الكتاب : الدر المصون في علم الكتاب المكنون
المؤلف : السمين الحلبي
قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49)
قوله : { وَمَا يُبْدِىءُ } : يجوز في " ما " أَنْ يكونَ نفياً ، وأَنْ يكونَ استفهاماً ، ولكنْ يَؤُول معناه إلى النفي ، ولا مفعولَ ل " يُبْدِئُ " ولا ل " يُعِيْد "؛ إذ المرادُ : لا يُوْقِع هذين الفعلَيْن ، كقوله :
3749 أَقْفَرَ مِنْ أهلِه عبيدُ ... أصبحَ لا يُبْدِيْ ولا يُعيدُ
وقيل : مفعولُه محذوفٌ أي : ما يُبْدِئُ لأهلِه خيراً ولا يُعيدُه ، وهو تقديرُ الحسنِ .
(1/4223)
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
قوله : { إِن ضَلَلْتُ } : العامَّةُ على فتحِ لامه في الماضي وكسرِها في المضارع ، ولكنْ يُنْقَلُ إلى الساكنِ قبلها ، والحسن وابنُ وثَّاب بالعكس ، وهي لغةُ تميمٍ ، وتقدَّم ذلك .
قوله : " فبما يُوْحِي " يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً أي : بسببِ إيحاءِ ربي إليَّ ، وأَنْ تكونَ موصولةً أي : بسبب الذي يُوْحِيه ، فعائدُه محذوفٌ .
(1/4224)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51)
قوله : { فَلاَ فَوْتَ } : العامَّةُ على بنائِه/ على الفتح ، و " أُخِذُوا " فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول معطوفاً على " فَزِعُوا " . وقيل : على معنى فلا فَوْتَ أي : فلم يَفُوْتُوا وأُخِذوا .
وقرأ عبد الرحمن مَوْلى بني هاشم وطلحة " فلا فَوْتٌ " و " أَخْذٌ " مرفوعين منوَّنَيْنِ ، وأُبَيٌّ بفتح " فَوْت " ورَفْع " أَخْذ " . فرَفْعُ " فَوْت " على الابتداء أو على اسمِ " لا " اللَّيْسِيَّةِ . ومَنْ رَفَعَ " وأَخْذٌ " رَفَعَه بالابتداء ، والخبرُ محذوفٌ أي : وأَخْذٌ هناك ، أو على خبر ابتداءٍ مضمرٍ أي : وحالُهم أَخْذٌ ، ويكونُ مِنْ عَطْفِ الجملِ ، عَطَفَ مثبتةً على منفيةٍ .
(1/4225)
وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52)
والضميرُ في " آمنَّا به " لله تعالى ، أو للرسول ، أو للقرآن ، أو للعذاب ، أو للبعث .
قوله : " التَّناوُشُ " مبتدأ ، و " أنَّى " خبرُه أي : كيف لهم التناوشُ . و " لهم " حالٌ . ويجوزُ أَنْ يكونَ " لهم " رافعاً للتناوش لاعتمادِه على الاستفهامِ ، تقديرُه : كيف استقرَّ لهم التناوش؟ وفيه بُعْدٌ . والتناؤُش مهموزٌ في قراءة الأخوَيْن وأبي عمرو وأبي بكر ، وبالواوِ في قراءةِ غيرِهم ، فيُحتمل أن تكونا مادتين مستقلَّتين مع اتِّحاد معناهما . وقيل : الهمزةُ عن الواو لانضمامِها كوُجوه وأُجُوه ، ووُقِّتَتْ وأُقِّتَتْ . وإليه ذهب جماعةٌ كثيرةٌ كالزَّجَّاج والزمخشري وابن عطية والحوفي وأبي البقاء . قال الزجَّاج : " كلُّ واوٍ مضمومةٍ ضمةً لازمةً فأنت فيها بالخِيار " وتابعه الباقون قريباً مِنْ عبارِته . ورَدَّ الشيخ هذا الإِطلاقَ وقَيَّده : بأنَّه لا بُدَّ أَنْ تكونَ الواوُ غيرَ مُدْغَمٍ فيها تحرُّزاً من التعَوُّذ ، وأَنْ تكونَ غيرَ مُصَحَّحةٍ في الفعلِ ، فإنها متى صَحَّت في الفعل لم تُبْدَلْ همزةً نحو : تَرَهْوَكَ تَرَهْوُكاً ، وتعاوَنَ تعاوُناً . وبهذا القيدِ الأخير يَبْطُلُ قولُهم؛ لأنها صَحَّتْ في تَنَاوَشَ يتناوَشُ ، ومتى سُلِّم له هذان القيدان أو الأخِيرُ منهما ثَبَتَ رَدُّه .
والتناوُش : الرُّجوع . وأُنْشِدَ :
3750 تَمَنَّى أَنْ تَؤُوْبَ إليَّ مَيٌّ ... وليس إلى تناوُشِها سبيلُ
أي : إلى رجوعِها . وقيل : هو التناوُل يقال : ناشَ كذا أي : تناولَه . ومنه : تناوَشَ القوم بالسِّلاح كقوله :
3751 ظَلَّتْ سُيوفُ بني أَبيه تَنُوْشُه ... للهِ أرحام هناك تُشَقَّقُ
وقال آخر :
3752 فَهْيَ تَنُوْشُ الحَوْضَ نَوْشاً مِنْ عَلا ... نَوْشاً به تَقْطَعُ أجوازَ الفَلا
وفَرَّق بعضُهم بين المهموزِ وغيرِه ، فجعله بالهمزِ بمعنى التأخُّر . قال الفراء : " مِنْ نَأَشْتُ أي : تَأخَّرْتُ " . وأنشد :
3753 تَمَنَّى نَئِيْشاً أَنْ يكونُ مُطاعِناً ... وقد حَدَثَتْ بعد الأمورِ أمورُ
وقال آخر :
3754 قَعَدْتَ زماناً عن طِلابك للعُلا ... وجِئْتَ نَئيشاً بعد ما فاتَكَ الخبرُ
وقال الفراء : " أيضاً هما متقاربان . يعني الهمزَ وتَرْكَه مثل : ذِمْتُ الرجلَ ، وذَأََمْتُه أي : عِبْتُه " وانتاش انتِياشاً كَتَناوَشَ تناوُشاً . قال :
3755 باتَتْ تَنُوْشُ العَنَقَ انْتِياشاً ... وهذا مصدرٌ على غيرِ الصدرِ . و " مِنْ مكانٍ " متعلِّقٌ بالتَّناوش .
(1/4226)
وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)
قوله : { وَقَدْ كَفَرُواْ } : جملةٌ حالية ، و " مِنْ قبلُ " أي من قبل زوال العذاب . ويجوز أَنْ تكونَ الجملةُ مستأنفةً . والأولُ أظهرُ .
قوله : " ويَقْذِفُون " يجوز فيها الاستئناف ، والحال . وفيه بُعْدٌ عكسَ الأولِ لدخول الواو على مضارعٍ مثبتٍ . والضمير في " به " كما تقدَّم فيه بعد " آمنَّا " . وقرأ أبو حيوة ومجاهد ومحبوب عن أبي عمرو و " يُقْذَفون " مبنياً للمفعول أي : يُرْجمون بما يَسُوْءُهم مِنْ جَرَّاءِ أعمالِهم من حيث لا يَحْتسبون .
(1/4227)
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
قوله : { وَحِيلَ } : قد تقدَّمَ فيه الإِشمامُ والكسر أولَ البقرة والقائمُ مقامَ الفاعلِ ضميرُ المصدرِ أي : وحِيْلَ هو أي الحَوْلُ . ولا تُقَدِّره مصدراً مؤكَّداً بل مختصاً حتى يَصِحَّ قيامُه . وجَعَلَ الحوفيُّ القائمَ مقامَ الفاعلِ " بينهم " واعْتُرِض عليه : بأنه كان ينبغي أن يُرْفَعَ . وأُجيب عنه بأنَّه إنما بُني على الفتح لإِضافتِه إلى غير متمكنٍ . ورَدَّه الشيخُ : بأنه لا يُبْنى المضافُ إلى غيرِ متمكنٍ مطلقاً ، فلا يجوز : " قام غلامَك " ولا " مررتُ بغلامَك " بالفتح . قلت وقد تقدَّم في قولِه : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] ما يُغْنِيْنا عن إعادتِه هنا/ . ثم قال الشيخ : " وما يقولُ قائلُ ذلك في قولِ الشاعر :
3756 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وقد حِيْلَ بين العَيْرِ والنَّزَوانِ
فإنه نصب " بين " مضافةً إلى مُعْربٍ . وخُرِّجَ أيضاً على ذلك قولُ الآخر :
3757 وقالَتْ متى يُبْخَلُ عليك ويُعْتَلَلْ ... يَسُؤْكَ وإن يُكشَفْ غرامُك تَدْرَبِ
أي : يُعْتَلَلْ هو أي الاعتلال " .
قوله : " مِنْ قبلُ " متعلِّقٌ ب " فُعِل " أو " بأشياعهم " أي : الذين شايَعوهم قبلَ ذلك الحينِ .
قوله : " مُريب " قد تقدَّم أنه اسمُ فاعلٍ مِنْ أراب أي : أتى بالرَّيْب ، أو دخل فيه ، وأَرَبْتُه أي : أوقعتَه في الرِّيْبَة . ونسبةُ الإِرابةِ إلى الشكِّ مجازٌ . وقال الزمخشري هنا : " إلاَّ أنَّ ههنا فُرَيْقاً : وهو أنَّ المُريبَ من المتعدِّي منقولٌ مِمَّن يَصِحُّ أَنْ يكونَ مُريباً ، من الأعيان ، إلى المعنى ، ومن اللازمِ منقولٌ من صاحبِ الشكِّ إلى الشَّكِّ ، كما تقول : شعرٌ شاعرٌ " وهي عبارةٌ حسنةٌ مفيدةٌ . وأين هذا مِنْ قولِ بعضِهم : " ويجوز أَنْ يكونَ أَرْدَفَه على الشَّكِّ ، ليتناسَقَ آخرُ الآية بالتي قبلَها مِنْ مكانٍ قريبٍ " . وقولُ ابنِ عطية : " المُريبُ أَقْوى ما يكون من الشكِّ وأشدِّه " . وقد تقدَّم تحقيقُ الرَّيْب أولَ البقرةِ وتشنيعُ الراغب على مَنْ يُفَسِّره بالشَّك .
(1/4228)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { فَاطِرِ السماوات } : إنْ جَعَلْتَ إضافتَه مَحْضَةً كان نعتاً لله ، وإنْ جَعَلْتَها غيرَ محضةٍ كان بدلاً . وهو قليلٌ من حيث إنه مشتقٌّ . وهذه قراءةُ العامَّةِ : " فاطر " اسمَ فاعلٍ . والزهريُّ والضحَّاك " فَطَر " فعلاً ماضياً . وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ أي : الذي فَطَر ، كذا قَدَّره أبو الفضل . ولا يَليق بمذهب البصريين؛ لأنَّ حَذْفَ الموصولِ الاسميِّ لا يجوزُ . وقد تقدَّمَ هذا الخلافُ مُسْتَوْفَى في البقرة . الثاني : أنه حال على إضمار " قد " قاله أبو الفضل أيضاً . الثالث : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هو فَطَر . وقد حكى الزمخشري قراءةً تؤيِّد ما ذَهَبَ إليه الرازيُّ فقال : " وقُرِئَ الذي فَطَر وجعل " فصَرَّح بالموصولِ .
قوله : " جاعل " العامَّةُ أيضاً على جَرِّه نعتاً أو بدلاً . والحسن بالرفعِ والإِضافةِ ، وروي عن أبي عمروٍ كذلك ، إلاَّ أنَّه لم يُنَوِّنْ ، ونَصَبَ " الملائكة " ، وذلك على حَذْفِ التنوينِ لالتقاء الساكنين ، كقولِه :
3758 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلاً
وابن يعمر وخليد بن مشيط " جَعَلَ " فعلاً ماضياً بعد قراءة " فاطر " بالجر ، وهذه كقراءةِ { فَالِقُ الإصباح ، وَجَعَلَ الليل } [ الأنعام : 96 ] . والحسن وحميد " رُسْلاً " بسكونِ السين ، وهي لغةُ تميم . وجاعل يجوز أَنْ يكونَ بمعنى مُصَيِّر أو بمعنى خالق . فعلى الأول يجري الخلاف : هل نَصْبُ الثاني باسم الفاعل ، أو بإضمار فعلٍ ، هذا إن اعْتُقِد أنَّ جاعلاً غيرُ ماضٍ ، أمَّا إذا كان ماضياً تَعَيَّن أن يَنتصبَ بإضمار فعلٍ . وقد حُقِّق ذلك في الأنعام . وعلى الثاني ينتصِبُ على الحالِ . و { مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } صفةٌ ل " أجنحة " . و " أُوْلي " صفة ل " رُسُلاً " . وقد تقدَّم تحقيقُ الكلامِ في " مَثْنى " وأختيها في سورة النساء مستوفى . قال الشيخ : " وقيل : " أُوْلي أجنحة " معترضٌ و " مَثْنَى " حالٌ ، والعاملُ فعلٌ محذوفٌ يَدُلُّ عليه " رسلاً " أي : يُرْسَلون مَثْنى وثلاثَ ورباع " وهذا لا يُسَمَّى اعتراضاً لوجهين ، أحدهما : أنَّ " أُولي " صفةٌ ل " رُسُلاً " ، والصفةُ لا يُقال فيها معترضةٌ . والثاني : أنها لَيسَتْ حالاً من " رُسُلاً " بل من محذوفٍ فكيف يكون ما قبلَه معترضاً؟ ولو جعله حالاً من الضمير في " رسلاً " لأنه مشتقٌّ لَسَهُلَ ذلك بعضَ شيءٍ ، ويكون الاعتراضُ بالصفةِ مَجازاً ، مِنْ حيث إنه فاضلٌ في السورة .
قوله : " يزيدُ " مستأنَفٌ . وما " يَشاء " هو المفعولُ الثاني للزيادة ، والأولُ لم يُقْصَدْ ، فهو محذوفٌ اقتصاراً ، لأنَّ ذِكْرَ قولِه : " في الخَلْق " يُغْني عنه .
(1/4229)
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
قوله : { مِن رَّحْمَةٍ } : تبيينٌ أو حالٌ مِنْ اسمِ الشرطِ ، ولا يكون صفةً ل " ما "؛ لأنَّ اسمَ الشرط لا يُوْصَفُ . قال الزمخشري : " وتنكيرُ الرحمة للإِشاعةِ والإِبهامِ ، كأنه قيل : أيَّ رحمةٍ كانت سماويةً أو أرضيَّةً " . قالَ الشيخ : " والعمومُ مفهومُ من اسمِ الشرطِ و " مِنْ رحمة " بيانٌ لذلك العامِّ من أي صنف هو ، وهو مِمَّا اجْتُزِئَ فيه بالنكرة المفردة عن الجمعِ المعرَّفِ المطابِقِ في العمومِ لاسمِ الشرطِ ، وتقديرُه : مِنَ الرَّحَمات . و " من " في موضع الحال " . انتهى .
قوله : " وما يُمْسِكْ " يجوز أَنْ يكونَ على عمومه ، أي : أيَّ شيءٍ أَمْسَكه ، مِنْ رحمةٍ أو غيرِها . فعلى هذا التذكيرُ في قوله : / " له " ظاهرٌ؛ لأنه عائدٌ على ما يُمْسِك . ويجوزُ أَنْ يكونَ قد حُذِفَ المبيَّن من الثاني لدلالةِ الأولِ عليه تقديرُه : وما يُمْسِكْ مِنْ رحمةٍ . فعلى هذا التذكيرُ في قولِه : " له " على لفظِ " ما " وفي قولِه أولاً { فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } التأنيثُ فيه حُمِل على معنى " ما " ، لأنَّ المرادَ به الرحمةُ فحُمِل أولاً على المعنى ، وفي الثاني على اللفظِ . والفتحُ والإِمساكُ استعارةٌ حسنةٌ .
(1/4230)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
قوله : { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله } : قرأ الأخَوان " غيرِ " بالجر نعتاً ل " خالقٍ " على اللفظِ . و " مِنْ خالق " مبتدأٌ مُزادٌ فيه " مِنْ " . وفي خبرِه قولان ، أحدُهما : هو الجملةُ مِنْ قوله : " يَرْزُقُكم " . والثاني : أنه محذوفٌ تقديرُه : لكم ونحوُه ، وفي " يَرْزُقكم " على هذا وجهان ، أحدهما : أنَّه صفةٌ أيضاً ل " خالق " فيجوزُ أن يُحْكَمَ على موضعِه بالجرِّ اعتباراً باللفظ ، وبالرفعِ اعتباراً بالموضع . والثاني : أنه مستأنفٌ .
وقرأ الباقون بالرفع . وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه خبرُ المبتدأ . والثاني : أنه صفةٌ ل " خالق " على الموضعِ . والخبرُ : إمَّا محذوفٌ ، وإمَّا " يَرْزُقُكم " . والثالث : أنه مرفوعٌ باسم الفاعل على جهةِ الفاعليةِ؛ لأنَّ اسمَ الفاعلِ قد اعْتَمَدَ على أداةِ الاستفهام . إلاَّ أنَّ الشيخَ تَوَقَّفَ في مثلِ هذا؛ من حيث إنَّ اسم الفاعل وإن اعتمدَ ، إلاَّ أنه لم تُحْفَظْ فيه زيادةُ " مِنْ " قال : " فيُحتاج مثلُه إلى سَماعٍ " ولا يَظهرُ التوقُّف؛ فإنَّ شروط الزيادةِ والعملِ موجودةٌ . وعلى هذا الوجهِ ف " يَرْزُقُكم " : إمَّا صفةٌ أو مستأنَفٌ . وجَعَل الشيخُ استئنافَه أَوْلَى قال : " لانتفاءِ صِدْقِ " خالق " على " غير الله " بخلافِ كونِه صفةً فإنَّ الصفةَ تُقَيِّد ، فيكون ثَمَّ خالقٌ غيرُ اللَّهِ لكنه ليس برازق " .
وقرأ الفضل بن إبراهيم النَّحْوِيُّ " غيرَ " بالنصبِ على الاستثناء . والخبر " يَرزُقكم " أو محذوفٌ و " يَرْزُقكم " مستأنفٌ ، أو صفةٌ . وقوله : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } مستأنفٌ .
(1/4231)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)
قوله : { الغرور } : العامَّةُ بالفتح ، وهو صفةُ مبالغةٍ كالصَّبورِ والشَّكورِ . وأبو السَّمَّال وأبو حيوةَ بضمِّها : إمَّا جمع غارّ كقاعِد وقُعود ، وإمَّا مصدرٌ كالجُلوس .
(1/4232)
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
قوله : { الذين كَفَرُواْ } : يجوزُ رَفْعُه ونصبُه وجَرُّه . فرفعُه مِنْ وجهين ، أقواهما : أَنْ يكونَ مبتدأً . والجملةُ بعده خبرُه . والأحسنُ أَنْ يكونَ " لهم " هو الخبرَ ، و " عذابٌ " فاعلَه . الثاني : أنه بدلٌ مِنْ واوِ " ليكونوا " . ونصبُه مِنْ أوجهٍ : البدلِ مِنْ " حزبَه " ، أو النعتِ له ، وإضمارِ فعلِ " أَذُمُّ " ونحوِه .
وجرُّه مِنْ وجهَين : النعتِ أو البدليةِ من " أصحابِ " . وأحسنُ الوجوهِ : الأولُ لمطابقةِ التقسيم . واللامُ في " ليكونوا " : إمَّا للعلَّةِ على المجازِ ، مِنْ إقامةِ المُسَبَّبِ مُقام السببِ ، وإمَّا للصيروة .
(1/4233)
أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
قوله : { أَفَمَن } : موصولٌ مبتدأٌ . وما بعدَه صلتُه ، والخبرُ محذوفٌ . فقدَّره الكسائيُّ { تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } لدلالةِ " فلا تَذْهَبْ " عليه . وقَدَّره الزجَّاجُ وأضلَّه اللَّهُ كمَنْ هداه . وقَدَّره غيرُهما : كمن لم يُزَيَّن له ، وهو أحسنُ لموافقتِه لفظاً ومعنىً . ونظيرُه : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } [ هود : 17 ] ، { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى } [ الرعد : 19 ] .
والعامَّةُ على " زُيِّن " مبنياً للمفعولِ " سوءُ " رُفِعَ به . وعبيد بن عمير " زَيَّنَ " مبنياً للفاعلِ وهو اللَّهُ تعالى ، " سُوْءَ " نُصِبَ به . وعنه " أَسْوَأُ " بصيغةِ التفضيلِ منصوباً . وطلحة " أمَنْ " بغيرِ فاءٍ .
قال أبو الفضل : " الهمزةُ للاستخبارِ بمعنى العامَّةِ ، للتقرير . ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى حرفِ النداء ، فَحَذَفَ التمامَ كما حَذَفَ مِن المشهورِ الجوابَ . يعني أنه يجوزُ في هذه القراءةِ أَنْ تكونَ الهمزةُ للنداء ، وحُذِف التمامُ ، أي : ما نُوْدي لأَجْلِه ، كأنه قيل : يا مَنْ زُيِّن له سوءُ عملِه ارْجِعْ إلى الله وتُبْ إليه . وقوله : " كما حُذِفَ الجوابُ " يعني به خبرَ المبتدأ الذي تقدَّم تقريرُه .
قوله : " فلا تَذْهَبْ " العامَّة على فتح التاءِ والهاءِ مُسْنداً ل " نفسُك " مِنْ بابِ " لا أُبَيْنَّك ههنا " أي : لا تَتَعاطَ أسبابَ ذلك . وقرأ أبو جعفر وقتادة والأشهبُ بضمِّ التاء وكسرِ الهاء مُسْتداً لضميرِ المخاطب " نَفْسَك " مفعولٌ به .
قوله : " حَسَراتٍ " / فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مفعولٌ مِنْ أجلِه أي : لأجلِ الحَسَرات . والثاني : أنه في موضعِ الحالِ على المبالغةِ ، كأنَّ كلَّها صارَتْ حَسَراتٍ لفَرْطِ التحسُّرِ ، كما قال :
3759 مَشَقَ الهَواجِرُ لَحْمَهُنَّ مع السُّرى ... حتى ذَهَبْنَ كَلاكِلاً وصُدورا
يريد : رَجَعْنَ كَلاكِلاً وصدوراً ، أي : لم تَبْقَ إلاَّ كلاكلُها وصدورها كقولِه :
3760 فعلى إثْرِهِمْ تَسَاقَطُ نَفْسي ... حَسَراتٍ وذكْرُهُمْ لي سَقامُ
وكَوْنُ كلاكِل وصدور حالاً قولُ سيبويه ، وجَعَلهما المبردُ تمييزَيْنِ منقولَيْنِ من الفاعلية .
(1/4234)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9)
قوله : { فَتُثِيرُ } : عَطْفٌ على " أَرْسَلَ "؛ لأنَّ أَرْسَلَ بمعنى المستقبل ، فلذلك عَطَفَ عليه ، وأتى بأَرْسَلَ لتحقُّقِ وقوعِه و " تُثير " لتصوُّرِ الحالِ واستحضارِ الصورة البديعةِ كقوله : { أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً } [ الحج : 63 ] كقول تأَبَّط شرَّاً :
3761 ألا مَنْ مُبْلِغٌ فِتْيانَ فَهْمٍ ... بما لاقَيْتُ عند رَحا بِطانِ
بأنِّي قد لَقِيْتُ الغُوْلَ تَهْوِيْ ... بسَهْبٍ كالصحيفةِ صَحْصَحانِ
فقلت لها : كِلانا نَضْوُ أرضٍ ... أخو سَفَرٍ فَخَلِّي لي مكانِي
فشَدَّتْ شَدَّةً نَحْوي فأهْوَتْ ... لها كَفِّي بمَصْقولٍ يَمانِ
فأَضْرِبُها بلا دَهْشٍ فَخَرَّتْ ... صَريعاً لليدَيْن وللجِرانِ
حيث قال : فَأَضْرِبُها ليصَوِّرَ لقومِه حالَه وشجاعتَه وجرأتَه .
وقوله : " فَسُقْناه " و " أَحْيَيْنا " مَعْدولاً بهما عن لفظِ الغيبة إلى ما هو أَدْخَلُ في الاختصاصِ وأَدَلُّ عليه .
قوله : " كذلك النُّشورُ " مبتدأٌ ، وخبرُه مقدَّمٌ عليه ، والإِشارةُ إلى إحياءِ الأرضِ بالمطرِ ، والتشبيهُ واضحٌ بليغٌ .
(1/4235)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)
قوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ } : شرطٌ جوابُه مقدرٌ ، ويختلف تقديرُه باختلافِ التفسير في قوله : { مَن كَانَ يُرِيدُ العزة } فقال مجاهد : " معناه مَنْ كان يريد العزَّةَ بعبادةِ الأوثان ، فيكونُ تقديرُه : فَلْيَطْلبها " . وقال قتادة : " مَنْ كان يريد العزَّة وطريقه القويم ويحب نيْلَها على وجهِها ، فيكون تقديره على هذا : فليطلبها " . وقال الفراء : " من كان يريد عِلمَ العزة ، فيكون التقدير : فليَنْسُبْ ذلك إلى الله تعالى " . وقيل : مَنْ كان يريد العزة التي لا تَعْقُبها ذِلَّةٌ ، فيكونُ التقديرُ : فهو لا يَنالُها . ودَلَّ على هذه الأجوبةِ قولُه : " فَلِلَّهِ العِزَّةُ " وإنما قيل : إن الجوابَ محذوفٌ ، وليس هو هذه الجملةَ لوجهين ، أحدهما : أنَّ العزَّةَ لله مطلقاً ، مِنْ غيرِ ترتُّبِها على شرطِ إرادةِ أحدٍ . الثاني : أنَّه لا بُدَّ في الجواب مِنْ ضميرٍ يعودُ على اسم الشرط ، إذا كان غيرَ ظرف ، ولم يُوْجَدْ هنا ضميرٌ . و " جميعاً " حالٌ ، والعاملُ فيها الاستقرارُ .
قوله : " إليه يَصْعَدُ " العامَّةُ على بنائِه للفاعل مِنْ " صَعِد " ثلاثياً ، " الكَلِمُ الطيِّبُ " برفعِهما فاعِلاً ونعتاً . وعلي وابن مسعود " يُصْعِدُ " مِنْ أَصْعَدَ ، " الكلمَ الطيبَ " منصوبان على المفعولِ والنعت . وقُرئ " يُصْعَدُ " مبنيَّاً للمفعول . وقال ابنُ عطية : " قرأ الضحَّاك " يُصْعد " بضم الياء " لكنه لم يُبَيِّن كونَه مبنيَّاً للفاعلِ أو للمفعول .
قوله : " والعملُ الصالحُ " العامَّةُ على الرفعِ . وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّه معطوفٌ على " الكلمُ الطيبُ " فيكون صاعداً أيضاً . و " يَرْفَعُه " على هذا استئنافُ إخبارٍ من اللَّهِ تعالى بأنه يرفعُهما ، وإنِّما وُحِّد الضميرُ ، وإنْ كان المرادُ الكَلِمَ والعملَ ذهاباً بالضميرِ مَذْهَبَ اسمِ الإِشارة ، كقوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] . وقيل : لاشتراكِهما في صفةٍ واحدةٍ ، وهي الصعودُ . والثاني : أنه مبتدأٌ ، و " يرفَعُه " الخبرُ ، ولكن اختلفوا في فاعل " يَرْفَعُه " على ثلاثةِ أوجهٍ ، أحدُها : أنه ضميرُ اللَّهِ تعالى أي : والعملُ الصالحُ يرفعه اللَّهُ إليه . والثاني : أنه ضميرُ العملِ الصالحِ . وضميرُ النصبِ على هذا فيه وجهان ، أحدُهما : أنه يعودُ على صاحب العمل ، أي يَرْفَعُ صاحبَه . والثاني : أنه ضميرُ الكلمِ الطيبِ أي : العمل الصالح يرفع الكلمَ الطيبَ . ونُقِلَ عن ابن عباس . إلاَّ أنَّ ابنَ عطية منع هذا عن ابن عباس ، وقال : " لا يَصِحُّ؛ لأنَّ مَذْهَبَ أهلِ السنَّة أنَّ الكلمَ الطيبَ مقبولٌ ، وإنْ كان صاحبُه عاصياً " . والثالث : أنَّ ضميرَ الرفعِ للكَلِمِ ، والنصبِ للعملِ ، أي : الكَلِمُ يَرْفَعُ العملَ .
وقرأ ابن أبي عبلة وعيسى بنصبِ " العمل الصالح " على الاشتغالِ ، والضميرُ المرفوعُ للكلم أو للَّهِ تعالى ، والمنصوبُ للعملِ .
(1/4236)
قوله : " يَمْكُرون السَّيِّئات " يمكرون أصلُه قاصِرٌ فعلى هذا ينتصِبُ " السيِّئاتِ " على نعتِ مصدرٍ محذوفٍ أي : المَكَراتِ/ السيئاتِ ، أو نعتٍ لمضافٍ إلى المصدر أي : أصناف المَكَراتِ السيئاتِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ " يَمْكُرون " مضمَّناً معنى يَكْسِبُون " فينتصِبُ " السيئاتِ " مفعولاً به .
قوله : " هو يَبُوْرُ " " هو " مبتدأٌ و " يبورُ " خبرُه . والجملةُ خبرُ قولِه : " ومَكْرُ أولئك " . وجَوَّزَ الحوفيُّ وأبو البقاء أَنْ يكونَ " هو " فَصْلاً بين المبتدأ وخبرِه . وهذا مردودٌ : بأنَّ الفَصْلَ لا يقعُ قبل الخبرِ إذا كان فعلاً ، إلاَّ أن الجرجاني جَوَّز ذلك . وجَوَّز أبو البقاء أيضاً أَنْ يكونَ " هو " تأكيداً . وهذا مَرْدودٌ بأنَّ المضمرَ لا يُؤَكِّدُ الظاهرَ .
(1/4237)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
قوله : { مِنْ أنثى } : " مِنْ " مزيدةٌ في " أُنْثى " وكذلك في " مِنْ مُعَمَّر " إلاَّ أنَّ الأولَ فاعلٌ ، وهذا مفعولٌ قام مَقامَه و " إلاَّ بعِلْمِه " حالٌ . أي : إلاَّ ملتبسةً بعلمه .
