وعلى اللّه فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ( فأراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة وعصوهما
المائدة : ( 24 ) قالوا يا موسى . . . . .
) قالوا : يا موسى إنّا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون ( .
روي أن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال لأصحابه يوم الحديبية حين صدّ عن البيت : إني ذاهب بالهدي فناحره عند البيت . فقال المقداد بن الأسود : أما واللّه لا نقول لك ما قال قوم موسى إذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون ، ولكنّا نقاتل عن يمينك وشمالك ومن بين يديك ومن خلفك فلو خضت البحر لخضناه معك ، ولو تسنّمت جبلاً لعلوناه معك فسر بنا على بركة الله ، فلما سمع أصحاب رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) بايعوه على ذلك وأشرق وجه رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) بذلك وسرّه
(4/43)

" صفحة رقم 44 "
قال ابن مسعود : لأن أكون صاحب هذا المسجد أحبّ إليّ مما عدل بي .
فلمّا فعلت بنو إسرائيل ما فعلت من معصيتهم بينهم ومخالفتهم أمر ربهم وهممتم بيوشع وكالب ، غضب موسى ودعا عليهم
المائدة : ( 25 ) قال رب إني . . . . .
) قال رب إني لا أملك إلاّ نفسي وأخي فافرق ( أي فأفصل واقضِ .
وقرأ عبيد بن عمير : فافرق بخفض الرّاء ) بيننا وبين القوم الفاسقين ( العاصين . وكانت عجلة عجلها موسى وظهر الغمام على باب قبة الزمر موضع مناجاته وأوحى اللّه تعالى إلى موسى : إلى متى يعصيني هذا الشعب وإلى متى لا يصدّقون بالآيات لأهلكنّهم جميعاً ولاجعلنّ لك شعباً أشد وأكثر منهم ، فقال موسى ( عليه السلام ) : إلهي لو إنّك قتلت هذا الشعب كلّهم كرجل واحد لقالت الأمم الذين سمعوا : إنمّا قتل هذا الشعب لإنه لم يستطع أن يدخلهم الأرض المقدسة فقتلهم في البرية ، وإنّك طويل صبرك كثير نعمك وإنّك تغفر الذنوب وتحفظ الآباء على الأبناء وأبناء الأبناء ، فاغفر لهم توبتهم ، فقال اللّه لموسى : قد غفرت لهم بكلمتك ولكن بعد ما سميّتهم فاسقين ودعوت عليهم لأحرّمن عليهم دخول الأرض المقدسّة غير عبديّ يوشع وكالب ولأتيِّهنَّهم في هذه البرية أربعين سنة فكان كل يوم من الأيام الذي يحتسبوا فيها سنة وليلقين حتفهم في هذه القفار وأما بنوهم الذين لم يعلموا الخير والشر فإنهم يدخلون الأرض المقدسة فذلك قوله تعالى
المائدة : ( 26 ) قال فإنها محرمة . . . . .
) قال فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ( يتحيرون في الأرض فلبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيروا في كل يوم جادّين حتّى إذا أمسوا وباتوا فإذا هم في الموضع الذي ارتحلوا عليه ، وكانوا ستمائة الف مقاتل ومئات من النقباء العشرة الذين أفشوا الخبر بغتة فكل من دخل التيه ممن جاوز عشرين سنة مات في التيه غير يوشع وكالب ، ولم يدخل أريحا أحد ممن قالوا ) إنّا لن ندخلها أبداً ( فلمّا هلكوا وانقضت أربعون سنة ونشأت النواشي من ذرياتهم ساروا إلى حرب الجبارين .
واختلف العلماء في من تولي ذلك الحرب وعلى يد من كان الفتح ، فقال القوم : إنمّا فتح أريحا موسى ( عليه السلام ) وكان يوشع على مقدمته فسار موسى إليهم بمن بقي من بني إسرائيل فدخل بهم يوشع وقاتل الجبابرة التي كانوا بها ثم دخلها موسى ( عليه السلام ) بني إسرائيل فأقام فيها ما شاء اللّه أن يقيم فيه ثم قبضه اللّه إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلائق ، وهذا أصح الأقاويل ، لإجماع العلماء أن عوج ابن عناق قتله موسى ، واللّه أعلم .
وقال الآخرون : إنّما قاتل الجبّارين يوشع ولم يسر إليهم إلاّ بعد موت موسى ، وهلاك جميع من أبى المسير إليها فقالوا : مات موسى وهارون في التيه .
(4/44)

" صفحة رقم 45 "
قصة وفاة هارون ( عليه السلام )
قال السدّي : أوحى اللّه عز وجل إلى موسى : أني متوفي هارون ، فأت به جبل كذا وكذا فانطلق موسى وهارون نحو الجبل ، فإذا هما بشجر لم ير شجر مثلها وإذا بيت مبني فيه سرير عليه فرش وإذا فيه ريح طيبة فلمّا نظر هارون إلى ذلك بجنبه أعجبه وقال : يا موسى إنّي أحب أن أنام على هذا السرير ، قال : فنم عليه ، فقال : إنّي أخاف أن يأتي رب هذا البيت فيغضب عليّ ، قال له موسى : لا ، أنا أكفيك رب هذا البيت فنم ، قال : يا موسى بل نم معي فإن جاء رب البيت غضب عليّ وعليك جميعاً ، فلما ناما أخذ هارون الموت فلما وجد حتفه قال : يا موسى خذ عيني فلما قبض رفع ذلك البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير إلى السماء ، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل وليس معه هارون ، قالوا : إنّ موسى قتل هارون وحسده حبّ بني إسرائيل له ، فقال موسى : ويحكم فإنّ أخي أُمر ولن أقتله فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا اللّه فنزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه .
وقال عمرو بن ميمون : كان وفاة موسى وهارون في التيه ، ومات هارون قبل موسى . فكانا خرجا في التيه إلى بعض الكهوف ، فمات هارون ودفنه موسى ، وانصرف إلى بني إسرائيل ، فقالوا : ما فعل هارون ؟ قال : مات ، قالوا : كذبت ولكنك قتلته لمحبّتنا إياه ، وكان محبباً في بني إسرائيل .
فتضرع موسى إلى ربّه وشكى ما لقي من بني إسرائيل فأوحى اللّه عز وجل إليه أن انطلق بهم إلى قبر هارون حتى تخبرهم أنه مات موتاً ولم تقتله ، وانطلق بهم إلى قبر هارون فنادى : يا هارون فخرج من قبره ينفض من رأسه فقال : أنا قتلتك ؟ قال : لا واللّه ولكنّي متّ قال : فعد إلى مضجعك ، وانصرفوا .
وأما وفاة موسى ( عليه السلام )
فقال ابن إسحاق : كان صفي اللّه موسى قد كره الموت وأعظمة فلما كرهه أراد اللّه أن يحبِّب إليه الموت ويكرِّه إليه الحياة فالتقى يوشع بن نون وكان يغدو ويروح عليه فيقول له موسى : يا نبي الله ما أحدث اللّه ؟ فيقول له يوشع : يا نبي اللّه ألم أصحبك كذا وكذا سنة وهل كنت أسألك عن شيء مما أحدث اللّه إليك حتّى تكون أنت الذي تهتدي به وتذكره ولا تذكر له شيئاً ؟ فلما رأى ذلك موسى كره الحياة وأحبّ الموت ، ثم اختلفوا في صفة موته .
فروى همام بن منبه عن أبي هريرة عن محمد رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( جاء ملك الموت إلى موسى ( عليه السلام ) فقال له : أجب ربك ، قال فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها فرجع ملك الموت إلى اللّه تعالى فقال : إنّك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت ، وقد فقأ عيني ، قال : فرّد
(4/45)

" صفحة رقم 46 "
اللّه عينه وقال : إرجع إلى عبدي ، فقل له : الحياة تريد فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما وارت يدك من شعره فإنك تعيش بعدد كل شعرة من ذلك سنة قال : ثم ماذا ، قال : ثم تموت ، قال : فألان من قريب قال : ياربّ أدنني من الأرض المقدسة قدر رمية حجر ) ، فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( واللّه لو إني عنده لأريتكم قبره إلى جانب الطور الطريق عند الكثيب الأحمر ) .
قال الثعلبي : سمعت أبا سعيد بن حمدون قال : سمعت أبا حامد المقري قال : سمعت محمد ابن يحيى يقول : قد صحّ هذا من رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) معنى قصة ملك الموت وموسى لا يردّها إلاّ ضال . وفي حديث آخر : أن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( إنّ ملك الموت كان يأتي النّاس عياناً حتّى أتى موسى ليقبضه فلطمه ففقأ عينه فرجع ملك الموت ، فجاء بعد ذلك خفية ) .
وقال السّدي : في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( كان موسى ( عليه السلام ) يمشي وفتاه يوشع إذ أقبلت ريح سوداء فلما نظر إليها يوشع ظن أنها الساعة فالتزم موسى . فقال : تقوم الساعة وأنا ملتزم لموسى نبي اللله فأستلّ موسى من تحت القميص وترك القميص في يدي يوشع ، فلما جاء يوشع بالقميص أخذته بنو إسرائيل . وقالوا : أقتلت نبي اللّه ؟ قال : لا واللّه ما قتلته ولكن استلّ منّي ، فلم يصدّقوه وأرادوا قتله ، قال : فإذا لم تصدقوني فأخّروني ثلاثة أيام فدعا اللّه عز وجل فأتى كل رجل ممّن كان يحرسه في المنام فأخبر أن يوشع لم يقتل وإنا قد رفعناه إلينا فتركوه ) .
وقال وهب : خرج موسى ( عليه السلام ) لبعض حاجته فمرّ برهط من الملائكة يحفرون قبراً فعرفهم فأقبل إليهم حتى وقف عليهم فإذا هم يحفرون قبراً لم ير شبيهاً قط أحسن منه ولم ير مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة ، فقال لهم : يا ملائكة اللّه لمن تحفرون هذا القبر ؟ قالوا : نحفره واللّه لعبد كريم على ربّه ، قال : إنّ لهذا العبد من اللّه لمنزلة فإني ما رأيت كاليوم مضجعاً ، فقالت الملائكة : يا صفي اللّه أتحب أن يكون لك ؟ قال : وددت ، قالوا : فانزل فاضطجع فيه وتوجّه إلى ربك ثم تنفس أسهل تنفس تنفّسته قط ، فنزل فاضطجع فيه وتوجّه إلى ربه ثم تنفس فقبض اللّه روحه ثم سوّت عليه الملائكة .
وقيل : إن ملك الموت أتاه فقال له : يا موسى أشربت الخمر ؟ قال : لا ، فاستكرهه فقبض روحه . وقيل : بل أتاه بتفاحة من الجنّة فشمها فقبض روحه .
(4/46)

" صفحة رقم 47 "
ويروى أن يوشع بن نون رآه بعد موته في المنام فقال : كيف وجدت الموت . قال كشاة تُسلخ وهي حيّة ، وكان عمر موسى ( عليه السلام ) مائة وعشرون سنة ، عشرين سنة منها في ملك إفريدون ومائة في ملك منوهر فلما انقضت الأربعون سنة مات .
ولما مات موسى بعث اللّه تعالى إليهم يوشع نبياً فأخبرهم إنه نبي اللّه وأن اللّه أمرهم بقتال الجبّارين فصدقوه وبايعوه فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحا ومعه تابوت الميثاق فأحاط بمدينة أريحا ستة أشهر فلما كان في السابع نفخ في القرون وضجّ الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة فدخلوا وقاتلوا الجبّارين وهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم وكانت الغلبة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها حتى يقطعونها وكان القتال يوم الجمعة فبقيت منهم بقية وكادت الشمس تغرب ودخل ليلة السبت فخشي أن يعجزوا فقال : اللهم أردد الشمس عليّ فقال للشمس : إنّك في طاعة اللّه فسأل الشمس أن تقف والقمر أن يقم حتى ينتقم من أدعائه دخول السبت فردت عليه الشمس وزيد له في النهار ساعة حتى قطعهم أجمعين ثمّ أرسل ملوك الأرمانيين بعضهم إلى بعض فكانوا خمسة فجمعوا كلمتهم على يوشع وقومه وهزمت بنو إسرائيل الملوك حتى أهبطوهم إلى هبطة خوران ورماهم اللّه تعالى بأحجار مبرّد وكان من قبله البرد أكثر مما قبله بنو إسرائيل بالسيف ، وهرب الخمسة الملوك فاختفوا في غار فأمرهم يوشع فأخرجوا فقتلهم وصلبهم ثم أنزلهم فطرحهم في ذلك الغار وتتّبع سائر ملوك الشام فاستباح منهم واحداً وثلاثين ملكاً حتى غلب على جميع أرض الشام وصارت الشام كلها لبني إسرائيل ، وفرق عمّاله في نواحيها ثم جمع الغنائم فلم ينزل النار .
فأوحى اللّه تعالى إلى يوشع أنّ فيها غلولا فمرهم فليبايعوك فبايعوه فالتصقت . فدخل بينهم بيده ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) هلمّ لما عندك فأتاه برأس الثور مكلل بالياقوت والجوهر كان قد غلّه فجعله في القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فأحنث الرجل والقربان .
معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( غزا نبي من الأنبياء فقال : لقومه لا يتبعني رجل قد ناكح إمرأة وهو يريد أن يبني بها ولما بنى ولا آخر قد بنى بناءاً له ولما يرفع سقفها ، ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينتظر ولادها . قال : فغزا فدنا للدير حين صلّى العصر أو قريباً من ذلك . فقال للشمس : أنت مأمورة وأنا مأمور ، اللّهم احبسها عليّ ساعة فحبست له ساعة حتى فتح اللّه عليه . قال من علمي أنها لم تُحبس لأحد قبله ولا بعده ثم وضعت الغنيمة فجمعوا فجاءت النار ولم تأكلها فقال : إنّ فيكم غلول فليبايعني من كل قبيلة منكم رجل فبايعوه فلصقت يد رجل بيده . فقال : فيكم الغلول أنتم غللتم ، قال : فأخرجوا مثل
(4/47)

" صفحة رقم 48 "
رأس بقرة من ذهب فألقوه في الغنيمة وهو بالصعيد فأقبلت النار فأكلتها ) قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا وذلك لأن اللّه تعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيّبها لنا ) .
قالوا : ثم مات يوشع ( عليه السلام ) ودفن في جبل أفرايم وكان عمره مائة وستاً وعشرين سنة . وتدبّر أمر بني إسرائيل بعد وفاة موسى سبعاً وعشرين سنة .
2 ( ) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَىْ ءْادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الاَْخَرِ قَالَ لاََقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَىَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِى مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِىَ إِلَيْكَ لاَِقْتُلَكَ إِنِّىأَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّىأُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَآءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِى الاَْرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِى سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَاذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِى فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ مِنْ أَجْلِ ذالِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِىإِسْرَاءِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الاَْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذالِكَ فِى الاَْرْضِ لَمُسْرِفُونَ ( 2
المائدة : ( 27 ) واتل عليهم نبأ . . . . .
) واتل عليهم نبأ ( خبر ) ابني آدم ( وهما هابيل وقابيل ، فهابيل في إسمه ثلاث لغات : هابيل وهابل وهابن . وقابيل في إسمه خمس لغات : قابيل وقابين وقابل وقبن وقابن ) إذ قرّبا قرباناً ( وكان سبب تقرّبهما القربان على ما ذكره أهل العلم بالقرآن . أن حوّاء كانت تلد لآدم ( عليه السلام ) توأماً في كل بطن غلاماً وجارية إلاّ شيثاً فإنها ولدته مفرداً وكان جميع ما ولدته حوّاء أربعين من ذكر وأنثى في عشرين بطناً أولهم قابيل وتوأمته أقليما وآخرهم عبدالمغيث مغيت وتوأمته أمة المغيث ثم بارك اللّه في نسل آدم ( عليه السلام ) .
قال ابن عباس : لم يمت آدم ( عليه السلام ) حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفاً بنوذ . ورأى آدم ( عليه السلام ) فيهم الزنا وشرب الخمر والفساد .
واختلف العلماء في وقت مولد قابيل وهابيل ، وموضع اختلافهما . فقال بعضهم : غشى آدم حوّاء بعد هبوطهما إلى الأرض بمائة سنة فولدت له قابيل وتوأمته أقليما في بطن ، ثم هابيل وتوأمته في بطن .
وقال محمد بن إسحاق : عن بعض أهل الكتاب ، العلم الأول إنّ آدم كان يغشى حوّاء في
(4/48)

" صفحة رقم 49 "
الجنّة قبل أن يصيب الخطيئة فحملت له فيها بقابيل وتوأمته فلم يجد عليها وحماً ولا وصباً ولا يجد عليها طلقاً حين ولدتهما ولم تر معهما دماً ، لطهر الجنّة فلما هبط إلى الأرض واطمأنا بها تغشّاها فحملت بهابيل وتوأمته فوجدت عليهما الوصب والوحم والطلق والدم .
وكان آدم إذا شبّ أولاده تزوّج غلام هذا البطن جارية البطن الآخر وتزوج بجارية هذا البطن غلام البطن الآخر وكان الرجل منهم يتزوّج أي أخواته يشاء إلاّ توأمته التي ولدت معه فإنها لا تحل له ، وذلك أنه لم يكن يومئذ نساء إلاّ أخواتهم وأمهم حوّاء ، فلما ولد قابيل وأقليما ، ثم هابيل وتوأمته ليوذا في بطن ، وكان بينهما سنتين في قول الكلبي وأدركوا أمر اللّه عز وجل آدم ( عليه السلام ) أن ينكح قابيل ليوذا أخت هابيل . ونكح هابيل أقليما أخت قابيل ، وكانت أخت قابيل من أحسن الناس . فذكر ذلك آدم لولده فرضي هابيل وسخط قابيل ، وقال : هي أختي ولدت معي في بطن . وهي أحسن من أخت هابيل وأنا أحق بها منه ، لأنّها من ولادة الجنة وهما من ولادة الأرض . وأنا أحق بأختي فقال له أبوه : إنها لا تحلّ لك ، فأبى أن يقبل ذلك منه وقال إنّ اللّه لم يأمر بهذا وإنما هو من رأيه . فقال لهما آدم : فقرّبا قرباناً فأيكما يقبل قربانه فهو أحق بها .
وقال معاوية بن عمار : سألت الصادق عليه سلام اللّه عن آدم ( عليه السلام ) أكان زوّج ابنته من ابنه ، فقال : معاذ اللّه والله لو فعل ذلك آدم ما رغب عنه رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وما كان دين آدم إلاّ دين رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) إنّ اللّه تبارك تعالى لما نزل آدم وحواء إلى الأرض وجمع بينهما ولدت حوّاء بنتاً وسمّاها ليوذا فبغت وهي أوّل من بغت على وجه الأرض فسلّط اللّه عليها من قتلها فولدت لآدم على أثرها قابيل ، ثم ولد له هابيل ، فلما أدرك قابيل أظهر اللّه جنية من ولد الجان يقال لها جهانة في صورة إنسية وأوحى اللّه تعالى إلى آدم ( عليه السلام ) أن زوجها من قابيل فزوجها منه فلما أدرك هابيل أهبط اللّه تعالى حوراء إلى آدم ( عليه السلام ) في صورة إنسية وخلق لها رحماً وكان اسمها نزلة ، فلما نظر إليها قابيل ومقها ، وأوحى اللّه تعالى إلى آدم ( عليه السلام ) أن زوّج نزلة من هابيل ، ففعل ذلك ، فقال قابيل له : ألست أكبر من أخي وأحق بما فعلت به منه . فقال له آدم : يا بني إنّ الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء . فقال : لا ولكنّك آثرته عليّ بهواك . فقال له آدم : إن كنت تريد أن تعلم ذلك فقرّبا قرباناً فأيكما تقبل قربانه فهو أولى بالفضل من صاحبه .
قالوا : وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت نار من السماء فأكلتها . وإذا لم تكن مقبولة لم تنزل النار وأكلتها الطير والسباع ، فخرجا ليقرّبا وكان قابيل صاحب زرع وقرّب حبرة من طعام من أردى زرع وأضمر في نفسه : ما أبالي أيقبل مني أم لا لأتزوج أختي أبداً ، وكان هابيل راعياً
(4/49)

" صفحة رقم 50 "
صاحب ماشية فقرّب حملاً سميناً من بين غنمه ولبناً وزبداً وأضمر في نفسه الرضا للّه عز وجل .
وقال إسماعيل بن رافع : بلغني أنّ هابيل أمنح له غنمه وكان في حملتها حمل فأحبه حتى لم يكن له مال أعظم له منه وكان يحمله على ظهره فلما أمر بالقربان قرّبه ، قال : فوضعا قربانيهما على الجبل ، ثم دعا آدم ( عليه السلام ) فنزلت نار من السماء وأكلت الحمل والزبد واللبن ، ولم تأكل من قربان قابيل حبّاً ، لأنه لم يكن زاكي القلب . وقُبل قربان هابيل لأنه كان زاكي القلب .
فما زال يرتع في الجنة حتى فدى به ابن إبراهيم فذلك قوله عز وجل ) فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ( فنزلوا عن الجبل وعرفوا وغضب قابيل لمّا ردّ اللّه قربانه وظهر فيه الحسد والبغي وكان يضمر ذلك من نفسه ، إلى أن أتى آدم مكّة ليزور البيت فلمّا أراد أن يأتي مكّة قال للسماء : إحفظي ولدي بالأمانة فأبت ، وقال ذلك للأرض فأبت ، وللجبال فأبت ، فقال : ذلك لقابيل فقبل منه وقال : نعم ترجع وترى ولدك كما يسرّك ، فرجع آدم وقد قتل قابيل أخاه وفي ذلك قوله ) إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان ( يعني قابيل ) إنّه كان ظلوما جهولاً ( حين حمل أمانة أبيه ثم خانه . قالوا : فلمّا غاب آدم أتى قابيل وهابيل وهو في غزة قال : لأقتلك . قال : ولم ؟ قال : لأن اللّه قبل قربانك ، وردّ عليّ قرباني وتنكح أختي الحسناء ، وأنكح أختك الدميمة وتحدث الناس إنّك خير منّي وأفضل ويفتخر ولدك على ولدي ، فقال له هابيل : وما ذنبي ) قال إنّما يتقبل اللّه من المتقين }
المائدة : ( 28 ) لئن بسطت إلي . . . . .
) لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إنّي أخاف اللّه رب العالمين ( .
قال عبد اللّه بن عمر : أيم اللّه إن كان المقتول لأشدّ الرجلين ولكن منعه التحرّج أن يبسط إلى أخيه يده .
وقال مجاهد : كتب عليهم في ذلك الوقت ، إذا أراد رجل قتل رجل أن يتركه ولا يمتنع منه
المائدة : ( 29 ) إني أريد أن . . . . .
) إني أريد أن تبوء بأثمي وإثمك ( يعني بإثم قتلي إلى إثمك الذي عملته قبل قتلي ، هذا قول عامة المفسرين .
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : معناه إني أريد أن يكون عليك خطيئتي التي عملتها أنا إذا قتلتني وإثمك فتبوء بخطيئتي ودمي جميعاً ) فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين ( وفي هذا دليل على إنهم كانوا في ذلك الوقت مكلفين قد لحقهم الوعد والوعيد
المائدة : ( 30 ) فطوعت له نفسه . . . . .
) فطوّعت له نفسه ( أي طاوعته وبايعته في ) قتل أخيه ( .
وقال مجاهد : شجعت . قتادة : زيّنت . ) فقتله ( .
(4/50)

" صفحة رقم 51 "
قال السدّي : فلما أراد قتل هابيل راغ الغلام في رؤوس الجبال . ثم أتاه يوماً من الأيام ( وهو يرعى غنماً له وهو نائم ) فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات .
وقال ابن جريح : لم يدر قابيل كيف يقتل هابيل ، فتمثل له إبليس وأخذ طيراً فوضع رأسه على حجر ثم شدخ رأسه بحجر آخر وقابيل ينظر فعلّمه القتل ، فوضع قابيل رأس أخيه بين حجرين . وكان لهابيل يوم قُتِل عشرون سنة فاختلفوا في مصرعه وموضع قتله .
قال ابن عباس : على جبل نود ، وقال بعضهم : عند عقبة حرّا .
حكى محمد بن جرير ، وقال جعفر الصادق : بالبصرة في موضع المسجد الأعظم .
فلما قتله بالعراء لم يدر ما يصنع به ، لأنه كان أوّل ميّت على وجه الأرض من بني آدم فقصده السباع ، فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح وعلقت به الطير والسباع تنظر متى يرمي به فتأكله .
المائدة : ( 31 ) فبعث الله غرابا . . . . .
) فبعث اللّه ( غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر له بمنقاره وبرجله عليه حتى مكّن له ثم ألقاه في الحفيرة وواراه . وقابيل ينظر إليه فلما رأى ذلك ) قال يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي ( أي جيفته وفيه دليل على أن الميت كلّه عورة ) فأصبح من النادمين ( على حمله لا على قتله ، وقيل : على موت أخيه لا على ركوب الذنب .
يدل عليه ما أخبر الأوزاعي عن المطلب بن عبد اللّه المخزومي قال : لما قتل ابن آدم أخاه رجفت الأرض بما عليها سبعة أيام ثم شربت الأرض دمه كما يشرب الماء ، فناداه اللّه : أين أخوك هابيل ؟ قال : ما أدري ، ما كنت عليه رقيباً ، فقال اللّه عز وجل : إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض فلم قتلت أخاك ؟ فأين دمه إن كنت قتلته ؟ ومنع اللّه عز وجل على الأرض يومئذ أن تشرب دماً بعدها أبداً .
مقاتل بن الضحّاك عن ابن عباس قال : لما قتل قابيل هابيل وآدم بمكّة أشتال الشجر وتغيّرت الأطعمة وحمضت الفواكه : وأمرّ الماء واغبرّت الأرض .
فقال آدم ( عليه السلام ) : قد حدث في الأرض حدث فأتى الهند فإذا بقابيل قد قتل هابيل فأنشأ يقول ، وهو أوّل من قال الشعر :
تغيرت البلاد ومن عليها
ووجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي لون وطعم
وقلّ بشاشة الوجه الصبيح
وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس قال : من قال إن آدم قال شعراً فقد كذب على اللّه
(4/51)

