الكتاب : الدر المصون في علم الكتاب المكنون
المؤلف : السمين الحلبي
لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)
قوله : { لِّكَيْلاَ } : هذه اللامُ متعلقةٌ بقولِه " ما أصابَ " ، أي : أَخبْرَناكم بذلك لكيلاَ يَحْصُلَ لكم الحزنُ المُقْنِط أو الفرحُ المُطْغي ، فأمَّا دون ذلك فالإِنسانُ غيرُ مؤاخذٍ به . و " كي " هنا ناصبةٌ بنفسِها فهي مصدريةٌ فقط لدخولِ لام الجرِّ عليها ، وقرأ أبو عمرو " بما أتاكم " مقصوراً من الإِتْيان ، أي : بما جاءكم . وباقي السبعة " آتاكم " ممدوداً من الإِيتاء أي : بما أعطاكم اللَّهُ إياه . وقرأ عبد الله " أُوْتيتم " .
(1/5207)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
قوله : { الذين يَبْخَلُونَ } : قد تقدَّم مثلُ هذا في سورة النساء ، وتكلمتُ عليه بما يَكْفي ، فلا معنى لإِعادته .
قوله { فَإِنَّ الله هُوَ الغني } قرأ نافع وابن عامر " فإن الله الغنيُّ " بإسقاطِ " هو " وهو ساقطٌ في مصاحف المدينةِ والشام . والباقون بإثباتِه وهو ثابتٌ في مصاحفِهم ، فقد وافق كلٌّ مصحَفه . قال أبو علي : " مَنْ أثبت " هو " يَحْسُنْ أَنْ يكونَ فصلاً ، ولا يَحْسُنُ أن يكونَ ابتداءً؛ لأنَّ الابتداءَ لا يَسُوغ حَذْفُه " يعني أنه تُرَجَّحُ فصليَّتُه بحذفه في القراءةِ الأخرى ، إذ لو كان مبتدأً لضَعُف حَذْفُه ، لا سيما إذا صَلَحَ ما بعده أَنْ يكونَ خبراً لِما قبله ، ألا تراك لو قلت : " إنَّ زيداً هو القائمُ " لم يَحْسُنْ حَذْفُ " هو " لصلاحيةِ " القائمُ " خبراً ل " إنَّ " : وهذا كما قالوا في الصلة : إنه يُحْذَفُ العائدُ المرفوعُ بالابتداء بشروطٍ منها : أن لا يكونَ ما بعدَه صالحاً للصلة نحو : " جاء الذي هو في الدار " أو " هو قائم أبوه " لعدمِ الدلالةِ . إلاَّ أنَّ للمنازعِ أن ينازعَ أبا عليٍ ويقول : لا ألتزم تركيب إحدى القراءتين على الأخرى ، وكم مِنْ قراءتَيْنِ تغاير معناهما كقراءتَيْ : { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } [ آل عمران : 36 ] و " وضَعَتْ " ، إلاَّ أنَّ توافُقَ القراءتَيْن في معنىً واحدٍ أَوْلى ، هذا ما لا نزاعَ فيه .
(1/5208)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
قوله : { فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } : جملةٌ حاليةٌ من " الحديد " .
قوله : { مَّعَهُمُ } حالٌ مقدرة ، أي : صائراً معهم ، وإنَّما احتَجْنا إلى ذلك لأنَّ الرسلَ لم يُنْزَلوا ، ومقتضى الكلامِ أن يَصْحبوا الكتابَ في النزولِ . وأمَّا الزمخشريُّ فإنه فَسَّرَ الرسلَ بالملائكةِ الذين يَجيئون بالوحيِ إلى الأنبياءِ فالمعيَّةُ متحققةٌ .
قوله : { وَلِيَعْلَمَ } عطفٌ على قولِه " ليقومَ الناسُ " ، أي : لقد أَرْسَلْنَا رُسُلَنا وفَعَلْنا كيتَ وكيتَ ليقومَ الناسُ وليعلَمَ اللَّهُ . وقال الشيخ : " علةٌ لإِنزالِ الكتابِ والميزانِ والحديدِ " ، والأول أظهرُ لأنَّ نصرةَ اللَّهِ ورسلِه مناسبة للإِرسال .
قوله { وَرُسُلَهُ } عطفٌ على مفعولِ " يَنْصُرُه " ، أي : وينصُرُ رسُلَه . قال أبو البقاء : " ولا يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على " مَنْ " لئلا يُفْصَلَ به بين الجارِّ وهو " بالغَيْب " وبينَ ما يتعلَّق به وهو " يَنْصُرُ " . قلت : وجَعْلُه العلةَ ما ذكرَه مِنْ الفصلِ بين الجارِّ وما يتعلَّق به مَنْ يُوْهِمُ أَنَّ معناه صحيحٌ لولا هذا المانعُ ، وليسَ كذلك إذ يصيرُ التقديرُ : وليعلمَ اللَّهُ مَنْ ينصرُه بالغيبِ . ولِيَعْلَمَ رَسُلَه . وهذا معنىً لا يَصِحُّ البتة فلا حاجةَ إلى ذِكْرِ ذلك . و " بالغيب " حالٌ وقد تقدم مثلُه أولَ البقرة .
(1/5209)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)
قوله : { فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ } : الضميرُ يجوزُ عَوْدُه على الذُّرِّيَّة ، وهو أَوْلَى لتقدُّم ذِكْرِه لفظاً . وقيل : يعودُ على المُرْسَل إليهم لدلالة " أَرْسَلْنا " والمرسلين عليهم .
(1/5210)
ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
قوله : { الإنجيل } : قد تقدَّم أنَّ الحسنَ قرأه بفتح الهمزة في أول آل عمران . قال الزمخشري : " أَمْرُه أهونُ/ مِنْ أَمْرِ البِرْطيل والسِّكِّين فيمن رَواهما بفتح الفاء لأنَّ الكلمةَ أعجمية لا يلزَمُ فيها حِفْظُ أبنية العرب " . وقال أبو الفتح : " هو مثالٌ لا نظيرَ له " .
قوله : { وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها } في انتصابِها وجهان ، أحدهما : أنها معطوفةٌ على " رأْفَةً ورحمةً " . و " جَعَلَ " إمَّا بمعنى خَلق أو بمعنى صيَّر ، و " ابْتدعوها " على هذا صفةٌ ل " رَهْبانية " وإنما خُصَّتْ بذِكر الابتداعِ لأنَّ الرأَفةَ والرحمةَ في القلب أمرُ غريزةٍ لا تَكَسُّبَ للإِنسانِ فيها بخلافِ الرهبانية فإنها أفعالُ البدن ، وللإِنسانِ فيها تكسُّبٌ . إلاَّ أنَّ أبا البقاء منعَ هذا الوجهَ بأنَّ ما جعله اللَّهُ لا يَبْتدعونه . وجوابُه ما تَقَدَّم : مِنْ أنَّه لَمَّا كانت مكتسبةً صَحَّ ذلك فيها . وقال أيضاً : " وقيل : هو معطوفٌ عليها ، وابتدعوها نعتٌ له . والمعنى : فَرَضَ عليهم لزومَ رهبانيةٍ ابتدعوها ، ولهذا قال : { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله } .
والوجه الثاني : أنه منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره الظاهرُ وتكون المسألةُ من الاشتغالِ . وإليه نحا الفارسيُّ والزمخشريُّ وأبو البقاء وجماعةٌ إلاَّ أنَّ هذا يقولون إنه إعرابُ المعتزلة؛ وذلك أنَّهم يقولون : ما كانَ مِنْ فِعْلِ الإِنسانِ فهو مخلوقٌ له ، فالرحمةُ والرأفة لَمَّا كانتْ من فِعْلِ اللَّهِ تعالى نَسَبَ خَلْقَهما إليه . والرَّهْبانِيَّة لَمَّا لم تكنْ من فِعْلِ اللَّهِ تعالى بل مِنْ فعل العبدِ يَسْتَقِلُّ بفعلِها نَسَب ابتداعَها إليه ، وللردِّ عليهم موضعٌ آخرُ هو أليقُ به من هذا الموضعِ ، وسأبِّينُه إنْ شاء الله في " الأحكام " .
ورَدَّ الشيخُ عليهم هذا الإِعرابَ من حيث الصناعةُ وذلك أنَّه مِنْ حَقِّ اسمِ المُشْتَغَلِ عنه أن يَصْلُح للرفع بالابتداءِ و " رهبانيةً " نكرةٌ لا مُسَوِّغ للابتداء بها ، فلا يصلُحُ نصبُها على الاشتغال . وفيه نظرٌ؛ لأنَّا لا نُسَلِّمُ أولاً اشتراطَ ذلك ، ويَدُلُّ عليه قراءةُ مَنْ قرأ " سورةً أنزَلْناها " بالنصب على الاشتغالِ كما قَدَّمْتُ تحقيقه في موضعه . ولئِنْ سَلَّمْنا ذلك فثَمَّ مُسَوِّغٌ وهو العطفُ . ومِنْ ذلك قولُه :
4235 عندي اصْطِبارٌ وشكْوى عند قاتلتي ... فهل بأعجبَ مِنْ هذا امرؤٌ سَمِعا
وقوله :
4236 تَعَشَّى ونجمٌ قد أضاء فَمُذْ بدا ... مُحَيَّاكَ أَخْفَى ضوْءُه كلَّ شارقِ
ذكر ذلك الشيخُ جمال الدين بن مالك . و قرأ الحسن " رَآفة " بزنة فَعالة . والرَّهْبانيةُ منسوبةٌ إلى الرَهْبان فهو فَعْلان مِنْ رَهِب كقولِهم : " الخَشْيان " مِنْ خَشِي . وقد تقدَّم معنى هذه المادةِ في المائدة مستوفى وقُرِىء بضمِّ الراء . قال الزمخشري : " كأنَّها نِسْبةُ إلى الرُّهْبان وهو جمعُ راهبٍ كراكبِ ورُكْبان " .
(1/5211)
قال الشيخ : " والأَوْلَى أََنْ يكونَ منسوباً إلى رَهْبان يعني بالفتح وغُيِّر؛ لأنَّ النسبَ بابُ تغيير ، ولو كان منسوباً لرُهبان الجمع لرُدَّ إلى مفردِه ، إلاَّ إنْ كان قد صار كالعَلَم فإنه يُنْسَبُ إليه كالأَنْصار " .
قوله : { مَا كَتَبْنَاهَا } صفةٌ ل " رَهْبانيةً " ، ويجوزُ أَنْ يكونَ استئناف إخبارٍ بذلك .
قوله : { إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله } فيه أوجه ، أحدها : أنه استثناء متصلٌ ممَّا هو مفعولٌ من أجلِه . والمعنى : ما كَتَبْناها عليهم لشيءٍ من الأشياءِ إلاَّ لابتغاءِ مَرْضاتِ اللَّهِ ، ويكون " كتب " بمعنى قضى ، فصار : كَتَبْناها عليهم ابتغاءَ مرضاةِ اللَّهِ ، وهذا قولُ مجاهد . والثاني : أنه منقطعٌ . قال الزمخشري : ولم يذكُرْ غيرَه ، أي : ولكنهم ابْتَدعوها . وإلى هذا ذهبَ قتادةُ وجماعةٌ ، قالوا : معناه لم يَفْرِضْها عليهم ولكنهم ابتدعوها . الثالث : أنه بدلٌ من الضميرِ المنصوبِ في " كَتَبْنَاها " قاله مكيُّ وهو مُشْكِلٌ : كيف يكونُ بدلاً ، وليس هو الأولَ ولا بعضَه ولا مشتملاً عليه؟ وقد يُقال : إنه بدلُ اشتمالٍ ، لأن الرهبانيةَ الخالصةَ المَرْعِيَّةَ حَقَّ الرِّعاية قد يكون فيها ابتغاءَ رضوانِ اللَّهِ ، ويصير نظيرَ قولِك " الجاريةُ ما أحببتها إلاَّ أدبَها " فإلاَّ أدبَها بدلٌ من الضمير في " أَحْبَبْتُها " بدلُ اشتمالٍ ، وهذا نهايةُ التمحُّلِ لصحةِ هذا القولِ واللَّهُ أعلمُ .
والضميرُ المرفوعُ في " رَعَوْها " عائدٌ على مَنْ تَقَدَّمَ . والمعنى : أنهم لم يَدُوموا كلُّهم على رعايتها ، وإنْ كان وُجِدَ هذا في بعضِهم . وقيل : يعودُ على الملوكِ الذين حاربوهم . وقيل : على أحلافِهِم . و " حَقَّ " نصبٌ على المصدر .
(1/5212)
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
قوله : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } : هذه اللامُ متعلقةٌ بمعنى الجملة الطلبية المتضمنةِ لمعنى الشرطِ ، إذ التقدير : إنْ تتقوا اللَّهَ وآمنتم برسلِه يُؤْتِكم كذا وكذا ، لئلا يعلمَ . وفي " لا " هذه وجهان ، أحدهما : / وهو المشهورُ عند النحاةِ والمفسِّرين والمُعْرِبين أنها مزيدةٌ كهي في { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] ، و { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ يس : 31 ] على خِلافٍ في هاتين الآيتين . والتقدير : أَعْلَمَكم اللَّهُ بذلك ، ليعلمَ أهلُ الكتابِ عدمَ قدرتِهم على شيءٍ مِنْ فضلِ اللَّهِ وثبوتَ أنَّ الفَضْل بيدِ الله ، وهذا واضح بَيَّنٌ ، وليس فيه إلاَّ زيادةُ ما ثبتَتْ زيادتُه شائِعاً ذائعاً .
والثاني : أنها غيرُ مزيدةٍ . والمعنى لئلا يعلمَ أهلُ الكتابِ عَجْزَ المؤمنين ، نقل ذلك أبو البقاء وهذا لفظُهُ ، وكان قد قال قبلَ ذلك : " لا " زائدة والمعنى : ليعلمَ أهلُ الكتابِ عَجْزَهم " وهذا غيرُ مستقيم؛ لأنَّ المؤمنين عاجزون أيضاً عن شيءٍ مِنْ فضل اللَّهِ وكيف يعملُ هذا القائلُ بقولِه { وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله } ؛ فإنه معطوفٌ على مفعولِ العِلْمِ المنفيِّ فيصيرُ التقدير : ولئلا يعلمَ أهلُ الكتاب أنَّ الفضلَ بيد الله؟ هذا لا يستقيمُ نَفْيُ العِلْمِ به البتة ، فلا جرم كان قولاً مُطَّرحاً ذكَرْتُه تنبيهاً على فسادِه .
وقراءةُ العامَّةِ " لئلا " بكسر لام كي وبعدها همزةٌ مفتوحةٌ مخففةٌ . وورش يُبْدِلها ياءً مَحْضَة وهو تخفيفٌ قياسيٌّ نحو : مِيَة وفِيَة ، في : مئة وفئة . ويدلُّ على زيادتِها قراءةُ عبد الله وابن عباس وعكرمةَ والجحدري وعبد الله بن سلمة " لِيَعْلَم " بإسقاطِها ، وقراءةُ حطان ابن عبد الله " لأَنْ يعلمَ " بإظهار " أَنْ " . والجحدري أيضاً والحسن " لِيَنَّعَلَمَ " وأصلُها كالتي قبلها لأَنْ يعلم ، فأبدل الهمزةَ ياءً لانفتاحِها بعد كسرة ، وقد تقدم أنه قياسٌ كقراءة ورش " لِيَلاَّ " ثم أَدْغَمَ النون في الياء . قال الشيخ : " بغير غُنَّة كقراءة خلف { أَن يَضْرِبَ } [ البقرة : 26 ] بغيرِ غُنَّة " انتهى . فصار اللفظ لِيَنَّعْلَمَ . وقوله : " بغير غنَّة " ليس عَدَمُ الغنَّةِ شرطاً في صحة هذه المسألةِ ، بل جاء على سبيل الاتفاقِ ولو أَدْغَمَ بُغنَّةٍ لجاز ذلك فسقوطُها في هذه القراءاتِ يؤيِّد زيادتها في المشهورةِ .
وقرأ الحسن أيضاً فيما رَوَى عنه أبو بكر ابن مجاهد " لَيْلاً يَعْلَمَ " بلام مفتوحةٍ وياءٍ ساكنةٍ كاسم المرأة ورفعِ الفعلِ بعدها . وتخريجُها : على أنَّ أصلَها : لأَنْ لا ، على أنها لامُ الجرِّ ولكنْ فُتِحَتْ على لغةٍ معروفة ، وأنشدوا :
4237 أُريدُ لأَنْسَى ذِكْرَها . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
بفتح اللام ، وحُذِفَت الهمزةُ اعتباطاً ، وأُدْغمت النونُ في اللام فاجتمع ثلاثة أمثالٍ فثَقُلَ النطقُ به فأبدلَ الوسطَ ياءً تخفيفاً ، فصار اللفظُ " لَيْلا " كما ترى ورُفِع الفعل؛ لأنَّ " أَنْ " هي المخففةُ لا الناصبةُ ، واسمُها على ما تقرَّر ضميرُ الشأنِ ، وفُصِل بينها وبين الفعلِ الذي هو خبرُها بحرفِ النفي .
(1/5213)
وقرأ الحسن أيضاً فيما روى عنه قطرب " لِيْلا " بلام مكسورة وياءٍ ساكنةٍ ورفع الفعل ، وهي كالتي قبلها في التخريج . غايةُ ما في الباب أنه جاء بلامٍ مكسورةٍ كما في اللغة الشهيرة . ورُوي عن ابن عباس " لكي يعلَمَ " ، و " كي يعلم " وعن عبد الله " لكيلا " وهذه كلُّها مخالِفةٌ للسوادِ الأعظمِ ولسوادِ المصحف .
وقرأ العامَّةُ { أَنْ لا يَقْدِرُون } بثوبت النون على أنَّ " أَنْ " هي المخففة وعبد الله بحَذْفِها على أَنَّ " أَنْ " هي الناصبة وهذا شاذٌّ جداً؛ لأنَّ العِلْمَ لا تقع بعده الناصبةُ .
وقوله : { يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } الظاهرُ أنه مستأنف . وقيل : هو خبرٌ ثانٍ عن الفضل . وقيل : هو الخبرُ وحدَه ، والجارُّ قبله حالٌ وهي حالٌ لازِمةٌ؛ لأنَّ كونَه بيدِ الله تعالى لا ينتقِلُ البتة .
(1/5214)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
قوله : { قَدْ سَمِعَ } : " قد " هنا للتوقُّع . قال الزمخشري : " لأنه عليه السلام والمجادِلَةَ كانا يتوقعان أن يَسمعَ الله مجادلتَها وشكواها ، ويُنَزِّلَ في ذلك ما يُفَرِّجُ عنها . وإظهارُ الدالِ عند السينِ قراءةُ الجماعة إلاَّ أبا عمروٍ والأخوين . ويُنْقَلُ عن الكسائي أنه قال : " مَنْ بَيَّنَ الدالَ عند السين فلسانُه أعجميٌّ وليس بعربي " وهذا غيرُ مُعَرَّجٍ عليه . و " في زَوْجِها " أي في شأنِه من ظِهارِه إياها .
قوله : { وتشتكي إِلَى الله } يجوزُ فيه وجهان ، أظهرُهما : أنها عطفٌ على " تُجادِلُك " فهي صلةٌ أيضاً . والثاني : أنَّها في موضع نصبٍ على الحالِ أي : تجادِلُك شاكيةً حالَها إلى اللَّهِ ، وكذا الجملةُ مِنْ قولِه : { والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ } والحاليةُ فيما أَبْعَدُ . /
(1/5215)
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
قوله : { الذين يُظَاهِرُونَ } : قد تقدَّم الخلافُ في " يُظاهِرون " في سورةِ الأحزاب وكذا في " اللائي " فأَغْنَى عن إعادتِه هنا وأُبي هنا " يَتَظاهَرُون " وعنه أيضاً " يَتَظَهَّرُوْن " . وفي " الذين " وجهان ، أحدهما : أنه مبتدأٌ ، وخبرُه قولُه : { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } . والثاني : أنَّه منصوبٌ ب " بصير " على مذهبِ سيبويهِ في جوازِ إعمالِ فَعيل ، قاله مكي ، يعني أنَّ سيبويه يُعْمل فعيلاً من أمثلةِ المبالغةِ ، وهو مذهبٌ مَطْعونٌ فيه على سيبويِهِ؛ لأنه استدلَّ على إعمالِه بقولِ الشاعر :
4238 حتى شآها كَليلٌ مَوْهِناً عَمِلٌ ... باتَتْ طِراباً وبات الليلَ لم يَنَمِ
ورُدَّ عليه : بأنَّ " مَوْهِناً " ظرفُ زمانٍ ، والظروفُ تعملُ فيها روائحُ الأفعالِ . وللكلامِ في المسألةِ موضعٌ هو أليقُ به مِنْ هنا ولكنَّ المعنى يَأْبى ما قاله مكيٌّ .
وقرأ العامَّةُ " أمَّهاتِهم " بالنصب على اللغة الحجازية الفصحى كقولِه : { مَا هذا بَشَراً } [ يوسف : 31 ] وعاصم في روايةٍ بالرفعِ على اللغةِ التميميةِ ، وإنْ كانَتْ هي القياسَ لعدمِ اختصاصِ الحرفِ . وقرأ عبدُ الله " بأمَّهاتهم " بزيادة الباءِ ، وهي تحتمل اللغتين . وقال الزمخشري : " وزيادةُ الباء في لغة مَنْ ينصِبُ " . قلت : هذا هو مذهبُ أبي علي ، يرى أنَّ الباءَ لا تُزاد إلاَّ إذا كانَتْ " ما " عاملةً فلا تُزاد في التميمية ولا في الحجازيةِ إذا مَنَعَ مِنْ عملها مانعٌ نحو : " ما إنْ زيدٌ بقائمٍ " . وهذا مردودٌ بقولِ الفرزدق وهو تميمي :
4239 لَعَمْرُك ما مَعْنٌ بتارِكِ حقِّه ... ولا مُنْسِىءٌ مَعْنٌ ولا مُتَيَسِّرُ
وبقول الآخر :
4240 لَعَمْرُك ما إنْ أبو مالكٍ ... بواهٍ ولا بضعيفٍ قِواهْ
فزادها مع " ما " الواقع بعدها " إنْ " .
قوله : { مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً } نعتان لمصدر محذوف أي : قولاً منكراً ، وزوراً أي : كذباً وبُهْتاناً قاله مكي وفيه نظرٌ؛ إذ يصيرُ التقدير : ليقولون قولاً منكراً من القول ، فيصير قولُه " من القول " لا فائدةً فيه . والأَوْلَى أَنْ يُقال : نعتان لمعفولٍ محذوفٍ لفهم المعنى أي : ليقولونَ شيئاً مُنْكراً من القولِ لتفيدَ الصفة غيرَ ما أفاده الموصوفُ .
(1/5216)
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
قوله : { والذين يُظَاهِرُونَ } : مبتدأٌ . وقولُه : " فتحريرُ رقبةٍ " مبتدأٌ ، وخبرُه مقدرٌ أي : فعليهم . أو فاعلٌ بفعلٍ مقدرٍ أي : فيلزَمُهم تحريرُ ، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : فالواجبُ عليهم تحريرُ . وعلى التقادير الثلاثةِ فالجملةُ خبرُ المبتدأ ، ودخلَتِ الفاءُ لِما تضَمَّنه المبتدأُ مِنْ معنى الشرط .
قوله : { لِمَا قَالُواْ } في هذه اللامِ أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها متعلقةٌ ب " يعودون " . وفيه معانٍ ، أحدُها : والذين مِنْ عادتِهم أنهم كانوا يقولون هذا القولَ في الجاهليةِ ، ثم يعودُون لمثلِه في الإِسلام . الثاني : ثم يتداركون ما قالوا؛ لأن المتدارِكَ للأمرِ عائدٌ إليه ومنه : " عادَ غيثٌ على ما أفسَد " أي : تداركه بالإِصلاح والمعنى : أنَّ تدارُكَ هذا القولِ وتلافيَه ، بأَنْ يكفِّر حتى ترجعَ حالُهما كما كانت قبل الظِّهار . الثالث : أَنْ يُرادَ بما قالوا ما حَرَّموه على أنفسِهم بلفظِ الظِّهار ، تنزيلاً للقولِ منزلةَ المقولِ فيه نحو ما ذُكِر في قولِه تعالى : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } [ مريم : 80 ] والمعنى : ثم يريدون العَوْدَ للتَّماسِّ ، قال ذلك الزمخشريُّ . قلت : وهذا الثالثُ هو معنى ما رُوِي عن مالك والحسن والزهري : ثم يعودون للوَطْء أي : يعودون لِما قالوا إنهم لا يعودون إليه ، فإذا ظاهَرَ ثم وَطِىء لَزِمَتْه الكفارةُ عند هؤلاء . الرابع : " لما قالوا " أي : يقولونه ثانياً فلو قال : " أنتِ عليَّ كظهر أمِّي " مرةًَ واحدةً كفَّارةٌ؛ لأنه لم يَعُدْ لِما قال . وهذا منقولٌ عن بُكَيْرِ بنِ عبد الله الأشجِّ وأبي حنيفةَ وأبي العالية والفراء في آخرين ، وهو مذهبُ الفقهاءِ الظاهريين . الخامس : أن المعنى : أَنْ يَعْزِمَ على إمساكِها فلا يُطَلِّقَها بعد الظِّهار ، حتى يمضيَ زمنٌ يمكنُ أَنْ يطلِّقَها فيه ، فهذا هو العوْدَ لِما قال ، وهو مذهبُ الشافعيِّ ومالك وأبي حنيفةَ أيضاً . وقال : / العَوْدُ هنا ليس تكريرَ القولِ ، بل بمعنى العَزْمِ على الوَطْءِ .
وقال مكي : " اللامُ متعلقةٌ ب " يعودون " أي : يعودون لوَطْءِ المقولِ فيه الظهارُ ، وهُنَّ الأزواجُ ، ف " ما " والفعلُ مصدرٌ أي : لمقولِهم ، والمصدرُ في موضعِ المفعولِ به نحو : " هذا دِرْهَمٌ ضَرْبُ الأمير " أي : مَضْرُوبُه ، فيصير معنى " لقولهم " للمقولِ فيه الظِّهارُ أي : " لوَطْئِه " . قلت : وهذا معنى قولِ الزمخشريِّ في الوجه الثالث الذي تَقَدَّم تقريرُه عن الحسنِ والزهري ومالك ، إلاَّ أنَّ مكيَّاً قَيَّد ذلك بكونِ " ما " مصدريةً حتى يقعَ المصدرُ الموؤلُ موضعَ اسمِ مفعول .
وفيه نظرٌ؛ إذ يجوز ذلك ، وإنْ كانت " ما " غيرَ مصدرية ، لكونِها بمعنى الذي أو نكرةً موصوفةً ، بل جَعْلُها غيرَ مصدريةٍ أَوْلَى؛ لأن المصدرَ المؤولَ فرعُ المصدرِ الصريحِ ، إذ الصريحُ أصلٌ للمؤول به ووَضْعُ المصدرِ موضعَ اسم المفعولِ خلافُ الأصلِ ، فيلزمُ الخروجُ عن الأصل بشيئين : بالمصدرِ المؤولِ .
(1/5217)
ثم وقوعِه موقعَ اسمِ المفعول ، والمحفوظُ من لسانِهم إنما هو وَضْعُ المصدرِ الصريح موضعَ المفعولِ لا المصدرِ المؤولِ فاعرِفْه . لا يُقال : إنَّ جَعْلَها غيرَ مصدريةٍ يُحْوِجُ إلى تقديرِ حذفِ مضافٍ ليصِحَّ المعنى به أي : يعودون لوَطْءِ التي ظاهَرَ منها ، أو امرأةٍ ظاهَرَ منها ، أو يعودون لإِمساكِها ، والأصلُ عدمُ الحذفِ؛ لأن هذا مشتركُ الإِلزام لنا ولكم ، فإنكم تقولون أيضاً : لا بُدَّ مِنْ تقديرِ مضافٍ أي : يعودون لوَطْءِ أو لإِمساكِ المقولِ فيه الظِّهارُ . ويدل على جوازِ كَوْنِ " ما " في هذا الوجهِ غيرَ مصدريةٍ ما أشار إليه أبو البقاء ، فإنه قال : " يتعلَّقُ ب " يعودون " بمعنى : يعودون للمقول فيه . هذا إنْ جَعَلْتَ " ما " مصدريةً ، ويجوز أَنْ تجعلَها بمعنى الذي ونكرةً موصوفةً " .
الثاني : أنَّ اللامَ تتعلَّقُ ب " تحرير " . وفي الكلامَ تقديمٌ وتأخيرٌ . والتقدير : والذين يُظاهرون مِنْ نِسائِهم فعليهم تحريرُ رقبةٍ؛ لِما نَطقوا به من الظِّهار ثم يعودُون للوَطْءِ بعد ذلك . وهذا ما نقله مكيٌّ وغيرُه عن أبي الحسن الأخفش . قال الشيخ : " وليس بشيءٍ لأنه يُفْسِدُ نَظْمَ الآية " . وفيه نظرٌ . لا نُسَلِّم فسادَ النظمِ مع دلالةِ المعنى على التقديمِ والتأخير ، ولكنْ نُسَلِّم أنَّ ادعاءَ التقديمِ والتأخيرِ لا حاجةَ إليه؛ لأنه خلافُ الأصل .
الثالث : أن اللامَ بمعنى " إلى " . الرابع : أنها بمعنى " في " نَقَلهما أبو البقاء ، وهما ضعيفان جداً ، ومع ذلك فهي متعلِّقَةٌ ب " يَعُودون " . الخامس : أنها متعلِّقةٌ ب " يقولون " . قال مكي : " وقال قتادةُ : ثم يعودون لِما قالوا من التحريمِ فيُحِلُّونه ، فاللامُ على هذا تتعلَّقُ ب " يقولون " . قلتُ : ولا أدري ما هذا الذي قاله مكي ، وكيف فَهم تعلُّقَها ب " يقولون " على تفسيرِ قتادةَ ، بل تفسيرُ قتادةَ نصٌّ في تعلُّقِها ب " يَعودون " ، وليس لتعلُّقِها ب " يقولون " وجهٌ .
(1/5218)
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
قوله : { فَصِيَامُ } و " فإِطعامُ " كقولِه : { فَتَحْرِيرُ } في ثلاثة الأوجهِ المتقدمةِ . و " مِنْ قبلِ " متعلِّقٌ بالفعل أو الاستقرارِ المتقدِّمِ أي : فيلزَمُه تحريرُ أو صيام ، أو فعليه كذا مِنْ قبلِ تَماسِّهما . والضميرُ في " يتماسَّا " للمُظاهِرِ والمُظاهَرِ منها لدلالةِ ما تقدَّم عليهما .
(1/5219)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
قوله : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوبٌ ب " عذابٌ مُهينٌ " . الثاني : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ . فقدَّره أبو البقاء " يُهانون أو يُعَذَّبون " ، أو استقرَّ لهم ذلك يومَ يَبْعَثهم " وقَدَّره الزمخشري ب اذْكُرْ قال : " تعظيماً لليوم " . الثالث : أنه منصوبٌ ب " لهم " ، قاله الزمخشري . أي : بالاستقرار الذي تَضَمَّنه لوقوعِه خبراً . الرابع : أنه منصوبٌ ب " أَحْصاه " قاله أبو البقاء . وفيه قَلَقٌ؛ لأنَّ الضميرَ في " أحْصاه " يعود على ما عَمِلوا .
(1/5220)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
قوله : { مَا يَكُونُ مِن نجوى } : " يكونُ " تامةٌ و " من نَجْوى " فاعلُها . و " مِنْ " مزيدةٌ فيه . ونجوى في الأصل مصدرٌ فيجوزُ أَنْ يكونَ باقياً على أصلِه ، ويكون مضافاً لفاعِله ، أي : ما يوجَدُ مِنْ تناجي ثلاثةٍ . ويجوز أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي : مِنْ ذوي نَجْوى . ويجوزُ أَنْ يكونَ أطلق على الأشخاصِ المتناجينِ مبالغةً ، فعلى هذَيْن الوجهَيْن ينخفضُ " ثلاثة " على أحدِ وجْهَين : إمَّا البدلِ مِنْ ذوي المحذوفة ، وإمَّا الوصفِ لها على التقدير الثاني ، وإمَّا البدلِ أو الصفةِ ل " نَجْوَى " على التقدير الثالث .
وقرأ ابن أبي عبلة " ثلاثةً " و " خمسةً " نصباً على الحال . وفي صاحبها وجهان ، أحدهما : أنه محذوفٌ مع رافعِه ، تقديرُه : يتناجَوْن ثلاثةً ، وحُذف لدلالةِ " نجوى " عليه . والثاني : أنه الضمير المستكِنُّ/ في " نجوى " إذا جَعَلْناها بمعنى المتناجِين ، قاله الزمخشريُّ . قال مكي : " ويجوز في الكلام رَفْعُ " ثلاثة " على البدل مِنْ موضع " نَجْوى " ، لأنَّ موضعَها رفعٌ و " مِنْ " زائدةٌ ، ولو نصَبْتَ " ثلاثة " على الحال من الضمير المرفوع إذا جَعَلْتَ " نجوى " بمعنى المتناجين جازَ في الكلام " . قلت : أمَّا الرفعُ فلم يُقْرَأْ به فيما عَلِمْتُ ، وهو جائزٌ في غير القرآن كما قال . وأمَّا النصبُّ فقد عَرَفْتَ مَنْ قرأ به فكأنَّه لم يَطَّلعْ عليه .
قوله : { إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } " إلاَّ هو خامسُهم " { إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ } كلُّ هذه الجملِ بعد " إلاَّ " في موضعِ نصبٍ على الحالِ أي : ما يوجَدُ شَيْءٌ من هذه الأشياءِ إلاَّ في حالٍ مِنْ هذه الأحوالِ ، فالاستثناءُ مفرَّغٌ من الأحوال العامة .
وقرأ أبو جعفر : " ما تكونُ " بتاءِ التأنيث لتأنيث النجوى . قال أبو الفضل : إلاَّ أنَّ الأكثرَ في هذا البابِ التذكيرُ على ما في العامة؛ لأنه مُسْنَدٌ إلى " مِنْ نجوى " ، وهو اسمُ جنسٍ مذكرٌ .
قوله : { وَلاَ أَكْثَرَ } العامَّةُ على الجرِّ عطفاً على لفظ " نجوى " . وقرأ الحسن والأعمش وابن أبي إسحاق وأبو حيوة ويعقوبُ " ولا أكثرُ " بالرفع . وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه معطوفٌ على موضع " نَجْوى " لأنه مرفوعٌ ، و " مِنْ " مزيدةٌ فيه . فإن كان مصدراً كان على حَذْفِ مضافٍ كما تقدَّم أي : مِنْ ذوي نجوى ، وإن كان بمعنى المتناجِين فلا حاجةَ إلى ذلك . والثاني : أن يكونَ " أَدْنى " مبتدأ ، و { إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ } خبرُه ، فيكون " ولا أكثرُ " عطفاً على المبتدأ ، وحينئذ يكون " ولا أَدْنَى " من باب عطفِ الجملِ لا المفرداتِ .
وقرأ الحسن ويعقوب أيضاً ومجاهد والخليل " ولا أكبرُ " بالباء الموحدة والرفعِ على ما تقدَّم . وزيد بن علي " يُنْبِهِمْ " مِنْ أَنْبأ؛ إلاَّ أنه حذف الهمزةَ وكسرَ الهاءَ ، وقُرِىء كذلك ، إلاَّ أنَّه بإثباتِ الهمزةِ وضمِّ الهاءِ . والعامَّةُ بالتشديد مِنْ نَبَّأ .
(1/5221)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
قوله : { وَيَتَنَاجَوْنَ } : قرأ حمزة " يَنْتَجُوْنَ " من الانتجاء من النجوى . والباقون " يتناجَوْن " من التناجي مِن النجوى أيضاً . قال أبو علي : " والافتعال والتفاعُلُ يجريان مَجْرىً واحداً ، ومِنْ ثَمَّ صَحَّحوا : ازدَوَجُوا واعْتَوَرَوا لَمَّا كانا في معنى : تزاوَجُوا وتعاوَنوا . وجاء { حتى إِذَا اداركوا } و { ادركوا } [ الأعراف : 38 ] قلت : ويؤيِّد قراءةَ العامة الإِجماعُ على " تناجَيْتُمْ " و " فلا تَتَناجوا " ، و " وتناجَوْا " ، فهذه مِن التفاعُل لا غيرُ ، إلا ما روي عن عبد الله أنه قرأ " إذا انْتَجَيْتُم فلا تَنْتَجُوا " ونقل الشيخُ عن الكوفيين والأعمش " فلا تَنْتَجُوا " كقراءةِ عبدِ الله . وأصل تَنْتَجُون : تَنْتَجِيُوْن " . ويتَناجَوْن يتناجَيُون فاسْتُثْقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَت ، فالتقى ساكنان فحذفت الياءُ لالتقائِهما . أو نقول : تحرَّك حرفُ العلةِ وانفتح ما قبله فَقُلِبَ ألفاً ، فالتقى ساكنان فحذِف أوَّلهما وبقيت الفتحةُ دالةً على الألف .
[ وقرأ ] أبو حيوة " بالعِدْوان " بكسرِ العين .
(1/5222)
إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
وقد تقدَّم قراءتا " ليحزنَ " بالضم والفتح في آل عمران . وقُرِىء بفتح الياءِ والزاي على أنه مسندٌ إلى الموصولِ بعده فيكونُ فاعلاً .
وقوله : { وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ } يجوزُ أَنْ يكونَ اسمُ " ليس " ضميراً عائداً على الشيطان ، وأَنْ يكونَ عائداً على الحزنِ المفهومِ مِنْ " ليحزنَ " قاله الزمخشري . والأولُ أَوْلَى للتصريحِ بما يعود عليه . [ وقرأ ] الضحاك " ومعصيات " جمعاً .
قوله : { لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا } [ المجادلة : 8 ] هذه الجملةُ التحضيضيةُ في موضع نصبٍ بالقول .
(1/5223)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
وقرأ نافع وابن عامر وحفص وأبو بكرٍ بخلافٍ عنه بضم شين " انشُزوا " في الحرفَيْن ، والباقون بكسرِها ، وهما لغتان بمعنىً واحد . يُقال : نَشَزَ أي ارتفع يَنْشِز ويَنْشُزُ كعَرَش يَعْرِش ويَعْرُش ، وعَكَفَ يَعْكِف ويَعْكُف . وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادة في البقرة .
قوله : { فِي المجالس } قرأ عاصم " المجالس " جمعاً اعتباراً بأنَّ لكلِّ واحدٍ منهم مجلساً . والباقون بالإِفراد ، إذ المرادُ مجلسُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ، وهو أحسنُ مِنْ كونِه واحداً أريد به الجمعُ . وقُرىء " في المجلَس " بفتح اللام وهو المصدرُ أي : تَفَسَّحوا في جلوسِكم ولا تتضايَقوا . وقرأ الحسن وداود بن أبي هند وعيسى وقتادة " تَفاسَحُوا " والفُسْحَةُ : السَّعَةُ . وفَسَح له أي : وسَّعَ له .
قوله : { والذين أُوتُواْ } يجوز أَنْ يكونَ معطوفاً على " الذين آمنوا " فهو مِنْ عطفِ الخاصِّ على العامِّ؛ لأن الذين أُوْتوا العلمَ بعضُ المؤمنين منهم . ويجوزُ أَنْ يكونَ " والذين أُوْتُوا " مِنْ عطفِ الصفاتِ أي : تكونُ الصفاتُ لذاتٍ واحدةٍ ، كأنه قيل : يرفعُ الله المؤمنين العلماءَ . و " دَرَجاتٍ " مفعولٌ ثانٍ ، وقد تقدَّم الكلامُ على نحوِ ذلك في الأنعام . وقال ابنُ عباس : تمَّ الكلامُ عند قولِه " منكم " وينتصِبُ " الذين أُوْتُوا " بفعلٍ مضمرٍ أي : ويَخُصُّ الذين أوتوا اللمَ بدرجات/ ، أو ويرْفعُهم درجاتٍ .
(1/5224)
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
قوله : { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ } في " إذْ " هذه ثلاثة أقوالٍ ، أحدها : أنها على بابِها من المُضِيِّ . والمعنى : أنكم تركتم ذلك فيما مضى فتداركوه بإقامةِ الصلاةِ ، قاله أبو البقاء . الثاني : أنَّها بمعنى " إذا " كقولِه : { إِذِ الأغلال } [ غافر : 71 ] وقد تقدَّم الكلامُ فيه . الثالث : أنها بمعنى " إنْ " الشرطيةِ وهو قريبٌ مِمَّا قبلَه ، إلاَّ أنَّ الفرقَ بين " إنْ " و " إذا " معروفٌ . ورُوي عن أبي عمرو " خَبِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ " بالياءِ مِنْ تحتُ . والمشهورُ عنه بتاءِ الخطاب كالجماعة .
(1/5225)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)
قوله : { مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } : يجوزُ في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها مستأنفةٌ لا موضعَ لها من الإِعراب . أخبر عنهم بأنهم ليسوا من المؤمنين الخُلَّصِ . ولا من الكافرين الخلَّصِ ، بل كقولِه : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء } [ النساء : 143 ] . فالضميرُ في " ما هم " عائدٌ على الذين تَوَلَّوا ، وهم المنافقون . وفي " منهم " عائدٌ على اليهود أي : الكافرين الخُلَّص . والثاني : أنها حالٌ مِنْ فاعل " تَوَلَّوا " والمعنى : على ما تقدَّم أيضاً . والثالث : أنها صفةٌ ثانيةً ل " قوماً " ، فعلى هذا يكون الضميرُ في " ما هم " عائداً على " قوماً " ، وهم اليهودُ . والضميرُ في " منهم " عائدٌ على الذين تَوَلَّوا يعني : اليهودُ ليسوا منكم أيها المؤمنون ، ولا من المنافقين ، ومع ذلك تولاَّهم المنافقون ، قاله ابن عطية . إلاَّ أنَّ فيه تنافُرَ الضمائرِ؛ فإن الضميرَ في " ويَحْلِفون " عائدٌ على الذين تَوَلَّوْا ، فعلى الوجهين الأوَّلَيْن تتحد الضمائرُ لعَوْدِها على الذين تَوَلَّوا ، وعلى الثالث تختلفُ كما عَرَفْتَ تحقيقَه .
قوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } جملةٌ حاليةٌ أي : يعلمون أنه كذِبٌ فيَمينُهم يمينٌ غموسٌ لا عُذْرَ لهم فيها .
(1/5226)
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17)
قوله : { أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } : مفعولان ل " اتَّخذوا " . وقرأ العامَّةُ " أَيْمانَهم " بفتحِ الهمزةِ جمع يمين . والحسن بكسرِها مصدراً . وقوله : { لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ } قد تقدَّمَ في آل عمران .
(1/5227)
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)
قوله : { استحوذ } : جاءَ به على الأصلِ ، وهو فصيحٌ استعمالاً ، وإنْ شَذَّ قياساً . وقد أَخْرجه عمرُ رضيَ اللَّهُ عنه على القياس فقرأ " استحاذ " كاستقام ، وتقدَّمَتْ هذه المادةُ في سورةِ النساءِ عند قولِه : { أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ } [ النساء : 141 ] .
(1/5228)
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
قوله : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ } : يجوز أَنْ يكونَ " كَتَبَ " جرى مَجْرَى القَسَم فأُجيبَ بما يُجاب به . وقال أبو البقاء : " وقيل : هي جوابُ " كَتَبَ " لأنَّه بمعنى قال " . وهذا ليس بشيءٍ لأنَّ " قال " لا يَقْتضِي جواباً فصوابُه ما قَدَّمْتُه . ويجوزُ أَنْ يَكون " لأَغْلِبَنَّ " جوابَ قسمٍ مقدرٍ ، وليس بظاهر .
(1/5229)
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
قوله : { يُوَآدُّونَ } : هو المفعولُ الثاني ل " تَجِدُ " ويجُوز أَنْ تكونَ المتعديةَ لواحدٍ بمعنى صادَفَ ولقي ، فيكون " يوادُّون " . حالاً أو صفةً ل " قوماً " . والواوُ في " ولو كانوا " حاليةٌ وتقدم تحريرُه غيرَ مرة . وقدَّم أولاً الآباءَ لأنهم تجبُ طاعتُهم على أبناءِهم ، ثم ثّنَّى بالأبناءِ لأنهم أَعْلَقُ بالقلوب وهم حَبَّاتُها :
4241 فإنما أَوْلادُنا بَيْنَا ... أكبادُنا تَمْشِي على الأرضِ
الأبياتُ المشهورة في الحماسةِ ، ثَلَّثَ بالإِخوان لأنهم هم الناصرُون بمنزلة العَضُدِ من الذِّراع . قال :
4242 أخاك أخاك إنَّ مِنْ لا أخا له ... كساعٍ إلى الهَيْجا بغيرِ سلاحِ
وإنَّ ابنَ عمِّ المَرْءِ فاعْلَمْ جناحُه ... وهل ينهَضُ البازي بغير جَناح؟
ثم رَبَّع بالعشيرةِ ، لأنَّ بها يسْتغاثُ ، وعليها يُعْتمد . قال :
4243 لا يَسْألون أخاهم حين يَنْدُبُهُم ... في النائباتِ على ما قال بُرْهانا
وقرأ أبو رجاء " عشيراتِهم " بالجمع ، كما قرأها أبو بكر في التوبة كذلك . وقرأ العامَّةُ " كَتَبَ " مبنياً للفاعل وهو اللَّهُ تعالى ، " الإِيمانَ " نصباً وأبو حيوةَ وعاصمٌ في رواية المفضل " كُتِبَ " مبنياً للمفعول ، " الإِيمانُ " رفعٌ به . والضميرُ في " منه " للَّهِ تعالى . وقيل : يعودُ على الإِيمان؛ لأنه رُوحٌ يَحْيا به المؤمنون في الدارَيْنِ .
(1/5230)
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
قوله : { مِنْ أَهْلِ الكتاب } : " مِنْ " يجوزُ أَنْ تكونَ للبيانِ ، فتتعلَّق بمحذوفٍ ، أي : أعني من أهل الكتاب . والثاني : أنها حالٌ من " الذين كفروا " .
قوله : { مِن دِيَارِهِمْ } متعلق ب " أَخْرَجَ " ومعناها ابتداءُ الغايةِ . وصَحَّتْ إضافةُ الديارِ إليهم لأنهم أَنْشَؤُوها .
قوله : { لأَوَّلِ الحشر } هذه/ اللامُ تتعلقُ ب " أَخْرَجَ " وهي لامُ التوقيتِ كقولِه : { لِدُلُوكِ الشمس } [ الإسراء : 78 ] ، أي : عند أول الحشر . قال الزمخشري : " وهي اللامُ في قولِه تعالى : { ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } [ الفجر : 24 ] وقولِك " جئتُ لوقْتِ كذا " . قلت : سيأتي الكلامُ على هذه اللامِ في الفجرِ ، إنْ شاءَ الله تعالى .
قوله : { مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم } فيه وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونَ " حصونُهم " مبتدأً ، و " مانِعَتُهم " خبرٌ مقدمٌ . والجملةُ خبر " أنهم " لا يُقال : لم لا يُقال : " مانِعَتُهم " مبتدأٌ؛ لأنه معرفةٌ و " حصونُهم " خبرُه . ولا حاجةَ لتقديمٍ ولا تأخيرٍ؛ لأنَّ القصدَ الإِخبارُ عن الحصون ، ولأنَّ الإِضافةَ غيرُ مَحْضَةٍ ، فهي نكرةٌ . والثاني : أَنْ يكونَ " مانِعَتُهم " خبرَ " أنهم " وحصونُهم " فاعلٌ به . نحو : إنَّ زيداً قائمٌ أبوه ، وإنَّ عَمْراً قائمةٌ جاريتُه . وجعله الشيخ أَوْلى؛ لأنَّ في نحو : قائمٌ زيد على أَنْ يكونَ خبراً مقدماً ومبتدأً مؤخراً خلافاً والكوفيون يمنعونَه فمحلُّ الوِفاق أَوْلى .
وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : أيُّ فَرْقٍ بين قولِك " وظنُّوا أنَّ حصونَهم تمنعُهم ، أو مانِعَتُهم ، وبين النظم الذي جاء عليه؟ قلت : [ في ] تقديمِ الخبرِ على المبتدأ دليلٌ على فَرْطِ وُثوقِهم بحَصانتِها ومَنْعِها إياهم ، وفي تصييرِ ضميرِهم اسماً ل " أنَّ " وإسناد الجملةِ إليه دليلٌ على اعتقادِهم في أنفسِهم أنَّهم في عِزَّةٍ ومَنَعَة لا يُبالى معها بأحد يَتَعرَّضُ لَهم ، وليس ذلك في قولك " حُصُونهم تَمْنعهم " انتهى . وهذا الذي ذكره إنما يَتأتَّى على الإِعرابِ الأولِ ، وقد تقدَّم أنه مَرْجوحٌ ، وتَسَلَّطَ الظنُّ هنا على " أنَّ " المشددةِ ، والقاعدةُ أنه لا يعملُ فيها ولا في المخففةِ منها إلاَّ فعلُ عِلْمٍ ويقينٍ ، إجراءً له مُجْرى اليقين لشدَّتِه وقوتِه وأنَّه بمنزلةِ العلم .
قوله : { يُخْرِبُونَ } يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً للإِخبار به ، وأن يكونَ حالاً مِنْ ضميرِ " قلوبِهم " وليس بذاك . وقرأ أبو عمرو " يُخَرِّبون " بالتشديد وباقيهم بالتخفيفِ وهما بمعنى واحدٍ؛ لأن خرَّب عَدَّاه أبو عمروٍ بالتضعيف ، وهم بالهمزة . وعن أبي عمروٍ أنه فَرَّق بمعنىً آخرَ فقال : " خرَّب بالتشديد : هَدَم وأَفْسد ، وأَخْرَبَ بالهمزة : تَرَكَ الموضعَ خراباً وذهَب عنه . واختار الهذليُّ قراءةَ أبي عمروٍ لأجل التكثير . ويجوزُ أَنْ يكونَ " يُخْرِبون " تفسيراً للرعب فلا مَحَلَّ له أيضاً .
(1/5231)
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)
قوله : { الجلاء } : العامَّةُ على مَدَّة وهو الإِخراجُ ، أَجْلَيْتُ القومَ إجلاءً ، وجلا هو جلاءً . وقال الماوردي : " الجَلاءُ أخصُّ من الخروجِ؛ لأنه لا يُقال إلاَّ لجماعةٍ ، والإِخراجُ يكون للجماعةِ والواحد " وقال غيرُه : الفرقُ بينهما أنَّ الجلاءَ ما كان مع الأهلِ والولدِ بخلاف الإِخراجِ فإنه لا يَسْتلزِمُ ذلك .
وقرأ الحسن وعلي ابنا صالح " الجَلا " بألفٍ فقط . وطلحة مهموزاً من غيرِ ألفٍ كالنبأ . وقرأ طلحة " ومَنْ يُشاقِقْ " بالفكِّ كالمتفق عليه في الأنفال .
(1/5232)
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
قوله : { مَا قَطَعْتُمْ } : " ما " شرطيةٌ في موضع نصب ب " قَطَعْتم " و " مِنْ لينةٍ " بيانٌ له . و " فبإِذنِ اللهِ " جزاء الشرطِ . ولا بُدَّ مِنْ حذفٍ ، أي : فقَطْعُها بإذنِ الله ، فيكون " بإذنِ الله " الخبرَ لذلك المبتدأ . واللينةُ فيها خلافٌ كثير ، قيل : هي النخلةُ مطلقاً ، وأُنْشِد :
4244 كأن قُتودي فوقها عُشُّ طائرٍ ... على لِيْنَةٍ سَوْقاءَ تَهْفوا جُنوبها
وقال آخر :
4245 طِراقُ الخوافِي واقعٌ فوقَ لِينة ... نَدَى لَيْلهِ في ريشه يَتَرَقْرَقُ
وقيل : هي النخلة ما لم تكن عجوةً . وقيل : ما لم تكن عَجْوةً ولا بَرْنِيَّة . وقيل : هي النخلةُ الكريمة . وقيل : ما تَمْرُها لُوْنٌ ، وهو نوعٌ من التمر ، قال سفيان : هو شديدُ الصُّفْرة يَشِفُّ عن نواةٍ . وقيل : هي العَجْوة . وقيل : هي الفُسْلان وأنشد :
4246 غَرَسوا لينةً بمَجرى مَعِيْنِ ... ثم حُفَّ النخيلُ بالآجامِ
وقال آخر :
4247 قد جَفاني الأَحْبابُ حين تَغَنَّوا ... بفراقِ الأحبابِ مِنْ فوقِ ليْنَهْ
وقيل : هي أغصان الشجر للينِها .
وفي عين " لِينة " قولان ، أحدهما : أنها واوٌ لأنه من اللون ، وإنما قُلِبَتْ ياءً لسكونِها وانكسارِ ما قبلَها كدِيْمة وقيمة . الثاني : أنها ياءٌ لأنها من اللِّين . وجَمْعُ اللِّينة لِيْن لأنه من بابِ اسم الجنس كتَمْرة وتَمْر . وقد كُسِّر على " لِيان " وهو شاذٌّ؛ لأنَّ تكسيرَ ما يُفَرَّقُ بتاءِ التأنيث شاذٌّ كرُطَبَة ورُطَب وأَرْطاب . وأُنْشد :
4248 وسالفةٌ كسَحُوْقِ اللِّيا ... ن أَضْرَمَ فيه الغَوِيُّ السُّعُرْ
/ والضميرُ في " تَرَكْتموها " عائدٌ على معنى " ما " وقرأ عبدُ الله والأعمش وزيدُ بن علي " قُوَّماً " على وزنِ ضُرَّب؛ جمعَ " قائم " مراعاةً لمعنى " ما " فإنه جمعٌ . وقُرِىءَ " قائماً " مفرداً مذكراً . وقُرِىء " أُصُلِها " بغير واو . وفيه وجهان ، أحدهما : أنه جمعُ " أَصْلٍ " ، نحو : رَهْن ورُهُن . والثاني : أن يكونَ حَذَفَ الواوَ استثقالاً لها .
قوله : { وَلِيُخْزِيَ } اللامُ متعلقةٌ بمحذوفٍ ، أي : ولِيُخْزِيَ أَذِنَ في قَطْعِها ، أو ليُسِرَّ المؤمنين ويُعِزَّهم ولِيُخْزِيَ .
(1/5233)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6)
قوله : { فَمَآ أَوْجَفْتُمْ } : الفاءُ جوابُ الشرطِ ، أو زائدةٌ ، على أنها موصولةٌ مضمَّنَةٌ معنى الشرط . و " ما " نافيةٌ . والإِيجافُ : حَمْلُ البعيرِ على السيرِ السريع يقال : وَجَفَ البعير يَجِفُ وَجْفاً ووَجِيْفاً ووَجَفاناً . وأَوْجفْتُه أنا إيجافاً . قال العَجَّاج :
4249 ناجٍ طواه الأَيْنُ مِمَّا وَجَفا ... وقال نُصَيب :
4250 ألا رُبَّ رَكْبٍ قد قَطَعْتُ وجيفَهم ... إليك ولولا أنت لم تُوجِفِ الرَّكْبُ
قوله : { مِنْ خَيْلٍ } " مِنْ " زائدةٌ ، أي : خَيْلاً . والرِّكاب : الإِبلُ .
(1/5234)
مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
قوله : { مَّآ أَفَآءَ الله } : قال الزمخشري : " لم يُدْخِلِ العاطفَ على هذه الجلمةِ لأنها بيانٌ للأولى ، فهي منها غيرُ أجنبيةٍ " .
قوله : { يَكُونَ دُولَةً } قرأ هشام " تكون " بالتاء والياء " دُوْلةٌ " بالرفع فقط ، والباقون بالياء مِنْ تحتُ ونصب دُوْلَةً . فأمَّا الرفعُ فعلى أنَّ " كان " التامَّةُ . وأمَّا التذكيرُ والتأنيثُ فواضحان لأنه تأنيثٌ مجازيٌّ . وأمَّا النصبُ فعلى أنها الناقصةُ . واسمُها ضميرٌ عائدٌ على الفَيْءِ ، والتذكيرُ واجبٌ لتذكيرِ المرفوع . و " دُولة " خبرها . وقيل : عائد على " ما " اعتباراً بلفظِها . وقرأ العامَّةُ " دُوْلة " بضم الدال . وعلي بن أبي طالب والسُّلميُّ بفتحِها . فقيل : هما بمعنىً وهما ما يَدُول للإِنسان ، أي : يدور من الجِدِّ والعَناء والغَلَبة . وقال الحُذَّاقُ من البصريين والكسائيُّ : الدَّوْلة بالفتح : من المُلك بضم الميم ، وبالضم من المِلْكِ بكسرِها ، أو بالضمِّ في المال ، وبالفتح في النُّصْرة وهذا يَرُدُّه القراءة المرويَّةُ عن علي والسلمي؛ فإنَّ النصرةَ غيرُ مرادةٌ هنا قطعاً . و " كيلا " علةٌ لقولِه : " فللَّهِ وللرسول " ، أي : استقرارُه لكذا لهذه العلَّةِ .
(1/5235)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
قوله : { لِلْفُقَرَآءِ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه بدلٌ مِنْ " لذي القُرْبى " قاله أبو البقاء والزمخشري . قال أبو البقاء : " قيل هو بدلٌ مِنْ " لذي القُربى " وما بعده " وقال الزمخشري : " بدلٌ مِنْ قوله " ولذي القُربى " وما عُطِف عليه . والذي مَنَعَ الإِبدالَ مِنْ " لله وللرسول " والمعطوفِ عليهما وإنْ كان المعنى لرسول الله أن اللّهَ عزَّ وجلَّ أخرجَ رسوله من الفقراءِ في قولِه : { وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ } وأنه تعالى يترفَّعُ برسوله عن تسميته بالفقير ، وأنَّ الإِبدالَ على ظاهرِ اللفظ من خلافِ الواجب في تعظيمِ اللهِ عزَّ وجلَّ " يعني لو قيل : بأنَّه بَدَلٌ مِنْ " لله " وما بعدَه لَزِمَ فيه ما ذُكِرَ : مِنْ أنَّ البدلَ على ظاهرِ اللفظِ يكونُ من الجلالةِ فيُقال : " للفقراء " بدلٌ مِنْ " لله " ومِنْ " رسولِه " وهو قبيحٌ لفظاٌ ، وإن كان المعنى على خلافِ هذا الظاهرِ ، كما قال : إن معناه لرسولِ الله ، وإنما ذُكر اللهُ عزَّ وجلَّ تفخيماً ، وإلاَّ فاللهُ تعالى غنيٌّ عن الفَيْءِ وغيره ، وإنما جعله بدلاً مِنْ " لذي القُرْبى " لأنه حنفيٌّ ، والحنفية يشترطون الفقرَ في إعطاءِ ذوي القُربى مِنَ الفَيْءِ .
الثاني : أنه بيانٌ لقولِه { والمساكين وابن السبيل } وكُرِّرتُ لامُ الجر لَمَّا كانت الأُولى مجرورةً باللام؛ ليُبَيِّنَ أنَّ البدلَ إنما هو منها ، قاله ابنُ عطية ، وهي عبارةٌ قَلِقَةٌ جداً . الثالث : أن " للفقراء " خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، أي : ولكنَّ الفَيْءَ للفقراء . وقيل : تقديرُه : ولكن يكونُ " للفقراء " . وقيل : تقديرُه : اعجَبوا للفقراء .
قوله : { يَبْتَغُونَ } يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً . في صاحبِها قولان ، أحدهما : للفقراء . والثاني : واو " أُخْرِجوا " قالهما مكي .
(1/5236)
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
قوله : { والذين تَبَوَّءُوا } : يجوزُ فيه وجهان ، أحدهما : أنه عطفٌ على الفقراء ، فيكونُ مجروراً ، ويكونُ من عَطْفِ المفرداتِ ، ويكون " يُحبُّون " حالاً . والثاني : أَنْ يكونَ مبتدأ ، خبرُه " يُحِبُّون " ، ويكون حينئذٍ مِنْ عطفِ الجُمل .
قوله : { والإيمان } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه ضُمِّنَ " تَبَوَّؤوا " معنى لزِموا ، فيَصِحُّ عَطْفُ الإِيمان عليه؛ إذ الإيمانُ لا يُتَبَوَّأ . والثاني : أنه منصوبٌ بمقدرٍ ، أي : واعتقدوا ، أو وأَلِفوا ، أو وأحَبُّوا . الثالث : أن يُتَجَوَّز في الإِيمان فيُجْعَلَ لاختلاطِه بهم وثباتِهم عليه كالمكانِ المُحيطِ بهم ، فكأنَّهم نَزَلوه ، وعلى هذا فيكونُ جَمَعَ بين الحقيقةِ والمجازِ في كلمةٍ واحدةٍ ، وفيه خلافٌ مشهورٌ . الرابع : أَنْ يكونَ الأصلُ : / دارَ الهجرة ودارَ الإِيمان ، فأقامَ لامَ التعريفِ في الدار مُقام المضافِ إليه ، وحَذَفَ المضافَ مِنْ دار الإِيمان ، ووَضَعَ المضافَ إليه مَقامه . الخامسُ . أَنْ يكونَ سَمَّى المدينة لأنَّها دارُ الهجرة ومكانُ ظهورِ الإِيمان بالإِيمان ، قال هذين الوجهَيْنِ الزمخشريُّ ، وليس فيه إلاَّ قيامُ أل مَقامَ المضافِ إليه ، وهو مَحَلُّ نَظَر ، وإنما يُعْرَفُ الخلافُ : هل تقوم أل مَقامَ الضميرِ المضاف إليه؟ الكوفيون يُجيزونه كقولِه تعالى : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 39 ] ، أي : مَأْواه ، والبصريون يمنعونه ويقولون : الضميرُ محذوفٌ ، أي : المَأْوى له وقد تقدَّمَ تحريرُ هذا . أمَّا كونُها عِوَضاً من المضاف إليه فلا نَعْرِفُ فيه خلافاً .
السادس : أنَّه مصنوبٌ على المفعولِ معه ، أي : مع الإِيمان معاً ، قاله ابن عطية ، وقال : " وبهذا الاقترانِ يَصِحُّ معنى قولِه " مِنْ قبلهم " فتأمَّلْه " قلت : وقد شَرَطوا في المفعول معه أنَّه يجوز عَطْفُه على ما قبلَه حتى جَعَلوا قولَه { فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ } مِنْ بابِ إضمار الفعل لأنَّه لا يُقال : أجمعتُ شركائي إنما يقال جَمَعْتُ ، وقد تقدَّم القولُ في ذلك ولله الحمد مشبعاً .
قوله : { حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ الحاجةَ هنا على بابِها من الاحتياج ، إلاَّ أنها واقعةٌ مَوْقعَ المحتاجِ إليه ، والمعنَى : ولا يجدون طَلَبَ محتاجٍ إليه ممَّا أُوْتي المهاجرون من الفيء وغيِره ، والمُحتاج إليه يُسَمَّى حاجةً تقول : خُذْ منه حاجتَك ، وأعطاه مِنْ مالِه حاجتَه ، قاله الزمشخري . فعلى هذا يكون الضميرُ الأول للجائين مِنْ بعدِ المهاجرين ، وفي " أُوْتوا " للمهاجرين . والثاني : أنَّ الحاجةَ هنا مِنْ الحَسَدِ ، قاله بعضُهم ، والضميران على ما تقدَّم قبل . وقال أبو البقاء : مَسَّ حاجةٍ ، أي : إنه حُذِف المضافُ للعلم به ، وعلى هذا فالضميران للذين تبوَّؤوا الدارَ والإِيمان .
قوله : { وَلَوْ كَانَ بِهِمْ } واوُ الحال وقد تقدَّم الكلامُ عليها .
والخَصاصَةُ : الحاجةُ ، وأصلُها مِنْ خَصاصِ البيت ، وهي فُروجهُ ، وحالُ الفقير يتخَلَّلُها النَّقْصُ ، فاسْتُعير لها ذلك .
قوله : { وَمَن يُوقَ } العامَّةُ على سكون الواو وتخفيفِ القافِ مِنْ الوِقاية . وابنُ أبي عبلة وأبو حيوة بفتحِ الواو وشدِّ القافِ . والعامَّةُ بضمِّ الشينِ مِنْ " شُحَّ " وابنُ أبي عبلة وابنُ عمر بكسرها .
(1/5237)
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
قوله : { والذين جَآءُوا } : يحتمل الوجهَيْن المتقدمَيْن في " الذين " قبلَه ، فإن كان معطوفاً على المهاجرين ف " يقولون " حالٌ ك " يُحِبُّون " أو مستأنف ، وإنْ كان مبتدأً ف " يقولون " خبرُه .
(1/5238)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)
قوله : { لإِخْوَانِهِمُ } : اللامُ هنا للتبليغ فقط بخلافِ قولِه : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } فإنَّها تحتملُ ذلك وتحتمل العلةَ ، وقوله : { وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ } ، أي : في قتالِكم ، أو في خِذْلانكم .
وقوله : { وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ } أُجيب القسمُ المقدرُ لأنَّ قبل " إنْ " لاماً موطِّئة حُذِفَتْ للعِلْم بمكانِها ، فإنَّ الأكثرَ الإِتيانُ بها . ومثلُه قولُه : { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ } [ المائدة : 73 ] وقد تقدَّم .
(1/5239)
لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12)
قوله : { لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ } : إلى آخره أُجيب القسمُ لسَبْقِه ، ولذلك رُفِعَتِ الأفعالُ ولم تُجْزَمْ ، وحُذِفَ جوابُ الشرطِ لدلالةِ جوابِ القسمِ عليه ، ولذلك كان فِعلُ الشرطِ ماضياً . وقال أبو البقاء : " قولُه : " لا يَنْصُرُوْنَهم " لَمَّا كان الشرطُ ماضياً تُرِكَ جَزْمُ الجوابِ " انتهى . وهو غَلَطٌ؛ لأنَّ " لا يَنْصُرونهم " ليس جواباً للشرطِ ، بل هو جوابٌ للقسم ، وجواب الشرطِ محذوفٌ كما تقدَّمَ تقريرُه ، وكأنه توهَّم أنه من بابِ قوله :
4251 وإن أتاه خليلٌ يومَ مَسْأَلَةٍ ... يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حَرِمُ
وقد سبق أبا البقاء ابنُ عيطة إلى ما يُوْهِم شيئاً من ذلك ، ولكنه صرَّح بأنه جوابُ القسم ، وقال : " جاءت الأفعالُ غير مجزومةٍ في " لا يَخْرجون " ولا " يَنْصُرون " لأنها راجعةٌ على حكم القسم لا على حكمِ الشرط . وفي هذا نظرٌ " وقوله : " وفي هذا نظر " مُوْهِمٌ أنه جاء على خلافِ ما يقتضيه القياسُ ، وليس كذلك ، بل جاء على ما يَقْتضيه القياسُ . وفي هذه الضمائرِ قولان ، أحدهما : أنها كلَّها للمنافقين . والثاني : أنها مختلفةٌ ، بعضُها لهؤلاء وبعضُها لهؤلاء .
(1/5240)
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13)
قوله : { لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً } : " رهبةً " مصدرٌ مِنْ رُهِبَ المبنيِّ للمفعولِ ، فالرهبةُ واقعةٌ من المنافقين لا مِنْ المخاطبين ، كأنه قيل : لأنتم أشدُّ مرهوبيَّةً في صدورِهم من اللهِ فالمخاطبون مَهوبون ، وهو كقولِ كعبِ بن زهير رضي الله عنه في مَدْح رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم :
4252 فَلَهْوَ أَخْوَفُ عندي إذا أُكَلِّمُهُ ... وقيل : إنك محبوسٌ ومقتولُ
مِنْ ضَيْغَمٍ بثَراءِ الأرضِ مُخْدَرُه ... ببَطْنِ عَثَّر غِيْلٌ دونَه غِيْلُ
و " رُهْبةً " تمييز .
(1/5241)
لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)
قوله : { جَمِيعاً } : حالٌ و { إِلاَّ فِي قُرًى } متعلقٌ ب " يُقاتِلونكم " .
وقوله : { جُدُرٍ } قرأ ابنُ كثير وأبو عمرو " جدار " بالإِفرادِ . وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه أرادَ به السُّوْرَ ، والسُّوْرُ الواحد يَعُمُّ الجميعَ من المقاتِلةِ ويَسْتُرهم . والثاني : أنه واحدٌ في معنى الجمع لدلالة السِّياقِ عليه . والثالث : أنَّ كلَّ فِرْقة منهم وراءَ جدار ، لا أنَّهم كلَّهم وراءَ جدار . والباقون قَرَؤُوا جُدُر بضمتين/ اعتباراً بأنَّ كلَّ فِرْقةٍ وراءَ جدار ، فجُمِعَ لذلك . وقرأ الحسن وأبو رجاء وابن وثاب والأعمش ، ويُرْوى عن ابن كثير وعاصمٍ بضمةٍ وسكونٍ ، وهي تخفيفُ الأُولى . وقرأ ابن كثير أيضاً في وراية هارونَ عنه ، وهي قراءةُ كثيرٍ من المكيين " جَدْرٍ " بفتحة وسكون فقيل : هي لغةٌ في الجِدار . وقال ابن عطية : " معناه أصلُ بنيانٍ كالسُّور ونحوه " قال : " ويُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ جَدْر النخيل ، أي : أو مِنْ وراءِ نخيلهم . وقُرِىء " جَدَر " بفتحتين حكاها الزمخشريُّ ، وهي لغةٌ في الجِدار أيضاً .
قوله : { بَيْنَهُمْ } متعلِّقٌ بشديد و " جميعاً " مفعولٌ ثانٍ ، أي : مجتمعين و " قلوبُهم شَتَّى " جملةٌ حاليةٌ أو مستأنفةٌ للإِخبار بذلك . والعامَّةُ على " شتى " بلا تنوينٍ لأنَّها ألفُ تأنيثٍ . ومِنْ كلامهم : " شتى تَؤُوب الحَلَبةُ " ، أي : متفرِّقين . وقال آخر :
4253 إلى اللهِ أَشْكو فِتْنَةً شَقَّت العِصا ... هي اليومَ شَتَّى وهْي أَمْسِ جميعُ
وقرأ مبشر بن عبيد " شتىً " منونة ، كأنه جعلها ألفَ الإِلحاق .
(1/5242)
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15)
قوله : { كَمَثَلِ الذين } : خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : مثلُهم مثلُ هؤلاء . و " قريباً " فيه وجهان ، أحدهما : أنَّه منصوبٌ بالتشبيه المتقدم ، أي : يُشَبِّهونهم في زمنٍ قريب سيقع لا يتأخر ، ثم بَيَّنَ ذلك بقوله : { ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } . والثاني : أنه منصوبٌ ب " ذاقوا " ، أي : ذاقوه في زمنٍ قريب سيقع ولم يتأخَّرْ . وانتصابُه في وجهَيْه على ظرف الزمان . وقوله : { كَمَثَلِ الشيطان } [ الحشر : 16 ] كالبيان لقولِه : { كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ } .
(1/5243)
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
قوله : { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ } : العامَّةُ على نصب " عاقَبَتَهُما " بجَعْلِه خبراً ، والاسمُ " أنَّ " وما في حَيَّزها؛ لأنَّ الاسمَ أَعْرَفُ مِنْ " عاقبتَهُما " . وقد تقدَّم تحريرُ هذا في آل عمران والأنعام . وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن أرقم برفعِها على جَعْلِها اسماً ، و " أنَّ " وما في حَيِّزها خبراً كقراءةِ { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الأنعام : 23 ] .
قوله : { خَالِدَينَ } العامَّةُ على نَصْبِه حالاً من الضمير المستكنِّ في الجارِّ لوقوعِه خبراً . وعبد الله وزيد بن علي والأعمش وابن أبي عبلة برفعِه خبراً ، والظرفُ مُلْغَى فيتعلَّق بالخبر ، وعلى هذا فيكون تأكيداً لفظياً للحرفِ وأُعيد معه ضميرُ ما دَلَّ عليه كقولِه : { فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا } [ هود : 108 ] وهذا على مذهب سيبويه فإنه يُجيز إلغاءَ الظرفِ وإنْ أُكِّدَ ، والكوفيون يَمْنَعونَه وهذا حُجَّةٌ عليهم . وقد يُجيبون : بأنَّا لا نُسَلِّمُ أَنَّ الظرفَ في هذه القراءةِ مُلْغَى ، بل نجعلُه خبراً ل " أنَّ " وخالدان خبرٌ ثانٍ ، وهو مُحْتمِلٌ لِما قالوه إلاَّ أنَّ الظاهرَ خلافُه .
(1/5244)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
قوله : { وَلْتَنظُرْ } : العامَّةُ على سكونِ لامِ الأمرِ . وأبو حيوة ويحيى بنُ الحارث بكسرِها على الأصل . والحسنُ بكسرها ونصبِ الفعل ، جَعَلَها لامَ كي ، ويكونُ المُعَلَّلُ مقدراً ، أي : ولْتنظر نفسٌ حَذَّركم وأَعْلمكم . وتنكيرُ النفسِ والغدِ . قال الزمخشري : " أمَّا تَنْكيرُ النفسِ فلاستقلالِ الأنفسِ النواظرِ فيما قَدَّمْنَ للآخرةِ ، كأنه قيل : لتنظرْ نفسٌ واحدةٌ . وأمَّا تنكيرُ الغد فلتعظيمِه وإبهامِ أَمْرِه كأنه قيل : لِغدٍ لا يُعْرَفُ كُنْهُهُ لعِظَمِه " .
وقوله : { واتقوا الله } تأكيدٌ : وقيل : كُرِّر لتغايُرِ متعلَّق التَّقْوَيَيْنِ فمتعلَّقُ الأولى أداءُ الفرائضِ لاقترانِه بالعمل ، والثانيةِ تَرْكُ المعاصي لاقترانِه بالتهديد والوعيدِ ، قال معناه الزمخشري .
(1/5245)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)
قوله : { وَلاَ تَكُونُواْ } : العامَّةُ على الخطابِ . وأبو حيوة بالغَيْبة على الالتفاتِ .
(1/5246)
لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
قوله : { أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون } : كالتفسير لنفي تساوِيْهما . و " هم " يجوزُ أَنْ يكونَ فَصْلاً ، وأَنْ يكونَ مبتدأ ، فعلى الأول الإِخبارُ بمفردٍ ، وعلى الثاني بجملةٍ .
(1/5247)
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
قوله : { خَاشِعاً } : حالٌ؛ لأن الرؤيةَ بَصَرية . وقرأ طلحة " مُصَّدِّعاً " بإدغام التاء في الصاد .
وأبو ذر وأبو السَّمَّال " القَدُّوس " بفتح القاف . وقرأ العامَّةُ " المُؤْمِنُ " بكسر الميم اسمَ فاعل مِنْ آمَن بمعنى أَمَّن . وأبو جعفر محمد بن الحسين وقيل ابن القعقاع : بفتحها . فقال الزمخشري : " بمعنى المُؤْمَنِ به على حَذْفِ حرف الجر ، كما تقول في قومَ موسى مِنْ قولِه { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] المختارون " . وقال أبو حاتم : " لا يجوزُ ذلك ، أي : هذه القراءة؛ لأنه لو كان كذلك لكان " المؤمَنُ به " وكان جارَّاً ، لكن المؤمَنَ المطلقَ بلا حرفِ جر/ يكون مَنْ كان خائفاً فأُمِّنَ " فقد رَدَّ ما قاله الزمخشريُّ .
(1/5248)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
قوله : { الجبار } : اسْتَدَلَّ به مَنْ يقول : إن أمثلةَ المبالغةِ تأتي من المزيدِ على الثلاثةِ ، فإنه مِنْ أَجْبَرَه على كذا ، أي : قهره . قال الفراء : " ولم أسمع فعَّالاً مِنْ أَفْعلَ إلاَّ في جَبَّار وَدَّراك مِنْ أدرك " انتهى . واسْتُدْرك عليه : أَسْأَر فهو سَأر . وقيل : هو من الجَبْر وهو الإِصلاحُ . وقيل : مِنْ قولِهم نَخْلَةٌ جَبَّارة ، إذ لم تَنَلْها الجُناةُ . قال امرؤ القيس :
4254 سَوامِقُ جَبَّارٍ أثيثٍ فُروعُه ... وعالَيْنَ قِنْواناً مِن البُسْر أَحْمرا
(1/5249)
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
قوله : { المصور } : العامَّةُ على كسرِ الواوِ ورفعِ الراءِ : إمَّا صفةً ، وإمَّا خبراً . وقرأ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن وابن السَّمَيْفَع وحاطب بن أبي بَلْتعة بفتح الواو ونصب الراء . وتخريجُها : على أن يكونَ منصوباً بالباري والمُصَوَّر هو الإِنسانُ : إمَّا آدمُ ، وإمَّا هو وبنوه . وعلى هذه القراءةِ يَحْرُم الوقفُ على " المصوَّر " بل يجب الوصلُ ليظهرَ النصبُ في الراء ، وإلاَّ فقد يُتَوَهَّمُ منه في الوقفِ ما لا يجوزُ . ورُوي عن أمير المؤمنين أيضاً فَتْحُ الواوِ وجَرُّ الراءِ . وهي كالأُولى في المعنى ، إلاَّ أنه أضاف اسمَ الفاعل لمعمولِه تخفيفاً نحو : الضاربُ الرجلِ . والوقف على المصوَّر في هذه القراءةِ أيضاً حرامٌ . وقد نَبَّه عليه بعضُهم . وقال مكي : " ويجوز نصبُه في الكلام ، ولا بُدَّ مِنْ فتح الواوِ ، فتنصبُه بالباري ، أي : هو اللهُ الخالقُ المصوَّر ، يعني آدمَ عليه السلام وبنيه " انتهى . قلت : قد قُرِىء بذلك كما تقدَّم ، وكأنه لم يَطَّلِعْ عليه . وقال أيضاً : " ولا يجوز نصبُه مع كسرِ الواوِ ، ويُرْوى عن علي رضي الله عنه " يعني أنه إذا كُسِرَت الواوُ كان من صفاتِ اللهِ تعالى ، وحينئذٍ لا يَسْتقيم نصبُه عنده؛ لأنَّ نَصْبَه باسمِ الفاعلِ قبلَه . وقوله : " ويُروى " ، أي : كسرُ الواوِ ونصبُ الراء . وإذا صَحَّ هذا عن أمير المؤمنين فيتخرَّج على أنه من القطع . كأنه قيل : أَمْدَحُ المصوِّر كقولِهم : " الحمدُ لله أهلَ الحمد " بنصب أهلَ ، وقراءةِ مَنْ قرأ { للَّهِ رَبَّ العالمين } [ الفاتحة : 1 ] بنصب " ربَّ " قال مكي : " والمصوِّر : مُفَعِّل مِنْ صَوَّر يُصَوِّرُ ، ولا يحسُنُ أَنْ يكونَ مِنْ صار يَصير؛ لأنه يلزمُ منه أَنْ يقال : المُصَيِّر بالياء " ومثلُ هذا من الواضحات ولا يقبله المعنى أيضاً .
(1/5250)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
قوله : { عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } : هذان مفعولا الاتخاذ . والعدوُّ لَمَّا كان بزنةِ المصادِر وقعَ على الواحدِ فما فوقَه ، وأضاف العدوَّ لنفسه تعالى تغليظاً في جُرْمِهم .
قوله : { تُلْقُونَ } فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه تفسيرٌ لموالاتِهم إياهم . الثاني : أنه استئنافُ إخبارٍ بذلك فلا يكون للجلمة على هذين الوجهَين محلٌّ من الإِعراب . الثالث : أنها حالٌ مِنْ فاعل " تَتَّخِذوا " أي : لا تتخذوا مُلْقِين المودةَ . الرابع : أنها صفة ل " أولياءَ " . قال الزمخشري : " فإن قلتَ : إذا جَعَلْتَه صفةً لأولياء ، وقد جَرَى على غير مَنْ هوله ، فأين الضميرُ البارزُ ، وهو قولُك : تُلْقُون إليهم أنتم بالمودة؟ قلت : ذاك إنما اشترطوه في الأسماءِ دونَ الأفعالِ لو قيل : أولياءَ مُلْقِين إليهم بالمودَّة على الوصف لَما كان بُدٌّ مِن الضميرِ البارزِ " قلت : قد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ مستوفاةً ، وفيها كلامٌ لمكي وغيرِه . إلاَّ أن الشيخَ اعترضَ على كونِها صفةً أو حالاً بأنهم نُهُوا عن اتخاذِهم أولياءً مطلقاً في قولِه : { لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ } [ المائدة : 51 ] والتقييدُ بالحالِ والوصفِ يُوهم جوازَ اتِّخاذهم أولياءَ إذا انتفى الحالُ أو الوصفُ . ولا يَلْزَمُ ما قال لأنه معلومٌ من القواعدِ الشرعيةِ فلا مفهومَ لهما البتةَ . وقال الفراء : " تُلْقون من صلةِ أولياء " وهذا على أصولِهم مِنْ أنَّ النكرةَ تُوْصَلُ كغيرها من الموصولات .
قوله : { بالمودة } في الباء ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن الباءَ مزيدةٌ في المفعولِ به كقولِه : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] . والثاني : أنها غيرُ مزيدةٍ والمفعولُ محذوفٌ ، ويكون معنى الباءِ السببَ . كأنه قيل : تُلْقُوْن إليهم أسرارَ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأخبارَه بسبب المودةِ التي بينكم . / والثالث : أنها متعلقةٌ بالمصدرِ الدالِّ عليه " تُلْقُون " أي : إلقاؤُهم بالمودَّةِ ، نقله الحوفيُّ عن البصريين ، وجَعَلَ القولَ بزيادةِ الباءِ قولَ الكوفيين . إلاَّ أن هذا الذي نَقَله عن البصريين لا يُوافقُ أصولَهم؛ إذ يَلْزَمُ منه حَذْفُ المصدرِ وإبقاءُ معموله ، وهو لا يجوزُ عندَهم . وأيضاً فإنَّ فيه حَذْفَ الجملةِ برأسِها ، فإنَّ " إلقاءَهم " مبتدأ و " بالمودة " متعلقٌ به ، والخبرُ أيضاً محذوفٌ . وهذا إجحافٌ .
قوله : { وَقَدْ كَفَرُواْ } فيه أوجهٌ : الاستئناف ، والحالُ مِنْ فاعِل " تتَّخذوا " والحالُ مِنْ فاعلِ " تُلْقُون " أي : لا تتولَّوْهم ولا توادُّوهم وهذه حالُهم . والعامَّةُ " بما " بالباء ، والجحدري وعاصمٌ في روايةٍ " لِما " باللام أي : لأجلِ ما جاءكم ، فعلى هذا الشيءِ المكفورِ غيرُ مذكور ، تقديره : كفروا باللَّهِ ورسولِه .
قوله : { يُخْرِجُونَ الرسول } يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً ، وأن يكونَ تفسيراً لكُفْرِهم ، فلا مَحَلَّ له على هذَيْن ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل " كفروا " .
قوله : { وَإِيَّاكُمْ } عطفٌ على الرسول . وقُدِّم عليهم تَشريفاً له .
(1/5251)
وقد استَدَلَّ به مَن يُجَوِّزُ انفصالَ الضميرِ مع القدرةِ على اتصالِه ، إذ كان يجوز أَنْ يُقال : يُخْرجونكم والرسولَ ، فيجوز : " يُخْرجون إياكم والرَّسولَ " في غيرِ القرآنِ وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ حالةَ تقديمِ الرسولِ دلالةٌ على شَرَفِه . لا نُسَلِّمُ أنه يُقَدَرُ على اتِّصاله . وقد تقدَّم لك الكلامُ على هذه الآيةِ عند قولِه تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } في سورةِ النساء فعليك باعتباره .
قوله : { أَن تُؤْمِنُواْ } مفعولٌ له . وناصبُه : " يُخْرِجون " أي : يُخْرجونكم لإِيمانِكم أو كراهةَ إيمانِكم .
قوله : { إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ } جوابُه محذوفٌ عند الجمهور لتقدُّمِ " لا تتَّخذوا " ، ومقدم وهو " لا تتخذوا " عند الكوفيين ومَنْ تابعهم . وقد تقدَّم تحريرُه . وقال الزمخشري : و { إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ } متعلِّقٌ ب " لا تَتَّخذوا " . يعين : لا تتولَّوْا أعدائي إنْ كنتم أوليائي . وقولُ النحويين في مثلِه : هو شرطٌ ، جوابُه محذوفٌ لدلالةِ ما قبله عليه " انتهى . يريد أنَّه متعلِّقٌ به من حيث المعنى . وأمَّا من حيث الإِعراب فكما قال جمهورُ النَّحْويين .
قوله : " جِهَاداً وابتغآء " يجوزُ أَنْ يُنْصَبا على المفعول له أي : خَرَجْتُمْ لأجلِ هذَيْن ، أو على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي : تُجاهِدون ، وتبتَغُون ، أو على أنهما في موضع الحال .
قوله : { تُسِرُّونَ } يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً ، ولم يذكُر الزمخشريُّ غيرَه ، وأن يكونَ حالاً ثانية مِنْ ما انتصب عنه " تُلْقُون " حالاً ، وأَنْ يكونَ بدلاً مِنْ " تُلْقُون " ، قاله ابن عطية . ويُشْبه أَنْ يكونَ بدلَ اشتمالٍ لأنَّ إلقاءَ المودةِ يكون سرّاً وجَهْراً ، فَأَبْدَل منه هذا للبيانِ بأيِّ نوعٍ وقع الإِلقاء ، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : أنتم تُسِرُّون ، قاله ابن عطية ، ولا يَخْرجُ عن معنى الاستئناف . وقال أبو البقاء : " هو توكيدٌ ل " تُلْقُون " بتكريرِ معناه " وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الإِلقاءَ أعمُّ مِنْ أَنْ يكونَ سِرَّاً أو جَهْراً .
وقوله : { بالمودة } الكلامُ في الباء هنا كالكلامِ عليها بعد " تُلْقُون " .
قوله : { وَأَنَاْ أَعْلَمُ } هذه الجملةُ حالٌ مِنْ فاعل " تُسِرُّون " أي : وأيُّ طائلٍ لكم في إسْراركم وقد عَلِمتم أن الإِسرارَ والإِعلان سيَّانِ في علمي؟ و " أعلمُ " يجوز أن يكونَ أفعلَ تفضيل وهو الظاهرُ ، وأَنْ يكون فعلاً مضارعاً . قال ابن عطية : " وعُدِّي بالباء لأنك تقول : علمتُ بكذا " .
قوله : { وَمَن يَفْعَلْهُ } في الضمير وجهان ، أظهرهما : أنه يعود على الإِسرار؛ لأنه أقربُ مذكورٍ . والثاني : أنه يعودُ على الاتخاذ ، قاله ابنُ عطية .
قوله : { سَوَآءَ السبيل } يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً على الظَّرْفِ إنْ قلنا : " ضَلَّ " قاصرٌ ، وأَنْ يكونَ مفعولاً به إنْ قلنا : هو متعدٍّ .
(1/5252)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)
قوله : { وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } : في " وَدُّوا " وجهان ، أحدهما : أنه معطوفٌ على جواب الشرطِ وهو قوله : " يكونوا " و " يَبْسُطوا " قاله الزمخشري . ثم رتَّب عليه سؤالاً وجواباً فقال : " فإنْ قلتَ : كيف أورَدَ جوابَ الشرط مضارعاً مثلَه ثم قال : " وَدُّوا " بلفظ الماضي؟ قلت : الماضي وإنْ كان يجري في باب الشرط مَجْرى المضارع في علم الإِعراب ، فإن فيه نكتةً ، كأنه قيل : وودُّوا قبل كلِّ شيءٍ كُفْرَكم وارتدادَكم ، يعني : أنهم يريدون أن يُلْحِقوا بكم مَضارَّ الدنيا والآخرةِ جميعاً " . والثاني : أنه معطوفٌ على جملةِ الشرط والجزاء ، ويكون تعالى قد أخبر بخبَرَيْن : بما تَضَمَّنَتْه الجملةُ الشرطيةُ ، وبودادتهم كُفْرَ المؤمنين . وجعل الشيخُ هذا راجحاً ، وأسقط به سؤالَ الزمخشريِّ وجوابَه فقال : " وكان الزمخشريُّ فَهِمَ مِنْ قولِه : " وَوَدُّوا " أنه معطوفٌ على جوابِ الشرطِ . والذي يظهرُ أنه ليس معطوفاً عليه لأنَّ/ ودادتَهم كفرَهم ليسَتْ مترتبةً على الظفر بهم والتسليطِ عليهم ، بل هم وادُّون كفرَهم على كلِّ حالٍ ، سواءً ظَفِروا بهم أم لم يظفروا بهم " . انتهى .
قلت : والظاهرُ أنه عطفٌ على الجواب . وقوله : هم وادُّون ذلك مُطلقاً مُسَلَّمٌ ، ولكن ودادتَهم له عند الظفرِ والتسليطِ أقربُ وأطمعُ لهم فيه .
وقوله : { لَوْ تَكْفُرُونَ } يجوزُ أَنْ تكونَ لما سيقعُ لوقوع [ غيرِه ] ، وأَنْ تكونَ المصدريةَ عند مَنْ يرى ذلك ، وقد تقدَّم تحريرهما في البقرة .
(1/5253)
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
قوله : { يَوْمَ القيامة } : يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أَنْ يتعلَّقَ بما قبلَه أي : لن ينفعَكم يومَ القيامة فَيُوقَفُ عليه ويُبْتدأ " يَفْصِلُ بينكم " . والثاني : أَنْ يتعلَّقُ بما بعده أي : يَفْصِلُ بينكم يومَ القيامة ، فيوقف على " أولادكم " ويُبتدأ " يوم القيامة " .
والقُرَّاء في " يَفْصِلُ " بينكم على أربعِ مراتبَ ، الأولى : لابن عامر بضم الياءِ وفتح الفاءِ والصادُ مثقَّلةٌ . الثانية : كذلك إلاَّ أنَّه بكسرِ الصاد للأخوَيْن . الثالثة : بفتح الياء وسكونِ الفاءِ وكسرِ الصاد مخففةً لعاصم . الرابعة : بضمِّ الياء وسكونِ الفاءِ وفتح الصادِ مخففةً للباقين ، وهم نافعٌ وابنُ كثير وأبو عمروٍ هذا في السَبعة . وقرأ ابنُ أبي عبلةٍ وأبو حيوةَ بضم الياء وسكون الفاء وكسرِ الصادِ مخففةً ، مِنْ أَفْصَلَ . وأبو حيوة أيضاً " نُفْصِلُ " بضمِّ النونِ مِنْ أَفْصَلَ . والنخعيُّ وطلحة " نُفَصِّلُ " بضم النون وفتح الفاء وكسر الصاد مشددةً . وقرأ أيضاً وزيد بن علي " نَفْصِلُ " بفتح النون وسكون الفاء وكسرِ الصاد مخففةً . فهذه أربعٌ فصارت ثمانِ قراءاتٍ .
فمَنْ بناه للمفعولِ فالقائمُ مقام الفاعلِ : إمَّا ضميرُ المصدرِ أي : يُفْصَل الفصلُ أو الظرف ، وبُني على الفتح لإِضافته إلى غير متمكن كقوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] في أحدِ الأوجه ، أو الظرفُ وهو باقٍ على نصبِه كقولك : " جُلس عندَك " .
(1/5254)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
قوله : { في إِبْرَاهِيمَ } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه متعلقٌ ب " أُسوة " تقول : " لي أُسْوَة في فلان " . وقد منع أبو البقاء أَنْ يتعلَّقَ بها . قال : " لأنها قد وُصِفَتْ " وهذا لا يُبالى به لأنه يُغتفر في الظرفِ ما لا يُغتَفر في غيره . الثاني : أنه متعلق بحسنة تعلُّقَ الظرفِ بالعامل . الثالث : أنَّه نعتٌ ثانٍ لأُسْوَة . الرابع : أنه حالٌ من الضمير المستترِ في " حسنةٌ " . الخامس : أن يكونَ خبرَ كان ، و " لكم " تبيينٌ . وقد تقدَّم لك قراءتا " أسْوة " في الأحزاب ، والكلامُ على مادتِها .
قوله : { إِذْ قَالُواْ } فيه وجهان ، : أحدهما : أنَّه خبرُ كان . والثاني : أنه متعلقٌ بخبرها ، قالهما أبو البقاء . ومَنْ جَوَّزَ في " كان " أَنْ تعملَ في الظرف عَلَّقه بها .
قوله : { بُرَآءُ } هذه قراءةُ العامَّةِ بضمِّ الباءِ وفتح الراءِ وألفٍ بين همزتَيْن ، جمعَ بريء ، نحو : كُرَماء في جمع كريم . وَعيسى الهمذاني بكسرِ الباء وهمزةٍ واحدةٍ بعد ألف نحو : كرام في جمع كريم . وعيسى أيضاً ، وأبو جعفر ، بضم الباءِ وهمزةٍ بعد ألف . وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه جمعُ بَرِيْء أيضاً ، والأصلُ كسرُ الباءِ ، وإنما أبدل من الكسرةِ ضمةً ، ك رُخال ورُباب قاله الزمخشري . الثاني : أنه جمعٌ أيضاً ل بَرِيء ، وأصلُه برَآء كالقراءةِ المشهورة ، إلاَّ أنه حَذَفَ الهمزة الأولى تخفيفاً ، قاله أبو البقاء . الثالث : أنه اسمُ جمعٍ ل بريء نحو : تُؤَام وظُؤَار اسْمَيْ جمعٍ لتَوْءَم وظِئْر . وقرأ عيسى أيضاً : " بَراء " بفتح الباء . وهمزة بعد ألف كالتي في الزخرف ، وصَحَّ ذلك لأنه مصدرٌ والمصدرُ يقع على الجمع كوقوعِه على الواحد . قال الزمخشري : " والبَراء والبراءةُ كالظَّماء والظَّماءة " . وقال مكي : " وأجاز أبو عمروٍ وعيسى ابن عمر " بِراء " بكسر الباء جعله ككريم وكِرام . وأجاز الفراء " بَراء " بفتح الباء " ثم قال : " وبَراء في الأصلِ مصدرٌ " كأنه لم يَطَّلِعْ عليها قراءةً منقولةً .
قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه استثناءٌ متصلٌ مِنْ قولِه : " في إبراهيم " ولكنْ لا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ ليصِحَّ الكلامُ ، تقديرُه : في مقالات إبراهيم/ إلاَّ قولَه كيت وكيت . الثاني : أنه مستثنى مِنْ " أسوةٌ حسنةٌ " وجاز ذلك لأن القولَ أيضاً من جملة الأُسْوة؛ لأن الأسوةَ الاقتداءُ بالشخص في أقوالِه وأفعالِه ، فكأنه قيل لكم : فيه أُسْوة في جميع أحوالِه من قَوْلٍ وفِعْلٍ إلاَّ قولَه كذا . وهذا عندي واضحٌ غيرُ مُحْوِجٍ إلى تقديرِ مضافٍ وغيرُ مُخْرِجِ الاستثناءِ من الاتصالِ الذي هو أصلُه إلى الانقطاع ، ولذلك لم يذكُر الزمخشريُّ غيرَه قال : " فإنْ قلتَ مِمَّ استثنى قَولَه : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ } ؟ قلت مِنْ قولِه : " أُسْوَةٌ حسنةٌ " لأنه أرادَ بالأُسوةِ الحسنةِ قولهم الذي حَقَّ عليهم أَنْ يَأْتَسُوا به ويتخذوه سنةً يَسْتَنُّون بها .
(1/5255)
فإنْ قلت : فإنْ كانَ قولُه : " لأستغفرَنَّ لك " مستثنى من القولِ الذي هو أُسْوَةٌ حسنةٌ فما بالُ قولِه : { وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ } ، وهو غيرُ حقيقٍ بالاستثناء . ألا ترى إلى قولِه : { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً } [ الفتح : 11 ] قلت : أرادَ استثناءَ جملةِ قولِه لأبيه ، والقصدُ إلى موعدِ الاستغفارِ له وما بعده مبنيٌّ عليه وتابعٌ له . كأنه قال : أنا أستغفر لك وما في طاقتي إلاَّ الاستغفارُ " . الثالث : قال ابن عطية : " ويحتمل أن يكون الاستثناءُ من التبرُّؤِ والقطيعة التي ذُكِرت أي : لم تُبْقِ صلةً إلاَّ كذا " . الرابع : أنه استثناءٌ منقطع أي : لكنْ قولُ إبراهيم . وهذا بناءً مِنْ قائليه على أنَّ القولَ لم يَنْدَرِجْ تحت قولِه : " أُسْوة " وهو ممنوعٌ .
(1/5256)
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
قوله : { رَبَّنَا } : يجوز أنْ يكونَ مِنْ مقولِ إبراهيمَ والذين معه فهو من جملةِ الأُسْوَةِ الحسنةِ ، وفَصَلَ بينهما بالاستثناءِ ويجوز أَنْ يكونَ منقطعاً ممَّا قبله على إضمارِ قولٍ ، وهو تعليمٌ من الله تعالى لعبادِه كأنَّه قال لهم : قولوا ربَّنا عليك تَوَكَّلْنا . والأولُ أظهرُ .
(1/5257)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
قوله : { لِّمَن كَانَ يَرْجُو } : بدلٌ من الضمير في " لكم " بدلُ بعضٍ مِنْ كل . وقد تقدَّم مثلُه في الأحزاب . والضميرُ في " فيهم " عائدٌ على إبراهيم ومَنْ معه وكُرِّرَتْ الأُسْوةُ تأكيداً .
(1/5258)
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
قوله : { أَن تَبَرُّوهُمْ } ، { أَن تَوَلَّوْهُمْ } : بدلان من " الذين " قبلَهما بدلُ اشتمالٍ . والمعنى : لا يَنهاكم اللَّهُ تعالى عن مَبَرَّةِ هؤلاء ، إنما يَنْهاكم عن تَوَلِّي هؤلاء .
(1/5259)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
قوله : { وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } : قيل : هو تأكيد للأول لتلازُمِهِا . وقيل : أراد استمرارَ الحكم بينهم فيما يَسْتقبِلُ ، كما هو في الحال ما داموا مشركين وهُنَّ مؤمناتٌ . وقوله : " المؤمنات " تسميةٌ للشيء بما يقارِبُه ويُشارِفُه أو في الظاهر . وقُرِىء " مُهاجراتٌ " بالرفع وخُرِّجَتْ على البدلِ . الجملةُ مِنْ قولِه : { الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ } فائدتُها : بيان أنَّه لا سبيلَ لكم إلى ما تطمئنُّ به النفس ويُثلج الصدرَ من الإِحاطة بحقيقةِ إيمانهنَّ ، فإنَّ ذلك ممَّا استأثر اللهُ به . قاله الزمخشري : وسُمِّي الظنُّ الغالِبُ في قولِه : " عَلِمْتُموهُنَّ " عِلْماً لما بينهما من القُرْب ، كما يقع الظنُّ موقعَه . وتقدَّم ذلك في البقرة .
وقوله : { أَن تَنكِحُوهُنَّ } أي : في أَنْ . وقوله : " إذا آتيْتُمُوهُنَّ " يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً مَحْضاً ، وأَنْ يكونَ شرطاً ، جوابُه مقدَّرٌ أي : فلا جُناحَ عليكم .
قوله : { وَلاَ تُمْسِكُواْ } قرأ أبو عمرو في آخرين بضم التاء وفتح الميم وشدِّ السين ، وباقي السبعة بتخفيفها مِنْ مَسَّك وأَمْسَك بمعنىً واحد . ويقال : أَمْسَكْتُ الحَبْل إمساكاً ومَسَّكْتُه تَمْسكياً . وفي التشديد مبالغةٌ ، والمخفَّفُ صالحٌ لها أيضاً . وقرأ الحسن وابنُ أبي ليلى وأبو عمروٍ وابنُ عامرٍ في روايةٍ عنهما " تَمَسَّكُوا " بالفتح في الجميعِ وتشديدِ السينِ . والأصلُ : تَتَمسَّكوا بتاءين ، فحُذِفَتْ إحداهما . وعن الحسن أيضاً " تَمْسِكوا " مضارع مَسَكَ ثلاثياً . والعِصَمُ : جمع عِصْمة ، والكوافر : جمع كافرة كضَوارب في ضاربة . ويُحكى عن الكَرْخِيِّ الفقيهِ المعتزليِّ أنه قال : الكوافِرُ يشملُ الرجالَ والنساءَ . قال الفارسي : / " فقلت له : النَّحْويون لا يَرَوْن هذا إلاَّ في النساءِ جمعَ " كافرة " فقال : أليس يُقال : طائفة كافرة ، وفِرْقَةٌ كافرة . قال أبو علي : فبُهِتُّ وقلتُ : هذا تأييدٌ إلهيٌّ " قلت : وإنما أُعْجِبَ بقولِه لكونِه معتزليّاً مثلَه . والحقُّ أنه لا يجوز " كافِرة " وصفاً للرجال ، إلاَّ أن يكونَ الموصوفُ مذكوراً نحو : هذه طائفة كافرة ، أو في قوةِ المذكور . أمَّا أنه يقال : " كافرة " باعتبارِ الطائفة غير المذكورة ، ولا في قوةِ المذكورة بل لمجردِ الاحتمالِ ، ويُجمع جَمْعَ فاعِلة ، فهذا لا يجوزُ . وقولُ الفارسي : " لا يَرَوْنَ هذا إلاَّ في النساء " صحيحٌ ولكنه الغالِبُ . وقد يُجْمَعُ فاعِل وصفُ المذكرِ العاقلِ على فواعِل وهو محفوظٌ نحو : فوارِس ونواكِس .
قوله : { يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مستأنفٌ لا محلَّ له . والثاني : أنه حالٌ مِنْ " حُكْمُ " . والراجعُ : إمَّا مستترٌ أي : يحكم هو أي : الحكم على المبالغةِ ، وإمَّا محذوفٌ أي : يحكمُه . وهو الظاهرُ .
(1/5260)
وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
قوله : { شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ } : يجوز أَنْ يتعلَّقَ " مِنْ أزواجِكم " ب " فاتَكم " أي : مِنْ جهةِ أزواجِكم ، ويُراد بالشيء المَهْرُ الذي غُرِّمَه الزوجُ؛ لأنَّ التفسيرَ وَرَدَ : أنَّ الرجلَ المسلمَ إذا فَرَّتْ زوجتُه إلى الكفار أَمَرَ اللَّهُ تعالى المؤمنين أَنْ يُعْطُوْه ما غُرِّمَه ، وفَعَله النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مع جمعٍ مِن الصحابة ، مذكورون في التفسير ، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوف على أنَّه صفةٌ لشيء ، ثم يجوز في " شيء " أَنْ يُرادَ به ما تقدَّم من المُهورِ ، ولكن على هذا لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ أي : مِنْ مُهورِ أزواجِكم ليتطابقَ الموصوفُ وصفتُه ، ويجوزُ أَنْ يُرادَ بشيء النساءُ أي : شيءٌ من النساء أي : نوعٌ وصنفٌ منهنَّ ، وهو ظاهرٌ ، وصَفَه بقولِه : " مِن أزواجِكم " .
وقد صرَّح الزمخشري بذلك فإنه قال : " وإنْ سبقكم وانفَلَت منكم شيءٌ مِنْ أزواجكم ، أحدٌ منهن إلى الكفار وفي قراءة ابنِ مسعود " أحد " فهذا تصريحٌ بأنَّ المرادَ بشيء النساءُ الفارَّاتُ . ثم قال : " فإنْ قلتَ : هل لإِيقاع " شيء " في هذا الموقعِ فائدةٌ؟ قلت : نعم الفائدةُ فيه : أن لا يُغادِرَ شيئاً من هذا الجنسِ ، وإنْ قَلَّ وحَقُر ، غيرَ مُعَوَّضٍ منه ، تَغْليظاً في هذا الحكم وتشديداً فيه " ولولا نَصُّهُ على أنَّ المرادَ ب " شيء " " أحد " كما تقدَّم لكَان قولُه : " أن لا يغادِرَ شيئاً من هذا الجنس وإن قَلَّ وحَقُر " ظاهراً في أنَّ المرادَ ب " شيء " المَهْرُ؛ لأنه يُوْصَفُ بالقلة والحَقارة وصفاً شائعاً . وقوله : " تغليظاً وتشديداً " فيه نظرٌ؛ لأنَّ المسلمين ليس [ لهم ] تَسَبُّبٌ في فِرار النساءِ إلى الكفار ، حتى يُغَلَّظَ عليهم الحكمُ بذلك . وعَدَّى " فات " ب " إلى " لأنه ضُمِّن معنى الفِرار والذَّهابِ والسَّبْقِ ونحوِ ذلك .
قوله : { فَعَاقَبْتُمْ } عطفٌ على " فاتَكم " . وقرأ العامَّةُ " عاقَبْتُم " وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّه من العقوبة . قال الزجاج : " فعاقبْتُم : فَأَصَبْتُموهم في القتالِ بعقوبةٍ حتى غَنِمْتُم " . الثاني : أنه من العُقْبة وهي النَّوْبَةُ ، شبَّه ما حَكَم به على المسلمين والكافرين مِنْ أداءِ هؤلاء مهورَ نساءِ أولئك تارةً ، وأولئك مهورَ نساءِ هؤلاء أخرى ، بأَمْرٍ يتعاقبون فيه كما يُتعاقَبُ في الرُّكوب وغيرِه ، ومعناه : فجاءَتْ عُقْبَتُكم مِنْ أداء المَهْر " انتهى .
وقرأ مجاهدٌ والأعرجُ والزهريُّ وأبو حيوةَ وعكرمةُ وحميدٌ بشَدِّ القاف ، دون ألفٍ ، ففَسَّرها الزمخشريُّ على أصلِه بعَقَّبه إذا قفَاه؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ من المتعاقِبَيْن يَقْفي صاحبه وكذلك " عَقَبْتُم " بالتخفيف يقال : " عَقَبه يَعْقُبُه " انتهى . قلت : والذي قرأه بالتخفيف وفتحِ القافِ النخعيُّ وابن وثاب والزهري والأعرج أيضاً ، وبالتخفيف وكسر القافِ مَسْروقٌ والزهريُّ والنخعي أيضاً .
وقرأ مجاهد " أَعْقَبْتُمْ " . قال الزمخشريُّ معناه : " دَخَلْتُم في العُقْبة " .
وأمَّا الزجَّاجُ ففَسَّر القراءاتِ الباقيةَ : فكانت العُقْبى لكم أي : كانت الغلبةُ لكم حتى غَنِمْتُم . والظاهرُ أنه كما قال الزمخشريُّ من المعاقبة بمعنى المناوَبة . يقال : عاقَبَ الرجلُ صاحبَه في كذا أي : جاء فِعْلُ كلِّ واحد منهما بعَقِبِ فِعْلِ الآخرِ ويُقال : أَعْقَبَ أيضاً ، وأُنشِد :
4255 وحارَدَتِ النُّكْدُ الجِلادُ ولم يكُنْ ... لعُقْبَةِ قِدْرِ المُسْتعيرينَ مُعقِبُ
(1/5261)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
قوله : { يُبَايِعْنَكَ } : حالٌ . وشيئاً مصدرٌ أي : شيئاً من الإِشراك . وقرأ علي والسُّلمي والحسن " يُقَتِّلْن " بالتشديد و " يَفْتَرِيْنَه " صفةٌ لبُهتان ، أو حالٌ مِنْ فاعل " يَأْتين " .
(1/5262)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
وقوله : { غَضِبَ الله } : صفةٌ ل " قَوْماً وكذلك " قد يَئِسُوا " .
قوله : { مِنَ الآخرة } " مِنْ " لابتداء الغاية أي : إنهم لا يُوقنون بالآخرةِ البتةَ . و { مِنْ أَصْحَابِ القبور } فيه وجهان ، أحدُهما : أنها لابتداء الغايةِ أيضاً ، كالأولى ، والمعنى أنهم لا يُوقنون ببَعْثِ الموتى البتَةَ ، فيَأْسُهم من الآخرةِ كيأسِهم مِنْ مَوْتاهم لاعتقادِهم عَدَم بَعْثِهم . والثاني : أنَّها لبيانِ الجنس ، يعني/ أنَّ الكفارَ هم أصحابُ القبورِ . والمعنى : أن هؤلاء يئسوا من الآخرة كما يَئِس الكفارُ ، الذين هم أصحابُ القبور ، مِنْ خيرِ الآخرة ، فيكون متعلَّقُ " يَئِس " الثاني محذوفاً . وقرأ ابنُ أبي الزناد " الكافرُ " بالإِفراد . والله أعلمُ .
(1/5263)
كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)
قوله : { كَبُرَ مَقْتاً } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أَنْ يكونَ مِنْ باب نِعْم وبِئْسَ ، فيكون في " كَبُرَ " ضميرٌ مبهمٌ مفسَّرٌ بالنكرة بعدَه . " وأَنْ تقولوا " هو المخصوصُ بالذمِّ فيجيء فيه الخلافُ المشهورُ : هل رَفْعُه بالابتداء ، وخبرُه الجملة مقدمةً عليه ، أو خبرُه محذوفٌ ، أو هو خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، كما تقدَّم تحريرُه . هذه قاعدةٌ مُطَّردةٌ : كلُّ فعلٍ يجوز التعجبُ منه يجوزُ أَنْ يُبْنَى على فَعُلَ بضم العين ويَجْري مَجْرى نِعْم وبئس في جميعِ الأحكام . والثاني : أنه من أمثلةِ التعجبِ . وقد عدَّه ابنُ عصفور في التعجبِ المبوبِ له في النحو فقال : " صيغة ما أفْعَلَه وأَفْعِلْ به ولَفَعُل نحو : لَرَمُوَ الرجل " . وإليه نحا الزمخشري فقال : " هذا مِنْ أفصحِ كلامٍ وأبلغِه في معناه . قَصَدَ في " كَبُرَ " التعجَب من غير لفظه كقوله :
4256 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . غلَتْ نابٌ كُلَيْبٌ بَواؤُها
ثم قال : " وأَسْند إلى " أَنْ تقولوا " ونَصَبَ " مَقْتاً " على تفسيره دلالةً على أنَّ قولَهم ما لا يفعلون مَقْتٌ خالِصٌ لا شَوْبَ فيه " . الثالث : أنَّ كَبُرَ ليس للتعجبِ ولا للذَّمِّ ، بل هو مُسْنَدٌ إلى " أَنْ تقولوا " و " مَقْتاً " تمييزٌ محولٌ من الفاعلية ، والأصل : كَبُرَ مَقْتُ أَنْ يقولوا أي : مَقْتُ قَوْلِكم . ويجوز أن يكونَ الفاعلُ مضمراً عائداً على المصدرِ المفهومِ مِنْ قولِه : " لِم تقولونَ " أي : كَبُر هو أي : القولُ مَقْتاً ، و " أَنْ تقولوا " على هذا : إما بدلٌ من ذلك الضميرِ ، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : هو أن تقولوا . وقرأ زيد بن علي " يُقاتَلون " بفتح التاءِ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه . وقُرِىء " يُقَتَّلون " بالتشديد .
(1/5264)
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
قوله : { صَفّاً } : نصبٌ على الحال أي : صافِّين ، أو مَصْفُوفين .
قوله : { كَأَنَّهُم } يجوزَ أَنْ يكونَ حالاً ثانيةً مِنْ فاعل " يُقاتِلون " ، وأنْ يكونَ حالاً من الضمير في " صَفّاً " ، فتكونَ حالاً متداخلةً ، قاله الزمخشريُّ ، وأن يكونَ نعتاً لصَفَّاً ، قاله الحوفيُّ : وعاد الضميرُ على " صَفّاً " جمعاً لأنه جمعٌ في المعنى كقولِه : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] والمَرْصُوصُ قيل : المتلائمُ الأجزاءِ المُسْتَويها . وقيل : المعقود بالرَّصاص . وقيل : هو من التضامِّ ، مِنْ تراصِّ الأسنان . وقال الراعي :
4257 ما لَقِيَ البيضُ من الحُرْقوصِ ... يَفْتَحُ بابَ المُغْلَقِ المَرْصوصِ
الحُرْقوص : دُوَيِبَّةٌ تُولَعُ بالنساءِ الأَبْكار .
(1/5265)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
قوله : و { وَقَد تَّعْلَمُونَ } : جملةٌ حالية .
(1/5266)
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
قوله : { مُّصَدِّقاً } : حالٌ وكذلك " مُبَشِّراً " والعاملُ " رسول " لأنَّه بمعنى المُرْسَل . قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ بِمَ انتصَبَ مُصَدِّقاً مُبَشِّراً ، أبما في الرسول مِنْ معنى الإِرسال أم بإليكم؟ قلت : بمعنى الإِرسال؛ لأنَّ " إليكم " صلةٌ للرسول ، فلا يجوزُ أن تعملَ شيئاً ، لأنَّ حروفَ الجرِّ لا تعملُ بأنفسِها ، ولكنْ بما فيها مِنْ معنى الفعل ، فإذا وقعَتْ صِلاتٍ لم تتضمَّنْ معنى فعلٍ فمِنْ أين تعملُ " انتهى . يعني بقوله : " صلات " أنها متعلقةٌ برسول صلةً له ، أي : متصلٌ معناها به ، لا الصلةُ الصناعيةُ . و " يأتي مِنْ بعدي " و " اسمُه أحمدُ " جملتان في موضعِ جرٍّ نعتاً لرسول أو " اسمُه أحمدُ " في موضعِ نصبٍ على الحالِ مِنْ فاعل " يَأْتي " أو تكونُ الأولى نعتاً ، والثانيةُ حالاً . وكونُهما حالَيْن ضعْيفٌ لإِتيانِهما من النكرة ، وإنْ كان سيبويه يُجَوِّزه . و " أحمدُ " يَحْتمل النقلَ من الفعل المضارع ، أو من أفعلِ التفضيل ، والظاهرُ الثاني ، وعلى كلا الوجهَين فمنعُه من الصَرفِ للعلميةِ والوزنِ الغالبِ ، إلاَّ أنه على الأول يمتنعُ معرفةً وينصرف نكرةً ، وعلى الثاني يمتنع تعريفاً وتنكيراً ، لأنه تَخْلُفُ العلميةَ الصفةُ . وإذا نُكِّر بعد كونِه عَلَماً جَرى فيه خلافُ سيبويه والأخفشِ ، وهي مسألةٌ مشهورة بين النحاة . وأنشد حسان رضي الله عنه يمدح النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وصَرَفَه :
4258 صلَّى الإِلهُ ومَنْ يَحُفُّ بعرشِه ... والطيبونَ على المباركِ أحمدِ
" أحمد " بدل أو بيان للمبارك .
قوله : { هذا سِحْرٌ } قد تقدَّم خلافُ القراء فيها في المائدة .
وقال الشيخ هنا : " وقرأ الجمهور " سِحْرٌ " وعبد الله وطلحة والأعمش وابن وثاب " ساحر " ، وترك ذِكْرَ الأخوَيْن .
(1/5267)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)
قوله : { وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام } : جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعلِ " افترى " ، وهذه قراءةُ العامَّةِ . وقرأ طلحة " يَدَّعي " بفتح الياء والدال مشددة مبنياً للفاعل ، وفيها تأويلان ، أحدهما قاله الزمخشري وهو أن يكونَ يَفْتَعِل بمعنى يَفْعَلُ نحو : لَمَسَه والتمَسه . والضميران أعني " هو " والمستتر في " يَدَّعي " لله تعالى ، وحينئذٍ تكون القراءتان/ بمعنى واحدٍ ، كأنَّه قيل : واللَّهُ يدعو إلى الإِسلام . وفي القراءة الأولى يكون الضميران عائدَيْن على " مَنْ " . والثاني : أنه مِنْ ادَّعى كذا دَعْوَى ، ولكنه لَمَّا ضُمِّن " يَدَّعي " معنى يَنْتَمي وينتسبُ عُدِّي ب " إلى " وإلاَّ فهو متعدٍّ بنفسه ، وعلى هذا الوجهِ فالضميران ل " مَنْ " أيضاً ، كما هي في القراءةِ المشهورة .
وعن طلحة أيضاً " يُدَّعى " مشددَ الدال مبنياً للمفعولِ . وخَرَّجَها الزمخشريُّ على ما تقدَّم مِنْ : ادَّعاه ودَعاه بمعنىً نحو : لَمَسه والتمسه . والضميران عائدان على " مَنْ " عكسَ ما تقدَّم عنده في تخريج القراءة الأولى فإنَّ الضميرَيْن لله تعالى ، كما تقدَّم تحريرُه .
(1/5268)
يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)
قوله : { لِيُطْفِئُواْ } : في هذه اللامِ أوجهٌ ، أحدُها : أنها مزيدةٌ في مفعولِ الإِرادةِ . قال الزمخشريُّ : " أصلُه : يُريدون أَنْ يُطْفِئوا ، كما جاء في سورة التوبة . وكأنَّ هذه اللامَ زِيْدَتْ مع فعل الإِرادة توكيداً له لِما فيها من معنى الإِرادة في قولِك : " جِئتُ لأكرمَك " كما زِيْدَت اللامُ في " لا أبالك " تأكيداً لمعنى الإِضافةِ في " لا أباك " . وقال ابن عطية : " واللامُ في " لِيُطْفِئوا " لامٌ مؤكِّدة دخلَتْ على المفعول لأنَّ التقديرَ : يُريدون أَنْ يُطْفئوا . وأكثر ما تَلْزَمُ هذه اللامُ المفعولَ إذا تقدَّمَ . تقول : " لزيدٍ ضَرَبْتُ ، ولِرؤيتِك قصَدْتُ " انتهى . وهذا ليس مذهبَ سيبويه وجمهورِ الناس . ثم قولُ أبي محمد : " وأكثرُ ما تَلْزَمُ " إلى آخره ليس بظاهرٍ لأنه لا قولَ بلزومِها البتةَ ، بل هي جائزةُ الزيادةِ ، وليس الأكثرُ أيضاً زيادتَها جوازاً ، بل الأكثرُ عَدَمُها .
الثاني : أنَّها لامُ العلة والمفعولُ محذوفٌ أي : يُريدون إبطالَ القرآنِ أو دَفْعَ الإِسلام أو هلاكَ الرسولِ عليه السلام لِيُطْفِئوا .
الثالث : أنها بمعنى " أَنْ " الناصبةِ ، وأنها ناصبةٌ للفعل بنفسِها . قال الفراء : " العربُ تجعلُ لامَ كي في موضع " أَنْ " في أرادَ وأمر " وإليه ذهب الكسائيٌّ أيضاً . وقد تقدَّم لك نحوٌ مِنْ هذا في قوله : { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } في سورة النساء [ الآية : 26 ] .
قوله : { مُتِمُّ نُورِهِ } قرأ الأخَوان وحفص وابن كثير بإضافة " مُتِمُّ " ل " نورِه " والباقون بتنوينه ونصبِ " نورَه " فالإِضافةُ تخفيفٌ ، والتنوينُ هو الأصلُ . والشيخُ ينازعُ في كونِه الأصلَ وقد تقدَّم . وقوله : " واللَّهُ متمُّ " جملةٌ حالية مِنْ فاعلِ " يريدون " أو " يُطفئوا " وقوله : " ولو كَرِه " حالٌ من هذه الحالِ فهما متداخلان . وجوابُ " لو " محذوفٌ أي : أتَمَّه وأظهرَه ، وكذلك { وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } .
(1/5269)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10)
قوله : { تُنجِيكُم } : الجملةُ صفةٌ ل " تجارة " . وقرأ ابن عامر " تُنْجِّيكم " بالتشديد . والباقون بالتخفيف . مِنْ أَنْجى ، وهما بمعنىً واحدٍ؛ لأن التضعيفَ والهمزةَ مُعَدِّيان .
(1/5270)
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)
قوله : { تُؤْمِنُونَ } : لا محلَّ له لأنه تفسير لتجارة . ويجوز أَنْ يكونَ محلُّها الرفعَ خبراً لمبتدأ مضمرٍ أي : تلك التجارةُ تؤُمنون ، والخبرُ نفسُ المبتدأ فلا حاجةَ إلى رابطٍ ، وأَنْ تكونَ منصوبةَ المحلِّ بإضمارِ فعلٍ أي : أعني تؤْمنون . وجاز ذلك على تقديرِ " أَنْ " وفيه تَعَسُّفٌ . والعامَّةٌ على " تُؤْمنون " خبراً لفظاً ثابتَ النون . وعبد الله " آمِنوا " و " جاهِدوا " أمرَيْن . وزيد بن علي " تؤمنوا " و " تجاهِدوا " بحذف نونِ الرفع . فأمَّا قراءةُ العامَّة فالخبرُ بمعنى الأمرِ يَدُلُّ عليه القراءتان الشاذَّتان؛ فإن قراءةَ زيدِ بنِ علي على حَذْفِ لام الأمر أي : لِتؤمنوا ولتجاهِدوا كقوله :
4259 محمدُ تَفْدِ نَفْسَك كلُّ نفسٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقوله : { قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ } [ إبراهيم : 31 ] في وجهٍ أي : لِتَفْدِ ، وليقيموا ، ولذلك جُزِمَ الفعلُ في جوابِه في قولِه : " يَغْفِرْ " وكذلك قولُهم : " اتقى اللَّهَ امرؤ فَعَلَ خيراً يُثَبْ عليه " تقديرُه : ليتقِ اللهَ . وقال الأخفش : " إنَّ " تؤمنون " عطفُ بيان لتجارة " وهذا لا يُتَخَيَّلُ إلاَّ بتأويل أن يكونَ الأصلُ : أنْ تؤمنوا فلمَّا حَذَفَ " أن " ارتفع الفعلُ كقوله :
4260 ألا أيُّهذا الزَّاجِريْ أَحْضُرُ الوغَى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الأصل : أن أَحْضُرَ . وكأنه قيل : هل أدلُّكم على تجارة مُنْجية : إيمانٍ وجهاد . وهو معنى حسنٌ لولا ما فيه من التأويل . وعلى هذا فيجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ تجارة . وقال الفراء : هو مجزومٌ على جوابِ الاستفهام وهو قولُه : " هل أدلُّكم " واختلف الناسُ في تصحيح هذا القولِ : فبعضُهم/ غلَّطه . قال الزجاج : ليسُوا إذا دَلَّهم على ما ينفعهم يَغْفِرُ لهم ، إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا " يعني أنه ليس مرتَّباً على مجرد الاستفهام ولا على مجرَّدِ الدلالة . وقال المهدوي : " إنما يَصِحُّ حَمْلاً على المعنى : وهو أَنْ يكونَ " يؤمنون " ويُجاهدون عطفَ بيان على قولِه : " هل أدلُّكم " كأنَّ التجارةَ لم يُدْرَ ما هي؟ فبُيِّنَتْ بالإِيمان والجهاد ، فهي هما في المعنى فكأنه قيل : هل تُؤْمنون وتجاهدون؟ قال : فإنْ لم تقدِّر هذا التقديرَ لم يَصِحَّ؛ لأنه يَصيرُ : إنْ دُلِلْتُمْ يَغْفِرْ لكم . والغُفْرانُ إنما يجبُ بالقَبولِ والإِيمانِ لا بالدَّلالةِ . وقال الزمخشري قريباً منه أيضاً . وقال أيضاً : " إنَّ " تُؤْمنون " استئنافٌ ، كأنهم قالوا : كيف نعملُ؟ فقال : تؤْمنون " . وقال ابن عطية : " تُؤْمنون فعلٌ مرفوعٌ ، تقديرُه : ذلك أنَّه تُؤْمنون " ، فجعله خبراً ل " أَنَّ " ، وهي وما في حَيِّزها خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ . وهذا محمولٌ على تفسيرِ المعنى لا تفسيرِ الإِعرابِ ، فإنَّه لا حاجةَ إليه .
(1/5271)
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
قوله : { يَغْفِرْ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مجزومٌ على جوابِ الخبرِ بمعنى الأمر ، كما تقدَّم تقريرُه . والثاني : أنه مجزومٌ على جواب الاستفهامِ ، كما قاله الفراءُ ، وتقدَّم تأويلُه . الثالث : أنه مجزومٌ بشرطٍ مقدَّرٍ أي : إنْ تُؤْمنوا يَغْفِرْ لكم .
(1/5272)
وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
قوله : { وأخرى } : فيها خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها ، أنَّها في موضِع رفعٍ على الابتداءِ ، وخبرُها مقدَّر أي : ولكم أو ثَمَّ ، أو عنده خَصْلَةٌ أخرى ، أو مَثُوْبةٌ أخرى . و " تُحبُّونها " نعتٌ لها . الثاني : أن الخبرَ جملةٌ حُذِفَ مبتدَؤُها تقديرُه : هي نصرٌ ، والجملةُ خبرُ " أُخْرى " ، قاله أبو البقاء ، وفيه بُعْدٌ كثيرٌ؛ لأنه تقديرٌ لا حاجةَ إليه . والثالث : أنها منصوبةٌ بفعلٍ محذوفٍ للدلالةِ عليه بالسِّياق ، أي ويُعْطِكُمْ ، أو يَمْنَحْكم مَثوبةً أخرى . و " تُحبونها " نعتٌ لها أيضاً .
والرابع : أنها منصوبةٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره " تُحبُّونها " فيكونُ من الاشتغالِ ، وحينئذٍ لا يكون " تُحِبُّونها " نعتاً؛ لأنه مفسِّرٌ للعاملِ قبله . الخامس : أنها مجرورةٌ عطفاً على " تجارة " . وضُعِّفَ هذا : بأنها ليسَتْ مِمَّا دَلَّ عليه ، إنما هي ثوابٌ مِنْ عندِ الله . وهذا الوجهُ منقولٌ عن الأخفش .
قوله : { نَصْرٌ مِّن الله } خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : " تلك النعمةُ أو الخَلَّةُ الأُخْرى نَصْرٌ . و " من الله " نعتٌ له ، أو متعلِّقٌ به ، أي : ابتداؤه منه . ورَفْعُ " نصرٌ وفَتْحٌ " قراءةُ العامَّةِ ، ونَصَبَ ابنُ أبي عبلةَ الثلاثةَ . وفيه أوجهٌ ، ذكرها الزمخشريُّ ، أحدُها : أنها منصوبةٌ على الاختصاصِ . الثاني : أن ينتصِبْنَ على المصدريَّة أي : يُنْصَرون نَصْراً ، ويُفتح لهم فتحاً قريباً . الثالث : أن ينتَصِبْنَ على البدلِ مِنْ " أُخْرى " و " أُخْرى " منصوبٌ بمقدَّرٍ كما تقدَّم أي : يَغْفِرْ لكم ، ويُدْخِلْكم جناتٍ ، ويؤْتِكم أُخْرى ، ثم أبدل منها " نَصْراً وفَتْحاً قريباً " .
(1/5273)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
قوله : { أَنصَارَ الله } : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو " أنصاراً " منوناً ، " لله " جارَّاً ومجروراً . والباقون " أنصارَ " غيرَ منونٍ بل مضافاً للجلالة الكريمة ، والرسمُ يحتمل القراءتَيْن معاً . واللامُ يُحتمل أَنْ تكونَ مزيدةً في المفعولِ للتقوية لكونِ العاملِ فَرْعاً ، إذ الأصلُ : أنصاراً اللَّهَ ، وأَنْ تكون غيرَ مزيدةٍ ، ويكونَ الجارُّ والمجرورُ نعتاً ل " أَنْصاراً " والأولُ أظهرُ . وأمَّا قراءةُ الإِضافةِ ففرعُ الأصلِ المذكورِ . ويؤيِّدُ قراءةَ الإِضافةِ الإِجماعُ عليها في قوله : { نَحْنُ أَنصَارُ الله } . ولم يُتَصَوَّرْ جَرَيانُ الخلافِ هنا لأنه مرسومٌ بالألفِ .
قوله : { كَمَا قَالَ عِيسَى } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّ الكافَ في موضع نصبٍ على إضمارِ القولِ أي : قُلْنا لهم ذلك ، كما قال عيسى . الثاني : أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ تقديرُه : كونوا كَوْناً ، قاله مكي وفيه نظرٌ؛ إذ لا يُؤْمَرُون بأن يكونوا كَوْناً . الثالث : أنه كلامٌ محمولٌ على معناه دون لفظِه ، وإليه نحا الزمخشريُّ ، فإنه قال : " فإنْ قلتَ ما وجهُ صحةِ التشبيهِ ، وظاهرُه تشبيهُ كونِهم أنصاراً بقولِ عيسى صلوات الله عليه مَنْ أنصاري؟ قلت : التشبيهُ محمولٌ على المعنى ، وعليه يَصِحُّ ، والمرادُ : كونوا أنصارَ الله كما كان الحواريُّون/ أنصارَ عيسى . حين قال لهم : { مَنْ أنصاري إِلَى الله } .
وتقدَّم في آل عمران تَعَدِّي " أَنْصَاري " ب " إلى " ، واختلافُ الناسِ في ذلك . وقال الزمخشري هنا : " فإنْ قلتَ : ما معنى قولِه : { مَنْ أنصاري إِلَى الله } قلت : يجبُ أَنْ يكونَ معناه مطابقاً لجوابِ الحواريين : نحن أنصارُ الله . والذي يطابِقُه أَنْ يكونَ المعنى : مَنْ جُنْدِيٌّ متوجِّهاً إلى نصرةِ الله؟ وإضافةُ " أَنْصاري " خلافُ إضافةِ " أنصار الله "؛ فإنَّ معنى " نحن أنصارُ الله " : نحن الذين يَنْصُرون الله ، ومعنى " مَنْ أنصاري " : مَنْ الأنصارُ الذين يختصُّون بي ، ويكونون معي في نُصْرَةِ اللَّهِ . ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ معناه مَنْ يَنْصُرني مع الله؛ لأنه لا يطابِقُ الجوابَ . والدليل عليه قراءةُ مَنْ قرأ " أنصارَ الله " انتهى . قلت : يعني أنَّ بعضَهم يَدَّعي أنَّ " إلى " بمعنى مع أي : مَنْ أنصاري مع الله؟ وقولُه : " قراءةُ مَنْ قرأ أنصارَ الله " أي : لو كانت بمعنى " مع " لَما صَحَّ سُقوطُها في هذه القراءةِ . وهذا غيرُ لازمٍ؛ لأنَّ كلَّ قراءةٍ لها معنىً يَخُصُّها ، إلاَّ أن الأَوْلَى توافُقُ القراءتَيْن .
قوله : { فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ } مِنْ إيقاع الظاهرِ موقعَ المضمرِ فيهما ، تَنْبيهاً على عداوةِ الكافرِ للمؤمن؛ إذ الأصلُ : فأيَّدْناهم عليهم ، أي : أيَّدْنا المؤمنين على الكافرين من الطائفتَيْن المذكورتَيْن .
(1/5274)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
قوله : { الملك } : هذه قراءةُ العامَّة أعني جرَّ " الملِكِ " وما بعده نعتاً له والبدلُ ضعيفٌ لاشتقاقِها . وقرأ أبو وائل ومسلمة ابن محارب ورؤبةُ بالرفعِ على إضمار مبتدأ مُقْتَضٍ للمدح . قال الزمخشريُّ : " ولو قُرِىء بالنصب على قولهم " الحمدُ الله أهلَ الحَمْد " لكان وجهاً " . وقرأ زيد بن علي " القَدُّوس " بفتح القاف . وتقدَّم الكلامُ عليه وعلى الأمِّيِّ والأمِّيِّين جَمْعِه . و " يَتْلُوا " وما بعده صفاتٌ لرسول .
(1/5275)
وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
قوله : { وَآخَرِينَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مجرورٌ عطفاً على الأمِّيِّيْنَ ، أي : وبَعَثَ في آخرين من الأمِّيِّيْنَ . و { لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } صفةٌ ل " آخرين " قبلُ . والثاني : أنه منصوبٌ عَطْفاً على الضمير المنصوبِ في " يَعَلِّمُهم " ، أي : ويُعَلِّمُ آخرين لم يَلْحقوا بهم وسيَلْحقون ، وكلُّ مَنْ يَعْلَم شريعةَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلى آخرِ الزمان فرسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُعَلِّمه بالقوة؛ لأنه أصلُ ذلك الخيرِ العظيمِ والفَضْل الجَسيمِ .
(1/5276)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
قوله : { حُمِّلُواْ التوراة } : هذه قراءةُ العامَّةِ . وقرأ زيد بن علي ويحيى بن يعمر " حَمَلوا " مخففاً مبنياً للفاعل .
قوله { كَمَثَلِ الحمار } هذه قراءةُ العامَّةِ . وقرأ عبدُ الله " حِمارٍ " منكَّراً . وهو في قوة قراءةِ الباقين؛ لأنَّ المراد بالحمارِ الجنسُ . ولهذا وُصِفَ بالجملةِ بعده كما سيأتي . وقرأ المأمون ابن هارون الرشيد " يُحَمَّلُ " مشدَّداً مبنياً للمفعول . والجملة مِنْ " يَحْمِلُ " أو " يُحْمَّلُ " فيها وجهان ، أحدُهما : وهو المشهورُ أنَّها في موضع الحال من " الحمار " والثاني : أنَّها في موضع الصفةِ للحمار لجريانِه مَجْرى النكرة؛ إذ المُرادِ به الجنسُ . قال الزمخشري : " أو الجرِّ على الوصفِ؛ لأنَّ الحمارَ كاللئيمِ في قوله :
4261 ولَقد أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم تحريرُ هذا ، وأنَّ منه عند بعضِهم { وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ } [ يس : 37 ] وأنَّ " نَسْلَخُ " نعتٌ ل الليل . والجمهورُ يَجْعَلونه حالاً للتعريف اللفظي . وأمَّا على قراءةِ عبد الله فالجملةُ وصفٌ فقط ، ولا يمتنعُ أَنْ تكونَ حالاً عند سيبويه .
والأَسْفار : جمعُ سِفْرٍ ، وهو الكتابُ المجتمعُ الأوراقِ .
قوله { بِئْسَ مَثَلُ القوم } فيه أوجهٌ ، أحدها : وهو الظاهرُ المشهور أنَّ " مَثَلُ القوم " فاعلُ " بِئْس " . والمخصوصُ بالذَّمِّ الموصولُ بعده فَيُشْكِلُ؛ لأنه/ لا بُدَّ مِنْ تصادُقِ فاعلِ نِعْم وبِئْسَ والمخصوصِ ، وهنا المَثَلُ ليس القومَ المكذِّبين . والجواب : أنَّه على حَذْفِ مضافٍ ، أي : بِئْسَ مَثَلُ القومِ مَثَلُ الذين كَذَّبوا . الثاني : أنَّ " الذين " صفةٌ للقوم فيكونُ مجرورَ المحلِّ ، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ لِفَهْمِ المعنى تقديره : بِئْس مَثَلُ القومِ المكذِّبين مَثَلُ هؤلاء ، وهو قريبٌ من الأولِ . الثالث : أنَّ الفاعلَ محذوفٌ ، وأنَّ مَثَلَ القومِ هو المخصوصُ بالذِّم ، تقديرُه : بِئْسَ المَثَلُ مَثَلُ القوم ، ويكونُ الموصولُ نعتاً للقوم أيضاً ، وإليه يَنْحو كلامُ ابنِ عطيةً ، فإنه قال : " والتقديرُ : بِئْسَ المَثَلُ مَثَلُ القومِ . وهذا فاسدٌ؛ لأنَّه لا يُحْذَفُ الفاعلُ عند البَصْريين ، إلاَّ في مواضعَ ثلاثةٍ ، ليس هذا منها ، اللهم إلاَّ أَنْ يقولَ بقولِ الكوفيين . الرابع : أَنْ يكونَ التمييزُ محذوفاً ، والفاعل المُفَسَّرُ به مستترٌ تقديرُه : بئس مَثَلاً مَثَلُ القوم ، وإليه يَنْحو كلامُ الزمخشريِّ فإنه قال : " بئْسَ مَثَلاً مَثَلُ القوم " فيكونُ الفاعلُ مستتراً ، مُفَسَّرٌ ب " مَثَلاً " ، و " مَثَلُ القومِ " هو المخصوصُ بالذمِّ والموصولُ صفةٌ له ، وحُذِفَ التمييزُ ، وهذا لا يُجيزه سيبويهِ وأصحابُه البتةَ ، نَصُّوا على امتناعِ حَذْفِ التمييزِ ، وكيف يُحْذَفُ وهو مُبَيِّنٌ؟
(1/5277)
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6)
قوله : { أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ } : سادٌّ مَسَد المفعولَيْنِ ، أو المفعولِ ، على الخلافِ . و " لله " متعلِّقٌ ب " أَوْلياء " أو بمحذوف نعتاً ل أولياء و { مِن دُونِ الناس } كذلك .
وقوله { فَتَمَنَّوُاْ الموت } جوابُ الشرطِ . والعامَّةُ بضمِّ الواوِ ، وهو الأصلُ في واو الضميرِ . وابن السَّمَيْفع وابن يعمر وابن أبي إسحاق بكسرها ، وهو أصلُ التقاءِ الساكنين . وابن السَّميفع أيضاً بفتحها ، وهذا طَلَبٌ للتخفيف ، وتقدَّم نحوُه في قولِه { اشتروا الضلالة } [ البقرة : 16 ] وحكى الكسائيُّ إبدالَ الواوِ همزةً .
(1/5278)
وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7)
قوله : { وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ } : وقال في البقرة " ولن يتمنَّوْه " قال الزمشخري : " لا فرقَ بين " لا " و " لن " في أنَّ كلَّ واحدٍ منهما نفيٌ للمستقبل ، إلاَّ أنَّ في " لن " تأكيداً وتشديداً ليس في " لا " ، فأتى مرةً بلفظ التأكيد " ولن يتمنَّوْه " ، ومرةً بغير لفظِه " ولا يتمنَّوْنه " . قال الشيخ : " وهذا رجوعٌ منه عن مذهبِه : وهو أنَّ " لن " تَقْتَضي النفي على التأبيد إلى مذهبِ الجماعة وهو أنَّها لا تَقْتَضْيه " قلت : وليس فيه رجوعٌ ، غايةُ ما فيه أنه سكَتَ عنه ، وتشريكُه بين " لا " و " لن " في نفي المستقبل لا يَنْفي اختصاصَ " لن " بمعنى آخرَ . وقد تقدَّم الكلامُ على هذا بأشبعَ منه هنا في البقرة .
(1/5279)
قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
قوله : { فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } : في الفاءِ وجهان أحدُهما : أنها داخلةٌ لِما تَضَمَّنه الاسمُ مِنْ معنى الشرطِ ، وحُكْمُ الموصوفِ بالموصول حكمُ الموصولِ في ذلك . والثاني : أنَّها مزيدةٌ مَحْضَةٌ لا للتضمين المذكور . وأفسدَ هؤلاء القولَ الأول بوجهَيْن ، أحدُهما أنَّ ذلك إنَّما يجوز إذا كان المبتدأُ أو اسمُ " إنَّ " موصولاً ، واسمُ " إنَّ " هنا ليس بموصولٍ ، بل موصوفٌ بالموصول . والثاني : أنَّ الفِرارَ مِنْ الموتِ لا يُنْجَي منه ، فلم يُشْبِهِ الشرطَ ، يعنى أنه متحققٌ فلم يُشْبه الشرطَ الذي هو مِنْ شأنِه الاحتمالُ .
وأُجيب عن الأول : بأنَّ الموصوفَ مع صفتِه كالشيءِ الواحدِ ، ولأن " الذي " لا يكونَ إلاَّ صفةً . فإذا لم يُذْكَرِ الموصوفُ دخلَتِ الفاءُ ، والموصوفُ مرادٌ ، فكذلك إذا صَرَّح بها . وعن الثاني : بأنَّ خَلْقاً كثيراً يَظُنُّونَ أنَّ الفِرارَ مِنْ أسبابِ الموتِ يُنَجِّيهم إلى وقتٍ آخر . وجوزَّ مكي أَنْ يكونَ الخبرُ قولَه { الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ } ، وتكون الفاءُ جوابَ الجملة . قال : " كما تقول : زيدٌ منطلقٌ فقُمْ إليه " وفيه نظر؛ لأنه لا تَرَتُّبَ بين قولِه : { إِنَّ المَوْتَ الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ } وبين قولِه : { فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } فليس نظيراً لِما مَثَّله .
وقرأ زيد بن علي " إنه " دونَ فاء وفيها أوجه ، أحدُها : أنَّه مستأنفٌ ، وحينئذٍ يكونُ الخبرُ نفسَ الموصولِ كأنه قيلَ : إنَّ الموتَ هو الشيءُ الذي تَفِرُّونَ منه ، قاله الزمخشري . الثاني : أنَّ الخبرَ الجملةُ : " إنَّه مُلاقيكم " . وحينئذٍ يكونُ الموصولُ نعتاً للموت . الثالث : أَنْ يكونَ " إنَّه " تأكيداً؛ لأنَّ الموتَ لَمَّا طال الكلامُ أُكِّدَ الحرفُ توكيداً لفظيَّاً ، وقد عَرَفْتَ أنه لا يُؤَكَّدُ كذلك إلاَّ بإعادةِ ما دَخَلَ عليه . أو بإعادةِ ضميرِه ، فأُكِّد بإعادةِ ضمير ما دَخَلَتْ عليه " إنَّ " وحينئذٍ يكون الموصولُ نعتاً للموتِ ، و " مُلاقِيكم " خبرُه كأنه قيل : إنَّ الموتَ إنَّه مُلاقيكم .
(1/5280)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
قوله : { مِن يَوْمِ الجمعة } : " مِنْ " هذه بيانٌ ل " إذا " وتفسيرٌ لها قاله الزمخشريُّ . وقال أبو البقاء : إنَّها بمعنى " في " ، أي : في يوم . وقرأ العامَّةُ " الجمعة " بضمَّتَيْن . وقرأ ابن الزبير وزيد ابن علي وأبو حيوة وأبو حيوة وأبو عمروٍ في روايةٍ بسكونِ الميم . فقيل : هي لغةٌ في الأولى وسُكِّنَتْ تخفيفاً ، وهي لغةُ تميم . وقيل : / هو مصدرٌ بمعنى الاجتماع . وقيل : لَمَّا كان بمعنى الفعل صار كرجل هُزْأَة ، أي : يُهْزَأ به ، فلمَّا كان في الجمعة معنى التجمُّع أُسْكِن؛ لأنه مفعولٌ به في المعنى ، أو يُشْبهه فصارَ كهُزْأَة الذي يُهْزأ به . قاله مكي ، وكذا قال أبو البقاء : " هو بمعنى المُجْتَمَع فيه مثلَ : رجل ضُحْكَة ، أي : يُضْحك منه " وقال مكي : " يجوزُ إسكان الميم استخفافاً . وقيل : هي لغةٌ " . قلت : قد تقدَّم أنها قراءةٌ ، وأنها لغةُ تميم . وقال الشيخ : " ولغةٌ بفتحِها لم يُقْرَأ بها " قلت : قد نقلها قراءةً أبو البقاء فقال : " ويقرأ بفتح الميم بمعنى الفاعِل ، أي : يومَ المكان الجامع . مثلَ : رجلٌ ضُحْكَة ، أي : كثيرُ الضَّحِك " وقال مكي قريباً منه ، فإنه قال : " وفيه لغةٌ ثالثةٌ بفتح الميم على نسبةِ الفعل إليها ، كأنَّها تَجْمع الناسَ كما يُقال : رجلٌ لُحَنَة ، إذا كان يُلَحِّن الناس ، وقُرَأَة ، إذا كان يُقْرِىءُ الناس " ، ونقلها قراءةً أيضاً الزمخشري ، إلاَّ أنه جعلَ الجُمْعةَ بالسكون هو الأصلَ ، وبالمضموم مخفَّفاً منه فقال : " يوم الجُمعة : يوم الفوجِ المجموعِ كقولهم : ضُحْكَة للمضحوك منه . ويومُ الجُمعة بفتح الميم : يومُ الوقتِ الجامعِ كقولهم : ضُحَكة ولُعَبة ، ويومُ الجُمُعة تثقيلٌ للجُمْعَة كما قيل : عُسُرة في عُسْرة وقُرِىء بهن جميعاً " وتقديرُه : يوم الوقتِ الجامعِ أحسنُ من تقدير أبي البقاءِ : يوم المكانِ الجامعِ؛ لأنَّ نسبةَ الجمعِ إلى الظرفَيْن مجازٌ فالأَوْلى إبقاؤُه زماناً على حالِه .
(1/5281)
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
قوله : { انفضوا إِلَيْهَا } : أعاد الضمير على التجارة دونَ اللهو؛ لأنها الأهمُّ في السبب . قال ابن عطية : " وقال : إليها ولم يقل : إليهما تَهَمُّماً بالأهمِّ ، إذ كانَتْ هي سببَ اللهوِ ولم يكن اللهوُ . سبَبَها . وتأمَّلْ أنْ قُدِّمِتْ التجارةُ على اللهو في الرؤية؛ لأنها أهمُّ وأُخِّرت مع التفضيل ، لتقعَ النفسُ أولاً على الأَبْيَن " انتهى . وفي قولِه " لم يَقُلْ إليهما " ثم أَجابَ بما ذكَرَ نَظَرٌ لا يَخْفَى؛ لأنَّ العطفَ ب " أو " لا يُثنَّى معه الضميرُ ولا الخبرُ ولا الحالُ ولا الوصف؛ لأنها لأحدِ الشيئَيْن ، ولذلك تأوَّل الناسُ " إنْ يكُنْ غنياً أو فقيراً فاللَّهُ أَوْلى بهما " كما قَدَّمتهُ في موضعِه ، وإنما الجوابُ عنه : أنه وَحَدَّ الضميرَ لأنَّ العطفَ ب " أو " وإنما جيْءَ بضميرِ التجارة دونَ ضمير اللهوِ وإن كان جائزاً لِما ذكَره ابنُ عطيةَ مِنْ الجوابِ ، وهو الاختمام كما قاله غيرُ واحدٍ . وقد قال الزمخشريُّ قريباً ممَّا قاله ابنُ عطية فإنه قال : " كيف قال : إليها ، وقد ذكرَ شيئَيْن؟ قلت : تقديرُه : إذ رأوا تجارةً انفَضُّوا إليها أو لَهْواً انفَضُّوا إليه ، فحذف أحدهما لدلالة المذكورِ عليه ، وكذلك قراءةُ مَنْ قرأ " انفَضُّوا إليه " انتهى . قوله : قلتُ تقديرُه إلى آخره ، يُشْعِرُ ، بأنَّه كان حقُّ الكلام أَنْ يُثَنَّى الضمير ، ولكنه حُذِف . وفيه ما قَدَّمتُه لك : مِنْ أنَّ المانعَ مِن ذَلك أمرٌ صناعيٌ وهو العطفُ ب " أو " .
وقرأ ابن أبي عبلةَ " إليه " أعاد الضميرَ إلى اللهو وقد نَصَّ على جوازِ ذلك الأخفش سَماعاً من العرب نحو : " إذا جاءك زيد أو هند فأَكْرِمه " وإن شئْتَ " فأكرِمْها " . وقرأ بعضهُم " إليهما " بالتثنية . وتخريجُها كتخريجِ { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً } [ النساء : 135 ] وقد تقدَّم تحريرُه .
قوله : { وَتَرَكُوكَ } جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعل " انفَضُّوا " و " قد " مقدرةٌ عند بعضِهم وقولِه { مَا عِندَ الله خَيْرٌ } " ما " موصولَةٌ مبتدأ ، و " خيرٌ " خبرُها .
(1/5282)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1)
قوله : { إِذَا جَآءَكَ } : شرطٌ . قيل : جوابُه قالوا . وقيل : محذوفٌ . و " قالوا " حالٌ ، أي : جاؤوك قائلين كيتَ وكيتَ ، فلا تقبَلْ منهم . وقيل : الجوابُ { اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } وهو بعيدٌ ، و " قالوا " أيضاً حالٌ .
قوله : { قَالُواْ نَشْهَدُ } جرى مَجْرى القسمِ كفعل العِلْم واليقين ، ولذلك تُلُقِّيَتْ بما يُتَلَقَّى به القسمُ في قوله : { إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } وفي قوله :
4262 ولقد عَلِمْتُ لَتَأْتِيَنَّ مَنِيَّتي ... إنَّ المنايا لا تَطيشُ سِهامُها
وقد تقدَّم خلافُ الناسِ في الصدق والكذبِ واستدلالُهم بهذه الآيةِ ، والجوابُ عنها ، أولَ البقرة .
قوله : { والله يَعْلَمُ } جملةٌ معترضةٌ بين قوله : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ } وبين قولِه : { والله يَشْهَدُ } لفائدةٍ ، قال الزمخشري : " لو قال : قالوا نشهد إنَّك لرسول الله ، واللَّهُ يَشْهد إنَّهم لكاذبون ، لكان يُوْهِم أنَّ قولَهم هذا كذبٌ ، فوَسَّط بينهما قولَه : { والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } ليُميط هذا الإِبْهام " .
(1/5283)
اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)
قوله : { اتخذوا } : قد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ جواباً للشرط ، ويجوز أَنْ يكون مستأنفاً ، جيْءَ به لبيانِ كذبِهم وحَلْفِهم عليه ، أي : إنَّ الحاملَ لهم على الإِيمان/ اتِّقاؤهم بها عن أنفسِهم . والعامَّةُ على فتح الهمزة جمعَ " يمين " والحسن بكسرِها مصدراً . وتقدَّم مثله في المجادلة . والجُنَّةُ : التُّرْسُ ونحوُه ، وكلُّ ما يَقيك سوءاً . ومن كلامِ الفصحاء : " جُبَّةُ البُرْدِ جُنَّةُ البَرْدِ " وقال أعشى همدان :
4263 إذا أنتَ لم تجعلْ لِعرْضِكَ جُنَّةً ... من المالِ سار الذَّمُّ كلَّ مَسِيرِ
قوله : { سَآءَ مَا كَانُواْ } يجوز أن تكونَ الجاريةَ مَجْرَى بئْسَ ، وأَنْ تكونَ على بابها ، والأولُ أظهرُ ، وقد تقدَّم حكمُ كلٍ منهما ولله الحمد ، وقوله : " فطُبِعَ " هذه قراءةُ العامَّة أعني بناءَه للمفعول . والقائمُ مقامَ الفاعلِ الجارُّ بعدَه . وزيد بن علي " وطَبَعَ " مبنياً للفاعل . وفي الفاعلِ وجهان ، أحدهما : أنه ضميرٌ عائدٌ على الله تعالى ، ويَدُلُّ عليه قراءةُ الأعمشِ ، وقراءتُه هو في روايةٍ عند " فَطَبَعَ اللَّهُ " مُصَرَّحاً بالجلالةِ . والثاني : أنَّ الفاعلَ ضميرٌ يعودُ على المصدرِ المفهومِ مِمَّا قبلَه ، أي : فطَبَعَ هو ، أي : تَلْعابُهم بالدين .
(1/5284)
وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
قوله : { تَسْمَعْ } : العامَّةُ بالخطاب ، و " لِقولهم " متعلِّقٌ به وضُمِّنَ " تَسْمَعْ " معنى تُصْغي وتميلُ ، فلِذلك عُدِّيَ باللام . وقيل : بل هي مزيدةٌ ، أي : تسمعُ قولَهم . وليس بشيءٍ؛ لنَصاعةِ معنى الأول . وقرأ عطيةُ العَوْفيُّ وعكرمةُ بالياء مِنْ تحت مبنياً للمفعول ، والقائم مَقامَ الفاعلِ الجارُّ لأجلِ التضمينِ المتقدِّمِ . ومَنْ اعتقد زيادةَ اللامِ أولاً لم يَجُزْ أَنْ يعتقدَها هنا ، أي : تَسمعْ قَوْلَهم؛ لأنَّ اللامَ لا تُزادُ في الفاعلِ ولا فيما أشبهه .
قوله : { كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ } في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّها مستأنفةٌ . والثاني : أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هم كأنَّهم ، قالهما الزمخشري . والثالث : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ، وصاحبُ الحالِ الضميرُ في " قولِهم " قاله أبو البقاء . وقرأ أبو عمروٍ والكسائيُّ وقنبلٌ " خُشْب " بضمٍ وسكونٍ ، وباقي السبعةِ بضمتين . وقرأ السعيدان : ابنُ جبير وابنُ المسيَّب بفتحتين ، ونسبها الزمخشريُّ لابن عباس ولم يذكُرْ غيرَه . فأمَّا القراءةُ بضمتَيْن فقيل : يجوزُ أَنْ تكونَ جمع خشَبَة نحو : ثَمَرَة وثُمُر ، قاله الزمشخريُّ ، وفيه نظرٌ؛ لأن هذه الصيغةَ محفوظةٌ في فَعَلَة لا تَنْقاس نحو : ثَمَرَة وثُمُر . ونقل الفاسيُّ عن الزبيدي أنه جمعُ خَشْباء ، وأَحْسَبُه غَلِطَ عليه لأنه قد يكون قال " خُشْب " بالسكون جمع خَشْباء نحو : حَمْراء وحُمْر؛ لأنَّ فَعْلاء الصفةَ لا تُجْمع على فُعُل بضمتين بل بضمةٍ وسكونٍ . وقوله " الزبيدي " تصحيفٌ : إمَّا منه وإمَّا من الناسخِ ، إنما هو اليزيديُّ تلميذُ أبي عمرو بن العلاء ، نقل ذلك الزمخشري . وقال أبو البقاء : " وخُشْب بالضمِّ والإِسكان جمعُ خَشَب مثل : أَسَد وأُسْد " انتهى . فهذا يُوهم أنه يقال : أُسُد بضمتين وليس كذلك .
وأمَّا القراءةُ بضمةٍ وسكونٍ فقيل : هي تخفيفُ الأُولى . وقيل : هي جمعُ خَشْباء وهي الخَشَبةُ التي نُخِر جَوْفُها ، أي : فُرِّغَ ، شُبِّهوا بها لفراغِ بَواطنِهم مِمَّا يُنْتَفَعُ به . وقيل : هي جمعُ خَشَبة نحو بَدَنَة وبُدْن ، قاله الزمخشري .
وأمَّا القراءةُ بفتحتَيْن فهو اسمُ جنسٍ ، وأُنِّثَتْ صفتُه كقولِه : { نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] وهو أحدُ الجائزَين .