قوله : " مِنْ عُمُرِه " في هذا الضميرِ قولان ، أحدهما : أنه يعودُ على مُعَمَّرٍ آخرَ؛ لأنَّ المرادَ بقوله : " مِنْ مُعَمَّر " الجنسُ فهو يعودُ عليه لفظاً ، لا معنى ، لأنه بعدَ أَنْ فَرَضَ كونَه معمَّراً ، استحال أَنْ يَنْقُصَ مِنْ عمرِه نفسِه ، كقول الشاعر :
3762 وكلُّ أناسٍ قارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهم ... ونحن خَلَعْنا قيدَه فهو ساربُ
ومنه " عندي درهمٌ ونصفُه " أي : ونصفُ درهمٍ آخرَ . الثاني : أنه يعودُ على " مُعَمَّر " لفظاً . ومعنى ذلك : أنه إذا مضى مِنْ عُمُره حَوْلٌ أُحْصِيَ وكُتِبَ ، ثم حَوْلٌ آخرُ كذلك ، فهذا هو النَّقْصُ . وإليه ذهب ابنُ عباس وابن جبير وأبو مالك . ومنه قولُ الشاعرِ :
3763 حياتُك أَنْفاسٌ تُعَدُّ فكلَّما ... مضى نَفَسٌ منكَ انْتَقَصْتَ به جُزْءا
وقرأ يعقوبُ وسلام - وتُرْوى عن أبي عمروٍ - " ولا يَنْقُصُ " مبنياً للفاعلِ . وقرأ الحسن " مِنْ عُمْره " بسكون الميم .
(1/4238)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
قوله : { سَآئِغٌ شَرَابُهُ } : يجوزُ أَنْ يكونا مبتدأً وخبراً . والجملةُ خبرٌ ثانٍ ، وأَنْ يكونَ " سائغٌ " خبراً ، وشرابُه فاعلاً به ، لأنه اعتمد . وقرأ عيسى - وتُرْوى عن أبي عمروٍ وعاصمٍ - " سَيِّغٌ " مثلُ سَيِّد ومَيِّت . وعن عيسى بتخفيف يائِه ، كما يُخَفَّف هَيْن ومَيْت .
وقرأ طلحةُ وأبو نهيك " مَلِحٌ " بفتح الميمِ وكسرِ اللام . فقيل : هو مقصورٌ مِنْ مالِح ، ومالِحٌ لُغَيَّةٌ شاذةٌ . وقيل : " مَلِحٌ " بالفتحِ والكسرِ لغةٌ في " مِلْحٌ " بالكسرِ والسكون .
(1/4239)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13)
قوله : { ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ } : " ذلكمْ " مبتدأٌ و " اللَّهُ " خبرُه ، و " ربُّكم " خبرٌ ثانٍ أو نعتٌ لله . وقال الزمخشري : " ويجوز في حكم الإِعرابِ إيقاعُ اسمِ الله صفةً لاسمِ الإِشارةِ ، أو عطفَ بيانٍ ، و " رَبُّكم " خبرٌ ، لولا أنَّ المعنَى يَأْباه " . ورَدَّه الشيخُ : بأنَّ اللَّهَ عَلَمٌ لا جنس فلا يُوْصَفُ به . ورَدَّ قولَه : " إن المعنى يَأْباه " قال : " لأنه يكونُ قد أَخْبر عن المشارِ إليه بتلك الصفاتِ والأفعالِ أنَّه مالِكُكُمْ ومُصْلِحُكم " .
قوله : " والذين تَدْعُوْن " العامَّةُ على الخطاب في " تَدْعُون " لقوله : " ربُّكم " . وعيسى وسلام ويعقوب - وتُرْوى عن أبي عمرٍو - بياءِ الغَيْبة : إمَّا على الالتفاتِ ، وإمَّا على الانتقال إلى الإِخبارِ . والفرقُ بينهما : أنه في الالتفاتِ يكون المرادُ بالضميرَيْن واحداً بخلافِ الثاني؛ فإنهما غَيْران . و " ما يَمْلِكون " هو خبرُ الموصولِ . و " مِنْ قِطْمير " مفعولٌ به ، و " مِنْ " فيه مزيدةٌ .
والقِطْميرُ : المشهورُ فيه أنَّه لُفافَةُ النَّواةِ . وهو مَثَلٌ في القِلَّة ، كقوله :
3764 وأبوكَ يَخْصِفُ نَعْلَه مُتَوَرِّكاً ... ما يَمْلك المِسْكينُ مِنْ قِطْميرِ
وقيل : هو القُمْعُ . وقيل : ما بين القُمْعِ والنَّواةِ . وقد تقدَّم أنَّ في النَّواةِ أربعةَ أشياءَ يُضْرَبُ بها المَثَلُ في القِلَّة : الفَتِيلُ ، وهو ما في شِقِّ النَّواةِ ، والقِطْميرُ : وهو اللُّفافَةُ ، والنَّقِيْرُ ، وهو ما في ظهرها ، والثُّفْروقُ ، وهو ما بين القُمْع والنَّواة .
(1/4240)
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
قوله : { بِشِرْكِكُمْ } : مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه .
(1/4241)
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
قوله : { وَازِرَةٌ } : أي : نفسٌ وازِرَةٌ ، فحذف الموصوفَ للعِلْم [ به ] . ومعنى تَزِرُ : تَحْمِلُ أي : لا تحملُ نَفْسٌ حامِلَةٌ حِمْلَ نفسٍ أخرى .
قوله : { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ } أي : نفسٌ مُثْقَلَةٌ بالذنوب نفساً إلى حِمْلِها . فحذف المفعولَ به للعِلْم به . والعامَّةُ " لا يُحْمَلُ " مبنياً للمفعولِ و " شيءٌ " قائمٌ مَقامَ فاعلِه . وأبو السَّمَّال وطلحة - وتُرْوى عن الكسائي - بفتح التاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الميم . أَسْنَدَ الفعلَ إلى ضميرِ النفسِ المحذوفةِ التي جعلها مفعولةً ل " تَدْعُ " أي : لا تَحْمِل تلكَ النفسُ المدعوَّةُ . " شيئاً " مفعولٌ ب " لا تَحْمِل " .
قوله : { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } [ أي : ] ولو كان المَدْعُوُّ ذا قُرْبى . وقيل : التقديرُ : ولو كان الداعِي ذا قُرْبى . والمعنيان حسنان . وقُرِئ " ذو " بالرفعِ ، على أنها التامَّةُ أي : ولو حَضَرَ/ ذو قُرْبى نحو : " قد كان مِنْ مطْر " ، { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } [ البقرة : 280 ] . قال الزمخشري : " ونَظْمُ الكلامِ أحسن ملاءَمةً للناقصةِ؛ لأنَّ المعنى : على أنَّ المُثْقَلَةَ إذا دَعَتْ أحداً إلى حِمْلِها لا يُحْمَلُ منه شيءٌ ، ولو كان مَدْعُوُّها ذا قُرْبى ، وهو مُلْتَئِمٌ . ولو قلت : ولو وُجِد ذو قُرْبى لخَرَج عن التئامِه " . قال الشيخ : " وهو ملْتَئِمٌ على المعنى الذي ذكَرْناه " . قلت : والذي قاله هو " أي : ولو حَضَرَ إذ ذاك ذُو قربى " ثم قال : " وتفسيرُ الزمخشريِّ " كان " - وهو مبنيٌّ للفاعل " يُوْجَدُ " وهو مبنيٌّ للمفعول - تفسيرُ معنى ، والذي يفسِّر النحويُّ به " كان " التامَّةَ هو حَدَث وحَضَر ووقَعَ " .
قوله : بالغَيْب " حالٌ من الفاعل أي : يَخْشَوْنه غائبين عنه ، أو من المفعول أي : غائباً عنهم .
قوله : " ومَنْ تَزَكَّى " قرأ العامَّةُ " تَزَكَّى " تَفَعَّل ، " فإنما يَتَزَكَّى " يتفعَّل . وعن أبي عمروٍ " ومَنْ يَزَّكِّى " " فإنما يَزَّكَّى " والأصلُ فيهما : يَتَزَكَّى فأُدْغِمَتْ التاءُ في الزايِ كما أُدْغِمت في الذال نحو : " يَذَّكَّرون " في " يتذكَّرون " وابنُ مَسْعود وطلحة " ومَنْ ازَّكَّى " والأصلُ : تَزَكَّى فَأُدْغِمَ باجتلابِ همزةِ الوصلِ ، " فإنما يَزَّكَّى " أصلُه يَتَزَكَّى فأُدْغِمَ ، كأبي عمروٍ في غيرِ المشهورِ عنه .
(1/4242)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22)
قوله : { وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير } : استوى من الأفعال التي لا يُكْتَفَى فيها بواحدٍ لو قلت : " استوى زيدٌ " لم يَصِحَّ ، فمِنْ ثَمَّ لَزِمَ العطفُ على الفاعلِ أو تعدُّدُه .
و " لا " في قوله : " ولا الظلماتُ " إلى آخره مكررةٌ لتأكيدِ النفيِ . وقال ابنُ عطية : " دخولُ " لا " إنما هو على نيةِ التَّكْرارِ ، كأنه قال : ولا الظلماتُ والنورُ ، ولا النورُ والظلماتُ ، فاسْتُغْني بذِكْرِ الأوائل عن الثواني ، ودَلَّ مذكورُ الكلامِ على مَتْروكِه " . قال الشيخ : " وهذا غير مُحْتاجٍ إليه؛ لأنه إذا نُفِي اسْتواؤُهما أولاً فأيُّ فائدةٍ في نَفْي اسْتوائِهما ثانياً " وهو كلامٌ حَسَنٌ إلاَّ أنَّ الشيخَ هنا قال : " فدخولُ " لا " في النفيِ لتأكيدِ معناه ، كقوله : { وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة } [ فصلت : 34 ] . قلت : وللناسِ في هذه الآيةِ قولان ، أحدهما : ما ذُكِر . الثاني : أنها غيرُ مؤكِّدة؛ إذ يُراد بالحسنةِ الجنسُ ، وكذلك " السيئة " فكلُّ واحدٍ منهما متفاوتٌ في جنسِه؛ لأنَّ الحسناتِ درجاتٌ متفاوتةٌ ، وكذلك السَّيئاتُ ، وسيأتي لك تحقيقُ هذا إنْ شاء اللَّهُ تعالى . فعلى هذا يمكنُ أَنْ يُقالَ بهذا هنا : وهو أنَّ المرادَ نَفْيُ استواءِ الظلماتِ ونَفْيُ استواءِ جنسِ النورِ ، إلاَّ أنَّ هذا غيرُ مُرادً هنا في الظاهر ، إذ المرادُ مقابَلَةُ هذه الأجناسِ بعضِها ببعضٍ لا مقابلةُ بعضِ أفرادِ كلِّ جنسٍ على حِدَتِه . ويُرَجِّح هذا الظاهرَ التصريحُ بهذا في قوله أولاً : { وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير } حيث لم يُكرِّرْها . وهذا من المواضعِ الحسنةِ المفيدة .
والحَرُوْرُ : شدةُ حَرِّ الشمس . وقال الزمخشري : " الحَرورُ السَّمُوم ، إلاَّ أنَّ السَّمومَ بالنهارِ ، والحَرورَ فيه وفي الليل " . قلت : وهذا مذهبُ الفراءِ وغيرِه . وقيل : السَّمومُ بالنهار ، والحَرورُ بالليل خاصةً ، نقله ابنُ عطية عَن رؤبةَ . وقال : " ليس بصحيحٍ ، بل الصحيحُ ما قاله الفراءُ " . وهذا عجيبٌ منه كيف يَرُدُّ على أصحاب اللسانِ بقولِ مَنْ يأخذُ عنهم؟ وقرأ الكسائي في روايةِ زاذانَ عنه " وَمَا تَسْتَوِي الأحيآء " بالتأنيث على معنى الجماعة .
وهذه الأشياءُ جيْءَ بها على سبيلِ الاستعارةِ والتمثيلِ ، فالأعمى والبصيرُ ، الكافرُ والمؤمنُ ، والظلماتُ والنورُ ، الكفرُ والإِيمان ، والظلُّ والحَرورُ ، الحقُّ والباطلُ ، والأحياء والأمواتُ ، لمَنْ دَخَل في الإِسلامِ لَمَّا ضَرَبَ الأعمى والبصيرَ مَثَلَيْن للكافرِ والمؤمنِ عَقَّبَه بما كلٌّ منها فيه ، فالكافرُ في ظلمةٍ ، والمؤمنُ في نورٍ؛ لأنَّ البصيرَ وإن كان حديدَ النظر لا بُدَّ له مِنْ ضوءٍ يُبْصِرُ به ، وقَدَّم الأعمى لأنَّ البصيرَ فاصلةٌ فَحَسُنَ تأخيره ، ولمَّا تقدَّم الأعمى في الذكر ناسَبَ تقديمَ ما هو فيه ، فلذلك قُدِّمَتِ الظلمةُ على النور ، ولأنَّ النورَ فاصلةٌ ، ثم ذَكَر ما لكلٍّ منهما فللمؤمنِ الظلُّ وللكافرِ الحَرورُ ، وأخّر الحرورَ لأجلِ الفاصلةِ كما تقدَّم .
(1/4243)
وقولي " لأجلِ الفاصلةِ " هنا وفي غيرِه من الأماكنِ أحسنُ مِنْ قولِ بَعْضِهم لأجلِ السَّجْع؛ لأنَّ القرآن يُنَزَّه عن ذلِك . وقد منع الجمهورُ/ أَنْ يُقال في القرآن سَجْعٌ ، وإنما كرَّر الفعلَ في قوله : { وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء } مبالغةً في ذلك؛ لأنَّ المنافاةَ بين الحياةِ والموتِ أتمُّ من المنافاةِ المتقدمةِ ، وقدَّم الإِحياءَ لشرفِ الحياةِ ولم يُعِدْ " لا " تأكيداً في قولِه : " الأَعمى والبصير " وكرَّرها في غيره؛ لأنَّ منافاةَ ما بعدَه أتمُّ ، فإن الشخصَ الواحدَ قد يكونُ بصيراً ثم يصيرُ أَعْمى ، فلا منافاةَ إلاَّ من حيث الوصفُ بخلافِ الظلِّ والحرورِ ، والظلماتِ والنور ، فإنها متنافيةٌ أبداً ، لا يَجْتمع اثنان منها في محلّ ، فالمنافاةُ بين الظلِّ والحرورِ وبين الظلمةِ والنورِ دائمةٌ .
فإنْ قيل : الحياةُ والموتُ بمنزلةِ العمى والبصرِ ، فإنَّ الجسمَ قد يكون مُتَّصفاً بالحياةِ ثم يتصفُ بالموت . فالجواب : أنَّ المنافاةَ بينهما أتمُّ من المنافاةِ بين الأعمى والبصيرِ؛ لأنَّ الأعمى والبصيرَ يشتركان في إدراكات كثيرةٍ ، ولا كذلكَ الحيُّ والميت ، فالمنافاةُ بينهما أتمُّ ، وأفردَ الأعمى والبصيرَ لأنَّه قابلَ الجنسَ بالجنسِ ، إذ قد يُوْجد في أفراد العُمْيان ما يُساوي بعضَ أفرادِ البُصَراءِ كأعمى ذكي له بصيرةٌ يُساوي بصيراً بليداً ، فالتفاوتُ بين الجنسين مقطوعٌ به لا بين الأفراد .
وجَمَعَ الظلماتِ لأنها عبارةٌ عن الكفرِ والضلالِ ، وطرقُهما كثيرةٌ متشعبةٌ ، ووحَّد النورَ لأنه عبارةٌ عن التوحيدِ وهو واحدٌ ، فالتفاوتُ بين كلِّ فردٍ مِنْ أفرادِ الظلمة ، وبين هذا الفردِ الواحد . والمعنى : الظلماتُ كلُّها لا تجدُ فيها ما يساوي هذا الواحدَ كذا قيل . وعندي أنه ينبغي أَنْ يُقال : إن هذا الجمعَ لا يُساوي هذا الواحدَ فيُعْلَمُ انتفاءُ مساواةِ فردٍ منه لهذا الواحدِ بطريقِ الأَوْلى ، وإنما جَمَع الأحياءَ والأمواتَ لأنَّ التفاوتَ بينهما أكثرُ؛ إذ ما من ميتٍ يُساوي في الإِدراك حيَّاً ، فذكَرَ أنَّ الأحياءَ لا يُساوون الأموات سواءً قابَلْتَ الجنسَ بالجنسِ ، أم الفردَ بالفرد .
(1/4244)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24)
قوله : { بالحق } : يجوزُ فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه حالٌ من الفاعلِ أي : أَرْسلناك مُحِقِّين ، أو من المفعولِ أي : مُحِقًّا ، أو نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي : إرسالاً مُلْتَبِساً بالحق ، أو متعلقٌ ب بشير ونذير . قال الزمخشري : " على : بشيراً بالوعدِ الحقِّ ، ونذيراً بالوعيد الحق " قال الشيخ : " ولا يمكن أَنْ يتعلَّقَ " بالحق " هذا ب " بشير ونذير " معاً ، بل ينبغي أَنْ يُتَأوَّل كلامُه على أنه أراد أنَّ ثَمَّ محذوفاً . والتقدير : بشيراً بالوعد الحق ، ونذيراً بالوعيد الحق " . قلت : وقد صرَّحَ الرجلُ بهذا .
قوله : { إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } خبر " مِنْ أمةٍ " وحَذَفَ مِنْ هذا ما أثبته في الأول؛ إذ التقديرُ : إلاَّ خَلا فيها نذيرٌ وبشير .
(1/4245)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27)
قوله : { فَأَخْرَجْنَا } : هذا التفاتٌ من الغَيْبةِ إلى التكلم . وإنما كان ذلك لأنَّ المِنَّةَ بالإِخراج أبلغُ من إنزال الماءِ . و " مختلفاً " نعتٌ ل " ثمرات " ، و " ألوانُها " فاعلٌ به ، ولولا ذلك لأنَّث " مختلفاً " ، ولكنه لمَّا أُسْند إلى جمعِ تكسيرٍ غيرِ عاقلٍ جاز تذكيرُه ، ولو أنَّثَ فقيل : مختلفة ، كما تقول : اختلفَتْ ألوانُها لجازَ ، وبه قرأ زيد بن علي .
قوله : { وَمِنَ الجبال جُدَدٌ } العامَّةُ على ضمِّ الجيمِ وفتح الدالِ ، جمعَ " جُدَّة " وهي الطريقةُ . قال ابن بحر : " قِطَعٌ ، مِنْ قولك : جَدَدْت الشيءَ قَطَعْتُه " . وقال أبو الفضل : " هي ما تخالَفَ من الطرائق لونُ ما يليها ، ومنه جُدَّة الحِمارِ للخَطِّ الذي في ظهرِه . وقرأ الزهري " جُدُد " بضم الجيم والدال جمع جَدِيْدَة ، يقال : جديدة وجُدُد وجَدائد . قال أبو ذُؤيب :
3765 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... جَوْنُ السَّراةِ له جَدائدُ أربعُ
نحو : سفينة وسُفُن وسفائِن . وقال أبو الفضل : " جمع جديد بمعنى آثار جديدة واضحة الألوان " . وعنه أيضاً جَدَد بفتحهما . وقد رَدَّ أبو حاتمٍ هذه القراءةَ من حيثُ الأثرُ والمعنى ، وقد صَحَّحهما غيرُه . وقال : الجَدَدُ : الطريق الواضح البيِّن ، إلاَّ أنه وضع المفرَد موضعَ الجمعِ؛ إذ المرادُ الطرائقُ والخطوطُ .
قوله : " مختلِفٌ ألوانُها " " مختلف " صفةٌ ل " جُدَد " أيضاً . و " ألوانُها " فاعلٌ به كما تقدَّم في نظيره . ولا جائزٌ أَنْ يكونَ " مختلفٌ " خبراً مقدماً ، و " ألوانُها " مبتدأٌ مؤخرٌ ، والجملةُ صفةٌ؛ إذ كان يجبُ أَنْ يُقال : مختلفةٌ لتحمُّلِها ضميرَ المبتدأ . وقوله : / " ألوانُها " يحتمل معنيين ، أحدهما : أنَّ البياضَ والحمرةَ يتفاوتان بالشدة والضعفِ فرُبَّ أبيضَ أشدُّ من أبيضَ ، وأحمرَ أشدُّ مِنْ أحمرَ ، فنفسُ البياضِ مختلفٌ ، وكذلك الحمرةُ ، فلذلك جَمَع " ألوانها " فيكونُ من باب المُشَكَّل . الثاني : أن الجُدَدَ كلَّها على لونين : بياضٍ وحُمْرَةٍ ، فالبياضُ والحُمْرَةُ وإنْ كانا لونَيْن إلاَّ أنهما جُمِعا باعتبارِ مَحالِّهما .
وقوله : " وغَرابيبُ سُوْدٌ " فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه معطوفٌ على " حمرٌ " عَطْفَ ذي لون على ذي لون . الثاني : أنه معطوفٌ على " بِيضٌ " . الثالث : أنه معطوفٌ على " جُدَدٌ " . قال الزمخشري : " معطوف على " بيض " أو على " جُدَد " ، كأنه قيل : ومن الجبالِ مخططٌ ذو جُدَد ، ومنها ما هو على لونٍ واحد " ثم قال : " ولا بُدَّ من تقديرِ حذفِ المضافِ في قوله : { وَمِنَ الجبال جُدَدٌ } بمعنى : ومن الجبالِ ذو جُدَدٍ بيضٍ وحمرٍ وسُوْدٍ ، حتى يَؤُول إلى قولِك : ومن الجبالِ مختلفٌ ألوانها ، كما قال : { ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } .
(1/4246)
ولم يذكُرْ بعد " غرابيب سود " " مختلفٌ ألوانُها " كما ذكر ذلك لك بعد بيض وحُمْر؛ لأنَّ الغِرْبيبَ هو المبالِغُ في السوادِ ، فصار لوناً واحداً غيرَ متفاوتٍ بخلافِ ما تقدَّم " .
وغرابيب : جمعُ غِرْبيب وهو الأسودُ المتناهِي في السوادِ فهو تابعٌ للأسودِ كقانٍ وناصعٍ وناضِرٍ ويَقَق ، فمِنْ ثَمَّ زعَم بعضُهم أنه في نيةِ التأخير ، ومِنْ مذهبِ هؤلاءِ يجوز تقديمُ الصفةِ على موصوفِها ، وأنشدوا :
3766 والمُؤْمِن العائذاتِ الطير . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يريد : والمؤمنِ الطيرَ العائذات ، وقولَ الآخر :
3767 وبالطويلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَراً ... يريد : وبالعمر الطويل . والبصريُّون لا يَرَوْن ذلك ويُخَرِّجُون هذا وأمثالَه على أنَّ الثاني بدلٌ من الأول ف سود والطير والعمر أبدالٌ مِمَّا قبلها . وخَرَّجه الزمخشريُّ وغيرُه على أنه حَذَفَ الموصوفَ وقامَتْ صفتُه مقامَه ، وأن المذكورَ بعد الوصفِ دالٌّ على الموصوفِ . قال الزمخشري : " الغِرْبيبُ : تأكيدٌ للأَسْوَدِ ، ومِنْ حَقِّ التوكيدِ أَنْ يَتْبَعَ المؤكِّد كقولك : أصفَرُ فاقِعٌ وأبيضٌ يَقَقٌ . ووجهه : أَنْ يُضْمَرَ المؤكَّدُ قبلَه ، فيكون الذي بعده تفسيراً لِما أُضْمِر كقوله :
والمؤمِنِ العائذاتِ الطيرِ . . . . . . . . . . . . . . . ... وإنما يُفْعَلُ ذلك لزيادةِ التوكيدِ حيث يدلُّ على المعنى الواحد من طريقَيْ الإِظهار والإِضمار " يعني فيكونُ الأصلُ : وسودٌ غرابيبُ سودٌ ، والمؤمنُ الطيرَ العائذاتِ الطيرَ . قال الشيخ : " وهذا لا يَصِحُّ إلاَّ على مذهب مَنْ يُجَوِّز حَذْفَ المؤكَّد . ومن النحويين مَنْ مَنَعَه وهو اختيارُ ابنِ مالك " . قلت : ليس هذا هو التوكيدَ المختلفَ في حَذْفِ مؤكَّدهِ؛ لأنَّ هذا من باب الصفة والموصوف . ومعنى تسميةِ الزمخشريِّ لها تأكيداً من حيث إنها لا تفيد معنًى زائداً ، إنما تفيدُ المبالغةَ والتوكيدَ في ذلك اللونِ ، والنَّحْويون قد سَمَّوا الوصفَ إذا لم يُفِدْ غيرَ الأولِ تأكيداً فقالوا : وقد يجيْءُ لمجرِد التوكيد نحو : نعجةٌ واحدةٌ ، وإلهين اثنين ، والتوكيدُ المختلفُ في حَذْف مؤكَّده ، وإنما هو من باب التوكيدِ الصناعي ، ومذهب سيبويه جوازُه ، أجاز " مررت بأخويك أنفسُهما ( أنفسَهما ) " بالنصب أو الرفع ، على تقدير : أَعْنيهما أنفسَهما ، أو هما أنفسُهما فأين هذا من ذاك؟ إلاَّ أنه يُشْكِلُ على الزمخشري هذا المذكورُ بعد " غَرابيب " ونحوِه بالنسبة إلى أنه جعله مُفَسِّراً لذلك المحذوفِ ، وهذا إنما عُهِد في الجملِ ، لا في المفرداتِ ، إلاَّ في باب البدل وعَطف البيانِ فبأيِّ شيءٍ يُسَمِّيه؟ والأَوْلَى فيه أن يُسَمَّى توكيداً لفظياً؛ إذ الأصلُ : سود غرابيب سود .
(1/4247)
وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
قوله : { مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } : مختلفٌ نعتٌ لمنعوتٍ محذوف هو مبتدأ ، والجارُّ قبلَه خبرُه ، أي : من الناس صِنْفٌ أو نوعٌ مختلفٌ؛ وكذلك عملُ اسمِ الفاعلِ كقولِ الشاعر :
3768- كناطِحٍ صَخْرَةً يوماً لِيَفْلِقَها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقرأ ابن السَّميفع " ألوانُها " وهو ظاهرٌ . وقرأ الزهري " والدوابُ " خفيفةَ الباءِ فِراراً مِنْ التقاء الساكنين ، كما حُرِّك أولُهما في " الضألِّين " و " جأنّ " .
قوله : " كذلك " فيه وجهان ، أظهرهما : أنه متعلِّقٌ بما قبله أي : مختلفٌ اختلافاً مثلَ الاختلافِ في الثمرات والجُدَدِ . والوقفُ على " كذلك " . والثاني : أنه متعلِّقٌ بما بعده ، والمعنى : مثلَ ذلك/ المطرِ والاعتبارِ في مخلوقات الله تعالى واختلافِ ألوانِها يَخْشَى اللَّهَ العلماءُ . وإلى هذا نحا ابن عطية وهو فاسدٌ من حيث إنَّ ما بعد " إنَّما " مانِعٌ من العمل فيما قبلها ، وقد نَصَّ أبو عُمر الداني على أنَّ الوقفَ على " كذلك " تامٌّ ، ولم يَحْكِ فيه خِلافاً .
قوله : { إِنَّمَا يَخْشَى الله } العامَّةُ على نصب الجلالة ورفع " العلماءُ " وهي واضحةٌ . وقرأ عمرُ بن عبد العزيز وأبو حنيفةَ فيما نقل الزمخشريُّ وأبو حيوةَ - فيما نَقَلَ الهذليُّ في كامله - بالعكس ، وتُؤُوِّلت على معنى التعظيم ، أي : إنما يُعَظِّمُ اللَّهُ مِنْ عبادِه العلماءَ . وهذه القراءة شبيهةٌ بقراءة { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ } [ البقرة : 124 ] برفع " إبراهيم " ونصب " رَبَّه " وقد تقدَّمَتْ .
(1/4248)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)
قوله : { إِنَّ الذين يَتْلُونَ } : في خبر " إنَّ " وجهان ، أحدهما : الجملةُ مِنْ قولِه " يَرْجُون " أي : إنَّ التالِين يَرْجُون و " لن تبورَ " صفةُ " تجارةً " و " لِيُوَفِّيَهُمْ " متعلقٌ ب " يَرْجُون " أو ب " تَبُور " أو بمحذوفٍ أي : فعلوا ذلك ليوفِّيهم ، وعلى الوجهين الأوَّلَيْن يجوزُ أَنْ تكونَ لام العاقبة . الثاني : أن الخبرَ { إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } جَوَّزه الزمخشري على حَذْفِ العائدِ أي : غفورٌ لهم . وعلى هذا ف " يَرْجُون " حالٌ مِنْ " أنْفَقُوا " أي : أَنْفَقوا ذلك راجين .
(1/4249)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
قوله : { مِنَ الكتاب } : يجوزُ أَنْ تكونَ " مِنْ " للبيان ، وأن تكونَ للجنسِ ، وأَنْ تكونَ للتبعيضِ ، و " هو " فصلٌ أو مبتدأٌ و " مُصَدِّقاً " حالٌ مؤكدة .
(1/4250)
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
قوله : { الكتاب الذين اصطفينا } : مفعولا " أَوْرَثْنا " . و " الكتابَ " هو الثاني قُدِّمَ لشَرفِه ، إذ لا لَبْسَ .
قوله : " من عبادِنا " يجوزُ أَنْ تكونَ للبيانِ على معنى : أنَّ المصطفَيْن هم عبادُنا ، وأن تكونَ للتبعيضِ ، أي : إن المصطفَيْن بعضُ عبادِنا لا كلُّهم . وقرأ أبو عمران الجوني ويعقوبُ وأبو عمروٍ في روايةٍ " سَبَّاق " مثالَ مبالغةٍ .
(1/4251)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)
قوله : { جَنَّاتُ عَدْنٍ } : يجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأً ، والجملةُ بعدها الخبرُ ، وأن يكونَ بدلاً مِن " الفضلُ " قاله الزمخشري وابنُ عطية . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ اعترض وأجاب فقال : " فإن قلتَ : كيف جَعَلْتَ قوله : " جنات عدنٍ " بدلاً من " الفضل " الذي هو السَّبْقُ بالخيرات المشارُ إليه ب " ذلك "؟ قلت : لَمَّا كان السببَ في نيل الثواب نُزِّل منزلةَ المُسَبَّب ، كأنه هو الثواب ، فَأَبْدَل عنه " جناتُ عدن " .
وقرأ رزين والزهري " جَنَّةُ " مفرداً . والجحدري " جناتِ " بالنصب على الاشتغال ، وهي تؤيِّدُ رَفْعَها بالابتداء . وجوَّز أبو البقاء أن يكونَ " جناتُ " بالرفع خبراً ثانياً لاسم الإِشارة ، وأن يكون خبرَ مبتدأ محذوفٍ . وتقدَّمت قراءةُ " يَدْخُلونها " مبنياً للفاعل أو المفعول وباقي الآية في الحج .
(1/4252)
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)
قوله : { الحزن } : العامَّةُ بفتحتَيْن . وجناح ابن حبيش بضم وسكون . وتقدَّم معنى ذلك أولَ القصص .