" صفحة رقم 52 "
ورسوله ورمى آدم بالمآثم ، إنّ محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) والأنبياء كلهم صلوات اللّه عليهم في النهي عن الشعر سواء ، قال اللّه تعالى ) وما علّمناه الشعر وما ينبغي له ( ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم وهو سرياني ، وإنما يقول الشعر من تكلّم بالعربية فلمّا قال آدم مرثية في إبنه هابيل ، وهو أوّل شهيد كان على وجه الأرض . قال آدم لابنه شيث : وهو أكبر ولده ووصيّه : يا بني إنّك وصيي ، إحفظ هذا الكلام ليتوارث فلم يزل يقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان وكان يتكلم بالعربية والسريانية وهو أول من خط بالعربية ، وكان يقول الشعر فنظر في المرثية فإذا هو سجع ، فقال إن هذا ليقوّم شعراً فرّد المقدم إلى آخره والمؤخر إلى المقدم فوزنه شعراً وما زاد فيه ولا نقص حرفاً من ذلك قال :
تغيّرت البلاد ومن عليها
ووجه الأرض مغبرّ قبيح
تغير كل ذي طعم ولون
وقلّ بشاشة الوجه الصبيح
وقابيل أذاق الموت هابي
ل فواحزني لقد فقد المليح
ومالي لا أجود بسكب دمع
وهابيل تضمنّه الضريح
بقتل ابن النبي بغير جرم
قلبي عند قلبه جريح
أرى طول الحياة عليّ غمّاً
وهل أنا من حياتي مستريح
فجاورنا عدوّاً ليس يفنى
عدوماً يموت فنستريح
دع الشكوى فقد هلكا جميعاً
بهالك ليس بالثمن الربيح
وما يغني البكاء عن البواكي
إذا ما المرء غيّب في الضريح
فبكّ النفس منك ودع هواها
فلست مخلداً بعد الذبيح
فأجابه إبليس في جوف الليل شامتاً :
تنحّ عن البلاد وساكنيها
فتىً في الخلد ضاق بك الفسيح
فكنت بها وزوجك في رخاء
وقلبك من أذى الدنيا مريح
فما انفكت مكايدي ومكري
إلى أن فاتك الخلد الرّبيح
فلولا رحمة الجبّار أضحى
بكفك من جنان الخلدريح
وقال سالم بن أبي الجعد : لما قتل هابيل مكث آدم ( عليه السلام ) مائة سنة لا أكثر . ثم أتى فقيل : حيّاك اللّه وبياك أي ضحّكك ، ولما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له حوّاء شيثاً وتفسيره : هبة اللّه ، يعني إنه خلف من هابيل
(4/52)

" صفحة رقم 53 "
وعلّمه اللّه تعالى ساعات الليل والنهار وأعلمه عبادة الخلق في كل ساعة منها وأنزل عليه هبة اللّه وصار وصي آدم عليهما السلام وولي عهده ، وأما قابيل فقيل له : إذهب طريداً شريداً فزعاً مرهوباً لا يأمن من يراه فأخذ بيد أخته هبة اللّه ذهب بها إلى عدن من أرض اليمن ، فأتاه إبليس ، فقال له : إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يعبد النّار ويخدمها فانصب أنت ناراً يكون لك ولعقبك فنصب ناراً وهو أوّل من نصب ناراً وعبدها .
قالوا : كان لا يمرّ به أحداً من ولده إلاّ رماه ، فأقبل ابن لقابيل أعمى ومعه ابن له فقال الأعمى : إنّ هذا أبوك قابيل فرمى الأعمى ابن قابيل فقتله . فقال ابن الأعمى : قتلت أباك . فرفع يده فلطم إبنه فمات قال الأعمى : ويل لي قتلت أبي برميتي وقتلت ابني بلطمتي .
قال مجاهد : فعلقت إحدى رجل قابيل إلى فخذه وساقه وعلقت يومئذ إلى يوم القيامة ، ووجهه إلى الشمس حيث أدارت عليه بالصيف حظيرة من نار وفي الشتاء حظيرة من ثلج ، قالوا : واتّخذ أولاد قابيل آلات اللهو من اليراع والطنبور ، والمزامير ، والعيدان ، والطنابر ، وانهمكوا في اللهو وشرب الخمر وعبادة النار والزنا والفواحش حتى طوّفهم اللّه عز وجل بالطوفان أيام نوح ( عليه السلام ) وبقي نسل شيث .
قال عبد اللّه بن عمر : إنا لنجد إبن آدم القاتل يقاسم أهل النار العذاب قسمة صحيحة العذاب عليه شطر عذابهم .
الأعمش عن عبد اللّه بن مرّة عن مسروق بن عبد اللّه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا تقتل نفس مسلمة ظلماً إلاّ كان على ابن آدم ( الأوّل ) كفل من دمه ، لأنه أوّل من سنّ القتل ) .
مسلم بن عبد اللّه عن سعيد بن صور عن أنس بن مالك قال : سئل رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) عن يوم الثلاثاء فقال : ( يوم دم ) قالوا : وكيف ذلك يا رسول اللّه ؟ قال : ( فيه حاضت حوّاء وقتل ابن آدم أخوه ) .
وعن يحيى بن زهدم قال : حدّثني أبي عن أبيه عن أنس قال : سمعت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( امتن اللّه عز وجل على ابن آدم بثلاث بعد ثلاث ، بالريح بعد الروح فلولا إن الريح يقع بعد الروح ما دفن حميم حميماً ، وبالدودة في الحبة فلولا أن الدودة تقع في الحبة لأكنزها الملوك وكانت حباً من الدنانير والدراهم . وبالموت بعد الكبر ، فإن الرجل ليكبر حتى يمّل نفسه ويملّه أهله وولده وأقرباؤه فكان الموت أيسر له ) .
) من أجل ذلك (
(4/53)

" صفحة رقم 54 "
المائدة : ( 32 ) من أجل ذلك . . . . .
) من أجل ذلك ( يعني من جرّاء ذلك القاتل ووحشيّته ، يقال : أجل فلان يأجل أجلاً ، مثل أخذ يأخذ أخذاً .
قال الشاعر :
وأهل خباء صالح ذات بينهم
قد احتربوا في عاجل أنا آجله
) كتبنا على بني إسرائيل إنه من قتل نفساً بغير نفس ( قتله فساداً منه ) أو فساد في الأرض ( يعني قوله إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله الآية ) فكأنما قتل الناس جميعاً ( .
مجاهد : اختلف الناس بينهما فقال ابن عباس : في رواية عكرمة وعطية : من قتل نبياً وإماماً عادلاً فكأنما قتل الناس جميعاً ومن عمل على عضد نبي أو إمام عادل ) فكأنّما أحيا الناس جميعاً ( .
مجاهد : من قتل نفساً محرّمة يصلى النار بقتلها كما يصلاها لو قتل الناس جميعاً ، ومن أحياها من سلم من قتلها فقد سلم من الناس جميعاً .
السدّي : من قتل فكأنما قتل الناس جميعاً عند المقتول في الإثم ومن أحياها واستنقذها من هلكة من غرق أو حرق أو هدم أو غير ذلك فكأنما أحيا الناس جميعاً عند المستنقذ .
الحسن وابن زيد : فكأنما قتل الناس جميعاً يعني إنه يجب عليه من القصاص بقتلها مثل الذي نوى بقلبه لو كان قتل الناس جميعاً ومن أحياها من عفا عمّن وجب له القصاص منه فلم يقتله فكأنما أحيا الناس جميعاً .
قتادة والضحّاك ، عظم اللّه قتلها أو عظم وزرها فمعناها من أستحل قتل مسلم بغير حقه فكأنما قتل الناس جميعاً لأنهم لا يسلمون منه . ومن أحياها فحرمها وتورع من قتلها فكأنما أحيا الناس جميعاً لسلامتهم منه .
وقال سليمان بن علي الربعي : قلت للحسن : يا أبا سعيد هي لنا كما كانت لبني إسرائيل ، قال : إي و الذي لا إله غيره لإن دماء بني إسرائيل أكرم على اللّه من دمائنا .
) ولقد جاءتهم رسلنا بالبيّنات ثم إنّ كثيراً منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ( .
روى محمد بن الفضل عن الزيات بن عمرو عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من
(4/54)

" صفحة رقم 55 "
سقى مؤمناً ماءً على ( ظمأ ) فكأنما أعتق سبعين رقبة ، ومن سقى في غير موطنها فكأنما أحيا نفساً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ) .
2 ( ) إِنَّمَا جَزَآءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاَْرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الاَْرْضِ ذاَلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الاَْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ يَئَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِى سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِى الاَْرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ( 2
المائدة : ( 33 ) إنما جزاء الذين . . . . .
) إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله ( الآية .
قال الضحاك : نزلت في قوم من أهل الكتاب ، كان بينهم وبين رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض .
الكلبي : نزلت في قوم هلال بن عويمر وذلك أن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وادع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه ومن أتاه من المسلمين لم يهجّ .
قال : فمرّ قوم من بني كنانة يريدون الإسلام . بناس من قوم هلال ولم يكن هلال يومئذ شاهداً فانهدّوا إليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فبلغ ذلك رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فنزل جبرئيل ( عليه السلام ) بالقضية فيهم .
وقال سعيد بن جبير : نزلت في ناس من عرينة وغطفان أتوا رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وبايعوه على الإسلام وهم كَذَبة وليس الإسلام يريدون . ثم قالوا : إنا نجتوي المدينة لأن أجوافنا انتفخت ، والواننا قد اصفرّت فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( أُخرجوا إلى لقاحنا واشربوا أبوالها وألبانها ) فذهبوا وقتلوا الرعاة واستاقوا الإبل . وارتدّوا عن الإسلام فنودي في الناس : يا خيل اللّه اركبي فركبوا لا ينتظر فارس فارساً فخرجوا في طلبهم فجيء بهم . فأمر رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) بقطع أيديهم
(4/55)

" صفحة رقم 56 "
وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم بالحرّ حتى ماتوا ، ثم اختلفوا في حكم الآيتين . فقال بعضهم : هي منسوخة لأن المثلة لا تجوز وشرب بول الإبل لا يجوز .
وقال آخرون : حكمه ثابت إلاّ السمل والمثلة . قال الليث بن سعد : نزلت هذه الآية معاتبة لرسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وتعليماً منه إيّاه عقوبتهم فقال : ( إنما جزاؤهم هذا ) أي المثلة .
ولذلك ما قام رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) خطيباً إلاّ نهى عن المثلة ، واختلفوا في المحارب الذي يستحق هذا الحد .
فقال بعضهم : واللص الذي يقطع الطريق والمكابر في الأمصار والذي يحمل السلاح على المسلمين ويقصدهم في أي موضع كان حتى كان بالغيلة . وهو الرجل يخدع الرجل والمرأة والصبي فيدخله بيتاً ويخونوا به فيقتله ويأخذ أمواله وهذا قول الأوزاعي ومالك والليث بن سعد وعبد اللّه بن لهيعة والشافعي . وقال بعضهم : فهو قاطع الطريق ، وأما المكابر فليس بالمحارب وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه ) ويسعون في الأ رض فساداً ( بالفساد أي بالزنا والقتل إهلاك الحرث والنسل ) أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا ( إختلفوا في حكم الآية .
فقال قوم : الإمام فيهم بالخيار فأي شيء من هذه الأشياء شاء فعل . وهو قول الحسن وسعد بن المسيب والنخعي ومجاهد ورواية الوالبي عن ابن عباس .
واحتجّوا بقوله تعالى ) ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ( وبقوله تعالى في كفّارة اليمين ) فكفّارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم ( الآية .
وقال آخرون : هذا حكم مختلف باختلاف الجناية ، فإن قتل قُتل ، وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب ، وإن أخذ المال ولم يقتل قطع ، وإن أخاف السبيل ولم يقتل وأخذ المال نفي . وهذا قول سعيد بن جبير ، وقتادة ، والسدّي ، والنخعي والربيع . ورواية العوفي عن ابن عباس .
فاختلف العلماء في معنى النفي ، فقال ابن عباس : هو حكم من أعجز فإذا أعجزك أن تدركه وخرج من لقيه ، قتله .
وقال آخرون : والمقبوض عليه ثم اختلفوا في معناه ، فقال طائفة : هو أن ينفى من بلدته إلى بلدة أخرى غيرها وهو قول سعيد بن جبير ، وعمر بن عبد العزيز . وإليه ذهب الشافعي .
وقال الآخرون والحسن ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وقال محمد بن الحسن : هو نفيه من
(4/56)

" صفحة رقم 57 "
بلده إلى غيره وحبسه في السجن في البلد الذي نُفي إليه حتى يظهر توبته وهو المختار يدل عليه ما روى ابن وهب عن أبي صيعة عن يزيد بن أبي حبيب ، أن حبان بن شريح كتب إلى عمر بن عبد العزيز : إن ناساً من القبط قامت عليهم البيّنة بأنهم حاربوا اللّه ورسوله وسعوا في الأرض فساداً وأن اللّه يقول ) إنما جزاء الذين يحاربون اللّه ( إلى قوله ) من خلاف ( . وسكت عن النفي فإن رأى أمير المؤمنين أن يمضي قضاء اللّه فيهم فليكتب بذلك فلمّا قرأ عمر كتابه ، قال : لقد إجترأ حبّان ، ثم كتب : إنه بلغني كتابك وفهمت ولقد اجترأت حين كتبت بأوّل الآية وسكتّ عن آخرها تريد أن تجترىء للقتل والصلب فإنك عبد بني عقيل يعني الحجاج فإن اللّه يقول ) أو ينفوا ( آخر الآية ، فإن كانت قامت عليهم البيّنة فاعقد في أعناقهم حديداً فأنفهم إلى شعب وبدا وأصل النفي الطرد .
وقال أوس بن حجر :
ينفون عن طرق الكرام كما
ينفى المطارق ما يلي القردا
أي ما يليه القرد وهو الصوف الرديء . ومنه قيل : الدراهم الرديئة نفاية ولما تطاير من الماء عن الدلو نفي .
قال الراجز :
كأن متنيه من النفي
مواقع الطير على الصفي
) ذلك ( الذي ذكرتم من الحد لهم ) خزيٌ ( عذاب وهوان ) في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم (
المائدة : ( 34 ) إلا الذين تابوا . . . . .
ثم قال ) إلاّ الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ( .
قال أكثر العلماء : إلاّ الذين تابوا من شركهم وحربهم وفسادهم وآمنوا وأصلحوا من قبل القدرة عليهم فإنه لا سبيل عليهم بشيء من الحدود التي ذكرها اللّه في هذه والآية لأحد قبله فيما أصاب في حال كفره لا في مال ولا في دم ولا حرمة ، هذا حكم المشركين والمحاربين .
فأما المسلمون المحاربون فاختلفوا فيهم .
فقال بعضهم : سقط عنه بتوبته من قبل أن يقدر عليه حدّ اللّه ولا يسقط عنه بها حقوق بني آدم وهو قول الشافعي .
وقال بعضهم : يسقط عنهم جميع ذلك ولا يؤخذ شيء من أمواله الاّ أن يوجد عنده مال بعينه فيرده إلى صاحبه ويطلبه وليّ دم بدم يقوم عليه البينة فيه فيقاد به ، وأما الدماء والأموال التي
(4/57)

" صفحة رقم 58 "
أصابها ولم يطلبها أولياؤه فلا يتبعه الإمام ، على هذا قول مالك ، والأوازعي والليث بن سعد .
وقال بعضهم : إذا استأمن من وصايانا من قبل أن يقدم عليه قبل اللّه توبته ولا يؤخذ بشيء من جناياته التي سلفت فلا يكون لأحد قبله معه في دم ولا مال .
وهذا قول السدّي يدل عليه . وروى الشعبي أنّ حارثة بن يزيد خرج محارباً في عهد علي ابن أبي طالب ( رضي الله عنه ) فأخاف السبل وسفك الدّماء وأخذ الأموال ثم جاء تائباً من قبل أن يقدر عليه فأتى الحسن بن علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) فطلب إليه أن يستأمن له فأتى ابن جعفر فأتى عليه فأتى سعيد بن قيس الهمدالي فقبّله وضمّه إليه فلمّا صلّى علي ( رضي الله عنه ) الغداة أتاه سعيد بن قيس . فقال : يا أمير المؤمنين ما جزاء الذين يحاربون اللّه ورسوله ؟ قال : أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض قال : ما تقول فيمن تاب قبل أن تقدر عليه فقال أقول : كما قال اللّه عز وجل ) إلاّ الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ( الآية .
فقال سعيد : وإن كان حارثة بن بدر ، قال : نعم فجاء إليه فبايعه وآمنه وكتب له أماناً منشوراً .
فقال حارثة :
ألا أبلغا همدان إما لقيتها
على النأي لا يسلم عدوٌ يعيبها
لعمر أبيها إن همدان تتقي الا
له ويقضي بالكتاب خطيبها
قال الشعبي : جاء رجل من مراد إلى أبي موسى وهو على الكوفة في أمارة عثمان بن عفّان ( رضي الله عنه ) بعد ما صلّى المكتوبة فقال : يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك أنا فلان بن فلان المهدي وأني كنت حاربت اللّه ورسوله وسعيت في الأرض وإني تبت من قبل أن يقدر عليّ ، فقام أبو موسى فقال : إن هذا فلان بن فلان وإنه كان يحارب اللّه ورسوله وسعى في الأرض بفساد فإنه تاب من قبل أن يقدر عليه فمن لقيه فلا يعرضن إلاّ بخير فإن يك صادقاً فسبيله سبيل من صدق . وإن يك كاذباً تدركه ذنوبه ، فأقام الرجل فاستأذن وإنه خرج فأدركه اللّه بذنوبه فقتله .
وروى الليث بن سعيد عن محمد بن إسحاق أن علياً الأسدي حارب وأخاف السبيل وأصاب الدم والمال فطلبته الأئمّة والعامّة فامتنع ولم يقدر عليه حتى جاء تائباً وذلك أنّه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية ) قل يا عبادي الذين أسرفوا ( الآية فوقف عليه ، فقال : يا عبد اللّه أعد فأعادها عليه فغمد سيفه ثم جاء تائباً حتى قدم المدينة من السَحر ثم اغتسل وأتى مسجد رسول
(4/58)

" صفحة رقم 59 "
اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فصلّى الصبح ثم مضى إلى أبي هريرة وهو في غمار أصحابه فلما استغفر عرفه الناس فقاموا إليه ، فقال : لا سبيل لكم عليّ جئت تائباً من قبل أن تقدروا عليَّ .
فقال أبو هريرة : صدق ، وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم في إمرته على المدينة في زمن معاوية ، فقال : هذا عليّ جاء تائباً ولا سبيل لكم عليه فترك ، وخرج عليّ تائباً مجاهداً في سبيل اللّه في البحر فلقوا الروم فقربوا سفينة إلى سفينته من سفنهم فاقتحم على الروم في سفينتهم فهربوا إلى شقها الآخر فمالت ثم أوقعهم فغرقوا جميعاً .
المائدة : ( 35 ) يا أيها الذين . . . . .
) ياأيها الذين آمنوا اتقوا اللّه وابتغوا إليه الوسيلة ( واطلبوا إليه القربة وهي ( في الأصل ما يتوصّل به إلى الشيء ويتقرّب به ، يقال : وسل إليه وسيلة وتوسّل ) ، وجمعها وسائل .
قال الشاعر :
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا
وعاد التصافي بيننا والوسائل
قال عطاء : الوسيلة أفضل درجات الجنة . وقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( الوسيلة أفضل درجات الجنة ) . وقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( سلوا الله لي الوسيلة فإنها أفضل درجة في الجنة لا ينالها إلاّ عبد واحد وأرجوا أن أكون أنا هو ) .
وروى سعيد بن طريف عن الأصمعي عن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) قال : ( في الجنة لؤلؤتان إلى بطنان العرش إحداهما بيضاء والأخرى صفراء في كل واحد منهما سبعون ألف غرفة أبوابها وأكوابها من عرق واحد فالبيضاء واسمها الوسيلة لمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأهل بيته والصفراء لإبراهيم ( عليه السلام ) وأهل بيته ) .
المائدة : ( 36 ) إن الذين كفروا . . . . .
) إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تُقبل منهم ولهم عذاب أليم ( روى أنس عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يقال للكافر يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبٌ تفتدى به فيقول : نعم ، فيقال : قد سألت أيسر من ذلك ) .
(4/59)

" صفحة رقم 60 "
المائدة : ( 37 ) يريدون أن يخرجوا . . . . .
) يريدون أن يخرجوا من النار ( قرأه العامة بفتح الياء كقوله ) وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم ( قائم .
وقرأ أبو واقدة ، والجرّاح يخرجوا بضمّ الياء كقوله ) ربنا أخرجنا منها وما هم بمخرجين (
المائدة : ( 38 ) والسارق والسارقة فاقطعوا . . . . .
) والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ( الآية . نزلت في طعمة بن الأبرق سارق الدرع وقد مرّت قصته في سورة النساء .
والسبب في وجه رفعهما . فقال بعضهم : هو رفع بالإبتداء ، وخبره فيما بعد . وقال بعضهم : هو على معنى الجزاء ، تقديره من سرق فاقطعوا أيديهما الآية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة . ولو أراد سارقاً وزانياً بعينهما لكان وجه الكلام النصب .
وقال الأخفش : هو الرفع على الخبر وابتداء مضمر كأنه قال : مما يقص عليك ويوحى إليك والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما .
وقال أبو عبيدة : هو رفع على لغة ( . . . . ) من رفع ( . . . . ) فيقول : الصيد ( غارمه ) ، والهلال فانظر إليه ، يعني أمكنك الصيد غارمه ، وطلع الهلال فانظر إليه .
وقرأ عيسى بن عمرو : والسارق والسارقة منصوبين على إضمار إقطعوا السارق والسارقة . ودليل الرفع قراءة عبد اللّه ، والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم ومستثناً في هذا السارق الذي عناه اللّه عز وجل بقطع يده وفي القدر الذي يقطع به يد السارق .
فقال قوم : يقطع إذا سرق عشر دراهم فصاعداً ، ولا يقطع فيما دون ذلك .
وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه واحتجوا بما روى عطاء ومجاهد عن أيمن بن أم أيمن قال : يقطع السارق في ثمن المجن وكان ثمن المجن على عهد رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ديناراً أو عشرة دراهم .
وروى أيّوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال : كان ثمن المجن على عهد رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) عشرة دراهم .
وروى عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء قال : أدنى قيمة عن المجن هو ثمن المجن عشرة دراهم .
قال سليمان بن يسار : لا يقطع الخمس إلاّ بالخمس .
واستدل بما روى سفيان عن عبد اللّه أن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قطع في قيمة خمسة دراهم .
وروى سفيان عن عيسى عن الشعبي عن عبدالله أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قطع في خمسة دراهم .
(4/60)

" صفحة رقم 61 "
وروى شعبة عن داود بن ( فراهج ) قال : سمعت أبا هريرة وأبا سعيد الخدري قالا : تقطع الكف في أربعة دراهم فصاعداً ، ولا تقطع في ثلاثة دراهم فصاعداً .
واحتج بما روى عن نافع عن ابن عمر أن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قطع سارقاً في مجن ثمنه ثلاثة دراهم فقال : بعضهم يقطع في ربع دينار فصاعداً ، وهو قول الأوزاعي ، والشافعي وإسحاق الحنظلي وأبو ثور . واحتجوابما روى سفيان عن الزهري عن حمزة عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يقطع في ربع دينار فصاعداً ) .
وروى أبو بكر بن محمد عن عمر عن عائشة قالت : سمعت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا تقطع يد السارق إلاّ في ربع دينار فصاعداً ) .
وقال بعضهم : يقطع سارق القليل والكثير ، ولو سرق دانق ، وهو قول ابن عباس ، قال : لأن الآية عامّة ليس خاصّة .
وقول الزبير : يروى أنه يقطع في درهم وحجّة هذا المذهب ما روى عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده ) .
وروى ثوبان أنّ النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أُتي بسارق سرق شملة قال : أسرقت ؟ ما أخالك سرقت ؟ قال : نعم . قال : إذهبوا به فاقطعوه . ثم اتوني به ، ففعل فقال : ( ويحك تُب إلى اللّه ) .
فقال : اللّهم تُب عليه ، ثم اختلفوا في كيفيّة القطع : فقال عمرو بن دينار : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يقطع اليد من الكوع وكان يقطع من المفصل وكان علي يقطع الكف من الأصابع والرجل من شطر القدم .
فإذا قطع ثم عاد إلى السرقة فهل يقطع أم لا ؟ قال أهل الكوفة : لا تقطع واحتجّوا بحديث عبد خير ، قال : أتى علي سارق فقطع يده ثم أتى وقطع رجله ثم أتى فضربه وحبسه وقال : إني لأستحي أن لا أدع له يداً يستنجي بها ولا رجلاً يمشي بها . وقال أهل الحجاز : يقطع ، وكان قد إحتجوا في ذلك بقوله تعالى ) فاقطعوا أيديهما ( على الإجماع .
ويروي حماد بن سلمة عن يوسف بن سعد عن الحرث بن حاطب أن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) أُتي بلصّ فقال : ( أُقتلوه ) فقال : يا رسول اللّه إنما سرق ، قال : ( أُقتلوه ) قالوا : يا رسول اللّه إنما
(4/61)