وقوله : { مُّسَنَّدَةٌ } تنبيهٌ على أنها لا يُنْتَفَعُ بها ، كما يُنتفع بالخَشَبِ في سَقْفٍ وغيرِه ، أو شبهوا بالأصنامِ؛ لأنهم كانوا يُسْنِدونها إلى الحِيطان .
قوله : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } فيه وجهان ، أظهرهما : أنَّ " عليهم " هو المفعولُ الثاني للحُسْبان ، أي : واقعةً وكائنةً عليهم ، ويكون قولُه : " هم العدوُّ " جملةً مستأنفةً ، أخبر تعالى بذلك . والثاني : أَنْ يكونَ " عليهم " متعلقاً بصيحة ، و " هم العدوُّ " الجملةُ في موضعِ المفعول الثاني للحُسبان . قال الزمخشري : " ويجوزُ أَنْ يكونَ " هم العدوُّ " هو المفعولَ الثاني : كما لو طَرَحْتَ الضميرَ . فإنْ قلتَ : فحقُّه أن يُقالَ : هي العدو قلت : منظورٌ فيه إلى الخبر ، كما ذُكِر في قوله :
(1/5285)
{ هذا رَبِّي } [ الأنعام : 77 ] ، وأَنْ يُقَدَّرَ مضافٌ محذوفٌ على " يَحْسَبُون كلَّ أهلِ صحيةٍ " انتهى . وفي الثاني بُعْدٌ بعيدٌ .
قوله : { أَنَّى يُؤْفَكُونَ } " أنَّى " بمعنى كيف . وقال ابن عطية : ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ " أنَّى " ظرفاً ل " قاتَلَهم " كأنَّه قال : قاتلهم اللهُ كيف انصَرفوا ، أو صُرِفوا؟ فلا يكونُ في القولِ استفهامٌ على هذا " انتهى . وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ " أنَّى " إنما هي بمعنى كيف ، أو بمعنى أين الشرطيةِ أو الاستفهاميةِ ، وعلى التقادير الثلاثةِ فلا تَتَمَحَّضُ للظرفِ فلا يعملُ فيها ما قبلَها البتةَ ، كما لا تعمل في أسماءِ الشرطِ والاستفهامِ .
(1/5286)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5)
قوله : { يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله } : هذه المسألةُ عَدَّها النحاةُ من الإِعمالِ ، وذلك أنَّ " تعالَوا " يطلبُ " رسولُ الله " مجروراً ب إلى ، أي : تعالَوا إلى رسولِ الله ، و " يَسْتغفر " يَطْلبه فاعلاً ، فأعمل الثاني ، ولذلك رفعَه ، وحَذَف من الأول؛ إذ التقدير : تعالَوْا إليه ، ولو أَعْمل الأولَ لقيل : إلى رسولِ الله/ يَسْتغفر ، فيُضمر في " يَسْتغفر " فاعلٌ ويمكن أَنْ يقال : ليَستْ هذه من الإِعمال في شيء لأنَّ قولَه : " تعالَوْا " أمرٌ بالإِقبال من حيث هو ، لا بالنَّظر إلى مُقْبَلٍ عليه .
قوله : { لَوَّوْا } هذا جوابُ " إذا " . وقرأ نافع " لَوَوْا " مخففاً ، والباقون مشدَّداً على التكثير و " يَصُدُّون " حال لأنَّ الرؤيةَ بَصَريَّةٌ ، وكذا قولُه " وهم مُستكبرون " حالٌ أيضاً : إمَّا من صاحب الحالِ الأولى ، وإمَّا مِنْ فاعل " يَصُدُّون " فتكونُ متداخلةً . وأتى ب " يَصُدُّون " مضارعاً دلالةً على التجدُّدِ والاستمرار . وقرِىء " يَصِدُّون " بالكسر وقد تقدَّمنا في الزخرف .
(1/5287)
سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
قوله : { أَسْتَغْفَرْتَ } : قراءةُ العامَّةُ بهمزةٍ مفتوحةٍ مِنْ غير مَدّ ، وهي همزةُ التسويةِ التي أصلُها الاستفهامُ . وقرأ يزيد ابن القعقاع " آسْتَغْفَرْت " . بهمزةٍ ثم ألفٍ ، فاختلف الناس في تأويلِها ، فقال الزمخشري : " إشْباعاً لهمزة الاستفهام للإِظهارِ والبيان ، لا قَلْباً لهمزة الوصل كما في " آلسحرُ " و " آللهُ " يعني أنه أشبع فتحةَ همزةِ التسويةِ فتولَّد منها ألفٌ ، وقَصْدُه بذلِك إظهارُ الهمزةِ وبيانُها ، لا أنه قَلَبَ الوصَل ألفاً كما قَلَبها في قولِه : " آلسحرُ " " آللهُ أَذِنَ لكم " لأنَّ هذه الهمزةَ للوَصْلَ ، فهي تَسْقُط في الدَّرْج . وأيضاً فهي مكسورةٌ فلا يَلْتبسُ معها الاستفهامُ بالخبر : بخلاف " آلسحر " و " آلله " . وقال آخرون : هي عِوَضٌ من همزةِ الوصلِ . كما في " آلذَّاكَرَيْن " وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّ هذه مكسورةٌ فكيف تُبْدَلُ ألفاً؟ وأيضاً فإنما قَلَبْناها هناك ألفاً ولم نحذِفْها ، وإن كان حَذْفُها مُسْتحقاً ، لئلا يلتبسَ الاستفهامُ بالخبر ، وهنا لا لَبْسَ .
وقال ابن عطية : " قرأ أبو جعفر يعني يزيد بن القعقاع " آستغفرْتَ " بمَدَّة على الهمزةِ . وهي ألفُ التسوية . وقرأ أيضاً بوَصْلِ الألف دون همز على الخبر ، وفي هذا كلِّه ضَعْفٌ؛ لأنه في الأولى أثبت هَمزةَ الوصلِ ، وقد أغنتْ عنها همزةُ الاستفهام ، وفي الثانية حَذَفَ همزةَ الاستفهام ، وهو يُريدها ، وهذا ممَّا لا يُسْتعملُ إلاَّ في الشعر " . قلت : أمَّا قراءتُه " استغفرْتَ " بوَصْلِ الهمزة فرُوِيَتْ أيضاً عن أبي عمروٍ ، إلاَّ أنه هو يضُمُّ ميم " عليهم " عند وَصْلِه الهمزةَ؛ لأن أصلَها الضمُّ ، وأبو عمرو يكسِرُها على أصلِ التقاء الساكنين . وأمَّا قولُه : " وهذا ممَّا لا يُسْتعمل إلاَّ في شعرٍ " فإنْ أراد بهذا مَدَّ هذه الهمزةِ في هذا المكانِ فصحيحٌ ، بل لا نجده أيضاً ، وإن أرادَ حَذْفَ همزةَ الاستفهام فليس بصحيحٍ لأنَّه يجوزُ حَذْفُها إجماعاً قبل " أم " نثراً ونَظْماً ، وأمَّا دونَ " أم " ففيه خلافٌ ، والأخفشُ يُجَوِّزُهُ ويجعلُ منه { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ } [ الشعراء : 22 ] وقولَه :
4264 طَرِبْتُ وما شَوْقاً إلى البيضِ أَطْرَبُ ... ولا لَعِباً مني وذو الشَّيْبِ يَلْعَبُ
وقول الآخر :
4265 أَفْرَحُ أَنْ أُرْزَأَ الكرامَ وأَنْ ... أُوْرَثَ ذَوْداً شصائِصاً نَبْلا
وأمَّأ قبل " أم " فكثير كقولِه :
4266 لَعَمْرُكَ ما أَدْري وإنْ كنتُ داريا ... بسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْر أم بثمانٍ
وقد مَرَّتْ هذه المسألةُ مستوفاةً ولله الحمدُ
(1/5288)
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7)
قوله : { يَنفَضُّواْ } : قرأ العامَّةُ من الانْفِضاض وهو التفرُّقُ . وقرأ الفضل بن عيسى الرقاشي " يُنْفِضُوا " مِنْ أَنْفَضَ القومُ : فَنِيَ زادُهم . ويقال : نَفَضَ الرجلُ وعاءَه من الزاد ، فأَنْفَضَ ، فيتعدَّى دونَ الهمزةِ ولا يتعدَّى معها ، فهو من بابِ : كَبَبْتُه فأَكَبَّ . قال الزمخشري : " وحقيقتُه : حانَ لهم أَنْ يَنْفُضُوا مَزاوِدَهُم " .
(1/5289)
يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
قوله : { لَيُخْرِجَنَّ الأعز } : قراءةُ العامَّةُ بضمِّ الياءِ وكسرِ الراءِ ، مسْنداً إلى " الأعزُّ " ، و " الأذلَّ " مفعولٌ به ، والأعزُّ بعض المنافقين على زعمه . وقرأ الحسن وابن أبي عبلة والمسيبيُّ " لَنُخْرِجَنَّ " بنون العظمة وبنصبِ " الأعَزَّ " على المفعول به ونصبِ الأذلّ على الحالِ ، وبه استشهد مَنْ جَوَّز تعريفَها . والجمهورُ جَعلوا أل مزيدةً على حَدِّ :
4267 فَأَرْسَلَها العِراكَ . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وادخلوا الأَوَّلَ فالأَوَّلَ . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ منصوباً على المفعول به ، وناصبُه حالٌ محذوفةٌ ، أي : مُشْبِهاً الأذلَّ . وقد خَرَّجَه الزمخشريُّ على حَذْفِ مضافٍ ، أي : خروجَ الأذلِّ ، أو إخراجَ الأذَلِّ ، يعني بحسَبِ القراءتَيْن : مِنْ خَرَجَ وأَخْرَجَ . فعلى هذا ينتصبُ على المصدرِ لا على الحالِ . ونَقَلَ الدانيُّ عن الحسن أيضاً/ " لنَخْرُجَنَّ " بفتح نونِ العظمة وضمِّ الراء ونصبِ " الأعزَّ " على الاختصاصِ كقولهم : " نحن العربَ أَقْرى الناس للضيفِ " ، و " الأذلَّ " نصبٌ على الحالِ أيضاً ، قاله الشيخ ، وفيه نظرٌ كيف يُخْبرون عن أنفسِهم : بأنهم يَخْرُجون في حالِ الذُّلِّ مع قولهم الأعزّ ، أي : أخصُّ الأعزَّ ، ويَعْنُون بالأعزِّ أنفسَهم؟ وقد حكى هذه القراءةَ أيضاً أبو حاتمٍ ، وحكى الكسائي والفراء أنَّ قوماً قرؤوا " ليَخْرُجَنَّ " بفتح الياء وضم الراء ورفع " الأعزُّ " فاعلاً ونصب الأول حالاً وهي واضحةٌ . وقُرِىء ليُخْرَجَنَّ بالياء مبنياً للمفعول " الأعزُّ " قائماً مَقام الفاعل ، " الأذلَّ " حالٌ أيضاً .
(1/5290)
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)
قوله : { وَأَكُن } : قرأ أبو عمروٍ " وأكونَ " بنصب الفعل عطفاً على " فأصَّدَّقَ " و " فأصَّدَّقَ " منصوبٌ على جوابِ التمني في قوله : " لولا أَخَّرتني " والباقون " وأكُنْ " مجزوماً ، وحُذِفَتِ الواوُ لالتقاء الساكنين . واختلفت عبارات الناس في ذلك ، فقال الزمخشري : " عطفاً على محلِّ " فأصَّدَّقَ " كأنه قيل : إنْ أخَّرْتَني أصَّدَّقْ وأكنْ " . وقال ابنُ عطية : " عطفاً على الموضع؛ لأنَّ التقديرَ : إنْ أخَّرتني أصَّدَّقْ وأكن ، هذا مذهب أبي علي الفارسي : فأمَّا ما حكاه سيبويه عن الخليلِ فهو غيرُ هذا وهو أنه جزمٌ على توهُّمِ الشرطِ الذي يَدُلُّ عليه التمني ، ولا موضعَ هنا لأن الشرطَ ليسَ بظاهرٍ ، وإنما يُعْطَفُ على الموضع حيث يَظْهَرُ الشرطُ كقولِه : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ } [ الأعراف : 186 ] فمَنْ جَزَمَ عَطَفه على موضع { فَلاَ هَادِيَ لَهُ } لأنه لو وقع موقعَه فِعْلٌ لانجزم " انتهى . وهذا الذي نَقَله عن سيبويهِ هو المشهورُ عند النَّحويين . ونَظَّر سيبويه ذلك بقول زهير :
4268 بَداليَ أني لَسْتُ مُدْرِكَ ما مَضَى ... ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائيا
فخفضَ " ولا سابقٍ " عطفاً على " مُدْرِكَ " الذي هو خبر ليس على توهُّمِ زيادةِ الباء فيه؛ لأنه قد كَثُرَ جَرُّ خبرِها بالباء المزيدة ، وهو عكسُ الآيةِ الكريمةِ؛ لأنه في الآية جُزِمَ على توهُّمِ سقوط الفاء ، وهنا خُفِضَ على تَوَهُّمِ وجودِ الباءِ ، ولكنَّ الجامعَ توهُّمُ ما يَقْتضي جوازَ ذلك ، ولكني لا أُحِبُّ هذا اللفظَ مستعملاً في القرآن ، فلا يُقال : جُزم على التوهُّم ، لقُبْحه لفظاً . وقال أبو عبيد : " رأيتهُ في مصحف عثمان " وأكُنْ " بغير واوٍ . وقد فَرَّق الشيخ بين العطفِ على الموضعِ والعطفِ على التوهُّمِ بشيءٍ فقال : " الفرقُ بينهما : أنَّ العاملَ في العطف على الموضع موجودٌ ، وأثرُه مفقودٌ ، والعاملُ في العطفِ على التوهُّمِ مفقودٌ ، وأثرُه موجودٌ " انتهى . قلت : مثالُ الأول : " هذا ضاربُ زيدٍ وعمراً " فهذا من العطفِ على الموضع ، فالعاملُ وهو " ضارب " موجودٌ ، وأثرُه وهو النصبُ مفقودٌ . ومثالُ الثاني ما نحن فيه؛ فإنَّ العاملَ للجزمِ مفقودٌ ، وأثُره موجودٌ . وأَصْرَحُ منه بيتُ زهير فإنَّ الباءَ مفقودةٌ وأثُرها موجودٌ ، ولكن أثرَها إنما ظهر في المعطوفِ لا في المعطوفِ عليه ، وكذلك في الآية الكريمة . ومن ذلك بيتُ امرىء القيس :
4269 فظلَّ طُهاةُ اللحمِ مِنْ بينِ مُنْضِجٍ ... صَفيفِ شِواءٍ قَديرٍ مُعَجَّلِ
فإنهم جعلوه مِن العطفِ على التوهُّم؛ وذلك : أنه توهَّم أنه أضاف " منضج " إلى " صَفيف " ، وهو لو أضافَه إليه لَجَرَّه فعطفَ " قدير " على " صفيف " بالجرِّ تَوَهماً لجرِّه بالإِضافة . /
وقرأ عبيد بن عمير " وأكونُ " برفع الفعل على الاستئناف ، أي : وأنا أكونُ ، وهذا عِدَةٌ منه بالصَّلاح .
(1/5291)
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
وقرأ أبو بكر " بما يعملون " بالغَيْبة ، والباقون بالخطاب ، وهما واضحتان . وقرأ أُبَي وعبد الله وابن جبير " فأَتَصَدَّقَ " وهي أصلُ قراءةِ العامةِ ولكنْ أُدْغِمَتْ التاءُ في الصاد .
(1/5292)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
قوله : { لَهُ الملك } : مبتدأٌ وخبرٌ . وقدَّمَ الخبر ليفِيد اختصاصَ المُلْكِ والحمدِ بالله ، إذ المُلْكُ والحمدُ لله حقيقةٌ .
(1/5293)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
قوله : { صُوَرَكُمْ } : قرأه العامَّةُ بضم الصادِ ، وهو القياسُ في فُعْلَة . وقرأ زيدُ بن علي والأعمش وأبو زيد بكسرِها ، وليس بقياسٍ ، وهو عكسُ " لُحَى " بالضمِّ ، والقياسُ لِحى بالكسر .
(1/5294)
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
قوله : { مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } : العامَّةُ على الخطابِ في الحرفَيْن . ورُوِي عن أبي عمروٍ وعاصمٍ بياء الغَيْبةِ ، فتحتملُ الالتفاتَ وتحتملُ الإِخبارَ عن الغائبين .
(1/5295)
ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
قوله : { بِأَنَّهُ } : الهاءُ للشأنِ والحديثِ ، و { كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم } خبرُها و " استغنى " بمعنى المجرَّد . وقال الزمخشري : " ظَهَر غِناه فالسين ليسَتْ للطلبِ " .
قوله : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } يجوزُ أَنْ يرتفعَ على الفاعلية ، ويكونَ من الاشتغال ، وهو الأرجحُ لأنَّ الأداةَ تطلبُ الفعلَ ، وأن يكونَ مبتدأً وخبراً . وجُمع الضميرُ في " يَهْدوننا " إذ البشرُ اسمُ جنسٍ .
(1/5296)
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)
قوله : { أَن لَّن يُبْعَثُواْ } : " أنْ " مخففةٌ ، لا ناصبةٌ لئلا يَدْخُلَ ناصبٌ على مثلِه ، و " أنْ " وما في حَيِّزها سادَّةٌ مَسَدّ المفعولَيْنِ للزعمِ أو المفعول . و " بلى " إيجابٌ للنفي ، و " لَتُبْعَثُنَّ " . جوابُ قسم مقدرٍ .
(1/5297)
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
قوله : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ } : منصوبٌ بقولِه : " لَتُنَبَّؤُنَّ " عند النحاس و ب " خَبيرٌ " عند الحوفي ، و ب " اذكُر " مضمراً عند الزمخشري ، فيكون مفعولاً به ، وبما دَلَّ عليه الكلامُ ، أي : تتفاوتون يومَ يجمعُكم ، قاله أبو البقاء . والعامَّةُ بفتح الياءِ وضمِّ العين . ورُوِي سكونُها وإشمامُها عن أبي عمروٍ . وهذا منقولٌ عنه في الراء نحو { يَنصُرُكُمْ } [ الملك : 20 ] وبابِه كما تقدَّم في البقرة . وقرأ يعقوب وسلام وزيد بن علي والشعبي " نجمعكم " بنونِ العظمة .
والتَّغابُنُ : تفاعُلٌ من الغَبْن في البيعِ والشراءِ على الاستعارة وهو أَخْذُ الشيءِ بدون قيمتِه . وقيل : الغَبْنُ : الإِخفَاءُ ومنه : غَبْنُ البيعِ لاستخفائِه . والتفاعُل هنا من واحدٍ لا من اثنين ويقال : غَبَنْتُ الثوبَ وخَبَنْتُه ، أي : أخَذْتُ ما طالَ منه مقدارِك فهو نقصٌ وإخفاءٌ . وفي التفسير : هو أن يكتسبَ الرجلُ مالاً مِنْ غيرِ وجهه ، فَيَرِثَه غيرُه فيعملَ فيه بطاعةِ اللهِ ، فيَدْخلَ الأولُ النارَ والثاني الجنةَ بذلك المالِ ، فذلك هو الغَبْنُ البيِّنُ .
(1/5298)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)
قوله : { يَهْدِ قَلْبَهُ } : بالياءِ مجزوماً جواباً للشرط قراءة العامَّة . وابن جبير وابن هرمز وطلحة والأزرق بالنون والضحاك وأبو جعفر وأبو عبد الرحمن " يُهْدَ " مبنياً للمفعولِ " قلبُه " قائم مقامَ الفاعلِ . ومالك بن دينار وعمرو بن دينار " يَهْدَأْ " بهمزة ساكنة ، " قلبُه " فاعلٌ به بمعنى يطمئنُّ ويَسْكُن . وعمرو بن فائد " يَهْدا " بألفٍ مبدلة من الهمزة كالتي قبلَها ، ولم يَحْذِفْها نظراً إلى الأصل وهي أفصح اللغتين . وعكرمة ومالك بن دينار أيضاً يَهْدَ بحذفِ هذه الألفِ إجراءً لها مُجرى الألفِ الأصليةِ كقولِ زهير :
4270 جَريءٌ متى يُظْلَمْ يُعاقِبْ بِظُلْمِه ... سريعاً وإنْ لا يُبْدَ بالظلمِ يُظْلَمِ
وقد تقدَّم إعرابُ ما قبلَ هذه الآيةِ وما بعدها .
(1/5299)
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)
قوله : { خَيْراً لأَنفُسِكُمْ } : فيه أوجهٌ ، أحدها : وهو قولُ سيبويه أنه مفعولٌ بفعل مقدرٍ ، أي : وَأْتُوا خيراً كقولِه : { انتهوا خَيْراً لَّكُمْ } [ النساء : 171 ] . الثاني : تقديرُه : يكنِ الإِنفاقُ خيراً ، فهو خبرُ كان المضمرة ، وهو قولُ أبي عبيد . الثالث : أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ ، وهو قولُ الكسائيِّ والفراء ، أي : إنفاقاً خيراً . الرابع : أنه حالٌ وهو قولُ الكوفيين . الخامس : أنه مفعولٌ بقولِه : " أَنْفِقوا " ، أي : أَنْفقوا مالاً خيراً . وقد تقدَّم الخلافُ في قراءةِ { يُضَاعِفَهُ } [ الحديد : 11 ] و { يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } [ الحشر : 9 ] .
(1/5300)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
قوله : { إِذَا طَلَّقْتُمُ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه خطابٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ الجمع تعظيماً كقوله :
4271 فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سواكمُ ... وإن شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْدا
/ الثاني : أنه خطابٌ له ولأمَّته والتقدير : يا أيها النبيُّ وأمَّتَه إذا طلَّقْتُمْ فحذف المعطوفَ لدلالةِ ما بعده عليه ، كقوله :
4272 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إذا حَذْفَتْه رِجْلُها . . . . . . . . . . . . . . . .
أي ، ويَدُها ، وتقدَّم هذا في سورة النحل عند { تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] . الثالث : أنه خطابٌ لأمَّتِه فقط بعد ندائِه عليه السلام ، وهو مِنْ تلوينِ الخطابِ خاطبَ أمتَه بعد أَنْ خاطبه . الرابع : أنَّه على إضمارِ قول ، أي : يا أيها النبيُّ قُلْ لأمتك : إذا طلَّقتْم . الخامس : قال الزمخشري : " خصَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالنداء وعَمَّ بالخطابِ؛ لأنَّ النبيَّ إمامُ أمَّتِه وقُدْوَتُهم ، كما يُقال لرئيس القومِ وكبيرِهم : يا فلانُ افعلوا كيتَ وكيتَ اعتباراً بتقدُّمِه وإظهاراً لترؤُّسه " في كلامٍ حسنٍ ، وهذا هو معنى القولِ الثالثِ الذي قَدَّمْتُه .
وقوله : { إِذَا طَلَّقْتُمُ } ، أي : إذا أَرَدْتُمْ كقولِه : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } [ المائدة : 6 ] { فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن } [ النحل : 98 ] وتقدَّم تحقيقُ ذلك .
قوله : { لِعِدَّتِهِنَّ } قال الزمخشري : " مُسْتَقْبِلاتٍ لِعِدَّتهن ، كقولِك : " أتيتُه لِلَيْلَةٍ بَقِيَتْ من المحرَّم " ، أي : مُسْتقبلاً لها ، وفي قراءةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم " في قُبُل عِدَّتِهِنَّ " انتهى . وناقشه الشيخ في تقديره الحالَ التي تَعلَّق بها الجارُّ كوناً خاصاً . وقال : " الجارُّ إذا وقع حالاً إنما يتعلَّق بكونٍ مطلقٍ " وفي مناقَشَتِه نظرٌ لأنَّ الزمخشري لم يَجْعَل الجارَّ حالاً بل جَعَلَه متعلِّقَاً بمحذوف دَلَّ عليه معنى الكلامِ . وقال أبو البقاء : " لِعِدَّتِهِنَّ ، أي : عند أول ما يُعْتَدُّ لهنَّ به ، وهُنَّ في قُبُل الطُّهْر " وهذا منه تفسيرُ معنى لا تفسيرُ إعرابٍ . وقال الشيخ : " هو على حَذْفِ مضاف ، أي : لاستقبالٍ عِدَّتِهِن ، واللامُ للتوقيت نحو : لَقِيْتُه لِلَيْلَةٍ بَقِيْتَ مِنْ شهرِ كذا " انتهى . فعلى هذا تتعلَّقُ اللامُ ب " طَلِّقُوهن " .
قولِه : { لَعَلَّ الله } هذه الجملةُ مستأنفةٌ لا تعلُّقَ بما لها بما قبلَها؛ لأنَّ النحاةَ لم يَعُدُّوها في المُعلِّقات . وقد جَعَلَها الشيخ . مِمَّا يَنْبغي أَنْ يُعَدَّ فيهنَّ ، وقَرَّر ذلك في قوله : { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ } [ الأنبياء : 111 ] فهناك يُطْلَبُ تحريرُه .
(1/5301)
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)
وقرأ العامَّةُ : { أَجَلَهُنَّ } : لأنَّ الأجلَ من حيث هو واحدٌ وإنْ اختلفَتْ أنواعُهُ بالنسبةِ إلى المعتدَّات . والضحاك وابن سيرين " آجالَهُنَّ " جمعَ تكسير ، اعتباراً بأنَّ أَجَلَ هذه غيرُ أجلِ تَيْكَ .
(1/5302)
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
قوله : { بَالِغُ أَمْرِهِ } : قرأ حفص " بالغُ " مِنْ غير تنوين ، " أمرِه " مضافٌ إليه على التخفيفِ . والباقون بالتنوينِ والنصبِ وهو الأصلُ خلافاً للشيخ . وقرأ ابن أبي عبلة وداود بن أبي هند وأبو عمروٍ في روايةٍ " بالغٌ أمرُه " بتنوين " بالغٌ " ورفْع " أَمْرُه " وفيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ " بالغٌ " خبراً مقدماً ، و " أمْرُه " مبتدأٌ مؤخرٌ . والجملة خبرُ " إنَّ " والثاني : أَنْ يكونَ " بالغٌ " خبرَ " إنَّ " و " أَمْرُه " فاعلٌ به . وقرأ المفضَّلُ " بالغاً " بالنصب ، " أَمْرُه " بالرفع . وفيه وجهان ، أظهرهما : وهو تخريج الزمخشري أَنْ يكونَ " بالغاً " نصباً على الحال ، و { قَدْ جَعَلَ الله } هو خبرُ " إنَّ " تقديرُه : إن اللَّهَ قد جعل لكلِّ شيءٍ قَدْراً بالغاً أمْرُه . والثاني : أَنْ يكونَ على لغةِ مَنْ ينْصِبُ الاسمَ والخبرَ بها ، كقولِه :
4273 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . إنَّ حُرَّاسَنا أُسْدا
ويكون " قد جَعَل " مستأنفاً كما في القراءةِ الشهيرةِ . ومَنْ رفع " أَمْرُه " فمفعولُ " بالغ " محذوفٌ تقديره : ما شاء . وجناح بن حبيش " قَدَرا " بفتح الدال .
(1/5303)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
قوله : { واللائي يَئِسْنَ } : قد تقدَّم الخلافُ فيه ، وأبو عمروٍ يقرأ هنا " واللايْ يَئِسْنَ " بالإِظهار ، وقاعدتُه في مثلِه الإِدغامُ ، إلاَّ أنَّ الياء لَمَّا كانَتْ عنده عارضةً لكونِها بدلاً مِنْ همزةٍ ، فكأنه لم يجتمعْ مِثلان . وأيضاً فإنَّ سكونَها عارضٌ ، فكأنَّ ياء " اللاي " محرَّكةٌ ، والحرف ما دام متحركاً لا يُدْغَمُ في غيرِه/ وقرأ " يَئِسْنَ " فعلاً ماضياً ، وقُرِىء " يَيْئَسْنَ " مضارعاً . و " مِنْ المحيض مِنْ نسائكم " " مِنْ " الأولى لابتداءِ الغاية ، وهي متعلِّقةٌ بالفعل قبلَها ، والثانيةُ للبيان ، متعلِّقةً بمحذوف و " اللائي " مبتدأ ، و " فعِدَّتُهُنَّ " مبتدأ ثانٍ ، " وثلاثةُ أشهر " خبرُه ، والجملةُ خبرُ الأولِ ، والشرطُ معترضٌ ، وجوابُه محذوف . ويجوزُ أَنْ يكونَ " إنِ ارْتَبْتُم " جوابُه { فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ } ، والجملةُ الشرطيةُ خبرُ المبتدأِ ، ومتعلَّقُ الارتيابِ محذوفٌ فقيل : تقديرُه : إنِ ارْتَبْتُمْ في أنها يَئِسَتْ أم لا لإِمكانِ ظهورِ حَمْلٍ . وإن كان انقطع دَمُها . وقيل : إنِ ارتَبْتُمْ في دَمِ البالغاتِ مَبْلَغَ اليأسِ : أهو دَمُ حيضٍ أم استحاضةٍ؟ وإذا كان هذا عِدَّةَ المرتابِ فيها فغيرُ المرتابِ فيها أَوْلَى ، وأغربُ ما قيل : إنَّ " إنْ ارتَبْتُمْ " بمعنى تَيَقَّنْتُم فهو من الأضداد .
قوله : { واللائي لَمْ يَحِضْنَ } مبتدأٌ ، خبرُه محذوفٌ . فقدَّروه جملةً كالأول ، أي : فعدَّتُهنَّ ثلاثةُ أشهرٍ أيضاً ، والأَوْلَى أن يقدَّرَ مفرداً ، أي : فكذلك ، أو مِثْلهنَّ ولو قيل : بأنَّه معطوفٌ على " اللائي يَئِسْنَ " عَطْفَ المفرداتِ ، وأخبر عن الجميع بقولِه " فعِدَّتُهنَّ " لكان وجهاً حسناً . وأكثرُ ما فيه توسُّطُ الخبرِ بين المبتدأ وما عُطِف عليه ، وهذا ظاهرُ قولِ الشيخ : { واللائي لَمْ يَحِضْنَ } معطوفٌ على قولِه " واللائي يَئِسْن " فإعرابُه مبتدأ كإعراب " واللائي " .
قوله : { وَأُوْلاَتُ الأحمال } متبدأ و " أَجَلُهُنَّ " مبتدأ ثانٍ و " أن يَضَعْن " خبره والجملة خبر الأول ، أي : وَضْع حَمْلهن . ويجوز أَنْ يكونَ " أَجلُهنَّ " بدلَ اشتمال مِنْ أُولات و " أنْ يضعن " خبرَ المبتدأ . والعامَّةُ على إفرادِ " حَمْلهنَّ " والضحاك " آجالُهُنَّ " جمع تكسير .
(1/5304)
ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
قوله : { وَيُعْظِمْ } : هذه قراءةُ العامَّةِ مضارعَ أَعْظَمَ ، وابن مقسم " يُعَظِّمْ " بالتشديد مضارعَ عَظَّم مشدداً . والأعمش " نُعْظِم " مضارعَ أَعْظم ، وهو التفاتٌ مِنْ غَيْبةٍ إلى تكلُّمٍ .
(1/5305)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)
قوله : { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ " منْ " للتبعيض . قال الزمخشري : " مُبَعَّضُها محذوفٌ معناه : أَسْكنوهنَّ مكاناً مِنْ حيث سَكَنْتُمْ ، أي : بعضَ مكانِ سُكْناكم ، كقولهِ تعالى : { يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } [ النور : 30 ] ، أي : بعضَ أبصارِهم . قال قتادة : " إن لم يكنْ إلاَّ بيتٌ واحدٌ أسْكنها في بعضِ جوانبه " . والثاني : أنها لابتداء الغاية قاله الحوفي وأبو البقاء . قال أبو البقاء : " والمعنى : تَسَبَّبُوا إلى إسكانِهِنَّ من الوجه الذي تُسْكِنون أنفسَكم . ودلَّ عليه قولُه مِنْ وُجْدِكم ، والوُجْدُ : الغِنى " .
قوله : { مِّن وُجْدِكُمْ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه بدلٌ مِنْ قولِه " مِنْ حيثُ " بتكريرِ العاملِ ، وإليه ذهب أبو البقاء كأنه قيل : أسْكنوهن مِنْ سَعَتكم . والثاني : أنه عطف بيان لقوله { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } ، وإليه ذهب الزمشخري ، فإنه قال بعد أن أعربَ " مِنْ حيث " تبعيضيةً كما تقدَّم : " فإن قلتَ : وقولُه " مِنْ وُجْدِكم "؟ قلت : هو عطفُ بيانٍ لقولِه : { مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } ومُفَسِّرٌ له كأنه قيل : أَسْكِنوهنَّ مكاناً مِنْ مَساكنكم مِمَّا تُطيقونه .
والوُجْدُ الوُسْع والطاقَةُ " . وناقشه الشيخ : بأنَّه لم يُعْهَدْ في عطفِ البيان إعادةُ العاملِ ، إنما عُهد هذا في البدلِ ، ولذلك أعربه أبو البقاء بدلاً . والعامَّة " وُجْدِكم " بضمِّ الواو ، والحسن والأعرج وأبو حيوةَ بفتحِها ، والفياضُ بن غزوان وعمرو بن ميمون ويعقوب بكسرِها ، وهي لغاتٌ بمعنىً . والوَجْدُ بفتح الواو : الحُزْنُ أيضاً ، والحُبُّ ، والغَضَب .
قوله : { وَأْتَمِرُواْ } افْتَعِلوا مِنْ الأَمْر يقال : ايتَمَرَ القومُ وتآمروا ، أي : أمَر بعضُهم بعضاً . وقال الكسائيُّ : ائتمروا : تَشاوروا وتلا قولَه تعالى : { إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ } [ القصص : 20 ] وأنشد قولَ امرِىءِ القيس :
4274 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ويَعْدُوْ على المَرْءِ ما يَأَتْمِرْ
/ قوله : { فَسَتُرْضِعُ } قيل : هو خبرٌ في معنى الأَمْر . والضمير في " له " للأبِ كقولِه : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } ، والمفعولُ محذوفٌ للعِلْمِ به ، أي : فسترضعُ الولدَ لوالدِه امرأةٌ أخرى . والظاهرُ أنه خبرٌ على بابِه .
(1/5306)
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
قوله : { لِيُنفِقْ } هذه قراءةُ العامَّةِ ، أعني كَسْرَ اللامِ وجزمَ المضارعِ بِها . وحكى أبو معاذ القارىء " لِيُنْفِقَ " بنصب الفعل على أنها لامُ كي نَصَبَ الفعلَ بعدَها بإضمار " أَنْ " ويتعلَّقُ الحرفُ حينئذٍ بمحذوفٍ ، أي : شَرَعْنا ذلك لِيُنْفِقَ . وقرأ العامَّة " قُدِر " مخففاً . وابن أبي عبلة " قَدَّر " مشدداً .
(1/5307)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8)
قوله : { عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا } : ضُمِّن معنى أَعْرَضَ ، كأنه قيل : أَعْرَضَتْ بسببِ عُتُوِّها . وقولِه " فحاسَبْناها " إلى آخره كلُّه في الآخرة ، وأتى به على لفظِ المُضِيِّ لتحقُّقِه . وقيل : العذاب في الدنيا فيكونُ على حقيقتِه و " أعدَّ الله " تكريرٌ للوعيدِ وتوكيداً . وجَوَّزَ الزمخشري أَنْ يكونَ " عَتَتْ " وما عُطِفَ عليه صفةً ل " قريةٍ " ويكونُ الخبرُ ل " كأيِّنْ " الجملةَ مِنْ قولِه " أعدَّ اللَّهُ " فعلى الأول يكونُ الخبرُ " عَتَتْ " وما عُطِفَ عليه .
(1/5308)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10)
قوله : { الذين آمَنُواْ } : منصوبٌ بإضمار أَعْني بياناً للمنادي ، أو يكون عطفَ بيان للمنادِي أو نعتاً له ، ويَضْعُفُ كونُه بدلاً لعدمِ حُلولِه المبدلِ منه .
(1/5309)
رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
قوله : { رَّسُولاً } : فيه أوجهٌ ، أحدُها وإليه ذهب الزجَّاج والفارسي أنه منصوبٌ بالمصدرِ المنونِ قبلَه؛ لأنه يَنْحَلُّ لحرفٍ مصدري وفعلٍ ، كأنه قيل : أن ذَكرَ رسولاً ، والمصدرُ المنوَّنُ عاملٌ كقولِه تعالى : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 ] وقولِه :
4275 بضَرْبٍ بالسيوفِ رؤوسَ قَوْمٍ ... أَزَلْنا هامَهُنَّ عن المَقيلِ
الثاني : أنَّه جُعِل نفسُ الذِّكْرِ مبالغةً فأُبْدِل منه . الثالث : أنَّه بدلٌ منه على حَذْفِ مضافٍ مِنْ الأول تقديرُه : أنزل ذا ذكرٍ رسولاً . الرابع : كذلك ، إلاَّ أنَّ " رسولاً " نعت لذلك المحذوف . الخامس : أنه بدلٌ منه على حَذْفِ مضافٍ مِنْ الثاني ، أي : ذِكْراً ذِكْرَ رسول . السادس : أَنْ يكونَ " رسولاً " نعتاً ل ذِكْراً على حَذْفِ مضاف ، أي : ذِكْراً ذا رسولٍ ، ف " ذا رسول " نعتٌ لذِكْر . السابع : أَنْ يكونَ " رسولاً " بمعنى رسالة ، فيكونَ " رسولاً " بدلاً صريحاً مِنْ غير تأويل ، أو بياناً عند مَنْ يرى جَرَيانه في النكراتِ كالفارسيِّ ، إلاَّ أنَّ هذا يُبْعِدُه قولُه : " يَتْلُو عليكم " ، لأنَّ الرسالةَ لا تَتْلوا إلاَّ بمجازٍ ، الثامن ، أَنْ يكونَ " رسولاً " منصوباً بفعلٍ مقدر ، أي : أرسل رسولاً لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه . التاسع : أَنْ يكونَ منصوباً على الإِغراء ، أي : اتبِعوا والزَمُوا رسولاً هذه صفتُه .
واختلف الناس في " رسولاً " هل هو النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، أو القرآنُ نفسُه ، أو جبريلُ؟ قال الزمخشري : " هو جبريلُ عليه السلام " أُبْدِل مِنْ " ذِكْراً " لأنه وُصِف بتلاوةِ آياتِ اللَّهِ ، فكأنَّ إنزالَه في معنى إنزالِ الذِّكْرِ فصَحَّ إبدالُه منه " . قال الشيخ : " ولا يَصِحُّ لتبايُنِ المدلولَيْنِ بالحقيقة ، ولكونِه لا يكونَ بدلَ بعضٍ ولا بدلَ اشتمال " انتهى . وهذا الذي قاله الزمخشريُّ سبقه إليه الكلبيُّ . وأمَّا اعتراضُه عليه فغيرُ لازمٍ لأنه إذا بُوْلِغَ فيه حتى جُعِل نفسَ الذِّكْر كما تقدَّم بيانُه . وقُرىء " رسولٌ " على إضمار مبتدأ ، أي : هو رسول .
قوله : { لِّيُخْرِجَ } متعلِّقٌ إمَّا ب " أَنْزَل " ، وإمَّا ب " يَتْلو " وفاعِلُ يُخْرِج : إمَّا ضميرُ الباري تعالى المنَزِّل ، أو ضميرُ الرسولِ ، أو الذِّكرِ ، و " مَنْ يُؤْمِنْ " هذا أحدُ المواضعِ التي رُوْعي فيها اللفظُ أولاً ، ثم المعنى ثانياً ، ثم اللفظُ آخِراً ، وقد تقدَّم ذلك في المائِدة . وقد تأوَّلَ بعضُهم هذه الآية [ وقال : ليس قولُه " خالدين " فيه ضميرٌ عائدٌ على " مَنْ " إنما يعود على مفعولِ " يُدْخِلْه " ، و " خالدين " حالٌ منه ، والعاملُ فيها " يُدْخِلْه " لا فِعْلُ الشرطِ ] . هذه عبارةُ الشيخِ ، وفيها نظرٌ؛ لأنَّ " خالدين " حالٌ مِنْ مفعول " يُدْخِلْه " عند القائلين بالقول الأول ، وكأنَّ إصلاحَ العبارة أَنْ يقالَ : حالٌ مِنْ مفعولِ " يُدْخِلْه " الثاني ، وهو " جناتٍ " والخلودُ في الحقيقةِ لأصحابِها ، وكان ينبغي على رأي البصريين أن يقال : خالدين هم فيها ، لجريان الوصفِ على غير مَنْ هو له .
قوله : { قَدْ أَحْسَنَ الله } حالٌ ثانيةٌ ، أو حال مِنْ الضمير في " خالدين " فتكونُ متداخلةً . /
(1/5310)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
قوله : { مِثْلَهُنَّ } : العامَّةُ بالنصب ، وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه عطفٌ على " سَبْعَ سماواتٍ " قاله الزمخشري . واعترض الشيخُ بلزومِ الفَصْلِ بين حرفِ العطفِ ، وهو على حرفٍ واحدٍ ، وبين المعطوفِ بالجارِّ والمجرورِ ، وهو مختصٌّ بالضرورةِ عند أبي عليّ . قلت : وهذا نظيرُ قولِه : { آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] عند ابنِ مالك ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا الخلافِ في البقرة والنساء وهود عند قولِه : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس } [ النساء : 58 ] ، { وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] .
والثاني : أنه منصوبٌ بمقدَّر بعد الواوِ ، أي : وخَلَق مثلَهُنَّ من الأرضِ . واختلف الناس في المِثْلِيَّة ، فقيل : مِثْلُها في العدد . وقيل : في بعض الأوصاف فإنَّ المِثْلِيَّةَ تَصْدُقُ بذلك ، والأول هو المشهورُ . وقرأ عاصم في رواية " مثلُهُنَّ " بالرفع على الابتداء والجارُّ قبلَه خبرُه .
قوله { يَتَنَزَّلُ } يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً ، وأن يكونَ نعتاً لِما قبله ، وقاله أبو البقاء . وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ وعيسى " يُنَزِّل " بالتشديد ، أي : الله ، " الأمر " مفعولٌ به ، والضميرُ في " بينهنَّ " عائد على السماوات والأرضين عند الجمهور ، أو على السماوات والأرض عند مَنْ يقولُ : إنها أرضٌ واحد .
قوله : { لتعلموا } متعلقٌ ب " خَلَقَ " أو ب " يَتنزَّل " والعامَّةُ " لتعلَموا " خطاباً ، وبعضُهم بياء الغَيْبة .
(1/5311)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
قوله : { تَبْتَغِي } : يجوز أن يكونَ حالاً مِنْ فاعل " تُحَرِّم " أي : لِمَ تُحَرِّمُ مُبْتَغياً به مَرْضاتَ أزواجِك . ويجوز أَنْ يكون تفسيراً ل تُحَرِّمُ ، ويجوز أن يكونَ مستأنفاً ، فهو جوابٌ للسؤال . و " مَرْضاة " اسمُ مصدرٍ ، وهو الرِّضا ، وأصلُه مَرْضَوَة ، وقد تَقَدَّم ذلك والمصدرُ هنا مضافٌ : إمَّا للمفعولِ أو للفاعل أي : أن تُرْضِيَ أنت أزواجَك ، أو أَنْ يَرْضَيْنَ .
(1/5312)
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2)
قوله : { تَحِلَّةَ } : مصدر تَحَلَّل مضعَّفاً وهو نحو ، تَكْرِمَة ، وهذان ليسا مقيسَيْن؛ فإنَّ قياسَ مصدرِ فَعَّل : التفعيل ، إذا كان صحيحاً غيرَ مهموزٍ ، فأما المعتلُّ اللام نحو : زَكَّى ، والمهموزُها نحو : نَبَّأ فمصدرُهما تَفْعِلة نحو : تَزْكية وتَنْبِئة ، على أنه قد جاء التفعيلُ كاملاً في المعتلِّ نحو قولِه :
4276 باتَتْ تُنَزِّي دَلْوَها تَنْزِيَّا ... وأصلُها تَحْلِلَه كتكْرِمة فأُدغِمَتْ ، وانتصابُها على المفعول به .
(1/5313)
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
قوله : { وَإِذَ أَسَرَّ } : العاملُ فيه اذكُرْ ، فهو مفعولٌ به لا ظرفٌ .
قوله : { فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ } أصلُ نَبَّأ وأنبأ وأخبر وخبَّر وحَدَّث أَنْ يتعدَّى لاثنين إلى الأول بنفسِها ، والثاني بحرف الجر ، وقد يُحْذَفُ الجارُّ تخفيفاً ، وقد يُحْذَفُ الأول للدلالة عليه . وقد جاءت الاستعمالاتُ الثلاثةُ في هذه الآياتِ ، فقولُه : { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } تعدَّ لاثنين حُذِفَ أوَّلُهما ، والثاني مجرورٌ بالباء ، أي : نَبَّأت به غيرَها ، وقوله : { فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ } ذكرهما ، وقولُه : { مَنْ أَنبَأَكَ هذا } ذَكَرهما وحَذَفَ الجارَّ .
قوله : { عَرَّفَ بَعْضَهُ } قرأ الكسائي بتخفيف الراء ، والباقون بتثقيلِها . فالتثقيلُ يكون المفعولُ الأول معه محذوفاً أي : عَرَّفها بعضَه أي : وقَّفها عليه على سبيل الغَيْبِ ، وأعرضَ عن بعضٍ تكرُّماً منه وحِلْماً . وأمَّا التخفيفُ فمعناه : جازَى على بعضِه ، وأعرضَ عن بعضٍ . وفي التفسير : أنَّه أسَرَّ إلى حفصةَ شيئاً فحدَّثَتْ به غيرَها فطلَّقَها ، مجازاةً على بعضِه ، ولم يُؤَاخِذْها بالباقي ، وهو من قبيل قولِه : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله } [ البقرة : 197 ] أي : يُجازيكم عليه ، وقولِه : { أولئك الذين يَعْلَمُ الله مَا فِي قُلُوبِهِمْ } [ النساء : 63 ] وإنما اضْطُررنا إلى هذا التأويلِ لأنَّ اللَّهَ تعالى أَطْلَعَهُ على جميعِ ما أنبأَتْ به غيرَها لقولِه تعالى : { وَأَظْهَرَهُ الله عَلَيْهِ } وقرأ عكرمة " عَرَّاف " بألفٍ بعد الراء ، وخُرِّجَتْ على الإِشباعِ كقولِه :
4277 . . . . . . . . . . . . . من العَقْرابِ ... الشائلاتِ عُقَدَ الأذْنَابِ
وقيل : هي لغةٌ يمانيةٌ ، يقولون : " عَرَافَ زيدٌ عمراً " أي : عَرَفه . وإذا ضُمِّنت هذه الأفعالُ الخمسةُ معنى أَعْلَم تعدَّتْ لثلاثةٍ . وقال الفارسي : " تَعدَّتْ بالهمزةِ أو التضعيف ، وهو غَلَطٌ؛ إذ يقتضي ذلك أنها قبل التضعيفِ والهمزةِ كانَتْ متعدِّيةً لاثنين ، فاكتسَبَتْ بالهمزةِ أو التضعيفِ ثالثاً ، والأمرُ ليس كذلك اتفاقاً .
(1/5314)
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)
قوله : { إِن تَتُوبَآ } : شرطٌ وفي جوابِه وجهان ، أحدهما : هو قولُه " فقد صَغَتْ " والمعنى : إن تتوبا فقد وُجِدَ منكم ما يُوْجِبُ التوبةَ ، وهو مَيْلُ قلوبِكما عن الواجبِ في مخالفةِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في حُبِّ ما يُحِبُّه وكراهةِ/ ما يكرهه . وصَغَتْ : مالَتْ ، ويَدُلُّ له قراءةُ ابنِ مسعودٍ " فقد راغَتْ " . والثاني : أن الجوابَ محذوفٌ تقديرُه : فذلك واجبٌ عليكما ، أو فتابَ اللَّهُ عليكما ، قاله أبو البقاء . وقال : " ودَلَّ على المحذوفِ فقد صَغَتْ؛ لأن إصغاءَ القلبِ إلى ذلك ذنبٌ " . وهذا الذي قاله لا حاجةَ إليه ، وكأَنَّه زَعَمَ أنَّ مَيْلَ القلبِ ذنبٌ فكيف يَحْسُنُ أَنْ يكونَ جواباً؟ وغَفَلَ عن المعنى الذي ذكرْتُه في صحةِ كَوْنِه جواباً . و " قلوبُكما " مِنْ أفصحِ الكلامِ حيث أوقه الجمعَ موقعَ المثنى ، استثقالاً لمجيءِ تثنيتَيْن لو قيل : قلباكما . وقد تقدَّم تحريرُ هذا في آيةِ السَّرِقةِ في المائدة ، وشروطُ المسألةِ وما اختلف الناس فيه . ومِنْ مجيءِ التثنيةِ قولُه :
4278 فتخالَسا نَفْسَيْهما بنوافِذٍ ... كنوافِذِ العُبْطِ التي لا تُرْقَعُ
والأحسنُ في هذا البابِ الجمعُ ، ثم الإِفرادُ ، ثم التثنيةُ ، وقال ابن عصفور : " لا يجوز الإِفراد إلاَّ في ضرورة كقوله :
4279 حمامةَ بَطْنِ الواديَيْنِ تَرَنَّمي ... سَقاكِ مِنْ الغُرِّ الغوادِي مَطيرُها
وتبعه الشيخُ ، وغلَّط ابنَ مالك في كونِه جَعَلَه أحسن من التثنيةِ . وليس بغلطٍ للعلة التي ذكرها ، وهي كراهةُ توالي تثنيتَيْن مع أَمْنِ اللَّبْس .
وقوله : { إِن تَتُوبَآ } فيه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطابِ ، والمرادُ أُمَّا المؤمنين بنتا الشيخَيْن عائشةُ وحفصةُ رضي الله عنهما وعن أبوَيْهما .
قوله : { وَإِن تَظَاهَرَا } أصلُه تتظاهرا فأَدْغَمَ ، وهذه قراءة العامَّةِ ، وعكرمةُ " تتظاهرا " على الأصل ، والحسن وأبو رجاء ونافع وعاصم في روايةٍ عنهما بتشديد الظاء والهاء دون ألف وأبو عمروٍ في روايةٍ " تظاهرا " بتخفيف الطاء والهاء ، حَذَفَ إحدى التاءَيْن وكلُّها بمعنىً المعاونة مِن الظهر لأنه أقوى أعضاءِ الإِنسانِ وأجلُّها .
قوله : { هُوَ مَوْلاَهُ } يجوزُ أَنْ يكونَ " هو " فصلاً ، و " مَوْلاه " الخبرَ ، وأن يكونَ مبتدأً ، و " مَوْلاه " خبرُه ، والجملةُ خبرُ " إنَّ " .
قوله : { وَجِبْرِيلُ } يجوزُ أَنْ يكون عطفاً على اسمِ الله تعالى ورُفِعَ نظراً إلى محلِّ اسمِها ، وذلكَ بعد استكمالِها خبرَها ، وقد عَرَفْتَ مذاهبَ الناسِ فيه ، ويكونَ " جبريلُ " وما بعده داخلَيْن في الولايةِ لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، ويكونَ جبريلُ ظهيراً له بدخولِه في عمومِ الملائكةِ ، ويكونَ " الملائكة " مبتدأً و " ظهيرٌ " خبرَه ، أُفْرِدَ لأنه بزنةِ فَعيل . ويجوزُ أَنْ يكونَ الكلامُ تمَّ عند قولِه : " مَوْلاه " ويكونُ " جبريل " مبتدأ ، وما بعده عَطْفٌ عليه .
(1/5315)
و " ظهيرٌ " خبرُ الجميع ، فتختصُّ الولايةُ بالله ، ويكون " جبريل " قد ذُكر في المعاونةِ مرَّتين : مرةً بالتنصيصِ عليه ، ومرةً بدخولِه في عموم الملائكةِ ، وهذا عكس ما في البقرة مِنْ قوله : { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ } فإنه ذكر الخاصَّ بعد العامِّ تشريفاً له ، وهنا ذُكِر العامُّ بعد الخاصِّ ، لم يَذْكُرِ الناسُ إلاَّ القسمَ الأول .
وقوله : { وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ } الظاهرُ أنه مفردٌ ، ولذلك كُتب بالحاء دونَ واوِ الجمع . وجَوَّزوا أن يكونَ جمعاً بالواو والنون ، حُذِفَتْ النونُ للإِضافة ، وكُتِبَ دون واوٍ اعتباراً بلفظه لأنَّ الواوَ ساقطةٌ لالتقاء الساكنين نحو : { وَيَمْحُ الله الباطل } بالشورى : 24 ] و { يَدْعُ الداع } { سَنَدْعُ الزبانية } [ العلق : 18 ] إلى غيرِ ذلك ، ومثل هذا ما جاء في الحديثِ : " أهلُ القرآن أهلُ الله وخاصَّتُه " قالوا : يجوز أن يكونَ مفرداً ، وأن يكونَ جمعاً كقولِه : { شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا } [ الفتح : 11 ] وحُذِفَتِ الواوُ لالتقاء الساكنين لفظاً ، فإذا كُتِب هذا فالأحسنُ أَنْ يُكتبَ بالواوِ لهذا الغرضِ ، وليس ثَمَّ ضرورةٌ لحَذْفِها كما مَرَّ في مرسوم الخط .
وجَوَّزَ أبو البقاء في " جبريلُ " أن يكونَ معطوفاً على الضمير في " مَوْلاه " يعني المستتَر ، وحينئذ يكون الفصلُ بالضميرِ المجرورِ كافياً في تجويزِ العطفِ عليه . وجوَّز أيضاً أَنْ يكونَ مبتدأ و " صالحُ " عطفٌ عليه . والخبرُ محذوفٌ أي : مَواليه .
(1/5316)
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
قوله : { إِن طَلَّقَكُنَّ } : شرطٌ معترضٌ بين اسم عَسَى وخبرِها ، وجوابُه محذوفٌ أو متقدمٌ/ أي : إنْ طَلَّقَكُنْ فعسَى . وأدغم أبو عمروٍ القافَ في الكاف على رأيِ بعضِهم قال : " وهو أَوْلَى مِنْ " يَرْزُقكم " ونحوِه لِثِقَلِ التأنيث " .
" مُسْلماتٍ " إلى آخره : إمَّا نعتٌ أو حالٌ أو منصوبٌ على الاختصاص ، وتقدَّمَتْ قراءتا { يُبْدِلَهُ } تخفيفاً وتشديداً في الكهف . وقرأ عمرو بن فائد " سَيِّحاتٍ " ، وإنما وُسِّطَتِ الواوُ بين " ثَيِّبات وأَبْكاراً " لتنافي الوصفَيْن دون سائر الصفات . وثَيِّبات ونحوه لا ينقاسُ لأنه اسمُ جنسٍ مؤنثٍ فلا يُقال : نساء خَوْدات ، ولا رأيت عِيْنات .
والثَّيِّبُ : وزنُها فَيْعل مِن ثاب يثوب أي : رَجَعَ كأنها ثابَتْ بعد زوالِ عُذْرَتِها ، وأصلها ثَيْوِب كسَيِّد ومَيِّت ، أصلُهما سَيْوِد ومَيْوِت فأُعِلَّ الإِعلالَ المشهورَ .
(1/5317)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)
قوله : { قوا أَنفُسَكُمْ } : أمرٌ من الوِقايةِ فوزنُه " عُوا " لأن الفاءَ حُذِفَتْ لوقوعِها في المضارع بين ياءٍ وكسرةٍ ، وهذا محمولٌ عليه ، واللامُ حُذِفَتْ حَمْلاً له على المجزوم ، بيانه أنَّ أصلَه اِوْقِيُوا كاضْرِبوا فحُذِفَتِ الواوُ التي هي فاءٌ لِما تقدَّمَ ، واستثْقِلَتِ الضمةُ على الياء فحُذِفَتْ ، فالتقى ساكنان ، فحُذِفَتْ الياءُ وضُمَّ ما قبل الواوِ لتصِحَّ . وهذا تعليلُ البَصْريين . ونقل مكيٌّ عن الكوفيين : أنَّ الحذفَ عندهم فرقاً بين المتعدي والقاصر فحُذِفت الواوُ التي هي فاءٌ في يَقي ويَعِدُ لتعدِّيهما ، ولم تُحْذَفْ من يَوْجَل لقُصوره . قال : " ويَرِدُ عليهم نحو : يَرِمُ فإنه قاصرٌ ومع ذلك فقد حذفوا فاءَه " . قلت : وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ يَوْجَل لم تَقَعْ فيه الواوُ بين ياءٍ وكسرةٍ لا ظاهرةٍ ولا مضمرةٍ . فقلت : " ولا مضمرة " تحرُّزاً مِنْ يَضَعُ ويَسَعُ ويَهَبُ .
و " ناراً " مفعولٌ ثانٍ . و { وَقُودُهَا الناس } صفةٌ ل " ناراً " وكذلك " عليها ملائكةٌ " . ويجوزُ أَنْ يكونَ الوصفُ وحدَه عليها و " ملائكةٌ " فاعلٌ به . ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً لتخصُّصِها بالصفة الأولى وكذلك { لاَّ يَعْصُونَ الله } .
وقرأ بعضُهم " وأَهْلوكم " وخُرِّجَتْ على العطفِ على الضمير المرفوع ب " قُوا " وجَوَّزَ ذلك الفصلُ بالمفعولِ . قال الزمخشري بعد ذِكْرِهِ القراءةَ وتخريجَها : " فإنْ قلتَ : أليس التقديرُ : قُوا أنفسَكم ، ولْيَقِ أَهْلوكم أنفسكم؟ قلت : لا . ولكن المعطوفَ في التقديرِ مقارنٌ للواو ، و " أنفسَكم " واقعٌ بعده كأنَّه قيل : قُوا أنتم وأهلوكم أنفسَكم لمَّا جَمَعْتَ مع المخاطبِ الغائبَ غَلَّبْته [ عليه ] فجعَلْتَ ضميرَهما معاً على لفظِ المخاطبِ " . وتقدَّم الخلافُ في واو " وقود " ضماً وفتحاً في البقرة .
قوله : { مَآ أَمَرَهُمْ } يجوز أَنْ تكونَ " ما " بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ أي ما أَمَرَهموه ، والأصلُ : به . لا يُقال : كيف حَذَفَ العائدَ المجرورَ ولم يَجُرَّ الموصولَ بمثله؟ لأنه يَطَّردُ حَذْفُ هذا الحرفِ فلم يُحْذَفْ إلاَّ منصوباً ، وأن تكونَ مصدريةً ، ويكونَ مَحَلُّها بدلاً من اسمِ الله بدلَ اشتمالٍ ، كأنه قيل : لا يَعْصُون أَمْرَه .
وقوله : { وَيَفْعَلُونَ } قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : أليسَتْ الجملتان في معنى واحدٍ؟ قلت : لا؛ لأن الأولى معناها : أنهم يتقبَّلون أوامرَه ويلتزمونها ، والثانيةَ معناها : أنهم يُؤَدُّون ما يؤمرون به ، لا يتثاقلون عنه ولا يَتَوانَوْن فيه " .
(1/5318)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
قوله : { نَّصُوحاً } : قرأ الجمهور بفتحِ النونِ ، وهي صيغةُ مبالغةٍ ، أسند النصحَ إليها مجازاً ، وهي مِنْ نَصَح الثوبَ أي : خاطه ، وكأنَّ التائبَ يُرَقِّع ما خرقه بالمعصية . وقيل : مِنْ قولِهم : " عسلٌ ناصِح " أي خالص . وأبو بكر بضم النون وهو مصدرٌ ل نَصَحَ يقال : نَصَحَ نُصْحاً ونُصوحاً نحو : كَفَرَ كُفْراً وكُفوراً ، وشَكَر شُكراً وشُكوراً . وفي انتصابِه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مفعولٌ له أي : لأجلِ النصحِ الحاصلِ نفعُه عليكم . والثاني : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لفعلٍ محذوفٍ أي : ينصحُهم نُصْحاً . الثالث : أنه صفةٌ لها : إمَّا على المبالغةِ على أنها نفسُ المصدرِ أو على حَذْفِ مضافٍ أي ذاتَ نَصوحٍ .
وقرأ زيد بن علي " تَوْباً " دونَ تاءٍ .
قوله : { وَيُدْخِلَكُمْ } قراءةُ العامةِ بالنصبِ عطفاً على " يُكَفِّر " وابنُ أبي عبلة بسكون الراء ، فاحتمل أَنْ يكونَ من إجراء المنفصل مُجْرَى المتصل ، فسَكَنَتِ الكسرةُ؛ لأنه يُتَخيل من مجموع " يُكَفِّرَ عنكم " مثل : نِطَع وقِمَع فيقال فيهما : نِطْع وقِمْع . ويُحتمل أَنْ يكونَ عطفاً على محلِّ " عسى أَنْ يُكَفِّر " كأنه قيل : تُوبوا يُوْجبْ تكفيرَ سيئاتِكم ويُدْخِلْكم ، قاله الزمخشري ، يعني أنَّ " عسى " في محلِّ جزم جواباً للأمر؛ لأنه لو وقع موقعَها مضارع لا نجزم كما مَثَّل به الزمخشري ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّا لا نُسَلِّمُ أنَّ " عسى " جوابٌ ، ولا تقع جواباً لأنها للإِنشاء .
قوله : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى } منصوبٌ ب " يُدْخلكم " أو بإضمار اذكُرْ .
قوله : { والذين آمَنُواْ } يجوز فيه وجهان أحدُهما : / أن يكونَ مَنْسوقاً على النبيِّ [ أي ] : ولا يُخْزي الذين آمنوا . فعلى هذا يكون " نُورُهم يسعى " مستأنفاً أو حالاً . والثاني : أن يكونَ مبتدأ ، وخبره " نورُهم يَسْعى " و " يقولون " خبرٌ ثانٍ أو حال . وتقدَّم إعرابُ مثلِ هذه الجملِ في الحديد فعليك باعتبارِه . وتقدَّمَ إعرابُ ما بعدَها في براءة .
وقرأ أبو حَيْوَةَ وسهل الفهمي " وبإيمانهم " بكسر الهمزة ، وتقدَّم ذلك في الحديد .
(1/5319)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
قوله : { ضَرَبَ الله مَثَلاً } : إلى آخره قد تَقَدَّم الكلامُ على " ضَرَبَ " مع المثل . وهل هي بمعنى صَيَّر أم لا؟ وكيف ينتصِبُ ما بعدها؟ في سورةِ النحلِ فأغنى ذلك عن إعادتِه هنا .
قوله : { كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ } جملةٌ مستأنفة كأنها مفسِّرةٌ لضَرْبِ المَثَلِ ، ولم يأتِ بضميرِها ، فيُقال : تحتَهما أي : تحتَ نوحٍ ولوطٍ ، لِما قُصِدَ مِنْ تَشْريفِهما بهذه الأوصافِ الشريفةِ :
4280 لا تَدْعُني إلاَّ ب " يا عبدَها " ... فإنَّه أشرفُ أسمائي
وليصِفَها بأجلِّ الصفاتِ وهو الصَّلاحُ .
قوله : { فَلَمْ يُغْنِيا } العامَّةُ بالياء مِنْ تحتُ أي : لم يُغْن نوحٌ ولوطٌ عن امرأتيهما شيئاً مِنْ الإِغناءِ مِنْ عذابِ الله .
وقرأ مبشر بن عبيد " تُغْنِيا " بالتاءِ مِنْ فوقُ أي : فلم تُغْنِ المرأتان عن أنفسِهما . وفيها إشكالٌ : إذ يلزمُ من ذلك تعدِّي فعل المضمرِ المتصل إلى ضميره المتصل في غيرِ المواضعِ المستثناةِ وجوابُه : أنَّ " عَنْ " هنا اسم كهي في قوله :
4281 دَعْ عنك نَهْباً صِيْحَ في حَجَراتِهِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم لك هذا والاعتراضُ عليه بقوله : { وهزى إِلَيْكِ } [ مريم : 25 ] { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } [ القصص : 32 ] وما أُجيب به ثَمَّة .
(1/5320)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)
قوله : { إِذْ قَالَتْ } : منصوبٌ ب " ضَرَبَ " وإنْ تأخر ظهورُ الضَّرْبِ ، ويجوز أَنْ ينتصِبَ بالمَثَل .
قوله : { عِندَكَ } يجوز تعلُّقُه ب ابنِ ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ " بيتاً " ، كان نعتَه ، فلما قُدِّم نُصِبَ حالاً . و " في الجنة " : إمَّا متعلِّقٌ ب " ابْنِ " وإمَّا بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل بيتاً .
(1/5321)
وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
قوله : { وَمَرْيَمَ } : عطفٌ على " امرأةَ فرعونَ " ضَرَب الله تعالى المَثَل للكافرين بامرأتَيْن وللمؤمنين بامرأتَيْن . وقال أبو البقاء : " ومريم أي : واذكر مريمَ . وقيل : ومَثَل مريمَ " انتهى . وهذا لا حاجةَ إليه مع ظهور المعنى الذي ذكرْتُه .
وقرأ العامَّةُ " ابنةَ " بنصب التاء . وأيوب السُّخْتياني بسكون الهاء وَصْلاً ، أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ . والعامَّةُ أيضاً " فَنَفَخْنا فيه " أي : في الفَرْج . وعبد الله " فيها " أي : في الجُملة . وتقدَّم في الأنبياء مثله .
والعامَّةُ أيضاً " وصَدَّقَتْ " بتشديد الدال . ويعقوبُ وقتادةُ وأبو مجلز وعاصمٌ في روايةٍ بتخفيفِها أي : صَدَقَتْ فيما أخبرَتْ به من أمرِ عيسى عليه السلام . والعامَّة على " بكلمات " جمعاً . والحسن ومجاهد والجحدري " بكلمة " بالإِفراد . فقيل : المرادُ بها عيسى لأنه كلمة الله . وتقدَّم الخلافُ في كتابة " وكتبه " في أواخر البقرة . وقرأ أبو رجاء " وكُتْبِه " بسكون التاء وهو تخفيفٌ حسنٌ ، ورُوي عنه " وكَتْبِه " بفتح الكاف . قال أبو الفضل : مصدرٌ وُضِع مَوْضِعَ الاسمِ يعني : ومكتوبِه .
قوله : { مِنَ القانتين } يجوزُ في " مِن " وجهان ، أحدهما : أنها لابتداء الغاية . والثاني : أنها للتبعيضِ ، وقد ذكرهما الزمخشريُّ فقال : " ومِنْ للتبعيض . ويجوزُ أَنْ تكونَ لابتداء الغاية ، على أنَّها وُلِدَتْ من القانتين؛ لأنها من أعقابِ هارونَ أخي موسى عليهما السلام " . قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : لِم قيل : " من القانتين " على التذكير؟ قلت : لأنَّ القُنوتَ صفةٌ تَشْمل منْ قَنَتَتْ من القبيلَيْن ، فغلَّب ذكورَه على إناثِه .
(1/5322)
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
قوله : { لِيَبْلُوَكُمْ } : متعلِّقٌ ب " خَلَقَ " وقوله : " أيُّكم أحسنُ " قد تقدَّم مثلُه في أول هود . وقال الزمخشري هنا : " فإنْ قلتَ : مِن أين تعلَّقَ قولُه : { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } بفعلِ البَلْوى؟ قلت : من حيث إنَّه تضمَّن معنى العلمِ ، فكأنه قيل : ليُعْلمَكم أيُّكم أحسنُ عملاً . وإذا قلتَ : عَلِمْتُه : أزيدٌ أحسن عملاً أم هو؟ كانت هذه الجملةُ واقعةً موقعَ الثاني مِنْ مفعولَيْه ، كما تقول : عَلِمْتُه هو أحسن عملاً . فإنْ قلتَ : أتُسَمِّي هذا تعليقاً؟ قلت : لا ، إنما/ التعليقُ ، أَنْ يقعَ بعده ما يَسُدُّ مَسَدَّ المفعولَيْن جميعاً ، كقولك : عَلِمْتُ أيُّهما عمروٌ ، وعلِمْتُ أزيدٌ منطلق؟ . ألا ترى أنه لا فَصْلَ بعد سَبْقِ أحدِ المفعولَيْن بين أَنْ يقَع ما بعده مُصَدَّراً بحرف الاستفهامِ وغيرَ مصدَّرٍ به . ولو كان تعليقاً لافترقَتِ الحالتان كما افترقتا في قولِك : عَلِمْتُ أزيد منطلِقٌ ، وعلمْتُ زيداً منطلقاً " .
قلت : وهذا الذي مَنَعَ تسميتَه تعليقاً سَمَّاه به غيرُه ، ويجعلون تلك الجملةَ في محلِّ ذلك الاسمِ الذي يتعدَّى إليه ذلك الفعلُ ، فيقولون في " عَرَفْت أيُّهم منطلقٌ " : إنَّ الجملةَ الاستفهاميةَ في محلِّ نصبٍ لسَدِّها مَسَدَّ مفعولِ " عَرَفْتُ " وفي " نَظَرْتُ أيُّهم منطلقٌ " : إن الجملةَ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافض؛ لأنَّ " نظر " يتعدَّى به .
(1/5323)
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)
قوله : { الذي خَلَقَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ تابعاً للعزيز الغفور نعتاً أو بياناً أو بدلاً ، وأَنْ يكونَ منقطِعاً عنه خبرَ مبتدأ ، أو مفعولَ فعلٍ مقدرٍ .
قوله : { طِبَاقاً } صفةٌ ل " سبعَ " وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه جمعُ طَبَق نحو : جَبَل وجِبال . والثاني : أنه جمعُ طَبَقة نحو : رَقَبة ورِقاب . والثالث : أنه مصدرُ طابَقَ يقال : طابقَ مُطابقة وطِباقاً . ثم : إمَّا أَنْ يجعلَ نفسَ المصدرِ مبالغةً ، وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي : ذاتَ طباق ، وإمَّا أَنْ ينتصِبَ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي : طُوْبِقَتْ طباقاً مِنْ قولِهم : طابَقَ النعلَ أي : جعله طبقةً فوق أخرى .
قوله : { مِن تَفَاوُتٍ } هو مفعولُ " تَرَى " و " مِنْ " مزيدةٌ فيه . وقرأ الأخَوان " تَفَوُّتٍ " بتشديدِ الواوِ دون ألفٍ . والباقون بتخفيفها بعد ألفٍ ، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ كالتعهُّد والتعاهد ، والتظهُّر والتظاهُر . وحكى أبو زيد " تفاوَتَ الشيءُ تفاوُتاً بضم الواو وفتْحِها وكسرِها ، والقياسُ الضمّ كالتقابُل ، والفتحُ والكسرُ شاذان . والتفاوُت : عدمُ التناسُبِ؛ لأنَّ بعض الأجزاءِ يَفُوت الآخَرَ . وهذه الجملةُ المنفيةُ صفةٌ مُشايعةٌ لقولِه : " طباقاً " وأصلُها : ما ترى فيهنَّ ، فوضَع مكانَ الضميرِ قوله : { خَلْقِ الرحمن } تعظيماً لخلقِهنَّ وتنبيهاً على سببِ سلامَتهن ، وهو أنه خَلْقُ الرحمن ، قاله الزمخشريُّ ، وظاهر هذا : أنه صفةٌ ل " طباقاً " ، وقام الظاهرُ فيها مَقامَ المضمرِ ، وهذا إنما نعرِفُه في خبرِ المبتدأ ، وفي الصلةِ ، على خلافٍ فيهما وتفصيلٍ .
وقال الشيخ : " الظاهرُ أنه مستأنَفٌ " وليس بظاهرٍ لانفلاتِ الكلامِ بعضِه من بعض .
و " خَلْق " مصدرٌ مضافٌ لفاعِله ، والمفعولُ محذوفٌ أي : في خَلْقِ الرحمنِ السماواتِ ، أو كلَّ مخلوقٍ ، وهو أَوْلى ليعُمَّ ، وإن كان السياقُ مُرْشِداً للأول .
قوله : { فارجع } مُتَسَبِّبٌ عن قولِه : " ما تَرَى " و " كرَّتَيْن " نصبٌ على المصدرِ كمرَّتَيْن ، وهو مثنى لا يُراد به حقيقتُه ، بل التكثيرُ ، بدليلِ قولِه : { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } أي : مُزْدجراً وهو كليلٌ ، وهذان الوصفان لا يأتيان بنظرتَيْن ولا ثلاثٍ ، وإنما المعنى كرَّات ، وهذا كقولهم : " لَبَّيْك وسَعْديك وحنانَيْك ودَواليك وهذاذَيْك لا يُريدون بهذه التثنيةِ شَفْعَ الواحدِ ، إنما يريدون التكثيرَ أي : إجابةً لك بعد أخرى ، وإلاَّ تناقَضَ الغرضُ ، والتثنيةُ تفيدُ التكثيرَ لقرينةٍ كما يُفيده أصلُها ، وهو العطفُ لقرينةٍ كقولِه :
4282 لو عُدَّ قبرٌ كنتَ أكرَمَهم ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : قبول كثيرة ليتِمَّ المَدْحُ . وقال ابن عطية : " كَرَّتَيْن معناه مَرَّتَيِن ، ونصبُها على المصدرِ " . وقيل : الأُوْلى ليُرى حُسْنُها واستواؤُها ، والثانية لتُبْصَرَ كواكبُها في سَيْرها وانتهائِها ، وهذا تظاهُرٌ يُفْهِمُ التثنية فقط .
قوله : { هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } هذه الجملةُ يجوز أن تكونَ مُعَلِّقَةً لفعلٍ محذوفٍ يَدُلُّ عليه " فارْجِعِ البصر " أي : فارْجِعِ البصرَ فانظر : هل ترى ، وأَنْ يكونَ " فارجعِ البصر " مضمَّناً معنى انظر؛ لأنه بمعناه ، فيكونُ هو المعلَّق . وأدغَم أبو عمرو لامَ " هل " في التاء هنا ، وفي الحاقة وأَظْهرها الباقون ، وهو المشهورُ في اللغة .
والفُطور : الصُّدوع والشُّقوق قال :
4283 شَقَقْتُ القلب ثم ذَرَرْتُ فيه ... هواكِ فَلِيْطَ فالتأَمَ الفُطورُ
(1/5324)
ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
قوله : { يَنْقَلِبْ } : العامَّةُ بجزمِه على جوابِ الأمر ، والكسائي/ في روايةٍ برفعِه ، وفيه وجهان ، أحدهما : أَنْ تكونَ حالاً مقدرة . والثاني : أنه على حذفِ الفاءِ أي : فينقلِبْ . وخاسِئاً . حال وقوله : " وهو حسيرٌ " حال : إمَّا مِنْ صاحبِ الأولى ، وإمَّا من الضمير المستتر في الحالِ قبلَها ، فتكونُ متداخلةٌ . وقد تقدَّم مادتا " خاسئاً " و " حسيراً " في المؤمنين والأنبياء .
(1/5325)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
قوله : { الدنيا } : [ يعني ] منكم؛ لأنَّها فُعْلَى تأنيثُ أَفْعَلِ التفضيلِ . و " جَعَلْناها " يجوزُ في الضميرِ وجهان ، أحدُهما : أنه عائدٌ على " مَصابيحَ " وهو الظاهر . قيل : وكيفيةُ الرَّجْم : أَنْ يُؤْخَذَ نارٌ من ضوءِ الكوكبِ ، يُرْمى به الشيطانُ والكوكبُ في مكانِه لا يُرْجَمُ به . والثاني : أنَّ الضميرَ يعودُ على السماء والمعنى : منها ، لأنَّ السماءَ ذاتَها ليست للرُّجوم ، قاله الشيخ . وفيه نظرٌ لعدمِ ظهورِ عَوْدِ الضميرِ على السماءِ . والرُّجوم : جمعُ رَجْم وهو مصدرٌ في الأصل ، أُطْلِقَ على المَرْجوم به كضَرْبِ الأميرِ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ باقياً على مصدريتِه ، ويُقَدَّرُ مُضافٌ أي : ذاتُ رُجوم . وجَمْعُ المصدرِ باعتبارِ أنواعِه ، فعلى الأولِ يتعلَّقُ قولُه : " للشياطين " بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل رُجوماً ، وعلى الثاني لا تعلُّقَ له لأنَّ اللامَ مزيدةٌ في المفعول به ، وفيه دلالةٌ حينئذٍ على إعمالِ المصدرِ منوناً مجموعاً . ويجوزُ أَنْ يكونَ صفةً له أيضاً كالأولِ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ . وقيل : الرُّجومُ هنا : الظنونُ والشياطينُ شياطينُ الإِنْسِ ، كما قال :
4283 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وما هو عنها بالحديثِ المُرَجَّمِ
(1/5326)
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6)
قوله : { وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ } : خبرٌ مقدَّمٌ في قراءةِ العامَّةِ ، و " عذابُ جهنَم " مبتدَؤُه . وفي قراءةِ الحسن والضحاك والأعرج بنصبهِ متعلِّقٌ ب " أَعْتَدْنا " عطفاً على " لهم " ، و " عذابَ جهنمَ " عطفٌ على " عذابَ السعير " فعطَفَ منصوباً على منصوب ، ومجروراً على مجرورٍ ، وأعاد الخافضَ؛ لأنَّ المعطوفَ عليه ضميرٌ . والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي : وبئسَ المصيرُ مَصيرُهم ، أو عذابُ جهنم ، أو عذابُ السعير .
(1/5327)
إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7)
قوله : { لَهَا } : متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ " شهيقاً " لأنه في الأصلِ صفتُه . ويجوزُ أَنْ يكونَ على حَذْفِ مضافٍ أي : سمعوا لأهلها . و " وهي تفور " جملةٌ حاليةٌ .
(1/5328)
تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8)
قوله : { تَمَيَّزُ } : هذه قراءةُ العامَّةِ بتاءٍ واحدةٍ مخففةٍ . والأصلُ : تتميَّزُ بتاءَيْن وبها قرأ طلحةُ والبزيُّ عن ابنِ كثير بتشديدها ، أدغم إحدى التاءَيْن في الأخرى ، وهي قراءةٌ حسنةٌ لعدمِ التقاء ساكنين ، بخلافِ قراءتِه { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } [ النور : 15 ] و { نَاراً تلظى } [ الليل : 14 ] وبابِه . وأبو عمرو يُدْغِمُ الدالَ في التاءِ على أصلِه في المتقارَبيْنِ . وقرأ الضحاك " تمايَزُ " والأصل : تتمايَزُ بتاءَيْن فَحَذَفَ إحداهما . وزيد بن علي " تَمِيْزُ " مِنْ ماز ، وهذا كلُّهُ استعارةٌ مِنْ قولِهم : تميَّز فلان من الغيظِ أي : انفصلَ بعضُه من بعض من الغيظ ف " مِنْ " سببيَّةٌ أي : بسببِ الغَيْظِ . ومثلُه [ قولُ الراجزِ ] في وصف كَلْبٍ اشتدَّ عَدْوُه :
4285 يكادُ أَنْ يخرجَ مِنْ إهابِهْ ... قوله : { كُلَّمَا أُلْقِيَ } قد تقدَّم الكلامُ على " كلما " وهذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً مِنْ ضميرِ جهنَّم .
(1/5329)
قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9)
قوله : { بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ } : فيه دليلٌ على جوازِ الجمعِ بين حرفِ الجوابِ ونفسِ الجملةِ المجابِ بها ، إذ لو قالوا : بلى لَفُهِمَ المعنى ، ولكنهم أظهروه تَحَسُّراً وزيادةً في تَغَمُّمِهم على تفريطهِم في قبولِ قولِ النذيرِ ولِيَعْطِفوا عليه قولهم : " فكذَّبْنا " إلى آخره .
وقوله : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } ظاهرُه أنه مِنْ مقولِ الكفارِ للنذير . وجوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الرسلِ للكفرةِ ، وحكاه الكفرةُ للخَزَنَةِ أي : قالوا لنا هذا فلم نَقْبَلْه .
(1/5330)
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
وقوله : { بِذَنبِهِمْ } : وحدَه لأنه مصدرٌ في الأصلِ ، ولم يَقْصِدِ التنويعَ بخلافِ " بذنوبهم " في مواضعَ .
قوله : { فَسُحْقاً } فيه وجهان أحدُهما : أنَّه منصوبٌ على المفعولِ به أي : ألزَمَهم اللَّهُ سُحْقاً . والثاني : أنَّه منصوبٌ على المصدرِ تقديرُه : سَحَقَهم اللَّهُ سُحْقاً ، فناب المصدرُ عن عامِله في الدُّعاءِ نحو : جَدْعاً له وعَقْراً ، فلا يجوزُ إظهارُ عامِلِه . / واختلف النحاة : هل هو مصدرٌ لفعلٍ ثلاثيّ أم لفعلٍ رباعي فجاء على حَذْفِ الزوائدِ؟ فذهب الفارسيُّ والزجَّاجُ إلى أنه مصدرُ أسْحَقَه اللَّهُ أي : أبعَدَه . قال الفارسي : " فكان القياسُ إسْحاقاً ، فجاء المصدرُ على الحَذْفِ كقوله :
4286 فإن أَهْلِكْ فذلك كان قَدْري ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي تقديري . والظاهرُ أنه لا يُحتاج لذلك؛ لأنه سُمع : سَحَقه اللَّهُ ثلاثياً . وفيه قولُ الشاعر :
4287 يجولُ بأطرافِ البلادِ مُغَرِّباً ... وتَسْحَقُه ريحُ الصَّبا كلَّ مَسْحَقِ
والذي يظهرُ أنَّ الزجَّاج والفارسيَّ إنما قالا ذلك فيَمْن يقولُ مِن العربِ أَسْحقه الله سُحْقاً .
وقرأ العامَّةُ بضمةٍ وسكونٍ ، والكسائيُّ في آخرَين بضمتين ، وهما لغتان . والأحسنُ أَنْ يكونَ المثقَّلُ أصلاً للخفيفِ . و [ قوله ] " لأصحاب " بيانٌ ك { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] وسَقْياً لك . وقال مكي : " والرفعُ يجوز في الكلامِ على الابتداء " أي : لو قيل : " فَسُحْقٌ " جاز لا على أنه تلاوةٌ بل من حيث الصناعةُ ، إلاَّ أنَّ ابنَ عطيةَ قد قال ما يُضَعِّفُه ، فإنه قال : " فسُحْقاً نصباً على جهةِ الدعاءِ عليهم ، وجازَ ذلك فيه وهو مِنْ قِبل اللَّهِ تعالى من حيثُ هذا القولُ ، فيهم مستقرٌ أَوَّلاً ، ووجودُه لم يَقَعْ ، ولا يَقَعُ إلاَّ في الآخِرة ، فكأنه لذلك في حَيِّز المتوقَّع الذي يُدَّعَى فيه كما تقول : " سُحْقاً لزيدٍ ، وبُعْداً له " والنصبُ في هذا كلِّه بإضمار فعلٍ ، وأما ما وَقَعَ وثَبَتَ فالوجهُ فيه الرفعُ ، كما قال تعالى : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } [ المطففين : 1 ] { سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 24 ] وغيرُ هذا مِن الأمثلة " انتهى . فضعَّفَ الرفعَ كما ترى لأنه لم يَقَعْ بل هو متوقَّعٌ في الآخرةِ .
(1/5331)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)
قوله : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } : الأحسنُ أَنْ يكونَ الخبر " لهم " و " مغفرةٌ " فاعلٌ به؛ لأن الخبرَ المفرد أصلٌ ، والجارُّ من قبيل المفرداتِ أو أقربُ إليها .
(1/5332)
أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
قوله : { مَنْ خَلَقَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه فاعلُ " يَعْلَمُ " والمفعول محذوفٌ تقديرُه : ألا يعلم الخالقُ خَلْقَه ، وهذا هو الذي عليه جمهورُ الناسِ وبه بدأ الزمخشريُّ . والثاني : أنَّ الفاعلَ مضمرٌ يعود على الباري سبحانه وتعالى ، و " مَنْ " مفعولٌ به أي : ألا يعلمُ اللَّهُ مَنْ خَلَقَه . قال الشيخ : " والظاهر أن " مَنْ " مفعولٌ ، والمعنى : أينتفي علمُه بمَنْ خَلَقَه ، وهو الذي لَطَفَ عِلْمُه ودَقَّ " ثم قال : " وأجاز بعضُ النَّحْويين أَنْ يكون " مَنْ " فاعلاً والمفعولُ محذوفٌ ، كأنه قال : ألا يعلَم الخالقُ سِرَّكم وجهرَكم ، وهو استفهامٌ ، معناه الإِنكار " . قلت : وهذا الوجهُ الذي جَعَلَه هو الظاهر يَعْزِيه الناسُ لأهلِ الزَّيْعِ والبِدَعِ الدافِعين لعمومِ الخَلْق لله تعالى .
وقد أَطْنَبَ مكي في ذلك ، وأنكر على القائلِ به ونسبه إلى ما ذكرتُ فقال : " وقد قال بعضُ أهلِ الزَّيْغِ : إن " مَنْ " في موضع نصبٍ اسمٌ للمُسِرِّين والجاهرين لَيُخْرَجَ الكلامُ عن عمومِه ويُدْفَعَ عمومُ الخَلْقِ عن الله تعالى ، ولو كان كما زعم لقال : ألا يعلمُ ما خلق لأنه إنما تقدَّم ذِكْرُ ما تُكِنُّ الصدورُ فهو في موضعِ " ما " ولو أَتَتْ " ما " في موضعِ " مَنْ " لكان فيه أيضاً بيانُ العموم : أنَّ اللَّهَ خالقُ كلِّ شيءٍ مِنْ أقوال الخلقِ أَسَرُّوها أو أظهرُها خيراً كانَتْ أو شرّاً ، ويُقَوِّي ذلك { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } ، ولم يقلْ : عليمٌ بالمُسِرِّين والمجاهرين وتكون " ما " في موضع نصب ، وإنما يُخْرِجُ الآيةَ مِنْ هذا العموم إذا جَعَلْتَ " مَنْ " في موضعِ نصبٍ اسماً للأُناسِ المخاطبين قَبْلَ هذه الآيةِ ، وقوله : " بذات الصدورِ " يمنعُ مِنْ ذلك " انتهى . ولا أَدْري كيف يَلْزَمُ ما قاله مكيٌّ بالإِعرابِ الذي ذكره والمعنى الذي أبداه؟ وقد قال بهذا القولِ أعني الإِعرابَ الثاني جماعةٌ من المحققين ولم يُبالوا بما ذكرَه لعَدَمِ إفهامِ الآية إياه .
وقال الزمخشري بعد كلامٍ ذكرَه : " ثم أنكر ألاَّ يُحيط علماً بالمُضْمَر والمُسَرِّ والمُجْهَرِ مَنْ خلق الأشياء ، وحالُه أنه/ اللطيفُ الخبيرُ المتوصِّلُ عِلْمُه إلى ما ظَهَر وما بَطَن . ويجوز أَنْ يكون " مَنْ خَلَقَ " منصوباً بمعنى : ألا يعلَمُ مَخْلوقَه ، وهذه حالُه " ثم قال : " فإنْ قلتَ : قَدَّرْتَ في " ألا يَعْلَمُ " مفعولاً على معنى : ألا يعلمُ ذلك المذكورَ مِمَّا أُضْمِر في القلب وأُظْهِر باللسان مَنْ خلق؟ فهلا جَعَلْتَه مثلَ قولِهم : " هو يُعْطي ويمنع " ، وهلا كان المعنى : ألا يكونُ عالماً مَنْ هو خالقٌ لأن الخالقَ لا يَصِحُّ إلاَّ مع العِلْم؟ قلت : أبَتْ ذلك الحالُ التي هي قولُه : { وَهُوَ اللطيف الخبير } لأنَّك لو قلتَ : ألا يكون عالماً مَنْ هو خالقٌ وهو اللطيفُ الخبيرُ لم يكن معنى صحيحاً؛ لأنَّ " ألا يَعْلَمُ " معتمِدٌ على الحالِ والشيءُ لا يُوَقَّتُ بنفسِهِ ، فلا يقال : " ألا يعلَمُ وهو عالمٌ ، ولكن ألا يعلم كذا ، وهو عالمٌ بكلِّ شيءٍ " .
(1/5333)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
قوله : { ذَلُولاً } : مفعولٌ ثانٍ ، أو حالٌ . وذَلول فَعُول للمبالغةِ مِنْ ذَلَّ يَذِلُّ فهو ذالٌّ كقوله : دابَّةٌ ذَلولٌ بَيِّنَةُ الذَّلِّ بالكسرِ ، ورجلٌ ذَلُولٌ بَيِّنُ الذُّلِّ بالضم . وقال ابن عطية : " ذلول فَعُول بمعنى مَفْعول أي : مَذْلولة ، فهي ك رَكوب وحَلوب " . قال الشيخ : " وليس بمعنى مَفْعول لأنَّ فِعْلَه قاصِرٌ ، وإنما يُعَدَّى بالهمزةِ كقوله تعالى : { وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } [ آل عمران : 26 ] أو بالتضعيفِ كقولِه : { وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ } [ يس : 72 ] ، وقولُه : " أي مَذْلولة " يظهر أنَّه خطأٌ " . انتهى يعني : حيث استعمل اسمَ المفعولِ تامَّاً مِنْ فِعْلٍ قاصرٍ ، وهي مناقشةٌ لفظيةٌ .
قوله : { مَنَاكِبِهَا } استعارةٌ حسنة جداً . وقال الزمخشري : " مَثَلٌ لِفَرْطِ التذليل ومجاوَزَتِهِ الغايةَ؛ لأن المَنْكِبَيْن وملتقاهما من الغارِبِ أرقُّ شيءٍ مِن البعير وأَنْبأه عن أَنْ يطأَه الراكبُ بقدمِه ويَعْتمد عليه ، فإذا جعلها في الذُّلِّ بحيث يُمشَى في مناكبها لم يَتْرُكْ " .
(1/5334)
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)
قوله : { أَأَمِنتُمْ } : قد تقدَّم اختلافُ القراءِ في الهمزَتَيْن المفتوحتين نحو { أَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة : 6 ] تحقيقاً وتخفيفاً وإدخالِ ألفٍ بينهما وعَدَمِه في البقرة ، وأن قُنْبلاً يَقرأ هنا بإبدالِ الهمزة الأولى واواً في الوصل . فيقول : { وَإِلَيْهِ النشور } و { أَمِنْتُمْ } وهو على صلِه مِنْ تسهيلِ الثانيةِ بينَ بينَ وعَدَمِ ألفٍ بينهما ، وأمَّا إذا ابتدأ فيُحقِّق الأولى ويُسَهِّلُ الثانيةَ بينَ بينَ على ما تقدَّم ، ولم يُبْدل الأولى واواً لزوالِ مُوجِبه وهو انضمامُ ما قبلها وهي مفتوحةٌ نحو : مُوَجَّل ويُواخِذُكم ، وهذا قد مضى في سورة الأعراف عند قولِه : { قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ } [ الأعراف : 123 ] وإنما أَعَدْتُه بياناً وتذكيراً .
قوله : { مَّن فِي السمآء } ، مفعولُ " أَمِنْتُم " ، وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ أي : أمِنْتُمْ خالقَ مَنْ في السماوات . وقيل : " في " بمعنى على أي : على السماء ، وإنما احتاج القائلُ بهذَيْن إلى ذلك لأنه اعتقد أن " مَنْ " واقعةٌ على الباري تعالى وهو الظاهرُ ، وثَبَتَ بالدليل القطعيِّ أنه ليس بمتحيِّزٍ لئلا يلزَمَ التجسيمُ . ولا حاجةَ إلى ذلك فإن " مَنْ " هنا المرادُ بها الملائكةُ سكانُ السماء ، وهم الذين يَتَوَلَّوْن الرحمة والنِّقْمة . وقيل : خُوطبوا بذلك على اعتقادِهم ، فإنَّ القومَ كانوا مُجَسِّمة مشبِّهَةً ، والذي تقدَّم أحسنُ .
وقوله : { أَن يَخْسِفَ } و " أَنْ يرسلَ " فيه وجهان ، أحدُهما : أنهما بدلان مِنْ " مَنْ في السماء " بَدلُ اشتمال ، أي : أَمِنْتُمْ خَسْفَه وإرسالَه ، كذا قاله أبو البقاء . والثاني : أَنْ يكونَ على حَذْفِ " مِنْ " أي : أَمِنْتُم مِنَ الخَسْفِ والإِرسالِ ، والأولُ أظهرُ . وقد تقدَّم أنَّ " نذير " " ونكير " مصدران بمعنى الإِنكار والإِنذار . وأثبت ورش يا " نَذيري " وَقْفاً وحذَفَها وَصْلاً ، وحَذَفَها الباقون في الحالَيْن .
(1/5335)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
قوله : { صَافَّاتٍ } : يجوز أَنْ يكونَ حالاً مِن " الطير " وأَنْ يكونَ حالاً مِن ضمير " فوقَهم " إذا جَعَلْناه حالاً فتكونُ متداخِلةً . و " فوقَهم " ظرفٌ لصافَّات على الأولى أو ل " يَرَوْا " .
قوله : { وَيَقْبِضْنَ } عَطَفَ الفعلَ على الاسمِ لأنَّه بمعناه أي : وقابضاتٍ ، فالفعلُ هنا مؤولٌ بالاسمِ عكسَ قولِه : { إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ } [ الحديد : 18 ] فإن الاسمَ هناك مؤولٌ بالفعلِ . وقد تقدَّم الاعتراضُ على ذلك . وقولُ أبي البقاء : " معطوفٌ على اسم الفاعل ، حَمْلاً على المعنى أي : يَصْفِفْنَ ويَقْبِضْنَ أي : صافَّاتٍ وقابِضاتٍ " لا حاجةَ إلى تقديره : يَصْفِفْنَ ويَقْبَضْنَ؛ لأن الموضعَ للاسمِ فلا نُؤَوِّلُه بالفعل . وقال الشيخ : " وعَطَفَ الفعلَ على الاسم/ لمَّا كان في معناه ، ومثلُه قولُه تعالى : { فالمغيرات صُبْحاً فَأَثَرْنَ } [ العاديات : 3-4 ] عطفَ الفعلَ على الاسم لمَّا كان المعنى : فاللاتي أغَرْنَ فأَثَرْنَ ، ومثلُ هذا العطفِ فصيحٌ وكذا عكسُه ، إلاَّ عند السهيليِّ فإنه قبيحٌ نحو قوله :
4288 بات يُغَشِّيها بعَضْبٍ باترٍ ... يَقْصِدُ في أسْوُقِها وجائِرُ
أي : قاصدٌ في أَسْوُقِها وجائر " انتهى ، هو مثلُه في عطفِ الفعلِ على اسمٍ ، إلاَّ أنَّ الاسمَ فيه مؤولٌ بالفعلِ عكسَ هذه الآيةِ . ومفعولُ " يَقْبِضْنَ " محذوفٌ أي : ويَقْبِضْنِ أجنحتَهُنَّ ، قاله أبو البقاء ولم يُقَدِّرْ ل " صافَّاتٍ " مفعولاً كأنه زَعَمَ أنَّ الاصطفافَ في أنفسِها أي : مصطفَّةً . والظاهرُ أنَّ المعنى : صافَّاتٍ أجنحتَها وقابضَتَها ، فالصَّفُّ والقَبْضُ منها لأجنحتِها .
وكذلك قال الزمخشريُّ : " صافَّاتٍ باسِطاتٍ أجنحتَهن " ثم قال : " فإنْ قلتَ لِمَ قال : ويقبضْنَ ولم يَقُلْ : وقابضاتٍ؟ قلت : لأنَّ الطيرانَ هو صَفُّ الأجنحةِ؛ لأنَّ الطيرانَ في الهواءِ كالسِّباحةِ في الماءِ ، والأصلُ في السباحةِ مَدُّ الأطرافِ وبَسْطُها ، وأمَّا القَبْضُ فطارِىءٌ على البَسْطِ للاستظهارِ به على التحرُّكِ ، فجيء بما هو طارِىءٌ غيرُ أصلٍ بلفظِ الفعلِ على معنى أنَّهن صافاتٌ ، ويكونُ منهنَّ القَبْضُ تارةً بعد تارةً ، كما يكون من السَّابح " .
قوله : { مَا يُمْسِكُهُنَّ } يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ مستأنفةً ، وأن تكونَ حالاً من الضمير في " يَقْبِضْنَ " قاله أبو البقاء ، والأولُ هو الظاهرُ . وقرأ الزهري بتشديدِ السينِ .
(1/5336)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)
قوله : { أَمَّن } : العامَّةُ بتشديد الميمِ على إدغامِ ميم " أم " في ميم " مَنْ " ، و " أم " بمعنى بل؛ لأنَّ بعدها اسمَ استفهامٍ ، وهو مبتدأٌ ، خبرُه اسمُ الإِشارة . وقرأ طلحة بتخفيفِ الأولِ وتثقيل الثاني قال أبو الفضل : " معناه أهذا الذي هو جندٌ لكم أم الذي يَرْزُقكم " . و " يَنْصُرُكم " صفةٌ لجند .
(1/5337)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)
قوله : { إِنْ أَمْسَكَ } : شرطٌ جوابُه محذوفٌ للدلالةِ عليه أي : فَمَنْ يَرْزُقكم غيرُه؟ وقدَّر الزمخشريُّ شرطاً بعد قولِه : " أمَّن هذا الذي هو جندٌ لكم ، تقديرُه : إنْ أَرْسَلَ عليكم عذابَه . ولا حاجةَ له صناعةً .
(1/5338)
أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
قوله : { مُكِبّاً } : حالِ مِنْ فاعلِ " يَمْشي " . و " أَكَبَّ " مطاوعُ كَبَّه يقال : كَبَبتُه فَأَكَبَّ . قال الزمخشري : " هو من الغرائبِ والشواذ ونحوُه : قَشَعَتِ الريحُ السَّحابَ فأَقْشَع ، ولا شيءَ من بناءِ أَفْعلَ مطاوعاً ، ولا يُتْقِنُ نحو هذا إلاَّ حَمَلَةُ كتابِ سيبويهِ ، وإنما أكَبَّ ، مِنْ بابِ أَنْفَضَ وأَلام ، ومعناه : دَخَلَ في الكَبِّ وصار ذا كبٍّ ، وكذلك أقْشَعَ السحابُ : دَخَلَ في القَشْعِ ، ومطاوعُ كَبَّ وقَشَع انكبَّ وانْقَشَعَ " .
قال الشيخ " : " ومُكِبّاً " حالٌ مِنْ " أكبَّ " وهو لا يتعدَّى ، وكَبَّ متعدٍ قال تعالى : { فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار } [ النمل : 90 ] والهمزةُ للدخولِ في الشيءِ أو للصيرورةِ ومطاوعُ كَبَّ : انْكَبَّ . تقول : كَبَبْتُه فانكَبَّ . قال الزمخشري : " ولا شيءَ مِنْ بناءِ أَفْعَل " إلى قوله : كتاب سيبويه " انتهى ، وهذا الرجلُ كثيرُ التبجُّح بكتاب سيبويهِ ، وكم مِنْ نَصٍّ في كتابِ سيبويه عَمي بَصَرُه وبصيرتُه عنه ، حتى إن الإِمامَ أبا الحجاج يوسفَ بن معزوزٍ صَنَّف كتاباً ، يذكر فيه ما غَلِطَ الزمخشريُّ فيه وما جَهِله من كتاب سيبويه " . انتهى ما قاله الشيخُ .
وانظر إلى هذا الرجلِ : كيف أخَذَ كلامَه الذي أَسْلَفْتُه عنه ، طَرَّزَ به عبارتَه حرفاً بحرف ، ثم أخذ يُنْحي عليه بإساءةِ الأدب ، جزاءَ ما لَقَّنه تِلك الكلماتِ الرائعةَ وجعله يقول : إن مطاوِعَ كَبَّ انْكَبَّ لا أكَبَّ وإن الهمزةَ في أكَبَّ للصيرورةِ ، أو للدخولِ في الشيء ، وبالله لو بَقِي دهرَه غيرَ مُلَقَّنٍ إياها لما قالها أبداً ، ثم أخذ يذكُر عن إنسانٍ مع أبي القاسم كالسُّها مع القمر أنَّه غَلَّطه في نصوصِ كتابِ سيبويه ، اللَّهُ أعلمُ بصحتِها . [ قال الشاعر : ]
4289 وكم مِنْ عائبٍ قولاً صحيحاً ... وآفَتُهُ من الفَهْمِ السَّقيمِ
وعلى تقديرِ التسليمِ فالفاضلُ مَنْ عدَّتْ سَقَطاتُه .
وقوله : { أَمَّن يَمْشِي } هو المعادِلُ ل { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً } . وقال أبو البقاء : و " أَهْدَى " خبرُ " مَنْ يمشي " ، وخبرُ " مَنْ " الثانيةِ محذوفٌ " يعني : أنَّ الأصلَ : أمَّنْ يمشي سويَّاً أَهْدى ، ولا حاجة إلى ذلك ، لأنَّ قولَه : " أزيدٌ قائمٌ أم عمروٌ " لا يُحتاج فيه من حيث الصناعةُ إلى حَذْفِ الخبرِ ، بل تقولُ : هو معطوفٌ على " زيد " عَطْفَ المفرداتِ ، ووحَّد الخبرَ لأنَّ " أم " لأحدِ الشيئين .
(1/5339)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23)
قوله : { قَلِيلاً } : نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أو حالٌ من ضميرِ المصدرِ كما هو رَأْيُ سيبويه و " ما " مزيدةٌ أي : تَشْكرون قليلاً . والجملةُ من " تَشْكرون " : إمَّا مستأنفةٌ ، وهو الظاهرُ ، وإمَّا حالٌ مقدرةٌ لأنهم حالَ الجَعْلِ غيرُ شاكرين . والمرادُ بالقِلَّة/ العَدَمُ أو حقيقتُها .
(1/5340)
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
قوله : { رَأَوْهُ } : أي : الموعودَ أو العذابَ زُلْفَةً أي : قريباً ، فهو حالٌ ولا بُدَّ مِن حَذْفِ مضافٍ أي : ذا زُلْفَةٍ ، أو جُعِل نفسَ الزُّلْفَةِ مبالغةً . وقيل : " زُلْفَةً " تقديرُه : مكاناً ذا زُلْفَةٍ فينتصِبُ انتصابَ المصدرِ .
قوله : { سِيئَتْ } الأصلُ : ساء أي : أحزنَ وجوهَهم العذابُ ورؤيتُه . ثم بُنِي للمفعول . و " ساء " هنا ليسَتْ المرادِفَةَ ل " بِئْسَ " كما عَرَفْتَه فميا تقدَّم غيرَ مرةٍ . وأَشَمَّ كسرةَ السينِ الضمَّ نافعٌ وابنُ عامرٍ والكسائيُّ ، كما فعلوا ذلك في { سياء بِهِمْ } [ هود : 77 ] في هود ، وقد تقدَّم ، والباقون بإخلاصِ الكسرِ ، وقد تقدَّم في أولِ البقرةِ تحقيقُ هذا وتصريفُه ، وأنَّ فيه لغاتٍ ، عند قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } [ البقرة : 11 ] .
قوله : { تَدَّعُونَ } العامَّةُ على تشديدِ الدالِ مفتوحةً . فقيل : من الدَّعْوى أي : تَدَّعُون أنه لا جنةَ ولا نارَ ، قاله الحسن . وقيل : من الدعاءِ أي : تَطْلبونه وتستعجلونه . وقرأ الحسن وقتادة وأبو رجاء والضحاك ويعقوبُ وأبو زيدٍ وابنُ أبي عبلةَ ونافعٌ في روايةِ الأصمعيِّ بسكونِ الدالِ ، وهي مؤيِّدَةٌ للقولِ : إنَّها من الدعاء في قراءةِ العامَّة .
(1/5341)
قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29)
قوله : { آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } : تقدَّم : لِمَ أُخِّر متعلَّقُ الإِيمانِ ، وقُدِّمَ مُتَعَلَّقُ التوكلِ؟ وأنَّ التقديمَ يُفيدُ الاختصاصَ . وقرأ الكسائيُّ " فسيَعْلمون " بياءِ الغَيْبة نظراً إلى قَولِه : " الكافرين " . والباقون بالخطاب : إمَّا على الوعيدِ ، وإمَّا على الالتفاتِ من الغَيْبة المرادةِ في قراءةِ الكسائيِّ .
(1/5342)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
قوله : { غَوْراً } : خبرُ " أصبح " وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ حالاً على تمامِ " أصبح " ، ولكنه استبعَده ، وحكى أنه قُرىء " غُؤْوْراً " بضم الغينِ وهمزةٍ مضمومةٍ ، ثم واوٍ ساكنةٍ على فُعُول ، وجَعَلَ الهمزةَ منقبلةَ عن واوٍ مضمومةٍ .
(1/5343)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)
قوله : { ن } : كقوله : { ص والقرآن } [ ص : 1 ] وجوابُ القسمِ الجملةُ المنفيةُ بعدَها . وزعم قومٌ أنه اسمٌ لحُوتٍ وأنه واحد النِّينان . وقومٌ أنه اسمُ الدَّواةِ ، وقومٌ أنه اسمٌ لوحٍ مكتوبٍ فيه . قال الزمخشري : " وأمَّا قولُهم هو الدَّواةُ فما أدري : أهو وَضْعٌ لغويٌّ أم شرعيٌّ ، ولا يَخْلو إذا كان اسماً للدَّواةِ مِنْ أنْ يكونَ جنساً أو عَلَماً ، فإن كان جنساً فأين الإِعرابُ والتنوينُ؟ وإن كان عَلَماً فأين الإِعراب؟ وأيهما كان فلا بُدَّ له مِنْ مَوْقِع في تأليفِ الكلامِ؛ لأنَّك إذا جَعَلْتَه مُقْسَماً به وَجَبَ إنْ كان جنساً أَنْ تَجُرَّه وتُنَوِّنَه ، ويكونُ القَسَم بدَواة مُنكَّرةٍ مجهولةٍ ، كأنه قيل : ودَواةٍ والقلم ، وإنْ كان عَلَمَاً أَنْ تَصْرِفَه وتَجرَّه ، أو لا تصرِفه وتفتحَه للعلميِّةِ والتأنيثِ ، وكذلك التفسيرُ بالحوتِ : إمَّا أَنْ يُرادَ به نونٌ من النينانِ ، أو يُجْعَلَ عَلَماً للبَهَموتِ الذي يَزْعُمون ، والتفسيرُ باللَّوْح مِنْ نورٍ أو ذَهَبٍ والنهر في الجنةِ نحوُ ذلكَ " . وهذا الذي أَوْرَده أبو القاسم مِنْ محاسِنِ علمِ الإِعرابِ ، وقَلَّ مَنْ يُتْقِنُه .
وقرأ العامَّةُ : " ن " ساكنَ النونِ كنظائرِه . وأدغم ابنُ عامر والكسائيُّ وأبو بكرٍ عن عاصمٍ بلا خلافٍ ، وورش بخلافٍ عنه النونَ في الواو ، وأظهرها الباقون ، ونُقِلُ عَمَّنْ أدغمَ الغُنَّةُ وعَدَمُها . وقرأ ابن عباس والحسن وأبو السَّمَّال وابنُ أبي إسحاق بكسرِ النونِ وسعيد بن جبير وعيسى بخلافٍ عنه بفتحِها ، فالأُولى على التقاءِ الساكنين . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ مجروراً على القَسَم ، حَذَفَ حرفَ الجرِّ وبقي علمُه كقولِهم : " اللَّهِ لأفعلَنَّ " لوجهَيْن ، أحدُهما : أنَّه مختصُّ بالجلالةِ المعظَّمة ، نادرٌ فيما عداها . والثاني : أنه كان ينبغي أَنْ يُنَوِّنَ . ولا يَحْسُنُ أَنْ يُقال : هو ممنوعُ الصَّرْفِ اعتباراً بتأنيث السورة ، لأنه كان ينبغي أَنْ لا يَظْهَرَ فيه الجرُّ بالكسرة البتةَ .
وأمَّا الفتحُ فيحتمل ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ يكونَ بناءً ، وأُوْثِر على الأصلِ للخفَّةِ كأينَ وكيفَ . الثاني : أَنْ يكونَ مجروراً بحرف القسمِ المقدَّرِ/ على لغةٍ ضعيفة . وقد تقدَّم ذلك في قراءةِ " فالحقِّ والحقِّ " [ ص : 84 ] . بجرِّ " الحقِّ " ، ومُنِعَتِ الصَّرْفَ ، اعتبارٌ بالسورة ، والثالث : أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ محذوفٍ ، أي : اقرؤوا نونَ ، ثم ابتدأ قَسَماً بقولِه " والقلمِ " ، أو يكونَ منصوباً بعد حَذْفِ حرفِ القسم كقولِه :
4290 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فذاكَ أمانةَ اللَّهِ الثِّريدُ
ومُنعَ الصَّرْفَ لِما تقدَّم ، وهذا أحسنُ لعَطْفِ " والقلمِ " على مَحَلِّه .
قوله : { وَمَا يَسْطُرُونَ } " ما " موصولةٌ اسميةٌ أو حرفية ، أي : والذي يَسْطُرونه مِنَ الكُتُب ، وهم : الكُتَّابُ أو الحَفَظُة من الملائكة وسَطْرِهم . والضميرُ عائدٌ على مَنْ يُسَطِّرُ لدلالةِ السياقِ عليه . ولذِكْرِ الآلةِ المُكْتَتَبِ بها . وقال الزمخشري : " ويجوزُ أَنْ يُرادَ بالقلمِ أصحابُه ، فيكون الضميرُ في " يَسْطُرون " لهم " يعني فيصيرُ كقولِه : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ } [ النور : 40 ] تقديرُه : أو كذي ظُلُماتٍ ، فالضميرُ في " يَغْشاه " يعود على " ذي " المحذوف .
(1/5344)
مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2)
قوله : { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } : قد تقدَّم نظيرُ هذا في الطور في قولِه { فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ } [ الطور : 29 ] وتقدَّم تحقيقُه . إلاَّ أن الزمخشريَّ قال هنا : " فإنْ قلتَ : بِمَ تتعلَّقُ الباءُ في " بنعمة ربك " وما محلُّه؟ قلت : تتعلَّق بمجنون منفياً ، كما تتعلَّقُ بعاقل مثبتاً كقولك : " أنت بنعمةِ اللِّهِ عاقلٌ " ، مستوياً في ذلك الإِثباتُ والنفيُ استواءَهما في قولِك : " ضَرَبَ زيدٌ عَمْراً " و " ما ضَرَبَ زيدٌ عمراً " تُعْمِلُ الفعلَ منفياً ومثبتاً إعمالاً واحداً . ومحلُّه النصبُ على الحالِ ، كأنه قال : ما أنت مجنونٌ مُنْعِماً عليكَ بذلك ، ولم تَمْنَع الباءُ أَنْ يعملَ " مجنون " فيما قبلَه لأنها زائدةٌ لتأكيدِ النفي " .
قال الشيخ : " وما ذهب إليه الزمخشريُّ مِنْ أنَّ الباءَ تتعلَّقُ بمجنون ، وأنه في موضعِ الحالِ يحتاج إلى تأمُّلِ ، وذلك أنَّه إذا تَسَلَّطُ النفي على محكوم به ، وذلك له معمولٌ ، ففي ذلك طريقان ، أحدهما : أنَّ النفيَ تَسَلَّطَ على ذلك المعمولِ فقط ، والآخر : أَنْ يُسَلَّط النفيُ على المحكوم به ، فينتفيَ مَعمولُه لانتفائه . بيان ذلك : تقولُ : " ما زيدٌ قائمٌ مُسْرعاً " فالمتبادَرُ إلى الذهن أنَّه مُنْتَفٍ إسراعُه دونَ قيامِه فيكونُ قد قامَ غيرَ مُسْرِع . والوجهُ الآخَرُ : أنَّه انتفَى قيامُه فانتفى إسراعُه ، أي : لا قيامَ فلا إسراعَ . وهذا الذي قَرَّرْناه لا يتأتَّى معه قولُ الزمخشريِّ بوجهٍ ، بل يؤديِّ إلى ما لا يجوزُ النطقُ به في حَقِّ المعصوم " انتهى .
واختار الشيخ أنْ يكونَ " بنعمة " قَسَماً مُعْتَرِضاً به بين المحكوم عليه والحُكم على سبيلِ التأكيدِ والتشديدِ والمبالغةِ في انتفاءِ الوصفِ الذمَّيم . وقال ابن عطية : " بنعمةِ ربِّك " اعتراضٌ كما تقول للإِنسان : " أنت بحمد اللَّهِ فاضلٌ " قال : " ولم يُبَيِّنْ ما تتعلَّقُ به الباءُ في " بنعمة " . قلت : والذي تتعلَّق به الباءُ في هذا النحو معنى مضمونِ الجملةِ نفياً وإثباتاً ، كأنه قيل : انتفى عنك ذلك بحمد اللَّهِ ، والباءُ سببيةٌ ، وثَبَتَ لك الفَضْلُ بحمدِ اللَّهِ تعالى ، وأمَّا المثالُ الذي ذكرَه فالباءُ تتعلَّق فيه بلفظ " فاضل " . وقد نحا صاحب " المنتخب " إلى هذا فقال : " المعنى : انتفى عنك الجنونُ بنعمةِ ربك . وقيل : معناه : ما أنت بمجنونٍ ، والنعمة لربِّك ، كقولِهم : " سبحانَك اللهمَّ وبحمدِك " ، أي : والحمدُ لله . ومنه قولُ لبيدٍ :
4291 وأُفْرِدْتُ في الدنيا بفَقْدِ عشيرتي ... وفارقني جارٌ بأَرْبَدَ نافِعُ
أي : وهو أَرْبَدُ " . وهذا ليس بتفسير إعرابٍ بل تفسيرُ معنى .
(1/5345)
بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)
قوله : { بِأَيِّكُمُ المفتون } : فيه أربع أوجه ، أحدُها : أنَّ الباءَ مزيدةٌ في المبتدأ ، والتقديرُ : أيُّكم المَفْتون فزِيدَتْ كزيادِتها ، في نحو : بحَسْبك زيدٌ ، وإلى هذا ذهب قتادةُ وأبو عبيدة معمرُ بن المثنى ، إلاَّ أنَّه ضعيفٌ مِنْ حيث إنَّ الباءَ لا تُزاد في المبتدأ إلاَّ في " حَسْبُك " فقط . الثاني : أنَّ الباءَ بمعنى " في " ، فهي ظرفيةٌ ، كقولك : " زيدٌ بالبصرة " ، أي : فيها ، والمعنى : في أيِّ فرقةٍ وطائفةٍ منكم المفتونُ . وإليه ذهب مجاهدٌ والفراء ، وتؤيِّدُه قراءةُ ابن أبي عبلةَ " في أيِّكم " . الثالث : أنَّه على حَذْفِ مضافٍ ، أي : بأيكم فَتْنُ المَفْتونِ فَحُذِفَ المضافُ ، وأقيم المضافُ إليه مُقامَه ، وإليه ذهب الأخفش ، وتكونُ الباءُ سببيَّةً ، والرابع أنَّ " المفتون " مصدرٌ جاء على مَفْعول كالمَعْقول والمسيور والتقدير : بأيكم الفُتون . فعلى القول الأولِ يكونُ الكلامُ تامَّاً عند قولِه " ويُبْصِرون " ويُبْتَدأُ قولُه " بأيِّكم المفْتون " وعلى الأوجهِ بعدَه/ تكونُ الباءُ متعلِّقَةً بما قبلَها ، ولا يُوْقَفُ على " يُبْصِرون " وعلى الأوجُهِ الأُوَلِ الثلاثةِ يكونُ " المفتون " اسمَ مفعولٍ على أصلِه ، وعلى الوجهِ الرابعِ يكونُ مصدراً . وينبغي أَنْ يُقالَ : إنَّ الكلامَ إنما يَتِمُّ على قولِه " المفتون " سواءً قيل بأنَّ الباءَ مزيدةٌ أم لا؛ لأنَّ قولَه " فَسَتُبْصِرُ ويُبْصرون " مُعَلَّقٌ بالاستفهامِ بعدَه؛ لأنه فِعْلٌ بمعنى الرؤية ، والرؤيةُ البصريةُ تُعَلَّقُ على الصحيح بدليلِ قولِهم : " أما ترى أيُّ بَرْقٍ ههنا " ، فكذلك الإِبصارُ لأنه هو الرؤيةُ بالعينِ . فعلى القولِ بزيادةِ الباءِ تكونُ الجملةُ الاستفهاميةُ في محلِّ نَصْبٍ لأنها واقعةٌ موقعَ مفعولِ الإِبصار .
(1/5346)
وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
قوله : { فَيُدْهِنُونَ } : المشهورُ في قراءةِ الناس ومصاحفِهم " فيُدْهِنون " بثبوتِ نونِ الرفع . وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه عطفٌ على " تُدْهِنُ " فيكونُ داخلاً في حَيِّزِ " لو " . والثاني : انه خبرٌ مبتدأ مضمرٍ ، أي : فهم يُدْهِنون . وقال الزمخشري : " فإنْ قَلَتَ : لِم رُفِعَ " فَيُدْهِنون " ولم يُنْصَبْ بإضمارِ " أَنْ " وهو جوابُ التمني؟ قلت : قد عُدِل به إلى طريقٍ آخر : وهو أنْ جُعِل خبرَ مبتدأ محذوف ، أي : فهم يُدْهِنون كقوله : { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً } على معنى : وَدُّوا لو تُدْهِنُ فهم يُدْهنون حينئذٍ ، أو وَدُّوا إدهانَك فهم الآن يُدْهِنون لطَمَعِهم في إدْهانِك : قال سيبويه : " وزعم هارونُ أنها في بعضِ المصاحفِ : " وَدُّوا لو تُدْهِنُ فيُدِهنوا " انتهى .
وفي نصبه على ما وُجد في بعضِ المصاحفِ وجهان ، أحدهما : أنه عطفٌ على التوهُّمِ ، كأنه تَوَهَّم أَنْ نَطَقَ ب " أَنْ " فَنَصَبَ الفعلَ على هذا التوهُّم ، وهذا إنما يجيءُ على القولِ بمصدرية " لو " وفيه خلافٌ مرَّ محققاً في البقرة . والثاني : أنه نُصِبَ على جواب التمني المفهومِ مِنْ " وَدَّ " والظاهرُ أنَّ " لو " هنا حرفٌ لِما كان سيقعُ لوقوعِ غيرِه ، وأن جوابَها محذوفٌ ، ومفعولُ الوَدادةِ أيضاً محذوفٌ تقديرُه : وَدُّوا إدهانَك ، فحُذِفَ " إدْهانَك " لدلالةِ " لو " وما بعدها عليه . وتقديرُ الجوابِ لسُرُّوا بذلك .
(1/5347)
وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)
قوله : { مَّهِينٍ هَمَّازٍ } : تقدَّم تفسيرُ مهين في الزخرف . والهمَّازُ : مثالُ مبالغةٍ مِنْ الهَمْزِ وهو في اللغةِ الضَرْبُ طعناً باليدِ والعَصا ونحوِها ، واسْتُعير للعَيَّاب الذي يَعيب على الناسِ كأنه يَضْرِبُهم . والنَّميم قيل : مصدرٌ كالنميمة . وقيل : هو جَمْعُها ، أي : اسمُ جنسٍ كتمرة وتَمر . وهو نَقْلُ الكلامِ الذي يسوء سامعَه ويُحَرِّشُ بين الناس . وقال الزمخشري : " والنميمُ والنَّميمة السِّعايةُ وأنشدني بعضُ العرب :
4292 تَشَبَّبي تَشَبُّبَ النَّميمهْ ... تَمشْي بها زَهْراً إلى تميمهْ
والمَشَّاء : مثالُ مبالغةٍ مِنْ المَشْيِ ، أي : يُكْثِرُ السِّعايةَ بين الناس . والعُتُلُّ : الذي يَعْتِلُ الناسَ ، أي : يَحْملهم ويَجُرُّهم إلى ما يَكْرهون مِنْ حبسٍ وضَرْبٍ . ومنه { خُذُوهُ فاعتلوه } [ الدخان : 47 ] . وقيل : العُتُلُّ : الشديد الخُصومة . وقال أبو عبيدة : " هو الفاحِشُ اللئيم ، وأنشد :
4293 بعُتُلٍّ مِنْ الرِّجالِ زَنِيمٍ ... غيرِ ذي نَجْدةٍ وغيرِ كريمِ
وقيل " : الغليظُ الجافي . ويقال : عَتَلْتُه وعَتَنْتُه باللام والنونِ ، نَقَله يعقوب . والزنيم : الدَّعِيُّ يُنْسَبُ إلى قومٍ ليس منهم . قال حسان :
4294 زَنيمٌ تَداعاه الرجالُ زيادةً ... كما زِيْدَ في عَرْضِ الأديمِ الأكارِعُ
وقال أيضاً :
4295 وأنتَ زَنيمٌ نِيْطَ في آل هاشمٍ ... كما نِيْطَ خلفَ الرَّاكبِ القَدَحُ الفَرْدُ
وأصلُه مِنْ الزَّنَمَةِ : وهي ما بقي مِنْ جلْدِ الماعز مُعَلَّقاً في حِلَقِها يُتْرَكُ عند القَطْع فاستعير للدَّعِيِّ لأنه كالمُعَلَّقِ بما ليس منه . وقرأ الحسنُ " عُتُلٌّ " بالرفع على : هو عُتُلٌّ . وحقُّه أَنْ يُقْرَأَ ما بعدَه بالرفع أيضاً ، لأنهم قالوا في القَطْع : إنه يبدأ بالإِتباع ثم بالقطع مِنْ غير عكسٍ . وقوله " بعد ذلك " ، أي : بعدما وَصَفْناه به . قال ابن عطية : " فهذا الترتيبُ إنما هو في قولِ الواصفِ لا في حصولِ تلك الصفاتِ في المصوفِ ، وإلاَّ فكونُ عُتُلاً هو قبل/ كونِه صاحبَ خير يمنعُه " . وقال الزمخشري : " بعد ذلك ، بعد ما عُدَّ له مِنْ المثالبِ والنقائصِ " ، ثم قال : " جَعَلَ جفاءَه ودَعْوَتَه أشدَّ مُعايَبةً؛ لأنه إذا غَلُظَ وجفا طَبْعُه قسَا قلبُه واجْتَرَأَ على كلِّ معصيةٍ " .
(1/5348)
أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)
قوله : { أَن كَانَ } : العامَّةُ على فتح همزةِ " أنْ " ثم اختلفوا بعدُ : فقرأ ابنُ عامرٍ وحمزةُ وأبو بكر بالاستفهام ، وباقي السبعةِ بالخبر . والقارئون بالاستفهامِ على أصولِهم : مِنْ تحقيقٍ وتسهيلٍ وإدخالِ ألفٍ بين الهمزتَينْ وعدمِه . ولا بُدَّ مِنْ بيانِه لك تَسهيلاً للأمر عليك فأقول وبالله التوفيق : قرأ حمزةُ وأبو بكرٍ بتحقيق الهمزتَيْن وعدم إدْخالِ ألفٍ بينهما ، وهذا وهو أصلُهما .
وقرأ ابنُ ذكوانَ بتسهيلِ الثانيةِ وعدمِ إدخال ألفٍ ، وهشامٌ بالتسهيلِ المذكور ، إلاَّ أنَّه أدخل ألفاً بينهما فقد خالَفَ كلٌّ منهما أصلَه : أمَّا ابنُ ذكوان فإنه يُحَقِّقُ الهمزتَيْنِ فقد سَهَّل الثانية هنا . وأمَّا هشامٌ : فإنَّ أصلَه أن يُجْري في الثانية مِنْ هذا النحوِ وجهَيْنِ : التحقيقَ كرفيقِه ، والتسهيلَ . وقد التَزَمَ التسهيلَ هنا . وأمَّا إدخالُ الألفِ فإنه فيه على أصلِه كما تقدَّم أول البقرة .
وقرأ نافع في رواية الزبيدي عنه : " إنْ كان " بكسر الهمزة على الشرط .
فأمَّا قراءةُ " أَنْ كان " بالفتحِ على الخبرِ ففيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها " أنْ " المصدريةُ في موضع المفعولِ له مجرورةٌ بلامٍ مقدرة . واللامُ متعلِّقةٌ بفعلِ النهي ، أي : ولا تُطِعْ مَنْ هذه صفاتُه؛ لأنْ كان مُتَموِّلاً وصاحبَ بنين . الثاني : أنها متعلقةٌ ب " عُتُلّ " ، وإن كان قد وُصِفَ ، قاله الفارسي ، وهذا لا يجوزُ عند البصريين ، وكأن الفارسيَّ اغتفَره في الجارِّ . الثالث : أنْ يتعلَّق ب " زنيم " ولا سيما عند مَنْ يُفَسِّره بقبيح الأفعالِ . الرابع : أَنْ يتعلِّقَ بمحذوف يَدُلُّ عليه ما بعدَه مِنْ الجملةِ الشرطيةِ ، تقديره : لكونِه متموِّلاً مُسْتَظْهِراً بالبنين كَذَّب بآياتِنا ، قاله الزمخشري ، قال : " ولا يَعْمَلُ فيه " قال " الذي هو جوابُ " إذا " لأنَّ ما بعد الشرطِ لا يعملُ فيما قبلَه ، ولكن ما دَلَّتْ عليه الجملةُ مِنْ معنى التكذيب " . وقال مكي وتبعه أبو البقاء : " لا يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ " تُتْلى " لأنَّ ما بعد " إذا " لا يعملُ فيما قبلها؛ لأنه " إذا تُضاف إلى الجمل ، ولا يعملُ المضافُ إليه فيما قبل المضاف " انتهى . وهذا يُوهمُ أنَّ المانعَ من ذلك ما ذكره فقط ، والمانعُ أمرٌ معنويٌّ ، حتى لو فُقِدَ هذا المانعُ الذي ذكره لامتنعَ مِنْ جهةِ المعنى : وهو أنه لا يَصْلُحُ أَنْ يُعَلِّلَ تلاوةَ آياتِ اللَّهِ عليه بكونِه ذا مالٍ وبنين .
وأمَّا قراءةُ " أَأَنْ كان " على الاستفهام ، ففيها وجهان ، أحدُهما : أَنْ يتعلَّقَ بمقدَّر يَدُلُّ عليه ما قبلَه ، أي : أَتُطيعه لأَنْ كان أو أتكونُ طواعيةً لأَنْ كان . والثاني : أنْ يتعلَّقَ بمقدَّرٍ عليه ما بعده أي : لأَنْ كان كذا كَذَّبَ وجَحَدَ .
(1/5349)
وأمَّا قراءةُ إنْ بالكسر فعلى الشرطِ ، وجوابُه مقدرٌ . تقديرُه : إن كان كذا يَكْفُرْ ويَجْحَدْ . دَلَّ عليه ما بعده . وقال الزمخشري : " والشرطُ للمخاطبِ ، أي : لا تُطِعْ كلَّ حَلاَّفٍ شارطاً يسارَه ، لأنه إذا أطاع الكافرَ لِغِناهُ فكأنه اشترط في الطاعة الغنى ، ونحوُ صرفِ الشرطِ للمخاطب صَرْفُ الترجِّي إليه في قولِه : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ } [ طه : 44 ] . وجَعَله الشيخُ مِنْ دخولِ شرطٍ على شرطٍ ، يعني إنْ وإذا؛ إلاَّ أنه قال : " ليسا من الشروط المترتبةِ الوقوع ، وجعله نظيرَ قولِ ابنِ دريدٍ :
4296 فإنْ عَثَرْتُ بعدَها إنْ وَأَلَتْ ... نفسيَ مِنْ هاتا فقولا لا لَعا
قال : " لأنَّ الحامِلَ على تدبُّرِ آياتِ اللهِ كونُه ذا مالٍ وبنين ، وهو مشغولُ القلبِ بذلك غافلٌ عن النظرِ قد استولَتْ عليه الدنيا وأَبْطَرَتْه .
وقرأ الحسن بالاستفهام وهو استفهامُ تَقْريعٍ وتوبيخٍ على قولِه : " القرآنُ أساطيرُ الأوَّلين لَمَّا تُلِيَتْ عليه آياتُ الله .
(1/5350)
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
قوله : { سَنَسِمُهُ } : أي : نجعل له سِمَةً ، أي : علامة يُعْرَفُ بها . قال جرير :
4297 لَمَّا وَضَعْتُ على الفرزدقِ مِيْسَمي ... وعلى البَعيثِ جَدَعْتُ أَنْفَ الأخطلِ
/ والخُرْطُومُ : الأَنْفُ ، وهو هنا عبارةٌ عن الوجهِ كلِّه من [ باب ] التعبيرِ عن الكلِّ بالجزءِ؛ لأنه أظهرُ ما فيه وأَعلاه . والخُرْطومِ أيضاً : الخمرُ وكأنه استعارةٌ لها؛ لأنَّ الشنتمَريَّ قال : " هي الخمرُ أول ما تَخْرُجُ من الدِّنِّ " ، فجُعِلَتْ كالأَنفِ؛ لأنه أولُ ما يَبْدُو مِنْ الوجهِ ، فليسَتْ الخرطومُ الخمرَ مطلقاً . ومِنْ مجيءِ الخُرْطومِ بمعنى الخمرِ قولُ علقمةَ ابنِ عبدة :
4298 قد أَشْهَدُ الشَّرْبَ ، فيهم مُزْهِرٌ زَئِمٌ ... والقومُ تصرَعُهمْ صَهْباءُ خُرْطومُ
وأنشد النضر بن شميل :
4299 تَظَلُّ يومَك في لهو وفي لَعِبٍ ... وأنتَ بالليل شَرَّابُ الخَراطيمِ
قال النَّضِرُ : " والخُرطومُ في الآية : هي الخَمْرُ ، والمرادُ : سَنَحُدُّه على شُربِها . وقد استبعدَ الناسُ هذا التفسيرَ .
(1/5351)
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17)
قوله : { مُصْبِحِينَ } : هذا حالٌ مِنْ فاعلِ " لَيَصْرِمُنَّها " وهو مِنْ " أصبح " التامَّةِ ، أي : داخلين في الصَّباح . كقولِ تعالى : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ } [ الصافات : 137 ] وقولِهم : " إذا سَمِعْتَ بسُرَى القَيْنِ فاعلَمْ أنه مُصْبِحٌ " . والكاف في " كما " في موضع نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : بَلَوْناهم ابتلاءً كما بَلَوْنا . و " ما " مصدريةٌ أو بمعنى الذين . و " إذ " منصوبةٌ ب " بَلَوْنا " و " لَيَصْرِمنُّها " جوابٌ للقسم ، وجاء على خلافِ مَنْطوقِهم ، ولو جاء عليه لقيل : لَنَصْرِمُنَّها بنونِ التكلم .
(1/5352)
وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18)
قوله : { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ } : هذه مستأنفةٌ . ويَضْعُفُ كونُها حالاً من حيث إنَّ المضارعَ المنفيَّ ب " لا " كالمثبتِ في عَدَم دخولِ الواوِ عليه ، وإضمارُ مبتدأ قبلَه ، كقولِهم : " قمتُ وأَصُكُّ عينَه " مُسْتغنى عنه . ومعنى " لا يَسْتَثْنُون " لا يَثنون عزمَهم على الحِرْمانِ ، وقيل : لا يقولون : إن شاءَ الله . وسُمِّي استثناءً ، وهو شرطٌ؛ لأنَّ معنى " لأَخْرُجَنَّ إنْ شاءَ الله " " ولا أخرجُ إلاَ أَنْ يشاءَ اللهُ " واحدٌ ، قاله الزمخشري .
(1/5353)
فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)
قوله : { طَآئِفٌ } : أي هَلاكٌ ، أو بلاءٌ ، طائفٌ . والطائفُ غَلَبَ في الشرِّ . قال الفراء : " هو الأمرُ الذي يأتي ليلاً . ورُدَّ عليه بقولِه : { إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان } [ الأعراف : 201 ] ، وذلك لا يختصُّ بلَيْلٍ ولا نهارٍ . وقرأ النخعي " طَيْفٌ " . وقد تقدَّم في الأعراف الكلامُ على هذينِ الوصفَيْن . و " منْ رَبِّك " يجوزُ أن يتعلَّقَ ب " طاف " ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل طائف . والصِّرامُ : جُذاذُ النخلِ . وأصلُ المادةِ الدلالةُ على القَطْعِ ، ومنه الصُرْمُ والصَّرْمُ بالضم والفتح ، وهو القَطيعةُ . قال امرؤُ القيس :
4300 أفاطمُ مَهْلاً بعضَ هذا التدلُّلِ ... وإن كُنْتِ قد أَزْمَعْتِ صَرْمي فأَجْملي
ومنه الصَّريمةُ ، وهي قطعةٌ مَنْصَرمةٌ عن الرمل . قال :
4301 وبالصَّرِيْمَةِ منهم مَنْزِلٌ خَلِقٌ ... عافٍ تَغَيَّرِ إلاَّ النؤيُ والوَتِدُ
والصَّارم : القاطِعُ الماضي ، وناقة مُصَرَّمَةٌ ، أي : انقطع لبنُها . وانْصَرَمَ الشهرُ والسَّنَةُ ، أي : قَرُبَ انفصالُهما . وأَصْرَمَ : ساءَتْ حالُه ، كأنه انقطعَ سَعْدُه . وقوله " كالصريم " قيل : هي الأشجارُ المُنْصَرِمُ حَمْلُها . وقيل : كالليلِ لأنه يُقال له الصَّريمُ لسَوادِه . والصَّريمُ أيضاً : النهارُ . وقيل : الصبحُ ، فهو من الأضدادِ . وقال شَمِر : الصَّريم الليلُ ، والصَّريم النهار؛ لانصرامِ هذا عن ذاك وذاك عن هذا . وقيل : هو الرَّمادُ بلغة خُزَيْمَةَ ، قاله ابنُ عباس . وقيل : الصَّريمُ رَمْلَةٌ معروفةً باليمن لا تُنْبِتُ شيئاً . وفي التفسير : أنَّ جَنَّتَهم صارت كذلك . ويُرْوَى أنها اقْتُلِعَتْ ووُضِعتْ حيث الطائفُ اليوم؛ ولذلك سُمِّي به " الطائفُ " الذي هو بالحجازِ اليومَ .
(1/5354)
أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22)
قوله : { أَنِ اغدوا } : يجوزُ أَنْ تكونَ المصدريَّةَ ، أي : تنادَوْا بهذا الكلامِ ، وأَنْ تكونَ المفسِّرة؛ لأنَّه تقدَّمها ما هو بمعنى القولِ . قال الزمخشريُّ : " فإنْ قلتَ : هلا قيل : اغْدُوا إلى حَرْثِكم وما معنى " على "؟ قلت : لَمَّا كان الغُدُوُّ إليهِ ليَصْرِمُوه ويَقْطعوه كان غُدُوَّا عليه ، كما تقول : غدا عليهم العدوُّ . ويجوزُ أن يُضَمَّنَ الغُدُوُّ معنى الإِقبالِ كقولِهم : " يُغْدَى عليهم بالجَفْنَة ويُراحُ " انتهى . فجعل " غدا " متعدياً في الأصل ب " إلى " فاحتاج إلى تأويل تعدِّيه ب " على " . وفيه نظرٌ لورود تَعَدِّيه ب " على " في غير موضع كقولِه :
4302 وقد أَغْدُو على ثُبَةٍ كِرامٍ ... نَشاوى واجِدين لِما نشاءُ
/ وإذا كانوا قد عَدَّوْا مرادِفَه ب " على " فَلْيُعَدُّوه بها ، ومرادِفُهُ " بَكَرَ " تقول : بَكَرْتُ عليه ، وغَدَوْتُ عليه بمعنىً واحدٍ . قال :
4303 بَكَرْتُ عليه غُدْوَةً فَرَأَيْتُه ... قُعُوداً لديهِ بالصَّريمِ عَواذِلُهْ
و { إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ } جوابُه محذوفٌ ، أي : فاغدُوْا . وصارمين : قاطعين جاذِّين . وقيل : ماضِين في العَزْمِ ، مِنْ قولِك : سيفٌ صارِمٌ .
(1/5355)
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23)
قوله : { وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } : جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعلِ " انطلَقُوا " .
(1/5356)
أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24)
قوله : { أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا } : يجوزُ أَنْ تكونَ المصدريَّة ، أي : يتخافَتُون بهذا الكلامِ ، أي : يقولُه بعضُهم لبعضٍ ، وأَنْ تكونَ المفسِّرَةَ . وقرأ عبد الله وابنُ أبي عبلةَ " لا يَدْخُلُها " بإسقاطِ " أَنْ " إمَّا على إضمارِ القولِ ، كما هو مذهبُ البَصْريين ، وإمَّا على إجراءِ " يتخافتون " مُجراه كما هو قولُ الكوفيين .
(1/5357)
وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25)
قوله : { على حَرْدٍ قَادِرِينَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ " قادرين " حالاً من فاعل " غَدَوْا " . و " على حَرْدٍ " متعلِّقٌ به ، وأَن يكونَ " على حَرْدٍ " هو الحالَ ، و " قادرين " : إمَّا حالٌ ثانيةٌ ، وإمَّا حالٌ مِنْ ضميرِ الحالِ الأولى .
والحَرْدُ فيه أقوال كثيرة ، قيل : الغضبُ والحَنَقُ . وأُنْشد للأشهب ابن رُمَيْلة :
4304 أُسُوْدُ شَرىً لاقَتْ أُسُودَ خَفِيَّةٍ ... تَساقَوْا على حَرْدٍ دماءَ الأساوِدِ
قيل : ومثلُه قولُ الآخرِ :
4305 إذا جِيادُ الخيل جاءتَ تَرْدي ... مملوءَةً مِنْ غَضَبٍ وحَرْد
عَطَفَ لَمَّا تغايرَ اللفظان كقولِه :
4306 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأَلْفى قولَها كَذِباً ومَيْنا
وقيل : المَنْعُ . مِنْ حارَدَتِ الإِبلُ : قَلَّ لَبَنُها ، والسَّنَةُ : قَلَّ مَطَرُها ، قاله أبو عبيد والقُتبيُّ . ويقال : حَرِدَ بالكسر يَحْرَدُ حَرْداً ، وقد تُفْتح فيقال : حَرَداً ، فهو حَرْدانُ وحارِدٌ . يقال : أسدٌ حارِدٌ ، ولُيوث حَوارِدُ . وقيل : الحَرْدُ والحَرَدُ الانفرادُ . يُقال : حَرَدَ بالفتح ، يَحْرُد بالضم ، حُروداً وحَرْداً وحَرَداً : انعزل ، ومنه كوكبٌ حارِدٌ ، أي : منفردٌ . قال الأصمعي : " هي لغةُ هُذَيْل " . وقيل : الحَرْدُ القَصْدُ . يقال : حَرَد يَحْرِدُ حَرْدَك ، أي : قَصَدَ قَصْدَك ، ومنه :
4307 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يَحْرِدُ حَرْدَ الجنَّةِ المُغِلَّهْ
وقد فُسِّرت الآيةُ الكريمةُ بجميعِ ما ذَكَرَتْ . وقيل : الحَرْدُ اسمُ جنَّتِهم بعينِها ، قاله السُّدي . وقيل : اسم قَرْيتِهم ، قاله الأزهري . وفيهما بُعْدٌ بعيدٌ . و " قادرين " : إمَّا مِنْ القُدْرَةِ ، وهو الظاهرُ ، وإمَّا مِن التقدير وهو التضييقُ ، أي : مُضَيِّقين على المساكينِ . وفي التفسيرِ قصةٌ توضِّحُ ما ذكرْتُ " .
(1/5358)
كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
قوله : { كَذَلِكَ العذاب } : مبتدأٌ ، وخبرُه مقدم ، أي : مثلُ ذلك العذابِ عذابُ الدنيا ، وأمَّا عذابُ الآخرةِ فأكبرُ منها .
(1/5359)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34)
قوله : { عِنْدَ رَبِّهِمْ } : يجوز أَنْ يكونَ منصوباً بالاستقرار ، وأن يكون حالاً مِنْ " جَنَّات " .
(1/5360)
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)
قوله : { إِنَّ لَكُمْ فِيهِ } : العامَّةُ على كسرِ الهمزةِ . وفيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها معمولةٌ ل " تَدْرُسون " ، أي : تدرسون في الكتابِ أنَّ لكم ما تختارونه ، فلمَّا دخلت اللامُ كُسِرت الهمزةُ . والثاني : أَنْ تكونَ على الحكايةِ للمدروسِ كما هو ، كقوله : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين } [ الصافات : 78 - 79 ] قالهما الزمخشري ، وفي الفرقِ بين الوجهين عُسْرٌ قال : " وتَخَيَّر الشيءَ واختاره : أَخَذَ خيرَه كتنخَّله وانتخَلَه أَخَذَ منخولَه " . والثالث : أنها على الاستئنافِ على معنى : إنْ كان لكم كتابٌ فلكم فيه مُتَخَيَّرٌ . وقرأ طلحةُ والضحاك " أنَّ لكم " بفتح الهمزةِ ، وهو منصوبٌ ب " تَدْرُسُون " ، إلاَّ أنَّ فيه زيادةَ لامِ التأكيدِ ، وهي نظيرُ قراءة { إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ } [ الفرقان : 20 ] بالفتح . وقرأ الأعرج " أإنَّ لكم " في الموضعين بالاستفهام .
(1/5361)
أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39)
قوله : { بَالِغَةٌ } : العامَّةُ على رفعِها نعتاً ل " أَيْمانٌ " و " إلى يوم " متعلِّق بما تَعَلَّقَ به " لكم " . من الاستقرار ، أي : ثابتةٌ لكم إلى يومِ ، أو ببالغة ، أي : تَبْلُغُ إلى ذلك اليومِ وتنتهي إليه .
وقرأ زيد بن علي والحسن بنصبِها فقيل : على الحال من " أيمان " لأنها تخصَّصَتْ بالعملِ أو بالوصفِ . وقيل : من الضمير في " علينا " إنْ جَعَلْناه صفةً ل " أَيْمان " .
وقوله : { إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } جوابُ القسمِ في قوله : " أَيْمان " لأنها بمعنى أقسام . و " أيُّهم " معلِّقٌ لِسَلْهُمْ و " بذلك " متعلق ب " زعيمٌ " ، أي : ضمينٌ وكفيل . وقد تقدَّم أنَّ " سألَ " يُعَلَّقُ لكونِه سبباً في العِلم . وأصلُه أن يتعدَّى ب عن أو بالباء ، كقولِه : { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } [ الفرقان : 59 ] [ وقولِه : ]
4308 فإنْ تَسْألوني بالنساء . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فالجملةُ في موضعِ نصبٍ بعد إسقاطِ الخافضِ ، كما عَرَفْت تقريرَه غيرَ مرةٍ . وقرأ عبد الله : " أم لهم شِركٌ ، فليَأْتوا بشِرْكِهم " . بلفظِ المصدرِ .
(1/5362)
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)
قوله : { يَوْمَ يُكْشَفُ } : منصوبٌ بقولِه " فَلْيَأْتُوا " أو بإضمار اذْكُرْ ، فيكونُ مفعولاً به أو بمحذوفٍ ، وهو ظرفٌ ، أي : يومَ يُكْشَف يكونُ كَيْتَ وكَيْتَ ، أو بخاشعة ، قاله أبو البقاء . وفيه بَعْدٌ و " عن ساقٍ " قائمٌ مَقامَ الفاعلِ ، وابنُ مسعود وابن أبي عبلة " يَكْشِفُ " بالياءِ مِنْ تحتُ مبنياً للفاعلِ وهو اللهُ . وقرأ ابنُ عباس وعبد الله أيضاً " نكشِفُ " بكسر النون . وعن ابن عباس " تَكْشِفُ " بالتاء من فوق مبنياً للفاعل ، أي : الشدَّةُ والساعةُ . وعنه كذلك أيضاً مبنياً للمفعول وهي/ مُشْكِلَةٌ؛ لأنَّ التأنيثَ لا معنى له هنا ، إلاَّ أَنْ يُقالَ : إن المفعولَ مستترٌ ، أي : تُكْشَفُ هي ، أي : الشِّدَّةُ .
قوله : { عَن سَاقٍ } ، أي : تَكْشِفُ عن ساقِها؛ ولذلك قال الزمخشري : " وتكشِفُ بالتاء مبنياً للفاعلِ والمفعولِ جميعاً . والفعلُ للساعةِ ، أو للحال ، أي : تَشْتَدُّ الحالُ أو الساعةُ " . وقُرِىء " يُكْشِفُ " بضمِّ الياء أو التاء وكسرِ الشين ، مِنْ " أَكْشَفَ " إذا دَخَلَ في الكَشْفِ . وأَكْشَفَ الرجلُ : إذا انقلَبَتْ شَفَتُهُ العليا لانكشافِ ما تحتَها . وكَشْفُ الساقِ كنايةٌ عن الشِّدَّةِ ، لا يَمْتري في ذلك مَنْ ذاق طعم الكلامِ ، وسَمعَ قولَ العربِ في نَظْمها ونثرها . قال الراجزُ :
4309 عَجِبْتُ مِنْ نفسي ومن إشفاقِها ... ومِنْ طِرادي الطيرَ عن أَرْزاقِها
في سَنَةٍ قد كَشَفَتْ عن ساقِها ... حمراءَ تَبْرِي اللحمَ عَنْ عُراقها
وقال حاتم الطائي :
4310 أخو الحربِ إنْ عَضَّتْ به الحربُ عَضَّها ... وإن شَمَّرَتْ عن ساقِها الحربُ شَمَّرا
وقال آخر :
4311 كَشَفَتْ لهم عن ساقِها ... وبدا من الشَّرِّ الصُّراحُ
وقال آخر :
4312 قد شَمَّرَتْ عن ساقِها فَشُدُّوا ... وجَدَّت الحربُ بكم فَجُدُّوا
وقال آخر :
4313 صبراً أُمامُ إنَّه شرٌّ باقِ ... وقامَتِ الحربُ بنا على ساقِ
قال الزمخشري : " الكَشْفُ عن الساق والإِبداء عن الخِدام مَثَلٌ في شدةِ الأمرِ وصُعوبةِ الخَطْبِ . وأصلُه في الرَّوْعِ والهزيمةِ وتشميرِ المُخَدَّرات عن سُوْقِهِنَّ في الحرب ، وإبداءِ خِدامِهِنَّ عند ذلك .
وقال ابن قيس الرقياتِ :
4314 تُذْهِلُ الشيخَ عن بنيه وتُبْدي ... عن خِدام العَقِليةُ العَذْراءُ
انتهى وما أحسنُ ما أَبْدَى أبو القاسمِ وجهَ علاقةِ هذا المجازِ فللَّه دَرُّه . وما أَوْرَدَه أهلُ التفسير فإنَّه مؤولٌ وكذلك حديثُ ابنِ مسعود ونحوه . قال الزمخشري : " ومَنْ أَحَسَّ بمضارِّ فَقْدِ هذا العِلْمِ عَلِمَ مقدارَ عِظَمِ منافعِه " انتهى . ويعني عِلْمَ البيان .
(1/5363)
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
قوله : { خَاشِعَةً } : حالٌ مِنْ مرفوع " يُدْعَوْن " و " أبصارُهم " فاعلٌ به ونَسَب الخشوعَ للأبصارِ ، وإنْ كانت الأعضاءُ كلُّها كذلك لظهورِ أَثَرِه فيها .
وقوله : { وَهُمْ سَالِمُونَ } حالٌ مِنْ مرفوع " يُدْعَوْن " الثانيةِ .
(1/5364)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44)
قوله : { وَمَن يُكَذِّبُ } : منصوب : إمَّا نَسَقاً على الياء ، وإمَّا على المفعولِ معه وهو مرجوحٌ لإِمكانِ النَّسَقِ مِنْ غيرِ ضعفٍ . وما بعدها تقدَّم إعرابُ مِثْلِه .
(1/5365)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)
قوله : { إِذْ نادى } " إذا " منصوبٌ بمضافٍ محذوفٍ ، أي : ولا تكُنْ حالُك كحالِه ، أو قصتُك كقصتِه ، في وقتِ ندائِه . ويَدُلُّ على المحذوفِ أنَّ الذواتِ لا يَنْصَبُّ عليها النهيُ ، إنما ينصَبُّ على أحوالِها وصفاتِها .
قوله : { وَهُوَ مَكْظُومٌ } جملةٌ حاليةٌ من الضمير في " نادى " والمَكْظومُ : المُمْتَلِىءُ حُزْناً وغَيْظاً . قال ذو الرمة :
4315 وأنتَ مِنْ حُبِّ مَيٍّ مُضْمِرٌ حُزْناً ... عاني الفؤادِ قريحُ القلبِ مكظومُ
وتقدَّمت مادتُه في آل عمران .
(1/5366)
لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)
قوله : { تَدَارَكَهُ } : قرأ أُبي وعبدُ الله وابنُ عباس " تدارَكَتْه " بتاء التأنيث لأجلِ اللفظِ به ، والحسنُ وابنُ هرمز والأعمش " تَدَّارَكُه " بتشديدِ الدالِ وخُرِّجَتْ على أنَّ الأصلَ " تَتَدارَكُه " بتَاءَيْن مضارعاً فأدغم ، وهو شاذٌّ؛ لأنَّ الساكنَ الأولَ غيرُ حرفِ لينٍ وهي كقراءةِ البزي { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } [ النور : 15 ] { نَاراً تلظى } [ الليل : 14 ] وهذا على حكايةِ الحالِ؛ لأنَّ القصةَ ماضيةٌ فإيقاعُ المضارعِ هنا للحكاية .
(1/5367)
وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)
قوله : { لَيُزْلِقُونَكَ } : قرأها نافعٌ بفتح الياءِ ، والباقون بضمِّها . فأمَّا قراءةُ الجماعةِ فمِنْ أَزْلَقَه ، أي : أَزَلَّ رِجْلَه ، فالتعديةُ بالهمزةِ مِنْ زَلَق يَزْلِقُ . وأمَّا قراءةُ نافع فالتعديةُ بالحركةِ يقال : زَلِقَ بالكسر وزَلَقْتُه بالفتح . ونظيرُه : شَتِرَتْ عَيْنُه بالكسرِ ، وشَتَرها اللَّهُ بالفتح ، وقد تقدَّم لذلك أخواتٌ . وقيل : زَلَقه وأَزْلَقه بمعنى واحدٍ . ومعنى الآية في الاصابةِ بالعينِ . وفي التفسير قصةٌ . والباءُ : إمَّا للتعديةِ كالداخلةِ على الآلةِ ، أي : جعلوا أبصارهم كالآلةِ المُزْلِقَةِ لك ، كعَمِلْتُ بالقَدوم ، وإمَّا للسببيةِ ، أي : بسبب عيونِهم . /
قوله : { لَمَّا سَمِعُواْ الذكر } مَنْ جَعَلْها ظرفيةً جَعَلها منصوبةً ب " يُزْلِقُونك " ، ومَنْ جعلها حرفاً جَعَلَ جوابَها محذوفاً للدلالةِ ، أي : لَمَّا سَمِعوا الذِّكْرَ كادوا يُزْلِقونك ، ومَنْ جَوَّزَ تقديمَ الجوابِ قال : هو هنا متقدِّمٌ .
(1/5368)
الْحَاقَّةُ (1)
قوله : { الحاقة } : مبتدأٌ و " ما " مبتدأٌ ثانٍ ، و " الحاقَّةُ " خبرُه ، والجملةُ خبرُ الأوِل ، وقد تَقَدَّم تحريرُ هذا في الواقعة . وهناك سؤالٌ حسنٌ وجوابٌ مثلُه فعليك باعتبارِه . والحاقَّةُ فيها وجهان ، أحدهما : أنَّه وصفٌ اسمُ فاعلٍ بمعنى : أنها تُبْدِي حقائق الأشياءِ . وقيل : لأنَّ الأمرَ يَحِقُّ فيها فهي من باب : ليلٌ نائمٌ ونهارٌ صائمٌ . وقيل : مِنْ حَقَّ الشيءُ : ثَبَتَ فهي ثابتةٌ كائنةٌ . وقيل : لأنها تَحُقُّ كلَّ مُحاقٍّ في دينِ اللَّهِ ، أي : تَغْلِبُه . مِنْ حاقَقْتُه فحقَقْتُه أحُقُّه ، أي : غَلَبْتُه . والثاني : أنها مصدرٌ كالعاقبةِ والعافيةِ .
(1/5369)
مَا الْحَاقَّةُ (2)
قوله : { مَا الحاقة } : في موضعِ نصبٍ على إسقاطِ الخافض؛ لأنَّ أَدْرَى بالهمزةِ ، ويتعدَّى لاثنينِ ، الأَولُ بنفسه . والثاني : بالباءِ ، قال تعالى : { وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ } [ يونس : 16 ] فلَمَّا وَقَعَتْ جملةُ الاستفهامِ مُعَلِّقَةً لها كانَتْ في موضوع المفعولِ الثاني ، ودونَ الهمزة تَتَعْدَّى لواحدٍ بالباء نحو : دَرَيْتُ بكذا ، ويكونَ بمعنى عَلِمَ فيتعدَّى لاثنين .
(1/5370)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)
قوله : { فَأُهْلِكُواْ } : هذه قراءةُ العامَّةِ . وقرأ زيدُ ابن علي " فَهَلَكوا " مبنياً للفاعلِ مِنْ هَلَكَ ثلاثياً .
قوله : { بالطاغية } ، أي : بالصيحةِ المتجاوزةِ للحدِّ . وقيل : بالفَعْلةِ الطاغيةِ . وقيل : بالرجلِ الطاغيةِ ، وهو عاقِرُ الناقةِ ، والهاء للمبالغةِ ، فالطاغيةُ على هذه الأوجه صفةٌ . وقيل : الطاغيةُ مصدرٌ ويُوَضِّحُه { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ } [ الشمس : 11 ] والباءُ للسببيةِ على الأقوالِ كلِّها ، إلاَّ القولَ الأولَ فإنها للاستعانةِ ك " عَمِلْتُ بالقَدُوم " .