(1/4253)
الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
قوله : { دَارَ المقامة } : مفعولٌ ثانٍ ل " أَحَلَّنا " ولا يكونُ ظرفاً لأنه مختصٌّ فلو كان ظرفاً لتعدَّى إليه الفعلُ ب في . والمُقامةُ : الإِقامة . " من فضلِه " متعلقٌ ب " أحَلَّنا " و " مِنْ " : إمَّا للعلةِ ، وإمَّا لابتداءِ الغاية .
قوله : " لا يَمَسُّنا " حالٌ مِنْ مفعولِ " أَحَلَّنا " الأول أو الثاني؛ لأن الجملةَ مشتملةٌ على ضميرِ كل منهما ، وإن كان الحالُ من الأول أظهرَ . والنَّصَبُ : التعبُ والمشقةُ . واللُّغوبُ : الفتورُ الناشئُ عنه ، وعلى هذا فيقال : إذا انتفى السببُ نُفِي المُسَبَّب يقال : " لم آكُلْ " فيُعلمُ انتفاءُ الشِّبع ، فلا حاجةَ إلى قولِه ثانياً : " فلم أشبَعْ " بخلاف العكسِ ، ألا ترى أنه يجوز : لم أشبع ولم آكل ، والآية الكريمة على ما قررتُ مِن نفي السبب ثم نفي المسبب فأي فائدة في ذلك؟ وقد أجيب بأنه بيَّن مخالفةَ الجنة لدار الدنيا؛ فإنَّ أماكنَها على قسمين : موضعٍ تَمَسُّ فيه المشاق كالبراري ، وموضعٍ يَمَسُّ فيه الإِعياءُ كالبيوتِ والمنازل التي فيها الأسفارُ . فَقيل : لا يَمَسُّنا فيها نَصَبٌ لأنها ليست مَظانَّ المتاعبِ كدارِ الدنيا ، ولا يَمَسُّنا فيها لُغوبٌ أي : ولا نَخْرُج منها إلى مواضعَ نَتْعَبُ ونَرْجِعُ إليها فيمسُّنا فيها الإِعياء . وهذا الجوابُ ليس بذلك ، والذي يقال : إن النَّصَب هو تعبُ البدنِ واللُّغوبُ تعبُ النفسِ . وقيل : اللغوبُ الوَجَعُ وعلى هذين فلا يَرِدُ السؤالُ المتقدِّمُ .
وقرأ عليٌّ والسُّلميُّ بفتح لام " لَغُوْب " وفيه أوجه ، أحدها : أنَّه مصدرٌ على فَعُوْل كالقَبول . / والثاني : أنه اسمٌ لِما يُلْغَبُ به كالفَطور والسَّحور . قاله الفراء . الثالث : أنه صفةٌ لمصدرٍ مقدرٍ أي : لا يَمَسُّنا لُغوبٌ لَغوبٌ نحو : شعرٌ شاعرٌ ومَوْتٌ مائتٌ . وقيل : صفةٌ لشيءٍ غيرِ مصدرٍ أي : أمرٌ لَغوبٌ .
(1/4254)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)
قوله : { فَيَمُوتُواْ } : العامَّةُ على نصبِه بحذفِ النونِ جواباً للنفي . وهو على أحدِ معنَييْ نَصْبِ " ما تأتينا فتحدِّثَنا " ، أي : ما يكون منك إتيانٌ فلا حديثٌ ، انتفى السببُ وهو الإِتيانُ ، فانتفى مُسَبَّبُه وهو الحديثُ . والمعنى الثاني : إثباتُ الإِتيانِ ونفيُ الحديثِ أي : ما تأتينا محدِّثاً بل تأتينا غيرَ مُحَدِّثٍ . وهذا لا يجوزُ في الآيةِ البتةَ .
وقرأ عيسى والحسن " فيموتون " بإثباتِ النونِ . قال ابنُ عطية : " هي ضعيفةٌ " . قلت : وقد وَجَّهها المازنيُّ على العطفِ على { لاَ يقضى عَلَيْهِمْ } فلا يموتون . وهو أحدُ الوجهين في معنى الرفعِ في قولك : " ما تأتينا فتحدِّثنا " أي : انتفاءُ الأمرَيْن معاً ، كقولِه : { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 36 ] ، أي : فلا يعتذرون . و " عليهم " قائمٌ مقامَ الفاعلِ ، وكذلك " عنهم " بعد " يُخَفَّفُ " . ويجوزُ أَنْ يكونَ القائمُ " من عذابها " و " عنهم " منصوبُ المحلِّ . ويجوز أَنْ تكونَ " مِنْ " مزيدةً عند الأخفش ، فَتَعيَّن لقيامِه مَقامَ الفاعلِ لأنه هو المفعولُ به .
وقرأ أبو عمرٍو في رواية " ولا يُخَفَّفْ " بسكون الفاء ، شبَّه المنفصل بِ " عَضْد " كقوله :
3769 فاليومَ أشْرَبْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قوله : " كذلك " إمَّا مرفوعُ المحل أي : الأمرُ كذلك ، وإمَّا منصوبُه أي : مثلَ ذلك الجزاءِ نَجْزي . وقرأ أبو عمرٍو " يُجْزَى " مبنيَّاً للمفعول ، " كلُّ " رفعٌ به . والباقون " نَجْزي " بنونِ العظمة مبنيَّاً للفاعل ، " كلَّ " مفعول به .
(1/4255)
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
قوله : { رَبَّنَآ } : على إضمارِ القولِ ، وذلك القولُ إنْ شئْتَ قَدَّرْتَه فعلاً مُفَسِّراً ل " يَصْطَرِخون " أي : يقولون في صُراخِهم : ربَّنا أَخْرِجْنا ، وإنْ شِئْتَ قَدَّرْتَه حالاً مِنْ فاعل " يَصْطَرخون " أي : قائلين ربَّنا . ويَصْطَرخون : يَفْتَعِلون مِن الصُّراخ وهو شدَّةُ رَفْعِ الصوتِ فأُبْدِلت التاءُ صاداً لوقوعِها قبلَ الطاء .
قوله : { صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ } يجوزُ أَنْ يكونا بمعنى مصدرٍ محذوفٍ أي : عملاً صالحاً غيرَ الذي كنا نعملُ ، وأَنْ يكونا بمعنى مفعولٍ به محذوفٍ أي : نعمل شيئاً صالحاً غيرَ الذي كنَّا نعملُ ، وأَنْ يكونَ " صالحاً " نعتاً لمصدرٍ ، و { غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ } هو المفعولُ به . وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : فهَلاَّ اكْتُفي ب " صالحاً " كما اكْتُفِي به في قولِه : { فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً } [ السجدة : 12 ] ، وما فائدةُ زيادةِ { غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ } على أنه يُوْهِمُ أنهم يعملون صالحاً آخرَ غيرَ الصالحِ الذي عملوه؟ قلت : فائدتُه زيادةُ التحسُّر على ما عَمِلوه من غيرِ الصالح مع الاعترافِ به . وأمَّا الوهمُ فزائلٌ بظهورِ حالهم في الكفرِ وظهورِ المعاصي ، ولأنَّهم كانوا يَحْسَبُون أنهم على سيرةٍ صالحةٍ ، كما قال تعالى : { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 104 ] فقالوا : أَخْرِجْنا نعمَلْ صالحاً غيرَ الذي كُنَّا نَحْسَبُه صالحاً فنعملُه " .
قوله : " ما يَتَذكَّر " جوَّزوا في " ما " هذه ، وجهين ، أحدهما : - ولم يَحْكِ الشيخُ غيرَه - أنها مصدريةٌ ظرفية قال : أي مدةَ تَذَكُّرِ . وهذا غَلَطٌ؛ لأنَّ الضميرَ في " فيه " يمنعُ مِنْ ذلك لعَوْدِهِ على " ما " ، ولم يَقُلْ باسميَّةِ " ما " المصدريةِ إلاَّ الأخفشُ وابنُ السَّراج . الثاني : أنها نكرةٌ موصوفةٌ أي تعمُّراً يتذكر فيه ، أو زماناً يتذكَّر فيه . وقرأ الأعمشُ " ما يَذَّكَّرُ " بالإِدغام " مَنِ اذَّكَّر " . قال الشيخُ : " بالإِدغام واجتلابِ همزةِ الوصلِ ملفوظاً بها في الدَّرْج " . وهذا غريبٌ حيث أُثْبِتَتْ همزةُ الوصلِ مع الاستغناءِ عنها ، إلاَّ أَنْ يكونَ حافَظَ على سكون " مَنْ " وبيانِ ما بعدها .
قوله : " وجاءكم " عطفٌ على " أولم نُعَمِّرْكم " لأنَّه في معنى : قد عَمَّرْناكم ، كقولِه : { أَلَمْ نُرَبِّكَ } [ الشعراء : 18 ] ثم قال : { وَلَبِثْتَ } [ الشعراء : 18 ] ، { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ } [ الانشراح : 1 ] ثم قال { وَوَضَعْنَا } [ الانشراح : 2 ] إذ هما في معنى : رَبَّيْناك ، وشَرَحْنا .
قوله : " مِنْ نصير " يجوزُ أَنْ يكون فاعِلاً بالجارِّ لاعتمادِه ، وأنْ يكونَ مبتدأً مُخْبَراً عنه بالجارِّ قبلَه . وقُرِئ " النُّذُرُ " جمعاً .
(1/4256)
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)
قوله : { عَالِمُ غَيْبِ } : العامَّةُ على الإِضافةِ تخفيفاً . وجناح بن حبيش بتنوين " عالمٌ " ونصب " غَيْبَ " .
(1/4257)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40)
قوله : { أَرَأَيْتُمْ } : فيها/ وجهان ، أحدهما : أنها ألفُ استفهامٍ على بابِها ، ولم تتضمَّنْ هذه الكلمةُ معنى أَخْبِروني ، بل هو استفهامٌ حقيقيٌّ . وقوله : " أَرُوْني " أمرُ تَعْجيزٍ . والثاني : أنَّ الاستفهامَ غيرُ مُرادٍ ، وأنها ضُمِّنَتْ معنى أَخْبروني . فعلى هذا تتعدَّى لاثنين ، أحدُهما : " شركاءَكم " ، والثاني : الجملةُ الاستفهاميةُ مِنْ قولِه : " ماذا خَلَقوا " . و " أَرُوْني " يُحتمل أَنْ تكونَ جملةً اعتراضيةً . الثاني : أَنْ تكونَ المسألةُ مِنْ بابِ الإِعمالِ ، فإنَّ " أَرَأَيْتُمْ " يطلبُ " ماذا خَلَقُوا " مفعولاً ثانياً ، و " أَرُوْني " أيضاً يطلبُه مُعَلِّقاً له ، وتكونُ المسألةُ مِنْ بابِ إعمال الثاني على مختار البصريين ، و " أَروني " هنا بَصَرِيَّةٌ تعدَّتْ للثاني بهمزةِ النقلِ ، والبصَريةُ قبل النقلِ تُعَلَّقُ بالاستفهامِ كقولِهم : " أما ترى أيُّ بَرْقٍ ههنا "؟ وقد تقدَّم الكلامُ على " أَرَأَيْتُمْ " هذه في الأنعامِ مشبعاً . وقال ابنُ عطية هنا : " إنَّ أرأيتُمْ يَتَنَزَّلُ عند سيبويهِ مَنْزِلةَ أَخْبروني؛ ولذلك لا يَحْتاج إلى مَفْعولين " . وهو غَلَطٌ بل يَحْتاجُ كما تقدَّم تقريرُه . وجَعَلَ الزمخشريُّ الجملةَ مِنْ قولِه : " أَرُوْني " بدلاً مِنْ قولِه " أَرَأَيْتُمْ " قال : " لأنَّ معنى أَرَأَيْتُمْ أَخْبروني " . وردَّه الشيخ : بأنَّ البدلَ مِمَّا دَخَلَتْ عليه أداةُ الاستفهامِ يَلْزَم إعادتُها في البدلِ ولم تُعَدْ هنا . وأيضاً فإبدالُ جملةٍ مِنْ جملةٍ لم يُعْهَدْ في لسانِهم .
قلت : والجوابُ عن الأولِ : أنَّ الاستفهامَ فيه غيرُ مرادٍ قطعاً فلم تَعُدْ أداتُه لعدمِ إرادتِه . وأمَّا قولُه : " لم يُوْجَد في لسانِهم " فقد وُجِدَ . ومنه :
3770 متى تَأْتِنا تُلْمِمْ بنا . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . [ وقولُه : ]
إنَّ عليَّ اللَّهَ أن تُبايِعا ... تُؤْخَذَ كَرْهاً . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . وقد نَصَّ النَّحْوِيون : على أنَّه متى كانت الجملةُ في معنى الأولِ ومُبَيِّنةً لها أُبْدِلَتْ منها .
قوله : { فَهُمْ على بَيِّنَةٍ } الضميرُ في " آتَيْناهم " و " فهم " الأحسنُ أَنْ يعودَ على الشركاء لتتناسَقَ الضمائرُ . وقيل : يعودُ على المشركين ، فيكونُ التفاتاً مِنْ خطابٍ إلى غَيْبة .
وقرأ أبو عمروٍ وحمزةُ وابن كثير وحفصٌ " بَيِّنَةٍ " بالإِفراد . والباقون " بَيِّناتٍ " بالجمع . و " إنْ " في " إنْ يَعِدُ " نافيةٌ .
(1/4258)
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
قوله : { أَن تَزُولاَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً من أجله . أي : كراهةَ أَنْ تَزُولا . وقيل : لئلا تَزُولا . ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً ثانياً على إسقاطِ الخافِضِ أي : يمنَعُهما مِنْ أَنْ تَزُوْلا . كذا قَدَّره أبو إسحاق . ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلَ اشتمالٍ أي : يمنعُ زوالَهما .
قوله : " إنْ أَمْسَكَهما " جوابُ القسمِ الموطَّأ له بلام القسمِ ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ يدلُّ عليه جوابُ القسمِ ، ولذلك كانَ فعل الشرط ماضياً . وقولُ الزمخشري : إنه يَسُدُّ مَسَدَّ الجوابَيْن ، يعني أنه دالٌّ على جوابِ الشرطِ . قال الشيخ : " وإنْ أُخِذ كلامُه على ظاهرِه لم يَصِحَّ؛ لأنه لو سَدَّ مَسَدَّهما لكان له موضعٌ من الإِعرابِ ، من حيث إنه سَدَّ مَسَدَّ جوابِ الشرط ، ولا موضعَ له من حيث إنه سَدَّ مَسَدَّ جوابِ القسم ، والشيءُ الواحدُ لا يكونُ معمولاً غيرَ معمولٍ " .
و " مِنْ أحدٍ " " مِنْ " مزيدةٌ لتأكيدِ الاستغراق . و " مِنْ بعدِه " : " مِنْ " لابتداءِ الغاية .
(1/4259)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42)
قوله : { لَّيَكُونُنَّ } : جوابٌ للقسمِ المقدَّرِ . والكلامُ فيه كما تقدَّم وقوله : " لَئِنْ جاءَهم " حكايةٌ لمعنى كلامِهم لا للفظِه ، إذ لو كان كذلك لكان التركيبُ : لَئِنْ جاءَنا لنَكونُنَّ .
قوله : { مِنْ إِحْدَى الأمم } أي : من الأمَّةِ التي يُقال فيها : هي إحدى الأمم ، تفضيلاً لها . كقولِهم : هو أحدُ الأَحَدَيْن . قال :
3772 حتى استثارُوا بيَ إحدى الإِحَدِ ... لَيْثاً هِزَبْراً ذا سلاحٍ مُعْتَدِيْ
قوله : " ما زادَهم " جوابُ " لَمَّا " . وفيه دليلٌ على أنها حرفٌ لا ظرفٌ؛ إذ لا يعملُ ما بعد " ما " النافيةِ فيما قبلها . وتقدَّمَتْ له نظائرُ . وإسنادُ الزيادةِ للنذير مجازٌ؛ لأنه سببٌ في ذلك ، كقولِه : { فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] .
(1/4260)
اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
قوله : { استكبارا } : يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له أي : لأجل الاستكبارِ ، وأَنْ يكونَ بدلاً مِنْ " نُفوراً " ، وأنْ يكونَ حالاً أي : حالَ كونِهم مُسْتكبرين . قاله الأخفش .
قوله : " ومَكْرَ السَّيِّئِ " فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه عطفٌ على " استكباراً " . والثاني : أنه عطفٌ على " نُفوراً " وهذا مِنْ إضافة الموصوفِ إلى صفتِه في الأصلِ؛ إذ الأصلُ : والمكرَ السَّيِّئ . والبصريون يُؤَوِّلونه على حَذْفِ موصوفٍ/ أي : العمل السِّيِّئ .
وقرأ العامَّةُ بخفضِ همزةِ " السَّيِّئ " ، وحمزة والأعمش بسكونِها وَصْلاً . وقد تَجَرَّأتِ النحاةُ وغيرُهم على هذه القراءةِ ونسبوها لِلَّحْنِ ، ونَزَّهوا الأعمشَ عَنْ أَنْ يكونَ قرأ بها . قالوا : وإنما وَقَفَ مُسَكِّناً ، فظُنَّ أنه واصَلَ فَغُلِط عليه . وقد احتجَّ لها قومٌ آخرون : بأنه إجراءٌ للوَصْلِ مُجْرَى الوقفِ ، أو أَجْرى المنفصلَ مُجْرى المتصلِ . وحَسَّنه كونُ الكسرةِ على حَرْفٍ ثقيل بعد ياءٍ مشددةٍ مكسورةٍ . وقد تقدَّم أنَّ أبا عمروٍ يَقْرأ " إلى بارِئْكم " بسكونِ الهمزةِ . فهذا أَوْلَى لزيادةِ الثقلِ ههنا . وقد تقدَّمَ هناك أمثلةٌ وشواهدُ فعليك باعتبارِها . ورُوِيَ عن ابنِ كثير " ومَكْرَ السَّأْيِ " بهمزةٍ ساكنةٍ بعد السينِ ثم ياءٍ مكسورةٍ . وخُرِّجَتْ على أنها مقلوبةٌ من السَّيْئِ ، والسَّيْئُ مخففٌ من السَّيِّئ كالميْت من الميِّت قال الحماسي :
3773 ولا يَجْزُوْنَ مِنْ حَسَنٍ بسَيْءٍ ... ولا يَجْزُون مِنْ غِلَظٍ بلِيْنِ
وقد كَثُر في قراءتِه القلبُ نحو " ضِئاء " و " تَاْيَسوا " و " لا يَاْيَسُ " كما تقدم تحقيقُه .
وقرأ عبد الله : " ومَكْراً سَيِّئاً " بالتنكيرِ ، وهو موافِقٌ لما قبلَه . وقُرِئ " ولا يُحيق " بضمِّ الياء ، " المكْرَ السَّيِّئَ " بالنصب على أنَّ الفاعلَ ضميرُ الله تعالى أي : لا يُحيط اللَّهُ المكرَ السيِّئَ إلاَّ بأهله .
قوله : " سُنَّةَ الأوَّلِيْن " مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه ، و " سنةِ الله " مضافٌ لفاعلِه؛ لأنَّه تعالى سَنَّها بهم ، فصَحَّتْ إضافتُها إلى الفاعلِ والمفعولِ .
(1/4261)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44)
قوله : { وكانوا أَشَدَّ } : جملةٌ في موضع نصبٍ على الحال . ونظيرتُها في الروم " كانوا " بلا واوٍ على أنها مستأنفةٌ فالمَقْصَدان مختلفان .
(1/4262)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
قوله : { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا } : تقدَّم نظيرُها في النحل إلاَّ أنَّ هناك لم يَجْرِ للأرض ذِكْرٌ ، بل عاد الضميرُ على ما فُهِم من السِّياق وهنا قد صَرَّح بها في قوله : { فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض } . وهنا " على ظهرها " استعارةً مِنْ ظَهْرِ الدابَّةِ دَلالةً على التمكُّنِ والتقلُّب عليها . والمَقامُ هنا يناسِبُ ذلك لأنَّه حَثٌّ على السَّيْرِ للنظر والاعتبار .
(1/4263)
يس (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
قرأ العامَّةُ " يَسِيْنْ " بسكونِ النونِ . وأظهر النونَ عند الواوِ بعدَها ابنُ كثير وأبو عمرٍو وحمزةُ وحفصٌ وقالونُ وورشٌ بخلافٍ عنه ، وكذلك النونُ مِنْ { ن والقلم } [ القلم : 1 ] وأدغمهما الباقون . فَمَنْ أَدْغَمَ فللخِفَّةِ ، ولأنَّه لَمَّا وَصَل والتقى متقاربان مِنْ كلمتين أوَّلُهما ساكنٌ وَجَبَ الإِدغامُ . ومَنْ أظهرَ فللمبالغةِ في تفكيكِ هذه الحروفِ بعضِها من بعض لأنه بنيَّةِ الوَقْفِ ، وهذا أَجْرى على القياسِ في الحروفِ المقَطَّعَةِ ولذلك التقى فيها الساكنان وَصْلاً ، ونَقَل إليها حركةَ همزةِ الوصلِ على رَأْيٍ نحو : { ألف لام ميم الله } كما تقدَّم تقريرُه .
وأمال الياءَ مِنْ " يس " الأخَوان وأبو بكر لأنها اسمٌ من الأسماءِ كما تقدَّم تقريرُه أولَ البقرةِ . قال الفارسيُّ : " وإذا أمالوا " يا " وهي حرفُ نداءٍ فلأَنْ يُميلوا " يا " مِنْ يس أجدرُ " .
وقرأ عيسى وابنُ أبي إسحاق بفتح النون : إمَّا على البناءِ على الفتح تخفيفاً كأَيْن وكيفَ ، وإمَّا على أنَّه مفعولٌ ب " اتْلُ " ، وإمَّا على أنَّه مجرورٌ بحرفِ القسمِ . وهو على الوجهَيْن غيرُ منصرفٍ للعلَميَّةِ والتأنيث . ويجوز أَنْ يكونَ منصوباً على إسقاطِ حرفِ القسمِ ، كقولِه :
3774 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فذاك أمانةَ اللَّهِ الثَّريدُ
وقرأ الكلبي بضم النون . فقيل : على أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هذه يس ، ومُنِعَتْ من الصرفِ لِما تقدَّم . وقيل : بل هي حركةُ بناءٍ ك حيث فيجوز أَنْ يكونَ خبراً كما تقدَّم ، وأَنْ يكونَ مُقْسَماً بها نحو : " عَهْدُ اللَّهِ لأفعلَنَّ " . وقيل : لأنها منادى فبُنِيَتْ على الضم؛ ولهذا فَسَّرها الكلبيُّ القارئُ لها ب " يا إنسانُ " قال : " وهي لغةُ طيِّئ " . قال الزمخشري : " إنْ صَحَّ معناه فوجهُه أن يكونَ أصلُه يا أُنَيْسِيْنُ فَكَثُر النداءُ به على ألسنتِهم ، حتى اقتصروا على شَطْرِه ، كما قالوا في القسم : مُ الله في " ايْمُنُ اللَّهِ " . قال الشيخ : " والذي نُقِل عن العرب في تصغير إنْسان : أُنَيْسِيان بياءٍ بعدها ألفٌ فدَلَّ على/ أنَّ أصلَه إنْسِيان؛ لأنَّ التصغيرَ يَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولها ، ولا نعلمُ أنَّهم قالوا في تصغيره : أُنَيْسِين . وعلى تقدير أنه يُصَغَّر كذلك فلا يجوزُ ذلك ، إلاَّ أَنْ يُبنى على الضمِّ؛ لأنه منادى مُقْبَلٌ عليه ومع ذلك فلا يجوزُ لأنه تحقيرٌ ، ويمتنعُ ذلك في حَقِّ النبوة " . قلت : أمَّا الاعتراضُ الأخيرُ فصحيحٌ نصُّوا على أنَّ التصغيرَ لا يَدْخُلُ في الأسماءِ المعظمةِ شَرْعاً . ولذلك يُحْكى أنَّ ابنَ قتيبةَ لمَّا قال في المُهَيْمن : إنَّه مصغرٌ مِنْ مُؤْمِن ، والأصل مُؤَيْمِن ، فأبْدِلَتِ الهمزةُ هاءً . قيل له : هذا يقرُبُ من الكفرِ فليتَّقِ اللَّهَ قائلُه . وقد تقدَّمَتْ هذه الحكايةُ في المائدةِ مطوَّلةً وما قيل فيها . وقد تقدَّم للزمخشريِّ في طه ما يَقْرُبُ من هذا البحثِ ، وتقدَّم للشيخِ معه كلامٌ .
واقرأ ابنُ أبي إسحاق أيضاً وأبو السَّمَّال " يَسنِ " بكسرِ النونِ ، وذلك على أصلِ التقاءِ الساكنين . ولا يجوزُ أَنْ تكونَ حركةَ إعرابٍ .
(1/4264)
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2)
قوله : { والقرآن } : إمَّا قسمٌ مستأنفٌ ، إنْ لم يُجْعَلْ ما تقدَّم قَسَماً ، وإمَّا عَطْفٌ على ما قبلَه إنْ كانَ مُقْسَماً به . وقد تقدَّم كلامٌ عن الخليل في ذلك أولَ آياتِ البقرةِ فعليكَ باعتبارِه هنا ، فإنَّه حَسَنٌ جداً . وتقدَّم الكلامُ على " الحكيم " .
(1/4265)
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3)
قوله : { إِنَّكَ } : جوابُ القسمِ و " على صِراط " يجوزُ أَنْ يكونَ متعلقاً بالمرسَلين . تقول : أَرْسَلْتُ عليه كذا . قال تعالى : { وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً } [ الفيل : 3 ] ، وأنْ يكونَ متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الضمير المستكنِّ في " لَمِنَ المُرْسَلين " لوقوعِه خبراً ، وأنْ يكونَ حالاً من المرسلين ، وأَنْ يكونَ خبراً ثانياً ل " إنَّك " .
(1/4266)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5)
قوله : { تَنزِيلَ } : قرأ نافعٌ وابنُ كثير وأبو عمرو وأبو بكر بالرفع على أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هو تنزيل . ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً لمبتدأ إذا جَعَلْتَ يس اسماً للسورة أي : هذه السورة المسمَّاة ب يس تنزيلُ ، أو هذه الأحرفُ المقطعةُ تنزيلُ . والجملةُ القسميةُ على هذا اعتراضٌ . والباقون بالنصبِ على المصدرِ ، أو على المدح . وهو في المعنى كالرفع على خبر ابتداءٍ مضمر . وتنزيل مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه . وقيل : هو بمعنى مُنْزَل . وقرأ أبو حيوة واليزيديُّ وأبو جعفر وشيبة " تنزيلِ " بالجرِّ على النعتِ للقرآنِ أو البدلِ منه .
(1/4267)
لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6)
قوله : { لِتُنذِرَ } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بِ تنزيل أو بمعنى المرسلين ، يعني بإضمارِ فِعْل يَدُلُّ عليه هذا اللفظُ أي : أَرْسَلْناك لتنذِرَ .
قوله : { مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ } يجوزُ أَنْ تكونَ " ما " هذه بمعنى الذي ، وأَنْ تكونَ نكرةً موصوفةً . والعائدُ على الوجهين مقدَّرٌ أي : ما أُنْذِرَه آباؤهم فتكونُ " ما " وصلتُها أو وَصْفُها في محلِّ نصب مفعولاً ثانياً لقولِه : " لتُنْذِرَ " كقولِه : { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً } [ النبأ : 40 ] والتقدير : لتنذرَ قوماً الذي أُنْذِرَه آباؤهم مِن العذابِ ، أو لتنذرَ قوماً عذاباً أُنْذِرَه آباؤهم . ويجوز أَنْ تكونَ مصدريةً أي : إنذارَ آبائهم أي : مثلَه . ويجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً ، وتكونُ الجملةُ المنفيةُ صفةً ل " قوماً " أي : قوماً غيرَ مُنْذَرٍ آباؤهم . ويجوزُ أَنْ تكونَ زائدةً أي : قوماً أُنْذِر آباؤهم ، والجملةُ المثبتةُ أيضاً صفةٌ ل " قوماً " قاله أبو البقاء وهو مُنافٍ للوجهِ الذي قبلَه .
(1/4268)
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8)
قوله : { فَهِىَ إِلَى الأذقان } : في هذا الضميرِ وجهان ، أحدهما : - وهو المشهورُ - أنه عائدٌ على الأَغْلال ، لأنها هي المُحَدَّثُ عنها ، ومعنى هذا الترتيبِ بالفاءِ : أن الغِلَّ لغِلَظِه وعَرْضِه يَصِلُ إلى الذَّقَنِ لأنه يَلْبَسُ العُنُقَ جميعَه . الثاني : أن الضميرَ يعودُ على الأَيدي؛ لأنَّ الغِلَّ لا يكونُ إلاَّ في العُنُقِ واليدين ، ولذلك سُمِّي جامِعَةً . ودَلَّ على الأيدي هذه الملازَمَةُ المفهومةُ من هذه الآلةِ أعني الغِلَّ . وإليه ذهب الطبري . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قال : " جعل الإِقْماحَ نتيجةَ قولِه : { فَهِىَ إِلَى الأذقان } ولو كان للأيدي لم يكن معنى التَّسَبُّبِ في الإِقماحِ ظاهراً . على أنَّ هذا الإِضمارَ فيه ضَرْبٌ من التعسُّفِ وتَرْكِ الظاهر " . /
وللناس في هذا الكلامِ قولان ، أحدهما : أنَّ جَعْلَ الأغلالِ حقيقةٌ . والثاني : أنه استعارةٌ . وعلى كلٍّ من القولين جماعةٌ من الصحابةِ والتابعين . وقال الزمخشري : " مَثَّل تصميمَهم على الكفر ، وأنه لا سبيلَ إلى ارْعوائِهم بأنْ جَعَلَهم كالمَغْلُوْلِين المُقْمَحِيْن في أنهم لا يَلْتَفِتون إلى الحق ولا يَعْطِفُون أعناقَهم نحوَه ، ولا يُطَأْطِئُون رؤوسَهم له وكالحاصلين بين سَدَّيْن لا يُبْصِرون ما قُدَّامَهم وما خَلْفَهم في أَنْ لا تأمُّلَ لهم ولا تَبَصُّرَ ، وأنهم مُتَعامُوْن عن آياتِ الله " . وقال غيره : " هذه استعارةٌ لمَنْعِ اللَّهِ إياهم مِن الإِيمانِ وحَوْلِه بينَهم وبينه " . قال ابن عطية : " وهذا أَرْجَحُ الأقوالِ؛ لأنه تعالى لَمَّا ذَكَرَ أنهم لا يُؤْمِنون لِما سَبَقَ لهم في الأَزَلِ عَقَّبَ ذلك بأنْ جَعَلَ لهم من المَنْعِ وإحاطةِ الشقاوةِ ما حالُهم معه حالُ المَغْلُوْلين " انتهى . وتقدَّم تفسيرُ الأذقان .