" صفحة رقم 62 "
سرق ، قال : ( إقطعوا يده ) . قال : ثم سرق فقطعت رجله ثم سرق على عهد أبي بكر حتى قطعت قوائمه كلها ثم سرق أيضاً الخامسة فقال أبو بكر : كان رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) أعلم بهذا حين قال اقتلوه ، ثم دفعوه إلى قبيلة من قريش ليقتلوه في عهد عبد اللّه بن الزبير وكان يحب الإمارة فقال : أمّروني عليكم فأمّروا عليه فكان إذا ضرب ضربوا حتى قتلوه ، ثم إذا قطع السارق فهل يغرم السرقة أم لا ؟ فقال سفيان وأهل الكوفة : إذا قطع السارق فلا يغرم عليه إلاّ أن يعيد المسروق فيعيدها إلى صاحبها .
وروى المسوّر بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لا يغرم صاحب السرقة إذا أُقيم عليه الحد ) قيل : هذا حديث مرسل أنس بن ثابت ، وقال الزهري ومالك : إذا كان السارق موسراً غُرّم .
وقال الشافعي : ثم يغرّم قيمة السرقة معسراً كان أو موسراً .
) جزاءً بما كسبا ( . نصب جزاء على الحال والقطع قاله الكسائي . وقال قطرب : على المصدر ومثله ) نكالاً ( أي عقوبة ) من اللّه واللّه عزيز حكيم ( .
عن جعفر بن محمد قال : سمعت أبي يقول : ما سرق سارق سرقة إلاّ نقص من رزقه المكتوب له
المائدة : ( 39 ) فمن تاب من . . . . .
) فمن تاب من بعد ظلمه ( أي سرقته ، نظيره في سورة يوسف ) كذلك نجزي الظالمين ( أي السارقين ) وأصلح فإن اللّه يتوب عليه ( هذا ما بينه وبين اللّه تعالى فأما القطع فواجب . يدل عليه ما روى يحيى بن عبدالله عن أبي عبدالرحمن الحنبلي عن عبد اللّه بن عمرو : إنّ امرأة سرقت على عهد رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فجاء بها الذين سرقتهم . فقالوا : يا رسول اللّه إن هذه المرأة سرقتنا ، قال قومها : فنحن نفديها بخمس مائة دينار ، فقال رسول اللّه : ( إقطعوا يدها ) فقطعت يدها اليمنى ، فقالت المرأة هل لي من توبة ؟ .
قال : ( نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك ) . فأنزل اللّه في سورة المائدة ) فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح ( الآية .
معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت : كانت إمرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) بقطع يدها فأتى أهلها أسامة فكلمته وكلم أسامة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فيها فقال له النبي : ( يا أسامة لا أزال تكلمني في حدّ من حدود اللّه ) ثم قام النبي ( صلى الله عليه وسلم ) خطيباً فقال : ( إنما هلك من
(4/62)

" صفحة رقم 63 "
كان قبلكم بأنه إذا سرق فيه الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف قطّعوه والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) .
قال : فقطع يد المخزومية ، وكان الشعبي وعطاء يقولان : إذا ردّ السرقة قبل أن يقدر عليه لم يقطع لقوله ) إلاّ الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ( الآية
المائدة : ( 40 ) ألم تعلم أن . . . . .
) ألم تعلم أن اللّه له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء ( .
قال السدّي والكلبي : يعذب من يشاء منهم من مات على كفره ويغفر لمن يشاء من تاب من كفره .
وقال الضحّاك : يعذب من يشاء على الصغير إذا قام عليه ويغفر لمن يشاء على الكبير إذا نزع عنه ) واللّه على كل شيء قدير (
.
) ياأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءَامَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ ءَاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَاذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَائِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الاَْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( 2
المائدة : ( 41 ) يا أيها الرسول . . . . .
) يا أيّها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ( وقرأ السلمي يسارعون في الكفر أي في هؤلاء الكفار ومظاهرتهم فلم يعجزوا اللّه ) من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ( وهم المنافقون نظيره ، قوله ) لمّا يدخل الإيمان في قلوبكم ( ) ومن الذين هادوا سماعون للكذب ( يعني قوّالين به يعني بني قريضة ) سمّاعون لقوم آخرين ( يعني يهود خيبر وذلك عين ما قاله أهل التفسير وذلك أن رجلاً وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا ، وإسم المرأة بسرة وكانت خيبر حرباً لرسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وكان الزانيان محصنين ، وكان حدّهما الرّجم في التوراة فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما فقالوا : إن هذا الرجل النبي بيثرب ليس في كتابه الرّجم ولكنه الضرب فأرسلوا إلى إخوانكم بني قريضة فإنهم صلح له وجيرانه ، فليسألوه ، فبعثوا رهطاً منهم مستخفين . فقالوا لهم : سلوا محمداً عن الزانيين إذا أحصنا أحدهما فإن أمركم بالجلد فاقبلوا منه
(4/63)

" صفحة رقم 64 "
وإن أمركم بالرجم فاحذروه ولا تقبلوا منه وأرسلوا الزانين معهم فقدم الرهط حتى نزلوا على قريظة والنضير . فقال لهم : إنكم جيران هذا الرجل ومعه في بلده ، وقد حدث فينا حدث زنيا وقد أحصنا فيجب أن تسألوا لنا محمداً عن قضائه ، فقال لهم بنو قريظة والنضير : إذاً واللّه يأمركم بما تكرهون من ذلك ثم إنطلق قوم منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسيد وسعد بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وعباس بن قيس وأبو نافع وأبو يوسف وعازار وسلول إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقالوا : يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدّهما وكيف تجد في كتابك ؟ فقال لهم رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( وهل ترضون قضائي في ذلك ؟ ) .
قالوا : نعم ، فنزل جبرئيل بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به ، فقال له جبرئيل : إجعل بينك وبينهم إبن صوريا ووصفه له ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له إبن صوريا ) قال : فأي رجل فيكم ؟
قالوا : هو أعلم يهودي بقي على ظهر الأرض بما أنزل اللّه تعالى على موسى في التوراة ، قال : أرسلوا إليه ، ففعلوا فأتاهم عبد اللّه بن صوريا ، فقال له رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( أنت إبن صوريا ؟ ) قال : نعم ، قال : ( فأنت أعلم اليهود ؟ ) ، قال : كذلك يزعمون ، قال : ( أتجعلونه بيني وبينكم ؟ ) قالوا : نعم قد رضينا به إذ رضيت به ، فقال له رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( فإني أنشدك باللّه الذي لا إله إلاّ هو القوي إله بني إسرائيل الذي أنزل التوراة على موسى الذي أخرجكم من مصر وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي ضلل الغمام فأنزل عليكم المنّ والسلوى وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه فهل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن ) .
قال إبن صوريا : نعم والذي ذكّرني به لولا خشيت أن تحرقني التوراة إن كذبت أو غيّرت ما اعترفت لك ولكن كيف هو في كتابك يا محمد ؟ قال : ( إذا شهد أربعة رهط عدول إنه قد أدخله فيهاكما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم ) . قال إبن صوريا : والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل اللّه في التوراة على موسى فقال له رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( فماذا كان أوّل ما ترخصتم به أمر اللّه ) ؟
قال : كنّا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا للضعيف أقمنا عليه الحد وكثر الزنا في أشرافنا حتى زنا إبن عم ملك لنا فلم نرجمه ثم زنا رجل آخر في أسوة من الناس فأراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه ، فقال : واللّه لا ترجمون حتى يرجم فلاناً إبن عم الملك . فقال : تعالوا نجتمع فلنضع شيئاً دون الرجم يكون مكان الرجم فيكون على الشريف والوضيع فوضعنا الجلد والتحميم وهو أن يجلد أربعين جلدة بحبل مطلي بالقار ثم يسوّد وجوههما ثم يحملان على حمارين فحوّل وجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما فجعلوا هذا مكان الرجم . قال اليهود لابن صوريا : ما أسرع ما أخبرته به وما كنت لما اتهمتنا عليك بأهل ، ولكنّك
(4/64)

" صفحة رقم 65 "
كنت غائباً فكرهنا أن نغتابك فقال لهم : نشد في التوراة لولا ضنيت التوراة أن تهلكني لما أخبرته به ، فأمر بهما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فرجما عند باب مسجده ، وقال : ( أنا أول من أحيا أمره إذ أماتوه ) .
قال عبد اللّه بن عمر : شهدت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) لما أمر برجم ( اليهوديين فرأيته حنا عليهما ليقيهما بالحجارة ) ونزلت ) يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير ( فلا يخبركم به فوضع ابن صوريا يده على ركبة رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : أنشدك باللّه وأُعيذك باللّه أن تخبرنا بالكثير الذي أمرت أن تعفو عنه فأعرض رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) عنه فقال له ابن صوريا : أخبرني عن ثلاث خصال أسألك عنهنّ ، قال : ما هي ؟ قال : أخبرني عن نومك ، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( تنام عيناي وقلبي يقظان ) قال له : صدقت ، فأخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبهه أمه شيء أو شبهه أمه فيه ليس فيه من شبهه أبيه شيء ، قال : ( أيّهما علا وسبق ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له ) قال له : صدقت ، فأخبرني ماللرجل من الولد وما للمرأة منه ؟ قال : فأغمي على رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) طويلاً ثم خلي عنه محمراً وجهه يفيض عرقاً فقال ( صلى الله عليه وسلم ) ( اللحم والدّم والظفر والشعر للمرأة والعظم والعصاب والعروق للرجل ) قال له : صدقت أمرك أمر نبي فأسلم ابن صوريا عند ذلك وقال : يا محمد من يأتيك من الملائكة ؟ قال : جبرئيل .
قال : صفه لي ، فوصفه له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : أشهد إنه في التوراة كما قلت وإنّك رسول اللّه حقّاً فلما أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود وشتموه فلما أرادوا أن ينهضوا تعلقت بنو قريظة ببني النضير ، فقالوا : يا محمد إخواننا بنو النضير أبونا واحد وديننا واحد ونبيّنا واحد إذا قتلوا منا قتيلاً لم يفدونا وأعطونا ديته سبعين وسقاً من تمر وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقاً من تمر وإن كان القتيل إمرأة . يفدوا بها الرجل ، وبالرجل منهم الرجلين منّا ، وبالعبد منهم الحرّ منّا ، وجراحتنا بالنصف من جراحتهم فأمعن بيننا وبينهم ، فأنزل اللّه تعالى في الرجم والقصاص ) يا أيّها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالواآمنّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سمّاعون ( رفع الخبر بحرف الصفة يعني ومن الذين هادوا فهم سمّاعون ، وإن شئت جعلته خبر إبتداء مضمر أي فهم سمّاعون للكذب ، وقيل : اللام بمعنى إلى .
(4/65)

" صفحة رقم 66 "
كان أبو حاتم يقول : اللام في الكذب لام كي يسمعون لكي يكذبوا عليك . واللام في قوله لام أجل من أجل قوم آخرين ) لم يأتوك ( وهم أهل خيبر ) يحرفون الكلم ( جمع الكلمة ) من بعد مواضعه ( أي من بعد وضعه مواضعه كقوله ) ولكن البرّ من اتقى الله ( . وإنما ذكر الكتابة ردّاً إلى اللفظ وهو الكلم . وقرأ علي : يحرّفون الكلام من بعد مواضعه ) يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه ( أي إن أفتاكم محمد بالجلد والرجم فاقبلوه ) وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد اللّه فتنته ( كفره وضلالته .
قال مجاهد : دليله قوله ) وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ( الآية .
وقال الضحّاك : هلاكه ، قتادة : عذابه نظيره ولم يأمرهم على من يؤمنون ) فلن تملك له من اللّه شيئاً أولئك الذين لم يرد اللّه أن يطهّر قلوبهم ( أي بالهداية على القدرة ) لهم في الدنيا خزي ( للمنافقين الفضيحة وهتك الستر وخوف القتل ، ولليهود الجزية والقتل والسبي ، ( . . . . . . . . . . . ) عن محمد ( عليه السلام ) وأصحابه وفيهم ما يكرهون ) ولهم في الآخرة عذاب عظيم ( الخلود في النار .
المائدة : ( 42 ) سماعون للكذب أكالون . . . . .
) سمّاعون للكذب أكّالون للسحت ( فيه أربع لغات : السُحت بضم السين والحاء وهي قراءة أهل الحجاز والبصرة ، واختار الكسائي : سَحت مخففة وهي قراءة أهل الشام وعاصم وحمزة وخلف . والسَحت بفتح السين وجزم الحاء وهي رواية العباس عن نافع ، والسحت بضم السين وجزم الحاء وهي قراءة عبيد بن عمير وهو الحرام . قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( كل لحم نبت من السحت فالنار أولى به ) وأصله ما أشدّ أشدّه ، وقال اللّه تعالى ) فيسحتكم بعذاب ( .
قال الفرزدق :
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع
من المال إلاّ مسحتاً أو مجلف
قال : من تخلّف إذا استأصل الشجر سحت .
وقال الفرّاء : أصله كلب الجوع ، فيقال : رجل سحوت المعدة إذا كان أكولاً لا يُلقى أبداً إلاّ جائعاً ، فكأن بالمسترشي وآكل الحرام من الشره إلى ما يعطى مثل الذي بالمسحوت المعدة من النهم . ونزلت هذه الآية في حكام اليهود ، كعب بن الأشرف وأمثاله كانوا يرتشون ويفضلون لمن رشاهم .
(4/66)

" صفحة رقم 67 "
وروى أبو عقيل عن الحسن : في قوله : ) سمّاعون للكذب أكّالون للسحت ( قال : تلك الحكام تسمع كذبه وتأكل رشوة .
وعنه في غير هذه الرواية . قال : كان الحاكم منهما إذا أتى أحد برشوته جعلها ( بين يديه فينظر إلى صاحبها ويتكلم معه ) ويسمع منه ولا ينظر إلى خصمه فيأكل الرشوة ويسمع الكذب ، وعنه أيضاً قال : إنما ذلك في الحكم إذا رشوته ليحق لك باطلاً أو يبطل عنك حقّاً فأما أن يعطي الرجل الوالي يخاف ظلمه شيئاً ليدرأ به عن نفسه فلا بأس .
والسحت هو الرشوة في الحكم على قول الحسن . ومقاتل وقتادة والضحّاك والسدّي .
وقال ابن مسعود : هو الرشوة في كل شيء .
قال مسلم بن صبيح : صنع مسروق لرجل في حاجة فأهدى له جارية فغضب غضباً شديداً ، وقال : لو علمت إنّك تفعل هذا ما كلّمت في حاجتك ، ولا أكلم لما بقي من حاجتك ، سمعت ابن مسعود يقول : من يشفع شفاعة ليرد بها حقّاً أو ليدفع بها ظلماً فأهدي له فقيل فهو سحت ، فقيل له : يا أبا عبد الرحمن ما كنّا نرى ذلك إلاّ الأخذ على الحكم ، قال : الأخذ على الحكم كفر . قال اللّه عز وجل ) ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون ( .
وقال أبو حنيفة : إذا ارتشى الحاكم إنعزل في الوقت وإن لم يُعزل .
وقال عمر وعلي وابن عباس رضي اللّه عنهم : السحت خمسة عشر : الرشوة في الحكم ومهر البغي وحلوان الكاهن ، وثمن الكلب والقرد والخمر والخنزير والميتة والدم وعسيب الفحل وأجر النائحة والمغنية والقايدة والساحر وأجر صور التماثيل وهدية الشفاعة .
وعن جعفر بن كيسان قال : سمعت الحسن يقول : إذا كان لك على رجل دين فما أكلت في بيته فهو سحت . وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن عبد اللّه بن عمرو بن العاص قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( لعنة اللّه على الراشي والمرتشي ) .
قال الأخفش : السحت كل كسب لا يحل .
ثم قال ) فإن جاؤك ( يا محمد ) فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ( . خير اللّه سحته بقوله في الحكم بينهم إن شاء حكم وإن شاء ترك .
واختلفوا في حكم هذه الآية هل هو ثابت وهل للحكّام اليوم من الخيار في الحكم من أهل الذّمة إذا اختلفوا إليهم ، مثل ما جعل اللّه لنبيه ( صلى الله عليه وسلم ) أم هو منسوخ ؟
(4/67)

" صفحة رقم 68 "
فقال أكثر العلماء : هو حكم ثابت لم ينسخه شيء وحكام الإسلام بالخيار وذلك إن شاؤا بين أهل الكتاب وجميع أهل الذّمة ، فإن شاؤا أعرضوا ولم يحكموا بينهم وإن حكموا يحكموا بحكم أهل الإسلام . هو قوله : ) ليظهره على الدين كله ( هو جريان حكمنا عليهم . وهذا قول النخعي والشعبي وعطاء وقتادة . وقال آخرون هو منسوخ نسخه قوله تعالى ) وأن احكم بينهم بما أنزل اللّه ( وإليه ذهب الحسن ومجاهد وعكرمة والسدّي . وروى ذلك ابن عباس قال : لم ينسخ من المائدة إلاّ هاتان الآيتان وقوله تعالى ) يا أيّها الذين آمنوا لا تحلّوا شعائر اللّه ( نسختها ) فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ( وقوله ) فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ( نسختها ) أن احكم بينهم بما أنزل اللّه ( .
فأما إقامة الحدود عليهم فأهل العراق يرون إقامة الحدود عليهم إلاّ إنهم لا يرون الرجم وقالوا : لأنهم غير محصنين وتأولوا رجم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اليهوديين أنه رجمهما بكتابهم التوراة لما اتفقوا على رضاهم بحكم التوراة ثم أنكروا الرجم ، فكان في التوراة فأخفوا وأظهر رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) من ذلك ما كتموه . وأهل الحجاز لا يرون إقامة الحدود عليهم ويظهرون إلى أنهم صولحوا على شركهم . وهو أعظم من الحدود التي يأتون وتأولوا رجم النبي ( صلى الله عليه وسلم ) اليهوديين أن ذلك قبل أن يؤخذ عنهم الجزية إلاّ أن على الإمام أن يمنعهم من المظالم والفساد فأما إذا كان أحد الطرفين مسلماً مثل أن يزني رجل من أهل الذّمة بمسلمة أو سرق من مسلم أقيم عليه الحد وحكم عليه بحكم الإسلام ) وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ( أي بالعدل ) إنّ الله يحب المقسطين ( العاملين .
2 ( ) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذالِكَ وَمَآ أُوْلَائِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالاَْحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِئَايَاتِى ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالاَْنْفَ بِالاَْنْفِ وَالاُْذُنَ بِالاُْذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَقَفَّيْنَا عَلَىءاثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَوْرَاةِ وَءَاتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ ( 2
(4/68)

" صفحة رقم 69 "
المائدة : ( 43 - 44 ) وكيف يحكمونك وعندهم . . . . .
) وكيف يحكّمونك ( تعجّب وفيه اختصار إلى وكيف يجعلونك حاكماً ويرضون بمحمد ) وعندهم التوراة فيها حكم اللّه ( وهو الرجم فلا يرضون بذلك .
) ثم يتولون من بعد ذلك ( إلى قوله ) للذين هادوا ( فإن قيل : وهل فينا غير مسلم ؟ فالجواب أن هؤلاء نبيوا الإسلام لا على أن غيرهم من النبيين لم يتولوا المسلمين وهذا كقوله ) محمد رسول الله ( ) فآمنوا باللّه ورسوله النبي الأُمي الذي يؤمن باللّه وكلماته ( لا يريد أن غيره من الأنبياء لم يؤمنوا باللّه وكلماته . وقيل : لم يرد به الإسلام الذي هو ضد الكفر . وإنما المراد به الذين انقادوا لحكم اللّه فلم يكتموه كما كتم هؤلاء ، يعرّض بأهل الكتاب .
وهذا كقوله ) وله أسلم من في السماوات والأرض ( .
وقال يزيد بن عمرو بن نفيل : أسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخراً ثقالاً ، وأسلمت وجهي لمن أسلمت له العيون تحمل عذباً زلالاً . وقيل : معناه الذين أسلموا أنفسهم إلى اللّه . كما روي إن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) كان يقول إذا أوى إلى فراشه : ( أسلمت نفسي إليك ) .
وقيل : معناه : يحكم بها النبيون الذين أسلموا بما في التوراة من الشرائع ولم يعمل به كمثل عيسى ( عليه السلام ) وهو قوله تعالى ) لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ( وهو معنى قول ابن حيّان يحكم بما في التوراة من لدن موسى إلى عيسى عليهما السلام .
وقال الحسن والسدّي أراد محمداً ( صلى الله عليه وسلم ) حكم على اليهود بالرجم وذكره بلفظ الجمع كما قال تعالى ) إن إبراهيم كان أمّة ( وقال : أم تحسدون الناس في الحياة ) والربّانيون والأحبار ( يعني العلماء وهم ولد هارون ( عليه السلام ) وأحدهم محبر وحبر وهو العالم المحكم للشيء ومنه الكعب بن قانع كعب الأحبار وكعب الحبر .
قال الفرّاء : أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد الأحبار بكسر الحاء واختلفوا في اشتقاق هذا الإسم .
فقال الكسائي وأبو عبيدة : هو من الحبر الذي يكتب به . وقال النضر بن شميل : سألت الخليل عنه ، فقال : هو من الحبار وهو الأثر الحسن . فأنشد :
(4/69)

" صفحة رقم 70 "
لا تملأ الدلو وعرق فيها
ألا ترى حبّار من يسقيها
قال قطرب : هو من الحبر وهو الجمال والهيئة يدل عليهم قول النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ( يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره ) ( أي جماله وبهاؤه ) .
وقال العباس لرسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يا ابن أخ فيم الجمال ؟ قال : ( في اللسان ) .
وقال مصعب بن الزبير لإبنه : يا بني تعلم العلم فإن كان لك مال كان جمالاً وإن لم يكن عندك علم كان لك مالاً ، ) بما استحفضوا ( استودعوا من كتاب اللّه ) وكانوا عليه شهداء ( إنه كذلك ) فلا تخشوا الناس واخشون ( إلى قوله ) الكافرون ( واختلف العلماء في معنى الآية وحكمها .
فقال الضحّاك وأبو إسحاق وأبو صالح وقتادة : نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود وليس في أهل الإسلام منها شيء فأما هذه الأمّة فمن أساء منهم وهو يعلم إنه قد أساء وليس بدين .
يدلّ على صحة هذا التأويل . ما روى الأعمش عن عبد اللّه بن مرّة عن البرّاء بن عازب عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في قوله تعالى ) ومن لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الكافرون ( والظالمون والفاسقون . قال : كلها في الكافرين .
وقال النخعي والحسن : نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ورضىً لهذه الآية بها فهي على الناس كلّهم واجبة .
عن ابن عباس وطاووس ليس بكفر ينقل عن الملة بل إذا فعل ذلك وهو به كفر ، وليس كمن يكفر باللّه واليوم ( الآخر ) .
عطاء : هو كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق .
عكرمة : معناه ومن لم يحكم بما أنزل اللّه جاحداً به فقد كفر . ومن أقرّ به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق . وهذه رواية الوالبي عن ابن عباس قال : وسمعت أبا القاسم الحبيبي ، قال : سمعت أبا زكريا العنبري ، يحكي عن عبد العزيز بن يحيى الكناني إنه سأل عن هذه الآيات ، قال : إنها تقع على جميع ما أنزل اللّه لا على بعضه فكل من لم يحكم بجميع ما أنزل اللّه فهو كافر ظالم فاسق .
فأما من يحكم ببعض ما أنزل اللّه من التوحيد ( وترك ) الشرك ثم لم يحكم بهما ( فبين ) ما أنزل اللّه من الشرائع لم يستوجب حكم هذه الآيات
(4/70)

" صفحة رقم 71 "
قالت الحكماء : هذا إذا ردّ بنص حكم اللّه عياناً عمداً ، فأما من جهله أو أخفي عليه أو أخطأ في تأويل ابتدعه أو دليل اتّجه له فلا ، وأجراها بعضهم على الظاهر .
وقال ابن مسعود ، والسدّي : من ارتشى في الحكم وحكم فيه بغير حكم الله فهو كافر
المائدة : ( 45 ) وكتبنا عليهم فيها . . . . .
) وكتبنا عليهم فيها ( أي وأوحينا في بني إسرائيل في التوراة ) أن النفس بالنفس ( يعني النفس القاتلة بالنفس المقتولة ( ظلماً ) ) والعين بالعين ( بقلعهما ) والأنف بالأنف ( يجدع به ) والأُذن بالأذن ( يقطع به أذنيه .
نافع : في جميع الفقهاء ( وقرأ ) الباقون ) والسّنّ بالسنّ ( يقلع به وسائر الجوارح قياس على العين والأنف والأذن ) والجروح قصاص ( وهذا مخصوص فيما يمكن القصاص فيه ، فأما ما كان من هيضة لحم أو هيضة عظم ويعده ركن لا يحيط العلم به وقياس أو حكومة .
واختلف الفقهاء في هذه الآية ، فقرأ الكسائي : ) والعين ( رفعاً إلى آخره . واختار أبو عبيد لما روى ابن شهاب عن أنس أن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قرأه ) وكتبنا عليهم فيها أنّ النفس بالنفس ( نصباً ، والعين بالعين ، والأنف بالأنف ، والأذن بالأذن ، والسن بالسن ، والجروح قصاص ، كله رفع .
وأما أبو جعفر وإبن كثير وإبن عامر وأبو عمرو فكانوا يرفعون الجروح وينصبون سائرها . وقتادة ، أبو حاتم قالوا : لأن لهما نظائر في القرآن قوله ) إن اللّه بريء من المشركين ورسوله ( ) وإن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ( ) وإذا قيل إن وعد اللّه حق والساعة ( .
وقرأ نافع وعاصم والأعمش وحمزة ويعقوب ( بالعطف ) كلها نصباً ودليلهم قوله تعالى : ) إن النفس بالنفس ( وأن العين بالعين وأن الأنف بالأنف وأن الأذن بالأذن فإن الجروح قصاص .
) فمن تصدّق به ( إختلفوا في الهاء في قوله ( به ) ، فقال قوم : هي كناية عن المجروح وولي القتيل ، ومعناه فمن تصدّق به فهو كفّارة له ، للمتصدق يعدم عنه ذنوبه بقدر ما تصدّق .
وهو قول عبد اللّه بن عباس والحسن والشعبي وقتادة وجابر بن زيد ، دليل هذا القول لحجة ما روى الشعبي عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من تصدّق عن جسده بشيء كفّر اللّه عنه بقدر ذلك من ذنوبه ) .
(4/71)