(1/5371)
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)
قوله : { حُسُوماً } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أَنْ ينتصِبَ نعتاً لِما قبلها . والثاني : أَنْ ينتصِبَ على المصدرِ بفعلٍ مِنْ لفظِها ، أي : تَحْسِمْهم حُسوماً . الثالث : أَنْ ينتصِبَ على الحالِ ، أي : ذاتَ حُسوم . الرابع : أَنْ يكونَ مفعولاً له ، ويَتَّضِحُ ذلك بقول الزمخشري : " الحُسوم : لا يَخْلو مِنْ أَنْ يكونَ جمعَ حاسِم كشاهِد وشُهود ، أو مصدراً كالشُّكور والكُفور . فإنْ كانَتْ جمعاً فمعنى قولِه " حُسوماً " : نَحِسات حَسَمَتْ كلَّ خيرٍ ، واستأصَلَتْ كلَّ بركةٍ ، أو متتابعةً هبوبَ الريح ، ما خَفَتَتْ ساعةً ، تمثيلاً لتتابُعِها بتتابُعِ فِعْلِ الحاسمِ في إعادة الكيِّ على الدَّاء كَرَّةً بعد أخرى حتى يَنْحَسِمَ . وإن كان مصدراً : فإمَّا أَنْ ينتصِبَ بفعلِه مضمراً ، أي : تَحْسِم حُسوماً ، بمعنى : تَسْتأصِلُ استئصالاً ، أو يكونُ صفةً كقولِ : ذاتَ حُسومٍ ، أو يكونُ مفعولاً له ، أي : سَخَّرها عليهم للاستئصالِ . وقال عبد العزيز بن زُرارة الكلابي :
4316 ففرَّق بين بَيْنِهُمُ زمانٌ ... تتابَعَ فيه أعوامٌ حُسومُ
انتهى . قال المبرد : الحُسوم : الفَصْلُ حَسَمْتُ الشيء من الشيء فَصَلْتُه منه ومنه الحُسام . وقال الشاعر :
4317 فأرسَلْتَ ريحاً دَبُوراً عقيماً ... فدارَتْ عليهمْ فكانَتْ حُسُوماً
وقال الليث : " هي الشُّؤْمُ : يقال : هذه ليالي الحُسومِ ، أي : تَحْسِم الخيرَ عن أهلِها . وعندي أنَّ هذين القولَيْن يَرْجِعان إلى القول الأول؛ لأنَّ الفصلَ قَطْعٌ ، وكذلك الشُّؤْمُ لأنَّه يقطعُ الخيرَ . والجملةُ مِنْ قولِه " سَخَّرها " يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ل " ريح " ، وأَنْ تَكونَ حالاً منها لتخصُّصها بالصفةِ ، أو من الضميرِ في " عاتية " ، وأَنْ تكون مستأنفةً .
قوله : { فِيهَا صرعى } صَرْعَى حالٌ ، جمعُ صَريع نحو : قتيل وقَتْلى ، وجريح وجَرْحى ، والضمير في " فيها " للأيام والليالي ، أو للبيوت ، أو للرِيح ، أظهرُها الأولُ لقُرْبِه ، ولأنَّه مذكورٌ .
وقوله : { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ } حالٌ من القوم ، أو مستأنفةٌ . وقرأ أبو نهيك " أَعْجُزُ " على أَفْعُل نحو : ضَبُع وأَضْبُع . وقُرِىء " نخيل " حكاه الأخفشُ ، وقد تقدَّم أنَّ اسم الجنس يُذَكَّرُ ويؤنَّثُ ، واختير هنا تأنيثهُ للفواصلِ ، كما اخْتِير تذكيرُه لها في سورةِ القمر كما تقدَّم التنبيهُ عليه .
(1/5372)
فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
قوله : { فَهَلْ ترى } : أدغم اللامَ في التاءِ أبو عمروٍ وحَده ، وتقدم في الملك . و " مِنْ باقية " مفعولُه و " مِنْ " مزيدةٌ ، والتاءُ في " باقية " قيل : للمبالغةِ ، أي : مِنْ باقٍ ، والأحسنُ أَنْ تكونَ صفةً لفرقةٍ أو طائفة ونحو ذلك .
(1/5373)
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9)
قوله : { وَمَن قَبْلَهُ } : قرأ بكسر القاف وفتح الباء أبو عمروٍ والكسائي ، أي : ومَنْ هو في جهتِه ، ويؤيِّدُه قراءةُ أبي موسى و " مَنْ تِلْقَاءَه " وقرأه أُبَيٌّ " ومَنْ تبعه " ، والباقون بالفتحِ والسكونِ على أنَّه ظرفٌ ، أي : ومَنْ تقدَّمه .
قوله : { بِالْخَاطِئَةِ } إمَّا أَنْ يكونَ صفةً/ ، أي : بالفَعْلَةِ أو الفَعَلات الخاطئة ، وإمَّا أن يكون مصدراً كالخَطَأ فيكون كالعافية والكاذبة .
(1/5374)
إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)
قوله : { فِي الجارية } : غَلَبَ استعمالُ " الجارية " في السفينة كقولِه :
4318 تِسْعُونَ جاريةً في بطنِ جاريةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هو من الألغاز ، قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار } [ الشورى : 32 ] .
(1/5375)
لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
قوله : { وَتَعِيَهَآ } : العامَّة على كسرِ العينِ وتخفيفِ الياءِ ، وهو مضارعٌ وَعى منصوبٌ عطفاً على " لِنَجْعَلَها " . وابن مصرف وأبو عمروٍ في رواية هارونَ عنه وقنبلَ بإسكانها تشبيهاً له ب " رَحْم " و " شَهْد " ، وإنْ لم يكُنْ منه ، ولكنْ صارَ في اللفظِ بمنزلة فَعِل الحلقيِّ العينِ . ورُوِيَ عن حمزةَ إخفاءُ الكسرةِ . ورُوِي عن عاصمٍ وحمزةَ أيضاً تشديدُ الياءِ . وهو غَلَطٌ عليها ، وإنما سَمِعهما الراوي يُبَيِّنان حركةَ الياءِ فظنَّها شَدَّةً . وقيل : أَجْرَيا الوصلَ مُجْرى الوقفِ فَضَعَّفا الحرفَ وهذا لا ينبغي أَنْ يُلْتَفَتَ إليه . ورُوِيَ عن حمزةَ أيضاً وموسى بن عبد الله العبسيِّ " وتَعِيْها " بسكونِ الياءِ ، وفيها وجهان : الاستئنافُ والعطفُ على المنصوبِ ، وإنما سَكَّنا الياءَ استثقالاً للحركةِ على حرفِ العلةِ كقراءةِ { تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } [ المائدة : 89 ] وقد مَرَّ .
(1/5376)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13)
قوله : { وَاحِدَةٌ } : تأكيدٌ ونَفْخَةٌ مصدرٌ قام مقامَ الفاعلِ . وقال ابن عطية : " لَمَّا نُعِتَ صَحَّ رَفْعُهُ " انتهى . ولو لم يُنْعَت لصَحَّ رفعُه لأنه مصدرٌ مختصٌ لدلالتِه على الوَحْدة ، والممنوعُ عند البصريين إنما هو إقامةُ المبهمِ نحو : ضُرِب ضَرْبٌ . والعامَّةُ على الرفعِ فيهما ، وقرأ أبو السَّمَّال بنصبِهما كأنه أقام الجارَّ مُقامَ الفاعلِ ، فترك المصدرَ على أصله ، ولم يؤنِّثِ الفعلَ وهو " نُفخَ " لأنَّ التأنيثَ مجازيٌ ، وحَسَّنه الفَصْلُ .
(1/5377)
وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)
[ قوله : ] { وَحُمِلَتِ الأرض } : قرأه العامَّةُ بتخفيف الميمِ ، أي : وحَمَلَتْها الريحُ أو الملائكةُ أو القُدرة ثم بُني . وقرأ ابنُ عامرٍ في روايةٍ والأعمش وابن أبي عبلة وابن مقسم بتشدِيدِها ، فجازَ أَنْ يكونَ التشديدُ للتكثير ، فلم يُكْسِبِ الفعلَ مفعولاً آخرَ ، وجازَ أَنْ يكونَ للتعدية ، فيُكْسِبَه مفعولاً آخرَ ، فيُحْتمل أَنْ يكونَ الثاني محذوفاً ، والأولُ هو القائمُ مقامَ الفاعلِ تقديرُه : وحُمِّلَتِ الأرضُ والجبالُ ريحاً تُفَتِّتُها؛ لقوله { فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] . وقيل : التقدير حُمِّلَتا ملائكةً . ويُحْتَمَل أَنْ يكونَ الأولُ هو المحذوفَ ، والثاني هو القائمُ مقامَ الفاعلِ .
قوله : { فَدُكَّتَا } : أي : الأرضُ والجبالُ؛ لأنَّ المرادَ الشيئان المتقدِّمان كقوله : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] .
(1/5378)
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15)
قوله : { فَيَوْمَئِذٍ } : منصوبٌ ب " وَقَعَتْ " . و " وقعتِ الواقعةُ " لا بُدَّ فيه مِنْ تأويلٍ : وهو أَنْ تكونَ " الواقعةُ " صارَتْ عَلَمَاً بالغَلَبة على القيامة أو الواقعةِ العظيمة ، وإلاَّ ف " قام القائم " لا يجوزُ؛ إذ لا فائدةَ فيه ، وتقدَّم هذا في قوله { إِذَا وَقَعَتِ الواقعة } [ الواقعة : 1 ] . والتنوين في " يومئذٍ " للعوضِ مِنْ الجملةِ ، تقديره : يوم إذ نُفِخَ في الصُّور .
(1/5379)
وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)
قوله : { على أَرْجَآئِهَآ } : خبرُ المبتدأ . والضميرُ للسماء . وقيل : للأرض . قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : ما الفرقُ بين قولِه " والمَلَكُ " وبين أنْ يقال : والملائكة؟ قلت : المَلَكُ أعَمُّ مِنْ الملائكةِ؛ ألا ترى أنَّ قولَك " ما مِنْ مَلَكٍ إلاَّ وهو شاهِدٌ " أعمُّ من قولِك : " ما مِنْ ملائكة " انتهى . قال الشيخ : " ولا يَظْهر أنَّ المَلَكَ أعَمُّ مِنْ الملائكةِ؛ لأنَّ المفردَ المحلَّى بالألف واللام [ الجنسية ] قُصاره أَنْ يكونَ مُراداً به الجمعُ المُحلَّى [ بهما ] ولذلك صَحَّ الاستثناءُ منه ، فقصاراه أن يكونَ كالجمعِ المُحَلَّى بهما ، وأمَّا دَعْواه أنه أعَمُّ منه بقوله : " ألا ترى إلى آخره " فليس دليلاً على دَعْواه؛ لأنَّ " مِنْ مَلَكٍ " نكرةٌ مفردةٌ في سياقِ النفيِ قد دَخَلَتْ عليها " مِنْ " المُخَلِّصةُ للاستغفارق . فَشَمَلَتْ كلَّ مَلَكٍ ، فاندرج تحتها الجمعُ لوجود الفردِ فيه ، فانتفى كلُّ فردٍ بخلافِ " مِنْ ملائكة " فإنَّ " مِنْ " دَخَلَتْ على جمع مُنكَّرٍ ، فَعَمَّ في كلِّ جمعٍ جمعٍ من الملائكة ، ولا يلزَمُ مِنْ ذلك انتفاءُ كلِّ فردٍ مَنْ الملائكة . لو قلت : " ما في الدارِ مِنْ رجال " جاز أَنْ يكونَ فيها واحدٌ؛ لأنَّ النفيَ إنما انسحب على جمعٍ ، ولا يَلْزَمُ مِنْ انتفاءِ الجمعِ أَنْ ينتفيَ المفرد ، والمَلَكُ في الآية ليس في سياقِ نفيٍ دَخَلَتْ عليه " مِنْ " وإنما جيء به مفرداً لأنه أَخفُّ ، ولأنَّ قولَه " على أَرْجائِها " يَدُلُّ على الجَمْعِ؛ لأنَّ الواحدَ بما هو واحدٌ لا يمكنُ أَنْ يكونَ " على أرجائها " في وقتٍ واحدٍ ، بل في أوقاتٍ . والمرادُ واللَّهُ أعلَمُ أنَّ الملائكةَ على أرجائها ، لا أنه مَلَكٌ/ واحدٌ ينتقِلُ على أرجائها في أوقات " .
قلت : الزمخشريُّ مَنْزَعُه في هذا ما قدَّمْتُه عنه في أواخرِ سورةِ البقرة عند قوله { وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } فليُراجَعْ ثمة . وأمَّا قولُ الشيخ : " ما [ في الدار ] مِنْ رجال ، إنَّ النفي مَنسَحِبٌ على رُتَبِ الجمعِ " ففيه خلافٌ للناسِ ونَظَرٌ . والتحقيقُ ما ذكره . والضمير في " فوقهم " يجوزُ أَنْ يعودَ على المَلَك؛ لأنه بمعنى الجمع كما تقدَّم ، وأَنْ يعودَ على الحامِلينَ الثمانيةِ . وقيل : يعود على جمع العالَمِ ، أي : إن الملائكةَ تحملُ عَرْشَ اللَّهِ تعالى فوق العالَمِ كلِّه .
قوله : { ثمانيةٌ } أَبْهم اللهُ تعالى هذا العددَ ، فلم يَذْكُرْ له تمييزاً فقيل : تقديرُه ثمانية أشخاصٍ . وقيل : ثمانيةُ صُنوفٍ .
(1/5380)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)
قوله : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } : " تُعْرَضُون " هو جوابُ " إذا " مِنْ قولِه " فإذا نُفِخَ " ، قاله الشيخ . وفيه نظرٌ ، بل جوابُها ما تقدَّم مِنْ قولِه " وقَعَتِ الواقعة " و " تُعْرَضُون " على هذا مستأنفٌ .
قوله : { لاَ تخفى } قرأ الأخَوان بالياءِ مِنْ تحتُ؛ لأن التأنيثَ مجازيٌّ ، وللفصل أيضاً ، وهما على أصلِهما في إمالةِ الألفِ . والباقون " لا تَخْفى " بالتاءِ مِنْ فوقُ للتأنيثِ اللفظيِّ ، والفتحُ وهو الأصلُ .
قوله : { وَاهِيَةٌ } ، أي : ضعيفة . يقال : وَهَى الشيءُ يَهِي وَهْياً ، أي : ضَعُف ووهَى السِّقاءُ : انخرق . قال :
4319 خَلِّ سبيلَ مَنْ وَهَى سِقاؤُهُ ... ومَنْ هُرِيْقَ بالفَلاةِ ماؤُه
وقوله : { أَرْجَآئِهَآ } ، أي : جوانُبها ونواحيها . واحِدُها : رَجا بالقصر ، يُكتب الألف عكسَ رمى ، لقولهم رَجَوان قال :
4320 فلا يُرْمَى بِيَ الرَّجَوانِ أني ... أقَلُّ القومِ ، مَنْ يُغْني مكاني
وقال الآخر :
4321 كأَنْ لم تَرَيْ قبلي أسيراً مُقَيدَّاً ... ولا رجلاً يُرْمى به الرَّجَوانِ
(1/5381)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)
قوله : { هَآؤُمُ } : أي : خُذُوا . وفيها لغاتٌ ، وذلك أنَّها تكونُ فِعْلاً صريحاً ، وتكونُ اسمَ فعلٍ ، ومعناها في الحالَيْنِ خُذْ . فإن كانَتْ اسمَ فعلٍ وهي المذكورةُ في الآيةِ الكريمةِ ففيها لغتان : المدُّ والقَصْرُ تقول : ها درهماً يا زيدُ ، وهاءَ درهماً . ويكونان كذلك في الأحوالِ كلِّها مِنْ إفرادٍ وتثنيةٍ وجمعٍ وتذكيرٍ وتأنيثٍ ، وتتصلُ بهما كافُ الخطابِ اتصالَها باسمِ الإِشارةِ ، فَتُطابِقُ مخاطبَك بحسب الواقع ، مطابَقَتَها وهي ضميرُهُ ، نحو : هاكَ هاءكَ ، هاكِ هاءَكِ إلى آخرِه ، وتَخْلُفُ كافَ الخطابِ همزةُ " هاء " مُصَرَّفةً تَصَرُّفَ كافِ الخطابِ ، فتقول : هاءَ يا زيدُ ، وهاءِ يا هندُ ، هاؤُما ، هاؤُم ، هاؤُنَّ ، وهي لغةُ القرآن .
وإذا كانت فِعْلاً صريحاً لاتصالِ الضمائر البارزةِ المرفوعةِ بها كان فيها ثلاثُ لغاتٍ ، إحداها : أَنْ تكونَ مثلَ : عاطى يُعاطي . فيُقال : هاءِ يا زيدُ ، هائِي يا هندُ ، هائِيا يا زيدان ، أو يا هندان ، هاؤُوا يا زيدون ، هائِيْنَ يا هنداتُ . الثانية : أَنْ تكونَ مثلَ " هَبْ " فتقول : هَأْ ، هَئِي ، هَآ ، هَؤُوا ، هَأْنَ . مثلَ : هَبْ ، هَبِي ، هَبا ، هَبُوا ، هَبْنَ .
الثالثة : أَنْ يكونَ مثلَ : خَفْ أمراً مِنَ الخوفِ فيقال : هَأْ ، هائي ، هاءا ، هاؤوا ، هَأْنَ ، مثلَ : خَفْ ، خافِي ، خافا ، خافُوا ، خَفْنَ .
واختُلِفَ في مَدْلولِها : فالمشهورُ أنَّها بمعنى خُذوا . وقيل : معناها تعالوا ، فيتعدَّى ب " إلى " . وقيل : هي كلمةٌ وُضِعَتْ لإِجابةِ الداعي عند الفرحِ والنشاطِ . وفي الحديث : " أنه ناداه أعرابيٌّ بصوتٍ عالٍ ، فجاوبَه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم : هاؤُم بصَوْلةِ صَوْتِه " ومِنْ كوْنِها بمعنى " خُذْ " الحديث في الرِّبا : " إلاَّ هاءَ وهاء " أي : يقول كلُّ واحدٍ من المتبايعَيْن . خذ . وقيل معناها اقصِدوا . وزعم هؤلاء أنها مركبةٌ مِنْ ها التنبيه وأمُوا من الأَمِّ ، وهو القَصْدُ فصَيَّره التخفيفُ والاستعمالُ إلى هاؤم . وقيل الميم ضميرُ جماعةِ الذكورِ . وزَعَم القُتَبيُّ أنَّ الهمزةَ بدلٌ من الكافِ ، فإنْ عَنَى أنَّها تَحُلُّ مَحَلَّها فصحيحٌ . وإنْ عَنَى البدَل الصناعيَّ فليس بصحيح .
وقوله : { هَآؤُمُ } يطلبُ مفعولاً يتعدَّى إليه بنفسِه ، إنْ كان بمعنى خُذْ أو اقْصِدْ ، وب " إلى " إنْ كان بمعنى تعالَوا . و " اقْرؤُوا " يَطْلُبُه أيضاً فقد تنازَعا في " كتابِيَهْ " وأعملَ الثاني للحَذْفِ من الأولِ . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في سورة الكهفِ وفي غيرِها . والهاءُ في " كتابِيَهْ وحِسابِيَهْ وسُلْطانِيَهْ ومالِيَهْ " للسَّكْت ، وكان حقُّها أَنْ تُحْذَفَ وَصْلاً ، وتَثْبُتَ وَقْفاً ، وإنما أُجْرِيَ الوَصْلُ مُجْرَى الوقفِ ، أو وُصِلَ بنيَّة الوقفِ في " كتابِيَهْ وحِسابِيَهْ " اتفاقاً فأَثْبَتَ الهاء ، وكذلك في " مالِيه وسُلْطانِيَهْ " ، و " ما هِيَهْ " في { القارعة } [ القارعة : 10 ] عند القُرَّاءِ كلِّهم إلاَّ حمزةَ رحمه الله فإنه حَذَفَ الهاءَ مِنْ هذه الكَلِمِ الثلاثِ وَصْلاً وأَثْبَتَها وقفاً؛ لأنَّها في الوقفِ يُحْتاج إليها لتحصينِ حركةِ الموقوفِ عليه ، وفي الوصلِ يُسْتَغْنَى عنها .
(1/5382)
فإنْ قيل : فلِمَ لَمْ يَفْعَلْ ذلك في " كِتَابِيَهْ/ وحسابِيَهْ " فالجوابُ : أنه جَمْعٌ بني اللغتين ، هذا في القراءاتِ السبعِ . وقرأ ابنُ محيصن بحَذْفِها في الكَلِم كلِّها وَصْلاً ووَقْفاً ، إلاَّ في " القارعة " ، فإنه لم يَتَحَقَّقْ عنه فيها نَقْلٌ . وقرأ الأعمشُ وابنُ أبي إسحاق بحَذْفِها فيهنَّ وَصْلاً ، وإثباتِها وَقْفاً . وابن محيصن يُسَكِّنُ الياءَ في الكَلِمِ المذكورةِ وَصْلاً . والحقُّ أنها قراءةٌ صحيحةٌ أعني ثبوتَ هاءِ السكتِ وَصْلاً ، لثبوتِها في خَطِّ المصحفِ الكريمِ ، فلا يُلْتَفَتُ إلى قولِ الزهراوي : " إنَّ إثباتَها في الوصلِ لَحْنٌ ، لا أعلَمُ أحداً يُجيزه " . وقد تقدَّم الكلامُ على هاءِ السكتِ في البقرة . والأنعام بأشبعَ مِنْ هذا فعليك باعتبارِه .
(1/5383)
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)
قوله : { رَّاضِيَةٍ } : فيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه على المجازِ ، جُعِلَتِ العِيشةُ راضيةً لمحَلِّها وحُصولِها في مُسْتحقِّيها ، أو أنها لا حالَ أكملُ مِنْ حالِها . الثاني : أنَّه على النَّسَبِ أي : ذاتِ رِضا نحو : لابِن وتامِر . الثالث : أنها ممَّا جاء فيه فاعِل بمعنى مَفْعول نحو : { مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] أي : مَدْفوق ، كما جاء مَفْعول بمعنى فاعِل كقولِه : { حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإِسراء : 45 ] أي : ساتِراً ، وقد تقدَّم ذلك .
(1/5384)
قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)
والقُطوف : جمعُ قِطْفٍ ، وهو فِعْل بمعنى مَفْعول كالرِّعْي والذِّبْح وهو ما يَجْتَنيه الجاني مِن الثمار .
(1/5385)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
قوله : { كُلُواْ } : أي : يُقال لهم : كُلوا : و " هَنيئاً " قد تقدَّم في أولِ النساء . وجَوَّز الزمخشريُّ فيه هنا أن ينتصِبَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي : أَكْلاً هَنيئاً ، وشُرْباً هنيئاً ، وأَنْ ينتصِبَ على المصدرِ بعاملٍ مِنْ لفظِه مقدرٍ أي : هَنِئْتُمْ بذلك هَنيئاً . و " بما أَسْلَفْتُم " الباءُ سببيةٌ ، و " ما " مصدريةٌ أو اسميةٌ .
(1/5386)
مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28)
قوله : { مَآ أغنى } : يجوز أَنْ يكونَ نفياً ، وأَنْ يكونَ استفهامَ توبيخٍ لنفسِه .
(1/5387)
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30)
وقوله : { خُذُوهُ } كقولِه : { كُلُواْ } [ الحاقة : 24 ] في إضمار القولِ . وقوله : { ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ } تقديمُ المفعولِ يُفيد الاختصاصَ عند بعضهم؛ ولذلك قال الزمخشري : " ثم لا تَصْلُوه إلاَّ الجحيمَ " . قال الشيخ : " وليس ما قاله مَذْهَباً لسيبويه ولا لحُذَّاقِ النحاة " . قلت : قد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ مُتْقَنَةً ، وأنَّ كلامَ النحاةِ لا يأبى ما قاله .
(1/5388)
ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)
قوله : { ذَرْعُهَا سَبْعُونَ } : في محلِّ جر صفةً ل " سِلْسِلَةٍ " و " في سِلْسِلَة " متعلِّقٌ ب " اسْلُكوه " والفاءُ لا تَمْنع من ذلك . والذِّراعُ مؤنثٌ ، ولذلك يُجْمَعُ على أفْعُل وسَقَطَتْ التاءُ مِنْ عددِه قال :
4322- أَرْمي عليها وهي فَرْعٌ أَجْمَعُ ... وهي ثلاثُ أَذْرُعٍ وإصبعُ
وزعم بعضُم أنَّ في قولِه : " في سِلْسلة " " فاسلكوه " قلباً ، قال : لأنه نُقِلَ في التفسير أنَّ السِّلسلةَ تَدْخُل مِنْ فيه ، وتخرجُ مِنْ دُبُرِه ، فهي المَسْلُوْكة فيه ، لا هو مَسْلوكٌ فيها . والظاهرُ أنه لا يُحتاج إلى ذلك لأنه رُوي أنَّها لطولِها تُجْعَلُ في عنقِه وتَلتَوي عليه ، حتى تُحيطَ به مِنْ جميعِ جهاتِه ، فهو المَسْلوكُ فيها لإِحاطتِها به .
وقال الزمخشري : " والمعنى في تقديم السِّلسلةِ على السَّلْك مثلُه في تقديمِ الجحيمِ على التَّصْليةِ أي : لا تَسْلُكوه إلاَّ في هذه السلسلةِ و " ثُمَّ " للدلالةِ على التفاوُتِ لِما بين الغَلِّ والتَّصْليةِ بالجَحيم ، وما قبلَها ، وبينَ السَّلْكِ في السِّلسلة لا على تراخي المُدَّة " . ونازعه الشيخُ في إفادةِ التقديم الاختصاصَ كعادتِه ، وجوابُه ما تقدَّم ، ونازَعه أيضاً في أنَّ " ثُمَّ " للدلالة على تراخي الرتبة . وقال : " يمكنُ التراخي الزماني : بأَنْ يَصْلَى بعد أن يُسْلَكَ ، ويُسْلَكَ بعد أَنْ يُؤْخَذَ ويُغَلَّ بمهلةٍ بين هذه الأشياءِ " . انتهى . وفيه نظرٌ : من حيث إن التوعُّدَ بتوالي العذابِ آكَدُ وأقطعُ مِنْ التوعُّدِ بتَفْريقه .
(1/5389)
وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)
وقله : { وَلاَ يَحُضُّ } : الحضُّ : البَعْثُ على الفعلِ والحِرْصُ على وقوعِه ، ومنه حروفُ التحضيض المُبَوَّبُ لها في النحوِ؛ لأنه يُطْلَبُ بها وقوعُ الفعلِ وإيجادُه .
(1/5390)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35)
قوله : { فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ } : في خبرِ " ليس " وجهان ، أحدهما : " له " ، والثاني : " ههنا " ، وأيُّهما كان خبراً تعلَّق به الآخَرُ ، أو كان حالاً مِنْ " حميمٌ " . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ " اليومَ " خبراً البتة لأنه زمانٌ ، والمُخْبَرُ عنه جثةٌ . ومنع المهدويُّ أَنْ يكونَ " ههنا " خبراً ، ولم يَذْكُرِ المانعَ . وقد ذكره القرطبي فقال : " لأنه يَصيرُ المعنى : ليس ههنا طعامٌ إلاَّ مِنْ غسْلين/ ولا يَصِحُّ ذلك لأنَّ ثَمَّ طعاماً غيرَه " . انتهى . وفي هذا نظرِ؛ لأنَّا لا نُسَلِّم أولاً أنَّ ثَمَّ طعاماً غيرَه . فإنْ أَْرَدَ قولَه : { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } [ الغاشية : 6 ] فهذا طعامٌ آخرُ غيرُ الغِسْلين . فالجوابُ : أنَّ بعضَهم ذهب إلى أن الغِسْلينَ هو الضَّريعُ بعينِه فسمَّاه في آيةٍ غِسْليناً ، وفي أخرى ضَريعاً . ولَئِنْ سَلَّمْنا أنهما طعامان فالحَصْرُ باعتبارِ الآكلين . يعني أنَّ هذا الآكلَ انحصَر طعامُه في الغِسْلِيْنِ ، فلا يُنافي أَنْ يكونَ في النار طعامٌ آخر . وإذا قُلْنا : إنَّ " له " الخبر ، وإن " اليوم " و " ههنا " متعلِّقان بما تعلَّقَ هو به فلا إشكال . وكذاك إذا جَعَلْنا " ههنا " هو الخبرَ ، وعَلَّقْنا به الجارَّ والظرفَ ولا يَضُرُّ كونُ العاملِ معنوياً للاتساع في الظروفِ وحروف الجرِّ .
(1/5391)
وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)
قوله : { إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } : صفةٌ ل " طعامٌ " دَخَلَ الحصرُ على الصفةِ ، كقولك : " ليس عندي رجلٌ إلاَّ من بني تميمٍ " والمرادُ بالحميم الصديقُ ، فعلى هذا الصفةُ مختصَّةٌ بالطعامِ أي : ليس له صديق ينفعُه ولا طعامٌ إلاَّ مِنْ كذا . وقيل : التقديرُ : ليس له حميمٌ إلاَّ مِنْ غِسْلين ولا طعامٌ ، قاله أبو البقاء ، فجعل " مِنْ غِسْلين " صفةً للحميم ، كأنَّه أرادَ به الشيءَ الذي يُحَمُّ به البدنُ مِن صديدِ النارِ . ثم قال : " وقيل : من الطعامِ والشرابِ؛ لأنَّ الجميعَ يُطْعَمُ بدليله قولِه : { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ } [ البقرة : 249 ] فعلى هذا يكونُ { إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } صفةً ل " حميم " ول " طعام " ، والمرادُ بالحَميم ما يُشْرَبُ . والظاهرُ أنَّ خبرَ " ليس " هو قوله : " مِنْ غِسْلين " إذا أُرِيد بالحميم ما يُشْرَبُ أي : ليس له شرابٌ ولا طعامٌ إلاَّ غِسْليناً . أمَّا إذا أُريد بالحميمِ الصديقُ فلا يتأتَّى ذلك . وعلى هذا الذي ذكَرْتُه فيُسْألُ عمَّا يُعَلَّقُ به الجارُّ والظرفان؟ والجوابُ : أنها تتعلَّقُ بما تعلَّقَ به الخبرُ ، أو يُجْعَلُ " له " أو " ههنا " حالاً مِنْ " حميم " ، ويتعلَّقُ " اليوم " بما تَعَلَّق به الحالُ . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ " اليومَ " حالاً مِنْ " حميم " ، و " له " و " ههنا " متعلِّقان بما تعلَّق به الحالُ؛ لأنه ظرفُ زمانٍ ، وصاحبُ الحالِ جثةٌ . وهذا الموضِعُ موضِعٌ حَسَنٌ مفيدٌ فتأمّلْه .
والغِسْلِين : فِعْلِيْن مِن الغُسالةِ ، فنونُه وياؤُه زائدتان . قال أهلُ اللغة : هو ما يَجْري من الجِراح إذا غُسِلَتْ . وفي التفسير : هو صَديدُ أهلِ النار . وقيل : شجرٌ يأكلونه .
(1/5392)
لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
قوله : { لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون } : صفةٌ ل " غِسْلين " . والعامَّةُ يَهْمِزُون " الخاطِئُون " وهو اسمُ فاعلٍ مِنْ خَطِىءَ يَخْطأ ، إذا فَعَلَ غيرَ الصوابِ متعمِّداً ، والمُخْطِىءُ مَنْ يفعلُه غيرَ متعمِّدٍ .
وقرأ الزُّهريُّ والعَتكِيُّ وطلحة والحسن " الخاطِيُون " بياءٍ مضمومةٍ بدلَ الهمزة . وقد تقدَّم مثلُه في " مُسْتَهْزِيُون " أولَ هذا الموضوع . وقرأ نافعٌ في روايةٍ ، وشيخُه وشَيْبَةُ بطاءٍ مضمومةٍ دونَ همزِ . وفيها وجهان ، أحدُهما : أنَّه كقراءةِ الجماعةِ ، إلاَّ أنه خُفِّفَ بالحَذْفِ . والثاني : أنه اسمُ فاعلٍ مِن خطا يخطو إذا اتَّبع خطواتِ غيرِه . فيكونُ مِنْ قولِه : { لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } [ النور : 21 ] قاله الزمخشري ، وقد مَرَّ في أول هذا الموضوع أنَّ نافعاً يَقْرأ " الصابِييْنَ " بدونِ همزٍ ، وتقدَّم ما نَقَلَ الناسُ فيها ، وعن ابن عباس : ما الخاطُون كلُّنا نَخْطُو . ورَوى عنه أبو الأسودِ الدؤليُّ : " ما الخاطُون ، إنما هو الخاطئُون وما الصابُون ، إنما هو الصابِئُون " .
(1/5393)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38)
وقوله : { فَلاَ أُقْسِمُ } : قد تقدَّم مثلُه في آخرِ الواقعة ، وأَشْبَعْتُ القولَ ثَمَّةَ إلاَّ أنَّه قيل ههنا : إنَّ " لا " نافيةٌ لفعلِ القسم ، وكأنَّه قيل : لا أَحْتاجُ أَنْ أُقْسِمَ على هذا؛ لأنه حقٌّ ظاهرٌ مُسْتَغْنٍ عن القسمِ ، ولو قيل به في الواقعة لكان حَسَناً .
(1/5394)
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)
قوله : { إِنَّهُ لَقَوْلُ } : هو جواب القسمِ .
(1/5395)
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41)
قوله : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ } : معطوفٌ على الجوابِ فهو جواب . أَقْسَمَ على شيئين ، أحدُهما مُثْبَتٌ ، والآخرُ منفيٌّ وهو من البلاغةِ الرائعة .
قوله : { قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } انتصبَ " قليلاً " في الموضعَيْنِ نعتاً لمصدرٍ أو زمانٍ محذوفٍ أي : إيماناً قليلاً أو زماناً قليلاً . والناصب تُؤْمِنون وتَذَكَّرون ، و " ما " مزيدةٌ/ للتوكيدِ . وقال ابنُ عطيةَ : " ونُصِبَ " قليلاً " بفعلٍ مضمرٍ ، يَدُلُّ عليه " تُؤْمِنون " . وما يُحتمل أَنْ تكونَ نافيةً فيَنْتَفِيَ إيمانُهم البتةَ ، ويُحتمل أَنْ تكونَ مصدريةً ، ويتصفَ بالقلَّةِ ، فهو الإِيمانُ اللغويُّ؛ لأنَّهم قد صَدَّقوا بأشياءَ يسيرةٍ ، لا تُغْني عنهم شيئاً؛ إذ كانوا يُصَدِّقون بأنَّ الخيرَ والصِّلةَ والعفافَ الذي يأمرُ به رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم هو حقٌّ وصوابٌ " . قال الشيخ : " أمَّا قولُه : " قليلاً " نُصِبَ بفعلٍ إلى آخره فلا يَصِحُّ؛ لأن ذلك الفعلَ الدالَّ عليه " تُؤْمنون " : إمَّا أن تكونَ " ما " نافيةً [ أو مصدريةً ] كما ذَهَب إليه . فإنْ كانَتْ نافيةً فذلك الفعلُ المضمرُ الدالُّ عليه " تُؤْمِنون " المنفيُّ ب " ما " يكونُ منفيّاً ، فيكون التقدير : ما تُؤْمِنون قليلاً ما تؤمنون ، والفعلُ المنفيُّ ب " ما " لا يجوزُ حَذْفُه ولا حَذْفُ " ما " ، لا يجوز : " زيداً ما أَضْرِبُه " على تقدير : ما أضربُ زيداً ما أَضْرِبُه . وإنْ كانَتْ مصدريةً كانَتْ : إمَّا في موضع رفعٍ ب " قليلاً " على الفاعلية ، أي : قليلاً إيمانُكم ، ويبقى " قليلاً " لا يتقدَّمه مَا يَعْتمد عليه حتى يعملَ ، ولا ناصبَ له ، وإمَّا في موضعِ رفعٍ على الابتداءِ فيكونُ مبتدأً لا خبرَ له ، لأنَّ ما قبلَه منصوبٌ " .
قلت : لا يريدُ ابنُ عطيةَ بدلالةِ " تُؤْمنون " على الفعلِ المحذوفِ الدلالةَ المذكورةَ في بابِ الاشتغالِ ، حتى يكونَ العاملُ الظاهر مفسِّراً للعاملِ المضمرِ ، بل يريدُ مجرَّدَ الدلالةِ اللفظيةِ ، فليس ما أوردَه الشيخُ عليه مِنْ تمثيلِه بقولِه : " زيداً ما أَضْرِبُه " أي : ما أضربُ زيداً ما أضربه بواردٍ .
وأمَّا الردُّ الثاني فظاهرٌ . وقد تقدَّم لابنِ عطيةَ هذا القولُ في أول سورةِ الأعراف وتكلَّمْتُ معه ثَمَّة . وقال الزمشخريُّ : " والقلَّةُ في معنى العَدَمِ أي : لا تُؤْمنون ولا تَذَكَّرون البتة " . قال الشيخ : " ولا يُرادُ ب " قليلاً " هنا النفيُ المَحْض ، كما زعم ، وذلك لا يكونُ إلاَّ في " أقَلَّ " نحو : " أقَلُّ رجلٍ يقولُ ذلك إلاَّ زيدٌ " وفي " قَلَّ " نحو : " قَلَّ رجلٌ يقولُ ذلك إلاَّ زيدٌ " وقد يُستعمل في قليل وقليلة ، أمَّا إذا كانا مرفوعَيْنِ ، نحوُ ما جَوَّزوا في قولِه :
(1/5396)
4323 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قليلٌ بها الأصواتُ إلاَّ بُغامُها
أمَّا إذا كان منصوباً نحو : " قليلاً ضَرَبْتُ " أو " قليلاً ما ضَرَبْتُ " على أَنْ تكونَ " ما " مصدريةً فإنَّ ذلك لا يجوزُ؛ لأنَّه في " قليلاً ضربْتُ " منصوبٌ ب " ضربْتُ " . ولم تَستعمل العربُ " قليلاً " إذا انتصَبَ بالفعلِ نفياً ، بل مقابلاً لكثير ، وأمَّا في " قليلاً ما ضربْتُ " على أَنْ تكونَ " ما " مصدريةً فتحتاج إلى رفع " قليل " لأنَّ " ما " المصدريةَ في موضعِ رفع على الابتداء " انتهى ما رَدَّ به ، وهو مجردُ دَعْوى .
وقرأ ابن كثير وابن عامر بخلافٍ عن ابن ذكوان بالغَيْبة في " يؤمنون " و " يَذَّكَّرون " حَمْلاً على قولِه : " الخاطِئون " ، والباقون بالخطاب حَمْلاً على " بما تُبْصِرون وما لا تُبْصرون " . وأُبَيٌّ " تتذكَّرون " بتاءين .
(1/5397)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)
قوله : { تَنزِيلٌ } : هذه قراءةُ العامَّة ، أعني الرفعَ على إضمارِ مبتدأ ، أي : هو تنزيلٌ ، وتقدَّم مثلُه . وأبو السَّمَّال " تَنْزيلاً " بالنصبِ على إضمارِ فعل أي : نَزَّل تنزيلاً .
(1/5398)
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)
قوله : { وَلَوْ تَقَوَّلَ } : هذه قراءةُ العامَّةِ . تَفَعَّل من القولِ مبنيّاً للفاعلِ . وقال الزمخشري : " التقوُّلُ افعتالُ القولِ؛ لأن فيه تكلُّفاً من المُفْتَعِل " . وقرأ بعضُهم " تُقُوِّل " مبنياً للمفعول . فإن كان هذا القارىءُ رفع " بعضُ الأقاويل " فذاك ، وإلاَّ فالقائمُ مَقامَ الفاعلِ الجارُّ ، وهذا عند مَنْ يرى قيامَ غيرِ المفعول به مع وجودِه . وقرأ ذكوان وابنه محمد " يقولُ " مضارعُ " قال " . والأقاويلُ : جمعُ أقوالٍ ، وأقوالٌ جمع قَوْل ، فهو نظير " أباييت " جمعُ أَبْيات جمعُ بَيْت . وقال الزمخشري : " وسَمَّى الأقوالَ المتقوَّلةَ أقاويلَ تصغيراً لها وتحقيراً ، كقولك : أعاجيب ، وأضاحيك ، كأنها جمع أُفْعُولة من القَوْل " .
(1/5399)
لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)
قوله : { باليمين } : يجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ على أصلِها غيرَ مزيدةٍ والمعنى : لأَخَذْناه بقوةٍ مِنَّا ، فالباءُ حاليةٌ ، والحالُ من الفاعلِ ، وتكون في حكم الزائدةِ . واليمينُ هنا مَجازٌ عن القوةِ والغَلَبة ، وأَنْ تكونَ مزيدةً ، والمعنى : لأَخَذْنا منه يمينَه ، والمرادُ باليمين الجارِحَةُ ، كما يُفْعَلُ بالمقتول صَبْراً يُؤْخَذُ بيميِنه ، ويُضرب بالسيفِ في جيده مواجهةً ، وهو أشَدُّ عليه . والوتينُ نِياطُ القلبِ ، إذا انقطعَ ماتَ صاحبُه . وقال الكلبي : " هو عِرْقٌ بين العِلْباء والحُلْقوم ، وهما عِلْباوان ، بينهما العِرْقُ ، والعِلْباءُ : / عَصَبُ العُنُق " . وقيل : عِرْقٌ غليظٌ تصادِفُه شَفْرة الناحِرِ . قال الشمّاخ :
4324 إذا بَلَّغْتِني وحَملْتِ رَحْلِي ... عَرابةَ فاشْرَقي بدمِ الوتينِ
(1/5400)
فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)
قوله : { حَاجِزِينَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه نعتٌ ل " أحد " على اللفظِ ، وإنما جُمع على المعنى؛ لأنَّ " أحداً " يَعُمُّ في سياقِ النفي كسائرِ النكراتِ الواقعة في سياقِ النفي ، قاله الزمخشريُّ والحوفيُّ ، وعلى هذا فيكون " منكم " خبراً للمبتدأ ، والمبتدأ " مِنْ أحدٍ " زِيْدَتْ فيه " مِنْ " لوجود شرطَيْها . وضَعَّفه الشيخُ : بأنَّ النفيَ يتسَلَّطُ على كَيْنونتِه منكم ، والمعنى إنما هو على نفي الحَجْزِ عَمَّا يُراد به . والثاني : أَنْ يكونَ خبراً ل " ما " الحجازية و " مِنْ أحد " اسمُها ، وإنما جُمعَ الخبرُ لِما تقدَّم ، و " منكم " على هذا حالٌ؛ لأنه في الأصلِ صفةٌ ل " أحد " أو يتعلَّقُ ب " حاجِزين " . ولا يَضُرُّ ذلك؛ لكونِ معمولِ الخبرِ جارّاً ، ولو كان مفعولاً صريحاً لامتنع . لا يجوز : " ما طعامَك زيدٌ آكلاً " أو يتعلَّقُ بمحذوفٍ على سبيل البيان . و " عنه " متعلِّقٌ ب " حاجزين " على القولَيْن ، والضميرُ للمتقوِّلِ أو للقَتْلِ المدلولِ عليه بقولِه : " لأَخَذْنا " ، " لَقَطَعْنا " .
(1/5401)
وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)
قوله : { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ } : أي : القرآن ، وكذلك " إنه لحَسْرة " . وقيل : إنَّ التكذيبَ به ، لدلالةِ " مكذِّبين " على المصدرِ دلالةَ السَّفيه عليه في قولِه :
4325 إذا نُهِي السَّفيهُ جرى إليه ... وحالفَ والسَّفيهُ إلى خِلافِ
أي إلى السَّفَهِ .
(1/5402)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)
قوله : { سَأَلَ } : قرأ نافع وابنُ عامر بألفٍ مَحْضَةٍ . والباقون بهمزةٍ مُحَقَّقةٍ ، وهي الأصلُ ، وهي اللغةُ الفاشيةُ . ثم لك في " سأل " وجهان أحدُهما : أنْ يكونَ قد ضُمِّنَ معنى دعا؛ فلذلك تعدَّى بالباء ، كما تقول : دعوت بكذا . والمعنى : دعا داعٍ بعذابٍ . والثاني : أَنْ يكونَ على أصلِه . والباءُ بمعنى عن ، كقوله :
4326 فإن تَسْألوني بالنساء . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
" فأسْأل بن خبيرا " ، وقد تقدَّم تحقيقُه . والأولُ أَوْلَى؛ لأن التجوُّزَ في الفعل أَوْلَى منه في الحرف لقوتِه .
وأمَّا القراءةُ بالألفِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها بمعنى قراءةِ الهمزة ، وإنما خُفِّفَتْ بقَلْبِها ألفاً ، وليس بقياسِ تخفيفِ مثِلها ، بل قياسُ تخفيفِها جَعْلُها بينَ بينَ . والباءُ على هذا الوجهِ كما في الوجهِ الذي تقدَّم . الثاني : أنها مِنْ سال يَسال مثلُ خاف يَخاف . وعينُ الكلمةِ واوٌ . قال الزمخشري : " وهي لغةُ قريش يقولون : سِلْتَ تَسالُ ، وهما يتسايلان " . قال الشيخ : " وينبغي أَنْ يُتَثَبَّتَ في قوله : " إنها لغةُ قريشٍ ، لأنَّ ما جاء في القرآنِ من باب السؤالِ هو مهموزٌ ، أو أصلُه الهمزُ ، كقراءةِ مَنْ قرأ " وسَلُوا اللهُ مِنْ فضلِه " [ النساء : 32 ] إذ لا جائزٌ أَنْ يكونَ مِنْ " سال " التي عينُها واوٌ ، إذ كان يكون ذلك " وسَالوا اللهَ " مثلَ " خافوا " ، فيَبْعُدُ أن يجيءَ ذلك كلُّه على لغةِ غيرِ قريشٍ ، وهم الذين نَزَل القرآنُ بلغتِهم إلاَّ يسيراً ، فيه لغةُ غيرِهم . ثم في كلامِ الزمخشريِّ " وهما يتسايَلان " بالياء ، وهو وهمٌ من النسَّاخ ، إنما الصوابُ : يتساوَلان بالواو ، لأنه صَرَّحَ أولاً أنه من السُوال يعني بالواو الصريحةِ ، وقد حكى أبو زيدٍ عن العربِ : " هما يتساولان " . الثالث : أنَّها مِنْ السَّيَلان . والمعنى : سالَ وادٍ في جهنم بعذابٍ ، فالعينُ ياءٌ ، ويؤيِّدُه قراءةُ ابن عباس " سالَ سَيْلٌ " . قال الزمخشريُّ : " والسَّيْلُ مصدرٌ في معنى السائلِ كالغَوْر بمعنى الغائر . والمعنى : اندفع عليهم وادي عذابٍ " انتهى . والظاهرُ الوجهُ الأولُ لثبوتِ ذلك لغةً مشهورةً قال :
4327 سالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ اللهِ فاحشةً ... ضَلَّتْ هُذَيلٌ بما سالَتْ ولم تُصِبِ
وقرأ أُبَيٌّ وعبد الله " سال سالٌ " مثلَ " مال " وتخريجُها : أنَّ الأصلَ " سائلٌ " فحُذِفَتْ عينُ الكلمةِ وهي الهمزةُ ، واللامُ محلُّ الإِعرابِ وهذا كما قيل : " هذا شاكٌ " في شائِكِ السِّلاح وقد تقدَّم الكلامُ على مادةِ السؤالِ في أول البقرة ، / فعليك باعتبارِه .
والباءُ تتعلَّق ب " سال " من السَّيَلان تعلُّقَها ب " سال الماءُ بزيدٍ " . وجَعَلَ بعضُهم الباءَ متعلقةً بمصدرٍ دَلَّ عليه فِعْلُ السؤال ، كأنه قيل : ما سؤالُهم؟ فقيل : سؤالُهم بعذابٍ ، كذا حكاهُ الشيخ عن الإِمام فخر الدين ، ولم يَعْتَرِضْه . وهذا عَجَبٌ؛ فإنَّ قولَه أولاً " إنه متعلِّقٌ بمصدرٍ دَلَّ عليه فِعْلُ السؤال " يُنافي تقديرَه بقولِه : " سؤالُهم بعذاب "؛ لأنَّ الباءَ في هذا التركيبِ المقدَّرِ تتعلَّق بمحذوفٍ لأنها خبرُ المبتدأ ، لا بالسؤال .
وقال الزمخشري : " وعن قتادةَ : سأل سائلٌ عن عذابِ الله بمَنْ يَنْزِلُ وعلى مَنْ يقعُ؟ فَنَزَلَتْ ، و " سأَل " على هذا الوجهِ مُضَمَّنٌ معنى عُنِيَ واهتمَّ " .
(1/5403)
لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)
قوله : { لِلْكَافِرِينَ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ يتعلَّقَ ب " سأل " مضمَّناً معنى " دَعا " كما تقدَّم ، أي : دعا لهم بعذابٍ واقع . الثاني : أَنْ يتعلَّقَ ب " واقعٍ " واللامُ للعلةِ ، أي : نازلٌ لأجلِهم . الثالث : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ثانيةً ل " عذابٍ " ، أي : كائنٍ للكافرين . الرابع : أَنْ يكونَ جواباً للسائلِ ، فيكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هو للكافرين . الخامس : أَنْ تكونَ اللامُ بمعنى على ، أي : واقعٍ على الكافرين ، ويؤيِّده قراءةُ أُبَيّ " على الكافرين " ، وعلى هذا فهي متعلِّقةٌ ب " واقعٍ " لا على الوجهِ الذي تقدَّم قبلَه .
وقال الزمخشريُّ : " فإنْ قلتَ : بم يتصِلُ قولُه " للكافرين "؟ قلت : هو على القولِ الأولِ متصلٌ بعذاب صفةً له ، أي : بعذابٍ واقعٍ كائنٍ للكافرين ، أو بالفعل ، أي : دعا للكافرين بعذابٍ واقعٍ ، أو بواقع ، أي : بعذابٍ نازلٍ لأَجْلِهم . وعلى الثاني : هو كلامٌ مبتدأٌ ، جواباً للسائل ، أي : هو للكافرين " انتهى .
قال الشيخ : " وقال الزمشخريُّ : " أو بالفعلِ ، أي : دعا للكافرين ، ثم قال : وعلى الثاني وهو ثاني ما ذَكَرَ في توجيهِه للكافرين قال : هو كلامٌ مبتدأٌ جواباً للسائلِ ، أي : هو للكافرين . وكان قد قَرَّر أنَّ " سَأَلَ " ضُمِّن معنى " دعا " فعُدِّيَ تعديتَه ، كأنه قال : دعا داعٍ بعذابٍ ، مِنْ قولِك : دعا بكذا إذا استدعاه وطَلَبه ، ومنه قولُه تعالى : { يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ } [ الدخان : 55 ] انتهى . فعلى ما قَرَّره أنه متعلِّقٌ ب " دعا " يعني ب " سأل " ، فكيف يكونُ كلاماً مبتدأ جواباً للسائلِ ، أي : هو للكافرين؟ هذا لا يَصِحُّ " .
هذا كلامُ الشيخِ برُمَّتِه ، وقد غَلِط على أبي القاسم في فَهْمِه عنه قولَه : " وعلى الثاني إلى آخره " فمِنْ ثَمَّ جاء التَّخْبيطُ الذي ذكرَه . والزمخشريُّ إنما عنى بالثاني قولَه : " وعن قتادةَ سأل سائلٌ عن عذابِ الله على مَنْ يَنْزِلُ وبمَنْ يقع ، فنزلَتْ ، وسأَلَ على هذا الوجهِ مُضَمَّنٌ معنى عُنِيَ واهتم " فهذا هو الوجهُ الثاني المقابِلُ للوجهِ الأولِ : وهو أنَّ " سأَلَ " مضمَّنٌ معنى " دعا " ، ولا أدري كيف تَخَبَّط على الشيخِ حتى وقع فيما وَقَعَ ، ونَسَبَ الزمخشريَّ إلى الغَلَطِ ، وأنه أخذ قولَ قتادةَ والحسنِ وأفسَده؟ والترتيبُ الذي رتَّبه الزمخشريُّ في تعلُّقِ اللامِ مِنْ أحسنِ ما يكونُ صناعةً ومعنى .
قوله : { لَيْسَ لهُ دافِعٌ } يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً آخر ل " عذابٍ " ، وأَنْ يكونَ مستأنفاً ، والأولُ أظهرُ ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ " عذاب " لتخصُّصه : إمَّا بالعملِ ، وإمَّا بالصفة ، وأَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في " للكافرين " إنْ جَعَلْناه نعتاً ل " عذابٍ " .
(1/5404)
مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)
قوله : { مِّنَ الله } : يجوزُ أَنْ يتعلَّق ب " دافعٌ " بمعنى : ليس له دافعٌ مِنْ جهته إذا جاء وقتُه ، وأَنْ يتعلَّقَ ب " واقع " وبه بَدَأَ الزمخشريُّ ، أي : واقعٌ من عندِه . وقال أبو البقاء : " ولم يَمْنَعِ النفيُ من ذلك؛ لأنَّ " ليس " فعلٌ " ، كأنه استشعرَ أنَّ ما قبلَ النفيِ لاَ يعملُ فيما بعدَه ، فأجاب : بأنَّ النفيَ لَمَّا كان فِعْلاً ساغ ذلك .
وقال الشيخ : " والأجودُ أَنْ يكونَ " من الله " متعلقاً ب " واقعٍ " ، و " ليس له دافعٌ " جملةُ اعتراضٍ بين العاملِ ومعمولِه " انتهى . وهذا إنما يأتي على القولِ بأنَّ الجملةَ مستأنفةٌ ، لا صفةٌ ل " عذاب " وهو غيرُ الظاهرِ ، كما تقدَّم لأَخْذِ الكلامِ بعضِه بحُجْزَةِ بعضٍ .
قوله : { ذِي } صفقةٌ ل " الله " . والعامَّةُ " تَعْرُج " بالتاء " منْ فوقُ . والكسائيُّ بالياءِ مِنْ تحتُ وهما كقراءتَيْ " فناداه الملائكةُ " ، التاءِ ، واسْتَضْعَفَها بعضهُم : من حيث إنَّ مَخْرَج الجيمَ بعيدٌ/ مِنْ مَخْرَجِ التاءِ . وأُجيب عن ذلك : بأنَّها قريبةٌ من الشينِ؛ لأنَّ النَّفَس الذي في الشينِ يُقَرِّبُها مِنْ مَخْرَجِ التاءِ ، الجيمُ تُدْغَمُ في الشين لِما بينهما من التقاربِ في المَخْرَجِ والصفةِ ، كما تقدَّم في { أَخْرَجَ شَطْأَهُ } [ الفتح : 29 ] فَحُمِل الإِدغامُ في التاءِ على الإِدغامِ في الشينِ؛ لِما بينَ الشينِ والتاءِ من التقاربِ . وأُجيب أيضاً : بأنَّ الإِدغامَ يكونُ لمجرَّدِ الصفاتِ ، وإنْ لم يتقارَبَا في المَخْرَجِ ، والجيمُ تُشارِكُ التاءَ في الاستفالِ والانفتاحِ والشِّدَّةِ . وتقدَّم الكلامُ على المعارجِ في الزخرف .
(1/5405)
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
قوله : { والروح } : مِنْ بابِ عطفِ الخاصِّ على العامِّ ، إنْ أُريد بالروح جبريلُ عليه السلام ، أَو مَلَكٌ آخرُ مِنْ جِنسِهم ، وأُخِّر هنا ، وقُّدِّم في قولِه : { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً } [ النبأ : 38 ] لأنَّ المَقَامَ هنا يَقْتَضي تَقَدُّمَ الجمع على الواحدِ من حيث إنه مَقامُ تَخْويفٍ وتهويلٍ . و " وكان مِقْدارُه " صفةٌ ل " يومَ " ، والجملةُ مِنْ " تَعْرُجُ " مستأنفةٌ .
قوله : { فِي يَوْمٍ } فيه وجهان ، أظهرُهما : تَعلُّقُه ب " تُعْرُجُ " . والثاني : أنه يتعلَّقُ ب " دافعٌ " وعلى هذا فالجملةُ مِنْ قولِه " تَعْرُجُ الملائكةُ " معترضةٌ ، والضميرُ في " إليه " الظاهرُ عَوْدُه على الله تعالى . قيل : يعودُ على المكانِ لدلالةِ الحالِ والسياقِ عليه . والضميرُ في " يَرَوْنه " و " نَراه " لليومِ إنْ أُريد به يومُ القيامة . وقيل : للعذاب .
(1/5406)
يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8)
قوله : { يَوْمَ تَكُونُ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أَنَّه متعلِّقٌ ب " قريباً " ، وهذا إذا كان الضميرُ في " نراه " للعذاب ظاهرٌ . الثاني : أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه " واقع " ، أي : يقعُ يومَ يكونُ . الثالث : [ أن يتعلَّقَ ] بمحذوفٍ مقدَّرٍ بعده ، أي : يومَ يكونُ كان كيتَ وكيتَ . الرابع : أنه بدلٌ من الضميرِ في " نَراه " إذا كان عائداً على يومِ القيامة . الخامس : أنه بدلٌ مِنْ " في يومٍ " فيمَنْ عَلَّق ب " واقع " . قاله الزمخشريُّ . وإنما قال فيمَنْ عَلَّقَهُ ب " واقع " لأنه إذا عُلِّق ب " تَعْرُج " كما تقدَّم في أحدِ الوجَهْين استحال أَنْ يُبْدَلَ عنه هذا؛ لأنَّ عُروجَ الملائكةِ ليس هو في هذا اليومِ الذي تكونُ السماءُ فيه كالمُهْلِ والجِبالُ كالعِهْنِ ، ويَشْتَغِلُ كلُّ حميمٍ عن حميمِه . قال الشيخ : " ولا يجوزُ هذا " يعني إبداله مِنْ " في يوم " . قال : " لأنَّ في يوم " وإنْ كان في موضعِ نصبٍ لا يُبْدَلُ منه منصوبٌ؛ لأنَّ مثلَ هذا ليس بزائدٍ ولا محكومٍ له بحكمِ الزائدِ ك " رُبَّ " ، وإنما يجوزُ مراعاةُ الموضعِ في حرفِ الجرِّ الزائدِ كقولِه :
4328 أبَني لُبَيْنَى لَسْتُما بِيَدٍ ... إلاَّ يَداً ليسَتْ لها عَضُدُ
وكذلك لا يجوزُ " مَرَرْتُ بزيدٍ الخياطَ " على موضع " بزيدٍ " ولا " مَرَرْتُ بزيدٍ وعمراً " ولا " غَضِبْتُ على زيد وجعفراً " ولا " مَرَرْتُ بعمروٍ أخاك " على مراعاةِ الموضع " . قلت : قد تقدَّم أنَّ قراءةَ { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } [ المائدة : 4 ] من هذا البابِ فيمَنْ نصبَ الأرجل فيكُنْ هذا مثلَه ، وقد تقدَّم فلا نُعيده .
ثم قال الشيخ : " فإنْ قلتَ : الحركةُ في " يومَ تكون " حركةُ بناءٍ لا حركةُ إعرابٍ فهو مجرورٌ مثلُ " في يومٍ " قلت : لا يجوزُ بِناؤُه على مذهبِ البَصْريين؛ لأنه أُضيفَ إلى مُعْرَبٍ ، لكنه يجوزُ على مذهب الكوفيين ، فيتمشَّى كلامُ الزمخشريِّ على مذهبِهم إنْ كان استَحْضَره وقَصَده " . انتهى . قولُه : " إنْ كان اسْتَحْضره " فيه تحامُلٌ على الرجلِ . وأيُّ كبيرِ أَمرٍ في هذا حتى لا يَسْتَحْضِرَ مثلَ هذا؟ والتبجُّحُ بمثلِ هذا لا يليق ببعضِ الطلبةِ ، فإنها من الخلافِيَّاتِ المشهورة شُهْرَةَ :
قِفا نَبْكِ . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وتقدَّم الكلامُ على المُهْل في الدخان . وأمَّا العِهْنُ فقيل : الصوفُ مطلقاً . وقيل : بقَيْدِ كونِه أحمر . وقيل : بِقَيْدِ كونِه مَصْبوغاً . وقيل : بقَيْدِ كونِه مَصْبوغاً ألواناً ، وهذا أَلْيَقُ بالتشبيه؛ لأنَّ الجبالَ متلوِّنةٌ ، كما قال تعالى : { جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ } [ فاطر : 27 ] .
(1/5407)
وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)
قوله : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ } : قرأ العامَّةُ " يَسْأَلُ " مبنياً للفاعل . والمفعولُ الثاني محذوفٌ فقيل : تقديرُه لا يَسْألُه نَصْرَهُ ولا شفاعتَه لعِلْمِه أنَّ ذلك مفقودٌ . وقيل : لا يَسْأله شيئاً مِنْ حَمْل أَوْزارِه . وقيل : " حميماً " منصوبٌ على إسقاطِ الخافض ، أي : عن حميمٍ لشُغْلِهِ عنه . وقرأ أبو جعفر وأبو حيوة وشيبةٌ وابنُ كثير في روايةٍ " يُسْأل " مبنياً للمفعول . فقيل : " حميماً " مفعولٌ ثانٍ ، لا على إسقاطِ حرفٍ ، والمعنى : لا يُسألُ إحضارَه . وقيل : بل هو على إسقاطِ " عن " ، أي : عن حميم .
(1/5408)
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11)
قوله : { يُبَصَّرُونَهُمْ } : عُدِّي بالتضعيفِ إلى ثانٍ وقام الأولُ مَقامَ الفاعلِ . وفي محلِّ هذه الجملةِ وجهان ، / أحدُهما : أنَّها في موضعِ الصفةِ لحَميم . والثاني : أنها مستأنفةٌ . قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : ما موقعُ " يُبَصَّرُونْهم "؟ قلت : هو كلامٌ مستأنفٌ ، كأنَّه لَمَّا قال : لا يَسْأل حَميمٌ حَميماً قيل : لعلَّه لا يُبَصَّرُه . فقيل : يُبَصَّرُونهم " . ثم قال : " ويجوزُ أَنْ يكونَ " يُبَصَّرُونهم " صفةً ، أي : حميماً مُبَصَّرين مُعَرِّفين إياهم " انتهى . وإنما جُمِع الضميران في " يُبَصَّرُونهم " وهما للحميمَيْن حَمْلاً على معنى العموم لأنهما نكرتان في سياقِ نَفْي . وقرأ قتادةُ " يُبْصِرُونهم " مبنياً للفاعل مِنْ أَبْصَرَ ، أي : يُبْصِرُ المؤمنُ الكافرَ في النار . وتقدَّمَتْ القراءةُ في " يومئذٍ " فتحاً وجَرَّاً في هود . والعامَّةُ على إضافة " عذاب " ل " يَوْمِئذ " ، وأبو حيوةَ بتنوينِ العذاب ، ونَصْبِ " يَوْمئذٍ " على الظرف . وقال الشيخ هنا : " الجمهورُ بكسرِها ، أي : ميم يومِئذ ، والأعرج وأبو حيوة بفتحِها " انتهى . وقد تقدَّم أنَّ الفتح قراءةُ نافعٍ والكسائيِّ .
(1/5409)
وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
قوله : { وَفَصِيلَتِهِ } : قال ثعلب : " الفَصيلةُ : الآباء الأَدْنَوْن " . وقال أبو عبيدة : " الفَخِذُ " . وقيل : عشيرتُه الأقربون . وقد تقدَّم ذِكْر ذلك عند قولِه : { شُعُوباً وَقَبَآئِلَ } [ الحجرات : 13 ] . و " تُؤْويه " لم يُبْدِلْه السوسيُّ عن أبي عمروٍ قالوا : لأنَّه يُؤَدِّي إلى لفظٍ هو أثقلُ منه ، والإِبدالُ للتخفيفِ . وقرأ الزُّهريُّ " تُؤْوِيْهُ " و " تُنْجِيْهُ " بضمِّ هاءِ الكنايةِ ، وهو الأصلُ و " ثم يُنْجِيه " عطفٌ على " يَفْتدي " فهو داخِلٌ في حَيِّز " لو " وتقدَّمَ الكلامُ فيها : هل هي مصدريةٌ أم شرطيةٌ في الماضي؟ ومفعولُ " يَوَدُّ " محذوفٌ ، أي : يَوَدُّ النجاةَ . وقيل : إنها هنا بمعنى " إنْ " ، وليس بشيءٍ . وفاعلُ " يُنْجِيه " : إمَّا ضميرُ الافتداءِ الدالُّ عليه " يَفْتدي " ، أو ضميرُ مَنْ تقدَّم ذِكْرُهم ، وهو قولُه { وَمَن فِي الأرض } . و " مَنْ [ في الأرض ] " مجرورٌ عطفاً على " بنيه " وما بعدَه ، أي : يَوَدُّ الافتداءَ ب { مَن في الأرض } أيضاً . و " جميعاً " إمَّا حالٌ ، وإمَّا تأكيدٌ ، ووُحِّد باعتبارِ اللفظِ . و " كَلاَّ " رَدْعٌ وزَجْرٌ عن اعتقادِ ذلك .
(1/5410)
كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15)
قوله : { إِنَّهَا لظى نَزَّاعَةً } : في الضميرِ ثلاثةُ أوجُهٍ ، أحدُها : أنه ضميرُ النار ، وإنْ لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ لدلالةِ لفظِ " عذاب " عليها . والثاني : أنه ضميرُ القصةِ . الثالث : أنه ضميرٌ مبهمٌ يُتَرْجِمُ عنه الخبرُ ، قاله الزمخشري . وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في قوله تعالى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا } . فعلى الأولِ يجوزُ في { لظى نَزَّاعَةً } أوجهٌ : أَنْ يكونَ " لَظى " خبرَ " إنَّ " ، أي : إنَّ النارَ لَظى ، و " نَزَّاعةٌ " خبرٌ ثانٍ ، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هي نَزَّاعةٌ ، أو يكونُ " لَظَى " بدلاً من الضميرِ المنصوبِ ، و " نَزَّاعةٌ " خبرُ إنَّ ، وعلى الثاني يكونُ " لَظى نَزَّاعةٌ " جملةً من مبتدأ وخبرٍ ، في محلِّ الرفعِ خبراً ل " إنَّ " مفسِّرةً لضمير القصة ، وكذا على الوجهِ الثالثِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ " نَزَّاعةٌ " صفةً ل " لَظى " إذا لم تجعَلْها عَلَماً؛ بل بمعنى اللَّهَبِ ، وإنما أُنِّث النعتُ فقيل : " نَزَّاعةٌ " لأنَّ اللهَبَ بمعنى النار ، قاله الزمخشريُّ وفيه نظرٌ لأنَّ " لظى " ممنوعةٌ من الصَّرْفِ اتفاقاً .
قال الشيخ بعد حكايته الثالثَ عن الزمخشري : " ولا أدري ما هذا المضمرُ الذي تَرْجَمَ عنه الخبرُ؟ وليس هذا من المواضعِ التي يُفَسِّرُ فيها المفردُ الضميرَ ، ولولا أنه ذَكَرَ بعد هذا " أو ضمير القصة " لَحَمَلْتُ كلامَه عليه " . قلت : متى جعله ضميراً مُبْهماً لَزِمَ أنَنْ يكونَ مفسَّراً بمفرد ، وهو إمَّا " لظى " ، على أَنْ يكونَ " نزاعةٌ " خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، وإمَّا " نزاعةٌ " على أَنْ يكونَ " لظى " بدلاً من الضميرِ ، وهذا أقربُ . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ " لظى نَزَّاعةٌ " مبتدأ وخبراً ، والجملةُ خبرٌ ل " إنَّ " على أَنْ يكونَ الضميرُ مبهماً لئلا يَتَّحِدَ القولان ، أعني هذا القولَ وقولَ إنها ضميرُ القصة ، ولم يُعْهَدُ ضميرٌ مُفَسَّرٌ بجملةٍ إلاَّ ضميرُ الشأنِ والقصةِ .
وقراءةُ الرفعِ في " نَزَّاعَةٌ " هي قراءةُ العامَّةِ . وقرأ حفص وأبو حيوة والزعفَرانيُّ واليزيديُّ وابنُ مقسم " نَزَّاعَةً " بالنصب . وفيها وجهان ، أحدُهما : أَنْ ينتصبَ على الحالِ . وفي صاحبِها أوجهٌ ، أحدُهما : أنه الضميرُ المُسْتَكِنُّ في " لَظَى " لأنَّها ، وإنْ كانَتْ عَلَماً ، فهي جارِيَةٌ مَجْرَى المشتقات كالحارثِ والعَبَّاس ، وذلك لأنها بمعنى التَّلَظِّي " ، وإذا عَمِلَ العَلَمُ الصريحُ والكُنْيَةُ في الظروف فلأَنْ يعملَ العَلَمُ الجاري مَجْرى المشتقاتِ في الأحوالِ أَوْلَى وأَحْرى . ومِنْ مجيء ذلك قولُه :
4330 أنا أبو المِنْهالِ بعضَ الأَحْيانْ ... ضَمَّنه معنى " أنا المشهورُ في بعض الأحيان " . الثاني : أنه فاعلُ " تَدْعو " وقُدِّمَتْ حالُه عليه ، أي : تدعو/ حالَ كونِها نَزَّاعةً .
(1/5411)
ويجوز أَنْ تكونَ هذه الحالُ مؤكِّدةً ، لأنَّ " لظى " هذا شأنُها ، وهو معروفٌ مِنْ أمرِها ، وأَنْ تكونَ منتقِلَةً؛ لأنه أمرٌ توقيفيٌّ . الثالث : أنه محذوفٌ هو والعاملُ ، تقديرُه : تتلَظَّى نَزَّاعَةً . ودَلَّ عليه " لَظَى " .
الثاني من الوجهَيْن الأَوَّلَيْن : أنَّها منصوبةٌ على الاختصاصِ . وعَبَّر عنه الزمخشريُّ بالتَّهْويل ، كما عَبَّر عن وجهِ رَفْعِها على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ ، والتقدير : أعني نَزَّاعةً ، وأخصُّها . وقد مَنَعَ المبِّردُ نصبَ " نَزَّاعة " قال : " لأنَّ الحالَ إنما يكونُ فيما يجوزُ أَنْ يكونَ وأَنْ لا يكونَ ، و " لَظى " لا تكونُ إلاَّ نَزَّاعةً ، قاله عند مكي ، ورَدَّ عليه بقولِه تعالى : { وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً } [ البقرة : 91 ] ، { وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً } [ الأنعام : 126 ] قال : " فالحقُّ لا يكونُ إلاّ مصدِّقاً ، وصراطُ ربِّكَ لا يكونُ إلاَّ مُسْتقيماً " . قلت : المبردُ بنى الأمرَ على الحالِ المبيِّنة ، وليس ذلك بلازم؛ إذ قد وَرَدَتِ الحالُ مؤكِّدةً ، كما أورده مكيٌّ وإنْ كان خلافَ الأصلِ .
واللَّظى في الأصلِ : اللَّهَبُ . ونُقل عَلَماً لجهنمَ ، ولذلك مُنِعَ من الصَّرْفِ . والشَّوَى : الأطرافُ جمع شَواة كنَوى ونَواة . وقيل : الشَّوى : الأعضاءُ التي ليسَتْ بمَقْتَل ، ومنه : رماه فأَشْواه ، أي : لم يُصِبْ مَقْتَلَه . وقيل : الشَّوى : جمعُ شَواة ، وهي جِلْدَةُ الرأسِ ، وأُنْشد للأعشى :
4331- قالت قُتَيْلَةُ مالَهُ ... قد جُلِّلَتْ شَيْباً شَواتُهْ
وقيل : هو جِلْدُ الإِنسانِ . والشَّوى أيضاً : رُذالُ المالِ ، والشيءُ اليسيرُ . و " تَدْعُو " يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً لإِنَّ ، أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، أو حالٌ من " لَظى " ، أو مِنْ " نَزَّاعة " على القراءَتَيْن فيها؛ لأنها تتحمَّلُ ضميراً .
(1/5412)
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)
قوله : { هَلُوعاً } : حالٌ مقدرةٌ . والهَلَعُ مُفَسَّر بما بعده ، وهو قولُه : " إذا " و " إذا " قال ثعلب : " سألني محمد بنُ عبد الله ابن طاهر ما الهَلَعُ؟ فقلت : قد فسَّره اللهُ ، ولا يكون أَبْيَنَ مِنْ تفسيرِه ، وهو الذي إذا نالَه شرٌ أظهرَ شِدَّةَ الجَزَعِ ، وإذا ناله خيرٌ بَخِلَ به ومَنَعَه الناس " انتهى . وأصلُه في اللغةِ على ما قال أبو عبيد أَشَدُّ الحِرْصِ وأسْوَأُ الجَزَع . وقيل : هو الفَزَعُ والاضطرابُ السريعُ عند مَسِّ المكروهِ ، والمَنعُ السريعُ عند مَسِّ الخيرِ ، مِنْ قولِهم : ناقةٌ هِلْواع ، أي : سريعةُ السَّيْرِ .
(1/5413)
إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)
قوله : { جَزُوعاً } : و " مَنوعاً " فيهما ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنهما منصوبان على الحال من الضمير في " هلُوعا " وهو العاملُ فيهما ، والتقدير : هَلُوعاً حالَ كونِه جَزُوعاً وقتَ مَسِّ الشرِّ ، ومنوعاً وقتَ مسِّ الخيرِ . والظرفان معمولان لهاتَيْنِ الحالَيْنِ . وعَبَّر أبو البقاء عن هذا الوجهِ بعبارةٍ مُوْهِمَةٍ . وهو يريدُ ما ذكَرْتُه فقال : " جَزوعاً حالٌ أخرى ، والعاملُ فيها هَلُوعا " . فقولُه : " أخرى " يُوهم أنها حالٌ ثانية وليسَتْ متداخِلَةً ، لولا قولُه : " والعاملُ فيها هَلُوعا " . الثاني : أَنْ يكونا خبَرَيْن ل كان أو صار مضمرةً ، أي : إذا مَسَّه الشرُّ كان أو صار جزوعا ، وإذا مَسَّه الخيرُ كان أو صار منوعاً قاله مكي . وعلى هذا فإذا شرطيةٌ ، وعلى الأولِ ظرفٌ مَحْضٌ ، العاملُ فيه ما بعدَه ، كما تقدَّم . الثالث : أنهما نعتٌ ل " هَلُوعا " قاله مكي . إلاَّ أنَّه قال : " وفيه بُعْدٌ؛ لأنك تَنْوي به التقديمَ قبل " إذا " انتهى . وهذا الاستبعادُ ليس بشيءٍ ، فإنه غايةُ ما فيه تقديمُ الظرفِ على عاملِه ، وإنما المحذورُ تقديمُ معمولِ النعتِ على المنعوتِ .
(1/5414)
إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22)
قوله : { إِلاَّ المصلين } : استثناءٌ من " الإِنسان " إذ المرادُ به الجنسُ . ومثلُه : { إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ } [ العصر : 2-3 ] .
وقرأ حفص : " بشهاداتِهم " جمعاً ، اعتباراً بتعدُّدِ الأنواعِ . والباقون بالإِفرادِ ، إذ المرادُ الجنسُ .
(1/5415)
عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37)
قوله : { عِزِينَ } : حالٌ من " للذين كفروا " وقيل : حالٌ من الضمير في " مُهْطِعين " ، فتكون حالاً متداخلةً . و " عن اليمين " يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب " عِزين " لأنه بمعنى متفرِّقين ، قاله أبو البقاء ، وأَنْ يتعلَّقُ بمُهْطِعين ، أي : مُسْرِعِين عن هاتَيْن الجهتَين ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ ، أي : كائنين عن اليمين ، قاله أبو البقاء . وعِزِيْن جمعُ " عِزَة " والعِزَةُ : الجماعة ، قال مكي : " وإنما جُمِع بالواوِ/ والنونِ لأنه مؤنثٌ لا يَعْقِلُ؛ لكونَ ذلك عِوَضاً مِمَّا حُذِفَ منه . قيل : إنَّ أصلَه عِزْهَة ، كما أنَّ أصلَ سَنَةَ سَنْهَة ثم حُذِفَتِ الهاءُ " انتهى . قوله : " لا يَعْقِلُ " سهوٌ لأنَّ الاعتبارَ بالمدلولِ ، ومدلولُه بلا شك عقلاءُ .
واختلفوا في لام " عِزَة " على ثلاثةِ أقوالٍ ، أحدُها : أنَّها واوٌ مِنْ عَزَوْتُه أَعْزُوْه ، أي : نَسَبْتُه؛ وذلك أنَّ المنسوبَ مضمومٌ إلى المنسوبِ إليه ، كما أنَّ كلَّ جماعةٍ مضمومٌ بعضُها إلى بعضٍ . الثاني : أنَّها ياءٌ ، إذ يُقال : عَزَيْتُه بالياء ، أَعْزِيْهِ بمعنى : عَزَوْته ، فعلى هذا في لامِها لغتان ، الثالث : أنها هاءٌ ، ويُجْمَعُ تكسيراً على عِزَىً نحو : كِسْرة وكِسَر ، واسْتُغْنِي بهذا التكسيرِ عن جمعِها بالألفِ والتاءِ ، فلم يقولوا : عِزات كما لم يقولوا في شَفَة وأَمَة : شِفات ولا إمات استغناءً بشِفاهٍ وإماءٍ ، وقد كَثُرَ ورودُه مجموعاً بالواوِ والنون . قال الراعي :
4332 أخليفةَ الرحمنِ إنَّ عَشيرتي ... أَمسَوْا سَوامُهُمُ عِزِيْنَ فُلُوْلا
وقال الكميت :
4333 ونحن وجَنْدَلٌ باغٍ تَرَكْنا ... كتائبَ جَنْدَلٍ شَتَّى عِزِيْنا
وقال عنترة :
4334 وقِرنٍ قد تَرَكْتُ لِذي وَلِيٍّ ... عليه الطيرُ كالعُصَبِ العِزِيْن
وقال آخر :
4335 ترانا عنده والليلُ داجٍ ... على أبوابِه حِلَقاً عِزِيْنا
وقال آخر :
4336 فلما أَنْ أَتَيْنَ على أُضاخٍ ... تَرَكْنَ حَصاه أَشْتاتاً عِزينا
والعِزَةُ لغةً : الجماعةُ في تَفْرِقَةً . هذا قولُ أبي عبيدة . وقال الأصمعيُّ : " العِزُون : الأصناف . يقال : في الدار عِزُون ، أي : أصناف " وقال غيرُه : الجماعةُ اليسيرةُ كالثلاثةِ والأربعةِ . وقال الراغب : " وقيل : هو مِنْ قولِهم : عَزِيَ عَزاءً فهو عَزٍ إذا صَبَرَ ، وتَعَزَّى : تَصَبَّر ، فكأنها اسمٌ للجماعة التي يتأسَّى بعضُهم ببعض .
(1/5416)
أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38)
قوله : { أَن يُدْخَلَ } : العامَّةُ على بنائِه للمفعول . وزيدُ بن علي والحسن وابن يعمر وأبو رجاء وعاصمٌ في روايةٍ على بنائِه للفاعلِ .
(1/5417)
فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40)
قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ } : قد تقدَّم غيرَ مرةٍ . وقرأ جماعة " فلأُقْسِمُ " دون ألفٍ . والعامَّةُ على جمعِ المَشارق والمغارب . والجحدريُّ وابنُ محيصن بإفرادِهِما .
و " إنَّا لَقادِرون " جوابُ القسمِ . وقرأ العامَّةُ " يُلاقُوا " ، وأبو جعفر وابن محيصن " يَلْقَوْا " مضارع لَقِيَ .
(1/5418)
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)
قوله : { يَوْمَ يَخْرُجُونَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ " يَوْمَهم " أو منصوباً بإضمار أَعني . ويجوزُ على رَأْيِ الكوفيين أن يكون خبرَ ابتداءٍ مضمرٍ ، وبُنِي على الفتحِ ، وإنْ أُضيفَ إلى مُعْربٍ ، أي : هو يومَ يَخْرُجون ، كقولِه : { هذا يَوْمُ يَنفَعُ } وقد مَرَّ الكلامُ فيه مُشْبعاً . والعامَّةُ على بناءِ " يَخْرُجون " للفاعلِ ، ورُوي عن عاصمٍ بناؤُه للمفعولِ .
قوله : { سِرَاعاً } حالٌ مِنْ فاعل " يَخْرُجون " جمعَ سريع كظِراف في ظَريف . و " كأنَّهم " حالٌ مِنْ ضميرِ الحالِ فتكونُ متداخلةً .
قوله : { إلى نُصُبٍ } متعلِّقٌ بالخبرِ . والعامَّةُ على " نَصْبٍ " بالفتح والإِسكان ، وابنُ عامر وحفصٌ بضمتين ، وأبو عمران الجوني ومجاهد بفتحتَيْن ، والحسنُ وقتادةُ بضمةٍ وسكون . فالأُولى هو اسمٌ مفردٌ بمعنى العَلَم المنصوبِ الذي يُسْرِع الشخصُ نحوَه . وقال أبو عمروٍ : " هو شَبَكَةُ الصائدِ يُسْرِع إليها عند وقوعِِ الصيدِ فيها مخافةَ انفلاتِه " . وأمَّا الثانيةُ فتحتمل ثلاثَة أوجهٍ . أحدها : / أنه اسمٌ مفردٌ بمعنى الصَّنَمِ المنصوبِ للعبادة ، وأنشد للأعشى :
4337 وذا النُّصُبَ المَنْصُوبَ لا تَعْبُدَنَّه ... لعاقبةٍ واللَّهَ ربَّك فاعْبُدَا
الثاني : أنه جمعُ نِصاب ككُتُب في كِتاب . الثالث : أنه جمعُ نَصْبٍ نحو : رَهْن في رُهُن ، وسَقْف في سُقُف ، وهذا قولُ أبي الحسن . وجَمْعُ الجمعِ أَنْصاب . وأمَّا الثالثةُ فَفَعَل بمعنى مَفْعول ، أي : مَنْصوب كالقَبَضِ والنَّقَضِ . والرابعةُ تخفيفٌ من الثانية
ويُوْفِضونَ ، أي : يُسْرعون . وقيل : يَسْتَبْقون . وقيل : يَسْعَوْن . وقيل : يَنْطَلقون . وهي متقاربَةٌ . وأنشد :
4338 فوارِسُ ذُبْيانَ تحت الحَدِيْ ... دِ كالجِنِّ تُوْفِضُ مِنْ عَبْقَرِ
وقال آخر :
4339 لأَنعتَنْ نَعامةً مِيفاضا ... خَرْجاءَ [ تَعْدُو ] تَطْلُبُ الإِضاضا
أي مُسْرِعة .
(1/5419)
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
قوله : { خَاشِعَةً } : حالٌ : إمَّا مِنْ فاعلِ " يُوْفِضون " ، وهو أقربُ أو مِنْ فاعل " يَخْرجُون " ، وفيه بُعْدٌ منه ، وفيه تعدُّدُ الحالِ لذي حالٍ واحدة وفيه الخلافُ . و " أبْصارُهم " فاعلٌ . وقراءةُ العامَّةِ على تنوينِ " ذِلَّةٌ " والابتداءُ ب " ذلك اليومُ " ، وخبرُه " الذي كانوا " . وقرأ يعقوب والتمار بإضافة " ذِلَّةُ " إلى " ذلك " وجَرِّ " اليوم " لأنه صفةٌ ل " ذلك " . و " الذي " نعتٌ ل " اليوم " . و " تَرْهَقُهُم " : يجوزُ أَنْ يكونَ استئنافاً ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل " يُوْفِضون " ، أو " يَخْرُجون " ، ولم يَذْكُرْ مكيٌّ غيرَه .
(1/5420)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1)
قوله : { أَنْ أَنذِرْ } : يجوزُ أَنْ تكونَ المفسِّرَةَ ، وأَنْ تكونَ المصدريةَ أي : أَرْسَلْناه بالإِنذار . وقال الزمخشري : " والمعنى : أَرْسَلْناه بأَنْ قُلْنا له : أَنْذِرْ أي : أَرْسَلْناه بالأمرِ بالإِنذار " انتهى . وهذا الذي قَدَّره حسنٌ جداً ، وهو جوابٌ عن سؤالٍ قدَّمْتُه في هذا الموضوع : وهو أنَّ قولَهم : " إنَّ " أَنْ " المصدريةَ يجوزُ أَنْ تتوصَّلَ بالأمرِ " مُشْكِلٌ؛ لأنه يَنْسَبِكُ منها وممَّا بعدَها مصدرٌ ، وحينئذٍ فتفوتُ الدلالةُ على الأمرِ . ألا ترى أنك إذا قَدَّرْت [ في ] كَتَبْتُ إليه بأَنْ قُمْ : كَتَبْتُ إليه القيامَ ، تفوتُ الدلالةُ على الأمرِ حالَ التصريحِ بالأمر ، فينبغي أَنْ يُقَدَّرَ كما قاله الزمخشريُّ أي : كتبتُ إليه بأَنْ قلتُ له : قُمْ ، أي : كتبتُ إليه بالأمرِ بالقيام .
(1/5421)
أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)
قوله : { أَنِ اعبدوا } : إمَّا أَنْ تكونَ تفسيريةً ل " نذير " ، أو مصدريةً ، والكلامُ فيها كما تقدَّم في أختها .
(1/5422)
يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
قوله : { مِّن ذُنُوبِكُمْ } : في " مِنْ " هذه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها تبعيضيةٌ . والثاني : أنها لابتداءِ الغايةِ . والثالث : أنها لبيانِ الجنسِ وهو مردودٌ لعَدَمِ تَقَدُّمِ ما تبيِّنُه . الرابع : أنها مزيدةٌ . قال ابن عطية : " وهو مذهبٌ كوفيٌّ " قلت : ليس مذهبُهم ذلك؛ لأنهم يَشْتَرطون تنكيرَ مَجْرورِها ولا يَشْترطون غيرَه . والأخفشُ لا يَشْترط شيئاً ، فزيادتُها هنا ماشٍ على قولِه ، لا على قولِهم .
قوله : { وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ } قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : كيف قال : " ويُؤَخِّرْكم " مع إخبارِه بامتناعِ تأخيرِه؟ قلت : قضى اللَّهُ أنَّ قوم نوحٍ إنْ آمنوا عَمَّرَهم ألفَ سنةٍ ، وإن بَقُوا على كُفْرِهم أَهْلكهم على رأس تسعمِئة . فقيل لهم : إن آمنتم أُخِّرْتم إلى الأجلِ الأطولِ ، ثم أخبرهم أنَّه إذا جاء ذلك الأجلُ الأمَدُّ لا يُؤَخَّرُ " انتهى . وقد تَعَلَّق بهذه الآيةِ مَنْ يقولُ بالأَجَلَيْنِ . وتقدَّم جوابُه . وقوله : { لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } جوابُها محذوفٌ أي : لبادَرْتُمْ إلى ما أَمَرَكم به .
(1/5423)
وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)
قوله : { لِتَغْفِرَ } : يجوزُ أَنْ تكونَ للتعليل ، والمدعُوُّ إليه محذوفٌ أي : دَعَوْتُهم للإِيمان بك لأجلِ مغفرتِك لهم ، وأَنْ تكونَ لامُ التعديةِ ويكونُ قد عبَّر عن السببِ بالمُسَبَّبِ الذين هو جَعْلُهم . والأصلُ : دَعَوْتُهم للتَّوْبةِ التي هي سبَبٌ في الغُفْران . و " جعلوا " هو العاملُ في " كلما " وهو خبر " إنِّي " .
قوله : { لَيْلاً وَنَهَاراً } ظرفان ل " دَعَوْت " والمرادُ الإِخبارُ باتصالِ الدعاءِ ، وأنه/ لا يَفْتُرُ عن ذلك . و " إلاَّ فِراراً " مفعولٌ ثانٍ وهو استثناءٌ مُفَرَّغٌ .
(1/5424)
ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8)
قوله : { جِهَاراً } : يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً من المعنى؛ لأنَّ الدعاءَ يكونُ جهاراً وغيرَه ، فهو من باب : قَعَدَ القُرْفُصاءَ ، وأَنْ يكونَ المرادُ ب " دَعَوْتُهم " : جاهَرْتُهم ، وأَنْ يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ أي : دعاءً جِهاراً ، وأَنْ يكونَ مصدراً في موضعِ الحالِ أي : مُجاهِراً ، أو ذا جِهارٍ ، أو جُعِل نفسَ المصدرِ مبالغةً . قال الزمخشريُّ : " فإنْ قلتَ : ذَكَرَ أنَّه دعاهم ليلاً ونهاراً ، ثم دعاهم جِهاراً ، ثم دعاهم في السِّرِّ والعَلَنِ فيجب أَنْ تكونَ ثلاثَ دَعَوات مختلفات حتى يَصِحَّ العطفُ " قلت : قد فَعَلَ عليه السلام كما يَفْعَلُ الذي يَأْمُرُ بالمعروفِ ويَنْهى عن المنكر في الابتداءِ بالأَهْوَنِ ، والترقِّي في الأشَدِّ فالأشُدِّ ، فافتتح في المناصحةِ بالسِّرِّ ، فلمَّا لم يَقْبلوا ثَنَّى بالمجاهرة ، فلمَّا لم يَقْبلوا ثَلَّثَ بالجَمْعِ بين الإسرار والإِعلان . ومعنى " ثم " الدلالةُ على تباعُدِ الأحوالِ ، لأنَ الجِهارَ أغلظُ من الإِسرارِ ، والجمعُ بين الأمرَيْن أغلظُ مِنْ إفرادِ أحدِهما " . قال الشيخ : " وتكرَّرَ كثيراً له أنَّ " ثُمَّ " للاستبعادِ ولا نَعْلَمُه لغيرِه " . قلت : هذا القول بعدما سَمِعْتَ من ألفاظِ الزمخشريِّ تحامُلٌ عليه .
(1/5425)
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)
قوله : { مِّدْرَاراً } : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من " السماء " ، ولم يؤنَّثْ لأنَّ مِفْعالاً لا يُؤَنَّثُ . تقول : امرأةٌ مئِنْاثٌ ومِذْكار ، ولا يُؤَنَّثُ بالتاءِ إلاَّ نادراً ، وحينئذٍ يَستوي فيه المذكرُ والمؤنثُ فتقول : رجلٌ مِجْذامَةٌ ومِطْرابَةٌ ، وامرأة مِجْذامَةٌ ومِطْرابَةٌ ، وأَنْ تكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي : إرسالاً مِدْراراً . وتقدَّم الكلامُ عليه في الأنعام .
(1/5426)
مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13)
قوله : { وَقَاراً } : يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً به على معانٍ ، منها : ما لكم لا تَأْمُلُوْنَ له تَوْقيراً أي : تعظيماً . قال الزمخشري : " والمعنى : ما لكم لا تكونون على حال تأمُلُون فيها تعظيمَ اللَّهِ إياكم في دارِ الثواب؟ و " لله " بيانٌ للموَقَّرِ ، ولو تأخَّر لكان صلةً " انتهى . أي : لو تأخِّر " لله " عن " وَقارا " لكان متعلِّقاً به ، فيكونُ التوقيرُ منهم للَّهِ تعالى ، وهو عكسُ المعنى الذي قصده . ومنها : لا تخافون للَّهِ حِلْماً وتَرْكَ معاجلةٍ بالعقابِ فتؤمنوا . ومنها : لا تخافون لله عظمةً . وعلى الأولِ يكون الرجاءُ على بابه ، وقد تقدَّم أنَّ استعمالَه بمعنى الخوفِ مجازٌ أو مشتركٌ . وأن يكونَ حالاً مِنْ فاعل " تَرْجُون " أي : موقِّرين اللَّهَ تعالى ، أي تُعَظِّمونه ، ف " للَّهِ " متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ " وَقارا " ، أو تكون اللامُ زائدةً في المفعول به ، وحَسَّنه هنا أمران : كوْنُ العاملِ فَرْعاً ، وكونُ المعمولِ مقدَّماً ، و " لا تَرْجُون " حالٌ وتقدَّم نظيرُه في المائدة .
(1/5427)
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)
قوله : { وَقَدْ خَلَقَكُمْ } : جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعلِ " تَرْجُون " . والأَطْوارُ : الأحوالُ المختلفةُ . قال الشاعر :
4340 فإنْ أفاقَ قد طارَتْ عَمَايَتُه ... والمَرْءُ يُخْلَقُ طَوْراً بعد أطوارِ
وانتصابُه على الحالِ أي : مُتَنَقِّلين من حالٍ إلى حالٍ ، أو مختلِفين مِنْ بينِ مُسِيْءٍ ومُحْسِنٍ ، وصالحٍ وطالحٍ .
(1/5428)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15)
قوله : { طِبَاقاً } : تقدَّم الكلامُ عليه في سورة المُلك . وقال مكي : " وأجاز الفراء في غيرِ القرآنِ جَرَّ " طباق " على النعت ل " سماوات " ، يعني أنه يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً للعددِ تارةً وللمعدودِ أخرى .
(1/5429)
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16)
قوله : { فِيهِنَّ } : أي : في السماواتِ ، والقمرُ إنما هو في سماءٍ واحدةٍ منهنَّ . قيل : هو في السماءِ الدنيا ، وإنَّما جازَ ذلك؛ لأن بين السماواتِ ملابَسةً فصَحَّ ذلك . وتقولُ : " زيدٌ في المدينةِ " وإنما هو في زاويةٍ من زواياها .
وقوله : { وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } يُحتمل أَنْ يكونَ التقديرُ : وجعل الشمسَ فيهِنَّ ، كما تقدَّم . والشمس قيل : في الرابعةِ . وقيل : في الخامسةِ . وقيل : في الشتاءِ في الرابعة ، وفي الصيف في السابعةِ . واللَّهُ أعلمُ : أيُّ ذلك صحيحٌ .
(1/5430)
وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)
قوله : { نَبَاتاً } : إمَّا أَنْ يكونَ مصدراً ل أَنْبَتَ على حَذْفِ الزوائِد ، ويُسَمَّى اسمَ/ مصدرٍ ، وإمَّا ب " نَبَتُّمْ " مقدَّراً : أي : فَنَبَتُّمْ نباتاً فيكونُ منصوباً بالمُطاوِعِ المقدَّرِ . قال الزمخشري : " أو نُصِبَ ب " أَنْبَتكم " لتضمُّنِه معنى نَبَتُّمْ " قال الشيخ : " ولا أَعْقِلُ معنى هذا الوجهِ الثاني " . قلت : هذا الوجهُ هو الذي قدَّمْتُه . وهو أنه منصوبٌ ب " أَنْبَتكم " على حَذْفِ الزوائد . ومعنى قولِه : " لتضمُّنِه معنى نَبَتُّمْ " أي : إنه مُشتملٌ عليه ، غايةُ ما فيه أنه حُذِفت زوائدُه ، والإِنباتُ هنا استعارةٌ بليغةٌ .
(1/5431)
لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
قوله : { سُبُلاً فِجَاجاً } وفي الأنبياء تقدَّم الفِجاجُ لِتَناسُبِ الفواصِلِ هنا . وقد تقدَّم نَحْوٌ مِنْ هذا .
(1/5432)
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21)
قوله : { وَوَلَدُهُ } : قد تقدَّم خِلافُ القُراء في " وَلَدِه " وتقدَّم أنهما لغتان كبُخْل وبَخَلَ . قال أبو حاتم : يمكن أَنْ يكونَ المضمومُ جمعَ المفتوحِ كخَشَبٍ وخُشْبِ . وأنشد لحسَّانَ رضي الله عنه :
4341 يا بِكرَ آمنةَ المباركَ وِلْدُها ... مِنْ وُلْدِ مُحْصَنَةٍ بسَعْدٍ الأَسْعُدِ
(1/5433)
وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22)
قوله : { وَمَكَرُواْ } : عطفٌ على صلةِ " مَنْ " وإنما جُمِعَ الضميرُ حَمْلاً على المعنى ، بعد حَمْلِه على لفظِها في { لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ } ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً إخباراً عن الكفارِ .
قوله : { كُبَّاراً } العامَّةُ على ضَمِّ الكافِ وتشديدِ الباء ، وهو بناءُ مبالغةٍ أبلغُ مِنْ " كُبار " بالضمِّ والتخفيف ، قال عيسى : هي لغةٌ يمانيةٌ ، وأنشد :
4342 والمرءُ يُلْحِقُه بفِتيان النَّدى ... خُلُقُ الكريمِ وليس بالوُضَّاء
وقول الآخر :
4343 بَيْضاءُ تصطادُ القلوبَ وتَسْتَبي ... بالحسنِ قلبَ المسلمِ القُرَّاء
يقال : رجلٌ طُوَّالٌ وحُمَّالٌ وحُسَّانٌ . وقرأ عيسى وأبو السمال وابن محيصن بالضمِّ والتخفيف ، وهو بناءُ مبالغةٍ أيضاً دونَ الأولِ ، وقرأ زيدُ بنُ علي وابن محيصن أيضاً بكسر الكاف وتخفيفِ الباء . قال أبو بكر : وهو جمعُ " كبير " ، كأنه جعل " مَكْراً " مكانَ " ذنوب " أو " أفاعيل " يعني فلذلك وصفَه بالجمع .
(1/5434)
وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)
قوله : { وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً } : يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ عَطْفِ الخاص على العام إنْ قيل : إنَّ هذه الأسماءَ لأصنامٍ ، وأن لا يكونَ إنْ قيل : إنها أسماءُ رجالٍ صالحينَ على ما ذُكر في التفسير . وقرأ نافع " وُدّاً " بضم الواوِ ، والباقون بفتحها ، وأُنْشِدَ بالوَجْهَيْن قولُ الشاعر :
4344 حَيَّاكَ وَدٌّ فإنَّا لا يَحِلُّ لنا ... لَهْوُ النساءِ وإنَّ الدين قد عزما
وقول الآخر :
4345 فحيَّاكِ وَدٌّ مِنْ هُداكِ لفِتْيَةٍ ... وخُوْصٍ بأعلى ذي فُضالةَ مُنْجِدِ
قوله : { وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ } قرأهما العامَّةُ بغير تنوين . فإن كانا عربيَّيْن فالمنعُ من الصَرْف للعلميَّةِ والوزن ، وإن كانا أعجميَّيْن فللعلميَّةِ والعُجْمة . وقرأ الأعمش : " ولا يَغُوْثاً ويَعُوْقاً " مصورفَيْن . قال ابن عطية : " وذلك وهمٌ : لأنَّ التعريفَ لازمٌ ووزنَ الفعل " انتهى . وليس بوهمٍ لأمرَيْن ، أحدهما : أنه صَرَفَهما للتناسُبِ ، إذ قبله اسمان منصرفان ، وبعده اسمٌ منصرفٌ ، كما صُرِفَ " سلاسل " . والثاني : أنه جاء على لغةِ مَنْ يَصْرِفُ غيرَ المنصرِف مطلقاً . وهي لغةٌ حكاها الكسائيُّ .
ونقل أبو الفضل الصَّرْفَ فيهما عن الأشهبِ العُقَيْليِّ ثم قال : " جَعَلهما فَعُولاً؛ فلذلك صرفهما ، فأمَّا في العامَّة فإنهما صفتان من الغَوْث والعَوْق " . قلت : وهذا كلامٌ مُشْكِلٌ . أمَّا قولُه : " فَعُولاً " فليس بصحيحٍ ، إذ مادةُ " يغث " و " يعق " مفقودةٌ . وأمَّا قولُه : " صفتان من الغَوْث والعَوْق " فليس في الصفاتِ ولا في الأسماءِ " يَفْعُل " والصحيحُ ما قَدَّمْتُه . وقال الزمخشري : " وهذه قراءةٌ مُشْكِلة؛ لأنهما إنْ كانا عربيَّيْنِ أو أعجميَّيْنِ ففيهما مَنْعُ الصَّرْفِ ، ولعله قَصَدَ الازدواجَ فصرَفهما . لمصادفتِه أخواتِهما منصرفاتٍ : وَدَّاً وسُوعاً ونَسْراً " . قال الشيخ : " كأنه لم يَطَّلعْ على أنَّ صَرْفَ ما لا ينصرفُ لغةٌ " .
(1/5435)
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)
قوله : { وَقَدْ أَضَلُّواْ } : أي الرؤساءُ أو الأصنامُ ، / وجَمَعَهم جَمْعَ العقلاءِ معاملةً لهم معاملةً العقلاء .
قوله : { وَلاَ تَزِدِ } عطفٌ على قولِه : { رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي } [ نوح : 21 ] على حكايةِ كلامِ نوحٍ بعدَ " قال " وبعد الواوِ النائبةِ عنه ، أي : قال : إنهم عَصَوْني ، وقال : لا تَزِدْ ، أي : قال هذَيْن القولَيْن ، فهما في محلِّ النصب ، قاله الزمخشريُّ . قال : " كقولك : قال زيدٌ : نوديَ للصلاة وصَلِّ في المسجدِ ، تحكي قولَيْه معطوفاً أحدُهما على صاحبِه " . وقال الشيخ : " ولا تَزِدْ " معطوفٌ على " قد أَضَلُّوا " لأنها محكيَّةٌ ب " قال " مضمرةً ، ولا يُشْترط التناسُبُ في الجملِ المتعاطفةِ ، بل تَعْطِفُ خبراً على طلبٍ ، وبالعكس ، خلافاً لمَنْ اشترطه .
(1/5436)
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)
قوله : { مِّمَّا خطيائاتهم } : " ما " مزيدةٌ بين الجارِّ ومجرورِه توكيداً . ومَنْ لم يَرَ زيادتَها جَعَلها نكرةً ، وجَعَلَ " خطيئاتِهم " بدلاً ، وفيه تعسُّفٌ . وتقدَّم الخلافُ في قراءةِ " خَطِيْئاتِهم " في الأعراف . وقرأ أبو رجاء " خَطِيَّاتهم " جمعَ سلامةٍ ، إلاَّ أنَّه أَدْغَمَ الياءَ في الياءِ المنقلبةِ عن الهمزةِ . والجحدريُّ وتُرْوى عن أُبَيّ " خطيئتِهم " بالإِفراد والهمز . وقرأ عبد الله " مِنْ خطيئاتِهم ما أُغْرِقوا " فجعلَ " ما " المزيدةَ بين الفعلِ وما يتعلَّق به . و " مِنْ " للسببيَّةِ تتعلَّقُ ب " أُغْرِقوا " . قال ابن عطية : " لابتداء الغاية " ، وليس بواضح . وقرأ العامَّةُ " أُغرِقوا " مِنْ أَغْرق . وزيد بن علي " غُرِّقوا " بالتشديدِ ، وكلاهما للنَّقْلِ . تقول : أغرَقْتُ زيداً في الماء ، وغَرَّقْتُه فيه .
قوله : { فَأُدْخِلُواْ } يجوز أَنْ يكونَ من التعبيرِ عن المستقبلِ بالماضي ، لتحقُّقِ وقوعِه ، نحو : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] وأَنْ يكونَ على بابِه ، والمرادُ عَرْضُهم على النار في قبورِهم ، كقولِه في آلِ فرعونَ : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] .
(1/5437)
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)
قوله : { دَيَّاراً } : قال الزمخشري : " دَيَّار من الأسماءِ المستعملةِ في النفيِ العامِّ . يقال : " ما بالدار دَيَّارٌ ودَيُّورٌ " ، كقَيَّام وقَيُّوم . وهو فَيْعال من الدُّور أو مِنْ الدار . أصلُه دَيْوار ففُعِل به ما يُفْعَلُ بأصلِ سَيِّد ومَيَّت ، ولو كان فَعَّالاً لكان دَوَّاراً " انتهى . يعني أنه كان ينبغي أَنْ تَصِحَّ واوُه ولا تُقْلَبَ ياءً . وهذا نظيرُ ما تقدَّم له من البحثِ في " متحيِّز " ، وأنَّ أصلَه مُتَحَيْوِز مُتَفَيْعِل ، لا مُتَفَعِّل ، إذ كان يلزمُ أَنْ يكونَ مُتَحَوِّزاً ، لأنه من الحَوْز . ويقال أيضاً . فيه دَوَّار نحو : قَيَّام وقَوَّام .
وقال مكي : " وأصلُه دَيْوار ، ثم أَدْغَموا الواوَ في الياءِ مثلَ " مَيِّت " أصلُه مَيْوِت ، ثم أَدْغموا الثاني في الأولِ . ويجوز أَنْ يكونَ أَبْدلوا من الواوِ ياءً ، ثم أدغموا الياءَ الأولى في الثانية " . قلت : قولُه : " أدغموا الثاني في الأول " هذا لا يجوزُ؛ إذ القاعدةُ المستقرةُ في المتقارَبَيْنِ قَلْبُ الأولِ للثاني ، ولا يجوزُ العكسُ إلاَّ شذوذاً ، أو لضرورةٍ صناعيةٍ . أمَّا الشذوذُ فكقراءةِ : " واذكر " [ يوسف : 45 ] بالذالِ المعجمةِ و " فَهَلْ مِن مُّذَّكِرٍ " [ القمر : 15 ] بالمعجمةِ أيضاً . وقد مَضَى تحقيقُه . وأمَّا الضرورةُ الصناعيةُ فنحو : " امدحْ هِلالاً " بقَلْبِ الهاءِ حاءً؛ لئلا يُدْغَمَ الأقوى في الأضعفِ ، وهذا يَعْرِفُه مَنْ عانى التصريفَ .
(1/5438)
رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
قوله : { رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ } : العامَّةُ على فتحِ الدال على أنه تثنيةُ " والِد " يريد أبوَيْه . وقرأ الحسن بن علي رضي الله عنهما ويحيى بن يعمر والنخعي " ولوَلَدَيَّ " تثنيةَ " وَلَد " يعني ابنَيْه ساماً وحاماً . وقرأ ابن جبير والجحدريُّ " ولوالِدِيْ " بكسر الدال يعني أباه ، فيجوزُ أن يكونَ أرادَ أباه الأقربَ الذي وَلَدَه ، وخصَّه بالذِّكْر لأنه أشرفُ من الأم ، وأَنْ يريدَ جميعَ مَنْ وَلَدَه مِنْ لَدُنْ آدمَ عليه السلام إلى مَنْ وَلده . و " مؤمناً " حالٌ و " تَباراً " مفعولٌ ثانٍ ، والاستثناءُ مفرغٌ . والتبار : الهَلاكُ ، وأصلُه من التكسُّر والتفتُّتِ . وقد تقدَّم تحقيق ذلك وللَّهِ الحمدُ والمِنَّةُ . /
(1/5439)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)
قوله : { أُوحِيَ } : هذه قراءةُ العامةِ أعني كونَها مِنْ أَوْحَى رباعياً . وقرأ العَتكِيُّ عن أبي عمروٍ وابنُ أبي عبلة وأبو إياس " وُحِيَ " ثلاثياً ، وهما لغتان ، يقال : وحى إليه كذا ، وأَوْحاه إليه بمعنى واحدٍ . وأُنْشِد للعجاج :
4346 وَحَى لها القرارَ فاسْتَقَرَّت ... وقرأ زيدُ بن علي والكسائيُّ في روايةٍ وابنُ أبي عبلةَ أيضاً " أُحِي " بهمزةٍ مضومة ولا واوَ بعدها . وخُرِّجَتْ على أنَّ الهمزةَ بدلٌ من الواوِ المضمومةِ نحو : " أُعِدَ " في " وُعِدَ " فهذه فَرْعُ قراءةِ " وُحِيَ " ثلاثياً . قال الزمخشري : " وهو من القَلْبِ المطلقِ جوازُه في كلِّ واوٍ مضمومةٍ ، وقد أطلقَه المازنيُّ في المكسورةِ أيضاً كإشاح وإسادة و " إعَآءِ أَخِيهِ " [ يوسف : 76 ] ، قال الشيخ : " وليس كما ذَكَرَ ، بل في ذلك تفصيلٌ . وذلك أنَّ الواوَ المضمومةَ قد تكونُ أولاً وحَشْواً وآخِراً ، ولكلٍ منها أحكام . وفي بعضِ ذلك خلافٌ وتفصيلٌ مذكورٌ في النحو " . قلت : قد تقدَّم القولُ في ذلك مُشْبَعَاً في أولِ هذا الموضوعِ ولله الحمدُ . ثم قال الشيخ : بعد أن حكى عنه ما قَدَّمْتُه عن المازني " وهذا تكثيرٌ وتبجُّحٌ . وكان يَذْكُرُ ذلك في سورة يوسف عند قوله { وِعَآءِ أَخِيهِ } [ يوسف : 76 ] . وعن المازنيِّ في ذلك قولان ، أحدُهما : القياسُ كما ذكر ، والثاني : قَصْرُ ذلك على السَّماع " . قلت : لم يَبْرَحِ العلماءُ يَذْكرون النظيرَ مع نظيرِه ، ولَمَّا ذَكَرَ قَلْبَ الهمزةِ بأطِّرادٍ عند الجميعِ ذَكَرَ قَلْبَها بخلافٍ .
قوله : { أَنَّهُ استمع } هذا هو القائمُ مَقَامَ الفاعل؛ لأنَّه هو المفعولُ الصريحُ ، وعند الكوفيين والأخفش يجوزُ أَنْ يكونَ القائمُ مَقامَه الجارَّ والمجرورَ ، فيكونَ هذا باقياً على نصبِه . والتقدير : أُوْحي إليَّ استماعَ نَفَرٍ . و " مِنْ الجنِّ " صفةٌ ل " نَفَرٌ " ووَصْفُ القرآنِ بعَجَب : إمَّا على المبالغةِ ، وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ ، أي : ذا عَجَبٍ ، وأمَّا بمعنى اسم الفاعلِ ، أي : مُعْجِب : و " يَهْدِي " صفةٌ أخرى .
(1/5440)
يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2)
وقرأ العامَّةُ : { الرشد } : بضمة وسكونٍ وابن عمر بضمِّهما ، وعنه أيضاً فَتْحُهما ، وتَقَدَّم هذا في الأعراف .
(1/5441)
وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)
قوله : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا } : قرأ الأخَوان وابن عامر وحفص بفتح " أنَّ " وما عُطِف عليها بالواو في اثنتي عشرة كلمةً ، والباقون بالكسرة . وقرأ ابنُ عامر وأبو بكرٍ " وإنه لَمَّا قام " بالكسرة ، والباقون بالفتح ، واتفقوا على الفتحِ في قوله : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } وتلخيص هذا : أن " أنَّ " المشددةَ في هذه السورةِ على ثلاثةِ أقسامٍ : قسمٍ ليس معه واوُ العطفِ ، فهذا لا خلاف بين القُرَّاءِ في فتحِه أو كسرِه . على حسبِ ما جاءَتْ به التلاوةُ واقْتَضَتْه العربيةُ ، كقولِه : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع } لا خلافَ في فتحِه لوقوعِه موقعَ المصدرِ وكقوله : { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً } [ الجن : 1 ] لا خلافَ في كسرِه لأنه محكيٌّ بالقول .
القسم الثاني أَن يقترنَ بالواوِ ، وهو أربعَ عشرةَ كلمةً ، إحداها : لا خلاف في فتحِها وهي : قولُه تعالى : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } [ الجن : 18 ] وهذا هو القسم الثالث والثانية : { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ } [ الجن : 19 ] كَسَرَها ابنُ عامرٍ وأبو بكر ، وفتحها الباقون . والاثنتا عشرةَ الباقيةُ : فَتَحها الأخوان وابن عامرٍ وحفص ، وكسرها الباقون ، كما تقدَّم تحريرُ ذلك كلِّه . والاثنتا عشرةَ هي قولُه : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا } ، { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ } [ الجن : 4 ] { وَأَنَّا ظَنَنَّآ } [ الجن : 5 ] { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ } [ الجن : 6 ] { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ } [ الجن : 7 ] { وَأَنَّا لَمَسْنَا } [ الجن : 8 ] { وَأَنَّا كُنَّا } [ الجن : 9 ] { وَأَنَّا لاَ ندري } [ الجن : 10 ] { وَأَنَّا مِنَّا الصالحون } [ الجن : 11 ] { وَأَنَّا ظَنَنَّآ } [ الجن : 12 ] { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا } [ الجن : 13 ] { وَأَنَّا مِنَّا المسلمون } [ الجن : 14 ] . وإذا عَرَفْتَ ضَبْطَها من حيث القراءاتُ فالتفِتْ إلى توجيهِ ذلك .
وقد اختلف الناسُ/ في ذلك فقال أبو حاتم في الفتح : " هو معطوفٌ على مرفوعِ " أُوْحِيَ " فتكونُ كلُّها في موضعِ رفعٍ لِما لم يُسَمَّ فاعِلُه " . وهذا الذي قاله قد رَدَّه الناسُ عليه : مِنْ حيث إنَّ أَكثرَها لا يَصِحُّ دخولُه تحت معمولِ " أُوْحِي " ألا ترى أنه لو قيل : أوُحي إليِّ أنَّا لَمَسْنا السماءَ ، وأنَّا كُنَّا ، وأنَّا لا نَدْري ، وأنَّا منَّا الصالحون ، وأنَّا لمَّا سَمِعْنا ، وأنَّا مِنَّا المسلمون لم يَسْتَقِمْ معناه . وقال مكي : " وعَطْفُ " أنَّ " على { آمَنَّا بِهِ } [ الجن : 2 ] أتَمُّ في المعنى مِنْ العطفِ على " أنَّه استمعَ " لأنك لو عَطَفْتَ { وَأَنَّا ظَنَنَّآ } [ الجن : 5 ] { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا } [ الجن : 13 ] { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس } [ الجن : 6 ] { وَأَنَّا لَمَسْنَا } [ الجن : 8 ] ، وشِبْهَ ذلك على { أَنَّهُ استمع } [ الجن : 1 ] لم يَجُزْ؛ لأنه ليس مِمَّا أُوْحِي ، إليه ، إنما هو أمرٌ أو خبر ، وأنه عن أنفسهم ، والكسرُ في هذا أَبْينُ ، وعليه جماعة مِنْ القُراءِ .
الثاني : أنَّ الفتحَ في ذلك عَطْفٌ على مَحَلِّ " به " مِنْ " آمَنَّا به " . قال الزمخشري : " كأنه قال : صَدَّقْناه وصَدَّقْناه أنه تعالى جَدُّ رَبَّنا ، وأنَّه كان يقولُ سفيهُنا ، وكذلك البواقي " ، إلاَّ أنَّ مكيَّاً ضَعَّفَ هذا الوجهَ فقال : والفتحُ في ذلك على الحَمْلِ على معنى " آمَنَّا به " وفيه بُعْدٌ في المعنى؛ لأنهم لم يُخْبِروا أنهم آمنوا بأنَّهم لَمَّا سَمِعوا الهدى آمنوا به ، ولم يُخْبِروا أنهم آمنوا أنه كان رجالٌ ، إنما حكى اللَّهُ عنهم أنهم قالوا ذلك مُخْبِرين به عن أنفسِهم لأصحابِهم ، فالكسرُ أَوْلى بذلك " وهذا الذي قاله غيرُ لازمٍ؛ فإنَّ المعنى على ذلك صحيحٌ .
(1/5442)
وقد سَبَق الزمخشريَّ إلى هذا التخريجِ الفَرَّاءُ والزجَّاجُ . إلاَّ أنَّ الفَرَّاء استشعر إشكالاً وانفصل عنه ، فإنه قال : " فُتِحَتْ " أنَّ " لوقوع الإِيمانِ عليها ، وأنت تجدُ الإِيمانَ يَحْسُنُ في بعضِ ما فُتحَ دونَ بعضٍ ، فلا يُمْنَعُ من إمضائِهنَّ على الفتح ، فإنه يَحْسُنُ فيه ما يُوْجِبُ فَتْحَ " أنَّ " نحو : صَدَقْنا وشَهِدْنا ، كما قالت العربُ :
4347 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعُيونا
فنصَبَ " العيونَ " لإِتباعِها الحواجبَ ، وهي لا تُزَجَّجُ . إنما تُكَحَّلُ ، فأضمر لها الكُحْلَ " انتهى . فأشار إلى شيءٍ مِمَّا ذكرَه مكيٌّ وأجاب عنه . وقال الزجَّاج : " لكنَّ وجهَه أَنْ يكونَ محمولاً على معنى " آمنَّا به "؛ لأنَّ معنى " آمَنَّا به " صَدَّقْناه وعَلِمْناه ، فيكون المعنى : صَدَّقْنا أنه تعالى جَدُّ ربِّنا " .
الثالث : أنه معطوفٌ على الهاء به " به " ، أي : آمنَّا به وبأنه تعالى جَدُّ ربِّنا ، وبأنه كان يقولُ ، إلى آخره ، وهو مذهب الكوفيين . وهو وإن كان قوياً من حيث المعنى إلاَّ أنَّه ممنوعٌ مِنْ حيث الصناعةُ ، لِما عَرَفْتَ مِنْ أنَّه لا يُعْطَفُ على الضميرِ المجرورِ إلاَّ بإعادةِ الجارِّ . وقد تقدَّم تحقيقُ هذَيْن القولَيْن مستوفىً في سورةِ البقرة عند قولِه : { وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام } [ البقرة : 217 ] على أنَّ مكِّيَّاً قد قَوَّى هذا لمَدْرَكٍ آخرَ وهو حَسَنٌ جداً ، قال رحمه الله : " وهو يعني العطفَ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ في " أنَّ " أجوَدُ منه في غيرها ، لكثرةِ حَذْفِ حرفِ الجرِّ مع " أنَّ " .
ووجهُ الكسرِ العطفُ على قوله : { إِنَّا سَمِعْنَا } [ الجن : 1 ] فيكون الجميعُ معمولاً للقولِ ، أي : فقالوا : إنَّا سَمِعْنا ، وقالوا : إنَّه تعالى جَدُّ ربِّنا إلى آخرِه . وقال بعضُهم : الجملتان مِنْ قولِه تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ } [ الجن : 6 ] { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ } [ الجن : 7 ] معترضتان بين قولِ الجنِّ ، وهما مِنْ كلامِ الباري تعالى ، والظاهرُ أنَّهما مِنْ كلامِهم ، قاله بعضُهم لبعضٍ . ووجهُ الكسرِ والفتحِ في قولِه : { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله } [ الجن : 19 ] ما تقدَّم . ووَجْهُ إجماعِهم على فتح { وَأَنَّ المساجد } [ الجن : 18 ] وجهان ، أحدُهما : أنَّه معطوفٌ على { أَنَّهُ استمع } [ الجن : 1 ] فيكونُ مُوْحى أيضاً . والثاني : أنه على حَذْفِ حرفِ الجرِّ ، وذلك الحرفُ متعلِّقٌ بفعل النهي ، أي : فلا تَدْعوا مع اللَّهِ أحداً؛ لأنَّ المساجدَ للَّهِ ، ذكرهما أبو البقاء .
قال الزمخشري : " أنه استمع " بالفتح؛ لأنَّه فاعلُ " أُوْحي " و
(1/5443)
{ إِنَّا سَمِعْنَا } [ الجن : 1 ] بالكسرِ؛ لأنَّه مبتدأٌ مَحْكِيٌّ بعد القولِ ، ثم تحملُ عليهما البواقي ، فما كان مِنَ الوحي فُتِحَ ، وما كان مِنْ قَوْل الجِنِّ كُسِرَ ، وكلُّهُنَّ مِنْ قولِهم إلاَّ/ الثِّنْتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ وهما : { وَأَنَّ المساجد } [ الجن : 18 ] { وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله } [ الجن : 19 ] . ومَنْ فتح كلَّهن فعَطْفاً على مَحَلِّ الجارِّ والمجرور في { آمَنَّا بِهِ } [ الجن : 2 ] ، أي : صَدَّقْناه ، وصَدَّقْنا أنه " .
وقرأ العامَّةُ : { جَدُّ رَبِّنَا } بالفتح مضافاً ل " رَبِّنا " ، والمرادُ به هنا العظمةُ . وقيل : قُدْرتُه وأمرُه . وقيل : ذِكْرُه . والجَدُّ أيضاً : الحَظُّ ، ومنه قولُه عليه السلام : " ولا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ " والجَدُّ أيضاً : أبو الأبِ ، والجِدُّ بالكسرِ ضِدُّ التَّواني في الأمر .
وقرأ عكرمةُ بضمِّ باءِ " رَبُّنا " وتنوينِ " جَدٌّ " على أَنْ يكون " ربُّنا " بدلاً مِنْ " جَدٌّ " ، والجَدُّ : العظيم . كأنه قيل : وأنَّه تعالى عظيمٌ ربُّنا ، فأبدل المعرفة من النكرةِ ، وعنه أيضاً " جَدَّاً " منصوباً منوَّناً ، " رَبُّنا " مرفوعٌ . ووجْهُ ذلك أَنْ ينتصِبَ " جَدَّاً " على التمييز ، و " ورَبُّنا " فاعلٌ ب " تعالى " وهو المنقولُ مِنْ الفاعليةِ ، إذ التقديرُ : تعالى جَدُّ رَبِّنا ، ثم صار تعالى ربُّنا جَدَّاً ، أي : عَظَمةً نحو : تَصَبَّبَ زيدٌ عَرَقاً ، أي : عَرَقُ زيدٍ . وعنه أيضاً وعن قتادةَ كذلك ، إلاَّ أنَّه بكسرِ الجيم ، وفيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، و " رَبُّنا " فاعلٌ ب " تعالى " والتقدير : تعالى ربُّنا تعالِياً جدَّاً ، أي : حقاً لا باطلاً . والثاني : أنَّه مصنوبٌ على الحالِ ، أي : تعالى ربُّنا حقيقةً ومتمكِّناً قاله ابنُ عطية .
وقرأ حميد بن قيس " جُدُّ ربِّنا " بضم الجيم مضافاً ل " ربِّنا " وهو بمعنى العظيم ، حكاه سيبويه ، وهو في الأصل من إضافةِ الصفةِ لموصوفِها؛ إذ الأصلُ : ربُّنا العظيمُ نحو : " جَرْدُ قَطِيفة " الأصل قطيفة جَرْدٌ ، وهو مُؤَول عند البَصْريين وقرأ ابن السَّمَيْفَع " جَدَى رَبِّنا " بألفٍ بعد الدال مضافاً ل " ربِّنا " . والجَدى والجَدْوى : النَّفْعُ والعَطاء ، أي : تعالى عَطاءُ ربِّنا ونَفْعُه .
والهاءُ في " أنَّه استمعَ " " وأنَّه تعالى " وما بعد ذلك ضميرُ الأمرِ والشأنِ ، وما بعده خبرُ " أنَّ " وقوله { مَا اتخذ صَاحِبَةً } مستأنَفٌ فيه تقريرٌ لتعالِي جَدِّه .
(1/5444)
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4)
قوله : { سَفِيهُنَا } : يجوزُ أَنْ يكونَ اسمَ كان ، " ويقول " الخبرُ ، ولو كان مثلُ هذه الجملةِ غيرَ واقعةٍ خبراً ل " كان " لامتنع تقديمُ حينئذٍ نحو : سفيهُنا يقول ، لو قلت : " يقولُ سفيهُنا " على التقديمِ والتأخيرِ لم يَجُزْ . والفرقُ : أنه في غيرِ بابِ " كان " يُلْبَسُ بالفعلِ والفاعلِ ، وفي باب " كان " يُؤْمَنُ ذلك . والثاني : أنَّ " سَفيهُنا " فاعلُ " يقولُ " والجملةُ خبرُ " كان " واسمُها ضميرُ الأمرِ مستترٌ فيها . وقد تقدَّم هذا في قولِه : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } وقوله " شَطَطاً " تقدَّم مثلُه في الكهف .
(1/5445)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5)
قوله : { ظَنَنَّآ أَن لَّن } : مخففةٌ ، واسمُها مضمرٌ ، والجملةُ المنفيةُ خبرُها ، والفاصلُ هنا حَرْفُ النفيِ . و " كَذِباً " مفعولٌ به ، أو نعتُ مصدرٍ محذوفٍ . وقرأ الحسنُ والجحدريُّ وأبو عبد الرحمن ويعقوبُ " تَقَوَّلَ " بفتح القافِ والواوِ المشدَّدةِ ، وهو مضارع " تَقوَّلَ " ، أي : كَذَّب . والأصلُ تتَقَوَّل ، فحذف إحدى التاءَيْن نحو : { تَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 152 ] وانتصب " كَذِباً " في هذه القراءةِ على المصدرِ؛ لأنَّ التقوُّلَ كَذِبٌ نحو قولِهم : قعدْتُ جُلوساً .
(1/5446)
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)
قوله : { مِّنَ الإنس } : صفةٌ لرجال ، وكذلك قولُه " من الجنِّ " .
(1/5447)
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)
قوله : { أَن لَّن يَبْعَثَ } : كقولِه : { أَن لَّن تَقُولَ } [ الجن : 5 ] وأَنْ وما في حَيِّزها سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولَيْ الظَّنِّ ، والمسألةُ من بابِ الإِعمال لأنَّ " ظنُّوا " يَطْلُبُ مفعولَيْن ، و " ظَنَنْتُم " كذلك ، وهو إعمال الثاني للحذفِ مِنْ الأولِ ، والضمير في " أنهم ظَنُّوا " للإِنسِ ، وفي " ظَنَنْتُم " للجنِّ ، ويجوزُ العكسُ . وبكلٍ قد قيل .
(1/5448)
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8)
قوله : { فَوَجَدْنَاهَا } : فيها وجهان ، أظهرُهما : أنَّها متعدِّيَةٌ لواحدٍ؛ لأنَّ معناها أصَبْنا ، وصادَفْنا ، وعلى هذا فالجملةُ مِنْ قولِه " مُلِئَتْ " في موضعِ نصبٍ على الحال . والثاني : أنَّها متعدِّيةٌ لاثنينِ ، فتكونُ الجملةُ في موضعِ المفعولِ الثاني .
" وحَرَساً " منصوبٌ على التمييزِ نحو : " امتلأ الإِناءُ ماءً " . والحَرَسُ اسمُ جمع ل حارِس نحو : خَدَم لخادِم ، وغَيَب/ لغائِب ، ويُجْمَعُ تكسيراً على أحْراس ، كقولِ امرىء القيس :
4348 تجاوَزْتُ أَحْراساً وأهوالَ مَعْشَرٍ ... عليَّ حِراصٍ لو يُشِرُّون مَقْتلي
والحارس : الحافظُ الرقيبُ ، والمصدرُ الحِراسةُ . و " شديداً " صفةٌ ل حَرَس على اللفظِ ، كقوله :
4349 أخشى رُجَيْلاً ورُكَيْباً عادِياً ... ولو جاءَ على المعنى لقيل : شِداداً بالجمع .
وقوله : { وَشُهُباً } جمعُ شِهاب ك كِتاب وكُتُب . وهل المرادُ النجومُ أو الحَرَسُ أنفسُهم؟ وإنما عَطَفَ بعضَ الصفاتِ على بعضٍ عند تغايُرِ اللفظِ كقولِه :
4350 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . أتى مِنْ دُونِها النَّأْيُ والبُعْدُ
وقرأ الأعرج " مُلِيَتْ " بياءٍ صريحةٍ دونَ همزةٍ . ومقاعِد جمعُ مَقْعَد اسمَ مكان .
(1/5449)
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)
قوله : { الآن } : هو ظرفٌ حاليٌّ . واستعير هنا للاستقبال كقوله :
4351 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولكنْ ... سأسْعى الآن إذ بلغَتْ أناها
فاقترنَ بحرفِ التنفيس ، وقد تقدَّم هذا في البقرة عند قوله { فالآن بَاشِرُوهُنَّ } [ البقرة : 187 ] ورَصَداً : إمَّا مفعولٌ له ، وإمَّا صفة لشِهاباً ، أي : ذا رَصَد . وجعل الزمخشريُّ الرَّصَد اسمَ جمعٍ كَحَرَس ، فقال : " والرَّصدُ : اسمُ جَمْعٍ للراصِد ك حَرَس على معنى : ذوي شِهابٍ راصِدين بالرَّجْم ، وهم الملائكةُ . ويجوزُ أَنْ يكونَ صفةً للشِّهاب ، بمعنى الراصِد ، أو كقولِه :
4352 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ومِعَىً جِياعاً
(1/5450)
وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)
قوله : { أَشَرٌّ أُرِيدَ } : يجوزُ فيه وجهان ، أحسنُهما ، الرفعُ بفعلٍ مضمرٍ على الاشتغالِ ، وإنما كان أحسنَ لتقدُّمِ طالبِ الفعلِ ، وهو أداةُ الاستفهامِ . والثاني : الرفعُ على الابتداءِ . ولقائلٍ أَنْ يقولَ : يتعيَّنُ هنا الرفعُ بإضمارِ فعلٍ لمَدْركٍ آخر : وهو أنَّه قد عُطِفَ ب " أم " فِعْلٌ ، فإذا أَضْمَرْنا الفعلَ رافِعاً كُنَّا قد عَطَفْنا جملةً فعليةً على مِثْلِها بخلافِ رفعِه بالابتداءِ ، فإنَّه حينئذٍ يُخْرِجُ " أم " عن كونِها عاطفةً إلى كونِها منقطعةً ، إلاَّ بتأويلٍ بعيدٍ : وهو أنَّ الأصلَ : أشرٌّ أُريد بهم أم خيرٌ ، فوَضَعَ قولَه { أَمْ أَرَادَ بِهِمْ } موضعَ " خيرٌ " وقولَه " أشرٌ " سادٌّ مَسَدَّ مفعولَيْ " ندري " بمعنى أنه مُعَلِّقٌ له ، وراعى معنى " مَنْ " في قولِه { بِهِمْ رَبُّهُمْ } فجَمَعَ .
(1/5451)
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)
قوله : { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ " دونَ " بمعنى " غير " ، أي : ومِنَّا غيرُ الصالحين ، وهو مبتدأٌ ، وإنما فُتِحَ لإِضافتِه إلى غيرِ متمكِّنٍِ ، كقوله : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] فيمَنْ نَصَبَ على أحدِ الأقوالِ ، وإلى هذا نحا الأخفشُ . والثاني : أنَّ " دونَ " على بابِها من الظرفية ، وأنها صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه : ومنا فريقٌ أو فوجٌ دونَ ذلك وحَذْفُ الموصوفِ مع " مِنْ " التبعيضيَّةِ يَكْثرُ كقولِهم : منا ظَعَنَ ومنَّا أقام ، أي : مِنَّا فريقٌ . والمعنى : ومِنَّا صالحون دونَ أولئك في الصَّلاح .
قوله : { كُنَّا طَرَآئِقَ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّ التقديرَ : كنَّا ذوي طرائقَ ، أي : ذوي مذاهبَ مختلفةٍ . الثاني : أنَّ التقدير : كُنَّا في اختلاف أحوالِنا مثلَ الطرائقِ المختلفةِ . الثالث : أنَّ التقدير : كُنَّا في طرائقَ مختلفةٍ كقولِه :
4353 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما عَسَل الطريقَ الثَّعْلَبُ
الرابع : أنَّ التقديرَ : كانَتْ طرائقُنا قِدَداً ، على حَذْفِ المضاف الذي هو الطرائقُ ، وإقامةِ الضميرِ المضافِ إليه مُقامَه ، قاله الزمخشري ، فقد جَعَلَ في ثلاثة أوجهٍ مضافاً محذوفاً؛ لأنَّه قَدَّرَ في الأول : ذوي ، وفي الثاني : مِثْلَ ، وفي الثالث : طرائقنا . ورَدَّ عليه الشيخ قولَه : كُنَّا في طرائق كقولِه :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما عَسَلَ الطريقَ الثعلبُ
بأنَّ هذا لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ أو نُدورٍ ، فلا يُخْرَّج القرآن عليه ، يعني تَعَدِّيَ الفعلِ بنفسِه إلى ظرفِ المكانِ المختصِّ .
والقِدَدُ : جمعُ قِدَّة ، والمرادُ بها الطريقة ، وأصلُها السيرةُ يقال : قِدَّةُ فلانٍ حسنةٌ أي : سِيرتُه وهو مِنْ قَدَّ السَّيْرَ أي : قَطَعَه على استواءٍ/ فاسْتُعير للسِّيرةِ المعتدلةِ قال :
4354 القابِضُ الباسِطُ الهادِيْ بطاعتِه ... في فِتْنة الناسِ إذا أهواؤُهم قِدَدُ
وقال آخر :
4355 جَمَعْتَ بالرأيِ مِنهم كلَّ رافضةٍ ... إذ هم طرائقُ في أهوائِهم قِدَدُ
(1/5452)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12)
قوله : { فِي الأرض } : حالٌ ، وكذلك " هَرَباً " مصدرٌ في موضع الحال تقديرُه : لن نُعْجِزه كائنين في الأرض أينما كُنَّا فيها ، ولن نُعْجزه هاربين منها إلى السماءِ .
(1/5453)
وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)
قوله : { فَلاَ يَخَافُ } : أي : فهو لا يخافُ ، أي فهو غيرُ خائف؛ ولأنَّ الكلامَ في تقديرِ مبتدأٍ وخبرٍ ، دَخَلَتِ الفاءُ ، ولولا ذلك لقيلَ : لا يَخَفْ ، قاله الزمخشري ، ثم قال : " فإنْ قلتَ : أيُّ فائدةٍ في رفعِ الفعلِ وتقديرِ مبتدأ قبلَه ، حتى يقعَ خبراً له ، ووجوبِ إدخالِ الفاءِ ، وكان كلُّ لك مستغنىً عنه بأَنْ يُقالَ لا يَخَفْ؟ قلت : الفائدةُ أنه إذا فَعَلَ ذلك فكأنَّه قيل : فهو لا يَخافُ ، فكان دالاًّ على تحقيقِ أنَّ المؤمِنَ ناجٍ لا مَحالةَ ، وأنه هو المختصُّ بذلك دونَ غيره " . قلت : سببُ ذلك أنَّ الجملةَ تكونُ اسميةً حينئذٍ ، والاسميةُ أدلُّ على التحقيقِ والثبوتِ من الفعلِيَّةِ . وقرأ ابن وثاب والأعمش " فلا يَخَفْ " بالجزمِ ، وفيها وجهان ، أحدُهما : ولم يَذْكُرِ الزمخشريُّ غيرَه أنَّ " لا " ناهيةٌ ، والفاءُ حينئذٍ واجبةٌ . والثاني : أنها نافيةٌ ، والفاءُ حينئذٍ زائدةٍ ، وهذا ضعيفٌ .
وقوله : { بَخْساً } فيه حَذْفُ مضافٍ أي : جزاءُ بَخْسٍ ، كذا قدَّره الزمخشريُّ ، وهو مُسْتَغْنَى عنه . وقرأ ابن وثاب " بَخَساً " بفتح الخاء .
(1/5454)
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14)
قوله : { القاسطون } : قد تقدَّم في أول النساء : أنَّ قَسَط الثلاثيَّ بمعنى جار ، وأَقْسَط الرباعيَّ بمعنى عَدَل ، وأنَّ الحَجَّاجَ قال لسعيد بن جبير : ما تقولُ فِيّ قال : إنك قاسِطٌ عادِلٌ . فقال الحاضرون : ما أحسنَ ما قال!! فقال : يا جهلةُ جَعَلني جائراً كافراً ، وتلا { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } [ الأنعام : 1 ] .
قوله : { تَحَرَّوْاْ رَشَداً } أي : قَصَدوا ذلك ، وطَلَبوه باجتهادٍ ، ومنه : التحرِّي في الشيءِ . قال الراغب : " حَرَى الشيءَ يَحْريه أي : قَصَدَ حَراه أي جانبَه ، وتَحَرَّاه كذلك ، وحَرَى الشيءُ يَحْرِي : نَقَصَ ، كأنه لَزِمَ الحَرَى ولم يَمْتَدَّ قال :
4356 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... والمَرْءُ بعد تَمامِه يَحْرِي
ويقال : رَماه الله بأفعى حارِيةٍ أي : [ ناقصةٍ ] شديدةٍ " انتهى ، وكأنَّ أصلَه مِنْ قولِهم : هو حَرٍ بكذا أي : حَقيقٌ به قَمِنٌ . و " رَشَداً " مفعولٌ به . والعامَّةُ " رَشَداً " بفتحتين . والأعرج بضمةٍ وسكونٍ .
(1/5455)
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)
قوله : { وَأَلَّوِ استقاموا } : " أنْ " هي المخففةُ . وقد تقدَّم أنه يُكتفى ب " لو " فاصلةً بين " أَنْ " الخفيفةِ وخبرِها ، إذا كان جملةً فعلية في سورة سبأ . وقال أبو البقاء هنا : و " لو " عوضٌ كالسين وسوف . وقيل : " لو " بمعنى " إنْ " و " أنْ " بمعنى اللامِ ، وليسَتْ بلازمةٍ كقوله : { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ } [ الشعراء : 16 ] وقال في موضعٍ آخرَ : { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ } [ المائدة : 73 ] ذكره ابن فَضَّال في " البرهان " . قلت : هذا شاذٌّ لا يُلتفت إليه البتَةَ؛ لأنه خلافُ النَّحْوِيين . وقرأ العامَّةُ بكسر واو " لو " على الأًصلِ . وابن وثاب والأعمشُ بضمِّها تشبيهاً بواوِ الضمير ، وقد تقدم تحقيقُه في البقرة .
وقوله : { غَدَقاً } الغَدَقُ بفتح الدال وكسرِها : لغتان في الماءِ الغزيرِ ، ومنه الغَيْداقُ : الماءُ الكثيرُ ، وللرجلِ الكثيرِ العَدْوِ ، والكثيرِ النطقِ . ويقال : غَدِقَتْ عينُه تَغْدَقُ أي : هَطَلَ دَمْعُها غَدَقاً . وقرأ العامَّةُ " غَدقاً " بفتحتَيْن . وعاصم فيما رَوَى عنه الأعشى بفتحِ الغينِ وكَسْرِ الدالِ ، وتقدَّم أنهما لغتان .
(1/5456)
لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
قوله : { يَسْلُكْهُ } : الكوفيون بياءِ الغَيْبة ، وهي واضحةٌ ، لإِعادةِ الضميرِ على الربِّ تعالى . وباقي السبعةِ بنونِ العظمة على الالتفات ، هذا كما تقدَّم في قولِه : { سُبْحَانَ الذي أسرى } [ الإِسراء : 1 ] ثم قال : { بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } . وقرأ ابن جندب " نُسْلِكْه " بنونٍ مضمومة مِنْ أَسْلَكه . وبعضُهم بالياء مِنْ تحتُ مضمومةً ، وهما لغتان . يُقال : سَلَكه وأسلكه . وأُنْشِدَ :
3457 حتى إذا أَسْلكوهم في قُتائِدَةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وسَلَكَ وأَسْلك يجوزُ فيهما أَنْ يكونا ضُمِّنا معنى/ الإِدخالِ فكذلك يتعدَّيان لاثنين . ويجُوز أَنْ يقالَ : يتعدَّيان إلى أحدِ المفعولَيْن بإسقاطِ الخافضِ ، كقولِه : { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] ، فالمعنى : يُدْخِلْه عذاباً ، أو يَسْلُكْه في عذاب ، هذا إذا قلنا : إنَّ " صَعَداً " مصدرٌ . قال الزمخشري : " يقال : صَعِدَ صَعَداً وصُعوداً ، فوصف به العذاب؛ لأنه يَتَصَعَّدُ المُعَذَّب أي يَعْلُوه ويَغْلِبُه ، فلا يُطيقه . ومنه قولُ عمرَ رضي الله عنه : " ما تَصَعَّدني شيءٌ ما تَصَعَّدَتْني خطبةُ النكاحِ " يريد : ما شقَّ عليَّ ولا غَلَبَني " . وأمَّا إذاجَعَلْناه اسماً لصَخْرةٍ في جهنمَ ، كما قاله ابنُ عباسٍ وغيرُه ، فيجوزُ فيه وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونَ " صَعَداً " مفعولاً به أي : يَسْلُكْه في هذا الموضع ، ويكون " عذاباً " مفعولاً مِنْ أَجْلِه . والثاني : أَنْ يكونَ " عذاباً " مفعولاً ثانياً ، كما تَقَدَّم ، و " صَعَداً " بدلاً مِنْ عذاب ، ولكنْ على حَذْفِ مضافٍ أي : عذابَ صَعَدٍ .
و " صَعَداً " بفتحتَيْن هو قراءةُ العامَّة . وقرأ ابن عباس والحسنُ بضمِّ الصاد وفتح العين ، وهو صفةٌ تقتضي المبالغة ك حُطَمٍ ولُبَدٍ ، وقُرِىءَ بضمَّتين وهو وصفٌ أيضاً ك جُنُب وشُلُل .
(1/5457)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)
قوله : { وَأَنَّ المساجد } : قد تقدَّم أنَّ السبعةَ أجمعَتْ على الفتح ، وأنَّ فيه وجهَيْنِ : حَذْفَ الجارِّ ويتعلَّقُ بقولِه : " فلا تَدْعُوا " وهو رأَيُ الخليلِ ، وجَعَله كقولِه : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } [ قريش : 1 ] فإنَّه متعلِّقٌ بقولِه : { فَلْيَعْبُدُواْ } [ قريش : 2 ] وكقولِه : { وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ } [ المؤمنون : 52 ] أي : ولأنَّ . والثاني : أنَّه عطفٌ على " أنَّه استمع " فيكون مُوْحَى . وقرأ ابن هرمز . وطلحة " وإنَّ المساجدَ " بالكسرِ ، وهو مُحْتَمِلٌ للاستئنافِ وللتعليلِ ، فيكونُ في المعنى كتقديرِ الخليلِ . والمساجد قيل : هي جَمْعُ " مَسْجِد " بالكسر وهو مَوْضِعُ السجُّودِ ، وتَقَدَّم أنَّ قياسَه الفتحُ . وقيل : هو جمع مَسْجَد بالفتح مُراداً به الآرابُ الورادةُ في الحديث : " الجبهةُ والأنفُ والركبتانِ واليدانِ والقَدَمان . وقيل : بل جمعُ مَسْجَد ، وهو مصدرٌ بمعنى السُّجود ، ويكون الجمعُ لاختلافِ الأنواعِ .
(1/5458)
وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)
قوله : { يَدْعُوهُ } : في موضع الحالِ أي : داعياً ، أي : مُوَحِّداً له .
قوله : { لِبَداً } قرأ هشام بضمِّ اللامِ ، والباقون بكسرِها . فالأولى . جمعُ لُبْدَة بضمِّ اللامِ نحو : غُرْفة وغُرَف . وقيل : بل هو اسمٌ مفردٌ صفةٌ من الصفاتِ نحو : " حُطَم " ، وعليه قولُه تعالى : { مَالاً لُّبَداً } [ البلد : 6 ] . وأمَّا الثانيةُ : فجمعُ " لِبْدَة " بالكسر نحو : قِرْبَة وقِرَب . واللِّبْدَة واللُّبْدة . الشيءُ المتلبِّدُ أي : المتراكبُ بعضُه على بعضٍ ، ومنه لِبْدَة الأسد كقولِه :
4358 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... له لِبْدَةٌ أظفارُه لم تُقَلَّم
ومنه " اللِّبْدُ " لتَلَبُّدِ بعضِه فوق بعض ، ولُبَدٌ : اسمُ نَسْرِ لُقمانَ ابنِ عادٍ ، عاش مِئَتي سنةٍ حتى قالوا : " طال الأمَدُ على لُبَدٍ " والمعنى : كادَتِ الجِنُّ يكونون عليه جماعاتٍ متراكمةً مُزْدَحمِيْن عليه كاللَّبِدِ .
وقرأ الحسنُ والجحدريُّ " لُبُداً " بضمتين ، ورواها جماعةٌ عن أبي عمروٍ ، وهي تحتملُ وجهَيْنِ ، أحدُهما : أَنْ يكونَ جمعَ لَبْد نحو : " رُهُن " جمعَ " رَهْن " . والثاني : أنَّه جمعُ " لَبُود " نحو : صَبورُ وصُبُر ، وهو بناءُ مبالغةٍ أيضاً . وقرأ ابن مُحَيْصن بضمةٍ وسكونٍ ، فيجوزُ أَنْ تكونَ هذه مخففةً من القراءةِ التي قبلها ، ويجوزُ أن تكونَ وَصْفاً برأسِه . وقرأ الحسن والجحدريُّ أيضاً " لُبَّداً " بضم اللام وتشديد الباء ، وهو جمعُ " لابِد " كساجِد وسُجَّد ، وراكع ورُكَّع . وقرأ أبو رجاء بكسرِ/ اللامِ وتشديدِ الباءِ وهي غريبةٌ جداً .
(1/5459)
قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20)
قوله : { قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو } : قرأ عاصمٌ وحمزةُ " قُلْ " بلفظِ الأمرِ التفاتاً أي : قُلْ يا محمدُ . والباقون " قال " إخباراً عن عبدِ الله وهو محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم . قال الجحدري : وهي في المصحفِ كذلك ، وقد تقدَّمَ لذلك نظائرُ في { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي } [ الإِسراء : 93 ] آخرَ الإِسراء ، وكذا في أولِ الأنبياءِ [ الآية : 4 ] ، وآخر " المؤمنون " .
(1/5460)
قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21)
قوله : { ضَرّاً وَلاَ رَشَداً } : قرأ الأعرجُ " رُشُداً " بضمَتْينِ . وجعل الضَّرَّ عبارةً عن الغَيِّ؛ لأنَّ الضَرَّ سببٌ عن الغَيِّ وثمرتُه ، فأقام المسبَّبَ مُقامَ سببِه . والأصلُ : لا أَمْلِكُ غَيَّاً ولا رَشَداً ، فذكر الأهمَّ . وقيل : بل في الكلامِ حَذْفان ، والأصل : لا أَمْلِكُ لكم ضَرَّاً ولا نَفْعاً ولا غَيَّاً ولا رَشَداً ، فحذفَ مِنْ كلِّ واحدٍ ما يَدُلُّ مقابِلُه عليه .
(1/5461)
قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)
قوله : { مُلْتَحَداً } : مفعولُ " أَجِدُ " لأنَّها بمعنى : أُصيبُ وأَلْقَى . والمُلْتَحَدُ هنا : المَسْلَكُ والمَذْهَبُ قال :
4359 يا لَهْفَ نفسي ولَهْفي غيرُ مُجْديَةٍ ... عَنِّي وما مِنْ قضاءِ الله مُلْتَحَدُ
أي : مَهْرَبٌ ومَذْهَبٌ .
(1/5462)
إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)
قوله : { إِلاَّ بَلاَغاً } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه استثناءٌ منقطعٌ . أي : لكنْ إنْ بَلَّغْتُ عن اللَّهِ رَحِمني؛ لأنَّ البلاغَ من الله لا يكونُ داخلاً تحت قولِه : { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } ، لأنه لا يكونُ مِنْ دونِ اللَّهِ ، بل يكونُ من اللَّهِ وبإعانتِه وتوفيقِه . الثاني : أنه متصلٌ . وتأويلُه : أنَّ الإِجارةَ مستعارةٌ للبلاغِ ، إذ هو سببُها ، وسببُ رحمتِه تعالى ، والمعنى : لن أجِدَ سبباً أميلُ إليه وأعتصمُ به ، إلاَّ أَنْ أُبَلِّغَ وأُطيعَ ، فيُجيرَني . وإذا كان متصلاً جاز نصبُه من وجهين ، أحدهما : وهو الأرجح أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ " مُلْتحداً "؛ لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ . والثاني : أنه منصوبٌ على الاستثناءِ ، وإلى البدليةِ ذهب أبو إسحاق . الثالث : أنه مستثنى مِنْ قولِه : { لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً } قال قتادة : أي لا أَمْلِكُ لكم إلاَّ بلاغاً إليكم .
وقرَّره الزمخشريُّ فقال : " أي : لا أَمْلِكُ إلاَّ بلاغاً من اللَّهِ ، و { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي } جملةٌ معترضةٌ اعترضَ بها لتأكيدِ نَفْيِ الاستطاعة " . قال الشيخ : " وفيه بُعْدٌ لطولِ الفَصْلِ بينهما " . قلت : وأين الطولُ وقد وقع الفَصْلُ بأكثرَ مِنْ هذا؟ وعلى هذا فالاستثناءُ منقطعٌ . الرابع : أنَّ الكلامَ ليس استثناءً بل شرطاً . والأصل : إنْ لا فأدغم ف " إنْ " شرطيةٌ ، وفعلُها محذوفٌ لدلالةِ مصدرِه والكلامِ الأولِ عليه ، و " لا " نافيةٌ والتقدير : إن لا أُبَلِّغْ بلاغاً من اللَّهِ فلن يُجيرَني منه أحدٌ . وجَعَلوا هذا كقولِ الشاعر :
4360 فطَلِّقْها فَلَسْتَ لها بكُفْءٍ ... وإلاَّ يَعْلُ مَفْرِقَكَ الحُسامُ
أي : وإنْ لا تُطَلِّقْها يَعْلُ ، حَذَفَ الشرطَ وأبقى الجوابَ . وفي هذا الوجهِ ضَعْفٌ من وجهَيْن ، أحدهما : أنَّ حَذْفَ الشرطِ دونَ أداتِه قليلٌ جداً . والثاني : أنَّه حُذِفَ الجزآن معاً أعني الشرطَ والجزاءَ ، فيكونُ كقولِه :
4361 قالَتْ بناتُ العَمِّ يا سَلْمى وإنْ ... كان فقيراً مُعْدَماً قالت : وإِنْ
أي : قالَتْ : وإنْ كان فقيراً فقد رَضِيْتُه . وقد يُقال : إنَّ الجوابَ إمَّا مذكورٌ عند من يرى جوازَ تقديمِه ، وإمَّا في قوةِ المنطوق به لدلالةِ ما قبلَه عليه .
قوله : { مِّنَ الله } فيه وجهان ، أحدهما : أنَّ " مِنْ " بمعنى عَنْ؛ لأنَّ بَلِّغ يتعدَّى بها ، ومنه قولُه عليه السلام : " ألا بَلِّغوا عني " والثاني : أنَّه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل " بلاغ " . قال الزمخشري : " مِن " ليسَتْ صلةً للتبليغ ، إنما هي بمنزلةِ " مِنْ " في قوله : { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله } [ التوبة : 1 ] بمعنى : بلاغاً كائناً من الله " .
قوله : { وَرِسَالاَتِهِ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنها منصوبةٌ نَسَقاً على " بلاغاً " كأنه قيل : لا أَمْلِكُ لكم إلاَّ التبليغَ والرسالاتِ ، ولم يَقُلِ الزمخشريُّ غيرَه . والثاني : أنها مجرورةٌ نَسَقاً على الجلالةِ أي : إلاَّ بلاغاً/ عن اللَّهِ وعن رسالاتِه ، كذا قَدَّره الشيخُ .
(1/5463)
وجَعَلَه هو الظاهرَ . وتجوَّز في جَعْلِه " مِنْ " بمعنى عن ، والتجوُّزُ في الحروفِ رأيٌ كوفيٌّ ، ومع ذلك فغيرُ منقاسٍ عندَهم .
قوله : { فَإِنَّ لَهُ نَارَ } العامَّة على كسرِها ، جَعَلوها جملةً مستقلة بعد فاءِ الجزاءِ . وقرأ طلحةُ بفَتْحِها ، على أنَّها مع ما في حَيِّزِها في تأويلِ مصدرٍ واقعٍ خبراً لمبتدأ مضمرٍ تقديرُه : فجزاؤهُ أنَّ له نارَ جهنمَ ، أو فحُكْمُه : أنَّ له نارَ جهنَم . قال ابن خالويه : " سَمِعْتُ ابنَ مجاهدٍ يقول : لم يَقْرَأْ به أحدٌ ، وهو لحنٌ؛ لأنه بعد فاءِ الشرط " . قال : " وسمعتُ ابنَ الأنباريِّ يقول : هو صوابٌ ومعناه ، فجزاؤُه أنَّ له نارَ جهنم " . قلت : ابنُ مجاهدٍ وإنْ كان إماماً في القراءاتِ ، إلاَّ أنَّه خَفِيَ عليه وجهُها ، وهو عجيبٌ جداً . كيف غَفَلَ عن قراءتَيْ { فَأنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } في الأنعام [ الآية : 54 ] ، لا جرم أنَّ ابنَ الأنباريِّ اسْتَصْوَبَ القراءةَ لِطُولِ باعِه في العربية .
قوله : { خَالِدِينَ } حالٌ من الهاء في " له " ، والعاملُ الاستقرارُ الذي تَعَلَّقَ به هذا الجارُّ ، وحَمَلَ على معنى " مَنْ " فلذلك جَمَعَ .
(1/5464)
حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
قوله : { حتى إِذَا } : قال الزمخشري : " فإنْ قُلْتَ : بِمَ تَعَلَّق " حتى " وجُعِلَ ما بعدَه غاية له؟ قلت : بقولِه : { يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } [ الجن : 19 ] على أنهم يتظاهرون عليه بالعَداوةِ ، ويَسْتَضْعِفون أنصارَه ، ويَسْتَقِلُّون عَددَه ، حتى إذا رَأَوْا ما يُوْعَدون مِنْ يوم بدرٍ ، وإظهارِ اللَّهِ عليهم ، أو مِنْ يومِ القيامةِ فسَيَعْلمونَ حينئذٍ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً . قال : " ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ دَلَّتْ عليه الحالُ : مِن استضعافِ الكفارِ واستقلالِهم فعددِه ، كأنه [ قال : ] لا يزالون على ما هم عليه ، حتى إذا رَأَوْا ما يُوْعَدون قال المشركون : متى هذا الموعدُ؟ إنكاراً له : فقال : قُلْ إنه كائنٌ لا ريبَ فيه . قال الشيخ : " قولُه : بِمَ تَعَلَّق؟ إن عَنَى تعلُّقَ حرفِ الجرِّ فليس بصحيح لأنَّها حرفُ ابتداءٍ فما بعدها ليس في موضعِ جرٍ خلافاً للزجَّاجِ وابنِ دُرُسْتَوَيْه فإنهما زعما أنها إذا كانَتْ حرفَ ابتداءٍ فالجملةُ الابتدائيةُ بعدها في موضع جرِّ . وإنْ عَنَى بالتعلُّقِ اتصالَ ما بعدَها بما قبلَها وكونَ ما بعدَها غايَةً لِما قبلَها فهو صحيحٌ . وأمَّا تقديرُه أنها تتعلَّقُ بقولِه : { يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } فهو بعيدٌ جداً لطولِ الفَصْلِ بينهما بالجملِ الكثيرةِ . وقدَّر بعضُهم ذلك المحذوفَ المُغَيَّا ، فقال : تقديرُه : دَعْهم حتى إذا . وقال التبريزي : " جازَ أَنْ تكونَ غايةً لمحذوفٍ " ولم يُبَيِّن ما هو؟ وقال الشيخ : " والذي يَظْهَرُ أنها غايةٌ لِما تَضَمَّنْتْه الجملةُ التي قبلَها مِنْ الحُكْم بكينونةِ النارِ لهم . كأنَّه قيل : إنَّ العاصِيَ يُحْكَمُ له بكَيْنونةِ النارِ ، والحُكْمُ بذلك هو وعيدٌ ، حتى إذا رَأَوْا ما حَكَم بكينونتِه لهم فسَيَعْلمون " .