قوله : " فهم مُقْمَحُوْن " هذه الفاءُ لأحسنِ ترتيبٍ؛ لأنه لَمَّا وَصَلَتِ الأغلالُ إلى الأَذْقان لِعَرْضِها لَزِم عن ذلك ارتفاعُ روؤسِهم إلى فوقُ ، أو لَمَّا جُمِعَتْ الأيدي إلى الأَذْقان وصارت تحتَها لَزِم مِنْ ذلك رَفْعُها إلى فوقُ ، فترتفعُ رؤوسُهم . والإِقْماح : رَفْعُ الرأسِ إلى فوقُ كالإِقناع ، وهو مِنْ قَمَحَ البعيرُ رَأْسَه إذا رفَعها بعد الشُّرْبِ : إمَّا لبرودةِ الماءِ وإمَّا لكراهةِ طَعْمِه قُموحاً وقِماحاً بكسرِ القافِ وضمِّها . وأَقْمَحْتُه أنا إقماحاً والجمع قِماح وأنشد :
3775 ونحن على جوانبِها قُعودٌ ... نَغُضُّ الطَّرْفَ كالإِبِلِ القِماحِ
يصفُ نفسَه وجماعةً كانوا في سفينة فأصابهم المَيْدُ . قالَ الزجاج : " قيل للكانونَيْنِ شَهْرا قُمِاح؛ لأنَّ الإِبِلَ إذا وَرَدَتِ الماءَ رَفَعَتْ رؤوسَها لشدَّةِ البردِ " . وأنشد أبو زيد للهذلي :
3776 فَتَىً ما ابنُ الأَغَرِّ إذا شَتَوْنا ... وحُبَّ الزادُ في شَهْرَيْ قُماحِ
كذا رَواه بضمِّ القافِ ، وابن السكيت بكسرِها . وهما لغتان في المصدرِ كما تقدَّمَ . وقال الليث : القُموح : رَفْعُ البعيرِ رَأْسَه إذا شَرِبَ الماءَ الكريهَ ثم يعودُ . وقال أبو عبيدة : " إذا رَفَعَ رأسَه عن الحوض ، ولم يشرَبْ " والمشهورُ أنه رَفْعُ الرأسِ إلى السماء كما تقدَّمَ تحريرُه . وقال الحسن : " القامِحُ : الطامِحُ ببصرِه إلى مَوْضِعِ قَدَمِه " وهذا يَنْبُو عنه اللفظُ والمعنى . وزاد بعضُهم مَع رَفْعِ الرأس غَضَّ البصرِ مُسْتَدِلاًّ بالبيتِ المتقدم :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَغُضُّ الطَّرْفَ كالإِبِل القِماحِ
وزاد مجاهدٌ مع ذلك وَضْعَ اليدِ على الفم . وسأل الناسُ أميرَ المؤمنين علياً كرَّم اللَّهُ وجهه عن هذه الآيةِ فجعل يديه تحت لِحْيَيْه ورَفَعَ رأسَه ولعَمْري إنَّ هذه الكيفيةَ تُرَجِّح قولَ الطبريِّ في عَوْدِ " فهي " على الأيدي .
(1/4269)
وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)
قوله : { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً } : تقدَّم خلافُ القُرَّاء في فتح السين وضمِّها والفرقُ بينهما ، مستوفى في آخر الكهف .
قوله : " فأَغْشَيْناهم " العامَّةُ على الغين المعجمة أي : غَطَّيْنا أبصارَهم فهو على حَذْفِ مضافٍ . وابن عباس وعمر بن عبد العزيز والحسن وابن يعمر وأبو رجاء في آخرين بالعين المهملة ، وهو ضَعْفُ البصَرِ . يُقال : عَشِي بَصَرُه وأَعْشَيْتُه أنا ، وقوله تعالى هذا يحتمل الحقيقةَ والاستعارةَ كما تقدَّم .
(1/4270)
وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10)
قوله : { وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ } : تقدَّم تحريرُه أولَ البقرةِ .
(1/4271)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
قوله : { وَنَكْتُبُ } : العامَّةُ على بنائِه للفاعل ، فيكونُ " ما قَدَّموا " مفعولاً به ، و " آثارهم " عطفٌ عليه . وزر ومسروق مبنياً للمفعول ، و " آثارُهم " بالرفعِ ، عطف على " ما قَدَّموا " لقيامِه مَقامَ الفاعل .
قوله : { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ } العامَّةُ على نصبِه على الاشتغالِ . وأبو السَّمَّال قرأه مرفوعاً بالابتداءِ . والأرجحُ قراءةُ العامَّةِ لعطفِ جملةِ الاشتغالِ على جملةٍ فعلية . وقد تقدَّم الكلامُ على نحو { واضرب لَهُمْ مَّثَلاً } في البقرة ، والنحل .
(1/4272)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13)
و : { إِذْ جَآءَهَا } : بدلُ اشتمالٍ تقدَّم نظيرُه . و " إذْ أَرْسَلْنا " بدلٌ من " إذ " الأولى .
(1/4273)
إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
قوله : { فَعَزَّزْنَا } : قرأ/ أبو بكر بتخفيفِ الزاي بمعنى غَلَّبْنا ، ومنه قولُه : { وَعَزَّنِي فِي الخطاب } [ ص : 23 ] . ومنه قولُهم : " مَنْ عَزَّ بَزَّ " أي صار له بَزٌّ . والباقون بالتشديد بمعنى قَوَّيْنا . يقال : عزَّز المطرُ الأرضَ أي : قَوَّاها ولبَّدها . ويُقال لتلك الأرضِ : العَزازُ ، وكذا كلُّ أرضٍ صُلْبةٍ . وتَعَزَّزَ لحمُ الناقةِ أي : صَلُبَ وقَوِيَ . وعلى كلتا القراءتَيْن المفعولُ محذوفٌ أي : فَقَوَّيناهما بثالثٍ أو فَغَلَّبْناهما بثالث .
وقرأ عبد الله " بالثالث " بألف ولام .
قوله : { إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } جَرَّد خبرَ " إنَّ " هذه من لام التوكيد ، وأَدْخَلها في خبر الثانيةِ ، لأنَّهم في الأولى استعملوا مجرَّدَ الإِنكارِ فقابَلَتْهم الرسُلُ بتوكيدٍ واحدٍ وهو الإِتيانُ ب " إنَّ " ، وفي الثانيةِ بالمبالغة في الإِنكار فقابَلَتْهم بزيادة التوكيدِ فأتَوْا ب إنَّ وباللام .
قال أهل البيان : الأخبارُ ثلاثةُ أقسامٍ : ابتدائيٌّ وطلبيٌّ وإنكاريٌّ ، فالأولُ يُقال لمن لم يتردَّدْ في نسبةِ أحدِ الطرفين إلى الآخر نحو : زيد عارفٌ ، والثاني لِمَنْ هو متردِّدٌ في ذلك ، طالِبٌ له منكِرٌ له بعضَ إنكارٍ ، فيقال له : إنَّ زيداً عارِفٌ ، والثالثُ لِمَنْ يبالِغُ في إنكارِه ، فيُقال له : إنَّ زيداً لعارِفٌ . ومِنْ أحسن ما يُحْكى أن رجلاً جاء إلى أبي العباس الكِنْدِيِّ فقال : إني أجد في كلامِ العربِ حَشْواً قال : وما ذاك؟ قال : يقولون : زيدٌ قائمٌ ، وإنَّ زيداً قائمٌ ، وإنَّ زيداً لَقائمٌ . فقال : " كلا بل المعاني مختلفةٌ ، فزيد قائمٌ إخبارٌ بقيامِه ، وإنَّ زيداً قائمٌ جوابٌ لسؤالِ سائلٍ ، وإنَّ زيداً لَقائمٌ جوابٌ عن إنكارِ مُنْكِرٍ " . قلت : هذا هو الكنديٌّ الذي سُئل أن يعارِضَ القرآنَ ففتح المصحفَ فرأى سورةَ المائدةِ فكعَّ عن ذلك . والحكايةُ ذكرتُها أولَ المائدة .
وقال الشيخ : " وجاء أولاً " مُرْسَلون " بغير لام؛ لأنه ابتداءُ إخبارٍ فلا يَحْتاجُ إلى توكيدٍ ، وبعد المحاورة " لَمُرْسَلون " بلامِ التوكيد؛ لأنه جوابٌ عن إنكار " وهذا قصورٌ عن فَهْم ما قاله أهلُ البيان ، فإنه جَعَلَ المقام الثاني وهو الطلبيُّ مكانَ المقامِ الأولِ ، وهو الابتدائيُّ .
(1/4274)
قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
قوله : { طَائِرُكُم } : العامَّةُ على " طائر " اسمَ فاعل أي : ما طارَ لكم من الخيرِ والشرِّ فعبَّر عن الحَظِّ والنصيب . وقرأ الحسن - فيما رَوَى عنه الزمخشري - " اطَّيُّرُكم " مصدرُ اطَّيَّر الذي أصلُه تطَيَّر فلمَّا أُرِيْدَ إدغامُه أُبْدِلَتِ التاءُ طاءً ، وسُكِّنَتْ واجْتُلِبَتْ همزةُ الوصلِ فصار اطَّيَّرَ فيكون مصدره اطَّيُّرَاً . ولَمَّا ذكر الشيخ هذا لم يَرُدَّ عليه ، وكان هو في بعضِ ما رَدَّ به على ابن مالك في " شرح التسهيل " في باب المصادر قال : " إن مصدرَ تَطَيَّر وتدارَأ إذا أدغما وصارا اطَّيَّرَ وادَّارأ لا يجيءُ مصدرُهما عليهما بل على أصلهما فيقال : اطَّيَّر تَطَيُّراً ، وادَّارأ تدارُؤاً ، ولكنَّ هذه القراءةَ تَرُدُّه إنْ صَحَّتْ وهو بعيدٌ . وقد رَوَى غيرُه عنه " طَيْرُكم " بياء ساكنة ويَغْلِبُ على الظنِّ أنَّها هذه ، وإنما تَصَحَّفَتْ على الرائي فحَسِبها مصدراً ، وظنَّ أنَّ ألف " قالوا " همزةُ وَصْلٍ .
قوله : " أإنْ ذُكِّرْتُمْ " قرأ السبعةُ بهمزةِ استفهام بعدها " إنْ " الشرطيةُ ، وهم على ما عَرَفْتَ مِنْ أصولِهم : من التسهيلِ والتحقيق وإدخالِ ألفٍ بين الهمزتين وعدمِه في سورةِ البقرة . واختلف سيبويهِ ويونسُ إذ اجتمع استفهامٌ وشرطٌ أيُّهما يُجابُ؟ فذهبَ سيبويهِ إلى إجابةِ الاستفهام ، ويونسُ إلى إجابة الشرطِ ، فالتقديرُ عند سيبويهِ : " أإن ذُكِّرْتُمْ تتطيَّرون " وعند يونسَ " تطيَّرُوا " مجزوماً ، فالجوابُ للشرطِ على القولين محذوفٌ . وقد تقدَّم هذا في سورة الأنبياء .
وقرأ أبو جعفر وطلحة وزرٌّ بهمزتين مفتوحتين إلاَّ أن زرَّاً لم يُسَهِّلَ الثانيةَ كقوله :
3777 أإنْ كُنْتَ داودَ بنَ أحوى مُرَجَّلاً ... فلستَ براعٍ لابنِ عمِّك مَحْرَما
ورُوي عن أبي عمروٍ وزرٍّ أيضاً كذلك ، إلاَّ أنهما فَصَلا بألفٍ بين الهمزتين . وقرأ الماجشون بهمزةٍ واحدةٍ مفتوحة . وتخريجُ هذه القراءاتِ الثلاثِ على حَذْفِ لامِ العلةِ أي : ألَئِنْ ذُكِّرْتم تطيَّرْتُمْ ، ف تَطَيَّرْتُمْ هو المعلولُ ، وأنْ ذُكِّرتم علتُه ، والاستفهامُ منسَحِبٌ عليهما في قراءةِ الاستفهامِ وفي غيرِها يكونُ إخباراً بذلك .
وقرأ الحسن بهمزةٍ واحدةٍ مكسورة وهي شرطٌ من غير استفهامٍ ، وجوابُه محذوفٌ أيضاً .
وقرأ الأعمشُ والهمدانيُّ " أَيْنَ " بصيغةِ الظرفِ . وهي " أين " / الشرطيةُ ، وجوابُها محذوفٌ عند جمهور البصريين أي : أين ذُكرتم فطائرُكم معكم ، أو صَحِبَكم طائرُكم ، لدلالةِ ما تقدَّم مِنْ قولِه " طائرُكُمْ معكم " ومَنْ يُجَوِّزُ تقديمَ الجوابِ لا يَحْتاج إلى حَذْفٍ .
وقرأ الحسن وأبو جعفر وأبو رجاء والأصمعيُّ عن نافع " ذُكِرْتُمْ " بتخفيفِ الكاف .
(1/4275)
اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)
قوله : { مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } : بدلٌ من " المرسلين " بإعادة العامل ، إلاَّ أنَّ الشيخَ قال : " النحاةُ لا يقولون ذلك إلاَّ إذا كان العاملُ حرف جر ، وإلاَّ فلا يُسَمُّونه بدلاً بل تابعاً " وكأنه يريد التوكيدَ اللفظيَّ بالنسبة إلى العامل .
(1/4276)
وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22)
قوله : { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ } : أصلُ الكلامِ : " ومالكم لا تعبدون " ولكنه صَرَفَ الكلامَ عنهم ، ليكون الكلامُ أسرعَ قبولاً ولذلك جاء قولُه " وإليه تُرْجَعون " دون " وإليه أرجعُ " .
(1/4277)
أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23)
قوله : { أَأَتَّخِذُ } : مبنيٌّ على كلامِه الأول ، وهذه الطريقةُ أحسنُ من ادِّعاءِ الالتفاتِ .
قوله : " مِنْ دونِه " يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب " أتخذُ " على أنها متعديةٌ لواحدٍ وهو " آلهةً " ، ويجوزُ أَنْ يكونَ متعلقاً بمحذوف على أنه حالٌ مِنْ " آلهةً " ، وأنْ يكونَ مفعولاً ثانياً قُدِّمَ على أنها المتعديةُ لاثنين .
قوله : " إنْ يُرِدْنِيْ " شَرْطٌ ، جوابُه { لاَّ تُغْنِ عَنِّي } ، والجملةُ الشرطيةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ل آلهةً . وفتح طلحة السلماني - وقيل : طلحةُ ابنُ مصرِّفٍ - ياءَ المتكلم . قال الزمخشري : " وقُرِئ " { إِن يُرِدْنِي الرحمن بِضُرٍّ } بمعنى : إنْ يُوْردني ضَرَّاء ، أي يجعله مَوْرِداً للضُرِّ " . قال الشيخُ : " وهذا - واللَّهُ أعلم - رأى في كتب القراءات بفتح الياءِ فتوهمَّ أنها ياءُ المضارعة فجعل الفعلَ متعدِّياً بالياء المعدِّية كالهمزةِ ، فلذلك أَدْخَلَ همزةَ التعديةِ فنصَبَ به اثنين ، والذي في كتبِ القراءات الشواذ أنها ياءُ الإِضافةِ المحذوفةُ خَطَّاً ونطقاً لالتقاء الساكنين " . قلت : وهذا رجلٌ ثقةٌ قد نَقَل هذه القراءةَ فتُقْبل منه .
(1/4278)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)
قوله : { فاسمعون } : العامَّةُ على كسر النون ، وهي نونُ الوقايةِ حُذِفَتْ بعدها ياءُ الإِضافةِ مُجْتَزَأً عنها بكسرةِ النونِ ، وهي اللغةُ العاليةُ .
وقرأ عصمة عن عاصمٍ بفتحِها ، وليسَتْ هذه إلاَّ غَلَطاً على عاصم ، إذ لا وجهَ . وقد وقع لابنِ عطيةَ وهمٌ فاحشٌ في ذلك فقال : " وقرأ الجمهورُ " فاسمعونَ " بفتح النون ، قال أبو حاتم : هذا خطأٌ ، فلا يجوزُ لأنه أمْرٌ : فإمَّا حَذْفُ النون ، وإمَّا كَسْرُها على جهةِ الياءِ " يعني ياءَ المتكلم ، وقد يكونُ قولُه " الجمهور " سَبْقَ قَلَمٍ منه أو من النُّسَّاخِ وكأنَّ الأصلَ : " وقرأ غيرُ الجمهور " فسقط لفظةُ " غير " . وقال ابن عطية : " حُذِفَ من الكلام ما تواتَرَتِ الأخبارُ والرواياتُ به وهو أنهم قَتَلوه فقيل له عند مَوْتِه : ادْخُلِ الجنةَ " .
(1/4279)
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27)
قوله : { بِمَا غَفَرَ لِي } : يجوز في " ما " هذه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : المصدريةُ أي : يعلمون بغُفْرانِ ربي . والثاني : أنها بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : بالذي غَفَرَه لي ربي . واسْتُضعِفَ هذا : من حيثُ إنه يَبْقى معناه أنه تمنى أَنْ يعلمَ قومُه بذنوبِه المغفورةِ . وليس المعنى على ذلك ، إنما المعنى على تَمَنِّي عِلْمِهم بغفرانِ رَبِّه ذنوبَه . والثالث : أنها استفهاميةٌ ، وإليه ذهب الفراء . ورَدَّه الكسائيُّ : بأنه كان ينبغي حَذْفُ ألفِها لكونِها مجرورةً وهو رَدٌّ صحيحٌ . وقال الزمخشري : " الأجودُ طَرْحُ الألفِ " والمشهورُ مِنْ مذهبِ البصريين وجوبُ حَذْفِ ألفِها كقوله :
3778 عَلامَ تقولُ الرُّمْحَ يُثْقِلُ عاتقي ... إذا أنا لم أَطْعَنْ إذا الخيلُ كَرَّتِ
إلاَّ في ضرورةٍ ، كقولِ الآخر :
3779 على ما قام يَشْتِمُني لَئيمٌ ... كخِنْزيرٍ تَمَرَّغَ في رَمادِ
وقُرِئ " من المُكَرَّمين " بتشديدِ الراء .
(1/4280)
وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28)
قوله : { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } : في " ما " هذه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها نافيةٌ كالتي قبلَها فتكون الجملةُ الثانيةُ جاريةً مَجْرى التأكيد للأولى . والثاني : أنها مزيدةٌ . قال أبو البقاء : " أي : وقد كنَّا مُنْزِلين " . وهذا لا يجوزُ البتةَ لفسادِه لفظاً ومعنًى . الثالث : أنها اسمٌ معطوفٌ على " جند " . قال ابن عطية : " أي : مِنْ جندٍ ومن الذي كنَّا مُنْزِلين " . ورَدَّه الشيخُ : بأنَّ " مِنْ " مزيدةٌ . وهذا التقديرُ يُؤدِّي إلى زيادتِها في الموجَبِ جارَّةً لمعرفةً ، ومذهبُ البصريين - غيرَ الأخفشِ - أن يكونَ الكلامُ غيرَ موجَبٍ ، وأَنْ يكونَ المجرورُ نكرةً . قلت : فالذي يَنْبغي عند مَنْ يقولُ بذلك أَنْ يُقَدِّرَها/ بنكرةٍ أي : ومِنْ عذابٍ كنا مُنْزِليه . والجملةُ بعدها صفةٌ لها . وأمَّا قولُه : إنَّ هذا التقديرَ يؤدِّي إلى زيادتها في الموجَبِ فليس بصحيحٍ البتةَ . وتَعَجَّبْتُ كيف يُلْزِمُ ذلك؟
(1/4281)
إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
قوله : { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً } : العامَّةُ على النصبِ على أنَّ " كان " ناقصةٌ . واسمُها ضميرُ الأَخْذَةِ ، لدلالةِ السياقِ عليها . و " صيحةً " خبرُها . وقرأ أبو جعفر وشيبةُ ومعاذٌ القارئُ برفعِها ، على أنها التامةُ أي : وقع وحَدَثَ وكان ينبغي أَنْ لا تلْحق تاءُ التأنيث للفصلِ ب " إلاَّ " بل الواجبُ في غير نُدورٍ واضطرارٍ حَذْفُ التاءِ نحو : " ما قام إلاَّ هند " وقد شَذَّ الحسنُ وجماعةٌ فقرؤوا { لاَ ترى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } كما سأبيِّنه في موضعه إن شاء الله وقال الشاعر :
3780 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وما بَقِيَتْ إلاَّ الضُّلوعُ الجراشِعُ
وقال آخرِ :
4781 ما بَرِئَتْ مِنْ رِيْبَةٍ وذَمِّ ... في حَرْبِنا إلاَّ بناتُ العَمِّ
(1/4282)
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30)
قوله : { ياحسرة } : العامَّةُ على نصبِها . وفيه وجهان ، أحدهما : أنها منصوبةٌ على المصدرِ ، والمنادى محذوفٌ تقديره : يا هؤلاء تَحَسَّروا حسرةً . والثاني : أنها منونةٌ لأنها منادى منكورٌ فنُصِبت على أصلها كقوله :
3782 أيا راكباً إمَّا عَرَضْتَ فبَلِّغَنْ ... نداماي مِنْ نَجْرانَ أنْ لا تَلاقِيا
ومعنى النداءِ هنا على المجازِ ، كأنه قيل : هذا أوانُكِ فاحْضُرِي . وقرأ قتادةُ وأُبَيٌّ في أحدِ وجهَيْه " يا حَسْرَةٌ " بالضم ، جعلها مُقْبِلاً عليها ، وأُبَيٌّ أيضاً وابن عباس وعلي بن الحسين { ياحسرة العباد } بالإِضافة . فيجوزُ أَنْ تكونَ الحَسْرةُ مصدراً مضافاً لفاعلِه أي : يتحسَّرون على غيرهم لِما يَرَوْنَ مِنْ عذابهم ، وأَنْ يكونَ مضافاً لمفعوله أي : يَتَحَسَّر عليهم غيرُهم . وقرأ أبو الزِّناد وابن هرمز . وابن جندب " يا حَسْرَهْ " بالهاءِ المبدلةِ مِنْ تاءِ التأنيث وَصْلاً ، وكأنَّهم أَجْرَوْا الوصلَ مُجْرى الوقفِ وله نظائرُ مَرَّتْ . وقال صاحب " اللوامح " : " وقفوا بالهاء مبالغةً في التحسُّر ، لِما في الهاءِ من التَّأَهُّه بمعنى التأوُّه ، ثم وصلوا على تلك الحال " . وقرأ ابن عباس أيضاً " يا حَسْرَةَ " بفتح التاء من غير تنوين . ووجْهُها أنَّ الأصل : يا حَسْرتا فاجْتُزِئ بالفتحة عن الألف كما اجتُزِئ بالكسرةِ عن الياء . ومنه :
3783 ولَسْتُ براجعٍ ما فاتَ مِنِّي ... بَلَهْفَ ولا بلَيْتَ ولا لو اني
أي : بلهفا بمعنى لَهْفي .
وقُرئ " يا حَسْرتا " بالألف كالتي في الزمر ، وهي شاهدةٌ لقراءةِ ابنِ عباس ، وتكون التاءُ لله تعالى ، وذلك على سبيل المجاز دلالةً على فَرْطِ هذه الحَسْرةِ . وإلاَّ فاللَّهُ تعالى لا يُوْصَفُ بذلك .
قوله : " ما يَأْتِيْهم " هذه الجملةُ لا مَحَلَّ لها؛ لأنَّها مُفَسِّرةٌ لسبب الحسرةِ عليهم .
قوله : " إلاَّ كانوا " جملةٌ حاليةٌ مِنْ مفعولٍ " يَأْتيهم " .
(1/4283)
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31)
قوله : { كَمْ أَهْلَكْنَا } : " كم " هنا خبرِيةٌ فهي مفعولٌ ب " أَهْلكنا " تقديرُه : كثيراً من القرونِ أهلَكْنا . وهي معلِّقَةٌ ل " يَرَوْا " ذهاباً بالخبريَّة مذهبَ الاستفهاميةِ . وقيل : بل " يَرَوْا " عِلْمية ، و " كم " استفهاميةٌ كما سيأتي بيانُه .
و { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه بدلٌ مِنْ " كم " قال ابن عطية : " وكم هنا خبريةٌ ، و " أنهم " بدلٌ منها ، والرؤيةُ بَصَرية " . قال الشيخ : " وهذا لا يَصِحُّ؛ لأنها إذا كانَتْ خبريةً كانَتْ في موضعِ نصبٍ ب " أهلَكْنا " . ولا يَسُوغُ فيها إلاَّ ذلك . وإذا كانت كذلك امتنع أن يكون " أنَّهم " بدلاً منها؛ لأنَّ البدلَ على نيةِ تكرار العاملِ . ولو سُلِّطت أَهْلكنا على " أنهم " لم يَصِحّ؛ ألا ترى أنك لو قلتَ : أهلَكْنا انتفاءَ رجوعِهم ، أو أَهلكنا كونَهم لا يَرجعون ، لم يكن كلاماً . لكنَّ ابنَ عطية تَوَهَّمَ أنَّ " يَرَوْا " مفعولُه " كم " فتوَهَّم أنَّ قوله : { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } بدلٌ منه؛ لأنه يُسَوِّغُ أَنْ يُسَلَّط عليه فتقول : ألم يَرَوْا أنهم إليهم لا يَرْجعون . وهذا وأمثالُه دليلٌ على ضَعْفِه في عِلْم العربية " . قلت : وهذا الإِنحاءُ تحاملٌ عليه؛ لأنه لقائلٍ أَنْ يقول : " كم " قد جعلها خبريةً ، والخبريةُ يجوز أَنْ تكونَ معمولةً ل ما قبلها عند قومٍ ، فيقولون : " ملكتُ كم عبدٍ " فلم يَلْزَمْ الصدرَ ، فيجوزُ أَنْ يكونَ بنى هذا التوجيهَ على هذه اللغةِ وجعل " كم " منصوبةً ب " يَرَوْا " و " أنهم " بدلٌ منها ، نَ التي أهلكناها وليس هو ضعيفاً في العربية حينئذٍ .
الثاني : أنَّ " أنَّهم " بدلٌ من الجملةِ قبلَه . قال الزجاج : " هو بدلٌ من الجملة ، والمعنى : ألم يَرَوْا أن القروأنهم لا يَرْجِعون؛ لأنَّ عَدَمَ الرجوعِ والهلاكَ بمعنى " . قال الشيخ : " وليس بشيءٍ؛ لأنه ليس بدلاً صناعياً ، وإنما فَسَّر المعنى ولم يَلْحَظ صناعةَ النحو " . قلت : بل هو بدلٌ صناعي؛ لأنَّ الجملةَ في قوة المفرد؛ إذ هي سادَّةٌ مَسَدَّ مفعولِ " يَرَوْا " فإنها معلِّقَةٌ لها كما تقدَّم .
الثالث : قال الزمخشري : " ألم يَرَوْا " ألم يعلموا ، وهو مُعَلَّق/ عن العمل في " كم " لأنَّ " كم " لا يعملُ فيها عاملٌ قبلها - كانَتْ للاستفهام أو للخبرِ - لأنَّ أصلَها الاستفهامُ ، إلاَّ أنَّ معناها نافِذٌ في الجملةِ كما نفذ في قولك : " ألم يَرَوْا إنَّ زيداً لمنطلقٌ " وإنْ لم يعملْ في لفظِه ، وأنهم إليهم لا يَرْجِعون : بدلٌ مِنْ " كم أهلَكْنا " على المعنى لا على اللفظِ تقديرُه : ألم يَرَوْا كثرةَ إهلاكِنا القرونَ مِنْ قَبْلهم كونَهم غيرَ راجعين إليهم " .
(1/4284)
قال الشيخ : " قولُه لأنَّ " كم " لا يعملُ فيها ما قبلَها كانت للاستفهام أو للخبرِ " ليس على إطلاقِه؛ لأنَّ العاملَ إذا كان حرفَ جر أو اسماً مضافاً جاز أَنْ يعملَ فيها نحو : " على كم جِذْعٍ بيتُك؟ وابنُ كم رئيسٍ صحبتَ؟ وعلى كم فقير تصدَّقتُ أرجو الثواب؟ وابنُ كم شهيد في سبيل الله أحسنت إليه؟ " . وقوله : " أو للخبر " والخبرية فيها لغتان : الفصيحةُ كما ذكر لا يتقدَّمُها عاملٌ إلاّ ما ذَكَرْنا من الجارِّ ، واللغةُ الأخرى حكاها الأخفش يقولون : " ملكتُ كم غلامٍ " أي : ملكتُ كثيراً من الغِلْمان . فكما يجوزُ تقدُّم العاملِ على كثيراً كذلك يجوزُ على " كم " لأنها بمعناها . وقوله : " لأنها أصلها الاستفهامُ ، والخبريةُ ليس أصلُها الاستفهامَ " بل كلُّ واحدةٍ أصلٌ بنفسِها ، ولكنهما لفظان مشتركان بين الاستفهام والخبر . وقوله : " لأنَّ معناها نافدٌ في الجملة " يعني معنى " يَرَوا " نافذٌ في الجملة؛ لأنَّه جعلَها مُعَلَّقة وشرحَ " يَرَوْا " ب يعلموا .
وقوله : " كما نفذ في قولك : ألم يَرَوْا إنَّ زيداً لمنطلقٌ " يعني أنه لو كان معمولاً من حيث اللفظُ لامتنع دخولُ اللامِ ولَفُتِحَتْ " إنَّ " فإنَّ " إنَّ " التي في خبرها اللامُ من الأدوات المعلِّقة لأفعال القلوبِ . وقوله : " إنهم إليهم " إلى آخره كلامُه لا يَصِحُّ أن يكون بدلاً لا على اللفظِ ولا على المعنى . أمَّا على اللفظِ فإنه زعم أنَّ " يَرَوْا " معلَّقَةٌ فتكون " كم " استفهاميةً فهي معمولةٌ ل " أهلكنا " ، و " أهلكنا " لا يَتَسَلَّط على { أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } . وقد تقدَّم لنا ذلك . وأمَّا على المعنى فلا يَصِحُّ أيضاً لأنه قال : تقديره : أي على المعنى ألم يَرَوْا كثرةَ إهلاكنا القرونَ مِنْ قَبْلهم كونَهم غيرَ راجعين إليهم ، فكونُهم غيرَ راجعين ليس كثرةَ الإِهلاكِ ، فلا يكون بدلَ بعضٍ من كل ، ولا يكون بدل اشتمالٍ؛ لأنَّ بدلَ الاشتمال يَصِحُّ أن يضافَ إلى ما أُبْدِل منه ، وكذلك بدلُ بعضٍ من كل . وهذا لا يَصِحُّ هنا . لا تقول : ألم يَرَوْا انتفاءَ رجوعِ كثرةِ إهلاكِنا القرونَ مِنْ قبلهم ، وفي بدلِ الاشتمال نحو : " أعْجَبَتْني الجاريةُ مَلاحتُها ، وسُرِقَ زيدٌ ثوبُه " يصحُّ : " أعجبتني ملاحَةُ الجاريةِ ، وسُرِق ثوبُ زيد " .