" صفحة رقم 72 "
وروى وكيع عن يوسف بن أبي إسحاق عن أبي السهر قال : كسر رجل من قريش سنّ رجل من الأنصار فاستعدى عليه معاوية ، فقال القريشي : إن هذا داق سني .
قال معاوية : كلا أما تسترضيه ، فلمّا ألحَّ عليه الأنصاري ، قال معاوية : شأنك بصاحبك ، وأبو الدرداء جالس .
فقال أبو الدرداء : سمعت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( ما من مسلم يصاب بشيء عن جسده فيتصدّق به إلاّ رفعه اللّه به درجة وحطّ به عن خطيئة ) .
فقال الأنصاري : أأنت سمعت بهذا من رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : نعم سمعته أُذناي ووعاه قلبي فعفى عنه .
وروى عوف عن علقمة بن وائل الحضرمي عن أبيه قال : جيء بالقاتل الذي قتل إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) جاء به ولي المقتول ، فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) أتعفو ؟ قال : لا ، قال : أتأخذ الدية ؟ قال : لا ، قال : القتل ، قال : نعم ( قال إذهب فذهب ) فدعاه فقال : أتعفو ؟ قال : لا ، قال : أتأخذ الدية ؟ قال : لا ، قال : القتل ، قال : نعم ، قال : إذهب ، فلما ذهب قال : أما لك أن عفوت فإنه يبوء بإثمك ، وإثم صاحبك . قال : فعفى عنه فأرسله ورأيته وهو يجر شسعيه .
وروى عمران عن عدي بن ثابت الأنصاري قال : طعن رجل رجلاً على عهد معاوية ، فأعطوه ديتين على أن يرضى . فلم يرضَ وأعطوه ثلاث ديات فلم يرض .
وحدث رجل عن المسلمين عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنه قال : ( من تصدّق بدم فما دونه كان كفارة له من يوم ولد إلى يوم تصدق ) .
وعن عمر بن نبهان عن جابر بن عبد اللّه عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ثلاث من جاء بهن مع إيمان دخل الجنة من أي أبواب الجنة شاء وتزوج من الحور العين حيث شاء من أدى ديناً ( خفياً ) وعفا عن قاتل وقرأ دبر كل صلاة مكتوبة عشر مرّات قل هو اللّه أحد ) .
قال أبو بكر : وإحداهن يا رسول اللّه ؟ قال : وإحداهن .
وقال آخرون : عني بذلك الجارح والقاتل ، يعني إذا عفا المُجنى عليه عن الجاني فعفوه عن الجاني كفّارة لذنب الجاني لا يوآخذ به في الآخرة كما أن القصاص كفّارة له كما إن العافي المتصدق فعلى اللّه تعالى ، قال اللّه تعالى ) من عفا وأصلح فأجره على اللّه ( وهذا قول إبراهيم
(4/72)

" صفحة رقم 73 "
ومجاهد وزيد بن أسلم ، وروي ذلك عن ابن عباس . والقول الأوّل أجود لأنّه ربما تصدّق من عليه ولم يتب الخارج من فعله فإنه كفّارة له والدليل عليه قراءة أُبي : فمن تصدّق به فهو كفّارة له . ) ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (
المائدة : ( 46 ) وقفينا على آثارهم . . . . .
) وقفّينا على آثرهم ( على آثار النبيين المسلمين للتوراة العالمين به ) بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة وآتينه الإنجيل فيه هدى ونور مصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدىً وموعظة للمتقين (
.
) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَاكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِى مَآ ءَاتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ( 2
المائدة : ( 47 ) وليحكم أهل الإنجيل . . . . .
) وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه فيه ( قرأه العامة مجزوم اللام والميم على الأمر ، وحمزة : بكسر اللام وفتح الميم أي ولكي يحكم أهل الانجيل .
مقاتل بن حيّان : أمر اللّه تعالى الأحبار والربانيين أن يحكموا بما في التوراة وأمر القسّيسين والرهبانيين أن يحكموا بما في الإنجيل فكفروا وكذبوا بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) وقالوا عزير ابن اللّه والمسيح ابن اللّه ) ومن لم يحكم بم أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون ( الخارجون من أمر اللّه ، وقال ابن زيد : الكاذبون . نظيره قوله ) إن جاءكم فاسق بنبأ (
المائدة : ( 48 ) وأنزلنا إليك الكتاب . . . . .
) وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ( أي الكتب ) ومهيمناً عليه ( أي شاهداً . قاله السدّي والكسائي : وهي رواية الوالبي عن ابن عباس ، قال حسان :
إن الكتاب مهيمن لنبينا
والحق يعرفه ذووالألباب
أي مصدق .
وقال سعيد بن جبير وأبو عبيدة : مؤمناً وهي رواية أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس ، الحسن : أميناً وهي رواية العوفي عن ابن عباس ومعنى أمانة القرآن ما قال ابن جريح : القرآن أمين على ما قبله من الكتب فيما أخبر أهل الكتاب في كتابهم بأمر فإن كان في القرآن فصدّقوا
(4/73)

" صفحة رقم 74 "
وإلاّ فكذبّوا ، المبرد : أصله مؤيمن فقلبت الهمزة هاء كما قيل : أرقت الماء وهرقت ، ولمّا ينثر عن الرأس عند الدلك أبرية وهبرية ونهاة وهيهات . وأتاك وهياك فهو مبني آمن أمين كما بيطر ومبيطر من بيطار .
قال النابغة :
شكّ المبيطر إذ شفا من العضد
وقال الضحّاك : ماضياً ، عكرمة : دالاً عليه ، إبن زيد مصدّقاً ، الخليل : رقيباً وحافظاً ، يقال : هيمن فلان على كذا إذا شاهده وحفظه .
قلت : سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت المنصور بن محمد بن أحمد بن منصور البستي يقول : سمعت أبا عمر محمد بن عبد الواحد اللغوي يقول : تقول العرب : الطائر إذا جعل يطير حول وَكرهِ وخاف على فرخه صيانة له ، هيمن الطائر مهيمن . وكذلك يقول للطائر إذا أرخى جناحيه فألبسهما بيضه وفرخه مهيمن . وكذلك جعل اختباؤه ومنه قيل : اللّه تعالى المهيمن كان معناه الرقيب الرحيم . قال : ورأيت في بعض الكتب إنها بلغة العجمانية فعرّبت ، وقرأ عكرمة : هيمن ومهيمن . بقولهم الملوك ) فاحكم ( يا محمد ) بينهم ( بين أهل الكتاب ، إذا ترافعوا إليك ) بما أنزل اللّه ( بالقرآن ) ولا تتّبع أهوائهم عمّا جاءك من الحق لكلَ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ( ، أي سبيلاً وسنّة وجمع الشرعة الشرع وكل ما شرّعه فيه فهو شرعة وشريعة ، ومنه شريعة الماء ومشرعته ، ومنه شرائع الإسلام شروع أهلها فيها ، ويقال : من شرع شرعاً إذا دخلوا في أمر وساروا به . والمنهاج والمنهج والنهج الطريق البين الواضح .
قال الراجز :
من يك في شك فهّلا ولج
في طريق المهج
قال المفسّرون : عنى بذلك جميع أهل الملل المختلفة جعل اللّه لكل أهل ملّة شريعة ومنهاجاً ، فلأهل التوراة شريعة ، ولأهل الإنجيل شريعة ، ولأهل القرآن شريعة ، يحل فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء ، والدين واحد والشرائع مختلفة ) ولو شاء اللّه لجعلكم أمّة واحدة ( كلّكم ملّة واحدة ) ولكن ليبلوكم ( ليخبركم وهو أعلم وقد مضى معنى الإبتلاء ) فيما آتاكم ( من الكتب وبين لكم من ( السنن ) فبيّن المطيع من العاصي والمواظب من المخالف ) فاستبقوا الخيرات ( فبادروا بالطيّبات والأعمال الصالحات ) إلى اللّه مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون }
المائدة : ( 49 ) وأن احكم بينهم . . . . .
) وأن احكم بينهم بما أنزل اللّه ولا تتّبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل اللّه إليك ( .
(4/74)

" صفحة رقم 75 "
قال ابن عباس : قال كعب بن لبيد وعبد اللّه بن صوريا وشاس بن قبيص بعضهم لبعض : إذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه فقالوا : يا محمد قد عرفت أنّا أعيان اليهود وأشرافهم وإنّا إن إتبعناك إتبعنا اليهود ولم يخالفونا وإن بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فنقضي إما عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك ، فأبى ذلك رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وأنزل اللّه فيهم هذه الآية ) فإن تولوا ( أعرضوا عن الإيمان والحكم بالقرآن ) فاعلم إنما يريد اللّه أن يصيبهم بعض ذنوبهم ( أي فاعلم إن إعراضهم من أجل أن اللّه يريد أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم أي شؤم عصيانهم .
) وإن كثيراً من الناس ( يعني اليهود ) لفاسقون (
المائدة : ( 50 ) أفحكم الجاهلية يبغون . . . . .
) أفحكم الجاهلية يبغون ( قرأ ابن عامر بالتاء ، وفي الباقون بالياء .
) ومن أحسن من اللّه حكماً ( الآية .
( ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِىَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَآ أَسَرُّواْ فِىأَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَهُاؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذالِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَواةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ( 2
المائدة : ( 51 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيّها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ( إختلفوا في نزول هذه الآية ، فإن كان حكمها عاماً لجميع المؤمنين .
فقال العوفي والزهري : لما انهزم أهل بدر ، قال المسلمون لأوليائهم من اليهود أهربوا قبل أن يصيبكم اللّه بيوم مثل يوم بدر . فقال مالك بن الصيف : أغرّكم أن أصبتم رهطاً من قريش لا علم لهم بالقتال ، أما لو أسررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقتلونا .
فجاء عبادة بن الصامت الخزرجي إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا رسول اللّه إن لي أولياء من اليهود كثير عددهم ، قويّة أنفسهم ، شديدة شوكتهم كثيراً سلاحهم وإني أبرأ إلى اللّه وإلى رسوله من ولايتهم وولاية اليهود ، ولا مولا لي إلاّ الله ورسوله ، قال عبد اللّه بن أُبي : لكني لا أبرأ من ولاية اليهود لأني أخاف الدوائر ولا بد لي منهم ، فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( يا أبا الحباب ما نفست
(4/75)

" صفحة رقم 76 "
من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه ) قال : قد قبلت فأنزل اللّه عز وجل هذه الآية . قال السدّي : لما كانت وقعة أحد إشتد على طائفة من الناس وتخوفوا أن يدل عليهم الكفار .
فقال رجل من المسلمين : أما أنا فألحق بدهلك اليهودي وأخذ منه أماناً فإني أخاف أن يدل علينا اليهود .
وقال رجل آخر : أما أنا فالحق بفلان النصراني ببعض أهل الشام فأخذ منه أماناً وأنزل اللّه هذه الآية ينهاهما .
وقال عكرمة : نزلت في أبي لبانة بن عبد المنذر حين قال للنبي ( صلى الله عليه وسلم ) إذا رضوا بحكم سعد إنه الذبح ) بعضهم أولياء بعض ( في العون والنصرة ، ويدهم واحدة على المسلمين .
) ومن يتولّهم منكم ( فيوافقهم على دينهم ويعينهم ) فإنه منهم ( يقول ابن سيرين : عن رجل بيع داره من النصارى ، يتخذونها بيعة فتلا هذه الآية
المائدة : ( 52 ) فترى الذين في . . . . .
) فترى الذين في قلوبهم مرض ( الآية ، يعني عبد اللّه بن أُبي وصحبه من المنافقين الذين كانوا يوالون اليهود ويصانعونهم ويناصحونهم ) يسارعون فيهم ( أي في موالاتهم ) يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ( دولة يعني أن يدور الدهر فنحتاج إلى نصرهم أيّانا فنحن نواليهم بذلك .
قال الراجز :
يرد عنك القدر المقدورا
ودائرات الدهر أن تدورا
) فعسى اللّه أن يأتي بالفتح ( أي القضاء وقيل : النصر . وقال السدّي : فتح مكّة .
) أو أمر من عنده فيصبحوا ( يعني هؤلاء المنافقين ) على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين ( وحينئذ
المائدة : ( 53 ) ويقول الذين آمنوا . . . . .
) ويقول الذين آمنوا ( إختلف القرّاء فيه :
فقرأ أهل الكوفة : ( ويقول ) بالواو والرفع على الإستئناف وقرأ أهل البصرة : ( ويقول ) نصباً والواو عطفاً على ( أن يأتي ) وقرأ الباقون : رفع اللام وحذف الواو ، وكذلك هو في مصاحف أهل الشام ) أهؤلاء الذين أقسموا باللّه جهد أيمانهم إنهم لمعكم ( الآية
المائدة : ( 54 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا من يرتدّ ( وقرأ أهل المدينة والشام يرتدد بدالين على إظهار التخفيف ) منكم عن دينه ( فيرجع إلى الكفر وهذا المجاز للقرآن وللمصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) إذ أخبر عن ارتدادهم ولم يكن ذلك في عهده
(4/76)

" صفحة رقم 77 "
وكان عهده وكان على ما أخبره بعد مدّة ، وأهل الردّة كانوا أحد عشر قوماً ثلاثة على عهد رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) في آخر عمره وسبعة على عهد أبي بكر وواحد في عهد عمر .
فأما الثلاثة الذين كانوا على عهد رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فمنهم بنو مذحج ورئيسهم ذو الخمار عيهلة بن كعب القيسي فلقّب بالأسود وكان كاهناً مشعبذاً فتنبّأ باليمن وكان ( عليه السلام ) ولّى بأذان اليمن بجميع نواحيها وكان أوّل من أسلم من ملوك العجم وأول أمير لبلاد اليمن في الإسلام فمات ، وولي رسول اللّه مكانه شهراً فقتل الأسود الكذّاب شهر بن بأذان وتزوج إمرأته لباد واستولى على بلاد اليمن وأخرج عمّال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) منها ، وكتب عليه إلى معاذ بن جبل ومن معه من المسلمين ، وأمرهم أن يحثوا الناس على التمسّك بدينهم والنهوض إلى حرب الأسود إما غيلة وإما مصادمة ، وكتب ( عليه السلام ) بمثل ذلك إلى حمير من سادات اليمن عامر ابن سهو ، وذي رود وذي مران وذي الكلاع وذي ظلم ففعلوا ما أمرهم رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وقاموا بحرب الأسود حتى أهلك اللّه الأسود على يدي فيروز الديلمي ، وذلك أنه رماه وقتله على رأسه .
قال ابن عمر : أتى الخبر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) من السماء الليلة التي قتل فيها العنسي .
فقال ( عليه السلام ) : قتل الأسود البارحة قتله رجل مبارك ، قيل : ومن هو ؟ قال : فيروز : فاز فيروز فبشر أصحابه اليوم بهلاك الأسود وقبض رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) من أخذ وأتى خبر مقتل العنسي المدينة في آخر شهر ربيع الأول بعد مخرج أسامة وكان ذلك أول فتح أتى أبا بكر ، والفرقة الثانية : بنو حنيفة واليمامة ، ونبيهم مسيلمة الكذّاب ، وكان تنبأ في حياة رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) في آخر ستة عشر وزعم أنه أشرك مع محمد في النبوة .
فكتب إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) من مسيلمة رسول اللّه إلى محمد رسول اللّه ، أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك ، وبعث بذلك رجلين من أصحابه الرجال بن شهب والحكم بن الطفيل وكان من سادات أهل اليمامة ، فقال لهما رسول اللّه : ( أتشهدان أن مسيلمة رسول اللّه ؟ قالا : نعم ، فقال : ( لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما ) . ثم أجاب : ( من محمد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذّاب ، أما بعد ( إن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ) ) .
ومرض رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وتوفي ، وجعل مسيلمة يعلو أمره باليمامة يوماً بعد يوم ، فبعث أبو
(4/77)

" صفحة رقم 78 "
بكر ( رضي الله عنه ) خالد بن الوليد إليه في جيش كثير حتى أهلكه اللّه على يدي وحشي غلام مطعم بن عدي الذي قتل حمزة بن عبد المطلب بعد حرب صعب شديد وكان وحشي : يقول قتلت خير الناس في الجاهلية وقتلت شر الناس في الإسلام .
والفرقة الثالثة : بنو أسد ورئيسهم طليحة بن خويلد وكان طليحة آخر من ارتدّ فادعى النبوة في حياة رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وأول من قُتل بعد وفاته ( عليه السلام ) من أهل الردة ، فعسكر واستكشف أمره فبعث إليه أبو بكر الصديق ( رضي الله عنه ) خالد بن الوليد فهزموهم بخالد بعد قتال شديد وأفلت طليحة ومرّ على امرأته هارباً نحو الشام فلجأ إلى بني جفنة فأجاروه ثم إنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه ، فهذه الثلاث الذين ارتدّت على عهد رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وأما السبعة الذين ارتدّوا بعد وفاة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) في خلافة أبي بكر ( رضي الله عنه ) ، لما مات رسول اللّه ( عليه السلام ) شمتت اليهود والنصارى وأظهر النفاق من كان يخفيه وماج الناس وكثر القيل والقال . وارتدت العرب على أعقابها ، فارتدت فزار ورأسوا عليهم عيينة بن عين بن بدر ، وارتدت غطفان ، وأمّروا عليهم قرّة بن سلمة القسري ، وارتدت بنو سليم ورأسوا عليهم النجاخ ابن عبد ياليل ، وارتدت بنو يربوع ورأسوا عليهم مالك بن نويرة . وارتدت طائفة أخرى من بني تميم ورأسوا إمرأة منهم يقال لها : سجاح بنت المنذر وادّعت النبوّة ثم إنها زوّجت نفسها من مسيلمة الكذّاب .
وارتدت كندة ورأسوا على أنفسهم الأشعث بن قيس . وارتدت بنو بكر بن وائل بأرض البحرين ورأسوا عليهم الحطم بن زيد فلقى اللّه أمر هؤلاء المرتدّين ونصر دينه على يدي أبي بكر ( رضي الله عنه ) وأما الذي كان على عهد عمر ( رضي الله عنه ) رأسهم الغاني وأصحابه ، وأخبار أهل الردة مشهورة في التواريخ مسطورة يطول بذكرها الكتاب .
) فسوف يأتي اللّه بقوم يحبّهم ويحبونه ( قال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة : هم أبو بكر وأصحابه ، مجاهد : هم أهل اليمن ، وقال غياض بن غنم الأشعري : لما نزلت هذه الآية أومى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) إلى أبي موسى الأشعري فقال : هم قوم هذا .
قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( أتاكم أهل اليمن ، هم ألين قلوباً وأرق أفئدة الإيمان يماني والحكمة يمانية ) .
الكلبي : هم أحياء من اليمن ألفان من النخع وخمسة ألآف من كندة وبجيلة وثلاث آلاف من سائر الناس فجاهدوا في سبيل اللّه بالقادسية
(4/78)

" صفحة رقم 79 "
السدّي : هم الأنصار ، ويروى أنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) سئل عن هذه الآية فضرب يده على عاتق سلمان الفارسي فقال : هذا وذووه ، ثم قال : ( لو كان الدين معلقاً بالثريا لناله من أبناء فارس ) .
) أذلّة على المؤمنين ( يعني أرقاء رحماء ، كقوله ) واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ( وقيل : هو من الذل ، من قولهم دابّة ذلول بينة الذل يعني إنهم متواضعون كقوله ) وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ( ) أعزّة على الكافرين ( أي أشداء غلظاء من قول العرب عز جانبه عزاً .
وقرأ ابن مسعود : أذلة على المؤمنين غلظاً على الكفّار بالنصب على الحال .
وقال عطاء : أذلة على المؤمنين كالولد لوالده وكالعبد لسيده . أعزة على الكافرين كالسبع على فريسته ، ونظير الآية ) أشداء على الكفار رحماء بينهم ( ) يجاهدون في سبيل اللّه ولا يخافون لومة لآئم ( .
عبد اللّه بن حمدون نا أحمد بن محمد بن الحسين نا محمد بن يحيى نا أحمد بن شبيب ، عن يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب عن أبي هريرة أنه كان يحدّث أن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيُجلون عن الحوض فأقول ربّ أصحابي أصحابي فيقال لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم إرتدّوا على أدبارهم القهقرى ) .
) إنما وليّكم اللّه ورسوله ( الآية .
أبو عبد اللّه الحسين عن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان عن شبر بن موسى الأسدي عن إسماعيل بن خليل الكوفي عن سلمة بن رجاء عن سلمة بن سابور قال : سمعت عطية العوفي يقول : قال ابن عباس : أسلم عبد اللّه بن أُبي بن سلول ، ثم قال : بيني وبين قريظة والنضير حلف وأنا أخاف الدوائر ، فارتد كافراً . وقال عبادة بن الصامت : أبرأ إلى اللّه عز وجل من حلف قريظة والنضير ، وأتولى اللّه والرسول والذين آمنوا فأنزل اللّه تعالى .
( ) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَآءَ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَواةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ ءَامَنَّا بِاللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذالِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَائِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ
(4/79)

" صفحة رقم 80 "
عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ وَإِذَا جَآءُوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالاَْحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ( 2
) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ( إلى قوله : ) فترى الذين في قلوبهم مرض ( ، يعني عبد اللّه بن أُبي بن سلول إلى قوله : ) إنما وليكم اللّه وسوله والذين آمنوا ( يعني عبادة بن الصامت ، وأصحاب رسول اللّه ثم قال : ولو كانوا يؤمنون باللّه ورسوله وما أُنزل إليه ، ما اتخذوه أولياء ، وقال بعض المفسّرين : لما أراد رسول اللّه أن يقتل يهود بني قينقاع حين نقضوا العهد ، وكانوا حلفاً لعبد اللّه بن أبي سلول وسعد بن عبادة بن الصامت ، فأما عبد اللّه بن أُبي فعظم ذلك عليه ، وقال : ثلاثمائة دارع وأربعمائة منعوني من الأسود والأحمر أفأدعك تجدهم في غداة واحدة ، وأما سعد وعبادة فقالا : إنا برآء إلى اللّه وإلى رسوله من حلفهم وعهدهم فأنزل اللّه هذه الآية .
وقال جابر بن عبد اللّه : جاء عبد اللّه بن سلام إلى النبي ( عليه السلام ) فقال : يا رسول اللّه إن قومنا من قريظة والنضير ، قد هجرونا وفارقونا وأقسموا أن لا يجالسونا ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل وشكى ما يلقى من اليهود من الأذى . فنزلت الآية فقرأها رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : رضينا باللّه ورسوله وبالمؤمنين أخوة على هذا التأويل أراد بقوله ( راكعون ) صلاة التطوع بالليل والنهار .
قال ابن عباس ، وقال السدي ، وعتبة بن حكيم ، وثابت بن عبد اللّه : إنما يعني بقوله ) والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ( الآية . علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) مرّ به سائل وهو راكع في المسجد وأعطاه خاتمه .
أبو الحسن محمد بن القاسم بن أحمد ، أبو محمد عبد اللّه بن أحمد الشعراني ، أبو علي أحمد بن علي بن زرين ، المظفر بن الحسن الأنصاري ، السدي بن علي العزاق ، يحيى بن عبدالحميد الحماني عن قيس بن الربيع عن الأعمش عن عبادة بن الربعي ، قال : بينا عبد اللّه بن عباس جالس على شفير زمزم إذ أقبل رجل متعمم بالعمامة فجعل ابن عباس لا يقول ، قال رسول اللّه : إلاّ قال الرجل : قال رسول الله ؟ فقال ابن عباس : سألتك باللّه من أنت ؟ قال : فكشف العمامة عن وجهه ، وقال : يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا جُندب بن جنادة البدري ، أبو ذر الغفاري : سمعت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) بهاتين وإلاّ صمّتا ورأيته بهاتين وإلاّ فعميتا يقول : عليّ قائد البررة ، وقاتل الكفرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله أما إني صليت مع رسول اللّه يوماً من الأيام صلاة الظهر فدخل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهم اشهد إني سألت في مسجد رسول اللّه فلم يعطني أحد
(4/80)