قوله : { مَنْ أَضْعَفُ } يجوزُ في " مَنْ " أن تكونَ استفهاميةً فترتفعَ بالابتداء ، و " أضعفُ " خبرُه . والجملةُ في موضعِ نصبٍ سادَّةً مَسَدَّ المفعولَيْن لأنها مُعَلِّقَةٌ للعلمِ قبلَها ، وأَنْ تكونَ موصولةً ، و " أَضْعَفْ " خبرُ مبتدأ مضمرٍ . أي : هو أَضْعَفُ . والجملةُ صلةٌ وعائدٌ . وحَسَّن الحَذْفَ طولُ الصلةِ بالتمييزِ . والموصولُ مفعولٌ للعِلْم بمعنى العِرْفان .
(1/5465)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25)
قوله : { أَقَرِيبٌ } : خبرٌ مقدَّمٌ و " ما تُوعَدون " [ مبتدأ ] . ويجوز أن يكون " قريبٌ " مبتدأً لاعتماده على الاستفهام . و " ما تُوعَدون " فاعلٌ به أي : أقربُ الذي تُوْعَدون ، نحو : أقائمٌ أبواك . و " ما " يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً ، فالعائدُ محذوفٌ ، وأَنْ تكونَ مصدريةً فلا عائدَ/ و " أم " : الظاهرُ أنها متصلةٌ . وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ ما معنى { أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَداً } والأمدُ يكونُ قريباً وبعيداً؟ ألا ترى إلى قولِه { تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } [ آل عمران : 30 ] قلت : كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم يَستَقْرِبُ المَوْعِدَ فكأنه قال : " ما أَدْري أهو حالٌ متوقَّعٌ في كلِّ ساعةٍ أم مُؤَجَّلٌ ضُرِبَتْ له غايةٌ " .
(1/5466)
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26)
قوله : { عَالِمُ الغيب } : العامَّةُ على رفعِهِ : إمَّا بدلاً مِنْ " ربي " ، وإمَّا بياناً له ، وإمَّا خبراً لمبتدأ مضمرٍ أي : هو عالِمُ . و قُرِىء بالنصبِ على المدحِ . وقرأ السُّدِّي " عَلِمَ الغيبَ " فعلاً ماضياً ناصباً للغيب .
قوله : { فَلاَ يُظْهِرُ } العامَّةُ على كونِه مِنْ أظْهر . و " أحَداً " مفعولٌ به . وقرأ الحسن " يَظْهَرُ " بفتحِ الياءِ والهاءِ ، مِنْ ظَهَر ثلاثياً . " أحَدٌ " فاعلٌ به .
(1/5467)
إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)
قوله : { إِلاَّ مَنِ ارتضى } : يجوزُ أَنْ يكونَ منقطعاً أي : لكن مَنْ ارتضاه فإنه يُظْهِرُه على ما يشاءُ مِنْ غَيْبِه بالوَحْيِ . وقولُه : " مِنْ رسولٍ " بيانٌ للمُرْتَضِيْنَ .
وقوله : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ } بيانٌ لذلك . وقيل : هو متصلٌ . و " رَصَداً " قد تقدَّم الكلامُ عليه . ويجوزُ أَنْ تكونَ " مَنْ " شرطيةً أو موصولةً متضمِّنَةً معنى الشرط . وقوله : " فإنَّه " خبرُ المبتدأ على القولَيْنِ . وهو من الاستثناءِ المنقطعِ أيضاً ، أي : لكن . والمعنى : لكنْ مَنْ ارتضاه من الرُّسُلِ فإنه يَجْعَلُ له ملائكةً رَصَداً يَحْفظونه .
(1/5468)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
قوله : { لِّيَعْلَمَ } : متعلقٌ ب " يَسْلُكُ " . والعامَّةُ على بنائه للفاعلِ . وفيه خلافٌ أي : لِيَعْلَمَ محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم . وقيل : لِيَعْلَمَ أي : ليَظْهَرَ عِلْمُه للناس . وقيل : ليَعْلَمَ إبليسُ . وقيل : ليَعْلَمَ المشركون . وقيل : لِيَعْلَمَ الملائكةُ ، وهما ضعيفان لإِفرادِ الضميرِ . والضميرُ في " أَبْلَغُوا " عائدٌ على " مَنْ " مِنْ قولِه : " مَنْ ارتَضَى " راعى لفظَها أولاً ، فأفردَ في قولِه : { مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } ، ومعناها ثانياً فَجَمَعَ في قولِه : " أَبْلَغُوا " إلى آخرِه .
وقرأ ابنُ عباس وزيدُ علي " لِيُعْلَمَ " مبنياً للمفعول . وقرأ ابن أبي عبلةَ والزُّهْري " لِيُعْلِمَ " بضمِّ الياءِ وكسرِ اللامِ أي : لِيُعْلِمَ اللَّهُ ورسولُه بذلك . وقرأ أبو حيوة " رسالة " بالإِفرادِ ، والمرادُ الجمعُ . وابن أبي عبلة " وأُحِيْط وأُحْصِيَ " مبنيين للمفعول ، " كلُّ " رفعٌ بأُحْصِي .
قوله : { عَدَداً } يجوزُ أَنْ يكونَ تمييزاً منقولاً من المفعولِ به . والأصل : أحصى عددَ كلِّ شيءٍ كقولِه تعالى : { وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } [ القمر : 12 ] أي : عيونَ الأرض ، على خلافٍ سَبَقَ في ذلك . ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً على المصدرِ من المعنى؛ لأنَّ " أحصَى " بمعنى عَدَّ ، فكأنه قيل : وعَدَّ كلَّ الفعل ، والفعلُ إلى المصدر . ومَنَعَ مكي كونَه مصدراً للإِظهار فقال : " عَدَداً " نَصْبٌ على البيانِ ، ولو كان مصدراً لأدغم " قلت : يعني : أنَّ قياسَه أَنْ يكونَ على فَعْل بسكونِ العين ، لكنه غيرُ لازمٍ فجاء مصدرُه بفتح العين . ولمَّا كان " لِيَعْلَمَ " مضمَّناً معنى : قد عَلِمَ ذلك ، جازَ عَطْفُ " وأحاط " على ذلك المقدَّرِ .
(1/5469)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1)
قوله : { المزمل } : أصلُه المتزَمِّلُ ، فأُدْغِمَت التاءُ في الزاي يقال : تَزَمَّل يتزَمَّلُ تَزَمُّلاً . فإذا أُريد الإِدغامُ اجْتُلِبَتْ همزةُ الوصلِ ، وبهذا الأصلِ قرأ أُبيُّ بن كعب . وقرأ عكرمةُ " المُزَمِّل " بتخفيفِ الزايِ وتشديدِ الميمِ ، اسمَ فاعلٍ ، على هذا فيكونُ فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ أصلَه المُزْتَمِلُ على مُفْتَعِل فأُبْدِلَتِ التاءُ ميماً وأُدْغِمَتْ ، قاله أبو البقاء ، وهو ضعيفٌ . والثاني : أنَّه اسمُ فاعلٍ مِنْ زَمَّل مشدداً ، وعلى هذا فيكون المفعولُ محذوفاً ، أي : المُزَمِّل جِسْمَه . وقُرِىء كذلك ، إلاَّ أنَّه بفتحِ الميمِ اسمَ مفعولٍ منه ، أي : المُلَفَّف . والتَّزَمُّلُ : التَّلَفُّفُ . يقال : تَزَمَّلَ زيدٌ بكساءٍ ، أي : التفَّ به قال ذو الرَّمة :
4362 وكائِنْ تَخَطَّتْ ناقتي مِنْ مَفازةٍ ... ومِنْ نائمٍ عن ليلِها مُتَزَمِّلِ
وقال امرؤ القيس :
4363 كأنَّ ثبيراً في أفانينِ وَدْقِه ... كبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ
وهو كقراءةِ بعضِهم المتقدِّمة . وفي التفسير : أنه نُودي بذلك لالتفافِه في كِساء .
(1/5470)
قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)
قوله : { قُمِ الليل } : العامَّةُ على كسر الميمِ لالتقاءِ السَّاكنَيْن . وأبو السَّمَّال بضمها إتباعاً لحركةِ القاف . وقُرِىءَ بفَتحِها طَلَباً للخِفَّةِ . قال أبو الفتح : " الغَرَضُ الهَرَبُ من التقاءِ الساكنَيْن ، فبأيِّ حركةٍ حُرِّك الأولُ حَصَلَ الغَرَضُ " . قلت : إلاَّ أنَّ الأصلَ الكسرُ لدليلٍ ذكره النحويون . و " الليلَ " ظرفٌ للقيامِ ، وإن استغرقه الحَدَثُ الواقعُ فيه . هذا قولُ البصريين ، وإمَّا الكوفيُّون فيجعلون هذا النوعَ مفعولاً به . /
(1/5471)
نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3)
قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ } : للناس في هذا كلامٌ كثيرٌ ، واستدلالٌ على جوازِ استثناءِ الأكثرِ والنصفِ ، واعتراضاتٌ وأجوبةٌ عنها . وها أنا أذكرُ ذلك مُحَرِّراً له بعون اللهِ تعالى .
اعلم أنَّ في هذه الآيةِ ثمانيةَ أوجهٍ أحدُها : أنَّ " نصفَه " بدلٌ من " الليلَ " بدلُ بعضٍ من كلٍ . و " إلاَّ قليلاً " استثناءٌ من النصفِ كأنه قيل : قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ . والضميرُ في " مِنْه " و " عليه " عائدٌ على النصفِ .
والمعنى : التخييرُ بين أمرَيْنِ : بينَ أَنْ يقومَ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ على البَتِّ ، وبين أَنْ يَخْتارَ أحدَ الأمرَيْن ، وهما : النُّقْصانُ من النصفِ والزيادةُ عليه ، قاله الزمخشريُّ : وقد ناقَشَه الشيخ : بأنه يَلْزَمُه تكرارٌ في اللفظِ؛ إذ يَصير التقديرُ : قُم نِصفَ الليلِ إلاَّ قليلاً مِنْ نِصْفِ الليل ، أو انقُصْ مِنْ نصفِ الليل . قال : " وهذا تركيبٌ يُنَزَّهُ القرآنُ عنه " . قلت : الوجهُ فيه إشكالٌ ، لا من هذه الحيثية فإنَّ الأمرَ فيها سهلٌ ، بل لمعنىً آخرَ [ سأَذْكرهُ قريباً إنْ شاء الله ] .
وقد جعل أبو البقاءِ هذا الوجهَ مرجوحاً فإنه قال : " والثاني هو بدلٌ مِنْ قليلاً يعني النصف قال : " وهو أَشبهُ بظاهرِ الآية لأنه قال : " أو انقُصْ منه أو زِدْ عليه " ، والهاءُ فيهما للنِّصْفِ . فلو كان الاستثناءُ من النصف لصار التقديرُ : قُم نصفَ الليل إلاَّ قليلاً أو انقُصْ منه قليلاً ، والقليلُ المستثنى غيرُ مقدَّر ، فالنقصانُ منه لا يُعْقَلُ " . قلت : الجوابُ عنه : أنَّ بعضَهم قد عَيَّنَ هذا القليلَ : فعن الكلبيِّ ومقاتلٍ : هو الثلثُ ، فلم يكن القليلُ غيرَ مقدَّرٍ . ثم إنَّ في قولِه تناقضاً لأنه قال : " والقليلُ المستثنى غيرُ مقدَّرٍ ، فالنقصانُ منه [ لا يُعْقَل " ] فأعاد الضميرَ على القليل ، وفي الأولِ أعادَه على النصفِ .
ولقائلٍ أن يقولَ : قد يَنْقَدحُ هذا الوجهُ بإشكالٍ قويٍّ : وهو أنَّه يَلْزَمُ منه تكرارُ المعنى الواحدِ : وذلك أنَّ قولَه : " قُمْ نِصْف الليلِ إلاَّ قليلاً " بمعنى : انقُصْ مِنْ الليل؛ لأنَّ ذلك القليل هو بمعنى النقصانِ ، وأنت إذا قلت : قُمْ نصفَ الليلِ إلاَّ القليلَ مِن النصفِ ، وقُمْ نصفَ الليل ، أو انقُصْ من النصفِ ، وجدتَهما بمعنىً . وفيه دقةٌ فتأمَّلْه ، ولم يَذْكُرِ الحوفيُّ غيرَ هذا الوجهِ المتقدِّمِ ، فقد عَرَفْتَ ما فيه .
ومِمَّنْ ذَهَبَ إليه أبو إسحاقَ فإنه قال : " نصفَه " بدلٌ من " الليل " و " إلاَّ قليلاً " استثناءٌ من النصفِ . والضميرُ في " منه " و " عليه " عائدٌ للنصف . المعنى : قُمْ نصفَ الليل أو انقُصْ من النصفِ قليلاً إلى الثلثِ ، أو زِدْ عليه قليلاً إلى الثلثِ ، أو زِد عليه قليلاً إلى الثلثَيْن ، فكأنَّه قال : قُمْ ثلثَيْ الليلِ أو نصفَه أو ثلثَه " .
(1/5472)
قلت : والتقديراتُ التي يُبْرزونها ظاهرةٌ حسنةٌ ، إلاَّ أنَّ التركيبَ لا يُساعِدُ عليها ، لِما عَرَفْتَ من الإِشكال الذي ذكَرْتُه لك آنفاً .
الثاني : أَنْ يكونَ " نصفَه " بدلاً مِنْ " قليلاً " ، وإليه ذهب الزمخشريُّ وأبو البقاء وابنُ عطية . قال الزمخشريُّ : " وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَ " نصفَه " بدلاً مِنْ " قليلاً " ، وكان تخييراً بين ثلاثٍ : بين قيامِ النصفِ بتمامِه ، وبين قيامِ الناقصِ منه ، وبين قيامِ الزائدِ عليه ، وإنما وَصَفَ النصفَ بالقِلَّةِ بالنسبة إلى الكلِّ " . قلت : وهذا هو الذي جعله أبو البقاء أَشْبَهَ مِنْ جَعْلِه بدلاً من " الليل " كما تقدَّمَ .
إلاَّ أنَّ الشيخ اعترض هذا فقال : " وإذا كان " نصفَه " بدلاً مِنْ " إلاَّ قليلاً " فالضميرُ في " نصفَه " : إمَّا أَنْ يعودَ على المبدلِ منه أو على المستثنى منه ، وهو " الليلَ " ، لا جائِزٌ أَنْ يعودَ على المبدلِ منه؛ لأنه يَصيرُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ؛ إذ التقديرُ : إلاَّ قليلاً نصفَ القليل ، وهذا لا يَصِحُّ له معنىً البتةَ ، وإن عاد الضميرُ على الليل فلا فائدةَ في الاستثناءِ من " الليل " ، إذ كان يكونُ أَخْصَرَ وأوضحَ وأَبْعَدَ عن الإِلباس : قُمِ الليلَ نصفَه . وقد أَبْطَلْنا قولَ مَنْ قال : " إلاَّ قليلاً " استثناءٌ من البدلِ ، وهو " نصفَه " ، وأنَّ التقديرَ : قُم الليلَ نصفَه إلاَّ قليلاً منه ، أي : من النصفِ . وأيضاً : ففي دَعْوى أنَّ " نصفَه " بدلٌ مِنْ " إلاَّ قليلاً " والضميرُ في " نِصفَه " عائدٌ على " الليل " ، إطلاقُ القليلِ على النصفِ ، ويَلْزَمُ أيضاً أَنْ يصيرَ التقديرُ : إلاَّ نصفَه فلا تَقُمْه/ ، أو انقُصْ من النصفِ الذي لا تقومه وهذا معنىً لا يَصِحُّ وليس المرادَ من الآيةِ قطعاً " .
قلت : نقولُ بجواز عَوْدِه على كلٍ منهما ، ولا يَلْزَمُ محذورٌ . أمَّا ما ذكره : مِنْ أنه يكونُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ فممنوعٌ ، بل هو استثناءُ معلومٍ من معلومٍ ، لأنَّا قد بَيَّنَّا أنَّ القليل قَدْرٌ معيَّنٌ وهو الثلثُ ، والليل ، فليس بمجهولٍ . وأيضاً فاستثناءُ المُبْهَمِ قد وَرَدَ . قال تعالى : { مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ } [ النساء : 66 ] . وقال تعالى : { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 249 ] وكان حقُّه أَنْ يقولَ : لأنه بدلُ مجهولٍ مِن مجهولٍ . وأمَّا ما ذكره مِنْ أَنَّ أَخْصَرَ منه وأَوْضَحَ كيتَ وكيت : أمَّا الأخْصَرُ فمُسَلَّمٌ . وأمَّا أنه مُلْبِس فممنوعٌ ، وإنما عَدَلَ عن اللفظِ الذي ذكَرَه لأنه أَبْلَغ .
وبهذا الوجهِ اسْتَدَلَّ مَنْ قال بجوازِ استثناءِ النصفِ والأكثرِ . ووجهُ الدلالةِ على الأولِ : أنَّه جَعَلَ " قليلاً " مستثنى من " الليل " ، ثم فَسَّر ذلك القليلَ بالنصفِ فكأنه قيل : قُمِ الليلَ إلاَّ نصفَه .
(1/5473)
ووَجْهُ الدلالةِ على الثاني : أنَّه عَطَفَ " أو زِدْ عليه " على " انقُصْ منه " فيكونُ قد استثنى الزائدَ على النصفِ؛ لأنَّ الضميرَ في " مِنْه " ، وفي " عليه " عائدٌ على النصفِ . وهو استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ الكثرة إنما جاءَتْ بالعطفِ ، وهو نظيرُ أَنْ تقول : " له عندي عشرةٌ إلاَّ خمسةً ودرهماً ودرهماً " فالزيادةُ على النصفِ بطريقِ العطفِ لا بطريقِ أن الاستثناءِ أخرجَ الأكثرَ بنفسِه .
الثالث : أنَّ " نصفَه " بدلٌ من " الليلَ " أيضاً كما تقدَّم في الوجه الأولِ ، إلاَّ أنَّ الضميرَ في " منه " و " عليه " عائدٌ على الأقلِّ من النصف . وإليه ذهب الزمخشري فإنه قال : " وإنْ شِئْتَ قلت : لَمَّا كان معنى { قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ } إذا أَبْدَلْتَ النصفَ من " الليل " : قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليل ، رَجَعَ الضميرُ في " منه " و " عليه " إلى الأقلِّ من النصفِ ، فكأنه قيل : قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ أو قُمْ أنقصَ مِنْ ذلك الأقلِّ أو أزيدَ مِنْه قليلاً ، فيكون التخييرُ فيما وراءَ النصفِ بينه وبينَ الثُّلُثِ " .
الرابع : أَنْ يكونَ " نصفَه " بدلاً مِنْ " قليلاً " كما تقدَّمَ ، إلاَّ أنَّك تجعلُ القليلَ الثاني رُبْعَ الليلِ . وقد أوضح الزمخشريُّ هذا أيضاً فقال : " ويجوز إذا أَبْدَلْتَ " نصفَه " مِنْ " قليلاً " وفَسَّرْتَه به أَنْ تجعلَ " قليلاً " الثاني بمعنى نصفِ النصفِ ، بمعنى الربع ، كأنه قيل : أو انقص منه قليلاً نصفَه ، وتجعلَ المزيدَ على هذا القليل أعني الربعَ نصفَ الربع ، كأنه قيل : أو زِدْ عليه قليلاً نصفَه . ويجوزُ أَنْ تجعلَ الزيادةَ لكونِها مُطْلَقَةً تتمَّةَ الثلثِ فيكون تخييراً بين النصفِ والثلثِ والرُّبُع " انتهى . وهذه الأوجهُ التي حَكَيْتُها عن أبي القاسم مِمَّا يَشْهدُ له باتِّساعِ عِلْمِه في كتاب الله . ولَمَّا اتسَعَتْ عبارتُه على الشيخ قال : " وما أوسعَ خيالَ هذا الرجلِ!! فإنه يُجَوِّزُ ما يَقْرُبُ وما يَبْعُدُ " . قلت : وما ضَرَّ الشيخَ لو قال : وما أوسعَ عِلْمَ هذا الرجلِ!! .
الخامس : أَنْ يكونَ " إلاَّ قليلاً " استثناءً مِنْ القيامِ ، فتجعلَ الليلَ اسم جنسٍ ثم قال : " إلاَّ قليلاً " أي : إلاَّ اللياليَ التي تترُكُ قيامَها عند العُذْرِ البيِّن ونحوِه : وهذا النَّظر يَحْسُنُ مع القولِ بالنَّدْبِ ، قاله ابنُ عطية ، احتمالاً مِنْ عندِه . وفي عبارته : " التي تُخِلُّ بقيامِها " فأَبْدَلْتُها : " التي تَتْرُكُ قيامَها " . وفي الجملة فهذا خلافُ الظاهرِ ، وتأويلٌ بعيدٌ .
السادس : قال الأخفش : " إنَّ الأصل : قُم الليلَ إلاَّ قليلاً أو نصفَه ، قال : " كقولك : أَعْطِه درهماً درهَمْين ثلاثةً " .
(1/5474)
أي : أو درهمَيْن أو ثلاثةً " . وهذا ضعيفٌ جداً؛ لأن فيه حَذْفَ حرفِ العطفِ ، وهو ممنوعٌ لم يَرِدْ منه إلاَّ شَيْءٌ شاذٌّ يمكن تأويلُه كقولِهم : " أكلْتُ لحماً سَمَكاً تَمْراً " . وقول الآخر :
4364 كيف أَصْبَحْتَ كيف أَمْسَيْتَ مِمَّا ... يَزْرَعُ الوُدَّ في فؤادِ الكريم
أي : لحماً وسمكاً وتمراً ، وكذا كيف أصبَحْتَ وكيف أمسَيْتَ . وقد خَرَّجَ الناس هذا على بَدَلِ البَداء .
السابع : قال التبريزيُّ : " الأمرُ بالقيام والتخييرُ في الزيادةِ والنقصان ، وقعَ على الثلثَيْن مِنْ آخرِ الليلِ؛ لأنَّ الثلثَ الأولَ وقتُ العَتَمَةِ ، والاستثناءُ واردٌ على المأمورِ به ، فكأنه قال : قُمْ ثُلُثي الليلِ إلاَّ قليلاً ، أي : ما دونَ نصفِه ، أو زِدْ عليه ، أي : على الثلثَيْنِ ، فكان التخيير في الزيادةِ والنقصانِ واقعاً على الثلثَيْن " وهو كلامٌ غريبٌ لا يَظْهَرُ من هذا التركيبِ .
الثامن : أنَّ " نصفَه " منصوبٌ على إضمارِ فِعْلٍ/ ، أي : قُمْ نصفَه ، حكاه مكيٌّ عن غيرِه ، فإنَّه قال : " نصفَه بدلٌ من " الليل " وقيل : انتصبَ على إضمارِ : قُمْ نصفَه " . قلت : وهذا في التحقيقِ هو وجهُ البدلِ الذي ذكرَه أولاً؛ لأنَّ البدلَ على نيةِ تَكْرارِ العاملِ .
(1/5475)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)
قوله : { إِنَّا سَنُلْقِي } : هذه الجملةُ مستأنفةٌ . وقال الزمخشري : " وهذه الآيةُ اعتراضٌ " . ثم قال : " وأراد بهذا الاعتراضِ أنَّ ما كُلِّفَهُ مِنْ قيامِ الليلِ مِنْ جُملةِ التكاليفِ الثقيلةِ الصعبةِ التي وَرَدَ بها القرآنُ؛ لأنَّ الليلَ وقتُ السُّباتِ والراحةِ والهدوءِ ، فلا بُدَّ لِمَنْ أحياه مِنْ مُضادَّةٍ لطَبْعِه ومجاهدةٍ لنَفْسِه " . انتهى . يعني بالاعتراضِ من حيث المعنى لا من حيث الصناعةُ؛ وذلك أنَّ قولَه : { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ } مطابِقٌ لقولِه : { قُمِ الليل } فكأنه شابَهَ الاعتراضَ من حيث دُخولُه بين هذَيْن المتناسِبَيْنِ .
(1/5476)
إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)
قوله : { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل } : في الناشئةِ أوجهٌ ، أحدها : أنها صفةٌ لمحذوفٍ ، أي : النفسَ الناشئةَ بالليلِ التي تَنْشَأُ مِنْ مَضْجَعِها ، للعبادة ، أي : تَنْهَضُ وترتفعُ . مِنْ نَشَأَتِ السحابةُ : إذا ارتفعَتْ . ونَشَأ مِنْ مكانِه ونَشَز : إذا نَهَضَ قال :
4365 نَشَأْنا إلى خُوْصٍ بَرَى نَيَّها السُّرى ... وأَشْرَف منها مُشْرِفاتِ القَماحِدِ
والثاني : أنَّها مصدرٌ بمعنى قيامِ الليل ، على أنها مصدرٌ مِنْ نَشَأَ ، إذا قام ونَهَضَ ، فتكونُ كالعافية ، قالهما الزمخشري .
الثالث : أنها بلغةِ الحبشةِ ، نَشَأَ الرجلُ : أي قامَ من الليل . قال الشيخ : " فعلى هذا هي جمعُ ناشِىء ، أي : قائِم " ، أي : قائِم " . قلت : يعني أنها صفةٌ . لشيءٍ يُفْهِمُ الجَمْعُ ، أي : طائفةً أو فِرْقةً ناشئِةً ، وإلاَّ ففاعلٌ لا يُجْمَعُ على فاعِلة .
الرابع : أنَّ " ناشئة الليل " ساعاتُه؛ لأنها تَنْشَأ شيئاً بعد شيء . وقَيَّدها ابنُ عباس والحسنُ بما كان بعد العِشاء ، وما كان قبلَها فليسَ بناشئةٍ . وخَصَّصَتْها عائشةُ رضي الله عنها بمعنىً آخرَ : وهو أَنْ يكونَ بعد النومِ ، فلو لم يتقدَّمْها نومٌ لم تكُنْ ناشئةً .
قوله : { وَطْأً } قرأ أبو عمروٍ وابنُ عامر بكسرِ الواو وفتح الطاءِ بعدَها ألفٌ . والباقون بفتح الواو وسكون الطاء . وقرأ قتادةُ وشبلٌ عن أهل مكة " وِطْئاً " . وظاهرُ كلامِ أبي البقاءِ يُؤْذِنُ أنه قُرِىء بفتحِ الواو مع المدِّ فإنه قال : " وِطاء بكسرِ الواو بمعنى : مُواطَأَة ، وبفتحها اسمٌ للمصدر ، و " وَطْئاً " على فَعْل ، وهو مصدرٌ وَطِىءَ " فالوِطاءُ مصدرُ واطَأَ كقِتال مصدرِ قاتَل . والمعنى : أنها أشدُّ مواطَأةً ، أي : يُواطِىءُ قلبُها لسانَها ، إنْ أَرَدْتَ النفسَ ، أو يُواطىء فيها قَلْبُ القائمِ لسانَه ، إنْ أَرَدْتَ القيامَ أو العبادةَ أو الساعاتِ ، أو أشدُّ موافقةً لِما يُراد من الخُشوعِ والإِخلاصِ ، والوَطْءُ بالفتح أو الكسرِ على معنى : أشدُّ ثَباتَ قَدَمٍ وأَبْعدُ مِن الزّلَلِ ، أو أثقلُ وأغلظُ مِنْ صلاةِ النهارِ على المصلِّي ، من قولِه عليه السلام : " اللهم اشْدُدْ وَطْأَتَكَ على مُضَرَ " وعلى كلِّ تقدير فانتصابُه على التمييز .
قوله : { وَأَقْوَمُ } حكى الزمخشري : " أنَّ أَنَساً قرأ " وأَصْوَبُ قِيلاً " فقيل له : يا أبا حمزةَ إنما هي : وأقومُ!! " فقال : " إِنَّ أَقْوَمَ وأَصْوَبَ وأَهْيَأ واحدٌ " وأنَّ أبا سرار الغَنَوِيَّ قرأ " فحاسُوا خلالَ الديارِ " بالحاءِ المهمةِ فقيل له : هي بالجيم . فقال : حاسُوا وجاسُوا واحدٌ " . قلت : له غَرَضٌ في هاتَيْن الحكايَتَيْن ، وهو جوازُ قراءةِ القرآنِ بالمعنى ، وليس في هذا دليلٌ؛ لأنه تفسيرُ معنىً . وأيضاً فما بَيْنَ أيدينا قرآنٌ متواترٌ ، وهذه الحكايةُ آحادٌ . وقد تقدَّم أنَّ أبا الدرداءِ كان يُقرِىءُ رجالاً { إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم } [ الدخان : 44 ] فجعل الرجلُ يقول : اليتيم . فلمَّا تَبَرَّم به قال : طعامُ الفاجرِ يا هذا . فاستَدَلَّ به على ذلك مَنْ يَرَى جوازَه . وليس فيه دليلٌ؛ لأنَّ مقصودَ/ أبي الدرداءِ بيانُ المعنى ، فجاء بلفظٍ مبينٍ .
(1/5477)
إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)
قوله : { سَبْحَاً } : العامَّةُ على الحاء المهملة وهو مصدرُ سَبَحَ ، وهو استعارةٌ ، استعارَ للتصرُّفِ في الحوائجِ السِّباحةَ في الماءِ ، وهي البُعْدُ فيه . وقرأ يحيى بن يعمر وعكرمة وابنُ أبي عبلة سَبْخاً " بالخاء المعجمةِ . واختلفوا في تفسيرِها ، فقال الزمخشري : " استعارةً مِنْ سَبْخِ الصُّوفِ : وهو نَفْشُه ونَشْرُ أجزائِه لانتشارِ الهَمِّ وتفرُّقِ القلبِ بالشواغل . وقيل : التَّسبيخُ : التخفيفُ ، حكى الأصمعيُّ : سَبَخَ الله عَنَك الحُمَّى ، أي : خَفَّفَها عنك . قال الشاعر :
4366 فَسَبِّخْ عليكَ الهَمَّ واعلمْ بأنَّه ... إذا قَدَّرَ الرحمنُ شيئاً فكائِنُ
أي : خَفِّفَ . ومنه " لا تُسَبِّخي بدُعائِك " ، أي : لا تُخَفِّفي . وقيل : التَّسْبيخ : المَدُّ . يقال : سَبِّخي قُطْنَكِ ، أي : مُدِّيه ، والسَّبيخة : قطعة من القطن . والجمعُ سبائخُ . قال الأخطل يصف صائِداً وكلاباً :
4367 فأَرْسَلوهُنَّ يُذْرِيْنَ الترابَ كما ... يُذْرِيْ سبائخَ قُطْنٍ نَدْفُ أوتارِ
وقال أبو الفضل الرازي : " وقرأ ابن يعمرَ وعكرمة " سَبْخاً " بالخاء معجمةَ وقالا : معناه نَوْماً ، أي : يَنامُ بالنهار ليَسْتعينَ به على قيام الليل . وقد تحتمِلُ هذه القراءةُ غيرَ هذا المعنى ، لكنهما فَسَّراها فلا تَجاوُزَ عنه " . قلت : في هذا نظرٌ؛ لأنهما غايةُ ما في البابِ أنَّهما نقلا هذه القراءةَ ، وظَهَرَ لهما تفسيرُها بما ذكرا ، ولا يَلْزَمُ مِنْ ذلك أنَّه لا يجوزُ غيرُ ما ذَكَرا مِنْ تفسيرِ اللفظة .
(1/5478)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)
قوله : { تَبْتِيلاً } : مصدرٌ على غير الصدرِ وهو واقعٌ موقعَ التَّبَتُّل؛ لأنَّ مصدرَ تَفَعَّل نحو : تَصَرَّفَ تَصَرُّفاً ، وتكرَّمَّ تكرُّماً . وأمَّا التفعيلُ فمصدرُ فَعَّل نحو : صَرَّف تَصْرِيفاً . ومثلُه قولُ الشاعر :
4367 وقد تَطَوَّيْتُ انْطِواءَ الحِضْبِ ... فأوقعَ الانفعالَ مَوْقِعَ التَّفَعُّل . قال الزمخشري : " لأنَّ معنى تَبَتَّل : " بَتَّلَ نفسَه ، فجيْءَ به على معناه مراعاةً لحَقِّ الفواصِل " . والتبتُّل : الانقطاعُ . ومنه " امرأة بتولٌ " ، أي : انقطَعَتْ عن النِّكاحِ ، وبَتَلْتُ الحَبْلَ : قَطَعْتُه . قال الليث : البَتْلُ : تمييزُ الشيءِ من الشيءِ . وقالوا : " طَلْقَةٌ بَتْلَةٌ " ، و " هِبَةٌ بَتْلَةٌ " يعنونَ انقطاعها عن صاحبِها ، فالتبتيلُ تَرْكُ النِّكاحِ ، والزهدُ فيه . والمرادُ به في الآيةِ الكريمة الانقطاعُ إلى عبادةِ اللهِ تعالى دونَ تَرْكِ النكاحِ ، وفي الحديث : " أنَّه نَهَى عن التبتُّل " ، أي : الانقطاع عن النِّكاح ، ومنه سُمِّي الراهبُ " مُتَبتِّلاً " لانقطاعِه عن النكاحِ . قال امرؤ القيس :
4368 تُضِيْءُ الظلامَ بالعَشِيِّ كأنَّها ... منارةُ مُمْسَى راهِبٍ مُتَبَتِّلِ
(1/5479)
رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)
قوله : { رَّبُّ المشرق } : قرأ الأخَوان وأبو بكر وابن عامر بجرِّ " ربِّ المشرق " على النعت ل " ربِّك " أو البدلِ منه أو البيانِ له . وقال الزمخشري : " وعن ابن عباس على القَسَم بإضمارِ حرفِ القسمِ كقولك : " اللَّهِ لأفعلَنَّ " ، وجوابُه { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } كما تقول : " واللَّهِ لا أحدَ في الدار إلاَّ زيدٌ " قال الشيخ : " لعلَّ هذا التخريجَ لا يَصِحُّ عن ابن عباس؛ لأنَّ فيه إضمارَ الجارِّ ، ولا يُجيزه البصريون إلاَّ مع لفظِ الجلالةِ المعظمةِ خاصةً ، ولأن الجملةَ المنفيَّة في جوابِ القسم إذا كانَتْ اسميةً فإنما تُنْفَى ب " ما " وحدَها ، ولا تُنْفَى ب " لا " إلاَّ الجملةُ المصدرةُ بمضارعٍ كثيراً ، أو بماضٍ في معناه قليلاً ، نحو قولِه :
4369 رِدُوا فواللَّهِ لا ذُذْناكُمُ أبداً ... ما دام في مائنا وِرْدٌ لوُرَّادِ
والزمخشريُّ أورد ذلك على سبيلِ التجويزِ والتسليمِ ، والذي ذكره النحويُّون هو نفيُها ب " ما " كقوله :
4370 لَعَمْرُك ما سَعْدٌ بخُلَّةِ آثمٍ ... ولا نَأْنَأٍ يومَ الحِفاظِ ولا حَصِرْ
قلت : قد أطلق الشيخ جمالُ الدين بن مالك أنَّ الجملةَ المنفيَّةَ سواءً كانَتْ اسميةً أم فعلية تُتَلَقَّى ب " ما " أو " لا " أو " إنْ " بمعنى " ما " ، وهذا هو الظاهر .
وباقي السبعةِ برفعِه على الابتداءِ ، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } أو على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ ، أي : وهو رَبُّ . وهذا أحسنُ لارتباطِ الكلامِ بعضِه ببعضٍ . / وقرأ زيدُ بن عليٍّ " رَبَّ " بالنصبِ على المدحِ . وقرأ العامَّةُ " المَشْرِقِ والمغربِ " موحَّدتَيْن . وعبدُ الله وابن عباس " المشارِقِ والمغارِبِ " ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ " ربَّ " في قراءةِ زيد مِنْ وجَهْينِ آخرَيْنِ ، أحدُهما : أنَّه بدلٌ مِنْ " اسمَ ربِّك " أو بيانٌ له ، أو نعتٌ له ، قاله أبو البقاء ، وهذا يَجِيءُ على أن الاسمَ هو المُسمَّى . والثاني : أنه منصوبٌ على الاشتغالِ بفعلٍ مقدَّرٍِ ، أي : فاتَّخِذْ ربَّ المشرِقِ فاتَّخِذْه ، وما بينهما اعتراضٌ .
(1/5480)
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)
قوله : { والمكذبين } يجوزُ نصبُه على المعيَّةِ ، وهو الظاهرُ ، ويجوزُ على النَّسَقِ ، وهو أوفقُ للصِّناعةِ .
قول : { أُوْلِي النعمة } نعتٌ للمكَذِّبين . والنَّعْمَةُ بالفتح : التنعمُ ، وبالكسرِ : الإِنعام ، وبالضمِّ : المَسَرَّةُ . يقال : نُعْمُ ونُعْمَةُ عَيْنٍ .
قوله : { قَلِيلاً } نعتٌ لمصدرٍ ، أي : تَمْهيلاً ، أو لظرفِ زمانٍ محذوفٍ ، أي : زماناً قليلاً .
(1/5481)
إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12)
قوله : { أَنكَالاً } : جمعُ نِكْلٍ . وفيه قولان ، أشهرُهما : أنه القَيْدُ . وقيل : الغُلُّ ، والأولُ أَعْرَفُ . وقالت الخنساء :
4371 دَعاكَ فَقَطَّعْتُ أنكالَهُ ... وقد كُنَّ مِنْ قبلُ لا تُقْطَعُ
(1/5482)
وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13)
قوله : { ذَا غُصَّةٍ } : الغُصَّةُ : الشَّجَى ، وهو ما يَنْشَبُ في الحَلْقِ فلا يَنْساغُ . ويُقال : غَصَصْتَ بالكسرِ ، فأنتَ غاصٌّ وغَصَّانُ قال :
4372 لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ ... كنتُ كالغَصَّانِ بالماءِ اعتصاري
(1/5483)
يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)
قوله : { يَوْمَ تَرْجُفُ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوبٌ ب " ذَرْني " ، وفيه بُعْدٌ . والثاني : أنه منصوبٌ بالاستقرارِ المتعلِّقِ به " لَدَيْنا " . والثالث : أنه صفةٌ ل " عذاباً " فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : عذاباً واقعاً يومَ تَرْجُفُ . والرابع : أنه منصوبٌ ب " أليم " . والعامَّةُ " تَرْجُفُ " بفتح التاءِ وضمِّ الجيمِ مبنياً للفاعلِ ، وزيدُ بن علي يقرؤُه مبنياً للمفعولِ مِنْ أَرْجَفَها .
قوله : { مَّهِيلاً } أصلُه مَهْيُول كمَضْروب ، فاستُثْقِلَتِ الضمةُ على الياءِ فنُقِلَتْ إلى الساكن قبلَها ، وهو الهاءُ ، فالتقى ساكنان . فاختلف النحاةُ في العمل في ذلك : فسيبويه وأتباعُه حذفوا الواوَ ، وكانَتْ أَوْلى بالحَذْفِ؛ لأنها زائدةٌ ، وإنْ كانَتْ القاعدةُ أنَّ ما يُحْذَفُ لالتقاءِ الساكنَيْن الأولُ ، ثم كَسَرُوا الهاءَ لتَصِحَّ الياءُ ، ووزنُه حينئذٍ مَفِعْل . والكسائيُّ والفراء والأخفش حذفوا الياءَ؛ لأنَّ القاعدةَ في التقاءِ الساكنَيْنِ إذا احْتِيج إلى حَذْفِ أحدِهما حُذِفَ الأولُ وكان ينبغي على قولِهم أَنْ يُقال : فيه : مَهُوْل ، إلاَّ أنَّهَم كَسَروا الهاءَ لأجلِ الياءِ التي كانَتْ ، فقُلِبت الواوُ ياءً ، ووزنُه حينئذٍ مَفُوْلاً على الأصلِ ، ومَفِيلاً بعد القلب .
قال مكي : " وقد أجازوا كلُّهم أَنْ يأتيَ على أصلِه في الكلامِ فتقول : مَهْيُوْل ومَبْيُوْع ، وما أشبه ذلك مِنْ ذواتِ الياءِ . فإنْ كان مِنْ ذواتِ الواوِ لم يَجُزْ أَنْ يأتيَ على أصلِه عند البصريين ، وأجازه الكوفيون نحو : مَقْوُوْل ومَصْوُوْغ ، وأجازوا كلُّهم مَهُوْل ومَبُوْع على لغةِ مَنْ قال : بُوع المتاعُ ، وقوُل القولُ ، ويكونُ الاختلافُ في المحذوفِ منه على ما تقدَّم " . قلت : التتميمُ في مَبْيُوع ومَهْيُوْل وبابِه لغةُ تميم ، والحَذْفُ لغةُ سائرِ العربِ . ويُقال : هِلْتُ الترابَ أَهيلُه هَيْلاً فهو مَهِيل . وفيه لغةٌ : أَهْلتُه رباعياً إهالةً فهو مُهال نحو : أبَعْتُه إباعَةً فهو مُباعٌ .
والكثيبُ : ما اجتمع من الرَّمْل/ والجمعُ في القلَّة : أَكْثِبَة ، وفي الكثرة : كُثْبان وكُثُب ، كرَغِيف وأرْغِفَة ورُغْفان ورُغُفُ . قال ذو الرمة :
4373 فقلت لها : لا إنَّ أهليَ جيرةٌ ... لأكثبةِ الدَّهْنا جميعاً وماليا
والمَهيلُ : ما انهالَ تحت القَدَمَ ، أي : انصَبَّ ، مِنْ هِلْتُ الترابَ ، أي : طَرَحْتُه ، قال الزمخشري : " مِنْ كَثَبْتُ الشيءَ إذا جَمَعْتَه ، ومنه الكُثْبةُ من اللبن . قالت الضائنة : أُجَزُّ جُفالاً وأُحْلَبُ كُثَباً عِجالاً " .
(1/5484)
فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)
قوله : { فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } : إنما عَرَّفه لتقدُّمِ ذِكْرِه ، وهذه أل العهديةُ ، والعربُ إذا قَدَّمَتْ اسماً ثم حَكَتْ عنه ثانياً أَتَوْا به مُعَرَّفاً بأل ، أو أَتَوْا بضميرِه لئلا يُلْبَسَ بغيرِه نحو : " رأيتُ رجلاً فأكرَمْت الرجلَ " أو فأَكْرَمْتُه ، ولو قُلْتَ : " فأكرَمْتُ رجلاً " لَتَوَهَّمَ أنه غيرُ الأولِ ، وسيأتي تحقيقُ هذا عند قولِه تعالى : { إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } [ الشرح : 6 ] وقولِه عليه السلام : " لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن " .
(1/5485)
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)
قوله : { يَوْماً } : منصوبٌ إمَّا ب " تَتَّقُون " على سبيلِ المفعولِ به تجوَّزاً . وقال الزمخشري : " يوماً " مفعولٌ به ، أي : فكيف تَقُوْنَ أنفسَكم يومَ القيامةِ وهَوْلَه إنْ بَقِيْتُمْ على الكفرِ؟ " . وناقشه الشيخُ فقال : " وتَتَّقون مضارعُ اتَّقى ، واتَّقى ليس بمعنى وَقَى حتى يُفَسِّرَه به ، واتقَّى يتعدَّى إلى واحدٍ ، ووَقَى يتعدَّى إلى اثنين . قال تعالى : { وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجحيم } [ الدخان : 56 ] . ولذلك قَدَّره الزمخشريُّ ب تَقُون أنفسَكم ، لكنه ليس " تَتَّقون " بمعنى يَقُوْن ، فلا يُعَدَّى تَعْديَتَه " انتهى .
ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على الظرفِ ، أي : فكيف لكم بالتقوى يومَ القيامة ، إنْ كَفَرْتُمْ في الدنيا؟ قاله الزمخشريُّ . ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ مفعولاً به ب " كَفَرْتُمْ " إذا جُعِل " كَفَرْتُمْ " بمعنى جَحَدْتُم ، أي فكيف تَتَّقون اللَّهَ وتَخْشَوْنه إنْ جَحَدْتُمْ يومَ القيامةِ؟ ولا يجوزُ أن ينتصِبَ ظرفاً ، لأنهم لا يكفرون ذلك اليومَ؛ بل يُؤْمِنون لا محالةَ . ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على إسقاطِ الجارِّ ، أي : إن كفرتُمْ بيومِ القيامةِ . والعامَّةُ على تنوين " يوماً " وجَعْلِ الجملةِ بعده نعتاً له . والعائدُ محذوفٌ ، أي : يَجْعل الوِلْدانَ فيه . قاله أبو البقاء ولم يتعرَّضْ للفاعلِ في " يَجْعَلُ " ، وهو على هذا ضميرُ الباري تعالى ، أي : يوماً يجعلُ اللَّهُ فيه . وأحسنُ مِنْ هذا أَنْ يُجْعَلَ العائدُ مضمراً في " يَجْعَلُ " هو فاعلَه ، وتكون نسبةُ الجَعْلِ إلى اليومِ من بابِ المبالغةِ ، أي : نفسُ اليوم يَجْعَلُ الوِلْدانَ شِيْبا .
وقرأ زيدُ بنُ عليّ " يومَ يَجْعَلُ " بإضافةِ الظرفِ للجملة . والفاعلُ على هذا هو ضميرُ الباري تعالى . والجَعْلُ هنا بمعنى التصيير ف " شِيْباً " مفعولٌ ثانٍ ، وهو جمعُ أَشْيَب . وأصلُ الشينِ الضمُّ فكُسِرَتْ لتصِحَّ الياءُ نحو : أحمر وحُمْر . قال الشاعر :
4374 مِنَّا الذي هُوَ ما إنْ طُرَّ شارِبُه ... والعانِسُون ومنا المُرْدُ والشِّيْبُ
وقال آخر :
4375 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... لَعِبْنَ بنا شِيْباً وشَيَّبْنَنا مُرْدا
(1/5486)
السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
قوله : { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } : صفةٌ أخرى ، أي : مُتَشَقِّقة بسبب هَوْلِه : وإنما لم تُؤَنَّثِ الصفةُ لأحدِ وجوهٍ منها : تأويلُها بمعنى السَّقْفِ . ومنها : أنها على النَّسَبِ أي : ذات انفطارٍ نحو : مُرْضِعٍ وحائضٍ . ومنها : أنها تُذَكَّر وتؤنَّثُ : أنشد الفراء :
4376 ولو رَفَعَ السَّماء إليه قوماً ... لَحِقْنا بالسَّماءِ وبالسَّحابِ
ومنها : أنَّها اسمُ جنسٍ يُفْرَّقُ بينه وبين واحدِه بالتاءِ فيقال : سَماءة وقد تقدَّم أنَّ في اسم/ الجنسِ والتذكيرَ والتأنيثَ؛ ولهذا قال الفارسي : " هو كقولِه : { جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } [ القمر : 7 ] { الشجر الأخضر } [ يس : 80 ] و { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] يعني فجاء على أحد الجائزَيْن . والباءُ فيه سببيَّةٌ كما تقدَّم . وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ تكونَ للاستعانةِ ، فإنه قال : " والباءُ في " به " مِثْلُها في قولِك : " فَطَرْتُ العُوْدَ بالقَدُومِ فانْفَطر به " .
قوله : { وَعْدُهُ } يجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ لله تعالى ، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ للعِلْمِ به ، فيكونُ المصدرُ مضافاً لفاعلِه . ويجوزُ أَنْ يكونَ لليومِ ، فيكونَ مضافاً لمفعولِه . والفاعلُ وهو اللَّهُ تعالى مُقَدَّرٌ .
(1/5487)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
قوله : { مِن ثُلُثَيِ الليل } : العامَّةُ على ضَمِّ اللامِ ، وهو الأصلُ كالرُّبُعِ والسُّدُسِ ، وقرأ هشام بإسكانِها تخفيفاً .
قوله : { وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } قرأ الكوفيون وابن كثير بنصبِهما ، والباقون بجرِّهما . وفي الجرِّ إشكالٌ كما سيأتي . فالنصبُ نَسَقٌ على " أَدْنى " لأنه بمعنى : وَقْتٌ أَدْنى ، أي : أقربُ . اسْتُعير الدنُوُّ لقُرْبِ المسافةِ في الزمانِ وهذا مطابقٌ لِما في أولِ السورةِ من التقسيمِ : وذلك أنَّه إذا قام أَدْنَى مِنْ ثُلُثي الليلِ صَدَقَ عليه أنه قام الليلَ إلاَّ قليلاً؛ لأنَّ الزمانَ الذي لم يَقُمْ فيه يكون الثلث وشيئاً من الثلثَيْن ، فيَصْدُقُ عليه قولُه : " إلاَّ قليلاً " . وأمَّا قولُه " ونِصْفَه " فهو مطابقٌ لقولِه أولاً " نِصْفَه " وأمَّا قولُه : " وثُلُثَه " فإنَّ قولَه : { أَوِ انقص مِنْهُ } قد ينتهي النَّقْصُ في القليل إلى أن يكونَ الوقتُ ثلثي الليلِ . وأمَّا قولُه : { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } فإنَّه إذا زاد على النصفِ قليلاً كان الوقتُ أقلَّ مِنَ الثلثَيْن . فيكونُ قد طابق أدْنى مِنْ ثلثي الليل ، ويكون قولُه تعالى : { نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً } شَرْحاً لمُبْهَمِ ما دَلَّ عليه قولُه : { قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً } . وعلى قراءةِ النصبِ فَسَّر الحسنُ " تُحْصُوه " بمعنى تُطيقوه .
وأمَّا قراءةُ الجرِّ فمعناها : أنه قيامٌ مُخْتَلِفٌ : مرةً أدنى من الثلثين ، ومرةً أَدْنى من النصفِ ، ومرةً أَدْنى من الثلثِ؛ وذلك لتعذُّرِ معرفةِ البشرِ بمقدارِ الزمانِ مع عُذْر النومِ . وقد أوضح هذا كلَّه الزمخشريُّ فقال : " وقُرِىء نصفَه وثلثَه بالنصبِ على أنك تقومُ أقلَّ من الثلثين ، وتقومُ النصفَ والثلثَ وهذا مطابِقٌ لِما مَرَّ في أولِ السورةِ من التخيير : بين قيامِ النصفِ بتامِه ، وين قيام الناقصِ منه ، وهو الثلثُ ، وبين قيامِ الزائدِ عليه ، وهو الأَدْنَى من الثلثَيْن . وقُرِىء بالجرِّ ، أي : تقومُ أقلَّ من الثلثَيْن وأقلَّ من النصفِ والثلثِ ، وهو مطابقٌ للتخييرِ بين النَّصْفِ وهو أَدْنى من الثلثين والثلثِ وهو أَدْنى من النصفِ والرُّبُع وهو أَدْنى من الثلثين والثلثِ وهو أَدْنى من النصفِ والرُّبُع وهو أدنى من الثلث وهو الوجهُ الأخيرُ " انتهى . يعني بالوجهِ الأخير ما قَدَّمه أولَ السورة من التأويلات .
وقال أبو عبد الله الفاسي : " وفي قراءةِ النصب إشكالٌ ، إلاَّ أَنْ يُقَدَّر : نصفَه تارةً ، وثلثَه تارةً ، وأقلَّ من النصفِ والثلثِ تارةً ، فيَصِحَّ المعنى " .
قوله : { وَطَآئِفَةٌ } رُفع بالعطفِ على الضميرِ في " يقومُ " ، وجَوَّزَ ذلك الفصلُ بالظرفِ وما عُطِفَ عليه .
قوله : { والله يُقَدِّرُ الليل } . قال الزمخشري : " وتقديمُ اسمِه عزَّ وجلَّ مبتدأً مبنيَّاً عليه " يُقَدِّرُ " هو الدالُّ على معنى الاختصاصِ بالتقديرِ " .
(1/5488)
ونازعه الشيخُ في ذلك فقال : " لو قيل : " زيدٌ يحفظُ القرآن " لم يَدُلَّ ذلك على اختصاصِه " . وجَعَلَ الاختصاصَ في الآيةِ مفهوماً من السِّياقِ لا ممَّا ذكره .
قوله : { أَنْ لَنْ } و " أَنْ سيكونُ " كلاهما مخففةٌ من الثقيلة ، والفاصلُ النفيُ وحرفُ التنفيسِ .
قوله : { وَآخَرُونَ } / عطفٌ على " مَرْضَى " ، أي : عَلِم أَنْ سيوجَدُ منكم قومٌ مَرْضى وقومٌ آخرون مسافرون . ف " يَضْرِبون " نعتٌ ل " آخرون " وكذلك " يَبْتَغون " . ويجوزُ أَنْ يكونَ " يَبْتَغون " حالاً مِنْ فاعل " يَضْرِبون " ، و " آخرون " عطفٌ على " آخرون " و " يقاتِلون " صفتُه .
قوله : { هُوَ خَيْراً } العامَّةُ على نصب الخير ، مفعولاً ثانياً . وهو : إمَّا تأكيدٌ للمفعولِ الأولِ أو فَصْلٌ . وجَوَّزَ أبو البقاء أن يكونَ بدلاً ، وهو غَلَطٌ؛ لأنَّه كان يَلْزَمُ أن يطابقَ ما قبلَه في الإِعرابِ فيقال : إياه . وقرأ أبو السَّمَّال وابن السَّمَيْفَع " خيرٌ " على أن يكونَ " هو " مبتدأً ، و " خيرٌ " خبرُه . والجملةُ مفعولٌ ثانٍ ل " تَجِدوه " . قال أبو زيد : " هي لغةُ تميم ، يرفعون ما بعد الفصل " وأنشد سيبويه :
4377 تَحِنُّ إلى ليلى وأنتَ تركتَها ... وكنتَ عليها بالمَلا أنتَ أَقْدَرُ
والقوافي مرفوعةٌ . ويُرْوَى " أقْدَارا " بالنصب . قال الزمخشري : و " هو فصْلٌ " وجاز وإنْ لم يَقَعْ بينَ معرفتَيْن لأنَّ " أَفْعَلَ مِنْ " أشْبَهَ في امتناعِه من حرفِ التعريف المعرفةَ " . قلت : هذا هو المشهورُ . وبعضُهم يُجَوِّزه في غيرِ أفعلَ من النكراتِ .
(1/5489)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)
قوله : { المدثر } : العامَّةُ على تشديدِ الدالِ وكسرِ الثاءِ ، اسمَ فاعلٍ من تَدَثَّر . وأصلُه المُتَدَثِّر ، فأُدْغِم كالمُزَّمِّل . وفي حرفِ أُبَيّ " المُتَدثِّرُ " على الأصل المُشارِ إليه . وقرأ عكرمةُ بتخفيفِ الدالِ اسمَ فاعلٍ ، مِنْ دَثَّر بالتشديد ، ويكون المفعولُ محذوفاً أي : المُدَثِّر نفسَه كما تقدَّمَ في " المُزَمِّل " . وعنه أيضاً فَتْحُ الثاءِ لأنه اسمُ مفعولٍ . قال الزمخشري : " مِنْ دَثَّره . يُقال : دُثِّرْتُ هذا الأمرَ ، وعُصِبَ بك كما قال في المُزَمَّل " انتهى . ومعنى " تَدَثَّر " لَبِسَ الدَّثارَ ، وهو الثوبُ الذي فوق الشِّعار ، والشِّعارُ ما يلي الجسَدَ . وفي الحديث : " الأَنْصارُ شِعارٌ والناسُ دِثارٌ " وسيفٌ داثِرٌ : بعيد العَهْدِ بالصِّقال . ومنه : قيل للمنزلِ الدارسِ : " داثِر " لِذَهابِ أعلامِه . وفلانٌ دَثْرُ المالِ أي : حَسَنُ القيام به .
(1/5490)
قُمْ فَأَنْذِرْ (2)
قوله : { قُمْ } : إمَّا أَنْ يكونَ من القيامِ المعهودِ ، وإمَّا مِنْ قام بمعنى : الأَخْذِ في القيام ، كقولِه :
4378 فقام يَذُوْدُ الناسَ عنها بسَيْفِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقول الآخر :
4379 على ما قام يَشْتِمُني لَئيمٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
في أحدِ القولَيْنِ . والقولُ الآخرَ : أن " قام " مزيدةٌ وفي جَعْلِها بمعنى الأخذ في القيامِ نظرٌ؛ لأنه حينئذٍ يَصيرُ مِنْ أخوات " عَسَى " فلا بُدَّ له مِنْ خبرٍ يكونُ فعلاً مضارعاً مجرَّداً مِنْ " أَنْ " .
قوله : { فَأَنذِرْ } مفعولُه محذوفٌ . أي : أنذِرْ قومَك عذابَ اللَّهِ . والأحسنُ أَنْ لا يُقَدَّرَ له مفعولٌ أي : أَوْقعْ الإِنذارَ .
(1/5491)
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)
قوله : { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } : قَدَّم المفعولَ وكذا ما بعده إيذاناً بالاختصاص عندَ مَنْ يرى ذلك ، أو للاهتمام به ، قال الزمخشري : " واختُصَّ " ربَّك " بالتكبير " ثم قال : ودَخَلَتِ الفاءُ لمعنى الشرطِ . كأنه قيل : وما كان فلا تَدَعْ تكبيرَه " . قلت : قد تقدَّم الكلامُ في مثلِ هذه الفاءِ عند قولِه : { وَإِيَّايَ فارهبون } [ البقرة : 40 ] أولَ البقرة . قال الشيخ : " وهو قريبٌ مِمَّا قَدَّره النحاةُ في قولِك : " زيداً فاضْرِب " قالوا : تقديرُه : تنبَّهْ فاضرِبْ زيداً . والفاءُ هي جوابُ الأمرِ . وهذا الأمرُ : إمَّا مُضَمَّنٌ معنى الشرط ، وإمَّا الشرطُ محذوفٌ على الخلافِ الذي فيه عند النحاة " .
(1/5492)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
وقرأ حفص " والرُّجْزَ " بضمِّ الراء ، والباقون بكسرِها ، فقيل : لغتان بمعنىً . وعن أبي عبيدةَ : " الضمُّ أفشَى اللغتَيْن ، وأكثرُهما " . وقال مجاهد : " هو بالضمِّ اسمُ صَنَمٍ ، ويُعزَى للحسنِ البصري أيضاً ، وبالكسر اسمٌ للعذابِ . وعلى تقديرِ كونِه العذابَ فلا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ أي : اهُجرْ أسبابَ العذابِ المؤدِّيةِ إليه ، أو لإِقامةِ المُسَبَّبِ مُقامَ سببِه ، وهو مجازٌ شائع .
(1/5493)
وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)
قوله : { وَلاَ تَمْنُن } : العامَّةُ على فَكِّ الإِدغام . والحسن وأبو السَّمَّال بالإِدغام . قد تَقَدَّم أنَّ المجزومَ/ والموقوفَ من هذا النوع يجوزُ فيهما الوجهانِ ، وقد تقدَّم تحقيقُه في المائدة عند { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ } [ المائدة : 54 ] . والمشهور أنه من المَنِّ ، وهو الاعتدادُ على المُعْطي بما أعطاه . وقيل : " لا تَضْعُفْ " مِنْ قولِهم : حبلٌ مَنينٌ أي : ضعيفٌ .
قوله : { تَسْتَكْثِرُ } العامَّةُ على رفعِه ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنه في موضع الحالِ أي : لا تَمْنُنْ مُسْتَكْثِراً ما أعطَيْتَ . وقيل : معناه : لِتَأْخُذْ أكثرَ مِمَّا أَعْطَيْتَ . والثاني : أنَّه على حَذْفِ " أَنْ " يعني أنَّ الأصلَ : ولا تَمْنُنْ أَنْ تستكثرَ ، فلمَّأ حُذِفَتْ " أَنْ " ارتفع الفعلُ كقولِه :
4380 ألا أيُّهذا الزَّاجري أَحْضُرُ الوغى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
في إحدى الروايَتَيْن ، قاله الزمخشري ، ولم يُبَيِّنْ : ما محلُّ " أَنْ " وما في حَيِّزها . وفيه وجهان ، أظهرهما وهو الذي يُريده هو أنَّها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على الخلافِ فيها بعد حَذْفِ حرف الجر ، وهو هنا لامُ العلة تقديرُه : ولا تَمْنُنْ لأَنْ تَسْتكْثِرَ . والثاني : أنَّها في محلِّ نصبٍ فقط مفعولاً بها أي : لا تَضْعُفْ أَنْ تَسْتكْثِرَ . من الخير ، قاله مكي ، وقد تَقَدَّم لك أنَّ " تَمْنُنْ " بمعنى تَضْعُف ، وهو قولُ مجاهدٍ ، إلاَّ أنَّ الشيخَ قال بعد كلامِ الزمخشريِّ : " وهذا لا يجوزُ أن يُحملَ القرآنُ عليه؛ لأنَّ ذلك لا يجوزُ إلاَّ في الشعرِ ، ولنا مَنْدوحة عنه مع صحةِ معنى الحالِ " قلت : قد سبقه مكيٌّ وغيرُه إلى هذا . وأيضاً فقولُه : " في الشعر " ممنوعٌ؛ هؤلاء الكوفيون يُجيزون ذلك وأيضاً فقد قرأ الحسن والأعمش " تَسْتَكْثِرَ " نصباً ، وهو على إضمار " أَنْ " كقولهم : " مُرْهُ يَحْفِرَها " وأَبلَغُ مِنْ ذلك التصريحُ بأنْ في قراءةِ عبد الله : " ولا تَمْنُنْ أَنْ تستكثرَ " .
وقرأ الحسنُ أيضاً وبانُ أبي عبلة " تستكثِرْ " جزماً ، وفيه ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أَنْ يكونَ بدلاً من الفعلِ قبله ، كقولِه تعالى : { يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ } [ الفرقان : 68 - 69 ] ف " يُضاعَفْ " بدلٌ مِنْ " يَلْقَ " وكقولِه :
4381 مَتى تَأْتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأجَّجا
ويكونُ من المَنِّ الذي في قولِه : { لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } [ البقرة : 264 ] الثاني : أن يُشَبَّه ( ثِرْوَ ) ب " عَضُد " فيُسَكَّنَ تخفيفاً ، قاله الزمخشري ، يعني أنه تَأْخُذُ من مجموعِ " تَسْتكثر " ومن الكلمةِ بعده وهو الواوُ ما يكون فيه شبيهاً ب " عَضُد " . ألا ترى أنه قال : " أنْ يُشَبَّه ثِرْوَ " فأخذ بعضَ " تَسْتكثر " وهو الثاءُ والراءُ وحرفَ العطفِ مِنْ قولِه : { ولربِّك فاصبِرْ } .
(1/5494)
وهذا كما قالوا في قولِ امرِىء القيس :
4382 فاليومَ أشرَبْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ ... إثماً من الله ولا واغلِ
بتسكين " أَشْرَبْ " : إنهم أخذوا من الكلمتين ( رَبْغ ) ك عَضُد ، ثَم سُكِّن . وقد تقدَّم في سورةِ يوسف في قراءة قنبل { مَن يَتَّقِي } [ يوسف : 90 ] بثبوت الياءِ أنَّ " مَنْ " موصولةٌ ، فاعْتُرِض بجزم " يَصْبِرْ " فأجيب : بأنه شبه ( بِرُف ) أخذوا الباءَ والراءَ مِنْ " يَصْبر " ، والفاءَ مِنْ " فإنَّ " وهذا نظيرُ تيْكَ سواءً . الوجه الثالث أَنْ يُعْتَبَرَ حالُ الوقفِ ويُجْرَى الوصلُ مُجْراه ، قاله الزمخشريُّ أيضاً ، يعني أنه مرفوعٌ ، وإنما سُكِّن تخفيفاً ، أو أُجْري الوصلُ مُجْرى الوقف . قال الشيخ : " وهذان لا يجوزُ أَنْ يُحْمَلَ عليهما مع وجودِ أرجحَ منهما ، وهو البدل " . قلت : الحقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ ، كيف يُعْدَلُ إلى هذَيْن الوجهَيْن مع ظهورِ البدلِ معنىً وصحةً وصناعةً؟
(1/5495)
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)
قوله : { وَلِرَبِّكَ فاصبر } : التقديمُ على ما تَقَدَّم ، وحَسَّنه كونُه رأسَ فاصلةٍ مُؤاخياً لِما تقدَّمه . و " لربِّك " يجوز فيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ لامَ العلةِ أي : لوجهِ ربِّك فاصبِرْ على أذى الكفارِ وعلى عبادةِ ربِّك ، وعن كلِّ ما لا يَليقُ ، فتُرِك المصبورُ عليه والمصبورُ عنه للعلم بهما . والأحسنُ أَنْ لا يُقَدَّرَ شيءٌ خاصٌّ بل شيءٌ عامٌّ . والثاني : أن يُضَمَّنَ " اصْبِرْ " معنى : اذْعَنْ لربِّك وسَلِّمْ له أمرَك صابراً ، كقوله : { فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ } [ القلم : 48 ] .
(1/5496)
فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
قوله : { فَإِذَا نُقِرَ } : قال الزمخشريُّ : " والفاءُ/ في قولِه : " فإذا نُقِرَ " للتسبيب ، كأنه قيل : اصبِرْ على أَذاهم ، فبينَ أيديهم يومٌ عَسيرٌ يَلْقَوْن فيه [ عاقبةَ ] أذاهم ، وتَلْقَى فيه عاقبةَ صبرِك عليه . والفاء في " فذلك " للجزاء " . قلت : يعني أنَّ الفاءَ في " فذلك " جزاءٌ للشرطِ في قولِه : " فإذا نُقِرَ " . وفي العامل في " إذا " أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها متعلِّقةٌ ب " أَنْذِرْ " أي : أَنْذِرْهم إذا نُقِر في النَّاقور ، قاله الحوفيُّ . وفيه نظرٌ : من حيث إنَّ الفاءَ تمنعُ مِنْ ذلك ، ولو أرادَ تفسيرَ المعنى لكان سهلاً ، لكنه في مَعْرِضِ تفسيرِ الإِعراب لا تفسيرِ المعنى .
الثاني : أن ينتصِبَ بما دَلَّ عليه قولُه : { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ } . قال الزمخشري : " فإنْ قلت : بم انتصَبَ " إذا " ، وكيف صَحَّ أَنْ يقع " يومئذٍ " ظرفاً ل " يومٌ عَسير "؟ قلت : انتصَبَ " إذا " بما دَلَّ عليه الجزاءُ؛ لأنَّ المعنى : فإذا نُقِر في النَّاقور عَسُرَ الأمرُ على الكافرين . والذي أجاز وقوعَ يومئذٍ ظرفاً ل " يومٌ عسيرٌ " أنَّ المعنى : فذلك يومَ النَّقْرِ وقوعُ يوم عسيرٍ؛ لأنَّ يومَ القيامةِ يقعُ ويأتي حين يُنْقَرُ في الناقور " انتهى . ولا يجوزُ أَنْ يعملَ فيه نفسُ " عَسير "؛ لأنَّ الصفةَ لا تعملُ فيما قبلَ موصوفِها عند البصريين؛ ولذلك رُدَّ على الزمخشريِّ قولُه : إنَّ في أنفسِهم " متعلِّق ب " بلغياً " في قولِه تعالى في سورةِ النساءِ [ الآية : 63 ] { وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } والكوفيون يُجَوِّزون ذلك وتقدَّم تحريرُه .
الثالث : أَنْ ينتصِبَ بما دَلَّ عليه " فذلك " لأنه إشارةٌ إلى النَّقْر ، قاله أبو البقاء . ثم قال : " ويومَئذٍ بدلٌ مِنْ " إذا " و " ذلك مبتدأٌ " والخبرُ " يومٌ عسيرٌ " أي : نُقِر يوم . الرابع : أَنْ يكونَ " إذا " مبتدأً ، و " فذلك " خبرُه . والفاءُ مزيدةٌ فيه ، وهو رأيُ الأخفشِ .
وأمَّا " يومَئِذٍ " ففيه أوجهٌ ، أحدها : أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ " إذا " وقد تقدَّم ذلك في الوجهِ الثالث . والثاني : أَنْ يكونَ ظرفاً ل " يومٌ عسيرٌ " كما تقدَّم في الوجهِ الثاني . الثالث : أَنْ يكونَ ظرفاً ل " ذلك " لأنَّه مُشارٌ به إلى النَّقْر . الرابع : أنَّه بدلٌ مِنْ " فذلك " ، ولكنه مبنيٌّ لإِضافتِه إلى غيرِ متمكِّنٍ . الخامس : أَنْ يكونَ مبتدأً " ويومٌ عسيرٌ " خبرَه ، والجملةُ خبرَ " فذلك " .
(1/5497)
عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
قوله : { عَلَى الكافرين } : فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يتعلَّق ب " عسير " . الثاني : أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل عسير . الثالث : أنه في موضع نصبٍ على الحالِ من الضميرِ المستكنِّ في " عسير " . الرابع : أن يتعلَّقَ ب " يَسير " أي : غيرُ يسيرٍ على الكافرين ، قاله أبو البقاء ، إلاَّ أنَّ فيه تقديمَ معمولِ المضافِ إليه على المضافِ ، وهو ممنوعٌ ، وقد جَوَّز ذلك بعضُهم إذا كان المضاف " غيرَ " بمعنى النفي كقولِه :
4383 إنَّ امرَأً خَصَّني عمْداً مَوَدَّتَه ... على التنائي لَعِنْدي غيرُ مَكْفورِ
وتقدَّم تحريرُ هذا آخرَ الفاتحةِ مُشْبَعاً ، فعليكَ باعتبارِه ثَمَّة . الخامس : أن يتعلَّق بما دَلَّ عليه " غيرُ يسير " أي : لا يَسْهُلُ على الكافرين . قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ فما فائدةُ قولِه : " غيرُ يسير " و " عَسير " مُغْنٍ عنه؟ قلت : لَمَّا قال " على الكافرين " فقَصَرَ العُسْرَ عليهم قال : " غيرُ يَسير " لِيُؤْذَنَ بأنه لا يكونُ عليهم كما يكون على المؤمنين يَسيراً هَيِّناً ليجمعَ بين وعيدِ الكافرين وزيادةِ غَيْظهم وتبشير المؤمنين وتَسْلِيتهم . ويجوز أن يُراد : عسيرٌ لا يُرْجَى أن يَرْجِعَ يسيراً ، كما يُرْجى تيسيرُ العسيرِ من أمورِ الدنيا " .
وقوله : { نُقِرَ فِي الناقور } أي صُوِّتَ يقال : نَقَرْتُ الرجلَ إذا صَوَّتَّ له بلسانِك وذلك بأَنْ تُلْصِقَ لسانَك بنُقْرَة حَنكِكَ . ونَقَرْتُ الرجلَ : إذا خَصَصْتَه بالدعوة ، كأنك نَقَرْتَ له بلسانِك مُشيراً إليه ، وتلك الدعوةُ يقال لها النَّقَرى ، وهي ضدُّ الدعوةِ الجَفَلَى . قال الشاعر :
4384 نحن في المَشْتاةِ نَدْعُو الجَفَلَى ... لا تَرَى الآدِبَ فينا يَنْتَقِرْ
/ وقال امرؤ القيس :
4385 أنا ابنُ ماوِيَّةَ إذْ جَدَّ النُّقُرْ ... يريد : " النَّقْرُ " أي : الصوتُ . وقال أيضاً :
4386 أُخَفِّضُه بالنَّقْرِ لَمَّا عَلَوْتُه ... ويَرْفَعُ طَرْفاً غيرَ جافٍ غَضِيضٍ
والنَّاقُور : فاعُوْل منه كالجاسوسِ مِنَ التَجَسُّسِ ، وهو الشيءُ المُصوَّتُ فيه : وفي التفسير : إنَّه الصُّورُ الذي يَنْفَخُ فيه المَلَكُ . والنَّقْرُ أيضاً : قَرْعُ الشيءِ الصُّلْبِ . والمِنْقارُ : الحَديدةُ التي يُنْقَرُ بها . ونَقَرْتُ عنه : بَحَثْتُ عن أخبارِه ، استعارةً من ذلك . ونَقَرْتُه : أَعبْتُه ، ومنه قولُ امرأةٍ لزَوْجِها : " مُرَّ بي على بني نَظَرٍ ، ولا تَمرَّ بي على بناتِ نَقَرٍ " أرادت ببنين نَظَرٍ الرجالُ؛ لأنهم ينظرون إليها ، وببنات نَقَرٍ النساءَ لأنهنَّ يُعِبْنها ويَنْقُرْنَ عن أحوالِها .
(1/5498)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)
قوله : { وَمَنْ خَلَقْتُ } : كقولِه : { والمكذبين } [ المزمِّل : 11 ] في الوجهَيْنِ المتقدمَيْنِ في السورةِ قبلها .
قولِه : { وَحِيداً } فيه أوجه ، أحدها : أنه حالٌ من الياء في " ذَرْني " أي : ذَرْنِي وَحْدي معه فأنا أَكْفِيْكَ في الانتقام منه . الثاني : أنه حالٌ مِنَ التاء في " خَلَقْتُ " أي : خَلَقْتُه وَحْدي لم يُشْرِكْني في خَلْقِه أحدٌ ، فأنا أَمْلِكُه . الثالث : أنَّه حالٌ مِنْ " مَنْ " . الرابع : أنه حالٌ من عائدِ المحذوفِ أي : خَلَقْتُه وحيداً . الخامس : أن ينتصِبَ على الذمِّ . و " وحيد " كان لَقَباً للوليدِ بن المُغِيرة . ومعنى " وحيداً " : ذليلاً قليلاً . وقيل : كان يَزْعُمُ أنه وحيدٌ في فَضْلِه ومالِه . وليس في ذلك ما يَقْتَضي صِدْقَ مقالتِه؛ لأنَّ هذا لَقَبٌ له شُهِر به ، وقد يُلَقَّبُ الإِنسانُ بما لا يَتَّصِفُ به ، وإذا كان لَقَباً تَعَيَّنَ نصبُه على الذمِّ .
(1/5499)
كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)
قوله : { إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً } : استئنافٌ ، جوابٌ لسائلِ سأل : لِمَ لا يزدادُ مالاً؟ وما بالُه رُدِعَ عن طَمعِه في ذلك؟ فأُجيب بقولِه : { إِنَّهُ كان لآيَتِنَا عَنِيداً } .
(1/5500)
إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18)
قوله : { إِنَّهُ فَكَّرَ } : يجوزُ أنْ يكونَ استئنافَ تعليلٍ لقولِه " سَأُرْهِقُه " . ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ { إِنَّهُ كان لآيَتِنَا عَنِيداً } .
(1/5501)
ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22)
قوله : { ثُمَّ عَبَسَ } : يُقال : عَبَسَ يَعْبِسُ عَبْساً وعُبُوساً أي : قَطَّبَ وجهَه . والعَبَسُ : ما يَبِسَ في أذنابِ الإِبلِ من البعر والبَوْل . قال أبو النجم :
4387 كأن في أَذْنابِهِنَّ الشُّوَّلِ ... مِنْ عَبَسِ الصَّيْفِ قُرونَ الأُيَّلِ
قوله { وَبَسَر } يُقال : بَسَرَ يَبْسُر بَسْراً وبُسُوراً : إذا قَبَضَ ما بين عَيْنَيْه كراهةً للشَيْءِ ، واسْوَدَّ وجهُه مِنْه . يقال : وَجْهٌ باسِرٌ أي : مُنْقَبِضٌ أسودُ .
قال :
4388 صَبَحْنا تميماً غَداةَ الجِفارِ ... بشَهْباءَ مَلْمومَةٍ باسِرَةْ
وأهل اليمن يقولون : بَسَرَ المَرْكَبُ وأَبْسَر : إذا وَقَفَ . وأَبْسَرْنا أي : صِرْنا إلى البُسُور . وقال الراغب : " البَسْرُ : البَسْرُ : الاستعجالُ بالشيء قبل أَوانِه نحو : بَسَرَ الرجلُ الحاجةَ : طَلَبها في غيرِ أوانِها ، وبَسَرَ الفَحْلُ الناقةَ : ضَرَبها قبل الضَّبَعَةِ . وماء بَسْرٌ : مُتناوَلٌ مِنْ غَدِيرِه قبلَ سُكونه ، ومنه قيل للذين لم يُدْرَك من التَّمر : بُسْر . وقولُه تعالى : { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } أي : أظهرَ العُبوس قبل أَوانِه ، وفي غيرِ وقتِه . فإنْ قيلَ : فقولُه عَزَّ وجَلَّ : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } [ القيامة : 24 ] ليس يَفْعلون ذلك قبلَ الوقتِ . وقد قلت : إنَّ ذلك يُقال فيما كان قبلَ وَقْتِه . قلتُ : إنَّ ذلك إشارةٌ إلى حالِهم قبلَ الانتهاءِ بهم إلى النارِ فخُصَّ لفظُ البُسْرِ تنبيهاً أنَّ ذلك مع ما ينالهم مِنْ بُعْدٍ يَجْري مَجْرى التكلُّفِ ، ومَجْرى ما يُفْعَلُ قبلَ وَقْتِه . ويَدُلُّ على ذلك قولُه : { تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } [ القيامة : 25 ] انتهى كلامُ الراغب .
وقد عُطِفَ في هذه الجملِ بحروفٍ مختلفةٍ ولكلٍ منها مناسَبَةٌ . أمَّا ما عُطِفَ ب " ثُمَّ " فلأنَّ بين الأفعالِ مهلةً ، وثانياً لأنَّ بين النَّظَر والعُبوس وبين العُبوسِ والإِدْبار تراخياً . قال الزمخشري/ : و " ثُمَّ نظر " عَطْفٌ على " فَكَّر وقَدَّر " والدعاءُ اعتراضٌ بينهما " . قلت : يعني بالدعاءِ قولَه : " فقُتِلَ " . ثم قال : " فإنْ قُلْتَ ما معنى " ثم " الداخلةِ على تكريرِ الدعاء؟ قلت : الدلالة على أنَّ الكرَّة الثانية أَبْلَغُ من الأولى ، ونحوُه قولُه :
4389 ألا يا اسْلمي ثُمَّ اسْلمي ثُمَّت اسْلمي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فإنْ قلت : فما معنى المتوسِّطةِ بين الأفعالِ التي بعدها؟ قلت : للدلالة على أنه تأنَّى في التأمُّل ، وتمهَّل ، وكان بين الأفعالِ المتناسِقةِ تراخٍ وبُعْدٌ . فإن قلت : فلِمَ قال : " فقال " بالفاءِ بعد عطفِ ما قبلَه ب ثم؟
قلت : لأنَّ الكلمةَ لَمَّا خَطَرَتْ ببالِه بعد التطلُّب لِم يتمالَكْ أَنْ نَطقَ بها مِنْ غيرِ تَثَبُّتٍ . فإنْ قلتَ : فلِمَ لَمْ يَتَوَسَّطْ حرفُ العطفِ بين الجملتَيْن؟ قلت : لأنَّ الأخرى جَرَتْ مِن الأولى مَجْرى التوكيدِ من المؤكَّد .
(1/5502)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)
قوله : { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } : هذا بدلٌ مِنْ قولِه : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } قاله الزمخشري . فإنْ كان المرادُ بالصَّعودِ المشقةَ فالبدلُ واضحٌ ، وإنْ كان المرادُ صخرةً في جهنَم ، كما جاء في بعضِ التفاسير ، فيَعْسُرُ البدلُ ، ويكون فيه شَبَهٌ مِنْ بَدَلِ الاشتمالِ؛ لأنَّ جهنمَ مُشْتَمِلةٌ على تلك الصخرةِ .
(1/5503)
لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28)
قوله : { لاَ تُبْقِي } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ، والعامل فيها معنى التعظيمِ ، قاله أبو البقاء ، يعني أنَّ الاستفهامَ في قولِه ما سَقَرُ؟ للتعظيم فالمعنى : استعظموا سَقَرَ في هذه الحال . ومفعول " تُبْقي " و " تَذَرُ " محذوفٌ ، أي : لا تُبقي ما أُلْقي فيها ، ولا تَذَرُهُ ، بل تُهْلِكُه . وقيل : تقديرُه لا تُبْقي على مَنْ أُلْقي فيها ، ولا تَذَرُ غايةَ العذابِ إلاَّ وَصَلَتْه إليه . والثاني : أنها مستأنفةٌ .
(1/5504)
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)
قوله : { لَوَّاحَةٌ } : قرأ العامَّةُ بالرفع خبرَ مبتدأ مضمر ، أي : هي لَوَّاحَةٌ . وهذه مُقَوِّيةٌ للاستئنافِ في " لا تُبْقي " . وقرأ الحسن وابنُ أبي عبلة وزيدُ بن علي وعطيةُ العَوْفي بنَصْبِها على الحال ، وفيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها حالٌ مِنْ " سقرُ " والعاملُ معنى التعظيمِ كما تقدَّم . والثاني : أنها حالٌ مِنْ " لا تُبْقي " . والثالث : مِنْ " لا تذرُ " . وجَعَلَ الزمخشري نَصْبَها على الاختصاصِ للتهويل ، وجعلها الشيخ حالاً مؤكدة قال : " لأنَّ النارَ التي لا تُبْقي ولا تَذَرُ لا تكونُ إلاَّ مُغَيِّرةً للإِبشارِ " " ولَوَّاحَةٌ " بناءُ مبالغةٍ ، وفيها معنيان ، أحدهما : مِنْ لاح يَلُوح ، أي : ظهر ، أي : إنها تظهر للبَشَرِ وهم الناسُ ، وإليه ذهب الحسن وابن كَيْسان . والثاني : - وإليه ذهبَ جمهورُ الناس أنها مِنْ لوَّحه ، أي : غَيَّره وسَوَّده . قال الشاعر :
4390 وتعجَبُ هندٌ أَنْ رَأَتْنِيَ شاحباً ... تقول : لَشَيءٌ لوَّحَتْه السَّمائِمُ
ويقال : لاحَه يَلُوْحه : إذا غَيَّر حِلْيَتَيْه ، وأُنْشِد :
4391 تقول : ما لاحك يا مسافِرُ ... يا بنةَ عمِّي لاحَني الهواجِرُ
وقيل : اللَّوحُ شِدَّةُ العَطَشِ . يقال : لاحَه العطشَ ولَوَّحَه ، أي : غَيَّره ، وأُنْشدِ :
4392 سَقَتْني على لَوْحٍ مِنْ الماءِ شَرْبَةً ... سَقاها به اللَّهُ الرِّهامَ الغَواديا
واللُّوْحُ بالضمِّ : الهواءُ بين السماءِ والأرضِ ، والبَشَرُ : إمَّا جَمْعُ بَشَرَة ، أي : مُغَيِّرة للجُلود ، [ وإمَّا المُرادُ به الإِنْسُ ] واللامُ في " للبَشَرِ " مُقَوِّيَةٌ كهي في { لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] ، وقراءةُ النصبِ في " لَوَّاحَةً " مقوِّيَةٌ لكونِ " لا تُبْقي " في محلِّ الحالِ .
(1/5505)
عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
قوله : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } : هذه الجملةُ فيها وجهان أعني : الحاليةَ والاستئنافَ وفي هذه الكلمةِ قراءاتٌ شاذةٌ ، وتوجيهاتٌ تُشاكِلُها . وقرأ أبو جعفر وطلحةُ " تسعَة عْشَر " بسكون العين مِنْ " عَشر " تخفيفاً لتوالي خمسِ حركاتٍ مِنْ جنسٍ واحدٍ/ وهذه كقراءةِ { أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً } [ يوسف : 4 ] ، وقد تقدَّمَتْ .
وقرأ أنسٌ وابنُ عباس " تسعةُ " بضمِّ التاء ، " عَشَرَ " بالفتح ، وهذه حركةُ بناءٍ ، ولا يجوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ كونُها إعراباً؛ إذا لو كانَتْ للإِعرابِ لَجُعِلَتْ في الاسمِ الأخيرِ لِتَنَزُّلِ الكلمتَيْن منزلةَ الكلمةِ الواحدةِ ، وإنما عُدِل إلى الضمة كراهةَ توالي خمسِ حركاتٍ . وعن المهدويِّ . " مَنْ قرأ " تسعةُ عَشَر " فكأنه من التداخُلِ كأنه أراد العطفَ فتركَ التركيبَ ورَفَعَ هاءَ التأنيث ، ثم راجَعَ البناءَ وأسكنَ " انتهى . فَجَعَلَ الحركةَ للإِعرابِ . ويعني بقولِه " أسكنَ " ، أي : أسكنَ راءَ " عشر " فإنه هذ القراءة كذلك .
وعن أنس أيضاً " تسعةُ أَعْشُرَ " بضم " تسعةُ " وأَعْشُرَ بهمزةٍ مفتوحةٍ ثم عينٍ ساكنةٍ ثم شين مضمومة . وفيها وجهان ، قال أبو الفضل : " يجوزُ أَنْ يكونَ جَمعَ العَشَرةَ على أَعْشُر ثم أجراه مُجْرى تسعة عشر " . وقال الزمخشري : " جمع عَشير ، مثل يَمين وأَيْمُن . وعن أنسٍ أيضاً " تسعَةُ وَعْشُرَ " بضم التاءِ وسكونِ العينِ وضمِّ الشين وواوٍ مفتوحةٍ بدلَ الهمزةِ . وتخريجُها كتخريجِ ما قبلَها ، إلاَّ أنَّه قَلَبَ الهمزةَ واواً مبالغةً في التخفيفِ ، والضمةُ كما تقدَّم للبناءِ لا للإِعرابِ . ونقل المهدويُّ أنه قُرِىءَ " تسعةُ وَعَشَرْ " قال : " فجاء به على الأصلِ قبلَ التركِيبِ وعَطَفَ " عشراً على تسعة " وحَذَفَ التنوينَ لكثرةِ الاستعمالِ ، وسَكَّنَ الراءَ مِنْ عشر على نيةِ الوقفِ .
وقرأ سليمان بن قتة بضمِّ التاءِ ، وهمزةٍ مفتوحةٍ ، وسكونِ العين ، وضم الشين وجرِّ الراءِ مِنْ أَعْشُرٍ ، والضمةُ على هذا ضمةُ إعرابٍ ، لأنه أضاف الاسمَ لِما بعده ، فأعربَهما إعرابَ المتضايفَيْنِ ، وهي لغةٌ لبعضِ العربِ يَفُكُّون تركيبَ الأعدادِ ويُعْرِبُونهما كالمتضايفَيْنِ كقول الراجز :
4393 كُلِّفَ مِنْ عَنائِه وشِقْوَتِهْ ... بنتَ ثماني عَشْرَةٍ مِنْ حَجَّتِهْ
قال أبو الفضل : " ويُخْبَرُ على هذه القراةِ وهي قراءةُ مَنْ قرأ " أَعْشُر " مبنياً أو معرباً من حيث هو جمعٌ أنَّ الملائكةَ الذين هم على سَقَرَ تسعون مَلَكاً .
(1/5506)
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)
قوله : { إِلاَّ فِتْنَةً } : مفعولٌ ثانٍ على حذفِ مضافٍ ، أي : إلاَّ سببَ فتنةٍ ، و " للذين " صفةٌ ل " فِتْنة " وليسَتْ " فتنةً " مفعولاً له .
قوله : { لِيَسْتَيْقِنَ الذين } متعلِّقٌ ب " جَعَلْنا " لا ب " فتنة " . وقيل : بفعلٍ مضمرٍ ، أي : فَعَلْنا ذلك ليسْتَيْقِنَ . وللزمخشري هنا كلامٌ متعلِّقٌ بالإِعرابِ ليجُرَّه إلى غرضِه مِنْ الاعتزال .
قوله : { كَذَلِكَ } نعتٌ لمصدرٍ أو حالٍ منه على ما عُرِفَ غيرَ مرةٍ . و " ذلك " إشارةٌ إلى ما تقدَّم مِنْ الإِضلالِ والهدى ، أي : مثلَ ذلك الإِضلالِ والهدى يُضِلُّ ويَهْدي . و " مثلاً " تمييزاً أو حالٌ . وتسميةُ هذا مثلاً على سبيل الاستعارةِ لغرابتِه .
قوله : { جُنُودَ رَبِّكَ } مفعولٌ واجبُ التقديمِ لحَصْرِ فاعلِه ، ولعَوْدِ الضميرِ على ما اتَّصل بالمفعول .
قوله : { وَمَا هِيَ } يجوزُ أَنْ يعودَ الضميرُ على " سقر " ، أي : وما سَقَرُ إلاَّ تذكرةٌ . وأَنْ يعودَ على الآياتِ المذكورةِ فيها ، أو النارِ لتقدُّمِها أو الجنودِ ، أو نارِ الدنيا ، وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ أو العُدَّة . و " للبشر " مفعولٌ ب " ذِكْرى " واللامُ فيه مزيدةٌ .
(1/5507)
وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34)
قوله : { إِذْ أَدْبَرَ } : قرأ نافعٌ وحمزةُ وحفصٌ " إذ " ظرفاً لِما مضى مِنْ الزمانِ ، " أَدْبَرَ " بزنةِ أَكْرَمَ . والباقون " إذا " ظرفاً لِما يُسْتقبل ، " دَبَرَ " بزنةِ ضَرَبَ ، والرسمُ محتملٌ لكلتَيْهما ، فالصورةُ الخطيَّةُ لا تختلفُ . واختار أبو عبيد قراءةَ " إذا " قال : لأنَّ بعدَه " إذا أَسْفَرَ " قال : " وكذلك هي في حرفِ عبدِ الله " قلت : يعني أنَّه مكتوبٌ بألفَيْنِ بعد الذالِ أحدُهما ألفُ " إذا " والأخرى همزةُ " أَدْبَرَ " . واختار ابنُ عباس أيضاً " إذا " ويُحْكى أنَّه لَمَّا سَمِعَ " أَدْبَرَ " قال : " إنما يُدْبِر ظهرُ البعير " .
واختلفوا : هل دَبَر وأَدْبَر ، بمعنى أم لا؟ فقيل : هما بمعنىً واحدٍ/ يقال : دَبَر الليلُ والنهارُ وأَدْبَرَ ، وقَبَلَ وأَقْبل . ومنه قولُهم " أمسٌ الدابرُ " فهذا مِنْ دَبَرَ ، وأمسٌ المُدْبر قال :
4394 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . ذهبوا كأمس الدابِر
وأمَّا أَدْبَرَ الراكبُ وأَقْبل فرباعيٌّ لا غيرُ . هذا قولُ الفراء والزجاج . وقال يونس : " دَبَرَ انقضى ، وأَدْبَرَ تَوَلَّى ففرَّق بينهما . وقال الزمخشري : " ودَبَرَ بمعنى أَدْبَرَ كقَبَل بمعنى أَقْبَلَ . قيل : ومنه صاروا كأمسٍ الدابرِ ، وقيل : هو من دَبَرَ الليلُ النهارَ إذا خَلَفَه " .
وقرأ العامَّةُ " أسْفَرَ " بالألف ، وعيسى بنُ الفضل وابن السَّمَيْفَع " سَفَرَ " ثلاثياً " . والمعنى : طَرَحَ الظلمةَ عن وجهِه ، على وجهِ الاستعارةِ .
(1/5508)
إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)
قوله : { إِنَّهَا } : أي : إنَّ النارَ . وقيل : إنَّ قيامَ الساعةِ كذا حكاه الشيخ ، وفيه شيئان : عَوْدُه على غير مذكورٍ ، وكونُ المضافِ اكتسَبَ تأنيثاً . وقيل : إن النِّذارة . وقيل : هيَ ضميرُ القصةِ . وقرأ العامَّةُ " لإِحْدى " بهمزةٍ مفتوحةٍ ، وأصلُها واوٌ ، من الوَحْدَة . وقرأ نصرُ بنُ عاصمٍ وابنُ محيصن ، وتُرْوى عن ابنِ كثيرٍ " لَحْدَى " بحذفِ الهمزةِ ، وهذا من الشُّذوذِ بحيثُ لا يُقاسُ عليه . وتوجيهُه : أَنْ يكونَ أَبْدلها ألفاً ، ثم حُذِفَتِ الألفُ لالتقاءِ الساكنَيْن ، وقياسُ تخفيفِ مثلِ هذه بينها وبين الألفِ . ومعنى " إحْدَى الكُبَرِ " ، أي : إحْدَى الدَّواهي قال :
4395 يا بنَ المُعَلَّى نَزَلَتْ إحدى الكُبَرْ ... داهيةُ الدهرِ وصَمَّاءُ الغِيَرْ
ومثلُه : هو أَحَدُ الرجالِ و [ هي ] إحدى النساءِ لِمَنْ يَسْتعظمونه . والكُبَرُ : جمعُ كُبْرى كالفُضَل جمع فُضْلى . وقال ابن عطية : " جمع كبيرة " وأظنُّه وهماً عليه . وفي هذه الجملة وجهان ، أحدُهما : أنها جوابُ القسمِ في قوله : " والقمرِ " . والثاني : أنها تعليلٌ ل " كَلاَّ " والقسمٌ معترضٌ للتوكيدِ ، قاله الزمخشري . قلت : وحينئذٍ فيحتاجُ إلى تقديرِ جوابٍ ، وفيه تكَلُّفٌ وخروجٌ عن الظاهر .
(1/5509)
نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36)
قوله : { نَذِيراً } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه تمييزٌ عن " إحدى " ، كمَّا ضُمِّنَتْ معنى التعظيم ، كأنه قيل : أعظم الكُبَر إنذاراً ، ف " نذير " بمعنى الإِنذارِ كالنَّكير بمعنى الإِنكار ، ومثلُه " هي إحدى النساءِ عَفافاً " . الثاني : أنه مصدرٌ بمعنى الإِنذار أيضاً ، ولكنه نُصِب بفعلِ مقدَّرٍ ، قاله الفراء . الثالث : أنه فعيلٌ بمعنى مُفْعِل ، وهو حالٌ من الضميرِ في " إنَّها " قاله الزجاج . الرابع : أنه حالٌ من الضمير في " إحدى " لتأوُّلها بمعنى العظيم . الخامس : أنَّه حالٌ من فاعلِ " قم " أولَ السورةِ . السادس : أنَّه مصدرٌ منصوبٌ ب أَنْذِرْ أولَ السورةِ . السابع : هو حالٌ مِنْ " الكُبَر " . الثامن : حالٌ من ضميرِ الكُبَر . التاسع : هو حالٌ مِنْ " لإِحدى " ، قاله ابن عطية . العاشر : أنَّه منصوبٌ بإضمار أَعْني . الحادي عشر : أنَّه منصوبٌ ب ادْعُ مُقَدَّراً؛ إذ المُراد به اللَّهُ تعالى . الثاني عشر : أنَّه منصوبٌ ب " نادِ أو ب بَلِّغ؛ إذ المرادُ به الرسولُ صلى الله عليه وسلم . الثالثَ عشرَ : أنه منصوبٌ بما دَلَّتْ عليه الجملةُ ، تقديره : عَظُمْتَ نذيراً . الرابعَ عشرَ : هو حالٌ من الضميرِ في " الكُبَرِ " . الخامسَ عشرَ : أنها حالٌ مِنْ " هو " في قولِه وما يعلَمُ جنودَ ربِّك إلاَّ هو . السادسَ عشرَ : أنها مفعولٌ مِنْ أجلِه ، الناصبُ لها ما في " الكُبَر " ، مِنْ معنى الفعل . قال أبو البقاء : " أو إنَّها لإِحدى الكُبر لإِنذارِ البشر " فظاهرُ هذا أنه مفعولٌ مِنْ أجلِه . وفيه بُعْدٌ وإذا جُعِلَتْ حالاً مِنْ مؤنثٍ فإنَّما لم تُؤَنَّثْ لأنَّها بمعنى ذاتِ إنذارٍ على معنى النَّسَب . قال معناه أبو جعفر .
والنصبُ قراءةُ العامَّةِ ، وابن أبي عبلة وأُبَيُّ بنُ كعبٍ بالرفع . فإنْ كان المرادُ النارَ جاز لك وجهان : أَنْ يكونَ خبراً بعد خبر ، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هي نذيرٌ ، والتذكيرُ لِما تقدَّم مِنْ معنى النَّسَبِ ، وإنْ كان المرادُ الباريَ تعالى أو رسولَه عليه السلام كان على خبر مبتدأ مضمرٍ ، أي : هو نذيرٌ . " وللبشر " إمَّا صفةٌ . وإمَّأ مفعولٌ لنذير ، واللامُ مزيدةٌ لتقويةِ العامل .
(1/5510)
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
قوله : { لِمَن شَآءَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه بدلٌ من " للبشر " بإعادة العامل كقولِه : { لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ } [ الزخرف : 33 ] و { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ } [ الأعراف : 75 ] . وأَنْ يتقدَّمَ مفعولُ " شاء " ، أي : نذيرٌ لمَنْ شاءَ التقدُّمَ أو التأخُّرَ ، وفيه ذُكِرَ مفعولُ " شاء " وقد تقدَّم أنَّه لا يُذْكَرُ إلاَّ إذا كان فيه غَرابَةٌ . والثاني : وإليه نحا الزمخشري وبه بدأ أَنْ يكونَ " لمَنْ شاءَ " خبراً مقدَّماً ، و " أَنْ يتقدَّم " مبتدأ مؤخراً قال : " كقولِك : لِمَنْ توضَّأَ أَنْ يُصَلِّي ، ومعناه مطلقٌ لمَنْ شاء التقدُّمَ أو التأخُّرَ أَنْ يتقدَّم أو يتأخَّرَ " انتهى . فقوله " التقدُّمَ والتأخُّرَ " هو مفعولُ " شاء " المقدَّرِ ، وقولُه " أَنْ يتقدَّمَ " هو المبتدأ . قال الشيخ : " وهو معنىً لا يتبادَرٌ الذِّهْنُ إليه وفيه حَذْفٌ " .
(1/5511)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)
قوله : { رَهِينَةٌ } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنَّ " رهينة " بمعنى " رَهْن " كالشتيمة بمعنى الشَّتْم . قال الزمخشري : " ليسَتْ بتأنيثِ " رهين " في قوله " كلُّ امرىء " / لتَأنيثِ النفسِ؛ لأنَّه لو قُصِدَتِ الصفةُ لقيل : " رِهين "؛ لأنَّ فَعيلاً بمعنى مَفْعول يَسْتوي فيه المذكرُ والمؤنثُ ، وإنما هي اسمٌ بمعنى الرَّهْن كالشَّتيمة بمعنى الشَّتْم ، كأنه قيل : كلُّ نفسٍ بما كَسَبَتْ رَهْنٌ ، ومنه بيتُ الحماسة :
4396 أبعدَ الذي بالنّعْفِ نَعْفِ كُوَيْكِبٍ ... رَهينةٍ رَمْسٍ ذي تُرابٍ وجَنْدلِ
كأنه قال : رَهْنِ رَمْسٍ . الثاني : أنَّ الهاءَ للمبالغةِ . والثالث : أنَّ التأنيثَ لأجلِ اللفظ . واختار الشيخُ أنَّها بمعنى مَفْعول وأنها كالنَّطيحة . قال : " ويَدُلُّ على ذلك : أنَّه لَمَّا كان خبراً عن المذكر كان بغيرِ هاءٍ ، قال تعالى : { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } [ الطور : 21 ] فأنت ترى حيث كان خبراً عن المذكر أتى بغيرِ تاءٍ ، وحيث كان خبراً عن المؤنثٍ أتى بالتاء . فأمَّا الذي في البيت فأُنِّث على معنى النفس "
(1/5512)
إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)
قوله : { إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنها استثناءٌ متصلٌ؛ إذ المرادُ بهم المسلمون الخالِصون الصالحون . والثاني : أنه منقطعٌ؛ إذ المرادُ بهم الأطفالُ أو الملائكةُ .
(1/5513)
فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40)
قوله : { فِي جَنَّاتٍ } : يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هم في جناتٍ ، وأن يكونَ حالاً مِنْ " أصحابَ اليمين " ، وأَنْ يكونَ حالاً من فاعل " يَتَساءلون " ذكرهما أبو البقاء . ويجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً ل " يتساءلون " وهو أظهرُ من الحالية مِنْ فاعِله . و " يتساءلون " يجوزُ أَنْ يكونَ على بابِه ، أي : يَسْألون غيرَهم ، نحو : دَعَوْتُه وتَداعيْتُه .
(1/5514)
قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43)
قوله : { لَمْ نَكُ مِنَ المصلين } : هذا هو الدالُّ على فاعلِ سَلَكَنا كذا الواقعِ جواباً لقولِ المؤمنين لهم : ما سلككم؟ التقدير : سَلَكَنا عدمُ صَلاتِنا وكذا وكذا . وقال أبو البقاء : " هذه الجملةُ سَدَّتْ مَسَدَّ الفاعلِ وهو جوابُ ما سَلَككم " ومرادُه ما قَدَّمْتُه . وإنْ كانَ في عبارتِه عُسْرٌ .
وأدغم أبو عمروٍ " سَلَككم " وهو نظيرُ { مَّنَاسِكَكُمْ } [ البقرة : 200 ] وقد تقدَّم ذلك في البقرة . وقوله " ما سَلَكَكُم " يجوزُ أَنْ يكونَ على إضمار القولِ ، وذلك القولُ في موضع الحال ، أي : يتساءَلون عنهم ، قائلين لهم : ما سلككم؟ وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : كيف طابَقَ قولُه " ما سلككُمْ " وهو سؤالُ المجرمين قولَه " يتساءَلون عن المجرمين " وهو سؤالٌ عنهم ، وإنما كان يتطابق ذلك لو قيل : يتساءلون المجرمين ما سلككم؟ قلت : قولُه " ما سلككم " ليس ببيانٍ للتساؤلِ عنهم ، وإنما هي حكايةُ قولِ المسؤولين عنهم؛ لأن المسؤولين يُلْقُون إلى السَّائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون : قلنا لهم ما سلككم؟
(1/5515)
فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)
قوله : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ } : كقولِه :
4397 على لاحِبٍ لا يُهْتَدَى بمنارِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
في أحدِ وجهَيْه ، أي : لا شفاعةَ لهم ، فلا انتفاعَ بها ، وليس المرادُ أنَّ ثَمَّ شفاعةً غيرَ نافعةٍ كقولِه : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] .
(1/5516)
فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)
قوله : { مُعْرِضِينَ } : حالٌ من الضمير في الجارِّ الواقع خبراً عن " ما " الاستفهاميةِ ، وقد تقدَّم أنَّ مِثْلَ هذه الحالِ تُسَمَّى حالاً لازِمَةً وقد تقدَّم فيها بحثٌ حسنٌ . " وعن التذكرة " متعلِّقٌ به .
(1/5517)
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)
قوله : { كَأَنَّهُمْ } هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الضمير في الجارِّ ، وتكون بدلاً مِنْ " مُعْرِضِيْنَ " قاله أبو البقاء ، يعني أنَّها كالمشتملة عيلها ، وأنْ تكونَ حالاً من الضميرِ في " مُعْرِضِين " ، فتكونَ حالاً متداخلةً .
وقرأ العامَّةُ " حُمُرٌ " بضمِّ الميم ، والأعمش بإسكانِها . وقرأ نافعٌ وابنُ عامر بفتح الفاء مِنْ " مُسْتَنْفَرة " على أنه اسمُ مفعولٍ ، أي : نَفَّرها القُنَّاص . والباقون بالكسرِ بمعنى : نافِرة : يُقال : استنفر ونَفَر بمعنى نحو : عَجِب واستعجب ، وسخِر واسْتَسْخر . قال الشاعر :
4398 أَمْسِكْ حِمارَكَ إنَّه مُسْتَنْفِرُ ... في إثْرِ أَحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لغُرَّبِ
وقال الزمخشري : " كأنها تطلُبُ النِّفار مِنْ نفوسِها في جَمْعِها له وحَمْلِها عليه " انتهى . فأبقى السينَ على بابِها من الطَّلَبِ ، وهو معنى حسن .
ورجَّحَ بعضُهم الكسرَ لقولِه " فَرَّتْ " للتناسُبِ . وحكى محمدُ ابنُ سَلاَّم قال : " سألتُ أبا سَوَّار الغَنَويَّ وكان عربياً فصيحاً ، فقلت : كأنهم/ حُمُرٌ ماذا؟ فقال : مُسْتَنْفَرَة طَرَدَها قَسْورة . فقلت : إنما هو { فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } فقال : أفرَّتْ؟ قلت : نعم . قال : " فمُسْتَنْفِرة إذن " انتهى . يعني أنها مع قولِه " طَرَدها " تُناسِبُ الفتحَ لأنَّها اسمُ مفعولٍ فلما أُخْبر بأنَّ التلاوةَ { فَرَّتْ مِن قسْورة } رَجَعَ إلى الكسرِ للتناسُبِ ، إلاَّ أنَ بمثلِ هذه الحكاية لا تُرَدُّ القراءةُ المتواترةُ .
والقَسْوَرَةُ : قيل : الصائِدُ . وقيل : ظلمةُ الليل . وقيل : الأسد ، ومنه قولُ الشاعر :
4399 مُضَمَّرٌ تَحْذَرُه الأبطالُ ... كأنه القَسْوَرَةُ الرِّئْبالُ
أي : الأسد ، إلاَّ إنَّ ابن عباس أنكرَه ، وقال : لا أعرفُ القَسْوَرَةَ : الأسدَ في لغة العرب ، وإنما القَسْوَرَةُ : عَصَبُ الرجال ، وأنشد :
4400 يا بنتُ ، كثوني خَيْرَةً لخَيِّرَهْ ... أخوالُها الجِنُّ وأهلُ القَسْوَرَهْ
وقيل : هم الرُّماةُ ، وأنشدوا للبيد بن ربيعة :
4401 إذا ما هَتَفْنا هَتْفَةً في نَدِيِّنا ... أتانا الرجالُ العانِدون القساوِرُ
والجملةُ مِنْ قولِه " فَرَّتْ " يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ل " حُمُر " مثلَ " مُسْتَنْفرة " ، وأنْ تكونَ حالاً ، قاله أبو البقاء .
(1/5518)
بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52)
قوله : { مُّنَشَّرَةً } : العامَّةُ على التشديد مِنْ " نَشَّره " بالتضعيف . وابن جبير " مُنْشَرَة " بالتخفيف . ونَشَر وأَنْشَرَ مثل : نَزَل وأَنْزَل . والعامَّةُ أيضاً على ضَمِّ الحاءِ مِنْ " صُحُف " ، وابن جبير على تكسينها ، قال الشيخ : " والمحفوظ في الصحيفة والثوب نَشَرَ مخففاً ثلاثياً " قلت : وهذا مردودٌ بالقرآن المتواتر . وقال أبو البقاء في قراءةِ ابن جُبير : " مِنْ أَنْشَرْتُ : إمَّا بمعنى أَمَرَ بنَشْرِها مثلَ : " أَلْحَمْتُك عِرْضَ فلانٍ " ، أو بمعنى مَنْشورة مثل : أَحْمَدْتُ الرجلَ أو بمعنى : أَنْشَر اللَّهُ الميِّتَ ، أي : أحياه ، فكأنه أحيا ما فيها بذكْرِه .
(1/5519)
وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
قوله : { وَمَا يَذْكُرُونَ } : قرأ نافعٌ بالخطاب ، وهو التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب ، والباقون بالغَيْبة حَملاً على ما تقدَّم مِنْ قولِه { كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ } [ المدثر : 52 ] ولم يُؤْثِروا الالتفاتَ ، والهاءُ في " إنَّه " للقرآن أو للوعيد .
قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ } بمعنى : إلاَّ وقتَ مشيئتِه لا على أنَّ " أنْ " تنوبُ عن الزمانِ بل على حَذْفِ مضاف .
(1/5520)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)
قوله : { لاَ أُقْسِمُ } : العامَّةُ على " لا " النافيةِ . واختلفوا حينئذٍ فيها على أوجهٍ ، أحدُها : أنها نافيةٌ لكلامٍ متقدِّمٍ ، كأنَّ الكفارَ ذَكروا شيئاً . فقيل لهم : لا ، ثم ابتدأ اللَّهُ تعالى قَسَماً . الثاني : أنها مزيدةٌ . قال الزمخشري : " وقالوا إنها مزيدةٌ ، مِثْلُها في : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } [ الحديد : 29 ] وفي قولِه :
4402 في بِئْرِ لاحُورٍ سَرَى وما شَعَرْ ... واعترضوا عليه : بأنها إنما تُزاد في وسط الكلام لا في أولِه . وأجابوا : بأنَّ القرآنَ في حُكْمِ سورةٍ واحدةٍ متصلٍ بعضُه ببعضٍ . والاعتراضُ صحيحٌ؛ لأنها لم تقَعْ مزيدةً إلاَّ في وسط الكلامِ ، لكن الجوابَ غيرُ سديدٍ . ألا ترى إلى امرىء القيسِ كيف زادَها في مستهلِّ قصيدتِه؟ قلت : يعني قولَه :
4403 لا وأبيك ابنةَ العامرِيْ ... يِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كما سيأتي ، وهذا الوجهُ والاعتراضُ عليه والجوابُ نقله مكي وغيرُه . الوجه الثالث : قال الزمخشري : " إدخالُ " " لا " النافيةِ على فعلِ القسمِ مستفيضٌ في كلامِهم وأشعارِهم . قال امرؤ القيس :
لا وأبيك ابنةَ العامرِيْ ... يِ لا يَدَّعِي القومُ أنِّي أفِرّْ
وقال غُوَيَّةُ بن سُلْميٍّ :
4404 ألا نادَتْ أُمامةُ باحْتمالِ ... لِتَحْزُنَني فلابِك ما أُبالي
وفائدتُها توكيدُ القسم " ثم قال بعد أَنْ حكى وجهَ الزيادةِ والاعتراضَ والجوابَ كما تقدَّمَ " والوَجهُ أَنْ يُقال : هي للنفي ، والمعنى في ذلك : أنه لا يُقْسِمُ بالشيءِ إلاَّ إعظاماً له يَدُلَّكَ عليه قولُه تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 75-76 ] فكأنه بإدخالِ حرفِ النفي يقول : إنَّ إعظامي له بإقسامي به كلا إعظامٍ ، يعني أنه يَسْتَأْهِلُ فوق ذلك . وقيل : " إنَّ " لا " نفيٌ لكلامٍ وَرَدَ قبل ذلك " . انتهى . فقولُه : " والوجهُ أَنْ يُقال " إلى قولِه : " يعني أنه يستأهِلُ فوق ذلك " تقريرٌ لقولِه : " إدخالُ " لا " النافيةِ على فعلِ/ القسمِ مستفيضٌ " إلى آخره . وحاصلُ كلامِه يَرْجِعُ إلا أَنَّها نافيةٌ ، وأنَّ النفيَ مُتَسَلِّطٌ على فعل القسمِ بالمعنى الذي شَرَحَه ، وليس فيه مَنْعٌ لفظاً ولا معنىً ثم قال : فإن قلتَ : قولُه تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ النساء : 65 ] والأبياتُ التي أَنْشَدْتُها المُقْسَمُ عليه فيها منفيٌّ ، فهلا زَعَمْتَ أنَّ " لا " التي قبلَ القسمِ زِيْدَتْ موطئةً للنفيِ بعدَه ومؤكِّدةً له ، وقَدَّرْتَ المقسم عليه المحذوفَ ههنا منفيَّاً ، كقولِك : لا أُقْسم بيومِ القيامةِ لا تُتركون سُدى؟ قلت : لو قَصَروا الأمرَ على النفيِ دونَ الإِثباتِ لكان لهذا القول مَساغٌ ، ولكنه لم يُقْصَرْ . ألا ترى كيف لُقِيَ { لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد } [ البلد : 1 ] بقولِه : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان } وكذلك قولُه : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم } [ الواقعة : 75 ] بقوله : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } وهذا من محاسنِ كلامِه فتأمَّلْه . وقد تقدَّم الكلامُ على هذا النحوِ في سورة النساءِ ، وفي آخر الواقعة ، ولكنْ هنا مزيدُ هذه الفوائدِ .
(1/5521)
وقرأ قنبل والبزي بخلافٍ عنه " لأُقْسِمُ بيوم " بلامٍ بعدَها همزةٌ دونَ ألفٍ . وفيها أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها جوابٌ لقسمٍ مقدرٍ ، تقديرُه : واللَّهِ لأُقْسِمُ ، والفعلُ للحالِ؛ فلذلك لم تَأْتِ نونُ التوكيدِ ، وهذا مذهبُ الكوفيين . وأمَّا البصريُّون فلا يُجيزون أَنْ يقعَ فعلُ الحالِ جواباً للقسم ، فإنْ وَرَدَ ما ظاهرُه ذلك جُعل الفعل خبراً لمبتدأ مضمرٍ ، فيعودُ الجوابُ جملةً اسميةً قُدِّرَ أحدُ جزأَيْها ، وهذا عند بعضِهم من ذلك ، التقديرُ واللَّهِ لأنا أُقْسِمُ . الثاني : أنه فعلٌ مستقبلٌ ، وإنما لم يُؤْتَ بنونِ التوكيدِ؛ لأنَّ أفعالَ اللَّهِ حقٌّ وصدقٌ فهي غنية عن التأكيدِ بخلاف أفعالِ غيره . على أنَّ سيبويهِ حكى حَذْفَ النونِ إلاَّ أنَّه قليلٌ ، والكوفيون يُجيزون ذلك مِنْ غير قلةٍ إذ مِنْ مذهبهم جوازُ تعاقُبِ اللامِ والنونِ فمِنْ حَذْفِ اللامِ قولُ الشاعر :
4405 وقتيلِ مَرَّةَ أَثْأَرَنَّ فإنَّه ... فَرْغٌ وإنَّ أخاكم لم يُثْأَرِ
أي : لأَثْأَرَنَّ . ومِنْ حَذْفِ النونِ وهو نظيرُ الآية قولُه :
4406 لَئِنْ تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكُمْ ... لَيَعْلَمُ ربي أنَّ بيتيَ واسعٌ
الثالث : أنها لامُ الابتداءِ ، وليسَتْ بلامِ القسمِ . قال أبو البقاء : " نحو : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ } [ النحل : 124 ] والمعروفُ أنَّ لامَ الابتداءِ لا تَدْخُل على المضارع إلاَّ في خبر " إنَّ " نحو : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ } وهذه الآيةُ نظيرُ الآيةِ التي في يونس [ الآية : 16 ] { وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ } فإنهما قرآها . بقصر الألف ، والكلامُ فيها قد تقدَّم . ولم يُخْتَلَفْ في قولِه : " ولا أُقْسِم " أنه بألفٍ بعد " لا "؛ لأنه لم يُرْسَمْ إلاَّ كذا ، بخلاف الأولِ فإنه رُسِمَ بدون ألفٍ بعد " لا " ، وكذلك في قولِه : { لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد } لم يُختلَفْ فيه أنَّه بألفٍ بعد " لا " .
وجوابُ القسمِ محذوفٌ تقديرُه : لتُبْعَثُنَّ ، دلَّ عليه قولُه : " أيحسَبُ الإِنسانُ " . وقيل : الجوابُ أَيَحْسَبُ . وقيل : هو " بلى قادِرين " ويُرْوَى عن الحسن البصري . وقيل : المعنى على نَفْيِ القسم ، والمعنى : إني لا أُقْسِم على شيء ، ولكن أسألُك : أيحسَبُ الإِنسانُ . وهذه الأقوالُ شاذَّةٌ مُنْكَرةٌ لا تَصِحُّ عن قائليها لخروجِها عن لسانِ العرب ، وإنما ذكرْتُها للتنبيهِ على ضَعْفها كعادتي .
(1/5522)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3)
قوله : { أَلَّن } : هذه هي المخففةُ ، وحكمُها معروفٌ ممَّا تقدَّم في المائدةِ وغيرِها . و " لن " وما في حَيِّزها في موضع الخبرِ ، والفاصلُ هنا حرفُ النفيِ ، وهي وما في حَيِّزها سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولَيْ " حَسِبَ " أو مفعولِه على الخلافِ . والعامَّةُ على " نجمعُ " بنونِ العظمة/ و " عظامَه " نصبٌ مفعولاً به . وقتادة " تُجْمع " بتاءٍ مِنْ فوقُ مضمومةٍ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه ، " عظامُه " رفعٌ لقيامِه مَقامَ الفاعلِ .
(1/5523)
بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)
قوله : { بلى } إيجابٌ لِما بعد النفيِ المنسَحِب عليه الاستفهامُ . والعامَّة على نصبِ " قادِرين " . وفيه قولان ، أشهرُهما : أنَّه منصوبٌ على الحالِ مِنْ فاعلِ الفعلِ المقدَّرِ المدلولِ عليه بحرفِ الجواب ، أي : بلى نجمعُها قادرِين ، والثاني : أنه منصوبٌ على خبرِ " كان " مضمرةً أي : بلى كُنَّا قادرين في الابتداءِ ، وهذا ليس بواضح . وقرأ ابن أبي عبلة وابن السَّمَيْفَع " قادرون " رفعاً على خبر ابتداءٍ مضمر أي : بلى نحن قادرون .
(1/5524)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)
قوله : { بَلْ يُرِيدُ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ " بلى " لمجردِ الإضرابِ الانتقالي مِنْ غيرِ عطفٍ ، أَضْرَبَ عن الكلامِ الأولِ وأخذ في آخرَ . والثاني : أنها عاطفةٌ . قال الزمخشريُّ : " بل يريد " عطفٌ على " أَيَحْسَبُ " فيجوز أَنْ يكونَ مثلَه استفهاماً ، وأن يكونَ إيجاباً على أَنْ يَضْرِبَ عن مُسْتَفْهَمٍ عنه إلى آخرَ ، أو يَضْرِبَ عن مستفهمٍ عنه إلى مُوْجَبٍ " . قال الشيخ بعد ما حَكَى عن الزمخشري : " وهذه التقاديرُ الثلاثةُ متكلفةٌ لا تظهر " . قلت : وليس هنا إلا تقديران .
ومفعولُ " يريد " محذوفٌ يَدُلُّ عليه التعليلُ في قوله : " ليَفْجُرَ أمامَه " والتقدير : يريد شَهَواتِه ومعاصِيَه ليمضيَ فيها أبداً دائماً و " أمامَه " منصوبٌ على الظرفِ ، وأصلُه مكانٌ فاسْتُعير هذا للزمان . والضميرُ في " أمامَه " الظاهر عَوْدُه على الإِنسان . وقال ابن عباس : " يعودُ على يوم القيامة بمعنى : أنه يريد شهواتِه ليَفْجُرَ في تكذيبِه بالبعث بين يَدَيْ يومِ القيامة " .
(1/5525)
يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6)
قوله : { يَسْأَلُ } : هذه جملةٌ مستأنفةٌ . وقال أبو البقاء : " تفسيرٌ لِيَفْجُرَ " فيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ مستأنفاً مُفَسِّراً ، وأَنْ يكونَ بدلاً من الجلمةِ قبلَها؛ لأنَّ التفسيرَ يكون بالاستئنافِ وبالبدلِ ، إلاَّ أنَّ الثاني منع منه رَفْعُ الفعلِ ، ولو كان بدلاً لنُصِبَ . وقد يُقال : إنه أبدلَ الجملةَ من الجملةِ لا خصوصيةَ الفعلِ من الفعلِ وحدَه . وفيه بحثٌ وتقدَّم نظيرُ هذا في الذاريات وغيرها .
(1/5526)
فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7)
قوله : { بَرِقَ } : قرأ نافِع " بَرَقَ " بفتحِ الراء ، والباقون بالكسرِ فقيل : لغتان في التحيُّرِ والدَّهْشة . وقيل : بَرِقَ بالكسر تَحَيَّر فَزِعاً . قال الزمخشري : " وأصلُه مِنْ بَرِقَ الرجلُ : إذا نَظَر إلى البَرْقِ فَدُهِشَ بَصَرُه " . قال غيرُه : كما يقال : أَسِدَ وبَقِرَ ، إذا رأى أُسْداً وبَقَراً كثيرةً فتحيَّر من ذلك . قال ذو الرمَّة :
4407 ولو أنَّ لُقْمانَ الحكيمَ تَعَرَّضَتْ ... لعينَيْهِ مَيٌّ سافِراً كاد يَبْرِقُ
وقال الأعشى :
4408 وكنتُ أَرَى في وجهِ مَيَّةَ لَمْحَةً ... فأَبْرَقُ مغشِيَّاً عليَّ مكانيا
وأنشد الفراء :
4409 فنَفْسَك فانْعَ ولا تَنْعَني ... وداوِ الكُلومَ ولا تَبْرَقِ
وبَرَق بالفتح مِن البريق أي : لَمَعَ من شدةِ شخوصه . وقرأ أبو السَّمَّال " بَلَقَ " باللام . قال أهلُ اللغة إلاَّ الفراء . معناه فَتَحَ . يقال : بَلَقْتُ البابَ وأَبْلَقْتُه أي : فتحتُه وفَرجْتُه . وقال الفراء : " بمعنى أَغْلَقْتُه " . قال ثعلب : " أخطأ الفراءُ في ذلك " ثم يجوز أَنْ يكونَ " بَلَقَ " غيرَ مادةِ بَرَقَ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مادةً واحدةً ، أُبْدِل فيها حرفٌ مِنْ آخرَ ، وقد جاء إبدالُ اللامِ من الراءِ في أحرف ، قالوا : نَثَرَ كِنانته ونَثَلَها . وقالوا : وَجِلَ ووَجِرَ ، فيمكن أن يكونَ هذا منه ، ويؤيِّدُه أَنَّ بَرَقَ قد أتى بمعنى : شَقَّ عيْنيْه وفَتَحَها ، قاله أبو عبيدة . وأنشد :
4410 لَمَّا أتاني مِنْ عُمَيْرٍ راغباً ... أَعْطَيْتُه عِيساً صِهاباً فبرَقْ
أي : ففتح عينيْه ، فهذا مناسِبٌ ل " بَلَقَ " في المعنى " .
(1/5527)
وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)
قوله : { وَخَسَفَ } : العامةُ على بنائِه للفاعلِ . وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويزيد بن قطيب " خُسِفَ " مبنياً للمفعول؛ وهذا لأن خَسَفَ يُستعمل لازماً ومتعدياً يقال : خَسَفَ القمرُ وخَسَفه الله ، وقد اشْتُهر أن الخُسوفَ للقمرِ والكُسوفَ للشمسِ . وقال بعضهم : بل يكونان فيهما ، يُقال : خَسَفَتِ الشمسُ وكَسَفَتْ ، وخَسَفَ القمرُ وكَسَفَ . وتأيَّد بعضُهم بالحديث : " إنَّ الشمسَ والقمرَ/ آيتان مِنْ آياتِ اللَّهِ لا يُخْسَفان لموتِ أحدٍ " فاستعملَ الخُسُوْفَ فيهما . وعندي فيه نَظَرٌ؛ لاحتمالِ التغليبِ وهل هما بمعنىً واحدٍ أم لا؟ فقال أبو عبيدٍ وجماعةٌ : هما بمعنىً واحدٍ . وقال ابن أبي أويس : " الخُسوفُ ذهابُ كلِّ ضَوْئِهما ، والكُسوفُ ذهابُ بَعْضِه " .
(1/5528)
وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)
قوله : { وَجُمِعَ الشمس والقمر } : لم تَلْحَقْ علامةُ تأنيثٍ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ . وقيل : لتغليبِ التذكيرِ . وفيه نظرٌ؛ لو قلت : " قام هندٌ وزيدٌ " لم يَجُزْ عند الجمهورِ من العربِ . وقال الكسائيُّ : " حُمِل على معنى : جُمِعَ " النَّيِّران " . و " يقولُ الإِنسانُ " جوابٌ " إذا " مِنْ قولِه : { فَإِذَا بَرِقَ البصر } . و " أينَ المفرُّ " منصوبُ المحلِّ بالقولِ : والمَفَرُّ : مصدرٌ بمعنى الفِرار . وهذه هي القراءةُ المشهورة .
وقرأ الحَسَنان ابنا علي رضي الله عنهم وابنُ عباس والحسن ابن زيد في آخرين بفتح الميمِ وكسرِ الفاءِ ، وهو اسمُ مكانِ الفرارِ أي : أين مكانُ الفِرار؟ وجَوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ يكونَ مصدراً . قال : " كالمَرْجِعِ . وقرأ الحسنُ عكسَ هذا أي : بكسرِ الميمِ وفَتْحِ الفاءِ ، وهو الرجلُ الكثيرُ الفِرارِ ، وهذا كقولِ امرىءِ القَيْسِ يَصِف جَوادَه :
4411 مِكَّرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ معاً ... كجُلْمودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السيلُ مِنْ عَلِ
وأكثرُ استعمالِ هذا الوزنِ في الآلاتِ .
(1/5529)
كَلَّا لَا وَزَرَ (11)
قوله : { كَلاَّ لاَ وَزَرَ } : تقدَّم الكلامُ في " كلا " وخبر " لا " محذوفٌ أي لا وَزَرَ له . وهل هذه الجملةُ مَحْكِيَّةٌ بقولِ الإِنسان فتكونُ منصوبةٌ المحلِّ ، أو هي مستأنفةٌ إخباراً من الله تعالى بذلك؟ والوَزَرُ : المَلْجأ مِنْ حِصْنٍ أو جَبَلٍ أو سلاحٍ . قال :
4412 لَعَمرُكَ ما للفتى مِنْ وَزَرْ ... من الموتِ يُدْرِكُه والكِبَرْ
(1/5530)
إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12)
قوله : { المستقر } : مبتدأٌ ، خبرُه الجارُّ قبلَه . ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً بمعنى الاستقرارِ ، وأَنْ يكونَ مكانَ الاستقرارِ . " ويومَئذٍ " منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ ، ولا ينْتَصِبُ بمُسْتقر؛ لأنَّه إنْ كان مصدراً فلتقدُّمِه عليه ، وإنْ كان مكاناً فلا عَمَلَ له البتةَ .
(1/5531)
بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
قوله : { بَصِيرَةٌ } : يجوزُ فيها أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها خبرٌ عن " الإِنسانُ " و " على نفسِه " متعلِّقٌ ب " بَصيرةٌ " والمعنى : بل الإِنسانُ بَصيرةٌ على نفسِه ، وعلى هذا فلأيِّ شيءٍ أُنِّث الخبرُ؟ وقد اختلف النَّحْويون في ذلك ، فقال بعضهم : الهاءُ فيه للمبالغةِ . وقال الأخفش : " هو كقولِك : فلانٌ عِبْرَةٌ وحُجَّةٌ " . وقيل : المرادُ بالإِنسان الجوارِحُ ، فكأنَّه قال : بل جوارِحُه بصيرة أي : شاهدةٌ . والثاني : أنها مبتدأٌ ، و " على نفسِه " خبرُها . والجملةُ خبرٌ عن " الإِنسانُ " ، وعلى هذا ففيها تأويلاتٌ أحدُها : أنْ يكونَ " بصيرةٌ " صفةً لمحذوفٍ أي : عينٌ بصيرةٌ ، قاله الفراء . وأنشد :
4413 كأن على ذي العقْل عَيْناً بَصيرةً ... بمَقْعَدِه أو مَنْظَرٍ هو ناظرُهْ
يُحاذِرُ حتى يَحْسَبَ الناسَ كلَّهمْ ... من الخوف لا تَخْفَى عليهمْ سرائِرُهْ
الثاني : أنَّ المعنى : جوارح بَصيرة . الثالث : أنَّ المعنى : ملائكةٌ بصيرة ، والتاءُ على هذا للتأنيثِ . وقال الزمخشري : " بَصيرة : حُجَّةٌ بَيِّنة ، وُصِفَتْ بالبِصارة على المجازِ كما وُصِفَتْ الآياتُ بالإِبصار في قولِه : { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } [ النمل : 13 ] . قلت : هذا إذا لم تَجْعَلِ الحُجَّة عبارةً عن الإِنسانِ ، أو تَجْعَلْ دخولَ التاء للمبالغةِ . أمَّا إذا كانَتْ للمبالغةِ فنسبةُ الإِبصارِ إليها حقيقةٌ . الثالث من الأوجه السابقة : أَنْ يكونَ الخبرُ الجارَّ والمجرورَ ، و " بصيرةٌ " فاعلٌ به ، وهو أرجحُ مِمَّا قبلَه لأنَّ الأصلَ في الإِخبارِ الإِفرادُ .
(1/5532)
وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
قوله : { وَلَوْ ألقى } : هذه الجملةُ حاليةٌ . وقد تقدَّم نظيرُها غيرَ مرةٍ . والمعاذير/ : جمع مَعْذِرة على غيرِ قياس ، كمَلاقيح ومَذاكير جمع لَقْحَة وذَكَر . وللنَّحويين في مثلِ هذا قولان ، أحدهما : أنه جمعٌ لملفوظٍ به ، وهو لَقْحَة وذَكَر . والثاني : أنه جمعٌ لغيرِ ملفوظٍ به بل لمقدرٍ أي : مَلْقَحَة ومِذْكار . وقال الزمخشري : " فإن قلتَ : أليسَ قياسُ المَعْذِرَة أَنْ يُجْمَعَ معاذِرَ لا معاذير؟ قلت : المعاذيرُ ليسَتْ بجمع مَعْذِرة ، بل اسمُ جمعٍ لها ، ونحوُه : المَناكير في المُنْكر " . قال الشيخ : " وليسَ هذا البناءُ من أبنيةِ أسماءِ الجُموع ، وإنما هو مِنْ أبنيةِ جموعِ التكسيرِ " انتهى ، وهو صحيحٌ . وقيل : مَعاذير : جمعُ مِعْذار ، وهو السِّتْرُ ، فالمعنى : ولو أرخى سُتورَه . والمعاذِيْرُ : السُّتور بلغةِ اليمن ، قاله الضحاك والسُّدِّي وأُنشد على ذلك :
4414 ولكنَّها ضَنَّتْ بمَنْزلِ ساعةٍ ... علينا وأَطَّتَ فوقَها بالمعَاذِرِ
وقد حَذَفَ الياءَ من " المعاذير " ضرورةً . وقال الزمخشري : " فإنْ صَحَّ يعني أنَّ المعاذير السُّتور فلأنَّه يَمْنَعُ رؤيةَ المُحْتَجِبِ كما تَمْنَعُ المعذرةُ عقوبةَ المُذْنِبِ " . قلت : هذا القولُ منه يُحتمل أَنْ يكونَ بياناً للمعنى الجامع بين كَوْنِ السُّتورَ ، أو الاعتذاراتِ ، وأَنْ يكونَ بياناً للعلاقةِ المُسَوِّغةِ في التجوُّز .
(1/5533)
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)
قوله : { وَقُرْآنَهُ } : أي : قراءَتَه ، فهو مصدرٌ مضافٌ للمفعولِ . وأمَّا الفاعلُ فمحذوف . والأصلُ : وقراءَتَك إياه ، والقرآن : مصدرٌ بمعنى القراءة . قال حَسَّان رضي الله عنه :
4415 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يُقَطِّعُ الليلَ تَسْبيحاً وقُرآناً
وقال ابن عطية : " قال أبو العالية : " إنَّ علينا جَمْعَه وقُرَانَه . فإذا قَرَتَه فاتَّبِعْ قُرانَه " بفتح القافِ والراء والتاءِ ، مِنْ غيرِ همزٍ ولا ألفٍ " . قلت : ولم يَذْكُرْ توجيهاً . فأمَّا توجيهُ قولِه : " جَمْعَه وقُرانَه " ، وقوله : " فاتَّبِعْ قُرانَه " فواضحٌ مِمَّا تقدَّمَ في قراءةِ ابن كثير في البقرة ، وأنه هل هو نَقْلٌ ، أو مِنْ مادةِ قَرَن ، وتحقيقُ القولَيْن مذكورٌ ثَمَّةَ فعليك بالالتفاتِ إليه . وأمَّا قولُه : " بفتحِ القافِ والراءِ والتاء " فيعني في قولِه : " فإذا قَرَتَه " يُشير إلى أنه قُرىء شاذاً هكذا ، وتوجيهُها : أنَّ الأصلَ : " قَرَأْتَه " فعلاً ماضياً مُسْنداً لضمير المخاطبِ أي : فإذا أَرَدْتَ قراءتَه ، ثم أبدلَ الهمزةَ ألفاً لسكونِها بعد فتحةٍ ، ثم حَذَفَ الألفَ تخفيفاً كقولِهم : " ولو تَرَ ما الصبيانَ " أي : ولو تَرَى الصبيانَ و " ما " مزيدة ، فصار اللفظُ " قَرَتَه " كما ترى .
(1/5534)
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20)
قوله : { بَلْ تُحِبُّونَ } : قرأ ابن كثير وأبو عمروٍ و " يُحِبُّون " و " يَذَرون " بياءِ الغَيْبة حملاً على لفظِ الإِنسانِ المذكور . أولاً؛ لأنَّ المرادَ به الجنسُ ، والباقون بالخطابِ فيهما : إمَّا خِطاباً لكفارِ قريش ، وإمَّا التفاتاً عن الإخبار عن الجنسِ المتقدِّم والإِقبالِ عليه بالخطاب .
(1/5535)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)
قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } : فيه أوجهٌ أحدُها : أَنْ يكون " وجوهٌ " مبتدأً ، و " ناضِرةٌ " نعتٌ له ، و " يومَئذٍ " منصوبٌ ب " ناضِرة " و " ناظرةٌ " خبرُه ، و " إلى ربِّها " متعلِّقٌ بالخبرِ ، والمعنى : أنَّ الوجوهَ الحسنة يومَ القيامة ناظرةٌ إلى اللَّهِ تعالى ، وهذا معنىً صحيحٌ وتخريجٌ سَهْلٌ . والنَّاضرَةُ : من النُّضْرَةِ وهي : التنعُّمُ ، ومنه غُصْنٌ ناضِر . الثاني : أَنْ يكونَ " وجوهٌ " مبتدأً أيضاً ، و " ناضِرَةٌ " خبرُه ، و " يومَئذٍ " منصوبٌ بالخبرِ كما تقدَّم . وسَوَّغَ الابتداءَ هنا بالنكرةِ كَوْنُ الموضعِ موضعَ تفصيلٍ كقولِه :
4416 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فثوبٌ لَبِسْتُ وثوبٌ أَجُرّْ
ويكون " ناظرةٌ " نعتاً لوجوه ، أو خبراً ثانياً ، أو خبراً لمبتدأ محذوفٍ . و " إلى ربِّها " متعلقٌ ب " ناظرة " كما تقدَّم . وقال ابنُ عطية : " وابتدأ بالنكرة/ لأنها تخصَّصَتْ بقوله " يومئذٍ " . وقال أبو البقاء : " وجاز الابتداءُ هنا بالنكرةِ لحصول الفائدةِ " . قلت : أمَّا قولُ ابنِ عطيِّةَ ففيه نظرٌ؛ لأنَّ قولَه : " تخصَّصَتْ بقولِه : " يومئذٍ " هذا التخصيصُ : إمَّا لكونِها عاملةً فيه ، وهو مُحالٌ؛ لأنها جامدةٌ ، وإمَّا لأنَّها موصوفةٌ به وهو مُحال أيضاً؛ لأنَّ الجُثَثَ لا تُوْصَفُ بالزمان كما لا يُخْبَرُ به عنها . وأمَّا قولُ أبي البقاءِ فإنْ أرادَ بحصولِ الفائدةِ ما قدَّمْتُه من التفصيل فصحيحٌ ، وإنْ عَنَى ما عناه ابنُ عطيةَ فليس بصحيحٍ لِما عَرَفْتَه .
الثالث : أَنْ يكونَ " وجوهٌ " مبتدأً ، و " يومئذٍ " خبرَه ، قاله أبو البقاء . وهذا غَلَطٌ مَحْضٌ من حيث المعنى ، ومِنْ حيثُ الصناعةُ . أمَّا المعنى فلا فائدةَ في الإِخبارِ عنها بذلك . وأمَّا الصناعةُ فلأنَّه لا يُخْبَرُ بالزمانِ عن الجُثَثِ ، وإنْ وَرَدَ ما ظاهرهُ ذلك تُؤُوِّل نحو : " الليلةَ الهلالُ " الرابع : أَنْ يكونَ " وجوهٌ " مبتدأً و " ناضرةٌ " خبرَه ، و { إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } جملةً في موضعِ خبرٍ ثانٍ ، قاله ابن عطية . وفيه نظرٌ؛ لأنَّه لا يَنْعَقِدُ منهما كلامٌ ، إذ الظاهرُ تعلُّقُ " إلى " ب " ناظرة " ، اللهمَّ إلاَّ أَنْ يعنيَ أنَّ " ناظرةٌ " خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ ، أي : هي ناظرةٌ إلى ربِّها ، وهذه الجملةُ خبرٌ ثانٍ . وفيه تَعَسُّفٌ .
الخامس : أَنْ يكونَ الخبرُ لوجوه مقدراً ، أي : وجوهٌ يومئذٍ ثَمَّ ، و " ناضرةٌ " صفةٌ ، وكذلك " ناظرةٌ " ، قاله أبو البقاء . وهو بعيدٌ لعدمِ الحاجةِ إلى ذلك . ولا أدري ما الذي حَمَلهم على هذا مع ظهورِ الوجهِ الأولِ وخُلُوصِه من هذه التعسُّفاتِ؟ وكونُ " إلى " حرفَ جرّ ، و " ربِّها " مجروراً بها هو المتبادَرُ للذِّهْنِ .
(1/5536)
وقد خَرَّجه بعضُ المعتزلةِ : على أَنْ تكونَ " إلى " اسماً مفرداً بمعنى النِّعْمَةِ مضافاً إلى الرَّبِّ ، ويُجمع على " آلاء " نحو : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] وقد تقدَّم أنَّ فيه لغاتٍ أربعاً ، و " ربِّها " خفضٌ بالإِضافةِ ، و " إلى " مفعولٌ مقدمٌ ناصبُه " ناظرةٌ " بمعنى مُنْتَظرة . والتقدير : وجوهٌ ناضِرَةٌ منتظرةٌ نعمةَ ربِّها . وهذا فِرارٌ من إثباتِ النظر للَّهِ تعالى على مُعْتَقَدِهم .
والزمخشريُّ تمحَّل لمذهب المعتزلة بطريق أخرى من جهةِ الصناعةِ النحويةِ فقال بعد أن جَعَلَ التقديمِ في " إلى ربها " مُؤْذِناً بالاختصاص " والذي يَصِحُّ معه أَنْ يكونَ مِنْ قولِ الناس : " أنا إلى فلانٍ ناظرٌ ما يَصْنَعُ بي " يريد معنى التوقعِ والرجاءِ . ومنه قولُ القائل :
4417 وإذا نَظَرْتُ إليك مِنْ ملكٍ ... والبحرُ دونَك زِدْتَني نِعَما
وسمعتُ سَرَوِيَّةً مُسْتجديَةً بمكة وقت الظهرِ حين يُغْلِقُ الناسُ أبوابَهم ويَأْوُوْن إلى مقايِلهم تقول : " عُيَيْنتي ناظِرَةٌ إلى اللَّهِ وإليكم " والمعنى : أنهم لا يتوقعون النعمةَ والكرامةَ إلاَّ مِنْ ربِّهم " قلت : وهذا كالحَوْمِ على قولِ مَنْ يقولُ : إنَّ " ناظرة " بمعنى مُنْتظرة . إلاَّ أنَّ مكيَّاً قد رَدَّ هذا القولَ فقال : " ودخولُ " إلى " مع النظر يَدُلُّ على أنه نَظَرُ العَيْنِ ، وليس من الانتظار ، ولو كان من الانتظارِ لم تَدْخُلْ معه " إلى "؛ ألا ترى أنَّك لا تقول : انتظرتُ إلى زيدٍ ، وتقول : نظرْتُ إلى زيد ، ف " إلى " تَصْحَبُ نظرَ العينِ لا تصحَبُ نَظَرَ الانتظار ، فَمَنْ قال : إن " ناظرة " بمعنى مُنتظرة فقد أخطأ في المعنى وفي الإِعراب ، ووَضَعَ الكلامَ في غيرِ موضعِه " .
والنُّضْرَةُ : طَراوةُ البَشَرةِ وجمالُها ، وذلك مِنْ أثرِ النُّعمةِ يُقال : نَضِر وَجْهُه فهو/ ناضِرٌ . وقال بعضهم : مُسَلَّمٌ أنه مِنْ نَظِرِ العينِ ، إلاَّ أنَّ ذلك على حَذْفِ مضافٍ ، أي : ثوابَ ربِّها ، ونحوُه . قال مكي : " لو جاز هذا لجازَ : نَظَرْتُ إلى زيد ، أي : إلى عطاءِ زيدٍ . وفي هذا نَقْضٌ لكلامِ العربِ وتَخْليطٌ في المعاني " . ونَضَره الله ونَضَّره مخففاً ومثقلاً ، أي : حَسَّنه ونَعَّمه ، وفي الحديث : " نضرَ اللَّهُ امرَأً سَمِع مقالتي فوَعَاها ، فأدَّاها كما سَمِعَها " يُرْوَى بالوجهَيْنِ . وقيل للذهب : " نُضار " من ذلك . ويُقال له : النَّضْرُ أيضاً ، وأخضرُ ناضِرُ ، ك أسودُ حالكٌ ، وقَدَحٌ نُضارٌ ونُضارٍ ، يُرْوَى بالإِتباع والإِضافة .
والعامَّة على " ناضِرَة " بألفٍ . وقرأ زيدُ بن علي " نَضِرَة " بدونِها ، كفَرِحَ فهو فَرِحٌ .
(1/5537)
تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
قوله : { فَاقِرَةٌ } : هي الداهيةُ العظيمةُ ، سُمِّيَتْ بذلك لأنها تكسِرُ فَقارَ الظَّهْرِ . قال النابغة :
4418 أَبَى لِيَ قَبْرٌ لا يزالُ مُقابِليْ ... وضَرْبَةُ فَأْسٍ فوقَ رَأْسيَ فاقِرَهْ
أي : داهِيَةٌ مُؤَثِّرَةٌ ، ومنه سُمِّي الفقيرُ لانكسارِ فَقارِه من القُلِّ ، وقد تقدَّم في البقرة .
(1/5538)
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26)
قوله : { التراقي } : مفعولُ " بَلَغَتْ " ، والفاعلُ مضمرٌ [ يعود ] على النفسِ ، وإنْ لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ ، كقولِ حاتم :
4419 أماوِيَّ ما يُغْنِي الثَّراءُ عن الفتى ... إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصدرُ
أي : حَشْرَجَتِ النفسُ . وقيل في البيت : إنَّ الدالَّ على النفس ذِكْرُ جُمْلَةِ ما اشتملَ عليها ، وهو الغِنى ، فكذلك هنا ذِكْرُ الإِنسانِ دالٌّ على النفسِ . والتَّراقِي : جمع تَرْقُوَة ، أصلُها تَراقِوُ ، قُلِبَتْ واوُها ياءً لانكسار ما قبلها . والتَّرْقُوَة إحدى عِظامِ الصدرِ ، كذا قال الشيخ ، والمعروفُ غيرُ ذلك . قال الزمخشري : " ولكلِّ إنسانٍ تَرْقُوَتان " فعلى هذا تكونُ مِنْ باب : غليظِ الحواجب وعريضِ المناكب . والتراقِي : موضِعُ الحَشْرَجَةِ . قال :
4420 ورُبَّ عظيمةٍ دافَعتُ عنها ... وقد بلغَتْ نفوسُهُمُ التراقِيْ
وقال الراغب : " التَّرْقُوَةُ عَظْمٌ وُصِلَ ما بين ثُغْرَةِ النحرِ والعاتِق " انتهى . وقال الزمخشري : " العِظامُ المكتنِفةُ لثُغْرَةِ النَّحْرِ عن يمينٍ وشِمالٍ " ووزنها فَعْلُوة ، فالتاءُ أصلٌ والواوُ زائدةٌ ، يَدُلُّ عليه إدخالُ أهل اللغةِ إياها في مادة " تَرَق " . وقال أبو البقاء : " والتراقي : جمع تَرْقُوَة " وهي فَعْلُوة ، وليست تَفْعُلَة ، إذ ليس في الكلام " رقو " ، وقُرِىء " التراقي " بسكونِ الياء ، وهي كقراءةِ زيدٍ " تُطْعِمون أهالِيْكم " [ المائدة : 89 ] وقد تقدَّم توجيهُها .
(1/5539)
وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)
قوله : { مَنْ رَاقٍ } : مبتدأٌ وخبرٌ . وهذ الجملةُ هي القائمةُ مَقامَ الفاعلِ ، وأصولُ البَصْريين تَقْتَضي أَنْ لا تكونَ؛ لأنَّ الفاعلَ عندهم لا يكونُ جملةً؛ بل القائمُ مَقامَه ضميرُ المصدرِ ، وقد تقدَّمَ تحقيقُ هذا أولَ البقرة ، وهذا الاستفهامُ يجوزُ أن يكونَ على بابِه ، وأَنْ يكونَ استبعاداً وإنكاراً . وراقٍ اسمُ فاعلٍ : إمَّا من رَقَى يَرْقَى من الرُقية وهو كلامٌ مُعَدٌّ للاستشفاء ، يُرْقَى به المريضُ لِيُشْفَى . وفي الحديث : " وما أدراكَ أنها رُقْيَةٌ " ؟ يعني الفاتحةَ وهو مِنْ أسمائِها ، وإمَّا مِنْ رَقِيَ يَرْقَى ، من الرُّقِيِّ وهو الصعودُ ، أي : إنَّ الملائكةَ لِكراهتِها في رُوْحِه تقول : مَنْ يَصْعَد بهذه الروح؟ يقال : رَقَى بالفتحِ من الرُّقْيَةِ ، وبالكسرِ من الرُّقِيِّ . ووقف حفَص على نون " مَنْ " سكتَةً لطيفةً ، وتقدَّم هذا في أولِ الكهف وتحقيقُه . وذكرَ سيبويه إنَّ النونَ تُدْغَمُ في الراءِ وجوباً بغُنَّةٍ وبغيرِها نحو : مَنْ راشِدٌ .
والعاملُ في " إذا بلغَت " معنى قولِه : { إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق } أي : إذا بلغَتِ الحُلْقومَ رُفِعَتْ إلى الله " ويكونُ قولُه : " وقيل : مَنْ راقٍ " معطوفاً على " بَلَغَت " .
والمِساقُ : مَفْعَل من السَّوْقِ وهو اسمُ مصدرٍ .
(1/5540)
فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)
قوله : { فَلاَ صَدَّقَ } : " لا " هنا دَخَلَتْ على الماضي ، وهو مُسْتفيضٌ في كلامِهم بمعنى : لم يُصَدِّق ولم يُصَلِّ . قال :
4421 إنْ تَغْفِر اللهمَّ تَغْفِرْ جَمَّا ... وأيُّ عبدٍ لكَ لا ألَمَّا
وقال آخر :
4422 وأيُّ خَميسٍ لا أَفَأْنا نِهابَه ... وأسيافُنا مِنْ كَبْشِه تَقْطُر الدِّما
واستدلَّ بعضُهم أيضاً على ذلك بقولِ امرِىء القيس :
4423 كأنَّ دِثاراً حَلَّقَتْ بلَبُوْنِه ... عُقابُ تَنُوْفَى لا عُقابُ القواعِلِ
/ فقوله : " لا عُقابُ " عطفٌ على " عُقابُ تَنُوفَى " وهو مرفوعٌ بحلَّقَتْ ، وفي البيتَيْنِ الأَوَّلَيْنِ غُنْيَةٌ عن هذا .
وقال مكي : " لا " الثانيةُ نفيٌ ، وليسَتْ بعاطفةٍ ، ومعناه : فلم يُصَدِّقْ ولم يُصَلِّ " . قلت : كيف يُتَوَهَّمُ العطفُ حتى يَنْفِيَه؟ وجعل الزمخشريُّ { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى } عطفاً على الجملة مِنْ قولِه : { يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة } قال : " وهو معطوفٌ على قوله : " يَسْأل أيَّان " ، أي : لا يُؤْمِنُ بالبعثِ فلا صَدَّقَ بالرسول والقرآن " ، واستبعده الشيخ .
(1/5541)
وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32)
قوله : { ولكن كَذَّبَ } : الاستدراكُ هنا واضحٌ؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ التصدُّقِ والصلاةِ التكذيبُ والتولِّي؛ لأنَّ كثيراً من المسلمين كذلك ، فاسْتَدْرَكَ ذلك : بأنَّ سببَه التكذيبُ والتولِّي ، ولهذا يَضْعُفُ أَنْ يُحْمَلَ نَفْيُ التصديقِ على نَفْيِ تصديقِ الرسولِ؛ لئلا يَلْزَمَ التكرارُ ، فتقعَ " لكنْ " بين متوافقَيْن ، وهو لا يجوزُ .
(1/5542)
ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)
قوله : { يتمطى } : جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعل " ذَهَبَ " ، وقد يجوز أَنْ يكونَ بمعنى : شرع في التمطي كقوله :
4424 فقامَ يَذُوْدُ الناسُ عنها . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وتمطَّى فيه قولان ، أحدُهما : أنَّه مِنْ المَطا ، والمطا : الظهرُ ، ومعناه : يَتَبَخْتَرُ ، أي : يَمُدُّ مَطاه ويَلْويه تَبَخْتُراً في مِشْيته . والثاني : أنَّ أصلَه : يَتَمَطَّطُ ، مِنْ تَمَطَّط ، أي : تَمَدَّد ، ومعناه : أنَّه يتمدَّدُ في مِشْيَتِه تَبَخْتُراً ، ومِنْ لازِمِ التبختُرِ ذلك ، فهو يَقْرُبُ مِنْ معنى الأول ويفارِقُه في مادتِه؛ إذ مادةُ المَطا : م ط و ، ومادةُ الثاني : م ط ط ، وإنما أُبْدِلَتِ الطاءُ الثالةُ ياءً كراهةَ احتمالِ الأمثالِ نحو : تَظَنَّيْت وقَصَّيْتُ أظفاري ، وقولِه :
4425 تَقَضِّيَ البازِيْ إذا البازِيْ كَسرْ ... والمُطَيْطاء : التَّبَخْتُرُ ومَدُّ اليَديْن في المَشْيِ ، والمَطيطة : الماء الخاثِرُ أسفلَ الحوضِ؛ لأنه يتمطَّطُ ، أي : يمتَدُّ فيه .
(1/5543)
أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34)
وتقدَّم الكلامُ على قوله : { أولى لَكَ فأولى } في آخر سورة القتال مُشبعاً ، وإنما كُرِّرَ هنا مبالغةً في التهديد والوعيد . وقالت الخنساء :
4426 هَمَمْتُ بنفسِيَ كلَّ الهمومِ ... فأَوْلَى لنفسِيَ أَوْلَى لها
وقال أبو البقاء هنا : " وزنُ أَوْلَى فيه قولان ، أحدُهما : فَعْلَى ، والألفُ فيه للإِلحاقِ لا للتأنيثِ ، والثاني : هو أَفْعَلُ ، وهو على القولَيْن هنا [ عَلَم ] ولذلك لم يُنَوَّنْ ، ويَدُلُّ عليه ما حكى أبو زيدٍ في " النوادر " : " هي أَوْلاةُ " بالتاءِ غيرَ مَصْروفٍ ، فعلى هذا يكونُ " أَوْلى " مبتدأً ، و " لك " الخبرُ . والثاني : أَنْ يكونَ اسماً للفعل مبنياً ومعناه : وَلِيَكَ شَرٌّ بعد شَرّ ، و " لك " تبيينٌ " .
(1/5544)
أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36)
قوله : { سُدًى } : حالٌ مِنْ فاعلِ " يُتْرَكُ " ومعناه : مُهْمَلاً يقال : إبلٌ سُدَى ، أي : مُهْملة . قال الشاعر :
4427 وأُقْسِمُ بالله جَهْدَ اليمينِ ... ما خَلَقَ اللَّهُ شيئاً سُدَى
أي : مُهْملاً . وأَسْدَيْتُ حاجتي ، أي : ضيَّعْتُها . ومعنى " أَسْدَى إليه معروفاً " ، أي : جعله بمنزلةِ الضَّائع عند المُسْدى إليه لا يذكره ولا يَمُنُّ به عليه .
(1/5545)
أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37)
قوله : { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً } : العامَّةُ على الياءِ مِنْ تحتُ في " يك " رجوعاً للإِنسان . والحسن بتاءِ الخطابِ على الالتفاتِ إليه توبيخاً له .
قوله : { يمنى } قرأ حفص " يُمْنى " بالياء مِنْ تحتُ ، وفيه وجهان : أحدُهما : أنَّ الضميرَ عائدٌ على المنيِّ ، أي : يُصَبُّ ، فتكونُ الجملةُ في محلِّ جر . والثاني : أنه يعودُ للنُّطفةِ؛ لأنَّ تأنيثَها مجازيُّ ، ولأنَّها في معنى الماءِ ، قاله أبو البقاء ، وهذا إنما يتمشَّى على قولِ ابنِ كيسان . وأمَّا النحاةُ فيجعلونه ضرورةً كقوله :
4428 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا أرضَ أبْقَلَ إبْقالَها
وقرأ الباقون " تُمْنَى " بالتاءِ مِنْ فوقُ على أنَّ الضميرَ للنُّطفة . فعلى هذه القراءةِ وعلى الوجهِ المذكورِ قبلَها تكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ؛ لأنها صفةٌ لمنصوبٍ . /
(1/5546)
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)
قوله : { الذكر والأنثى } : يجوزُ أَنْ يكونا بَدَلَيْنِ مِنْ " الزَّوْجَيْن " ، وأَنْ يكونا منصوبَيْن بإضمارِ " أعني " على القطع ، والأصلُ عَدَمُه . وقرأ العامَّةُ " الزوجَيْن " وزيدٌ بن علي " الزوجان " على لغة مَنْ يُجْري المثنى إجراءَ المقصورِ ، وقد تقدَّم تحقيقُه في طه ، ومَنْ تُنْسَبُ إليه هذه اللغةُ ، والاستشهادُ على ذلك .