الرابع : أَنْ يكونَ " أنهم " بدلاً مِنْ موضع " كم أهلَكْنا " ، والتقدير : ألم يَرَوْا أنهم إليهم . قاله أبو البقاء . ورَدَّه الشيخ : بأنَّ " كم أهلَكْنا " ، ليس بمعمولٍ ل " يَرَوْا " .
(1/4285)
قلت : قد تقدَّم أنها معمولةٌ لها على معنى أنها مُعَلِّقَةٌ لها .
الخامس : - وهو قولُ الفراء - أن يكون " يَرَوْا " عاملاً في الجملتين من غير إبدالٍ ، ولم يُبَيِّنْ كيفيةَ العملِ . وقوله " الجملتين " تجوُّزٌ؛ لأنَّ " أنهم " ليس بجملةٍ لتأويلِه بالمفرد إلاَّ أنه مشتملٌ على مُسْندٍ ومسند إليه .
السادس : أنَّ " أنهم " معمولٌ لفعل محذوفٍ دَلَّ عليه السياقُ والمعنى ، تقديره : قَضَيْنا وحَكَمْنا أنهم لا يَرْجعون . ويَدُلُّ على صحةِ هذا قراءةُ ابنِ عباس والحسن " إنهم " بكسر الهمزةِ على الاستئناف ، والاستئنافُ قَطْعٌ لهذه الجملةِ مِمَّا قبلها فهو مُقَوٍّ لأَنْ تكونَ معمولةً لفعلٍ محذوفٍ يقتضي انقطاعَها عَمَّا قبلَها . والضميرُ في " أنهم " عائدٌ على معنى " كم " وفي " إليهم " عائدٌ على ما عاد عليه واو " يَرَوْا " . وقيل : بل الأولُ عائدٌ على ما عاد عليه واو " يَرَوْا " . والثاني عائدٌ على المُهْلَكين .
(1/4286)
وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
قوله : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ } : قد تقدم في هود تشديدُ " لَمَّا " وتخفيفُها وما قيل في ذلك . وقال الفخر الرازي في مناسبة وقوعِ " لَمَّا " المشدَّدةِ موقعَ إلاَّ : " إنَّ " لَمَّا " كأنها حرفا نفي ، وهما لم وما ، فتأكَّد النفيُ ، و " إلاَّ " كأنَّها حرفا نفي : إنْ ولا فاستعمل أحدُهما مكانَ الآخر " . انتهى . وهذا يجوزُ أَنْ يكونَ أَخَذه من قول الفراءِ في " إلاَّ " في الاستثناء : إنها مركبةٌ من إنْ ولا . إلاَّ أنَّ الفراءَ جَعَلَ " إنْ " مخففةً من الثقيلة ، وجعلها نافيةٌ ، وهو قولٌ ركيكٌ رَدَّه عليه النحويون . وقال الفراء أيضاً : إن " لَمَّا " هذه أصلُها : لَمِمَّا فخُفِّفَ بالحذفِ . وهذا كلُّه قد تقدَّم موضَّحاً . وقوله : " كلٌّ " مبتدأ و " جميعٌ " خبرُه . و " مُحْضَرون " خبرٌ ثانٍ لا يختلف ذلك سواءً شَدَّدْتَ " لَمَّا " أم خفَّفْتها . لا يُقال : إنَّ جميعاً تأكيد لا خبرٌ ، لأنَّ جميعاً هنا فَعيل بمعنى/ مَفعول أي : مجموعون ف " كل " تدلُّ على الإِحاطةِ والشمول ، و " جميع " تَدُلُّ على الاجتماع فمعناها حُمِل على لفظها في قوله : { جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } [ القمر : 44 ] وقَدَّمَ " جميع " في الموضعين لأجلِ الفواصلِ ، و " لَدَيْنا " متعلِّقٌ ب " مُحْضَرون " فَمَنْ شَدَّدَ ف " لَمَّا " بمعنَى " إلاَّ " وَ " إنْ " نافيةٌ كما تقدَّمَ ، ومَنْ خَفَّفَ فإنْ مخففةٌ ، واللامُ فارقةٌ و " ما " مزيدةٌ . هذا قولُ البصريين ، والكوفيون يقولون : " إنْ " نافيةٌ ، واللامُ بعنى " إلاَّ " كما تقدَّم غيرَ مرةٍ .
(1/4287)
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33)
قوله : { وَآيَةٌ } : خبرٌ مقدمٌ و " لهم " صفتُها أو متعلِّقَةٌ ب " آية " لأنها بمعنى علامة . و " الأرضُ " مبتدأ . وتقدَّم تخفيف الميتة وتشديدُها في أول آل عمران . ومنع الشيخُ أَنْ تكونَ " لهم " صفةً ل " آية " ولم يُبَيِّن وجهَه ولا وَجَّهَ له . وأعرب أبو البقاء " آية " مبتدأً و " لهم " الخبرُ و " الأرضُ الميتةُ " مبتدأٌ وصفتُه ، و " أَحْييناها " خبرُه . والجملةُ مفسِّرَةٌ ل " آية " وبهذا بدأ ثم قال : وقيل : فذكر الوجهَ الذي بدأْتُ به . وكذلك حكى مكي أعني أَنْ يكونَ " آية " ابتداءً ، و " لهم " الخبر . وجَوَّز مكي أيضاً أن تكونَ " آية " مبتدأً و " الأرضُ " خبرُه . وهذا ينبغي أَنْ لا يجوزَ؛ لأنه لا تُعْزَلُ المعرفةُ من الابتداءِ بها ، ويُبْتَدأ بالنكرة إلاَّ في مواضعَ للضرورةِ .
قوله : " أَحْيَيْناها " قد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ " الأرض " ، ويجوزُ أيضاً أَنْ يكونَ حالاً من " الأرض " إذا جَعَلْناها مبتدأً ، و " آية " خبرٌ مقدمٌ . وجَوَّزَ الزمخشريُّ في " أَحْيَيْناها " وفي " نَسْلَخُ " أَنْ يكونا صفتين للأرض والليل ، وإن كانا مُعَرَّفين بأل لأنه تعريفٌ بأل الجنسيةِ ، فهما في قوةِ النكرة قال : كقوله :
3784 ولقد أَمُرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لأنه لم يَقْصِدْ لئيماً بعينه .
وردَّه الشيخُ : بأنَّ فيه هَدْماً للقواعد : مِنْ أنه لا تُنْعَتُ المعرفةُ بنكرةٍ . قال : وقد تبعه على ذلك ابنُ مالك . ثم خَرَّج الشيخُ الجملَ على الحال أي : الأرضُ مُحْياةً والليلُ مُنْسَلِخاً منه النهارُ ، واللئيمُ شاتماً لي . قلت : وقد اعتبر النحاةُ ذلك في مواضع ، فاعتبروا معنى المعرَّفِ بأل الجنسيةِ دونَ لفظِه فوصفوه بالنكرة الصريحةِ نحو : " بالرجلِ خيرٍ منك " على أحد الأوجه ، وقوله : { إِلاَّ الذين } [ العصر : 3 ] بعد { إِنَّ الإنسان } [ العصر : 2 ] وقوله : { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ } [ النور : 31 ] و " أهلك الناسَ الدينارُ الحمرُ والدرهمُ البيض " . كلُ هذا رُوعي فيه المعنى دونَ اللفظ ، وإن اختلف نوعُ المراعاةِ . ويجوز أن يكون " أحييناها " استئنافاً بَيَّن به كونَها آية .
(1/4288)
وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34)
قوله : { وَفَجَّرْنَا } : العامَّةُ على التشديد تكثيراً لأنَّ [ فَجَّر ] مخففةً متعدٍّ . وقرأ جناح بن حبيش بالتخفيف . والمفعولُ محذوفٌ على كلتا القراءتين أي : ينبوعاً كما في آية سبحان .
(1/4289)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35)
قوله : { مِن ثَمَرِهِ } : قيل : الضميرُ عائدٌ على النخيل؛ لأنه أقربُ مذكورٍ ، وكان مِنْ حَقِّ الضميرِ أَنْ يُثَنَّى على هذا لتقدُّم شيئين : وهما الأعنابُ والنخيلُ ، إلاَّ أنه اكتفى بذِكْرِ أحدِهما . وقيل : يعود على جنات ، وعاد بلفظ المفرد ذَهاباً بالضميرِ مَذْهَبَ اسم الإِشارةَ وهو كقولُ رُؤْبة :
3785 فيها خُطوطٌ من سَوادٍ وبَلَقْ ... كأنَّه في الجلدِ تَوْليعُ البَهَقْ
فقيل له . فقال : أَرَدْتُ : كأنَّ ذاك وَيْلَكَ . وقيل : عائد على الماءِ المدلول عليه ب عيون . وقيل : بل عاد عليه لأنه مقدَّرٌ أي : من العيون . ويجوزُ أَنْ يعودَ على العيون . ويُعتذر عن إفراده بما تَقَدَّم في عَوْده على جنات . ويجوزُ أَنْ يعودَ على الأعناب والنخيل معاً ، ويُعتذر عنه بما تقدَّم أيضاً . وقال الزمخشري : " وأصلُه : مِنْ ثمرنا ، لقوله : " وفَجَّرْنا " و " جَعَلْنا " فنقل الكلامَ من التكلُّم إلى الغَيْبة على طريقة الالتفات ، والمعنى : ليأكلوا مِمَّا خلقَه الَّلهُ مِن الثمر " . قلت : فعلى هذا يكون الضميرُ عائداً على الله تعالى ، ولذلك فَسَّر معناه بما ذكر . وقد تقدَّم قراءاتٌ في هذه اللفظةِ في سورةِ الأنعام وما قيل فيها بحمد الله تعالى .
قوله : { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } في " ما " هذه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها موصولةٌ أي : ومن الذي عَمِلَتْه أيديهم من الغرس والمعالجة . وفيه تَجَوُّزٌ على هذا . والثاني : أنها نافيةٌ أي : لم يعملوه هم ، بل الفاعلُ له هو اللَّهُ تعالى .
وقرأ الأخَوان وأبو بكر بحذف الهاء والباقون " وما عَمِلَتْه " بإثباتِها . فإنْ كانَتْ " ما " موصولةً فعلى قراءة الأخوين وأبي بكر حُذِف العائدُ كما حُذِف في قولِه : { أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] بالإِجماع . وعلى قراءةِ غيرِهم جيْءَ به على الأصل . وإن كانَتْ نافيةً فعلى قراءةِ الأخوين وأبي بكر لا ضميرَ مقدرٌ ، ولكن المفعولَ محذوفٌ أي : ما عَمِلَتْ أيديهم شيئاً مِنْ ذلك ، وعلى قراءةِ غيرِهم الضميرُ يعودُ على " ثَمَرِه " وهي مرسومةٌ بالهاء في غيرِ مصاحفِ الكوفةِ ، وبحذفِها فيما عداها . / والأخَوان وأبو بكرٍ وافقوا مصاحفهم ، والباقون - غير حَفْصٍ - وافقوها أيضاً ، وجعفر خالَفَ مصحفَه ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ القراءةَ متلقَّاةٌ مِنْ أفواهِ الرجال ، فيكون عاصمٌ قد أقرأها لأبي بكرٍ بالهاء ولحفصٍ بدونها .
الثالث : أنها نكرةٌ موصوفةٌ ، والكلامُ فيها كالذي في الموصولة . والرابع : أنها مصدريةٌ أي : ومِنْ عَمَلِ أيديهم . والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعولِ به ، فيعودُ المعنى إلى معنى الموصولة أو الموصوفة .
(1/4290)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)
قوله : { وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل } : كقولِه و { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض } [ يس : 33 ] . و " نَسْلَخُ " استعارةٌ بديعةٌ شبَّه انكشافَ ظلمةِ الليلِ بكَشْط الجِلْد عن الشاة . وقوله : " مُظْلِمون " أي : داخلون في الظلام كقوله : { مُّصْبِحِينَ } [ الحجر : 66 ] .
(1/4291)
وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38)
قوله : { لِمُسْتَقَرٍّ } : قيل : في الكلامِ حَذْفُ مضافٍ تقديره : تجري لجَرْي مستقرٍ لها . وعلى هذا فاللامُ للعلةِ أي : لأجل جَرْيِ مستقرٍ لها . والصحيحُ أنَّه لا حَذْفَ ، وأنَّ اللامَ بمعنى إلى . ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ بعضهم " إلى مُسْتقر " . وقرأ عبد الله وابن عباس وعكرمة وزين العابدين وابنه الباقر والصادق بن الباقر " لا مُستقرَّ " ب لا النافيةِ للجنسِ وبناءِ " مستقرَّ " على الفتح ، و " لها " الخبر . وابن أبي عبلة " لا مُسْتقرٌ " ب لا العاملةِ عملَ ليس ، ف مُسْتَقرٌ اسمها ، و " لها " في محلِّ نصبٍ خبرُها كقولِه :
3786 تَعَزَّ فلا شيءٌ على الأرضِ باقيا ... ولا وَزَرٌ مِمَّا قضى اللَّهُ واقيا
والمرادُ بذلك أنها لا تستقرُّ في الدنيا بل هي دائمةُ الجريانِ ، وذلك إشارةً إلى جَرْيها المذكور .
(1/4292)
وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)
قوله : { والقمر قَدَّرْنَاهُ } : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرٍو برفعِه ، والباقون بنصبِه . فالرفعُ على الابتداء ، والنصبُ بإضمارِ فعلٍ على الاشتغالِ ، والوجهان مُسْتويانِ لتقدُّمِ جملةٍ ذاتِ وجهين ، وهي قوله : " والشمسُ تجري " فإنْ راعَيْتَ صدرَها رَفَعْتَ لتعطِفَ جملةً اسميةً على مثلِها ، وإنْ راعَيْتَ عَجْزَها نَصَبْتَ لتعطِفَ فعليةً على مثلِها . وبهذه الآيةِ يَبْطُلُ قولُ الأخفشِ : إنه لا يجوزُ النصبُ في الاسم إلاَّ إذا كان في جملةِ الاشتغالِ ضميرٌ يعود على الاسمِ الذي تضمَّنَتْه جملةٌ ذاتُ وجهين . قال : لأنَّ المعطوفَ على الخبرِ خبرٌ فلا بُدَّ مِنْ ضميرٍ يعودُ على المبتدأ فيجوزُ : " زيدٌ قام وعمراً أكرمتُه في داره " ، ولو لم يَقُلْ " في داره " لم يَجُز . ووجهُ الردِّ مِنْ هذه الآية أنَّ أربعةً من السبعةِ نصبوا ، وليس في جملة الاشتغال ضميرٌ يعودُ على الشمس . وقد أُجْمع على النصب في قولِه تعالى : { والسمآء رَفَعَهَا } [ الرحمن : 7 ] بعد قوله : { والنجم والشجر يَسْجُدَانِ } [ الرحمن : 5 ] .
قوله : " منازلَ " فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه مفعولٌ ثانٍ؛ لأنَّ " قَدَّرنا " بمعنى صَيَّرْنا . الثاني : أنه حالٌ ، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ قبل " منازل " تقديرُه : ذا منازلَ . الثالث : أنه ظرفٌ أي : قَدَّرْنا مسيرَه في منازلَ ، وتقدَّم نحوُه أولَ يونس .
قوله : " كالعُرْجُون " العامّةُ على ضَمِّ العينِ والجيم . وفي وزنِه وجهان ، أحدهما : أنه فُعْلُول فنونُه أصليةٌ ، وهذا هو المرجَّحُ . والثاني : وهو قولُ الزجَّاج أنَّ نونَه مزيدةٌ ، ووزنُه فُعْلُوْن ، مشتقاً من الانعراجِ وهو الانعطافُ ، وقرأ سليمان التيمي بكسر العين وفتح الجيم ، وهما لغتان كالبُزيُوْن والبِزْيون . والعُرْجُوْن : عُوْد العِذْقِ ما بين الشَّماريخ إلى مَنْبِته من النخلةِ . وهو تشبيهٌ بديعٌ ، شبَّه به القمرَ في ثلاثة أشياء : دقتِه واستقواسِه واصفرارِه .
(1/4293)
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
قوله : { سَابِقُ النهار } : قرأ عمارة بنصب " النهارَ " حَذَفَ التنوين لالتقاءِ الساكنين . قال المبرد : " سمعته يقرؤُها فقلت : ما هذا؟ فقال : أَرَدْتُ " سابقٌ " بالتنوين فخفَّفْتُ " .
(1/4294)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)
قوله : { أَنَّا حَمَلْنَا } : مبتدأ ، و " آيةٌ " خبرٌ مقدمٌ . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ " أنَّا حَمَلْنا " خبرَ مبتدأ محذوفٍ بناءٍ منه على أنَّ " آية لهم " مبتدأٌ وخبرٌ ، كلامٌ مستقلٌ بنفسِه ، كما تقدَّم في نظيرِه . والظاهرُ أنَّ الضميرين في " لهم " و " ذريتهم " لشيءٍ واحدٍ . ويُراد بالذريَّة آباؤهم المحمولون في سفينة نوح عليه السلام أو يكون الضميران مختلفَيْن أي : ذرية القرون الماضية . ووجهُ الامتنانِ عليهم : أنَّهم في ذلك مثلُ الذرِّية من حيث إنهم يَنْتفعون بها كانتفاعِ أولئك .
(1/4295)
وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42)
قوله : { مَا يَرْكَبُونَ } : هذا يَحْتمل أَنْ يكونَ من جنسِ الفلك إنْ أريد بالفَلَكِ سفينةُ نوحٍ عليه السلام خاصةً ، وأن يكونَ مِنْ جنسٍ آخرَ كالإِبِلِ ونحوِها ، ولهذا سَمَّتْها سُفُنَ البرِّ . وقد تقدَّم اشتقاقُ الذرِّيَّة في البقرة واختلافُ القُرَّاءِ فيها في الأعراف .
قوله : " مِنْ مِثْله " أي : من مثلِ الفلك . وقيل : من مثل ما ذكرِ من خَلْقِ الأزواجِ .
(1/4296)
وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43)
وقرأ الحسن " نُغَرِّقْهُمْ " بتشديد الراء .
قوله : " فلا صَرِيْخَ " / فَعيل بمعنى فاعِل أي : فلا مستغيثَ . وقيل : بمعنى مُفْعِل أي : فلا مغيثَ . وهذا هو الأليقُ بالآية . وقال الزمخشري : " فلا إغاثةَ " جعله مصدراً مِنْ أَصْرخ . قال الشيخ : " ويَحْتاج إلى نَقْلِ أنَّ صَريخاً يكون مصدراً بمعنى إصْراخ " . والعامَّةُ على فتح " صريخ " . وحكى أبو البقاء أنه قُرئ بالرفع والتنوين . قال : " ووجهُه على ما في قوله : { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } [ البقرة : 38 ] .
(1/4297)
إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
قوله : { إِلاَّ رَحْمَةً } : منصوبٌ على المفعولِ له وهو استثناءٌ مفرغٌ . وقيل : استثناءٌ منقطعٌ . وقيل : على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ وعلى إسقاط الخافضِ . أي : إلاَّ برحمةٍ . والفاءُ في قوله : " فلا صريخَ " رابطةٌ لهذه الجملةِ بما قبلها . فالضميرُ في " لهم " عائدٌ على " المُغرَقين " . وجوَّز ابن عطية هذا ووجهاً آخرَ ، وجعله أحسنَ منه : وهو أَنْ يكونَ استئنافَ إخبارٍ عن المسافرين في البحر ناجين كانوا أو مُغْرَقين ، هم بهذه الحالةِ لا نجاةَ لهم إلاَّ برحمةِ اللَّهِ ، وليس قولُه : { فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ } مربوطاً بالمغرقين . انتهى . وليس جَعْلُه هذا الأحسنَ بالحسنِ لئلا تخرجَ الفاءُ عن موضوعِها والكلامُ عن التئامِه .
(1/4298)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)
قوله : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ } : جوابُها محذوفٌ . أي : أعرضوا .
(1/4299)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46)
قوله : { إِلاَّ كَانُواْ } : في محلِّ حالٍ . وقد تقدَّم نظيرُه .
(1/4300)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)
قوله : { مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ } : مفعولُ " أنطعمُ " و " أطعمه " جوابُ " لو " . وجاء على أحد الجائزين ، وهو تجرُّدُه من اللامِ . والأفصحُ أنْ يكونَ بلامٍ نحو { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } [ الواقعة : 65 ] .
(1/4301)
مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
قوله : { يَخِصِّمُونَ } : قرأ حمزةُ بسكون الخاء وتخفيف الصادِ مِنْ خَصِم يَخْصَمُ . والمعنى : يَخْصَمُ بعضُهم بعضاً ، فالمفعولُ محذوفٌ . وأبو عمرٍو وقالون بإخفاءِ فتحةِ الخاء وتشديدِ الصاد . ونافعٌ وابن كثير وهشام كذلك ، إلاَّ أنَّهم بإخلاصِ فتحةِ الخاءِ . والباقون بكسرِ الخاء وتشديدِ الصادِ . والأصلُ في القراءاتِ الثلاثِ : يَخْتَصِمون فأُدْغِمت التاءُ في الصاد ، فنافعٌ وابن كثير وهشام نَقَلوا فتحَها إلى الساكنِ قبلَها نَقْلاً كاملاً ، وأبو عمرو وقالون اختلسا حركتَها تنبيهاً على أنَّ الخاءَ أصلُها السكونُ ، والباقون حَذَفُوا حركتَها ، فالتقى ساكنان لذلك ، فكسروا أوَّلَهما ، فهذه أربعُ قراءاتٍ ، قُرِئ بها في المشهور .
ورُوِي عن أبي عمرٍو وقالون سكونُ الخاءِ وتشديدُ الصادِ . والنحاةُ يَسْتَشْكِلونها للجمعِ بَيْن ساكنين على غير حَدَّيْهما . وقرأ جماعةٌ " يِخِصِّمُون " بكسرِ الياءِ والخاءِ وتشديد الصاد وكسروا الياءَ إتباعا . وقرأ أُبَيٌّ " يَخْتَصِمُون " على الأصل . قال الشيخُ : " ورُوِي عنهما - أي عن أبي عمرٍو وقالون - بسكونِ الخاء وتخفيفِ الصاد مِنْ خَصِم " .
قلت : هذه هي قراءةُ حمزةَ ولم يَحْكِها هو عنه وهذا يُشْبِهُ قولَه : { يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } في البقرةِ [ الآية : 20 ] ، و { لاَّ يهدي } في يونس [ الآية : 35 ] .
(1/4302)
فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
وقرأ ابن محيصن " يُرْجَعُون " مبنياً للمفعول .
(1/4303)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51)
والأعرج " في الصُّوَر " بفتح الواو .
وقُرِئ " من الأَجْدافِ " وهي لغةٌ في " الأَجْداث " يُقال : جَدَث وجَدَف ك ثُمَّ وفُمَّ ، وثُوم وفُوم . وقرأ ابن أبي إسحاق وأبو عمرٍو في روايةٍ " يَنْسُلون " بضم السين . يُقال : نَسَل الثعلبُ يَنْسِل وينسُل أي : أَسْرع في عَدْوِه .
(1/4304)
قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)
قوله : { ياويلنا } : العامَّةُ على الإِضافةِ إلى ضمير المتكلمين دون تأنيثٍ . وهو " وَيْل " مضافٌ لِما بعده . ونقل أبو البقاء عن الكوفيين أنَّ " وَيْ " كلمةٌ برأسِها . و " لنا " جارٌّ ومجرور " . انتهى . ولا معنى لهذا إلاَّ بتأويلٍ بعيدٍ : هو أَنْ يكونَ يا عجبُ لنا؛ لأنَّ وي تُفَسَّرُ بمعنى اعجب منا . وابن أبي ليلى : " يا وَيْلتنا " بتاء التأنيث ، وعنه أيضاً " يا ويْلتا " بإبدال الياءِ ألفاً . وتأويلُ هذه أنَّ كلَّ واحدٍ منهم يقول : يا ويلتي .
والعامَّةُ على فتح ميم " مَنْ و " بَعَثَنا " فعلاً ماضياً خبراً ل " مَنْ " الاستفهامية قبلَه . وابن عباس والضحاك ، وأبو نهيك بكسر الميم على أنها حرفُ جر . و " بَعْثِنا " مصدرٌ مجرور ب مِنْ . ف " مِنْ " الأولى تتعلَّق بالوَيْل ، والثانيةُ تتعلَّقُ بالبعث .
والمَرْقَدُ يجوز أَنْ يكونَ مصدراً أي : مِنْ رُقادِنا ، وأن يكونَ مكاناً ، وهو مفردٌ أُقيم مُقامَ الجمعِ . والأولُ أحسنُ؛ إذ المصدرُ يُفْرَدُ مطلقاً .
قوله : { هَذَا مَا وَعَدَ } في " هذا " وجهان ، أظهرهما : أنه مبتدأٌ وما بعده/ خبرُه . ويكونُ الوقفُ تاماً على قوله " مِنْ مَرْقَدِنا " . وهذه الجملةُ حينئذٍ فيها وجهان ، أحدهما : أنها مستأنفة : إمَّا من قولِ اللَّهِ تعالى ، أو مِنْ قولِ الملائكةِ . والثاني : أنها من كلام الكفارِ فتكون في محلِّ نصب بالقول . والثاني من الوجهين الأولين : " هذا " صفةٌ ل " مَرْقَدِنا " و " ما وَعَد " منقطعٌ عَمَّا قبله .
ثم في " ما " وجهان ، أحدُهما : أنها في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، والخبرُ مقدرٌ أي : الذي وَعَدَه الرحمنُ وصَدَقَ فيه المرسلون حَقٌّ عليكم . وإليه ذهب الزجَّاج والزمخشري . والثاني : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هذا وَعْدُ الرحمن . وقد تقدَّم لك أولَ الكهف : أنَّ حَفْصاً يقف على " مَرْقَدنا " وَقْفةً لطيفةً دونَ قَطْعِ نَفَسٍ لئلا يُتَوَهَّمَ أنَّ اسمَ الإِشارةِ تابعٌ ل " مَرْقَدِنا " . وهذان الوجهان يُقَوِّيان ذلك المعنى المذكور الذي تَعَمَّد الوقفَ لأجلِه . و " ما " يَصِحُّ أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً أو حرفيةً كما تقدَّم تقريرُه . ومفعولا الوعدِ والصدقِ محذوفان أي : وعَدَناه الرحمن وصَدَقَناه المرسلون . والأصل : صَدَقَنا فيه . ويجوز حَذْفُ الخافض وقد تقدَّم لك نحو " صَدَقني سِنَّ بَكْرِهِ " أي في سِنِّه . وتقدَّم قراءتا " صيحة واحدة " نصباً ورفعاً .
(1/4305)
فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
قوله : { فاليوم } : منصوبٌ ب " لا تُظْلَمُ " . و " شيئاً " : إمَّا مفعولٌ ثانٍ ، وإمَّا مصدرٌ .
(1/4306)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55)
قوله : { فِي شُغُلٍ } : يجوز أَنْ يكونَ خبراً ل " إنَّ " و " فاكهون " خبرٌ ثانٍ ، وأنْ يكون " فاكهون " هو الخبر ، و " في شُغُلٍ " متعلِّقٌ به وأَنْ يكونَ حالاً . وقرأ الكوفيون وابنُ عامر بضمتين . والباقون بضمةٍ وسكونٍ ، وهما لغتان للحجازيين ، قاله الفراء . ومجاهد وأبو السَّمَّال بفتحتين . ويزيد النحوي وابن هُبَيْرَة بفتحةٍ وسكونٍ وهما لغتان أيضاً .
والعامَّةُ على رفع " فاكِهون " على ما تقدَّم . والأعمش وطلحة " فاكهين " نصباً على الحالِ ، والجارُّ الخبرُ . والعامَّةُ أيضاً على " فاكهين " بالألف بمعنى : أصحاب فاكهة ، ك لابنِ وتامرِ ولاحمِ ، والحسَنُ وأبو جعفر وأبو حيوةَ وأبو رجاءٍ وشيبةُ وقتادةُ ومجاهدٌ " فَكِهون " بغيرِ ألفٍ بمعنى : طَرِبُوْن فَرِحون ، من الفُكاهةِ بالضمِ . وقيل : الفاكهُ والفَكِهُ بمعنى المتلذِّذُ المتنعِّمُ؛ لأنَّ كلاً من الفاكهةِ والفُكاهةِ مِمَّا يُتَلَذَّذُ به ويُتَنَعَّمُ . وقُرئ " فَكِهيْن " بالقَصْرِ والياء على ما تَقَدَّمَ . و " فَكُهُوْن " بالقصرِ وضمِّ الكافِ . يُقال : رجلٌ فَكِهٌ وفَكُهٌ كَرَجُلٍ نَدِس ونَدُسٍ ، وحَذِر وحَذُر .
(1/4307)
هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56)
قوله : { هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ } : يجوزُ في " هم " أَنْ يكونَ مؤكِّداً للضميرِ المستكِنِّ في " فاكهون " ، و " أزواجُهم " عَطْفٌ على المستكنِّ . ويجوز أَنْ يكونَ تأكيداً للضميرِ المستكنِّ في " شُغُل " إذا جَعَلْناه خبراً . و " أزواجُهم " عَطْفٌ عليه أيضاً . كذا ذكره الشيخ . وفيه نظرٌ من حيث الفَصْلُ بين المُؤَكِّد والمؤكَّد بخبر " إنَّ " . ونظيرُه أن تقولَ : " إن زيداً في الدار قائمٌ هو وعمروٌ " على أَنْ يُجْعَلَ " هو " تأكيداً للضمير في قولك " في الدار " . وعلى هذين الوجهين يكون قولُه " متكِئون " خبراً آخر ل " إنَّ " ، و " في [ ظلال ] " متعلِّقٌ به أو حالٌ . و " على الأرائِك " متعلقٌ به . ويجوزُ أَنْ يكون " هم " مبتدأً و " متكئون " خبرَه ، والجارَّانِ على ما تقدَّمَ . وجَوَّزَ أبو البقاءِ أَنْ يكونَ " في ظلالٍ " هو الخبرَ . قال : " وعلى الأرائِكِ مستأنفٌ " وهي عبارةٌ مُوْهِمَةٌ غيرَ الصوابِ . ويريد بذلك : أنَّ " متكئون " خبرُ مبتدأ مضمرٍ و " متكئون " مبتدأٌ مؤخرٌ إذ لا معنى له . وقرأ عبد الله " متكئين " نصباً على الحال .