" صفحة رقم 81 "
شيئاً وكان علي راكعاً فأومى إليه بخنصره اليمنى وكان يتختم فيها فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره وذلك بعين النبي ( صلى الله عليه وسلم ) فلما فرغ النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) من الصلاة فرفع رأسه إلى السماء وقال : ( اللهم إن أخي موسى سألك ، فقال : ) ربّ إشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به أزري ( الآية ، فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً ) سنشدّ عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً ( اللهم وأنا محمد نبيّك وصفيّك اللهم فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي علياً أُشدد به ظهري ) .
قال أبو ذر : فواللّه ما استتم رسول اللّه الكلمة حتى أنزل عليه جبرئيل من عند اللّه ، فقال : يا محمد إقرأ ، فقال : وما أقرأ ؟ قال : إقرأ ) إنما وليكّم اللّه ورسوله ( ، إلى ) راكعون ( .
سمعت أبا منصور الجمشادي ، سمعت محمد بن عبد اللّه الحافظ ، سمعت أبا الحسن علي بن الحسن ، سمعت أبا حامد محمد بن هارون الحضرمي ، سمعت محمد بن منصور الطوسي ، سمعت أحمد بن حنبل يقول : ما جاء لأحد من أصحاب رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) من الفضائل مثل ما جاء لعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) .
أبو عبد اللّه بن فنجويه ، عمر بن الخطاب ، إبراهيم بن سهلويه ، محمد بن رجاء العباداني . حدّثني عمر بن أبي إبراهيم ، حدّثني المبارك بن سعيد وعمار بن محمد عن سفيان عن أبيه عن ابن عباس قال : نزلت في أبي بكر ) إنما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا ( الآيتان الخبر .
عن محمد بن عبد اللّه ، أحمد بن محمد بن إسحاق البستي ، حامد بن شعيب ، شريح بن يونس ، هشيم بن عبد الملك قال : سألت أبا جعفر عن قوله ) إنما وليكم اللّه ورسوله والذين آمنوا ( قال : هم المؤمنون بعضهم أولياء بعض ) ومن يتولى اللّه ورسوله والذين آمنوا فإن حزب اللّه ( يعني أنصاري من اللّه .
قال الراجز :
وكيف أضوي وبلال حزبي
(4/81)

" صفحة رقم 82 "
أي ناصري .
) هم الغالبون }
المائدة : ( 57 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً ( الآية .
قال الكلبي : كان منادي رسول اللّه إذا نادى إلى الصلاة وقام المسلمون إليها ، قالت اليهود : قد قاموا لا قاموا وصلوا لا صلوا ، ركعوا لا ركعوا ، سجدوا لا سجدوا ، على طريق الإستهزاء والضحك ، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية .
قال السدي : نزلت في رجل من النصارى كان إذا سمع المؤذن يقول : أشهد أن محمداً رسول اللّه ، قال : أحرق اللّه الكاذب ، فدخل خادمه بنار ذات ليلة وهو نائم وأهله نيام فتطاير منها شرارة في البيت فأحرق البيت وأحرق هو وأهله .
وقال الآخرون : إن الكفار لما سمعوا الأذان كذبوا رسول اللّه والمسلمين على ذلك فدخلوا على رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : يا محمد لقد ابتدعت شيئاً لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية فإن كنت تدّعي النبوة فقد خالفت فيما أحدثت من هذا الأذان الأنبياءَ قبلك ولو كان في هذا الأمر خير لكان بادئ ما تركه الناس بعد الأنبياء والرسل قبلك فمن أين لك صياح كصياح البعير فما أقبح من صوت ولا أسمج من كفر ، فأنزل اللّه هذه الآية . ) ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى اللّه وعمل صالحاً ( .
فأما بعد الأذان . قال أبو الحسن أحمد بن محمد بن عمر ، أبو العباس محمد بن إسحاق السراج ، زياد بن أيوب وأبو بكر بن أبي النضير الأسدي ، حجاج بن محمد قال : قال ابن جريح عن نافع عن ابن عمر أبو الحسين قال : أبو العباس السراج ، محمد بن سهيل بن عسكر ، أبو سعيد الحداد ، خالد بن عبد اللّه الواسطي ، عن عبد الرحمن بن ( يحيى ) عن الزهري عن سالم عن أبيه ، وحديث عن الحسن بن شقيق ، إسماعيل بن عبيد الخزاعي ، محمد بن سلمة عن محمد ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن محمد بن عبد اللّه بن زيد الأنصاري عن أبيه قال : كان المسلمون حيث قدموا المدينة يجتمعون فيجيبون الصلاة وليس ينادي بهن فتكلموا في ذلك فاستشار رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) المسلمين فيما يجيبهم الصلاة . فقال بعضهم : يقلب راية فوق رأس المسجد عند الصلاة فإذا رأوها أذن بعضهم بعضاً فلم يعجبه ذلك ، وقيل : بل نؤجج ناراً ، وقال بعضهم : بل قرن مثل قرن اليهود فكرهه من أجل اليهود وقيل : الناقوس فكرهه من أجل النصارى ولكن عليه قاموا وأمر بالناقوس حتى يجيب .
(4/82)

" صفحة رقم 83 "
قال عبد اللّه بن زيد : فرأيت تلك اللية رجلاً في المنام عليه ثوبان أخضران ويحمل ناقوساً فقلت يا عبد اللّه إتبع الناقوس قال : وما تصنع به ؟ قلت : ندعو به الناس إلى الصلاة ، قال : أفلا أدلّك على ما هو خير منه ؟ قلت : بلى ، قال : قل : اللّه أكبر ، اللّه أكبر إلى آخر الأذان ثم إستأخر غير بعيد ، وقال : إذا قامت الصلاة فقل : اللّه أكبر ، اللّه أكبر فوصف له الإقامة فرادى ، فلما استيقظت أتيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبرته بذلك فقال : إنها رؤيا حق إنشاء اللّه فاتلها على بلال فإنه أندى منك صوتاً ، قال : فخرجنا إلى المسجد فجعلت ألقيها على بلال وهو يؤذن فسمع عمر في بيته فخرج يجر رداءه فقال : رأيت مثل الذي رأى ففرح النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ذلك أثبت .
وروى أبو الزاهرية عن أبي شجرة عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : أوّل من أذّن في السماء فسمعه عمر ابن الخطاب ( رضي الله عنه ) .
فأما فصل الأذان ، فحدثنا أبو الحسن بن محمد بن القاسم الفارسي ، عبد اللّه محمد بن إسحاق بن يحيى ، أبو جعفر بن عبد اللّه بن الصياح ، أبو عمر الدوري ، أبو إبراهيم البرجماني عن سعيد بن سعيد عن نهشل أبي عبد اللّه القرشي عن الضّحاك عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( ثلاثة لا يكترثون للحساب ولا يفزعهم الصيحة ولا يحزنهم الفزع الأكبر : حامل القرآن يؤديه إلى اللّه بما فيه يقدم على ربّه سيّداً شريفاً ، ومؤذن أذن سبع سنين يأخذ على أذانه طمعاً وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ومؤدي حقّ مولاه ) .
أحمد بن محمد بن جعفر ، أبو الحسن علي بن محمد القاضي ، علي بن عبد العزيز أبي عمرو ابن عثمان حدثهم أبو ثميلة عن أبي حمزة عن جابر عن مجاهد عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أذّن سبع سنين محتسباً كتب له براءة من النار ) .
أبو الحسن الفارسي ، أبو العلاء أحمد بن محمد بن كثير ، ( . . . . . ) بن محمد ، محمد ابن سلمة الواسطي ، حميد بن سلمة الواسطي ، حميد الطوسي ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أذن سنة من نية صادقة لا يطلب عليه أجر دعي يوم القيامة ووقف على باب الجنة وقيل له : إشفع لمن شئت ) .
أبو بكر محمد بن أحمد بن محمد التمار ، أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه بن دينار محمد ابن الحجاج بن عيسى ، إبراهيم بن رستم ، حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن ابن سلمة عن
(4/83)

" صفحة رقم 84 "
أبي هريرة قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من أذّن خمس صلوات إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ومن أمّ أصحابه خمس صلوات إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدّم من ذنبه ) .
أبو العباس سهل بن محمد بن سعيد المروزي ، الحسن بن محمد بن جشم أبو الموجة ، عبدان ، عبدالوارث ، ومرّة الحنفي ، يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) إنه قال : ( إذا كان عند الأذان فتحت أبواب السماء فاستجيب الدعاء وإذا كان عند الإقامة لم يردّ دعواه ) .
أبو القاسم طاهر بن المعري ، أبو محمد عبد اللّه بن أحمد المقري بالبصرة ، عبد اللّه ابن أحمد الجصاص ، يزيد بن عمر وأبو البر الغنوي ، نائل بن نجيح ، محمد بن الفضل عن سالم عن مجاهد عن ابن عمر عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( المؤذن المحتسب كالشهيد يتشحّط في دمه حتى يفرغ من أذانه ويشهد له كل رطب ويابس فإذا مات لم يدوّد في قبره ) .
أبو محمد بن عبد اللّه بن حامد الصفياني ، محمد بن جعفر الطبري قال : حماد بن الحسن ، صالح ابن سليمان صاحب القراطيس ، عتاب بن عبد الحميد السدوسي عن مطر عن الحسن عن أبي الوقّاص أنه قال : سهام المؤذنين عند اللّه يوم القيامة كسهام المهاجرين .
وقال عبد اللّه بن مسعود : لو كنت مؤذناً لما باليت ألاّ أحج ولا أعتمر ولا أجاهد ، قال :
وقال عمر بن الخطاب : لو كنت مؤذناً لكمل أمري وما باليت أن لا أنتسب لقيام ليل ولا لصيام نهار . سمعت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( اللهم إغفر للمؤذنين ، اللهم إغفر للمؤذنين ، اللهم إغفر للمؤذنين ) .
فقلت : يا رسول اللّه لقد تركنا ونحن خيار على الأذان بالسيوف . قال : ( كلاّ يا عمر إنه سيأتي على الناس زمان يتركون الأذان على ضعفائهم وتلك لحوم حرمها اللّه على النار لحوم المؤذنين ) .
المائدة : ( 59 ) قل يا أهل . . . . .
) قل يا أهل الكتاب هل تنقمون ( الآية .
قال ابن عباس : أتى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) نفر من اليهود ، أبو ياسر بن الخطاب ورافع بن أبي رافع وعازار وزيد بن خالد وأزاريل أبي واشيع فسألوه عمن يؤمن به من الرسل ؟ فقال : ( أؤمن باللّه وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم إلى قوله مسلمون ) ، فلما ذكر عيسى جحدوا
(4/84)

" صفحة رقم 85 "
نبوته قالوا : واللّه ما نعلم أهل دين أولى حظاً في الدنيا والآخرة ديناً ولا دنيا شرار دينكم . فأنزل اللّه هذه الآية ثم قال : قل يا محمد
المائدة : ( 60 ) قل هل أنبئكم . . . . .
) هل أنبئكم ( أخبركم ) بشرَ من ذلك ( الذين ذكرت يعني قولهم لم نر أهل دين أولى حظاً في الدنيا والآخرة منكم فذكر الجواب بلفظ الإبتداء وإن لم يكن الإبتداء شراً كقوله تعالى للكفّار ) قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار وعدها الله الذين كفروا ( ) مثوبة عند الله ( ثواباً وجزاءاً وهو نصب على التفسير كقوله أكثر منك مالاً وأعز نفراً وأصلها مثووبة على وزن مفعوله وقد جاءت مصادر على وزن المفعول نحو المفعول والميسور فأسقط عين الفعل استثقالا على الواو ونقلت حركتها إلى فاء الفعل وهي الثاء فصار مثوبة مثل معونة ومغوثة ومقولة ) من لعنه اللّه ( ويجوز أن يكون محل من خفضاً على البدل ومن قوله بشر أو على معنى لمن يلعنه اللّه ويجوز أن يكون رفعاً على إضمار هو .
ويجوز أن يكون نصباً على إيقاع أُنبئكم عليه ) وغضب اللّه عليه وجعل منهم القردة والخنازير ( فالقردة : أصحاب السبت . والخنازير : كفّار أهل مائدة عيسى .
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : إن المسخين كلاهما من أصحاب نقبائهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير ، ) وعبد الطاغوت ( فيه عشر قراءات ، وعبد الطاغوت بفتح الباء والعين والتاء على الفعل وهي قراءة العامة ، وجعل منهم من عبد الطاغوت ، وتصديقها قراءة إبن مسعود ومن عبد والطاغوت . وقرأ ابن وثاب وحمزة . عَبُدِ الطاغوت بفتح العين وضم الباء وكسر الدال آباد العبد وهما لغتان عَبدْ وعَبُد مثل سبْع وسبُع وقرْد وقرُد .
وأنشد حمزة في ذلك : كيف الصقيل القرد ، بضم الراء ووجه آخر وهو إنه أراد الجمع أي خدم الطاغوت . فجمع العبد عباد ثم جمع العباد عبداً جمع الجمع مثل ثمار وثمر منهم استقبل الضمّتين المتواليتين فعرض من الأولى فتحه ولذلك في قراءة الأعمش وعبد الطاغوت بضم العين والتاء وكسر الدال .
قال الشاعر :
إنسب العبد إلى آبائه
أسود الجلدة من قوم عبد
وذكر عن أبي جعفر القاري : إنه قرأ وعبد الطاغوت على الفعل المجهول ، وقرأ الحسن : وعبد الطاغوت على الواحد .
قرأ أبو بردة الأسلمي : وعابد الطاغوت ( باختلاف ) على الواحد
(4/85)

" صفحة رقم 86 "
وقرأ ابن عباس : وعبيد الطاغوت بالجمع ، وقرأ أبو واقد الليثي : وعباد الطاغوت مثل كافر وكفار ، وقرأ عون العقيلي وأبان بن ثعلب : وعبد الطاغوت مثل ركع وسجد . وقرأا بن عمير : واعبد الطاغوت مثل كلب وأكلب ) أولئك شرٌ مكاناً وأضل عن سواء السبيل ( فلما نزلت هذه الآية تنذّر اليهود وقالوا إخوان القردة والخنازير فسكتوا وأُفحموا ، وفيهم يقول الشاعر :
فلعنة اللّه على اليهود
إن اليهود إخوة القرود
المائدة : ( 61 ) وإذا جاؤوكم قالوا . . . . .
) وإذا جاؤكم قالوا آمنّا ( الآية ، فهؤلاء المنافقون قاله المفسرّون .
وقال ابن زيد : هؤلاء الذين قالوا : ) آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار ( الآية .
وهذا التأويل أليق بظاهر التنزيل لأن هذه الآيات نزلت في اليهود
المائدة : ( 62 - 63 ) وترى كثيرا منهم . . . . .
) وترى كثيراً منهم ( يعني من اليهود ) يسارعون في الإثم والعدوان وأكلهم السحت ( إلى قوله ) لولا ينهاهم الربانيون والأحبار ( يعني العلماء وقيل : الربانيون علماء النصارى ، والأحبار علماء اليهود .
وقرأ أبو واقد الليثي ، وابن الجراح العقيلي : الربيون كقوله ) معه ربيون كثير ( ) عن قولهم الإثم ( وهذه أشد آية على ما أتى النهي عن المنكر حيث أنزلهم منزلة من يرتكبه وجمع بينهم في التوبيخ .
الحسن بن أحمد بن محمد ، وشعيب بن محمد بن شعيب عن إبراهيم بن عبد اللّه بن محمد بن عدي ، ( الأحمسي ) ، البخاري عن عبد الحميد بن جعفر عن أبي إسحاق عن عبد اللّه بن جرير عن أبيه قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( ما من رجل يجاور قوماً فيعمل بالمعاصي بين ظهرانيهم فلا يأخذون على يديه إلاّ وأوشك اللّه أن يعمهم منه بعقاب ) .
أبو عبد اللّه محمد ، أحمد بن محمد بن يعقوب ، عبد اللّه بن أسامة ، أسيل بن زيد الجمال ، يحيى بن سلمى بن مهنا عن أبيه عن الشعبي عن النعمان بن بشير قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( مثل الفاسق في القوم مثل قوم ركبوا سفينة فاقتسموها فصار لكل إنسان فيها نصيب ، فأخذ رجل منهم فأساً فجعل يضرب في موضعه فقال أصحابه : أي شيء تصنع تريد أن تغرق وتغرقنا ؟ فقال : هو مكاني فإن أخذوا على يديه نجوا ونجا وإن تركوه غرقوا وغرق ) .
(4/86)

" صفحة رقم 87 "
وقال مالك بن دينار : أوصى اللّه إلى الملائكة أن عذّبوا قرية كذا فصاحت الملائكة إلى ربها : يا رب إن فيهم عبدك العابد . فقال : أسمعوني ضجيجه فإن وجهه لم يتغير غضباً لمحارمي وأوحى اللّه إلى يوشع بن نون : إني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم وستين ألفاً من شرارهم . فقال : يا ربّ فهؤلاء الأشرار ، فما بال الأخيار ؟ قال : إنهم لم يغضبوا لغضبي وواكلوهم وشاربوهم .
2 ( ) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الاَْرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ ءَامَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلاَْدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لاََكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ ( 2
المائدة : ( 64 ) وقالت اليهود يد . . . . .
) وقالت اليهود يد اللّه مغلولة ( .
قال ابن عباس وعكرمة والضحّاك وقتادة : إن اللّه كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالاً وأخصبهم ناحية فلما عصوا اللّه في محمد ( عليه السلام ) وكذبوا به كفى اللّه عنهم ما بسط عليهم من السعة فعند ذلك قال فنحاص بن عازورا : يد اللّه مغلولة لم يريدوا إلى عنقه ولكنهم أرادوا إنها مقبوضة بمعنى منه ممسكة عن الرزق فنسبوه إلى البخل .
وقال أهل المعاني : إنما قال هذه المقالة فنحاص فلم ينهوا الآخرون ورضوا بقوله فأشركهم اللّه فيها وأرادوا باليد العطاء لأن عطاء الناس بذل معروفهم في الغالب بأيديهم واستعمل الناس اليد في وصف الإنسان بالرد والبخل .
قال الشاعر :
يداك يدا مجد فكف مفيد
وكف إذا ما ضن بالمال ينفق
ويقال للبخيل : جعد الأنامل ، مقبوض الكف ، كز الأصابع ، مغلول اليدين ، قال اللّه ) ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ( الآية .
قال الشاعر :
كانت خراسان أرضاً إذ يزيد بها
وكل باب من الخيرات مفتوح
(4/87)

" صفحة رقم 88 "
فاستبدلت بعده جعداً أنامله
كأنما وجهه يأكل منضوج
وقال الحسن : معناه يد اللّه مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلاّ بما ( يقرّبه ) قيمة قدر ما عبد آباؤنا العجل . وهو سبعة أيّام .
وقال مجاهد والسدّي : هو أن اليهود قالوا إن اللّه لما نزع ملكنا منا وضع يده على صدره يحمد إلينا ويقول : يا بني إسرائيل ، يا بني أحباري لا أبسطها حتى أرد عليكم الملك . والقول الأول أولى بالصواب لقوله ) ينفق كيف يشاء ( وقيل : هو استفهام تقديره : أيد اللّه مغلولة عنا ؟ حيث قتّر المعيشة علينا قال اللّه ) غلّت أيديهم ( أي مسكت أيديهم عن الخيرات وقبضت عن الانبساط بالعطيات .
وقال يمان بن رئاب : شدد وثقل عليهم الشرائع ، بيانه قوله ) والأغلال التي كانت عليهم ( وقيل : هو من الغل في النار يوم القيامة كقوله ) إذ الأغلال في أعناقهم ( ) ولعنوا ( عذبوا ) بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء ( إختلفوا في معنى يد اللّه سبحانه ، فقال قوم : إن له يداً لا كالأيدي وأشاروا باليد إلى الجارحة ثم قصدوا نفي التشبيه بقوله لا كالأيدي وهذا غير مرضي من القول وفساده لا يخفى .
وقال الآخرون : يده قدرته لقوله ) أولي الأيدي والأبصار ( .
وقيل : هو ملكه كما يقال لمملوك الرجل ، هو ملك يمينه . قال اللّه تعالى ) أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح ( أي إنه يملك ذلك ، وعلى هذين القولين يكون لفظه مشبه ومعناه واحد لقوله ) ولمن خاف مقام ربّه جنتان ( أراد به جنة واحدة . قاله الفرّاء : وأنشدني في بعضهم :
ومنهم يدين قدمين مرتين
قطعة بالألم لا بالسمينين
أراد منهما واحداً وسمنة واحدة .
قال وأنشد في آخر :
يمشي مكبداً ولهزمين
قد جعل الأرطا جنتين
أراد لهزماً وجنة .
وقيل : أراد بذلك نعمتاه . كما يقال : لفلان عندي يداً نعمة ، وعلى هذا القول يكون بعضه
(4/88)

" صفحة رقم 89 "
تشبيه ومعناه جمع كقوله ) وإن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها ( . والعرب تضع الواحد موضع الجمع كقوله ) وكان الكافر على ربه ظهيراً ( . ) لقد خلقنا الإنسان في كبد ( و ) إن الإنسان لفي خسر ( ونحوها ، ويقول العرب : ما أكثر الدرهم والدينار في أيدي الناس ، ويضع التشبيه أيضاً موضع الجمع كقوله ) ألقيا في جهنم ( فأراد الجمع . قال امرؤ القيس :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
يدل عليه :
وقوفاً بها صحبي على مطيّهم
يقول بأنه أخذ الجمع . قال محمد بن مقاتل الرازي : أراد نعمتان مبسوطتان نعمته في الدنيا ونعمته في الآخرة ، وهذه تأويلات مدخولة لأن اللّه عز وجل ذكر له خلق آدم بيده على طريق التخصيص والتفضيل لآدم على إبليس ، ولو كان تأويل اليد ما ذكروا لما كان لهذا التخصيص والتفضيل لآدم معنى لأن إبليس أيضاً مخلوق بقدرة اللّه وفي ملك اللّه ونعمته .
وقال أهل الحق : إنه صفة من صفات ذاته كالسمع والبصر والوجه ، قال الحسن : إن اللّه سبحانه يداه لا توصف ، دليل هذا التأويل إن اللّه ذكر اليد مرّة بلفظ اليد فقال عز من قائل ) قل إن الفضل بيد اللّه ( ) بيدك الخير ( ) يد اللّه فوق أيديهم ( ) تبارك الذي بيده الملك ( .
وقال ( عليه السلام ) : ( يمين اللّه ملأن ( لا يعيضن ) نفقة فترد به ) وقال عز وجل مرّة وقال ) لما خلقت بيدي ( ) بل يداه مبسوطتان (
.
(4/89)

" صفحة رقم 90 "
وقال ( عز وجل ) : ) وكلتا يديه يمين ( وجمعه مرّة فقال ) مما عملت إيدينا أنعاماً ( قوله ) وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً ( بإنكارهم ومخالفتهم وتركهم الإيمان ) وألقينا بينهم العداوة والبغضاء ( يعني من اليهود والنصارى ) كلما أوقدوا ناراً للحرب ( يعني اليهود والنصارى أفسدوا وخالفوا حكم التوراة فغضب اللّه عز وجل فبعث عليهم بخّت نصّر ثم أفسدوا فبعث اللّه عليهم وطرس الرومي ثم أفسدوا فسلّط اللّه عليهم المجوس ثمّ أفسدوا فسلّط الله عليهم المسلمين وكانوا كلما استقام أمرهم شتتهم اللّه تعالى وكلما جمعوا أمرهم على حرب رسول اللّه وأوقدوا ناراً للحرب ) أطفأها اللّه ( وقهرهم ونصر نبيه ودينه ) ويسعون في الأرض فساداً ( الآية
المائدة : ( 65 ) ولو أن أهل . . . . .
) ولو أنّ أهل الكتاب آمنوا وأتقوا لكفّرنا عنهم ( الآية
المائدة : ( 66 ) ولو أنهم أقاموا . . . . .
) ولو أنّهم أقاموا التوراة والإنجيل ( يعني أقاموا أحكامهما وحدودهما وعملوا بما فيهما ) وما أنزل إليهم من ربهم ( أي القرآن . وقيل : كُتب بني إسرائيل ) لأكلوا من فوقهم ( يعني المطر ) ومن تحت أرجلهم ( يعني النبات .
وقال الفرّاء : إنما أراد به التوسعة كما يقال : فلان في خير من قرنه إلى قدمه ، نظيره ) ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء ( ) منهم أمة مقتصدة ( يعني مؤمني أهل الكتاب . ابن سلام وأصحابه وثمانية وأربعون رجلاً من النصارى وهم النجاشي وبحيرا وسلمان الفارسي وخير مولى قريش وأصحابهم .
قال ابن عباس : هم العاملة غير العالية ولا الحافية ) وكثير منهم ( كعب بن الأشرف وأصحابه ، وأهل الروم . ) ساء ما يعملون ( .
2 ( ) يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( 2
المائدة : ( 67 ) يا أيها الرسول . . . . .
) يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك ( .
إختلفوا في تنزيل هذه الآية وتأويلها فروى محمد بن كعب القرضي عن أبي هريرة قال : كان رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) إذا نزل منزلاً اختار له أصحابه شجرة ظليلة فينزل تحتها ويقيل ، فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه عليها فأتاه إعرابي وأخذ السيف من الشجرة وأخترطه ثم أتى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وهو نائم ، فقال : يا محمد من يمنعك مني ؟ فقال : اللّه . فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه وضرب برأسه الشجرة حتى إنفرد ساعة فأنزل اللّه الآية
(4/90)