(1/5547)
أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
وقرأ العامَّةُ أيضاً " بقادرٍ " اسمَ فاعلٍ مجروراً بباءٍ زائدةٍ في خبرِ " ليس " . وزيدُ بن علي " يَقْدِرُ " فعلاً مضارعاً . والعامَّةُ على نصب " يُحْيِيَ " ب " أَنْ " لأنَّ الفتحةَ خفيفةٌ على حرفِ العلةِ . وقرأ طلحةُ بن سليمان والفياض بن غزوان بسكونها : فإمَّا أَنْ يكونَ خَفَّفَ حرفَ العلةِ بحَذْفِ حركةِ الإِعرابِ ، وإمَّا أَنْ يكونَ أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ .
وجمهورُ الناسِ على وجوبِ فَكِّ الإِدغامِ . قال أبو البقاء : " لئلا يُجْمَعَ بين ساكنَيْن لفظاً أو تقديراً " . قلت : يعني أنَّ الحاءَ ساكنةٌ ، فلو أَدْغَمْنا لسَكَنَّا الياءَ الأولى أيضاً للإِدغام فيَلْتقي ساكنان لفظاً ، وهو مُتَعَذَّرُ النطقِ ، فهذان ساكنان لفظاً . وأمَّا قولُه : " تقديراً " فإنَّ بعضَ الناسِ جوَّز الإِدغامَ في ذلك ، وقراءتُه " أَنْ يُحِيَّ " وذلك أنه لَمَّا أراد الإِدغامَ نَقَلَ حركةَ الياءِ الأولى إلى الحاء ، وأدغمها ، فالتقى ساكنان : الحاءُ لأنها ساكنةٌ في التقدير قبل النقلِ إليها والياءُ؛ لأنَّ حركتَها نُقِلَتْ مِنْ عليها إلى الحاءِ ، واستشهد الفراءُ لهذه القراءةِ : بقوله :
4429 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَمْشِي لسُدَّةِ بيتها فَتُعِيُّ
وأمَّا أهلُ البصرةِ فلا يُدْغِمونه البتةَ ، قالوا : لأنَّ حركةَ الياءِ عارضةٌ؛ إذ هي للإِعرابِ . وقال مكي : " وقد أجمعوا على عَدَمِ الإِدغامِ في حالِ الرفع . فأمَّا في حالِ النصبِ فقد أجازه الفراءُ لأجلِ تحرُّك الياء الثانيةِ ، وهو لا يجوزُ عند البَصْريين؛ لأنَّ الحركةَ عارضةٌ " قلت : ادعاؤُه الإِجماعَ مردودٌ بالبيتِ الذي قَدَّمْتُ إنشاده عن الفراءِ ، وهو قوله : " فَتُعِيُّ " فهذا مرفوعٌ وقد أُدْغِمَ . ولا يَبْعُدُ ذلك؛ لأنَّه لَمَّا أُدْغِم ظهرَتْ تلك الحركةُ لسكونِ ما قبل الياءِ بالإِدغام .
(1/5548)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)
قوله : { هَلْ أتى } : في " هل " هذه وجهان ، أحدُهما : أنَّها على بابِها من الاستفهامِ المَحْضِ ، أي : هو مِمَّنْ يُسْأَلُ عنه لغرابتِه : أأتى عليه حينٌ من الدهرِ لَم يكنْ كذا ، فإنه يكونُ الجوابُ : أتى عليه ذلك ، وهو بالحالِ المذكورةِ ، كذا قاله الشيخ ، وهو مدخولٌ كما ستعرِفُه قريباً . وقال مكي في تقرير كونها على بابِها من الاستفهام . " والأحسنُ أَنْ تكونَ على بابِها للاستفهام الذي معناه التقريرُ ، وإنما هو تقرير لمَنْ أنكر البعثَ ، فلا بُدَّ أَنْ يقولَ : نعم قد مضى دهر طويل لا إنسانَ فيه . فيقال له : مَنْ أَحْدَثَه بعد أن لم يكُنْ وكَوَّنه بعد عَدَمِه كيف يمتنع عليه بَعْثُه وإحياؤه بعد مَوْتِه؟ وهو معنى قولِه : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } [ الواقعة : 62 ] ، أي : فهلاَّ تَذَكَّرون فتعلَمون أنَّ مَنْ أَنْشأ شيئاً بعد أن لم يكُنْ قادرٌ على إعادتِه بعد مَوْتِه و عَدَمِه " انتهى . فقد جَعَلها لاستفهامِ التقريرِ لا للاستفهامِ المَحْضِ ، وهذا هو الذي يجبُ أَنْ يكونَ؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يَرِدُ مِنَ الباري تعالى لاَّ على هذا النحوِ وما أشبهه . والثاني : أنها بمعنى " قد " قال الزمخشري : " هل بمعنى " قد " في الاستفهام خاصة . والأصل : أهل بدليلِ قولِه :
4430 سائِلْ فوارسَ يَرْبوعٍ بشَدَّتِنا ... أهَلْ رَأَوْنا بوادي القُفِّ ذي الأَكَمِ
فالمعنى : أقد أتى ، على التقريرِ والتقريبِ جميعاً ، أي : أتى على الإِنسان قبلَ زمانٍ قريبٍ حينٌ من الدهرِ لم يكنْ فيه شيئاً مذكوراً ، أي : كان شيئاً مَنْسِيَّاً غير مذكور " انتهى . فقولُه : " على التقريرِ " يعني المفهومَ من الاستفهامِ ، وهو الذي فهم مكيٌّ مِنْ نفسِ " هل " . وقوله : " والتقريب " يعني المفهومَ مِنْ " قد " التي وقع مَوْقِعَها " هل " . ومعنى قولِه " في الاستفهام خاصةً " أنَّ " هل " لا تكونُ بمعنى " قد " إلاَّ ومعها استفهامٌ/ لفظاً كالبيتِ المتقدِّم ، أو تقديراً كالآية الكريمةِ . فلو قلتَ : " هل جاء زيدٌ " تعني : قد جاء ، من غيرِ استفهامٍ لم يَجُزْ ، وغيرُه جَعَلَها بمعنى " قد " من غيرِ هذا القيدِ . وبعضُهم لا يُجيزه البتةَ ، ويَتَأّوَّل البيتَ : على أنَّ مِمَّا جُمِعَ فيه بين حرفَيْ معنىً للتأكيدِ ، وحَسَّن ذلك اختلافُ لفظِهما كقولِ الشاعِرِ :
4331 فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلنْنَي عَنْ بِما به ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فالباءُ بمعنى " عن " ، وهي مؤكِّدةٌ لها ، وإذا كانوا قد أَكَّدوا مع اتفاقِ اللفظِ كقولِه :
4432 فَلا واللَّهِ لا يُلْفَى لِما بي ... ولا لِلِما بهمْ أبداً دَواءُ
فَلأَنْ يُؤَكِّدوا مع اختلافهِ أَحْرى . ولم يَذْكُرِ الزمخشريُّ غيرَ كونِها بمعنى " قد " ، وبقي على الزمخشريِّ قيدٌ آخر : وهو أَنْ يقولَ : في الجملِ الفعليةِ؛ لأنَّه متى دخلَتْ " هل " على جملةٍ اسميةٍ استحالَ كونُها بمعنى " قد " لأنَّ " قد " مختصَّةٌ بالأفعالِ . وعندي أنَّ هذا لا يَرِدُ؛ لأنَّه تقرَّر أنَّ " قد " لا تباشِرُ الأسماءَ .
قوله : { لَمْ يَكُن } في هذه الجملة وجهان ، أحدُهما : أنَّها في موضعِ نصبٍ على الحالِ من " الإِنسان " ، أي : هل أتى عليه حينٌ في هذه الحالةِ . والثاني : أنها في موضعِ رفع نعتاً ل " حينٌ " بعد نعتٍ . وعلى هذا فالعائدُ تقديرُه : حينٌ لم يكُنْ فيه شيئا مذكوراً ، والأول أظهرُ لفظاً ومعنىً .
(1/5549)
إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)
قوله : { أَمْشَاجٍ } : نعتٌ ل " نُطْفة " ووَقَعَ الجمعُ صفةً لمفردٍ؛ لأنَّه في معنى الجمع ، كقولِه تعالى : { رَفْرَفٍ خُضْرٍ } أو جُعِل كلُّ جزءٍ من النُّطفةِ نُطفةً ، فاعتبر ذلك فوُصِفَ بالجمع ، وقال الزمخشري : " أََمْشاج كبْرْمَةٍ أَعْشار ، وبُرْدٍ أَكْياشٌ وهي ألفاظٌ مفردةٌ غيرُ جموعٍ؛ ولذلك تقع صفاتٍ للأفرادِ " ويقال : نُطْفَةٌ مَشَجٌ ، قال الشماخ :
4433 طَوَتْ أَحْشاءَ مُرْتِجَةٍ لوَقْتٍ ... على مَشَجٍ سُلالتُه مَهِينُ
ولا يَصِح " أَمْشاج " أَنْ يكونَ تكسيراً له ، بل هما مِثْلان في الإِفرادِ لوصف المفرد بهما " . فقد مَنَعَ أَنْ يكونَ أَمْشاجاً جمعَ " مِشْجٍ " بالكسر . قال الشيخ : " وقوله مخالفٌ لنصِّ سيبويهِ والنَّحْويين على أَنْ أَفعالاً لا يكون مفرداً . قال سيبويه : " وليس في الكلامِ " أَفْعال " إلاَّ أَنْ يُكَسَّرَ عليه اسماً للجميع ، وما وَرَدَ مِنْ وصفِ المفردِ بأَفْعال تَأَوَّلوه " انتهى . قلت : هو لم يَجْعل أَفْعالاً مفرداً ، إنما قال : يُوْصف به المفردُ ، يعني بالتأويلِ الذي ذَكَرْتُه مِنْ أنَّهم جَعَلُوا كلَّ قِطعةٍ من البُرْمَة بُرْمَةً ، وكلَّ قطعةٍ من البُرْد بُرْداً ، فوصفوهما بالجمع . وقال الشيخ : " الأمْشاج " الأخلاط ، واحدُها مَشَج بفتحتين ، أو مِشْج كعِدْل وأَعْدال أو مَشِيج كشريف وأَشْراف ، قاله ابنُ الأعرابي . وقال رؤبة :
4434 يَطْرَحْن كلَّ مُعْجَلٍ نَشَّاجٍ ... لم يُكْسَ جِلْداً مِنْ دمٍ أَمْشاجِ
وقال الهذلي :
4435 كأن الرِّيْشَ والفُوْقَيْنِ منها ... خِلافَ النَّصْلِ سِيْطَ به مَشِيْجُ
وقال الشماخ :
4436 طَوَتْ أحشاءَ مُرْتِجَةٍ . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . ويقال : " مَشَج يَمْشُجُ مَشْجاً إذا خَلَط ، ومَشيج كخليط ومَمْشوج كمخلوط " انتهى . فجوَّزَ أَنْ يكونَ جَمْعاً ل مِشْج كعِدْل ، وقد تقدَّم أنَّ الزمخشريَّ : مَنَعَ ذلك . وقال الزمخشريُّ : " ومَشَجَه ومَزَجَه بمعنىً ، والمعنى : مِنْ نُطْفة امتزَجَ فيها الماءان .
قوله : { نَّبْتَلِيهِ } يجوزُ في هذه الجملة وجهان ، أحدهما : أنها حالٌ مِنْ فاعل " خَلَقْنا " ، أي : خَلَقْنا حالَ كونِنا مُبْتَلِين له . والثاني : أنَّها حالٌ من " الإنسان " ، وصَحَّ ذلك لأنَّ في الجملة ضميرَيْن كلٌّ منهما يعودُ على ذي الحال . ثم هذه الحالُ يجوزُ أَنْ تكونَ مقارِنَةً إنْ كان المعنى ب " نَبْتَليه " : نُصَرِّفُه في بطنِ أمِّه نُطْفَةً ثم عَلَقَةً . وهو قولُ ابن عباس ، وأَنْ تكونَ مقدرةً إنْ كان المعنى ب " نَبْتَليه " : نَخْتَبره بالتكليفِ؛ لأنَّه وقتَ خَلْقِهِ غيرُ مكلَّفٍ . وقال الزمخشري : " ويجوزُ أَنْ يكونَ المرادُ : ناقلين له مِنْ حالٍ إلى حالٍ ، فُسُمِّي ذلك ابتلاءً على طريق الاستعارةِ " . قلت : هذا هو معنى قولِ ابنِ عباس المتقدَّمِ . وقال بعضُهم : " في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ . والأصلُ : إنَّا جَعَلْناه سميعاً بصيراً نَبْتَليه ، أي : جَعَلْنا/ له ذلك للابْتلاءِ " وهذا لا حاجةَ إليه .
(1/5550)
إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
قوله : { إِمَّا شَاكِراً } : " شاكراً " نصبٌ على الحال ، وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه حالٌ مِنْ مفعولِ " هَدَيْناه " ، أي : هَدَيْناه مُبَيَّناً له كلتا حالتيه . قال أبو البقاء : " وقيل : هي حالٌ مقدرةٌ " . قلت : لأنه حَمَلَ الهدايةَ على أولِ البيانِ له ، و [ هو ] في ذلك الوقتِ غيرُ مُتَّصِفٍ بإحدى الصفتَيْنِ . والثاني : أنه حالٌ من " السبيل " على المجاز . قال الزمخشري : " ويجوزُ أن يكونا حالَيْن من " السبيل " ، أي : عَرَّفْناه السبيلَ إمَّا سبيلاً شاكِراً ، وإمَّا سبيلاً كَفُوراً كقوله : { وَهَدَيْنَاهُ النجدين } [ البلد : 10 ] فوصفَ السبيلَ بالشُّكْرِ والكُفْر مجازاً .
والعامَّةُ على كسر همزة " إمَّا " وهي المرادِفَةُ ل " أو " وتقدَّم خلافُ النَّحْويين فيها . ونقل مكيٌّ عن الكوفيين أنها هنا " إنْ " الشرطيةُ زِيْدَتْ بعدها " ما " ثم قال : " وهذا لا يُجيزه البَصْريُّون؛ لأن " إن " الشرطيةَ لا تَدْخُلُ على الأسماءِ ، إلاَّ أَنْ يُضْمَرَ فعلٌ نحو : { وَإِنْ أَحَدٌ } [ التوبة : 6 ] . ولا يَصِحُّ إضمارُ الفعلِ هنا؛ لأنه كان يلزَمُ رَفْعُ " شاكراً " وأيضاً فإنَّه لا دليلَ على الفعلِ " انتهى . قلت : لا نُسَلِّمُ أنه يَلْزَمُ رَفْعُ " شاكراً " مع إضمار الفعلِ ، ويُمْكِنُ أَنْ يُضْمَرَ فعلٌ يَنْصِبُ " شاكراً " تقديرُه : " إن خَلَقْناهُ شاكراً فشكورٌ ، وإنْ خَلَقْناه كافراً فكفُوْرٌ .
وقرأ أبو السَّمَّال وأبو العجاج بفتحها . وفيها وجهان ، أحدُهما : أنَّها العاطفةُ ، وإنما لغةُ بعضِهم فَتْحُ همزتها ، وأنشدوا على ذلك :
4437 يَلْفَحُها أمَّا شمالٌ عَرِيَّةٌ ... وأمَّا صَباً جِنْحَ العَشِيِّ هَبوبُ
بفتحِ الهمزةِ . ويجوزُ مع فتحِ الهمزةِ إبدالُ ميمِها الأولى ياءً . قال :
4438 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أَيْما إلى جَنَّةٍ أَيْما إلى النارِ
وحَذَفَ الواوَ بينهما . والثاني : أنها أمَّا التفصيليةُ ، وجوابُها مقدرٌ . قال الزمخشري : " وهي قراءةٌ حسنةٌ والمعنى : أمَّا شاكِراً فَبِتَوْفِيْقِنا ، وأمَّا كفُوراً فبِسُوءِ اختيارِه " انتهى . ولم يذكُرْ غيرَه .
(1/5551)
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)
قوله : { سَلاَسِلَ } : قرأ نافعٌ والكسائيُّ وهشام وأبو بكر بالتنوين ، والباقون بغيرِ تنوينٍ ، ووقَفَ هؤلاءِ وحمزةُ وقنبلٌ عليه بالألفِ بلا خلافٍ . وابنُ ذكوانَ والبزيُّ وحفصٌ بالألفِ وبدونِها ، فعَنْ ثلاثتِهم الخلافُ ، والباقون وقَفوا بدون ألفٍ بلا خلافٍ . فقد تَحَصَّل لك من هذا أن القُرَّاءَ على [ أربع ] مراتبَ : منهم مَنْ يُنَوِّنُ وصْلاً ، ويقفُ بالألفِ وَقْفاً بلا خلافٍ وهم نافعٌ والكسائيُّ وهشامٌ وأبو بكر ، ومنهم مِنْ لا يُنَوِّنُ ولا يأتي بالألفِ وقفاً بلا خلافٍ ، وهما حمزةُ وقنبلٌ ، ومنهم مَنْ لم يُنَوِّنْ ، ويقف بالألفِ بلا خلافٍ ، وهو أبو عمروٍ وحدَه ، ومنهم مَنْ لم يُنَوِّنْ ، ويقفُ بالألف تارةٍ وبدونِها أخرى ، وهم ابنُ ذكوانَ وحفصٌ والبزيُّ ، فهذا نهايةُ الضبطِ في ذلك .
فأمَّا التنوينُ في " سلاسل " فذكَرُوا له أوجهاً منها : أنه قَصَد بذلك التناسُبَ؛ لأنَّ ما قبلَه وما بعده منونٌ منصوبٌ . ومنها : أن الكسائيَّ وغيرَه مِنْ أهلِ الكوفةِ حَكَوا عن بعض العربِ أنهم يَصْرِفُون جميعَ ما لا ينصَرِفُ ، إلاَّ أفعلَ منك . قال الأخفش : " سَمِعْنا من العربِ مَنْ يَصْرِفُ كلَّ ما لا يَنْصَرِف؛ لأنَّ الأصل في الأسماء الصرفُ ، وتُرِك الصرفُ لعارضٍ فيها ، وأنَّ الجمعَ قد جُمِع وإنْ كان قليلاً . قالوا : صواحِب وصواحبات . وفي الحديث : " إنكن لصَواحِبات يوسف " وقال الشعر :
4439 قد جَرَتِ الطيرُ أيامِنينا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فجمع " أيامِن " جَمْعَ تصحيحِ المذكر . وأنشدوا :
4440 وإذا الرجالُ رأوا يزيدَ رأيتَهمْ ... خُضُعَ الرِّقابِ نواكِسي الأبصارِ
بكسرِ السينِ مِنْ نواكِس ، وبعدَها ياءٌ تَظهرُ خطاً لا لفظاً لذهابِها لالتقاءِ الساكنين ، والأصلُ : " نواكِسِين " فحُذِفَتِ النونُ للإِضافةِ ، والياءُ لالتقاءِ الساكَنيْن . وهذا على رواية كسرِ السينِ ، والأشهرُ فيها نصبُ السينِ فلمَّا جُمِع شابَهَ المفرداتِ فانصَرَفَ . ومنها أنه مرسومٌ في إمامِ الحجازِ والكوفةِ بالألفِ ، رواه أبو عبيدٍ ، ورواه قالون عن نافعٍ . وروى بعضُهم ذلك عن مصاحفِ البصرةِ أيضاً ،
وقال الزمخِشريُّ : " وفيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ هذه النونُ بدلاً من حرفِ الإِطلاقِ ويَجْري الوصل مَجْرى الوقفِ . والثاني : أَنْ يكونَ صاحبُ هذه القراءةِ مِمَّنْ ضَرِيَ بروايةِ الشِّعْر ، ومَرَنَ لسانُه على صَرْفِ ما لا ينصرف " . قلت : وفي هذه العبارةِ فَظاظةٌ وغِلْظة ، لا سيما على مَشْيَخَةِ الإِسلام وأئمةِ العلماءِ الأعلامِ .
ووَقَفَ هؤلاء بالألفِ ظاهراً . وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْه/ فظاهرٌ؛ لأنَّه على صيغةِ منتهى الجموع . وقولهم : قد جُمِع ، نحو : صَواحبات وأيامِنين لا يَقْدَحُ؛ لأنَّ المَحْذورَ جمعُ التكسيرِ ، وهذا جمعُ تصحيحٍ ، وعَدَمُ وقوفِهم بالألفِ واضحٌ أيضاً . وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْ ووقفَ بالألفِ فإتْباعاً للرَّسمِ الكريمِ كما تقدَّمَ ، وأيضاً فإنَّ الرَّوْمَ في المفتوحِ لا يُجَوِّزُه القُرَّاءُ ، والقارىءُ قد يُبَيِّنُ الحركةَ في وَقْفِه فأَتَوْا بالألفِ لَتَتَبيَّنَ بها الفتحةُ . ورُوِيَ عن بعضٍ أنه يقول : " رَأَيْتُ عُمَرا " بالألف يعني عُمَرَ بن الخطاب . والسَّلاسِلُ : جمع سِلْسلة ، وقد تقدَّم الكلامُ فيها .
(1/5552)
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)
قوله : { عَيْناً } في نَصْبِها أوجهٌ ، أحدُها : أنه بدلٌ مِنْ " كافوراً " لأنَّ ماءَها في بياضِ الكافور ، وفي رائحتِه وبَرْدِه . والثاني : أنَّها بدلٌ مِنْ محل " مِنْ كأسٍ " ، قاله مكي ، ولم يُقَدِّرْ حَذْفَ مضافٍ . وقَدَّر الزمخشريُّ على هذا الوجهِ حَذْفَ مضافٍ . قال : " كأنه قيل : يَشْرَبون خَمْراً خَمْرَ عَيْنٍ " وأمَّا أبو البقاءِ فجعل المضافَ مقدراًعلى وجهِ البدلِ مِنْ " كافوراً " فقال : " والثاني : بدلٌ مِنْ " كافوراً " ، أي : ماءَ عَيْنٍ أو خَمْرَ عَيْن " وهو معنىً حَسَنٌ . الثالث : أنَّها مفعولٌ ب " يَشْرَبون " ، أي : يَشْرَبون عَيْناً مِنْ كأس . الرابع : أنَّ يَنْتصِبَ على الاختصاص . الخامس : بإضمارِ " يَشْربون " يُفَسِّرُه ما بعده ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الظاهر أنه صفةٌ لعَيْن ، فلا يَصِحُّ أَنْ يُفَسِّر . السادس : بإضمار " يُعْطَوْن " . السابع : على الحالِ من الضمير في " مِزاجُها " ، قاله مكي .
والمِزاج : ما يُمْزَجُ به ، أي : يُخْلَطُ . يقال : مَزَجَه يَمْزُجه مَزْجاً ، أي : خَلَطَهُ يَخلِطُه خَلْطاً . قال حسان :
4441 كأنَّ سَبِيْئَةً مِنْ بيتِ رَأْسٍ ... يكونُ مِزاجَها عَسَلٌ وماءُ
فالمِزاج كالقِوامِ ، اسمٌ لما يقام به الشيءُ . والكافورُ : طِيْبٌ معروفٌ ، وكأنَّ اشتقاقه من الكَفْرِ وهو السَّتْرُ؛ لأنه يُغَطِّي الأشياءَ برائحتِه . والكافور أيضاً : كِمام الشجرِ التي تُغَطِّي ثمرتَها . ومفعولُ " يَشْربون " : إمَّا محذوفٌ ، أي : يعني : يَشْرَبون ماءً أو خمراً من كأسٍ ، وإمَّا مذكورٌ وهو " عَيْناً " كما تقدَّم ، وإمَّا " مِنْ كأسٍ " و " مِنْ " مزيدةٌ فيه ، وهذا يَتَمشَّى عند الكوفيين والأخفش .
وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : لِمَ وُصِل فِعْلُ الشُّرْب بحرفِ الابتداءِ أولاً وبحرف الإِلصاقِ آخراً؟ قلت : لأنَّ الكأسَ مبدأ شُرْبهِ وأولُ غايتِه ، وأمَّا العَيْنُ فبها يَمْزُجون شرابَهم ، فكأنَّ المعنى : يشْرَبُ عبادُ اللَّهِ بها الخمرَ كما تقول : شَرِبْتُ الماءَ بالعَسل " .
قوله : { يَشْرَبُ بِهَا } في الباءِ أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها مزيدةٌ ، أي : يَشْرَبُها ، ويَدُلُّ له قراءةُ ابنُ أبي عبلةَ " يَشْرَبُها " مُعَدَّى إلى الضمير بنفسِه . الثاني : أنها بمعنى " مِنْ " . الثالث : أنها حاليةٌ ، أي : مَمْزوجةٌ بها . الرابع : أنها متعلقَةٌ ب " يَشْرَبُ " . والضميرُ يعودُعلى الكأس ، أي : يَشْرَبون العَيْنَ بتلك الكأسِ ، والباءُ للإِلصاق ، كما تقدَّم في قولِ الزمخشري . الخامس : أنه على تَضْمين " يَشْرَبُون " معنى : يَلْتَذُّون بها شاربين . السادس : على تَضْمينِه معنى " يَرْوَى " ، أي يَرْوَى بها عبادُ اللَّهِ . وكهذه الآية في بعضِ الأوجهِ قولُ الهُذَلي :
4442 شَرِبْنَ بماءِ البحرِ ثم تَرَفَّعَتْ ... متى لُجَجٍ خُضْرٍ لهنَّ نَئيجُ
فهذه تحتملُ الزيادةَ ، وتحتملُ أَنْ تكونَ بمعنى " مِنْ " . والجملةُ مِنْ قولِه " يَشْرَبُ بها " في محلِّ نصبٍ صفةٍ ل " عَيْناً " إنْ جَعَلْنا الضميرَ في " بها " عائداً على " عَيْناً " ولم نجعَلْه مُفَسِّراً لناصبٍ ، كما قاله أبو البقاء . وقرأ عبد الله " قافوراً " بالقاف بدلَ الكافِ ، وهذا مِنْ التعاقُبِ بين الحرفَيْنِ كقولهم : " عربيٌّ قُحٌّ وكُحّ . و " يُفَجِّرونها " في موضع الحال .
(1/5553)
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)
قوله : { يُوفُونَ } : يجوز أَنْ يكونَ مستأنفاً لا محلَّ له البتةَ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً لكان مضمرةً ، قال الفراء : " التقديرُ : كانوا يُوْفُوْن بالنَّذْر في الدنيا ، وكانوا يخَافون " انتهى . وهذا ما لا حاجةَ إليه . الثالث : أنه جوابٌ لمَنْ قال : ما لم يُرْزَقون ذلك؟ . قال الزمخشري : " يُوْفُوْن " جوابُ مَنْ عَسَى يقول : ما لم يُرْزَقون ذلك "؟ قال الشيخ : " واستعمل " عَسَى " صلةً لمَنْ وهو لا يجوزُ ، وأتى بالمضارع بعد " عَسَى " غيرَ مقرونٍ ب " أَنْ " / وهو قليلٌ أو في الشعر " .
قوله : { كَانَ شَرُّهُ } في موضع نصبٍ صفةً ل " يَومْ " . والمُسْتَطِير : المنتشر يُقال : استطار يَسْتطير اسْتِطارَةً فهو مُسْتَطير ، وهو استفعل من الطَّيران قال الشاعر :
4443 فباتَتْ وقد أسْأَرَتْ في الفؤا ... دِصَدْعاً عل نَأْيِها مُسْتطيرا
وقال الفراء : " المُسْتطير : المُسْتطيل " . قلت كأنه يريدُ أنه مِثْلُه في المعنى ، لا أنه أَبْدَل من اللامِ راءً . والفجرُ فجران : مستطيلٌ كذَنَبِ السِّرحان وهو الكاذِبُ ، ومُسْتطيرٌ وهو الصادِقٌ لانتشارِه في الأُفُق .
(1/5554)
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)
قوله : { حُبِّهِ } : حالٌ : إمَّأ من الطعامِ ، أي : كائنين حلى حُبَّهم الطعامَ ، وإمَّا من الفاعلِ . والضمير في " حُبِّه " لله تعالى ، أي : على حُبِّ اللهِ . وعلى التقديرَيْن فهو مصدرٌ مضافٌ للمفعول .
(1/5555)
إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)
قوله : { قَمْطَرِيراً } : القَمْطَرير : الشديدُ . وأصلُه كما قال الزجاج : " مُشتقٌّ من اقْمَطَرَّت الناقةُ : إذا رفعَتْ ذَنَبها ، وجمعَتْ قُطْرَيْها ، وزَمَّتْ بأَنْفِها . قال الزمخشري : " فاشتقَّه من القَطْر ، وجعل الميمَ مزيدةً . قال أسد بن ناعصة :
4444 واصْطَلَيْتُ الحروبُ في كلِّ يومٍ ... باسِلِ الشَّرِّ قَمْطَرِيرِ الصَّباحِ
قال الشيخ : " واختلف النحاةُ في هذا الوزن ، والأكثرُ لا يُثْبِتُ افْمَعَلَّ في أوزان الأفعالِ " ويقال : اقْمَطَرَّ يَقْمَطِرُّ فهو مُقْمَطِرٌّ ، قال الشاعر :
4445 تَلْزُبُ العقربُ تَزْبَئِرُّ ... تكسو استَها لحماً وتَقْمَطِرُّ
ويومٌ قَمْطرير وقُماطر بمعنى : شديد . قال الشاعر :
4446 فَفِرُّوا إذا ما الحربُ ثارَ غبارُها ... ولَجَّ بها اليومُ الشديدُ القُماطِرُ
وقال الزجَّاج : " القَمْطَرِيرْ " الذي يَعْبَسُ حتى يجتمعَ ما بين عينَيْه " انتهى . فعلى هذا استعمالُه في اليومِ مجازاً . وفي بعض كلامِ الزمخشري أنه جَعَلَه من القَمْط ، فعلى هذا تكون الراءان فيه مزيدتَيْن .
(1/5556)
وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)
قوله : { بِمَا صَبَرُواْ } : " ما " مصدريةٌ . و " جنةٌ " مفعولٌ ثانٍ أي : جَزاهم جنةً بصَبْرهم . وقدَّر مكي مضافاً فقال : " تقديرُه : دخولَ جنة ولِبْسَ حرير " .
(1/5557)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)
قوله : { مُّتَّكِئِينَ } : حال مِنْ مفعول " جَزاهم " .
وقرأ علي رضي الله عنه " وجازاهم " وجوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ " مُتَّكئين " صفةً ل " جَنَّةً " . وهذا لا يجوزُ عند البَصْريين؛ لأنَّه كان يلزَم بروزُ الضميرِ فيقال : مُتَّكئين هم فيها ، لجريانِ الصفةِ على غير مَنْ هي له . وقد مَنَعَ مكي أن يكونَ " مُتَّكئين " صفةً ل " جنةً " لِما ذكرْتُه مِنْ عَدَمِ بُروزِ الضمير . وممَّنْ ذَهَبَ إلى كونِ " مُتَّكئين " صفةً ل " جَنَّةً " الزمخشريُّ فإنه قال : " ويجوزُ أَنْ تكونَ " مُتَّكئين " . و " لا يَرَوْن " و " دانيةً " كلُّها صفاتٍ ل " جنةٌ " وهو مردودٌ بما ذكرْتُه . ولا يجوزُ أَنْ يكونُ " مُتَّكئين " حالاً مِنْ فاعل " صَبَروا "؛ لأنَّ الصَّبْرَ كان في الدنيا واتِّكاءَهم إنما هو في الآخرة ، قال معناه مكي . ولقائلٍ أَنْ يقول : إن لم يكنِ المانعُ إلاَّ هذا فاجْعَلْها حالاً مقدرةً؛ لأن مآلهم بسبب صَبْرهم إلى هذه الحالِ . وله نظائرُ .
وقوله : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ } إمَّا على إضمارِ القولِ أي : قائلين ذلك . وقرأ أبو جعفر " فَوَقَّاهم " بتشديد القافِ على المبالغةِ .
قوله : { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا } فيه أوجهٌ ، أحدها : أنَّها حالٌ ثانيةٌ مِنْ مَفْعولِ " جزاهم " . الثاني : أنها حالٌ من الضميرِ المرفوعِ المستكنِّ في " مُتَّكئين " ، فتكونُ حالاً متداخلةً . الثالث : أَنْ تكونَ صفةً ل جنة كمتَّكئين عند مَنْ يرى ذلك وقد تقدَّم أنه قولُ الزمخشريِّ .
والزَّمْهَرير : أشدُّ البردِ . هذا هو المعروفُ . وقال ثعلب : هو القمرُ بلغة طيِّىء وأنشد :
4447 في ليلةٍ ظلامُها قد اعتكَرْ ... قَطَعْتُها والزَّمْهريرُ ما زَهَرْ
والمعنى : أنَّ الجنةَ لا تحتاجُ إلى شمسٍ ولا إلى قمرٍ ووزنُه فَعْلَلِيل .
(1/5558)
وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)
قوله : { وَدَانِيَةً } : العامة على نصبِها وفيها أوجهٌ ، أحدُها : أنها عطفُ على محلِّ " لا يَرَوْن " . الثاني : أنها معطوفة على " مُتَّكئين " ، فيكونُ فيها ما فيها . قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : ودانيةً عليهم ظلالُها علامَ عُطِف؟ قلت : على الجملةِ التي قبلها ، لأنَّها في موضع الحال من المَجْزِيِّيْنَ ، وهذه حالٌ مثلُها عنهم ، لرجوعِ الضميرِ منها إليهم في " عليهم " إلاَّ أنَّها اسمٌ مفردٌ ، وتلك جماعةٌ في حكمِ مفردٍ ، تقديره : غيرَ رائين فيها شَمْساً ولا زَمْهريراً ودانية . ودخلت الواوُ للدَّلالة على أن الأمرَيْن مجتمعان لهم . كأنَّه قيل : وجَزاهم/ جنةً جامِعِيْنَ فيها : بين البُعْدِ عن الحَرِّ والقُرِّ ودُنُوِّ الظِّلالِ عليهم . الثالث : أنها صفةٌ لمحذوفٍ أي : وجنةً دانِيَةً ، قاله أبو البقاء . الرابع : أنها صفةٌ ل " جنةٌ " الملفوظِ بها ، قاله الزجَّاج .
وقرأ أبو حيوةَ " ودانِيَةٌ " بالرفع . وفيها وجهان ، أظهرهما : أَنْ يكونَ " ظلالُها " مبتدأ و " دانيةٌ " خبرٌ مقدمٌ . والجملةُ في موضعِ الحال . قال الزمخشري : " والمعنى : لا يَرَوْنَ فيها شَمْساً ولا زَمْهريراً ، والحالُ أنَّ ظلالَها دانِيَةٌ عليهم " . والثاني : أَنْ ترتفعَ " دانيةٌ " بالابتداء ، و " ظلالُها " فاعلٌ به ، وبها استدلَّ الأخفشُ على جوازِ إعمالِ اسمِ الفاعلِ ، وإنْ لم يَعْتَمِدْ نحو : " قائمٌ الزيدون " ، فإنَّ " دانية " لم يعتمِدْ على شيءٍ مِمَّا ذكره النَّحْويُّون ، ومع ذلك فقد رُفِعَتْ " ظلالُها " وهذا لا حُجَّة له فيه؛ لجوازِ أَنْ يكونَ مبتدأً وخبراً مقدَّماً كما تقدَّم .
وقال أبو البقاء : " وحُكِيَ بالجَرِّ أي : في جنَّةٍ دانية . وهو ضعيفٌ؛ لأنه عُطِفَ على الضميرِ المجرورِ من غيرِ إعادةِ الجارِّ " . قلت : يعني أنَّه قُرِىء شاذاً " ودانِيَةٍ " بالجَرِّ على أنها صفةٌ لمحذوفٍ ، ويكونُ حينئذٍ نَسَقاً على الضميرِ المجرورِ بالجَرِّ مِنْ قولِه : " لا يَرَوْنَ فيها " أي : ولا في جنةٍ دانيةٍ . وهو رَأْيُ الكوفيين : حيث يُجَوِّزون العطفَ على الضميرِ المجرورِ مِنْ غيرِ إعادةِ الجارِّ؛ ولذلك ضَعَّفَه ، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك مُشْبعاً في البقرة .
وأمَّا رَفْعُ " ظلالُها " فيجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأً و " عليهم " خبرٌ مقدمٌ ، ولا يرتفع ب " دانية "؛ لأنَّ " دنا " يتعدَّى ب " إلى " لا ب " على " . والثاني : أنها مرفوعةٌ ب " دانية " على أَنْ تُضَمَّن معنى " مُشْرِفَة " لأنَّ " دنا " و " أَشْرَفَ " يتقاربان ، قال معناه أبو البقاء ، وهذان الوجهان جاريان في قراءةِ مَنْ نصبَ " دانيةً " أيضاً .
وقرأ الأعمش " ودانِياً " بالتذكير للفَصْلِ بين الوَصْفِ وبين مرفوعِه ب " عليهم " ، أو لأنَّ الجمعَ مذكرٌ .
(1/5559)
وقرأ أُبَيٌّ " ودانٍ عليهم " بالتذكير مرفوعاً ، وهي شاهدةٌ لمذهبِ الأخفشِ ، حيث يرفع باسمِ الفاعلِ . وإنْ لم يَعْتَمِد . ولا جائزٌ أَنْ يُعْرَبا مبتدأً وخبراً مقدَّماً لعدمِ المطابقةِ . وقال مكي : " وقُرِىء " دانِياً " ثم قال : " ويجوزُ " ودانيةٌ " بالرفعِ ، ويجوزُ " دانٍ " بالرفعِ والتذكيرِ " ولم يُصَرِّح بأنهما قُرِئا ، وقد تقدَّم أنهما مقروءٌ بهما فكأنَّه لم يَطَّلِعْ على ذلك .
قوله : { وَذُلِّلَتْ } يجوزُ أَنْ يكونَ في موضع نصبٍ على الحال عطفاً على " دانِيَةً " فيمَنْ نَصَبَها أي : ومُذَلَّلةً . ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الضميرِ في " عليهم " سواءً نَصَبْتَ " دانِيَةً " أو رَفَعْتَها ، أم جَرَرْتَها . ويجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً . وأمَّا على قراءةِ رفعِ " ودانيةٌ " فتكونُ جملةً فعليةً عُطِفَتْ على اسميَّةٍ . ويجوز أَنْ تكونَ حالاً كما تقدَّمَ .
(1/5560)
وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15)
قوله : { بِآنِيَةٍ } : هذا هو القائمُ مقامَ الفاعلِ ، لأنَّه هو المفعولُ به في المعنى . ويجوزُ أَنْ يكون " عليهم " . وآنِيَة : جمعُ " إناء " والأصلُ : أَأْنِيَة بهمزتَيْنِ الأُولى مزيدةٌ للجمع ، والثانيةُ فاءُ الكلمة فقُلِبَتِ الثانية ألفاً وُجوباً ، وهذا نظيرُ : كِساءٍ وأَكْسِيَة وغِطاءٍ وأَغْطِيَة ، ونظيرُه في الصحيح اللامِ : حِمار وأَحْمِرة . و " مِنْ فضةٍ " نعتٌ ل " آنية " .
(1/5561)
قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)
قوله : { قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ } : اختلف القُراء في هذَين الحرفَيْن بالنسبة إلى التنوين وعَدَمِهِ ، وفي الوقوفِ بالألفِ وعَدَمِها كما تقدَّم خلافُهم في { سَلاَسِلَ } . واعلَمْ أنَّ القُرَّاء فيهما على خمسِ مراتبَ ، إحداها : تنوينُهما معاً ، والوقفُ عليهما : بالألفِ ، لنافعٍ والكسائيِّ وأبي بكر . الثانيةُ : مقابِلَةُ هذه ، وهي عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ عليهما بالألفِ ، لحمزةَ وحدَه . الثالثة : عَدَمُ تنوينِهما ، والوقفُ عليهما بالألف ، لهشامٍ وحدَه . الرابعة : تنوينُ الأولِ دونَ الثاني ، والوقفُ على الأولِ بالألفِ ، وعلى الثاني بدونِها ، لابنِ كثيرٍ وحدَه . الخامسةُ : عَدَم تنوينِهما معاً ، والوقفُ على الأولِ بالألفِ ، وعلى الثاني بدونِها : لأبي عمروٍ وابن ذكوانَ وحفصٍ .
فأمَّا مَنْ نَوَّنَهما فلِما مَرَّ في تنوينِ سلاسل؛ لأنَّهما صيغَةُ منتهى الجمع ، ذاك على مَفاعلِ ، وذا على مَفاعيل . والوقفُ بالألفِ التي هي بدلٌ من التنوين ، وفيه موافقةُ المصاحفِ المذكورةِ فإنَّهما مَرْسومان فيها بالألفِ على ما نَقَلَ أبو عبيد . وأمَّا عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ بالألف فظاهرٌ جداً . وأمَّا مَنْ نَوَّنَ الأولَ دونَ الثاني ، فإنَّه/ ناسَبَ بين الأولِ وبين رؤوسِ الآيِ . ولم يناسِبْ بينَ الثاني وبين الأولِ . والوجهُ في وَقْفِه على الأولِ بالألفِ وعلى الثاني بغيرِ ألفٍ ظاهرٌ . وقد رَوَى أبو عُبيد أنه كذلك في مصاحِف أهلِ البصرة .
وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما ، ووقف على الأولِ بالألفِ ، وعلى الثاني بدونِها؛ فلأنَّ الأولَ رأسُ آيةٍ فناسَبَ بينه وبين رؤوس الآيِ في الوقفِ بالألفِ . وفَرَّق بينه وبين الثاني؛ لأنه ليسَ برأس آيةٍ . وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما ووقف عليهما بالألفِ فلأنَّه ناسَبَ بين الأول وبين رؤوس الآيِ وناسَبَ بين الثاني وبين الأولِ . وحَصَل مِمَّا تقدَّم في " سلاسل " وفي هذَيْن الحرفَيْنِ أنَّ القُرَّاءَ منهم مَنْ وافَقَ مصحَفَه ، ومنهم مَنْ خالفَه لاتِّباع الأثَرِ . وتقدَّم الكلامُ على " قوارير " في سورةِ النمل ولله الحمدُ .
وقال الزمخشري : " وهذا التنوين بدلٌ مِنْ حرفِ الإِطلاقِ لأنَّه فاصلةٌ ، وفي الثاني لإِتباعِه الأولَ " يعني أنَّهم يَأْتُون بالتنوينِ بدلاً مِنْ حرفِ الإِطلاق الذي للترنم ، كقولِه :
4448 يا صاحِ ما هاجَ الدُّموعَ الذُّرَّفَنْ ... وفي انتصابِ " قوارير " وجهان ، أحدُهما وهو الظاهرُ أنَّه خبرُ كان . والثاني : أنها حالٌ ، و " كان " تامةٌ أي : كُوِّنَتْ فكانَتْ . قال أبو البقاء : " وحَسُن التكريرُ لِما اتَّصل به مِنْ بيانِ أصلِها ، ولولا التكريرُ لم يَحْسُنْ أَنْ يكونَ الأولُ رأسَ آيةٍ لشدَّةِ اتصالِ الصفةِ بالموصوفِ . وقرأ الأعمش " قواريرُ " بالرفع على إضمارِ مبتدأ أي : هي قوارير . و " مِنْ فضة " صفةٌ ل " قوارير " .
قوله : { قَدَّرُوهَا } صفةٌ ل " قواريرَ " . والواو في " قَدَّروها " فيه وجهان ، أحدهما : أنَّه للمُطافِ عليهم . ومعنى تقديرهم إياها : أنهم قَدَّروها في أنفسِهم أَنْ تكونَ على مقاديرَ وأشكالٍ على حَسَبِ شَهَواتِهم ، فجاءَتْ كما قَدَّروا .
(1/5562)
والثاني : أنَّ الواو للطائفين للدلالةِ عليهم ، مِنْ قولِه تعالى : " ويُطافُ " والمعنى : أنهم قَدَّروا شرابَها على قَدْر رِيِّ الشَّارِب ، وهو ألذُّ الشرابِ لكونِه على مِقْدارِ حاجتِه لا يَفْضُل عنها ولا يَعْجِزُ ، قاله الزمخشري . وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ تكونَ الجملةُ مستأنفةً .
وقرأ عليٌّ وابنُ عباس والسُّلميُّ والشعبيُّ وزيدُ بن علي وأبو عمروٍ في روايةِ الأصمعيِّ " قُدِّرُوْها " مبنياً للمفعول . وجَعَله الفارسِيُّ مِنْ بابِ المَقْلوبِ قال : " كأنَّ اللفظ : قُدِّروا عليها . وفي المعنى قَلْبٌ؛ لأنَّ حقيقةَ المعنى أن يقال : قُدِّرَتْ عليهم ، فهي مثلُ قولِه : { لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة } [ القصص : 76 ] ومثلُ قولِ العرب : " إذا طَلَعَتِ الجَوْزاءُ أُلْقِيَ العُوْدُ على الحِرْباء " . وقال الزمخشري : " ووجهُه أَنْ يكونَ مِنْ قُدِّر منقولاً مِنْ قَدَرَ . تقول : قَدَرْتُ [ الشيءَ ] وقَدَرَنيه فلان ، إذا جعلك قادراً له ومعناه : جُعلوا قادرين لها كما شاؤوا ، وأُطْلِق لهم أَنْ يُقَدِّروا على حَسَبِ ما اشْتَهَوْا " . وقال أبو حاتم : " قُدِّرَتْ الأواني على قَدْرِ رِيِّهم " ففَسَّر بعضُهم قولَ أبي حاتمٍ هذا قال : " فيه حَذْفٌ على حَذْفٍ : وهو أنه كان : " قُدِّرَ على قَدْرِ ريِّهم إياها " ثم حُذِفَ " على " فصار : " قَدْرُ رِيِّهم " على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه ، ثم حُذِف " قَدْرُ " فصار " رِيُّهم " ما لم يُسَمَّ فاعلُه ، فحُذِفَ الرِّيُّ فصارَتِ الواوُ مكانَ الهاءِ والميمِ ، لَمَّا حُذِفَ المضافُ مِمَّا قبلَها ، وصارَتِ الواوُ مفعولَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه ، واتصلَ ضميرُ المفعولِ الثاني في تقديرِ النصبِ بالفعلِ بعدَ الواوِ التي تَحَوَّلَتْ من الهاءِ والميم ، حتى أُقيمَتْ مُقامَ الفاعل " . قلت : وفي هذا التخريجِ من التكلُّف ما لا يَخْفَى مع عَجْرَفَةِ ألفاظِه .
وقال الشيخ : " والأقربُ في تخريج هذه القراءةِ الشاذَّة : " قُدِّرَ رِيُّهم منها تقديراً " فحُذِف المضافُ وهو الرِّيُّ ، وأُقيم الضميرُ مُقامَه ، فصار التقديرُ : قُدِّروا مِنْها ، ثم اتُّسِع في الفعل فحُذِفَتْ " مِنْ " ووصَلَ الفعلُ إلى الضميرِ بنفسِه فصار : " قُدِّرُوْها " فلم يكن فيه إلاَّ حَذْفُ مضافٍ واتِّساعٌ في الفعل " . قلت : وهذا مُنْتَزَعٌ من تفسيرِ كلامِ أبي حاتم .
(1/5563)
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17)
قوله : { زَنجَبِيلاً } : الزَّنجبيل : نَبْتٌ معروفٌ ، وسُمِّيَتْ الكأسُ بذلك لوجودِ طَعْم الزَّنْجبيل فيها . والعربُ تَستَلِذُّه . وأنشد الزمخشريُّ للأعشى :
4449 كأنَّ القُرُنْفُلَ والزَّنْجَبِيْ ... لَ باتا بفِيْها وأَرْياً مَشُورا
/ وأنشد للمسيَّب بن عَلَس :
4450 وكأن طَعْمَ الزَّنْجبيلِ به ... إذا ذُقْتَه وسُلافةَ الخمرِ
و " عَيْناً " فيها من الوجوه ما تقدَّمَ .
(1/5564)
عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)
قوله : { سَلْسَبِيلاً } : السَّلْسَبيل : ما سَهُل انحدارُه في الحَلْف . قال الزجاج : " هو في اللغة صفةٌ لِما كان في غايةِ السَّلاسَة " . وقال الزمخشري : " يقال : شَرابٌ سَلْسَلٌ وسَلْسالٌ وسَلْسبيل ، وقد زِيْدت الباءُ في التركيبِ حتى صارَتِ الكلمةُ خماسيَّةً ، ودَلَّتْ على غايةِ السَّلاسَةِ " . قال الشيخ : " فإنْ كان عَنى أنَّه زِيْدت حقيقةً فليس بجيدٍ؛ لأنَّ الباءَ ليسَتْ من حروف الزيادةِ المعهودةِ في علمِ النحوِ ، وإنْ عَنَى أنها حرفٌ جاء في سِنْخِ الكلمةِ ، وليس في سَلْسَل ولا سَلْسال فَيَصِحُّ ، ويكون مما اتَّفَقَ معناه ، وكان مختلفاً في المادة " . وقال ابن الأعرابي : " لم أسمَعْ السَّلْسبيلَ إلاَّ في القرآنِ " . وقال مكي : " هو اسمٌ أعجميُّ نكرةٌ ، فلذلك صُرِفَ " .
ووزن سَلْسَبيل : فَعْلَلِيْل مثلَ " دَرْدَبيس " . وقيل : فَعْفَليل؛ لأنَّ الفاءَ مكررةٌ . وقرأ طلحةُ " سَلْسَبيلَ " دونَ تنوينٍ ومُنِعَتْ من الصرف للعلميَّةِ والتأنيث؛ لأنها اسمٌ لعَيْنٍ بعينها ، وعلى هذا فكيف صُرِفَتْ في قراءةِ العامَّةِ؟ فيُجاب : بأنُّه سُمِّيَتْ بذلك لا على جهة العَلَمِيَّة بل على جهة الإطلاقِ المجرَّدِ ، أو يكونُ مِنْ بابِ تنوين { سَلاَسِلَ } [ الإِنسان : 4 ] { قَوَارِيرَاْ } [ الإِنسان : 15 ] وقد تقدَّمَ . وأغربُ ما قيل في هذا الحرف أنه مركبٌ من كلمَتَيْن : مِنْ فعلِ أمرٍ وفاعلٍ مستترٍ ومفعولٍ . والتقدير : سَلْ أنت سَبيلا إليها . قال الزمخشري : " وقد عَزَوْا إلى عليٍّ رضي الله عنه أنَّ معناه : سَلْ سبيلاً إليها " . قال : " وهذا غيرُ مستقيمٍ على ظاهِره ، إلاَّ أنْ يُرادَ أنَّ جملةَ قولِ القائلِ " سَلْ سبيلاً " جَعِلَتْ عَلَماً للعين ، كما قيل : تأبَّط شَرَّاً وذَرَّى حبَّا . وسُمِّيت بذلك لأنه لا يَشْرَبُ منها إلاَّ مَنْ سأل سبيلاً إليها بالعمل الصالِح ، وهو مع استقامتِه في العربية تكلُّفٌ وابتداعٌ وعَزْوُه إلى مثلِ عليّ عليه السلام أَبْدَعُ . وفي شعرِ بعضِ المُحْدَثين :
4451 سَلْ سبيلاً فيها إلى راحةِ النَّفْ ... سِ براحٍ كأنَّها سَلْسَبيلُ
قال الشيخ بعد تعجُّبِه مِنْ هذا القول : " وأَعْجَبُ مِنْ ذلك توجيهُ الزمخشريِّ له واشتغالُه بحكايتِه " . قلت : ولو تأمَّل ما قاله الزمخشريُّ لم يَلُمْه ، ولم يتعجَّبْ منه؛ لأنَّ الزمخشري هو الذي شَنَّعَ على هذا القولِ غاية التشنيع . وقال أبو البقاء : " والسلسبيلُ كلمةٌ واحدةٌ " . وفي قوله : " كلمة واحدة " تلويحٌ وإيماءٌ إلى هذا الوجهِ المذكور .
(1/5565)
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)
قوله : { ثَمَّ } هذا ظرفُ مكانٍ وهو مختصٌّ بالبُعْدِ . وفي انتصابِه هنا وجهان ، أظهرُهما : أنه منصوبٌ على الظرفِ . ومعفولُ الرؤيةِ غيرُ مذكورٍ؛ لأنَّ القصد : وإذا صَدَرَتْ منك رؤيةٌ في ذلك المكانِ رَأَيْتَ كيتَ وكيتَ ، ف " رَأَيْتَ " الثاني جوابٌ ل " إذا " . وقال الفراء : " ثَمَّ " مفعولٌ به ل " رَأَيْتَ " . وقال الفراء أيضاً : " وإذا رَأَيْتَ تقديره : " ما ثَمَّ " ، ف " ما " مفعولٌ فحُذِفَتْ " ما " وقامت " ثَمَّ " مَقام " ما " . قال الزمخشري تابعا لأبي إسحاق : " ومَنْ قال : معناه " ما ثَمَّ " فقد أخطأ؛ لأنَّ " ثَمَّ " صلةٌ ل " ما " ، ولا يجوزُ إسقاطُ الموصولِ وتَرْكُ الصلةِ " وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ الكوفيين يُجَوِّزُون مثلَ هذا ، واستدلُّوا عليه بأبياتٍ وآياتٍ ، تقدَّم الكلامُ عليها مُسْتوفى في أوائل هذا الموضوع .
وقال ابن عطية : " وثَمَّ ظرفٌ . والعاملُ فيه " رَأَيْتَ " أو معناه ، والتقديرُ : رأيتَ ما ثَمَّ ، فحُذِفَتْ ما " . قال الشيخ : " وهو فاسِدٌ؛ لأنَّه مِنْ حيثُ جَعَلَه معمولاً ل " رَأَيْتَ " لا يكونُ صلةً ل " ما "؛ لأنَّ العاملَ فيه إذ ذاك محذوفٌ أي : ما استقرَّ ثَمَّ " . قلت : ويمكنُ أَنْ يُجاب عنه : بأنَّ قولَه : " أو معناه " هو القولُ بأنَّه صلةٌ لموصول ، فيكونان وجهَيْن لا وجهاً واحداً ، حتى يَلْزَمَهَ الفسادُ ، ولولا ذلك لكان قولُه : " أو معناه " لا معنى له . ويعني بمعناه أي : معنى الفعلِ مِنْ حيث الجملةُ ، وهو الاستقرارُ المقدَّرُ .
والعامَّةُ على فتحِ الثاءِ مِنْ " ثَمَّ " كما تقدَّم . وقرأ حميد الأعرج بضمِّها على أنَّها العاطَفَةُ ، وتكونُ قد عَطَفَتْ " رأَيْتَ " الثاني على الأول ، ويكون فعلُ الجوابِ محذوفاً ، ويكونُ فعلُ الجوابِ المحذوفِ هو الناصبَ لقولِه : " نعيماً " ، والتقدير : وإذا صَدَرَ منك رؤيةٌ ، ثم صَدَرَتْ رؤيةٌ/ أخرى رَأَيْتَ نعيماً ومُلْكاً . فَرَأَيْتَ هذا هو الجوابُ .
(1/5566)
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)
قوله : { عَالِيَهُمْ } : قرأ نافعٌ وحمزةٌ بسكونِ الياءِ وكسرِ الهاء ، والباقون بفتح الياءِ وضَمِّ الهاء . لَمَّا سَكَنَتِ الياءُ كُسِرَتْ الهاءُ ، ولَمَّا تَحَرَّكَتْ ضُمَّت على ما تَقَرَّرَ في هاءِ الكنايةِ أولَ هذا الموضوعِ . فإمَّا قراءةُ نافعٍ وحمزةَ ففيها أوجهٌ ، أظهرُها : أَنْ تكونَ خبراً مقدَّماً . و " ثيابُ " مبتدأٌ مؤخرٌ ، والثاني : أنَّ " عالِيْهم " مبتدأ و " ثيابُ " مرفوعٌ على جهةِ الفاعلية ، وإنْ لم يعتمد الوصفُ ، وهذا قولُ الأخفشِ .
والثالث : أنَّ " عالِيْهم " منصوبٌ ، وإنما سُكِّن تخفيفاً ، قاله أبو البقاء . وإذا كان منصوباً فسيأتي فيه أوجهٌ ، وهي وارِدَة هنا؛ إلاَّ أنَّ تقديرَ الفتحةِ من المنقوصِ لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ أو شذوذٍ ، وهذه القراءةُ متواترةٌ فلا ينبغي أَنْ يُقالَ به فيها .
وأمَّا قراءةُ مَنْ نَصَبَ ففيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه ظرفٌ خبراً مقدماً ، و " ثيابُ " مبتدأٌ مؤخرٌ كأنه قيل : فوقَهم ثيابُ . قال أبو البقاء : " لأنَّ عالِيَهم بمعنى فَوْقَهم . وقال ابن عطية : " ويجوز في النصبِ أَنْ تكونَ على الظرف لأنَّه بمعنى فوقهم " . قال الشيخ : " وعالٍ وعالية اسمُ فاعلٍ ، فيحتاج في [ إثبات ] كونِهما ظرفَيْن إلى أَنْ يكونَ منقولاً مِنْ كلامِ العرب : عالِيَك أو عاليتُك ثوبُ " . قلت : قد وَرَدَتْ ألفاظٌ مِنْ صيغةِ أسماءِ الفاعِلِيْن ظروفاً نحو : خارجَ الدار وداخلَها وباطنَها وظاهرَها . تقول : جلَسْتُ خارج الدارِ ، وكذلك البواقي فكذلك هذا .
الثاني : أنَّه حالٌ من الضمير في { عَلَيْهِمْ } [ الإِنسان : 19 ] . الثالث : أنه حالٌ مِنْ مفعولِ { حَسِبْتَهُمْ } [ الإِنسان : 19 ] . الرابع : أنه حالٌ مِنْ مضافٍ مقدرٍ ، أي : رَأَيْتَ أهلَ نعيم ومُلكٍ كبير عالَيهم . ف " عاليَهم " حالٌ مِنْ " أهل " المقدرِ . ذكرَ هذه الأجهَ الثلاثةَ الزمخشريُّ فإنه قال : " وعاليَهم بالنصبِ على أنَّه حالٌ من الضميرِ في " يَطوف عليهم " أو في " حَسِبْتَهم " ، أي : يطوفُ عليهم وِلْدانٌ عالياً للمَطوفِ عليهم ثيابٌ ، أو حَسِبْتَهم لؤلؤاً عاليَهم ثيابٌ . ويجوزُ أَنْ يراد : [ رأيت ] أهلَ نعيم " . قال الشيخ : " أمَّأ أَنْ يكونَ حالاً من الضمير في " حَسِبْتَهم " فإنه لا يعني إلاَّ ضمير المفعول ، وهو لا يعودُ إلاَّ على " وِلدانٌ " ولذلك قدَّر " عاليَهم " بقوله : " عالياً لهم " ، أي : للوِلْدان . وهذا لا يَصْلُحُ؛ لأنَّ الضمائر الآتية بعد ذلك تَدُلُّ على أنها للمَطوفِ عليهم مِنْ قوله : " وحُلُّوا " و " سَقاهم " و { إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً } وفَكُّ الضمائر وَجَعْلُ هذا لذا ، وهذا لذا ، مع عدمِ الاحتياجِ والاضطرارِ إلى ذلك ، لا يجوزُ . وأمَّا جَعْلُه حالاً مِنْ محذوفٍ وتقديرُه : أهلَ نعيم فلا حاجةَ إلى ادِّعاء الحَذْفِ مع صحةِ الكلامِ وبراعتِه دونَ تقديرِ ذلك المحذوفِ " .
(1/5567)
قلت : جَعْلُ أحَدِ الضمائر لشيءٍ والآخرِ لشيءٍ آخرَ لا يمنعُ صحةَ ذلك مع ما يميِّزُ عَوْدَ كلِّ واحدٍ إلى ما يليقُ به ، وكذلك تقديرُ المحذوفِ غيرُ ممنوعٍ أيضاً ، وإنْ كان الأحسنُ أَنْ تتفقَ الضمائرُ ، وأن لا يُقَدَّرَ محذوفٌ ، والزمخشريُّ إنما ذَكَرَ ذلك على سبيل التجويزِ ، لا على أنَّه أَوْلى أو مساوٍ ، فَيُرَدُّ عليه بما ذكره .
الخامس : أنه حالٌ مِنْ مفعول " لَقَّاهم " . السادس : أنه حال مِنْ مفعول " جَزاهُمْ " ذكرهما مكي . وعلى هذه الأوجهِ التي انتصبَ فيها على الحالِ يرتفعُ به " ثيابُ " على الفاعلية ، ولا تَضُرُّ إضافتُه إلى معرفةٍ في وقوعِه حالاً؛ لأنَّ الإِضافةَ لفظيةٌ ، كقولِه تعالى : { عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] [ وقولِه : ]
4452 يا رُبَّ غابِطِنا . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولم يؤنَّثْ " عالياً " لأنَّ مرفوعَه غير حقيقيِّ التأنيثِ . السابع : أَنْ ينتصِبَ " عاليَهم " على الظرفيةِ ، ويرتفع " ثيابُ " به على جهة الفاعلية . وهذا ماشٍ على قولِ الأخفش والكوفيين حيث يُعملون الظرفَ وعديلَه وإنْ لم يَعْتمد ، كما تقدَّم ذلك في الوصفِ . وإذا رُفعَ " عاليَهم " بالابتداء و " ثيابُ " على أنه فاعلٌ به كان مفرداً على بابِه لوقوعِه موقعَ الفعلِ ، وإذا جُعل خبراً مقدَّماً كان مفرداً مُراداً به الجمعُ ، فيكونُ كقولِه تعالى : { فَقُطِعَ دَابِرُ القوم } [ الأنعام : 45 ] ، أي : أدبار ، قاله مكي .
وقرأ ابن مسعود وزيد بن علي " عاليتُهم " مؤنثاً بالتاء مرفوعاً . والأعمش وأبان عن عاصم كذلك ، إلاَّ أنه منصوبٌ ، وقد عَرَفْتَ الرفعَ والنصبَ ممَّا تقدَّم ، فلا حاجةَ لإِعادتهما . وقرأَتْ عائشة رضي الله عنها " عَلِيَتْهم " فعلاً ماضياً متصلاً بتاء التأنيث الساكنة ، و " ثيابُ " فاعلٌ به ، وهي مقوِّيَةٌ للأوجه المذكورة في رفع " ثياب " بالصفةِ في قراءة الباقين كما تقدَّم تفصيلُه .
وقرأ ابنُ سيرين ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة وخلائق " عليهم " ، جارَّاً ومجروراً ، وإعرابُه كإعرابِ " عاليَهم " ظرفاً في جوازِ كونِه خبراً مقدَّماً ، أو حالاً ممَّا تقدَّم ، وارتفاعُ " ثيابُ " به على التفصيلِ المذكورِ آنفاً .
وقرأ العامَّةُ/ " ثيابُ سُنْدُسٍ " بإضافةِ الثيابِ لِما بعدها . وأبو حيوةَ وابنُ أبي عبلةَ " ثيابٌ " منونةً " سُندُسٌ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ " برفعِ الجميعِ ، ف " سندسٌ " نعتٌ ل " ثيابٌ " لأنَّ السُّنْدسَ نوعٌ ، و " خُضْرٌ " نعتٌ ل " سندس "؛ إذ السندسُ يكونُ أخضرَ وغيرَ أخضرَ ، كما أنَّ الثيابَ يكونُ سُنْدُساً وغيرَه . و " إستبرقٌ " نَسَقٌ على ما قبلَه ، أي : وثياب استبرق .
واعلَمْ أنَّ القرَّاءَ السبعةَ في " خُضْر وإستبرق " على أربع مراتبَ ، الأولى : رَفْعُهما ، لنافعٍ وحفصٍ فقط . الثانية : خَفْضُهما ، للأخوَيْن فقط .
(1/5568)
الثالثة : رَفْعُ الأولِ وخفضُ الثاني لأبي عمروٍ وابنِ عامرٍ فقط . الرابعةُ عكسُ الثالثةِ ، لابنِ كثيرٍ وأبي بكرٍ فقط . فأمَّا القراءةُ الأولى : فإنَّ رَفْعَ " خُضْرٌ " على النعتِ ل ثياب ، ورَفْعَ " إستبرقٌ " نَسَقاً على الثياب ، ولكن على حَذْفِ مضافٍ ، أي : وثيابُ إستبرقٍ . ومثلُه : " على زيدٍ ثوبُ خَزٍّ وكتَّانٌ " أي : وثوبُ كُتَّانٍ . وأمَّا القراءةُ الثانية فيكونُ جَرُّ " خُضْرٍ " على النعتِ لسُنْدسٍ . ثم اسْتُشْكِل على هذا وَصْفُ المفردِ بالجمعِ فقال مكي : " هو اسمٌ للجمع . وقيل : هو جمعُ سُنْدُسَة " كتَمْر وتَمْرة ، واسمُ الجنسِ وَصْفُه بالجمع سائغٌ فصيحٌ . قال تعالى : { وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال } [ الرعد : 12 ] . وإذا كانوا قد وَصَفوا المفردَ المُحَلَّى لكونِه مُراداً به الجنسُ بالجمعِ في قولِهم : " أَهْلَكَ الناسَ الدِّينارُ الحُمْرُ والدِّرْهَمُ البيضُ " ، وفي التنزيل : { أَوِ الطفل الذين } [ النور : 31 ] فَلأَنْ يُوْجَدَ ذلك في أسماءِ الجموعِ أو أسماءِ الأجناسِ الفارقِ بينها وبين واحدِها تاءُ التأنيثِ بطريقِ الأَوْلى . وجَرُّ " إستبرق " نَسَقاً على " سندسٍ " لأنَّ المعنى : ثيابٌ مِنْ سُندسٍ وثيابٌ مِنْ إستبرق .
وأمَّا القراءةُ الثالثةُ فرَفْعُ " خُضْرٌ " نعتاً ل " ثيابٌ " وجَرُّ " إستبرقٍ " نَسَقاً على " سُنْدُسٍ " ، أي : ثيابٌ خضرٌ مِنْ سُندسٍ ومِنْ إستبرقٍ ، فعلى هذا يكون الإِستبرقُ أيضاً أخضرَ .
وأمَّا القراءةُ الرابعة فجَرُّ " خُضْرٍ " على أنه نعتٌ لسُنْدس ، ورَفْعُ " إستبرقٌ " على النَّسَقِ على " ثياب " بحَذْفِ مضافٍ ، أي : وثيابُ إستبرق . وتقدَّم الكلامُ على مادةِ السُّنْدُس والإِستبرق وما قيل فيهما في سورة الكهف .
وقرأ ابنُ مُحيصنٍ " وإستبرقَ " بفتحِ القافِ . ثم اضطرب النَّقْلُ عنه في الهمزة : فبعضُهم يَنْقُل عنه أنه قَطَعها ، وبعضهم ينقُلُ عنه أنه وَصَلَها .
فقال الزمخشري : " وقُرِىءَ " وإسْتبرقَ " نصباً في موضعِ الجرِّ على مَنْعِ الصرفِ؛ لأنَّه أعجميٌّ وهو غَلَطٌ؛ لأنَّه نكرةٌ يَدْخُلُهُ حرفُ التعريف . تقول : " الإِستبرق " إلاَّ أَنْ يَزْعُمَ ابن مُحيصن أنه يُجْعَلُ عَلَماً لهذا الضَّرْبِ من الثيابِ . وقُرِىءَ " واستبرقَ " بوصْل الهمزةِ والفتح ، على أنَّه مُسَمَّى باسْتَفْعل من البَريق ، ليس بصحيحٍ أيضاً؛ لأنَّه مُعَرَّب مشهورٌ تعريبُه ، وأنَّ أصلَه اسْتَبْرَه . وقال الشيخ : " ودلَّ قولُه " إلاَّ أَنْ يزعمَ ابنُ محيصن " وقولُه بعدُ : " وقُرىء " واسْتبرق " بوَصْلِ الألفِ والفتح أنَّ قراءةَ ابنِ محيصن هي بقَطْعِ الهمزةِ مع فتحِ القافِ . والمنقولُ عنه في كتبِ القراءاتِ أنَّه قرأ بوَصْل الألفِ وفتح القافِ " . قلت : قد سَبَقَ الزمخشريُّ إلى هذا مكيٌّ فقال : " وقد قرأ ابنُ محيصن بغيرِ صَرْفٍ ، وهو وهمٌ إنْ جعلَه اسماً لأنه نكرةٌ منصرفةٌ . وقيل : بل جَعَله فعلاً ماضياً مِنْ بَرِقَ فهو جائزٌ في اللفظِ ، بعيدٌ في المعنى .
(1/5569)
وقيل : إنَّه في الأصلِ فعلٌ ماضٍ على اسْتَفْعل مِنْ بَرِقَ ، فهو عربيٌّ من البريق ، لمَّا سُمِّي به قُطِعَتْ ألفُه؛ لأنه ليس مِنْ أصلِ الأسماءِ أَنْ يدخلَها ألفُ الوصلِ ، وإنما دَخَلَتْ في أسماءٍ معتلةٍ مُغَيَّرَةٍ عن أصلِها معدودةٍ لا يُقاسُ عليها " انتهى . فدلَّ قولُه : " قُطِعَتْ ألفُه " / إلى آخرِه أنه قرأ بقطعِ الهمزةِ وفتحِ القافِ . ودلَّ قولُه أولاً : " وقيل : بل جعله فعلاً ماضياً مِنْ بَرِقَ " أنه قرأ بوَصْلِ الألفِ؛ لأنَّه لا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُحْكَمَ عليه بالفعليةِ غيرَ منقولٍ إلى الأسماءِ ، وبتَرْكِ ألفِه ألفَ قطع البتةَ ، فهذا جَهْلٌ باللغةِ ، فيكونُ قد رُوِي عنه قراءتان : قَطْعُ الألفِ ووَصْلُها . فظهر أنَّ الزمخشريَّ لم ينفَرِدْ بالنقل عن ابنِ محصين بقَطْع الهمزة .
وقال أبو حاتم في قراءة ابن محيصن : " لا يجوز . والصوابُ أنه اسمُ جنسٍ لا ينبغي أَنْ يَحْمِلَ ضميراً ، ويؤيِّد ذلك دخولُ المعرفةِ عليه . والثوابُ قَطْعُ الألفِ وإجراؤُه على قراءةِ الجماعةِ " . قال الشيخ : " ونقولُ : إنَّ ابن محيصن قارىءٌ جليلٌ مشهورٌ بمعرفةِ العربيةِ ، وقد أَخَذَ عن أكابرِ العلماءِ فيُتَطَلَّبُ لقراءته وَجْهٌ ، وذلك أنه يَجْعَلُ استفعل من البريق تقول : بَرِقَ واسْتَبْرَق كعَجِبَ واستعجب ، ولمَّا كان قولُه : " خُضْر " يدل على الخُضْرة ، وهي لَوْنُ ذلك السُّنْدُسِ ، وكانت الخُضْرَةُ مِمَّا يكونُ فيها لشدتها دُهْمة وغَبَش أخبرَ أنَّ في ذلك بَريقاً وحُسْناً يُزيل غُبْشَتَه فاستبرق فعلٌ ماضٍ ، والضميرُ فيه عائدٌ على السندسِ ، أو على الأخضرِ الدالِّ عليه " خُضْر " . وهذا التخريجُ أَوْلَى مِنْ تَلْحين مَنْ يعرِفُ العربية وتوهيمِ ضابطٍ ثقةٍ " . قلت : هذا هو الذي ذكره مكيٌّ كما حَكَيْتُه عنه ، وهذه القراءةُ قد تقدَّمَتْ في سورة الكهف ، وإنما أَعَدْتُ ذلك لزيادةِ هذه الفائدةِ .
قوله : { وحلوا } عطفٌ على " ويَطوف " ، عَطَفَ ماضياً لفظاً ، مستقبلاً معنىً ، وأَبْرَزه بلفظِ الماضي لتحقُّقه . وقال الزمخشري بعد سؤالٍ وجوابٍ مِنْ حيث المعنى : " وما أحسنَ بالمِعْصَمِ أَنْ يكونَ فيه سِواران : سِوارٌ مِنْ ذهبٍ وسِوارٌ مِنْ فضةٍ " ، فناقَشَه الشيخ في قولِه " بالمِعْصم " فقال : " قولُه بالمِعْصم : إمَّا أَنْ يكونَ مفعولَ " أَحْسن " ، و " أَنْ يكونَ " بدلاً منه ، وأمَّا " أنْ يكونَ " مفعولَ أَحْسن وقد فُصِلَ بينهما بالجارِّ والمجرور : فإنْ كان الأولَ فلا يجوزُ؛ لأنَّه لم تُعْهَدْ زيادةُ الباءِ في مفعولِ أَفْعَلِ التعجبِ . لا تقول : ما أحسنَ بزيدٍ تريدُ : " ما أحسن زيداً " . وإن كان الثاني ففي مثلِ هذا الفصل خلافٌ ، والمنقولُ عن بعضهِم لا يجوزُ ، والمُوَلَّدُ مِنَّا ينبغي إذا تكلَّم أن يَتَحَرَّزَ في كلامِه ممَّا فيه خلافٌ " . قلت : وأيُّ غَرَضٍ له في تتبُّعٍ كلامِ هذا الرجل ، حتى في هذا الشيءِ اليسيرِ؟ على أنَّ الصحيحَ جوازُه ، وهو المسموعُ من العربِ نثراً . قال عمروُ ابن معديكرب : " للَّهِ دَرُّ بني فلانٍ ما أشَدَّ في الهيجاءِ لقاءَها ، وأَثْبَتَ في المَكْرُمات بقاءَها ، وأحسنَ في اللَّزَبات عطاءَها " والتشاغلُ بغير هذا أَوْلى .
(1/5570)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23)
قوله : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا } : يجوزُ أَنْ يكونَ " نحن " توكيداً لاسم " إنَّ " ، وأَنْ يكونَ فَصْلاً و " نَزَّلْنا " على هَذَيْن الوجهَيْن هو خبرُ " إنَّ " ، ويجوزُ أَنْ يكونَ " نحن " مبتدأً و " نَزَّلْنا " خبرُه ، والجملةُ خبرُ " إنَّ " . وقال مكي : " نحنُ " في موضع نصبٍ على الصفةِ لاسم " إنَّ " ، لأنَّ المضمرَ يُوصَفُ بالمضمر؛ إذ هو بمعنى التأكيدِ لا بمعنى التَّحْلية ، ولا يُوْصَفُ بالمُظْهَرِ؛ لأنه بمعنى التَّحْلية ، والمضمرُ مُسْتَغْنٍ عن التَّحْلية؛ لأنَّه لم يُضْمَرْ إلاَّ بعد أن عُرِفَ تَحْلِيَتُه وعينُه فهو محتاجٌ إلى التأكيدِ لتأكُّدِ الخبرِ عنه " . قلت : وهذه عبارةٌ غريبةٌ جداً؛ كيف يُجْعَلُ المضمرُ موصوفاً بمثلِه؟ ولا نعلمُ خلافاً في عدمِ جوازِ وصفِ المضمرِ إلاَّ ما نُقِل عن الكسائيِّ أنه جوَّزَ وَصْفَ ضميرِ الغائبِ بالمُظْهَرِ . تقول : " مَرَرْتُ به العاقل " على أَنْ يكونَ " العاقِل " نعتاً . أمَّا وَصْفُ ضميرِ غير الغائبِ بضميرٍ آخرَ فلا خلافَ في عَدَمِ جوازِه ، ثم كلامُه يَؤُول إلى التأكيدِ فلا حاجةَ إلى العُدول عنه .
(1/5571)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)
قوله : { أَوْ كَفُوراً } : في " أو " هذه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها على بابها ، وهو قولُ سيبويهِ . قال أبو البقاء : " وتُفيد في النهي [ المنعَ ] عن الجميع؛ لأنَّك إذا قلت في الإِباحة : " جالِسِ الحسنَ أو ابنَ سِيرين " كان التقديرُ : جالِسْ أحدَهما . فإذا نهى فقال : " لا تُكَلِّمْ زيداً أو عَمْراً " فالتقدير : لا تُكَلِّمْ أحدَها ، فأيُّهما/ كلَّمَهُ كان أحدَهما ، فيكونُ ممنوعاً منه ، فكذلك في الآية ، ويَؤُول المعنى : إلى تقديرِ : ولا تُطِعْ منهما آثِماً ولا كفوراً " . وقال الزمخشريُّ : " فإنْ قلتَ : معنى " أو " : ولا تُطِعْ أحدَهما ، فهلا جيْءَ بالواو ليكونَ نَهْياً عن طاعتِهما جميعاً . قلت : لو قيل : " لا تُطِعْهما " لجازَ أَنْ يُطيعَ أحدَهما . وإذا قيل : لا تُطعْ أحدَهما عُلِم أنَّ الناهيَ عن طاعةِ أحدِهما ، عن طاعتِهما جميعاً أَنْهَى ، كما إذا نُهِيَ أَنْ يقولَ لأبَويْه : " أفّ " عُلِم أنه مَنْهِيٌّ عن ضَربْهما على طريق الأَوْلَى " . الثاني : أنَّها بمعنى " لا " ، أي : لا تُطِعْ مَنْ أَثِم ولا مَنْ كَفَر . قال مكي : " وهو قولُ الفراء ، وهو بمعنى الإِباحة التي ذكَرْنا " . الثالث : أنها بمعنى الواو ، وقد تقدَّم أنَّ ذلك قولُ الكوفيين وتقدَّمَتْ أدلَّتُهم .
والكَفور ، وإنْ كان يَسْتَلْزِمُ الإِثمَ ، إلاَّ أنه عُطِفَ لأحدِ شيئَيْن : إمَّا أَنْ يكونا شخصَين بعينهِما . وفي التفسير : الآثمُ عُتبةُ ، والكَفورُ الوليدُ ، وإمَّا لِما قاله الزمخشري قال : " فإنْ قلتَ : كانوا كلُّهم كفرةً فما معنى القِسْمَةِ في قولِه آثماً أو كفوراً؟ قلت : معناه لا تُطعْ منهم راكباً لِما هو إثمٌ داعياً لك إليه ، أو فاعلاً لِما هو كفرٌ داعياً لك إليه؛ لأنهم إمَّا أَنْ يَدْعُوْه إلى مساعَدَتِهم على فعلٍ هو إثمٌ أو كفرٌ ، أو غيرُ إثمٍ ولا كفرٍ ، فنُهي أَنْ يساعدَهم على الاثنين دونَ الثالث " .
(1/5572)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)
قوله : { وَسَبِّحْهُ } : فيه دليلٌ على عَدَمِ ما قال بعضُ أهلِ علمِ المعاني والبيان : إنَّ الجمعَ بين الحاءِ والهاءِ مثلاً يُخْرِجُ الكلمةَ عن فصاحتِها وجَعَلُوا من ذلك قولَ الشاعر :
4453 كريمٌ متى أَمْدَحْه أَمْدَحْه والوَرَى ... معي وإذا ما لُمْتُه لُمْتُه وَحْدي
البيت لأبي تمام . ويُمكن أَنْ يُفَرَّقَ بين ما أنشدوه وبين الآيةِ الكريمة بأن التكرارَ في البيتِ هو المُخْرِجُ له عن الفصاحة بخلافِ الآيةِ الكريمةِ فإنه لا تَكْرارَ فيها .
(1/5573)
إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)
قوله : { يَوْماً } : مفعولٌ ب " يَذَرُون " لا ظرفٌ ، ووَصْفُه بالثِّقَلِ على المجازِ؛ لأنه مِنْ صفات الأعيانِ لا المعاني . ووراء هنا بمعنى قُدَّام . قال مكي : " سُمِّي وراء لتوارِيْه عنك " فظاهرُ هذا أنه حقيقةٌ ، والصحيحُ أنه اسْتُعير ل قُدَّام . وقيل : بل هو على بابِه ، أي : وراءَ ظهورِهم لا يَعْبَؤُون به . وفيه تجوُّزٌ .
(1/5574)
نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)
قوله : { وَإِذَا شِئْنَا } : قال الزمخشري : " وحَقُّه أَنْ يجيءَ ب " إنْ " لا ب " إذا " كقولِه : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } [ محمد : 38 ] { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } [ النساء : 133 ] يعني أنَّ " إذا " للمحقَّقِ ، و " إنْ " للمحتملِ ، وهو تعالى لم يَشَأْ ذلك . وجوابُه أنَّ " إذا " قد تقع موقعَ " إنْ " كالعكسِ .
(1/5575)
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)
قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه حالٌ ، أي : إلاَّ في حالِ مشيئِة اللَّهِ ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ هذا مقدَّرٌ بالمعرفة . إلاَّ أَنْ يريدَ تفسير المعنى . والثاني : أنه ظرفٌ . قال الزمخشري : " فإنْ قلت : ما محلُّ { أَن يَشَآءَ الله } ؟ قلت : النصبُ على الظرف ، وأصلُه إلاَّ وقتَ مشيئةِ اللَّهِ ، وكذلك قرأ ابنُ مسعود " إِلاَّ مَا يشَآءُ الله " لأنَّ " ما " مع الفعلِ ك " أَنْ " . ورَدَّه الشيخُ : بأنه لا يقومُ مَقامَ الظرفِ إلاَّ المصدرُ الصريحُ . لو قلت : " أجيئُك أَنْ يَصيحَ الديكُ " أو " ما يصيحُ " لم يَجُزْ " . قلت : وقد تقدَّم الكلامُ معه في ذلك غيرَ مرةٍ .
وقرأ نافعٌ والكوفيون " تَشاؤُون " خطاباً لسائر الخَلْقِ أو على الالتفاتِ من الغَيْبة في قولِه : " نحن خَلَقْناهم " . والباقون بالغَيبة جَرْياً على قولِه : " خَلَقْناهم " وما بعدَه .
(1/5576)
يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
قوله : { والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ } : منصوبٌ على الاشتغال بفعلٍ يُفَسِّرُه " أعدَّ لهم " من حيث المعنى لا من حيث اللفظُ ، تقديرُه : وعَذَّبَ الظالمين ، ونحوُه : " زيداً مَرَرْتُ به " ، أي : جاوَزْتُ ولابَسْتُ . وكان النصبُ هنا مُختاراً لِعَطْف جملةِ الاشتغالِ على جملةٍ فعليةٍ قبلَها ، وهي قولُه : " يُدْخِلُ " . وقرأ الزبير وأبان بن عثمان وابن أبي عبلة " والظَّالمون " رَفْعاً على الابتداءِ ، وما بعده الخبرُ ، وهو مرجوحٌ لعدم المناسبةِ . وقرأ ابنُ مسعودٍ " وللظالمين " بلام الجرِّ . وفيه وجهان ، المشهورُ : أَنْ يكونَ " للظَّالمين " متعلِّقاً ب " أَعَدَّ " بعده/ ويكونَ " لهم " تأكيداً . الثاني : وهو ضعيفٌ جداً أَنْ يكونَ مِنْ بابِ الاشغال ، على أَنْ تُقَدِّر فعلاً مثلَ الظاهرِ ، ويُجَرَّ الاسمُ بحرفِ جرٍّ . فنقول : " بزيدٍ مررتُ به " ، أي : مررتُ بزيدٍ مررتُ به . والمعروفُ في لغة العربِ مذهبُ الجمهورِ ، وهو إضمارُ فِعْلٍ ناصبٍ موافقٍ للفعل الظاهرِ في المعنى . فإنْ وَرَدَ نحوُ " بزيدٍ مَرَرْتُ به " عُدَّ من التوكيدِ ، لا من الاشتغالِ .
(1/5577)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1)
قوله : { عُرْفاً } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّه مفعولٌ مِنْ أجلِه ، أي : لأجلِ العُرْفِ وهو ضِدُّ النُّكْرِ . والمرادُ بالمُرْسَلاتِ : إمَّا الملائكةُ ، وإمَّا الأنبياءُ ، وإمَّا الرِّياحُ أي : والملائكةُ المُرْسَلاتُ ، أو والأنبياء المُرْسَلات ، أو والرياحُ المُرْسَلات . والعُرْفُ : المعروفُ والإِحسانُ . قال الشاعر :
4454 مَنْ يَفْعَلِ الخيرَ لا يَعْدَمْ جَوازِيَهُ ... لا يَذْهَبُ العُرْفُ بينَ اللَّهِ والناسِ
وقد يُقال : كيف جَمَعَ صفةَ المذكرِ العاقلِ بالألفِ والتاءِ ، وحقُّه أَنْ يُجْمَعَ بالواوِ والنونِ؟ تقول : الأنبياءُ المُرْسَلونَ ، ولا تقولُ : المُرْسَلات . والجوابُ : أنَّ المُرْسَلات جَمْعُ مُرْسَلة ، ومُرْسَلة صفةٌ لجماعةٍ من الأنبياء ، فالمُرْسَلات جمعُ " مُرْسَلة " الواقعةِ صفةً لجماعة ، لا جمعُ " مُرْسَل " المفردِ . الثاني : أَنْ ينتصِبَ على الحالِ بمعنى : متتابعة ، مِنْ قولِهم : جاؤوا كعُرْفِ الفَرَس ، وهم على فلانٍ كعُرْف الضَّبُع ، إذا تألَّبوا عليه . الثالث : أَنْ ينتصِبَ على إسقاطِ الخافضِ أي : المُرْسَلاتِ بالعُرْفِ . وفيه ضَعْفٌ ، وقد تقدَّمَ الكلامُ على العُرْف في الأعراف . والعامَّةُ على تسكينِ رائِه ، وعيسى بضمِّها ، وهو على تثقيلِ المخففِ نحو : " بَكُر " في بَكْر . ويُحتمل أَنْ يكونَ هو الأصلَ ، والمشهورةُ مخففةٌ منه ، ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونا وزنَيْنِ مستقلَّيْن .
(1/5578)
فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2)
قوله : { عَصْفاً } : مصدرٌ مؤكِّدٌ لاسمِ الفاعلِ ، والمرادُ بالعاصفات : الرياحُ أو الملائكةُ ، شُبِّهَتْ بسُرْعة جَرْيِها في أمرِ الله تعالى بالرياحِ ، وكذلك " نَشْراً " و " فَرْقاً " انتصبا على المصدرِ أيضاً .
(1/5579)
فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5)
قوله : { ذِكْراً } : مفعولٌ به ، ناصبُه " المُلْقِيات " . وقرأ العامَّةُ " فالمُلْقِياتِ " بسكون اللامِ وتخفيفِ القافِ اسمَ فاعلٍ . وابن عباس بفتحِ اللامِ وتشديدِ القافِ ، من التَّلْقِية ، وهي إيصالُ الكلامِ إلى المخاطبِ . ورَوَى عنه المهدويُّ أيضاً فتحَ القافِ اسمَ مفعولٍ أي : مُلْقَيَةٌ مِنْ قِبَل اللَّهِ تعالى .
(1/5580)
عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)
قوله : { عُذْراً أَوْ نُذْراً } : فيهما أوجهٌ ، أحدُها : أنَّهما بدلانِ مِنْ " ذِكْراً " . الثاني : أنهما منصوبان به على المفعوليةِ ، وإعمالُ المصدرِ المنوَّنِ جائزٌ . ومنه { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً } [ البلد : 14 - 15 ] . الثالث : أنَّهما مفعولان مِنْ أجلِهما ، والعاملُ فيه : إمَّا " المُلْقِيات " ، وإمَّا " ذِكْراً "؛ لأنَّ كُلاًّ منهما يَصْلُحُ أَنْ يكونَ مَعْلولاً بأحدِهما ، وحينئذٍ يجوزُ في " عُذْراً " و " نُذْراً " وجهان ، أحدُهما : أَنْ يكونا مصدرَيْنِ بسكونِ العينِ كالشُّكر والكُفْر . والثاني : أَنْ يكونا جمعَ عَذِير ونَذِير ، المرادِ بهما المصدرُ بمعنى : الإِعذارِ والإِنذارِ ، كالنَّكير بمعنى الإِنكار . الرابع : أنَّهما منصوبان على الحالِ من " المُلْقِيات " ، أو من الضمير فيها ، وحينئذٍ يجوزُ أَنْ يكونا مصدرَيْنِ واقعَيْنِ مَوْقِعَ الحالِ بالتأويلِ المعروفِ في أمثاله ، وأَنْ يكونا جمعَ عذيرٍ ونذيرٍ مُراداً بهما المصدرُ ، أو مراداً بهما اسمُ الفاعلِ بمعنى : المُعْذِر والمُنْذِر ، أي : مُعْذِرين أو مُنْذِرين .
وقرأ العامَّةُ بسكونِ الذالِ مِنْ " عُذْراً " و " نُذْراً " . وقرأ زيدُ ابن ثابت وابن خارجة وطلحةُ بضمِّها والحَرَميَّان وابنُ عامر وأبو بكر بسكونِها في " عُذْراً " وضمِّها في " نُذُراً " . والسكونُ والضمُّ كما تقدَّمَ في أنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ كلُّ منهما أصلاً للآخرِ ، وأَنْ يكونا أصلَيْنِ ، ويجوز في كلٍ من المثقَّلِ والمخفَّفِ أن يكونَ مصدراً ، وأَنْ يكونَ جمعاً سَكَنَتْ عينُه تخفيفاً . وقرأ إبراهيم التيمي " عُذْراً ونُذْراً " بواو العطفِ موضعَ " أو " ، وهي تدلُّ على أنَّ " أو " بمعنى الواو .
(1/5581)
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)
قوله : { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ } : هذا جوابُ القسمِ في قولِه والمُرْسَلاتِ " ، وما بعده معطوفٌ عليه ، وليس قَسَماً مستقلاً ، لِما تقدَّم في أولِ هذا الموضوع ، ولوقوعِ الفاءِ عاطفةً؛ لأنها لا تكونُ للقَسَم ، و " ما " موصولةٌ بمعنى الذي هي اسمُ " إنَّ " و " تُوْعَدون " صلَتُها ، والعائدُ محذوفٌ أي : إنَّ الذي تُوْعَدُونه . و " لَواقعٌ " خبرُها . وكان مِنْ حَقِّ " إنَّ " أَنْ تُكْتَبَ منفصلةً من " ما " الموصولةِ ، ولكنهم كتبوها متصلةً بها .
(1/5582)
فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)
قوله : { فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ } : " النجومُ " مرتفعةٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره ما بعده عند البصريين غيرَ الأخفشِ ، وبالابتداء عند الكوفيين والأخفشِ . وفي جواب " إذا " قولان : أحدُهما محذوفٌ تقديرُه : / فإذا طُمِسَت النجومُ وَقَعَ ما تُوْعَدون ، لدلالةِ قولِه : " إنَّ ما تُوْعَدُوْن لَواقعٌ " ، أو بَانَ الأمرُ . والثاني : أنَّه { لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ } على إضمارِ القولِ ، أي : يُقال : لأيِّ يومٍ ، فالفعلُ في الحقيقةِ هو الجوابُ . وقيل : الجوابُ : " ويلٌ يومئذٍ " نقله مكي ، وهو غَلَطٌ؛ لأنَّه لو كان جواباً لَزِمَتْه الفاءُ لكونِه جملةً اسميةً .
(1/5583)
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)
قوله : { أُقِّتَتْ } : قرأ أبو عمروٍ " وُقِّتَتْ " بالواوِ ، والباقون " أُقِّتَتْ " بهمزةٍ بدلَ الواوِ . قالوا : وهي الأصلُ؛ لأنَّه من الوَقْتِ ، والهمزةُ بدلٌ منها؛ لأنَّها مضمومةٌ ضمةً لازِمَةً . وقد تقدَّم ذِكْرُ ذلك في أولِ هذا الموضوع .
(1/5584)
لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)
قوله : { لأَيِّ يَوْمٍ } : متعلِّقٌ ب " أُجِّلَتْ " وهذه الجملةُ معمولةٌ لقولٍ مضمرٍ . أي : يُقال . وهذا القولُ المضمرُ يجوزُ أَنْ يكونَ جواباً ل " إذا " ، كما تقدَّم ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ مرفوعِ " أُقِّتَتْ " أي : مَقُولاً فيها : لأيِّ يومٍ أُجِّلَتْ .
(1/5585)
لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)
قوله : { لِيَوْمِ الفصل } : بدلٌ مِنْ " لأيِّ يومٍ " بإعادةِ العاملِ . وقيل : بل تتعلَّق بفعلٍ مقدَّرٍ أي : أُجِّلَتْ ليومِ الفَصْل . وقيل : اللامُ بمعنى " إلى " ذكرهما مكيٌّ .
(1/5586)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
قوله : { وَيْلٌ } : مبتدأٌ ، سَوَّغ الابتداءَ به كونُه دعاءً . وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : كيف وقعَتِ النكرةُ مبتدأً في قولِه : " ويَلٌ "؟ قلت : هو في أَصْلِهِ مصدرٌ منصوبٌ سادٌّ مَسَدَّ فِعْلِه ، ولكنه عُدِل به إلى الرفعِ للدلالةِ على ثباتِ معنى الهلاكِ ودوامِه للمدعُوِّ عليهم . ونحوُه { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 54 ] ويجوز : وَيْلاً له بالنصبِ ، ولكن لم يُقْرَأْ به " . قلت : هذا الذي ذكره ليس من المُسَوِّغاتِ التي عَدَّها النَّحْويون ، وإنما المُسَوِّغُ ما ذكرْتُه لك مِنْ كونه دعاءً . وفائدةُ العدولِ إلى الرفع ما ذكره . و " يومئذٍ " ظرفٌ للوَيْل . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ صفةً ل " وَيْلٌ " و " للمُكَذِّبين " خبرُه .
(1/5587)
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16)
قوله : { أَلَمْ نُهْلِكِ } : العامَّةُ على ضَمِّ حرفِ المضارعةِ مِنْ " أَهْلَكَ " رباعياً . وقتادة بفتحِه . قال الزمخشري : " مَنْ هَلَكه بمعنى : أَهْلكه . قال العجَّاج :
4455 ومَهْمَهٍ هالكِ مَنْ تعرَّجا ... قلت : ف " مَنْ " معمولٌ ل " هالك " ، وهو مِنْ هَلَكَ . إلاَّ أنَّ بعضَ الناسِ جَعَلَ هذا دليلاً على إعمالِ الصفةِ المشبهةِ في الموصولِ ، وجَعَلَها مِن اللازمِ؛ لأنَّ شرطَ الصفةِ المشبهةِ أَنْ تكونَ مِنْ فِعْلٍ لازم ، فعلى هذا لا دليلَ فيه .
(1/5588)
ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17)
قوله : { ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ } : العامَّةُ على رَفْعِ العينِ استئنافاً أي : ثم نحن نُتْبِعُهم ، كذا قَدَّره أبو البقاء . وقال : " وليس بمعطوفٍ؛ لأنَّ العَطْفَ يوجِبُ أَنْ يكونَ المعنى : أَهْلَكْنا الأوَّلِيْن ، ثم أَتْبَعْناهم الآخِرين في الهلاكِ . وليس كذلكَ؛ لأنَّ هلاكَ الآخرين لم يَقَعْ بعدُ " . قلت : ولا حاجةَ في وجهِ الاستئنافِ إلى تقديرِ مبتدأ قبلَ الفعل ، بل يُجْعَلُ الفعلُ معطوفاً على مجموع الجملةِ من قولِه : " ألم نُهْلِك " ويَدُّلُّ على هذا الاستئنافِ قراءةُ عبدِ الله " ثم سَنُتْبِعُهم " بسينِ التنفيسِ . وقرأ الأعرجُ والعباسُ عن أبي عمروٍ بتكسيِنها . وفيها وجهان ، أحدُهما : أنه تسكينٌ للمرفوعِ فهو مستأنف كالمرفوعِ لفظاً . والثاني : أنَّه معطوفٌ على مجزومٍ . والمَعْنِيُّ بالآخِرين حينئذٍ قومُ شُعَيْبٍ ولوطٍ وموسى ، وبالأوَّلِيْنَ قومُ نوحٍ وعادٍ وثمودَ .
(1/5589)
كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18)
قوله : { كَذَلِكَ نَفْعَلُ } : أي : مثلَ ذلك الفعلِ الشَّنيعِ نَفْعَلُ بكلَّ مَنْ أَجْرَمَ .
(1/5590)
فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23)
قوله : { فَقَدَرْنَا } : قرأ نافعٌ والكسائيُّ بالتشديد من التقدير ، وهو موافِقٌ لقولِه : { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } [ عبس : 19 ] والباقون بالتخفيف من القُدْرة . ويَدُلُّ عليه قولُه : " فنِعْمَ القادِرون " . ويجوز أَنْ يكونَ المعنى على القراءة الأولى : فنِعْمَ القادِرون على تقديرِه ، وإن جُعِلت " القادِرون " بمعنى " المُقَدِّرُون " كان جَمْعاً بين اللفظَيْنِ ، ومعناهما واحدٌ ، ومنه قولُه تعالى : { فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [ الطارق : 17 ] وقولُ الأعشى :
4456 وأَنْكَرَتْني وما كان الذي نَكِرَتْ ... من الحوادِث إلاَّ الشَّيْبَ والصَّلعَا
(1/5591)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25)
قوله : { كِفَاتاً } : الكِفاتُ : اسمٌ للوِعاءِ الذي يُكْفَتُ فيه أي : يُجْمَعُ ، قاله أبو عبيدة . يقال : كَفَتَه يَكْفِتُه أي : جَمَعَه وضَمَّه . وفي الحديث " اكْفِتُوا صِبْيانَكم " وقال الصمصامة بن الطِّرِمَّاح :
4457 وأنتَ اليوم فوقَ الأرضِ حَيّاً ... وأنتَ غداً تَضُمُّك في كِفاتِ
وقيل : الكِفاتُ اسمٌ لِمَا يَكْفِتُ كالضِّمام والجِماع . يقال : هذا البابُ جِماعُ الأبوابِ . وفي انتصابِه وجهان ، أحدُهما : أنه مفعولٌ ثانٍ ل " نَجْعَلْ " لأنَّها للتصيير . والثاني : أنَّه منصوبٌ على الحالِ من " الأرضَ " ، والمفعولُ الثاني " أحياءً وأمواتاً " بمعنى : ألم نُصَيِّرْها/ أحياءً بالنَّبات وأمواتاً بغير نباتٍ أي : بعضُها كذا ، وبعضُها كذا . وقيل : كِفاتٌ جمعُ كافِتٍ كصِيامٍ وقِيامٍ في جمعِ صائمٍ وقائمٍ . وقيل : بل هو مصدرٌ كالكتابِ والحسابِ .
(1/5592)
أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26)
قوله : { أَحْيَآءً } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنَّه منصوبٌ ب كِفات ، قاله مكي ، والزمخشريُّ وبدأ به ، بعد أن جَعلَ " كِفاتاً " اسمَ ما يَكْفِتُ كقولِهم : الضِّمام والجِماع ، هذا يمنعُ أَنْ يكونَ " كِفاتاً " ناصباً ل " أحياءً " لأنه ليس من الأسماءِ العاملةِ ، وكذلك إذا جَعَلْناه بمعنى الوِعاء ، على قول أبي عبيدةَ ، فإنه لا يعملُ أيضاً ، وقد نصَّ النحاةُ على أنَّ أسماءَ الأمكنةِ والأزمنةِ والآلات ، وإنْ كانَتْ مشتقةً جاريةً على الأفعالِ لا تعملُ ، نحو : مَرْمى ومِنْجل ، وفي اسم المصدرِ خلافٌ مشهورٌ ، ولكنْ إنما يتمشَّى نصبُهما بكِفات على قولِ أبي البقاء ، فإنَّه لم يُجَوِّزْ إلاَّ أَنْ يكونَ جمعاً لاسمِ فاعلٍ ، أو مصدراً ، وكلاهما من الأسماءِ العاملة .
الوجه الثاني : أَنْ ينتصِبَ بفعلٍ مقدرٍ يَدُلُّ عليه " كِفات " أي : يَكْفِتُهم أحياءً على ظهرِها ، وأمواتاً في بَطْنِها ، وبه ثنَّى الزمخشري .
الثالث : أن يَنْتَصِبا على الحالِ من " الأرضَ " على حَذْفِ مضافٍ أي : ذاتَ أحياءٍ وأموات .
الرابع : أَنْ يَنْتَصِبا على الحالِ مِنْ محذوفٍ أي : تَكْفِتُكم أحياءً وأمواتاً؛ لأنَّه قد عُلِمَ أنَّها كِفاتٌ للإِنسِ ، قاله الزمخشريُّ ، وإليه نحا مكيٌّ؛ إلاَّ أنَّه قَدَّره غائباً أي : تَجْمعهم الأرضُ في هاتَيْن الحالتَيْن .
الخامس : أَنْ ينتصِبا مفعولاً ثانياً ل " نَجْعل " وكِفاتاً حالٌ كما تقدَّم تقريرُه : وتنكيرُ " أحياءً وأمواتاً " : إمَّا للتَّفْخيمِ أي : تَجْمَعُ أحياءً لا يُقَدَّرُوْن وأمواتاً لا يُحْصَوْن ، وإمَّا للتبعيضِ؛ لأنَّ أَحياءَ الإِنس وأمواتَهم ليسوا بجميع الأحياءِ ولا الأمواتِ ، وكذلك التنكيرُ في " ماءً فُراتاً " يحتمل المعنَيْيْنِ أيضاً : أمَّا التفخيم فواضِحٌ لعِظَمِ المِنَّةِ به عليهم ، وأمَّا التبعيضُ فكقولِه تعالى : { وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } [ النور : 43 ] فهذا مُفْهِمٌ للتبعيضِ ، والقرآنُ يُفَسِّرُ بعضُه بعضاً .
والشَّامخاتُ : جمعُ " شامِخ " ، وهو المرتفعُ جداً ومنه : " شَمَخَ بأَنْفِه " إذا تكبَّر ، جُعِل كِنايةً عن ذلك كثَنْي العِطْفِ وصَعْر الخَدِّ ، وإنْ لم يَحْصُلْ شيءٌ من ذلك .
(1/5593)
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)
قوله : { انطلقوا } : أي : يُقال لهم ذلك . وقرأ العامَّةُ " انطَلِقوا " الثاني كالأول بصيغةِ الأمرِ على التأكيد . ورُوَيْسٌ عن يعقوب " انطلَقوا " بفتح اللام فعلاً ماضياً على الخبرِ أي : لَمَّا أُمِرُوا امْتَثَلوا ذلك . وهذا موضعُ الفاءِ فكان يَنْبعي أَنْ يكونَ التركيبُ : فانطَلَقوا نحو قولِك : قلت اذهب فذهب ، وعَدَمُ الفاءِ هنا ليس بالواضحِ .
(1/5594)
لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31)
قوله : { لاَّ ظَلِيلٍ } : صفةٌ ل " ظلٍّ " و " لا " تتوسَّطُ بين الصفةِ والموصوفِ لإِفادةِ النفي ، وجيْءَ بالصفةِ الأولى اسماً ، وبالثانية فعلاً ، دلالةً على نَفْيِ ثبوتِ هذه الصفةِ واستقرارِها للظلِّ ، ونَفْيِ التجدُّدِ والحدوثِ للإِغْناءِ عن اللهب .
(1/5595)
إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)
قوله : { إِنَّهَا } : أي : إنَّ جهنَّم؛ لأنَّ السياقَ كلَّه لأجلها . وقرأ العامَّةُ : " بَشرَرٍ " بفتح الشينِ وعَدَمِ الألفِ بين الراءَيْن . وورش يُرَقِّقُ الراءَ الأولى لكسرِ التي بعدها . وقرأ ابن عباس وابن مقسم بكسرِ الشين وألفٍ بين الراءَيْنِ . وعيسى كذلك ، إلاَّ أنَّه فتح الشين . فقراءةُ ابنِ عباس يجوزُ أَنْ تكونَ جمعاً لشَرَرَة ، وفَعَلة تُجْمَعُ على فِعال نحو : رَقَبة ورِقاب ورَحَبة ورِحاب ، وأَنْ تكونَ جمعاً لشَرِّ ، لا يُراد به أَفْعَلُ التفضيلِ . يقال : رجلٌ شَرٌّ ورجالٌ شِرارٌ ، ورجلٌ خيرٌ ورجالٌ خِيار ، ويؤنثان فيقال : امرأة شَرَّةٌ ، وامرأةٌ خَيْرةٌ . فإن أُريد بهما التفضيلُ امتنعَ ذلك فيهما ، واختصَّا بأحكامٍ مذكورةٍ في كتبِ النحْويين أي : تَرمي بشِرارٍ من العذابِ أو بشِرار من الخَلْق .
وأمَّا قراءةُ عيسى/ فهي جمعُ شَرارَةٍ بالألفِ وهي لغةُ تميمٍ . والشَّرَرَةُ والشَّرارَة : ما تطايَرَ من النارِ متفرِّقاً .
قوله : { كالقصر } العامَّةُ على فتح القافِ وسكونِ الصادِ ، وهو القَصْرُ المعروف ، شُبِّهَتْ به في كِبَرِه وعِظَمِه . وابن عباس وتلميذاه ابن جُبَيْر وابنُ جَبْر ، والحسن ، بفتحِ القافِ والصادِ ، وهي جمعُ قَصَرة بالفتح والقَصَرَةُ : أَعْناقُ الإِبلِ والنخلِ ، وأصولُ الشجرِ . وقرأ ابن جبير والحسن أيضاً بكسرِ القافِ وفتحِ الصاد جمع " قَصَرة " يعني بفتح القافِ . قال الزمخشريُّ : " كحاجةٍ وحِوَج " وقال الشيخ : " كحَلَقة من الحديدِ وحِلَق " . وقُرىء " كالقَصِرِ " بفتح القاف وكسرِ الصادِ ، ولم أَرَ لها توجيهاً . ويظهرُ أنَّ ذلك مِنْ بابِ الإِتباعِ ، والأصلُ : كالقَصْرِ بسكونِ الصادِ ، ثم أتبعَ الصادَ حركةَ الراءِ فكسَرها ، وإذا كانوا قد فَعَلُوا ذلك في المشغولِ بحركة نحو : كَتِف وكَبِد ، فلأَنْ يَفْعلوه في الخالي منها أَوْلَى . ويجوزُ أَنْ يكون ذلك للنقل بمعنى : أنه وَقَفَ على الكلمةِ فَنَقَل كسرةَ الراءِ إلى الساكنِ قبلَها . ثم أَجْرَى الوَصْلَ مُجْرَى الوقفِ ، وهو بابٌ شائِعٌ عند القُرَّاءِ والنحاة . وقرأ عبدُ الله بضمِّهما . وفيها وجهان ، أحدُهما : أنَّه جمعُ قَصْرٍ كرَهْن وَرُهُن ، قاله الزمخشريُّ . والثاني : أنَّه مقصورٌ من قُصور كقولِه :
4458 فيها عيايِيْلُ أُسودٍ ونُمُرْ ... يريد : ونُمور . فقصَر وكقوله : " النُّجُم " يريد النجوم . وتخريجُ الزمخشريِّ أَوْلَى؛ لأنَّ محلَّ الثاني : إمَّا الضرورةُ ، وإمَّا النُّدُور .
(1/5596)
كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)
قوله : { جِمَالَةٌ } : قرأ الأخَوان وحَفْصٌ " جِمالَةٌ " . والباقون " جِمالات " . فالجِمالَةُ فيها وجهان ، أحدُهما : أنَّها جمعٌ صريحٌ ، والتاءُ لتأنيثِ الجمعِ . يُقال : جَمَلٌ وجِمال وجِمالَة نحو : ذَكَر وذِكار وذِكارة ، وحَجَر وحِجارة . والثاني : أنه اسمُ جمعٍ كالذِّكارة والحِجارة ، قاله أبو البقاء ، والأولُ قولُ النُّحاةِ . وأمَّا جِمالات فيجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً ل " جِمالة " هذه ، وأَنْ يكونَ جمعاً ل جِمال ، فيكون جمعَ الجمعِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً ل جَمَل المفردِ كقولهم : " رجِالات قريش " كذا قالوه . وفيه نظرٌ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أنَّ الأسماءَ الجامدةَ غيرَ العاقلةِ لا تُجْمَعُ بالألفِ والتاءِ ، إلاَّ إذا لم تُكَسَّرْ . فإنْ كُسِّرَْتْ لَم تُجْمَعْ . قالوا : ولذلك لُحِّن المتنبيُّ في قولِه :
4459 إذا كان بعضُ الناسِ سَيْفاً لدولةٍ ... ففي الناسِ بُوْقاتٌ لها وطُبولُ
فجمع " بُوقاً " على " بُوقات " مع قولِهم : " أَبْواق " ، فكذلك جِمالات مع قولهم : جَمَل وجِمال . على أنَّ بعضَهم لا يُجيزُ ذلك ، ويَجْعَلُ نحو " : حَمَّامات وسِجلاَّت شاذَّاً ، وإنْ لم يُكَسَّرْ .
وقرأ ابنُ عباس والحسنُ وابن جبير وقتادةُ وأبو رجاء ، بخلافٍ عنهم ، كذلك ، إلاَّ أنَّهم ضَمُّوا الجيمَ وهي حِبالُ السفنِ . وقيل : قُلوس الجسورِ ، الواحدةِ " جُمْلة " لاشتمالِها على طاقاتِ الحِبال . وفيها وجهان ، أحدهما : أَنْ تكونَ " جُمالات " جمعَ جُمال ، وجُمال جَمْعَ جُمْلة ، كذا قال الشيخ ، ويَحْتاجُ في إثباتِ أنَّ جُمالاً بالضمِّ جمعُ جُمْلة بالضمِّ إلى نَقْلٍ . والثاني : أنَّ " جُمالات " جمعُ جُمالة قاله الزمخشري ، وهو ظاهرٌ . وقرأ ابنُ عباس والسُّلَمِيُّ وأبو حيوةَ " جُمالة " بضمِّ الجيم ، وهي دالَّةٌ لِما قاله الزمخشريُّ آنِفاً .
قوله : { صُفْرٌ } صفةٌ لجِمالات أو لِجمالة؛ لأنَّه : إمَّا جمعٌ أو اسمُ جمعٍ . والعامَّة على سكونِ الفاءِ جمعَ صفْراء . والحسنُ بضمِّها ، وكأنَّه إتْباعٌ . وَوَقَعَ التشبيهُ هنا في غايةِ الفصاحةِ . قال الزمخشريُّ : " وقيل : صُفْرٌ سُوْدٌ تَضْرِبُ إلى الصُّفرة . وفي شعرِ عمرانَ بنِ حِطَّانَ الخارجيِّ :
4460 دَعَتْهُمْ بأعلَى صوتِها ورَمَتْهُمُ ... بمثل الجِمال الصفر نَزَّاعةِ الشَّوى
وقال أبو العلاء المعري :
4461 حمراءُ ساطِعَةُ الذوائب في الدُّجَى ... تَرْمي بكل شَرارةٍ كطِرافٍ
فشبَّهها/ بالطِّراف ، وهو بيت الأُدَم في العِظَمِ والحُمْرَةِ ، وكأنه قَصَدَ بخُبْثِه أَنْ يزيدَ على تشبيهِ القرآن . ولتبجُّحه بما سُوِّل له مِنْ تَوَهُّم الزيادة جاءَ في صَدْرِ بيتِه بقولِه : " حمراءُ " توطئةً لها ومناداةً عليها ، وتَنْبيهاً للسامِعين على مكانِها . ولقد عَمِيَ جمع الله له عَمى الدَّارَيْن عن قولِه عزَّ وجلَّ : " كأنه جِمالةٌ صُفْرٌ " فإنه بمنزلةِ قولِه كبيتٍ أحمر . وعلى أنَّ في التشبيهِ بالقَصْر وهو الحِصْنُ تشبيهاً مِنْ جهتَين : مِنْ جهةِ العِظَمِ ، ومن جهةِ الطولِ في الهواءِ ، وفي التشبيه بالجِمالات وهي القُلُوسُ تشبيهٌ مِنْ ثلاثِ جهاتٍ : الطُّولِ والعِظَمِ والصُّفْرةِ " انتهى . وكان قد قال قبلَ ذلك بقليلٍ : " شُبِّهَتْ بالقُصورِ ثم بالجِمال لبيانِ التشبيهِ ، ألا ترى أنَّهم يُشَبِّهون الإِبلَ بالأَفْدان " قلت : الأَفْدانُ : القصورُ ، وكأنه يُشيرُ إلى قولِ عنترة :
4462 فوقَفْتُ فيها ناقتي وكأنَّها ... فَدَنٌ لأَقْضِيَ حاجةَ المُتَلَوِّمِ
(1/5597)
هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35)
قوله : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } : العامَّةُ على رفعٍ " يومُ " خبراً ل " هذا " . وزيد بنُ عليّ والأعرجُ والأعمشُ وأبو حيوةً وعاصمٌ في بعضِ طرقِه بالفتح . وفيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ الفتحةِ فتحةُ بناءٍ وهو خبرٌ ل " هذا " كما تقدَّم . والثاني : أنَّه منصوبٌ على الظرفِ واقعاً خبراً ل " هذا " على أَنْ يُشارَ به لِما تقدَّم من الوعيدِ كأنه قيل : هذا العذابُ المذكورُ كائنٌ يومَ لا يَنْطِقون . وقد تقدَّم آخِرَ المائدة ما يُشْبه هذا في قوله : { هذا يَوْمُ يَنفَعُ } إلاَّ أنَّ النصبَ هناك متواترٌ .
(1/5598)
وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)
قوله : { وَلاَ يُؤْذَنُ } : العامَّةُ على عَدَمِ تَسْمِيَةِ الفاعِل . وحكى الأهوازِيُّ عن زيدِ بن علي " ولا يَأْذَنُ " سَمَّى الفاعلِ ، وهو اللَّهُ تعالى . " فيعتذرون " في رفعِه وجهان ، أحدُهما : أنه مستأنفٌ أي : فهم يَعْتَذِرون . قال أبو البقاء : " ويكون المعنى : أنَّهم لا يَنْطِقُون نُطْقاً ينفَعُهم ، أو يَنْطقون في بعضِ المواقفِ ولا يَنْطِقُون في بعضها " . والثاني : أنه معطوفٌ على " يُؤْذن " فيكون مَنْفِيّاً . ولو نُصِبَ لكان مُتَسَبَّباً عنه " . وقال ابن عطية : " ولم يُنْصَبْ في جوابِ النفيِ لتشابُهِ رؤوسِ الآي ، والوجهان جائزان " . انتهى فقد جَعَلَ امتناعَ النصبِ مجردَ المناسبةِ اللفظيةِ ، وظاهرُ هذا مع قولِه : " والوجهان جائزان " أنهما بمعنىً واحدٍ ، وليس كذلك ، بل المرفوعُ له معنىً غيرُ معنى المنصوبِ . وإلى مثلِ هذا ذهبَ الأعلمُ فيُرفع الفعلُ ، ويكونُ معناه النصبَ ، ورَدَ عليه ابنُ عصفور .
(1/5599)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41)
قوله : { فِي ظِلاَلٍ } : هذه قراءةُ العامَّةِ ، جمعُ ظِلّ . والأعمش " ظُلَلٍ " جمعُ ظُلَّة . وتقدَّم في يس مثلُه ، إلاَّ أنهما متواتران .
(1/5600)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
قوله : { كُلُواْ } : معمولاً لقولٍ ، ذلك القولُ منصوبٌ على الحالِ من الضميرِ المستكنِّ في الظرفِ أي : كائِنْين في ظلال ، مَقُولاً لهم ذلك ، وكذلك { كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً } فإنْ كان ذلك مقولاً لهم في الدنيا فواضحٌ ، وإن كان مَقولاً في الآخرة فيكون تذكيراً بحالِهم أي : هم أحِقَّاءُ بأَنْ يُقال لهم في دنياهم كذا . ومثله :
4463 إخْوَتي لا تَبْعَدُوا أبداً ... وبَلَى واللَّهِ قد بَعِدُوا
أي : هم أهلٌ أَنْ يَدَّعَى لهم بذلك .
(1/5601)
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
قوله : { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ } : متعلقٌ بقولِه : " يُؤمنون " أي : إنْ لم يُؤمنوا بهذا القرآنِ فبأيِّ شيءٍ يُؤْمنون؟ والعامَّةُ على الغَيْبة . وقرأ ابن عامر في روايةٍ ويعقوبُ بالخطاب على الالتفات أو على الانتقال .
(1/5602)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)
قوله : { عَمَّ } : قد تقدَّم أن البزيَّ يُدخل هاءَ السكتِ عوضاً من ألف " ما " الاستفهاميةِ في الوقف . ونُقِلَ عن ابن كثير أنه يَقرأ " عَمَّه " بالهاء وَصْلاً ، أجرى الوصل مُجرى الوقف . وقرأ عبد الله وأُبَيّ وعكرمة " عَمَّا " بإثبات الألفِ . وقد تقدَّم أنه يجوزُ ضرورةً أو في قليلٍ من الكلام . ومنه :
4464 على ما قامَ يَشْتِمُني لَئيمٌ ... كخِنْزيرٍ تَمَرَّغَ في رَمادِ
/ وتقدم أنَّ الزمخشريَّ جَعَلَ منه { بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي } في يس [ الآية : 27 ] . و " عَمَّ " فيه قولان ، أحدُهما : وهو الظاهرُ أنَّه متعلِّقٌ ب " يتساءلون " هذا الظاهرِ . قال أبو إسحاق : " الكلامُ تامٌّ في قوله : " عَمَّ يتساءلون " ، ثم كان مقتضى القول أن يُجيبَ مُجيبٌ ، فيقولَ : يتساءلون عن النبأ العظيم ، فاقتضى إيجازُ القرآنِ وبلاغتُه أَنْ يبادِرَ المحتَجُّ بالجوابِ التذي تقتضيه الحالُ والمحاورةُ اقتضاباً للحُجَّة ، وإسراعاً إلى مَوْضِعِ قَطْعِهم " . والثاني : أنَّه متعلِّقٌ بفعلٍ مقدرٍ ويتعلَّقُ { عَنِ النبإ العظيم } بهذا الفعلِ الظاهرِ . قال الزمخشري : " وعن ابن كثيرٍ أنه قرأ " عَمَّهْ " بهاءِ السَّكْتِ . ولا يَخْلو : إمَّا أَنْ يجريَ الوصلُ مَجْرى الوقفِ ، وإمَّا أَنْ يقفَ ويَبْتَدِىءَ { يَتَسَآءَلُونَ عَنِ النبإ العظيم } على أَنْ يُضْمَرَ " يتساءلون "؛ لأنَّ ما بعده يُفَسِّرُه كشيءٍ يُبْهَمُ ثم يُفَسَّرُ " .
(1/5603)
عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)
قوله : { عَنِ النبإ } : يجوزُ فيه ما جازَ في قولِه { لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ } [ المرسلات : 13 ] في البدليةِ والتعلُّقِ بفعلٍ مقدَّرٍ . ويَزيد عليه هنا أنَّه يتعلَّقُ بالفعل الظاهرِ ، ويتعلَّقُ ما قبلَه بمضمرٍ ، كما تقدَّم عن الزمخشريِّ . وقال ابن عطية : " قال أكثرُ النحاة : قوله : { عَنِ النبإ العظيم } متعلِّقٌ ب " يتساءلون " الظاهرِ ، كأنَّه قال : لِمَ يتساءلون عن النبأ "؟ وقوله : " عَمَّ " هو استفهامُ تفخيمٍ وتعظيمٍ .
(1/5604)
الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)
قوله : { الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } : " مُخْتلفون " خبرُ " هم " والجارُّ متعلِّقٌ به . والموصولُ يحتملُ الحركاتِ الثلاثَ إتْباعاً وقَطْعاً رفعاً ونصباً .
(1/5605)
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4)
قوله : { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } : التكرارُ للتوكيد . وقد زَعَمَ الشيخُ جمالُ الدين ابنُ مالك أنَّه مِنْ بابِ التوكيدِ اللفظيِّ . ولا يَضُرُّ توسُّطُ حرفِ العطفِ . والنَّحْوِيُّون يَأَبَوْن هذا . ولا يُسَمُّونه إلاَّ عَطْفاً . وإنْ أفادَ التأكيدَ . والعامَّةُ على الغَيْبة في الفعلَيْن . والحسنُ وابنُ دينار وابن عامر بخلافٍ عنه بتاءِ الخطاب فيهما . والضحاك : الأولُ كالحسن ، والثاني كالعامَّةِ . والغَيْبَةُ والخطابُ واضحان .
(1/5606)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)
قوله : { مِهَاداً } : مفعولٌ ثانٍ لأنَّ الجَعْلَ بمعنى التصييرِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى الخَلْق ، فيكونَ " مِهادا " حالاً مقدرة ، و " أوتاداً " كذلك ولا بُدَّ مِنْ تأويلِها بمشتق أيضاً ، أي : مُثَبَّتاتٍ . وأمَّا " سُباتاً " فالظاهر كونُه مفعولاً ثانياً . و " لباساً " فيه استعارةٌ حسنةٌ وعليه قولُه :
4465 وكم لِظَلامِ الليلِ عندك مِنْ يدٍ ... تُخَبِّرُ أنَّ المانَوِيَّةَ تَكْذِبُ
وقرأ العامَّةُ " مِهاداً " ، ومجاهد وعيسى وبعضُ الكوفيين " مَهْداً " وقد تقدَّم هاتان القراءتان في سورة طه ، وأنَّ الكوفيين قَرؤوا " مَهْداً " في طه والزخرف فقط . وتقدَّم الفرقُ بينهما ثَمَّةَ .
(1/5607)
وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)
قوله : { وَهَّاجاً } : الوَهَّاجُ : المُضِيءُ المُتلألىءُ ، مِنْ قولِهم : وَهَجَ الجَوْهَرُ ، أي : تلألأ . ويُقال : وَهِجَ يَوْهَجُ كوَجِلَ يَوْجَلُ ، ووَهَجَ يَهِجُ كوَعَدَ يَعِدُ .
(1/5608)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)
قوله : { مِنَ المعصرات } : يجوزُ في " مِنْ " أَنْ تكونَ على بابِها من ابتداءِ الغاية ، وأَنْ تكونَ للسببية . ويَدُلُّ قراءةُ عبدِ الله بنِ يزيد وعكرمة وقتادة " بالمُعْصِرات " بالباءِ بدلَ " مِنْ " وهذا على خلافٍ في " المُعْصِرات " ما المرادُ بها؟ فقيل : السحاب . يقال : أَعْصَرَتْ السَّحائِبُ ، أي : شارَفَتْ أَنْ تُعْصِرَها الرياحُ فتُمْطِرَ كقولك : " أجَزَّ الزرعُ " إذا حان له أن يُجَزَّ . ومنه " أَعْصَرَتِ الجارِيَةُ " إذا حان لها أَنْ تحيضَ . قاله الزمخشريُّ . وأنشد ابنُ قتيبة لأبي النجم :
4466 تَمْشي الهُوَيْنَى ساقِطاً خِمارُها ... قد أَعْصَرَتْ أو قَدْ دَنَا إعْصارُها
قلت : ولولا تأويلُ " أَعْصَرَتْ " بذلك لكان ينبغي أَنْ تكونَ المُعْصَرات بفتح الصادِ اسمَ مفعول؛ لأنَّ الرياحَ تُعْصِرُها .
وقال الزمخشري : " وقرأ عكرمةُ " بالمُعْصِرات " . وفيه وجهان : أَنْ يُراد الرياحُ التي حانَ لها أَنْ تُعْصِرَ السحابَ ، وأَنْ يُرادَ السحائبُ؛ لأنَّه إذا كان الإِنزالُ منها فهو بها/ كما تقول : أَعْطى مِنْ يدِه درهماً ، وأَعْطى بيدِه . وعن مجاهد : المُعْصِرات : الرياحُ ذواتُ الأعاصيرِ . وعن الحسن وقتادة : هي السماواتُ . وتأويلُه : أنَّ الماءَ يَنْزِلَ من السماءِ إلى السحاب فكأنَّ السماواتِ يَعْصِرْنَ ، أي : يَحْمِلْنَ على العَصْر ويُمَكِّنَّ منه . فإنْ قلتَ : فما وَجْهُ مَنْ قرأ " من المُعْصِرات " وفسَّرها بالرياح ذواتِ الأعاصيرِ ، والمطرُ لا يَنْزِلُ من الرياح؟ قلت : الرياحُ هي التي تُنْشِىءُ السحابَ وتَدِرُّ أخلافَه ، فيَصِحُّ أَنْ تُجْعَلَ مَبْدأً للإِنزال . وقد جاء : إنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ الرياحَ فتحملُ الماءَ من السماء ، فإنْ صَحَّ ذلك فالإِنْزالُ منها ظاهرٌ . فإنْ قلت : ذكر ابن كَيْسانَ : أنه جَعَلَ المُعْصِرات بمعنى المُغِيثات ، والعاصِرُ هو المُغيث لا المُعْصِر . يقال : عَصَرَهُ فاعْتَصَرَ . قلت : وَجْهُه أَنْ يُرادَ : اللاتي أَعْصَرْن ، أي : حان لها أَنْ تُعْصِرَ ، أي : تُغيث " . قلت : يعني أنَّ " عَصَرَ " بمعنى الإِغاثةِ ثلاثيٌّ ، فكيف قيل هنا : مُعْصِرات بهذا المعنى ، وهو من الرُّباعي؟ فأجاب عنه بما تقدَّم ، يعني أنَّ الهمزةَ بمعنى الدُّخولِ في الشيء .
قوله : { ثَجَّاجاً } الثَّجُّ : الانصِبابُ بكثرةٍ وشِدَّةٍ . وفي الحديث : " أحَبُّ العملِ إلى اللَّهِ العَجُّ والثَّجُّ " فالعَجُّ : رَفْعُ الصوتِ بالتلبيةِ ، والثَّجُّ : إراقةُ دماءِ الهَدْيِ . يقال : ثَجَّ الماءُ بنفسِه ، أي : انصَبَّ وثَجَجْتُه أنا ، أي : صَبَبْتُه ثَجّاً وثُجوجاً ، فيكونُ لازماً ومتعدياً . وقال الشاعر :
4467 إذا رَجَفَتْ فيها رَحَىً مُرْجَحِنَّةٌ ... تَبَعَّجَّ ثَجَّاجاً غَزيرَ الحوافِلِ
وقرأ الأعرج " ثجَّاحاً " بالحاءِ المهملةِ أخيراً . وقال الزمخشري : " ومَثاجِحُ الماءِ مَصابُّه ، والماءُ يَنْثَجِحُ في الوادي " .
(1/5609)
وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
قوله : { أَلْفَافاً } : فيه أوجهٌ : أحدُها : أنَّه لا واحدَ له . قال الزمخشري : " ألفافاً " : ملتفَّةٌ لا واحدَ له كالأوْزَاعِ والأَخْيافِ " . والثاني : أنه جمعُ " لِفّ " بكسرِ اللام ، فيكونُ نحو : سِرّ وأَسْرار . وأنشد أبو علي الطوسي :
4468 جَنَّةٌ لِفٌّ وعَيْشٌ مُغْدِقُ ... ونَدامى كلُّهم بِيْضٌ زُهُرْ
وهذا قولُ أكثرِ أهلِ اللغة . الثالث : أنه جمعُ لفيف ، قاله الكسائي .
ومثلُه : شريف وأَشْراف ، وشهيد وأشهاد . وقال الشاعر :
4469 أحابِيْشُ أَلفْافٌ تبايَنَ فَرْعُهُمْ ... وجِذْمُهُمُ عن نسبةِ المتعرّفِ
الرابع : أنه جمعُ الجمعِ؛ وذلك أنَّ الأصلَ " ألَفُّ " في المذكر ، و " لَفَّاءُ " في المؤنث كَأْحمر وحمراء ، ثم جُمِعا على لُفّ كحُمْر ، ثم جُمع لُفّ على أَلْفاف ، إذا صار لُفٌّ بزنة قُفْلٍ فجُمع جَمْعَه ، قاله ابن قتيبة . إلا أن الزمخشري ، قال : " وما أظنُّه واجداً له نظيراً مِن نحو : خُضْر وأَخْضار ، وحُمْر وأَحْمار " . قلت كأنّه يَسْتَبْعِدُ هذا القولَ من حيث إن نَظَائِرَه لا تُجْمَعُ على أَفْعال؛ إذ لا يُقال : خُضْر وأخْضار ، ولا حُمْر وأَحْمار ، وإن كانا جمعَيْنِ لأَخْضَر وخَضْراء ، وأَحْمر وحَمْراء ، وهذا غيرُ لازمٍ؛ لأنَّ جمعَ الجمعِ لا يَنْقاسُ ، ويكفي أَنْ يكونَ له نظيرٌ في المفردات كما رأيتَ مِنْ أنَّ لُفّاً صارَ يضارِعُ قُفْلاً؛ ولهذا امتنعوا مِنْ تكسيرِ مَفاعل ومَفاعيل لعدمِ نظيرٍ في المفرداتِ يُحْمَلان عليه . الخامس : قال الزمخشري : " ولو قيل : هو جمعُ مُلْتَفَّة بتقدير حَذْفِ الزوائد لكان قولاً وجيهاً " . قلت : وفيه تكلُّفُ لا حاجةَ إليه ، وأيضاً فغالبُ عباراتِ النحاة في حَذْف الزوائِد إنما هو في التصغير . تقول : تصغيرُ الترخيم بحذفِ الزوائد ، وفي المصادر يقولون : هذا المصدرُ على حَذْفِ الزوائِد .
(1/5610)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)
قوله : { يَوْمَ يُنفَخُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ " يومَ الفَصْل " أو عطفَ بيانٍ له ، أو منصوباً بإضمار " أعني " و " أفْواجاً " حالٌ مِنْ فاعل " تأْتون " . وتقدَّمَ " فُرَاتاً " [ الفرقان : 53 ] . و " فُتِحَتْ " بالتخفيف والتشديد في الزُّمَر .
(1/5611)
لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22)
قوله : { لِّلطَّاغِينَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً لِمْرصاداً ، وأنْ يكونَ حالاً مِنْ " مآباً " كان صفتَه فلَّما تقدَّم نُصِب على الحال . وعلى هذَيْن الوجهَيْنِ فيتعلَّق بمحذوفٍ . ويجوزُ أَنْ يكونَ متعلقاً بنفسِ " مِرْصاداً " أو بنفسِ " مآباً " لأنه بمعنى مَرْجِع . وقرأ ابن يَعمر وأبو عمرو المنقري " أنَّ جهنمَ " بفتح " أنَّ " . قال الزمخشري : " على تعليل قيامِ السَّاعةِ بأنَّ جهنمَ كانت مِرْصاداً للطاغين ، كأنه قيل : كان ذلك لإِقامةِ الجزاءِ " . قلت : يعني أنَّه علةٌ لقولِه " يومَ يُنْفَخُ " إلى آخره .
وقرأ أبو عياض " في الصُّوَر " بفتحِ الواو . وتقدَّمَ مثلُه .
(1/5612)
لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)
قوله : { لاَّبِثِينَ } : منصوبٌ على الحالِ من الضميرِ المستترِ في " للطَّاغِين " وهي حالٌ مقدرةٌ . وقرأ حمزةُ " لَبِثِيْنَ " دونَ ألفٍ ، والباقون " لابِثين " بها . وضَعَّفَ مكيٌّ قراءةَ حمزةَ ، قال : " ومَنْ قرأ " لبِثين " ، شَبَّهه بما هو خِلْقَةٌ في الإِنسان نحو : حَذِر وفَرِق ، وهو بعيدٌ؛ لأنَّ اللُّبْثَ ليس مِمَّا يكونُ خِلْقَةً في الإِنسان ، وبابُ فَعِل إنما هو لِما يكونُ خِلْقَةً في الإِنسانِ ، وليس اللُّبْثُ بخِلْقةٍ " . ورَجَّح الزمخشريُّ قراءةَ حمزةَ فقال : " قُرِىءَ : لابِثين ولَبِثين . والَّلبِثُ أَقْوى "؛ لأنَّ اللابِثَ يُقال لِمَنْ وجِدَ منه الُّلبْثُ ، ولا يُقال : لِبثٌ إلاَّ لمَنْ شأنُه الُّلبْثُ كالذي يَجْثُمُ بالمكانِ ، لا يكاد يَنْفَكُّ منه " . قلت : وما قاله الزمخشريُّ أَصْوَبُ . وأمَّا قولُ مكيّ : الُّلبْثُ ليس خِلْقَةً فمُسَلَّمٌ؛ لكنه بُوْلِغَ في ذلك فجُعِلَ بمنزلةِ الأشياءِ الخِلْقيَّة .
قوله : { أَحْقَاباً } منصوبٌ على الظرفِ ، وناصبهُ " لا بثين " ، هذا هو المشهورُ . وقيل : هو منصوبٌ بقولِه " لا يَذُوقون " وهذا عند مَنْ يرى تقديمَ معمولِ ما بعد " لا " عليها ، وهو أحدُ الأوجه ، وقد تقدَّم هذا مستوفىً في أواخر الفاتحة . وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ ينتصِبَ على الحالِ ، قال : " وفيه وجهٌ آخر : وهو أَنْ يكونَ مِنْ حَقِبَ عامُنا : إذا قَلَّ مطرُه وخيرُه ، وحَقِبَ فلانٌ : إذا أَخْطَأَهُ الرِّزْقُ فهو حَقِبٌ ، وجمعهُ أَحْقاب ، فينتصِبُ حالاً عنهم بمعنى : لابثين فيها حَقِبين جَحِدين " . وقد تقدَّم الكلامُ على " الحُقُب " ، وما قيل فيه في سورة الكهف .
(1/5613)
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24)
قوله : { لاَّ يَذُوقُونَ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه متسأنفٌ أخبر عنهم بذلك . الثاني : أنه حالٌ من الضمير في " لابثين " أي : لابِثين غيرَ ذائقين ، فهي حالٌ متداخلةٌ . الثالث : أنه صفةٌ لأَحْقاب . قال مكي : " واحتمل الضميرَ لأنه فِعْلٌ ، فلم يجبْ إظهارُه ، وإن كان قد جَرَى صفةً على غير مَنْ هُوَ له ، وإنما جاز أَنْ يكونَ نعتاً ل " أحقاب " لأجْل الضميرِ العائدِ على الأَحْقاب في " فيها " ولو كان في موضع " يَذُوْقون " اسمُ فاعلٍ لكان لا بُدَّ مِنْ إظهارِ الضميرِ إذا جَعَلْتَه وصفاً لأَحْقاب " . الرابع : أنه تفسيرٌ لقولِه " أحقاباً " إذا جَعَلْتَه منصوباً على الحالِ بالتأويلِ الذي تقدَّم ذِكْرُه عن الزمخشريِّ فإنه قال : " وقولُه : لا يَذوقون فيها بَرْداً ولا شَراباً تفسيرٌ له . الخامس : أنه حالٌ أخرى مِنْ " للطَّاغين " ك " لابِثين " .
(1/5614)
إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)
قوله : { إِلاَّ حَمِيماً } : يجوزُ أَنْ يكونَ استثناءً متصلاً من قولِه " شَراباً " وهذا واضِحٌ . والثاني : أنَّه منقطعٌ . قال الزمخشري : " يعني لا يذُوقون فيها بَرْداً ولا رَوْحاً يُنَفِس عنهم حَرَّ النارِ ، ولا شَراباً يُسَكِّن مِنْ عَطَشِهم ، ولكنْ يَذُوقون فيها حميماً وغَسَّاقاً " .
قلت : ومكيٌّ لَمَّا جَعَله منقطعاً جعل البَرْدَ عبارةً عن النومِ ، قال : " فإن جَعَلْتَه النومَ كان " حميماً " استثاءً ليس من الأول " . وإنما الذي حَمَلَ الزمخشريُّ على الانقطاع مع صِدْقِ اسم الشرابِ على الحميمِ والغَسَّاقِ وَصْفُه له بقولِه " ولا شَراباً يُسَكِّنُ مِنْ عَطَشِهم " فبهذا القَيْدِ صار الحميمُ ليس من جنسِ هذا الشراب . وإطلاقُ البَرْدِ على النوم لغةُ هُذَيْلٍ . وأنشد :
4470 فإن شِئْتِ حَرَّمْتُ النِّساءَ سواكمُ ... وإنْ شِئْتِ لم أَطْعَمْ نُقاخاً ولا بَرْداً
وفي كلامِ بعضِ الأعراب " مَنَعَ البَرْدُ البَرْدَ " قيل : وسُمِّي بذلك لأنه يقطعُ سَوْرةَ العطشِ . والذَّوْقُ على هذين القولين أعني كونَه رَوْحاً يُنَفِّسُ عنهم الحَرَّ ، وكونَه النومَ مجازٌ . وأمَّا على قولِ مَنْ جعله اسماً للشرابِ الباردِ المُسْتَلَذُّ ، ويُعْزَى لابنِ عباس ، وأنشد قولَ حَسَّانَ رضي الله عنه :
4471 يَسْقُونَ مْن وَرَدَ البَرِيصَ عليهمُ ... بَرْداً يُصَفِّقُ بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ
وقول الآخر :
4472 أَمانِيُّ مِنْ سُعْدَى حِسانٌ كأنَّما ... سَقَتكَ بها سُعْدى على ظَمَأ بَرْدا
فالذَّوْقُ حقيقةٌ ، إلاَّ أنه يصير فيه تَكْرارٌ بقولِه بعد ذلك : " ولا شراباً " .
الثالث : أنه بدلٌ مِنْ قولِه " ولا شراباً " ، وهو الأحسنُ لأنَّ الكلامَ غيرُ موجَبٍ . وتقدَّم خلافُ القُراء في { وَغَسَّاقاً } تخفيفاً وتثقيلاً ، والكلامُ عليه وعلى حميم .
(1/5615)
جَزَاءً وِفَاقًا (26)
قوله : { جَزَآءً } : منصوبٌ على المصدر/ وعاملُه : إمَّا قولُه " لا يذوقون " إلى آخرِه : لأنَّه في قوةِ : جُوزوا بذلك ، وإمَّا محذوفٌ . ووِفاقاً نعتٌ له على المبالغةِ ، أو على حَذْفِ مضافٍ ، أي : ذا موافقة . وقرأ أبو حيوة وابنُ أبي عبلة بتشديد الفاء مِنْ وفَّقه لكذا .
(1/5616)
وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)
قوله : { كِذَّاباً } : قرأ العامَّةُ كِذَّاباً بتشديدِ الذَّالِ . وكان مِنْ حَقِّ مصدرِ فَعَّل أَنْ يأتيَ على التفعيل نحو : صَرَّف تَصْريفاً . قال الزمخشري : " وفِعَّال في باب فَعَّلَ كلِّه فاشٍ في كلامِ فصحاءَ مِنْ العرب ، لا يقولون غيرَه . وسَمِعَني بعضُهم أُفَسِّرُ آية ، فقال : " لقد فَسَّرْتَها فِسَّاراً ما سُمِعَ بمثِله " . قال غيرُه : وهي لغةُ بعضِ العرب يمانيةٌ ، وأنشد :
4473 لقد طالَ ما ثَبَّطْتَني عن صَحابتي ... وعن حاجةٍ قِضَّاؤُها مِنْ شِفائِيا
يريد : تَقَضِّيْها . والأصلُ على التَّفْعيل ، وإنَّما هو مثلُ : زَكَّى تَزْكِية . وسُمع بعضُهم يَسْتَفْتي في حَجِّه ، فقال : " آلحَلْقُ أحَبُّ إليك أم القِصَّار " يريد التقصيرَ " .
وقرأ علي رضي الله عنه والأعمش وأبو رجاء وعيسى البصرة بالتخفيف ، وهو مصدرٌ : إمَّا لهذا الفعل الظاهرِ على حَذْفِ الزوائِد ، وإمَّا لفعلٍ مقدَّرٍ ك { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] . قال الزمخشري : وهو مثلُ قولِه : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } يعني : وكَذَّبوا بآياتِنا فكَذَبوا كِذاباً ، أو تَنْصِبُه ب " كَذَّبوا "؛ لأنَّه يتضمَّنُ معنى كَذَبوا؛ لنَّ كلَّ مُكَذِّبٍ بالحقِّ كاذبٌ ، وإنْ جَعَلْتَه بمعنى المكاذَبَةِ فمعناه : وكذَّبوا بآياتِنا فكاذَبوا مُكاذَبَةً ، أو كَذَّبوا بها مُكاذِبين؛ لأنَّهم إذا كانوا عند المسلمين كاذبين ، وكان المسلمون عندهم كاذبين ، فبَينهم مكاذَبَةٌ ، أو لأنهم يتكلَّمون بما هو إفراطٌ في الكذبِ ، فِعْلَ مَنْ يغالِبُ في أمرٍ فيَبْلُغُ فيه أقصى جُهْدِه " . وقال أبو الفضل : " وذلك لغةٌ لليمينِ ، وذلك بأَنْ يَجعلوا مصدرَ " كَذَب " مخففاً " كِذاباً " . بالتخفيف ، مثل : كَتَبَ كِتاباً ، فصار المصدرُ هنا مِنْ معنى الفِعْلٍ دونَ لفظِه مثلَ : أَعْطَيْته عَطاءً . قلت : أمَّا كَذَبَ كِذاباً بالتخفيف فيهما فمشهورٌ ، ومنه قولُ الأعشى :
4474 فَصَدَقْتُها وكَذَبْتُها ... والمَرْءُ يَنْفَعُه كِذابُه
وقرأ عمر بن عبد العزيز والماجشون " كُذَّاباً " بضمِّ الكاف وشدِّ الذال ، وفيها وجهان ، أحدُها : أنه جمع كاذِب نحر : ضُرَّاب في ضارب . وانتصابُه على هذا على الحالِ المؤكِّدة ، أي : وكَذَّبوا في حالِ كونِهم كاذبين . والثاني : أنَّ الكُذَّاب بمعنى الواحدِ البليع في الكذب . يقال : رجلٌ كُذَّاب كقولِك : " حُسَّان " فيُجْعَلُ وصفاً لمصدر كَذَّبوا ، أي : تَكْذيباً كُذَّاباً مُفْرِطاً كَذِبُه ، قالهما الزمخشري .
(1/5617)
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)
قوله : { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ } : العامَّةُ على النصبِ على الاشتغال ، وهذا الراجحُ لتقدُّمِ جملةٍ فعليةٍ . وقرأ أبو السَّمَّال برفعِه على الابتداء وما بعدَه الخبرُ . وهذه الجملةُ مُعْتَرَضٌ بها بين السبب والمُسَبَّب؛ لأنَّ الأَصل : وكَذَّبوا بآياتنا كِذَّاباً فذوقوا . فقوله " فذوقوا " مُتَسَبِّبٌ عن تكذيبهم .
قوله : { كِتَاباً } فيه أوجهٌ : أحدُها : أنه مصدرٌ مِنْ معنى " أَحْصَيْنا " ، أي : إحصاءً . فالتجوُّزُ في نفسِ المصدرِ . الثاني : أنَّه مصدرٌ ل " أَحْصَيْنا " لأنَّه في معنى " كَتَبْنا " فالتجوُّزُ في نفسِ الفعلِ . قال الزمخشري : " لالتقاءِ الإِحصاء والكَتْبِ في معنى الضَّبْطِ والتحصيل " . الثالث : أَنْ يكونَ منصوباً على الحالِ بمعنى : مكتوباً في اللوح .
(1/5618)
حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32)
قوله : { حَدَآئِقَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ " مَفازاً " بدلَ اشتمال ، أو بدلَ كل مِنْ كل مبالغةً : في أَنْ جُعِلَتْ نفسُ هذه الأشياء مفازاً . ويجوز أَنْ يكونَ منصوباً بإضمار " أَعْني " . وقيل : " مَفازاً " بمعنى الفوز فيقدَّرُ مضافٌ ، أي : فوزَ حدائق .
(1/5619)
وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33)
قوله : { وَكَوَاعِبَ } : الكواعب : جمع كاعِب ، وهي مَنْ كَعَبَ ثَدْيُها ، أي : استدارَ . قال :
4475 وكان مِجَنِّي دونَ مَنْ كَنْتُ أتَّقي ... ثلاثُ شُخوصٍ كاعِبانِ ومُعْصِرُ
وقال قيس بن عاصم المِنْقَري :
4476 وكم مِنْ حَصانٍ قد حَوَيْنا كَريمةٍ ... ومِنْ كاعبٍ لم تَدْرِما البؤسُ مُعْصِرِ
والأَتراب تقدَّم ذكرُهن :
(1/5620)
وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)
قوله : { دِهَاقاً } : صفةٌ ل كأس . والدِّهاقُ : المَلأَى المُتْرَعَةُ . قيل : هو مأخوذٌ مِنْ دَهَقَه ، أي : ضَغَطَهُ وشَدَّه بيدِه ، كأنه ملأ اليدَ فانضغطَ . قال الشاعر :
4477 لأَنْتِ إلى الفؤادِ أحَبُّ قُرْباً ... من الصَّادي إلى الكأسِ الدهاق
/ وقيل : الدِّهاقُ : المتتابِعة . وأُنْشِد :
4478 أتانا عامِرٌ يَبْغي قِراناً ... فأتْرَعْنا له كأساً دِهاقا
(1/5621)
لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35)
قوله : { وَلاَ كِذَّاباً } : الكسائيُّ بالتخفيف . والباقون بالتثقيلِ ، وإنما وافق الكسائيُّ الجماعةَ في الأولِ للتصريحِ بفعلِه المشدَّدِ المقتضي لعدمِ التخفيفِ في " كِذّاباً " وهذا ما تقدَّم في قولِه { فَتُفَجِّرَ الأنهار } [ الإِسراء : 91 ] حيث لم يُخْتَلَفْ فيه ، للتصريح معه بفعلهِ ، بخلافِ الأول . وقال مكيٌّ " مَنْ شَدَّد جَعَلَه مصدرَ " كَذَّبَ " زِيْدَتْ فيه الألفُ كما زِيْدَتْ في " إكراماً " ، وقولُهم " تَكْذيباً " جعلوا التاءَ عوضاً مِنْ تشديدِ العينِ ، والياءَ بدلاً من الألف ، غيَّروا أوَّلَه كما غيَّروا آخره . وأصلُ مصدر الرباعيِّ أَنْ يأتيَ على عَدَدِ حروفِ الماضي بزيادة ألفٍ ، مع تغييرِ الحركات . وقد قالوا " تَكَلُّماً " فأتى المصدرُ على عددِ حروفِ الماضي بغير زيادةِ ألفٍ؛ لكثرة حروفِه ، وضُمَّت اللامُ ، ولم تُكْسَرْ لأنَّه ليسَ اسمٌ على تَفَعِّل ، ولم تُفْتَحْ لئلا يَشْتَبِهَ بالماضي " وقراءةُ الكسائيِّ " كِذاباً " بالتخفيفِ ، جعله مصدرَ : كَذَّبِ كِذاباً . وقيل : هو مصدرُ " كَذَب " كقولِك : كَتَبَ كِتاباً .
(1/5622)
جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)
قوله : { جَزَآءً } : مصدرٌ مؤكِّدٌ منصوبٌ بمعنى : إنَّ للمتقين مَفازاً ، كأنه قيل : جازى المتقين بمَفازٍ .
قوله : " عَطاءً " بدلٌ مِنْ " جَزاءً " وهو اسمُ مصدرٍ . قال :
4479 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وبعدَ عَطائِك المِئةَ الرِّتاعا
وجعله الزمخشريُّ منصوباً ب " جزاءً " نَصْبَ المفعولِ به . ورَدَّه الشيخُ : بأنَّه جَعَلَ " جزاءً " مصدراً مؤكداً لمضمونِ الجملةِ التي هي " إنَّ للمتقين [ مفازاً ] " . قال : " والمصدرُ المؤكِّد لا يعملُ؛ لأنه لا ينحلُّ لحرفٍ مصدريِ والفعلِ ، ولا نعلَمُ في ذلك خلافاً " .
قوله : { حِسَاباً } صفةٌ ل " عطاءً " والمعنى : كافياً ، فهو مصدرٌ أقيم مُقامَ الوصفِ ، أو بُوْلغ فيه ، أو على حَذْفِ مضافٍ مِنْ قولِهم : أَحْسَبَنِي الشيءُ ، أي : كفاني . وقرأ أبو البرهسم وشُرَيْح بن يزيد الحمصي بتشديد السينِ مع بقاءِ الحاءِ على كسرِها . وتخريجُها أنه مصدرٌ مثلُ كِذَّاب ، أقيم مُقامَ الوصفِ ، أي : عطاءً مُحْسِباً ، أي : كافياً . وابن قطيب كذلك إلاَّ أنَّه فتح الحاءَ ، قال أبو الفتح : " بنى فَعَّالاً مِنْ أَفْعَلَ كدَرَّاك مِنْ أَدْرَك " يعني أنه صفةٌ مبالغةٍ ، مِنْ أَحْسَبَ بمعنى كافي كذا . وابنُ عباس " حَسَنَا " بالنون من الحُسن . وسِراج " حَسْباً " بفتحِ الحاء وسكونِ السينِ والباءِ الموحَّدة ، أي : عطاءً كافياً ، مِنْ قولِك : حَسْبُك كذا ، أي : كافيك .
(1/5623)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)
قوله : { رَّبِّ السماوات } : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمروٍ برفع " ربُّ السماواتِ " و " الرحمنُ " . وابن عامر وعاصم بخفضِها ، والأخَوان بخفض الأولِ ورَفْعِ الثاني . فأمَّا رَفْعُهما فيجوزُ مِنْ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ يكونَ " ربُّ " خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هو ربُّ . و " الرحمنُ " كذلك ، أو مبتدأٌ خبرُه " لا يَمْلِكون " . الثاني : أَنْ يُجْعَلَ " ربُّ " مبتدأً ، و " الرحمنُ " خبرُه ، و " لا يَمْلِكون " خبرٌ ثانٍ ، أو مستأنفٌ . الثالث : أَنْ يكونَ " ربُّ " مبتدأً أيضاً و " الرحمنُ " نعتُه ، و " لا يَمْلِكون " خبرُ " رَبُّ " . الرابع : أنْ يكونَ " رَبُّ " مبتدأ ، و " الرحمنُ " مبتدأٌ ثانٍ ، و " لا يَمْلِكون " خبرُه ، والجملةُ خبرُ الأولِ . وحَصَلَ الرَّبْطُ بتكريرِ المبتدأ بمعناه ، وهو رأيُ الأخفش . ويجوزُ أَنْ يكونَ " لا يَمْلكون " حالاً ، وتكونُ لازمةً .
وأمَّا جَرُّهما فعلى البدل ، أو البيانِ ، أو النعتِ ، كلاهما للأول ، إلاَّ أنَّ تكريرَ البدلِ فيه نظرٌ ، وقد نَبَّهْتُ على ذلك في أواخر هذا الموضوع ، آخرِ الفاتحةِ ، أو يُجْعَلُ " ربِّ السماواتِ " تابعاً للأولِ ، و " الرحمن " تابعاً للثاني على ما تقدَّم . وأمَّا جَرُّ الأولِ فعلى التبعيَّةِ للأولِ ، ورفعُ الثاني فعلى الابتداءِ ، والخبرُ الجملةُ الفعليةُ ، أو على أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، و " لا يَمْلِكون " على ما تقدَّم من الاستئنافِ ، أو الخبرِ الثاني ، أو الحالِ اللازمةِ .
(1/5624)
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38)
قوله : { يَوْمَ يَقُومُ } : منصوبٌ : إمَّا ب " لا يتكلَّمون " بعدَه ، وإمَّا ب " لا يَمْلِكون " و " صَفَّا " حالٌ ، أي : مُصْطَفِّيْنَ ، و " لا يتكلَّمون " : إمَّا حالٌ وإمَّا مستأنفٌ .
قوله : { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ } يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ واو " يتكلمون " ، وهو الأَرْجَحُ لكونِه غيرَ موجَبٍ ، وأَنْ يكونَ منصوباً على أصلِ الاستثناء .
(1/5625)
إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
قوله : { يَوْمَ يَنظُرُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ/ بدلاً مِنْ " يَومَ " قبلَه ، وأنْ يكونَ منصوباً ب " عذاباً " ، أي : العذابُ واقعٌ في ذلك اليوم . وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ يكونَ نعتاً ل " قريباً " ، ولو جعله نعتاً ل " عذاباً " لكان أَوْلى ، والعامَّةُ بفتح ميم " المَرْءُ " ، وهي العاليةُ . وابنُ أبي إسحاق بضَمِّها وهي لغةٌ : يُتْبِعون الفاءَ اللامَ . وخَطَّأَ أبو حاتمٍ هذه القراءةَ ، وليس بصوابٍ لثبوتِها لغةً .
قوله : { مَا قَدَّمَتْ } يجوزُ أَنْ تكونَ استفهاميةً مُعلِّقَةً ل " يَنْظُرُ " على أنَّه من النظر ، فتكونُ الجملةُ في موضعِ نصبٍ على إسقاط الخافضِ ، وأَنْ تكونَ موصولةً مفعولاً بها ، والنظرُ بمعنى الانتظار ، أي : ينتظرُ الذي قَدَّمَتْه يداه . والعامَّةُ لا يُدْغِمون تاءَ " كنتُ " في " تُراباً " قالوا : لأنَّ الفاعلَ لا يُحْذَفُ ، والإِدغامُ يُشْبه الحذفَ . وفي قولِه " ويقولُ الكافرُ " وَضْعُ ظاهرٍ موضعَ مضمرٍ شهادةً عليه بذلك .
(1/5626)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)
قوله : { غَرْقاً } : يجوزُ فيه أَنْ يكونَ مصدراً على حَذْفِ الزوائد بمعنى : إغْراقاً ، وانتصابُه بما قبلَه لملاقاتِه له في المعنى ، وإمَّا على الحالِ ، أي : ذواتَ إغْراقٍ . يُقال : أَغْرَقَ في الشيءِ يُغْرِقُ فيه إذا أَوْغَلَ وبَلَغَ أقصى غايتِه . ومنه : أغرقَ النازعُ في القَوْسِ ، أي : بلغَ غايةَ المَدِّ .
(1/5627)
وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4)
ونَشْطاً وسَبْحاً وسَبْقاً كلُّها مصادرُ . والنَّشْطُ : الرَّبْطُ ، والإِنْشاطُ : الحَلُّ . يقال : نَشَطَ البعيرَ : رَبَطه ، وأَنْشَطَه : حَلَّه ، ومنه : " كأنما أنشط مِنْ عقال " . فالهمزةُ للسَّلْبِ . ونَشِطَ : ذَهَبَ بسُرْعَةٍ . ومنه قيل لبقر الوَحْش : نَواشِط . قال هِمْيان بن قُحافة :
4480 أرى همومي تَنْشِطُ المَناشِطا ... الشَّامَ بي طَوْراً وطَوْراً واسِطا
وَنَشَطْتُ الحَبْلَ أَنْشِطُه أُنْشُوْطَة : عَقَدْتُه ، وأَنْشَطْتُه مَدَدْتُه ، ونَشَطَ كأَنْشَط . قال الزمخشري : " تُنْشِطُ الأرواحَ ، أي : تُخْرِجُها ، مِنْ نَشَطَ الدَّلْوَ مِنْ البئرِ إذا أَخْرجَها " .