وقرأ الأخَوان " في ظُلَلٍ " بضم الظاءِ والقصرِ ، وهو جمع ظُلَّة نحو : غُرْفَة وغُرَف ، وحُلَّة وحُلَل . وهي عبارةٌ عن الفُرُشِ والسُّتُور . والباقون بكسرِ الظاءِ والألفِ ، جمعَ ظُلَّة أيضاً ، كحُلَّة وحِلال ، وبُرْمة وبِرام ، أو جمعَ فِعْلة بالكسر ، إذ يُقال : ظُلَّة وظِلَّة بالضمِّ والكسرِ فهو كلِقْحة ولِقاح ، إلاَّ أنَّ فِعالاً لا ينقاس فيها ، أو جمعَ فِعْل نحو : ذِئْب وذِئاب ، وريْح ورِياح .
(1/4308)
لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)
قوله : { مَّا يَدَّعُونَ } : في " ما " هذه ثلاثةُ أوجه : موصولةٌ اسميةٌ ، نكرةٌ موصوفةٌ ، والعائد على هذين محذوفٌ ، مصدريةٌ . / ويَدَّعُون مضارعُ ادَّعَى افْتَعَلَ مِنْ دعا يَدْعو . وأُشْرِبَ معنى التمني . قال أبو عبيدة : " العربُ تقول : ادَّعِ عَلَيَّ ما شِئْتَ أي تَمَنَّ " ، وفلانٌ في خيرِ ما يَدَّعي ، أي : ما يتمنى . وقال الزجاج : " هو من الدعاء أي : ما يَدَّعُوْنه ، أهلُ الجنة يأتيهم ، مِنْ دَعَوْتُ غلامي " . وقيل : افْتَعَل بمعنى تفاعَلَ . أي : ما يتداعَوْنه كقولهم : ارتَمَوْا وترامَوْا بمعنىً . و " ما " مبتدأةٌ . وفي خبرها وجهان ، أحدهما : - وهو الظاهر - أنَّه الجارُّ قبلَها . والثاني : أنه " سلامٌ " . أي : مُسَلَّمٌ خالِصٌ أو ذو سلامةٍ .
(1/4309)
سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
قوله : { سَلاَمٌ } : العامَّةُ على رفعِه . وفيه أوجهٌ ، أحدها : ما تقدَّم مِنْ كونِه خبرَ " ما يَدَّعون " . الثاني : أنه بدلٌ منها ، قاله الزمخشري . قال الشيخ : " وإذا كان بدلاً كان " ما يَدَّعُون " خصوصاً ، والظاهر أنَّه عمومٌ في كلِّ ما يَدَّعُونه . وإذا كان عموماً لم يكن بدلاً منه " . الثالث : أنه صفةٌ ل " ما " ، وهذا إذا جَعَلْتَها نكرةً موصوفةً . أمَّا إذا جَعَلْتَها بمعنى الذي أو مصدريةً تَعَذَّر ذلك لتخالُفِهما تعريفاً وتنكيراً . الرابع : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هو سلامٌ . الخامس : أنه مبتدأٌ خبرُه الناصبُ ل " قَوْلاً " أي : سلامٌ يُقال لهم قولاً . وقيل : تقديرُه : سلامٌ عليكم . السادس : أنه مبتدأٌ ، وخبرُه " مِنْ رَبٍ " . و " قولاً " مصدرٌ مؤكدٌ لمضمونِ الجملةِ ، وهو مع عاملِه معترضٌ بين المبتدأ والخبر .
وأُبَيٌّ وعبد الله وعيسى " سَلاماً " بالنصب . وفيه وجهان ، أحدهما : أنه حالٌ . قال الزمخشري : " أي : لهمْ مُرادُهُمْ خالصاً " . والثاني : أنه مصدرُ يُسَلِّمون سلاماً : إمَّا من التحيةِ ، وإمَّا من السَّلامة . و " قَوْلاً " إمَّا : مصدرٌ مؤكِّدٌ ، وإمَّا منصوبٌ على الاختصاصِ . قال الزمخشري : " وهو الأَوْجَهُ " . و " مِنْ رَبٍّ " إمَّا صفةٌ ل " قَوْلاً " ، وإمَّا خبرُ " سَلامٌ " كما تقدَّم . وقرأ القَرَظِيُّ " سِلْمٌ " بالكسرِ والسكونِ . وتقدَّم الفرق بينهما في البقرة .
(1/4310)
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
قوله : { وامتازوا } : على إضمارِ قولٍ مقابلٍ لِما قيلَ للمؤمنين أي : ويُقال للمجرمين : امتازُوْا أي : انعَزِلوا ، مِنْ مازه يَمِيزه .
(1/4311)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)
قوله : { أَعْهَدْ } : العامَّةُ على فتحِ الهمزةِ على الأصلِ في حرفِ المضارعة . وطلحة والهذيل بن شرحَبيل الكوفي بكسرِها . وقد تقدَّم أنَّ ذلك لغةٌ في حرفِ المضارعةِ بشروطٍ ذُكرت في الفاتحة وثَمَّ حكايةٌ . وقرأ ابنُ وثَّاب " أَحَّدْ " بحاءٍ مشددةَ . قال الزمخشري : " وهي لغةُ تميمٍ ، ومنه " دَحَّا مَحَّا " أي : دَعْها معها ، فقُلِبَتْ الهاءُ حاءً ثم العينُ حاءً ، حين أُريد الإِدغامُ . والأحسنُ أَنْ يُقال : إنَّ العينَ أُبْدِلَتْ حاءً . وهي لغةُ هُذَيلٍ . فلمَّا أُدْغِم قُلب الثاني للأول ، وهو عكسُ بابِ الإِدغامِ . وقد مضى تحقيقُه آخرَ آلِ عمران . وقال ابن خالويه : " وابن وثاب والهذيل " أَلَمْ إعْهَدْ " بكسر الميم والهمزة وفتح الهاء ، وهي على لغةِ مَنْ كسرَ أولَ المضارعِ سوى الياءِ . ورُوي عن ابنِ وثَّاب " اعْهِد " بكسرِ الهاءِ . يُقال : عَهِد وعَهَد " انتهى . يعني بكسر الميم والهمزة أنَّ الأصلَ في هذه القراءةِ أَنْ يكونَ كسرَ حَرْفَ المضارعةِ ثم نَقَلَ حركتَه إلى الميمِ فكُسِرَتْ ، لا أنَّ الكسرَ موجودٌ في الميمِ وفي الهمزةِ لفظاً ، إذ يَلْزَمُ من ذلك قَطْعُ همزةِ الوصلِ وتحريكُ الميمِ مِنْ غيرِ سبب . وأمَّا كَسْرُ الهاءِ فلِما ذُكِرَ من أنه سُمِعَ في الماضي " عَهَدَ " بفتحها . وقولُه : " سوى الياء " وكذا قال الزمخشريُّ هو المشهورُ . وقد نُقِل عن بعضِ كَلْبٍ أنهم يَكْسِرون الياءَ فيقولون : يِعْلَمُ .
وقال الزمخشري فيه : " وقد جَوَّزَ الزجَّاجُ أن يكون من باب : نَعِمَ يَنْعِمُ ، وضَرَب يَضْرِب " يعني أنَّ تخريجَه على أحدِ وجهين : إمَّا الشذوذِ فيما اتَّحذ فيه فَعِل يَفْعِلُ بالكسر فيهما ، كنَعِمَ يَنْعِمُ وحَسِب يَحْسِبُ وبَئِسَ يَبْئِسُ ، وهي ألفاظٌ عَدَدْتُها في البقرة ، وإمَّا أنه سُمِعَ في ماضيه الفتحُ كضَرَبَ ، كما حكاه ابنُ خالَوَيْه . وحكى الزمخشري أنه قُرِئ " أَحْهَدْ " بإبدالِ العينِ حاءً ، وقد تقدَّم أنها لغةُ هُذَيْلٍ ، وهذه تُقَوِّي أنَّ أصلَ " أَحَّد " : أَحْهَد فأُدْغِمَ كما تقدَّم .
(1/4312)
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)
قوله : { جِبِلاًّ } : قرأ نافعٌ وعاصمٌ بكسر الجيم والباء وتشديد اللام . وأبو عمروٍ وابن عامرٍ بضمةٍ وسكونٍ . والباقون بضمتين ، واللامُ مخففةٌ في كلتيهما . وابنُ أبي إسحاق والزهري وابن هرمز بضمتين وتشديد اللام . والأعمش/ بكسرتين وتخفيفِ اللام . والأشهب العقيلي واليماني وحمادُ بن سلمة بكسرةٍ وسكون . وهذه لغاتٌ في هذه اللفظةِ . وقد تقدَّم معناها آخرَ الشعراء . وقُرِئ " جِبَلاً " بكسر الجيم وفتح الباء ، جمع جِبْلَة كفِطَر جمع فِطْرَة . وقرأ أمير المؤمنين عليٌّ " جِيْلاً " بالياء ، مِنْ أسفلَ ثنتان ، وهي واضحةٌ .
وقرأ العامة : " أفلَمْ تكونوا " خطاباً لبني آدم . وطلحة وعيسى بياءِ الغَيْبة . والضمير للجِبِلِّ . ومِنْ حَقِّهما أن يَقْرآ { التي كانوا يُوعَدُونَ } لولا أَنْ يَعْتَذِرا بالالتفاتِ .
(1/4313)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)
قوله : { اليوم نَخْتِمُ } : " اليومَ " ظرفٌ لِما بعدَه . وقُرِئ " يُخْتَمُ " مبنياً للمفعول ، والجارُّ بعدَه قائمٌ مقام فاعلِهِ .
وقُرئ " تَتَكلَّمُ " بتاءَيْن مِنْ فوقُ . وقُرِئ " ولْتَتَكَلَّمْ ولْتَشْهَدْ " بلامِ الأمرِ . وقرأ طلحةُ " ولِتُكَلِّمَنا ولِتَشهدَ " بلامِ كي ناصبةً للفعل ، ومتعلَّقُها محذوفٌ أي : للتكلُّمِ وللشهادةِ خَتَمْنا . و " بما كانوا " أي : بالذي كانوا أو بكونِهِم كاسِبين .
(1/4314)
وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)
قوله : { فاستبقوا } : عطفٌ على " لَطَمَسْنا " وهذا على سبيل الفَرَضِ والتقديرِ . وقرأ عيسى " فاسْتَبِقوا " أمراً ، وهو على إضمارِ القول أي : فيُقال لهم : اسْتَبِقَوا . و " الصِّراطَ " ظرفُ مكانٍ مختصٍ عند الجمهور؛ فلذلك تَأوَّلوا وصولَ الفعل إليه : إمَّا بأنَّه مفعولٌ به مجازاً ، جعله مسبوقاً لا مسبوقاً إليه ، وتَضَمَّنَ " اسْتَبَقُوا " معنى بادَرُوا ، وإمَّا على حَذفِ الجارِّ أي : إلى الصِّراط . وقال الزمخشري : " منصوب على الظرف ، وهو ماشٍ على قولِ ابن الطَّراوة؛ فإن الصراط والطريق ونحوَهما ليسَتْ عنده مختصَّةً . إلاَّ أنَّ سيبويهِ : على أن قوله :
3787 لَدْنٌ بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُهُ ... فيه كما عَسَلَ الطريقَ الثعلبُ
ضرورةٌ لنصبه الطريقَ " .
(1/4315)
وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)
وقرأ أبو بكر " مَكاناتِهم " جمعاً . وتَقَدَّم في الأنعام . والعامَّةُ على " مُضِيَّاً " بضم الميم ، وهو مصدرٌ على فُعُوْل . أصلُه مُضُوْي فأُدْغِمَ وكُسِرَ ما قبل الياءِ لتصِحَّ نحو : لُقِيّا .
وقرأ أبو حيوةَ - ورُوِيَتْ عن الكسائيِّ - بكسر الميم إتباعاً لحركة العين نحو " عِتِيًّا " و " صِلِيَّاً " وقُرئ بفتحها . وهو من المصادر التي وَرَدَتْ على فَعيل كالرَّسِيم والذَّمِيْل .
(1/4316)
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)
قوله : { نُنَكِّسْهُ } : قرأ عاصمٌ وحمزةٌ بضم النون الأولى وفتحِ الثانيةِ وكسرِ الكافِ مشددةً مِنْ نَكَّسَه مبالغةً . والباقون بفتح الأولى وتسكين الثانيةِ وضمِّ الكافِ خفيفةً ، مِنْ نَكَسَه ، وهي محتملةٌ للمبالغة وعَدَمِها . وقد تقدَّمَ في الأنعام أنَّ نافعاً وابنَ ذكوان قرآ " تَعْقِلون " بالخطابِ والباقون بالغيبة .
(1/4317)
وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)
قوله : { إِنْ هُوَ } : أي : إنِ القرآن . دَلَّ عليه السِّياقُ أو إنِ العِلْمُ إلاَّ ذكرٌ ، يَدُلُّ عليه : " وما عَلَّمْناه " والضمير في " له " للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم . وقيل : للقرآن .
(1/4318)
لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
قوله : { لِّيُنذِرَ } : قرأ نافع وابن عامر هنا ، في الأحقاف " لتنذرَ " خطاباً . والباقون بالغيبة بخلاف عن البزي في الأحقاف : والغيبة تحتمل أن يكون الضمير فيها للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم . وأن تكونَ للقرآن . وقرأ الجحدري واليماني " لِيُنْذِرَ " مبنياً للمفعول . وأبو السَّمَّال واليمانيُّ أيضاً " لِيَنْذَرَ " بفتحِ الياءِ والذال ، مِنْ نَذِر بكسر الدال أي : عَلِمَ ، فتكون " مَنْ " فاعلاً .
(1/4319)
وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)
قوله : { رَكُوبُهُمْ } : أي : مَرْكوبهم كالحَلُوب والحَصُور بمعنى المَفْعول وهو لا ينقاسُ . وقرأ أُبيٌّ وعائشة " رَكوبَتُهم " بالتاء . وقد عَدَّ بعضُهم دخولَ التاءِ على هذه الزِّنَةِ شاذًّا ، وجعلهما الزمخشري : في قولِ بعضِهم جمعاً يعني اسمَ جمع ، وإلاَّ فلم يَرِدْ في أبنيةِ التكسير هذه الزِّنَة . وقد عَدَّ ابنُ مالك أيضاً أبنيةَ أسماءِ الجموع ، فلم يذكُرْ فيها فَعُولة . والحسن وأبو البرهسم والأعمش " رُكوبُهم " بضم الراء ، ولا بدَّ من حذف مضاف : إمَّا من الأولِ ، أي : فمِنْ منافعها رُكوبُهم ، وإمَّا من الثاني ، أي : ذو ركوبِهم . قال ابن خالويه : " العربُ تقول : ناقَةٌ رَكُوْبٌ ورَكُوْبَةٌ ، وحَلُوب وحَلُوْبَة ، ورَكْباةٌ حَلْباةٌ ، ورَكَبُوْتٌ حَلَبُوْت ، ورَكَبى حَلَبى ، ورَكَبُوْتا حَلَبُوْتا [ ورَكْبانَةٌ حَلْبانَة ] " وأنشد :
3788 رَكْبانَةٍ حَلْبَانَةٍ زَفُوْفِ ... تَخْلِطُ بينَ وَبَرٍ موصُوْفِ
والمَشارِبُ : جمع مَشْرَب بالفتح مصدراً أو مكاناً . والضمير في " لا يَسْتَطيعون " إمَّا للآلهةِ ، وإمَّا لعابديها . وكذلك/ الضمائرُ بعده . وتقدَّم قرءاةُ " يَحْزُن " و " يُحزن " . وقرأ زيد بن علي " ونسي خالقَه " بزنةِ اسمِ الفاعل .
(1/4320)
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78)
قوله : { وَهِيَ رَمِيمٌ } : قيل : بمعنى فاعِل . وقيل : بمعنى مَفْعول ، فعلى الأولِ عَدَمُ التاءِ غيرُ مَقيسٍ . وقال الزمخشري : " الرَّميمُ اسمٌ لما بَلِيَ من العِظام غيرُ صفةٍ كالرِّمَّةِ والرُّفاتِ فلا يُقال : لِمَ لَمْ يُؤَنَّثْ وقد وقع خبراً لمؤنث؟ ولا هو فعيل بمعنى فاعِل أو مفعول " .
(1/4321)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)
قوله : { الأخضر } : هذه قراءةُ العامَّةُ . وقُرِئ " الخضراء " اعتباراً بالمعنى . وقد تقدَّم أنه يجوزُ تذكيرُ اسمِ الجنسِ وتأنيثه . قال تعالى : { نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } [ القمر : 20 ] و { نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] وقد تقدَّم أنَّ بني تميمٍ ونجداً يُذَكِّرونه ، والحجازَ يؤنِّثونه إلاَّ ألفاظاً اسْتُثْنِيَتْ .
(1/4322)
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81)
قوله : { بِقَادِرٍ } : هذه قراءةُ العامَّةِ ، دخلتِ الباءُ زائدةً على اسم الفاعلِ . والجحدريُّ وابن أبي إسحاق والأعرج " يَقْدِرُ " فعلاً مضارعاً . والضميرُ في " مِثْلهم " قيل : عائدٌ على الناسِ؛ لأنهم هم المخاطبونَ . وقيل : على السماواتِ والأرض لتضمُّنِهم مَنْ يَعْقِلُ . و " بَلَى " جوابٌ ل " ليس " وإنْ دَخل عليها الاستفهامُ المصيِّرُ لها إيجاباً . والعامَّة على " الخَلاَّق " صيغةَ مبالغةٍ . والجحدري والحسن ومالك بن دينار " الخالق " اسمَ فاعِل . وتقدَّم الخلافُ في " فيكون " نصباً ورفعاً وتوجيهُ ذلك في البقرة .
(1/4323)
فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
وقرأ طلحة والأعمش " مَلَكَة " بزنةِ شجرَة . وقُرِئ " مَمْلَكَةُ " بزنة مَفْعَلة وقُرِئ " ملك " . والمَلَكُوْتُ أبلغُ الجميع . والعامَّةُ على " تُرْجَعون " مبنياً للمفعول وزيدُ بن علي مبنيُّ للفاعلِ .
(1/4324)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { والصافات صَفَّا } : قرأ أبو عمرو وحمزة بإدغامِ التاء من الصافَّاتِ ، والزَّاجراتِ والتاليات ، في صاد " صَفَّاً " وزاي " زَجْراً " وذال " ذِكْراً " ، وكذلك فَعَلا في { والذاريات ذَرْواً } [ الذاريات : 1 ] وفي { فالملقيات ذِكْراً } [ المرسلات : 5 ] وفي { العاديات ضَبْحاً } [ العاديات : 1 ] بخلافٍ عن خلاَّد في الأخيرين . وأبو عمروٍ جارٍ على أصلِه في إدغام المتقاربَيْن كما هو المعروفُ مِنْ أصلِه . وحمزةُ خارجٌ عن أصلِه ، والفرقُ بين مَذْهَبَيْهما أنَّ أبا عمرٍو يُجيز الرَّوْمَ ، وحمزةَ لا يُجيزه . وهذا كما اتفقا في إدغام { بَيَّتَ طَآئِفَةٌ } في سورة النساء [ الآية : 81 ] ، وإن كان ليس من أصلِ حمزةَ إدغامُ مثلِه . وقرأ الباقون بإظهار جميعِ ذلك .
ومفعولُ " الصَّافَّات " و " الزَّاجراتِ " غيرُ مرادٍ؛ إذ المعنى : الفاعلات لذلك . وأعرب أبو البقاء " صَفَّاً " مَفْعولاً به على أنه قد يَقَعُ على المصفوفِ . قلت : وهذا ضعيفٌ . وقيل : هو مرادٌ . والمعنى : والصافاتِ أنفسَها وهم الملائكةُ أو المجاهدون أو المُصَلُّون ، أو الصافَّاتِ أجنحتَها وهي الطيرُ ، كقوله : { والطير صَآفَّاتٍ } [ النور : 41 ] ، والزاجراتِ السحابَ أو العُصاةَ إنْ أُريد بهم العلماءُ . والزَّجْرُ : الدَّفْعُ بقوةٍ وهو قوةُ التصويتِ . وأنشد :
3789 زَجْرَ أَبي عُرْوَةَ السِّباعَ إذا ... أشْفَقَ أَنْ يَخْتَلِطْنَ بالغَنَم
وزَجَرْتُ الإِبِلَ والغنمَ : إذا فَزِعَتْ مِنْ صوتِك . وأمَّا " والتاليات " فَيجوز أَنْ يكونَ " ذِكْراً " مفعولَه . والمرادُ بالذِّكْر : القرآنُ وغيرُه مِنْ تسبيحٍ وتحميدٍ . ويجوز أَنْ يكونَ " ذِكْراً " مصدراً أيضاً مِنْ معنى التاليات . وهذا أوفقُ لِما قبلَه . قال الزمخشري : " الفاءُ في " فالزَّاجراتِ " " فالتالياتِ " : إمَّا أَنْ تدلَّ على ترتُّبِ معانيها في الوجودِ كقولِه :
3790أ يا لَهْفَ زَيَّابةَ للحارثِ الصَّا ... بحِ فالغانِمِ فالآيِبِ
كأنه قال : الذي صَبَحَ فغَنِمَ فآبَ ، وإمَّا على ترتُّبهما في التفاوتِ من بعضِ الوجوه ، كقوله : خُذِ الأفضلَ فالأكملَ ، واعمل الأحسنَ فالأجملَ ، وإمَّا على ترتُّبِ موصوفاتِها في ذلك كقولك : " رَحِمَ اللَّهُ المَحَلِّقين فالمقصِّرين " فأمَّا هنا فإنْ وحَّدْتَ الموصوفَ كانت للدلالةِ على ترتُّبِ الصفات في التفاضُلِ . فإذا كان الموحَّدُ الملائكةَ فيكون الفضلُ للصفِّ ثم للزَّجْرِ ثم للتلاوةِ ، وإمَّا على العكس . وإنْ ثَلَّثْتَ الموصوفَ فترتَّبَ في الفضل ، فتكون الصافَّاتُ ذواتَ فضلٍ ، والزاجراتُ أفضلَ ، والتالياتُ أَبْهَرَ فضلاً ، أو على العكس " يعني بالعكس في الموضعين أنك ترتقي من أفضلَ إلى فاضلٍ إلى مَفْضولٍ ، أو يُبْدَأُ بالأدنى ثم بالفاضل ثم بالأفضل .
والواوُ في هذه للقسمِ ، والجوابُ/ قولُه : { إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ } . وقد عَرَفْتَ الكلامَ في الواوِ الثانيةِ والثالثةِ : هل هي للقسمِ أو للعطف؟
(1/4325)
رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)
قوله : { رَّبُّ السماوات } : يجوز أَنْ يكونَ خبراً ثانياً ، وأن يكون بدلاً مِنْ " لَواحدٌ " ، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمر . وجَمْعُ المشارقِ والمغارِبِ باعتبارِ جميع السنة ، فإنَّ للشمسِ ثلاثَمئةٍ وستين مشرقاً ، وثلاثَمئة وستين مَغْرباً . وأمَّا قولُه : " المَشْرِقَيْن والمغربين " فباعتبار الصيف والشتاء .
(1/4326)
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)
قوله : { بِزِينَةٍ الكواكب } : قرأ أبو بكر بتنوين " زينة " ونصب " الكواكب " وفيه وجهان ، أحدهما : أَنْ تكونَ الزينةُ مصدراً ، وفاعلُه محذوفٌ ، تقديره : بأنْ زَيَّنَ اللَّهُ الكواكبَ ، في كونِها مضيئةً حَسَنةً في أنفسها . والثاني : أنَّ الزينةَ اسمٌ لِما يُزان به كاللِّيْقَةِ : اسمٌ لِما تُلاقُ به الدَّواةُ ، فتكون " الكواكبُ " على هذا منصوبةً بإضمارِ " أَعْني " ، أو تكون بدلاً مِنْ سماء الدنيا بدلَ اشتمالٍ أي : كواكبها ، أو من محل " بزينة " .
وحمزةُ وحفصٌ كذلك ، إلاَّ أنهما خَفَضا الكواكب على أنْ يُرادَ بزينة : ما يُزان به ، والكواكب بدلٌ أو بيانٌ للزينة .
والباقون بإضافةِ " زينة " إلى " الكواكب " . وهي تحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ تكونَ إضافةَ أعمَّ إلى أخصَّ فتكونَ للبيان نحو : ثوبُ خَزّ . الثاني : أنها مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه أي : بأن زَيَّنَتِ الكواكبُ السماءَ بضوئِها . والثالث : أنه مضافٌ لمفعولِه أي : بأَنْ زَيَّنها اللَّهُ بأَنْ جَعَلها مشرِقةً مضيئةً في نفسِها .
وقرأ ابن عباس وابن مسعود بتنوينها ، ورفعِ الكواكب . فإنْ جَعَلْتَها مصدراً ارتفع " الكواكب " به ، وإنْ جَعَلْتَها اسماً لِما يُزان به فعلى هذا ترتفع " الكواكبُ " بإضمار مبتدأ أي : هي الكواكبُ ، وهي في قوة البدلِ . ومنع الفراءُ إعمالَ المصدرِ المنوَّن . وزعمَ أنه لم يُسْمَعْ . وهو غلَطٌ لقولِه تعالى : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ } [ البلد : 14 ] كما سيأتي إن شاء الله .
(1/4327)
وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7)
قوله : { وَحِفْظاً } : منصوبٌ على المصدر بإضمارِ فعلٍ أي : حَفِظْناها حِفْظاً ، وإمَّا على المفعولِ مِنْ أجله على زيادة الواوِ . والعاملُ فيه " زيَّنَّا " ، أو على أَنْ يكونَ العاملُ مقدراً أي : لِحفْظِها زَيَّنَّاها ، أو على الحَمْلِ على المعنى المتقدم أي : إنَّا خَلَقْنا السماءَ الدنيا زينةً وحِفظاً . و " من كلِّ " متعلقٌ ب " حِفْظاً " إنْ لم يكنْ مصدراً مؤكِّداً ، وبالمحذوفِ إنْ جُعِل مصدراً مؤكداً . ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ل " حِفْظاً " .
(1/4328)
لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8)
قوله : { لاَّ يَسَّمَّعُونَ } : قرأ الأخَوان وحفصٌ بتشديد السين والميم . والأصل : يَتَسَمَّعون فأدغم . والباقون بالتخفيف فيهما . واختار أبو عبيد الأُوْلى وقال : " لو كان مخففاً لم يتعَدَّ ب " إلى " . وأُجيب عنه : بأنَّ معنى الكلامِ : لا يُصْغُون إلى الملأ . وقال مكي : " لأنه جرى مَجْرى مُطاوِعِه وهو يتَسَمَّعُون ، فكما كان تَسَمَّع يتعدَّى ب " إلى " تَعَدَّى سَمِع ب " إلى " وفَعِلْتُ وافتعلْتُ في التعدِّي سواءٌ ، فَتَسَمَّع مطاوع سمعَ ، واستمع أيضاً مطاوع سَمِع فتعدَّى سَمِعَ تعدِّيَ مطاوعِه " .
وهذه الجملةُ منقطعةٌ عَمَّا قبلها ، ولا يجوزُ فيها أَنْ تكونَ صفةً لشيطان على المعنى؛ إذ يصير التقدير : مِنْ كلِّ شيطانٍ ماردٍ غيرِ سامعٍ أو مستمعٍ . وهو فاسدٌ . ولا يجوزُ أيضاً أَنْ تكونَ جواباً لسؤال سائلِ : لِمَ تُحْفَظُ من الشياطين؟ إذ يَفْسُد معنى ذلك . وقال بعضهم : أصلُ الكلامِ : لئلا يَسْمَعوا ، فَحُذِفت اللامُ ، وأَنْ ، فارتفع الفعلُ . وفيه تَعَسُّفٌ . وقد وَهِم أبو البقاء فجوَّزَ أَنْ تكون صفةً ، وأنْ تكونَ حالاً ، وأنْ تكونَ مستأنفةً ، فالأولان ظاهرا الفسادِ ، والثالثُ إن عنى به الاستئنافَ البيانيَّ فهو فاسدٌ أيضاً ، وإنْ أرادَ الانقطاعَ على ما قَدَّمْتُه فهو صحيحٌ .
(1/4329)
دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9)
قوله : { دُحُوراً } : العامَّةُ على ضم الدال . وفيه أوجهٌ ، المفعولُ له ، أي : لأجلِ الطَّرْد . الثاني : أنه مصدرٌ ل " يُقْذَفُون " أي : يُدْحَرون دُحوراً أو يُقْذَفُون قَذْفاً . فالتجوُّزُ : إمَّا في الأول ، وإمَّا في الثاني . الثالث : أنه مصدرٌ لمقدرٍ أي : يُدْحَرون دُحوراً . الرابع : أنه في موضع الحال أي ذَوي دُحورٍ أو مَدْحورين . وقيل : هو جمعُ داحِر نحو : قاعِد وقُعود . فيكون حالاً بنفسه من غيرِ تأويلٍ . ورُوِي عن أبي عمرٍو أنه قرأ " ويَقْذِفُون " مبنياً لفاعل .
وقرأ علي والسلمي وابن أبي عبلة " دَحورا " بفتح الدال ، وفيها وجهان ، أحدهما : أنها صفةٌ لمصدرٍ مقدرٍ ، أي : قذفاً دَحُورا ، وهو كالصَّبور والشَّكور . والثاني : أنه مصدرٌ كالقَبول والوَلوع . وقد تقدَّم أنه محصورٌ في أُلَيْفاظ .
(1/4330)
إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
قوله : { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مرفوعُ/ المحلِّ بدلاً مِنْ ضميرِ " لا يَسَّمَّعون " وهو أحسنُ؛ لأنه غيرُ موجَب . والثاني : أنه منصوبٌ على أصلِ الاستثناء . والمعنى : أنَّ الشياطينَ لا يَسمعون الملائكةَ إلاَّ مَنْ خَطِف . قلت : ويجوز أَنْ تكون " مَنْ " شرطيةً ، وجوابُها " فَأَتْبَعَه " ، أو موصولةً وخبرُها " فَأَتْبَعَه " وهو استثناءٌ منقطعٌ . وقد نَصُّوا على أنَّ مثلَ هذه الجملةِ تكونُ استثناءً منقطعاً كقوله : { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ } [ الغاشية : 22 - 23 ] . والخَطْفَةُ مصدرٌ معرفٌ بأل الجنسية أو العهدية .