" صفحة رقم 91 "
وقال أنس : كان النبي ( صلى الله عليه وسلم ) يحرس ، قال : وقالت عائشة : فكنت ذات ليلة إلى جنبه فسهر تلك الليلة ، فقلت : يا رسول اللّه ما شأنك ؟ فقال : ( ليت رجل صالح يحرسني الليلة ) قالت : فبينما نحن في ذلك حتى سمعت صوت السلاح . فقال : من هذا ؟ قال : سعد وحذيفة جئنا نحرسك ، فنام رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) حتى سمعت غطيطه فنزلت الآية فأخرج رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) رأسه من قبة أديم وقال : ( إنصرفوا أيها الناس فقد عصمني اللّه عز وجل ) .
وروى الحسن مرسلاً إلى النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( لمّا بعثني الله برسالته فضقت بها ذرعاً وعرفت إن من الناس من يكذبني ) وكان عتابه قريشاً واليهود والنصارى فأنزل اللّه الآية ، قلت : ولما نزل قوله ) ولا تسبّوا الذين يدعون من دون اللّه ( سكت النبي ( عليه السلام ) عن عيب الهتهم فأنزل اللّه تعالى ) يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك ( يعني معايب آلهتهم .
وقيل : نزلت فى عيب اليهود وذلك إنه ( عليه السلام ) دعا اليهود إلى الإسلام وقالوا : أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزئون به ويقولون : تريد أن نتّخذك عياناً كما اتخذت النصارى عياناً عيسى ، فلما رأى النبي ( عليه السلام ) ذلك سكت فحرضه اللّه على دعائهم إلى الإسلام وأمره أن يقول لهم .
) يا أهل الكتاب لستم على شيء ( الآية .
قال الحسين بن الفضل : وهذا أولى الأقاويل لأنه ليس بين قوله بلّغ ما أنزل إليك وبين قوله لستم على شيء فصل .
فلما نزلت الآية قال ( عليه السلام ) : ( لا يأتي من عندي ومن نصرني ) .
وقيل : نزلت في قصة عيينة بن حصين وفقراء أهل الصفة وقيل : بلغ ما أنزل إليك من الرجم والقصاص ومرّ في قصة . وقيل : بلغ ما أنزل إليك من أمر نسائك . وذلك أن رسول اللّه لما نزلت آية التخيير لم يكن يعرضها عليهن خوفاً من اختيارهن الدنيا فأنزل اللّه ، وقيل : بلغ ما أنزل إليك في أمر زينب بنت جحش ، وقيل : نزلت في الجهاد ، وذلك إن المنافقين كرهوه ، قال اللّه ) فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال ( الآية وكرهه أيضاً بعض المؤمنين قال اللّه ) ألم تر إلى الذين قيل لهم كفّوا أيديكم ( الآية ، وكان ( عليه السلام ) يمسك في بعض المسلمين عن الحث على الجهاد لما يعلم من كراهة القوم فأنزل اللّه الآية
(4/91)

" صفحة رقم 92 "
وقال أبو جعفر محمد بن علي : معناه : بلّغ ما أنزل إليك في فضل علي بن أبي طالب ، فلما نزلت الآية أخذ ( عليه السلام ) بيد علي ، فقال : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) .
أبو القاسم يعقوب بن أحمد السري ، أبو بكر بن محمد بن عبد اللّه بن محمد ، أبو مسلم إبراهيم ابن عبد اللّه الكعبي ، الحجاج بن منهال ، حماد عن علي بن زيد عن عدي بن ثابت عن البراء قال : لما نزلنا مع رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) في حجة الوداع كنّا بغدير خم فنادى إن الصلاة جامعة وكسح رسول اللّه عليه الصلاة والسلام تحت شجرتين وأخذ بيد علي ، فقال : ( ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) ؟ قالوا : بلى يا رسول اللّه ، قال : ( ألست أولى بكل مؤمن من نفسه ) ؟ قالوا : بلى يا رسول اللّه ، قال : ( هذا مولى من أنا مولاه اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه ) .
قال : فلقيه عمر فقال : هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة .
روى أبو محمد عبداللّه بن محمد القايني نا أبو الحسن محمد بن عثمان النصيبي نا : أبو بكر محمد ابن الحسن السبيعي نا علي بن محمد الدّهان ، والحسين بن إبراهيم الجصاص قالانا الحسن بن الحكم نا الحسن بن الحسين بن حيان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله ) يا أيها الرسول بلغ ( قال : نزلت في علي ( رضي الله عنه ) أمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أن يبلغ فيه فأخذ ( عليه السلام ) بيد علي ، وقال : ( من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه ) .
وبلغ ما أنزل إليك في حقوق المسلمين فلما نزلت الآية خطب رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) أي يوم هذا الحديث في خطبة الوداع ، ثم قال : هل بلّغت ؟
) وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته ( قرأ ابن محيصن وابن قفال وأبو عمرو والأعمش وشبل : رسالته ، على واحدة ، وهي قراءة أصحاب عبد اللّه . الباقون جمع .
فإن قيل : فأي فائدة في قوله : ) وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته ( ولا يقال : كل من هذا الطعام وإن لم تأكل فما أكلته .
الجواب فيه ما سمعت فيه أبا القاسم بن جندب سمعت علي بن مهدي الطبري يقول : أمر رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) تبليغ ما أنزل إليك في الوقت والإتيان فيه . حتى تكثر الشركة والعدة وإن لم يفعل على كل ما أوصى اللّه إليه واحكم اللّه أن حرّم بعضها لأنه كمن لم يبلغ لأن تركه إبلاغ البعض محيط لإبلاغ ما بلغ . كقوله : ) إن الذين يكفرون باللّه ورسله ويريدون ( الآية .
(4/92)

" صفحة رقم 93 "
فاعلم أن إيمانهم بالبعض إلى بعضهم وأن كفرهم بالبعض يحيط الإيمان بالبعض . وحاشى لرسول اللّه أن يكتم شيئاً مما أوحى اللّه .
قالت العلماء : الدعوة بقراءة الصلاة إذ البعض ركن من أركانها .
وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول : سمعت أبا بكر بن ( الأخدش ) يحكي عن الحسن ابن الفضل أنّه قال : معنى الآية بلغ ما أنزل إليك في الوقت حتى تكثر الشوكة والعدّة ، ومن لم يفعل هذا كتب كمن لم يبلغ ، وقيل : بلغ مجاهداً محتسباً صابراً غير خائف ، وقيل : بلغ ما أنزل إليك من ربك إلى جميع الناس ( ولا تخاف ) .
وهذه من الحدود التي يدل مقام القطع عليه .
) واللّه يعصمك ( يحفظك ويمنعك ) من الناس ( ووجه هذه الآية ، وقد شجّ جبينه وكسُرت رباعيته وأوذي في عدة مواطن بضروب من الأذى ، فالجواب أن معناها واللّه يعصمك منهم فلا يصلون إلى مثلك ، وقيل : نزلت هذه الآية بعد ما شجّ جبينه وكسرت رباعيته لأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن .
وقيل : معناه واللّه يعصمك يخصك بالعصمة من بين الناس لأنه كان نبي الوقت والنبي معصوم .
) إن اللّه لا يهدي القوم الكافرين ( عن عبد اللّه الحسين بن محمد ( الديلمي ) ، محمد ابن إسحاق السبتي ، أبو عروة ، عمرو بن هشام ، محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم عن أبي عبد الملك عن القاسم عن أبي أُمامة قال : كان رجل من بني هاشم يقال له ركانة وكان من أفتك الناس وأشدهم بأساً وكان مشركاً وكان يرعى غنماً له ويقال له أقسم فخرج نبي اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) من بيت عائشة ذات يوم متوجهاً قِبَل ذلك الوادي فلقيه ركانة وليس مع نبي اللّه أحد فقام إليه ركانه وقال : يا محمد أنت الذي تشتم الهتنا اللات والعزى وتدعو إلى إلهك العزيز الحكيم ؟ ولو لا رحم بيني وبينك ما كلمتك حتى أقتلك ولكن أدع الهك العزيز الحكيم يخلصك مني اليوم وسأعرض عليك أمراً هل لك أن أصارعك وتدعو إلهك العزيز الحكيم يعينك عليّ وأنا أدعو اللات والعزى فإن أنت صرعتني فلك عشرة من غنمي وتختارها فقال ( عليه السلام ) : قم إن شئت واتخذ العهد ودعا النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إلهه العزيز الحكيم أن يعينه على ركانة ، ودعا ركانة إلهه ( اللات والعزى ) أن أعنّي اليوم على محمد فأخذه النبي ( عليه السلام ) فصرعه وجلس على صدره .
فقال ركانة : يا محمد قم فلست الذي فعلت هذا بي إنما إلهك العزيز الحكيم وخذله
(4/93)

" صفحة رقم 94 "
اللات والعزى وما وضع أحد جنبي قبلك ، فقال ركانة : عد فإن أنت صرعتني فلك عشرة أخرى ومن خيارها . فقام النبي ( عليه السلام ) ودعا كل واحد منهما إلهه كما فعلا أول مرّة فصرعه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وجلس على كبده ، فقال له ركانة : فلست أنت الذي فعلت فيّ هذا إنما فعله إلهك العزيز الحكيم وخذله اللات والعزى وما وضع جنبي أحد قبلك ، فقال له ركانة : عد فإن أنت صرعتني فلك عشرة أخرى تختارها فأخذ مني اللّه ودعا كل واحد منهما إلهه فصرعه نبي اللّه الثالثة ، فقال له ركانة : لست أنت الذي فعلت بي هذا إنما فعله إلهك العزيز الحكيم وخذله اللات والعزى فدونك ثلاثين شاة من غنمي فأخسرها .
فقال له النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لا أريد ذلك ولكن أدعوك إلى الإسلام وأركانه وأنفس بك أن تصير إلى النار ، إنك إن تُسلم تسلم فقال له ركانة : ألا تريني آية ، فقال له نبي اللّه ( عليه السلام ) اللّه شهيد عليك لئن أنا دعوت ربي عز وجل لهذا لتجيبني إلى ما دعوتك إليه ؟ قال : نعم ، وقريب منهما شجرة ذات فروع وقضبان فأشار نبي اللّه ( عليه السلام ) ، فقال لها : أقبلي بإذن اللّه فانشقت إثنتين وأتت على نصف شقها وقضبانها وفروعها حتى كانت بين يدي النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وبين ركانة فقال له ركانة : أريتني عظيماً ، فمرها فلترجع ، فقال ( عليه السلام ) اللّه شهيد عليك لئن أنا دعوت ربي عز وجل فأمرها فرجعت لتجيبني إلى ما دعوتك إليه ؟
قال : نعم ، فأمرها النبي ( عليه السلام ) فرجعت بقضبانها وفروعها حتى إلتأمت فلما قال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أسلم تسلم ، فقال له ركانة : فما لي ألاّ أكون أما أنا فقد رأيت عظيماً ، ولكني أكره أن يتحدث فينا أهل المدينة وفتيانهم فيّ إنما أجيبك لرعب دخل قلبي منك ، ولكن قد علمت في أهل المدينة وصبيانهم إنه لم يوضع جنبي قط ولم يدخل قلبي رعب ساعة قط ليلاً ولا نهاراً فلك دونك فاختر غنمك ، فقال ( عليه السلام ) : ليس في حاجة إلى غنمك إذ أبيت أن تسلم ، فانطلق رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) راجعاً فأقبل أبو بكر وعمر يسألانه في بيت عائشة فأخبرتهما إنه قد توجه قِبَل وادي أضم وقد عرفا إنه وادي ركانة لا يخطيه ، فخرجا في طلبه وأشفقا أن يلقاه ركانة فيقتله ، فجعلا يصعدان على كل شرفة ونظرا فإذا هما كذلك إذ نظر نبي اللّه ( عليه السلام ) مقبلاً ، فقالا : يا نبي اللّه كيف تخرج إلى هذا الوادي وحدك وقد عرفت إنه جهة ركانة وإنه من أفتك الناس وأشدهم تكذيباً لك ، فضحك إليهما النبي ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( اليس اللّه يقول : ) واللّه يعصمك من الناس ( إنه لم يكن يصل إليّ واللّه معي ) وأنشأ يحدثهما حديث ركانة والذي فعله به والذي أراه فعجبا من ذلك وقالا : يا رسول اللّه عرفت ركانة فلا والذي بعثك بالحق ما نعلم إنه وضع جنبيه إنسان قط ، فقال ( عليه السلام ) : ( إني دعوت ربي عز وجل فأعانني عليه ، وإن ربي قال خذ عشرة لك وبقوة عشرة ) .
( ) قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَىْءٍ حَتَّى تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُم
(4/94)

" صفحة رقم 95 "
ْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِىإِسْرَاءِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِىإِسْرَاءِيلَ اعْبُدُواْ اللَّهَ رَبُّى وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَاهٍ إِلاَّ إِلَاهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الاَْيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السَّبِيلِ ( 2
المائدة : ( 68 ) قل يا أهل . . . . .
) قل يا أهل الكتاب لستم على شيء ( من الدين ) حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيراً منهم ما أنزل إليك ( يا محمد ) من ربك طغياناً وكفراً ( حيث أمرهم بالقرآن مع قيام الدلالة والحجة عليهم ) فلا تأس ( فلا تحزن ) على القوم الكافرين }
المائدة : ( 69 ) إن الذين آمنوا . . . . .
) إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى ( كان حقه والصابئين وإنما رفعه عطفاً على الذين قبل دخول أنّ فلا يحدث معنى كما تقول : زيد قائم ، وأن زيداً قائم معناها واحد ، وقرأ الحسن إن اللّه وملائكته برفع التاء ) والنصارى من آمن باللّه واليوم الآخر وعمل صالحاً ( الآية .
المائدة : ( 70 - 71 ) لقد أخذنا ميثاق . . . . .
) لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل ( في التوحيد والنبوّة ) وأرسلنا إليهم رسلا ( إلى قوله ) وحسبوا أن لا تكون فتنة ( وظنوا أن لا يكون ابتلاء واختبار . ورفع نونه بعض قرّاء العراق فمن نصب فعلى ترك المبالاة بلا ومن رفع فعلى معنى لا يكون ) فعموا ( ، عن الحسن : فلم يبصروه ) وصموا ( عنه فلم يسمعونه وكان ذلك عقوبتهم ) ثم تاب اللّه عليهم ثم عموا وصموا ( بعد ذلك بخذلانهم أياً منهم في قتال ) كثير منهم ( وهم كفار أهل الكتاب ) واللّه بصير بما يعملون }
المائدة : ( 72 ) لقد كفر الذين . . . . .
) لقد كفر الذين قالوا إن اللّه هو المسيح ابن مريم ( يعني الملكانية ) وقال المسيح يا بني إسرائيل ( الآية .
المائدة : ( 73 - 74 ) لقد كفر الذين . . . . .
) لقد كفر الذين قالوا إن اللّه ثالث ثلاثة ( هي النسطورية وذلك إنهم قالوا أباً وإبناً وروحاً قدسياً ) وما من إله إلاّ إله واحد ( إلى قوله ) ليمسّنّ ( لتصيبن ) الذين كفروا منهم ( خص الكفر
(4/95)

" صفحة رقم 96 "
لعلمه أن بعضهم ( لهم ) ) عذاب أليم أفلا يتوبون ( الآية .
المائدة : ( 75 ) ما المسيح ابن . . . . .
) ما المسيح ابن مريم ( إلى قوله ) وأمّه صديقة ( الآية ، تصدق ، وقال مقاتل : إنما سميت صديقة لأنها لما أتاها جبرئيل ، وهي في منجم وقال لها : إنما أنا رسول ربك صدّقته ) كانا يأكلان الطعام ( في هذا المعنى هذا عبارة عن الحدث ومن أكل وأحدث لا يستحق أن يكون إلهاً ) أنظر ( يا محمد ) كيف نبين ( إلى قوله ) أنى يؤفكون ( ( يرتدون ) عن الحق
المائدة : ( 76 - 77 ) قل أتعبدون من . . . . .
) قل أتعبدون ( الآية ) قل يا أهل الكتاب ( يعني النصارى ) لا تغلوا في دينكم غير الحق ( لا تجاوزوا الحق إلى غيره ) ولا تتبعوا ( الآية .
( ) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِىإِسْرَاءِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذالِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ وَلَاكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ( 2
المائدة : ( 78 ) لعن الذين كفروا . . . . .
) لعن الذين كفروا من بني إسرائيل ( أي عذبوا بالمسيح فقال ) على لسان داود ( .
يعني أهل أيلة لما اعتدوا في السبت ، قال داود : اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة ) وعيسى ابن مريم ( يعني كفّار أصحاب المائدة لمّا لم يؤمنوا ، قال عيسى : اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا خنازير ) ذلك بما عصوا ( الآية
المائدة : ( 79 ) كانوا لا يتناهون . . . . .
) كانوا لا يتناهون ( أي لا ينهي بعضهم بعضاً ) عن منكر فعلوه ( الآية .
الحسن بن محمد بن الحسين ، موسى بن محمد بن علي بن عبد اللّه ، عبد اللّه بن سنان ، عبد العزيز بن الخطاب ، خالد بن عبد اللّه ، العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرّة عن أبي عبيدة عن ابن مسعود ، الحسن بن محمد ، أحمد بن محمد بن إسحاق ، أبو علي الموصلي ، وهب بن منبه ، خالد عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرّة عن أبي عبيدة عن ابن مسعود قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن من كان قبلكم من بني إسرائيل إذا عمل العامل منهم الخطيئة نهاه الناهي تعذيراً فإذا كان الغد جالسه وواكله وشاربه وكأنه لم يره على خطيئة بالأمس ، فلما رأى اللّه ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض وجعل منهم القردة والخنازير ولعنه على لسان داود وعيسى ابن مريم ، وذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) .
( والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهنّ عن المنكر ، ولتأخذن على يد المسيء
(4/96)

" صفحة رقم 97 "
ولتأطرنه على الحق إطراً أو ليضربن اللّه بقلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم ) .
المائدة : ( 80 ) ترى كثيرا منهم . . . . .
) ترى كثيراً منهم ( أي من اليهود ، كعب بن الأشرف وأصحابه ) يتولون الذين كفروا ( منكر في منكر حين خرجوا إليها يعينون على محمد ( عليه السلام ) ) لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن سخط اللّه ( عذاب اللّه ) عليهم وفي العذاب هم خالدون (
المائدة : ( 81 ) ولو كانوا يؤمنون . . . . .
) ولو كانوا يؤمنون باللّه والنبي ( محمد ) وما أنزل إليه ( من القرآن ) وما اتّخذوهم أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون ( يعني من لم يسلم .
2 ( ) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذالِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىأَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَآءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذاَلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَآ أُوْلَائِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِىأَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِىأَيْمَانِكُمْ وَلَاكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الاَْيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذالِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذالِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( 2
المائدة : ( 82 ) لتجدن أشد الناس . . . . .
) لتجدّن ( يا محمد ) أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود ( يهود أهل المدينة .
أخبرنا الحسن بن محمد بن الحسين ، أبو جعفر علي بن محمد بن أحمد الصفار الهمداني ، أبو علي عبد اللّه بن علي بن الزبير النخعي ، إسماعيل بن بهرام الأشجعي ، عباد ابن العوّام عن يحيى بن عبد اللّه عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ما خلا يهوديان بمسلم إلاّ همّا بقتله ) .
) والذين أشركوا ( مشركي العرب ) ولتجدّن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ( لم يرد به جميع النصارى مع ما فيهم من عداوة المسلمين وتخريب بلادهم وهدم
(4/97)

" صفحة رقم 98 "
مساجدهم وقتلهم وأسرهم وإحراق مصاحفهم لا ولا كرامة لهم وإنما نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه .
قال المفسرون : أئتمرت قريش بأن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثبت كل قبيلة على محمد فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم فأفتن ما أفتن وعصم اللّه منهم من شاء ومنع اللّه رسوله بعمّه أبي طالب فلما رأى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بعد بالجهاد أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة وقال : ( إن بها ملكاً صالحاً لا يظلم ولا يُظلم عنده أحد ) .
فاخرجوا إليه حتى يجعل اللّه للمسلمين فرجاً وأراد به النجاشي وإسمه أصحمة وهو الحبشة عطية فإنما النجاشي إسم الملك كقوله قيصر وكسرى فخرج إليها سراً عشرون رجلاً وأربع نسوة وهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) والزبير بن العوام وابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو ومصعب بن عمير وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية وعثمان بن مضعون وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي خيثمة وحاطب بن عمرو وسهيل بن البيضاء فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وهذه الهجرة الأولى ، ثم خرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون إليها وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين إثنين وثمانين رجلاً سوى النساء والصبيان فلما علمت قريش بذلك وجّهوا عمرو بن العاص وصاحبه بالهدايا إلى النجاشي وإلى بطارقته ليردهم إليه فيعصمهم اللّه وقد ذكرت هذه القصة في سورة آل عمران ، فلما انصرف عمرو وأقام المسلمون هناك بخير دار وأحسن جوار إلى أن هاجر رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) هجرته إلى المدينة وذلك في سنة ستة من الهجرة كتب رسول اللّه ( عليه السلام ) إلى النجاشي على يدي عمرو بن أمية الضمري يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان وكانت هاجرت مع زوجها فمات زوجها وبعث إليه من عنده من المسلمين .
فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة جارية لها يقال لها أبرهة فزوجها حطيئة رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) إياها وأعطتها أوضاحاً لها سروراً بذلك وأمر بها أن يوكل من زوجها فوكلت خالد بن الوليد بن العاص حتى أنكحها على صداق أربعمائة دينار وكان الخاطب لرسول اللّه النجاشي فدعا النجاشي بأربعمائة دينار وأخذها إلى أم حبيبة على يدي أبرهة فلما جاءتها بها أعطتها منها خمسين ديناراً فقالت أبرهة : قد أمرني الملك أن لا آخذ منك شيئاً فإن أرد الذي أخذت منك وأنا صاحبة دهن الملك وثيابه وقد صدقت محمداً رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وآمنت به وحاجتي إليك أن تقرأه منّي السلام قالت : نعم ، وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر
(4/98)

" صفحة رقم 99 "
وكان رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يراه عليها وعندها فلا ينكره ، فقالت : أم حبيب : فخرجنا في سفينتين وبعث النجاشي معنا الملاحين حتى قدمنا الجار ثم ركبنا الظهر إلى المدينة فوجدنا رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) بخيبر فخرج من خرج إليه وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فدخلت عليه وكان يسألني عن النجاشي وقرأت عليه من أبرهة السلام فرد رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( لا أدري أنا بفتح خيبر أشد أم بقدوم جعفر ) وأنزل اللّه تعالى ) عسى اللّه أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتهم منهم مودة ( يعني أبا سفيان مودة بتزويج أم حبيبة ( فقيل لأبي سفيان وهو يومئذ مشرك يحارب النبي ( صلى الله عليه وسلم ) إنّ محمّداً قد نكح ابنتك قال : ذاك الفحل لا يقرع أنفه ) .
وبعث النجاشي بعد قدوم جعفر إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) إبنه أرها بن أصحمة مع ستين رجلاً من الحبشة ، وكتب إليه : يا رسول اللّه أشهد أنّك رسول اللّه صادقاً مصدقاً وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت للّه رب العالمين ، وقد بعثت إليك أرها وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت والسلام عليكم يا رسول اللّه .
فركبوا سفينة مع جعفر وأصحابه ، حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا ورأى جعفر وأصحابه رسول اللّه في سبعين رجلاً عليهم ثياب الصوف منهم إثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم خيرة الحبشة الراهب وأبرهة وإدريس وأشرف وتمام ومريد وأيمن فقرأ عليهم رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) سورة يس إلى آخرها فبكوا . حين سمعوا القرآن وآمنوا وقالوا : جئتنا بما كان ينزل على عيسى ( عليه السلام ) فأنزل اللّه تعالى فيهم ) لتجدن أشد الناس عداوة ( إلى قوله ) النصارى ( يعني وفد النجاشي الذين غرقوا مع جعفر بن أبي طالب وهم السبعون وكانوا أصحاب الصوامع .
وقال مقاتل والكلبي : كانوا أربعين رجلاً إثنان وثلاثون في الحبشة وثمانية من أهل الشام .
عطاء : كانوا ثمانين رجلاً أربعون رجلا من أهل نجران من بني الحرث بن كعب وإثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية روميّون من أهل الشام .
وقال قتادة : نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من أهل الحق وكانوا لعيسى يؤمنون به وينتهون إليه فلما بعث اللّه محمداً صدّقوه وآمنوا به فأثنى اللّه عليهم ذلك ) بأن منهم قسيسين ( ، أي علماء .
قال قطرب : القس والقسيس العالم بلغة الروم .
وقال ورقة :
(4/99)

" صفحة رقم 100 "
بما خبرتنا من قول قس
من الرهبان أكره أن يعوجا
وقال عروة بن الزبير حرّفت النصارى الإنجيل فأدخلوا فيه ما ليس منه وكان الذي غيّر ذلك أربعة نفر لوقاس ومرقوس ويحنس ومتيوس ، وبقي قيس على الحق وعلى الإستقامة والإقتصاد فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس .
عبد اللّه بن يوسف بن أحمد ، محمد بن حامد بن محمد التميمي الحسن بن الهيثم السمري ، عبد اللّه بن محمد ، يحيى بن الحمامي ، نصير عن زياد الطائي عن الصلت الدهان عن ( حامية ) بن رئاب عن سلمان قال : قرأت على رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ذلك بإن منهم قسيسين ورهباناً فاقرأ في ذلك بأن منهم صديقين ورهباناً والرهبان العبّاد وهم أصحاب الصوامع وأخذهم راهب مثل فارس وفرسان ، وراكب وركبان ، وقد يكون واحداً وجمعه رهابين ، مثل قربان وقرابين ، وجردان وجرادين ، وأنشد في الواحد :
لو كلمت رهبان دير في القلل
لانحدر الرهبان يسعى فنزل
وأنشد في الجمع :
رهبان مدين لو رأوك تنزلوا
العصم من شعف العقول الغادر
وهو من قول القائل : رهب اللّه أي خافه ، يرهبه رهبة ورهباً ورهباناً ) وأنهم لا يستكبرون ( لا يتكبرون عن الإيمان والإذعان للحق
المائدة : ( 83 ) وإذا سمعوا ما . . . . .
) وإذا سمعوا ما أُنزِل إلى الرّسُول ( محمد ( صلى الله عليه وسلم ) ) ترى أعيُنَهم تفيضُ من الدّمع مما عرفوا من الحقِ ( .
أبو عثمان بن أبي بكر الزعفراني ، شيخي ، أبو جعفر بن أبي خالد عبدالرحمن بن عمر ابن يزيد ، ابن أبي عدي ، سعيد عن عمرو بن مرّة قال : قدم على أبي بكر الصديق وفد من اليمن . فقالوا : إقرأ علينا القرآن ، فقرأ عليهم القرآن فجعلوا يبكون فقال أبو بكر : كذا كنا حتى قست القلوب ، وكان أبو بكر لا يملك دمعة حين يقرأ القرآن ) يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين ( يعني أمة محمد ( عليه السلام ) دليله قوله ) لتكونوا شهداء على الناس 2 )
المائدة : ( 84 ) وما لنا لا . . . . .
) وما لنا لا نؤمن باللّه ( إلى قوله ) الصالحين ( أي في أمة محمد ( عليه السلام ) دليله قوله ) يرثها عبادي الصالحون (
المائدة : ( 85 - 86 ) فأثابهم الله بما . . . . .
) فأثابهم اللّه ( جازاهم اللّه ) بما قالوا ( إلى قوله ) خالدين فيها أبداً ( على قولهم بالإخلاص بدليل قوله ) وذلك جزاء المحسنين والذين كفروا . ) ^ . . ( الآية
(4/100)