و " أَمْراً " مفعولٌ بالمُدَبِّراتِ . وقيل : حال : تُدَبِّرُهُ مَأْموراتٍ ، وهو بعيدٌ . والمرادُ بهؤلاء : إمَّا طوائِفُ الملائكةِ ، وإمَّا طوائِفُ خَيْلِ الغُزاةِ ، وإمَّا النجومُ ، وإمَّا المنايا ، وإمَّا بَقَرُ الوَحْشِ ، وما جَرَى مَجْراها لسُرْعَتِها ، وإمَّا أرواحُ المؤمنين .
(1/5628)
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6)
قوله : { يَوْمَ تَرْجُفُ } : منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ ، هو جوابُ القسم تقديره : لَتْبُعَثُنَّ ، لدلالةِ ما بعدَه عليه ، قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : كيف جَعَلْتَ " يومَ تَرْجُفُ " ظرفاً للمُضْمرِ الذي هو لَتُبْعَثُنَّ ، ولا يُبْعَثُون عند النَّفْخَةِ الأولى؟ قلت : المعنى : لتُبْعَثُنَّ في الوقتِ الواسعِ الذي تقع فيه النَّفْختان ، وهم يُبْعَثُون في بعض ذلك الوقتِ الواسعِ ، وهو وقتُ النَّفْخَةِ الأخرى ، ودلَّ على ذلك أنَّ قولَه : " تَتْبَعُها الرَّادِفَةُ " جُعِل حالاً عن " الراجفة " . وقيل : العاملُ مقدَّرٌ غيرُ جوابٍ ، أي : اذكُرْ يومَ تَرْجُفُ . وفي الجوابِ على هذا أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه قولُه : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً } [ النازعات : 26 ] . واستقبحه أبو بكر بن الأنباريِّ لطولِ الفَصْل . الثاني : أنه قولُه : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى } [ النازعات : 15 ] لأنَّ " هل " بمعنى " قد " . وهذا غَلَطٌ؛ لأنَّه كما قدَّمْتُ لك في { هَلْ أتى } [ الإنسان : 1 ] أنها لا تكونُ بمعنى " قد " ، إلاَّ في الاستفهام ، على ما قال الزمخشري . الثالث : أنَّ الجواب { تَتْبَعُهَا } [ النازعات : 7 ] وإنما حُذِفَتِ اللامُ ، والأصلُ : لَيَوْمَ تَرْجُفُ الراجفةُ تَتْبَعُها ، فحُذِفَتِ اللامُ ، ولم تَدْخُلْ نونُ التوكيدِ على " تَتْبَعُها " للفَصْلِ بين اللامِ المقدَّرَةِ وبين الفعلِ المُقْسَمِ عليه بالظرفِ . ومثلُه { لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } [ آل عمران : 158 ] . وقيل : في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ ، أي : يومَ تَرْجُفُ الراجِفَةُ تَتْبَعُها الرادِفَةُ والنازعاتِ .
وقال أبو حاتم : " هو على التقديم والتأخيرِ كأنه قال : فإذا هُمْ بالسَّاهِرَةِ والنَّازعاتِ " . قال ابن الأنباري : " هذا خطأٌ؛ لأنَّ الفاءَ لا يُفْتَتَحُ بها الكلامُ " . وقيل : " يومَ " منصوبٌ بما دَلَّ عليه " واجِفَةٌ " ، أي : يومَ تَرْجُفُ وَجِفَت . وقيل : بما دَلَّ عليه خاشع ، أي : يومَ تَرْجُفُ خَشَعَتْ .
(1/5629)
تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)
قوله : { تَتْبَعُهَا الرادفة } : يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من الراجفة ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً .
(1/5630)
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)
قوله : { قُلُوبٌ } : مبتدأٌ ، و " يومئذٍ " منصوبٌ ب " واجفةٌ " ، وواجفة صفةُ القلوبِ ، وهو المُسَوِّغُ للابتداءِ بالنكرةِ و " أَبْصارُها " مبتدأٌ ثانٍ ، و " خاشِعة " خبرُه ، وهو وخبرُ الأولِ . وفي الكلامِ حَذْفُ مُضافٍ تقديرُه : أبصارُ أصحابِ القلوب . وقال ابنُ عطية : " وجاز ذلك ، أي : الابتداءُ بقلوب لأنَّها تخصَّصَتْ بقولِه : " يومئذٍ " . ورَدَّ عليه الشيخُ : بأنَّ ظرفَ الزمانِ لا يُخَصِّصُ الجثثَ ، يعني لا تُوصف به الجثثُ . والواجفةُ : الخائفةُ . يقال : وَجَفَ يَجِفُ وَجيفاً ، وأصلُه اضطرابُ القَلْبِ وقَلَقُه . قال قيسُ بن الخطيم :
4481 إنَّ بني جَحْجَبَى وأُسْرَتَهُمْ ... أكبادُنا مِنْ ورائِهم تَجِفُ
/وعن ابن عباس : واجِفَةٌ : خائفةٌ ، بلغة هَمْدان . ويُقال : وَجَبَ وَجيباً ، بالباءِ الموحدةِ بدلَ الفاءِ .
(1/5631)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10)
قوله : { فِي الحافرة } : الحافِرَة : الطريقةُ التي يَرْجِعُ الإِنسانُ فيها من حيث جاء . يقال : رَجَعَ في حافرتِه ، وعلى حافرته . ثم يُعَبَّرُ بها عن الرجوعِ بالأحوال مِنْ آخرِ الأمرِ إلى أوَّلِه . قال :
4482 أحافِرَةً على صَلَعٍ وشَيْبٍ ... معاذَ اللَّهِ مِنْ سَفَهٍ وعارِ
وأصلُه : أنَّ الإِنسان إذا رَجَعَ في طريقِه أثَّرَتْ قدماه فيها حَفْراً . وقال الراغب : " وقولُه في الحافرة مَثَلٌ لمَنْ يُرَدُّ مِنْ حيث جاء ، أي : أنَحْيا بعد أن نموتَ؟ وقيل : الحافرةُ : الأرضُ التي [ جُعِلَتْ ] قبورُهم فيها ومعناه : أإنَّا لَمَرْدُودون ونحن في الحافِرة؟ أي : في القبور . وقولُه : " في الحافرة " على هذا في موضعِ الحال . وقيل : رَجَع فلانٌ على حافِرَتِه ، ورَجَع الشيخُ إلى حافرته ، أي : هَرِمَ ، كقولِه : { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر } [ النحل : 70 ] . وقولُهم : " النَّقْدُ عند الحافِرة " لِما يُباع نَقْداً . وأصلُه في الفرس إذا بِيْع ، فيُقال : لا يَزُول حافِرُه أو يُنْقَدَ ثمنُه . والحَفْرُ : تَأَكُّلُ الأسنانِ . وقد حَفَر فُوه ، وقد أَحْفَر المُهْرُ للإِثْناءِ والإِرْباع ، أي : دنا لأن يكونَ ثَنِيَّاً أو رُباعياً " انتهى . والحافِرَةُ قيل : فاعِلَة بمعنى مَفْعُولة . وقيل : على النَّسَب ، أي : ذات حَفْرٍ ، والمراد : الأرضُ . والمعنى : إنَّا لمَرْدُودون في قبورنا أحياءً . وقيل : الحافرة : جَمْعُ حافِر بمعنى القَدَم ، أي : نمشي أحياءً على أقدامِنا ، وَنَطَأُ بها الأرضَ . وقيل : هي أولُ الأمرِ . وتقولُ التجَّار : " النَّقْدُ في الحافِرة " ، أي : أوَّلُ السَّوْمِ . وقال الشاعر :
4483 آلَيْتُ لا أَنْساكُمُ فاعْلَموا ... حتى تُرَدَّ الناسُ في الحافِرَهْ
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة " في الحَفِرَة " بدون ألف . فقيل : هما بمعنى . وقيل : هي الأرض التي تَغَيَّرَتْ وأنْتَنَتْ بموتاها وأجسادِهم ، مِنْ قولِهم : حَفِرت أسنانُه ، أي : تَأَكَّلَتْ وتَغَيَّرَتْ . وقد تقدَّم خلافُ القراءِ في هذَيْن الاستفهامَيْنِ في سورةِ الرعد . وقوله : " في الحافِرَة " يجوزُ تعلُّقُه بمَرْدُوْدون ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ كما تقدَّم .
(1/5632)
أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11)
قوله : { نَّخِرَةً } : قرأ الأخَوان وأبو بكر " ناخِرَة " بألفٍ ، والباقون " نَخِرَة " بدونِها وهما كحاذِر وحَذِر ، فاعِل لمَنْ صَدرَ منه الفِعْلُ ، وفَعِل لِمَنْ كان فيه غَريزةً ، أو كالغَريزة . وقيل : ناخِرة ونَخِرة بمعنى بالية . وقيل : ناخِرَة ، أي : صارَتِ الريحُ تَنْخِرُ فيها ، أي : تُصَوِّتُ ، ونَخِرَة ، أي : تَنْخِرُ فيها دائماً . وقيل : ناخِرَة : بالِية ، ونَخِرَة : متآكلة . وعن أبي عمروٍ : الناخِرة : التي لم تَنْخَرْ بعدُ ، والنَّخِرَةُ : البالية . وقيل : الناخِرَةُ : المُصَوِّتَةُ فيها الريحُ ، والنَّخِرةُ : الباليةُ التي تَعَفَّنَتْ . قال الزمخشري : " يُقال : نَخِر العظمُ ، فهو نَخِرٌ وناخِرٌ ، كقولِك : طَمِعَ فهو طَمعٌ وطامعٌ ، وفَعِل أَبْلَغُ مِنْ فاعِل ، وقد قُرِىء بها ، وهو البالي الأجوفُ الذي تَمُرُّ فيه الرِّيحُ فيُسْمَعُ له نَخِير " . قلت : ومنه قولُه :
4484 وأَخْلَيْتُها مِنْ مُخِّها فكأنَّها ... قواريرُ في أجوافِها الريحُ تَنْخِرُ
وقال الراجزُ لفَرَسه :
4485 أَقْدِمْ نَجاحُ إنها الأَساوِرَهْ ... ولا يَهْوْلَنَّكَ رَحْلٌ نادِرَهْ
فإنما قَصْرُك تُرْبُ السَّاهِرَهْ ... ثم تعودُ بعدها في الحافِرَهْ
مِنْ بعدِ ما كنتَ عِظاماً ناخِرَهْ ... ونُخْرَةُ الرِّيْح بضمِّ النون : شِدَّةُ هبوبِها ، والنُّخْرَةُ أيضاً : مُقَدَّمُ أَنْفِ الفَرَسِ والحمارِ والخِنْزير . يقال : هَشَم نُخْرَتَه ، أي : مُقَدَّمَ أَنْفِه . و " إذا " منصوبٌ بمضمرٍ ، أي : إذا كُنَّا كذا نُرَدُّ ونُبْعَثُ .
(1/5633)
قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12)
قوله : { تِلْكَ } : مبتدأٌ مُشارٌ بها إلى الرَّجْفة والرَّدَّة في الحافِرة . و " كَرَّةٌ " . خبرُها . و " خاسِرَةٌ " صفةٌ ، أي : ذاتُ خُسْرانٍ ، أو أُسْنِدَ إليها الخَسارُ ، والمرادُ : أصحابُها ، مجازاً . والمعنى : إنْ كان رجوعُنا إلى القيامةِ حَقَّاً فتلك الرَّجْعَةُ رَجْعَةٌ خاسِرَةٌ ، وهذا أفادَتْه " إذَنْ " فإنها حرفُ جوابٍ وجزاءٍ عند الجمهور . وقيل : قد لا تكونُ جواباً . وعن الحسنِ : إنَّ " خاسرة " بمعنى كاذِبة .
(1/5634)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13)
قوله : { فَإِنَّمَا هِيَ } : " هي " ضميرُ الكَرَّة ، أي : لا تَحْسَبوا تلك الكرَّةَ صعبةً على اللَّهِ تعالى . وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : بِمَ تَعَلَّقَ قولُه : " فإنما هي "؟ قلت : بمحذوفٍ معناه : لا تَسْتَصْعِبوها ، فإنما هي زَجْرَةٌ " . قلت : يعني بالتعلُّقِ من حيث المعنى ، وهو العطفُ .
(1/5635)
فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
قوله : { فَإِذَا هُم } : المفاجأةُ والتَّسَبُّبُ هنا واضحان والسَّاهرة قيل : وجهُ الأرضِ ، والفَلاةُ ، وُصِفَتْ بما يقع فيها ، وهو السَّهَرُ لأجلِ الخوفِ . وقيل : لأنَّ السَّرابَ يَجْري فيها ، مِنْ قولِهم : عَيْنٌ ساهرَةٌ . قال الزمخشري : " والسَّاهرةُ : الأرضُ البيضاءُ المستويةُ ، سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنَّ السَّرابَ يجري فيها ، مِنْ قولهم/ عينٌ ساهِرَةٌ جارِيةُ الماء ، وفي ضَدِّها نائمةٌ . قال الأشعت بن قيس :
4486 وساهِرَةٍ يُضْحِي السَّرابُ مُجَلِّلاً ... لأَقْطارِها قد جُبْتُها مُتَلَثِّما
أو لأنَّ ساكنَها لا ينامُ ، خَوْفَ الهَلَكَة " انتهى . وقال أمية :
4487 وفيها لَحْمُ ساهِرَةٍ وبَحْرٍ ... وما فاهوا لهمْ فيها مُقيمُ
يريد : لحمُ حيوانِ أرضٍ ساهرةٍ . وقال أبو كبير الهذلي :
4488 يَرْتَدْنَ ساهِرَةً كأنَّ جَميمَها ... وعَمِيْمَها أسْدافُ ليلٍ مُظْلِمٍ
قال الراغب : " هي وَجْهُ الأرضِ . وقيل : أرضُ القيامةِ . وحقيقَتُها التي يَكْثُرُ الوَطْءُ بها ، كأنَّها سَهِرَتْ مِنْ ذلك ، إشارةً إلى نحوِ قولِ الشاعر :
4489 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَحَرَّكَ يَقْظانُ الترابِ ونائِمُهْ
والأَسْهَران : عِرْقان في الأنفِ " انتهى . والسَّاهُوْر : غلافُ القَمَرِ الذي يَدْخُل فيه عند كُسوفِه . قال :
4490 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أو شُقَّةٌ أُخْرِجَتْ مِنْ بَطْنِ ساهُوْرِ
أي : هذه المرأةُ بمنزلةِ قطعةِ القمر . وقال أميَّةُ :
4491 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قَمَرٌ وساهُوْرٌ يُسَلُّ ويُغْمَدُ
(1/5636)
إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16)
قوله : { إِذْ نَادَاهُ } : " إذ " منصوبٌ ب " حديثُ " لا ب " أتاك " لاختلافِ وقتَيْهما . وتقدَّم الكلامُ في { طُوًى } [ الآية : 12 ] في طه .
(1/5637)
اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17)
قوله : { اذهب } : يجوزُ أَنْ يكونَ تفسيراً للنداءِ . ويجوزُ أن يكونَ على إضمارِ القولِ . وقيل : هو على حَذْفِ " أَنْ " ، أي : أَنْ اذهَبْ . ويَدُلُّ له قراءةُ عبد الله : " أَنْ اذْهَبْ " . و " أَنْ " هذه الظاهرةُ أو المقدرةُ يُحتمل أَنْ تكونَ تفسيريةً ، وأَنْ تكونَ مصدريةً ، أي : ناداه بكذا .
(1/5638)
فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18)
قوله : { هَل لَّكَ } : خبرُ مبتدأ مضمرٍ . و " إلى أَنْ " متعلقٌ بذلك المبتدأ ، وهو حَذْفٌ شائعٌ . والتقدير : هل لك سبيلٌ إلى التزكية ومثله : " هل لك في الخير " يريدون : هل لك رغبةٌ في الخير . وقال الشاعر :
4492 فهل لكمُ فيها إليَّ فإنَّني ... بَصيرٌ بما أَعْيا النِّطاسِيَّ حِذْيَما
وقال أبو البقاء : " لَمَّا كان المعنى : أَدْعوك جاء ب " إلى " . وهذا لا يُفيدُ شيئاً في الإِعراب . وقرأ نافعٌ وابنُ كثير بتشديدِ الزاي مِنْ " تَزَّكَّى " والصادِ مِنْ " تَصَّدَّى " في السورةِ تحتها . والأصلُ : تتزَكَّى وتتصَدَّى ، فالحَرَمِيَّان أدغما ، والباقون حَذَفُوا نحو : { تَنَزَّلُ } [ القدر : 4 ] . وتقدَّم الخلافُ في أيَّتِهما المحذوفةِ .
(1/5639)
فَحَشَرَ فَنَادَى (23)
قوله : { فَحَشَرَ فنادى } : لم يُذْكَر مفعولاهما؛ إذ المرادُ فَعَلَ ذلك ، أو يكونُ التقدير : فَحَشَرَ قومَه فناداهم . وقوله " فقال " تفسيرٌ للنداء .
(1/5640)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)
قوله : { نَكَالَ الآخرة } : يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً ل " أَخَذَ " ، والتجوُّزُ : إمَّا في الفعل ، أي : نَكَّل بالأَخْذِ نَكالَ الآخرةِ ، وإمَّا في المصدر ، أي : أَخَذَه أَخْذَ نَكالٍ . ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له ، أي : لأجل نَكالِه . ويَضْعُفُ جَعْلُه حالاً لتعريفِهِ ، وتأويلُه كتأويلِ جَهْدَك وطاقَتَك غيرُ مَقيس . ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً لمضمونِ الجملةِ المتقدِّمةِ ، أي : نَكَّل الله به نَكالَ الآخرةِ ، قاله الزمخشري ، وجعله ك { وَعْدَ الله } [ النساء : 122 ] و { صِبْغَةَ الله } [ البقرة : 138 ] . والنَّكالُ : بمنزلةِ التَّنْكيل ، كالسَّلام بمعنى التَّسْليم . والآخرةُ والأولى : " إمَّا الداران ، وإمَّا الكلمتان ، فالآخرةُ قولُه : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] ، والأولى : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } [ القصص : 38 ] فحُذِفَ الموصوفُ للعِلْم به .
(1/5641)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27)
قوله : { أَمِ السمآء } : عطفٌ على " أنتم " وقوله : " بناها " بيانٌ لكيفيةِ خَلْقِه إياها . فالوقفُ على " السماء " ، والابتداءُ بما بعدَها . ونظيرُه ما مرَّ في الزخرف [ الآية : 58 ] { أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ }
(1/5642)
رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28)
قوله : { رَفَعَ سَمْكَهَا } : جملةٌ مفسِّرةٌ لكيفيةِ البناءِ . والسَّمْكُ : الارتفاعُ . ومعناه في الآيةِ كما قال الزمخشريُّ : " جَعَلَ مقدارَ ذهابِها في سَمْتِ العُلُوِّ مديداً رفعياً " . وسَمَكْتُ الشيءَ : رَفَعْتُه في الهواءِ . وسَمَك هو ، أي : ارتفعَ سُمُوكاً فهو قاصِرٌ ومتعدٍّ . وسَنامٌ سامِكٌ تامِكٌ ، أي : عالٍ مرتفعٌ . وسِماكُ البيت ما سَمَكْتُه به . والسِّماك : نجمٌ معروفٌ ، وهما اثنان : رامحٌ وأَعْزَلُ . قال الشاعر :
4493 إنَّ الذي سَمَكَ السماءَ بنى لنا ... بيتاً دعائِمُه أعَزُّ وأَطْوَلُ
(1/5643)
وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)
قوله : { وَأَغْطَشَ } : أي : أظلم بلغةِ أنْمار وأَشْعر . يقال : غَطِش الليلُ وغَطَّشْتُه أنا ، وأَغْطَشْتُه قال :
4494 عَقَرْتُ لهُمْ ناقتي مَوْهِناً ... فلَيْلُهُمُ مُدْلَهِمٌّ غَطِشْ
وليلٌ أغطشٌ وليلةٌ غَطْشاءُ . قال الراغب : " وأصلُه من الأَغْطشِ ، وهو الذي في عَيْنه عَمَشٌ . ومنه فَلاةٌ غَطْشى لا يُهْتدى فيها . والتغاطُشُ : التَّعامي " انتهى . ويقال : أَغْطشَ الليلُ ، قاصراً كأظلم ، فأَفْعَلَ فيه متعدٍّ/ ولازمٌ .
وقوله : { وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } فيه حَذْفٌ ، أي : ضُحى شمسِها ، أو أضافَ الليلَ والضُّحى لها للملابسةِ التي بينها وبينهما .
(1/5644)
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)
قوله : { بَعْدَ ذَلِكَ } : " بعد " على بابِها من التأخيرِ . ولا مُعارَضَةَ بينها وبين آيةِ فُصِّلت؛ لأنَّه خلق الأرضَ غيرَ مَدْحُوَّةٍ ، ثم خَلَق السماءَ ، ثم دحا الأرضَ . وقولُ أبي عبيدة : " إنها بمعنى قَبْل " مُنْكَرٌ عند العلماءِ . ويقال : دحا يَدْحُوا دَحْواً ودَحَى يَدْحي دَحْياً ، أي : بَسَط ، فهو من ذواتِ الواوِ والياءِ ، فيُكتبُ بالألف والياء ، ومنه قيل لِعُشِّ النَّعامة : أُدْحُوٌّ ، وأُدْحِيٌّ ، لانبساطِه في الأرض . وقال أمية :
4495 وبَثَّ الخَلْقَ فيها إذ دَحاها ... فهم قُطَّانُها حتى التَّنادِي
وقيل : دحى بمعنى سَوَّى . قال زيد بن نُفَيْل :
4496 وأَسْلَمْتُ وَجْهِيْ لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... له الأرضُ تَحْمِلُ صَخْراً ثقالاً
دَحاها فلَمَّا اسْتَوَتْ شَدَّها ... بأَيْدٍ وأَرْسى عليها الجِبالا
والعامَّةُ على نصبِ " الأرض " و " الجبال " على إضمارِ فعلٍ مفسَّرٍ بما بعده ، وهو المختارُ لتقدُّمِ جملةٍ فعليةٍ . ورَفَعَهما الحسنُ وابن أبي عبلة وأبو حيوة وأبو السَّمَّال وعمرُو بن عبيد ، على الابتداء ، وعيسى برفع " الأرض " فقط .
(1/5645)
أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31)
قوله : { أَخْرَجَ } : فيه وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونَ تفسيراً . والثاني : أَنْ يكونَ حالاً . قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : فهلاَّ أَدْخَلَ حرفَ العطفِ على " أَخْرَجَ " . قلت : فيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ " دحاها " بمعنى بَسَطها ومهَّدها للسُّكنى ، ثم فَسَّر التمهيدَ بما لا بُدَّ منه في تأتِّي سُكْناها مِنْ تسويةِ أمرِ المَأْكَلِ والمَشْرَبِ وإمكانِ القَرارِ عليها . والثاني : أَنْ يكونَ " أَخْرَجَ " حالاً بإضمار " قد " كقولِه : { أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } [ النساء : 90 ] . قلت : إضمار " قد " هو قولُ الجمهورِ ، وخالفَ الكوفيون والأخفش .
(1/5646)
مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
قوله : { مَتَاعاً } : العامَّةُ على النصبِ مفعولاً له ، أو مصدراً لعاملٍ مقدَّرٍ ، أي : مَتَّعكم . والمَرْعَى في الأصل : مكانٌ أو زمانٌ أو مصدرٌ ، وهو هنا مصدرٌ بمعنى المفعولِ ، وهو في حق الآدميين استعارةٌ .
(1/5647)
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)
قوله : { فَإِذَا جَآءَتِ } : في جوابِها أوجهٌ ، أحدُها : قولُه : " فأمَّا مَنْ طغى " نحو : " إذا جاءك بنو تميم فأمَّا العاصي فَأَهِنْه ، وأمَّا الطائعُ فأكْرِمْهُ " . وقيل : محذوفٌ ، فقدَّره الزمخشري : فإنَّ الأمرَ كذلك ، أي : فإنَّ الجحيمَ مَأْواه . وقدَّره غيرُ انقسم الراؤون قسمين . وقيل : عاينوا أو علموا . وقال أبو البقاء : " العاملُ فيها جوابُها ، وهو معنى قولِه : " يومَ يتَذَكَّرَ الإِنسانُ " . والطامَّة : الدَّاهِية تَطِمُّ على غيرِها من الدَّواهي لِعَظَمِها . والطَّمُّ : الدَّفْنُ . ومنه : طَمَّ السَّيْلُ الرَّكِيَّةَ . وفي المثل : " جرى الوادي فَطمَّ على القُرى " والمرادُ بها في القرآن النخفةُ الثانيةُ لأنَّ بها يَحْصُل ذلك .
(1/5648)
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35)
قوله : { يَوْمَ يَتَذَكَّرُ } : بدلٌ مِنْ " إذا " أو منصوبٌ بإضمار فعلٍ ، أي : أعني يومَ ، أو يومَ يتذكَّرُ يجري كيتَ وكيتَ .
(1/5649)
وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)
قوله : { وَبُرِّزَتِ } : العامَّةُ على بنائِه للمفعولِ مشدداً ، و " لِمَنْ يرى " بياء الغيبة . وزيد بن عليّ وعائشةُ وعكرمةُ مبنياً للفاعلِ مخففاً ، و " ترى " بتاءٍ مِنْ فوقُ فجوَّزوا في تاء " ترى " أَنْ تكونَ للتأنيثِ ، وفي " ترى " ضمير الجحيم كقولِه : { إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ الفرقان : 12 ] ، وأَنْ تكونَ للخطابِ ، أي : ترى أنت يا محمدُ . وقرأ عبد الله " لِمَنْ رأى " فعلاً ماضياً .
(1/5650)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)
قوله : { هِيَ المأوى } : إمَّا : هي المَأْوى له ، أو هي مَأْواه ، وقامَتْ أل مَقامَ الضميرِ ، وهو رأيُ الكوفيين . وقد تقدَّم لك تحقيقُ هذا الخلافِ والردُّ على قائلِه بقوله :
4497 رَحِيْبٌ قِطابُ الجَيْبِ منها رَفيقةٌ ... بجَسَّ النَّدامى بَضَّةُ المُتَجَرِّدِ
إذا لو كانَتْ أل عِوَضاً من الضميرِ لَما جُمِع بينهما في هذا البيتِ . ولا بُدَّ مِنْ أحدِ هذَيْن التأويلَيْن في الآيةِ الكريمةِ لأجلِ العائدِ من الجملةِ الواقعةِ خبراً إلى المبتدأ . والذي حَسَّن عدمَ ذِكْرِ العائدِ كَوْنُ الكلمةِ وقعَتْ رأسَ فاصلةٍ . وقال الزمخشري : " والمعنى : فإنَّ الجحيمَ مَأْواه ، كما تقولُ للرجل : / " غُضَّ الطرفَ " وليس الألفُ واللامُ بدلاً من الإِضافةِ ، ولكنْ لَمَّا عُلِمَ أنَّ الطاغيَ هو صاحبُ المَأْوى ، وأنَّه لا يَغُضُّ الرجلُ طَرْفَ غيره ، تُرِكَتِ الإِضافةُ ، ودخولُ الألفِ واللامِ في " المَأْوَى " والطَّرْفِ للتعريفِ لأنَّهما معروفان " .
قال الشيخ : " وهو كلامٌ لا يَتَحَصَّلُ منه الرابِطُ العائدُ على المبتدأ ، إذ قد نَفَى مذهبَ الكوفيين ، ولم يُقَدِّر ضميراً كما قَدَّره البصريُّون ، فرامَ حصولَ الرابطِ بلا رابطٍ " . قلت : قوله : " ولكنْ لَمَّا عُلِمَ " إلى آخره هو عينُ قولِ البصريين ، ولا أَدْري كيف خَفِيَ عليه هذا؟
(1/5651)
فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43)
قوله : { فِيمَ أَنتَ } : " فيم " خبرٌ مقدمٌ ، و " أنت " مبتدأٌ مؤخرٌ و " مِنْ ذِكْراها " متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به الخبرُ ، والمعنى : أنت في أيِّ شيءٍ مِنْ ذِكْراها ، أي : ما أنت مِنْ ذكراها لهم وتبيينِ وقتِها في شيءٍ . وقال الزمخشريُّ عن عائشةَ رضي الله عنها : " لم يَزَلْ عليه السلامُ يَذْكُرِ الساعةَ ، ويُسْألُ عنها حتى نَزَلَتْ " . قال : فعلى هذا هو تَعَجُّبٌ مِنْ كثرةِ ذِكْرِه لها ، كأنَّه قيل : في أيِّ شُغْلٍ واهتمامٍ أنا مِنْ ذِكراها والسؤال عنها " . وقيل : الوقفُ على قولِه : " فيمَ " وهو خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : فيم هذا السؤالُ ، ثم يُبْتدأ بقولِه : { أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا } ، أي : إرسالُك وأنت خاتمُ الأنبياءِ ، وآخرُ الرسلِ ، والمبعوثُ في نَسْمِ الساعةِ ، ذِكْرٌ مِنْ ذِكْراها وعلامةُ مِنْ علاماتِها ، فكَفاهم بذلك دليلاً على دُنُوِّها ومشارَفَتِها والاستعدادِ لها ، ولا معنى لسؤالِهم عنها ، قاله الزمخشري ، وهو كلامٌ حسنٌ لولا أنه يُخالِفُ الظاهرَ ومُفَكِّكٌ لنَظْمِ الكلامِ .
(1/5652)
إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45)
قوله : { مُنذِرُ مَن } : العامَّةُ على إضافةِ الصفةِ لِمعمولِها تخفيفاً . وقرأ عمر بن عبد العزيز وأبو جعفر وطلحة وابن محيصن بالتنوين . قال الزمخشريُّ : " وهو الأصلُ ، والإِضافةُ تخفيفٌ ، وكلاهما يَصْلُحُ للحالِ والاستقبالِ . فإذا أُريد الماضي فليس إلاَّ الإِضافةُ كقولِك : هو مُنْذِرُ زيدٍ أمسِ " . قال الشيخ : " قوله : " هو الأصلُ " يعنى التنوينَ هو قولٌ قاله غيرُه ، ثم اختار الشيخُ أنَّ الأصلَ الإِضافةُ . قال : " لأنَّ العملَ إنما هو بالشَّبه ، والإِضافةُ أصلٌ في الأسماءِ . ثم قال : " وقوله فليس إلاَّ الإِضافةُ فيه تفصيلٌ وخِلافٌ مذكورٌ في النحو " . قلت : لا يُلْزِمُه أَنْ يَذْكُرَ محلَّ الوفاقِ ، بل هذان اللذن ذكرهما مذهبُ جماهيرِ الناسِ .
(1/5653)
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
قوله : { أَوْ ضُحَاهَا } : أي : ضُحى العَشِيَّةِ ، أضاف الظرفَ إلى ضميرِ الظرفِ الآخر تجوُّزاً واتِّساعاً ، وذَكَرهما لأنهما طرفا النهارِ ، وحَسَّن هذه الإِضافةَ وقوعُ الكلمةِ فاصلةً .
(1/5654)
أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)
قوله : { أَن جَآءَهُ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مفعولٌ من أجلِه ، وناصبُه : إمَّا " تَوَلَّى " وهو قولُ البَصْريين ، وإمَّا " عَبَسَ " وهو قولُ الكوفيين . والمختارُ مذهبُ البَصْريين لعَدَمِ الإِضمارِ في الثاني ، وقد عَرَفْتَ تحقيقَ هذا فيما تقدَّم مِنْ مسائلِ التنازع . والتقدير : لأَنْ جاءَه الأعمى فَعَلَ هذَيْنِ الفِعلَيْنِ . والخلافُ في موضع " أَنْ " بعد حَذْفِ الجارِّ مشهورٌ . وقيل : " أَنْ " بمعنى " إذ " نقله مكي .
وقرأ زيدُ بنُ عليّ " عَبَّس " بالتشديد . والعامَّةُ على " أنْ " بهمزةٍ واحدةٍ . وزيد بن علي وعيسى وأبو عمران الجوني بهمزتَيْن . وقال الزمخشري : " وقُرِىء آأنْ بهمزتين وبألفٍ بينهما ، وُقِفَ على " عَبَس وتولَّى " ثم ابْتُدِىء على معنى : ألأَنْ جاءَه الأعمى فَعَل ذلك " .
(1/5655)
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3)
قوله : { لَعَلَّهُ يزكى } : الظاهرُ أجراءُ الترجِّي مُجرى الاستفهام لِما بينهما من معنى الطلبِ في التعليق؛ لأنَّ المعنى منصَبٌّ على تَسَلُّطِ الدِّراية على الترجِّي؛ إذ التقدير : لا يَدْري ما هو مترجَّى منه التزكيةُ أو التذكُّرُ . وقيل : الوقفُ على " يَدْري " والابتداءُ بما بعده على معنى : وما يُطْلِعُك على أمرهِ وعاقبةِ حالِه ، ثم ابتدأ فقال : { لَعَلَّهُ يزكى } .
(1/5656)
أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)
قوله : { فَتَنفَعَهُ } : قرأ عاصم بنصبه ، والباقون برفعه . فأمَّا نصبُه فعلى جوابِ الترجِّي كقوله : { فَأَطَّلِعَ } في سورة المؤمن [ الآية : 37 ] وهو مذهبٌ كوفيٌّ ، وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك . وقال ابن عطية : " في جواب التمني؛ لأنَّ قولَه " أو يَذَّكَّرُ " في حكم قولِه " لعلَّه يزَّكَّى " . قال الشيخ : " وهذا ليس تمنياً إنما هو تَرَجٍّ " . قلت : إنما يريد التمنيَ المفهومَ من الكلام ، ويدلُّ له ما قال أبو البقاء : " وبالنصب على جواب التمنِّي في المعنى " وإلاَّ فالفرقُ بين التمني والترجِّي لا يَجْهَلُه أبو محمد . وقال مكي : " مَنْ نصبه جَعَلَه جوابَ " لعلَّ " بالفاء لأنه غيرُ موجَبٍ فأشبه التمنيَ والاستفهامَ ، وهو غيرُ معروفٍ عند البصريين " .
وقرأ عاصمٌ في ورايةٍ والأعرجُ " أو يَذْكُرُ " بسكونِ الذالِ وتخفيفِ الكافِ مضومةً مضارعَ ذَكَرَ .
(1/5657)
فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6)
قوله : { تصدى } تقدَّمَتْ/ فيه قراءتا التثقيلِ والتخفيفِ ، ومعناه تتعرَّضُ . يُقال : تَصَدَّى ، أي : تَعَرَّضَ وأصلُه تَصَدَّدَ من الصَّدَدِ ، وهو ما استقبلك وصار قُبالتَك ، فأبدلَ أحدَ الأمثالِ حرفَ علةٍ نحو : تَظَنَّيْتُ وَقَصَّيْتُ أَظْفاري و :
4498 تَقَضِّيَ البازِيْ . . . . . . . . . ... قال الشاعر :
4499 تَصَدَّى لِوَضَّاحٍ كأنَّ جَبينَه ... سِراجُ الدُّجى تُجْبَى إليه الأساوِرُ
وقيل : هو من الصَّدى ، وهو الصوتُ المسموعُ في الأماكنِ الخاليةِ والأجرامِ الصُّلبةِ . وقيل : من الصَّدى وهو العطش ، والمعنى على التعرض ، ويُتَمَحَّلُ لذلك إذا قلنا : أًصلُه من الصوت أو العطش .
وقرأ أبو جعفر " تُصَدَّى " بضمِّ التاءِ وتخفيفِ الصادِ ، أي : تَصَدِّيك يُحَرِّضُك على إسلامِه . يقال : تَصَدِّي الرجلِ وتَصْدِيَتُه . وقال الزمخشري : " وقُرِىء " تُصَدَّى " بضم التاء ، أي : تُعَرَّضُ ، ومعناه : يَدْعوك داعٍ إلى التَّصَدِّي له من الحِرْصِ والتهالُكِ على إسلامِه " .
(1/5658)
وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7)
قوله : { أَلاَّ يزكى } : مبتدأٌ خبرُه عليك ، أي : ليس عليك عَدَمُ تَزْكيتِه .
(1/5659)
وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8)
قوله : { يسعى } : حالٌ مِنْ فاعل " جاءكَ " وقوله " وهو يَخْشى " جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعلِ " يَسْعى " ، فهو حالٌ مِنْ حالٍ . وجَعْلُها حالاً ثانية معطوفةً على الأولى ليس بالقويِّ .
(1/5660)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
قوله : { تلهى } : أًصلُه تَتَلَهَّى مِنْ لَهِيَ يَلْهى بكذا ، أي : اشتغل ، وليس هو من اللهوِ في شيءٍ . وقال الشيخ : " ويمكنُ أن يكونَ منه؛ لأنَّ ما يُبْنى على فَعِل من ذواتِ الواو تَنْقَلِبُ واوه ياءً لانكسارِ ما قبلَها نحو : شَقِي يَشْقى . فإن كان مصدرُه جاء بالياءِ فيكونُ مِنْ مادةٍ غيرِ مادةِ اللهو " . قلت : الناسُ إنما لم يَجْعلوه من اللهو لأَجْلِ أنه مُسْنَدٌ إلى ضمير النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ، ولا يَليق بمَنْصِبه الكريم أَنْ يَنْسُبَ اللَّهُ تعالى إليه التفعُّلَ من اللهو بخِلاف الاشتغال ، فإنه يجوزُ أَنْ يَصْدُرَ منه في بعض الأحيان ، ولا ينبغي أَنْ يُعْتَقَدَ غيرُ هذا ، وإنما سَقَط الشيخ .
وقرأ ابن كثير في روايةِ البزِّي عنه " عَنْهو تَّلهَّى " بواوٍ هي صلةٌ لهاءِ الكناية وتشديدِ التاءِ ، والأصل تَتَلَهَّى فأدغم ، وجاز الجَمْعُ بين ساكنَيْن لوجود حرفِ علةٍ وإدغامٍ ، وليس لهذه الآيةِ نظيرٌ : وهو أنه إذا لقي صلةَ هاءِ الكناية ساكنٌ آخرُ ثَبَتَتِ الصلةُ بل يجبُ الحَذْفُ . وقرأ أبو جعفر " تُلَهَّى " بضم التاء مبنياً للمفعولِ ، أي : يُلْهِيْكَ شأنُ الصَّناديد . وقرأ طلحة " تَتَلَهَّى " بتاءَيْن وهي الأصلُ ، وعنه بتاءٍ واحدةٍ وسكونِ اللام .
(1/5661)
كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)
قوله : { إِنَّهَا } : الضمير للسورةِ أو للآيات .
(1/5662)
فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)
قوله : { ذَكَرَهُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ لله تعالى؛ لأنه مُنَزِّلُ التذكِرَة ، وأن تكونَ للتذكرة ، وذكَّر ضميرَها لأنها بمعنى الذِّكْر والوَعْظ .
(1/5663)
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13)
قوله : { فَي صُحُفٍ } : صفةٌ ل " تَذْكِرة " فقوله { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } جملةٌ معترضةٌ بين الصفةِ وموصوفِها . ونحوُها : { فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } ويجوز أَنْ يكون " في صُحُف " خبراً ثانياً ل " إنَّها " ، والجملةُ معترضةٌ بين الخبرَيْن .
(1/5664)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)
قوله : { سَفَرَةٍ } : جمعُ سافِر وهو الكاتبُ ، ومثلُه كاتِب وكَتَبة . وسَفَرْتُ بين القومِ أَسْفِر سَِفارة : أَصْلَحْتُ بينهم . قال :
4500 فما أَدَعُ السَّفارة بين قومي ... وما أَسْعلى بغِشٍّ إنْ مَشَيْتُ
وأَسْفَرَتِ المرأةُ : كَشَفَتْ نِقابها .
(1/5665)
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)
قوله : { مَآ أَكْفَرَهُ } : إمَّا تعجبٌ ، وإمَّا استفهامُ تعجبٍ .
(1/5666)
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)
قوله : { ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ للإِنسانِ . والسبيل ظرفٌ ، أي : يَسَّر للإِنسان الطريقَ ، أي : طريق الخيرِ والشرِّ كقولِه : { وَهَدَيْنَاهُ النجدين } [ البلد : 10 ] . وقال أبو البقاء : " ويجوز أن ينتصِبَ بأنه مفعولٌ ثانٍ ل يَسَّره ، والهاء للإِنسان ، أي : يَسَّره السبيلَ ، أي : هداه له " . قلت : فلا بُدَّ مْن تضمينِه معنى أَعْطى حتى يَنْصِبَ اثنين ، أو يُحْذفُ حرفُ الجرِّ ، أي : يَسَّره للسبيل ، ولذلك قَدَّره بقولِه : هداه له . ويجوزُ أَنْ يكون " السبيل " منصوباً على الاشتغال بفعلٍ مقدرٍ ، والضميرُ له ، تقديره : ثم يَسَّر السبيلَ يَسَّره ، أي : سَهَّله للناسِ كقوله : { أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] ، وتقدَّم مثلُه في قولِه : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل } [ الإِنسان : 3 ] .
(1/5667)
ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
قوله : { فَأَقْبَرَهُ } : أي : جَعَلَ له قَبْراً . يُقال : قَبَرَه إذا دَفَنَه وأَقْبَره ، أي : جَعَلَه بحيث يُقْبَرُ ، وجَعَلَ له قبراً ، والقابِرُ : الدافنُ بيده . قال الأعشى :
4501 لو أَسْنَدَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِها ... عاشَ ولم يُنْقَلْ إلى قابِرِ
(1/5668)
ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)
قوله : { شَآءَ } : مفعولُه محذوفٌ ، أي : شاءَ إنْشارَه . وأَنْشَرَه : جوابُ " إذا " . وقرأ شعيبُ بن أبي حمزة نَشَره ثلاثياً ، ونقلها أبو الفضلِ أيضاً وقال : " هما لغتان بمعنى الإِحياء " .
(1/5669)
كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)
قوله : { مَآ أَمَرَهُ } : " ما " موصولةٌ . قال أبو البقاء : " بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : ما أمره به " . قلت : وفيه نظرٌ من حيث إنَّه قَدَّر العائدَ مجروراً بحرفٍ لم يَجُرَّ الموصولَ : ولا أمره به . فإنْ قلت : " أمرَ " يتعدَّى إليه بحَذْفِ الحرفِ فأُقَدِّرُه غيرَ مجرورٍ . قلت : إذا قَدَّرْتَه غيرَ مجرورٍ : فإمَّا أَنْ تقدِّرَه متصلاً أو منفصلاً ، وكلاهما مُشْكِلٌ؛ لِما قَدَّمْتُ في أولِ البقرة عند قوله تعالى : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [ البقرة : 3 ] .
(1/5670)
أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25)
قوله : { أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً } : قرأ الكوفيون " أنَّا " بفتح الهمزة غيرَ ممالةِ الألف . والباقون بالكسر . والحسنُ بن عليّ بالفتحِ والإِمالةِ . فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها بدلٌ مِنْ " طعامِه " فتكونُ في محلِّ جر . استشكل بعضُهم هذا الوجهَ ، وَرَدَّه : " بأنه ليس الأولَ فيُبْدَلَ منه؛ لأنَّ الطعامَ ليس صَبَّ الماءِ . ورُدَّ على هذا بوجهَيْن ، أحدهما : أنَّه بدلُ كلٍّ مِنْ كلّ بتأويلٍ : وهو أنَّ المعنى : فَلْيَنْظُرِ الإِنسانُ إلى إنعامِنا في طعامِه فصَحَّ البدلُ ، وهذا ليسَ بواضح . والثاني : أنَّه مِنْ بدلِ الاشتمالِ بمعنى : أنَّ صَبَّ الماءِ سببٌ في إخراجِ الطعامِ فهو مشتملٌ عليه بهذا التقدير . وقد نحا مكي إلى هذا فقال : لأنَّ هذه الأشياءَ مشتملةٌ على الطعامِ ، ومنها يتكوَّنُ؛ لأنَّ معنى " إلى طعامه " : إلى حدوثِ طعامهِ كيف يتأتَّى؟ فالاشتمالُ على هذا إنما هو من الثاني على الأولِ؛ لأنَّ الاعتبارَ إنما هو في الأشياءِ التي يتكوَّن منها الطعامُ لا في الطعامِ نفسِه " .
والوجه الثاني : أنَّها على تقديرِ لامِ العلةِ ، أي : فلينظُرْ لأِنَّا ، ثم حُذِفَ الخافضُ فجرى الخلافُ المشهورُ في محلِّها . والوجهُ الثالث : أنَّها في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، أي : هو أنَّا صَبَبْنا ، وفيه ذلك النظرُ المتقدِّم؛ لأنَّ الضميرَ إنْ عاد على الطعام فالطعامُ ليس هو نفسَ الصَّبِّ ، وإنْ عاد على غيرِه فهو غيرُ معلومٍ ، وجوابُه ما تقدَّمَ .
وأمّا القراءةُ الثانية فعلى الاستئنافِ تعديداً لِنِعَمِه عليه . وأمَّا القراءةُ الثالثةُ فهي " أنَّى " التي بمعنى " كيف " وفيها معنى التعجبِ ، فهي على هذه القراءةِ كلمةٌ واحدةٌ ، وعلى غيرِها كلمتان .
(1/5671)
وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28)
قوله : { وَقَضْباً } : القَضْبُ هنا قيل : الرُّطَبُ لأنه يُقْضَبُ من النخلِ ، أي : يُقْطَعُ . ورجَّحه بعضُهم بذِكْرِه بعد قوله : " وعِنَباً " وكثيراً ما يَقْترنان . وقيل : القَتُّ ، كذا يُسَمِّيه أهلُ مكة . وقيل : كلُّ ما يُقْضَبُ من البُقولِ لبني آدم . وقيل : هو الرَّطْبَةُ . والمقاضِبُ : الأرضُ التي تُنْبِتُها . قال الراغب : " والقَضيب كالقَضْب ، لكنَّ القضيبَ من فروع الشجرِ ، والقَضْبَ في البَقْلِ . والقَضْبُ أي : بالفتح قَطْعُ القَضْبِ والقَضيبِ ، وعنه عليه السلام : " أنه كان إذا رأى في ثوبٍ تَصْليباً قَضَبَه " وسيفٌ قاضِبٌ وقَضيبٌ ، أي : قاطعٌ ، فقضيب هنا بمعنى فاعِل ، وفي الأولِ بمعنى مَفْعول ، وناقة قَضِيب لِما يُؤْخَذُ من بين الإِبلِ ولم تُرَضْ ، وكلُّ ما لم يُهَذَّبْ فهو مقتضَبٌ ، ومنه " اقتضابُ الحديثِ "
لِما لم يُتَرَوَّ ويُهَذَّبْ . وقال الخليل : " القضيب : أغصانُ الشجرِ ليُتَّخَذَ منها قِسِيٌّ/ أو سِهامٌ .
(1/5672)
وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)
قوله : { غُلْباً } : جمعُ أَغْلَب وغَلْباء كحُمْر في أَحْمر وحَمْراء . يقال : حديقةٌ غَلْباءُ ، أي : غليظةُ الشجرِ ملتفَّتُه ، واغْلَوْلَبَ العُشْبُ ، أي : غَلُظَ . وأصلُه في وصفِ الرِّقاب . يقال : رجلٌ أغلبُ ، وامرأةٌ غَلْباءُ ، أي : غليظا الرَّقَبةِ . قال عمرو بن معدي كرب :
4502 يَسْعَى بها غُلْبُ الرِّقابِ كأنَّهُمْ ... بُزْلٌ كُسِيْنَ من الكُحَيْلِ جِلالا
والغَلَبَةُ : القَهْرُ ، أن تَنالَ وتُصيبَ غَلَبَةَ رقبتِه ، هذا أصله .
(1/5673)
وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)
قوله : { وَأَبّاً } : الأبُّ للبهائم بمنزلةِ الفاكهةِ للناس . وقيل : هو مُطْلَقُ المَرْعى . قال بعضُهم يمدح النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم :
4503 له دَعْوَةٌ مَيْمونَةٌ ريحُها الصَّبا ... بها يُنْبِتُ اللَّهُ الحَصيدةَ والأَبَّا
وقيل : الأبُّ يابِسُ الفاكهةِ ، وسُمِّي المَرْعى أبَّاً لأنه يُؤَمُّ ويُنْتَجَعُ ، والأَبُّ والأَمَّ بمعنىً . قال :
4504 جِذْمُنا قَيْسٌ ونَجْدٌ دارُنا ... ولنا الأَبُّ بِها والمَكْرَعُ
وأبَّ لكذا ، أي : تَهَيَّأ ، يَؤُبُّ أبَّاً وأَبابة وأَباباً . وأبَّ إلى وطنِهِ ، إذا نَزَعَ إليه نُزوعاً ، تَهَيَّأَ لِقَصْدِه ، وكذا أبَّ لِسَيْفِه ، أي : تهيَّأ لِسَلِّه . وقولُهم : " إبَّانَ ذلك " هو فِعْلان منه ، وهو الزمانُ المُهَيَّأُ لفِعْلِه ومجيئِه .
(1/5674)
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)
قوله : { الصآخة } : الصَّيحَةُ التي تَصُخُّ الآذانَ ، أي : تَصُمُّها لشِدَّةِ وَقْعَتِها . وقيل : هي مأخوذةٌ مِنْ صَخَّه بالحجَرِ ، أي : صَكَّه به . وقال الزمخشري : " صَخَّ لحديثِه مثلَ أصاخ فوُصِفَتِ النَّفْخَةُ بالصاخَّة مجازاً؛ لأنَّ الناسَ يَصِخُّون لها " . وقال ابن العربي : " الصَّاخَّة : التي تُوْرِثُ الصَّمَمَ ، وإنها لَمُسْمِعَةٌ ، وهذا مِنْ بديع الفصاحة كقوله :
4505 أصَمَّهُمْ سِرُّهُمْ أيَّامَ فُرْقَتِهمْ ... فهل سَمِعْتُمْ بسِرٍ يُوْرِث الصَّمَما
وقال :
4506 أَصَمَّ بك النَّاعي وإنْ كانَ أَسْمَعا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وجوابُ " إذا " محذوفٌ ، يَدُلُّ عليه قولُه { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } ، أي : التقديرُ : فإذا جاءَتِ الصَّاخةُ اشتغلَ كلُّ أحدٍ بنفسِه .
(1/5675)
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)
قوله : { يَوْمَ يَفِرُّ } : بدلٌ مِنْ " إذا " ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ " يُغْنِيْه " عاملاً في " إذا " ولا في " يومَ " لأنه صفةٌ لشَأْن ، ولا يتقدَّمُ معمولُ الصفةِ على موصوفِها . والعامَّةُ على " يُغْنيه " من الإِغناء ، وابن محيصن والزُّهريُّ وابن أبي عبلة وحميد وابن السَّمَيْفَع " يَعْنِيه " بفتح الياء وبالعينِ المهملةِ ، مِنْ قولِهم : عَناني الأمرُ ، أي : قَصَدني .
(1/5676)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)
قوله : { غَبَرَةٌ } : الغَبَرَةُ : الغُبارُ ، والقَتَرَةُ : سَوادٌ كالدُّخان . وقال أبو عبيدة : " القَتَرُ في كلامِ العربِ : الغبارُ جمعُ القَتَرة " . قال الفرزدق :
4507 مُتَوَّجٌ برِداءِ المُلْكِ يَتْبَعُه ... مَوْجٌ ترى فوقَه الراياتِ والقَتَرا
قلت : وفي عطفِه على الغَبَرة ما يَرُدُّ هذا ، إلاَّ أَنْ يقولَ : لَمَّا اختلفَ اللفظانِ حَسُن العطفُ كقولِه :
4508 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . كَذِباً ومَيْنا
وقوله :
4509 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . النَّأْيُ والبُعْدُ
وهو خلافُ الأصلِ . والعامَّةُ على فتحِ التاءِ مِنْ " قَتَرة " ، وأَسْكنها ابنُ أبي عبلة .
(1/5677)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)
قوله : { إِذَا الشمس } : في ارتفاع " الشمسِ " وجهان ، أصحُّهما : أنها مرفوعةٌ بفعلٍ مقدرٍ مبنيٍّ للمفعول ، حُذِف وفَسَّره ما بعده على الاشتغالِ . والرفعُ على هذا الوجهِ أعني إضمارَ الفعل واجبٌ عند البصريين؛ لأنهم لا يُجيزون أَنْ يَلِيَها غيرُه ، ويتأوَّلون ما أَوْهَمَ خلافَ ذلك ، والثاني : أنها مرفوعةٌ بالابتداء ، وهو قول الكوفيين والأخفش لظواهرَ قد جاءَتْ في الشعر ، وانتصر له ابنُ مالك وهناك أظهَرْتُ معه البحثَ . وقال الزمخشري : " ارتفاعُ الشمسُ على الابتداءِ أو الفاعليةِ . قلت : بل على الفاعليةِ " ثم ذكرَ نحوَ ما تقدم . ويعني بالفاعليةِ ارتفاعَها بفعلٍ في الجملةِ ، وقد مرَّ أنه يُسَمَّى مفعولُ ما لم يُسَمَّ فاعلُه فاعلاً . وتقدَّم تفسير التكوير في أوّلِ " تنزيلُ " . وارتفاعُ " النجوم " وما بعدَها كما تقدَّم في " الشمس " .
(1/5678)
وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)
والاْنكِدار : الانتثارُ ، أي : انصَبَّتْ كما يَنْصَبُّ العُقابُ إذا كُسِرَتْ . قال العَجَّاجُ يصفُ صَقْراً :
4510 أَبْصَرَ خِرْبانَ الفَلاةِ فانكَدَرْ ... تَقَضِّيَ البازيْ إذا البازيْ كَسَرْ
(1/5679)
وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)
والعِشار : جمع عُشَراء ، وهي الناقةُ التي مَرَّ لِحَمْلِها عشرةُ أشهرٍ ، ثم هو اسمُها إلى أَنْ تَضَعَ في تمام السنةِ ، وكذلك " نِفاس " في جَمْع نُفَساء . وقيل : العِشارُ : السَّحابُ . وعُطِّلت ، أي : لا تُمْطر . وقيل : الأرضُ التي تَعَطَّل زَرْعُها . والتَّعْطيل : الإِهمالُ . ومنه قيل للمرأة : " عاطِلٌ " إذا لم يكُنْ عليها حُلِيّ . وتقدَّم/ في " بئرٍ مُعَطَّلةٍ " . وقال امرؤ القيس :
4511 وجِيْدٍ كجِيْدِ الرِّئْمِ ليس بفاحشٍ ... إذا هي نَصَّتْهُ ولا بمُعَطَّلِ
وقرأ ابنُ كثير في روايةٍ " عُطِلت " بتخفيفِ الطاءِ . قال الرازي : " هو غَلَطٌ ، إنما هو " عَطَلَتْ " بفتحتَيْنَ بمعنى تَعَطَّلَتْ؛ لأنَّ التشديدَ فيه للتعدي . يُقال : عَطَّلْتُ الشيءَ وأَعْطَلْتُه فَعَطَلَ " .
والوحوش : ما لم يَتَأنَّسْ من حيوانِ البَرِّ . والوَحْشُ أيضاً : المكانُ الذي لا أُنْسَ فيه ، ومنه لَقِيْتُه بوَحْشِ إصْمِت ، أي : ببلدٍ قَفْر . والوحشُ : الذي يَبيت جوفُه خالياً من الطعام ، وجمعُه أَوْحاش ، ويُسَمَّى المنسوبُ إلى المكانِ الوَحْشِ : وَحْشِيّ ، وعَبَّر بالوَحْشِيِّ عن الجانبِ الذي يُضادُّ الإِنسيَّ ، والإِنسيُّ ما يُقْبَلُ من الإِنسان ، وعلى هذا وحشيُّ الفَرَس وإنْسِيُّه . وقرأ الحسن وابن ميمون بتشديد الشينِ مِنْ حُشِّرَتْ .
(1/5680)
وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)
قوله : { سُجِّرَتْ } : قرأ ابن كثير وأبو عمروٍ " سُجِرَتْ " بتخفيف الجيم ، والباقون بتثقيلِها على المبالغةِ والتكثيرِ . وتقدَّم اشتقاقُ هذه المادةِ .
(1/5681)
وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)
قوله : { زُوِّجَتْ } : العامَّةُ على تشديد الواوِ مِنْ التزويجِ ، ورُوي عن عاصمٍ " زُوْوِجَتْ " على فُوْعِلَتْ . قال الشيخ : " والمُفَاعَلَةُ تكون بين اثنين " انتهى . قلت : وهي قراءةٌ مُشْكِلَةٌ : لأنه ينبغي أَنْ يُلفَظَ بواوٍ ساكنةٍ أخرى مكسورةٍ . وقد تقدَّم لك أنَّه اجتمع مِثْلان ، وسَكنَ أوَّلُهما وَجَبَ الإِدغام حتى في كلمتين ، ففي كلمةٍ واحدةٍ بطريقِ الأَوْلى .
(1/5682)
وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8)
قوله : { الموءودة } : هي البنتُ تْدْفَنُ حيةً مِنْ الوَأْدِ ، وهو الثِّقَلُ؛ لأنَّها تُثْقَلُ بالترابِ والجَنْدَل . يقال : وَأَدَه يَئِدُهُ كوَعَدَه يَعِدُه . وقال الزمخشري : " وَأَدَ يَئِدُ ، مقلوبٌ مِنْ آد يَؤُوْد إذا أَثْقَلَ . قال اللَّهُ تعالى : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } [ البقرة : 255 ] لأنه إثْقالٌ بالتراب " . قال الشيخ : " ولا يُدَّعى ذلك؛ لأنَّ كلاً منهما كاملُ التصرُّفِ في الماضي والأمرِ والمضارعِ والمصدرِ واسمِ الفاعلِ واسمِ المفعولِ ، وليس فيه شيءٌ مِنْ مُسَوِّغات ادِّعاءِ القَلْبِ . والذي يُعْلَمُ به الأصالةُ مِنْ القَلْب : أَنْ يكونَ أحدُ النَّظْمَيْن فيه حُكْمٌ يَشْهَدُ له بالأصالةِ ، والآخرُ ليس كذلك أو كونُه مجرداً من حروف الزيادة والآخر فيه مزيداً ، وكونُه أكثرَ تصرفاً والآخر ليس كذلك ، أو أكثرَ استعمالاً من الآخرِ ، وهذا على ما قُرِّرَ وأُحْكِمَ في علمِ التصريفِ . فالأول : كيَئِس وأيِسَ . والثاني : كَطَأْمَنْ واطمأنَّ . والثالث : كشوايع وشواعِي . والرابع : كلَعَمْري ورَعَمْلي " .
وقرأ العامَّةُ : " المَوْءُوْدَة " بهمزةٍ بينَ واوَيْن ساكنتَيْن كالمَوْعودة . وقرأ البزيُّ في روايةٍ بهمزةٍ مضمومةٍ ثم واوٍ ساكنةٍ . وفيها وجهان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ كقراءةِ الجماعة ثم نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الواوِ قبلها ، وحُذِفَتِ الهمزةُ ، فصار اللفظُ المَوُوْدَة : واوٌ مضومةٌ ثم أخرى ساكنةٌ ، فقُلبت الواوُ المضمومةُ همزةً نحو : " أُجوه " في وُجوه ، فصار اللفظُ كما ترى ، ووزنُها الآن المَفُوْلة؛ لأنَّ المحذوفَ عينُ الكلمةِ . والثاني : أَنْ تكونَ الكلمةُ اسمَ مفعولٍ مِنْ آدَه يَؤُوده مثلَ : قاده يَقُوده . والأصلُ : مأْوُودة ، مثلَ مَقْوُوْدة ، ثم حَذَفَ إحدى الواوين على الخلافِ المشهورِ في الحَذْفِ مِنْ نحوِ : مَقُوْل ومَصُوْن فوزنُها الآن : إمَّا مَفُعْلَة إنْ قلنا : إنَّ المحذوفَ الواوَ الزائدةُ ، وإمَّا مَفُوْلة إنْ قُلْنا : إنَّ المحذوفَ عينُ الكلمةِ ، وهذا يُظْهِرُ فَضْلَ عِلْمِ التصريفِ .
وقُرِىءَ " المَوُوْدة " بضمِّ الواو الأولى على أنه نَقَل حركةَ الهمزةِ بعد حَذْفِها ولمَ يَقْلِبَ الواوَ همزةً . وقرأ الأعمش " المَوْدَة " بزنةِ المَوْزَة . وتوجيهُه : أنه حَذَفَ الهمزةَ اعتباطاً ، فالتقى ساكنان ، فحَذَفَ ثانيهما ، ووزنُها المَفْلَة؛ لأنَّ الهمزةَ عينُ الكلمةِ ، وقد حُذِفَتْ . وقال مكي : " بل هو تخفيفٌ قياسِيٌّ؛ وذلك أنَّه لمَّا نَقَل حركةَ الهمزةِ إلى الواوِ لم يَهْمِزْها ، فاستثقلَ الضمَّةَ عليها ، فسَكَّنها ، فالتقى ساكنان فحَذَفَ الثاني ، وهذا كلُّه خروجٌ عن الظاهرِ ، وإنما يظهر في ذلك ما نَقَله القُرَّاء في وقفِ حمزةَ : أنه يقفُ عليها كالمَوْزَة . قالوا : لأجل الخطِّ لأنها رُسِمَتْ كذلك ، والرسمُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ .
والعامَّةُ على " سُئِلت " مبنياً للمفعولِ مضمومَ السين . والحسنُ بكسرِها مِنْ سال يَسال كما تقدَّم . وقرأ أبو جعفر " قُتِّلَتْ " بتشديد التاءِ على التكثيرِ؛ لأنَّ المرادَ اسمُ الجنسِ ، فناسبَه التكثيرُ .
وقرأ عليٌّ وابن معسود وابن عباس " سَأَلَتْ " مبنياً للفاعل ، " قُتِلْتُ " بضمِّ التاءِ الأخيرة التي للمتكلم حكايةً لكلامِها . وعن أُبَيّ وابن مسعود أيضاً وابن يعمرَ " سَأَلَتْ " مبنياً للفاعل ، " قُتِلَتْ " بتاءِ التأنيث الساكنةِ كقراءةِ العامة .
(1/5683)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)
قوله : { نُشِرَتْ } : قرأ الأخَوان وابن كثير وأبو عمرو بالتثقيل . والباقون بالتخفيف . ونافعٌ وحفصٌ وابنُ ذكوانَ/ " سُعِّرَتْ " بالتثقيل ، والباقون بالتخفيف .
(1/5684)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
قوله : { عَلِمَتْ } : هذا جوابُ " إذا " أولَ السورةِ وما عُطِفَ عليها .
قوله : { كُشِطَتْ } [ التكوير : 11 ] ، أي : قُشِرَتْ ، مِنْ قولهم : كَشَطَ جِلْدَ الشاةِ ، أي : سَلَخَها . وقرأ عبد الله " قُشِطَتْ " بالقاف ، وقد تقدَّم أنهما يَتعقبان كثيراً ، وأنه قُرِىء " قافوراً " و " كافوراً " في { هَلْ أتى عَلَى الإنسان } .
(1/5685)
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)
قوله : { بالخنس } : جمعُ خانِس ، والخُنُوس : الانقباضُ . يقال : خَنَسَ من القوم وانْخَنَسَ . وفي الحديث : " فانْخَنَسْتُ " ، أي : اسْتَخْفَيْتُ . والخَنَسُ : تأخُّرُ الأَنْفِ عن الشَّفَة مع ارتفاع الأَرْنَبةِ قليلاً . ويقال : رجلٌ أَخْنَسُ وامرأةُ خَنْساءُ . ومنه الخَنساءُ الشاعرة . والخُنَّسُ في القرآن قيل : كواكبُ سبعةٌ : القمران وزُحَلُ والزهرةُ والمُشْتري والمَرِّيخ وعُطارِد . والكُنَّسُ : الدَّاخلة في الكِناس وهو بيتُ الوحشِ . والجواري : جمعُ جارية . وقيل : هي بَقَرُ الوحشِ؛ لأنَّ هذه صفتُها وقيل : الظِّباء ، قالوا : لأنَّ الخَنَسَ يكون فيها .
(1/5686)
وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)
قوله : { عَسْعَسَ } : يقال : عَسْعَسَ وسَعْسَعَ أقبل . قال العَجَّاج :
4512 حتى إذا الصُّبْحُ لها تَنَفَّسا ... وانْجابَ عنها ليلُها وعَسْعَسا
أي : أَدْبَر . وقيل : هو لهما على طريق الاشتراك . وقيل : أَدْبَرَ بلغةِ قريشٍ خاصةً . وقيل : أقبل ظلامُه ، ويُرَجِّحُه مقابلتُه بقولِه { والصبح إِذَا تَنَفَّسَ } وهذا هو قريبٌ من إدْباره .
(1/5687)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)
قوله : { عِندَ ذِي العرش } : يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ل " رسولٍ " ، وأن يكونَ حالاً مِنْ " مَكين " ، وأصلُه الوصفُ ، فلمَّا قُدِّمُ نُصِبَ حالاً .
(1/5688)
مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)
قوله : { ثَمَّ أَمِينٍ } : العامَّةُ على فَتْحِ الثاءِ؛ لأنَّه ظرفُ مكانٍ للبعيدِ . والعاملُ فيه " مُطاعٍ " . وأبو البرهسم وأبو جعفر وأبو حيوة بضمِّها جعلوها عاطفةً ، والتراخي هنا في الرتبةِ؛ لأنَّ الثانية أعظمُ من الأولى .
(1/5689)
وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
قوله : { بِضَنِينٍ } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء بمعنى مُتَّهم ، مِنْ ظنَّ بمعنى اتَّهم فيتعدَّى لواحدٍ . وقيل : معناه بضعيفِ القوةِ عن التبليغ مِنْ قولِهم : " بئرٌ ظَنُوْنٌ " ، أي : قليلةُ الماءِ . وفي مصحفِ عبد الله كذلك ، والباقون بالضاد بمعنى : ببخيلٍ بما يأتيه من قِبَلِ ربِّه ، إلاَّ أنَّ الطبريَّ نَقَلَ أنَّ الضادَ خطوطُ المصاحفِ كلِّها ، وليس كذلك لِما مرَّ ، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها ، وهذا دليلٌ على التمييز بين الحرفين ، خِلافاً لمَنْ يقول : إنه لو وقع أحدُهما مَوْقِعَ الآخرِ لجاز ، لِعُسْرِ معرفتِه . وقد شَنَّعَ الزمخشري على مَنْ يقول ذلك ، وذكر بعضَ المخارج وبعضَ الصفاتِ ، بما لا يَليق التطويلُ فيه . و " على الغيب " متعلقٌ ب " ظَنِين " أو " بضَنِين " .
(1/5690)
فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)
قوله : { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } : " أين " منصوبٌ ب " تَذْهبون " لأنه ظرفٌ مُبْهَمٌ . وقال أبو البقاء : " أي : إلى أين ، فحذف حرفَ الجر كقولك : ذهبتُ الشامَ . ويجوزُ أَنْ يُحْمَلَ على المعنى كأنه قال : أين تؤمنون " . يعني أنه على الحذفِ ، أو على التضمين . وإليه نحا مكي أيضاً ، ولا حاجة إلى ذلك البتة؛ لأنه ظرفُ مكانٍ مبهمٌ لا مُخْتَصٌّ .
(1/5691)
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)
قوله : { لِمَن شَآءَ } : بدلٌ مِنْ " العالمين " بإعادةِ العاملِ ، وعلى هذا فقولُه " أن يَسْتقيمَ " مفعولُ " شاء " ، أي : لمَنْ شاء الاستقامة ، ويجوزُ أَنْ يكونَ " لمَنْ شاء " خبراً مقدماً ، ومفعول " شاء " محذوفٌ ، و " أَنْ يَسْتَقيم " مبتدأ . وقد مَرَّ له نظيرٌ .
(1/5692)
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين } : أي : إلاَّ وقتَ مشيئةِ الله ، وقال مكي : " وأنْ في موضع خفضٍ بإضمارِ الباءِ ، أو في موضعِ نصبٍ بحذفِ الخافضِ " يعني أنَّ الأصلَ : إلاَّ بأَنْ ، وحينئذٍ تكونُ للمصاحبة .
(1/5693)
وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)
قوله : { فُجِّرَتْ } : العامَّةُ على بنائِه للمفعول مثقَّلاً . وقرأ مجاهد مبنياً للفاعل مخففاً ، من الفُجور ، نظراً إلى قولِه : { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } [ الرحمن : 20 ] ، فلمَّا زال البَرْزَخُ بَغَيا . وقرأ مجاهد أيضاً والربيع ابن خُثَيْم والزعفرانيُّ والثوري مبنياً للمفعول مخففاً .
(1/5694)
وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
قوله : { بُعْثِرَتْ } : أي : قُلِبَتْ . يقال : بَعْثَره وبَحْثَرَه بالعين والحاء . قال الزمخشري : " وهما مركبان من البَعْث والبَحْث مضموماً إليهما راءٌ " يعني : أنهما ممَّا اتَّفق معناهما؛ لأنَّ الراءَ مزيدةٌ فيهما إذ ليَسْت مِنْ حروفِ الزيادةِ ، وهذا ك " دَمِث ودِمَثْرٍ ، وسَبِطَ وسِبَطْر . و " عَلِمَتْ " جوابُ " إذا " .
(1/5695)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)
قوله : { مَا غَرَّكَ } : العامَّةُ على " غَرَّك " ثلاثياً و " ما " استفهاميةٌ في محلِّ رفع بالابتداء . وقرأ ابن جبير والأعمش " ما أَغَرَّك " فاحتمل أَنْ تكونَ استفهاميةً ، وأن تكونَ تعجبيةً . ومعنى أغرَّه : أدخله في الغِرَّة أو جعله غارَّاً .
(1/5696)
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)
قوله : { الذي خَلَقَكَ } : يحتمل الإِتباعَ على البدلِ والبيان والنعتِ ، والقطعَ إلى الرفع أو النصبِ .
قوله : { فَعَدَلَكَ } قرأ الكوفيون " عَدَلَك ، مخففاً . والباقون/ مثقلاً . فالتثقيل بمعنى : جَعَلكَ متناسِبَ الأطرافِ ، فلم يجعَلْ إحدى يَدَيْكَ أو رِجْلَيْكَ أطولَ ، ولا إحدى عينَيْك أَوْسَعَ ، فهو من التَّعْديلِ . وقراءةُ التخفيفِ تحتمل هذا ، أي : عَدَلَ بعضَ أعضائِك ببعضٍ . وتحتمل أَنْ تكونَ من العُدولِ ، أي : صَرَفَك إلى ما شاء من الهيئاتِ والأشكالِ والأشباهِ .
(1/5697)
فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
قوله : { في أَىِّ صُورَةٍ } : يجوز فيه أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ يتعلَّقُ ب " رَكَّبَكَ " و " ما " مزيدةٌ على هذا ، و " شاءَ " صفةٌ ل " صورةٍ " ، ولم يَعْطِفْ " رَكَّبَكَ " على ما قبله بالفاءِ ، كما عَطَفَ ما قبلَه بها؛ لأنه بيانٌ لقولِه : " فَعَدَلَكَ " . والتقدير : فَعَدَلَكَ : ركَّبك في أيِّ صورةٍ من الصورِ العجيبةِ الحسنةِ التي شاءها . والمعنى : وَضَعَكَ في صورةٍ اقتضَتْها مَشيئتُه : مِنْ حُسْنٍ وقُبْحٍ وطُولٍ وقِصَرٍ وذُكورةٍ وأُنوثةٍ . الثاني : أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ ، أي : رَكَّبك حاصلاً في بعض الصور . الثالث : أنه يتعلَّقُ بعَدَلَكَ ، نقله الشيخ عن بعض المتأوِّلين ، ولم يَعْتَرِضْ عليه ، وهو مُعْتَرَضٌ : بأنَّ في " أيّ " معنى الاستفهام ، فلها صدرُ الكلام فكيف يعمل فيها ما تقدَّمَها؟
وكأنَّ الزمخشري استشعر هذا فقال : " ويكونُ في " أيّ " معنى التعجبِ ، أي : فَعَدَلَكَ في أيِّ صورةٍ عجيبةٍ " . وهذا لا يَحْسُنُ أَنْ يكونَ مُجَوِّزاً لِتَقَدُّمِ العاملِ على اسمِ الاستفهامِ ، وإنْ دَخَلَه معنى التعجب . ألا ترى أنَّ كيف وأنَّى وإنْ دَخَلهما معنى التعجبِ لا يتقدَّم عاملُهما عليهما . وقد اختلف النحويون في اسم الاستفهام إذا قُصِدَ به الاستثباتُ : هل يجوزُ تقديمُ عاملِه أم لا؟ والصحيح أنه لا يجوزُ ، وكذلك لا يجوز أن يتقدَّمَ عاملُ " كم " الخبريةِ عليها لشَبَهِها في اللفظ بالاستفهاميةِ فهذا أَوْلَى ، وعلى تعلُّقِها ب " عَدَلَكَ " تكون " ما " منصوبةً ب " شاء " ، أي : رَكَّبَكَ ما شاءَ من التركيبِ ، أي : تركيباً حَسَناً ، قاله الزمخشري ، فظاهرُه أنها منصوبةٌ على المصدر .
وقال أبو البقاء : " ويجوز أَنْ تكونَ " ما " زائدةً ، وأَنْ تكونَ شرطيةً ، وعلى الأمرَيْن : الجملةُ نعتٌ ل " صورة " ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : رَكَّبك عليها . و " في " تتعلَّقُ ب " رَكَّبك " . وقيل : لا موضعَ للجملةِ؛ لأن " في " تتعلَّقُ بأحد الفعلَيْن ، والجميعُ كلامٌ واحدٌ ، وإنما تقدُّمُ الاستفهامِ على " ما " هو حَقُّه . قوله : " بأحد الفعلَيْنِ " يعني : شاءَ ورَكَّبك . وتَحَصَّل في " ما " ثلاثةُ أوجهٍ : الزيادةُ ، وكونُها شرطيَّةً ، وحيئنذٍ جوابُها محذوفٌ ، والنصبُ على المصدريةِ ، أي : واقعةٌ موقعَ مصدرٍ .
(1/5698)
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
والعامَّةُ : " يُكَذِّبُون " خطاباً . والحسن وأبو جعفر وشَيْبَةُ بياء الغَيْبة .
(1/5699)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10)
قوله : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ } : يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ حالاً مِنْ فاعل تُكَذِّبون ، أي : تُكَذِّبُون والحالةُ هذه ، ويجوز أَنْ تكونَ مستأنفةً ، أخبرهم بذلك لينزَجِروا .
(1/5700)
يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
قوله : { يَعْلَمُونَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ، وأَنْ يكونَ حالاً من ضمير " كاتبين " ، وأَنْ يكونَ نعتاً ل " جحيم " ، وأَنْ يكونَ مستأنفاً .
(1/5701)
يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15)
قوله : { يَصْلَوْنَهَا } : يجوزُ فيه أَنْ يكونَ حالاً من الضمير في الجارِّ لوقوعِه خبراً ، وأَنْ يكونَ مستأنفاً . وقرأ العامَّةُ " يَصْلَوْنَها " مخففاً مبنياً للفاعل . وابن مقسم مشدَّداً مبيناً للمفعولِ ، وتقدَّم مثلُه .
(1/5702)
يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
قوله : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع " يوم " على أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هو يومُ . وجَوَّز الزمخشري أَنْ يكونَ بدلاً مِمَّا قبلَه ، يعني قولَه : " يومَ الدين " . وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ " يومٌ " مرفوعاً منوناً على قَطْعِه عن الإِضافة ، وجَعَلَ الجملةَ نعتاً له ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : لا يَمْلِكُ فيه . وقرأ الباقون " يومَ " بالفتح . وقيل : هي فتحةُ إعرابٍ ، ونصبُه بإضمار أعني أو يَتجاوزون ، أو بإضمار اذكُرْ ، فيكونُ مفعولاً به ، وعلى رأي الكوفيين يكون خبراً لمبتدأ مضمر ، وإنما بُني لإِضافتِه للفعل ، وإن كان معرباً ، كقولِه { هذا يَوْمُ يَنفَعُ } [ المائدة : 119 ] وقد تقدَّم .
(1/5703)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
قوله : { وَيْلٌ } : مبتدأٌ ، وسَوَّغَ الابتداءَ به كونُه دعاءً . ولو نُصِبَ لجاز . وقال مكي : " والمختارُ في " وَيْل " وشبهِه إذا كان غيرَ مضافٍ الرفعُ . ويجوزُ النصبُ ، فإنْ كانَ مضافاً أو مُعَرَّفاً كان الاختيارُ/ فيه النصبَ نحو : { وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ } [ طه : 61 ] . و " للمُطَفِّفين " خبرُه .
والمُطَفِّفُ : المُنَقِّصُ . وحقيقتُه : الأَخْذُ في كيلٍ ، أو وَزْنٍ ، شيئاً طفيفاً ، أي : نَزْراً حقيراً ، ومنه قولُهم : " دونَ الطَّفيف " ، أي : الشيء التافِه لقلَّتِه .
(1/5704)
الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)
قوله : { عَلَى الناس } : فيه أوجهٌ : أحدُها : أنَّه متعلِّقٌ ب " اكْتالوا " و " على " و " مِنْ " تَعْتَقِبان هنا . قال الفراء : " يقال : اكْتَلْتُ على الناس : استَوْفَيْتُ منهم ، واكْتَلْتُ منهم : أَخَذْتُ ما عليهم " وقيل : " على " بمعنى " مِنْ " . يقال : اكْتَلْتُ عليه ومنه ، بمعنىً ، والأولُ أوضحُ . وقيل : " على " تتعلَّقُ ب " يَسْتَوْفُون " . قال الزمخشري : " لَمَّا كان اكْتِيالُهم اكتيالاً يَضُرُّهُمْ ويُتَحامَلُ فيه عليهم أبدلَ " على " مكانَ " مِنْ " للدلالة على ذلك . ويجوزُ أن تتعلَّقَ ب " يَسْتَوْفون " ، وقدَّم المفعولَ على الفعل لإِفادةِ الخصوصيةِ ، أي : يَسْتَوْفون على الناس خاصةً ، فأمَّا أنفسُهم فَيَسْتَوْفون لها " انتهى . وهو حسنٌ .
(1/5705)
وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
قوله : { كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ } : رُسِمتا في المصحفِ بغير ألفٍ بعد الواوِ في الفعلَيْن ، فمِنْ ثَمَّ اختلفَ الناسُ في " هم " على وجهين ، أحدهما : هو ضميرُ نصبٍ ، فيكونُ مفعولاً به ، ويعودُ على الناس ، أي : وإذا كالُوا الناسَ ، أو وَزَنوا الناسَ . وعلى هذا فالأصلُ في هذَيْن الفعلَيْن التعدِّي لاثنين ، لأحدِهما بنفسِه بلا خِلافٍ ، وللآخرِ بحرفِ الجرِّ ، ويجوزُ حَذْفُه . وهل كلٌّ منهما أصلٌ بنفسِه ، أو أحدُهما أصلٌ للآخر؟ خلافٌ مشهورٌ . والتقدير : وإذا كالوا لهم طعاماً أو وَزَنُوه لهم ، فحُذِف الحرفُ والمفعولُ المُسَرَّح . وأنشد الزمخشريُّ :
4513 ولقد جَنَيْتُكَ أَكْمُؤاً وعَساقِلاً ... ولقد نَهْيْتُك عَن بناتِ الأَوْبَرِ
أي : جَنَيْتُ لك . والثاني : أنه ضميرُ رفعٍ مؤكِّدٍ للواو . والضميرُ عائدٌ على المطففينِ ، ويكونُ على هذا قد حَذَفَ المَكيلَ والمَكيلَ له والموزونَ والموزونَ لهُ . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ رَدَّ هذا ، فقال : " ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ ضميراً مرفوعاً للمطفِّفين؛ لأنَّ الكلامَ يَخْرُجُ به إلى نَظْم فاسدٍ ، وذلك أنَّ المعنى : إذا أخذوا من الناسِ اسْتَوْفُوا ، وإذا أعطَوْهم أَخْسَروا . فإنْ جَعَلْتَ الضميرَ للمطفِّفين انقلبَ إلى قولِك : إذا أخذوا من الناسِ اسْتَوْفَوْا ، وإذا تَوَلَّوا الكيلَ أو الوزنَ هم على الخصوص أَخْسَروا ، وهو كلامٌ مُتَنَافِرٌ؛ لأنَّ الحديثَ واقعٌ في الفعل لا في المباشر " .
قال الشيخ : " ولا تنافُرَ فيه بوجهٍ ، ولا فرقَ بين أَنْ يؤكَّد الضميرُ أو لا يُؤَكَّد ، والحديثُ واقعٌ في الفعل . غايةُ ما في هذا أنَّ متعلقَ الاستيفاء وهو على الناس مذكورٌ ، وهو في { كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ } محذوفٌ للعلم به؛ لأنه من المعلوم أنهم لا يُخْسِرون ذلك لأنفسهم " . قلت : الزمخشريُّ يريدُ أَنْ يُحافظَ على أنَّ المعنى مرتبطٌ بشيئَيْن : إذا أخذوا مِنْ غيرِهم ، وإذا أَعْطَوْا غيرَهم ، وهذا إنما يَتِمُّ على تقديرِ أَنْ يكونَ الضميرُ منصوباً عائداً على الناس ، لا على كونِه ضميرَ رفعٍ عائداً على المطفِّفين ، ولا شكَّ أن هذا المعنى الذي ذكَره الزمخشريُّ وأرادَه أَتَمُّ وأَحسنُ مِنْ المعنى الثاني . ورجَّح الأوّلَ سقوطُ الألفِ بعد الواوِ ، ولأنه دالٌّ على اتصالِ الضميرِ ، إلاَّ أنَّ الزمخشري استدركه فقال : " والتعلُّقُ في إبطالِه بخطِّ المصحفِ وأنَّ الألفَ التي تُكتب بعد واوِ الجمع غيرُ ثابتةٍ فيه ، ركيكٌ لأنَّ خَطَّ المصحفِ لم يُراعِ في كثيرٍ منه حَدَّ المصطلحِ عليه في علمِ الخطِّ ، على أني رأيْتُ في الكتب المخطوطةِ بأيدي الأئمة المُتْقِنين هذه الألفَ مرفوضةً لكونِها غيرَ ثابتةٍ في اللفظِ والمعنى جميعاً؛ لأنَّ الواوَ وحدَها مُعْطِيَةٌ معنى الجَمْع ، وإنما كُتِبت هذه الألفُ تَفْرِقَةً بين واوِ الجمعِ وغيرِها في نحو قولِك : " هم [ لم ] يَدْعُوا " ، و " هو يَدْعُو " ، فمَنْ لم يُثْبِتْها قال : المعنى كافٍ في التفرقةِ بينهما ، وعن عيسى بنِ عمرَ وحمزةَ أنَّها يرتكبان ذلك ، أي : يجعلان الضميرَيْن للمطففين ، ويقفان عند الواوَيْن وُقَيْفَةً يُبَيِّنان بها ما أرادا " .
(1/5706)
ولم يَذْكُر فعلَ الوزنِ أولاً؛ بل اقتصر على الكيلِ ، فقال : " إذا اكْتالوا " ولم يَقُلْ : أو اتَّزَنوا ، كما قال ثانياً : أو وَزَنُوهم . قال الزمخشري : " كأنَّ المطفِّفين كانوا لا يأخذون ما يُكال ويُوْزَنُ إلاَّ بالمكاييلِ دون الموازينِ لتمكُّنهم بالاكتيالِ من الاستيفاءِ والسَّرِقَةِ؛ لأنَّهم يُدَعْدِعُون ويَحْتالون في المَلْء ، وإذا أَعْطَوْا/ كالُوا ووزَنوا لتمكُّنِهم من البَخْسِ في النوعَيْن جميعاً " .
قولُه : " يُخْسِرون " جوابُ " إذا " وهو مُعَدَّىً بالهمزة . يقال : خَسِرَ الرجلُ ، وأَخْسَرْتُه أنا ، فمفعولُه محذوفٌ ، أي : يُخْسِرون الناسَ مَتاعَهم .
(1/5707)
أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
قوله : { أَلا يَظُنُّ } : الظاهرُ أنَّها " ألا " التحضيضيةُ ، حَضَّهم على ذلك ، ويكونُ الظنُّ بمعنى اليقين . وقيل : هل لا النافيةُ دخَلَتْ عليها همزةُ الاستفهامِ .
(1/5708)
يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
قوله : { يَوْمَ يَقُومُ } : يجوزُ نصبُه ب " مَبْعُوثون " ، قاله الزمخشري : أو ب يُبْعَثون " مقدَّراً ، أو على البدلِ مِنْ محلِّ " يوم " ، أو بإضمارِ " أَعْني " ، أو هو مرفوعُ المحلِّ خبراً لمبتدأ مضمرٍ ، أو مجرورٌ بدلاً من " ليومٍ عظيمٍ " ، وإنما بُني في هذَيْن الوجهَيْن على الفتحِ لإِضافتِه للفعل ، وإن كان مضارعاً ، كما هو رأي الكوفيين ، ويَدُلُّ على صحة هذَيْن الوجهين قراءةُ زيدِ بنِ علي " يومُ يقومُ " بالرفعِ ، وما حكاه أبو معاذٍ القارىءُ " يوم " بالجرِّ على ما تقدَّم .
(1/5709)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)
قوله : { لَفِي سِجِّينٍ } : اختلفوا في نون " سِجِّين " . فقيل : هي أصليةٌ . اشتقاقهُ من السِّجْنِ وهو الحَبْسُ ، وهو بناءُ مبالغةٍ ، فسِجِّين من السَّجْنِّ كسِكِّير من السُّكْر . وقيل : بل هي بدلٌ من اللامِ ، والأصلُ : سِجِّيْل ، مشتقاً من السِّجِلِّ وهو الكتابُ . واختلفوا فيه أيضاً : هل هو اسمُ موضعٍ ، أو اسمُ كتابٍ مخصوصٍ؟ وهل هو صفةٌ أو عَلَمٌ منقولٌ مِنْ وصفٍ كحاتِم . وهو مصروفٌ إذ ليس فيه إلاَّ سببٌ واحدٌ وهو العَلَمِيَّةُ ، وإذا كان اسمَ مكانٍ ، فقوله " كتابٌ مَرْقُوْمٌ " : إمَّا بدلٌ منه ، أو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ ، وهو ضميرٌ يعودُ عليه ، وعلى التقديرَيْن فهو مُشْكِلٌ؛ لأنَّ الكتابَ ليس هو المكانَ فقيل : التقدير : هو مَحَلُّ كتابٍ ، ثم حُذِفَ المضافُ . وقيل : التقديرُ : وما أدراك ما كتابُ سِجِّين؟ فالحذفُ ، إمَّا مِنْ الأولِ ، وإمَّا مِنْ الثاني : وأمَّا إذا قُلْنا : إنه اسمٌ ل " كتاب " فلا إشكال .
وقال ابن عطية : " مَنْ قال : إنَّ سِجِّيناً موضعٌ فكتابٌ مرفوعٌ ، على أنه خبرُ " إنّ " والظرفُ الذي هو " لفي سِجِّين " مُلْغَى ، ومَنْ جعله عبارةً عن الخَسارة ، فكتابٌ خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، التقدير : هو كتابٌ ، ويكونُ هذا الكلامُ مفسِّراً لِسِجِّين ما هو؟ " انتهى ، وهذا لا يَصِحُّ البتة؛ إذ دخولُ اللامِ يُعَيِّنُ كونَه خبراً فلا يكونُ مُلْغى . لا يقال : اللامُ تَدْخُلُ على معمولِ الخبرِ فهذا منه فيكونُ مُلْغى؛ لأنه لو فُرِضَ الخبرُ وهو " كتابٌ " عاملاً أو صفتُه عاملةٌ وهو " مرقوم " لامتنعَ ذلك . أمَّا مَنْعُ عملِ " كتابٌ " فلأنَّه موصوف ، والمصدرُ الموصوفُ لا يعمل . وأمَّا امتناعُ عملِ " مرقومٌ " فلأنَّه صفةٌ ، ومعمولُ الصفةِ لا يتقدَّمُ على موصوفِها . وأيضاً فاللامُ إنما تدخُلُ على معمولِ الخبر بشرطِه ، وهذا ليس معمولاً للخبرِ ، فتعيَّنَ أَنْ يكونَ الجارُّ هو الخبرَ ، وليس بملغى . وأمَّا قولُه ثانياً " ويكون هذا الكلامُ مفسِّراً لسِجِّين ما هو " فمُشْكِلٌ؛ لأنَّ الكتابَ ليس هو الخسَارَ الذي جُعِلَ الضميرُ عائداً عليه مُخْبِراً عنه ب " كتابٌ " .
وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : قد أخبر الله تعالى عن كتاب الفجار بأنه في سِجِّين وفَسَّر سِجِّيناً ب " كتاب مرقوم " فكأنه قيل : إنَّ كتابَهم في كتابٍ مرقوم فما معناه؟ قلت : " سِجِّين " كتابٌ جامعٌ ، هو ديوانُ الشرِّ دَوَّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفَرَةِ والفَسَقَةِ من الجنِّ والإِنسِ ، وهو كتابٌ مَسْطورٌ بَيِّنُ الكِتابةِ ، أو مَعْلَمٌ يَعْلَمُ مَنْ رآهُ أنه لا خَيْرَ فيه فالمعنى : أنَّ ما كُتِبَ مِن أعمالِ الفُجَّارِ مُثْبَتٌ في ذلك الديوانِ ، ويُسَمَّى سِجِّيلاً فِعِّيلاً من السَّجْلِ وهو الحَبْسُ والتضييق؛ لأنه سببُ الحِبْسِ والتضييق في جهنم " انتهى .
(1/5710)
كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)
والرَّقْمُ : الخَطُّ . وقيل : الخَتْمُ بلغة حِمْيَرٍ ، والصحيحُ الأولُ . قال : /
4514 سأَرْقُمُ في الماءِ القَراح إليكُمُ ... على بُعْدِكُمْ إنْ كان للماءِ راقِمُ
وتقدَّمت هذه المادةُ في الكهف .
(1/5711)
الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
قوله : { الذين يُكَذِّبُونَ } : يجوزُ فيه الإِتباعُ نعتاً وبدلاً وبياناً ، والقطعُ رفعاً ونصباً .
(1/5712)
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
قوله : { إِذَا } : العامَّةُ على الخبر . والحسن " أإذا " على الاستفهامِ الإِنكاريِّ . والعامَّةُ " تُتْلى " بتَاءين مِنْ فوقُ ، وأبو حيوة وابن مقسم بالياء مِنْ تحتُ؛ لأنَّ التأنيث مجازيٌّ .
(1/5713)
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
قوله : { بَلْ رَانَ } : قد تقدَّم وَقْفُ حفص على " بل " في الكهف . والرَّيْنُ والرانُ الغِشاوة على القلبِ ، كالصَّدأ على الشيءِ الصقيلِ من سيفٍ ومِرْآة ونحوِهما . قال الشاعر :
4515 وكم رانَ مِنْ ذنبٍ على قلبِ فاجِرٍ ... فتابَ مِن الذنبِ الذي ران وانْجَلَى
وأصلُ الرَّيْنِ : الغلبةُ ، ومنه : رانَتِ الخمرُ على عقلِ شاربِها . وران الغَشْيُ على عقل المريض . قال :
4516 . . . . . . . . . . . . رانَتْ به الخَمْ ... رُ . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال الزمخشري : " يقال : ران عليه الذنبُ وغان ، رَيْناً وغَيْناً . والغَيْنُ الغَيْم . ويقال : ران فيه النومُ : رَسَخَ فيه ، ورانَتْ به الخمرُ : ذهَبَتْ به " . وحكى أبو زيد : " رِيْنَ بالرَّجل رَيْناً : فجاء مصدرُه مفتوحَ العين وساكنَها . و " ما كانوا " هو الفاعلُ . و " ما " يُحتمل أَنْ تكونَ مصدريةً ، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ . وأُمِيْلَتْ ألفُ " ران " وفُخِّمَتْ ، فأمالها الأخَوان وأبو بكر وفَخَّمها الباقون ، وأُدغِم لامُ " بل " في الراء وأُظْهِرَتْ .
(1/5714)
كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)
قوله : { عَن رَّبِّهِمْ } : متعلِّقٌ بالخبرِ ، وكذلك " يومئذٍ " . والتنوينُ عوضٌ من جملةٍ تقديرُها ، يومَ إذ يقومُ الناسُ؛ لأنه لم يناسِبْ إلاَّ تقديرُها .
(1/5715)
ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
قوله : { يُقَالُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ القائمُ مقامَ الفاعلِ ما دلَّتْ عليه جملةُ قولِه { هذا الذي كُنتُمْ } . ويجوزُ أَنْ يكونَ الجملةَ نفسَها ، ويجوزُ أَنْ يكونَ المصدرَ ، وقد تقدَّم تحريرُه أولَ البقرة .
(1/5716)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)
قوله : { لَفِي عِلِّيِّينَ } : هو خبر " إنَّ " . وقال ابنُ عطية هنا كما قال هناك ، ويُرَدُّ عليه بما تقدَّم . وعِلِّيُّون جمع عِلِّيّ ، أو هو اسمُ مكانٍ في أعلى الجنة ، وجَرَى مَجْرَى جمع العقلاء فرُفع بالواوِ ونُصِبَ وجُرَّ بالياء مع فوات شرطِ العقل . وقال أبو البقاء : " واحدُهم عِلِّيّ وهو الملك . وقيل : هي صيغةُ الجمع مثلَ عشرين " ثم ذكر نحواً مِمَّا ذَكرَهُ في " سِجِّين " مِنْ الحَذْفِ المتقدِّم . وقال الزمخشري : " عِلِّيُّون : عَلَمٌ لديوانِ الخبر الذي دُوِّن فيه كلُّ ما عَمِلَتْه الملائكةُ وصُلَحاءُ الثقلَيْنِ ، منقولٌ مِنْ جَمْع " عِلِّيّ " فِعِّيل من العُلُو ك " سِجِّين " مِنْ السَّجْن " ، سُميِّ بذلك : إمَّا لأنه سببُ الارتفاعِ ، وإمَّا لأنه مرفوعٌ في السماءِ السابعةِ " . قلت : وتلك الأقوالُ الماضيةُ في " سِجِّين " كلُّها عائدةٌ هنا .
(1/5717)
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
قوله : { يَشْهَدُهُ } : جملةٌ يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ثانيةً ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً .
(1/5718)
تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)
قوله : { تَعْرِفُ } : العامُّةُ على إسنادِ الفعلِ إلى المخاطب ، أي : تَعْرِفُ أنت يا محمدُ ، أو كلُّ مَنْ صَحَّ منه المعرفةُ .
وقرأ أبو جعفر وابن أبي إسحاق وشيبةُ وطلحةُ ويعقوبُ والزعفراني " تُعْرَفُ " مبنياً للمفعول ، " نَضْرَةُ " رَفْعٌ على قيامِها مقَامَ الفاعلِ . وعلي بن زيد كذلك إلاَّ أنَّه بالياءِ أسفلَ لأنَّ التأنيثَ مجازي .
[ وقوله : { يَنظُرُونَ } حالٌ من الضمير المستكنِّ في الخبر أو مستأنف ] [ و " على الأرائك " متعلق ب " يَنْظرون " أو حال من ضميره ، أو حال مِنْ ضمير المستكنّ في الخبر ] .
(1/5719)
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25)
قوله : { مِن رَّحِيقٍ } : الرحيق : الشرابُ الذي لا غِشَّ فيه ، وقيل : أجودُ الخمر . وقال حسان :
4517 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بَرَدى يُصَفِّقُ بالرَّحيقِ السَّلْسَلِ
(1/5720)
خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)
قوله : { خِتَامُهُ } : قرأ الكسائيُّ " خاتَمهُ " بفتح التاءِ بعد الألف . والباقون بتقديمِها على الأف ، فوجهُ قراءةِ الكسائيِّ أنَّه جعله اسماً لِما تُخْتَمُ به الكأسُ بدليلِ قولِه " مَخْتوم " ، ثم بَيَّنَ الخاتَمَ ما هو؟ ورُوِيَ عن الكسائيِّ أيضاً كَسْرُ التاءِ ، فيكونُ كقولِه تعالى : { وَخَاتَمَ النبيين } [ الأحزاب : 40 ] والمعنى خاتَمٌ رائحتُهُ مِسْكٌ ، ووجهُ قراءةِ الجماعةِ أنَّ الخِتامَ هو الطينُ الذي يُخْتَمُ به الشيءُ ، فجُعِل بَدَلَه المِسْكُ . قال الشاعر :
4518 كأنَّ مُشَعْشَعاً مِنْ خَمْرِ بُصْرى ... . . . . . . البُخْتُ مَسْدودَ الخِتامِ
وقيل : خَلْطُه ومِزاجُه . وقيل : خاتِمتُه ، أي : مَقْطَعُ شُرْبِه يَجِدُ فيه الإِنسانُ ريحَ المِسْكِ . والتنافُسُ : المغالبة في الشيء النفيسِ . يقال : نَفِسْتُ به نَفاسَةً ، أي : بَخِلْتُ به ، وأصلُه مِنْ النَّفْس لعِزَّتها .
(1/5721)
وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)
قوله : { مِن تَسْنِيمٍ } : التَّسْنيم اسمٌ لعَيْنٍ في الجنة . قال الزمخشري : " تَسْنْيم عَلَمٌ لَعْينٍ بعينها ، سُمِّيت بالتَّسْنيم الذي هو مصدرُ سَنَمَه : إذا رفعه " . قلت : وفيه نظرٌ؛ لأنه كان مِنْ حَقِّه أن يُمْنَعَ الصرفَ للعَلَمِيَّة والتأنيث ، وإنْ كان مجازياً . ولا يَقْدَحُ في ذلك كونُه مذكَّرَ الأصلِ؛ لأنَّ العِبْرَةَ بحالِ العَلَمَّيةِ . ألا ترى نَصَّهم على أنه لو سُمِّي بزيد امرأةٌ وَجَبَ المَنْعُ ، وإن كان في " هِنْد " وجهان . اللهم إلاَّ أَنْ تقولَ : ذَهَبَ بها مَذْهَبَ الهِنْد ونحوِه ، فيكونَ كواسِط ودابِق .
(1/5722)
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
قوله : { عَيْناً } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه حالٌ ، قاله الزجاج ، يعني مِنْ " تَسْنيم " لأنَّه عَلَمٌ لشيءٍ بعينِه ، إلاَّ أنه يُشْكِل بكونه جامداً . الثاني : أنه منصوبٌ على المدح ، قاله الزمخشري . الثالث : أنها منصوبةٌ ب يُسْقَونْ مقدراً ، قاله الأخفش . وقوله : " يَشْرب " بها ، أي : مِنْها ، أو الباءُ زائدةٌ ، أو ضُمِّن " يَشْربُ " معنى يَرْوي . وتقدَّم هذا مُشْبعاً في سورة الإِنسان .
(1/5723)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)
قوله : { َمِنَ الذين آمَنُواْ } : متعلِّقٌ ب " يَضْحكون " ، أي : مِنْ أجلِهم ، وقُدِّمَ لأجل الفواصلِ . والتغامُز : الرَّمْزُ بالعينِ .
(1/5724)
وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)
قوله : { فَكِهِينَ } : قرأ حفص " فَكِهين " دون ألف . والباقون بها . فقيل : هما بمعنى . وقيل : فكهين : أَشِرين ، وفاكهين : مِنْ التفكُّهِ . وقيل : فكِهين : فَرِحين ، وفاكهين ناعمين . وقيل : فاكهين أصحابُ فاكهةٍ ومِزاج .
(1/5725)
وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)
قوله : { وَإِذَا رَأَوْهُمْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ المرفوعُ للكفار ، والمنصوبُ للمؤمنين ، ويجوزُ العكسُ ، وكذلك الضميران في " أُرْسِلوا عليهم " .
(1/5726)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)
قوله : { فاليوم } : منصوبٌ ب " يَضْحَكون " . ولا يَضُرُّ تقديمُه على المبتدأ؛ لأنَّه لو تقدَّم العاملُ هنا لجاز؛ إذا لا لَبْسَ ، بخلاف " زيدٌ قام في الدار " لا يجوز : في الدار زيدٌ قام .
(1/5727)
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35)
قوله : { عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ } : كما تقدَّم في نظيره .
(1/5728)
هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
قوله : { هَلْ ثُوِّبَ } : يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ الاستفهاميةُ معلِّقةً للنظرِ قبلها ، فتكونَ في محلِّ نصبٍ بعد إسقاطِ الخافض . ويجوز أَنْ تكونَ على إضمارِ القول ، أي : يقولون : هل ثُوِّبَ . وثُوِّبَ ، أي : جُوْزِيَ . يُقال : ثَوَّبه وأثابه . قال الشاعر :
4519 سَأَجْزِيك أو يَجْزيك عني مُثَوِّبٌ ... وحَسْبُك أَنْ يُثْنَى عليك وتُحْمَدَا
وأدغم أبو عمروٍ والكسائيُّ وحمزةُ لامَ " هل " في الثاء . وقوله " ما كانوا " فيه حَذْفٌ ، أي : ثوابَ ما كانوا . و " ما " موصولٌ اسميٌّ أو حرفيٌّ .
(1/5729)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)
قوله : { إِذَا السمآء } : كقولِه : { إِذَا الشمس كُوِّرَتْ } [ التكوير : 1 ] في إضمارِ الفعلِ وعَدَمِه . وفي " إذا " هذه احتمالان ، أحدهما : أَنْ تكونَ شرطيةً . والثاني : أَنْ تكونَ غير شرطيةٍ . فعلى الأول في جوابها خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه " أَذِنَتْ " ، والواوُ مزيدةٌ . الثاني : أنه " فَمُلاقِيه " ، أي : فأنت مُلاقِيْه . وإليه ذهب الأخفش . الثالث : أنَّه { ياأيها الإنسان } على حَذْفِ الفاء . الرابع : أنه { ياأيها الإنسان } أيضاً ، ولكن على إضمارِ القولِ ، أي : يقال : يا أيها الإِنسانُ . الخامس : أنه مقدرٌ تقديرُه : بُعِثْتُمِ . وقيل : تقديرُه : لاقى كلُّ إنسانٍ كَدْحَه . وقيل : هو ما صَرَّح به في سورتَيْ التكوير والانفطار ، وهو قولُه : { عَلِمَتْ نَفْسٌ } [ التكوير : 14 ] ، [ الانفطار : 5 ] قاله الزمخشري ، وهو حسنٌ .
وعلى الاحتمال الثاني فيها وجهان ، أحدُهما : أنها منصوبةٌ مفعولاً بها ، بإضمار اذكرْ . والثاني : أنها مبتدأٌ ، وخبرُها " إذا " الثانية ، والواوُ مزيدةٌ ، تقديرُه : وقتُ انشقاقِ السماءِ وقتُ مَدِّ الأرض ، أي : يقع الأمران في وقتٍ واحد ، قاله الأخفشُ أيضاً . والعاملُ فيها إذا كانت ظرفاً عند الجمهور جوابُها : إمَّا الملفوظُ به ، وإمَّا المقدَّرُ . وقال مكي : " وقيل : العاملُ " انْشَقَّتْ " . وقال ابن عطية : " قال بعضُ النحاة : العامل " انْشَقَّتْ " ، وأبى ذلك كثيرٌ من أئمتهم؛ لأنَّ " إذا " مضافةٌ إلى " انشَقَّتْ " ، ومَنْ يُجِزْ ذلك تَضْعُفْ عنده الإِضافةُ ويَقْوى معنى الجزاء .
وقرأ العامَّةُ " انشَقَّتْ " بتاءِ التأنيث ساكنةً ، وكذلك ما بعده . وقرأ أبو عمرو في روايةِ عُبَيْد بن عقيل بإشمام الكسر في الوقف خاصة ، وفي الوصل بالسكونِ المَحْض . قال أبو الفضل : " وهذا من التغييرات التي تلحق الرويَّ في القوافي . وفي هذا الإِشمام بيانُ أنَّ هذه التاءَ من علامةِ تأنيثِ الفعل للإِناث ، وليسَتْ مِمَّا على ما في الأسماءِ ، فصار ذلك فارقاً بين الاسمِ والفعل فيمَنْ وقَفَ على ما في الأسماء بالتاءِ ، وذلك لغة طيِّىء ، وقد حُمِل في المصاحف بعضُ التاءات على ذلك " .
وقال ابن عطية : " وقرأ أبو عمرو " انشَقَّتْ " يقف على التاء كأنه يُشِمُّها شيئاً من الجرِّ ، وكذلك في أخواتها . قال أبو حاتم : " سمعتُ أعرابياً فصيحاً في بلادِ قيسٍ يكسِرُ هذه التاءات " . وقال ابن خالَويه : " انشَقَّت " بكسر التاء عُبَيْد عن أبي عمرو . قلت : كأنه يريدُ إشمامَ الكسرِ ، وأنه في الوقفِ دونَ الوصل لأنه مُطْلَقٌ ، وغيرُه مقيَّدٌ ، والمقيَّدُ يَقْضي على المطلق . وقال الشيخ : " وذلك أنَّ الفواصلَ تجري مَجْرى القوافي ، فكما أن هذه التاءَ تُكسر في القوافي تُكْسَرُ في الفواصل . ومثالُ كسرِها في القوافي قولُ كثيِّر عَزَّةَ :
4520 وما أنا بالدَّاعي لِعَزَّةَ بالرَّدى ... ولا شامِتٍ إنْ نَعْلُ عَزَّةَ زلَّتِ
وكذلك باقي القصيدة ، / وإجراءُ الفواصلِ في الوقف مُجْرى القوافي مَهْيَعٌ معروفٌ ، كقولِه تعالى : { الظنونا } [ الآية : 10 ] { الرسولا } [ الآية : 66 ] في الأحزاب ، وحَمْلُ الوصلِ على الوقفِ موجودٌ أيضاً .
(1/5730)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2)
قوله : { وَأَذِنَتْ } : عَطْفٌ على " انْشَقَّتْ " ، وقد تقدَّم أنه جوابٌ على زيادةِ الواوِ ، ومعنى " أَذِنَتْ " ، أي : استمعَتْ أَمْرَه . يُقال : أَذِنْتُ لك ، أي : استمَعْتُ كلامَك . وفي الحديث : " ما أَذِن اللَّهُ لشيءٍ إذْنَه لنبيٍّ يتغَنَّى بالقرآن " وقال الشاعر :
4521 صُمٌّ إذا سَمِعوا خيراً ذُكِرْتُ به ... وإن ذُكِرْتُ بسُوْءٍ عندهم أَذِنوا
وقال آخر :
4522 إنْ يَأْذَنُوا رِيْبةً طاروا بها فَرَحاً ... وما هُمُ أَذِنُوا مِنْ صالحٍ دَفَنوا
وقال الجحَّافُ بنُ حكيم :
4523 أَذِنْتُ لكمْ لَمَّا سَمِعْتُ هريرَكُمْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والاستعارةُ المذكورةُ في قولِه تعالى : { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] أو الحقيقةُ عائدٌ ههنا .
قوله : { وَحُقَّتْ } الفاعلُ في الأصلِ هو اللَّهُ تعالى ، أي : حَقَّ اللَّهُ عليها ذلك ، أي : بسَمْعِه وطاعتِه . يُقال : هو حقيقٌ بكذا وتَحَقَّق به ، والمعنى : وحُقَّ لها أَنْ تفعلَ .
(1/5731)
وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)
قوله : { وَإِذَا الأرض مُدَّتْ } : كالأولِ ، وقد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ " إذا " الأولى على زيادةِ الواوِ .
(1/5732)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)
قوله : { كَادِحٌ } : الكَدْحُ : قال الزمخشري : " جَهْدُ النفس [ في العمل ] والكَدُّ فيه ، حتى يُؤَثِّر فيها ، ومنه كَدَح جِلِدَه إذا خَدَشَه . ومعنى " كادِحٌ " ، أي : جاهِدٌ إلى لقاءِ ربِّك وهو الموتُ " . انتهى . وقال ابن مقبل :
4524 وما الدَّهْرُ إلاَّ تارتان فمِنْهما ... أموتُ وأخرى أَبْتغي العيشَ أَكْدَحُ
وقال آخر :
4525 ومَضَتْ بَشاشَةُ كلِّ عيشٍ صالحٍ ... وبَقِيْتُ أكْدَحُ للحياةِ وأَنْصَبُ
وقال الراغب : " وقد يُستعمل الكَدْحُ استعمالَ الكَدْمِ بالأسنان . قال الخليل : الكَدْحُ دونَ الكَدْم " .
قوله : { فَمُلاَقِيهِ } يجوزُ أَنْ يكونَ عطفاً على كادح . والتسبيبُ فيه ظاهرٌ . ويجوز أَنْ يكونَ خبر مبتدأ مضمرٍ ، أي : فأنت مُلاقيه . وقد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ جواباً للشرط . وقال ابنُ عطية : " فالفاءُ على هذا عاطفةٌ جملةَ الكلامِ على التي قبلها . والتقدير : فأنت مُلاقيه " يعني بقوله : " على هذا " ، أي : على عَوْدِ الضميرِ على كَدْحِك . قال الشيخ : " ولا يَتَعَيَّنُ ما قاله ، بل يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ عَطْف المفردات " . والضمير : إمَّا للربِّ ، وإمَّا للكَدْح ، أي : مُلاقٍ جزاءَ كَدْحِك .
(1/5733)
وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)
قوله : { مَسْرُوراً } : حالٌ مِنْ فاعل " يَنْقَلِبُ " . وقرأ زيد بن علي " ويُقْلَبُ " مبنياً للمفعول مِنْ قَلَبه ثلاثياً .
(1/5734)
وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)
قوله : { ويصلى } : قرأ أبو عمرو وحمزةُ وعاصمٌ بفتح الياء وسكونِ الصادِ وتخفيفِ اللام ، والباقون بالضم والفتح والتثقيل . وقد تقدَّم تخريجُ القراءتَيْن في النساء عند قولِه : { وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [ النساء : 10 ] وأبو الأشهب ونافع وعاصم وأبو عمرو في روايةٍ عنهم " يُصْلى " بضمِّ الياء وسكونِ الصاد مِنْ " أَصْلى " .
(1/5735)
إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
قوله : { أَن لَّن } : هذه " أَنْ " المخففةُ كالتي في أول القيامة ، وهي سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْن أو أحدِهما على الخلاف . و " يَحُوْرُ " معناه يَرْجِعُ . يقال : حار يَحُورُ حَوْراً . قال لبيد :
4526 وما المَرْءُ إلاَّ كالشِّهابِ وضَوْءُه ... يَحُوْرُ رَماداً بعد إذ هو ساطعٌ
ويُسْتعمل بمعنى صار فيَرْفع الاسمَ ويَنْصِبُ الخبرَ عند بعضِهم ، وبهذا البيتِ يَسْتَدِلُّ قائِلُه . ومَنْ منع نَصَبَ " رماداً " على الحال . وقال الراغب : " الحَوْرُ التردُّد : إمَّا بالذاتِ وإمَّا بالفكرة . وقولُه تعالى : { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } ، أي : لن يُبْعَثَ . وحار الماءُ في الغَديرِ ، تَرَدَّد فيه . وحار في أمْرِه وتَحَيَّر ، ومنه " المِحْوَرُ " للعُوْدِ الذي تجري عليه البَكَرة لتردُّدِه . وقيل : " نعوذُ بالله من الحَوْرِ بعد الكَوْر " ، أي : مِنْ التردُّد في الأمر بعد المُضِيِّ فيه ، ومحاورةُ الكلام : مراجعتُه " .
(1/5736)
بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
قوله : { بلى } : جوابٌ للنفي في " لن " ، و " إنَّ " جوابُ قسمٍ مقدرٍ .
(1/5737)
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)
قوله : { بالشفق } : قال الراغب : " الشَّفَقُ : اختلاطُ ضوءِ النهارِ بسوادِ الليل عند غُروبِ الشمس . والإِشفاقُ : عنايةٌ مختلِطَةٌ بخوفٍ؛ لأنَّ المُشْفِقَ يحبُّ المُشْفَقَ عليه ، ويَخاف ما يلحقُه ، فإذا عُدِّيَ ب " مِنْ " فمعنى الخوفِ فيه أظهرُ ، وإذا عُدِّي ب " على " فمعنى العنايةِ فيه أظهرُ " . وقال الزمخشري : " الشَّفَقُ : الحُمْرَةُ التي تُرى في الغرب بعد سقوطِ الشمسِ ، وبسقوطِه يخرُجُ وقتُ المغربِ ويَدْخُلُ وقتُ العَتَمَةِ عند عامَّةِ العلماء ، إلاَّ ما يُرْوى عن أبي حنيفةَ في إحدى الروايتَيْن أنه البياضُ وروى أسدُ بن عمرو أنه رَجَعَ عنه . سُمِّي شَفَقاً لرِقَّته ، ومنه الشَّفَقَةُ على الإِنسان : رِقَّةُ القلبِ عليه " . انتهى . والشَّفَقُ شفقان : الشَّفَقُ الأحمر ، والآخر الأبيضُ ، والشَّفَق والشَّفَقَةُ اسمان للإِشفاقِ . قال الشاعر :
4527 تَهْوَى حياتي وأَهْوَى مَوْتَها شَفَقا ... والموتُ أكرَمُ نَزَّالٍ على الحُرَمِ
(1/5738)
وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)
قوله : { وَمَا وَسَقَ } : يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفيةً ، أو نكرةً . ووسَقَ ، أي : جَمَعَ . ومنه " الوَسَقُ " لجماعة الآصُعِ وهو ستون صاعاً . والوِسْق بالكسر الاسمُ ، وبالفتح المصدرُ وطعامٌ مَوْسوق ، أي : مجموعٌ . يقال : وَسَقَه فاتَّسق واسْتَوْسَقَ . ونظيرُ وقوعِ افتعل واستفعل مطاوعَيْن اتِّسَعَ واستَوْسَع . وقيل : وَسَق ، أي : عَمِلَ فيه . قال الشاعر :
4528 فيَوْماً ترانا صالِحِيْنَ وتارةً ... تقومُ بنا كالواسِق المُتَلَبِّبِ
وإبل مُسْتَوسِقَة . قال الراجز : /
4529 إنَّ لنا قَلائِصاً حَقائِقا ... مُسْتَوْسِقاتٍ لو تَجِدْنَ سائَقا
قوله : { إِذَا اتسق } ، أي : امتلأ . قال الفراء : " وهو امتلاؤُه واستواؤُه لياليَ البدر " وهو افتعلَ من الوَسْقِ وهو الضمُّ والجَمْعُ كما تقدَّم . وأَمْرُ فلانٍ مُتِّسِقٌ ، أي : مُجَتَمعُ على ما يَسْتُرُ .
(1/5739)
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)
قوله : { لَتَرْكَبُنَّ } : هذا جوابُ القسم . وقرأ الأخَوان وابن كثير بفتحِ التاءِ على خطابِ الواحد ، والباقون بضمِّها على خطاب الجمع . وتقدَّم تصريفُ مثلِه . فالقراءةُ الأولى رُوْعي فيها : إمَّا خطابُ الإِنسانِ المتقدِّمِ الذِّكْرِ في قوله : { ياأيها الإنسان } [ الانشقاق : 6 ] ، وإمَّا خطابُ غيرِه . وقيل : هو خطابٌ للرسول ، أي : لتركبَنَّ مع الكفارِ وجهادِهم . وقيل : التاءُ للتأنيثِ والفعلُ مسندٌ لضميرِ السماء ، أي : لتركبَنَّ السماءَ حالاً بعد حال : تكون كالمُهْلِ وكالدِّهان ، وتَنْفَطر وتَنشَقُّ . وهذا قولُ ابنِ مسعود . والقراءة الثانيةِ رُوْعِي فيها معنى الإِنسان إذ المرادُ به الجنسُ .
وقرأ عمر " لَيَرْكَبُنَّ " بياء الغَيْبة وضَمِّ الباء على الإِخبار عن الكفار . وقرأ عمر أيضاً وابن عباس بالغَيبة وفتحِ الباء ، أي : لَيركبَنَّ الإِنسانُ . وقيل : ليركبَنَّ القمرُ أحوالاً مِنْ سَرار واستهلال وإبدار . وقرأ عبد الله وابن عباس " لَتِرْكَبنَّ " بكسر حَرْفِ المضارعة وقد تقدَّم تحقيقُه في الفاتحة . وقرأ بعضُهم بفتح حرف المضارعة وكسرِ الباء على إسناد الفعل للنفس ، أي : لَتَرْكَبِنَّ أنت يا نفسُ .
قوله : { طَبَقاً } مفعولٌ به ، أو حالٌ كما سيأتي بيانُه . والطَّبَقُ : قال الزمخشري : " ما طابَقَ غيرَه . يُقال : ما هذا بطَبَقٍ لذا ، أي : لا يطابقُه . ومنه قيل للغِطاء : الطَّبَقُ . وأطباق الثرى : ما تَطابَقَ منه ، ثم قيل للحال المطابقةِ لغيرِها : طَبَقٌ . ومنه قولُه تعالى : { طَبَقاً عَن طَبقٍ } ، أي : حالاً بعد حال ، كلُّ واحدةٍ مطابقةٌ لأختها في الشدَّةِ والهَوْلِ . ويجوز أنْ يكونَ جمعَ " طبقة " وهي المرتبةُ ، مِنْ قولهم : هم على طبقاتٍ ، ومنه " طبَقات الظهر " لفِقارِه ، الواحدةُ طبَقَة ، على معنى : لَتَرْكَبُّنَّ أحوالاً بعد أحوالٍ هي طبقاتٌ في الشدَّة ، بعضُها أرفعُ من بعض ، وهي الموتُ وما بعده من مواطنِ القيامة " انتهى . وقيل : المعنى : لتركبُنَّ هذه الأحوال أمةً بعد أمةٍ . ومنه قولُ العباس فيه عليه السلام :
4530 وأنتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْ ... أرضُ وضاءَتْ بنورِك الطُّرُقُ
تُنْقَلُ مِنْ صالِبٍ إلى رَحِمٍ ... إذا مضى عالَمٌ بدا طَبَقُ
يريد : بدا عالَمٌ آخرُ : فعلى هذا التفسير يكون " طبقاً " حالاً لا مفعولاً به . كأنه قيل : متتابعِين أُمَّةً بعد أُمَّة . وأمَّا قولُ الأقرعِ :
4531 إنِّي امرُؤٌ قد حَلَبْتُ الدهرَ أَشْطُرَه ... وساقَني طبَقاً منه إلى طَبَقِ
فيحتملُ الأمرين ، أي : ساقَني مِنْ حالةٍ إلى أخرى ، أو ساقني من أمةٍ وناس إلى أمةٍ وناسٍ آخرين ، ويكون نصبُ " طَبَقاً " على المعنيَيْن على التشبيه بالظرف ، أو الحال ، أي : منتقلاً . والطَّبَقُ أيضاً : ما طابقَ الشيءَ ، أي : ساواه ، ومنه دَلالةُ المطابقةِ . وقال امرؤ القيس :
4532 دِيْمَةٌ هَطْلاءُ فيها وَطَفٌ ... طَبَقُ الأرضِ تَحَرَّى وتَدُرّ
قوله : { عَن طَبقٍ } في " عن " وجهان ، أحدُهما : أنها على بابها ، والثاني : أنها بمعنى " بَعْدَ " .
(1/5740)
وفي محلِّها وجهان ، أحدهما : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فال " تَرْكَبُنَّ " . والثاني : أنَّها صفةٌ ل " طَبقا " . قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : ما محلُّ " عن طبَق "؟ قلت : النصبُ على أنُّه صفةٌ ل " طبقا " ، أي : طبقاً مجاوزاً لطبق ، أو حالٌ من الضمير في " لتركبُنَّ " ، أي : لتركبُنَّ طبقاً مجاوزِيْن لطبَق أو مجاوزاً أو مجاوزةً على حَسَبِ القراءة " .
وقال أبو البقاء : " وعن بمعنى بَعْدَ . والصحيح أنها على بابِها ، وهي صفةٌ ، أي : طبقاً حاصلاً عن طَبق ، أي : حالاً عن حال . وقيل : جيلاً عن جيل " انتهى . يعني الخلافَ المتقدِّمَ في الطبق ما المرادُ به؟ هل هو الحالُ أو الجيلُ أو الأمةُ؟ كما تقدَّم نَقْلُه ، وحينئذٍ فلا يُعْرَبُ " طَبَقاً " مفعولاً به بل حالاً ، كما تقدَّم ، لكنه لم يَذْكُرْ في " طبقاً " غيرَ المفعولِ به . وفيه نظرٌ لِما تقدَّم مِن استحالتِه معنى ، إذ يصير التقديرُ : لتركَبُنَّ أمةً بعد أمَّةٍ ، فتكون الأمةُ مركوبةً لهم ، وإن كان يَصِحُّ على تأويلٍ بعيدٍ جداً وهو حَذْفُ مضافٍ ، أي : لَتركبُنَّ سَنَنَ أو طريقةَ طبقٍ بعد طبقٍ .
(1/5741)
فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
قوله : { لاَ يُؤْمِنُونَ } : حالٌ ، وقد تقدَّم مثلُه .
(1/5742)
وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21)
قوله : { وَإِذَا قُرِىءَ } : شرطٌ ، و " لا يَسْجُدون " . جوابُه . وهذه الجملةُ الشرطيةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ أيضاً نَسَقاً على ما قبلها ، أي : فمالهم إذا قُرىء عليهم القرآن لا يَسْجُدون؟ .
(1/5743)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22)
قوله : { يُكَذِّبُونَ } : العامَّةُ على ضمِّ الياءِ وفتحِ الكافِ وتشديدِ الدال . والضحَّاك وابنُ أبي عبلة بالفتحِ والإِسكانِ والتخفيفِ/ . وتقدَّمت هاتان القراءتان أولَ البقرة .
(1/5744)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)
قوله : { يُوعُونَ } : هذه هي العامَّةُ مِنْ أَوْعى يُوْعي . وأبو رجاء " يَعُوْن " مِنْ وعى يَعِي .
(1/5745)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
قوله : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ متصلاً ، وأن يكون منقطعاً . هذا إذا كانت الجملةُ مِنْ قولِه : " لهم أَجْرٌ " مستأنفةً أو حاليةً . أمَّا إذا كان الموصولُ مبتدأً ، والجملةُ خبرَه ، فالاستثناء وليس مِنْ قبيلِ استثناءِ المفرداتِ ، ويكونُ من قسمِ المنقطعِ ، أي : لكِن الذين آمنوا لهم كيتَ وكيتَ . وتقدَّم معنى " المَمْنون " في حمِ السجدة .
(1/5746)
قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)
قوله : { قُتِلَ } : هذا جوابُ القسمِ على المختارِ ، وإنما حُذِفَتِ اللامُ ، والأصلُ : لَقُتِلَ ، كقولِ الشاعر :
4533 حَلَفْتُ لها باللَّهِ حَلْفَةَ فاجرٍ ... لَناموا فما إنْ مِنْ حديثٍ ولا صالِ
وإنما حَسُن حَذْفُها للطُّولِ ، كما سيأتي إن شاء اللَّهُ تعالى في قولِه : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] . وقيل : تقديرُه : لقد قُتِلَ ، فحَذَفَ اللامَ وقد ، وعلى هذا فقولُه : " قُتِلَ " خبرٌ لا دُعاءٌ . وقيل بل هي دعاءٌ فلا يكونُ جواباً . وفي الجواب حينئذٍ أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه قولُه : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ } . الثاني : قولُه : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ } قاله المبرد . الثالث : أنه مقدرٌ . فقال الزمخشري : ولم يَذْكُرْ غيرَه " هو محذوفٌ يَدُلُّ عليه { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود } ، كأنه قيل : أُقْسِمُ بهذه الأشياءِ إنَّ كفَّار قريشٍ مَلْعونون كما لُعِنَ أصحابُ الأُخدودِ " ثم قال : " وقُتِل دعاءٌ عليهم ، كقوله : { قُتِلَ الإنسان } [ عبس : 17 ] ، وقيل : التقدير : لَتُبْعَثُنَّ .
وقرأ الحسن وابن مقسم " قُتِّلَ " بتشديدِ التاءِ مبالغةً أو تكثيراً . وقوله : " الموعودِ " ، أي : الموعود به . قال مكي : " الموعود نعتٌ لليوم . وثَم ضميرٌ محذوفٌ يتمُّ الموعودُ به . ولولا ذلك لَما صَحَّتِ الصفةُ؛ إذ لا ضميرَ يعودُ على الموصوفِ مِنْ صفتِه " انتهى . وكأنَّه يعني أن اليومَ موعودٌ به غيرُه من الناس ، فلا بُدَّ مِنْ ضمير يَرْجِعُ إليه ، لأنه موعودٌ به لا موعودٌ . وهذا لا يُحتاج إليه؛ إذ يجوزُ أَنْ يكون قد تَجَوَّزَ بأنَّ اليومَ وَعَدَ بكذا فيصِحُّ ذلك ، ويكونُ فيه ضميرٌ عائدٌ عليه ، كأنَّه قيل : واليومِ الذي وَعَدَ أَنْ يُقْضَى فيه بين الخلائِقِ .
والأُخْدودُ : الشِّقُّ في الأرضِ . قال الزمخشري : " والأخْدودُ : الخَدُّ في الأرضِ ، وهو الشِّقُّ . ونحوُهما بناءً ومعنىً : الخَقُّ والأُخْقُوق ، ومنه : " فساخَتْ قوائمُه في أخاقيقِ جِرْذان " . انتهى . فالخَدُّ في الأصلِ مصدرٌ ، وقد يقعُ على المفعولِ وهو الشِّقُّ نفسُه ، وأمَّا الأخدودُ فاسمٌ له فقط . وقال الراغب : " الخَدُّ والأُخْدُوْدُ شِقٌّ في أرضٍ ، مستطيلٌ غائِصٌ .
وجمع الأخدود : أخاديدُ . وأصلُ ذلك مِن خَدَّيْ الإِنسان ، وهما ما اكتنفا الأَنْفَ عن اليمينِ والشمالِ ، والخَدُّ يُستعار للأرضِ ولغيرها كاستعارةِ الوجهِ ، وتخدُّدُ اللحمِ زَوالُه عن وجهِ الجسم " ثم يُعَبَّرُ بالمُتَخَدِّدِ عن المهزول ، والخِدادُ مِيْسَمٌ في الخَدِّ . وقال غيره : سُمِّيَ الخَدُّ خَدَّاً لأنَّ الدموعَ تَخُدُّ فيه أخاديدَ ، أي : مجاريَ .
(1/5747)
النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)
قوله : { النار } : العامَّةُ على جَرِّها ، وفيه أوجهٌ ، أحدها : أنه بدلٌ من " الأخدود " بدلُ اشتمالٍ؛ لأنَّ الأخدودَ مشتملٌ عليها ، وحينئذٍ فلا بُدَّ فيه من الضميرِ ، فقال البصريون : هو مقدَّرٌ ، تقديرُه : النارِ فيه . وقال الكوفيون : أل قائمةٌ مَقامَ الضميرِ ، تقديرُه : نارِه ثم حُذِفَ الضميرُ ، وعُوِّضَ عنه أل . وتقدَّم البحثُ معهم في ذلك . الثاني : أنه بدلُ كلٍّ مِنْ كل ، ولا بدَّ حينئذٍ مِنْ حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : أُخدودِ النار . الثالث : أنَّ التقديرَ : ذي النار؛ لأنَّ الأخدودَ هو الشِّقُّ في الأرض ، حكاه أبو البقاء ، وهذا يُفْهِمُ أنَّ النارَ خفضٌ بالإِضافةِ لتلك الصفةِ المحذوفة ، فلمَّا حُذِف المضافُ قام المضافُ إليه مَقامَه في الإِعراب ، واتَّفَقَ أنَّ المحذوفَ كان مجروراً ، وقولُه : " لأنَّ الأُخْدودَ هو الشِّقُّ " تعليلٌ لصحةِ كونِه صاحبَ نارٍ ، وهذا ضعيفٌ جداً ، الرابع : أنَّ " النار " خفصٌ على الجوارِ ، نقله مكيٌّ عن الكوفيين ، وهذا يقتضي أنَّ " النار " كانت مستحقةً لغيرِ الجرِّ فعدَلَ عنه إلى الجرِّ للجوارِ . والذي يقتضي الحالَ أنَّه عَدَلَ عن الرفع ، ويَدُلُّ على ذلك أنه قد قُرِىء في الشاذِّ " النارُ " رفعاً ، والرَفعُ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه : قِتْلَتُهم النارُ . وقيل : بل هي مرفوعةً على الفاعليةِ تقديرُه : قَتَلَتْهم النارُ ، أي : أَحْرَقَتْهم ، والمرادُ حينئذٍ بأصحابِ الأخدودِ المؤمنون .
وقرأ العامَّةُ " الوَقود " بفتح الواو ، والحسن وأبو رجاء وأبو حيوة وعيسى بضمِّها ، وتقدَّمت القراءتان وقولُ الناسِ فيهما في أولِ البقرة .
(1/5748)
إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6)
قوله : { إِذْ هُمْ } : العامل في " إذ " إمَّا " قُتِلَ أصحابُ " ، أي : قُتِلوا في هذا الوقتِ . وقيل : " اذكُر " مقدَّراً ، فيكونُ مفعولاً به . ومعنى قُعودِهم عليها : / أي : على ما يَقْرُبُ منها كحافَّتها ، ومنه قولُ الأعشى :
4534 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وباتَ على النارِ النَّدى والمُحَلَّقُ
والضميرُ في " هم " يجوزُ أَنْ يكونَ للمؤمنين ، وأنْ يكونَ للكافرين .
(1/5749)
وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)
قوله : { وَمَا نَقَمُواْ } : العامَّةُ على فتح القافِ ، وزيد بن علي وأبو حيوةَ وابنُ أبي عبلة بكسرِها . وقد تقدَّم معنى ذلك في المائدة .
وقوله : { إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ } كقولِه في المعنى :
4535 ولا عَيْبَ فيها غيرَ شُكْلَةِ عَيْنِها ... كذاك عِتاقُ الطيرِ شُكْلٌ عُيونُها
وكقولِ قيس الرقيات :
4536 ما نَقِموا من بني أُمَيَّةَ إلاَّ ... أنَّهم يَحْلُمُون إنْ غَضِبوا
يعني : أنهم جعلوا أحسنَ الأشياء قبيحاً . وتقدَّم الكلامُ على محلِّ " أَنْ " أيضاً في سورة المائدة .
وقوله : { أَن يُؤْمِنُواْ } أتى بالفعلِ المستقبلِ تنبيهاً على أنَّ التعذيبَ إنما كان لأَجْلِ إيمانِهم في المستقبلِ ، ولو كفروا في المستقبلِ لم يُعَذَّبُوا على ما مضى من الإِيمان .
(1/5750)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)
قوله : { فَلَهُمْ عَذَابُ } : هو خبرُ " إنَّ الذين " ودخلت الفاءُ لِما تضمَّنه المبتدأُ مِنْ معنى الشرطِ ، ولا يَضُرُّ نَسْخُه ب " إنَّ " خلافاً للأخفش . وارتفاع " عذابُ " يجوزُ على الفاعليَّةِ بالجارِّ قبله لوقوعِه خبراً ، وهو الأحسنُ ، وأَنْ يرتفعَ بالابتداء .
(1/5751)
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)
قوله : { الودود } : مبالغةٌ في الوُدِّ . قال ابن عباس : " هو المتودِّدُ لعبادِه بالمغفرة " ، وعن المبرد : " هو الذي لا وَلَدَ له " ، وأنشد :
4573 وأَرْكَبُ في الرَّوْع خَيْفانَةً ... ذَلولَ الجِماحِ لِقاحاً وَدُوْدا
أي : لا ولدَ لها تَحِنُّ إليه . وقيل : هو فَعُول بمعنى مَفْعول كالرَّكوب والحَلُوْب ، أي : يَوَدُّه عبادُه الصالحون .
(1/5752)
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)
قوله : { المجيد } : قرأ الأخَوان بالجرِّ فقيل : نعتاً للعرش . وقيل : نعتاً ل " ربِّك " في قوله : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } [ البروج : 12 ] . قال مكي : " وقيل : لا يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً للعرش؛ لأنه مِنْ صفاتِ اللَّهِ تعالى " . والباقون بالرفع على أنه خبرٌ بعد خبرٍ . وقيل : هو نعتٌ ل " ذو " . واستدلَّ بعضُهم على تعدُّدِ الخبرِ بهذه الآيةِ . ومَنْ مَنَعَ قال : لأنهما في معنى خبرٍ واحدٍ ، أي : جامعٌ بين هذه الأوصافِ الشريفةِ ، أو كلٌّ منها خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ .
(1/5753)
فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)
قوله : { فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً من " الجنود " ، وحينئذٍ فكان ينبغي أَنْ يأتيَ البدلُ مطابقاً للمبدلِ منه في الجمعية فقيل : هو على حَذْفِ مضافٍ ، أي : جنودِ فرعون . وقيل : المرادُ فرعونُ وقومُه ، واسْتَغْنى بذِكْرِه عن ذِكْرِهم؛ لأنهم أتباعُه . ويجوزُ أن يكونَ منصوباً بإضمار أعني؛ لأنَّه لَمَّا لم يُطابق ما قبلَه وجب قَطْعُه .
(1/5754)
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)
قوله : { قُرْآنٌ مَّجِيدٌ } : العامَّةُ على تبعيَّةِ " مَجيد " ل " قرآن " . وقرأ ابن السميفع بإضافةِ " قرآن " ل " مَجيد " فقيل : على حَذْفِ مضافٍ ، أي : قرآنُ ربٍّ مَجيدٍ كقوله :
4538 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولكنَّ الغِنى رَبٌّ غفورُ
أي : غنى رَبٍّ غفورٍ . وقيل : بل هو من إضافةِ الموصوف لصفتِه فتتحدُ القراءتان ، ولكنْ البصريون لا يُجيزون هذه لئلا يلزَمَ إضافةُ الشيءِ إلى نفسِه ، ويتأوّلُون ما وَرَدَ .
(1/5755)
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
قوله : { مَّحْفُوظٍ } : قرأ نافع بالرفع نعتاً ل " قرآن " ، والباقون بالجرِّ نعتاً ل " لوحٍ " . والعامَّةُ على فتح اللام ، وقرأ ابن السَّمَيْفع وابن يعمر بضمِّها . قال الزمخشري : " يعني اللوحَ فوق السماء السابعة الذي فيه اللوحُ محفوظٌ مِنْ وصولِ الشياطين إليه " . وقال أبو الفضل : " اللُّوح : الهواء " وتفسيرُ الزمخشري أمسُّ بالمعنى ، وهو الذي أراده ابن خالويه " .
(1/5756)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)
قوله : { والطارق } : الطارقُ في الأصل اسمُ فاعل مِنْ طَرَقَ يَطْرُقُ طُروقاً ، أي : جاء ليلاً قال :
4539 فمِثْلَكِ حُبْلى قد طَرَقْتُ ومُرْضِعاً ... فألهَيْتُها عن ذي تمائمَ مُحْوِلِ
وأصلُه من الضَّرْبِ . والطارقُ بالحصى الضارِبُ به . قال :
4540 لعَمْرُكَ ما تَدْري الضواربُ بالحصى ... ولا زاجراتُ الطيرِ ما اللَّهُ صانعُ
ثم اتُّسِع فقيل لكلٍ جاء ليلاً : طارِقٌ .
(1/5757)
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)
قوله : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا } : قد تقدَّم في سورةِ هود التخفيفُ والتشديدُ في " لَمَّاً " . فمَنْ خَفَّفها هنا كانت " إنْ " هنا مخففةً من الثقيلة ، و " كلُّ " مبتدأٌ ، واللامُ فارقةٌ ، و " عليها " خبرٌ مقدَّمٌ و " حافظٌ " مبتدأٌ مؤخرٌ ، والجملةُ خبرُ " كل " و " ما " مزيدةٌ بعد اللامِ الفارقةِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ " عليها " هو الخبرَ وحدَه ، و " حافِظٌ " فاعلٌ به ، وهو أحسنُ . ويجوزُ أَنْ يكونَ " كلُّ " متبدأً ، و " حافظٌ " خبرَه ، و " عليها " متعلقٌ به و " ما " مزيدة أيضاً ، هذا كلُّه تفريعٌ على قولِ البصريِين . وقال الكوفيون : " إنْ هنا نافيةٌ ، واللامُ بمعنى " إلاَّ " إيجاباً بعد النفي ، و " ما " مزيدةٌ . وتقدَّم الكلامُ في هذا مُسْتوفى .
وأمَّا قراءةُ التشديدِ فإنْ نافيةٌ ، و " لَمَّا " بمعنى " إلاَّ " ، وتقدَّمَتْ شواهدُ ذلك مستوفاةً في هود . وحكى هارونُ أنه قُرِىءَ هنا " إنَّ " بالتشديدِ ، " كلَّ " بالنصب على أنَّه اسمُها ، واللامُ هي الداخلةُ في الخبرِ ، و " ما " مزيدةٌ و " حافظٌ " خبرُها ، وعلى كلِّ تقديرِ فإنْ وما في حَيِّزِها جوابُ القسمِ سواءً جَعَلها مخففةً أو نافيةً . وقيل : الجواب { إِنَّهُ على رَجْعِهِ } ، وما بينهما اعتراضٌ . وفيه بُعْدٌ .
(1/5758)
خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)
قوله : { دَافِقٍ } : قيل : فاعِل بمعنى مَفْعول كعكسِه في قولهم : " سيلٌ مُفْعَم " ، وقولِه تعالى : { حِجَاباً مَّسْتُوراً } [ الإِسراء : 45 ] على وجهٍ . وقيل : دافق على النسبِ ، أي : ذي دَفْقٍ أو انْدِفاق . وقال ابن عطية : " يَصِحُّ أَنْ يَكونَ الماءُ دافقاً؛ لأنَّ بعضَه يَدْفُقُ بعضاً ، أي : يدفعه فمنه دافِق ، ومنه مَدْفوق " انتهى . والدَّفْقُ : الصَّبُّ/ ففِعْلُه متعدٍّ . وقرأ زيدُ ابنُ علي " مَدْفُوقٍ " وكأنه فَسَّر المعنى .
(1/5759)
يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)
قوله : { والترآئب } : جمع تَريبة . وهي مَوْضِعُ القِلادةِ من عظامِ الصدرِ؛ لأنَّ الولدَ مخلوقٌ مِنْ مائهما ، فماءُ الرجل في صُلْبه ، والمرأةُ في ترائبِها ، وهو معنى قولِه : { مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } بالإِنسان : 2 ] . وقال الشاعر :
4540 مُهَفْهَفَةٌ بيضاءُ غيرُ مُفاضَةٍ ... تَرائِبُها مَصْقُولةٌ كالسَّجَنْجَلِ
وقال :
4541 والزَّعْفَرانُ على ترائبِها ... شَرِقَتْ به اللَّبَّاتُ والنَّحْرُ
وقال أبو عبيدة : " جمع التَّريبة تريب " . قال :
4542 ومِنْ ذَهَبٍ يَذُوْبُ على تَرِيْبٍ ... كلَوْنِ العاجِ ليس بذي غُضونِ
وقيل : الترائبُ : التَّراقي . وقيل : أضلاعُ الرجلِ التي أسفلَ الصُّلْب . وقيل : ما بين المَنْكِبَيْن والصَّدْرِ . وعن ابن عباس : هي أطرافُ المَرْءِ يداه وِرجْلاه وعيناه . وقيل : عُصارةُ القلبِ . قال ابن عطية : " وفي هذه الأقوالِ تَحَكُّمٌّ في اللغة " .
وقرأ العامَّةُ " يَخْرُج " مبنياً للفاعل . وابنُ أبي عبلة وابن مقسم مبنياً للمفعول . وقرأ أيضاً وأهلُ مكة " الصُّلُب " بضم الصاد واللام ، واليمانيُّ بفتحهما ، وعليه قولُ العَجَّاج :
4543 في صَلَبٍ مِثْلِ العِنانِ المُؤْدَمِ ... وتَقَدَّمَتْ لغاتُه في سورة النساء . وأَغْرَبُها " صالِب " كقوله :
4544 . . . . . . . . . . . . . مِنْ صالِبٍ إلى رَحِمٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1/5760)
إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)
قوله : { إِنَّهُ } : الضميرُ للخالقِ المدلولِ عليه بقوله : " خُلِقَ " لأنه معلومٌ أَنْ لا خالقَ سواه .
قوله : { على رَجْعِهِ } في الهاء وجهان ، أحدُهما : أنه ضميرُ الإِنسانِ ، أي : على بَعْثِه بعد موتِه . والثاني : أنه ضميرُ الماءِ ، أي : يُرْجِعُ المنيَّ في الإِحليلِ أو الصُّلْبِ .
(1/5761)
يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)
قوله : { يَوْمَ تبلى } : فيه أوجهٌ . وقد رتَّبها أبو البقاء على الخلافِ في الضمير فقال على القولِ بكونِ الضميرِ للإِنسان : " فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه معمولٌ ل " قادر " . إلاَّ أنَّ ابنَ عطية قال بعد أن حكى أوجهاً عن النحاةِ قال : " وكل هذه الفِرَقِ فَرَّتْ من أَنْ يكونَ العاملُ " لَقادِرٌ " لئلا يظهرَ من ذلك تخصيصُ القدرةِ بذلك اليومِ وحدَه " ثم قال : " وإذا تُؤُمِّل المعنى وما يَقْتَضِيه فصيحُ كلامِ العربِ جازَ أَنْ يكونَ العاملُ " لَقادر " لأنَّه إذا قَدَرَ على ذلك في هذا الوقتِ كان في غيره أقدرَ بطريق الأَوْلى . الثاني : أن العاملَ مضمرٌ على التبيين ، أي : يَرْجِعه يومَ تُبْلى . الثالث : تقديره : اذكُرْ ، فيكونُ مفعولاً به . وعلى عَوْدِه على الماء يكونُ العاملُ فيه اذكُرْ " انتهى ملخصاً .
وجَوَّزَ بعضُهم أَنْ يكون العاملُ فيه " ناصرٍ " . وهو فاسدٌ لأنَّ ما بعد " ما " النافيةِ وما بعد الفاءِ لا يعملُ فيما قبلَهما . وقيل : العامل فيه " رَجْعِه " . وهو فاسدٌ لأنه قد فصل بين المصدرِ ومعمولِه بأجنبيّ وهو الخبرُ ، وبعضُهم يَغْتَفِرُه في الظرف .
(1/5762)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11)
قوله : { ذَاتِ الرجع } : قيل : هو مصدرٌ بمعنى : رجوعِ الشمس والقمر إليها . وقيل : المطر كقولِه يصفُ سيفاً :
4545 أبيضُ كالرَّجْعِ رَسوبٌ إذا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
كما سُمِّي أَوْباً كقولِه :
4546 رَبَّاءُ شَمَّاءُ لا يَأْوي لِقُلَّتِها ... إلاَّ السَّحابُ وإلاَّ الأَوْبُ والسَّبَلُ
(1/5763)
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13)
قوله : { إِنَّهُ } : جوابُ القسمِ في قوله : " والسَّماءِ " . والهَزْلُ : ضدُّ الجَدِّ والتشميرِ في الأمر . قال الكُميت :
4547 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يُجَدُّ بنافي كلِّ يومٍ ونَهْزِلُ
والضمير في " إنَّه " للقرآن . وقيل : للكلامِ المتقدَّمِ الدالِّ على البعث والنشور .
(1/5764)
فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
قوله : { أَمْهِلْهُمْ } : هذه قراةُ العامَّة ، لَمَّا كرَّر الأمرَ توكيداً خالَفَ بين اللفظَيْن . وعن ابن عباس " مَهِّلْهُمْ " كالأولِ . والإِمهالُ والتمهيلُ الانتظارُ . يقال : أَمْهَلْتُك كذا ، أي : انتظرتُك لِتَفْعَلَه . والمَهْلُ : الرِّفْقُ والتُّؤَدَةُ .
قوله : { رُوَيْداً } مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى العامل ، وهو تصغيرُ إرْواد على الترخيم . وقيل : بل هو تصغيرُ " رُوْدِ " ، وأنَشد :
4548 تكادُ لا تَثْلِمُ البَطْحاءُ وَطْأتَه ... كأنَّه ثَمِلٌ يَمْشي على رُوْدِ
واعلَمْ أنَّ رُوَيْداً يُستعمل مصدراً بدلاً من اللفظِ بفعلِه ، فيُضاف تارةً كقوله : { فَضَرْبَ الرقاب } [ محمد : 4 ] ولا يُضافُ أخرى نحو : رويداً زيداً [ ويُستعمل اسمَ فعلٍ فلا يُنَوَّن ، بل يبنى على الفتح نحو : رُوَيْداً زيداً ] ويقع حالاً نحو : ساروا رُوَيْدا ، أي : متمهِّلين ، ونعتاً لمصدر محذوف نحو : " ساروا رُوَيْداً " ، أي : سَيْراً رويداً . وهذه الأحكامُ لها موضوعٌ هو أَلْيَقُ بها .
(1/5765)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)
قوله : { الأعلى } : يجوزُ جَرُّه صفةً ل " ربِّك " ، ونصبُه صفةً لاسم . إلاَّ أنَّ هذا يمنعُ أَنْ يكونَ " الذي " صفةً ل " ربِّك " ، بل يتعيَّنُ جَعْلُه نعتاً ل " اسم " ، أو مقطوعاً ، لئلا يلزمَ الفصلُ بين الصفة والموصوفِ بصفةِ غيرِه؛ إذ يصيرُ التركيبُ مثلَ قولِك : " جاءني غلامُ هندٍ العاقلُ الحسنةِ " فيُفْصَلُ بالعاقل بين " هند " وبين صفتِها . وتقدَّم الكلامُ في إضافةِ الاسمِ إلى المُسَمَّى .
(1/5766)
وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)
قوله : { قَدَّرَ } : قرأ الكسائيُّ بتخفيفِ الدالِ ، والباقون بالتشديد . وقد تقدَّمَتْ القراءتان في المرسلات .
(1/5767)
فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)
قوله : { غُثَآءً } : إمَّا مفعولٌ ثانٍ ، وإمَّا حالٌ . والغُثاء بتشديد الثاء وتخفيفِها وهو الفصيحُ / ما يُقَدِّمُه السَّيْلُ على جوانبِ الوادي من النباتِ ونحوِه . قال امرؤ القيس :
4549 كأنَّ ذُرا رأسِ المُجَيْمِرِ غُدوةً ... من السَّيْلِ والغُثَّاء فَلْكَةُ مِغْزَلِ
ورواه الفراءُ " والأَغْثاء " على الجمعِ . وفيه غرابةٌ من حيث جَمَعَ فُعالاً على أفْعال .
قوله : { أحوى } فيه وجهان ، أظهرُهما : أنَّه نعتٌ ل " غُثاء " . والثاني : أنه حالٌ من " المَرْعَى " . قال أبو البقاء : " قَدَّم بعضَ الصلةِ " . قلت : يعني أنَّ الأصلَ أخرجَ المرعى أَحْوى فجعله غثاءً ، ولا يُسَمَّى هذا تقديماً لبعضِ الصلةِ . والأحْوى : أَفْعَلُ مِنْ الحُوَّة وهي سَوادٌ يَضْرِبُ إلى الخُضْرة . قال ذو الرَّمة :
4550 لَمْياءُ في شَفَتَيْها حَوَّةٌ لَعَسٌ ... وفي اللِّثاتِ وفي أَنْيابِها شَنَبُ
وقد تقدَّم لك أنَّ بعضَ النحاةِ اسْتَدَلَّ على وجودِ بدلِ الغَلَطِ بهذا البيت . وقيل : خُضرةٌ عليها سوادٌ . والأَحْوى : الظَّبْيُ؛ لأنَّ في ظهره خُطَّتَيْن . قال :
4551 وفي الحَيِّ أَحْوَى يَنْفُضُ المَرْدَ شادِنٌ ... مُظاهِرُ سِمْطَيْ لُؤْلُؤٍ وزَبَرْجَدِ
ويقال : رجلٌ أَحْوَى وامرأةٌ حَوَّاء . وجَمْعُهما حُوٌّ ، نحو : أحمر وحمراءُ وحُمْر .
(1/5768)
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6)
{ فَلاَ تنسى } : قيل : هو نَفْيٌ ، أخبر تعالى أنَّ نبيَّه عليه السلام لا يَنْسَى . وقيل : نهيٌّ ، والألفُ إشباعٌ ، وقد تَقَدَّم نحوٌ مِنْ هذا في يوسف وطه . ومنع مكي أَنْ يكونَ نهياً لأنه لا يُنْهَى عمَّا ليس باختيارِه . وهذا غيرُ لازمٍ؛ إذ المعنى : النهيُ عن تعاطي أسبابِ النسيانِ ، وهو شائعٌ .
(1/5769)
إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)
قوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ الله } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه مفرغٌ ، أي : إلاَّ ما شاءَ الله أن يُنْسِيَكَهُ فإنك تَنْساه . والمرادُ رَفْعُ تلاوتِه . وفي الحديث : " أنه كان يُصبح فينسَى الآياتِ لقولِه : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } [ البقرة : 106 ] . وقيل : إنَّ المعنى بذلك القِلَّةُ والنُّدْرَةُ ، كما رُوِيَ " أنه عليه السلام أسقطَ آيةً في صلاتِه ، فحسِب أُبَيٌّ أنها نُسِخَتْ ، فسأله فقال : " نَسِيْتُها " " وقال الزمخشري : " الغَرَضُ نَفْيُ النِّسْيان رَأْساً ، كما يقول الرجل لصاحبه : أنت سَهِيْمي فيما أَمْلِكُ إلاَّ ما شاء اللَّهُ ، ولم يَقْصِدْ استثناءَ شيءٍ ، وهو مِنْ استعمالِ القلَّة في معنى النفي " انتهى . وهذا القولُ سبقَه إليه الفراء ومكي . وقال الفراء وجماعة معه : " هذا الاستثناءُ صلةٌ في الكلام على سنةِ الله تعالى في الاستثناء . وليس [ ثم ] شيءٌ أُبيح استثناؤُه " . قال الشيخ : " هذا لا يَنْبغي أَنْ يكونَ في كلامِ اللَّهِ تعالى ولا في كلامٍ فصيحٍ ، وكذلك القولُ بأنَّ " لا " للنهي ، والألفَ فاصلةٌ " انتهى . وهذا الذي قاله الشيخُ لم يَقْصِدْه القائلُ بكونِه صلةً ، أي : زائداً مَحْضاً بل المعنى الذي ذكره ، وهو المبالغةُ في نَفْي النسيانِ أو النهي عنه .
وقال مكي : " وقيل : معنى ذلك ، إلاَّ ما شاء الله ، وليس يشاءُ اللَّهُ أَنْ يَنْسَى منه شيئاً ، فهو بمنزلةِ قولِه في هود في الموضعَيْنِ : خالِدِيْنَ فيها ما دامَتِ السماواتُ والأرضُ إلاَّ ما شاء ربُّك " وليس جَلَّ ذِكْرُه تَرَكَ شيئاً من الخلودِ لتقدُّمِ مَشيئتِه بخُلودِهم " . وقيل : هو استثناءٌ مِنْ قولِه { فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى } . نقله مكي . وهذا يَنْبغي أَنْ لا يجوزَ البتة .
قوله : { وَمَا يخفى } " ما " اسميةٌ . ولا يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً لئلا يَلْزَمَ خُلُوُّ الفعلِ مِنْ فاعل . ولولا ذلك لكان المصدريةُ أحسنَ لِيُعْطَفَ مصدرٌ مؤولٌ على مثلِه صريح .
(1/5770)
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8)
قوله : { وَنُيَسِّرُكَ } : عَطْفٌ على " سَنُقْرِئُك " فهو داخلٌ في حَيِّزِ التنفيسِ ، وما بينهما مِنْ الجملةِ اعتراض .
(1/5771)
فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9)
قوله : { إِن نَّفَعَتِ } : " إنْ " شرطيةٌ . وفيه استبعادٌ لتذكُّرِهم . ومنه :
4552 لقد أَسْمَعْتَ لو نادَيْتَ حَيَّاً ... ولكنْ لا حياةَ لمَنْ تُنادي
وقيل : " إنْ " بمعنى إذْ كقولِه : { وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ } [ آل عمران : 139 ] . وقيل : هي بمعنى " قد " ذكَرَه ابنُ خالويه ، وهو بعيدٌ جداً . وقيل : بعده شيءٌ محذوفٌ تقديرُه : إنْ نَفَعَتِ الذكرى وإن لم تنفَعْ ، قاله الفراء . والنحاس والجرجاني والزهراوي .
(1/5772)
وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11)
قوله : { وَيَتَجَنَّبُهَا } : أي : الذكرى .
(1/5773)
ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
قوله : { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ } : " ثم " للتراخي بين الرُّتَبِ في الشدة .
(1/5774)
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16)
قوله : { بَلْ تُؤْثِرُونَ } : قرأ أبو عمرو بالغيبة ، والباقون بالخطاب ، وهما واضحتان .
(1/5775)
وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)
قوله : { وأبقى } : أي : مِنْ الدنيا .
(1/5776)
إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18)
قوله : { لَفِي الصحف } : قرأ أبو عمرو في روايةِ الأعمش وهارون بسكون الحاء في الحرفين ، وهو واضحٌ أيضاً .