وقرأ العامَّةُ " خَطِفَ " بفتح الخاء وكسرِ الطاءِ مخففةً . وقتادة والحسن بكسرهما وتشديد الطاء ، وهي لغةُ تميمِ بنِ مُرّ وبكرِ بن وائل . وعنهما أيضاً وعن عيسى بفتح الخاء وكسر الطاء مشددةً . وعن الحسن أيضاً خَطِفَ كالعامَّة . وأصل القراءَتَيْن : اخْتَطَفَ ، فلمَّا أُريد الإِدغامُ سَكَنت التاءُ وقبلها الخاءُ ساكنةً ، فكُسِرت الخاءُ لالتقاءِ الساكنين ، ثم كُسِرت الطاءُ إتْباعاً لحركةِ الخاء . وهذه واضحةٌ . وأمَّا الثانية فمُشْكِلَةٌ جداً؛ لأنَّ كَسْرَ الطاء إنما كان لكسرِ الخاء وهو مفقودٌ . وقد وُجِّه على التوهُّم . وذلك أنهم لَمَّا أرادوا الإِدغام نقلوا حركة التاء إلى الخاء ففُتِحَتْ وهم يتوهَّمون أنها مكسورةٌ لالتقاءِ الساكنين كما تقدَّم تقريرُه ، فأتبعوا الطاءَ لحركةِ الخاءِ المتوهَّمة . وإذا كانوا قد فَعَلوا ذلك في مقتضياتِ الإِعرابِ فَلأَنْ يَفْعلوه في غيرِه أَوْلَى . وبالجملة فهو تعليلُ شذوذٍ .
وقرأ ابن عباس " خَطِفَ " بكسر الخاء والطاء خفيفةً ، وهو إتْباعٌ كقولِهم : نِعِمَ بكسر النون والعين . وقُرئ " فاتَّبَعَه " بالتشديد .
(1/4331)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11)
قوله : { أَم مَّنْ خَلَقْنَآ } : العامَّةُ على تشديدِ الميم ، الأصلُ : أم مَنْ وهي أم المتصلةُ ، عُطِفَتُ " مَنْ " على " هم " . وقرأ الأعمش بتخفيفها ، وهو استفهامٌ ثانٍ . فالهمزةُ للاستفهام أيضاً و " مَنْ " مبتدأ ، وخبره محذوفٌ أي : ألذين خَلَقْناهم أشدُّ؟ فهما جملتان مستقلتان وغَلَّبَ مَنْ يَعْقل على غيره فلذلك أتى ب " مَنْ " . ولازِبٌ ولازِمٌ بمعنىً . وقد قُرئ " لازم " .
(1/4332)
بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12)
قوله : { بَلْ عَجِبْتَ } : قرأ الأخَوان بضمِّ التاء ، والباقون بفتحها . فالفتحُ ظاهرٌ . وهو ضميرُ الرسولِ أو كلِّ مَنْ يَصِحُّ منه ذلك . وأمَّا الضمُّ فعلى صَرْفِه للمخاطب أي : قُلْ يا محمدُ بل عَجِبْتُ أنا ، أو على إسنادِه للباري تعالى على ما يَليقُ به ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا في البقرة ، وما وَرَدَ منه في الكتاب والسنَّة . وعن شُرَيْحٍ أنه أنكرها ، وقال : " إنَّ الله لا يَعْجَبُ " فبلغَتْ إبراهيمَ النخعي فقال : " إن شريحاً كان مُعْجَباً برأيه ، قرأها مَنْ هو أعلمُ منه " يعني عبد الله بن مسعود .
قوله : " ويَسْخَرون " يجوزُ أَنْ يكونَ استئنافاً وهو الأظهرُ ، وأن يكونَ حالاً . وقرأ جناح بن حبيش " ذُكِروا " مخففاً .
(1/4333)
أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17)
قوله : { أَوَ آبَآؤُنَا } : قرأ ابن عامر وقالون بسكونِ الواوِ على أنَّها " أو " العاطفةُ المقتضيةُ للشكِّ . والباقون بفتحِها على أنها همزةُ استفهامٍ دخلَتْ على واوِ العطفِ . وهذا الخلافُ جارٍ أيضاً في الواقعة . وقد تقدَّم مثلُ هذا في الأعراف في قولِه : { أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى } [ الأعراف : 98 ] فمَنْ فتح الواوَ جاز " في آباؤنا " وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونَ معطوفاً على مَحَلِّ " إنَّ " واسمِها . والثاني : أَنْ يكونَ معطوفاً على الضمير المستترِ في " لَمَبْعوثون " واستغنى بالفصلِ بهمزةِ الاستفهامِ . ومَنْ سَكَّنها تعيَّن فيه الأولُ دون الثاني على قولِ الجمهور لعَدَمِ الفاصل .
وقد أوضح هذا الزمخشريُّ حيث قال : " آباؤنا " معطوفٌ على محل " إنَّ " واسمِها ، أو على الضميرِ في " مَبْعوثون " . والذي جَوَّز العطفَ عليه الفصلُ بهمزةِ الاستفهام " . قال الشيخُ : أمَّا قولُه : " معطوفٌ على محلِّ إنَّ واسمها " فمذهبُ سيبويه خلافُه؛ فإنَّ قولَك " إن زيداً قائمٌ وعمروٌ " " عمرٌو " فيه مرفوعٌ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ . وأمَّا قولُه : " أو علىلضميرِ في " مبعوثون " إلى آخره فلا يجوزُ أيضاً لأنَّ همزةَ الاستفهامِ لا تدخلُ إلاَّ على الجملِ لا على المفرد؛ لأنه إذا عُطِف/ على المفردِ كان الفعلُ عاملاً في المفرد بوساطة حرفِ العطفِ ، وهمزةُ الاستفهام لا يَعْمَلُ ما قبلها فيما بعدها . فقوله : " أو آباؤنا " مبتدأٌ محذوفُ الخَبرِ ، تقديرُه : أو آباؤنا مبعوثون ، يَدُلُّ عليه ما قبله . فإذا قلتَ : " أقام زيدٌ أو عمرٌو " فعمرٌو مبتدأ محذوفُ الخبرِ لِما ذكرنا " .
قلت : أمَّا الردُّ الأولُ فلا يَلْزَمُ؛ لأنه لا يلتزمُ مذهبَ سيبويه . وأمَّا الثاني فإنَّ الهمزةَ مؤكِّدة للأولى فهي داخلةٌ في الحقيقةِ على الجملةِ ، إلاَّ أنه فَصَلَ بين الهمزتين ب " إنَّ " واسمها وخبرها . يَدُلُّ على هذا ما قاله هو في سورةِ الواقعة ، فإنه قال : " دَخَلَتْ همزَةُ الاستفهامِ على حَرْفِ العطفِ . فإنْ قلت : كيف حَسُنَ العطفُ على المضمر " لَمبعوثون " من غيرِ تأكيدٍ ب " نحن "؟ قلتُ : حَسُنَ للفاصلِ الذي هو الهمزةُ كما حَسُنَ في قولِه : { مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا } [ الأنعام : 148 ] لفَصْلِ المؤكِّدة للنفي " . انتهى . فلم يَذْكُرْ هنا غيرَ هذا الوجهِ ، وتشبيهَه بقوله : لفَصْلِ المؤكِّدةِ للنفي ، لأنَّ " لا " مؤكدةٌ للنفي المتقدِّم ب " ما " . إلاَّ أنَّ هذا مُشْكِلٌ : بأنَّ الحرفَ إذا كُرِّر للتوكيد لم يُعَدْ في الأمر العام إلاَّ بإعادة ما اتصل به أولاً أو بضميرِه . وقد مضى القولُ فيه . وتحصَّل في رفع " آباؤنا " ثلاثةُ أوجهٍ : العطفُ على محلِّ " إن " واسمِها ، العطفُ على الضمير المستكنِّ في " لَمبعوثون " ، الرفعُ على الابتداء ، والخبرُ مضمرٌ . والعامل في " إذا " محذوفٌ أي : أنُبْعَثُ إذا مِتْنا . هذا إذا جَعَلْتَها ظرفاً غيرَ متضمنٍ لمعنى الشرطِ . فإنْ جَعَلْتَها شرطيةً كان جوابُها عاملاً فيها أي : أإذا مِتْنا بُعِثْنا أو حُشِرْنا .
وقُرِئ " إذا " دونَ استفهامٍ . وقد مضى القولُ فيه في الرعد .
(1/4334)
قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18)
قوله : { وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ } : جملةٌ حاليةٌ . العاملُ فيها الجملةُ القائمةُ مَقامَها " نعم " أي : تُبْعَثون وأنتم صاغرون أذلاَّءُ . قال الشيخ : " وقرأ ابنُ وثاب " نَعِمْ " بكسر العين . قلت : وقد تقدم في الأعراف أنَّ الكسائيَّ قرأها كذلك حيث وقعَتْ ، وكلامُه هنا مُوْهِمٌ أنَّ ابنَ وثَّاب منفردٌ بها .
(1/4335)
فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
قوله : { فَإِنَّمَا هِيَ } : قال الزمخشري : " فإنما هي جوابُ شرطٍ مقدرٍ تقديرُه : إذا كان ذلك فما هي إلاَّ زَجْرَةٌ واحدةٌ " . قال الشيخ : " وكثيراً ما تُضْمَرُ جملةُ الشرطِ قبل فاءٍ إذا ساغ تقديرُه ، ولا ضرورةَ تَدْعُوْ إلى ذلك ، ولا يُحْذَف الشرطُ ويبقى جوابُه ، إلاَّ إذا انجزم الفعلُ في الذي يُطْلَقُ عليه أنه جوابٌ للأمرِ والنهي وما ذُكِر معهما . أمَّا ابتداءً فلا يجوزُ حَذْفُه " .
قوله : " هي " ضميرُ البعثةِ المدلولِ عليها بالسِّياق لَمَّا كانَتْ بعثتُهم ناشئةً عن الزَّجْرَةِ جُعِلَتْ إياها مجازاً . وقال الزمخشري : " هي مبهمةٌ يُوَضِّحها خبرُها " . قال الشيخ : " وكثيراً ما يقول هو وابنُ مالك : إن الضميرَ يُفَسِّره خبرُه " .
(1/4336)
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20)
ووقف أبو حاتمٍ على " وَيْلَنا " وجعل ما بعده من قول الباري تعالى . وبعضُهم جَعَلَ { هذا يَوْمُ الدين } مِنْ كلامِ الكفرة فيقف عليه . وقوله : { هذا يَوْمُ الفصل } مِنْ قولِ الباري تعالى . وقيل : الجميعُ مِنْ كلامهم ، وعلى هذا فيكونُ قولُه " تُكَذِّبون " : إمَّا التفاتاً من التكلم إلى الخطاب ، وإمَّا مخاطبةُ بعضِهم لبعض .
(1/4337)
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)
قوله : { وَأَزْوَاجَهُمْ } : العامَّةُ على نصبِه ، وفيه وجهان ، أحدهما : العطفُ على الموصول . والثاني : أنه مفعولٌ معه . قال أبو البقاء : " وهو في المعنى أقوى " . قلت : إنما قال في المعنى لأنَّه في الصناعةِ ضعيفٌ؛ لأنه أمكن العطفُ فلا يُعْدَلُ عنه . وقرأ عيسى بن سليمان الحجازي بالرفعِ عَطْفاً على ضمير " ظَلموا " وهو ضعيفٌ لعدمِ العاملِ . وقوله : { وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ } لا يجوزُ فيه هذا لأنه لا يُنْسَبُ إليهم ظلمٌ ، إنْ لم يُرَدْ بهم الشياطينُ : وإن أُريد بهم ذلك جاز فيه الرفعُ أيضاً على ما تقدَّم .
(1/4338)
وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24)
قوله : { إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } : العامَّةُ على الكسرِ على الاستئناف المفيدِ للعلة . وقُرِئ بفتحها على حَذْفِ لامِ العلةِ أي : قِفُوهم لأجل سؤال اللَّهِ إياهم .
(1/4339)
مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25)
قوله : { مَا لَكُمْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ منقطعاً عَمَّا قبله والمسؤولُ عنه غيرُ مذكورٍ ، ولذلك قَدَّره بعضُهم : عن أعمالهم . ويجوزُ أَنْ يكونَ هو المسؤولَ عنه في المعنى ، فيكونَ معلِّقاً للسؤال . و " لا تَناصَرون " جملةٌ حاليةٌ . العاملُ فيها الاستقرارُ في " لكم " . وقيل : بل هي على حَذْفِ حرفِ الجرِّ ، و " أنْ " الناصبةِ ، فلمَّا حُذِفَتُ " أن " ارتفع الفعلُ . والأصل : في أنْ لا ، وتقدَّمَتْ قراءةُ البزي " لا تَّناصرون " بتشديد التاء . وقُرِئ " تَتَناصرون " على الأصلِ .
(1/4340)
قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28)
قوله : { عَنِ اليمين } : حالٌ من فاعل " تَأْتُوننا " . واليمينُ : إمَّا الجارحَةُ عَبَّر بها عن القوةِ ، وإمَّا الحَلْفُ؛ لأنَّ المتعاقِدَيْن بالحَلْفِ يَمْسَح كلٌّ منهما يمينَ الآخرِ ، فالتقديرُ على الأول : تأتوننا أقوياءَ ، وعلى الثاني مُقْسِمينَ حالفين . /
(1/4341)
فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31)
قوله : { إِنَّا لَذَآئِقُونَ } : الظاهر أنه مِنْ إخبارِ الكَفَرةِ المتبوعين أو الجنِّ بأنَّهم ذائِقون العذابَ . ولا عدُولَ في هذا الكلامِ . وقال الزمخشري : " فَلَزِمَنا قولُ ربِّنا إنَّا لَذائقون . يعني وعيدَ اللَّهِ بأنَّا لذائقون لِعذابِه لا مَحالةَ . ولو حكى الوعيدَ كما هو لقال : إنَّكم لذائقونَ ، ولكنه عَدَلَ به إلى لفظِ المتكلم؛ لأنهم متكلِّمون بذلك عن أنفسِهم . ونحوُه قولُ القائلِ :
3790ب لقد عَلِمَتْ هوازِنُ قَلَّ مالي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولو حكى قولَها لقال : قَلَّ مالُك . ومنه قولُ المُحَلِّفِ للحالِف : احْلِفْ " لأَخْرُجَنَّ " و " لَتَخْرُجَنَّ " الهمزةُ لحكايةِ الحالفِ ، والتاءُ لإِقبالِ المحلِّف على المحلَّف " .
(1/4342)
فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33)
قوله : { يَوْمَئِذٍ } : أي : يومَ إذ يَسْألوا ويُراجِعوا الكلامَ فيما بينهم .
(1/4343)
بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
قوله : { وَصَدَّقَ المرسلين } : أي : صَدَّقهم محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم . وقرأ عبد الله " صَدَقَ " خفيفةَ الدالِ . " المُرْسلون " فاعلاً به أي : صَدَقوا فيما جاؤوا به مِنْ بشارتهم به عليه السلام .
(1/4344)
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38)
قوله : { لَذَآئِقُو العذاب } : العامة على حذْفِ النونِ والجرِّ . وقرأ بعضُهم بإثباتِها ، والنصبِ ، وهو الأصلُ . وقرأ أبان بن تغلب عن عاصم وأبو السَّمَّال في روايةٍ بحذف النون والنصبِ ، أَجْرى النون مُجْرى التنوين في حَذْفِها لالتقاء الساكنين كقولِه : { أَحَدٌ الله الصمد } [ الإخلاص : 1-2 ] [ وقولِه ] :
3791 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلا
وقال أبو البقاء : " وقُرِئ شاذَّاً بالنصب ، وهو سهوٌ من قارئه لأنَّ اسمَ الفاعلِ تُحْذَفُ منه النونُ ويُنْصَبُ إذا كان فيه الألفُ واللامُ " . قلت : وليس بسَهْوٍ لِما ذكَرْتُه لك . وقرأ أبو السَّمَّال أيضاً " لَذائِقٌ " بالإِفراد والتنوين ، " العذابَ " نصباً . تخريجُه على حَذْفِ اسمِ جمعٍ هذه صفتُه ، أي : إنكم لَفريقٌ أو لجمعٌ ذائِقٌ؛ ليتطابقَ الاسمُ والخبرُ في الجمعيَّةِ .
(1/4345)
وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)
وقوله : { إِلاَّ مَا كُنْتُمْ } : أي : إلاَّ جزاءَ ما كنتم .
(1/4346)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40)
قوله : { إِلاَّ عِبَادَ الله } : استثناءٌ منقطعٌ .
(1/4347)
أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41)
وقوله : { أُوْلَئِكَ } : إلى آخره بيانٌ لحالِهم .
(1/4348)
فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42)
قوله : { فَوَاكِهُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ " رزق " ، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : ذلك الرزقُ فواكهُ .
(1/4349)
عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44)
وقوله : { على سُرُرٍ } : العامَّةُ على ضمِّ الراءِ . وأبو السَّمَّال بفتحها ، وهي لغةُ بعضِ كلبٍ وتميمٍ : يفتحون عينَ فُعُل إذا كان اسماً مضاعَفاً . وأمَّا الصفةُ نحو " ذُلُل " ففيها خلافٌ : الصحيحُ أنه لا يجوزُ؛ لأنَّ السَّماعَ وَرَدَ في الجوامد دونَ الصفات .
قوله : " في جنات " يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب " مُكْرَمون " ، وأَنْ يكونَ خبراً ثانياً ، وأنْ يكونَ حالاً ، وكذلك " على سُرُرٍ " . و " متقابلين " حالٌ . ويجوزُ أَنْ يتعلَّق " على سرر " بمتقابلين ، و " يُطافُ " صفةٌ ل " مُكْرَمُون " ، أو حالٌ من الضمير في " متقابلين " ، أو من الضميرِ في أحدِ الجارَّيْن إذا جعلناه حالاً .
والكأسُ من الزُّجاج ما دام فيها خمرٌ أو نبيذٌ وإلاَّ فهي قَدَحٌ . وقد تُطْلق الكأسُ على الخمرِ نفسِها ، وهو مجازٌ سائغٌ . وأُنْشِدَ :
3792 وكأسٍ شَرِبْتُ على لَذَّةٍ ... وأخرى تَداوَيْتُ منها بها
و " من مَعين " صفةٌ ل " كأس " وتقدَّم الكلامُ على " معين " .
(1/4350)
بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46)
قوله : { بَيْضَآءَ } : صفةٌ ل " كَأْس " . وقال الشيخ : " صفةٌ ل كأس أو للخمرِ " . قلت : لم تُذْكَرِ الخمرُ ، اللَّهم إلاَّ أَنْ يَعْنيَ بالمَعين الخمرَ وهو بعيدٌ جداً .
وقرأ عبد الله " صفراءَ " وهي مخالِفَةٌ للسَّواد ، إلاَّ أنه قد جاء وَصْفُها بهذا اللونِ . وأنشد لبعض المُوَلَّدين :
3793 صَفْراءُ لا تَنْزِلُ الأحزانُ ساحتَها ... لو مَسَّها حَجَرٌ مَسَّتْه سَرَّاءُ
و " لَذَّةٍ " صفةٌ أيضاً . وُصِفَتْ بالمصدرِ مبالغةً أو على حَذْفِ المضاف أي : ذات لذةٍ ، أو على تأنيثِ لَذّ بمعنى لذيذ فيكون وصفاً على فَعْل كصَعْبٍ . يُقال : لَذَّ الشيءُ يَلَذُّ لَذَّاً فهو لَذيذ ولَذٌّ . وأنشد :
3794 بحديثِها اللَّذِّ الذي لو كَلَّمَتْ ... أُسْدَ الفَلاةِ به أَتَيْنَ سِراعا
وقال آخر :
3795 ولَذٍّ كطَعْمِ الصَّرْخَدِيِّ تَرَكْتُه ... بأَرضِ العِدا مِنْ خَشْيَةِ الحَدَثانِ
واللذيذُ : كلُّ شيءٍ مُسْتَطابٍ . وأُنْشِد :
3796 تَلَذُّ لِطَعْمِه وتَخالُ فيه ... إذا نَبَّهْتَها بعدَ المَنامِ
و " للشاربين " صفةٌ ل " لَذَّةٍ " .
(1/4351)
لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47)
و : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } : صفةٌ أيضاً . وبَطَل عَمَلُ " لا " وتكرَّرت لتقدُّمِ خبرِها . وقد تقدَّم أولَ البقرةِ فائدةُ تقديمَ مثلِ هذا الخبرِ ورَدُّ الشيخِ له والبحثُ معه ، فعليك بالالتفات إليه .
قوله : " يُنْزَفُون " قرأ الأخَوان " يُنْزِفون " هنا وفي الواقعة بضمِّ الياءِ وكسرِ الزاي . وافقهما عاصمٌ على ما في الواقعة فقط . والباقون بضم الياءِ وفتحِ الزاي . وابنُ أبي إسحاق بالفتح والكسر . وطلحةُ بالفتح والضمِّ . فالقراءةُ الأولى مِنْ أَنْزَفَ الرجلُ إذا ذهب عقلُه من السُّكْرِ فهو نَزِيْفٌ ومَنْزُوْف . وكان قياسُه مُنْزَف ك مُكْرَم . ونَزَفَ الرجلُ الخمرةَ فأَنْزَف هو ، ثلاثيُّه متعدٍ ، ورباعيُّه بالهمزةِ قاصرٌ ، وهو نحو : كَبَيْتُه فأَكَبَّ وقَشَعَتِ الريحُ السَّحابَ فأَقْشَع/ أي : دخلا في الكَبِّ والقَشْع . وقال الأسودُ :
3797 لَعَمْري لَئِنْ أَنْزَفْتُمُ أو صَحَوْتُمُ ... لبِئْسَ النَّدامى أنتمُ آلَ أَبْجرا
ويقال : أَنْزَفَ أيضاً أي : نَفِدَ شرابُه . وأمَّا الثانيةُ فمِنْ نُزِف الرجلُ ثلاثياً مبنياً للمفعول بمعنى : سَكِر وذَهَبَ عَقْلُه أيضاً . ويجوزُ أَنْ تكونَ هذه القراءةُ مِنْ أُنْزِف أيضاً بالمعنى المتقدِّم . وقيل : هو مِنْ قولِهم : نَزَفْتُ الرَّكِيَّةَ أي : نَزَحْتُ ماءَها . والمعنى : أنهم لا تَذْهَبُ خمورُهم بل هي باقيةٌ أبداً . وضَمَّنَ " يُنْزَفُوْن " معنى يَصُدُّون عنها بسبب النزيف . وأمّا القراءتان الأخيرتان فيقال : نَزِف الرجلُ ونَزُف بالكسر والضم بمعنى : ذَهَبَ عَقْلُه بالسُّكْر .
والغَوْلُ : كلُّ ما اغتالك أي : أَهْلَكك . ومنه الغُوْلُ بالضم : شيءٌ تَوَهَّمَتْه العربُ . ولها فيه أشعارٌ كالعَنْقاءِ يُقال : غالني كذا . ومنه الغِيْلَة في القَتْل والرَّضاع قال :
3798 مَضَى أَوَّلُونا ناعِمِيْنَ بعيشِهِمْ ... جميعاً وغالَتْني بمكةَ غُوْلُ
وقال آخر :
وما زالَتِ الخَمْرُ تَغْتالنا ... وتَذْهَبُ بالأولِ الأولِ
فالغَوْل اسمٌ عامٌّ لجميع الأَذَى .
(1/4352)
وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)
و : { قَاصِرَاتُ الطرف } : يجوز أَنْ يكونَ من باب الصفةِ المشبهةِ أي : قاصراتٌ أطرافُهنَّ كمُنْطَلِق اللسانِ ، وأَنْ يكونَ من باب اسم الفاعل على أصلِه . فعلى الأولِ المضافُ إليه مرفوعُ المحلِّ ، وعلى الثاني منصوبُه أي : قَصُرَتْ أطرافُهُنّ على أزواجِهِنَّ وهو مدحٌ عظيمٌ . قال امرؤ القيس :
3800 من القاصِراتِ الطَّرْفِ لو دَبَّ مُحْوِلٌ ... من الذَّرِّ فوق الإِتْبِ منها لأَثَّرا
والعِيْنُ : جمع عَيْناء وهي الواسعةُ العينِ . والذَّكَرُ أَعْيَنُ ، والبَيْضُ جمعُ بَيْضَة وهو معروفٌ . والمرادُ به هنا بَيْضُ النَّعام . والمَكْنون المصُون مِنْ كَنَنْتُه أي : جَعَلْتُه في كِنّ . والعربُ تُشَبِّه المرأةَ بها في لَوْنِها ، وهو بياضٌ مُشْرِبٌ بعضَ صُفْرَةٍ . والعربُ تُحبُّه . قال امرؤ القيس :
3801 وبَيْضَةِ خِدْرٍ لا يُرام خِباؤُها ... تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بها غيرَ مُعْجَلٍ
كبِكْرِ مُقاناةِ البَياضِ بصُفْرَةٍ ... غَذاها نَمِيْرُ الماءِ غيرَ المُحَلَّلِ
وقال ذو الرمة :
3802 بيضاءُ في بَرَحٍ صَفْراءُ في غَنَجٍ ... كأنها فِضَّةٌ قد مَسَّها ذَهَبُ
وقال بعضُهم : إنما شُبِّهَتِ المرأةُ بها في أجزائِها ، فإنَّ البيضةَ من أيِّ جهةٍ أتيتَها كانَتْ في رأي العينِ مُشْبهةً للأخرى وهو في غاية المدح . وقد لَحَظ هذا بعضُ الشعراءِ حيث قال :
3803 تناسَبَتِ الأعضاءُ فيها فلا تَرَى ... بهنَّ اختلافاً بل أَتَيْنَ على قَدْرِ
ويُجْمع البَيْضُ على بُيُوْض قال :
3804 بتَيْهاءَ قفرٍ والمَطِيُّ كأنَّها ... قطا الحَزْنِ قد كانَتْ فِراخاً بُيوضُها
(1/4353)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50)
قوله : { يَتَسَآءَلُونَ } : حالٌ من فاعل " أَقْبَلَ " و " أقبل " معطوفٌ على " يُطاف " أي : يَشْربون فيتحدثون . وكذا حالُ الشَّرْبِ حيث يَجْلسون كما قال :
3805 وما بَقِيَتْ من اللَّذَّاتِ إلاَّ ... محادثة الكِرامِ على المُدامِ
وأتى بقوله : " فأقْبَلَ " ماضياً لتحقُّقِ وقوعِه كقولِه : { ونادى أَصْحَابُ الجنة } [ الأعراف : 44 ] { ونادى أَصْحَابُ النار } [ الأعراف : 50 ] .
(1/4354)
يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)
قوله : { لَمِنَ المصدقين } : العامَّةُ على تخفيفِ الصادِ من التصديق أي : لَمِنَ المُصَدِّقين بلقاءِ الله . وقُرِئ بتشديدِها من الصَّدَقة .
(1/4355)
قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)
وقرأ العامَّةُ " مُطَّلِعُوْنَ " بتشديد الطاءِ مفتوحةً وبفتح النونِ . " فاطَّلَع " ماضياً مبنياً للفاعل ، افْتَعَلَ من الطُّلوع .
وقرأ ابنُ عباس في آخرين - ويُرْوَى عن أبي عمروٍ - بسكونِ الطاءِ وفتح النون " فأُطْلِعَ " بقطعِ همزةٍ مضمومةٍ وكسرِ اللامِ ماضياً مبنياً للمفعول . و " مُطْلِعُوْنَ " على هذه القراءةِ يحتمل أَنْ يكونَ قاصراً أي : مُقْبِلون مِنْ قولِك : أَطْلَعَ علينا فلانٌ أي : أَقْبَلَ ، وأَنْ يكونَ متعدياً ، ومفعولُه محذوفٌ أي : أصحابَكم .
وقرأ أبو البرهسم وعَمَّار بن أبي عمار " مُطْلِعُوْنِ " خفيفةَ الطاء مكسورةَ النونِ ، " فَأُطْلِعَ " مبنياً للمفعول . وقد رَدَّ الناسُ - أبو حاتم وغيرُه - هذه القراءةَ من حيث الجمعُ بين النونِ وضميرِ المتكلم؛ إذ كان قياسُها مُطْلِعيَّ ، والأصل : مُطْلِعُوْي ، فأُبْدِل وأُدْغِمَ نحو : جاء مُسْلِميَّ العاقلون ، وقوله عليه السلام " أوَ مُخْرِجِيَّ هم " وقد وَجَّهها ابنُ جني على أنَّه أُجْرِيَ فيها اسمُ الفاعل مُجْرى المضارع ، يعني في إثباتِ النونِ فيه مع الضميرِ . وأَنْشَدَ الطبريُّ على ذلك :
3806 وما أَدْري وظَنِّي كلَّ ظنِّ ... أمُسْلِمُنِي إلى قومي شُراح
/وإليه نحا الزمخشريُّ قال : " أو شَبَّه اسمَ الفاعلِ في ذلك بالمضارعِ لتآخي بينِهما كأنَّه قال : " يُطْلِعُونِ " . وهو ضعيفٌ لا يقع إلا في شِعْرٍ . وذكر فيه توجيهاً آخر فقال : " أراد مُطْلِعونَ إياي فوضع المتصلَ موضعَ المنفصلِ ، كقوله :
3807 هم الفاعلونَ الخيرَ والآمِرُوْنَه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ورَدَّه الشيخ : بأنَّ هذا ليس مِنْ مواضِع المنفصلِ حتى يَدَّعِيَ أن المتصلَ وَقَعَ موقِعَه . لا يجوز : " هندُ زيدٌ ضاربٌ إياها ، ولا زيدٌ ضارِبٌ إياي " قلت : إنما لم يَجُزْ ما ذَكَرَ؛ لأنه إذا قُدِرَ على المتصلِ لم يُعْدَلْ إلى المنفصلِ . ولقائلٍ أَنْ يقولَ : لا نُسَلِّمُ أنه يُقْدَرُ على المتصلِ حالةَ ثبوتِ النونِ والتنوينِ قبل الضميرِ ، بل يصيرُ الموضعُ موضعَ الضميرِ المنفصلِ؛ فيَصِحُّ ما قاله الزمخشريُّ . وللنحاةِ في اسمِ الفاعلِ المنونِ قبل ياءِ المتكلمِ نحوَ البيتِ المتقدمِ ، وقولِ الآخر :
3808 فهَلْ فتىً مِنْ سَراةِ القَوْمِ يَحْمِلُني ... وليس حامِلَني إلاَّ ابنُ حَمَّالِ
وقول الآخر :
3809 وليس بمُعْيِيْنِيْ وفي الناسِ مُمْتِعٌ ... صَديقٌ إذا أعْيا عليَّ صديقُ
قولان ، أحدُهما : أنَّه تنوينٌ ، وأنه شَذَّ تنوينُه مع الضميرِ ، وإنْ قلنا : إن الضمير بعده في محلِّ نصبٍ . والثاني : أنه ليس تنويناً ، وإنما هو نونُ وقايةٍ . واستدلَّ ابنُ مالكٍ على هذا بقولِه :
وليس بمُعْيِيْني . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وبقوله أيضاً :
3810 وليس المُوافِيني لِيُرْفَدَ خائباً ... فإنَّ له أَضْعافَ ما كان أمَّلا
ووَجْهُ الدلالةِ من الأول : أنَّه لو كان تنويناً لكان ينبغي أن يحذفَ الياءَ قبلَه؛ لأنه منقوصٌ منونٌ ، والمنقوص المنونُ تُحذف ياؤه رفعاً وجَرَّاً لالتقاء الساكِنَيْن .