" صفحة رقم 101 "
المائدة : ( 87 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا لا تحرمّوا ( الآية .
قال المفسرون : جلس رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً فذكّر الناس يوم القيامة ولم يزدهم على التخويف فرقّ الناس وبكوا فاجتمع عشرة من أصحابه في بيت عثمان بن مظعون الجمحي وهم : أبو بكر وعلي ، وإبن مسعود ، وعبد اللّه بن عمر وأبو ذر الغفاري ، وسالم مولى أبي حذيفة ، والمقداد بن الأسود ، وسلمان الفارسي ، ومعقل بن مقرن ، واتفقوا على أن يصوموا النهار ويصوموا الليل ولا يناموا على فرشهم ، ولا يأكلوا اللحم والودك ، ولا يقربوا النساء والطيب ، ويلبسوا المسموح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض فيذهبوا ويجبوا مذاكيرهم فبلغ ذلك رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فأتى دار عثمان بن مظعون ، فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكم بنت أبي أمية : أين الحولاء وكانت عطارة : أحقّ ما بلغني عن زوجك وأصحابه ؟ فكرهت أن تكذب رسول اللّه وكرهت أن تبدي على زوجها ، فقالت : يا رسول اللّه إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فلما دخل عثمان أخبرته بذلك ، فأتى رسول اللّه هو وأصحابه .
فقال لهم : ( ألم أنبأ إنكم إتفقتم على كذا وكذا ) ، قالوا : بلى يا رسول اللّه وما أردنا إلاّ الخير ، فقال ( عليه السلام ) : إني لم أؤمر بذلك ثم قال : ( إن لأنفسكم عليكم حقاً صوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء ومن رغب عن سنتي فليس مني ) .
ثم جمع الناس وخاطبهم ثم قال : ( ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما أني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء واتخاد الصوامع وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد إعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقيم لكم فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد شدّدوا على أنفسهم فشدّد اللّه عليهم باطلاً بإقدامهم في الديرات والصوامع فأنزل اللّه تعالى هذه الآية ) .
وروى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه قال : ضاف عبد اللّه بن رواحة ضيفاً فانقلب ابن رواحة ولم يتعشّ فقال لزوجته : ما عشيتيه ؟ فقالت : كان الطعام قليلاً فانتظرتك ، فقال : جستِ ضيفي من أجلي ؟ طعامك عليّ حرام فقالت : وهو عليّ حرام إن لم تأكله . وقال الضيف : وهو حرام إن ذقته إن لم تأكلوه ، فلما رأى ذلك ابن رواحة ، قال : قرّبي طعامك كلوا بسم اللّه وجاء إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وأخبره بذلك ، فقال ( عليه السلام ) : أحسنت ونزلت هذه الآية .
روى عكرمة عن ابن عباس : إن رجلاً أتى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ، فقال : يا رسول اللّه إني
(4/101)

" صفحة رقم 102 "
صمت من اللحم فأشريت ، وأخذتني شهوة فحرمت اللحم ، فأنزل اللّه ) يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحلّ اللّه لكم ( يعني اللذات التي تشتهيها النفوس وتميل إليها القلوب ، وما أحل اللّه لكم من المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة ) ولا تعتدوا ( ولا تجاوزوا الحلال إلى الحرام .
وقيل : هو جبّ المذاكير وقطع آلة التناسل
المائدة : ( 88 ) وكلوا مما رزقكم . . . . .
) وكلوا مما رزقكم اللّه حلالاً طيباً ( قال عبد اللّه بن المبارك : الحلال ماأخذته من وجهه والطيب ما غذا ونما فأما الجوامد والطين والتراب ، وما لا يغذي فمتروك إلاّ على جهة للتداوي ) واتقوا اللّه الذي أنتم به مؤمنون ( .
روي عن عائشة وأبي موسى الأشعري أن النبي ( عليه السلام ) كان يأكل الفالوذج والدجاج وكان يعجبه الحلواء والعسل وقال : ( إن المؤمن حلو يحب الحلاوة ) . وقال : ( في بطن المؤمن زاوية لا يملأها إلاّ الحلواء ) .
وروي أن الحسن كان يأكل الفالوذج فدخل عليه فرقد السبخي فقال : يا فرقد ما تقول في هذا ؟ فقال فرقد : لا آكله فلا أحب أكله فأقبل الحسن على غيره كالمتعجب وقال : يا هذا أتحب لباب البر مع سمن البقر ؟ هل يعيبه مسلم .
وجاء رجل إلى الحسن فقال : إن لي جار لا يأكل الفالوذ ، قال : ولم ؟ قال : يقول : لا يروي شكره . قال الحسن : ويشرب الماء البارد ؟ قال : نعم ، قال : جارك جاهل إن نعمة اللّه عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذ .
قال ابن عباس : لما نزلت ) لا تحرموا طيبات ما أحل اللّه لكم ( الآيتين ، قالوا : يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها ؟ وكانوا حلفوا على ما عليه اتّفقوا فأنزل اللّه تعالى
المائدة : ( 89 ) لا يؤاخذكم الله . . . . .
) لا يؤاخذكم اللّه باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ( قرأ أهل الحجاز والبصرة ) عقّدتم ( مشدداً بمعنى وكّدتم ، واختار أبو حاتم فقرأها أهل الكوفة بالتخفيف واختاره أبو عبيدة . ( والتشديد التكرير مرّة بعد مرّة ، . . . . . . ) أمن أن يلزم من قرائتك . ( الفراء ) : أن لا يوجب الكفارة عليه في اليمين الواحدة متى يرددها مراراً وهذا خلاف الإجماع . وقرأ أهل الشام : عاقدتم بالألف ، يكون من واحد مثل : جاياك اللّه ونحوها .
وقرأ الأعمش بما ) عقدت الأيمان ( جعل الفعل الإتيان .
ومعنى الآية ما قصدتم وتعمدتم وأردتم ونويتم كقوله ) بما كسبت قلوبكم (
.
(4/102)

" صفحة رقم 103 "
) فكفّارته ( أي كفّارة ما عقدتم من الأيمان إذا حلفتم ) إطعام عشرة مساكين ( واختلفوا في قدرها .
فقال الشافعي : مدّ وضوء النبي ( عليه السلام ) والمدّ رطل وثلث ، وكذلك في جميع الكفارات ، وهو قول ثابت وابن عباس وابن عمر وابن المسيب والقاسم وسالم وسليمان بن يسار وعطاء والحسن واحتجوا بها .
أبو بكر الجورقي ، أبو العباس بن منصور الفيروز آبادي ، أحمد بن حفص حدّثني أبي حدّثني إبراهيم بن طهمان عن منصور بن المعتمر عن الزهري عن حمد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال : رجل أتى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : إني وقعت على أهلي وذلك في رمضان ، فأمره أن يعتق رقبة ، قال : ماأجدها ، قال : ( فصم شهرين متتابعين ) قال : ما أطيقه ، قال : ( فأطعم ستين مسكيناً ) ، قال : ما أجد ، قال : فأتى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) بكيل فيه خمسة عشر صاعاً من تمر ، قال : ( خذ هذا فأطعمه ) ، قال : والذي بعثك بالحق ما بين ) لا بتيها أدلّ شيء هو منها ( فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( خذه في أطعمة أهلك ) ( . . . . . . . . . ) وخمسة عشر صاعاً إذا قسم على ستين مسكيناً خص كل مسكين له مد .
وقال أبو حنيفة : إن أطعم من الحنطة نصف صاع وإن أطعم من الشعير والتمر والزيت ونحوها فإنه يعطى صاعاً كاملاً لا يجزي أقل من ذلك ، وقول عمر بن الخطاب وإبنه والنخعي والشعبي وإبن جبير ومجاهد والحكم والضحّاك واحتجوا بحديث النبي ( صلى الله عليه وسلم ) أنه أُتي بوسق صاعاً فأعطى رجلاً وجبت عليه كفّارة ، وقال : ( أعطه لستين مسكيناً ) .
وقال علي بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه ومحمد بن كعب : غداء وعشاء ، وعند الشافعي لا يجوز أحد القيم في الزكوات والكفارات ، وأجاز أبو حنيفة فاعتبر الشافعي النص . وأبو حنيفة المنفعة والمصلحة ، وعند الشافعي لا يجوز أن يعطى أقل من عشرة مساكين وأبو حنيفة إن أعطى مسكيناً في عشرة أيام جاز ، وقال الشافعي : لا يجوز أن يعطي الكفارة إلاّ حرّاً مسلماً محتاجاً ولا يجوز أن يعطى العبيد والكفار ولا الأغنياء .
فقال أبو حنيفة : إن أعطى الكفارة أهل الذمة جاز فأما الزكاة فلا يجوز أن يعطى أهل الذمة بلا خلاف ، ودليل الشافعي قوله ) ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ( والكافر من أسفه السفهاء قال اللّه ) ألا إنهم هم السفهاء ( وحجة أبي حنيفة قوله ) ويطعمون الطعام على
(4/103)

" صفحة رقم 104 "
حبه ( الآية . ( والأسير ) لا يكون إلاّ من الكافرين ) من أوسط ما تطعمون أهليكم ( أي من خير قوت عيالكم فلو إنه يقتات الحنطة لم يخوله أن يعطى الشعير .
وقرأ الصادق : أهاليكم ) وكسوتهم ( قرأه العامة : بكسر الكاف ، وقرأ السلمي نصبه . وهما لغتان مثل إسوة وأسوة ، ورِشوة ورَشوة .
وقرأ ابن جبير أو كاسوتهم يعني كاسوة أهلك في الطعام والأسوة الميل والتمايل أي يطعمون المساكين كما يطعمون أهليكم ، واختلف العلماء في الكسوة التي تجري في الكفارات وقال قوم : هي ثوب واحد مما يقع عليه إسم الكسوة أزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو كساء أو عمامة ونحوها . وهو قول ابن عباس والحكم والحسن ومجاهد وعطاء والباقر وإليه ذهب الشافعي . وقال آخرون : ثوب جامع لا تجزي فيها العمامة ، وهو مذهب النخعي وأبي حنيفة وقال ( مالك كل ) ما يجوز فيه الصلاة .
وقال ابن المسيب والضحّاك : لكل مسكين ثوبان ، واحتجا بأن أبا موسى الأشعري كان بذمته كفارة فكسا عشرة مساكين لكل واحد ثوبين ظهرانياً ومعقداً من معقد البحرين .
وقال شهر بن حوشب : ثوب ثمنه خمسة دراهم ) أو تحرير رقبة ( .
قال الشافعي : لا يجوز في كفارة واجبة إلاّ رقبة مؤمنة ، مثل كفارة القتل واليمين والظهار والجماع في نهار رمضان .
والسدي ( والوصيفة ) ووافقه أبو حنيفة في كفارة القتل وأجاز في غيرها الرقبة الكافرة ، ودليل الشافعي أن اللّه عز وجل قاله في كفارة القتل ) فتحرير رقبة مؤمنة ( فقيّد وأطلق في سائرها والمطلق محمول على المقيّد واحتج أيضاً بما روى : إن رجلاً جاء إلى النبي ( عليه السلام ) فقال : أوجبت يا رسول اللّه ، فقال : إعتق رقبة فجاء برقبة أعجمية إلى النبي ( عليه السلام ) ، فقال لها رسول اللّه : من ربك ؟ ففهمها اللّه فأشارت إنه واحد ، فقال : من أنا ؟ فأشارت إلى السماء أي إنك رسول اللّه ، فقال ( عليه السلام ) : ( اعتقها فإنها مؤمنة ) وأوجبت لفظة مطلقة ( يحتمله ) .
وروى أبو سلمة عن الشديد أن أمه أوصت أن يعتق عنها رقبة فجاء رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ، وقال : إن أمي أوصت أن يعتق عنها رقبة وعندي جارية نوبية سوداء أفأعتقها ؟ قال : أدع بها فجيء بها ، فقال : من ربك ؟ قالت : اللّه ، قال : من أنا ، قالت : رسول اللّه ، قال : أعتقها فإنها مؤمنة ، واتبع أبو حنيفة ظاهر الآية
(4/104)

" صفحة رقم 105 "
ويجوز في الكفارة من الرقاب الصغير والكبير والذكر والأنثى ، وأما إذا كان معيوباً فاعلم أن العيب عيبان عيب يمنعه من العمل . فلا يجوز مثل الأعمى ، والأشل والمقعد والمجنون المطبق والأخرس . فإن كان عيباً خفيفاً لا يمنعه من العمل فيجوز مثل الأجدع والمقطوع الخنصر ونحوها وهذا كما يقول في الكسوة . فإن كان الثوب لبيساً قد بلي وانقطع منه جل المنفعة لم يجز وإن لبس خفيفاً لم ينقطع منه جل المنفعة . والمكفّر بالخيار ، مخير بين هذه الأشياء لأن اللّه ذكره بلفظ التخيير وهو أو ) فمن لم يجد ( واختلف الفقهاء في صفة من لم يجد متى يجوز له الصيام .
فقال أبو حنيفة : إذا كان عندهم ( مائتا ) درهم وعشرون مثقالاً أو أقل ما يجب فيه الزكاة لم يجز له الصيام ، فإن كان أقل من ذلك فهو غير واجد وجاز له الصوم .
وقال متأخرو الفقهاء : إذا كان له كفاية من المال يتصرف فيها لمعاشه . فإن فضل عن رأس ماله مقدار ما يكفر منه بالإطعام فليس له أن يصوم وإن لم يفضل عن رأس ماله مقدار ما يطعم فله أن يصوم .
وقال الشافعي : إذا كان عنده قوته وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالطعام وإن لم يكن عنده هذا القدر فله الصيام .
وقال بعضهم : إذا ملك ما يمكنه الإطعام فليس له الصيام وإن لم يفضل له من الكفاية شيء . وهو قول ابن جبير والحسن قالا : إذا كان عنده درهمان وثلاثة فهو واحد وإن لم يجد شيئاً من هذا ) فصيام ( أي فعليه أي فكفارته صيام ) ثلاثة أيام ( واختلفوا في كيفية الصيام .
فللشافعي فيه قولان ، أحدهما : إنها متتابعة وإن فرده لم يجز ، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري واختيار المزني قياساً على الصوم في كفارة الظهار واعتباراً بقراءة عبد اللّه وأُبي ، فصيام ثلاثة أيام متتابعان وهذا قول ابن عباس وقتادة . والقول الثاني : إنه بالخيار إن شاء تابع وإن يشأ فرق والمتابعة أحسن وأفضل وهو مذهب مالك .
) ذلك ( الذي ذكرت ) كفارة أيمانكم إذا حلفتم ( قسمتم كقوله ) فعدة من أيام أخر ( وقوله ) ففدية من صيام ( يعني ) فأقصر وأحلق ( ) واحفظواأيمانكم ( فلا تحلفوا فإذا حلفتم فلا تحزنون ) كذلك يبين اللّه لكم آيته لعلكم تشكرون (
.
(4/105)

" صفحة رقم 106 "
2 ( ) يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالاَْنصَابُ وَالاَْزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَآءَ فِى الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَواةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَءَامَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَىْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذالِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذالِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِىإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( 2
المائدة : ( 90 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر ( وقد مرّ تفسيره ، فإن جمعه تحريمها وسنذكر أخباراً في الوعيد الوارد في شربها واتخاذها وبيعها وباللّه التوفيق .
عن الشيخ أبو عمرو أحمد بن أبي الفراني ، الحاكم أبو الفضل محمد بن أحمد بن عبد اللّه المروزي حدثني عبد اللّه بن يحيى حدثني الحسين بن المبارك حدثني عتبة بن الوليد عن عبد اللّه ابن حبيب عن الزهري عن ابن المسيب عن عثمان بن عفان قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( إن اللّه لا يجمع الخمر والإيمان في إمرىء أبداً ) .
أحمد بن أبي ، عمران بن موسى ، ومارود بن بطن ، عثمان بن أبي شيبة ، محمد بن أبي سلمى الأصفهاني عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( مدمن الخمر كعابد الوثن ) .
أحمد بن أُبي ، محمد بن يعقوب ، الربيع بن سليمان ، الشافعي مالك عن نافع عن إبن عمر إن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( من شرب الخمر في الدنيا ، ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة ) .
أحمد بن أُبي ، أبو عبد اللّه بن محمد بن موسى الرازي ، الحرث بن أبي أسامة البغدادي ، داود ابن المحسن الواسطي ، ميسر بن عبد ربه عن أبي عائشة السعدي عن يزيد بن عمر بن عبد
(4/106)

" صفحة رقم 107 "
العزيز عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة وابن عباس جميعاً قالا : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من شرب الخمر في الدنيا سقاه اللّه من سم الأساود وسم العقارب ، من شربها تساقط لحم وجهه في الإناء قبل أن يشربها فإذا شربها ( تفسخ لحمه ) ينادي به أهل الجمع ثم يؤمر به إلى النار إلا وشاربها وعاصرها ومعتصرها وبايعها ومبتاعها وحاملها والمحمول إليه وكل فيها سواء في إثمها وحاد بها ، ولا يقبل اللّه منه صلاة ولا صياماً ولا حجاً ولا عمرة حتى يتوب فإن مات قبل أن يتوب منها كان حقاً على اللّه يعاقبه فيه بكل جرعة شربها في الدنيا شربة من صديد جهنم ألا وكل مسكر خمر وكل خمر حرام ) .
أحمد بن أُبي ، أبو العباس الأصم ، أحمد بن إسحاق الصنعاني ، أبو نعيم ، عبد العزيز بن محمد ابن عبد العزيز عن عبد الرحمن بن عبد اللّه الغافقي من أهل مصر عن ابن عمر أنه قال : أشهد أني سمعت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يقول : ( لعن اللّه الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمول إليه وأكل ثمنها ) .
أحمد بن أُبي ، أبو العباس الأصم ، محمد بن إسحاق بن جعفر الصنعاني ، نعيم بن ماد ، عبد العزيز بن محمد عن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( إجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر ولا يموتن أحدكم وعليه دين فإنه ليس هناك دينار ولا درهم وإنما يقتسمون هناك الحسنات والسيئات واحد بيمينه وواحد بشماله ) .
أبو بكر أحمد بن محمد القطان ، محمد بن الحسين بن محمد الدهقان ، عثمان بن سعيد الدارمي ، الربيع بن الروح أبو توبة الحلبي ، محمد بن الحرمي عن حكم بن عيينة عن محمد بن ( المنكدر ) عن علي ابن أبي طالب ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( من شرب الخمر بعد أن حرمها اللّه على لساني فليس له أن يزوج إذا خطب ولا يصدق إذا حدث ولا يشفع إذا شفع ولا يؤتمن على أمانة فمن أئتمنه على أمانة فاستهلكها فحق على اللّه عز وجل أن لا يخلف عليه ) .
أنشدنا أبو القاسم الحبيبي ، أنشدنا أبو العباس عبد اللّه بن محمد الجبّائي ، أنشدنا رضوان ابن أحمد الصيدلاني شعراً :
(4/107)

" صفحة رقم 108 "
تركت النبيذ لأهل النبيذ
وصرت حليفاً لما عابه
شراباً يدنس عرض الفتى
ويفتح للشر أبوابه
) والميسر والأنصاب ( أي الأوثان ، سميت بذلك لأنهم كانوا ينصبونها ، واحدها : نصب بفتح النون وجزم الصاد ، ونصب منهم النون مثقلاً ومخففاً ) والأزلام ( يعني القداح التي كانوا يقتسمون بها ) رجس من عمل الشيطان ( تزينه ) فاجتنبوه ( رد الكناية إلى الرجس ) لعلكم تفلحون }
المائدة : ( 91 ) إنما يريد الشيطان . . . . .
) إنما يريد الشيطان أن يوقع ( يلقي ) بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ( كما فعل الأنصاري الذي ( شج ) سعد بن أبي وقاص ( بلحي ) الجمل ) ويصدكم عن ذكر اللّه وعن الصلاة ( كما فعل بأضياف عبد الرحمن بن عوف ) فهل أنتم منتهون ( أي إنتهوا لفظه إستفهام ومعناه أمر كقوله ) فهل أنتم شاكرون (
المائدة : ( 92 ) وأطيعوا الله وأطيعوا . . . . .
) وأطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول واحذروا ( المحارم والملاهي ) فإن توليتم ( . عن ذلك ) فاعلموا إنما على رسولنا البلاغ المبين ( فإما التوفيق والخذلان ، والثواب والعقاب فإلى اللّه سبحانه ، فلما نزل تحريم الخمر والميسر ، قالت الصحابة : يا رسول اللّه ما تقول في إخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون مال الميسر فأنزل اللّه
المائدة : ( 93 ) ليس على الذين . . . . .
) ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ( شربوا الخمر نظيره قوله ) ومن لم يطعمه فإنه مني ( وفيما أكلوا من الميسر ذلك ذكر المنعم لأنه لفظ جامع ) إذا ما اتقوا ( الشهوات ) وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا ( الخمر والميسر بعد تحريمهما ) ثم اتقوا ( حرم اللّه عليهم كله ) وأحسنوا واللّه يحب المحسنين ( .
الحسين بن محمد بن فنجويه ، عمر بن الخطاب ، محمد بن إسحاق الممسوحي ، أبو بكر ابن أبي شيبة ، محمد بن بكر عن سعد بن عوف عن محمد بن حاطب قال : ذكر عثمان قال الحسن بن علي : هذا أمير المؤمنين يأتيكم خبركم فجاء علي فقال : إن عثمان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا واللّه يحب المحسنين
المائدة : ( 94 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم اللّه بشيء من الصيد ( الآية ، نزلت عام الحديبية إبتلاهم اللّه بالصيد فكان الوحش يغشى رجالهم كثير وهم محرمون فبينما هم يسيرون بين مكة والمدينة إذ عرض اليهم حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر بن عمرو فطعنه برمحه فقتله فقيل له : إنك قتلت الصيد وأنت حرم فأتى رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فسأله عن ذلك فأنزل اللّه ) يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم اللّه ( ليختبرنكم اللّه ) بشيء من الصيد ( وإنما بعض فقال بشيء لأنه إبتلاهم بصيد البرّ خاصة ) تناله أيديكم ( وهي الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفر من الصيد الوحش ) ورماحكم ( وهي الوحش وكبار الصيد ) ليعلم اللّه ( ليرى اللّه من يخافه بالغيب ولم يره ) من يخافه بالغيب ( فلا يصطاد في حال الإحرام ) فمن اعتدى بعد ذلك ( أي صاده بعد تحريمه فاستحلّه ) فله عذاب أليم }
المائدة : ( 95 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها
(4/108)

" صفحة رقم 109 "
الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ( أي محرمون بالحج والعمرة وهو جمع إحرام يقال رجل حرام وامرأة حرام ) ومن قتله منكم متعمداً ( إختلفوا في صيغة العمد الموجب للجزاء والكفارة في قتل الصيد ، قال : حرموا العمد في قتل الصيد مع نسيانه لإحرامه في حال قتله فأما إذا قتله عمداً وهو ذاكراً لإحرامه فلا حكم عليه وأمره إلى اللّه لأنه أعظم من أن يكون له كفارة .
قرأ مجاهد والحسن وقال آخرون : هو العمد من يحرم بقتل الصيد ذاكر الحرمة فيحكم عليه في العمد والخطأ وهو إختيار الشافعي وأكثر الفقهاء .
وقال الزهري : نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في الخطأ .
وقال ابن عباس : إن قتله متعمداً مختاراً سئل : هل قتلت قبله شيئاً من الصيد ؟ فإن قال : نعم لم يحكم عليه وقيل له : إذهب فينتقم اللّه منك . وإن قال : لم أقتل قبله شيئاً حكم عليه فإن عاد وقتل الصيد محرماً بعد ما حكم عليه لم يحكم عليه ولكن يملأ ظهره وصدره ضرباً وجيعاً ، وكذلك حكم رسول اللّه ( عليه السلام ) في وج وهو وادي بالطائف ، وعندنا إذا عاد يحكم عليه وعليه الجمهور بذلك .
قوله : ) فجزاء مثل ما قتل من النعم ( نوّنها يعقوب وأهل الكوفة ورفعوا المثل على البدل من الجزاء ، كأنه فسّر الجزاء فقال : مثل ما قيل من النعم وأضافها الآخرون لاختلاف الإسمين ) يحكم به ( أي بالجزاء ) ذوا عدل منكم ( أي فقيهان عدلان فينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به حتى يفديه ويهديه إلى الكعبة فإن قتل نعامة فعليه بدنة فإن قتل بقرة أو إبلاً أو حماراً فعليه بقرة وإن قتل بقرة وحشية فعليه عجل إنسي وفي الضبع كبش لأنه صيد وأكله حلال .
وأما السباع فلا شيء فيها وإن قتل ضبياً فعليه شاة ، وفي الغزال والأرنب جمل ، وفي الضب واليربوع سخلة ، وفي الحمام والفواخت والقمري والدبسي وذوات الأطواق وكل ما عبث وهدر شاة ، واختلفوا في الجراد وروي عن عمر أنّه قال لكعب وقد قتل جرادتين : ما جعلت على نفسك ، قال : درهماً قال : بخ ، قال : درهم خير من مائة جرادة .
وروي عن عمر أيضاً في الجرادة تمرة .
قال ابن عباس : قبضة من طعام فإن أصاب فرخاً أو بيضاً أو شيئاً لا يبلغ بهيمة فعليه قيمته طعاماً ، وهو قول عمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر وإليه ذهب الشافعي ، وعليه جمهور أهل العلم ، قال النخعي : يقوم الصيد المقتول قيمته من الدراهم فيشتري بثمنه فداء من النعم ويهديه إلى الكعبة
(4/109)