(1/5777)
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
قوله : { إِبْرَاهِيمَ } : قرأ العامَّة بألفٍ بعد الراء وياءٍ بعد الهاء ، وأبو رجاء بحَذْفهما ، والهاءُ مفتوحةٌ أو مكسورةٌ فعنه قراءتان . وأبو موسى وابن الزبير بألفَيْن وكذا في كلِّ القرآنِ ، ومالك ابن دينار بألفٍ بعد الراء فقط ، والهاءُ مفتوحةٌ ، وعبد الرحمن بن أبي بكر " وإبْرَاهيم " بحذف الألفِ وكسرِ الهاءِ . وقال ابنُ خالويه : " وقد جاء " إبْراهُم " يعني بألفٍ وضمِّ الهاءِ . وقد تقدَّم الكلامُ على هذا الاسمِ الكريمِ ولغاتِه مستوفى في البقرة .
(1/5778)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)
قوله : { هَلْ أَتَاكَ } : هو استفهامٌ على بابِه ، ويُسَمِّيه أهلُ البيانِ " التشويق " . وقيل : / بمعنى قد ، وقد تقدَّم شَرْحُ هذا في { هَلْ أتى عَلَى الإنسان } [ الإِنسان : 1 ] .
(1/5779)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)
قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ } : قد تقدَّم نظيرُه في القيامة وفي النازعات . والتنوينُ في " يومئذٍ " عوضٌ مِنْ جملةٍ مدلولٍ عليها باسمِ الفاعلِ من الغاشية تقديره : يومَ إذ غَشِيَتْ الناسَ؛ إذ لا تتقدَّمُ جملةٌ مُصَرَّحٌ بها . و " خاشعة " وما بعدَه صفةٌ ، و " تَصْلى " هو الخبرُ . وقرأ أبو عمروٍ وأبو بكر بضمِّ التاء مِنْ " تَصْلَى " على ما لم يُسَمَّ فاعلُه . والباقون بالفتح على تسميةِ الفاعل . والضمير على كلتا القراءتين للوجوه . وقرأ أبو رجاءٍ بضمِّ التاءِ وفتح الصادِ وتشديدِ اللام . وقد تقدَّم معنى ذلك كله في الانشاق والنساءَ .
وقرأ ابنُ كثير في روايةٍ وابنُ محيصن " عاملةً ناصبةً " بالنصب : إمَّا على الحالِ ، وإمَّا على الذمِّ .
(1/5780)
تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)
قوله : { آنِيَةٍ } : صفةٌ ل " عَيْنٍ " أي : حارَّة ، أي : التي حَرُّها مُتناهٍ في الحرِّ كقولِه : { وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 44 ] . وأمالها هشامٌ؛ لأنَّ الألفَ غيرُ منقلبةٍ عن غيرِها ، بل هي أصلٌ بنفسِها ، وهذا بخلافِ " آنِيَة " في سورة الإِنسان ، فإنَّ الألفَ هناك بدلٌ مِنْ همزة ، إذ هو جمعُ إناء ، فوزنُها هنا فاعلِة ، وهناك أَفْعِلَة ، فاتَّحد اللفظُ واختلفَ التصريفُ ، وهذا مِنْ محاسنِ علمِ التصريف .
(1/5781)
لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)
قوله : { ضَرِيعٍ } : هو شجرٌ في النار . وقيل : حجارةٌ . وقيل : هو الزَّقُّوم . وقال أبو حنيفة : " هو الشِّبْرِقُ ، وهو مَرْعى سَوْءٍ ، لا تَعْقِدُ عليه السائمةُ شَحْماً ولا لَحْماً . قال الهذليُّ :
4553 وحُبِسْنَ في هَزْمِ الضَّريعِ فكلُّها ... حَدْباءُ دامِيَةُ الضُّلوعِ حَرُوْدُ
وقال أبو ذؤيب :
4554 رَعَى الشِّبْرِقٌ الريَّانَ حتى إذا ذَوَى ... وعادَ ضَريعاً نازَعَتْه النَّحائِصُ
وقيل : هو يَبيس العَرْفَجِ إذا تَحَطَّم . وقال الخليل : " نبتٌ أخضرُ مُنْتِنُ الريح يَرْمي به البحرُ . وقيل : نبتٌ يُشبه العَوْسَج . والضَّراعةُ : الذِّلَّةُ والاستكانةُ مِنْ ذلك .
(1/5782)
لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
قوله : { لاَّ يُسْمِنُ } : قال الزمخشري : " مرفوعُ المحلِّ أو مجرورهُ على وصفِ طعامٍ أو ضَريع " . قال الشيخ : " إمَّا وَصْفُه ل ضريعٍ ، فيصِحُّ؛ لأنه مثبتٌ نفى عنه السِّمَنَ والإِغناءَ من الجوع . وأمَّا رفعُه على وصفِه لطعام فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ الطعامَ منفيٌّ و " يُسْمِنُ " منفيٌّ فلا يَصِحُّ تركيبُه؛ لأنه يَصيرُ التقدير : ليس لهم طعامٌ لا يُسْمِنُ ولا يُغني مِنْ جمعٍ إلاَّ مِنْ ضريع ، فيصير المعنى : أنَّ لهم طعاماً يُسْمِنُ ويُغْني من جوعٍ إلاَّ مِنْ غيرِ الضَّريع ، كما تقول : " ليس لزيدٍ مالٌ لا يُنتفع به إلاَّ مِنْ مال عمروٍ " فمعناه : أنَّ له مالاً يُنتفع به مِنْ غيرِ مالِ عمروٍ " . قلت : وهذا لا يَرِدُ لأنه على تقدير تَسْليم القول بالمفهوم مَنَعَ منه مانعٌ وهو السياقُ ، وليس كلُّ مفهوم معمولاً به . وأمَّا المثالُ الذي نظَّر به فصحيحٌ ، لكنه لا يمنع منه مانعٌ كالسِّياق في الآيةِ الكريمة . ثم قال الشيخ : " ولو قيل : الجملةُ في موضعِ رفع صفةً للمحذوفِ المقدَّرِ في " إلاَّ مِنْ ضريعٍ " كان صحيحاً؛ لأنه في موضعِ رفعٍ ، على أنَّه بدلٌ من اسم ليس ، أي : ليس لهم طعامٌ إلاَّ كائنٌ مِن ضَريعٍ ، أو إلاَّ طعامٌ مِنْ ضريعٍ غيرِ مُسَمِّنٍ ولا مُغْنٍ مِنْ جوعٍ ، وهذا تركيبٌ صحيحٌ ومعنى واضحٌ " .
وقال الزمخشري أيضاً : " أو أُريد أَنْ لا طعامَ لهم أصلاً؛ لأنَّ الضَّريعَ ليس بطعامٍ للبهائمِ فضلاً عن الإِنس؛ لأنَّ الطعامَ ما أَشْبَع أو أَسْمَنَ ، وهو عنهما بمَعْزِلٍ كما تقول : " ليس لفلانٍ ظلٌّ إلاَّ الشمسُ " تريد نَفْيَ الظلِّ على التوكيد " . قال الشيخ : " فعلى هذا يكونُ استثناءً منقطعاً ، إذ لم يندَرِجْ الكائنُ مِن الضَّريع تحت لفظِ " طعام " إذ ليس بطعامٍ ، والظاهرُ الاتصالُ فيه وفي قولِه { وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } [ الحاقة : 36 ] قلت : وعلى قولِ الزمخشري المتقدمِ لا يَلْزَمُ أَنْ يكونَ منقطعاً؛ إذ المرادُ نفيُ الشيءِ بدليلِه ، أي : إن كان لهم طعامٌ فليس إلاَّ هذا الذي لا يَعُدُّه أحدٌ طعاماً ومثلُه " ليس له ظلٌّ إلاَّ الشمسُ " وقد مضى تحقيقُ هذا عند قولِه : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى } [ الدخان : 56 ] وقوله :
4555 ولا عَيْبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهُمْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومثله كثيرٌ .
(1/5783)
لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)
قوله : { لاَّ تَسْمَعُ } : قرأ ابن كثير وأبو عمروٍ بالياء/ من تحتُ مضمومةً على ما لم يُسَمَّ فاعلُه ، " لاغِيةٌ " رفعاً لقيامِه مقامَ الفاعلِ . وقرأ نافع كذلك ، إلاَّ أنَّه بالتاء مِنْ فوقُ ، والتذكيرُ والتأنيثُ واضحان؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ . وقرأ الباقون بفتح التاءِ مِنْ فوقُ ونصبِ " لاغيةً " ، فيجوزُ أَنْ تكونَ التاءُ للخطابِ ، أي : لا تَسْمع أنت ، وأنْ تكونَ للتأنيثِ ، أي : لا تسمعُ الوجوهُ . وقرأ المفضل والجحدريُّ " لا يَسْمَعُ " بياء الغَيْبة مفتوحةً ، " لاغيةً " نصباً ، أي : لا يَسْمَعُ فيها أحدٌ .
ولاغِيَة يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ل كلمةٍ على معنى النسبِ ، أي : ذات لغوٍ أو على إسنادِ اللَّغْوِ إليها مجازاً ، وأَنْ تكونَ صفةً لجماعة ، أي : جماعة لاغية ، وأَنْ تكونَ مصدراً كالعافِية والعاقِبة كقولِه : { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } [ الواقعة : 25 ] .
(1/5784)
وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)
قوله : { وَنَمَارِقُ } : جمع نُمْرُقة ، وهي الوِسادةُ . قالت :
4556 نحن بَناتِ طارِقْ ... نَمْشي على النَّمَارِقْ
وقال زهير :
4557 كُهولاً وشُبَّاناً حِسانٌ وجوهُهُمْ ... لهم سُرُرٌ مَصْفوفةٌ ونَمارِقْ
والنُّمْرُقَة بضمِّ النونِ والراءِ وكسرِهما ، لغتان أشهرُهما الأولى .
(1/5785)
وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
قوله : { وَزَرَابِيُّ } : جمع زَرِيْبة بفتح الزاي وكسرِها لغتان مشهورتان وهي البُسُطُ العِراضُ . وقيل : ما له منها خَمْلَة . ومَبْثوثة : مفرَّقة .
(1/5786)
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
قوله : { الإبل } : اسمُ جمعٍ واحدُه : بعير وناقة وجمل . وهو مؤنثٌ ، ولذلك تَدْخُلُ عليه تاءُ التأنيثِ حالَ تصغيرِه ، فيقال : أُبَيْلَة ويُجْمع آبال ، واشتقوا مِنْ لفظِه . فقالوا : " تأبَّلَ زيدٌ " ، أي : كَثُرَتْ إبلُه ، وتَعَجَّبوا مِنْ هذا فقالوا : " ما آبَلَه " ، أي : ما أكثرَ إبِلَه . وتقدَّم في الأنعام .
قوله : { كَيْفَ } منصوبٌ ب " خُلِقَتْ " على حَدِّ نَصْبِها في قوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة : 28 ] والجملةُ بدلٌ من " الإِبل " بدلُ اشتمالِ ، فتكونُ في محلِّ جرّ ، وهي في الحقيقة مُعَلِّقةٌ للنظر ، وقد دخلَتْ " إلى " على " كيف " في قولهم " انظُرْ إلى كيف يصنعُ " ، وقد تُبْدَلُ الجملةُ المشتملةُ على استفهامٍ من اسمٍ ليس فيه استفهامٌ كقولِهم : عَرَفْتُ زيداً أبو مَنْ هو؟ على خلافٍ في هذا مقررٍ في علمِ النحو .
وقرأ العامَّةُ : خُلِقَتْ ورفِعَتْ ونُصِبَتْ وسُطِحَتْ مبنياً للمفعولِ ، والتاءُ ساكنةٌ للتأنيث . وقرأ أمير المؤمنين وابن أبي عبلة وأبو حيوة " خَلَقْتُ " وما بعدَه بتاءِ المتكلم مبنياً للفاعل . والعامَّةُ على " سُطِحَتْ " مخففاً ، والحسن بتشديدها .
(1/5787)
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
قوله : { بِمُصَيْطِرٍ } : العامَّةُ على الصاد ، وقنبل في بعضِ طُرُقِه ، وهشام بالسين وخلف بإشمامِ الصادِ زاياً بلا خلافٍ ، وعن خلاَّد وجهان . وقرأ هارونُ " بمُسَيْطَرٍ " بفتح الطاء اسمَ مفعولٍ؛ لأنَّ " سَيْطَرَ " عندهم متعدّ ، يَدُلُّ على ذلك فعلُ مطاوعِه وهو تَسَيْطر ، ولم يَجِىءْ اسمُ فاعلٍ على مُفَيْعِل إلاَّ : مُسَيْطِر ومُبَيْقِر ومُهَيْمِن ومُبَيْطِر مِنْ سَيْطَرَ وبَيْقَرَ وهَيْمَنَ وبَيْطَرَ . وقد جاء مُجَيْمِر اسمَ واد ، ومُدَيْبِر . قيل : ويمكنُ أَنْ يكونَ أصلُهما " مُجْمِر " و " مُدْبِر " فصُغِّرا . قلت : وقد تقدَّم لك أنَّ بعضَهم جَوَّز " مُهَيْمِناً " مُصَغَّراً ، وتَقَدَّم أنه خطأٌ عظيمٌ ، وذلك في سورة المائدةِ وغيرها .
(1/5788)
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23)
قوله : { إِلاَّ مَن تولى } : العامَّةُ على " إلاَّ " حرفَ استثناء ، وفيه قولان ، أحدهما : أنه منقطعٌ لأنه مستثنى مِنْ ضمير " عليهم " . والثاني : أنه متصلٌ لأنه مستثنى مِنْ مفعول " فَذَكِّرْ " ، أي : فَذَكِّرْ عبادي إلاَّ مَنْ تولَّى . وقيل : " مَنْ " في محلِّ خفض بدلاً من ضمير " عليهم " ، قاله مكي . ولا يتأتَّى هذا عند الحجازيين ، إلاَّ أَنْ يَكونَ متصلاً ، فإنْ كان منقطعاً جاز عند تميمٍ؛ لأنهم يُجْرُوْنه مُجْرى المتصل ، والمتصلُ يُختار فيه الإِتباعُ لأنه غيرُ موجَبٍ . هذا كلُّه إذا لم يُجْعَل " مَنْ تولَّى " شرطاً وما بعده جزاؤُه ، فإنْ جَعَلْتَه كذلك كان منقطعاً ، وقد تقدَّم تحقيقُه ، وعلى القولِ بكونِه مستثنى مِنْ مفعول " فَذَكِّرْ " المقدرِ تكون جملةُ النفي اعتراضاً .
وقرأ زيد بن علي وزيد بن أسلم وقتادة " ألا " حرفَ استفتاحٍ ، وبعده جملةٌ شرطية أو موصولٌ مضمَّنٌ معناه .
(1/5789)
إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)
قول : { إِيَابَهُمْ } : العامَّةُ على تخفيفِ الياءِ ، مصدرِ آبَ يَؤُوبُ إياباً [ والأصلُ : أوَب يَأوُبُ إواباً ] ، أي : رَجَعَ ك قام يقوم قياماً . وقرأ شيبة وأبو جعفر بتشديدها . وقد اضطربَتْ فيها أقوالُ التصريفيين ، فقيل : هو مصدرٌ ل أَيَّبَ على وزن فَيْعَل كبَيْطَرَ ، يُقالُ منه : أيَّبَ يُؤَيِّبُ إيَّاباً ، والأصلُ/ أيْوَبَ يِؤَيْوِبُ إيْواباً كبَيْطَرَ يُبَيْطرُ ، فاجتَمَعَتْ الياءُ والواوُ في جميع ذلك ، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكونِ ، فقُلِبَتْ الواوُ ياءً ، وأُدغِمت الياءُ المزيدةُ فيها ، فإيَّاب على هذا فِيْعال . وقيل : بل هو مصدرٌ ل أَوّبَ بزنةِ فَوْعَل كحَوْقَلَ ، والأصل : إِوْوَاب بواوَيْن ، الأولى زائدةٌ ، والثانيةُ عينُ الكلمةِ ، فسَكَنَتِ الأولى بعد كسرةٍ ، فقُلِبت ياءً ، فصار إيْواباً ، فاجتمعَتْ ياءٌ وواوٌ ، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون ، فقُلِبَتْ الواوُ ياءً ، وأُدْغِمَتْ في الياءِ بعدها ، فوزنُه فِيعال كحِيْقال ، والأصلُ : حِوْقال . وقيل : بل هو مصدرٌ ل أَوَّبَ على وزن فَعْوَل كجَهْور ، والأصلُ : إِوْوَاب على وزن فِعْوال ، ك " جِهْوار " الأولى عينُ الكلمةِ ، والثانيةُ زائدةٌ ، وفُعِل به ما فُعِل بما قبلَه مِنْ القلبِ والإِدغام للعللِ المتقدمةِ ، وهي مفهومةٌ مِمَّا مَرَّ ، فإن قيل : الإِدغامُ مانعٌ مِنْ قَلْبِ الواوِ ياءً . قيل إنما يمنعُ إذا كانت الواوُ والياءُ عيناً وقد عَرَفْتَ أنَّ الياءَ في فَيْعَل والواوَ في فَوْعَل وفَعْوَل زائدتان . وقيل : بل هو مصدرٌ ل أَوَّب بزنةِ فَعَّلَ نحو : كِذَّاباً والأصلُ إوَّاب ، ثم قُلِبَتِ الواوُ الأولى ياءً لانكسارِ ما قبلَها فقيلَ : إيْواباً . قال الزمخشري : " كدِيْوان في دِوَّان ، ثم فُعِلَ به ما فُعِلَ بسَيِّد " يعني أنَّ أصلَه سَيْوِد ، فقُلِبت وأُدْغِمت ، وإلى هذا نحا أو بالفضل أيضاً .
إلاَّ أن الشيخ قد رَدَّ ما قالاه : بأنهم نَصُّوا : على أنَّ الواوَ الموضوعةَ على الإِدغامِ لا تَقْلِبُ الأولى ياءً ، وإن انكسَرَ ما قبلها قال : " وَمَّثلوا بنفس " إوَّاب " مصدرَ أوَّب مشدداً ، وباخْرِوَّاط مصدرَ اخْرَوَّط . قال : " وأمَّا تشبيهُ الزمخشريِّ بديوان فليس بجيدٍ؛ لأنَّهم لم يَنْطِقوا بها في الوَضْعِ مُدْغمةً ، ولم يقولوا : دِوَّان ، ولولا الجَمْعُ على " دَواوين " لم يُعْلَمْ أنَّ أصلَ هذه الياءِ واوٌ ، وقد نَصُّوا على شذوذِ " دِيْوان " فلا يُقاسُ عليه غيرُه " .
قلت : أمَّا كونُهم لم يَنْطِقوا بدِوَّان فلا يَلْزَمُ منه رَدُّ ما قاله الزمخشريُّ ، ونَصَّ النحاةُ على أنَّ أصلَ " دِيْوان " دِوَّان ، و " قيراط " : قِرَّاط ، بدليلِ الجَمْعِ على دَواوين وقَرارِيط ، وكونُه شاذاً لا يَقْدَحُ؛ لأنه لم يَذْكُرْه مَقيساً عليه بل مَنَظِّراً به .
وقد ذهب مكي إلى نحوٍ مِنْ هذا فقال : " وأصل الياءِ واوٌ ، ولكنْ انقلبَتْ ياءً لانكسارِ ما قبلها ، وكان يَلْزَمُ مَنْ شَدَّد أَنْ يقولَ : إوَّابَهم لأنَّه مِنْ الواو ، أو يقول : إيوابهم ، فيُبْدِلُ مِنْ أول المشدد ياءً كما قالوا : " دِيْوان " والأصلُ : دِوَّان " انتهى .
(1/5790)
وقيل : هو مصدرٌ لأَأْوَبَ بزنة أَكْرَم مِنْ الأَوْب ، والأصلُ : إأْواب كإكْرام ، فأُبْدِلَتِ الهمزةُ الثانية ل إأْواب ياءً لسكونِها بعد همزةٍ مكسورةٍ فصار اللفظُ إيواباً فاجتمعت الياءُ والواوُ على ما تقدَّم ، فقُلِبَ وأُدْغِمَ ، ووزنُه إفْعال ، وهذا واضحٌ .
وقال ابن عطية في هذا الوجه : " سُهِّلَتِ الهمزةُ وكان الواجبُ في الإِدغامِ بردِّها إوَّاباً ، لكن اسْتُحْسِنَتْ فيه الياءُ على غير قياس " انتهى . وهذا ليس بجيدٍ لِما عَرَفْتَ أنَّه لَمَّا قُلِبَتِ الهمزةُ ياءً فالقياسُ أن يُفْعَلَ ما تقدَّم مِنْ قَلْبِ الواوِ إلى الياءِ مِنْ دونِ عكسٍ ، وإنما ذَكَرْتُ هذه الأوجهَ مشروحةً لصعوبتها مع عَدَمِ مَنْ يُمْعِنُ النظرَ مِنْ المُعْرِبين في مثل هذه المواضعِ القَلِقَةِ القليلةِ الاستعمال . وقَدَّم الخبرَ في قولِه " إلينا " و " علينا " مبالغةً في التشديد والوعيدِ .
(1/5791)
وَالْفَجْرِ (1)
قوله : { والفجر } : جوابُ هذا القَسَم قيل : مذكورٌ وهو قولُه { إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } [ الفجر : 14 ] قاله ابن الأنباري . وقيل : محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه ، أي : لَنُجازِيَنَّ أحدٍ بما عَمل بدليلِ تعديدِه ما فعلَ بالقرونِ الخاليةِ . وقدَّر الزمخشري : " ليُعَذِّبَنَّ " قال : " يَدُلُّ عليه { أَلَمْ تَرَ } [ الآية : 6 ] إلى قولِه : / { فَصَبَّ } [ الفجر : 13 ] . وقدَّره الشيخ بما دَلَّتْ عليه خاتمةُ السورةِ قبلَه ، لإِيابُهم إلينا وحِسابُهم علينا .
(1/5792)
وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)
والعامَّةُ على " ليالٍ " بالتنوين ، " عَشْرٍ " صفةٍ لها . وقرأ ابنُ عباس " وليالِ عَشْرٍ " بالإِضافةِ . فبعضهم يكتبُ " ليالِ " في هذه القراءةِ دونَ ياءٍ ، وبعضُهم قال : " وليالي " بالياء ، وهو القياسُ . قيل : والمرادُ : وليالي أيام عشرٍ ، وكان مِنْ حَقِّه على هذا أن يُقال : عشرةٍ؛ لأنَّ المعدودَ مذكرٌ . ويُجاب عنه : بأنَّه إذا حُذِف المعدودُ جاز الوجهان ، ومنه " وأتبعه بسِتٍّ من شوال " وسَمَعَ الكسائي : " صُمْنا من الشهر خمساً " .
(1/5793)
وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)
قوله : { والوتر } : قرأ الأخَوان بكسرِ الواو ، والباقون بفتحها وهما لغتان كالحِبْر والحَبْر ، والفتحُ لغةُ قريشٍ ومَنْ والاها ، والكسرُ لغةُ تميم . وهاتان اللغتان في " الوتر " مقابلَ الشَّفْع . فأمَّا في الوِتْر بمعنى التِّرَة ، أي : الذَّحْلُ فبالكسرِ وحدَه ، قاله الزمخشري . ونقل الأصمعيُّ فيه اللغتين أيضاً . وقرأ أبو عمروٍ في روايةِ يونسَ عنه بفتح الواو وكسر التاء ، فيحتمل أَنْ يكونَ لغةً ثالثة ، وأن يكونَ نَقَل كسرةَ الراءِ إلى التاء إجراءً للوصل مُجْرى الوقفِ/ .
(1/5794)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)
وقال مقاتل : " هل هنا في موضع " إنَّ " تقديرُه : إنَّ في ذلك قَسَماً لذي حِجْرٍ ، ف " هل " على هذا في موضع جواب القسم " انتهى . وهذا قولٌ باطلٌ؛ لأنه لا يَصْلُح أَنْ يكونَ مُقْسَماً عليه ، على تقديرِ تسليمِ أنَّ التركيبَ هكذا ، وإنما ذكَرْتُه للتنبيهِ على سقوطِه . وقيل : ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ ، أي : وصلاةِ الفجر أو وربِّ الفجر .
والعامَّةُ على عَدَمِ التنوينِ في " الفجر " و " الوَتْر " و " يَسْرِ " . وأبو الدينار الأعرابي بتنوين الثلاثةِ . قال ابن خالَوَيْه : " هذا ما رُوي عن بعضِ العرب أنه يقفُ على أواخرِ القوافي بالتنوينِ ، وإنْ كان فِعلاً ، وإنْ كان فيه الألفُ واللامُ . قال الشاعر :
4558 أَقِلِّي اللَّوْمَ عاذِلَ والعتابَنْ ... وقُولي إنْ أَصَبْتُ لقد أصابَنْ
يعني بهذا تنوينَ الترنُّم ، وهو أنَّ العربيَّ إذا أراد تَرْكَ الترنمِ وهو مَدُّ الصوتِ نَوَّن الكلمةَ ، وإنما يكونُ في الرويِّ المطلقِ . وقد عاب بعضُهم قولَ النَّحْويين " تنوين الترنم " وقال : بل ينبغي أَنْ يُسَمُّوه بتنوين تَرْكِ الترنُّم ، ولهذا التنوينِ قسيمٌ آخرُ يُسَمَّى " التنوينَ الغالي " ، وهو ما يَلْحَقُ الرويَّ المقيَّدَ كقولِه :
4559 . . . . . . . . . . . . . خاوي المخترقْنْ ... على أن بعض العروضيين أنكر وجودَه . ولهذين التنوينَيْن أحكامٌ مخالفةٌ لحكمِ التنوينِ حَقَّقْتُها في " شرح التسهيل " ولله الحمد . والحاصلُ أنَّ هذا القارىءَ أجْرى الفواصلَ مُجْرى القوافي فَفَعَلَ فيها ما يَفْعل فيها . وله نظائرُ مَرَّ منها : { الرسولا } [ الأحزاب : 66 ] { السبيلا } [ الأحزاب : 67 ] { الظنونا } [ الأحزاب : 10 ] في الأحزاب . و { المتعال } في الرعد [ الآية : 9 ] " و " يَسْر " هنا ، كما سأبيِّنُه إن شاء الله تعالى . قال الزمخشري : " فإن قلتَ : فما بالُها مُنَكَّرَة مِنْ بين ما أَقْسَمَ به؟ قلت : لأنها ليالٍ مخصوصةٌ مِنْ بينِ جنس الليالي العِشْرِ بعضٌ منها ، أو مخصوصةٌ بفضيلةٍ ليسَتْ في غيرها . فإنْ قلتَ : هلاَّ عُرِّفَتْ بلامِ العهدِ لأنها ليالٍ معلومةٌ . قلت : لو قيل ذلك لم تستقلَّ بمعنى الفضيلةِ التي في التنكير ، ولأنَّ الأحسنَ أَنْ تكون اللاماتُ متجانِسَةً ليكون الكلامُ أبعدَ من الإِلغازِ والتَّعْمِية " . قلت : يعني بتجانسِ اللاماتِ أن تكون كلُّها إمَّا للجنسِ ، وإمَّا للعهدِ ، والفَرَضُ أنَّ الظاهرَ أن اللاماتِ في الفجر وما معه للجنسِ ، فلو جيءَ بالليالي معرفةً بلامِ العهدِ لَفاتَ التجانسُ .
قوله : { إِذَا يَسْرِ } : منصوبٌ بمحذوفٍ هو فعلُ القسم ، أي : أُقْسِم به وقتَ سُراه . وحَذَفَ ياءَ " يَسْري " وَقْفاً ، وأثبتها وصلاً ، نافعٌ وأبو عمروٍ ، وأثبتها في الحالَيْنِ ابنُ كثير ، وحَذَفَها في الحالين الباقون لسقوطِها في خَطِّ المصحفِ الكريم ، وإثباتُها هو الأصلُ لأنها لامُ فعلٍ مضارعٍ مرفوعٍ ، وحَذْفُها لموافقةِ المصحفِ وموافقةِ رؤوسِ الآي ، وجَرْياً بالفواصلِ مَجْرى القوافي . ومَنْ فَرَّقَ بين حالَتَيْ الوقفِ والوصلِ فلأنَّ الوقفَ محلُّ استراحةٍ . ونَسَبُ السُّرى إلى الليل مجازٌ؛ إذ المرادُ : يُسْرَى فيه ، قاله الأخفش . وقال غيره : المرادُ يَنْقُصُ كقوله : { إِذْ أَدْبَرَ } [ المدثر : 33 ] ، { إِذَا عَسْعَسَ } [ التكوير : 17 ] .
(1/5795)
هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
قوله : { لِّذِى حِجْرٍ } : الحِجْرُ : العقل . وتقدَّم الكلامُ عليه .
(1/5796)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)
قوله : { بِعَادٍ إِرَمَ } : قرأ العامَّةُ " بعادٍ " مصروفاً " إرَمَ " بكسرِ الهمزة وفتح الراءِ والميم ، ف " عاد " اسمٌ لرجلٍ في الأصل ، ثم أُطْلِقَ على القبيلة أو الحيِّ ، وقد تقدَّم الكلامُ عليه . وأمَّا " إرَمُ " فقيل : هو اسمُ قبيلةٍ . وقيل : اسمُ مدينةٍ : واخْتُلف في التفسير في تعيينِها . فإن كانَتْ اسمَ قبيلةٍ كانت بدلاً أو عطفَ بيانٍ ، أو منصوبةً بإضمارِ " أعني " ، وإن كانَتْ اسمَ مدينةٍ فيقلَقُ الإِعراب من عاد ، وتخريجُه على حَذْفِ مضافٍ ، كأنه قيل : بعادٍ أهلِ إرمَ ، قاله الزمخشري ، وهو حَسَنٌ ويَبْعُدُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ " عاد " بدلَ اشتمال إذا لا ضميرَ ، وتقديرُه قَلِقٌ . وقد يقال : إنه لَمَّا كان المَعْنِيُّ بعادٍ مدينتَهم؛ لأنَّ إرمَ قائمةٌ مَقامَ ذلك صَحَّ البدلُ . وإرمُ اسمُ جَدِّ عادٍ ، / وهو عادُ بنُ عَوَضِ بنِ إرمَ بنِ سامِ بنِ نوحٍ . قال زهير :
4560 وآخَرِين تَرَى الماذيَّ عِدَّتَهْمْ ... مِنْ نَسْجِ داوُدَ أو ما أَوْرَثَتْ إرَمُ
وقال قيس الرقيات :
4561 مَجْداً تليداً بناه أوَّلُوه له ... أَدْرَكَ عاداً وساماً قبلَه إرَما
وقرأ الحسن " بعادَ " غيرَ مصروفٍ . قال الشيخ : " مُضافاً إلى إرم . فجاز أَنْ يكون " إرَمُ " أباً أو جَدَّاً أو مدينةً " . قلت : يتعيَّنُ أَنْ يكونَ في قراءةِ الحسن غيرَ مضافٍ ، بل يكون كما كان منوناً ، ويكونُ " إرمَ " بدلاً أو بياناً أو منصوباً بإضمارِ أَعْني [ ولو كان مضافاً لوجَبَ صَرْفُه ] . وإنَّما مُنع " عاد " اعتباراً بمعنى القبيلة أو جاء على أحدِ الجائزَيْنِ في " هند " وبابِه . وقرأ الضحاك في روايةٍ " بعادَ إرم " ممنوعَ الصرفِ وفَتْحِ الهمزةِ مِنْ " أرَمَ " . وعنه أيضاً " أرْمَ " بفتحِ الهمزةِ وسكونِ الراءِ ، وهو تخفيفُ " أَرِمَ " بكسرِ الراء ، وهي لغةٌ في اسمَ المدينة ، وهي قراءةُ ابنِ الزُّبَيْرِ . وعنه في " عاد " مع هذه القراءة الصَّرْفُ وتَرْكُه .
وعنه أيضاً وعن ابن عباس " أَرَمَّ " بفتح الهمزةِ والراءِ ، والميمُ مشددةٌ جعلاه فعلاً ماضياً . يقال : " أَرَمَّ العَظْمُ " ، أي : بَلِيَ . ورَمَّ أيضاً وأرَمَّه غيرُه ، فأَفْعَلَ يكون لازماً ومتعدياً في هذا . و " ذات " على هذه القراءةِ مجرورةٌ صفةً ل " عاد " ، ويكونُ قد راعى لفظَها تارةً في قولِه : " أرَمَّ " ، فلم يُلْحِقْ علامةَ تأنيثٍ ، ويكونُ " أرَمَّ " معترضاً بين الصفةِ والموصوفِ ، أي : أَرَمَّتْ هي بمعنى : رَمَّتْ وَبِلِيَتْ ، وهو داءٌ عليهم . ويجوزُ أَنْ يكونَ فاعلُ " أرَمَّ " ضميرَ الباري تعالى ، والمفعولُ محذوفٌ ، أي : أرَمَّها اللَّهُ . والجملةُ الدعائيةُ معترضةٌ أيضاً .
(1/5797)
ومعناها أخرى في " ذات " فأنَّثَ . ورُوي عن ابن عباس " ذاتَ " بالنصب على أنها مفعولٌ ب " أرَمَّ " . وفاعلُ " أرَمَّ " ضميرٌ يعودُ على الله تعالى ، أي : أرَمَّها اللَّهُ تعالى ويكون " أرمَّ " بدلاً مِنْ " فَعَلَ ربُّكَ " أو تبييناً له .
وقرأ ابن الزبير " بعادِ أَرِمَ " بإضافةِ " عاد " إلى " أرِم " مفتوحَ الهمزةِ مكسورَ الراء ، وقد تقدَّم أنه اسمُ المدينة . وقُرىء " أرِمِ ذاتِ " بإضافة " أرم " إلى " ذات " . ورُوي عن مجاهدٍ " أرَمَ " بفتحتين مصدرَ أَرِمَ يَأْرَمُ ، أي : هَلَكَ ، فعلى هذا يكونُ منصوباً ب " فعَلَ ربُّك " نَصْبَ المصدرِ التشبيهيِّ ، والتقدير : كيف أهلك ربُّك إهلاكَ ذاتِ العِمادِ؟ وهذا أغربُ الأقوالِ .
و " ذاتِ العِمادِ " إنْ كان صفةً لقبيلةٍ فمعناه : أنهم أصحابُ خيامٍ لها أَعْمِدةٌ يَظْعَنون بها ، أو هو كنايةٌ عن طولِ أبدانهم كقولِه :
4562 رَفيعُ العِمادِ طويلُ النِّجا ... دِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قاله ابن عباس ، وإنْ كان صفةً للمدينة فمعناه : أنها ذاتُ عُمُدٍ من الحجارة .
(1/5798)
الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8)
قوله : { التي لَمْ يُخْلَقْ } : يجوز أَنْ يكونَ تابعاً ، وأَنْ يكونَ مَقْطوعاً رفعاً أو نصباً . والعامَّةُ على " يُخْلَقْ " مبنياً للمفعولِ ، " مِثْلُها " مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه . وعن ابن الزبير " يَخْلُقْ " مبنياً للفاعل " مثلَها " منصوبٌ به . وعنه أيضاً " نَخْلُقْ " بنونِ العظمةِ .
(1/5799)
وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)
قوله : { وَثَمُودَ } : قرأ العامَّةُ بمَنْع الصرف ، وابنُ وثَّاب بصَرْفِه . وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك مُشْبعاً . و " الذين " يجوز فيه ما تقدَّم في { التي لَمْ يُخْلَقْ } . وجابَ الشيءَ يجوبُه قَطَعَه وخَرَقه جَوْباً . وجُبْتُ البلادَ : قطعتُها سَيْراً . قال الشاعر :
4563 ولاَ رأَيْتُ قَلوصاً قبلَها حَمَلَتْ ... سِتِّين وَسْقاً ولا جابَتْ بها بلداً
قوله : { بالواد } متعلقٌ : إمَّا ب " جابوا " ، أي : فيه ، وإمَّا بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " الصخر " ، أو من الفاعِلين . وأثبت ياءَ " الوادي " في الحالَيْن ابنُ كثير وورشٌ ، بخلافٍ عن قنبل فرُوي عنه إثباتُها في الحالَيْن ، ورُوي عنه إثباتُها في الوصلِ خاصةً ، وحذفها الباقون في الحالَيْن ، موافقةً لخطِّ المصحفِ ومراعاةً للفواصل كما تقدَّم في { إِذَا يَسْرِ } [ الفجر : 4 ] .
(1/5800)
الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)
قوله : { الذين طَغَوْاْ } : يجوزُ فيه ما جاز في " الذين " قبله من الإِتباعِ والقطع على الذمِّ .
قوله : { سَوْطَ } هو الآلةُ المعروفةُ . قيل : وسُمِّيَ سَوْطاً لأنه يُساط به اللحمُ عند الضَّرْبِ ، أي : يَخْتلط . قال كعب بن زهير :
4564 وَيْلُمِّها خُلَّةً قد سِيْطَ مِنْ دمِها ... فَجْعٌ ووَلْعٌ وإخلافٌ وتبديلُ
وقال آخر :
4565 أحارِثُ إنَّا لو تُساطُ دماؤُنا ... تَزَايَلْنَ حتى لا يَمَسَّ دَمٌ دَما
وقيل : هو في الأصلِ مصدرُ ساطه يَسُوْطه سَوْطاً ، ثم سُمِّيَتْ به الآلةُ . وقال أبو زيد : " أموالُهم بينهم سَوِيطة " ، أي : مختلطةٌ . واستعمالُ الصَّبِّ في السَّوْط استعارةٌ بليغة ، وهي شائعةٌ في كلامِهم/ .
(1/5801)
إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
قوله : { لبالمرصاد } : المِرْصاد كالمَرْصَد ، وهو المكانُ يترتَّبُ [ فيه ] الرَّصَدَ جمعَ راصِد كحَرَس ، فالمِرْصاد مِفْعال مِنْ رَصَده كمِيْقات مِنْ وَقَتَه ، قاله الزمخشري . وجَوَّزَ ابنُ عطية في " المِرْصاد " أَنْ يكونَ اسمَ فاعلٍ قال : " كأنه قيل : لَبالراصد ، فعبَّر ببناء المبالغة " . ورَدَّ عليه الشيخ : بأنَّه لو كان كذلك لم تَدْخُلْ عليه الباءُ إذ ليس هو في موضعِ دخولِها لا زائدةً ولا غيرَ زائدةٍ . قلت : قد وَرَدَتْ زيادتُها في خبرِ " إِنَّ " كهذه الآيةِ ، في قولِ امرىء القيس :
4566 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فإنَّك ممَّا أَحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ
إلاَّ أنَّ هذا ضرورةٌ لا يُقاسُ عليه الكلامُ فَضْلاً عن أفصحِه .
(1/5802)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)
قوله : { فَأَمَّا الإنسان } : مبتدأٌ ، وفي خبرِه وجهان ، أحدهما : وهو الصحيحُ أنَّه الجملةُ مِنْ قولِه " فيقولُ " كقولِه : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ } [ البقرة : 26 ] كما تقدَّم بيانُه ، والظرفُ حينئذٍ منصوبٌ بالخبر؛ لأنه في نيةِ التأخيرِ ، ولا تمنعُ الفاءُ من ذلك ، قاله الزمخشريُّ وغيرُه . والثاني : أنَّ " إذا " شرطيةٌ وجوابُها " فيقول " ، وقولُه " فأَكْرَمَه " معطوفٌ على " ابتلاه " ، والجملةُ الشرطيةُ خبرُ " الإِنسان " ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ " إمَّا " تَلْزَمُ الفاءَ في الجملةِ الواقعةِ خبراً عَمَّا بعدها ، ولا تُحْذَفُ إلاَّ مع قولٍ مضمر ، كقولِه تعالى : { فَأَمَّا الذين اسودت } [ آل عمران : 106 ] كما تقدَّم بيانُه ، إلاَّ في ضرورةٍ .
قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ بمَ اتَّصَلَ قولُه " فأمَّا الإِنسانُ "؟ قلت : بقولِه : { إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } فكأنَّه قيل : إنَّ اللَّهَ لا يريدُ من الإِنسانِ إلاَّ الطاعةَ ، فأمَّا الإِنسانُ فلا يريد ذلك ولا يَهُمُّه إلاَّ العاجلةَ " . انتهى . يعني بالتعلُّقِ مِنْ حيثُ المعنى ، وكيف عُطِفَتْ هذه الجملةُ التفصيليةُ على ما قبلَها مترتبةً عليه؟ وقوله : " لا يريد إلاَّ الطاعةَ " على مذهبِه ، ومذهبُنا أنَّ اللَّهَ يريد الطاعةَ وغيرَها ، ولولا ذلك لم يقعْ . فسُبحان مَنْ لا يُدْخِلُ في مُلْكِه ما لا يُريد . وإصلاحُ العبارةِ أَنْ يقولَ : إنَّ اللَّهَ يريدُ من العبدِ أو الإِنسانِ من غيرِ حَصْرٍ . ثم قال : " فإنْ قُلْتَ : فكيف توازَنَ قولُه : { فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ } وقولُه : { وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه } ، وحقُّ التوازنِ أَنْ يتقابلَ الواقعان بعد " أمَّا " و " أمَّا " . تقول : " أمَّا الإِنسانُ فكفورٌ ، وأمَّا المَلَكٌ فشَكورٌ " ، " أمَّأ إذا أَحْسَنْتَ إلى زيدٍ فهو مُحْسِنٌ إليك ، وأمَّا إذا أَسَأْتَ إليه فهو مُسِيْءٌ إليك "؟ قلت : هما متوازنان من حيث إنَّ التقديرَ : وأمَّا هو إذا ما ابتلاه ربُّه وذلك أنَّ قولَه : { فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ } خبرُ المبتدأ الذي هو الإِنسانُ . ودخولُ الفاءِ لِما في " أمَّا " مِنْ معنى الشرطِ ، والظرفُ المتوسِّطُ بين المبتدأ والخبرِ في نيةِ التأخيرِ ، كأنه قال : فأمَّا الإِنسانُ فقائِلٌ ربي أكرمَنِ وقتَ الابتلاءِ فَوَجَبَ أَنْ يكونَ " فيقولُ " الثاني خبرَ المبتدأ واجبٌ تقديرُه " .
(1/5803)
وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
قوله : { فَقَدَرَ عَلَيْهِ } : قرأ ابنُ عامرٍ بتشديدِ الدال ، والباقون بتخفيفِها ، وهما لغتان بمعنىً واحد ، ومعناهما التضييقُ . ومن التخفيفِ قولُه : { الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } [ الرعد : 26 ] { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] .
قوله : { أَكْرَمَنِ } " أهانَنِ " قرأ نافعٌ بإثباتِ ياءَيْهما وَصْلاً وحَذْفِهما وقفاً ، مِنْ غيرِ خلافٍ عنه ، والبزيُّ عن ابن كثير يُثْبِتُهما في الحالَيْن ، وأبو عمرو اختُلِفَ عنه في الوصلِ فرُوي عنه الإِثباتُ والحَذْفُ ، والباقون يَحذفونهما في الحالَيْن ، وعلى الحَذْفِ قولُ الشاعر :
4567 ومِن كاشِحٍ طاهرٍ عُمْرُه ... إذا ما انْتسَبْتُ له أَنْكَرَنْ
يريد : أنكرني . وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : هَلاَّ قال : فأهانَه وقَدَرَ عليه رِزْقَه ، كما قال : فأكرَمَه ونَعَّمه . قلت : لأنَّ البَسْطَ إكرامٌ من الله تعالى لعبدِه بإنعامِه عليه مُتَفَضِّلاً مِن غيرِ سابقةٍ . وأمَّا التقديرُ فليس بإهانةٍ له؛ لأنَّ الإِخلالَ بالتفضُّل لا يكونُ إهانة ، كما إذا أهدى لك زيدٌ هديةً تقول : أكرمني ، فإذا لم يَهْدِ لك شيئاً لا يكو مُهيناً لك " .
(1/5804)
كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)
قوله : { تُكْرِمُونَ } : قرأ أبو عمرو هذا والثلاثةَ بعدَه بياء الغَيْبة حَمْلاً على معنى الإِنسانِ المتقدِّمِ/ إذ المرادُ به الجنسُ ، والجنسُ في معنى الجَمْعِ ، والباقون بالتاء في الجميع خطاباً للإِنسانِ المرادِ به الجنسُ على طريقِ الالتفاتِ . وقرأ الكوفيون " تَحاضُّون " والأصلُ : تتحاضُّون ، فحذف إحدى التاءَيْن ، أي : لا يَحُضُّ بعضُكم بعضاً . ورُوي عن الكسائي " تُحاضُّون " بضم التاءِ ، وهي قراءةُ زيدِ ابن علي وعلقمةَ ، أي : تُحاضُّون أنفسَكم . والباقون " تَحُضُّون " مِنْ حَضَّه على كذا ، أي : أغْرَاه به . ومفعولُه محذوفٌ ، أي : لا تَحُضُّون أنفسَكم ولا غيرَها . ويجوز أَنْ لا يُقَدَّرَ ، أي : لا تُوْقِعون الحَضَّ .
(1/5805)
وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)
قوله : { على طَعَامِ } : متعلِّقٌ بتحاضُّون . و " طعام " يجوزُ أَنْ يكونَ على أصلِه مِنْ كونِه اسماً للمطعومِ . ويكون على حَذْفِ مضافٍ ، أي : على بَذْلِ ، أو على إعطاءِ طعامٍ ، وأَنْ يكونَ اسمَ مصدرٍ بمعنى الإِطعام ، كالعطاء بمعنى الإِعطاء ، فلا حَذْفَ حينئذٍ . والتاءُ في " التراث " بدلٌ من الواو ، لأنه من الوِراثة . ومثلُه : تَوْلَج وتَوْراة وتُخَمَة ، وقد تقدَّم ذلك . و " لَمَّاً " بمعنى مجموع . يقال : لَممْتُ الشيءَ لَمَّاً ، أي : جَمَعْتُه جَمْعاً . قال الحطيئة :
4568 إذا كان لَمَّاً يَتْبَعُ الذَّمَّ ربَّه ... فلا قَدَّس الرحمنُ تلك الطَّواحِنا
ولَمَمْتُ شَعَثَه من ذلك . قال النابغة :
4569 ولَسْتَ بمُسْتَبْقٍ أخالً لا تَلُمُّه ... على شَعَثٍ ، أيُّ الرِّجالِ المهذَّبُ
والجَمُّ : الكثير . ومنه " جُمَّةُ الماء " . قال زهير :
4570 فلمَّا وَرَدْنَ الماءَ زُرْقاً جِمامُه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومنه : الجُمَّة للشَّعْر ، وقولُهم " جاؤوا الجَمَّاءَ الغَفير " . من ذلك .
(1/5806)
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)
قوله : { دَكّاً دَكّاً } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مصدرٌ مؤكِّد ، و " دكاً " الثاني تأكيدٌ للأول تأكيداً لفظياً ، كذا قاله ابنُ عُصفور ، وليس المعنى على ذلك . والثاني : أنه نصبٌ على الحالِ والمعنى : مكرَّراً عليه الدَّكُّ ك عَلَّمْتُه الحِساب باباً باباً ، وهذا ظاهرُ قولِ الزمخشريِّ ، وكذلك " صَفَّاً صَفَّاً " حالٌ أيضاً ، أي : مُصْطَفِّين أو ذوي صفوفٍ كثيرة .
(1/5807)
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)
قوله : { يَوْمَئِذٍ } : منصوبٌ ب " جيْء " والقائمُ مَقامَ الفاعلِ " بجهنَّمَ " . وجَوَّزَ مكي أَنْ يكونَ " يومَئِذٍ " قائماً مَقامَ الفاعلِ . وإمَّا " يومَئذ " الثاني فقيل : بدلٌ من " إذا دُكَّت " ، والعامل فيهما " يتذكَّر " قاله الزمخشري ، وهذا هو مذهبُ سيبويهِ ، وهو أنَّ العاملَ في المبدلِ منه عاملٌ في البدلِ ، ومذهبُ غيرِه أنَّ البدلَ على نيةِ تَكْرارِ العاملِ . وقيل : إنَّ العاملَ في " إذا دُكَّتْ " " يقولُ " ، والعاملُ في " يومئذ " " يتذكَّر " قاله أبو البقاء .
قوله : { وأنى لَهُ الذكرى } " أنَّى " خبرٌ مقدمٌ ، و " الذكرى " مبتدأٌ مؤخرٌ ، و " له " متعلقٌ بما تَعَلَّق به الظرفُ .
(1/5808)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
قوله : { لاَّ يُعَذِّبُ } : قرأ الكسائي " لا يُعَذَّبُ " و " لا يُوْثَقُ " مبنيين للمفعولِ . والباقون قرؤُوهما مبنيَّيْن للفاعل . فأمَّا قراءةُ الكسائي فأُسْنِد الفعلُ فيها إلى " أحد " وحُذِفَ الفاعلُ للعِلْم به وهو اللَّهُ تعالى أو الزَّبانيةُ المُتَوَلُّون العذابَ بأمرِ اللَّهِ تعالى . وأمَّا عذابه ووَثاقه فيجوزُ أَنْ يكونَ المصدران مضافَيْن للفاعلِ والضميرِ للَّهِ تعالى ، ومضافَيْنِ للمفعول ، والضميرُ للإِنسانِ ، ويكون " عذاب " واقعاً موقع تَعْذيب . والمعنى : لا يُعَذَّبُ أحدٌ تعذيباً مثلَ تعذيبِ اللَّهِ تعالى هذا الكافرَ ، ولا يُوْثَقُ أحدٌ توثيقاً مثلَ إيثاقِ اللَّهِ إياه بالسَّلاسِلِ والأغلالِ ، أو لا يُعَذَّبُ أحدٌ مثلَ تعذيبِ الكافرِ ، ولا يُوْثَقُ مثلَ إيثاقِه ، لكفرِه وعنادِه ، فالوَثاق بمعنى الإيثاق كالعَطاء بمعنى الإِعطاء . إلاَّ أنَّ في إعمالِ اسمِ المصدرِ عملَ مُسَمَّاه خلافاً مضطرباً فنُقل عن البصريين المنعُ ، وعن الكوفيين الجوازُ ، ونُقل العكسُ عن الفريقَيْن . ومن الإِعمال قولُه :
4571 أكُفْراً بعد رَدِّ الموتِ عني ... وبعد عَطائِكَ المِئَةَ الرَّتاعا
ومَنْ مَنَعَ نَصَبَ " المِئَة " بفعلٍ مضمر . وأَصْرَحُ من هذا قولُ الآخر :
4572 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فإنَّ كلامَها شفاءٌ لِما بيا
وقيل : المعنى ولا يَحْمِلُ عذابَ الإِنسانِ أحدٌ كقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الأنعام : 164 ] قاله الزمخشري . وأمَّا قراءةُ الباقين فإنه أَسْنَدَ الفعلَ لفاعلِه . /
والضميرُ في " عذابَه " و " وَثاقَه " يُحتمل عَوْدُه على الباري تعالى ، بمعنى : أنَّه لا يُعَذِّبُ في الدنيا مثلَ عذابِ اللَّهِ تعالى يومئذٍ أحدٌ ، أي : إنَّ عذابَ مَنْ يُعَذِّبُ في الدنيا ليس كعذابِ الله تعالى يومَ القيامةِ ، كذا قاله أبو عبد الله ، وفيه نظرٌ : من حيث إنه يَلْزَمُ أَنْ يكونَ " يومئذٍ " معمولاً للمصدرِ التشبيهيِّ ، وهو ممتنعٌ لتقدُّمِه عليه ، إلاَّ أن يُقالَ : يُتَوَسَّعُ فيه .
وقيل : المعنى لا يَكِلُ عذابه ولا وَثاقَه لأحدٍ؛ لأنَّ الأمرَ لله وحدَه في ذلك . وقيل : المعنى أنَّه في الشدة والفظاعةِ في حَيِّزٍ لم يُعَذِّبْ أحدٌ قط في الدنيا مثلَه . ورُدَّ هذا : بأنَّ " لا " إذا دَخَلَتْ على المضارعِ صَيَّرَتْه مستقبلاً ، وإذا كان مستقبلاً لم يطابقْ هذا المعنى ، ولا يُطْلَقُ على الماضي إلاَّ بمجازٍ بعيدٍ ، وبأنَّ " يومَئذٍ " المرادُ به يومَ القيامة لا دارُ الدنيا . وقيل : المعنى أنَّه لا يُعَذِّبُ أحدٌ في الدنيا مثلَ عذابِ اللهِ الكافرَ فيها ، إلاَّ أن هذا مردودٌ بما رُدَّ به ما قَبلَه . ويُحتمل عَوْدُه على الإِنسان بمعنى : لا يُعَذِّبُ أحدٌ من زبانيةِ العذابِ مثلَ ما يُعَذِّبون هذا الكافرَ ، أو يكونُ المعنى : لا يَحْمِلُ أحدٌ عذابَ الإِنسانِ كقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ فاطر : 18 ] . وهذه الأوجهُ صَعْبَةُ المَرامِ على طالِبها من غيرِ هذا الموضوعِ لتفرُّقها في غيرِه وعُسْرِ استخراجِها منه .
وقرأ نافعٌ في روايةٍ وأبو جعفر وشَيْبة بخلافٍ عنهما " وِثاقَه " بكسر الواو .
(1/5809)
يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)
قوله : { ياأيتها } : هذه قراءةُ العامَّةِ " يا أيتُها " بتاءِ التأنيث . وقرأ زيدُ بن علي " يا أيُّها " كنداءِ المذكرِ ، ولم يُجَوِّز ذلك أحدٌ ، إلاَّ صاحبَ " البديع " ، وهذه شاهدةٌ له . وله وجه : وهو أنها كما لم تطابِقْ صفتَها تثنيةً وجَمْعاً جاز أن لا تطابِقَها تأنيثاً . تقول : يا أيُّها الرجلان يا أيُّها الرجال . و " راضيةً " و " مَرْضيَّةً " حالان ، أي جامعةً بين الوصفَيْن؛ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِنْ أحدِهما الآخرُ .
(1/5810)
فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)
قوله : { فِي عِبَادِي } يجوزُ أَنْ يكونَ : في جسد عبادي ويجوزُ أَنْ يكونَ المعنى : في زُمْرة عبادي . وقرأ ابن عباس وعكرمة وجماعةٌ " في عبدي " والمرادُ الجنسُ ، وتَعَدَّى الفعلُ الأولُ ب " في " لأنَّ الظرفَ ليس بحقيقي نحو : " دخلت في غِمار الناس " ، وتعدَّى الثاني بنفسِه لأنَّ الظرفيةَ متحققةٌ ، كذا قيل ، وهذا إنما يتأتَّى على أحدِ الوجهَيْنِ ، وهو أنَّ المرادَ بالنفس بعضُ المؤمنين ، وأنه أَمْرٌ بالدخولِ في زُمْرة عبادِه ، وأمَّا إذا كان المرادُ بالنفسِ الروحَ ، وأنها مأمورةٌ بدخولِها في الأجساد فالظرفيةُ فيه متحقِّقةٌ أيضاً .
(1/5811)
وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)
قوله : { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ الجملةَ اعتراضيةٌ على أحد معنَييْن : إمَّا على معنى أنه تعالى أَقْسَمَ بهذا البلدِ وما بعدَه على أنَّ الإِنسانَ خُلِقَ في كَبَدٍ واعتُرِض بينهما بهذه الجملةِ ، يعني ومن المكابَدَةِ أنَّ مثلَكَ على عِظَمِ حُرْمَتِك يُسْتَحَلُّ بهذا البلدِ كما يُسْتَحَلُّ الصَّيْدُ في غير الحَرَمِ ، وإمَّا على معنى أنَّه أَقْسَم ببلدِه على أنَّ الإِنسان لا يَخْلُوا مِنْ مَقاساةِ الشدائِد . واعْتُرِض بأَنْ وَعَدَه فتحَ مكة تَتْميماً للتسلية ، فقال : وأنت حِلٌّ به فيما تَسْتَقْبِلُ تصنعُ فيه ما تريدُ من القَتْلِ والأَسْرِ ، ف " حِلٌّ " بمعنى حَلال ، قال معنى ذلك الزمخشري . ثم قال : " فإنْ قلتَ أين نظيرُ قولِه " وأنت حِلٌّ " في معنى الاستقبال؟ قلت : قوله تعالى { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] ومثلُه واسعٌ في كلامِ العبادِ تقول لمن تَعِدُهُ الإِكرامَ والحِباء : أنت مُكَرَّمٌ مَحْبُوٌّ ، وهو في كلامِ اللَّهِ تعالى أوسعُ؛ لأنَّ الأحوال المُسْتَقْبَلَةَ عنده كالحاضرِةَ المشاهَدَةِ ، وكفاك دليلاً قاطِعاً على أنه للاستقبالِ ، وأنَّ تفسيرَه بالحالِ مُحالٌ ، أنَّ السورةَ بالاتفاقِ مكيةٌ ، وأين الهجرةُ عن وقتِ نزولِها فما بالُ الفتحِ؟ وقد ناقشه الشيخ بما لا يَتَّجِهُ ، ورَدَّ عليه قولَه الإِجماعَ على نزولِها بمَكةَ بخلافٍ حكاه ابنُ عطية .
الثاني من الوجَهْين الأوَّلَيْن . أنَّ الجملةَ حاليةٌ ، أي : لا أُقْسِمُ بهذا البلدِ وأنت حالٌّ بها لعِظَمِ قَدْرِك ، أي : لا يُقْسِمُ بشيءٍ وأنت أحَقُّ بالإِقسام بك منه . وقيل : المعنى لا أٌقْسِم به وأنت مُسْتَحَلٌّ فيه ، أي : مُسْتَحَلٌّ أَذاك . وتقدَّم الكلام في مثلِ " لا " هذه المتقدِّمةِ فِعْلَ القسمِ .
(1/5812)
وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)
قوله : { وَمَا وَلَدَ } : قيل : " ما " بمعنى " مَنْ " وقيل : مصدريةٌ . أَقْسَم بالشخص وفِعْلِه . وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : هَلاَّ قيل : ومَنْ وَلَدَ . قلت : فيه ما في قولِه { والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } [ آل عمران : 36 ] ، أي : بايِّ شيءٍ وَضَعَتْ ، أي : موضوعاً عجيبَ الشأن " وقيل : " ما " نافيةٌ فتحتاج إلى إضمارِ موصولٍ ، به يَصِحُّ الكلامُ تقديره : والذي ما وَلَدَ؛ إذ المرادُ بالوالد مَنْ يُوْلدُ له ، وبالذي لم يَلِدْ العاقرُ ، قال : معناه ابنُ عباس وتلميذُه ابنُ جُبير وعكرمة .
(1/5813)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)
قوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا } : هذا هو المُقْسَمُ عليه والكَبَدُ : المَشقةُ . قال الزمخشري : " وأصلُه مِنْ كَبِدَ الرجلُ كَبَداً فهو أكبدُ ، إذا وَجِعَتْ كَبِدْه وانتفخَتْ ، فاتُّسِعَ فيه حتى اسْتُعْمِلَ في كلِّ نَصَبٍ ومشقةٍ ، ومنه اشْتُقَّت المكابَدَةُ ، كما قيل : كَبَته ، بمعنى أهلكه ، وأصلُه كَبَدَه ، أي : أصاب كَبِدَه . قال لبيد :
4573 يا عَيْنُ هَلاَّ بَكَيْتِ أَرْبَدَ إذ ... قُمْنا وقام الخُصومُ في كَبَدِ
أي : في شِدَّةِ الأمرِ وصعوبةِ الخَطْبِ وقال ذو الإِصبَع :
4574 ليَ ابنُ عَمّ لَوَانَّ الناسَ في كَبَدٍ ... لظلَّ مُحْتَجِراً بالنَّبْلِ يَرْمِيْني
(1/5814)
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6)
قوله : { يَقُولُ أَهْلَكْتُ } : يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً ، وأنْ تكونَ حالاً . وقرأ العامَّةُ " لُبَداً " بضمِّ اللامِ وفتحِ الباءِ . وشَدَّد أبو جعفر الباءَ ، وعنه أيضاً سكونُها . ومجاهد وابن أبي الزناد بضمتين ، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه اللفظةِ والاختلافُ فيها في الجنِّ .
(1/5815)
وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9)
قوله : { وَشَفَتَيْنِ } : الشَّفْةُ محذوفةُ اللامِ ، والأصلُ شَفَهة ، بدليل تصغيرِها على شُفَيْهَة ، وجَمْعِها على شِفاه ، ونظيرُه سَنَة في إحدى اللغتين . وشافَهْتُه ، أي : كلَّمْتُه من غير واسطةٍ ، ولا يُجمع بالألفِ والتاءِ ، استغناءً بتكسيرِها عن تَصْحيحِها .
(1/5816)
وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
قوله : { النجدين } : إمَّا ظرفٌ ، وإمَّا على حَذْفِ الجارِّ إنْ أُريد بهما الثَّدْيان ، والنَّجْدُ في الأصل : " العُنُقُ لارتفاعِه . وقيل : الطريقُ العالي ، كقولِ امرئِ القيس :
4575 فريقانِ منهمْ قاطعٌ بَطْنَ نَخْلَةٍ ... وآخرُ منهمْ جازعٌ نَجْدَ كَبْكَبِ
ومنه " نَجْدٌ " لارتفاعِها عن تِهامةَ .
(1/5817)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)
قوله : { فَلاَ اقتحم } قال الفراء والزجَّاج : " ذَكَر " لا " مرةً واحدةً ، والعربُ لا تكادُ تُفْرِدُ " لا " مع الفعل الماضي حتى تُعِيْدَ ، كقولِه تعالى : { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى } [ القيامة : 31 ] ، وإنما أفردَها لدلالةِ آخرِ الكلامِ على معناه فيجوزُ أَنْ يكونَ قولُه : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ } [ البلد : 17 ] قائماً مقام التكرير ، كأنه قال : فلا اقتحم العقبةَ ولا آمَنَ " وقال : الزمخشري : " هي متكررةٌ في المعنى؛ لأنَّ معنى " فلا اقتحمَ العقبةَ " فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعمَ مِسْكيناً ، ألا ترى أنه فَسَّر اقتحامَ العقبةِ بذلك " قال الشيخ : " ولا يَتِمُّ له هذا إلاَّ على قراءةِ " فَكَّ " فعلاً ماضياً " .
(1/5818)
فَكُّ رَقَبَةٍ (13)
وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائيُّ " فَكَّ " فعلاً ماضياً ، " ورقبةً " نصباً " أو أَطْعم " فعلاً ماضياً أيضاً . والباقون " فَكُّ " برفع الكاف اسماً ، " رقبةٍ " خَفْصٌ بالإِضافة ، " أو إطعامٌ " اسمٌ مرفوعٌ أيضاً . فالقراءةُ الأولى الفعلُ فيها بَدَلٌ مِنْ قولِه " اقتحمَ " فهو بيانٌ له ، كأنَّه قيل : فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعَمَ ، والثانيةُ يرتفع فيها " فَكُّ " على إضمار مبتدأ ، أي : هو فَكُّ رقبة أو إطعامٌ ، على معنى الإِباحة . وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ دلَّ عليه " فلا اقتحمَ " تقديرُه : وما أدراك ما اقتحامُ العقبة؟ فالتقدير : اقتحامُ العقبة فكُّ رَقَبَة أو إطعامٌ ، وإنما احْتيج إلى تقديرِ هذا المضافِ ليتطابقَ المفسِّر والمفسَّر . ألا ترى أنَّ المفسِّر - بكسرِ السين - مصدرٌ ، والمفسَّر - بفتحِ السينِ - وهو العقبةُ غيرُ مصدر ، فلو لم نُقَدِّرْ مضافاً لكان المصدرُ وهو " فَكُّ " مُفَسِّراً للعين ، وهو العقبةُ .
وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو رجاء " فَكَّ أو أطعمَ " فعلَيْن كما تقدَّم ، إلاَّ أنهما نصبا " ذا " بالألف . وقرأ الحسن " إطعامٌ " و " ذا " بالألفِ أيضاً وهو على هاتَيْنِ القراءتَيْن مفعولُ " أَطْعم " أو " إطعامٌ " و " يتيماً " حينئذٍ بدلٌ منه أو نعتٌ له . وهو في قراءةِ العامَّةِ " ذي " بالياء نعتاً ل " يوم " على سبيل المجاز ، وُصِفَ اليومُ بالجوع مبالغةً كقولهم : " ليلُك قائمٌ ونهارُك صائمٌ " والفاعلُ لإِطعام محذوفٌ ، وهذا أحدُ المواضعِ التي يَطَّرِدُ فيها حَذْفُ الفاعلِ وحدَه عند البصريين ، وقد بَيَّنْتُها مُسْتوفاةً ولله الحمدُ .
والمَسْغَبَةُ : الجوعُ مع التعبِ ، وربما قيل في العطش مع التعب ، قال الراغب . يُقال منه : سَغِبَ الرجل يَسْغَبُ سَغْباً وسُغُوباً فهو ساغِبٌ وسَغْبانُ والمَسْغَبَةُ مَفْعَلَة منه ، وكذلك المَتْرَبَةُ من التراب . يقال تَرِب ، أي : افتقر حتى لَصِقَ جِلْدُه بالتراب . فأمَّا أَتْرَبَ بالألف فبمعنى استغنى نحو : أَثْرى ، أي : صار مالُه كالتراب وكالثرى والمَقْرَبَةُ أيضاً : مَفْعَلَة من القَرابة . وللزمخشري هنا عبارةٌ حلوة قال : " والمَسْغَبَةُ والمَقْرَبَةُ والمَتْرَبَةُ مَفْعَلات مِنْ سَغِبَ إذا جاع وقَرُبَ في النَّسَب وتَرِبَ إذا افتقر " .
(1/5819)
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17)
قوله : { ثُمَّ كَانَ } : لتراخي الإِيمان وتباعُدِه في الرتبةِ والفضيلةِ عن العِتْقِ والصدقةِ ، لا في الوقتِ ، لأنَّ الإِيمانَ هو السَّابقُ ولا يَثْبُتُ عَمَلٌ إلاَّ به ، قاله الزمخشري . وقيل : المعنى على : ثم كان في عاقبةِ أَمْرِه من الذين وافَوْا الموتَ على الإِيمان لأنَّ الموافاةَ عليه شرطٌ في الانتفاعِ بالطاعاتِ . وقيل : التراخي في الذِّكْرِ وتقدَّم تفسيرُه .
(1/5820)
عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
قوله : { مُّؤْصَدَةُ } : قرأ أبو عمروٍ وحمزة وحفص بالهمز ، والباقون بالواو ، وكذا في " الهُمْزة " فالقراءةُ الأولى من آصَدْتُ البابَ ، أي : أَغْلَقْته أُوْصِدُه فهو مُؤْصَدٌ . قيل : ويُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ أَوْصَدْتُ ، ولكنه هَمَزَ الواوَ الساكنةَ لضمةِ ما قبلَها كما هَمَزَ { بالسوق والأعناق } [ ص : 33 ] كما تقدَّم . والقراءةُ الثانيةُ ايضاً تحتمل المادتَيْن ، ويكون قد خُفِّفَتِ الهمزةُ لسكونها بعد ضمة . وقد نَقَل الفراء عن السوسيِّ الذي قاعدتُه إبدالُ مثلِ هذه الهمزةِ أنه لا يُبْدِلُ هذه بعد ضمةٍ ، وعَلَّلوا ذلك بالالتباسِ . واتفق أنه قد قَرَأ " مُوْصَدة " بالواوِ مَنْ قاعدتُه تحقيقُ الهمزةِ ، والظاهر أنَّ القراءتَين من مادتين : الأولى مِنْ آصَدَ يُؤْصِد كأَكْرَم يُكْرِم ، والثانية مِنْ أَوْصَدَ يُوصِدُ ، مثل أَوْصَلَ يُوْصِلُ . قال الشاعر :
4576 تَحِنُّ إلى أجْبِالِ مكةَ ناقتي ... ومِنْ دونِها أبوابُ صنعاءَ مُوْصَدَهْ
أي : مُغْلَقة وقال آخر :
4577 قوماً يُعالِجُ قُمَّلاً أبناؤُهمْ ... وسلاسِلاً حِلَقاً وباباً مُؤْصَدا
وكان أبو بكرٍ راوي عاصمٍ يكره الهمزةَ في هذا الحرفِ ، وقال رحمه الله : " لنا إمامٌ يَهْمز " مؤصدة " فأشتهي أن أَسُدَّ أذُني إذا سمعتُه " قلت : وكأنه لم يَحْفَظْ عن شيخِه إلاَّ تَرْكَ الهمزِ مع حِفْظ حفصٍ إياه عنه ، وهو أَضْبَطُ لحرِفه من أبي بكر على ما نقله القُراء ، وإن كان أبو بكرٍ أكبرَ وأتقنَ وأوثقَ عند أهل الحديث .
وقوله : { عَلَيْهِمْ نَارٌ } يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً مستأنفةً ، وأَنْ تكونَ خبراً ثانياً ، وأن يكونَ الخبرُ وحده " عليهم " و " نار " فاعلٌ به ، وهو الأحسنُ .
(1/5821)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)
قوله : { وَضُحَاهَا } : قد تقدَّم في " طه " الكلامُ على هذه المادةِ وقال المبرد : " إن الضُّحى والضَّحْوةَ مشتقان من الضَّحِّ وهو النورُ ، فأُبْدلت الألفُ والواوُ من الحاءِ " هذا يكادُ يكونُ اختلاقاً على مثلِ أبي العباس لجلالتِه .
(1/5822)
وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)
قوله : { جَلاَّهَا } : الفاعلُ ضميرُ النهارِ ، وقيل : عائدٌ على الله تعالى . والضميرُ المنصوبُ : إمَّا للشمسِ ، وإمَّا للظُّلمةِ ، وإمَّا للدنيا ، وإمَّا للأرضِ .
قوله : { إِذَا تَلاَهَا } وما بعدَه فيه إشكالٌ؛ لأنه إنْ جُعِل شرطاً اقتضى جواباً ، ولا جوابَ لفظاً ، وتقديرُه غيرُ صالحٍ ، وإنْ جُعِلَ ظرفاً مَحْضاً استدعى عاملاً ، وليس هنا عاملٌ إلاَّ فعلُ القسم ، وإعمالُه مُشْكِلٌ؛ لأنَّ فعلَ القسمِ حالٌ لأنه إنشاءٌ ، و " إذا " ظرفٌ مستقبلٌ ، والحال لا يعملُ في المستقبلِ . وسيأتي جوابُ هذا وتحقيقُه عند ذِكْري سَبْرَه وتقسيمَه قريباً إن شاء الله تعالى .
ويَخُصُّ " إذا " الثانيةَ وما بعدها إشكالٌ آخرُ ذكره الزمخشري فيه غموضٌ فتنبَّهْ له قال : " فإن قلتَ : الأمرُ في نصبِ " إذا " مُعْضِلٌ؛ لأنك لا تخلو : إمَّا أَنْ تجعلَ الواواتِ عاطفةً فتنصِبَ بها وتَجُرَّ فتقعَ في العطفِ على عاملَيْن ، وفي نحو قولك : " مررتُ أمسِ بزيدٍ واليومَ عمروٍ " وإمَّا أَنْ تجعلَهُنَّ للقسم فتقعَ فيما اتَّفق الخليلُ وسيبويه على استكراهِه . قلت : الجوابُ فيه أن واوَ القسم مُطَّرَحٌ معها إبرازُ الفعلِ أطِّراحاً كلياً ، فكان لها شأنٌ خلافَ شأنِ الباء حيث أُبْرِزَ معَها الفعلُ وأُضْمِرَ ، فكانت الواوُ قائمةً مَقامَ الفعلِ ، والباءُ سادَّةٌ مَسَدَّهما معاً ، والواواتُ العواطفُ نوائبُ عن هذه الواوِ فحققن أَنْ يَكُنَّ عواملَ عملَ الفعلِ والجارِّ جميعاً كما تقول : " ضربَ زيدٌ عمراً وبكرٌ خالداً " فترفعُ بالواوِ وتنصِبُ ، لقيامِها مَقامَ " ضرب " الذي هو عامِلُهما " انتهى .
قال الشيخ : " إمَّا قولُه : " في واوات العطف : فَتَنْصِبَ بها وتجرَّ " فليس هذا بالمختار ، أعني أَنْ يكونَ حرفُ العطفِ عاملاً لقيامِه مَقامَ العاملِ ، بل المختارُ أنَّ العملَ إنما هو للعاملِ في المعطوفِ عليه ، ثم إنا لا نُشاحُّه في ذلك . وقوله : " فتقع / في العطفِ على عاملَيْن " ليس ما في الآيةِ من العطفِ على عاملَيْن ، وإنما هو مِنْ بابِ عطفِ اسمَيْن : مجرورٍ ومنصوبٍ على اسمَيْن : مجرورٍ ومنصوبٍ ، فحرفُ العطفِ لم يَنُبْ مَنابَ عامِلَيْنِ ، وذلك نحوُ قولِك : " امرُرْ بزيدٍ قائماً وعمروٍ جالساً " وأنشدَ سيبويهِ في كتابه :
4578 وليس بمعروفٍ لنا أَنْ نَرُدَّها ... صِحاحاً ولا مُسْتَنْكرٍ أن تُعَقَّرا
فهذا مِنْ عَطْفِ مجرورٍ ومرفوعٍ ، على مجرورٍ ومرفوعٍ ، والعطفُ على عاملَيْن فيه أربعةُ مذاهبَ ، ونُسِب الجوازُ إلى سيبويهِ . وقوله : وفي قولِك : " مررْتُ أمسِ بزيدٍ واليومَ عمروٍ " هذا المثالُ مُخالِفٌ لما في الآيةِ ، بل وِزانُ ما في الآية : " مررْتُ بزيدٍ أمسٍ وعمروٍ اليومَ " ونحن نُجيز هذا وأمَّا قولُه " على استكراه " فليس كما ذَكَر ، بل كلامُ الخليلِ يَدُلُّ على المَنْعِ قال الخليلُ في قولِه عزَّو جلّ :
(1/5823)
{ والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى } [ الليل : 13 ] . الواوان الأخيرتان ليستا بمنزلةِ الأولى ، ولكنهما الواوانِ اللتان تَضُمَّان الأسماءَ إلى الأسماء في قولِك : " مررتُ بزيدٍ وعمرو " والأولى بمنزلةِ التاء والباء . وأمَّا قولُه : إنَّ واوَ القسم مُطَّرَحٌ معها إبرازُ الفعلِ اطِّراحاً كلياً " فليس هذا الحكمُ مُجْمَعاً عليه؛ بل أجازَ ابنُ كَيْسانَ التصريحَ بفعلِ القسمِ مع الواوِ ، فتقول : أُقْسِم - أو أَحْلِفُ - واللَّهِ لَزيدٌ قائمٌ ، وأمَّا قَولُه : " والواوات العواطفُ نوائبُ عن هذه " إلى أخره فمبنيُّ على أَنْ حرفَ العطفِ عاملٌ لنيابتِهِ منابَ العاملِ وليس هذا بالمختار " قال : " والذي نقوله : إنَّ المُعْضِلَ هو تقديرُ العاملِ في " إذا " بعد الأقسام ، كقوله : { والنجم إِذَا هوى } [ النجم : 1 ] { والليل إِذْ أَدْبَرَ } [ المدثر : 33 ] { والصبح إِذَآ أَسْفَرَ } [ المدثر : 34 ] { والقمر إِذَا تَلاَهَا } { والليل إِذَا يغشى } [ الليل : 1 ] وما أَشْبهها ، فإذا ظرفٌ مستقبلٌ ، لا جائزٌ أَنْ يكونَ العاملُ فيه فعلَ القسمِ المحذوفِ لأنه فعل إنشائيُّ فهو في الحال ينافي أَنْ يَعْمَلَ في المستقبلِ لاختلافِ زمانِ العاملِ وزمانِ المعمولِ . ولا جائز أَنْ يكونَ ثمَّ مضافٌ محذوفٌ ، أُقيم المُقْسَمُ به مُقامه ، أي : وطلوعِ النجمِ ومجيءِ الليلِ ، لأنه معمولٌ لذلك الفعلِ ، فالطلوعُ حالٌ ولا يعملُ في المستقبل ضرورةَ أنَّ زمان العاملِ زمانُ المعمول . ولا جائزٌ أَنْ يعملَ فيه نفسُ المُقْسَمِ به؛ لأَنه ليس من قبيلِ ما يَعْمل ، لا سيما إنْ كان جُرْماً . ولا جائزٌ أنْ يُقدَّرَ محذوفٌ قبل الظرفِ فيكونُ قد عملَ فيه ، ويكون ذلك العاملُ في موضعِ الحال وتقديرُه : والنجمِ كائناً إذا هوى ، والليلِ كائناً إذا يَغْشى؛ لأنه يَلْزَمُ " كائناً " أنْ لا يكونَ منصوباً بعاملٍ ، ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ معمولاً لشيء مِمَّا فَرَضْناه أن يكونَ عاملاً . وأيضاً فقد يكونُ المُقْسَمُ به جثةً وظروفُ الزمانِ لا تكون أحوالاً عن الجثثِ ، كما لا تكونُ أخباراً " انتهى ما رَدَّ به الشيخُ وما استشكلَه مِنْ أمرِ العاملِ في " إذا " وأنا بحمدِ اللَّهِ أتتبَّعُ قولَه وأبيِّنُ ما فيه .
فقوله : " إن المختارَ أن حرفَ العطفِ لا يعملُ لقيامِه مَقامَ العاملِ فلا يَلْزَمُ أبا القاسم ، لأنه يختارُ القولَ الآخَرَ . وقوله : " ليس ما في هذه الآية مِنْ العطفِ على عاملَيْن " ممنوعٌ بل فيه العطفُ على عاملَيْن ولكنْ فيه غموضٌ ، وبيانُ أنه مِنْ العطفِ على عاملَيْن : أنَّ قولَه : { والنهار إِذَا جَلاَّهَا } هنا معمولان أحدُهما مجرورٌ وهو " النهار " والآخرُ منصوبٌ وهو الظرفُ ، عطفاً على معمولَيْ عاملَيْن ، والعاملان هما : فعلُ القسمِ الناصبُ ل " إذا " الأولى ، وواوُ القسمِ الجارَّةُ ، فقد تحقَّق معك عاملانِ لهما معمولان ، فإذا عَطَفْتَ مجروراً على مجرور ، وظرفاً على ظرف ، معمولَيْن لعاملَين لَزم ما قاله أبو القاسم . وكيف يُجْهَلُ هذا ما التأمَّلِ والتحقيق؟
وأمَّا قولُه : " وأنشد سيبويهِ إلى آخره " فهو اعترافٌ منه بأنَّه من العطفِ على عاملَيْن ، غايةُ ما في الباب أنه استندَ إلى جاهِ سيبويهِ .
(1/5824)
وأمَّا قولُه " أجازَ ابنُ كَيْسان / فلا يَلْزَمُه مذهبُه . وأمَّا قولُه : " فالمثالُ كالآيةِ ، بل وزانها إلى آخره " فصحيحٌ لما فيه مِنْ تقديمِ الظرفِ الثاني على المجرورِ المعطوفِ ، والآيةُ الظرفُ فيها متأخرٌ ، وإنما مرادُ الزمخشريِّ وجودُ معمولَيْ عاملَيْنِ ، وهو موجودٌ في المثالِ المذكورِ ، إلاَّ أنَّ فيه إشكالاً آخر : وهو أنَّه كالتكريرِ للمسألةِ .
وأمَّا قولُه " بل كلامُ الخليلِ يَدُلُّ على المنعِ إلى آخره " فليس فيه رَدٌّ عليه بالنسبةِ إلى ما قصدَه ، بل فيه تقويةٌ لِما قالَه . غايةُ ما في البابِ أنه عَبَّر بالاستكراهِ عن المنعِ ، أو لم يَفْهَمِ المَنْعَ . وقوله : " ولا جائزٌ أَنْ يكونَ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ " إلى آخره ، فأقول : بل يجوزُ تقديرُه : وهو العاملُ ، ولا يَلْزَمُ ما قال مِنْ اختلاف الزمانَيْن؛ لأنه يجوزُ أَنْ يُقْسِمَ الآن بطلوع النجمِ في المستقبل ، فالقَسَمُ في الحالِ والطُّلوعُ في المستقبلِ ، ويجوزُ أَنْ يُقْسِمَ بالشيء الذي سيوجَدُ . وقوله : " ولا جائزٌ أَنْ يُقدَّرَ محذوفٌ قبل الظرفِ ، فيكون قد عَمِل فيه " إلى آخره ليس بممنوع بل يجوزُ ذلك ، وتكون حالاً مقدرةً . قوله : " يَلْزَم أَنْ لا يكونَ له عاملٌ " ليس كذلك بل له عاملٌ وهو فعلُ القسم ، ولا يَضُرُّ كونُه إنشائياً؛ لأنَّ الحالَ مقدرةٌ كما تقدَّم . قوله : " وقد يكونُ المُقْسَمُ به جثةً " جوابُه : يُقَدَّرُ حينئذٍ حَدَثٌ يكون الظرفُ الزمانيُّ حالاً عنه ، وهذه المسألةُ سُئِلَ عنها الشيخُ أبو عمروٍ ابنُ الحاجبِ ونَقَّحَ فيها السؤالَ وأجابَ بنحوِ ما ذكَرْتُه واللَّهُ أعلمُ ، ولا يخلُو الكلامُ فيها مِنْ نزاعٍ وبحثٍ طويلٍ معه .
(1/5825)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)
قوله : { يَغْشَاهَا } المفعولُ للشمسِ . وقيل : للأرض ، وجيء ب " يَغْشاها " مضارعاً دونَ ما قبلَه وما بعدَه مراعاةً للفواصلِ؛ إذ لو أتى به ماضياً لكان التركيبُ " إذا غَشِيَها " فتفوتُ المناسبةُ اللفظيةُ بين الفواصلِ والمقاطع .
(1/5826)
وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)
قوله : { وَمَا بَنَاهَا } : وما بعدَه ، فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ " ما " موصولةٌ بمعنى الذي ، وبه استشهد مَنْ يُجَوِّزُ وقوعَها على آحادِ أولي العلم؛ لأنَّ المرادَ به الباري تعالى ، وإليه ذهب الحسنُ ومجاهدٌ وأبو عبيدةَ ، واختاره ابن جرير . والثاني : أنها مصدريةٌ ، أي : وبناءِ السماء ، وإليه ذهبَ الزجَّاج والمبرد ، وهذا بناءً منهما على أنها مختصةٌ بغيرِ العقلاءِ ، واعْتُرِضَ على هذا القولِ : بأنَّه يَلْزَمُ أَنْ يكونَ القَسَمُ بنفسِ المصادر : بناءِ السماء وطَحْوِ الأرضِ وتَسْويةِ النفس ، وليس المقصودُ إلاَّ القَسَمَ بفاعلِ هذه الأشياءِ وهو الرَّبُّ تبارك وتعالى . وأُجِيب عنه بوجهَيْن ، أحدُهما : يكونُ على حَذْفِ مضافٍ ، أي : وربِّ - أو باني - بناءِ السماء ونحوه . والثاني : أنه لا غَرْوَ في الإِقسام بهذه الأشياء كما أَقْسم تعالى بالصبح ونحوه .
وقال الزمخشري : " جُعِلَتْ مصدريةً وليس بالوجهِ لقولِه " فأَلْهمها " وما يؤدي إليه مِنْ فسادِ النظم . والوجهُ أَنْ تكونَ موصولةً ، وإنما أُوْثِرَتْ على " مَنْ " لإِرادة معنى الوصفية كأنه قيل : والسماءِ والقادرِ العظيم الذي بناها ، ونفس والحكيمِ الباهرِ الحكمةِ الذي سَوَّاها . وفي كلامهم : " سبحانَ ما سَخَّرَكُنَّ لنا " انتهى . يعني أنَّ الفاعلَ في " فألهمها " عائدٌ على اللَّهِ تعالى فليكُنْ في " بناها " كذلك ، وحينئذٍ يَلْزَمُ عَوْدُه على شيءٍ وليس هنا ما يمكنُ عَوْدُه عليه غيرُ " ما " فتعيَّنَ أَنْ تكونَ موصولةً .
وقال الشيخ : " أمَّا قولُه : " وليس بالوجهِ لقولِه " فَأَلْهمها " يعني مِنْ عَوْدِ الضمير في " فَأَلْهمها " على الله تعالى ، فيكونُ قد عاد على مذكورٍ وهو " ما " المرادُ به الذي . قال : " ولا يَلْزَمُ ذلك؛ لأنَّا إذا جَعَلْناها مصدريةً عاد الضميرُ على ما يُفْهَمُ مِنْ سياق الكلامِ ، ففي " بناها " ضميرٌ عائدٌ على الله تعالى ، أي : وبناها هو ، أي : الله تعالى ، كما إذا رأيتَ زيداً قد ضرب عَمْراً فتقول : " عجبتُ مِمَّا ضَرَبَ عمراً " تقديره : مِنْ ضَرْبِ عمروٍ هو ، كان حسناً فصيحاً جائزاً ، وعَوْدُ الضمير على ما يُفْهَمُ مِنْ سياقِ الكلامِ كثيرٌ وقوله : " وما يُؤدِّي إليه مِنْ فسادِ النظم " ليس كذلك ، ولا يُؤدِّي جَعْلُها مصدريةً إلى ما ذُكِرَ ، وقوله : " وإنما أُوْثِرَتْ " إلى آخره لا يُراد بما ولا بمَنْ الموصولتين معنى الوصفيةِ؛ لأنهما لا يُوْصفُ بهما بخلاف " الذي " فاشتراكُهما في أنَّهما لا يُؤَدِّيان معنى الوصفيةِ موجودٌ بينهما فلا تنفردُ به " ما " دون " مَنْ " وقوله : : وفي كلامِهم " إلى آخره تَأَوَّله أصحابُنا على أنَّ " سبحان " عَلَم و " ما " مصدريةٌ ظرفيةٌ " انتهى .
(1/5827)
أمَّا ما رَدَّ به عليه مِنْ كونِه يعود على ما يُفْهَمُ من السِّياق فليس يَصْلُح رَدَّاً ، لأنه إذا دار الأمرُ بين عَوْدِه على ملفوظٍ به وبينَ غيرِ ملفوظٍ به فعَوْدُه على الملفوظِ به أولى لأنَّه الأصلُ . وأمَّا قولُه : فلا تنفرد به " ما " دونَ " مَنْ " فليس مرادُ الزمخشري أنها تُوْصَفُ بها وصْفاً صريحاً ، بل مُرادُه أنها تقعُ على نوعِ مَنْ يَعْقل ، وعلى صفتِه ، ولذلك مَثَّل النَّحْويون ذلك بقوله : { فانكحوا مَا طَابَ } [ النساء : 3 ] ، وقالوا : تقديره : فانْكِحُوا الطيِّبَ مِنْ النساءِ ، ولا شكَّ أن هذا الحكمَ تَنْفَرِدُ به " ما " دون مَنْ . والتنكيرُ في " نفس " : إمَّا لتعظيمِها ، أي ، نفس عظيمة ، وهي نفسُ آدمَ ، وإمَّا للتكثيرِ كقولِه : { عَلِمَتْ نَفْسٌ } [ الانفطار : 5 ] .
(1/5828)
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)
قوله : { قَدْ أَفْلَحَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه جوابُ القسم ، والأصل : لقد ، وإنما حُذِفَتْ لطولِ الكلامِ . والثاني : أنه ليس بجوابٍ وإنما جيْءَ به تابعاً لقولِه { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } على سبيل الاستطرادِ ، وليس مِنْ جوابِ القسم في شيءٍ ، فالجوابُ محذوفٌ تقديرُه : ليُدَمْدِمَنَّ اللَّهُ عليهم ، أي : على أهلِ مكةَ لتكذيبِهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، كما دَمْدَم على ثمودَ لتكذيبِهم صالحاً صلَّى الله عليه وسلم ، قال معناه الزمخشري ، وقدَّره غيرُه : لتُبْعَثُنَّ .
وقوله : { طَحَاهَا } [ الشمس : 3 ] ، أي : دَحاها ، وقد تقدَّم معناه . وفيه لغتان ، يقال : طحا يَطْحوا وطحى يَطْحي . ويجيءُ طحا بمعنى ذهب ، قال علقمة :
4579 طحابك قَلْبٌ في الحِسانِ طَروبُ ... بُعَيْدَ الشبابِ عَصْرَ حان مَشيبُ
ويقال : طحا بمعنى ارتفعَ . وفي أقسامِهم : " ولا والقمرِ الطَّاحي " ، أي : المرتفعُ . وفاعلُ " زكَّاها " و " دَسَّاها " الظاهرُ أنه ضميرُ " مَنْ " وقيل : ضميرُ الباري تعالى ، أي : مَنْ زكاهَّا اللَّهُ ، ومَنْ دَسَّاها اللَّهُ ، أي : مَنْ زَكَّى اللَّهُ نفسَه . وأنحى الزمخشريُّ على صاحبِ هذا القولِ لمنافرتِة مذهبَه ، والحقُّ أنَّه خلافُ الظاهرِ ، لا لما قال الزمخشريُّ ، بل لمنافرةِ نظمِه للاحتياجِ إلى عَوْدِ الضميرِ على النفسِ مقيدةً بإضافتِها إلى ضمير " مَنْ "
(1/5829)
وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
قوله : { دَسَّاهَا } : أصلُه دسَّسَهَا فَكَثُرَتْ الأمثالُ فأُبْدِل مِنْ ثالِثها حرفَ علةٍ كما قالوا : قَصَّيْتُ [ أَظْفاري ] و [ قولِه ] :
4580 تَقَضِّيَ البازِي . . . . . . . . . . . . . . ... والتَّدْسِيَةُ : الإِخفاءُ بمعنى أخفاها بالفجورِ ، وقد نَطَق بالأصل مَنْ قال :
4581 وأنت الذي دَسَّسْتَ عمراً فأصبحَتْ ... حَلائلُه منه أراملَ ضُيَّعاً
ومن قال :
4582 ودَسَّسْت عَمْراً في التراب فأصبحَتْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت .
(1/5830)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11)
قوله : { بِطَغْوَاهَآ } : في هذه الباء ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها للاستعانةِ مجازاً ، كقولِه : " كتبتُ بالقلمِ " وبه بدأ الزمخشري ويعني فَعَلَتِ التكذيبَ بطُغْيانها ، كقولك : " ظلمَني بجُرْأتِه على الله تعالى " الثاني : أنها للتعدية ، أي : كَذَبَتْ بما أُوْعِدَتْ به مِنْ عذابها ذي الطُّغيان ، كقولِه تعالى { فَأُهْلِكُواْ بالطاغية } [ الحاقة : 5 ] . والثالث : أنها للسببية ، أي : بسبب طُغْيانِها .
وقرأ العامَّةُ " طَغْواها " بفتح الطاءِ وهو مصدرٌ بمعنى الطُّغيان ، وإنما قُلِبَتْ الياءُ واواً فَرْقاً بين الاسمِ والصفةِ ، يعني ، أنهم يُقِرُّون ياءَ فَعْلى بالفتح صفةً نحو : خَزْيا وصَدْيا ، ويَقْلبونها في الاسم نحو : تَقْوى وشَرْوى ، وكان الإِقرارُ في الوصفِ لأنه أثقلُ مِنْ الاسمِ ، والياءُ أخفُّ من الواوِ ، فلذلك جُعِلت في الأثقل .
وقرأ الحسن ومحمد بن كعب وحماد بضم الطاء ، وهو أيضاً مصدرٌ كالرُّجْعى والحُسْنى ، إلاَّ أنَّ هذا شاذ إذ كان مِنْ حَقِّه بقاءُ الياءِ على حالِها كالسُّقْيا وبابها ، هذا كلُّه عند مَنْ يقول : طَغَيْتُ طُغْياناً بالياءِ ، فأمَّا مَنْ يقول : طَغَوْت بالواو فالواوُ أصلٌ عنده ، قاله ابو البقاء ، وقد تقدَّم الكلامُ على اللغتين في البقرة والله الحمدُ .
(1/5831)
إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12)
قوله : { إِذِ انبعث } : " إذِ " يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ ظرفاً ل " كذَّبَتْ " والثاني : أَنْ يكونَ ظرفاً للطَّغْوى .
و " أشْقاها " فاعلُ " انبعَث " وفيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ يُراد به شخصٌ واحد بعينه . وفي التفسيرِ أنه رجل يُسَمَّى قُدار بن سالف . والثاني : أن يُراد به جماعةٌ ، قال الزمخشري : " ويجوز أن يكونوا جماعةً [ والتوحيد ] / لتَسْوِيَتِك في أفعلِ التفضيل إذا اضفْتَه ، بين الواحدِ والجمع والمذكرِ والمؤنثِ ، وكان يجوزُ أَنْ يقول : أشْقَوْها " انتهى . وكان ينْبغي أَنْ يُقَيِّد فيقول : إذا أضَفْتَه إلى معرفةٍ؛ لأن المضافَ إلى النكرةِ حُكْمُه الإِفرادُ والتذكيرُ مطلقاً كالمقترنِ ب " مِنْ " .
(1/5832)
فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)
قوله : { فَقَالَ لَهُمْ } : إنْ كان المرادُ ب " أَشْقاها " جماعةً فعَوْدُ الضميرِ مِنْ " لهم " عليهم واضحٌ ، وإنْ كان المرادُ به عَلَماً بعينِه فالضميرُ مِنْ " لهم " يعودُ على ثمود .
قوله : { نَاقَةَ الله } منصوبٌ على التحذير ، أي : احْذَروا ناقةَ اللَّهِ فلا تَقْرَبُوها ، وإضمارُ الناصبِ هنا واجبٌ لمكانِ العطف ، فإنَّ إضمارَ الناصبِ يجبُ في ثلاثةِ مواضعَ ، أحدُها : أن يكونَ المحذَّرُ نحو : " إياك " وبابه . الثاني : أن يُوجدَ فيه عطفٌ . الثالث : أَنْ يوجَدَ فيه تَكْرارٌ نحو : " الأسدَ الأسدَ " وقرأ زيد بن علي " ناقةُ الله " رفعاً على خبرِ ابتداء مضمرٍ ، أي : هذه ناقةُ اللَّهِ فلا تتعرَّضوا لها .
(1/5833)
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)
قوله : { فَدَمْدَمَ } : الدَّمْدَمَةُ . قيل : الإِطباقُ يُقال : دَمْدَمْتُ عليه القبرَ ، أي : أَطْبَقْتُه عليه . وقيل : الإِلزاقُ بالأرض . وقيل : الإِهلاكُ باستئصالٍ . وقيل : الدَّمْدَمَةُ حكايةُ صوتِ الهَدَّة ومنه : دَمْدَمَ في كلامه . ودَمْدَمْتُ الثوبَ : طَلَيْتُه بالصَّبْغ . والباءُ في " بذَنْبهم " للسببية .
قوله : { فَسَوَّاهَا } الضميرُ المنصوبُ يجوزُ عَوْدُه على ثمودَ باعتبار القبيلةِ كما أعادَه في قولِه " بَطَغْواها " ويجوزُ عَوْدُه على الدَّمْدَمَة والعقوبةِ ، أي : سَوَّاها بينهم ، فلم يَفْلَتْ منهم أحدٌ . وقرأ ابن الزبير " فَدَهْدَمَ " بهاءٍ بين الدالَيْن بدلَ الميم ، وهي بمعنى القراءةِ المشهورةِ .
(1/5834)
وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
قوله : { وَلاَ يَخَافُ } : قرأ نافعٌ وابنُ عامر " فلا " بالفاء ، والباقون بالواو ، ورُسِمَتْ في مصاحفِ المدينة والشام بالفاء وفي غيرِها بالواوِ ، فقد قرأ كلُّ بما يوافقُ رَسْمَ مُصْحَفِه . ورُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأُ " ولم يَخَفْ " وهي مُؤَيَّدَةٌ لقراءةِ الواوِ ، ذكره الزمخشري ، فالفاءُ تقتضي التعقيبَ ، وهو ظاهرٌ . والواوُ يجوزُ أَنْ تكونَ للحالِ ، وأنْ تكونَ لاستئنافِ الأخبارِ ، وضميرُ الفاعل في " يَخاف " يحتملُ عَوْدُه على الرَّبِّ ، وهو الأظهرُ ، لكونِه أقربَ مذكورٍ . والثاني : أنه يعودُ على رسولِ الله ، أي : ولا يخاف عقبى هذه العقوبةِ لإِنذاره إياهم . والثالث : أنه يعودُ على " أشقاها " أي : انبعَثَ لعَقْرها ، والحالُ أنه غيرُ خائفٍ عاقبةَ هذه الفَعْلَةِ الشنعاءِ . وعقبى الشيء خاتمتُه .
(1/5835)
وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)
قوله : { وَمَا خَلَقَ } : يجوزُ في " ما " أَنْ تكونَ بمعنى " مَنْ " وهو رأيُ جماعةٍ تقدَّم ذِكْرُهمْ في السورةِ قبلَها . وقيل : هي مصدريةٌ . وقال الزمخشري : " والقادرُ : العظيمُ القدرةِ الذي قَدَرَ على خَلْقِ الذكَرِ والأنثى من ماءٍ واحدٍ " قلت : قد تقدَّم تقريرُ قولِه هذا وما اعْتُرِضَ به عليه ، وما أُجيب عنه ، في السورةِ قبلها . وقرأ أبو الدرداء " والذَّكرِ والأنثى " وقرأ عبد الله " والذي خَلَق " ، والكسائيُّ ونَقَلها ثعلبٌ عن بعض السَّلَف " وما خَلَقَ الذَّكَرِ " بجرِّ " الذكَرِ " قال الزمخشري : " على أنه بدلٌ من محلِّ " ما خَلَقَ " بمعنى " وما خَلَقَه " أي : ومخلوقِ اللَّهِ الذكَرِ ، وجاز إضمارُ " الله " لأنه معلومٌ بانفرادِه بالخَلْق " . وقال الشيخ : " وقد يُخَرَّجُ على تَوَهُّم المصدرِ ، أي : وخَلْقِ الذَّكرِ ، كقوله :
4583 تَطُوفُ العُفاةُ بأبوابِه ... كما طاف بالبَيْعَةِ الراهبِ
بجرِّ " الراهب " على توهُّمِ النطقِ بالمصدر ، أي : كطَوافِ الراهبِ " انتهى . والذي يَظْهَرُ في تخريجِ البيت أنَّ اصلَه " الراهبيّ " بياءِ النسَبِ ، نسبةً إلى الصفةِ ، ثم خُفِّف ، وهو قليلٌ كقولِهم : أَحْمري ودَوَّاري ، وهذا التخريجُ بعينِه في قولِ امرئ القيس :
4584 . . . . . . . . . . . . . . . . ... فَقِلْ في مَقيلٍ نَحْسُه مُتَغَيِّبِ
استشهد به الكوفيون على تقديمِ الفاعلِ . وقرأ العامَّةُ { تجلى } فعلاً ماضياً ، وفاعلُه ضميرٌ عائدٌ على النهار . وعبد الله بن عبيد بن عمير " تتجلى " بتاءَيْن ، أي : الشمس . وقُرئ " تُجْلي " بضمِّ التاءِ وسكونِ الجيم ، أي : الشمسُ ايضاً ، ولا بُدَّ من عائدٍ على النهارِ محذوفٍ ، أي : تتجلى أو تُجْلِي فيه .
(1/5836)
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
قوله : { إِنَّ سَعْيَكُمْ } : هذا جوابُ القسمِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ محذوفاً ، كما قيلَ في نظائرِه المتقدمةِ .
(1/5837)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5)
قوله : { أعطى } : حَذَفَ مفعولَيْ " أعطى " ومفعولَ " اتقى " ومفعولَ " صَدَّقَ " المجرور ب " على "؛ لأنَّ الغرضَ ذِكْرُ هذه الأحداثِ دونَ متعلَّقاتها ، وكذلك مُتَعَلَّقا البخل والاستغناءِ . وقوله : { فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى } إمَّا من بابِ المقابلةِ لقولِه : { فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى } ، وإمَّا لأنَّ نيسِّره بمعنى نُهَيِّئُه ، والتهيئةُ تكونُ في اليُسْر والعُسْر .
(1/5838)
وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
قوله : { وَمَا يُغْنِي } : يجوز أَنْ تكونَ " ما " نفياً ، وأَنْ تكونَ استفهاماً إنكارياً .
قوله : { تردى } إمَّا من الهلاكِ ، أو مِنْ تردى بأكفانِه ، وهو كنايةٌ عن الموت كقولِه :
4585 وخُطَّا بأَطْرافِ الأسِنَّةِ مَضْجَعي ... ورُدَّا على عَيْنَيَّ فَضْلَ رِدائيا
وقول الآخر :
4586 نَصيبُك مِمَّا تَجْمَعُ الدهرَ كلَّه ... رِداءان تلوى فيهما وحَنُوطُ
(1/5839)
فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)
قوله : { نَاراً تلظى } : قد تقدَّم في البقرة أن البزيَّ يُشَدِّد مثلَ التاء ، والتشديدُ فيها عَسِرٌ لالتقاءِ الساكنين فيها على غير حَدِّهما ، وهو نظيرُ قولِه : { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ } [ النور : 15 ] وقد تقدَّم . وقال أبو البقاء : يُقرأ بكسر التنوين وتشديد التاءِ ، وقد ذُكِرَ وَجْهُه عند { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } [ البقرة : 267 ] انتهى . وهذه قراءةٌ غريبةٌ ، ولكنها موافقةٌ للقياس من حيث إنه لم يلتقِ فيها ساكنان . وقوله : " وقد ذُكِر وجهُه الذي قاله في البقرة لا يُفيد هنا شيئاً البتة ، فإنه قال هناك : " ويُقْرأُ بتشديدِ التاءِ ، وقبلَه ألفٌ ، وهو جْمعٌ بين ساكنَيْن ، وإنما سَوَّغَ ذلك المدُّ الذي في الألفِ " .
وقرأ ابن الزُّبير وسفيان وزيد بن علي وطلحة " تتلظى " بتاءَيْن وهو الأصلُ .
(1/5840)
لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15)
قوله : { إِلاَّ الأشقى } : قيل : الأشقى والأَتْقى بمعنى الشقيّ والتقيّ ولا تفضيلَ فيهما؛ لأنَّ النارَ ليسَتْ مختصةً بالأكثرِ شقاءً ، وتجنُّبها ليس مختصاً بالأكثرِ تَقْوى . وقيل : بل هما على بابِهما ، وإليه ذهب الزمخشريُّ قال : " فإنْ قلتَ : كيف قال : " لا يَصْلاها إلاَّ الأشقى " { وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى } وقد عُلِمَ أنَّ كلَّ شقيّ يَصْلاها ، وكلَّ تقيّ يُجَنَّبُها ، لا يَخْتَصُّ بالصَّلْي أشقى الأشقياءِ ، ولا بالنجاةِ أتقى الأتقياءِ ، وإنْ زَعَمْتَ أنه نكَّر النار فأراد ناراً بعينِها مخصوصةً بالأشقى ، فما تصنع بقولِه { وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى } ؟ فقد عُلِمَ أنَّ أَفْسَقَ المسلمين يُجَنَّبُ تلك النارَ المخصوصةَ لا الأتقى منهم خاصة . قلت : الآية واردةٌ في لموازنةِ بين حالتَيْ عظيمٍ من المشركين وعظيمٍ من المؤمنين ، فأُريد أَنْ يُبالَغَ في صفتَيْهما المتناقضتَيْن فقيل : الأشقَى ، وجُعِل مختصَّاً بالصَّلْي ، كأن النارَ لم تُخْلَقْ إلاَّ له . وقيل : الأتقى . وجُعل مختصَّاً بالنجاةِ ، كأنَّ الجنةَ لم تُخْلَقْ إلاَّ له . وقيل : هما أبو جهل أو أمية بن خلف وأبو بكر الصديق رضي الله عنه " انتهى . فآل جوابُه إلى أنَّ المرادَ بهما شخصان معيَّنان .
(1/5841)
الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)
قوله : { يتزكى } : قرأ العامَّةُ { يتزكى } مضارعَ تَزَكَّى ، والحسن بن علي بن الحسن بن علي أمير المؤمنين يزكى بإدغامِ التاءِ في الزاي . وفي هذه الجملةِ وجهان ، أحدُهما : أنها في موضعِ الحالِ من فاعلِ " يُؤْتي " أي : يُؤتيه مُتَزَكِّياً به . والثاني : أنها لا موضعَ لها من الإِعراب ، على أنها بدلٌ مِنْ صلة " الذي " ذكرهما الزمخشري . وجعل الشيخُ متكلَّفاً .
(1/5842)
وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19)
قوله : { تجزى } : صفةٌ لنعمةٍ ، أي : تُجْزِي الإِنسانَ ، وإنما جيء به مضارعاً مبنياً للمفعولِ لأجلِ الفواصل؛ إذ الأصلُ يُجْزيها إياه أو يُجْزِيه إياها .
(1/5843)
إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)
قوله : { إِلاَّ ابتغآء } : في نصبِه وجهان ، أحدهما : أنه مفعولٌ له . قال الزمخشري : " ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له على المعنى؛ لأنَّ المعنى : لا يُؤْتي مالَه إلاَّ ابتغاءَ وَجْهِ ربه لا لمكافأةِ نعمةٍ " وهذا أَخَذَه مِنْ قولِ الفَرَّاء فإنه قال : " ونُصِبَ على تأويل : ما أعْطَيْتُك ابتغاءَ جزائِك ، بل ابتغاءَ وجهِ اللَّهِ تعالى . والثاني : أنَّه منصوبٌ على الاستثناء المنقطع ، إذ لم يندَرِجْ تحت جنسِ " مِنْ نعمة " وهذه قراءة العامَّةِ ، أعني النصبَ والمدَّ . وقرأ يحيى برفعِه ممدوداً على البدل مِنْ محلِّ " مِنْ نعمة " لأنَّ محلَّها الرفعُ : إمَّا على الفاعليَّةِ ، وإمَّا على الابتداءِ ، و " مِنْ " مزيدةٌ في الوجهَيْن ، والبدلُ لغة تميمٍ ، لأنهم يُجْرُون المنقطعَ في غيرِ الإِيجاب مجرى المتصل . وأنشد الزمخشريُّ بالوجهَيْن : النصبِ والبدلِ قولَ بشرِ بنِ أبي خازم :
4587- أَضْحَتْ خَلاءً قِفاراً أَنيسَ بها ... إلاَّ الجآذِرُ والظِّلْمانَُِ تَخْتَلِفُ
وقولَ القائلِ في الرفع :
4588- وبَلْدَةٍ ليس بها أنيسُ ... إلاَّ اليَعافيرُ وإلاَّ العِيْسُ
وقال مكي : " وأجاز الفراء الرفعَ في " ابتغاء " على البدل مِنْ موضع " نِعْمَةٍ " وهو بعيدٌ " قلت : كأنَّه لم يَطِّلِعْ عليها ، قراءةً ، واستبعادُه هو البعيدُ ، فإنَّها لغةٌ فاشيةٌ . وقرأ ابنُ ابي عبلة " ابْتِغا " بالقصر .
(1/5844)
وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
قوله : { وَلَسَوْفَ يرضى } : هذا جوابُ قَسَمٍ مضمرٍ . والعامَّةُ على " يرضى " مبنياً للفاعلِ . وقُرِئ ببنائِه للمفعول مِنْ أَرْضاه الله ، وهو قريبٌ مِنْ قولِه في آخرِ سورةِ طه { لَعَلَّكَ ترضى } و { ترضى } [ طه : 130 ] .
(1/5845)
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)
قوله : { سجى } : قيل : معناه سَكَن ، ومنه : سجا البحر يَسْجُو سَجْواً ، أي : سَكَنَتْ أمواجُه ، وطَرْفٌ ساجٍ ، أي : فاتر ، ومنه اسْتُعِير تَسْجِيَةُ الميتِ ، أي : تَغْطِيَتُه بالثوبِ ، قاله الراغب وقال الأعشى :
4589 وما ذَنْبُنا إنْ جاش بَحْرُ ابنِ عَمِّكُمْ ... وبَحْرُكَ ساجٍ لا يُوارِي الدَّعامِصا
وقيل : سجا ، أي : أَدْبَرَ وقيل بعكسِه . وقال الفراء : " أظلم " . وقال ابن الأعرابي : " اشتدَّ ظلامُه " وقال الشاعر :
4590 يا حَبَّذا القَمْراءُ والليلُ السَّاجْ ... وطُرُقٌ مِثْلُ مُلاءِ النِّسَّاجْ
وهو من ذواتِ الواوِ ، وإنما أُميل لموافقةِ رؤوسِ الآيِ ، كالضُّحى فإنه من ذواتِ الواوِ ايضاً .
(1/5846)
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)
قوله : { مَا وَدَّعَكَ } : هذا هو الجوابُ . والعامَّةُ على تشديد الدالِ من التَوْديع . [ وقرأ ] عروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وابن أبي عبلة بتخفيفِها مِنْ قولِهم : وَدَعَه ، أي : تركه والمشهورُ في اللغةِ الاستغناءُ عن وَدَعَ ووَذَرَ واسمِ فاعِلهما واسمِ مفعولِهما ومصدرِهما ب " تَرَكَ " وما تصرَّفَ منه ، وقد جاء وَدَعَ ووَذَرَ . قال الشاعر :
4591 سَلْ أميري ما الذي غَيَّرَهْ ... عن وِصالي اليومَ حتى وَدَعَهْ
وقال الشاعر :
4592 وثُمَّ وَدَعْنا آلَ عمروٍ وعامرٍ ... فرائِسَ أَطْرافِ المُثَقَّفةِ السُّمْرِ
قيل : والتوديعُ مبالغةٌ في الوَدْع؛ لأن مَنْ وَدَّعك مفارقاً فقد بالغ في تَرْكِك .
قوله : { وَمَا قلى } أي : ما أَبْغَضَك ، قلاه يَقْليه بكسر العين في المضارع ، وطيِّىء تقول : قلاه يقلاه بالفتح قال الشاعر :
4593 أيا مَنْ لَسْتُ أَنْساه ... ولا واللَّهِ أَقْلاه
لكَ اللَّهُ على ذاكَ ... لكَ اللَّهُ [ لكَ اللَّهُ ]
وحُذِفَ مفعولُ " قَلَى " مراعاةً للفواصلِ مع العِلْم به وكذا بعدَ " فآوى " وما بعدَه .
(1/5847)
وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)
قوله : { وَلَلآخِرَةُ } : الظاهرُ في هذه اللامِ أنَّها جوابُ القسم ، وكذلك في " ولَسَوْفَ " أَقْسم تعالى على أربعةِ أشياءَ : اثنان منفيَّان وهما توديعُه وقِلاه ، واثنان مُثْبَتان مؤكَّدان ، وهما كونُ الآخرةِ خيراً له من الدنيا ، وأنه سوف يُعْطيه ما يُرضيه . وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : ما هذه اللامُ الداخلةُ على " سَوْف "؟ قلت : هي لامُ الابتداءِ المؤكِّدةُ لمضمون الجملة ، والمبتدأُ محذوفٌ تقديرُه : ولأنت سَوْفَ يُعْطيك ، كما ذَكَرْنا في { لاَ أُقْسِمُ } [ القيامة : 1 ] أن المعنى : لأَنا أُقْسِمُ . وذلك أنها لا تَخْلو : مِنْ أَنْ تكونَ لامَ قسمٍ أو ابتداء . فلامُ القسم لا تدخلُ على المضارع إلاَّ مع نونِ التوكيد ، فبقي أن تكونَ لامَ ابتداءِ ، ولامُ الابتداء لا تدخل إلاَّ على الجملة من المبتدأ والخبرِ فلا بُدَّ من تقدير [ مبتدأ ] وخبره ، وأصله : ولأنت سوف يعطيك " ونقل الشيخ عنه أنه قال : " وخُلِع من اللامِ دلالتُها على الحال " انتهى . وهذا الذي رَدَّده الزمخشري يُختار منه أنها لامُ القسم .
قوله : " لا تَدْخُلُ على المضارع إلاَّ مع نونِ التوكيد " هذا استثنى النحاة منه صورتَيْنِ ، إحداهما : أَنْ لا يُفْصَلَ بينها وبين الفعل حرفُ تنفيسٍ كهذه الآيةِ ، كقولِك : واللَّهِ لَسَأُعْطيك . والثانية : أن لا يُفْصَلَ بينهما بمعمولِ الفعل كقولِه تعالى : { لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } [ آل عمران : 158 ] . ويَدُلُّ لِما قُلْتُه ما قال الفارسيُّ : " ليسَتْ هذه اللامُ هي التي في قولك : " إنَّ زيداً لَقائمٌ ، بل هي التي في قولِك : " لأَقومَنَّ " ونابَتْ " سوفَ " عن إحدى نونَيْ التوكيدِ ، فكأنه قال : ولَيُعْطِيَنَّك .
وقوله : " خُلِع منها دلالتُها على الحال " يعني أنَّ لامَ الابتداءِ الداخلةَ على المضارع تُخَلِّصُه للحال ، وهنا لا يُمْكِنُ ذلك لأجلِ حَرْفِ التنفيسِ ، فلذلك خُلِعَتِ الحاليةُ منها .
وقال الشيخ : " واللامُ في " ولَلآخرةُ " لامُ ابتداء وَكَّدَتْ مضمونَ الجملةِ " ثم حكى بعضَ ما ذكَرْتُه عن الزمخشري وأبي علي ثم قال : " ويجوز عندي أَنْ تكونَ اللامُ في " وللآخرةُ خيرٌ " وفي " ولَسَوْفَ يُعْطيك " اللامَ التي يُتَلَقَّى بها القسمُ ، عَطَفَها على جوابِ القسم ، وهو قولُه : { مَا وَدَّعَكَ } فيكون قد أقسم على هذه الثلاثة " انتهى . فظاهرُه أنَّ اللامَ في " ولَلآخرةُ " لامُ ابتداء غيرُ مُتَلَقَّى بها القسمُ ، بدليلِ قولِه ثانياً : " ويجوز عندي " ولا يظهرُ انقطاعُ هذه الجملةِ عن جواب القسم البتةَ ، وكذلك في { ولَسَوْفَ } وتقديرُ الزمخشري مبتدأً بعدها لا يُنافي كونَها جواباً للقسم ، وإنما مَنَعَ أن تكونَ جواباً داخلةً على المضارع لفظاً وتقديراً .
(1/5848)
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)
قوله : { فآوى } : العامَّة على " آوى " بألفٍ بعد الهمزة رباعياً ، مِنْ آواه يُؤْوِيْهِ . وأبو الأشهب " فأوى " ثلاثياً . قال الزمخشري : " وهو على معنيين : إمَّا مِنْ " أواه " بمعنى آواه . سُمع بعضُ الرعاة يقول : " أين آوي هذه " ، وإمَّا مِنْ أوى له إذا رحمه " انتهى . وعلى الثاني قولُه :
4594- أراني - ولا كفرانَ لله - أيَّةُ ... لنفسي لقد طالَبْتُ غيرَ مُنيلِ
أي : رحمةً لنفسي . ووجهُ الدلالةِ مِنْ قولِه : " يقول : أين آوي هذه "؟ أنه لو كان من الرباعي لقال : " أُؤْوي " بضم الهمزةِ الأولى وسكونِ الثانيةِ؛ لأنه مضارعُ " آوى " مثل أَكْرَمَ ، وهذه الهمزةُ المضمومةُ هي حرفُ المضارعةِ ، والثانيةُ هي فاءُ الكلمةِ ، وأمَّا همزةُ أَفْعَل فمحذوفةٌ على القاعدةِ ، ولم تُبْدَلْ هذه الهمزةُ كما أُبْدِلَتْ في " أُوْمِنُ أنا " لئلا تثقلَ بالإِدغام ، ولذلك نصَّ القراءُ على أنَّ " تُؤْويه " من قوله " وفَصيلتِه التي تُؤْويه " لا يجوزُ إبْدالُها للثِّقَلِ .
(1/5849)
وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)
قوله : { عَآئِلاً } : أي : فقيراً . وهذه قراءةُ العامَّةِ . يقال : عال زيدٌ أي : افتقر . قال جرير :
4595 اللهُ نَزَّل في الكتابِ فريضةً ... لابنِ السبيل وللفقيرِ العائلِ
وأعال : كَثُرَ عيالُه قال :
4596 ومايَدْري الفقيرُ متى غِناه ... وما يَدْري الغَنِيُّ متى يُعيلُ
وقرأ اليماني " عَيِّلاً " بكسر الياء المشددة كسَيِّد .
(1/5850)
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)
قوله : { فَأَمَّا اليتيم } : منصوبٌ ب تَقْهَرْ . وبه استدل الشيخ ابن مالك - رحمه الله - على أنه لا يَلْزَمُ من تقديمِ المعمولِ تقديمُ العامل . ألا ترى أن " اليتيمَ " منصوبٌ بالمجزوم ، وقد تقدَّم على الجازمِ ، ولو قَدَّمْتَ " تَقْهَرْ " على " لا " لامتنع؛ لأنَّ المجزومَ لا يتقدَّمُ على جازِمِه ، كالمجرورِ لا يتقدَّمُ على جارِّه ، وتقدَّم ذلك في سورة هود عند قولِه تعالى : { أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ } [ هود : 8 ] . وقراءةُ العامَّةِ " تَقْهَرْ " بالقاف من الغلبةِ . وابن مسعود والشعبي وإبراهيم التيمي بالكاف . يقال : كَهَرَ في وجهه ، أي : عَبَسَ . وفلان ذو كُهْرُوْرة ، أي عابسُ الوجه . ومنه الحديث " فبأبي وأمي هو ما كَهَرني " قاله الزمخشري . وقال الشيخ : " وهي لغةٌ بمعنى قراءةِ الجمهور " انتهى . والكَهْرُ في الأصل : ارتفاعُ النهارِ مع شدَّةِ الحَرِّ
(1/5851)
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
قوله : { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } : متعلقٌ ب حَدِّثْ ، والفاء غيرُ مانعةٍ من ذلك . وقد تقدَّم هذا .
(1/5852)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)
قوله : { أَلَمْ نَشْرَحْ } : الاستفهامُ إذا دخل على النفي قَرَّره ، فصار المعنى : قد شَرَحْنا ، ولذلك عَطَفَ عليه الماضي . ومثلُه { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ } [ الشعراء : 18 ] . والعامَّةُ على جزمِ الحاء ب " لم " وقرأ أبو جعفر بفتحها . وقال الزمخشري : " وقالوا : لعلَّة بَيَّنَ الحاءَ وأشبعها في مَخْرَجِها ، فظنَّ السامعُ أنه فتحها " وقال ابن عطية : " إنَّ الأصلَ : ألم نَشْرَحَنْ " بالنونِ الخفيفةِ ، ثم أَبْدَلَها ألفاً ، ثم حَذَفَها تخفيفاً ، كما أنشد ابو زيد :
4597 مِنْ أيِّ يَوْمَيَّ من الموتِ أفِرّْ ... أيومَ لم يُقْدَرَ أم يومَ قُدِرْ
بفتح راء " لم يُقْدَرَ " وكقولِه :
4598 اضْرِبَ عنكَ الهمومَ طارِقَها ... ضَرْبَكَ بالسيفِ قَوْنَسَ الفَرَسِ
بفتح باء " اضربَ " انتهى . وهذا مبنيٌ على جوازِ توكيدِ المجزومِ ب لم ، وهو قليلٌ جداً ، كقولِه :
4599 يَحْسَبُه الجاهلُ ما لم يَعْلما ... شيخاً على كُرْسِيِّه مُعَمَّما
فتتركبُ هذه القراءةُ مِنْ ثلاثةِ أصولٍ كلُّها ضعيفةٌ؛ لأنَّ توكيدَ المجزومِ ب " لم " ضعيفٌ ، وإبدالُها أَلِفاً إنما هو الوقفِ ، وإجراءُ الوصلِ مجرى / الوقفِ خِلافُ الأصلِ ، وحَذْفُ الألفِ ضعيفٌ ، لأنه خلافُ الأصلِ . وخَرَّجه الشيخُ على لغةٍ حكاها اللحيانيُّ في " نوادره " عن بعضِ العربِ وهو الجزمُ ب " لن " ، والنصبُ ب " لم " عكسَ المعروفِ عند الناس ، وجعله أَحْسَنَ ممَّا تقدَّم . وأنشد قولَ عائشةَ بنتِ الأعجم تمدح المختار وهو القائمُ بطَلَبِ ثأر الحسين بن علي رضي الله عنهما :
4600 قد كادَ سَمْكُ الهدى يُنْهَدُّ قائمُهُ ... حتى أتيحَ له المختارُ فانْعَمدا
في كلِّ ما هَمَّ أمضى رأيَه قُدُماً ... ولم يُشاوِرَ في إقدامِه أحدا
بنَصْبِ راء " يُشاور " وجَعَله محتمِلاً للتخريجَيْنِ .
(1/5853)
الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3)
قوله : { أَنقَضَ ظَهْرَكَ } : أي : حَمَله على النقيضِ وهو صوتُ الانتقاضِ والانفكاكِ لثِقَلِه ، مَثَلٌ لِما كان يُثْقِلُه صَلَّى الله عليه وسلَّم . قال أهل اللغة : أَنْقَضَ الحِمْلُ ظَهْرَ الناقةِ إذا سَمِعْتَ له صَريراً مِنْ شِدَّة الحِمْلِ . وسمِعْتُ نقيضَ الرَّحْلِ ، أي : صريرَه . قال العباس ابن مرداس :
4601 وأَنْقَضَ ظهري ما تَطَوَّيْتَ منهمُ ... وكنتُ عليهم مُشْفِقاً مُتَحَنِّناً
وقال جميل :
4602 وحتى تداعَتْ بالنَّقيضِ حِبالُه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1/5854)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5)
قوله : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } : العامَّةُ على سكونِ السين في الكلم الأربع ، وابن وثاب وأبو جعفر وعيسى بضمِّها . وفيه خلافٌ . هل هو أصلٌ ، أو مثقلٌ من المسكِّن؟ والألفُ واللامُ في " العُسر " الأولِ لتعريف الجنس ، وفي الثاني للعهدِ؛ ولذلك رُوِيَ عن ابن عباس : " لن يُغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن " ورُوي أيضاً مرفوعاً أنه عليه السلام خرج يضحك يقول : " لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ " والسببُ فيه : أنَّ العربَ إذا أَتَتْ باسمٍ ثم أعادَتْه مع الألفِ واللامِ ِكان هو الأولَ نحو : " جاء رجلٌ فأكرمْتُ الرجلَ " وكقولِه تعالى : { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } [ المزمل : 1516 ] ولو أعادَتْه بغير ألفٍ ولامٍ كان غيرَ الأول . فقوله : { إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } لَمَّا أعاد العُسْرَ الثاني أعادَه بأل ، ولَمَّا كان اليُسْرُ الثاني غيرَ الأولِ لم يُعِدْه ب أل .
وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ ما معنى قولِ ابن عباس؟ وذكرَ ما تقدَّم . قلت : هذه عَمَلٌ على الظاهرِ وبناءٌ على قوةِ الرجاءِ ، وأنَّ موعدَ اللَّهِ لا يُحْمل إلاَّ على أوفى ما يحتملُه اللفظُ وأَبْلَغُه ، والقولُ فيه أنه يحتمل أَنْ تكونَ الجملةُ الثانيةُ تكريراً للأولى ، كما كرَّر قولَه : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ المرسلات : 15 ] لتقريرِ معناها في النفوسِ وتمكينِها في القلوب ، وكما يُكَرَّر المفرد في قولك : " جاء زيدٌ زيدٌ " وأَنْ تكونَ الأولى عِدَةً بأنَّ العُسْرَ مُرْدَفٌ بيُسْرٍ لا مَحالَةَ ، والثانيةُ عِدَةً مستأنفةٌ بأنَّ العُسْرَ متبوعٌ بيسرٍ ، فهما يُسْران على تقديرِ الاستئناف ، وإنما كان العُسْرُ واحداً لأنه لا يخلو : إمَّا أَنْ يكونَ تعريفُه للعهدِ وهو العسرُ الذي كانوا فيه فهو هو؛ لأنَّ حكمَه حكمُ " زيد " في قولك : " إنَّ مع زيد مالاً ، إنَّ مع زيد مالاً " وإمَّا أَنْ يكونَ للجنسِ الذي يَعْلَمُه كلُّ أحدٍ فهو هو أيضاً ، وأمَّا اليُسْرُ فمنكَّرٌ مُتَناولٌ لبعض الجنسِ ، وإذا كان الكلامُ الثاني مستأنفاً غيرَ مكررٍ فقد تناوَلَ بعضاً غيرَ البعضِ الأولِ بغيرِ إشكال " .
وقال أبو البقاء : " العُسْرُ في الموضعَيْنِ واحدٌ؛ لأنَّ الألفَ واللامَ توجبُ تكريرَ الأولِ ، وأمَّا " يُسْراً " في الموضعَيْنِ فاثنانِ ، لأنَّ النكرةَ إذا أُريد تكريرُها جيْءَ بضميرِها أو بالألفِ واللام ، ومن هنا قيل : " لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن " وقال الزمخشري أيضاً : " فإنْ قلتَ : إنَّ " مع " للصحبة ، فما معنى اصطحابِ اليُسْرِ والعُسْرِ؟ قلت : أراد أنَّ اللَّهَ تعالى يُصيبُهم بيُسرٍ بعد العُسْرِ الذي كانوا فيه بزمانٍ قريبٍ ، فَقَرُبَ اليُسْرُ المترقَّبُ حتى جَعَله كأنَّه كالمقارِنِ للعُسْرِ ، زيادةً في التسلية وتقويةً للقلوب " وقال أيضاً : فإنْ قلتَ ما معنى هذا التنكير؟ قلت : التفخيمُ كأنه قيل : إنَّ مع العُسْر يُسْراً عظيماً وأيَّ يُسْرٍ؟ وهو في مُصحفِ ابن مسعودٍ مرةٌ واحدٌ . فإنْ قلتَ : فإذا ثَبَتَ في قراءتِه غيرَ مكررٍ فلِمَ قال : " والذي نفسي بيده لو كان العُسْرُ في جُحْرٍ لطَلَبه اليُسْرُ حتى يَدْخُلَ عليه ، لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن " قلت : " كأنه قَصَدَ باليُسْرين ما في قوله " يُسْراً " مِنْ معنى التفخيم ، فتأوَّله ب " يُسْرِ الدارَيْن " وذلك يُسْران في الحقيقة " .
(1/5855)
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7)
قوله : { فَإِذَا فَرَغْتَ } : العامَّةُ على فتحِ الراءِ مِنْ " فَرَغْتَ " وهي الشهيرةُ ، وقرأها أبو السَّمَّال مكسورةً ، وهي لُغَيَّةُ قال الزمخشري : " ليسَتْ بالفصيحة " وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ فيكف تعلَّق قولُه " فإذا فَرَغْتَ فانصَبْ " بما قبلَه؟ قلتُ : لَمَّا عَدَّد نِعَمَه السَالفةَ ووعْدَه الآنفةَ بعثَة على الشكرِ والاجتهادِ في العبادة . عن ابن عباسٍ : فإذا فَرَغْتَ مِنْ صلاتِك فانصَبْ في الدعاء " .
والعامَّةُ على فتحِ الصادِ وسكونِ الباء أمراً من النَّصَب وقُرئ بتشديدِ الباءِ متفوحةً أَمْراً من الأنْصباب ، وكذا قُرِئ بكسر الصاد ساكنةَ الباء أمراً من النَّصْب بسكون الصاد ، ولا أظن الأولى إلاَّ تصحيفاً ولا الثانيةَ إلاَّ تحريفاً فإنها تُرْوى عن الإِمامية . وتفسيرُها : فإذا فَرَغْتَ مِنْ النبوَّةِ فانْصِبِ الخليفة . قال ابن عطية : " وهي قراءةُ ضعيفةٌ شاذةٌ لم تَثْبُتْ عن عالمٍ " قال الزمخشري : " ومن البدعِ ما رُوي عن بعضِ الرافضةِ أنه قرأ " فانصِبْ " أي : انْصِبْ عليَّاً للإِمامة ، ولو صَحَّ هذا للرافِضِيِّ لصَحَّ للناصِبيِّ أن يَقْرأ هكذا ، ويجعَلَه أمراً بالنَّصبْ الذي هو بُغْضُ عليّ رضي الله عنه وعداوتُه " .
(1/5856)
وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
قوله : { فارغب } : مِنْ الرَّغْبة وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة " فَرَغَّب " بتشديد العين . أمراً مِنْ رَغَّبَة بالتشديدِ ، اي : فَرَغِّب الناسَ إلى طلبِ ماعنده .
(1/5857)
وَطُورِ سِينِينَ (2)
قوله : { وَطُورِ سِينِينَ } : الطُّور جَبَلٌ . وسينين : اسم مكانٍ فأُضيف الجبل للمكان الذي هو به . قال الزمخشري : " ونحو سِينون يَبْرُوْن في جواز الإِعرابِ بالواو والياء والإِقرارِ على الياءِ وتحريكِ النونِ بحركات الإِعراب " وقال أبو البقاء : " هو لغةٌ في سَيْناء " انتهى . وقرأ العامَّةُ بكسرِ السين . وابنُ أبي إسحاق وعمرو بن ميمون وأبو رجاءٍ بفتحها ، وهي لغةُ بكرٍ وتميم . وقرأ عمر بن الخطاب وعبد الله والحسن وطلحة " سِيْناءَ " بالكسر ، والمد ، وعمرُ أيضاً وزيدُ بن علي بفتحِها والمدِّ ، وقد ذُكِرا في المؤمنين ، وهذه لغاتٌ اختلفَتْ في هذا الاسمِ السُّرْيانيِّ على عادةِ العرب في تلاعُبها بالأسماء الأعجميةِ . وقال الأخفش : " سينين شجرٌ ، الواحدةُ سِيْنِية " وهو غريبٌ جداً غيرُ معروفٍ عن أهلِ التفسير .
(1/5858)
وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)
قوله : { الأمين } : هذا فَعيل للمبالغةِ ، أي : أمِنَ مَنْ فيه ، ومَنْ دخله مِنْ إنسِيّ وطيرٍ وحيوانٍ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ أَمُنَ الرجلُ بضمِ الميم أمانةً فهو أمينٌ ، وأمانتُه . حِفْظُه مَنْ دَخَله كما يَحْفَظُ الأمينُ ما يُؤْتَمَنُ عليه . ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى مَفْعول ، مِنْ أَمِنَة لأنه مأمونُ الغَوائل .
(1/5859)
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
قوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا } : هذا هو المُقْسَمُ عليه .
قوله : { في أَحْسَنِ تَقْوِيم } صفةٌ لمحذوفٍ ، أي : في تقويمٍ أحسنِ تقويم . وقال أبو البقاء : في أحسنِ تقويم في موضع الحالِ من " الإِنسان " وأراد بالتقويمِ القَوام لأنَّ التقويمَ فِعْلٌ وذاك وَصْفٌ للخالقِ لا للمخلوقِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ التقديرُ : في أحسنِ قَوامِ التقويمِ ، فحُذِف المضافُ . ويجوزُ أَنْ تكونَ " في " زائدةً ، اي : " قَوَّمْناه أحسنَ تقويم " انتهى ، ولا حاجةَ إلى هذه التكلُّفاتِ
(1/5860)
ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)
قوله : { أَسْفَلَ سَافِلِينَ } : يجوزُ فيه وجهان ، أحدهما : أنه حالٌ من المفعول . والثاني : أنه صفةٌ لمكانٍ محذوفٍ ، أي : مكاناً أسفلَ سافِلين وقرأ عبد الله " السَّافِلين " معرَّفاً .
(1/5861)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)
قوله : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ } : فيه وجهان أحدُهما : أنه متصلٌ على أنَّ المعنى : رَدَدْناه أسفلَ مِنْ سِفْلٍ خلْقاً وتركيباً يعني : أقبحَ مِنْ خَلْقِه وأَشْوَهَه صورةً ، وهم أهلُ النار فالاتصالُ على هذا واضحٌ ، والثاني : أنه منقطعٌ على أنَّ المعنى : ثم رَدَدْناه بعد ذلك التقويم والتحسينِ أسفَل مِنْ سِفْل في أحسنِ الصورةِ والشكلِ حيث نَكَّسْناه في خلْقِه فقوَّسَ ظهرُه وضَعُفَ بصرُه وسَمْعُه . والمعنى : ولكن الذين كانوا صالحين مِنْ الهرمى فلهم ثوابٌ دائمٌ ، قاله الزمخشري ملخصاً .
(1/5862)
فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)
قوله : { فَمَا يُكَذِّبُكَ } : " ما " استفهاميةٌ في محلِّ رفع بالابتداء . والخبرُ الفعلُ بعدها ، والمخاطَبُ الإِنسانُ على طريقةِ الالتفاتِ وقيل : المخاطَبُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فعلى الأولِ يكون المعنى : فما يجعلك كاذباً بسبب الدِّين وإنكارِه بعد هذا الدليل ، يعني أنك تُكَذِّب إذا كَذَّبْتَ بالجزاءِ؛ لأنَّ كلَّ مكذِّب بالحق فهو كاذبٌ فأيُّ شيءٍ يَضْطَرُّكَ إلى أن تكون كاذباً بسبب الجزاءِ والباءُ مِثْلُها في قولِه تعالى : { على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } [ النحل : 100 ] . وعلى الثاني يكون المعنى : فماذا الذي يُكَذِّبُكَ فيما تُخْبِرُ به مِنْ الجزاء والبعث وهو الدِّين بعد هذه العِبَرِ التي يُوْجِبُ النظرُ فيها صحةَ ما قلتَ؟ قاله الفراء والأخفش .
(1/5863)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)
قوله : { اقرأ } : العامَّةُ على سكونِ الهمزةِ أمراً مِنْ القراءةِ . وقرأ عاصم في روايةِ الأعشى براءٍ مفتوحةٍ ، وكأنه قَلَبَ الهمزةَ ألفاً كقولِهم : قرا يَقْرا نحو : سعَى يَسْعى ، فلمَّا أَمَرَ منه حَذَفَ الألفَ على حَدِّ حَذْفِها مِنْ اسْعَ ، وهذا كقولِ زهير :
4603 . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وإلاَّ يُبْدَ بالظُّلْمِ يُظْلَمِ
وقد تقدَّمَ تحريرُه .
قوله : { باسم رَبِّكَ } : يجوزُ فيه أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ تكونَ الباءُ للحال ، أي : اقرأ مُفْتِتحاً باسمِ ربِّك ، قل باسم الله ، ثم اقرَأْ ، قاله الزمخشري . الثاني : انَّ الباءَ مزيدةٌ والتقدير : اقرأ اسمَ ربِّك ، كقولِه :
4604 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سُوْدُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
وقيل : الاسمُ صلةٌ ، أي : اذكُرْ ربَّك ، قالهما ابو عبيدة . الثالث : أنَّ الباءَ للاستعانةِ والمفعولُ محذوفٌ تقديرُه : اقرَأْ ما يوحى إليك مُسْتعيناً باسمِ ربِّك . الرابع : أنها بمعنى " على " ، أي : اقرأْ على اسمِ ربِّك كما في قولِه : { وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله } [ هود : 41 ] قاله الأخفش ، وقد تَقَدَّم أولَ هذا الموضوع : كيف قَدَّمَ هذا الفعلَ على الجارِّ وقُدِّرَ متأخراً في بسم الله الرحمن الرحيم وتخريجُ الناسِ له ، فأغنى عن إعادَتِه .
قوله : { الذي خَلَقَ خَلَقَ الإنسان } يجوزُ أَنْ يكونَ " خَلَقَ " الثاني تفسيراً ل " خَلَقَ " الأول يعني انه أَبْهمه أولاً ، ثم فَسَّره ثانياً بخَلْقِ الإِنسانِ تفخيماً لخَلْقِ الإِنسانِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ حَذَفَ المفعولَ مِنْ الأولِ ، تقديرُه : خَلَقَ كلَّ شيءٍ لأنَّه مُطْلَقٌ فيتناوَلُ كلَّ مخلوق .
(1/5864)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)
وقوله : { خَلَقَ الإنسان } : تخصيصٌ له بالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ ما يتناوَلُه الخَلْقُ؛ لأنَّ التنزيلَ إليه . ويجوزُ اَنْ يكونَ تأكيداً لفظياً ، فيكونُ قد أكَّد الصلةَ وحدَها ، كقولك : " الذي قام قام زيدٌ " والمرادُ بالإِنسانِ الجنسُ ولذلك قال : { مِنْ عَلَقٍ } جمعَ عَلَقة؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ مخلوقٌ مِنْ عَلَقَةٍ كما في الآية الآخرى .
(1/5865)
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
وقوله : { الذى عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ } : قريبٌ مِنْ قولِه : " خَلَق ، خلَق الإِنسانَ " فلكَ أَنْ تُعيدَ فيه ما تقدَّم .
(1/5866)
أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)
قوله : { أَن رَّآهُ } : " أنْ " مفعولٌ له ، أي : لرؤيتِه نفسَه مُسْتَغْنياً . وتعدى الفعلُ هنا إلى ضميرَيْه المتصلَيْن؛ لأنَّ هذا مِنْ خواصِّ هذا البابِ . قال الزمخشري : " ومعنى الرؤيةِ العِلْمُ لو كانَتْ بمعنى الإِبصارِ لامتنعَ في فِعْلِها الجمعُ بين الضميرَيْن ، و " استغنى " هو المفعول الثاني " . قلت : والمسألةُ فيها خلافٌ : ذهب جماعةٌ إلى أنَّ " رأى " البَصَرية تُعْطي حُكْمَ العِلْمَّية ، وجَعَل مِنْ ذلك قولَ عائشةَ - رضي اللَّهُ عنها - " لقد رَأَيْتُنا مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعامٌ إلاَّ الأسْوَدان " وأنشد :
4605 ولقد أَراني للرِّماح دَرِيْئَةً ... مِنْ عَنْ يمين تارةً وأمامي
وتقدَّم تحقيقُه . وقرأ قنبل بخلافٍ عنه " رَأَه " دونَ ألفٍ بعد الهمزة وهو مقصورٌ مِنْ " رآه " في قراءةِ العامَّةِ ، ولا شكَّ أنَّ الحَذْفَ في مثلِه جاء قليلاً كقولِهم : " اصابَ الناسَ جَهْدٌ ، ولو تَرَ أهلَ مكةَ " بحَذْفِ لامِ " ترى " وقولِ الآخرِ :
4606 وَصَّانِيَ العَجَّاجُ فيما وَصَّني ... يريد : وصَّاني ولَمَّا روى ابن مجاهد هذه القراءةَ عن قنبل وقال : " قرأتُ بها عليه " نَسَبه فيها إلى الغلظ . ولا يَنْبغي ذلك لأنه إذا ثبتَتْ قراءةً ولها وجهٌ وإنْ كان غيرُه أشهرَ منه فلا يَنْبغي أَنْ يُقْدِمَ على تَغْليِطِه .
(1/5867)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9)
قوله : { أَرَأَيْتَ الذي } : قد تقدَّم لك الكلامُ على هذا الحرفِ مُسْتوفى ، وللزمخشريِّ هنا كلامٌ رَأَيْتُ ذِكْرَه لخصوصيَّةٍ تَتَعلَّقُ به قال : " فإن قلتَ : ما متعلَّقُ " أَرَأَيْت "؟ قلت : " الذي يَنْهى " مع الجملةِ الشرطيةِ وهما في موضعِ المفعولَيْنِ . فإن قلت : فأين جوابُ الشرط؟ قلت : هو محذوفٌ تقديرُه : إنْ كان على الهدى أو أمرَ بالتقوى ألم يعلَمْ بأنَّ اللَّهَ يرى ، وإنما حُذِفَ لدلالةِ ذِكْرِه في جوابِ الشرطِ الثاني . فإنْ قلتَ : كيف صََحَّ أَنْ يكونَ " ألم يعلَمْ " جواباً للشرِط؟ قلت : كما صَحَّ في قولِك : إنْ أَكْرَمْتُك أتكرِمُني ، وإن أَحْسَنَ إليك زيدٌ هل تُحْسِنُ إليه؟ فإنْ قلتَ : فما أَرَأَيْتَ الثانيةُ وتوسُّطُها بين معفولَيْ " أَرَأَيْتَ "؟ قلت : هي زائدةٌ مكررةٌ للتوكيد " قلت : وإذ قد تَعَرَّض للكلامِ في هذه الآية فَلْنَجْرِ معه :
أعلَمْ أَنَّ " ارَأَيْتَ " - كما عَلِمْتَ - لا يكونُ مفعولُها الثاني إلاَّ جملةً استفهاميةً كقولِه : { أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ } [ يونس : 50 ] إلى آخرِها . ومثلُه كثيرٌ ، وهنا " أرَأَيْتَ " ثلاثَ مراتٍ ، وقد صَرَّحَ بعد الثالثةِ منها بجملةٍ استفهاميةٍ فتكونُ في موضعِ المفعولِ الثاني لها ، ومعفولُها الأولُ محذوفٌ ، وهو ضميرٌ يعودُ على " الذي ينهى " الواقعِ مفعولاً أولَ ل " أَرَأَيْتَ " الأولى ، ومفعولُ " أَرَأيْتَ " الأولى الذي هو الثاني محذوفٌ ، وهو جملةٌ استفهاميةٌ ، كالجملةِ الواقعةِ بعد " أَرَأَيْتَ " الثالثةِ وأمَّا " أرأَيْتَ " الثانية فلم يُذْكَرْ لها مفعولٌ لا أولُ ولا ثانٍ ، حُذِف الأولُ لدلالة المفعولِ مِنْ " أَرَأَيْتَ " الأولى عليه ، وحُذف الثاني لدلالة مفعولِ " أَرَأَيْتَ " الثالثةِ عليه ، فقد حُذِف الثاني مِنْ الأولى ، والأولُ من الثالثةِ ، والاثنان مِنْ الثانيةِ . وليس طَلَبُ كلٍ مِنْ " أَرَأَيْتَ " للجملةِ الاسميةِ على سبيلِ التنازع لأنه يَسْتدعي إضماراً ، والجملُ لا تُضْمَرُ ، إنما تُضْمَرُ المفردات ، وإنما ذلك مِنْ بابِ الحَذْفِ للدلالةِ . وأمَّا الكلامُ على الشرطِ مع " أَرَأَيْتَ " هذه فقد عَرَفْتَه ممَّا في الأنعام في نُطيل الكلامَ بإعادتِه . وتجويزُ الزمخشريِّ وقوعَ جوابِ الشرط استفهاماً بنفسِه لا يجوزُ ، بل نَصُّوا على وجوبِ ذِكْرِ الفاءِ في مثله ، وإن وَرَدَ شيءٌ فهو ضرورةٌ .
(1/5868)
كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15)
قوله : { لَنَسْفَعاً } : الوقفُ على هذه النونِ بالألفِ ، تشبيهاً لها بالتنوين ، وكذلك يُحْذَفُ بعد الضمة والكسرة وقفاً . وتكتب ههنا ألفاً إتباعاً للوقف . ورُوِي عن أبي عمروٍ " لَنَسْفَعَنَّ " بالنونِ الثقيلةِ . والسَّفْعُ : الأَخْذُ والقَبْضُ على الشيءِ بشدةٍ وجَذْبه . وقال عمرو بن معد يكرب :
4607 قومٌ إذا سَمِعُوا الصَّريخَ رَأَيْتَهُمْ ... ما بين مُلْجمِ مُهْرِه أو سافعِ
وقيل : هو الأَخْذُ بلغةِ قريشٍ . وقال الراغب : " السَّفْعُ : الأخْذُ بسُفْعِه الفَرَس ، أي : بسَوادِ ناصيتِه ، وباعتبار السوادِ قيل للأثافيّ : " سُفْعٌ " وبه سُفْعَةُ غَضَبٍ ، اعتباراً بما يَعْلُو من اللون الدُّخاني وَجْهَ مَنْ اشتدَّ به الغضبُ ، وقيل : للصَّقْر : " أسْفَعُ " لِما فيه مِنْ لَمْعِ السَّوادِ ، وامرأةٌ سَفْعاءُ اللونِ " انتهى . وفي الحديث : " فقامَتِ امرأةٌ سَفْعاءُ الخَدَّيْن " .
(1/5869)
نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16)
قوله : { نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ } : بدلٌ من الناصية بدلُ نكرةٍ من معرفةٍ . قال الزمخشري : " وجاز بَدَلُها عن المعرفةِ وهي نكرةٌ لأنَّها وُصِفَتْ فاسْتَقَلَّتْ بفائدةٍ " قلت : هذا مذهبُ الكوفيين لا يُجيزون إبدال نكرةٍ مِنْ غيرها إلاَّ بشرط وَصْفِها أو كونِها بلفظِ الأولِ ، ومذهبُ البصريين لا يَشْتَرِطُ شيئاً ، وأنشدوا :
4608 فلا وأبيك خيرٍ منك إنِّي ... لَيُوْذِيْنيْ التَّحَمْحُمُ والصَّهيلُ
وقرأ أبو حيوة وابنُ أبي عبلةَ وزيدُ بن علي بنصبِ " ناصيةً كاذبةً خاطئةً " على الشتم . وقرأ الكسائي في روايةٍ بالرفع على إضمارِ : هي ناصية : ونَسَبَ الكَذِبَ والخَطَأَ إليها مجازاً . والألفُ واللامُ في الناصية قيل : عِوَضٌ من الإِضافةِ ، أي : بناصيتِه . وقيل : الضميرُ محذوفٌ ، أي : الناصية منه .
(1/5870)
فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17)
قوله : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } : إمَّا أَنْ يكون حَذْفِ مضاف ، أي : أهلَ نادِيه أو على التجوُّز في نداءِ النادي لاشتمالِه على الناس كقوله : { وَسْئَلِ القرية } [ يوسف : 82 ] . والنادي والنَّدِيُّ : المَجْلِسُ المُتَّخَذُ للحديث . قال زهير :
4609 وفيهم مَقاماتٌ حِسانٌ وجوهُهُمْ ... وأَنْدِيَةٌ يَنْتابُها القولُ والفِعْلُ
وقالت أعرابية : " هو سَيِّدُ ناديه وثمالُ عافية " .
(1/5871)
سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)
قوله : { الزبانية } : قال الزمخشري : " الزَّبانية في كلامِ العربِ : الشُّرَطُ ، الواحد زِبْنِيَة كعِفْرِية ، مِنْ الزَّبْن وهو الدفعُ . وقيل : زِبْنيّ وكأنه نُسِبَ إلى الزَّبْن ، ثم غُيِّر للنَّسَبِ ، كقولهم : إمْسيّ وأصلُه زَبانيّ فقيل : زبانِيَة على التعويض " وقال عيسى بن عمر والأخفش : " واحدُهم زابِن : وقيل : لا واحدَ له مِنْ لفظِه كعَباديد وشماطيط " والحاصلُ أنَّ المادةَ تَدُلُّ على الدَّفْعِ قال :
4610 مطاعيمُ في القُصْوى مطاعينُ في الوغَى ... زبانيَةٌ غُلْبٌ عِظامٌ حُلُومُها
وقال آخر :
4611 ومُسْتَعْجِبٍ مِمَّا يرى مِنْ أناتِنا ... ولو زَبَنَتْه الحَرْبُ لم يَتَرَمْرَمِ
وقال عتبة : " وقد زبَنَتْنا الحربُ وزبَنَّاها " ومنه الزُّبون لأنَّه يُدْفع مِنْ بائعٍ إلى آخر . وقرأ العامَّة " سَنَدْعُ " بنونِ العظمة ولم تُرْسَمْ بالواو ، وقد تقدَّم نظيرُه نحو : " يَدْعُ الداعِ " . وقرأ ابنُ أبي عبلة " سيدعى الزبانيةُ " مبنياً للمعفولِ ورَفْعُ الزَّبانية لقيامِها مقامَ الفاعل .
(1/5872)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)
قوله : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ } : أي : القرآن ، أُضْمِرَ للِعْلمِ به . و " في ليلةِ القَدْر " يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً للإِنزالِ . وفي التفسير : أنه أَنْزَلَه إلى السماءِ الدنيا في هذه الليلةِ . ثم نَزَلَ مُنَجَّماً إلى الأرض في عشرينَ سنة . وقيل : المعنى : أَنْزَلَ في شأنها وفَضْلِها . فليسَتْ ظرفاً ، وإنما هو كقولِ عُمَرَ : " خَشِيْتُ أَنْ يَنْزِلَ فيَّ قرأنٌ " وقولِ عائشة : " لأَنا أَحْقُر في نفسي أَنْ يَنْزِل فيَّ قرآنٌ " وسُمِّيَتْ ليلةَ القَدْرِ : إمَّا لتقديرِ الأمور فيها ، وإمَّا لضِيقِها بالملائكةِ .
(1/5873)
تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
قوله : { والروح فِيهَا } : يجوزُ أَنْ يرتفعَ " الرُّوحُ " بالابتداءِ ، والجارُّ بعدَه الخبرُ ، وأن يرتفعَ بالفاعليةِ عطفاً على الملائكةِ ، و " فيها " متعلِّقٌ ب " تَنَزَّلُ "
قوله : { بِإِذْنِ رَبِّهِم } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب " تَنَزَّلُ " وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من المرفوع ب " تَنَزَّلُ " أي ملتبساً بإذن ربِّهم .
قوله : { مِّن كُلِّ أَمْرٍ } يجوزُ في " مِنْ " وجهان ، أحدهما : أنها بمعنى اللام . ويتعلَّقُ ب " تَنَزَّلُ " ، أي : تَنَزَّلُ مِنْ أجلِ كلِّ أمرٍ قُضي إلى العامِ القابل : والثاني : أنَّها بمعنى الباء ، أي : تتنزَّلُ بكلِّ أمرٍ ، فهي للتعدية ، قاله أبو حاتم . وقرأ العامَّةُ " أَمْرٍ " واحدُ الأمور . وابن عباس وعكرمة والكلبي " امْرِئٍ " مُذكَّرُ امرأة ، أي : مِنْ أجلِ كلِّ إنسانٍ . وقيل : مِنْ أجل كلِّ مَلَكٍ ، وهو بعيدٌ . وقيل : " مِنْ كلِّ أَمْرٍ " ليس متعلقاً ب " تَنَزَّلُ " إنما هو متعلِّقٌ بما بعده ، أي : هي سلامٌ مِنْ كلِّ أمرٍ مَخُوفٍ ، وهذا لا يتمُّ على ظاهرِه لأنَّ " سَلامٌ " مصدرٌ لا يتقدَّم عليه معمولُه ، وإنما المرادُ أنَّه متعلِّقٌ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه هذا المصدرُ .
(1/5874)
سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
قوله تعالى : { سَلاَمٌ هِيَ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ " هي " ضمير الملائكة ، و " سلام " بمعنى التسليم ، أي : الملائكة ذاتُ تَسْليمٍ على المؤمنين . وفي التفسير : أنهم يُسَلِّمون تلك الليلةَ على كلِّ مؤمنِ ومؤمنة بالتحية . والثاني : أنها ضميرُ ليلةِ القَدْرِ ، وسلامٌ بمعنى سَلامة ، أي : ليلةُ القَدْرِ ذاتُ سلامةٍ مَنْ شيءٍ مَخْوفٍ . ويجوزُ على كلٍ من التقديرَيْن أَنْ يرتفعَ " سلامٌ " على أنه خبرٌ مقدمٌ ، و " هي " مبتدأٌ مؤخرٌ ، وهذا هو المشهورُ ، وأنْ يرتفع بالابتداء و " هي " فاعلٌ به عند الأخفشِ ، لأنه لا يَشْتَرِطُ الاعتمادَ في عَمَلِ الوصفِ . وقد تقدَّم أَنْ بعضَهم يجعلُ الكلامُ تامَّاً على قولِه { بِإِذْنِ رَبِّهِم } ويُعَلِّقُ " مِنْ كلِّ أمرٍ " بما بعدَه ، وتقدَّم تأويلُه .
وقال أبو الفضل : " وقيل : معناه : هي سلامٌ مِنْ كلِّ أمرٍ أو امرئٍ ، أي : سالمةٌ أو مُسَلَّمةٌ منه . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ " سلامٌ " - هذه اللفظةُ الظاهرةُ التي هي المصدر - عاملاً فيما قبله لامتناع تقدُّمِ معمولِ المصدرِ على المصدرِ ، كما أنَّ الصلةَ كذلك ، لا يجوزُ تقديمُها على الموصول " انتهى . وقد تقدَّم أنَّ معنى ذلك عند هذا القائلِ أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ مَدْلولٍ عليه ب " سَلام " فهو تفسيرُ معنىً لا تفسيرُ إعرابٍ . وما يروى عن ابنِ عباس أنَّ الكلامَ تَمَّ على قولِه تعالى { سلامٌ } ويُبْتدأ ب " هي " على أنَّها خبرُ مبتدأ ، والإِشارةُ ب " ذلك " إلى أنها ليلةُ السابعِ والعشرين ، لأن لفظةَ " هي " سابعةٌ وعشرون مِنْ كَلِمِ هذه السورةِ ، وكأنَّه قيل : ليلةُ القدر الموافقةُ في العددِ لفظةَ " هي " مِنْ كِلَمِ هذه السورةِ ، فلا ينبغي أن يُعْتَقَدَ صحتُه لأنه إلغازٌ وتبتيرٌ لنَظْم فصيحِ الكلامِ .
قوله : { هِيَ حتى مَطْلَعِ } متعلِّقٌ ب " تَنَزَّلُ " أو ب " سَلامٌ " وفيه إشكالٌ للفَصْلِ بين المصدرِ ومعمولِه بالمبتدأ ، إلاَّ يُتَوَسَّعَ في الجارِّ . وفي التفسير : أنهم لا يَزالون يُحَيُّون الناس المؤمنين حتى يَطْلُعَ الفجرُ . وقرأ الكسائي " مَطْلِعِ " بكسر اللام ، والباقون بفتحها ، والفتح هو القِياسُ والكسرُ سماعٌ ، وله أخوات يُحْفَظُ فيها الكسرُ ممَّا ضُمَّ مضارعُه أو فُتح نحو : المَشْرِق والمَجْزِر . وهل هما مصدران أو المفتوحُ مصدرٌ والمكسور مكانٌ؟ خِلافٌ . وعلى كلِّ تقديرٍ فالقياسُ في المَفْعِل مطلقاً مِمَّا ضُمَّتْ عينُ مضارعِه أو فُتِحَتْ فَتْحُ العينِ ، وإنما يقعُ الفرقُ في المكسور العينِ الصحيح نحو : يَضْرِب .
(1/5875)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1)
قوله : { مِنْ أَهْلِ الكتاب } : متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، لأنه حالٌ مِنْ فاعل " كفروا " .
قوله : { والمشركين } : العامَّةُ على قراءةِ " المشركين " بالياء عطفاً على " أهل " قَسَّمَ الكافرين إلى صِنْفَيْن : أهلِ كتابٍ ومشركين . وقرئ " والمشركون " بالواو نَسَقاً على " الذين كفروا " .
قوله : { مُنفَكِّينَ } خبرُ يكون . ومُنْفَكِّينَ اسمُ فاعلٍ مِنْ انْفَكَّ . وهي هنا التامَّةُ ، فلذلك لم يَحْتَجْ إلى خبرٍ . وزعم بعضُهم أنها هنا ناقصةٌ وأنَّ الخبرَ مقدرٌ تقديره : منفكِّين عارفين أَمْرَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم . قال الشيخ : " وحَذْفُ خبرِ كان [ وأخواتِها ] لا يجوزُ اقتصاراً ولا اختصاراً ، وجعلوا قولَه :
4612- . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يَبْغي جِوارَكِ حينَ ليسَ مُجِيرُ
أي : في الدنيا ضرورةً " قلت : وَجْهُ مَنْ منع ذلك أنه قال : صار الخبرُ مطلوباً من جهتَيْن : مِنْ جهة كونِه مُخْبَراً به فهو أحدُ جُزْأي الإِسناد ، ومِنْ حيث كونُه منصوباً بالفعلِ . وهذا مُنْتَقَضٌ بمعفولَيْ " ظنَّ " فإنَّ كلاًّ منهما فيه المعنيان المذكوران ، ومع ذلك يُحْذَفان - أو أحدُهما - اختصاراً ، وأمَّا الاقْتصارُ ففيه خِلافٌ وتفصيلٌ مرَّ تفصيلُه في غضونِ هذا التصنيفِ .
قوله : { حتى تَأْتِيَهُمُ } : متعلقةٌ ب " لم يكنْ " أو ب " مُنْفَكِّين " .
(1/5876)
رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2)
قوله : { رَسُولٌ } : العامَّةُ على رفعِه بدلاً من " البيِّنة " : إمَّا بدلَ اشتمالٍ ، وإمَّا كلٍ مِنْ كل على سبيلِ المبالغة ، جَعَلَ الرسولَ نفسَ البيِّنة ، أو على حَذْفِ مضافٍ ، أي : بَيِّنَةُ رسولٍ . ويجوزُ رَفْعُه على خبرِ ابتداء مضمرٍ ، أي : هي رسولٌ . وقرأ عبد الله وأُبَيّ " رسولاً " على الحالِ من البيِّنة . والكلامُ فيها على ما تقدَّم من المبالغة أو حذف المضافِ .
قوله : { مِّنَ الله } يجوزُ تعلُّقُه بنفس " رسولٌ " أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل " رسول " وجَوَّز أبو البقاء وجهاً ثالثاً وهو : أَنْ يكونَ حالاً مِنْ " صُحُفاً " والتقدير : يتلُو صُحُفاً مطهَّرة منزَّلةً مِنْ الله ، يعني كانت في الأصل صفةً للنكرة فلَّما تقدَّمَتْ عليها نُصِبَتْ حالاً .
قوله : { يَتْلُو } : يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً ل " رسول " ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ الضمير في الجارِّ قبلَه إذا جَعَلْتَه صفةً ل " رسول " .
(1/5877)
فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)
قوله : { فِيهَا كُتُبٌ } : يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً صفةً ل " صُحُفاً " ، أو حالاً مِنْ ضمير " مُطَهَّرَة " وأَنْ يكونَ الوصفُ أو الحالُ الجارَّ والمجرورَ فقط ، و " كُتُبٌ " فاعلٌ به ، وهو الأحسنُ .
(1/5878)
وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
قوله : { مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } : العامَّةُ على كَسْرِ اللامِ اسمَ فاعلٍ ، وانتصب به " الدّينَ " والحسن بفتحِها على معنى : أنهم يُخْلِصون هم أنفسهم في نياتهم ، وانتصب " الدينَ " على أحدِ وجهَيْن : إمَّا إسقاطِ الخافضِ ، أي : في الدين ، وإمَّا على المصدر من معنى : ليَعْبُدوا ، كأنه قيل : ليَدينوا الدينَ ، أو ليعبدوا العبادةَ ، فالتجوُّز : إمَّا من الفعلِ ، وإمَّا في المصدر ، وانتصابُ " مُخْلِصِين " على الحال مِنْ فاعل " يعبدون " .
قوله : { حُنَفَآءَ } حالٌ ثانيةٌ أو حال من الحالِ قبلَها ، أي : من الضمير المستكنِّ فيها . وقوله : { وَمَآ أمروا } ، أي : وما أُمِروا بما أُمِروا به إلاَّ لكذا وقرأ عبد الله " وما أُمِروا إلاَّ أَنْ يَعْبُدوا " أي : بأَنْ يَعْبدوا . وتحريرُ مثلِها في قوله { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين } [ الآية : 71 ] في الأنعام .
وقوله : { وَذَلِكَ دِينُ القيمة } أي : الأمَّةُ أو المِلَّةُ القيمةُ ، أي : المستقيمة . وقيل : الكتبُ القَيِّمة؛ لأنها قد تقدَّمَتْ في الذِّكْرِ ، قال تعالى : { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } [ البينة : 3 ] ، فلَّما أعادها أعادَها مع أل العهديةِ كقوله : { فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } [ المزمل : 16 ] وهو حسنٌ ، قاله محمد بن الأشعت الطالقاني وقرأ عبد الله : " وذلك الدِّين القيمةِ " ، والتأنيثُ حينئذٍ : إمَّا على تأويلِ الدٍّين بالمِلة كقوله :
4613 . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سائِلْ بني أسدٍ ما هذه الصَوْتُ
بتأويل الصيحة ، وإمَّا على أنها تاءُ المبالغةِ كعَلاَّمة .
(1/5879)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)
قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } : كما مَرَّ في أول السورة . وقولُه : " في نارِ " هذا هو الخبرُ ، و " خالدين " حالٌ من الضمير المستكنِّ في الخبر .
(1/5880)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)
قوله : { البرية } : قرأ نافعٌ وابن ذَكْوان " البَريئة " بالهمزِ في الحرفَيْن ، والباقون بياءٍ مشدَّدةٍ . واخْتُلِف في ذلك الهمز ، فقيل : هو الأصلُ ، مِنْ بَرَأ اللَّهُ الخَلْقَ ابتدأه واخترعَه فيه فعليةٌ بمعنى مَفْعولةٌ ، وإنما خُفِّفَتْ ، والتُزِمَ تحفيفُها عند عامَّةِ العربِ . وقد ذَكَرْتُ أنَّ العربَ التزمَتْ غالباً تخفيفَ ألفاظٍ منها : النبيُّ والخابِيةَ والذُّرِّيَّة والبَرِيَّة . وقيل : بل البَرِيَّةُ دونَ همزةِ مشتقةٌ مِنْ البَرا ، وهو الترابُ ، فهي أصلٌ بنفسِها ، فالقراءتان مختلفتا الأصلِ متفقتا المعنى . إلاَّ أنَّ ابنَ عطيةَ غَضَّ مِنْ هذا فقال : " وهذا الاشتقاقُ يَجْعَلُ الهمزةَ خطأً وهو اشتقاقٌ غيرُ مَرْضِيّ " انتهى . يعني أنَّه إذا قيل بأنَّها مشتقةٌ من البَرا وهو الترابُ فمَنْ أين يجيْءُ في القراءةِ الأخرى؟ وهذا غيرُ لازم لأنهما قراءتان مُسْتقلَّتان ، لكلٍ منهما أصلٌ مستقلٌ ، فقيل : مِنْ بَرَأَ ، أي : خَلَق ، وهذه مِنْ البَرا؛ لأنَّهم خُلِقوا مِنْه ، والمعنى بالقراءتين شيءٌ واحدٌ ، وهو جميعُ الخَلْقِ . ولا يُلْتَفَتُ إلى مَنْ ضَعَّف الهمزَ من النحاةِ والقُرَّاءِ لثبوتِه متواتِراً .
وقرأ العامَّةُ " خيرُ البَرِيَّة " مقابلاً لشَرّ . وعامر بن عبد الواحد " خِيارُ " وهو جمع خَيِّر نحو : جِياد وطِياب في جمع جَيِّد وطَيِّب ، قاله الزمخشري .
(1/5881)
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
قوله : { خَالِدِينَ } : حالٌ عاملُه محذوفٌ ، أي : دَخَلوها أو أُعْطُوها . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ " هم " في " جزاؤهم " لئلا يلزَمَ الفصلُ بين المصدرِ ومعموله بأجنبي . على أنَّ بعضَهم أجازه منهم ، واعتذروا : بأن المصدرَ هنا غيرُ مقدَّرٍ بحرفٍ مصدري . قال أبو البقاء : " وهو بعيد " وأمَّا " عند " فيجوز أَنْ يكونَ حالاً مِنْ " جزاؤهم " ، وأَنْ يكونَ ظرفاً له . و " أبداً " ظرفُ زمانٍ منصوبٌ بخالدين .
قوله { رِّضِىَ الله عَنْهُمْ } يجوزُ أَنْ يكونَ دعاءً مستأنفاً ، وأَنْ يكونَ خبراً ثانياً ، وأَنْ يكونَ حالاً بإضمار " قد " عند مَنْ يلتزمُ ذلك .
قوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ } : أي : ذلك المذكورُ مِنْ استقرارِ الجنةِ مع الخلودِ ورِضا الله عنه لِمَنْ خَشِيَ به .
(1/5882)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1)
قوله : { إِذَا زُلْزِلَتِ } : " إذا " شرطٌ ، وجوابُها " تُحَدِّثُ " وهو الناصبُ لها عند الجُمهورِ . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ العاملُ فيها " يَصْدُرُ " وغيرُهم يجعلُ العاملَ فيها ما بعدَها ويَليها ، وإنْ كان معمولاً لها بالإِضافةِ تقديراً ، واختاره مكي ، وجَعَلَ ذلك نظيرَ " مَنْ " و " ما " يعني أنَّهما يَعْملان فيما بعدَهما الجزمَ ، وما بعدَهما يعملُ فيهما النصبَ ، ولو مثَّل بأَيّ لكان أوضحَ . وقيل : العاملُ فيها مقدَّرٌ ، أي : يُحْشَرون . وقيل : اذكُرْ ، وحينئذٍ تَخْرُج عن الظرفية والشرط .
قوله : { زِلْزَالَهَا } مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه . والمعنى : زِلْزالَها الذي تَسْتَحقه ويَقْتضيه جِرْمُها وعِظَمُها . قال الزمخشري : " ونحُوه : أكرِمِ التقيَّ إكرامَه ، وأَهِنِ الفاسِقَ إهانتَه ، أو زِلْزالَها كلَّه " والعامَّةُ بكسر الزايِ .
والجحدريُّ وعيسى بفتحِها . فقيل : هما مصدران بمعنى . وقيل : المكسورُ مصدرٌ ، والمفتوحُ اسمٌ . قال الزمخشري : " وليس في الأبنية فَعْلال بالفتح إلاَّ في المضاعَفِ " قلت : وقد جَعَلَ بعضُهم المفتوحَ بمعنى اسمِ الفاعل نحو : صَلْصَال بمعنى مُصَلْصِل ، وقد تقدَّم ذلك . وقوله : " ليس في الأبنية فَعْلال " يعني غالباً ، وإلاَّ فقد وَرَدَ : " ناقةٌ خَزْعال " .
(1/5883)
وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3)
قوله : { مَا لَهَا } : ابتداءٌ وخبرٌ ، وهذا يَرُدُّ قول مَنْ قال : إنَّ الحالَ في نحو { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } [ المدثر : 49 ] لازِمَةٌ لئلا يصيرَ الكلامُ غير مفيدٍ ، فإنه لا حالَ هنا .
(1/5884)
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)
قوله : { يَوْمَئِذٍ } : أي : يومَ إذ زُلْزِلَتْ . والعاملُ في " يومئذٍ " " تُحَدِّثُ " إنْ جَعَلَتْ " إذا " منصوبةٌ بما بعدها أو بمحذوفٍ ، وإن جَعَلْتَ العاملَ فيها " تُحَدِّثُ " كان " يومئذٍ " بدلاً منها ، فالعاملُ فيه العاملُ فيها ، أو شيءٌ آخرُ لأنه على نيةِ تكرارِ العاملِ . خلافٌ مشهورٌ .
(1/5885)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5)
قوله : { بِأَنَّ رَبَّكَ } : متعلِّقٌ ب " تُحَدِّثُ " أي : تُحَدِّثُ . ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ " أخبارَها " وقيل : الباءُ زائدةٌ ، وأنَّ وما في حَيِّزها بدلٌ من " أخبارَها " وقيل : الباءُ سببيةٌ ، أي : بسبب إيحاءِ اللَّهِ تعالى إليها . وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : أين مفعولاً " تُحَدِّثُ "؟ قلت : حُذِفَ أَوَّلُهما ، والثاني : " أخبارَها " ، وأصله : تُحَدِّث الخلقَ أخبارَها . إلاَّ أنَّ المقصودَ ذِكْرٌ تَحْديثِها الأخبارَ لا ذِكْرُ الخَلْقِ تعظيماً لليوم . فإنْ قلت : بمَ تَعَلَّقَتِ الباءُ في قولِه " بأنَّ ربَّك "؟ قلت : بتُحَدِّثُ؛ لأنَّ معناه : تُحَدِّثُ أخبارَها بسببِ إيحاءِ رَبِّك . ويجوزُ أَنْ يكونَ المعنى : تُحَدِّثُ ربَّك بتحديثِ أنَّ ربَّك أوحى لها أخبارَها ، على أنَّ تَحْديثَها بأنَّ ربَّك أوحى لها تَحْديثٌ بأخبارِها ، كما تقول : نَصَحْتَني كلَّ نصيحة بأَنْ نَصَحْتَني في الدين " قال الشيخ : " وهو كلامٌ فيه عَفْشٌ يُنَزَّه القرآنُ عنه " . قلت : وأيُّ عَفْشٍ فيه مع صِحَّته وفصاحتِه؟ ولكنْ لَمَّا طالَ تقديرُه مِنْ جهةِ إفادتِه هذا المعنى الحسنَ جَعَله عَفْشاً وحاشاه .
ثم قال الزمخشريُّ : " ويجوزُ أَنْ يكونَ " بأنَّ ربَّك " بدلاً مِنْ " أخبارَها " كأنه قيل : يومئذٍ تُحَدِّثُ بأخبارِها بأنَّ ربَّك أوحى لها؛ لأنَّك تقول : حَدَّثْتُه كذا ، وحَدَّثْتُه بكذا " قال الشيخ : " وإذا كان الفعلُ يتعدَّى تارةً بحرفِ جرٍّ ، وتارةً يتعدى بنفسِه ، وحرفُ الجرِّ ليس بزائدٍ ، فلا يجوزُ في تابِعه إلاَّ الموافقةُ في الإِعرابِ فلا يجوز : " استغفَرْتُ الذنبَ العظيمِ " بنصبِ " الذنبَ " وجَرِّ " العظيم " لجواز أنَّك تقولُ " من الذنب " ، ولا " اخْتَرْتُ زيداً الرجالَ الكرامِ " بنصبِ الرجالَ " وخَفْضِ الكرامِ " ، وكذلك لا يجوزُ اَنْ تقولَ : " استغفرتُ من الذنبِ العظيمَ " بنصبِ " العظيمَ " وكذلك في " اخْتَرْتُ " فلو كان حرفُ الجر زائداً جاز الإِتباعُ على موضعِ الاسمِ بشروطهِ المحررةِ في علمِ النحوِ تقول : " ما رأيتُ مِنْ رجلٍ عاقلاً " لأنَّ " مِنْ " زائدةٌ ، " ومِنْ رجل عاقلٍ " على اللفظِ ، ولا يجوز نَصْبُ " رجل " وجَرُّ " عاقل " على جوازِ مراعاةِ دخولِ " مِنْ " ، وإنْ وَرَدَ شيءٌ مِنْ ذلك فبابُه الشِّعْرُ " انتهى . ولا أَدْري كيف يُلْزِمُ الزمخشريَّ ما أَلْزَمَه به من جميعِ ِالمسائلِ التي ذكَرَها ، فإنَّ الزمخشريِّ يقول : إنَّ هذا بدلٌ مِمَّا قبلَه ، ثم ذَكَرَ مُسَوِّغَ دخولِ الباءِ في البدلِ : وهو أنَّ المُبْدَلَ منه يجوزُ دخولُ الباءِ عليه ، فلو حَلَّ البدلُ مَحَلَّ المبدلِ منه ومعه الباءُ ، لكان جائزاً؛ لأنَّ العاملَ يتعَدَّى به ، وذَكَرَ مُسَوِّغاً لخُلُوِّ المبدلِ منه من الباءِ فقال : " لأنَّك تقول : حَدَّثْتُه كذا وحَدَّثْتُه بكذا " وأمَّا كَوْنُه يَمْتنعُ أَنْ تقولَ : " استغفَرتُ الذنبَ العظيمِ " بنَصْبِ " الذنبَ " وجرِّ " العظيمِ " إلى آخرِه ، فليس في كلامِ الزمخشريِّ شيءٌ منه البتةَ .
(1/5886)
ونظيرُ ما قاله الزمخشريُّ في بابِ " استغفر " أَنْ تقولَ " استغفرْتُ اللَّهَ ذنباً مِنْ شَتْمي زيداً " فقولك : " مِنْ شَتْمي " بدلٌ مِنْ " الذنب " وهذا جائزٌ لا مَحالةَ .
قوله : { أوحى لَهَا } في هذه اللامِ أوجهٌ ، أحدُها : أنها بمعنى إلى ، وإنما أُوْثِرَتْ على " إلى " لموافقةِ الفواصلِ . وقال العجَّاج في وَصْف الأرض :
4614 أَوْحَى لها القرارَ فاستقرَّتِ ... وشَدَّها بالرَّاسياتِ الثُّبَّتِ
الثاني : أنَّها على أصلِها ، و " أوحى " يتعدَّى باللامِ تارةً وب " إلى " أخرى ، ومنه البيتُ المتقدمُ ، الثالث : أنَّ اللامَ على بابها من العلةِ ، والموحى إليه محذوفٌ ، وهو الملائكةُ ، تقديرُه : أوحى إلى الملائكةِ لأجلِ الأرضِ ، أي : لأَجْلِ ما يَفْعَلون فيها .
(1/5887)
يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6)
قوله : { يَوْمَئِذٍ } : إمَّا بدلٌ مِنْ يومئذٍ " قبلَه ، وإمَّا منصوبٌ ب " يَصْدُرُ " وإمَّا منصوبٌ ب " اذْكُرْ " مقدراً .
قوله : { أَشْتَاتاً } حالٌ مِنْ " الناس " وهو جمع شَتَّ ، أي : متفرِّقين في الأمنِ والخوفِ والبياضِ والسوادِ .
قوله : { لِّيُرَوْاْ } متعلِّقٌ ب " يَصْدُرُ " وقيل : ب " أوحى " وما بينهما اعتراضٌ . والعامَّةُ على بنائِه للمفعولِ . وهو مِنْ رؤيةِ البصرِ فتعدَّى بالهمزِة إلى ثانٍ ، وهو " أعمالَهم " وقرأ الحسن والأعرج وقتادة وحمادة بن سَلَمة - وتروى عن نافع ، قال الزمخشري : " وهي قراءةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم " - مبنياً للفاعل والمعنى : جزاءَ أعمالِهم .
(1/5888)
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
قوله : { خَيْراً } ، { شَرّاً } : في نصبِهما وجهان ، أظهرهما : أنهما تمييز للمِثْقال فإنه مقدارٌ . والثاني : أنهما بدلان مِنْ " مثقالَ "
قوله : { يَرَهُ } جوابُ الشرط في الموضعين . وقرأ هشام بسكونِ هاء " يَرَهْ " وَصْلاً في الحرفَيْن . وباقي السبعةِ بضمِّها موصولةً بواوٍ وَصْلاً ، وساكنةً وَقْفاً كسائرِ هاءِ الكنايةِ ، هذا ما قرَأْتُ به . ونَقَل الشيخُ عن هشام وأبي بكر سكونَها ، وعن أبي عمرو ضمُّها مُشْبعة ، وباقي السبعةِ بإشباعِ الأولى وسكونِ الثانية . انتهى . وكان ذلك لأجلِ الوقفِ على آخرِ السورةِ غالباً . أمَّا لو وَصَلوا آخرَها بأولِ " العادِيات " كان الحكمُ الإِشباعَ هذا مقتضى أصولِهم كما قَدَّمْتُه وهو المنقولُ .
وقرأ العامَّةُ " يَرَهُ " مبنياً للفاعلِ . وقرأ ابن عباس والحسين بن علي وزيد بن علي وأبو حيوة وعاصم والكسائي في رواية " يُرَه " مبنياً للمفعول . وعكرمة " يَراه " بالألفِ : إمَّا على تقديرِ الجزمِ بحَذْفِ الحركةِ المقدرة ، وإمَّا على تَوَهُّمِ أنَّ " مَنْ " موصولةٌ ، وتحقيق هذا مذكورٌ في أواخِر يوسف . وحكى الزمخشري أن أعرابياً أَخَّر " خيراً يَرَهُ " فقيل له : قَدَّمْتُ وأَخَّرْتَ ، فأنشد :
4615 خذا بَطْنَ هرشى أوقَفاها فإنَّه ... كِلا جانِبَيْ هرشى لَهُنَّ طريقُ
انتهى . يريدُ أنَّ التقديمَ والتأخيرَ سواءٌ ، وهذا لا يجوزُ البتةَ فإنه خطأٌ لا يُعْتَقَدُ به قراءةً .
والذَّرَّة قيل : النملةُ الصغيرةُ . وأصغرُ ما تكونُ قضى عليها حَوْلٌ قال امرؤ القيس :
4616 من القاصراتِ الطَرْفِ لو دَبَّ مُحْوِلٌ ... من الذَّرِّ فوق الإِتْبِ منها لأَثَّرا
(1/5889)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)
قوله : { والعاديات } : جمعُ " عادِيَة " وهي الجاريَةُ بسُرعةٍ ، من العَدْوِ ، وهو المَشْيُ بسُرْعةٍ . والياءُ عن واوٍ لكَسْرِ ما قبلها نحو : الغازِيات من الغَزْوِ . يُقال : عَدا يَعْدُوا عَدْواً ، فهو عادٍ وهي عادِيَةٌ ، وقد تقدَّمَ هذا في المؤمنين .
قوله : { ضَبْحاً } فيه أوجهٌ . أحدُها : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لاسمِ الفاعلِ؛ فإنَّ الضَّبْحَ نوعٌ من السيرِ والعَدْوِ كالضَّبْع . يقال : ضَبَحَ الفَرَسُ وضَبَعَ ، إذا عدا بشدةٍ ، أَخْذاً مِن الضَّبْع ، وهو الذِّرَاع لأنه يَمُدُّه عند العَدْوِ ، وكأنَّ الحاءَ بدلٌ من العين . وإلى هذا ذهب أبو عبيدةَ . والمبردُ . قالا الضَّبْحُ مِنْ إضباعِها في السَّيْرِ . وقال عنترةُ :
4617 والخيلُ تعلَمُ حين تَضْ ... بَحُ في حِياضِ المَوْتِ ضَبْحاً
الثاني : أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ ، أي : ضابحاتٍ ، أو ذوي ضَبْح . والضَّبْحُ : صوتٌ يُسْمَعُ مِنْ صدورِ الخيلِ عند العَدْوِ ، ليس بصَهيلٍ . وعن ابن عباس : انه حكاه فقال : أحْ أحْ . ونُقل عنه : أنه لم يَضْبَحْ من الحيوان غيرُ الخيلِ والكَلْبِ والثعلبِ . وهذا يَنْبغي أَنْ لا يَصِحَّ عنه ، فإنه رُوي أنه قال : سُئِلْتُ عنها ففَسَّرْتُها بالخيل . وكان عليٌّ رضي الله عنه تحت سِقايةِ زمزم فسأله ، وذَكَر له ما قلتُ . فدعاني فلمَّا وقفْتُ على رأسِه قال : " تُفْتي الناسَ بغيرِ علمٍ ، إنَّها لأولُ غزوةٍ في الإِسلام وهي بدرٌ ، ولم يكنْ معنا إلاَّ فَرَسان : فرسٌ للمِقْداد ، وفرسٌ للزُّبَيْر ، والعادياتِ ضَبحْاً : الإِبلُ مِنْ عرفَةَ إلى المزدلفةِ ، ومن المزدلفةِ إلى مِنى " إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قال بعد ذلك : " فإنْ صَحَّتِ الروايةُ فقد اسْتُعير الضَّبْحُ للإِبِل ، كما اسْتُعير المَشافِرُ والحافِرُ للإِنسان ، والشَّفتان للمُهْر " ونَقَل غيرُه أن الضَّبْحَ يكونُ في الإِبلِ والأسْوَدِ من الحَيَّاتِ والبُومِ والصدى والأرنبِ والثعلبِ والقوسِ . وأنشد أبو حنيفةَ في صفةِ قَوْس .
4618 حَنَّانَةٌ مِنْ نَشَمٍ أو تالبِ ... تَضْبَحُ في الكَفِّ ضُباحَ الثعلبِ
وعندي أنَّ هذا مِن الاستعارةِ . ونَقَلَ أهلُ اللغةِ أنَّ أصلَ الضَّبْحِ في الثعلبِ فاسْتُعير للخيلِ ، وهو مِنْ ضَبَحَتْه النارُ : أي غَيَّرت لونَه ولم تُبالغْ فيه . والضَّبْحُ لونٌ يُغَيِّرُ إلى السواد قليلاً .
الثالث : من الأوجه : أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مقدرٍ ، أي : تَضْبَحُ ضَبْحاً . وهذا الفعلُ حالٌ من " العاديات " .
الرابع : أنَّه منصوبٌ بالعادِيات ، وإنْ كان المرادُ به الصوتَ . قال الزمخشري : " كأنَّه قيل : والضَّابحاتِ لأنَّ الضَّبْحَ يكون مع العَدْوِ " . قال الشيخ : " وإذا كان الضَّبْحُ مع العَدْوِ فلا يكون معنى " والعادياتِ " : والضَّابحاتِ فلا ينبغي أن يُفَسَّرَ به " . قلت : لم يَقُلْ الزمشخريُّ أنه بمعناه ، وإنما جعله منصوباً به؛ لأنه لازمٌ له لا يُفارِقُه فكأنَّه ملفوظٌ به . وقوله : " كأنه قيل " تفسيرٌ للتلازُمِ ، لا أنه هو هو .
(1/5890)
فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2)
قوله : { قَدْحاً } : يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً؛ لأنَّ الإِيراء من القَدْح يقال : قَدَحَ فَأَوْرَى وقَدَح فأَصْلَدَ . ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً فالمعنى : قادحاتٍ ، أي : صاكَّاتٍ بحوافِرها ما يُوْرِي النارَ يُقال : " قَدَحْتُ الحجرَ بالحجرِ " أي : صَكَكْتُه به . وقال الزمخشري : " انتصَبَ بما انتصَبَ به ضَبْحاً " . وكان جَوَّزَ في نَصْبِه ثلاثةَ أوجهٍ : النصبَ بإضمارِ فعلٍ ، والنصبَ باسمِ الفاعلِ قبلَه ، لأنه مُلازِمُه ، والنصبَ على الحال . وتُسَمَى تلك النارُ التي تَخْرُج من الحوافرِ نارَ الحُباحِب . قال :
4619 تَقُدُّ السُّلُوقِيَّ المُضاعَفَ نَسْجُهُ ... وتُوْقِدُ بالصُّفَّاحِ نارَ الحُباحِبِ
(1/5891)
فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3)
قوله : { فالمغيرات صُبْحاً } : صُبْحاً : ظرفٌ ، أي : التي تُغير وقتَ الصبح يقال : أغارَ يُغير إغارةً باغَتَ عَدُوَّه لنَهْبٍ أو قَتْلٍ أو أَسْرٍ قال :
4620 فلَيْتَ لي بهمُ قوماً إذا رَكِبوا ... شَنُّوا الإِغارةَ فُرْساناً ورُكْبانا
و " غار " لُغَيَّةٌ ، وأغار وغارَ أيضاً : نَزَل الغَوْرَ وهو المُنْهَبَطُ من الأرض . واختلف الناسُ في موصوفاتِ هذه الصفاتِ أعني العاديات وما بعدها فقيل : الخيلُ ، أي والخيلِ العادياتِ ، فالمُورياتِ ، فالمُغيراتِ . ونظيرُ العطفِ هنا كالعطفِ في قولِه :
4621 يا لَهْفَ زيَّابةَ لِلحارِث ال ... صابحِ فالغانِمِ فالآئِبِ
وتقدَّم تقريرُه أولَ البقرة . وقيل : التقديرُ : والإِبلِ العادياتِ مِنْ عرفةَ إلى مزدلفةَ ، ومِنْ مزدلفةَ إلى مِنى ، كما تقدَّم عن أمير المؤمنين . ويَدُلُّ له قولُ صفيَّةَ بنتِ عبد المطلب :
4622 أمَا والعادياتِ غَداةَ جَمْعٍ ... بأَيْديها إذا سَطَع الغُبارُ
وقيل : " فالموريات " أي : الجماعةُ التي تَمْكُرُ في الحرب . تقول العرب : لأُوْرِيَنَّ لك ، لأَمْكُرَنَّ بك .
(1/5892)
فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)
قوله : { فَأَثَرْنَ } : عَطَفَ الفعلَ على الاسمِ؛ لأنَّ الاسمَ في تأويل الفعلِ لوقوعِه صلةً ل أل . قال الزمخشري : " معطوفٌ على الفعلِ الذي وُضِعَ اسمُ الفاعلِ موضعَه " يعني في الأصل ، إذ الأصلُ : واللاتي عَدَوْنَ فأَوْرَيْنَ فأغَرْنَ فَأَثَرْنَ .
قوله : { بِهِ } : في الهاء أوجهٌ . أحدُهما : أنها ضميرُ الصُّبح ، أي : فَأَثَرْنَ في وقتِ الصُّبح غُباراً . وهذا حَسَنٌّ؛ لأنه مذكورٌ بالصَّريح . الثاني : أنه عائدٌ على المكانِ ، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ؛ لأنَّ الإِثارةَ لا بُدَّ لها من مكان ، فالسِّياقُ والفعلُ يَدُلاَّن عليه . وفي عبارةِ الزمخشريِّ : " وقيل : الضمير لمكان الغارة " هذا على تلك اللُّغَيَّةِ ، وإلاَّ فالفصيحُ أَنْ يقولَ : الإِغارة الثالث : أنَّه ضميرُ العَدْوِ الذي دَلَّ عليه " والعادياتِ " .
وقرأ العامَّةُ بتخفيفِ الثاءِ ، مِنْ أثار كذا : إذا نَشَره وفَرَّقه مع ارتفاعٍ . وقرأ أبو حَيْوَةَ وابن أبي عبلة بتشديدها ، وخَرَّجه الزمخشريُّ على وجهَيْن : الأولُ بمعنى فأَظْهَرْنَ به غباراً؛ لأنَّ التأثيرَ فيه معنى الإِظهارِ . والثاني : أنه قَلَبَ " ثَوَّرْنَ " إلى " وَثَّرْنَ " وقَلَبَ الواوَ همزةً . انتهى . قلت : يعني أنَّ الأصلَ : ثَوَّرْنَ ، مِنْ ثَوَّر يُثَوِّرُ بالتشديد عَدَّاه بالتضعيف كما يُعَدَّى بالهمزة في قولِك : أثاره ، ثم قَلَبَ الكلمةَ : بأنْ جَعَلَ العينَ وهي الواوُ موضعَ الفاء ، وهي الثاءُ ، فصارت وَثَّرْنَ ، ووزنُها حينئذٍ عَفَّلْنَ ، ثم قَلَبَ الواوَ همزةً ، فصار " أَثَرْنَ " وهذا بعيدٌ جداً . وعلى تقديرِ التسليمِ فَقَلْبُ الواوِ المفتوحةِ همزةً لا يَنْقاس إنما جاءت منه أُلَيْفاظٌ كأَحَدٍ وأَناةٍ . والنَّقْعُ : الغبار وأُنْشِد :
4623 يَخْرُجْنَ مِنْ مُسْتطارِ النَّقْعِ داميةً ... كأنَّ آذانَها أطرافُ أَقْلامِ
وقال ابن رَواحة :
4624 عَدِمْتُ بُنَيَّتِي إنْ لَمْ تَرَوْها ... تُثير النَّقْعَ مِنْ كَنَفَيْ كَداءِ
وقال أبو عبيد : " النَّقْعُ رَفْعُ الصوتِ " وأَنْشَد :
4625 فمتى يَنْقَعْ صُراخٌ صادِقٌ ... يُحْلِبُوْها ذاتَ جَرْسٍ وزَجَلْ
قال الزمخشري : " ويجوزُ أَنْ يُرادَ بالنَّقْع الصياحُ ، من قولِه عليه السلام : " ما لم يكن نَقْعٌ ولا لَقْلَقَةٌ " وقولُ لبيد :
فمتى يَنْقَعْ صُراخٌ صادِقٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : هَيَّجْنَ في المَغارِ عليهم صَباحاً " انتهى . فعلى هذا تكون الباءُ بمعنى " في " ويعودُ الضمير على المكانِ الذي فيه الإِغارةُ كما تقدَّمَ .
(1/5893)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5)
قوله : { فَوَسَطْنَ } : العامَّةُ على تخفيفِ السينِ ، أي : تَوَسَّطْنَ . وفي الهاءِ في " به " أوجهٌ ، أحدُها : أنها للصبح ، كما تقدَّم . والثاني : أنها للنَّقْعِ ، أي : وَسَطْنَ بالنَّقْعِ الجَمْعَ ، أي : جَعَلْنَ الغبارَ وَسْطَ الجمع ، فالباءُ للتعدية ، وعلى الأولِ هي ظرفيةٌ ، الثالث : أنَّ الباءَ للحاليةِ ، أي : فتوَسَّطْن مُلْتبساتٍ بالنقع ، أي : بالغبار جمعاً من جموع الأعداء . وقيل : الباءُ مزيدةٌ ، نقله أبو البقاء و " جَمْعاً " على هذه الأوجهِ مفعولٌ به . الرابع : أنَّ المرادَ ب جَمْع المزدلفةُ وهي تُسَمَّى جَمْعاً . والمرادُ أنَّ الإِبلَ تتوسَّطُ جَمْعاً الذي هو المزدلفةُ ، كما مرَّ عن أميرِ المؤمنين رضي الله عنه ، فالمرادُ بالجَمْعِ مكانٌ لا جماعةُ الناسِ ، كقولِ صفية :
4626 . . . . . . . . . . . والعادياتِ غَداةَ جَمْعٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقولِ بشرِ بنِ أبي خازم :
4627 فَوَسَطْنَ جَمْعَهُمُ وأَفْلَتَ حاجبٌ ... تحت العَجابةِ في الغُبارِ الأَقْتَمِ
و " جَمْعاً " على هذا منصوبٌ على الظرف ، وعلى هذا فيكونُ الضميرُ في " به " : " إمَّا للوقتِ ، أي : في وقت الصبح ، وإمَّا للنَّقْع ، وتكونُ الباءُ للحال ، أي : مُلْتبساتٍ بالنَّقْع . إلاَّ أنه يُشْكِلُ نَصْبُ الظرفِ المختصِّ إذ كان حَقُّه أَنْ يتعدى إليه ب " في " وقال أبو البقاء : " إنَّ جَمْعاً حالٌ " وسبقه إليه مكي . وفيه بُعْدٌ؛ إذ المعنى : على أنَّ الخيلَ توسَّطَتْ جَمْعٌ الناسِ .
وقرأ علي وزيد بن علي وقتادة وابن أبي ليلى بتشديد السين ، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ أعني التثقيلَ والتخفيفَ . وقال الزمخشري : " التشديدُ للتعديةِ والباءُ مزيدةٌ للتأكيدِ كقوله : { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } [ البقرة : 25 ] وهي مبالَغَةٌ في " وَسَطْن " انتهى . وقولُه : " وهي مبالَغَةٌ " يناقِضُ قولَه أولاً " للتعدية "؛ لأن التشديدَ للمبالغة لا يُكْسِبُ الفعلَ مفعولاً آخر تقول : " ذَبَحْتُ الغنم " مخففاً ثم تبالِغُ فتقول : " ذَبَّحْتها " مثقلاً ، وهذا على رأيِه قد جَعَله متعدياً بنفسِه بدليلِ جَعْلِه الباءِ مزيدةً فلا يكون للمبالغة .
(1/5894)
إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)
قوله : { إِنَّ الإنسان } : هذا هو المُقْسَم عليه و " لرَبَّه " متعلِّقٌ بالخبرِ ، وقُدِّمَ للفواصلِ . والكَنُوْدُ : الجَحُوْد . وقيل : الكَفورُ النعمةِ وأُنْشِد :
4628 كَنُوْدٌ لِنَعْماءِ الرجالِ ومَنْ يَكُنْ ... كَنُوْداً لِنَعْماءِ الرجالِ يُبَعَّدِ
وعن ابن عباس : هو بلسانِ كِنْدَةَ وحَضْرَمَوْتَ العاصي ، وبلسان ربيعةَ ومُضَرَ الكَفورُ ، وبلسانِ كِنانةَ البخيل . وأنشد أبو زيد :
4629 إنْ تَفْتْني فلم أَطِبْ عنك نَفْساً ... غيرَ أنِّي أمنى بدَيْنٍ كَنُودِ
(1/5895)
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)
قوله : { لِحُبِّ } : اللامُ متعلِّقَةٌ ب " شديدٌ " وفيه وجهان ، أحدهما : أنها المعدِّيةُ . والمعنى : وإنَّه لقَويٌّ مُطيقٌ لِحُبِّ الخير يقال : هو شديدٌ لهذا الأمرِ ، أي : مُطيقٌ له والثاني : أنها للعلةِ ، أي : وإنَّه لأجلِ حبِّ المالِ لَبخيلٌ . وقيل : اللامُ بمعنى " على " . ولا حاجةَ إليه ، وقد يُعَبَّرُ بالشديدِ والمتشدِّدِ عن البخيل قال :
4630 [ أرى ] الموتَ يَعْتامُ الكرامَ ويَصْطَفي ... عَقيلةَ مالِ الفاحشِ المتشدِّدِ
وقال الفراء : " أصلُ نَظْمِ الآية أَنْ يقالَ : وإنه لشديدُ الحُبِّ للخير ، فلما قَدَّم " الحُبّ " قال : لشديد ، وحَذَفَ مِنْ آخرِه ذِكْرَ " الحُبِّ "؛ لأنه قد جرى ذِكْرُه ، ولرؤوسِ الآي كقولِه : { فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } [ إبراهيم : 18 ] والعُصُوف للريح لا لليوم ، كأنه قال : في يومٍ عاصفِ الريحِ " .
(1/5896)
أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)
قوله : { إِذَا بُعْثِرَ } : في العاملِ فيها أوجهٌ أحدُها : " بُعْثِرَ " نقله مكي عن المبرد وتقدَّم تحريرُ هذا قريباً في السورةِ قبلَها . والثاني : أنه ما دَلَّ عليه خبرُ " إنَّ " أي : إذا بُعْثر جُوزوا . والثالث : أنه " يَعْلَمُ " ، وإليه ذهب الحوفيُّ وأبو البقاء . ورَدَّه مكيُّ قال : " لأنَّ الإِنسانَ لا يُرادُ منه العِلْمُ والاعتبارُ ذلك الوقتَ ، وإنما يَعْتَبِرُ في الدنيا ويعلَمُ " وقال الشيخ : " وليس بمتَّضِحٍ لأنَّ المعنى : أفلا يعلَمُ الآن .
وكان قد قال قبل ذلك : " ومفعولُ يَعْلَمُ محذوفٌ وهو العاملُ في الظرفِ ، أي : أفلا يعلم مآلَه إذا بُعْثِرَ " انتهى . فجَعَلَها متعديةً في ظاهرِ قولِه إلى واحدٍ ، وعلى هذا فقد يُقال : إنها عاملةٌ في " إذا " على سبيلِ أنَّ " إذا " مفعولٌ به لا ظرفٌ إذ التقديرُ : أفلا يَعْرِفُ وقتَ بَعْثَرَةِ القبورِ . يعني أَنْ يُقِرَّ بالبعثِ ووقتِه ، و " إذا " قد تصرَّفَتْ وخَرَجَتْ عن الظرفيةِ ، ولذلك شواهدُ تقدَّم ذِكْرُها في غضونِ هذا التصنيفِ . الرابع : أنَّ العاملَ فيها محذوفٌ ، وهو مفعولٌ " يَعْلَمُ " كما تقدَّم تقريرُه ، أي : يعلمُ مآلَه إذا بُعْثِرَ . ولا يجوزُ أن يعملَ فيه " لَخبيرٌ " لأنَّ ما في حَيِّز " إنَّ " لا يتقدَّمُ عليها .
وقرأ العامَّةُ " بُعْثِرَ " بالعين مبنياً للمفعولِ . والموصولُ قائمٌ مقامَ الفاعلِ . وابن مسعودٍ بالحاء . وقرأ الأسود بن يزيد ومحمد بن معدان " بُحِثَ " من البحث . ونصر بن عاصم " بَعْثَرَ " مبنياً للفاعل وهواللَّهُ تعالى أو المَلَكُ . والعامَّةُ " حُصِّل " مبنياً للمفعولِ كالذي قبلَه . ويحيى بن يعمر ونصرُ بن عاصم وابن معدان " حَصَّلَ " مبنياً للفاعلِ . ورُوِي عن ابن يعمرَ ونصرٍ أيضاً " حَصَلَ " خفيفةَ الصادِ مبنياً للفاعل بمعنى : جَمَعَ ما في الصحفِ تَحَصُّلاً ، والتحصيلُ : جَمْعُ الشيء ، والحُصولُ اجتماعُه . وقيل : التحصيلُ التمييزُ . ومنه قيل للمُنْخُل : مُحَصِّل . وحَصَل الشيءُ مخفَّفاً : ظَهَر واستبانَ ، وعليه القراءةُ الأخيرةُ .
(1/5897)
إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
قوله : { إِنَّ رَبَّهُم } : العامَّةُ على كَسْرِ الهمزةِ لوجودِ اللامِ في خبرِها . والظاهرُ أنَّها معلِّقَةٌ ل " يَعْلَمُ " فهي في محلِّ نصب ، ولكن لا يَعْمَلُ في " إذا " خبرُها لِما تقدَّم؛ بل يُقَدَّرُ له عاملٌ مِنْ معناه كما تقدَّم . ويدلُّ على أنها مُعَلِّقَةٌ للعِلْمِ لا مستأنفةٌ قراءةُ أبي السَّمَّال وغيرِه " أنَّ ربَّهم بهم يؤمئذٍ خبيرٌ " بالفتح وإساقطِ اللامِ ، فإنَّها في هذه القراءةِ سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولَيْها . ويُحْكَى عن الخبيثِ الروحِ الحَجَّاج أنه لما فَتَح همزةَ " أنَّ " استدرك على نفسِه فتعمَّد سقوطَ اللامِ . وهذا إنْ صَحَّ كُفْرٌ . ولا يُقالُ : إنها قراءةٌ ثابتةٌ ، كما نَقَلْتُها عن أبي السَّمَّال ، فلا يكفرُ ، لأنه لو قرأها كذلك ناقِلاً لها لم يُمْنَعْ منه ، ولكنه أسقطَ اللامَ عَمْداً إصلاحاً للِسانِه . وأجمعَ الأمةُ على أنَّ مَنْ زاد حرفاً في القرآن أو نَقَصَه عَمْداً فهو كافِرٌ ، وإنما قلتُ ذلك لأنِّي رأيتُ الشيخَ قال : " وقرأ أبو السَّمَّال والحجَّاج " ولا يُحْفَظُ عن الحجَّاجِ إلاَّ هذا الأثرُ السَّوْءُ ، والناسُ يَنْقُلونه عنه كذلك ، وهو أقلُّ مِنْ أَنْ يُنْقَلَ عنه .
و " بهم " و " يومئذٍ " متعلِّقان بالخبرِ ، واللامُ غيرُ مانعةٍ من ذلك ، وقُدِّما لأَجْلِ الفاصلةِ .
(1/5898)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)
قوله : { القارعة مَا القارعة } كقولِه تعالى : { الحاقة مَا الحآقة } [ الحاقة : 12 ] وكقولِه : { وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين } [ الواقعة : 27 ] وقد تقدَّما وقد عَرَفْتَ مِمَّا نقله مكي أنه يجوزُ رَفْعُ " القارعة " بفعلٍ مضمرٍ ناصبٍ ل " يومَ " وقيل : معنى الكلامِ على التحذير . قال الزجاج : " والعرب تُحَذِّر وتُغْري بالرفع كالنصبِ . وأنشد :
4631 لَجَديرون بالوفاءِ إذا ق ... لَ أخو النجدةِ السِّلاحُ السِّلاحُ
قلت : وقد تقدَّم ذلك في قوله : { نَاقَةَ الله } [ الشمس : 13 ] فيمَنْ رفعَه . ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عيسى { القارعةَ ما القارعةَ } بالنصب ، وهو بإضمارِ فعلٍ ، أي : احذروا القارعةَ و " ما " زائدةٌ . والقارعةُ الثانيةُ تأكيدٌ للأولى تأكيداً لفظياً .
(1/5899)
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)
قوله : { يَوْمَ يَكُونُ } : في ناصبِه أوجهٌ ، أحدُها : مضمرٌ يَدُلُّ عليه " القارعةُ ، أي : تَقْرَعُهم يومَ يكون . وقيل : تقديرُه : تأتي القارعةُ يومَ . الثاني : أنَّه " اذْكُرْ " مقدَّراً فهو مفعولٌ به لا ظرفٌ . الثالث : أنَّه " القارعة " قاله ابنُ عطية وأبو البقاء ومكي . قال الشيخ : " فإنْ كان يعني ابنُ عطيةَ عني اللفظَ الأولَ فلا يجوزُ للفَصْلِ بين العاملِ ، وهو في صلةِ أل ، والمعمولِ بأجنبيٍ وهو الخبرُ ، وإن جَعَلَ القارعةَ عَلَماً للقيامة فلا يعملُ أيضاً ، وإنْ عنى الثاني والثالثَ فلا يَلْتَئِمُ معنى الظرفيةِ معه " . الرابع : أنه فعلٌ مقدرٌ رافعٌ للقارعةِ الأولى ، كأنه قيل : تأتي القارعةُ يومَ يكون ، قال مكيٌّ . وعلى هذا فيكونُ ما بينهما اعتراضاً وهو بعيدٌ جداً منافرٌ لنَظْم الكلام . وقرأ زيد بن علي " يومُ " بالرفع خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، أي : وقتُها يومُ يكونُ .
قوله : { كالفراش } يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً للناقصةِ ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعلِ التامَّةِ ، أي : يُوْجَدُون ويُحْشَرونَ شِبْهَ الفَراشَ ، وهو طائرٌ معروفٌ وقيل : هو الهَمَجُ من البعوضِ والجَرادِ وغيرهما ، وبه يُضْرَبُ المَثَلُ في الطَّيْشِ والهَوَجِ يقال : " أَطَيْشُ مِنْ فَراشة " وأُنْشد :
4632 فَراشَةُ الحُلْمِ فِرْعَوْنُ العذابِ وإنْ ... يُطْلَبُ نَداه فكَلْبٌ دونَه كَلْبُ
وقال آخر :
4633 وقد كانَ أقوامٌ رَدَدْتُ قلوبَهُمْ ... عليهم وكانوا كالفَراشِ من الجهلِ
والفَراشةُ : الماءُ القليل في الإِناءِ ، وفَراشة القُفْلِ لشَبَهها بالفَراشة . وفي تشبيه الناسِ بالفَراشِ مبالغاتٌ شتى منها : الطيشُ الذي يلْحَقُهم ، وانتشارُهم في الأرض ، ورُكوبُ بعضِهم بعضاً ، والكثرةُ والضَّعْفُ والذِّلَّةُ والمجيءُ مِنْ غيرِ ذَهابٍ . والقَصْدُ إلى الداعي من كل جهةٍ ، والتطايرُ إلى النار . قال جرير :
4634 إنَّ الفرزدقَ ما عَلِمْتَ وقومَه ... مثلُ الفَراشِ غَشِيْنَ نارَ المُصْطَلي
والعِهْنُ تقدَّم في سأل .
(1/5900)
فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9)
قوله : { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } : أي : هالكةٌ ، وهذا مَثَلٌ . يقولون لمَنْ هَلَكَ : " هَوَتْ أمُّه " لأنه إذا هَلَكَ سَقَطَتْ أمُّه ثُكْلاً وحُزْناً . وعليه قولُ الشاعر :
4635- هَوَتْ أمُّه ما يَبْعَثُ الصبحُ غادياً ... وماذا يَرُدُّ الليلُ حين يَؤُوْبُ
وقرأ طلحة " فإمُّه " بكسرِ الهمزة . نَقَل ابنُ خالَوَيْه عن ابنِ دريد أنها لغةٌ . والنحويون لا يُجيزون ذلك إلاَّ إذا تقدَّمها كسرةٌ أو ياءٌ . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في سورةِ النساء ، واختلافُ القُرَّاء فيه .
(1/5901)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10)
قوله : { مَا هِيَهْ } : مبتدأ وخبرٌ سادَّان مَسَدَّ المفعولَيْن ل " أَدْراك " وهو من التعليقِ و " هي " ضميرُ الهاويةِ ، إنْ كانت الهاويةَُ كما قيل اسماً ل دَرَكَةٍ مِنْ دَرَكاتِ النار ، وإلاَّ عادَتْ على الداهية المفهومةِ من الهاويةِ . وأسقط هاءَ السكتِ حمزةُ وَصْلاً . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في الحاقة . و " نارٌ " خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هي نارٌ .
(1/5902)
حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)
قوله : { حتى زُرْتُمُ } : " حتى " : غايةٌ لقولِه " أَلْهاكم " وهو عطفٌ عليه .
(1/5903)
ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
قوله : { ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } : جعله الشيخُ جمالُ الدينُ بنُ مالك من التوكيدِ اللفظي مع توسُّط حرفِ العطفِ . وقال الزمخشري : " والتكريرُ تأكيدٌ للرَّدْعِ والردِّ عليهم ، و " ثم " دالَّةٌ على أنَّ الإِنذارَ الثاني أبلغُ من الأولِ وأشدُّ ، كما تقولُ للمنصوح : أقولُ لك ثم أقولُ لك لا تفعَلْ " انتهى . ونُقِل عن عليّ كرَّمَ اللَّهُ وجهَه : " كلاَّ سوف تعلمون في الدنيا ، ثم كلاًّ سوف تعلمون في الآخرة " فعلى هذا يكونُ غيرَ مكرَّرٍ لحصولِ التغايُرِ بينهما لأجل تغايُرِ المتعلِّقَيْنِ . و " ثُمَّ " على بابها من المُهْلة . وحُذِفَ متعلَّقُ العِلْمِ في الأفعالِ الثلاثةِ لأنَّ الغَرَضَ الفِعْلُ لا متعلَّقُه . وقال الزمخشري : " والمعنى : لو تعلمون الخطأَ فيما أنتم عليه إذا عانَيْتُمْ ما تَنْقَلبون إليه " فقَدَّر له مفعولاً واحداً كأنه جَعَله بمعنى عَرَفَ .
(1/5904)
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5)
قوله : { لَوْ تَعْلَمُونَ } جوابُه محذوفٌ . أي : لَفَعَلْتُم ما لا يُوصف . وقيل : التقديرُ : لرَجَعْتُمْ عن كُفْرِكم . وعلم اليقين : مصدرٌ . قيل : وأصلُه : العلمَ اليقينَ ، فأُضِيِف الموصوفُ إلى صفتِه . وقيلَ : لا حاجةَ إلى ذلك؛ لأنَّ العِلْمَ يكونُ يقيناً وغيرَ يقينٍ ، فأُضِيفَ إليه إضافةُ العامِّ للخاصِّ . وهذا يَدُلُّ على أنَّ اليقينَ أخصُّ .
وقرأ ابن عباس " أأَلْهاكم " على استفهام التقريرِ والإِنكارِ . ونُقِل في هذا : المدُّ مع التسهيل ، ونُقِلَ فيه تحقيقُ الهمزتَيْن من غيرِ مَدّ .
(1/5905)
لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)
قوله : { لَتَرَوُنَّ } هذا جوابُ قَسَم مقدَّرٍ . وقرأ ابن عامر والكسائي " لتُرَوْنَّ " مبنياً للمفعول . وهو منقولٌ مِنْ " رأى " الثلاثي إلى " أرى " فاكتسَبَ مفعولاً آخر فقام الأولُ مقامَ الفاعلِ . وبقي الثاني منصوباً . والباقون مبنياً للفاعلِ جعلوه غيرَ منقولٍ ، فتعدى لواحدٍ فقط ، فإنَّ الرؤيةَ بَصَريَّةِ . وأمير المؤمنين ، وعاصم وابن كثير في روايةٍ عنهما بالفتح في الأولى والضمِّ في الثانية ، يعني " لَتُرَوُنَّها " ومجاهد وابن أبي عبلة والأشهب بضمها فيهما . والعامَّةُ على أن الواوَيْن لا يُهْمزان؛ لأنَّ حركتَهما عارضةٌ ، نَصَّ على عدمِ جوازِه مكيُّ وأبو البقاء ، وعَلَّلا بعُروضِ الحركةِ .
وقرأ الحسن وأبو عمرو بخلافٍ عنهما بهمزِ الواوَيْن استثقالاً لضمةِ الواوِ . قال الزمشخري : " وهي مستكرهَةٌ " يعني لِعُروض الحركةِ عليها إلاَّ أنَّهم قد هَمَزوا ما هو أَوْلى بعَدَمِ الهمزِ من هذه الواوِ نحو : { اشتروا الضلالة } [ البقرة : 16 ] ، هَمَزَ واوَ " اشتَروْا " بعضُهم ، مع أنها حركةٌ عارضةٌ وتزولُ في الوَقْفِ ، وحركةُ هذه الواوِ ، وإنْ كانت عارضةً ، إلاَّ أنها غيرُ زائلةٍ في الوقفِ فهي أولى بَهْمزِها .
(1/5906)
ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)
قوله : { عَيْنَ اليقين } : مصدرٌ مؤكِّدٌ . كأنه قيل : رؤيةَ العين ، نفياً لتوَهُّمِ المجازِ في الرؤيةِ الأولى . وقال أبو البقاء : " لأنَّ رأى وعايَنَ بمعنىً " .
(1/5907)
وَالْعَصْرِ (1)
قوله : { والعصر } : العامَّةُ على سكونِ الصادِ . وسلام " والعَصِرْ " والصَّبِرْ " بكسرِ الصادِ والباء . قال ابنُ عطية : ولا يجوزُ إلاَّ في الوقفِ على نَقْلِ الحركةِ . ورُوِيَ عن أبي عمروٍ " بالصَّبِر " بكسرِ الباء إشماماً . وهذا أيضاً لا يجوزُ إلاَّ في الوقفِ " انتهى . ونَقَل هذه القراءةَ جماعةٌ كالهُذَليِّ وأبي الفضل الرازيِّ وابنِ خالويه . قال الهُذَليُّ : " والعَصِرْ والصَّبِرْ ، والفَجِرْ ، والوَتِرْ ، بكسرِ ما قبل الساكنِ في هذه كلِّها هارونُ وابنُ موسى عن أبي عمروٍ والباقون بالإِسكانِ كالجماعةِ " انتهى . فهذا إطْلاقٌ منه لهذه القراءةِ في حالتي الوقفِ والوصلِ . وقال ابن خالويه : " والصَّبِرْ " بنَقْل الحركةِ عن أبي عمرو " فأطْلَقَ ايضاً . وقال أبو الفضل : " عيسى البصرة بالصَّبِرْ " بنَقْلِ حركةِ الراءِ إلى الباءِ يُحتاجَ إلى أَنْ يأتيَ ببعضِ الحركةِ في الوقفِ ، ولا إلى أَنْ يُسَكَّنَ فيُجْمَعَ بين ساكنَيْن ، وذلك لغةٌ شائعةٌ وليسَتْ بشاذةٍ ، بل مُسْتفيضةٌ ، وذلك دَلالةٌ على الإِعرابِ ، وانفصالٌ من التقاءِ الساكنَيْن ، وتأديةُ حقِّ الموقوفِ عليه من السكونِ " انتهى . فهذا يُؤْذِنُ بما ذَكَرَ ابنُ عطيةَ أنه كان ينبغي . وأنشدوا على ذلك :
4636 . . . . . . واصْطِفاقاً بالرِّجِلْ ... يريد بالرِّجْلِ . وقال آخر :
4637 أنا جريرٌ كُنْيتي أبو عَمِرْ ... أَضْرِبُ بالسَّيْفِ وسَعْدٌ في القَصِرْ
والنقلُ جائزٌ في الضمة أيضاً كقوله :
4638 . . . . . . . . . . . . . إذْ جَدَّ النُّقُرْ ... والعَصْرُ : الليلةُ واليومُ قال :
4639 ولن يَلْبَثَ العَصْرانِ يَوْمٌ وليلةٌ ... إذا طلبا أن يُدْرِكا ما تَيَمَّما
(1/5908)
إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
قوله : { إِنَّ الإنسان } : المرادُ به العمومُ بدليلِ الاستثناءِ منه ، وهو مِنْ جملةِ أدلة العمومِ . وقرأ العامَّةُ " لَفي خُسْرٍ " بسكونِ السينِ . وزيد بن علي وابنُ هرمز وعاصم في روايةٍ بضمِّها ، وهي كالعُسْرِ واليُسْرٍِ ، وقد تقدَّما أولَ هذا التصنيفِ في البقرة .
(1/5909)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1)
قوله : { هُمَزَةٍ } : أي : كثيرُ الهَمْزِ ، وكذلك " اللُّمَزَة " الكثيرُ اللَّمْزِ . وتقدَّم معنى الهَمْزِ في ن ، واللَّمْزِ في براءة . والعامَّةُ على فتحِ ميمِها على أنَّ المرادَ الشخصُ الذي كَثُرَ منه ذلك الفعلُ . قال زياد الأعجم :
4640 تُدْلِي بِوْدِّيْ إذا لا قَيْتَني كَذِباً ... وإنْ أُغَيَّبْ فأنتَ الهامِزُ اللُّمَزَةْ
وقرأ الباقر بالسكون ، وهو الذي يَهْمِزُ وَيَلْمِزُ ، أي : يأتي بما يَهْمِزُ به ويَلْمِزُ كالضُّحَكَة لِمَنْ يَكْثُرُ ضَحِكُه ، والضُّحْكة لِمَنْ يأتي بما يُضْحَكُ منه . وهو مُطَّرِدٌ ، أعني أنَّ فُعَلَة بفتح العين لمَنْ يَكْثُرُ منه الفِعْلُ ، وبسكونِها لمَنْ يكونُ الفعلُ بسببه .
(1/5910)
الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2)
قوله : { الذى جَمَعَ } : يجوزُ جرُّه بدلاً ، ونصبُه ورفعُه على القطع . ولا يجوزُ جَرُّه نعتاً ولا بياناً لتغايُرِهما تعريفاً وتنكيراً . وقولُه : " جَمَعَ " قرأ الأخَوان وابن عامر بتشديدِ الميم على المبالغةِ والتكثيرِ ، ولأنَّه يوافِقُ " عَدَّدَه " والباقون " جمَعَ " مخففاً وهي محتمِلَةٌ للتكثيرِ وعدمِه .
قوله : " وعَدَّدَه " العامَّةُ على تثقيل الدالِ الأول ، وهو أيضاً للمبالغةِ . وقرأ الحسن والكلبُّي بتخفيفِها . وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّ المعنى : جَمَعَ مالاً وعَدَدَ ذلك المالَ ، أي : وجَمَعَ عَدَدَه ، أي : أحصاه . والثاني : أنَّ المعنى : وجَمَعَ عَدَدَ نفسِه مِنْ عَشِيرَتِهِ وأقاربِه ، و " عَدَدَه " على هَذَيْنِ التأويلَيْنِ اسمٌ معطوفٌ على " مالاً " أي : وجَمَعَ عَدَدَ المالِ أو عَدَدَ نفسِه . الثالث : أنَّ " عَدَدَه " فعلٌ ماضٍ بمعنى عَدَّه ، إلاَّ أنَّه شَذَّ في إظهارِه كما شَذَّ في قولِه :
4641 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إني أَجُوْدُ لأَِقْوامٍ وإنْ ضَنِنُوا
(1/5911)
يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3)
قوله : { يَحْسَبُ } : يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً ، وأنْ تكونَ حالاً مِنْ فاعل " جَمَعَ " و " أَخْلَدَه " يعني يُخْلِدُه ، فأوقع الماضيَ موقعَ المضارعِ . وقيل : هو على أصلِه ، أي : أطال عُمْرَه .
(1/5912)
كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
قوله : { لَيُنبَذَنَّ } : جوابُ قسمٍ مقدرٍ . وقرأ عليُّ رضي الله عنه والحسن بخلافٍ عنه وابنُ محيصن وأبو عمروٍ في روايةٍ " ليُنْبَذانِّ " بألفِ التثنيةِ ، أي : ليُنْبَذانِّ ، أي : هو ومالُه . وعن الحسن أيضاً : " لَيُنْبَذُنَّ " بضمِّ الذالِ ، وهو مُسْنَدٌ لضميرِ جماعةٍ ، أي : لنَطْرَحَنَّ الهُمَزَةَ وأنصارَه .
والحُطَمَةُ : الكثيرُ الحَطْمِ . يقال : رجلٌ حُطَمَةٌ ، أي : أَكُولٌ وحَطَمْتُه : كَسَرْتُه . والحُطام منه قال :
4642 قد لَفَّها الليلُ بسَوَّاقٍ حُطَمْ ... وقال آخر :
4643 إنَّا حَطَمْنا بالقضيبِ مُصْعَباً ... يومَ كسَرْنا أَنْفَه لِيَغْضَبا
قوله : " نارُ الله " ، أي : هي نارُ الله .
(1/5913)
الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)
قوله : { التي تَطَّلِعُ } يجوزَ أَنْ تكونَ تابعةً ل " نارُ الله " ، وأَنْ تكونَ مقطوعةً . . .
(1/5914)
فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
قوله : { فِي عَمَدٍ } : قرأ الأخَوان وأبو بكر بضمتين جمعَ " عَمُود " نحو : " رَسُول ورُسُل " . وقيل : جمعُ عِماد نحو : كِتاب وكُتُب . ورُوي عن أبي عمروٍ الضمُّ والسكونُ ، وهو تخفيفٌ لهذهِ القراءةِ . والباقون " عَمَد " بفتحتَيْن . فقيل : اسمُ جَمْعٍ لعَمود . وقيل : بل هو جمعٌ له ، قال الفراء : كأَدِيْم وأَدَم " وقال ابو عبيدة : " هو جمعُ عِماد " و " في عَمَدٍ " يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ الضميرِ في " عليهم " ، أي : مُوْثَقِين ، وأَنْ يكونَ خبراً لمبتدأ مُضمرٍ ، أي : هم في عَمَدٍ ، وأَنْ يكونَ صفةٌ لمُؤْصَدَة ، قال أبو البقاء " يعني : فتكون النارُ داخلَ العَمَدِ " .
(1/5915)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1)
يُجْمع على فُيول وفِيَلَة في الكثرة ، وأَفْيال في القلة .
قوله : { أَلَمْ تَرَ } : هذه قراءةُ الجمهورِ ، أعني فتحَ الراءِ ، وحَذْفُ الألفِ للجزم . وقرأ " السُّلَمِيُّ " تَرْ " بسكونِ الراءِ كأنه لم يَعْتَدَّ بحَذْفِ الألفِ كقولِهم : " لم أُبَلْهُ " وقرأ أيضاً " تَرْءَ " بسكونِ الراءِ وهمزةٍ مفتوحةٍ وهو الأصلُ و " كيف " مُعَلِّقَةٌ للرؤيةِ ، وهي منصوبةٌ بفعلٍ بعدها .
(1/5916)
وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3)
قوله : { أَبَابِيلَ } : نعتٌ لطير ، لأنَّه اسمُ جمعٍ . وأبابيل قيل : لا واحدَ له كأساطير وعَباديد ، وقيل : واحدُهُ إبَّوْل كعِجَّوْل . وقيل : إبَّال وقيل : إبِّيْل مثلَ سِكِّين . وحكى الرقاشي أنه سُمع إبَّالة بالتشديد . وحكى الفراء إبالة مخففة . والأبابيل : الجماعات شيئاً بعد شيء . وقال الشاعر :
4644 طريقٌ وَجبَّارٌ رِواءٌ أصولُهُ ... عليه أبابيلٌ من الطيرِ تَنْعَبُ
وقد يُسْتعارُ لغيرِ الطَيْرِ كقولِه :
4645 كادَتْ تُهَدُّ مِنَ الأصوات راحلتي ... إذ سالَتِ الأرضُ بالجُرْدِ الأبابيلِ
(1/5917)
تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
قوله : { تَرْمِيهِم } : صفةٌ لطير . والعامَّةُ " تَرْميهم " بالتأنيثِ . وأبو حنيفة وابن يعمر وعيسى وطلحةُ بالياءِ مِنْ أسفلُ ، وهما واضحتان؛ لأنَّ اسمَ الجمعِ يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ ومِنَ التأنيث قولُه :
4646 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كالطَّيْرِ تَنْجو مِنْ الشُّؤْبوب ذي البَرَدِ
وقيل : الضميرُ ل " ربُّك " أي : يَرْميهم رَبُّك . و " مِنْ سِجِّيل " صفةٌ لحِجارة . " وكعَصْفٍ " هو المفعولُ الثاني للجَعْلِ معنى التَّصييرِ . وفيه مبالغةٌ حسنة . لم يَكْفِه أَنْ جَعَله أهونَ شيءٍ في الزَّرْع ، وهو ما لا يُجْدي طائلاً ، حتى جَعَله رَجيعاً .
(1/5918)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2)
قوله : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } : في متعلَّقِ هذه اللامِ ، أوجهٌ ، أحدُها : أنه ما في السورةِ قبلَها مِنْ قولِه { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ } [ قريش : 5 ] . قال الزمخشري : " وهذا بمنزلةِ التَّضْمينِ في الشِّعْرِ " وهو أَنْ يتعلَّقَ معنى البيتِ بالذي قبلَه تَعَلُّقاً لا يَصِحُ إلاَّ به ، وهما في مصحفِ أُبَي سورةٌ واحدٍ بلا فَصْلٍ . وعن عُمَرَ أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب وفي الأولى بسورةِ " والتين " انتهى . وإلى هذا ذهبَ أبو الحسنِ الأخفشُ إلاَّ أنَّ الحوفيَّ قال : " ورَدَّ هذا القولَ جماعةٌ : بأنَّه لو كان كذا لكان " لإِيلافِ " بعضَ سورةِ " ألم تَرَ " وفي إجماعِ الجميعِ على الفَصْلِ بينهما ما يدلُّ على عَدَمِ ذلك "
الثاني : أنَّه مضمرٌ تقديرُه : فَعَلْنا ذلك ، أي : إهلاكَ أصحابِ الفيل لإِيلافِ قريش . وقيل : تقديرُه اعْجَبوا . الثالث : أنه قولُه " فَلْيَعْبُدوا " .
وإنما دَخَلَتْ الفاءُ لِما في الكلامِ مِنْ معنى الشرطِ ، أي : فإنْ لم يَعْبُدوه لسائرِ نِعَمِه فَلْيَعْبدوه لإِيلافِهم فإنَّها أَظْهَرُ نعمِهِ عليهم ، قاله الزمخشري وهو قولُ الخليلِ قبلَه .
وقرأ ابن عامر " لإِلافِ " دونَ ياءٍ قبل اللامِ الثانيةِ ، والباقون " لإِيلافِ " بياءٍ قبلَها ، وأَجْمَعَ الكلُّ على إثبات الياءِ في الثاني ، وهو " إيلافِهِمْ " ومِنْ غريبِ ما اتَّفَق في هذَيْن الحرفَيْنِ أنَّ القرَّاءَ اختلفوا في سقوطِ الياءِ وثبوتِها في الأولِ ، مع اتفاقِ المصاحفِ على إثباتِها خَطَّاً ، واتفقوا على إثباتِ الياءِ في الثاني مع اتفاقِ المصاحفِ على سقوطِها فيه خَطَّاً ، فهو أَدَلُّ دليلٍ على أنَّ القُرَّاءَ مُتَّبِعون الأثَر والروايةَ لا مجرَّدَ الخطِّ .
فأمَّا قراءةُ ابنِ عامرٍ ففيها وجهان ، أحدُهما : أنه مصدرٌ ل أَلِف ثلاثياً يُقال : أَلِفْتُه إلافاً ، نحو : كتبتُه كِتاباً ، يُقال : أَلِفْتُه إلْفاً وإلافاً . وقد جَمَعَ الشاعرُ بينَهما في قولِه :
4647 زَعَمْتُمْ أنَّ إخْوَتَكُمْ قُرَيْشٌ ... لهم إلْفٌ وليس لكُمْ إلافُ
والثاني : أنَّه مصدرُ آلَفَ رباعياً نحو : قاتَلَ قِتالاً . وقال الزمخشري : " أي : لمُؤالَفَةِ قريشٍ " .
وأمَّا قراءةُ الباقين فمصدرُ آلَفَ رباعياً بزنةِ أَكْرَم يقال : آلَفْتُه أُوْلِفُه إيْلافاً . قال الشاعر :
4648 مِنَ المُؤْلِفاتِ الرَّمْلِ أَدْماءُ حُرَّةٍ ... شعاعُ الضُّحى في مَتْنِها يَتَوضَّحُ
وقرأ عاصمٌ في روايةٍ " إإْلافِهم " بمهزتين : الأولى مسكورةٌ والثانية ساكنةٌ ، وهي شاذَّةٌ ، لأنه يجب في مثلِه إبدالُ الثانية حرفاً مجانساً كإِيمان . ورُويَ عنه أيضاً بِهَمْزَتين مَكْسورَتَيِن بعدهما ياءٌ ساكنةٌ . وخُرِّجَتْ على أنه أَشْبَعَ كسرةً الهمزةِ الثانية فتولَّد منها ياءٌ ، وهذه أَشَذُ مِنْ الأولى ونَقَلَ أبو البقاء أشَذَّ منها فقال : " بهمزةٍ مكسورةٍ بعدها ياءٌ ساكنةٌ ، بعدها همزةٌ مسكورةٌ ، وهو بعيدٌ . ووَجْهُها أنه أشبعَ الكسرةَ فنشَأَتْ الياءُ ، وقَصَد بذلك الفصلَ بين الهمزتَيْن كالألفِ في
(1/5919)
{ أَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة : 6 ] .
وقرأ أبو جعفر " لإِلْفِ قُرَيْشٍ " بزنة قِرْد . وقد تقدَم أنه مصدرٌ لأَلِفَ كقوله :
4649 . . . . . . . . . . . . . . . . . ... لهم إلْفٌ وليس لكم إلافُ
وعنه أيضاً وعن ابن كثير " إلْفِهم " وعنه أيضاً وعن ابن عامر " إلا فِهِمْ " مثل : كِتابهم . وعنه أيضاً " لِيْلافِ " بياءٍ ساكنةٍ بعد اللامِ؛ وذلك أنه لَمَّا أبدل الثانيةَ حَذَفَ الأولى على غير قياسٍ . وقرأ عكرمةُ " لِتَأْلَفْ قُرَيْش " فعلاً مضارعاً وعنه " لِيَأْلَفْ على الأمر ، واللامُ مكسورةٌ ، وعنه فَتْحُها مع الأمرِ وهي لُغَيَّةٌ .
وقُرَيْش اسمٌ لقبيلةٍ . قيل : هم وَلَدُ النَّضْرِ بنِ كِنانَةَ ، وكلُّ مَنْ وَلَدُه النَّضْرُ فهو قُرَشِيٌّ دونَ كِنانةَ ، وهو الصحيحُ وقيل : هم وَلَدُ فِهْرِ بن مالك ابن النَّضْر بنِ كِنانةَ . فَمَنْ لم يَلِدْه فِهْرٌ فليس بقُرَشيٍّ ، فوقع الوِفاقُ على أنَّ بني فِهْرٍ قرشيُّون . وعلى أنًَّ كنانةَ ليسوا بقرشيين . ووقع الخلافُ في النَّضْر ومالكٍ .
واخْتُلِفَ في اشتقاقِه على أوجه ، أحدها : أنه من التَّقَرُّشِ وهو التجمُّعُ سُمُّوا بذلك لاجتماعِهم بعد افتراقِهم . قال الشاعر :
4650 أبونا قُصَيُّ كان يدعى مُجَمِّعاً ... به جَمَّعَ اللَّهُ القبائلَ مِنْ فِهْرِ
والثاني : أنه من القَرْشِ وهو الكَسْبُ . وكانت قريشٌ تُجَّاراً . يقال : قَرَشَ يَقْرِشُ أي : اكتسب . والثالث : أنه مِنْ التفتيش . يقال قَرَّشَ يُقَرِّشُ عني ، أي : فَتَّش . وكانت قريشٌ يُفَتِّشون على ذوي الخُلاَّنِ ليَسُدُّوا خُلَّتَهم . قال الشاعر :
4651 أيُّها الشامِتُ المُقَرِّشُ عنا ... عند عمروٍ فهَلْ له إبْقاءُ
وقد سأل معاويةُ ابنَ عباس . فقال : سُمِّيَتْ بدابةٍ في البحرِ يقال لها : القِرْش ، تأكلُ ولا تُؤكَل ، وتَعْلو ولا تعلى وأنشد قولَ تُبَّعٍ :
4652 وَقُرَيْشٌ هي التي تَسْكُنُ البَحْ ... رَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا
تأكلُ الغَثَّ والسَّمينَ ولا تَتْ ... رُكُ فيها لذي جناحَيْنِ رِيشا
هكذا في البلادِ حَيُّ قُرَيْشٍ ... يأكلونَ البلادَ أكْلاً كَميشا
ولهم آخِرَ الزمان نَبيٌّ ... يُكْثِرُ القَتْلَ فيهمُ والخُموشا
ثم قريشٌ : إمَّا أَنْ يكونَ مصغراً مِنْ مزيدٍ على الثلاثةِ ، فيكونَ تصغيرُه تصغيرَ ترخيمٍ . فقيل : الأصلُ : مُقْرِش . وقيل : قارِش ، وإمَّا أَنْ يكونَ مُصَغَّراً مِنْ ثلاثيٍّ نحوَ القَرْشِ . وأجمعوا على صَرْفِه هنا مُراداً به الحيُّ ولو أُريد به القبيلةُ لا متنعَتْ مِنْ الصرفِ كقولِ الشاعر :
4653- غَلَبَ المَساميحَ الوليدُ سَماحةً ... وكفى قُرَيْشَ المُعْضِلاتِ وسادَها
قال سيبويه في مَعَدّ وقُرَيْش وثَقِيْف وكِنانةَ : " هذه للأحياءِ " وإنْ جعلَتها اسماً للقبائلِ فهو جائزٌ حَسَنٌ " .
قوله : { إِيلاَفِهِمْ } مُؤَكِّدٌ للأولِ تأكيداً لفظياً؛ ولذلك اتّصَلَ بضميرِ ما أُضيف إليه الأولُ كما تقولَ : لِقيامِ زيدٍ لقيامِه أكرمْتُه " وأعربه أبو البقاء بدلاً والأول أولى .
قوله : { رِحْلَةَ } معفولٌ به بالمصدرِ ، والمصدرُ مضافٌ لفاعِله ، أي : لأَنْ أَلِفوا رحلةَ . والأصلُ : رحلَتْي الشتاءِ والصيفِ ، ولكنه أُفْرِدَ لأَمْنِ اللَّبْسِ كقولِه :
4654 كُلوا في بَعْضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قاله الزمخشري وفيه نظرٌ؛ لأنَّ سيبويهِ يجعلُ هذا ضرورةً كقولِه :
4655 حَمامةً بَطْنِ الوادِيَيْنِ تَرَنَّمي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقيل : " رِحْلة " اسمُ جنسٍ . وكانت لهم أربعُ رِحَلٍ . وجعلَه بعضُهم غَلَطاً وليس كذلكَ . وقرأ العامَّةُ بكسرِ الراءِ وهي مصدرٌ . وأبو السَّمَّال بضمِّها وهي الجهةُ التي يُرْحَلُ إليها .
والشتاءُ لامُه واوٌ لقولِهم : الشَّتْوَةُ وشتا يَشْتُو . وشَذُّوا في النسبِ إليه فقالوا فيه : شَتَوِيّ . والقياس : شِتائيّ أو شِتاويّ ككِسائيّ وكِساوِيّ .
(1/5920)
الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
قوله : { مِّن جُوعٍ } : و { مِّنْ خَوْفٍ } : للتعليلِ ، أي : مِنْ أجلِ جوعٍ وخوفٍ ، والتنكيرُ للتعظيمِ . أي : مِنْ جوعٍ عظيمٍ وخوفٍ عظيمٍ . وقال أبو البقاء : " ويجوزُ أَنْ يكونَ في موضعِ الحالِ مِنْ مفعولِ أَطْعَمهم " وأخفى نونَ " مِنْ " في الخاء نافعٌ في روايةٍ ، وكذلك في الغينِ ، وهي لغةٌ حكاها سيبويه .
(1/5921)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1)
قرأ الكسائي { أرَيْتَ } بسقوطِ الهمزةِ . وقد تقدَّم تحقيقُه في سورة الأنعام . وقال الزمخشري : " وليس بالاختيارِ؛ لأنَّ حَذْفَها مختصٌّ بالمضارعِ ، ولم يَصِحَّ عن العرب " رَيْتَ " . والذي سَهَّلَ مِنْ أمرِها وقوعُ حرفِ الاستفهامِ في أولِ الكلامِ ونحوُه :
4656 صاحِ هل رَيْتَ أو سَمِعْتَ براعٍ ... رَدَّ في الضَّرْعِ ما قرى في العِلابِ
وفي " أَرَأَيْتَ " هذه وجهان ، أحدهما : أنَّها بَصَرِيَّةُ فتتعدى لواحدٍ وهو الموصولُ ، كأنه [ قال ] : أبْصَرْتَ المكذِّبَ . والثاني : أنَّها بمعنى : أَخْبِرْني ، فتتعدى لاثنينِ ، فقدَّره الحوفيُّ : " أليس مُسْتَحِقَّاً للعذابِ " . والزمخشريُّ " مَنْ هو " . ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عبدِ الله " أَرَأَيْتَك " بكافِ الخطابِ والكافُ لا تَلْحْقُ البَصَريَّةَ .
(1/5922)
فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2)
قوله : { فَذَلِكَ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنَّ الفاءَ جوابُ ُشرطٍ مقدرٍ ، أي : إن تأمَّلْتَه ، أو إنْ طَلَبْتَ عِلْمَه فذلك . والثاني : أنَّها عاطفةٌ " فذلك " على " الذي يَكَذِّبُ " إمَّا عَطْفَ ذاتٍ على ذاتٍ ، أو صفةٍ على صفةٍ . ويكونُ جوابُ أَرَأَيْتَ " محذوفاً لدلالةِ ما بعدَه عليه . كأنه قيل : أَخْبِرْني ، وما تقولُ فيمَنْ يُكَذِّبُ بالجزاءِ وفيمَنْ يُؤْذِي اليتيمَ ولا يُطْعِمُ المسكينَ أنِعْمَ ما يصنعُ؟ فعلى الأولِ يكونُ اسمُ الإِشارةِ في محلِّ رَفْعٍ بالابتداءِ ، والخبرُ الموصولُ بعده ، وإمَّا على أنه خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ ، أي : فهو ذاك والموصولُ نعتُه . وعلى الثاني يكونُ منصوباً لِنَسَقِه على ما هو منصوبٌ .
إلاَّ أنَّ الشيخَ رَدَّ الثاني فقال : " فجعل ذلك " في موضعِ نصبٍ عطفاً على المفعولِ ، وهو تركيبٌ غريبٌ كقولِك : " أَكرَمْتُ الذي يَزورُنا فذلك الذي يُحْسِنُ إلينا " فالمتبادَرُ إلى الذهنِ أنَّ " فذلك " مرفوعٌ بالابتداء . وعلى تقديرِ النصبِ يكونُ التقديرُ : أَكرمْتُ الذي يزورُنا فأكرَمْتُ ذلك الذي يُحْسِنُ إلينا . فاسمُ الإِشارةِ في هذا التقديرِ غيرُ متمكِّنٍ تَمَكُّنَ ما هو فصيحٌ؛ إذ لا حاجةَ أَنْ يُشارَ إلى الذي يزورُنا؛ بل الفصيحُ : أَكرَمْتُ الذي يزورُنا ، فالذي يُحْسِن إلينا ، أو أكَرَمْتُ الذي يزورُنا فيُحْسِنُ إلينا . وأمَّا قولُه " إمَّا عَطْفُ ذاتٍ على ذاتٍ " فلا يَصِحُّ لأنَّ " فذلك " إشارةٌ إلى الذي يُكَذِّبُ فليسا بذاتَيْنِ؛ لأنَّ المشارَ إليه ب " ذلك " واحدٌ . وأمَّا قولُه : " ويكونُ جوابُ أرأيتَ محذوفاً " فهذا لا يُسَمَّى جواباً بل هو في موضع المفعولِ الثاني ل " أرَأيْتَ " وأمَّا تقديرُه " أنِعْمَ ما يصنعُ "؟ فهمزةُ الاستفهام لا نعلُم دخولَها على نِعْم ولا بئسَ؛ لأنهما إنشاءٌ ، والاستفهامٌ لا يدخلُ إلاَّ على الخبر " انتهى .
والجوابُ عن قولِه : " فاسمُ الإِشارةِ غيرُ ممتكِّنٍ " إلى آخره : أنَّ الفرقَ بينهما أنَّ في الآيةِ الكريمةِ استفهاماً وهو " أرأيْتَ " فحَسُنَ أَنْ يُفَسِّرَ ذلك المُسْتَفْهَمَ عنه ، بخلافِ المثالِ الذي مَثَّل به ، فمِنْ ثَمَّ حَسُنَ التركيبُ المذكورُ وعن قولِه : " لأنَّ " فذلك " إشارةٌ إلى " الذي يُكَذِّب " بالمنعِ " بل مُشارٌ به إلى ما بعدَه كقولِك : " اضْرِبْ زيداً ، فذلك القائمُ " إشارةٌ إلى القائمِ لا إلى زيد ، وإنْ كان يجوزُ أَنْ يكونَ إشارةً إليه . وعن قولِه " فلا يسمى جواباً " أنَّ النحاةَ يقولون : جوابُ الاستفهام ، وهذا قد تَقَدَّمه استفهامٌ فَحَسُنَ ذلك . وعن قولِه : " والاستفهامُ لا يَدْخُلُ إلاَّ على الخبر "؛ بالمعارضةِ بقولِه تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ } [ محمد : 22 ] فإنَّ " عسى " إنشاءٌ ، فما كان جواباً له فهو جوابٌ لنا .
وقرأ العامَّةُ بضمِّ الدال وتشديد العينِ مِنْ دَعَّه ، أي : دَفَعه وأمير المؤمنين والحسن وأبو رجاء " يَدَعُ " بفتحِ الدالِ وتخفيفِ العين ، أي : يَتْرُكُ ويُهْمِلُ وزيدُ بن علي " ولا يُحاضُّ " مِن المَحَاضَّةُ وتقدَّم في الفجر .
(1/5923)
فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
قوله : { لِّلْمُصَلِّينَ } خبرٌ لقولِه : " فوَيْلٌ " والفاءُ للتسَبُّبِ ، أي : تَسَبَّبَ عن هذه الصِّفاتِ الذَّميمةِ الدعاءُ عليهم بالوَيْلِ لهم . قال الزمخشري بعد قولِه : " كأنَّه قيل : أخْبِرْني ، وما تقول فيمَنْ يُكذِّبُ بالدين إلى قوله : أنِعْمَ ما يصنعُ " ثم قال الله تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ } ، أي : إذا عُلِمَ أنَّه مُسِيْءٌ فوَيْلٌ للمُصَلِّيْنَ على معنى فوَيْلٌ لهم ، إلاَّ أنَّه وَضَعَ صفتَهم موضعَ ضميرِهم ، لأنهم كانوا مع التكذيب وما أُضيفَ إليه ساهين عن الصلاة مُرائين غيرَ مُزكِّيْنَ أموالَهم . فإنْ قلتَ : كيف جَعَلْتَ المُصَلِّين قائماً مَقامَ ضميرِ الذي يُكَذِّبُ وهو واحدٌ؟ قلت : لأنَّ معناه الجمعُ ، لأنَّ المرادَ به الجنسُ " .
قال الشيخ : " وأمَّا وَضْعُه المُصَلِّين موضعَ الضميرِ ، وأنَّ المُصَلِّيْنَ جمعٌ؛ لأنَّ ضميرَ الذي يُكذِّبُ معناه الجمعُ فتكلُّفٌ واضحٌ . ولا يَنْبغي أَنْ يُحْمَلَ القرآنُ إلاَّ على ما عليه الظاهرُ ، وعادةُ هذا الرجلِ تكلُّفُ اشياءَ في فَهْمِ القرآنِ ليسَتْ بواضحةٍ " انتهى . قلت : وعادةُ شيخِنا - رحمه الله - التَّحامُل على الزمخشري حتى يَجْعلَ حسَنَه قبيحاً . وكيف يُرَدُّ ما قاله وفيه ارتباطُ الكلامِ بعضِه ببعضٍ ، وجَعْلُه شيئاً واحداً ، وما تضمَّنه من المبالغةِ في الوعيدِ في إبرازِ وَصْفِهم الشَّنيعِ؟ ولا يُشَكُّ أنَّ الظاهرَ من الكلامِ أن السورةَ كلَّها في وصفِ قومٍ جَمَعوا بين هذه الأوصافِ كلِّها : من التكذيبِ بالدِّين ودَفْعِ اليتيمِ وعَدَمِ الحَضِّ على طعامِه ، والسَّهْوِ في الصلاة ، والمُراءاةِ ومَنْعِ الخيرِ .
(1/5924)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5)
قوله : { الذين هُمْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ مرفوعَ المَحَلِّ ، وأَنْ يكونَ منصوبَه ، وأَنْ يكونَ مجرورَه تابعاً . نعتاً أو بدلاً أو بياناً ، وكذلك الموصولُ الثاني ، إلاَّ أنَّه يُحْتمل أَنْ يكونَ تابعاً للمُصَلِّيْنَ ، وأَنْ يكونَ تابعاً للموصولِ الأولِ . وقوله : " يُراؤُون " أصلُه يُرائِيُوْنَ كيُقاتِلون . ومعنى المُراءاة ، أنَّ المُرائيَ يُري الناسَ عملَه ، وهم يُرُونَه الثناءَ عليه ، فالمفاعَلَةُ فيها واضحةٌ . وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك .
(1/5925)
وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
قوله : { الماعون } : أوجهٌ ، أحدُها : أنه فاعُول من المَعْنِ وهو الشيءُ القليل . يُقال : " مالُه مَعْنَةٌ " أي : قليلٌ ، قاله قطرب . الثاني : أنَّه اسمُ مفعولٍ مِنْ أعانه يُعينه . والأصلُ : مَعْوُوْن . وكان مِنْ حَقِّه على هذا أَنْ يقال : مَعُوْن كمَقُوْل ومَصُون اسمَيْ مفعول مِنْ قال وصان ، ولكنه قُلِبَتِ الكلمةُ : بأنْ قُدِّمَتْ عينُها قبل فائِها فصار مَوْعُوْن ، ثم قُلِبَتِ الواوُ الأولى ألفاً كقولِهم " تابَةٌ " و " صامَةٌ " في تَوْبة وصَوْمَة ، فوزنُه الآن مَعْفُوْل . وفي هذا الوجه شذوذٌ من ثلاثةِ أوجهٍ ، أوَّلُها : كَوْنُ مَفْعول جاء من أَفْعَل وحقُّه أَنْ يكونَ على مُفْعَل كمُكْرَم فيقال : مُعان كمُقام . وإمَّا مَفْعول فاسمُ مفعولِ الثلاثي . الثاني : القَلْبُ وهو خلافُ الأصلِ : الثالث : قَلْبُ حرفِ العلةِ ألفاً ، وإنْ لم يتحرَّكْ ، وقياسُه على تابة وصامة بعيدٌ لشذوذِ المَقيسِ عليه . وقد يُجاب عن الثالث : بأنَّ الواوَ متحركةٌ في الأصل قبل القلبِ فإنه بزنةِ مَعْوُوْن .
الثالث : من الأوجه الأُوَل : أنَّ أصله مَعُوْنَة والألفُ عوضٌ من الهاء ، ووزنُه مَفُعْل كمَلُوْم ووزنُه بعد الزيادة : ما فُعْل . واختلفَتْ عباراتُ أهلِ التفسير فيه ، وأحسنُها : أنَّه كلُّ ما يُستعان به ويُنتفع به كالفَأْس والدَّلْوِ والمِقْدحة وأُنْشِد قولُ الأعشى :
4657 بأَجْوَدَ مِنْه بماعُوْنِه ... إذا ما سماؤُهمُ لم تَغِمّْ
ولم يَذْكُرِ المفعولَ الأولَ للمَنْع : إمَّا للعِلْمِ به ، أي : يَمْنعون الناسَ أو الطالبين ، وإمَّا لأنَّ الغَرَضَ ذِكْرُ ما يمنعونه لا مَنْ يمنعون ، تنبيهاً على خساسَتِهم وضَنِّهم بالأشياءِ التافهةِ المُسْتَقْبَحِ مَنْعُها عند كلِّ أحدٍ .
(1/5926)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
قوله : { أَعْطَيْنَاكَ } : قرأ الحسن وابنُ محيصن وطلحة والزعفراني " اَنْطَيْناك " قال الرازيُّ والتبريزيُ : " أبدلَ من العين نوناً ، فإنْ عَنَيا البدلَ الصناعيَّ فليس بمُسَلَّمٍ؛ لأنَّ كلاً من المادتَيْنِ مستقلةٌ بنفسِها بدليلِ كمال تَصْريفِهما ، وإنْ عَنَيا بالبدلِ أنَّ هذه وقعَتْ موقعَ هذه لغةً فقريبٌ ، ولا شك أنها لغةٌ ثابتةٌ . قال التبريزي : " هي لغةُ العربِ العاربةِ مِنْ أُوْلي قُرَيْشٍ " وفي الحديث عنه صلَّى الله عليه وسلَّم : " اليدُ العليا المُنْطِيَةُ ، واليدُ السفلى المُنْطاة " وقال الشاعر - هو الأعشى- :
4658 جِيادُك خيرُ جيادِ الملُوك ... تُصان الجِلالَ وتُنْطِي الشَّعيرا
والكَوْثر : فَوْعَل من الكَثْرَةِ ، وصفُ مبالغةٍ في المُفْرِطِ الكثرةِ . قال الشاعر :
4659 وأنت كثيرُ با بنَ مروانَ طَيِّبٌ ... وكان ابوكَ ابنَ العَقائلِ كَوْثَرا
وسُئِلَتْ أعرابيَّةٌ عن ابنها : بمَ آبَ ابْنُكِ؟ فقالت : " آب بكَوْثَرٍ " أي : بخيرٍ كثيرٍ .
(1/5927)
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
قوله : { وانحر } : أمرٌ من النَّحْر وهو الإِبِلِ بمنزلة الذَّبْحِ في البقر والغنم . وقيل : اجعَلْ يديك عند نَحْرِك أو تحت نَحْرِك في الصلاة والشانِئُ : المُبْغِضُ . يُقال : شَنَأه يَشْنَؤُه ، أي : أَبْغَضَه . وقد تقدَّم في المائدة .
(1/5928)
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
قوله : { هُوَ الأبتر } : يجوزُ أَنْ يكونَ " هو " مبتدأً ، و " الأبترُ " خبرُه والجملةُ خبرُ " إنَّ " ، وأَنْ يكون فصلاً وقال أبو البقاء : " أو توكيدٌ " وهو غَلَطٌ منه لأنَّ المُظْهَرَ لا يُؤَكِّدُ بالمضمر . والأبترُ : الذي لا عَقِبَ له ، وهو في الأصلِ الشيءُ المقطوع ، مِنْ بَتَرَه ، أي : قطعه . وحمارٌ ابترُ : لا ذَنَبَ له . ورجلٌ أُباتِرٌ بضم الهمزة : قاطعُ رَحِمِه قال :
4660 لَئيمٌ نَزَتْ في أَنْفِه خُنْزُوانَةٌ ... على قَطْعِ ذي القربى أَحَدُّ أُباتِرُ
وبَتِر هو بالكسرِ : انقطعَ ذَنَبُه .
وقرأ العامة " شانِئَك " بالألفِ اسمُ فاعل بمعنى الحالِ أو الاستقبالِ أو الماضي . وقرأ ابن عباس " شَنِئَك " بغيرِ ألفٍ . فقيل : يجوزُ أَنْ يكونَ بناءَ مبالغةٍ كفَعَّال ومِفْعال . وقد أثبته سيبويهِ ، وأنشد :
4661 حَذِرٌ أُموراً لا تَضِيرُ وآمِنُ ... ما ليسَ مُنْجِيَه من الأقْدارِ
وقال زيد الخيل :
4662 أتاني أنهم مَزِقون عِرْضي ... جِحاشٌ الكِرْمَلَيْنِ لها فَديدُ
فإنْ كانَ بمعنى الحالِ أو الاستقبالِ فإضافتُه لمفعولِه مِنْ نصبٍ . وإن كان بمعنى المُضِيِّ فهي لا مِنْ نصبٍ . وقيل : يجوزُ أن يكونَ مقصوراً مِنْ فاعِل كقولِهم : " بَرُّ وبارٌّ ، وبَرِدٌ وبارِدٌ .
قوله : { فَصَلِّ } الفاء للتعقيب والتسبيبِ ، أي : تَسَبَّبَ عن هذه المِنَّةِ العظيمة وعَقَبها أَمْرُك بالتخَلِّي لعبادةِ المُنْعِمِ عليكَ وقَصْدِك إليه بالنَّحْرِ ، لا كما تفعلُ قُرَيْشٌ مِنْ صَلاتِها ونَحْرِها لأصنامِها .
وقال أهل العلم : قد احتوَتْ هذه السورةُ ، على كونِها أَقْصَرَ سورةٍ في القرآن ، على معانٍ بليغةٍ وأساليبَ بديعةٍ وهي اثنان وعشرون . الأول : دلالةُ استهلالِ السورةِ على أنه إعطاءٌ كثيرٌ من كثير . الثاني : إسنادُ الفعل للمتكلم المعظِّم نفسَه . الثالث : إيرادُه بصيغةِ الماضي تحقيقاً لوقوعِه ك { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] . الرابع : تأكيدُ الجملةِ ب إنَّ . الخامس : بناءُ الفعلِ على الاسمِ ليُفيدَ الإِسنادَ مرتين . السادس : الإِتيانُ بصيغةٍ تَدُلُّ على مبالغةِ الكثرةِ . السابع : حَذْفُ الموصوفِ بالكَوْثَر؛ لأنَّ في حَذْفِه مِنْ فَرْطِ الشِّياعِ والإِبهامِ ما ليس في إثباتِه . الثامن : تعريفُه بأل الجنسيةِ الدالَّةِ على الاستغراق . التاسع : فاءُ التَّعْقيب ، فإنَّها كما تقدَّم دالَّةٌ على التَّسْبيب ، فإنَّ الإِنعامَ سببٌ للشُّكر والعبادةِ . العاشر : التَّعْريضُ بمَنْ كانَتْ صلاتُه ونَحْرُه لغيرِ اللَّهِ تعالى . الحادي عشر : أنَّ الأمرَ بالصَّلاةِ إشارةٌ إلى الأعمالِ الدينية التي الصلاةُ قِوامُها وأفضلُها ، والأمرُ بالنَّحْرِ إشارةٌ إلى الأعمالِ البدنيةِ التي النَّحْرُ أَسْناها . الثاني عشر : حَذْفُ متعلَّقِ " انحَرْ " إذ التقديرُ : فَصَلِّ لربِّك وانْحَرْ له . الثالثَ عشرَ : مراعاةُ السَّجْعِ فإنَّه من صناعةِ البديعِ العاري عن التَّكلُّفِ . الرابعَ عشرَ قوله : { رَبِّك } في الإِتْيان بهذه الصفةِ دونَ سائرِ صفاتِه الحسنى دلالةُ على أنَّه هو المُصْلحُ له المُرَبِّي لنِعَمِه فلا تلتمِسْ كلَّ خيرٍ إلاَّ منه . الخامسَ عشرَ : الالتفاتُ من ضميرِ المتكلمِ إلى الغائب في قولِه : " لربِّك " السادسَ عشرَ : جَعْلُ الأمْرِ بتَرْكِ الاهتبالِ بشانِئيه للاستئناف ، وجَعْلُه خاتمةً للإِعراضِ عن الشانىءِ ، ولم يُسَمِّه ليشملَ كلَّ مَنْ اتَّصَفَ - والعياذُ بالله - بهذه الصفةِ القبيحة ، وإن كان المرادُ به شخصاً مَعْنِيَّاً .
(1/5929)
السابعَ عشرَ : التنبيُه بذِكْرِ هذه الصفةِ القبيحةِ على أنه لم يَتَّصِفْ إلاَّ بمجرَّدِ قيامِ الصفةِ به ، مِنْ غير أَنْ يُؤَثِّرَ في مَنْ يَشْنَؤُه شيئاً البتةَ؛ لأنَّ مَنْ يَشْنَأُ شخصاً قد يُؤَثِّر فيه شَنَآنُه شيئاً . الثامنَ عشرَ : تأكيدُ الجملةِ ب " إنَّ " المُؤْذِنَةِ بتأكيدِ الخبرِ ، ولذلك يتلقى بها القسمُ ، وتقديرُ القسمِ يَصْلُح هنا ، التاسعَ عشرَ : الإِتيانُ بضميرِ الفَصْلِ المؤْذِنِ بالاختصاصِ والتأكيدِ إنْ جَعَلْنا " هو " فصلاً ، وإنْ جَعَلْناه مبتدأً فكذلك يُفيد التأكيدَ إذ يصيرُ الإِسنادُ مَرَّتَيْن العشرون : تعريفُ الأبترِ ب أل المُؤْذِنَةِ بالخصوصيَّةِ بهذه الصفةِ ، كأنه قيل : الكامِلُ في هذه الصفةِ الحادي والعشرون : الإِتيانُ بصيغة أَفْعَل الدالَّةِ على التناهي في هذه الصفةِ . الثاني والعشرون : إقبالُه على رسولِه عليه السلام بالخطاب مِنْ أول السورةِ إلى آخرها .
(1/5930)
لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2)
[ قوله ] : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } : " ما " في هذه السورةِ يجوزُ فيها وجهان ، أحدُهما : أنها بمعنى الذي . فإنْ كان المرادُ الأصنامَ - كما في الأولى والثالثة - فالأمرُ واضحٌ لأنهم غيرُ عقلاءَ . و " ما " أصلُها أَنْ تكونَ لغيرِ العقلاءِ . وإذا أُريد بها الباري تعالى ، كما في الثانيةِ والرابعةِ ، فاسْتَدَلَّ به مَنْ جوَّز وقوعَها على أولي العلمِ . ومَنْ مَنَعَ جَعَلَها مصدريةً . والتقديرُ : ولا أنتم عابدون عبادتي ، أي : مثلَ عبادتي . وقال أبو مسلم : " ما " في الأَوَّلَيْن بمعنى الذي ، والمقصودُ المعبودُ و " ما " في الأخيرَيْن مصدريةٌ ، أي : لا أَعْبُدُ عبادتَكم المبنيَّةَ على الشكِّ وتَرْكِ النظرِ ، ولا أنتم تعبدون مثلَ عبادتي المبنيةِ على اليقين . فتحصَّل مِنْ مجموعِ ذلك ثلاثةُ أقوالٍ : أنها كلَّها بمعنى الذي أو مصدريةٌ ، أو الأُوْلَيان بمعنى الذي ، والأَخيرتان مصدريَّتان ولِقائلٍ أَنْ يقولَ : لو قيل : بأنَّ الأولى والثالثةَ بمعنى الذي ، والثانيةَ والرابعةَ مصدريةٌ ، لكان حسناً حتى لا يَلْزَمَ وقوعُ " ما " على أولي العلمِ ، وهو مقتضى قولِ مَنْ يمنعُ وقوعَها على أولي العلمِ كما تقدَّم .
واختلف الناسُ : هل التَّكرارُ في هذه السورةِ للتأكيد أم لا؟ وإذا لم يكنْ للتأكيدِ فبأيِّ طريقٍ حَصَلَتِ المغايرةُ حتى انتفى التأكيدُ؟ ولا بُدَّ مِنْ إيرادِ أقوالِهم في ذلك فقال جماعة : هو للتوكيدِ . فقولُه { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } تأكيدٌ لقولِه { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } وقوله : { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } ثانياً توكيدٌ لقولِه { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } أولاً ، ومثلُه قولُه { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] و { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ المرسلات : 15 ] في سورتَيْهما ، و { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ التكاثر : 34 ] و { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } [ النبأ : 45 ] . وفي الحديث : " فلا آذَنُ ثم لا آذَنُ ، إنما فاطمةُ بَضْعَةٌ مني " قال الشاعر :
4663 هَلاَّ سَأَلْتَ جنودَ كِنْ ... دَةَ يومَ وَلَّوْا أين أَيْنا
وقال آخر :
4664 يا علقمَهْ يا عَلْقَمَهْ يا علقَمَهْ ... خيرَ تميمٍ كلِّها وأكرمَهْ
وقال آخر :
4665 يا أقرعُ بنَ حابسٍ يا أقرعُ ... إنك إن يُصْرَعْ أخوكَ تُصْرَعُ
وقال آخر :
4666 ألا يا اسْلَمي ثُمَّ اسْلَمي ثُمَّتَ اسْلَمي ... ثلاثُ تحيَّاتٍ وإن لم تَكَلَّمِ
وقال آخر :
4667 يا لَبَكْرٍ أَنْشِرُوا لي كُلَيْباً ... يا لَبَكْرٍ أينَ أينَ الفِرارُ
قالوا : والقرآنُ جاء على أساليبِ كلامِ العربِ . وفائدةُ التوكيد هنا قَطْعُ أَطْماعِ الكفارِ وتحقيقُ الإِخبارِ بموافاتِهم على الكفرِ ، وأنّهم لا يُسْلِمون إبداً .
وقال جماعةٌ : ليس للتوكيدِ فقال الأخفش : " لا أعبد الساعةَ ما تعبدون ، ولا أنتم عابِدون السنةَ ما أعبدُ ، ولا أنا عابدٌ في المستقبلِ ما عَبَدْتُمْ ، ولا أنتم عابدون في المستقبلِ ما أعبد ، فزال التوكيدُ ، إذ قد تقيَّدَتْ كلُّ جملةٍ بزمانٍ غيرِ الزمانِ الآخر " انتهى .
(1/5931)
وفيه نظرٌ كيف يُقَيِّدُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نَفْيَ عبادتِه لِما يَعْبُدون بزمانٍ ، هذا لا يَصِحُّ . وفي الأسبابِ : أنهم سَأَلوه أَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُم سنةً ويَعْبُدون إلهَه سنةً ، فنزَلَتْ فكيف يَسْتقيم هذا؟ وجعل أبو مسلمٍ التغايُرَ بما قَدَّمْتُه عنه : وهو كونُ " ما " في الأوَّلَيْن بمعنى الذي ، وفي الآخِرَيْنِ مصدريةً . وفيه نظرٌ أيضاً : مِنْ حيث إنَّ التكرارَ إنما هو مِنْ حيث المعنى وهذا موجودٌ كيف قَدَّرَتْ " ما " وقال ابن عطية : " لَمَّا كان قولُه " لا أَعْبُدُ " محتمِلاً أَنْ يُرادَ به الآن ويبقى المستقبلُ منتظراً ما يكونُ فيه جاء البيانُ بقولِه { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } أي : أبداً وما حَيِيْتُ ، ثم جاء قولُه { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } الثاني حَتْماً عليهم أنهم لا يُؤمنون أبداً كالذي كَشَف الغيبَ ، كما قيل لنوح عليه السلام : { أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [ هود : 36 ] فهذا معنى الترديدِ في هذه السورةِ وهو بارعُ الفصاحةِ ، وليس بتَكْرارٍ فقط ، بل فيه ما ذكْرَتُه " .
وقال الزمخشريُّ : " لا أعبدُ أُريد به العبادةُ فيما يُسْتقبل؛ لأنَّ " لا " لا تدخُلُ إلاَّ على مضارع في معنى الاستقبال ، كما أنَّ " ما " لا تدخُلُ إلاَّ على مضارعٍ في معنى الحال . والمعنى : لا أفعلُ في المستقبل ما تَطْلبونه مني مِنْ عبادةِ آلهتِكم ، ولا أنتم فاعلونَ فيه ما أَطْلُبُه منكم مِنْ عبادةِ إلهي ، ولا أنا عابدٌ ما عبَدُتُمْ ، أي : وما كنتُ قطُّ عابداً فيما سَلَفَ ما عبدتُمْ فيه ، يعني ما عُهِدَ مني قَطُّ عبادةُ صنم في الجاهلية . فكيف ترجى مني في الإِسلامِ؟ ولا أنتم عبادون ما أعبدُ ، أي : وما عبَدْتُمْ في وقتٍ ما أنا على عبادتِه . فإنْ قلتَ : فهلاَّ قيل : ما عَبَدْتُ كما قيل ما عبدتُمْ . قلت : لأنهم كانوا يَعْبُدون الأصنامَ قبل المَبْعَثِ ، وهو لم يَكُنْ يعبدُ اللَّهَ تعالى في ذلك الوقتِ . فإن قلت : فلِمَ جاء على " ما " دونَ مَنْ؟ قلت : لأنَّ المرادَ الصفةُ كأنه قيل : لا أعبدُ الباطلَ ، ولا تعبدون الحقَّ . وقيل : إن " ما " مصدريةٌ ، أي : لا أعبد عبادتَكم ولا تعبُدون عبادتي " انتهى . يعني بقولِه " لأن المرادَ الصفةُ " يعني أنه أريدُ ب " ما " الوصفُ ، وقد قَدَّمْتُ تحقيقَ هذا قريباً في سورةِ والشمس وضحاها ، واعتراضَ الشيخِ عليه ، والجوابَ عنه ، وأصلُه في سورة النساء عند قوله : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] .
وناقشه الشيخ هنا فقال : " أمَّا حَصْرُه في قولِه : " لأن " لا " لا تَدْخُل " إلى آخره . وفي قوله : " كما أن " ما " لا تَدْخُلُ " إلى آخرِه؛ فليس بصحيحٍ ، بل ذلك غالِبٌ فيها لا مُتحتِّمٌ .
(1/5932)
وقد ذكر النحاةُ دخولَ " لا " على المضارع يُرادُ به الحالُ ، ودخول " ما " على المضارع يُراد به الاستقبالُ . وذلك مذكورٌ في المبسوطات مِنْ كتب النحوِ ، ولذلك لم يَذْكُرْ سيبويه ذلك بأداة الحصرِ إنما قال : " وتَكونُ " لا " نفياً لقولِه يَفْعَلُ ولم يقع الفعلُ " وقال : " وأمَّا " ما " فهي نفيٌ لقولِه : هو يفعلُ إذا كان في حالِ الفعل " فذكر الغالبَ فيهما . وأمَّا قولُه ، في قولِه : { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } أي : وما كنت قَطُّ عابداً فيما سلفَ ما عبدتُمْ فيه ، فلا يَسْتقيم لأنَّ عباداً اسمُ فاعلٍ قد عَمِلَ في " ما عَبَدْتُمْ " فلا يُفَسَّر بالماضي إنما يُفَسَّر بالحالِ أو الاستقبالِ ، وليس مذهبُه في اسمِ الفاعلِ مذهبَ الكسائي وهشام مِنْ جوازِ إعمالِه ماضياً . وأمَّا قولُه : " ولا أنتم عابدون ما أعبدُ " ، أي : وما عَبَدْتُمْ في وقتٍ ما أنا على عبادتِه فعابِدون قد أعملَه في " ما أعبد " فلا يُفَسَّر بالماضي .
وأمَّا قولُه " وهو لم يكن " إلى آخره فسوءُ أدبٍ على منصبِ النبوةِ ، وغيرُ صحيح ، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يَزْلَ مُوَحِّداً لله تعالى ، مُنَزِّهاً عن كلِّ ما لا يليق بجلالِه ، مُجْتنباً لأصنامِهم ، يقفُ على مشاعر أبيه إبراهيمَ عليه السلام ويَحُجُّ البيتَ ، وهذه عبادةٌ ، وأيُّ عبادةٍ أعظمُ مِنْ توحيدِ اللَّهِ تعالى ونَبْذِ أصنامِهم؟ ومعرفةُ اللَّهِ تعالى أعظمُ العباداتِ . قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] . قال المفسِّرون : إلاَّ ليَعْرِفونِ ، فسمى المَعْرِفَةَ بالله تعالى عبادةً " انتهى ما ناقَشَه به ورَدُّه عليه .
ويُجابُ عن الأولِ : أنه بنى أمرَه على الغالبِ فلذلك أتى بالحَصْرِ وأمَّا ما حكاه عن سيبويهِ فظاهرُه معه حتى يقومَ دليلٌ على غيرِه . وعن إعمالِه اسمَ الفاعل مُفَسِّراً له بالماضي بأنه على حكايةِ الحالِ كقوله تعالى : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ } [ الكهف : 18 ] وقوله : { والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [ البقرة : 72 ] نحوهُ .
وأمَّا قولُه : " كان مُوَحِّداً مُنَزِّهاً " فمُسَلَّمٌ . وقوله : " وهذه أعظمُ العباداتِ " مُسَلَّم أيضاً . ولكنَّ المرادَ في الآية عبادةٌ مخصوصةٌ ، وهي الصلاةُ المخصوصةُ؛ لأنَّها يُقابِلُ بها ما كان المشركون يَفْعَلونه من سجودِهم لأصنامِهم وصلاتِهم لها ، فقابَلَ هذا صلى الله عليه وسلم بصَلاتِه للهِ تباركَ تعالى . ولكنَّ نَفْيَ كلامِ الزمخشريِّ يُفْهِمُ أنه صلى الله عليه وسلم لم يكُنْ مُتعبِّداً قبل المبعَثِ ، وهو مذهبٌ مرجوحٌ جداً ساقطُ الاعتبارِ؛ لأنَّ الأحاديث الصحيحة تَرُدُّه وهي : كان يتحنَّث ، كان يتعبَّدُ ، كان يصومُ ، كان يطوفُ كان يَقفُ ، ولم يقُلْ بخلافه إلاَّ شذوذٌ مِنْ الناسِ . وفي الجملةِ فالمسألةٌ خلافيةٌ . وإذا كان متعبِّداً فبأيِّ شَرْعٍ كان يتعبَّد؟ قيل : بشرعِ نوحٍ : وقيل : إبراهيم . وقيل : موسى . وقيل : عيسى ، ودلائلُ هذه في الأصولِ فلا نتعرَّضُ لها .
(1/5933)
ثم قال الشيخ : " والذي أَختارُ في هذه الجملِ أنه نفى عبادتَه في المستقبل؛ لأن الغالِبَ في " لا " أَنْ تنفي المستقبلَ ، ثم عَطَفَ عليه { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } نَفْياً للمستقبلِ ، على سبيل المقابلةِ . ثم قال : { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } نَفْياً للحال؛ لأنَّ اسمَ الفاعلِ العاملَ الحقيقةُ فيه دلالتُه على الحالِ ، ثم عَطَفَ عليه { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } نَفْياً للحال على سبيل المقابلةِ ، فانتظم المعنى أنَّه عليه السلام لا يَعْبُدُ ما يعبدون حالاً ولا مستقبلاً . وهم كذلك إذ حَتَم الله تعالى موافاتَهم على الكفر . ولَمَّا قال : " لا أعبدُ ما تبعدون " فأطلق " ما " على الأصنامِ قابلَ الكلام ب " ما " في قولِه " ما أعبد " وإنْ كان المرادُ بها اللَّهَ تعالى؛ لأنَّ المقابلةَ يسوغُ فيها ما لا يَسُوغ في الانفرادِ . وهذا على مذهبِ مَنْ يقول : إنَّ " ما " لا تقع على آحادِ أولي العلمِ . أمَّا مَنْ يُجَوِّزُ ذلك - وهو مذهبُ سيبويهِ - فلا يَحْتاج إلى الاستعذارِ بالتقابلِ " .
(1/5934)
لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
قوله : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } أتى بهاتَيْنِ الجملتين الإِثباتِيَّتَيْن بعد جملٍ منفيةٍ؛ لأنه لَمَّا كان الأهمُّ انتفاءَه عليه السلام مِنْ دينهم بدأ بالنفي في الجملِ السابقةِ بالمنسوبِ إليه ، فلمَّا تحقَّقَ النفيُ رَجَعَ إلى خطابِهم بقولِه { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } مهادنةً لهم ، ثم نَسَخَ ذلك بالأمرِ بالقتال .
وفتح الياءَ مِنْ " لي " نافعٌ وهشامٌ وحفصٌ والبزيُّ بخلافٍ عنه ، وأسكنها الباقون ، وحَذَفَ ياءَ الإِضافةِ مِنْ " ديني " وقفاً ووَصْلاً السبعةُ وجمهور القراء ، وأثبتها في الحالَيْن سلامٌ ويعقوب ، وأمرُها واضحٌ ممَّا تقدَّم .
(1/5935)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)
قوله : { نَصْرُ الله } : مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه ، ومفعولُه محذوفٌ لفَهْمِ المعنى ، أي : نَصْرُ اللَّهِ إياك والمؤمنين . وكذلك مفعولَيْ " الفتح " ومُتَعَلَّقَهُ . والفتح ، أي : فَتْحُ البلادِ عليك وعلى أمتِك . أو المقصود : إذ جاء هذان الفعلان ، مِنْ غير نظرٍ إلى متعلَّقَيْهما كقوله : { أَمَاتَ وَأَحْيَا } [ النجم : 44 ] . وأل في الفتح عِوَضٌ مِنْ الإِضافة ، أي : وفَتْحُه ، عند الكوفيين ، والعائدُ محذوفٌ عند البصريين ، أي : والفتحُ مِنْه ، للدلالةِ على ذلك . والعاملُ في " إذا " : إمَّا " جاء " وهو قولُ مكي ، وإليه نحا الشيخ ونَضَرَه في مواضعَ وقد تقدَّم ذلك كما نَقَلْتُه عن مكيّ وعنه . والثاني : أنه " فَسَبِّحْ " وإليه نحا الزمخشريُّ والحوفيُّ . وقد رَدَّ الشيخُ عليهما : بأنَّ ما بعد فاءِ الجواب لا يعملُ فيما قبلَها . وفيه بحثٌ تقدَّم بعضُه في سورةِ " والضُّحى " .
(1/5936)
وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)
قوله : { يَدْخُلُونَ } إمَّا حالٌ إنْ كان " رَأَيْتَ " بَصَريةً وفي عبارة الزمخشري : " إنْ كانَتْ بمعنى أبَصَرْتَ أو عَرَفْتَ " وناقشه الشيخُ : بأنَّ رَأَيْتَ لا يُعْرَفُ كونُها بمعنى عَرَفْتَ . قال : " فيَحْتاج في ذلك إلى استثباتٍ . وإمَّا مفعولٌ ثانٍ إن كانت بمعنى عَلِمْتَ المتعدية لاثنين . وهذه قراءةُ العامَّةِ أعني : يَدْخُلون مبنياً للفاعل . وابن كثير في روايةٍ " يُدْخَلون " مبنياً للمفعول و " في دين " ظرفٌ مجازيٌّ ، وهو مجازٌ فصيحٌ بليغٌ هنا .
قوله : { أَفْوَاجاً } حالٌ مِنْ فاعل " يَدْخُلون " قال مكي : " وقياسُه أفْوُج . إلاَّ أنَّ الضمةَ تُسْتثقلُ في الواوِ ، فشَبَّهوا فَعْلاً يعني بالسكون بفَعَل يعني بالفتح ، فجمعوه جَمْعَه " انتهى . أي : إنَّ فَعْلاً بالسكون قياسُه أَفْعُل كفَلْس وأَفْلُس ، إلاَّ أنه اسْتُثْقِلت الضمةُ على الواو فجمعوه جَمْعَ فَعَل بالتحريكِ نحو : جَمَل وأَجْمال؛ لأنَّ فَعْلاً بالسُّكون على أَفْعال ليس بقياسٍ إذا كان فَعْلٌ صحيحاً نحو : فَرْخ وأفراخ ، وزَنْد وأزناد ، ووردَتْ منه ألفاظٌ كثيرةٌ ، ومع ذلك فلم يَقيسوه ، وقد قال الحوفيُّ شيئاً مِنْ هذا .
قوله : { بِحَمْدِ رَبِّكَ } حالٌ ، أي : مُلْتبساً بحمده ، وتقدَّم تحقيقُ هذا في البقرة عند قوله : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } [ البقرة : 30 ] .
(1/5937)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)
قوله : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ } : أي : خَسِرَتْ ، وتقدَّم تفسيرُ هذه المادةِ في سورة غافر في قولِه : { إِلاَّ فِي تَبَابٍ } [ غافر : 37 ] ، وأسند الفعلَ إلى اليدَيْنِ مجازاً لأنَّ أكثرَ الأفعالِ تُزاوَلُ بهما ، وإنْ كانَ المرادُ جملةَ المَدْعُوِّ عليه . وقوله : " تَبَّتْ " دعاءٌ ، و " تَبَّ " إخبارٌ ، أي : قد وقع ما دُعِيَ به عليه . كقول الشاعر :
4668 جَزاني جَزاه اللَّهُ شرَّ جَزائِه ... جزاءَ الكِلابِ العاوياتِ وقد فَعَلْ
ويؤيِّده قراءةُ عبد الله " وقد تَبَّ " والظاهرُ أنَّ كليهما دعاءٌ ، ويكونُ في هذا شَبَهٌ مِنْ مجيءِ العامِّ بعد الخاصِّ؛ لأنَّ اليَدَيْن بعضٌ ، وإن كان حقيقةُ اليدَيْن غيرَ مرادٍ ، وإنما عَبَّر باليدَيْنِ؛ لأن الأعمال غالِباً تُزاوَلُ بهما .
وقرأ العامة " لَهَبٍ " بفتح الهاء . وابنُ كثيرٍ بإسكانِها . فقيل : لغتان بمعنىً ، نحو النَّهْر والنَّهَر ، والشَّعْر والشَّعَر ، والنَّفَر والنَّفْر ، والضَّجَر والضَّجْر . وقال الزمخشري : " وهو مِنْ تغييرِ الأعلامِ كقوله : " شُمْس ابن مالك " بالضم ، يعني أنَّ الأصلَ شَمْسِ بفتح الشين فَغُيِّرَتْ إلى الضَمِّ ، ويُشير بذلك لقولِ الشاعر :
4669 وإنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقاصِدٌ بِهِ ... لابنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بنِ مالكِ
وجَوَّزَ الشيخُ في " شُمْس " أَنْ يكونَ منقولاً مِنْ " شُمْس " الجمع مِنْ قولِه : " أذنابُ خيلٍ شُمْسٍ " فلا يكونُ من التغيير في شيءٍ . وكنى بذلك : إمَّا لالتهابِ وجنَتَيْه ، وكان مُشْرِقَ الوجهِ أحمرَه ، وإمَّا لِما يَؤُول إليه مِنْ لَهَبِ جنهمَ ، كقولِهم : أبو الخيرِ وأبو الشَّرِّ لصُدورِهما منه . وإمَّا لأنَّ الكُنيةَ أغلبُ من الاسم ، أو لأنَّها أَنْقصُ منه ، ولذلك ذكرَ الأنبياءَ بأسمائِهم دون كُناهم ، أو لُقْبحْ اسمِه ، فإنَّ اسمَهِ " عبد العزى " فعَدَلَ إلى الكُنْية ، وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : لِمَ كَناه والكُنيةُ تَكْرُمَةٌ؟ ثم ذكَرَ ثلاثةَ أجوبةٍ : إمَّا لشُهْرَتِه بكُنْيته ، وإمَّا لقُبْحِ اسمِه كما تقدَّم ، وإمَّا لأنَّ مآلَه إلى لهبِ جهنمِ " . انتهى . وهذا يقتضي أنَّ الكنيةَ أشرفُ وأكملُ لا أنقصُ ، وهو عكسُ قولٍ تقدَّمَ آنفاً .
وقُرئ : " يدا أبو لَهَبٍ " بالواوِ في مكانِ الجرِّ . قال الزمخشري : " كما قيل : عليُّ بن أبو طالب ، ومعاويةُ بنُ أبو سفيان ، لئلا يتغيَّرَ منه شيءٌ فيُشْكِلَ على السامعِ ول فَلِيْتَةَ بنِ قاسمٍ أميرِ مكة ابنان ، أحدُهما : عبدِ الله بالجرِّ ، والآخرُ عبدَ الله بالنصب " ولم يَختلف القُرَّاءُ في قولِه : { ذاتَ لَهَب } أنها بالفتح . والفرقُ أنها فاصلةٌ فلو سَكَنَتْ زال التَّشاكلُ .
(1/5938)
مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)
قوله : { مَآ أغنى } : يجوزُ في " ما " النفيُ والاستفهامُ ، وعلى الثاني تكون منصوبةَ المحلِّ بما بعدَها التقدير : أيُّ شيء أغنى المالُ؟ وقُدِّم لكونِه له صَدْرُ الكلامِ .
قوله : { وَمَا كَسَبَ } يجوز في " ما " هذه أَنْ تكونَ بمعنى الذي ، فالعائد محذوفٌ ، وأَنْ تكونَ مصدريةً ، أي : وكَسْبُه ، وأَنْ تكونَ استفهاميةً يعني : وأيَّ شيءٍ كَسَبَ؟ أي : لم يَكْسَبْ شيئاً ، قاله الشيخُ ، فجعل الاستفهامَ بمعنى النفيِ ، فعلى هذا يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً ، ويكونَ المعنى على ما ذَكَرَ ، وهو غيرُ ظاهرٍ وقرأ عبد الله : " وما اكْتَسَبَ " .
(1/5939)
سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3)
قوله : { سيصلى } العامَّةُ على فتحِ الياءِ وإسكانِ الصادِ وتخفيفِ اللامِ ، أي : يصلى هو بنفسِه . وأبو حيوةَ وابنُ مقسمٍ وعباسٌ في اختيارِه بالضمِّ والفتحِ والتشديدِ . والحسن وأبن أبي إسحاق بالضمِّ والسكون .
(1/5940)
وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
قوله : { وامرأته حَمَّالَةَ الحطب } : قراءةُ العامَّةِ بالرفع على أنهما جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ سِيْقَتْ للإِخبار بذلك . وقيل : " وامرأتُه " عطفٌ على الضميرِ في " سَيَصْلى " ، سَوَّغَه الفصلُ بالمفعولِ . و " حَمَّالةُ الحطبِ " على هذا فيه أوجهٌ : كونُها نعتاً ل " امرأتهُ " . وجاز ذلك لأن الإِضافةَ حقيقيةٌ؛ إذا المرادُ المضيُّ ، أو كونُها بياناً أو كونُها بدلاً لأنها قريبٌ مِنْ الجوامدِ لِتَمَحُّضِ إضافتِها ، أو كونُها خبراً لمبتدأ مضمرٍ ، أي : هي حَمَّالةُ . وقرأ ابنُ عباس " ومُرَيَّتُهُ " و " مْرَيْئَتُهُ " على التصغير ، إلاَّ أنَّه أقَرَّ الهمزةَ تارةً وأبدلَها ياءً ، وأدغم فيها أخرى .
وقرأ العامةُ { حَمَّالَةُ } بالرفع . وعاصمٌ بالنصبِ فقيل : على الشَّتْم ، وقد أتى بجميلٍ مَنْ سَبَّ أمَّ جميل . قاله الزمخشري ، وكانت تُكْنَى بأمِّ جميل . وقيل : نصبٌ على الحالِ مِنْ " أمرأتُه " إذا جَعَلْناها مرفوعةً بالعطفِ على الضَّميرِ . ويَضْعُفُ جَعْلُها حالاً عند الجمهور من الضميرِ في الجارِّ بعدها إذا جَعَلْناه خبراً ل " امرأتُه " لتقدُّمها على العاملِ المعنويِّ . واستشكل بعضُهم الحاليةَ لِما تقدَّم من أنَّ المرادَ به المُضِيُّ ، فيتعرَّفُ بالإِضافةِ ، فكيف يكونُ حالاً عند الجمهور؟ ثم أجابَ بأنَّ المرادَ الاستقبالُ لأنَّه وَرَدَ في التفسير : أنها تحملُ يومَ القيامةِ حُزْمَةً مِنْ حَطَبِ النار ، كما كانت تحملُ الحطبَ في الدنيا .
وفي قوله : { حَمَّالَةَ الحطب } قولان . أحدُهما : هو حقيقةُ . والثاني : أنه مجازٌ عن المَشْيِِ بالنميمةِ ورَمْيِ الفِتَنِ بين الناس . قال الشاعر :
4670 إنَّ بني الأَدْرَمِ حَمَّالو الحَطَبْ ... هُمُ الوشاةُ في الرِّضا وفي الغضبْ
وقال آخر :
4671 مِنْ البِيْضِ لم تُصْطَدْ على ظَهْرِ لأْمَةٍ ... ولم تَمْشِ بين الحَيِِّ بالحطبِ الرَّطْبِ
جَعَلَه رَطْباً تنبيهاً على تَدْخينه ، وهو قريبٌ مِنْ ترشيحِ المجازِ . وقرأ أبو قلابة { حاملةَ الحطبِ } على وزن فاعِلَة . وهي محتملةُ لقراةِ العامَّةِ . وعباس " حَمَّالة للحطَبِ " بالتنوين وجَرِّ المفعولِ بلامٍ زائدةٍ تقويةً للعاملِ ، كقولِه تعالى : { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] وأبو عمروٍ في روايةٍ " وامرأتُه " باختلاسِ الهاءِ دونَ إشباعٍ .
(1/5941)
فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
قوله : { فِي جِيدِهَا حَبْلٌ } : يجوزُ أَنْ يكونَ " في جيدِها " خبراً ل " امرأتُه " و " حبلٌ " فاعلٌ به ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ " امرأتُه " على كونِها فاعلة . و " حبلٌ " مرفوعٌ به أيضاً ، وأَنْ يكونَ خبراً مقدَّماً . و " حَبْلٌ " مبتدأٌ مؤخرٌ . والجملةُ حاليةٌ أو خبر ثانٍ ، والجِيْدُ : العُنُق ، ويُجْمع على أجيادُ . قال امرؤ القيس :
4672 وجِيْدٍ كجِيْدِ الرِّئْمِ ليس بفاحِشٍ ... إذا هي نَصَّتْهُ ولا بمُعْطَّلِ
و { مِّن مَّسَدٍ } صفةٌ ل " حَبْل " والمَسَدُ : لِيْفُ المُقْلِ : وقيل : اللِّيفُ مطلقاً . وقيل : هو لِحاءُ شَجَرٍ باليمن . قال النابغة :
4673 مَقْذُوْفَةٌ بِدَخِيْسِ النَّحْضِ بَازِلُها ... له صريفٌ صَريفُ القَعْوِ بالمَسَدِ
وقد يكونُ مِنْ جلود الإِبل وأَوْبارِها . وأنشد :
4647 ومَسَدٍ أُمِرَّ مِنْ أَيانِقِ ... ويقال : رجلٌ مَمْسود الخَلْق ، أي : شديدُه .
(1/5942)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)
قوله : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } : في " هو " وجهان ، أحدهما : أنه ضميرٌ عائدٌ على ما يفْهَمُ من السياقِ ، فإنه يُرْوى في الأسباب : أنَّهم قالوا لرسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم : صِفْ لنا ربَّك وانْسُبْه . وقيل : قالوا له : أمِنْ نُحاس هو أم مِنْ حديدٍ؟ فنَزَلَتْ . وحينئذٍ يجوزُ أَنْ يكونَ " الله " مبتدأً ، و " أَحَدٌ " خبرُه . والجملةُ خبرُ الأولُ . ويجوزُ أَنْ يكونَ " اللَّهُ " بدلاً ، و " أحدٌ " الخبرَ . ويجوزُ أَنْ يكونَ " اللَّهُ " خبراً أوَّلَ ، و " أحدٌ " خبراً ثانياً . ويجوزُ أَنْ يكونَ " أحدٌ " خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هو أحدٌ . والثاني : أنَّه ضميرُ الشأنِ لأنه موضعُ تعظيمٍ ، والجلمةُ بعدَه خبرُه مفسِّرِةٌ .
وهمزةُ " أحد " بدلٌ من واوٍ ، لأنَّه من الوَحْدة ، وإبدالُ الهمزةِ من الواوِ المفتوحةِ . وقيل : منه " امرأةٌ أناة " من الونى وهو الفُتورُ . وتقدَّم الفرقُ بين " أحد " هذا و " أحد " المرادِ به العمومُ ، فإنَّ همزةُ ذاك أصلٌ بنفسِها . ونَقَل أبو البقاءِ أنَّ همزةَ " أحد " هذا غيرُ مقلوبةٍ ، بل أصلٌ بنفسِها كالمرادِ به العمومُ ، والمعروفُ الأولُ . وفَرَّق ثعلب بين " واحد " وبين " أحد " بأنَّ الواحدَ يدخُلُه العَدُّ والجمعُ والاثنان ، و " أحَد " لا يَدْخُلُه ذلك . ويقال : اللَّهُ أحدٌ ، ولا يقال : زيدٌ أحدٌ؛ لأنَّ للَّهِ تعالى هذه الخصوصيةَ ، وزَيْدٌ له حالاتٌ شتى . ورَدَّ عليه الشيخُ : بأنَّه يُقال : أحد وعشرونَ ونحوه فقد دخلَه العددُ " أنتهى . وقال مكي : " إنَّ أَحَدَاً أصلُه وَأَحَد ، فأُبْدِلَتِ الواوُ همزةً فاجتمع ألفان ، لأنَّ الهمزةَ تُشْبه الألفَ ، فحُذِفَتْ إحداهما تخفيفاً " .
وقرأ عبد الله وأُبَيُّ { اللَّهُ أحدٌ } دونَ " قُلْ " وقرأ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم " أحدٌ " بغيرِ " قل هو " وقرأ الأعمش : " قل هو اللَّهُ الواحد " .
وقرأ العامَّةُ بتنوين " أحدٌ " وهو الأصلُ . وزيد بن علي وأبان ابن عثمان وابن أبي إسحاق والحسن وأبو السَّمَّال وأبو عمروٍ في روايةٍ في عددٍ كثيرٍ بحذف التنوين لالتقاء الساكنين كقولِه :
4675 عمرُو الذي هَشَمَ الثَّريدَ لقومِه ... ورجالُ مكةَ مُسْنِتُون عِجافُ
وقال آخر :
4676 فأَلْفَيْتُه غيرَ مُسْتَعْتِبٍ ... ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلا
(1/5943)
اللَّهُ الصَّمَدُ (2)
قوله : { الصمد } : فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبَضِ والنَّقَضِ . وهو السَّيِّدُ الذي يُصْمَدُ إليه في الحوائجِ ، أي : يُقْصَدُ ولا يَقْدِرُ على قضائِها إلاَّ هو . وأنشد :
4677 ألا بَكَّرَ النَّاعي بخَيْرِ بني أسدْ ... بعَمْرِو بن مسعودٍ وبالسَّيِّد الصَّمَدْ
وقال الآخر :
4678 عَلَوْتُه بحُسامٍ ثم قُلْتُ له ... خُذْها حُذَيْفُ فأنتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ
وقيل : الصَّمَدُ : هو الذي لا جَوْفَ له ، ومنه قوله :
4679 شِهابُ حُروبٍ لا تَزال جيادُه ... عوابِسَ يَعْلُكْنَ الشَّكِيْمَ المُصَمَّدا
وقال ابن كعب : تفسيرُه ما بعده مِنْ قولِه : " لم يَلِدْ ولم يُوْلَدُ " وهذا يُشْبِهُ ما قالوه في تفسير الهَلوع . والأحسنُ في هذه الجملة أَنْ تكون مستقلةً بفائدةِ هذا الخبرِ . ويجوز أنْ يكونَ " الصَّمَدُ " صفةً . والخبرُ في الجملةِ بعده ، كذا قيل : وهو ضعيفٌ ، من حيث السِّياقُ ، فإنَّ السِّياقَ يَقْتضي الاستقلالَ بأخبارِ كلِّ جملةٍ .
(1/5944)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
قوله : { كُفُواً أَحَدٌ } : في نصبِه وجهان ، أحدُهما : أنه خبرُ " يكنْ " و " أحدٌ " اسمُها و " له " متعلِّقٌ بالخبر ، اي : ولم يكُنْ أحدٌ كُفُواً له . وقد رَدَّ المبردُ على سيبويهِ بهذه الآيةِ ، من حيث إنه يزعمُ أنه إذا تَقَدَّم الظرفُ كان هو الخبرَ ، وهنا لم يَجْعَلْه خبراً مع تقدُّمِه .
وقد رُدَّ على المبردِ بوجهَيْن ، أحدُهما : أنَّ سيبويهِ لم يُحَتِّمْ ذلك بل جَوَّزه . والثاني : أنَّا لا نُسَلِّم أن الظرفَ هنا ليس بخبرٍ بل هو خبرٌ ، ونصبُ " كُفُواً " على الحال على ما سيأتي بيانُه . وقال الزمخشري : " الكلامُ العربيُّ الفصيحُ أَنْ يؤخَّرَ الظرفُ الذي هو لَغْوٌ غيرُ مستقِرِّ ولا يُقَدَّمَ . وقد نَصَّ سيبويه في " كتابِه " على ذلك ، فما بالُه مُقَدَّماً في أَفْصَحِ كلامٍ وأَعْرَبِه؟ قلت : هذا الكلامُ إنما سِيْقَ لنَفْيِ المكافأةِ عن ذاتِ الباري تعالى ، وهذا المعنى مَصَبُّه ومَرْكَزُه هو هذا الظرفُ ، فكان لذلك أهمَّ شيءٍ وأَعْناه وأحقَّه بالتقديمِ وأَحْراه " .
والثاني : أَنْ يُنْصَبَ على الحال مِنْ " أحد " لأنَّه كان صفتَه فلمَّا تقدَّم عليه نُصِب حالاً ، و " له " هو الخبر . قاله مكي وأبو البقاء وغيرُهما . ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الضمير المستكِنِّ في الجارِّ لوقوعِه خبراً . قال الشيخ بعد أَنْ حكى كلامَ الزمخشري ومكي : " وهذه الجملةُ ليسَتْ من هذا البابِ وذلك أنَّ قولَه : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } ليس الجارُّ والمجرورُ فيه تامَّاً ، إنما ناقصٌ لا يَصْلُحُ أَنْ يكونَ خبراً ل " كان " بل هو متعلِّقٌ ب " كُفُواً " وقُدِّمَ عليه . التقدير : ولم يكنْ أحدٌ مكافِئاً له ، فهو في معنى المفعولِ متعلِّقٌ ب " كُفُواً " وتَقَدَّم على " كُفُواً " للاهتمامِ به ، إذ فيه ضميرُ الباري تعالى ، وتوسَّطَ الخبرُ وإنْ كان الأصلُ التأخيرَ؛ لأنَّ تأخيرَ الاسمِ هو فاصلةٌ فحَسُنَ ذلك .
وعلى هذا الذي قَرَّرْناه يَبْطُل إعرابُ مكي وغيرِه أنَّ " له " الخبرُ ، و " كُفُواً " حالٌ مِنْ " أحد " لأنه ظرفٌ ناقصٌ لا يَصْلُح أَنْ يكونَ خبراً . وبذلك يَبْطُل سؤالُ الزمخشريِّ وجوابُه . وسيبويه إنما تكلَّم في الظرفِ الذي يَصْلُحُ أَنْ يكونَ خبراً وأنْ لا يكون . قال سيبويه : " وتقول : ما كان فيها أحدٌ خيرٌ منك ، وما كان [ أحدٌ ] مثلُك فيها ، وليس أحدٌ فيها خيرٌ منك ، إذا جعلت " فيها " : مستقراً ، ولم تجعَلْه على قولك : فيها زيدٌ قائمٌ أَجْرَيْتَ الصفةَ على الاسم . فإن جَعَلْتَه على " فيها زيدٌ قائمٌ " نَصَبْتَ فتقول : ما كان فيها أحدٌ خيراً منك ، وما كان أحدٌ خيراً منك فيها ، إلاَّ أنَّكَ إذا أرَدْتَ الإِلْغاءَ فلكما أَخَّرْتَ المُلْغَى فهو أَحْسَنُ ، وإذا أرَدْتَ أَنْ يكونَ مستقرَّاً فكلما قَدَّمْته كان أحسنَ ، والتقديمُ والتأخيرُ والإِلغاءُ والاستقرارُ عربيٌُّ جيدٌ كثيرٌ قال تعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } وقال الشاعر :
(1/5945)
4680 ما دامَ فيهِنَّ فَصِيْلٌ حَيَّاً ... انتهى كلامُ سيبويه . قال الشيخ : " فأنت ترى كلامَه وتمثيلَه بالظرف الذي يَصْلُح أَنْ يكونَ خبراً . ومعنى قولِه " مستقرَّاً " أي : خبراً للمبتدأ أو لكان . فإن قلتَ : فقد مَثَّل بالآية . قلت : هذا أوقَع مكيَّاً والزمخشريَّ وغيرَهما فيما وقعوا فيه ، وإنما أراد سيبويه أنَّ الظرفَ التامَّ وهو في قولِه :
ما دامَ فيهِنَّ فَصِيلٌ حَيَّاً ... أُجْري فَضْلةً لا خبراً كما أنَّ " له " في الآية أُجْرِي فَضْلَةً فجعلَ الظرفَ القابلَ أن يكونَ خبراً كالظرفِ الناقصِ في كونِه لم يُستعمل خبراً . ولا يَشُكُّ مَنْ له ذِهْنٌ صحيحٌ أنه لا ينعقدُ كلامٌ مِنْ " له أحد " بل لو تأخَّرَ " كُفُو " وارتفع على الصفةِ وقد جَعَل " له " خبراً لم ينعقِدْ منه كلامٌ . بل أنت ترى أنَّ النفيَ لم يتسلَّطْ إلاَّ على الخبرِ الذي هو " كُفُواً " والمعنى : لم يكنْ أحدٌ مكافِئَه " انتهى ما قاله الشيخ .
وقوله : " ولا يَشُكُّ أحدٌ " إلى آخره تَهْوِيلٌ على الناظرِ . وإلاَّ فقولُه : " هذا الظرفُ ناقصٌ " ممنوعٌ؛ لأنَّ الظرفَ الناقصَ عبارةٌ عَمَّا لم يكُنْ في الإِخبارِ به فائدةٌ ، كالمقطوعِ عن الإِضافة ، ونحوِ " في دارٍ رجلٌ " وقد نَقَلَ عن سيبويه الأمثلَةَ المتقدمةَ نحو : " ما كان فيها أحدٌ خيراً منك " ، وما الفرق بين هذا وبين الآيةِ الكريمة؟ وكيف يقول هذا وقد قال سيبويهِ في آخرِ كلامهِ : " والتقديمُ والتأخيرُ والإِلغاء والاستقرارُ عربيٌّ جيدٌ كثيرٌ "؟
وقرأ العامَّةُ بضمِّ الكافِ والفاء . وسَهَّل الهمزةَ الأعرجُ وشيبةُ ونافعٌ في روايةٍ . وأسكنَ الفاءَ حمزةُ ، وأبدل الهمزةَ واواً وقفاً خاصة . وأبدلها حفصٌ واواً مطلقاً . والباقون بالهمزِ مطلقاً . وقد تقدَّم الكلامُ على هذا في أوائِل البقرةِ في قوله : { هُزُواً } [ البقرة : 67 ] .
وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس " كِفاءٌ " بالكسر والمدِّ ، أي : لا مِثْلَ له . وأُنْشِدَ للنابغة :
4681 لا تَقْذِفَنِّي برُكْنٍ لا كِفاءَ له ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
ونافعٌ في رواية " كِفا " بالكسر وفتح الفاء مِنْ غير مَدّ ، كأنه نَقَلَ حركةَ الهمزةِ وحَذَفَها . والكُفْءُ : النظيرُ . وهذا كفْءٌ لك ، أي : نظيرُكَ والاسم الكَفاءة بالفتح .
(1/5946)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1)
قوله : { الفلق } : هو الصُّبْحُ . وهو فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبَضِ ، اي : مَفْلوق . وفي الحديث : " الرُّؤْيا مِثْلُ فَلَقِ الصُّبح " قال الشاعر :
4682 يا ليلةً لم أَنَمْها بِتُّ مُرْتَقِباً ... أَرْعَى النجومَ إلى أنْ نَوَّرَ الفَلَقُ
وقال ذو الرمة :
4683 حتى إذا ما انجلى عن وَجْهِه فَلَقٌ ... هادِيْهِ في أُخْرَياتِ الليلِ مُنْتَصِبُ
وقيل : هو جُبُّ في جهنَّمَ . وقيل : المطمئِنُّ من الأرض . وجمعُه فُلْقان . وقيل : كلُّ ما فُلِقَ كالحَبِّ والأرضِ عن النبات .
(1/5947)
مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)
قوله : { مِن شَرِّ مَا خَلَقَ } : متعلقٌ ب " أعوذُ " والعامَّةُ على إضافةِ " شَرِّ " إلى " ما " وقرأ عمرو بن فائد بتنوينه . وقال ابنُ عطية : " عمروُ بن عبيد وبعضُ المعتزلة الذين يَرَوْن أنَّ اللَّهَ لم يَخْلُقِ الشرَّ : " مِنْ شَرٍ " بالتنوين " ما خلقَ " على النفي ، وهي قراءةٌ مردودةٌ مبنيَّةٌ على مذهبٍ باطلٍ " انتهى ولا يتعيَّن أَنْ تكونَ " ما " نافيةً ، بل يجوزُ أن تكونَ موصولةً بدلاً مِنْ " شر " على حذفِ مضافٍ ، أي : من شَرٍ شَرِّ ما خَلَقَ . عَمَّم أولاً [ ثم خَصَّص ثانياً ] وقال ابو البقاء : " وما على هذا بدلٌ مِنْ " شرّ " أو زائدةٌ . ولا يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةٌ؛ لأنَّ النافيةَ لا يتقدَّمُ عليها ما في حَيِّزِها . فلذلك لم يَجُزْ أَنْ يكونَ التقدير : ما خَلَقَ مِنْ شر ، ثم هو فاسِدُ المعنى " قلت : وهو رَدٌّ حسنٌ صناعيٌّ . ولا يقال : إنَّ " مِنْ شرّ " متعلقٌ ب " أعوذُ " وحُذِفَ مفعولُ " خَلَق " لأنه خلافُ الأصلِ . وقد أَنْحى مكيُّ على هذا القائلِ ، ورَدَّه بما تقدَّم أقبحَ رَدّ . [ و " ما " مصدريةٌ ، أو بمعنى الذي ] .
(1/5948)
وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3)
قوله : { وَقَبَ } : وَقَبَ الليلُ : أظلم ، والعذابُ : حَلَّ ، والشمسُ : [ غَرَبَتْ : وقيل : وَقَبَ ، أي : دَخَلَ ] قال الشاعر :
4684 وَقَبَ العذابُ عليهمُ فكأنَّهمْ ... لَحِقَتْهُمُ نارُ السَّمومِ فأُحْصِدوا
والغاسِقُ قيل : الليلُ . وقيل : القمر . سُمِّي الليلُ غاسِقاً لبُرودته . وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادةِ في سورة ص . واسْتُعيذ من الليل لِما يبيتُ فيه من الآفاتِ . قال الشاعر :
4685 يا طيفَ هندٍ لقد أَبْقَيْتَ لي أَرَقا ... إذ جِئْتَنا طارقاً والليلُ قد غَسَقا
أي : أظلمَ واعْتَكَرَ . و " إذا " منصوب ب " أعوذُ " ، أي : أعوذُ باللَّهِ مِنْ هذا في وقتِ كذا .
(1/5949)
وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
قوله : { النفاثات } : جمع نَفَّاثَة مثالُ مبالغةٍ . من نَفَثَ ، أي : نَفَخَ . واخْتُلِفَ فيه فقال أبو الفضل : شَبَّه النَّفْخَ من الفمِ في الرُّقْيَةِ ولا شيءَ معه . فإذا كان بِرِيْقٍ فهو التَّفْلُ وأنشد :
4686 فإنْ يَبْرَأْ فلم أَنْفُِثْ عليهِ ... وإنْ يَفْقَدْ فَحَقَّ له الفُقُودُ
وقال الزمخشري : " نَفْخٌ معه رِيْقٌ " وقرأ الحسن " النُّفَّاثات " بضم النون ، وهي اسم كالنُّفَّاخَة . ويعقوب وعبدُ الله بن القاسم " النافِثات " وهي محتملةٌ لقراءةِ العامة ، والحسن ايضاً وأبو الرَّبيع " النَّفِثات " دونَ ألفٍ كحاذِر وحَذِر . ونَكِّر غاسِقاً وحاسداً لأنه قد يَتَخَلَّفُ الضَّرَرُ فيهما . فالتنكيرُ يفيد التبعيضَ . وعَرَّفَ " النفَّاثات " : إمَّا للعَهْدِ كما يروى في التفسير ، وإمَّا للمبالغةِ في الشَّرِّ .
(1/5950)
مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3)
قوله : { مَلِكِ الناس إله الناس } : يجوزُ أَنْ يكونا وصفَيْنِ ل " ربِّ الناسِ " وأَنْ يكونا بَدَلَيْنِ ، وأَنْ يكونا عطفَ بيانٍ . قال الزمخشري : " فإنْ قلَتَ : مَلِكِ الناسِ ، إلهِ الناس ، ما هما مَنْ ربُّ الناسِ؟ قلت : عطفُ بيانٍ كقولك : سيرةُ أبي حفصٍ عمرَ الفاروقِ ، بُيِّنَ بمَلِكِ الناس ، ثم زِيْدَ بياناً؛ لأنه قد يُقال لغيره " رَبُّ الناسِ " كقوله : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } [ التوبة : 31 ] . وقد يُقال : مَلِكُ الناس ، وأمَّا إلهُ الناس فخاصٌّ لا شِرْكَةَ فيه ، فَجُعِل غايةَ البيان " واعترض الشيخُ بأنَّ البيانَ بالجوامدِ . ويُجابُ عنه : بأنَّ هذا جارٍ مجرى الجوامِدِ . وقد تقدَّم في " الرحمن الرحيم " أولَ الفاتحةِ تقريرُه .
وقال الزمخشريُّ : " فإنْ قلتَ لِمَ قيل : " برَبِّ الناسِ " مضافاً إليهم خاصةً؟ قلت : لأنَّ الاستعاذةَ وقعَتْ مِنْ شرِّ المُوَسُوِسِ في صدورِ الناسِ فكأنه قيل : أعوذُ مِنْ شَرِّ المُوَسْوِسِ إلى الناس بربِّهم الذي يملكُ أمْرَهم " ثم قال : " فإنْ قلتَ : فهلاَّ اكتُفِي بإظهارِ المضافِ إليه مرةً واحدة . قلت : لأنَّ عطفَ البيانِ فكان مَظِنَّةً للإِظهار " .
(1/5951)
مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4)
قوله : { الوسواس } : قال الزمخشري : " اسمٌ بمعنى الوَسْوَسَةِ كالزَّلْزال بمعنى الزَّلْزَلة ، وأمَّا المصدرُ فوِسْواسٌ بالكسرِ ، كالزِّلْزال ، والمرادُ به الشيطانُ سُمِّي بالمصدرِ كأنه وَسْوَسَةٌ في نفسِه ، لأنها صَنْعَتُه وشُغْلُه . أو أُريد ذو الوَسْواس " انتهى . وقد مَضَى الكلامُ معه في أنَّ المكسورَ مصدرٌ ، والمفتوحَ اسمٌ في الزلزلة فليُراجَعْ .
قوله { الخناس } ، أي : الرَّجَّاع ، لأنه إذا ذُكِرَ اللَّهُ تعالى خَنَسَ وهو مثالُ مبالغةٍ من الخُنُوس . وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادةِ في سورةِ التكوير .
(1/5952)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5)
قوله : { الذى يُوَسْوِسُ } : يجوز جَرُّه نعتاً وبدلاً وبياناً لجَريانه مَجْرى الجوامِد ، ونصبُه ورفعُه على القطع .
(1/5953)
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
قوله : { مِنَ الجنة } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه بدلٌ من " شَرِّ " بإعادة العاملِ ، أي : مِنْ شَرِّ الجِنة . الثاني : أنه بدلٌ مِنْ ذي الوَسواس؛ لأنَّ المُوَسْوِسَ من الجنِّ والإِنس . الثالث : أنَّه حالٌ من الضمير في " يُوَسْوِسُ " أي : يُوَسْوِس حالَ كونِه مِنْ هذين الجنسَيْنِ . الرابع : أنه بدلٌ من " الناس " وجَعَلَ " مِنْ " تَبْييناً . وأَطْلَقَ على الجِنِّ اسمَ الناس؛ لأنهم يتحرَّكون في مُراداتهم ، قاله أبو البقاء . إلاَّ أنَّ الزمخشري أبطلَ فقال بعد أَنْ حكاه : " واسْتَدَلُّوا ب { نَفَرٌ } [ الجن : 1 ] و { رِجَالٌ } [ الجن : 6 ] ما أحقَّه؛ لأن الجنَّ سُمُّوا جِنَّاً لاجتنانِهم والناسَ ناساً لظهورِهم ، من الإِيناس وهو الإِبصار ، كما سُمُّوا بَشَراً . ولو كان يقع الناسُ على القبيلَيْنِ وصَحَّ وثَبَتَ لم يكن مناسِباً لفصاحةِ القرآن وبعده مِنَ التَصَنُّع ، وأَجْوَدَ من أن يرادَ بالناس الناسي كقولِه : { يَوْمَ يَدْعُ الداع } القمر : 6 ] وكما قرئ { مِنْ حيث أفاضَ الناسي } ثم بُيِّنَ بالجِنة والناس؛ لأنَّ الثَّقَلَيْن هما النوعان الموصوفانِ بنِسْيان حَقِّ اللَّهِ تعالى " قلت : يعني أنه اجتُزِئ بالكسرةِ عن الياء ، والمرادُ اسمُ الفاعلِ ، وقد تقدَّم تحقيق هذا في البقرة ، وأَنْشَدْتُ عليه هناك شيئاً من الشواهد .
الخامس : أنه بيانٌ للذي يوسوِسُ ، على أن الشيطان ضربان : إنسِيُّ وجنيُّ ، كما قال { شَيَاطِينَ الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] . وعن أبي ذر : أنه قال لرجل : هل اسْتَعَذْتَ من شياطينِ الإِنس؟ السادس : أنَّه يتعلَّق ب " يُوَسْوِس " و " مِنْ " لابتداءِ الغاية ، أي : يُوَسْوِسُ في صدورِهم من جهة الجنِّ ومِنْ جهة الإِنس . السابع : أنَّ " والناس " عطفٌ على " الوَسْواس " أي : مِنْ شَرِّ الوَسْواس والناس . ولا يجوزُ عطفُه على الجِنَّةِ؛ لأنَّ الناسَ لا يُوَسْوِسُوْنَ في صدورِ الناس إنما يُوَسْوِس الجنُّ ، فلمَّا استحالَ المعنى حُمِل على العطف على الوَسْواس ، قاله مكي وفيه بُعْدٌ كبيرٌ لِلَّبْسِ الحاصلِ . وقد تقدَّم أنَّ الناسَ يُوَسْوِسون أيضاً بمعنىً يليقُ بهم .
الثامن : أنَّ { مِنَ الجنة } حالٌ من " الناس " ، أي : كائنين من القبيلين ، قاله أبو البقاء ، ولم يُبَيِّنْ : أيُّ الناسِ المتقدمُ أنه صاحبُ الحالِ؟ وعلى كلِّ تقديرٍ فلا يَصِحُّ معنى الحاليةِ [ في شيءٍ منها ] ، لا الأولُ ولا ما بعدَه . ثم قال : " وقيل : هو معطوف على الجِنَّة " يريد " والناسِ " الأخيرَ معطوفٌ على " الجِنة " وهذا الكلامُ يَسْتدعي تقدُّمَ شيءٍ قبلَه : وهو أَنْ يكونَ " الناس " عطفاً على غير الجِنة كما قال به مكي ثم يقول : " وقيل هو معطوفٌ على " الجِنة " وفي الجملة فهو كلامٌ متسامَحٌ فيه [ سامَحَنا الله ] وإياه وجميعَ خلقِه بمنِّة وكَرَمِه وخَتَمَ لنا منه بخيرٍ ، وخَتَم لنا رِضاه عنَّا وعن جميع المسلمين .
وهذا آخِرُ ما تَيَسَّر لي من إملاءِ هذا الموضوعِ وحَصْرِ ما في هذا المجموعِ متوسِّلاً إليه بكلامِه متشفِّعاً لديه برسولِه محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم في أن يجعلَه خالصاً لوجهِه مُوْجِباً للفوز لديه ، فإنه حسبي ونِعْمَ الوكيلُ . ووافق الفراغُ منه تصنيفاً وكتابة في العُشْرِ الأوسط من شهر رجبٍ الفردِ من شهورِ سنةِ أربعٍ وثلاثين وسبعمئة أحسنَ الله تقضِّيَها بمَنِّه وكَرَمِه . قاله وكتبه افقرُ عبيدِه إليه أحمدُ بنُ يوسفَ بنِ محمدِ مسعودٍ الشافعيُّ الحلبيُّ حامداً لله ربِّ العالمين ومُصَلِّياً على رسولِه الأمين وآلهِ وصحبِه أجمعين وسلَّم .
(1/5954)