" صفحة رقم 110 "
وروى عبد الملك بن عمير عن قبيصة بن جابر قال : خرجنا حجاجاً وكنا إذا صلينا الغداة أفسدنا رواحلنا نتماشى ونتحدث ، فبينا نحن ذات غداة إذ سنح لنا ضبي ) فابتدرناه ( فابتدرته ورميته بحجر فأصاب حشاه فركب ردعه فمات فلما قدمنا مكة سألنا عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) وكان حاجاً وكان جالساً وإلى جنبه عبد الرحمن بن عوف فسألته عن ذلك ، فقال عمر لعبد الرحمن : ما ترى ؟ فقال : عليه شاة قال : وأنا أرى ذلك . قال : إذهب فأهد شاة فخرجت إلى صاحبي فقلت : إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره ، قال : فلم ( يفجأنا ) إلاّ وعمر معه درّة فعلاني بالدرّة فقال : أتقتل في الحرم وتسفه الحكم ، قال اللّه ) يحكم به ذوا عدل منكم ( فأنا عمر وهذا عبد الرحمن .
محمد بن عبدوس عن محمد بن الحسن عن علي بن عبد العزيز عن القاسم بن علام عن أبي أمية عن أبي ( صوليه ) عن عبد الملك بن عمير : أو كفارة طعام مساكين إذا لم يكن واجداً للفدية أو لم يكن للمقتول مثل من النعم فكفارته حينئذ الإطعام . يقوّم الصيد المقتول دراهم ثم يقوّم الدراهم طعاماً فتصدق على مساكين الحرم فإن لم يجد فصيام لكل نصف صاع يوماً عند أبي حنيفة ، وقال الشافعي : لكل مدّ وعنده إنه يخير من هذه الأشياء الثلاثة فإنه ذكرها تلفظاً وهو قول مجاهد وعطاء ، واختلفوا في تقويم الطعام .
فقال الشافعي وأبو حنيفة وأكثر الفقهاء : يقوّم الصيد قيمة الأرض التي أصابه بها .
وقال الشعبي : يقوّم بسعر الأرض التي يكفر بها . قال جابر : سأل الشعبي عن محرم أصاب صيداً بخراسان . قال : يكفر بمكة بثمن مكة .
واختلفوا في الإطعام أين يُطعم ؟ .
فقال قوم : يُطعم بمكة فلا يجزي إلاّ بها ، وهذا قول عطاء وإليه ذهب الشافعي .
فأما الهدي فلا يجوز إلاّ بمكة بلا خلاف . فأما الصوم فيجوز بأي موضع صام بلا خلاف فلو أكل من لحم صيد فلا جزاء عليه إلاّ في قتله أو جرحه ولو دلّ على صيد كان مسيئاً جزاء عليه كما لو أمر بقتل مسلم لا قصاص عليه وكان مسيئاً .
واعلم أن الصيد الذي لا يجوز قتله في الحرم وفي حال الإحرام هو ما حلّ أكله .
أبو عبد اللّه الحسين بن محمد الدينوري ، أبو بكر البستي ، أبو عبد الرحمن البستي ، قتيبة ابن سعد عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( خمس ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة والكلب العقور
(4/110)

" صفحة رقم 111 "
.
وبه عن عبد الرحمن عمرو بن علي عن يحيى عن شعبة عن قتادة عن ابن المسيّب عن عائشة عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( خمس يقتلهن المحرم : الحية والفأرة والحدأة والغراب الأبقع والكلب العقور ) .
) ليذوق وبال أمره ( جزاء معصيته ) عفا اللّه عما سلف ( في الجاهلية ) ومن عاد ( في الإسلام ) فينتقم اللّه منه ( في الآخرة .
وقال ابن عباس : يملأ ظهره سوطاً حتى يموت .
السدي : عاد رجل بعد ما حكم عليه بالتحريم وأحرقه اللّه بالنار .
) والله عزيز ذو انتقام (
المائدة : ( 96 ) أحل لكم صيد . . . . .
) أُحلّ لكم صيد البحر ( على المحرم والحلال . وهو على ثلاثة أوجه : الحيتان وأجناسها وكلها حلال ، والثاني : الضفادع وأجناسها وكلها حرام . والثاني فيه قولان ، أحدهما : حلال ، والثاني : حرام ، وهو مذهب أبي حنيفة .
وقال بعضهم : كل ماكان مثاله في البر فهو حلال في البحر وما كان مثاله ) جزاء ما ( في البر فهو حرام في البحر .
فأراد بالبحر جميع المياه لقوله ) ظهر الفساد في البر والبحر ( ) وطعامه ( قال بعضهم : هو ما مات في الماء فقذفه الماء إلى الساحل ميتاً وهو قول أبي بكر وعمر وإبنه وأبي هريرة وابن عباس ، وقال بعضهم : هو المليح منه ، وهو قول ابن جبير وعكرمة والنخعي وابن المسيب وقتادة ) متاعاً لكم وللسيارة ( يعني المارة .
) وحرّم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً ( لا يجوز للمحرم أكل الصيد إذا صاد هو وصيد له بأمره فأما إذا صاده حلال بغير أمره ولا له فيجوز له بلا خلاف .
فأما إذا قتله المحرم فهل يجوز أكله أم لا ؟ .
قال الشافعي : يجوز لأنه ذكاة مسلم ، وعند أبي حنيفة لا يجوز فأحلّه محل ذكاة المجوس ، ودليل الشافعي ، أبو عبد اللّه ( الفنجوي ) ، أبو بكر السني ، النامي ، محمود بن عبد اللّه ، أبو داود ، سعيد عن عثمان بن عبد اللّه موهب سمعت عبدالله بن أبي قتادة حدث عن أبيه إنهم كانوا في مسير لهم في بعضهم ليس بمحرم ، قال : فرأيت حماراً وحشياً ، فركبت فرسي وأخذت الرمح واستعنتهم فأبوا أن يعينوني فاختلست سوطاً من بعضهم فشددت على الحمار وأخذته فأكلوا منه فأشفقوا فسئل عن ذلك النبي ( عليه السلام ) فقال : هل محرم عنيتم ؟ قالوا : لا ، قال : فكلوا .
(4/111)

" صفحة رقم 112 "
وبإسناده عن النسائي قال : ( حدّثنا ) ، قتيبة بن سعيد عن يعقوب وهو ابن عبد الرحمن بن عمرو عن المطلب عن جابر سمعت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إن صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه أو صيد لكم ) .
) واتقوا اللّه الذي إليه تحشرون (
.
) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْىَ وَالْقَلَائِدَ ذالِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاَْرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ قُل لاَّ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ ياأُوْلِى الاَْلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْءَانُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَاكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ( 2
المائدة : ( 97 ) جعل الله الكعبة . . . . .
) جعل اللّه الكعبة البيت الحرام ( . الآية .
قال ابن عباس : كانوا يتغادرون ويتقاتلون فأنزل اللّه ) جعل اللّه الكعبة ( .
قال مجاهد : سميت كعبة مربع والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة .
وقال مقاتل : سميت كعبة لانفرادها من البنيان .
قال أهل اللغة : أصلها من الخروج والإرتفاع وسمّي الكعب كعباً لخروجه من جانبي القدم ، ومنه قيل للجارية إذا قاربت البلوغ وخرجت ثدياها : قد تكعبت ، فسميت الكعبة كعبة لارتفاعها من الأرض ، وثباتها على الموضع الرفيع ، وسميت البيت الحرام لأن اللّه حرّمه وعظم حرمته .
وفي الحديث : ( مكتوب في أسفل المقام : إني أنا اللّه ذو بكة حرمتها يوم خلقت السماوات والأرض . ويوم وضعت هذين الجبلين وحففتهما بسبعة أملاك حفاً من جاءني زائراً لهذا البيت عارفاً بحقه مذعناً لي بالربوبية حرّمت جسده على النار ) .
) قياماً للناس ( أي قواماً لهم في أمر دينهم ودنياهم وصلاحاً لمعاشهم ومعادهم لما
(4/112)

" صفحة رقم 113 "
يحصل لهم من الحج والعمرة والزيارة والتجارة وما يجبى إليه من الثمرات ويظهر فيه من أنواع البركات .
فقال إبن جبير : من أتى هذا البيت يريد شيئاً للدنيا والآخرة أصابه ) والشهر الحرام ( أراد به الأشهر الحرم يأمن فيها الناس ) والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن اللّه يعلم ( الآية .
إعتُرض على هذه الآية وقيل : كيف يليق أول الآية بآخرها ؟ فالجواب أن مجاز الآية إن اللّه يعلم صلاح الناس كما يعلم ) ما في السماوات وما في الأرض ( الآية
المائدة : ( 98 - 100 ) اعلموا أن الله . . . . .
) إعلموا أن اللّه شديد العقاب ( الآيتين ) قل لا يستوي الخبيث والطيب ( يعني الحلال والحرام .
) ولو أعجبك كثرة الخبيث ( نزلت في شرح بن صبيعة وحجاج بكر بن وائل ) فاتقوا اللّه ( ولا تتعرضوا للحجاج وإن كانوا مشركين .
وقد مضت القصة في أول السورة ) يا أولي الألباب ( الآية
المائدة : ( 101 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء ( الآية ، إختلفوا في نزولها ، فروى الزهري وقتادة عن أنس وأبو صالح عن أبي هريرة قالا : سأل الناس رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) حتى ألحّوا بالمسألة فقام مغضباً خطيباً وقال : سلوني فواللّه لا تسألوني عن شيء في مقامي هذا لآتيته لكم ، فأشفق أصحاب رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) أن يكون بين يدي أمر قد مضى ، قال أنس : فجعلت لا ألتفت يميناً ولا شمالاً إلاّ وجدت رجلاً لافاً رأسه في ثوبه يبكي ، فقام إليه رجل من قريش من بني تميم يقال له عبد اللّه بن حذافة : وكان يطعن في نسبه وكان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه ، فقال : يا نبي اللّه من أبي ؟ قال : أبو حذافة بن قيس ) .
قال الزهري : فقالت أم عبد اللّه بن حذافة : ما رأيت ولداً بأعق منك قط أكنت تأمن أن تكون أمك قد فارقت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رؤس الناس .
فقال : واللّه لو ألحقني بعبد أسود للحقته ، فقام إليه رجل آخر فقال : يا رسول اللّه أين أنا ؟ قال : في النار .
فقام عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) وقبل رجل رسول اللّه وقال : رضينا باللّه ربّاً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وبالقرآن إماماً ، إنا يا رسول اللّه حديثو عهد بالجاهلية والشرك فاعف عنا عفى اللّه عنك فسكن غضبه وقال : ( أما والذي نفسي بيده لقد صورت لي الجنة والنار أنفاً في عرض هذا الحائط فلم أر كاليوم في الخير والشر ) .
وقال ابن عباس : كانوا قوم يسألون رسول اللّه ( عليه السلام ) إمتحاناً بأمره ، واستهزاءً به ، فيقول له بعضهم من أبي ؟ ويقول الآخر : أين أنا ؟ ويقول الآخر إذا خلت ناقته : أين ناقتي ؟ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية
(4/113)

" صفحة رقم 114 "
وقال علي وأبو أمامة الباهلي : خطب بنا رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) وقال : ( إن اللّه كتب عليكم الحج ) . فقام رجل من بني أسد يقال له عكاشة بن محسن فقال : أفي كل عام يا رسول اللّه ؟ فأعرض عنه حتى عاد مرتين أو ثلاثاً ، فقال ( عليه السلام ) : ( ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم ، واللّه لو قلت نعم لوجبت ، ولو أوجبت ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم فاتركوني كما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء ، فأتوا منه ما استطعتم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ) .
وقال مجاهد : نزلت هذه الآية حين قالوا لرسول اللّه عن البحيرة والسائبة ألا ترى يقول بعد ذلك ما جعل اللّه من بحيرة ولا سائبة الآية ) وإن تسألوا عنها حين ينزّل القرآن تبد لكم ( تسؤكم لأن القرآن إنما ينزل بإلزام فرض فيشق عليكم أو شيء كان حلالاً لكم ) عفا اللّه عنها واللّه غفور حليم }
المائدة : ( 102 ) قد سألها قوم . . . . .
) قد سألها قوم من قبلكم ( كما سألت ثمود صالحاً الناقة ، وقوم عيسى المائدة ) ثم أصبحوا بها كافرين ( فأهلكوا .
روى مكحول الشامي عن أبي ثعلبة الخشني قال : إن اللّه فرض فرائض فلا تسبقوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحدّ حدوداً فلا تعتدوها وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها .
المائدة : ( 103 ) ما جعل الله . . . . .
) ما جعل اللّه ( ما أنزل اللّه ولا من اللّه ولا أمر به نظيره قوله ) إنا جعلناه قرآناً عربياً ( أي أنزلناه ، ) من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ( .
وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التميمي عن أبي صالح السمّان عن أبي هريرة قال : قال رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) لأكتم بن الجون : يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبة في النار ، فما رأيت من رجل أشبه برجل منك به ولا بك منه ، وذلك إنه أول من غيّر دين إسماعيل ونصب الأوثان ، ونحر البحيرة ، وسيب السائبة ، ووصل الوصيلة ، وحمى الحامي ، ولقد رأيت في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه ) فقال أكثم : تخشَ أن يضرني شبهه يا رسول اللّه ، قال : ( لا أنت مؤمن وهو كافر ) .
قال : وذلك أن الناقة إذا تابعت ثنتي عشرة إناثاً سيبت فلم يركب ظهرها ولا يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلاّ ضيف ، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ثم يخلى سبيلها مع إنها في الإبل يركب ظهرها ولا يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلاّ ضيف كما فعل بأُمها وهي البحيرة بنت السائبة .
وقال ابن عباس : على إنهم كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن نظروا في البطن الخامس ،
(4/114)

" صفحة رقم 115 "
فإن كان ذكراً نحروه ، فأكله الرجال والنساء جميعاً وإن كانت أنثى شقوا أُذنها فتلك البحيرة ولا يجز لها وبر ، ولا يذكر عليها إسم اللّه إن ذُكيّت ولا يحمل عليها وحرّمت على النساء لا يذقن من ألبانها ولا ينتفعن بها وكانت لبنها ومنافعها خاصة للرجال دون النساء حتى تموت ، وإذا ماتت اشترك الرجال والنساء في أكلها .
وقيل : هو إنهم كانوا إذا ولد السقب بحروا أذنها وقالوا : اللهم إن عاش ففتي وإن مات فذكي ، فإذا مات أكلوه .
وأما السائبة فكان الرجل يسيب من ماله فيجيء به إلى السدنة فيدفعه إليهم فيطعمون منه أبناء السبيل من ألبانها ولحمانها إلاّ النساء فإنهم كانوا لا يعطونهن منها شيئاً حتى يموت فإذا مات أكلها الرجال والنساة جميعاً .
وقال علقمة : هي العبد ( يسيب ) على أن لا يكون له ولاء ولا عقل ، وله ميراث . فقال ( عليه السلام ) : ( إنما الولاء لمن أعتق ) . وإنما أخرجها بلفظ الفاعلة وهي بمعنى المفعولة وهي المسيبة والمخلاة على مذهب قوله ( ماء دافق وعيشة ) راضية ، وأما الوصيلة فهي الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان البطن السابع ذكراً ذبحوه وأهدوه للآلهة ، وإن كانت أنثى إستحيوها ، فإن كانت ذكراً أو أنثى إستحيوا الذكر من أجل الأنثى .
وقالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوه ، وأما الحامي فهو الفحل إذا ركب ولد فيلده قبل حمي ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا رعي إلا أن يموت فيأكله الرجال والنساء قال اللّه ) ولكن الذين يفترون ( يختلقون ) على اللّه الكذب ( في قولهم : واللّه أمرنا بها ) وأكثرهم لا يعقلون (
المائدة : ( 104 ) وإذا قيل لهم . . . . .
) وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل اللّه وإلى الرسول ( في تحليل الحرث والأنعام وبيان الشرائع والأحكام ) قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا من الذين ( قال اللّه تعالى ) أولو كان آباؤهُمُ لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون ( نظيرها في سورة البقرة ولقمن .
( ) ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يِاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ ءَاخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الاَْرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلواةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الاَْثِمِينَ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الاَْوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَآ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ذالِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ
(4/115)

" صفحة رقم 116 "
بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَآ أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ( 2
المائدة : ( 105 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ( الآية ، إختلف العلماء في تأويل هذه الآية فأجراها بعضهم على الظاهر .
وقال ضمرة بن ربيعة : تلا الحسن هذه الآية ، وقال : الحمد للّه لها والحمد للّه عليها ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلاّ وإلى جانبه منافق يكره عمله .
وقال بعضهم : معناها عليكم أنفسكم فاعملوا بطاعة اللّه ) لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم ( فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر .
أبو البحتري عن حذيفة في هذه الآية : إذا أمرتم ونهيتم .
وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي ظبيان عن قيس بن أبي حازم قال : قال أبو بكر الصديق ( رضي الله عنه ) على المنبر : إنكم تقرؤن هذه الآية ) يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ( الآية وتضعونها غير موضعها ولا تدرون ماهي وإني سمعت رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) يقول : ( إن الناس إذا رأوا منكراً فلم يغيروه عمّهم اللّه بعقاب ، فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ولا تغتروا بقول اللّه ) يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ( فيقول أحدكم : عليّ نفسي ، واللّه لتأمرنّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ( ليستعملن ) عليكم شراركم فليس منكم هو في العذاب ، ثم ليدعنّ اللّه خياركم فلا يستجيب لهم ) . يدل عليه حديث أبي هريرة قال : قلنا : يا رسول اللّه إن لم نأمر بالمعروف ولم ننه عن المنكر حتى لا يبقى من المعروف شيء إلاّ عملنا به ولا من المنكر شيء إلاّ إنتهينا عنه ولا نأمره ولا ننهي أبداً .
فقال ( عليه السلام ) : ( فمروا بالمعروف فإن لم ( يقبلوا به ) كله ما نهوا عن المنكر وإن لم ينتهوا عنه كله ) . وقيل : معنى الآية : عليكم أنفسكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلم يقبل منكم .
قال شقيق بن عقد : قيل لابن عمر : لو جلست في هذه الأيّام فلم تأمر ولم تنه فإن اللّه قال ) عليكم أنفسكم لا يضركم من ضلّ إذا إهتديتم ( .
فقال ابن عمر : إنها ليست لي ولا لأصحابي ، لأن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) قال : ( ألا فليبلغ الشاهد الغائب ) فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم تقبل منهم .
(4/116)

" صفحة رقم 117 "
وروى سهل بن الأشهب عن الحسين والربيع عن أبي العالية إن هذه الآية قرأت على ابن مسعود ) يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ( ، فقال ابن مسعود : ليس هذا بزمانها قولوها ما قبلت منكم فإذا رُدت عليكم فعليكم أنفسكم ، ثم قال : إن القرآن نزل حين نزل فمنه آي قد مضى تأويلهن ومنه آي وقع تأويلهن على عهد رسول اللّه ومنه آي يقع تأويلهن بعد النبيّ ( صلى الله عليه وسلم ) يسير ومنه من يقع آي لا ينهض بعد اليوم ومنه آي يقع في آخر الزمن ومنه آي يقع تأويلهن يوم القيامة ما ذكر من الحساب والجنة والنار فما دامت قلوبكم وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعاً ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا ، فإذا اختلفت القلوب والأهواء وأُلبستم شيعاً وذاق بعضكم بأس بعض فامْرُؤ ونفسه فعند ذلك جاء تأويل هذه الآية .
قال أبو أميّة السمعاني : سمعت أبا ثعلبة ( الخشني ) عن هذه الآية ) يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ( .
فقال أبو ثعلبة : سألت عنها رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) فقال : ( ائمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت ديناً موثراً وشحاً مطاعاً وهوىً متبعاً وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك وذر عوامهم فإن وراءكم أياماً أيام الصبر فإذا عمل العبد بطاعة اللّه لم يضره من ضل بعده وهلك وأجر العامل يومئذ بمثل الذي أنتم عليه كأجر خمسين عامل ) .
قالوا : يا رسول اللّه كأجر خمسين عاملاً منهم ؟ قال : ( لا بل كأجر خمسين عاملاً منكم ) .
وقال بعضهم : نزلت هذه الآية في أهل الأهواء .
وقال أبو جعفر الرازي : دخل على صفوان بن حرث شاب من أصحاب الأهواء فذكر شيئاً من أمره ، فقال صفوان : ألا أدلك على خاصة اللّه التي تخص بها أولياءه ، ) يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ( الآية .
وقال الضحّاك : عليكم أنفسكم إذا إختلفت الأهواء ما لم يكن سيف أو سوط .
وقال ابن جبير : نزلت هذه الآية في أهل الكتاب يعني عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من أهل الكتاب .
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس إن رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) كتب إلى أهل هجر وعليهم المنذر ابن ساوي التميمي يدعوهم إلى الإسلام فإن أبو فليؤدوا الجزية فلما أتاه الكتاب عرضه على من
(4/117)

" صفحة رقم 118 "
عنده من اليهود والعرب والنصارى والمجوس فأقرّوا بالجزية وكرهوا الإسلام ، فكتب إليه رسول اللّه ( صلى الله عليه وسلم ) ( أما العرب فلا تقبل منهم إلاّ الإسلام أو السيف ، وأما أهل الكتاب والمجوس فاقبل منهم الجزية ) . فلما قرأ عليهم كتاب رسول الله عليه السلام أسلمت العرب وأما أهل الكتاب والمجوس أعطوا الجزية ، فقال في ذلك : منافقو أهل مكة وقالوا : عجباً من محمد يزعم أن اللّه تعالى بعثه ليقاتل الناس ، حتى يقولوا لا إله إلاّ اللّه ، وقد قبل من مجوس هجر وأهل الكتاب الجزية ، هلاّ أكرههم على الإسلام وقد ردّها على إخواننا من العرب ؟ فشقّ ذلك على المسلمين مشقة شديدة فأنزل اللّه تعالى ) يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ( يعني بعد أن بلغ محمد فأحذر ، وأنزل بعد ما أسلم العرب ) لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي ( .
وقال ابن عباس : نزلت في جميع الكفار وذلك أن الرجل كان إذا أسلم قالوا : سفهت أباك ، وضللت ، وفعلت وفعلت فأنزل اللّه ) عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل من آبائكم إذا إهتديتم ( وهذه لفظة إغراء ، والعرب تغري من الصفات بعليك عليك ولبيك وإليك وعندك ودونك .
ثم قال ) إلى اللّه مرجعكم جميعاً ( الضال والمهتدي ) فينبئكم بما كنتم تعملون 2 )
المائدة : ( 106 ) يا أيها الذين . . . . .
) يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ( الآية نزلت في ثلاثة نفر خرجوا تجاراً من المدينة إلى الشام ، عدي بن فدي ، وتميم بن أوس الداري وهما نصرانيان وبديل مولى عمرو بن العاص السهمي وكان مسلماً مهاجراً واختلفوا في كنية أبيه .
فقال الكلبي : بديل بن أبي مازنة . وقال قتادة وابن سيرين وعكرمة : هو ابن أبي مارية ، ومحمد بن إسحاق بن يسار وابن أبي مريم ، فلما قدموا إلى الشام مرض بديل وكتب كتاباً فيه جميع ما معه وطرحها في متاعه ولم يخبر صاحبه بذلك ، فلما إشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله ، ومات بديل ففتشا متاعه فأخذا منه إناء من فضة منقوشاً بالذهب فيه ثلثمائة مثقال فضة مموّهة بالذهب فغيباه ثم قضيا حاجتهما وانصرفا وقدما المدينة فدفعا المتاع إلى أهل الميت ففتشوا ( فوجدوا ) الصحيفة فيها تسمية ما كان معه وما فيها الإناء فجاءوا تميماً وعدياً . فقالوا : هل باع صاحبنا شيئاً من متاعه ؟ قالا : لا ، قالوا : فهل خسر تجارة ؟ قالا : لا ، قالوا : فهل طال مرضه فأنفق على نفسه ؟ قالا : لا . قالوا : فإنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما معه وإنا فقدنا فيها إناء من فضة مموّهة بالذهب فها ثلاثمائة مثقال فضة . قالا : لا ندري إنما أوصى إلينا بشيء وأمرنا أن ندفعه إليكم ودفعناه وما لنا إلاّ من حكم ،
(4/118)