(1/4356)
ووجهُها من الثاني : أنَّ الألفَ واللامَ لا تُجامِعُ النونَ والذي يُرَجِّح القولَ الأولَ ثبوتُ النونِ في قوله : " والآمِرُوْنَه " وفي قولِه :
3811 ولم يَرْتَفِقْ والناسُ مَحْتَضِرُونَه ... جميعاً وأَيْدي المُعْتَفِيْنَ رواهِقُهْ
فإنَّ النونَ قائمةٌ مقامَ التنوينِ تثنيةً وجمعاً على حَدِّها . وقال أبو البقاء : " ويُقْرأ بكسرِ النونِ ، وهو بعيدٌ جداً؛ لأنَّ النونَ إنْ كانت للوقايةِ فلا تَلْحَقُ الأسماءَ ، وإنْ كانَتْ نونَ الجمعِ فلا تَثْبُتُ في الإِضافةِ " . قلت : وهذا الترديدُ صحيحٌ لولا ما تقدَّم من الجوابِ عنه مع تَكَلُّفٍ فيه ، وخروجٍ عن القواعد ، ولولا خَوْفُ السَّآمةِ لاسْتَقْصَيْتُ مذاهبَ النحاةِ في هذه المسألة .
وقُرِئ " مُطَّلِعُوْن " بالتشديد كالعامَّة ، " فأَطَّلِعَ " مضارعاً منصوباً بإضمار " أَنْ " على جوابِ الاستفهامِ . وقُرِئ " مُطْلِعون " بالتخفيف " فَأَطْلَعَ " مخففاً ماضياً ومخففاً مضارعاً منصوباً على ما تقدَّم . يُقال : طَلَع علينا فلانٌ وأَطْلع ، كأكْرم ، واطَّلَعَ بالتشديد بمعنًى واحد .
وأمَّا قراءةُ مَنْ بنى الفعلَ للمفعولِ في القائمِ مقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مصدرُ الفعلِ أي : أُطْلِعَ الإِطلاعُ . الثاني : الجارُّ المقدرُ . الثالث - وهو الصحيح - أنه ضميرُ القائلِ لأصحابِه ما قاله؛ لأنه يُقال : طَلَعَ زيدٌ وأَطْلعه غيرُه ، فالهمزَةُ فيه للتعدية . وأمَّا الوجهان الأوَّلان فذهب إليهما أبو الفضل الرازيُّ في " لوامحه " فقال : " طَلَعَ واطَّلع إذا بدا وظَهَر ، وأَطْلَع إطلاعاً إذا جاء وأَقْبَلَ . ومعنى ذلك : هل أنتم مُقْبلون فأُقْبل . وإنما أُقيم المصدرُ فيه مُقام الفاعلِ بتقدير : فأُطْلِعَ الإِطلاعُ ، أو بتقدير حرفِ الجر المحذوف أي : أُطْلِعَ به؛ لأن أَطْلَعَ لازم كما أنَّ أَقْبَلَ كذلك " .
وقد رَدَّ الشيخُ عليه هذين الوجهين فقال : " قد ذَكرْنا أنَّ أَطْلَعَ بالهمزةِ مُعَدَّى مِنْ طَلَعَ اللازمِ . وأمَّا قولُه : " أو حرف الجرِّ المحذوف أي : أُطْلِع به " فهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ مفعولَ ما لم يُسَمّ فاعلُه لا يجوزُ حَذْفُه لأنه نائبٌ عنه ، فكما أنَّ الفاعلَ لا يجوزُ حَذْفُه دونَ عامِله فكذلك هذا . لو قلت : " زيدٌ ممرورٌ أو مغضوبٌ " تريد : به أو عليه لم يَجُزْ " . قلت : أبو الفضل لا يَدَّعِي أنَّ النائبَ عن الفاعل محذوفٌ ، وإنما قال : بتقدير حرفِ الجرِّ المحذوفِ . ومعنى ذلك : أنه لَمَّا حُذِفَ حرفُ الجرِّ اتِّساعاً انقلبَ الضميرُ مرفوعاً فاستتر في الفعلِ ، كما يُدَّعى ذلك في حَذْفِ عائد الموصولِ المجرورِ عند عَدَمِ شروطِ الحذفِ/ ويُسَمَّى الحذفَ على التدريج .
(1/4357)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)
قوله : { فَرَآهُ } : عطفٌ على " فاطَّلَعَ " . وسواءُ الجحيمِ وَسَطُها . وأحسنُ ما قيل فيه ما قاله ابنُ عباس : سُمِّي بذلك لاستواءِ المسافةِ منه إلى الجوانبِ . وعن عيسى بن عمر أنه قال لأبي عبيدةَ : " كنت أكْتُبُ حتى ينقطعَ سَوائي " .
(1/4358)
قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56)
قوله : { تالله } : قَسَمٌ فيه [ معنى ] تعجُّبٍ ، و " إنْ " مخففةٌ أو نافية ، واللام فارقةٌ أو بمعنى " إلاَّ " ، وعلى التقديرين فهي جوابُ القسمِ أعني إنْ وما في حَيِّزها .
(1/4359)
أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58)
قوله : { بِمَيِّتِينَ } : قرأ زيد بن علي " بمائِتين " وهما مثلُ : ضيِّق وضائق . وقد تقدَّم .
وقوله : " أفما " فيه الخلافُ المشهورُ : فقدَّره الزمخشري : أنحن مُخَلَّدون مُنَعَّمون فما نحن بميِّتين . وغيرُه يجعلُ الهمزةَ متقدمةً على الفاءِ .
(1/4360)
إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)
قوله : { إِلاَّ مَوْتَتَنَا } : منصوبٌ على المصدر . والعاملُ فيه الوصفُ قبلَه ، ويكون استثناءً مفرَّغاً . وقيل : هو استثناءٌ منقطعٌ ، أي : لكنْ الموتةُ الأولى كانت لنا في الدنيا . وهذا قريبٌ في المعنى مِنْ قولِه تعالى : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى } [ الدخان : 56 ] وفيها بَحْثٌ حَسَنٌ وهناك إنْ شاء اللَّهُ يأتي تحقيقُه .
(1/4361)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
وقوله : { إِنَّ هذا لَهُوَ } : إلى قوله : " العامِلون " يحتملُ أنْ يكونَ مِنْ كلامِ القائلِ ، وأَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الباري تعالى .
(1/4362)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62)
قوله : { نُّزُلاً } : تمييزٌ ل " خَيْرٌ " ، والخيريَّةُ بالنسبة إلى ما اختاره الكفارُ على غيرِه . والزَّقُّوم : شجرةٌ مَسْمومة يَخْرج لها لبنٌ ، متى مَسَّ جسمَ أحدٍ تَوَرَّم فماتَ . والتَزَقُّمُ البَلْعُ بشِدة وجُهْدٍ للأشياءِ الكريهة . وقولُ أبي جهلٍ - وهو من العرب العَرْباء - " لا نعرفُ الزَّقُّومَ إلاَّ التمرَ بالزُّبْدِ " من العِناد والكذب البَحْتِ .
(1/4363)
طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65)
قوله : { رُءُوسُ الشياطين } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه حقيقةٌ ، وأنَّ رؤوسَ الشياطينِ شجرٌ بعينِه بناحيةِ اليمن يُسَمَّى " الأسْتَن " وقد ذكره النابغةُ :
3812 تَحِيْدُ عن أَسْتَنٍ سُوْدٍ أسافِلُها ... مثلَ الإِماءِ الغوادي تَحْمِل الحُزَمَا
وهو شجرُ مُرٌّ منكَرُ الصورةِ ، سَمَّتْه العربُ بذلك تشبيهاً برؤوس الشياطين في القُبْح ثم صار أصلاً يُشَبَّه به . وقيل : الشياطين صِنْفٌ من الحَيَّاتِ ، ولهنَّ أعْراف . قال :
3813 عُجَيِّزٌ تَحْلِفُ حينَ أَحْلِفُ ... كمثلِ شيطان الحَماطِ أَعْرَفُ
وقيل : وهو شجرٌ يقال له الصَّوْمُ ، ومنه قولُ ساعدةَ بن جُؤَيَّة :
3814 مُوَكَّلٌ بشُدُوْفِ الصَّوْم يَرْقُبها ... من المَغَارِبِ مَخْطوفُ الحَشَا زَرِمُ
فعلى هذا قد خُوْطِبَ العربُ بما تَعْرِفُه ، وهذه الشجرةُ موجودةٌ فالكلامُ حقيقةٌ .
والثاني : أنَّه من بابِ التَّخْييل والتمثيل . وذلك أنَّ كلَّ ما يُسْتَنْكَرُ ويُسْتَقْبَحُ في الطِّباعِ والصورةِ يُشَبَّه بما يتخيَّله الوهمُ ، وإن لم يَرَه . والشياطين وإن كانوا موجودين غيرَ مَرْئِيَّين للعرب ، إلاَّ أنه خاطبهم بما أَلِفوه من الاستعارات التخييلية ، كقوله :
3815 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ومَسْنُوْنَةٌ زُرْقٌ كَأَنْيابِ أَغْوالِ
ولم يَرَ أنيابَها ، بل ليسَتْ موجودة البتةَ .
(1/4364)
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67)
قوله : { لَشَوْباً } : العامَّةُ على فتح الشين ، وهو مصدرٌ على أصلِه . وقيل : يُرادُ به اسمُ المفعولِ ، ويَدُلُّ له قراءةُ شيبانَ النحويِّ " لَشُوباً " بالضمِّ . قال الزجاج : " المفتوحُ مصدرٌ والمضومُ اسمٌ بمعنى المَشُوْب " كالنَّقض بمعنى المنقوض . وعَطَفَ ب " ثمَّ " لأحدِ معنيين : إمَّا لأنه يُؤَخِّر ما يظنُّونه يَرْوِيْهم مِنْ عَطَشهم زيادةً في عذابهم ، فلذلك أتى ب " ثم " المقتضيةِ للتراخي ، وإمَّا لأنَّ العادة تقضي بتراخي الشُّرْبِ عن الأكلِ ، فعَمِل على ذلك المِنْوالِ . وأمَّا مَلْءُ البطنِ فيَعْقُبُ الأكلَ ، فلذلك عَطَفَ على ما قبلَه بالفاءِ و " مِنْ حميمٍ " صفةٌ ل " شَوْباً " . والشَّوْبُ : الخَلْطُ والمَزْجُ ومنه : شابَ اللبنَ يَشُوبُه أي : خَلَطه ومَزَجَه .
(1/4365)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
قوله : { إِلاَّ عِبَادَ الله } : /استثناءٌ مِن المُنْذَرين استثناءً منقطعاً لأنه وعيدٌ ، وهم لم يَدْخُلوا في هذا الوعيدِ .
(1/4366)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)
قوله : { فَلَنِعْمَ } : جوابٌ لقسَمٍ مقدَّرٍ أي : فواللَّهِ . ومثلُه قوله :
3816 لَعَمْري لَنِعْمَ السَّيِّدانِ وُجِدْتُما ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والمخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ أي : نحن .
(1/4367)
سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79)
قوله : { سَلاَمٌ على نُوحٍ } : مبتدأٌ وخبرٌ ، وفيه أوجهٌ ، أحدها : أنَّه مُفَسِّرٌ ل " تَرَكْنا " . والثاني : أنه مُفَسِّرٌ لمفعولِه أي : تَرَكْنا عليه ثناءً وهو هذا الكلامُ . وقيل : ثَمَّ قولٌ مقدَّرٌ أي : فقُلْنا سلامٌ . وقيل : ضَمَّن معنى ترَكْنا معنى قلنا . وقيل : سَلَّط " تَرَكْنا " على ما بعده . قال الزمخشري : " وتركنا عليه في الآخِرين هذه الكلمةَ وهي : { سَلاَمٌ على نُوحٍ } ، بمعنى : يُسَلِّمون عليه تسليماً ، ويَدْعُوْن له ، وهو من الكلام المحكيِّ كقولك : قرأْتُ سورةَ أَنْزَلْناها " وهذا الذي قالهُ قولُ الكوفيين : جعلوا الجملةَ في محلِّ نصبٍ مفعولاً ب " تَرَكْنا " ، لا أنه ضُمِّنَ معنى القول بل هو على معناه بخلافِ الوجهِ قبلَه ، وهو أيضاً مِنْ أقوالِهم . وقرأ عبد الله " سَلاماً " وهو مفعولٌ به ب " تَرَكْنا " و " كذلك " نعتُ مصدرٍ ، أو حالٌ مِنْ ضميرِه كما تقدَّم تحريرُه غيرَ مرَّة .
(1/4368)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83)
قوله : { وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ } : الضميرُ فيه وجهان ، أظهرُهما : أنَّه يعودُ على نوح أي : مِمَّن كان يُشايِعُه أي : يتابِعُه على دينِه والتصلُّبِ في أمر الله . والثاني : أنه يعودُ على محمدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم . والشِّيْعَةُ قد تُطْلَق على المتقدمِ كقوله :
3817 وما ليَ إلاَّ آلَ أحمدَ شِيْعَةٌ ... وما لِيَ إلاَّ مَشْعَبَ الحقِّ مَشْعَبُ
فجعلَ آلَ أحمدَ - وهم متقدِّمون عليه وهو تابعٌ لهم - شِيعةً له قاله الفراء . والمعروفُ أن الشِّيْعَةَ تكون في المتأخِّر .
(1/4369)
إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)
قوله : { إِذْ جَآءَ } : في العاملِ فيه وجهان ، أحدهما : اذكُرْ مقدَّراً ، وهو المتعارَفُ . والثاني : قال الزمخشري : " ما في الشِّيْعَةِ مِنْ معنى المشايَعَة يعني : وإنَّ مِمَّنْ شايَعَه على دينِه وتقواه حين جاء رَبَّه " . قال الشيخ : " لا يجوز؛ لأنَّ فيه الفَصْلَ بين العاملِ والمعمولِ بأجنبي وهو " لإِبْراهيمَ " لأنه أجنبيٌّ مِنْ شِيْعته ، ومِنْ " إذ " . وزاد المنعَ أَنْ قَدَّره " مِمَّنْ شايَعَه حين جاء لإِبراهيم " [ لأنه قَدَّرَ مِمَّنْ شايَعَه ، فجعل العاملَ قبلَه صلةً لموصول وفَصَلَ بينه وبين " إذ " بأجنبي وهو لإِبراهيم ] وأيضاً فلامُ الابتداءِ تمنعُ أَنْ يعملَ ما قبلَها فيما بعدها . لو قلت : " إن ضارباً لقادمٌ علينا زيداً " تقديره : إنَّ ضارباً زيداً لقادِمٌ علينا لم يَجُزْ " .
(1/4370)
إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85)
قوله : { إِذْ قَالَ } : بدلٌ مِنْ " إذ " الأولى أو ظرفٌ ل " سليم " أي : سَلِمَ عليه في وقتِ قولِه كَيْتَ وكَيْتَ ، أو ظرفٌ ل " جاء " ذكره أبو البقاء ، وليس بواضحٍ . وتقدَّم نظيرُ ما بعده .
(1/4371)
أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)
قوله : { أَإِفْكاً } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مفعولٌ من أجله أي : أتُريدون آلهةً دونَ اللَّهِ إفكاً ، ف " آلهةً " مفعولٌ به و " دونَ " ظرفٌ ل " تُرِيْدون " ، وقُدِّمَتْ معمولاتُ الفعلِ اهتماماً بها ، وحَسَّنه كونُ العاملِ رأسَ فاصلةٍ ، وقَدَّمَ المفعولَ مِنْ أجله على المفعول به اهتماماً به لأنه مُكافِحٌ لهم بأنَّهم على إفْكٍ وباطِلٍ . وبهذا الوجهِ بدأ الزمخشري . الثاني : أَنْ يكونَ مفعولاً به ب " تُريدون " ، ويكون " آلهةً " بدلاً منه جعلها نفسَ الإِفكِ مبالغةً فأبْدَلها منه وفَسَّره بها ، ولم يَذْكر ابنُ عَطية غيرَه . الثالث : أنَّه حالٌ مِنْ فاعل " تُريدون " أي : أتُريدون آلهةً آفِكين أو ذوي إفْك . وإليه نحا الزمخشري . قال الشيخ : " وجَعْلُ المصدرِ حالاً لا يَطَّرِدُ إلاَّ مع " أمَّا " نحو : أمَّا عِلْماً فعالِمٌ " .
(1/4372)
فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91)
قوله : { فَرَاغَ } : أي : مال في خُفْيَةٍ . وأصلُه مِنْ رَوَغان الثعلبِ ، وهو تَرَدُّدُه وعَدَمُ ثبوتِه بمكانٍ .
(1/4373)
فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)
و " ضَرْباً " مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أي : فراغ عليهم ضارِباً أو مصدرٌ لفعلٍ ، ذلك الفعلُ/ حالٌ تقديرُه : فراغَ يَضْرِب ضَرْباً ، أو ضَمَّن " راغَ " معنى يَضْرِبُ ، وهو بعيدٌ . و " باليمينِ " متعلِّقٌ ب " ضَرْباً " إن لم نجعَلْه مؤكِّداً وإلاَّ فبعامِلِه . واليمينُ : يجوزُ أن يُرادَ بها إحدى اليدين وهو الظاهرُ ، وأنُ يُرادَ بها القوةُ ، فالباءُ على هذا للحالِ أي : مُلْتبساً بالقوةِ ، وأَنْ يُراد بها الحَلْفُ وفاءً بقولِه : { وتالله لأَكِيدَنَّ } [ الأنبياء : 57 ] . والباءُ على هذا للسببِ . وعَدَّى " راغ " الثاني ب " على " لَمَّا كان مع الضَرْبِ المُسْتَوْلي عليهم مِنْ فَوقِهم إلى أسفلِهم بخلافِ الأولِ فإنه مع توبيخٍ لهم ، وأتى بضميرِ العقلاء في قولِه " عليهم " جَرْياً على ظنِّ عَبَدَتها أنها كالعقلاءِ .
(1/4374)
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94)
قوله : { يَزِفُّونَ } : حالٌ مِنْ فاعلِ " أَقْبَلوا " ، و " إليه " يجوزُ تَعَلُّقُه بما قبلَه أو بما بعده . وقرأ حمزةُ " يُزِفُّون " بضم الياء مِنْ أَزَفَّ وله معنيان ، أحدهما : أنَّه مِنْ أَزَفَّ يُزِفُّ أي : دخل في الزَّفيفِ وهو الإِسراعُ ، أو زِفافِ العَروسِ وهو المَشْيُ على هيئتِه؛ لأنَّ القومَ كانوا في طمأنينةٍ مِنْ أَمْرِهم ، كذا قيل هذا الثاني وليس بشيءٍ؛ إذ المعنى : أنهم لَمَّا سمعوا بذلك بادروا مُسْرِعين ، فالهمزة على هذا ليسَتْ للتعديةِ . والثاني : أنه مِنْ أَزَفَّ بعيرَه أي : حَمَله على الزَّفِيْفِ وهو الإِسراعُ أو على الزِّفافِ ، وقد تقدَّم ما فيه . وباقي السبعةِ بفتحِ الياءِ مِنْ زَفَّ الظليمُ يَزِفُّ أي : عَدا بسُرْعة . وأصلُ الزَّفيفِ للنَّعام .
وقرأ مجاهد وعبد الله بن يزيد والضحاك وابن أبي عبلة " يَزِفُون " مِنْ وَزَفَ يَزِفُ أي : أَسْرَعَ . إلاَّ أنَّ الكسائيَّ والفراء قالا : لا نعرفُها بمعنى زَفَّ ، وقد عَرَفَها غيرُهما . قال مجاهد - وهو بعضُ مَنْ قرأ بها - : " الوزيف : النَّسَلان " .
وقُرِئ " يُزَفُّون " مبنيَّاً للمفعول و " يَزْفُوْن " ك يَرْمُون مِنْ زَفاه بمعنى حَداه ، كأنَّ بعضَهم يَزْفو بعضاً لتسارُعِهم إليه . وبين قولِه : " فأَقْبَلُوا " وقولِه : " فراغ عليهم " جُمَلٌ محذوفةٌ يَدُلُّ عليها الفَحْوَى أي : فبلغَهم الخبرُ فرَجَعوا مِنْ عيدِهم ، ونحو هذا .
(1/4375)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96)
قوله : { وَمَا تَعْمَلُونَ } : في " ما " هذه أربعةُ أوجه ، أجودُها : أنها بمعنى الذي أي : وخَلَق الذي تَصْنَعونه ، فالعملُ هنا التصويرُ والنحتُ نحو : عَمِل الصائغُ السِّوارَ أي : صاغه . ويُرَجِّح كونَها بمعنى الذي تَقَدُّمُ ما قبلَها فإنَّها بمعنى الذي أي : أتعبُدُوْنَ الذي تَنْحِتُون ، واللَّهُ خلقكم وخَلَقَ ذلك الذي تَعْملونه بالنَّحْتِ .
والثاني : أنها مصدريةٌ أي : خَلَقَكم وأعمالَكم . وجعلها الأشعريَّةُ دليلاً على خَلْقِ أفعال العباد لله تعالى ، وهو الحقُّ . إلاَّ أَنَّ دليلَ ذلك مِنْ هنا غيرُ قويّ لِما تقدَّم مِنْ ظهورِ كَوْنِها بمعنى الذي . وقال مكي : " يجبُ أَنْ تكونَ " ما " والفعلُ مصدراً جيْءَ به لِيُفيدَ أنَّ اللَّهَ خالقُ الأشياءِ كلِّها " . وقال أيضاً : " وهذا أَلْيَقُ لقولِه تعالى : { مِن شَرِّ مَا خَلَقَ } [ الفلق : 2 ] أجمع القراءُ على الإِضافةِ ، فدَلَّ على أنه خالقُ الشَّرِّ . وقد فارق عمرو بن عبيد الناسَ فقرأ " مِنْ شرٍّ " بالتنوين ليُثْبِتَ مع الله تعالى خالقاً " . وقد استفرضَ الزمخشري هذه المقالةَ هنا بكونِها مصدريةً ، وشَنَّع على قائلِها .
والثالث : أنها استفهاميةٌ ، وهو استفهامُ توبيخٍ وتحقيرٍ لشأنِها أي : وأيَّ شيءٍ تَعْملونَ؟ والرابع : أنَّها نافيةٌ أي : إنَّ العملَ في الحقيقة ليس لكم فأنتم لا تعملون شيئاً . والجملةُ مِنْ قولِه : " والله خَلَقكم " حالٌ ومعناها حينئذٍ : أتعبدون الأصنام على حالةٍ تُنافي ذلك ، وهي أنَّ اللَّهَ خالِقُكم وخالِقُهم جميعاً . ويجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً .
(1/4376)
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
قوله : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ } : " معه " متعلِّقٌ بمحذوفٍ على سبيل البيان كأنَّ قائلاً قال : مع مَنْ بلغ السَّعْيَ؟ فقيل : مع أبيه . ولا يجوزُ تعلُّقُه ب " بَلَغَ " لأنَّه يَقْتضي بلوغَهما معاً حَدَّ السَّعْيِ . ولا يجوز تعلُّقُه بالسَّعْيِ؛ لأنَّ صلةَ المصدرِ لا تتقدَّمُ عليه فتعيَّن ما تقدَّم . قال معناه الزمخشريُّ . ومَنْ يَتَّسِعْ في الظرفِ يُجَوِّزْ تَعَلُّقَه بالسَّعْي .
قوله : " ماذا ترى " يجوزُ أَنْ تكونَ " ماذا " مركبةً مغلَّباً فيها الاستفهامُ فتكونَ منصوبةً ب " تَرَى " ، وهي وما بعدها في محلِّ نصب ب " انْظُر " لأنها مُعَلِّقةٌ له ، وأنْ تكونَ " ما " استفهاميةً ، و " ذا " موصولةً ، فتكون مبتدأً وخبراً ، والجملةُ معلِّقَةٌ أيضاً ، وأَنْ تكونَ " ماذا " بمعنى الذي فتكونَ معمولاً ل " انْظُرْ " . وقرأ الأخَوان " تُري " بالضم والكسر . والمفعولان محذوفان ، أي : تُريني إياه مِنْ صبرك واحتمالك .
وباقي السبعة/ " تَرَى " بفتحتين مِن الرأي . وقرأ الأعمش والضحَّاك " تُرَى " بالضمِّ والفتح بمعنى : ما يُخَيَّلُ إليك ويَسْنَحُ بخاطرك .
وقوله : " ما تُؤْمَرُ " يجوزُ أَنْ تكونَ " ما " بمعنى الذي ، والعائدُ مقدرٌ أي : تُؤْمَرُه ، والأصلُ : تُؤْمَرُ به ، ولكنَّ حَذْفَ الجارِّ مُطَّرِدٌ ، فلم يُحْذَفْ العائدُ إلاَّ وهو منصوبُ المحلِّ ، فليس حَذْفُه هنا كحذفِه في قولك : " جاء الذي مَرَرْتُ " . وأَنْ تكونَ مصدريةً . قال الزمخشري : " أو أَمْرَك ، على إضافةِ المصدرِ للمفعول وتسميةِ المأمورِ به أمراً " يعني بقولِه المفعول أي : الذي لم يُسَمَّ فاعلُه ، إلاَّ أنَّ في تقدير المصدرِ بفعل مبنيّ للمفعولِ خلافاً مَشْهوراً .
(1/4377)
فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103)
قوله : { فَلَمَّا أَسْلَمَا } : في جوابِها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها - وهو الظاهرُ - أنَّه محذوفٌ ، أي : نادَتْه الملائكةُ ، أو ظهرَ صَبْرُهما أو أَجْزَلْنا لهما أَجْرَهما . وقدَّره بعضُهم : بعد الرؤيا أي : كان ما كان مِمَّا يَنْطِقُ به الحالُ والوصفُ ممَّا لا يُدْرَكُ كُنْهُه . ونقل ابن عطية أنَّ التقديرَ : فلمَّا أَسْلَما أَسْلَما وَتلَّه ، قال : كقوله :
3818 فلمَّا أَجَزْنا ساحةً الحَيِّ . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : فلمَّا أَجَزْنا أَجَزْنا وانتحى ، ويُعْزَى هذا لسبيويه وشيخِه الخليلِ . وفيه نظرٌ : من حيثُ اتِّحادُ الفعلَيْنِ الجارِيَيْنِ مَجْرى الشرط والجواب . إلاَّ أَنْ يُقال : جَعَلَ التغايرُ في الآية بالعطفِ على الفعل ، وفي البيت يعمل الثاني في " ساحة " وبالعطف عليه أيضاً . والظاهر أنَّ مثلَ هذا لا يكفي في التغاير .
الثاني : أنه " وتَلَّه للجبين " والواوُ زائدةٌ وهو قولُ الكوفيين والأخفشِ . والثالث : أنه " وناديناه " والواوُ زائدةٌ أيضاً .
وقرأ علي وعبد الله وابن عباس " سَلَّما " . وقُرئ " اسْتَسْلَما " .
و " تَلَّه " أي : صَرَعَه وأسقطه على شِقِّه . وقيل : هو الرميُ بقوةٍ ، وأصله : مِنْ رَمَى به على التلِّ وهو المكانُ المرتفع ، أو من التليل وهو العنُقُ أي : رماه على عُنُقِه ، ثم قيل لكل إسقاطٍ ، وإن لم يكنْ على تَلّ ولا على عُنُق . والمِتَلُّ : الرُّمْحُ الذي يُتَلُّ به . والجبينُ : ما اكْتَنَفَ الجبهةَ مِنْ هنا ، ومِنْ هنا وشَذَّ جمعُه على أَجْبُن . وقياسُه في القلَّةِ أَجْبِنَة كأَرْغِفَة ، وفي الكثرة : جُبُن وجُبْنان كرَغيف ورُغْفان ورُغُفُ .
(1/4378)
وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)
قوله : { نَبِيّاً مِّنَ الصالحين } : نصبٌ على الحالِ ، وهي حال مقدرة . قال الشيخ : " إن كان الذَّبيحُ إسحاقَ فيظهر كونُها حالاً مقدرةً ، وإنْ كان إسماعيلُ هو الذبيحَ ، وكانت هذه البشارةُ بِشارةً بولادة إسحاقَ ، فقد جَعَلَ الزمخشريُّ ذلك مَحَلَّ سؤالٍ قال : " فإنْ قلتَ : فرقٌ بين هذا وبين قولِه : { فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] : وذلك أنَّ المَدْخولَ موجودٌ مع وجودِ الدخول ، والخلودُ غيرُ موجودٍ معهما فقدَّرْت : مُقَدِّرين الخلودَ فكان مستقيماً ، وليس كذلك المبشَّرُ به ، فإنه معدومٌ وقتَ وجودِ البشارةِ ، وعَدَمُ المبشَّرُ به أوجَبَ عدمَ حالِه؛ لأن الحالَ حِلْيَةٌ لا تقومُ إلاَّ بالمُحَلَّى ، وهذا المبشَّرُ به الذي هو إسحاقُ حين وُجد لم تُوْجَدْ النبوَّةُ أيضاً بوجودِه بل تراخَتْ عنه مدةً طويلةً ، فكيف يُجْعل " نبيَّاً " حالاً مقدرةً ، والحالُ صفةٌ للفاعلِ والمفعولِ عند وجودِ الفعل منه أو به؟ فالخلودُ وإنْ لم يكنْ صفتَهم عند دخولِ الجنة فتَقدِّرُها صفتَهم؛ لأنَّ المعنى : مقدِّرين الخلودَ وليس كذلك النبوةُ ، فإنَّه لا سبيلَ إلى أَنْ تكونَ موجودةً أو مقدرةً وقتَ وجودِ البِشارة بإسحاقَ لعدم إسحاق؟ قلت : هذا سؤالٌ دقيقٌ المَسْلَكِ . والذي يَحِلُّ الإِشكالَ : أنه لا بُدَّ مِنْ تقديرِ مُضافٍ محذوف وذلك قولُه : وبَشَّرْناه بوجودِ إسحاقَ نبياً أي : بأَنْ يُوْجِد مَقْدرةَ نبوَّتِه ، فالعاملُ في الحال الوجودُ/ لا فعلُ البشارة وبذلك يَرْجِعُ نظيرَ قولِه تعالى : { فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] . انتهى . وهو كلامٌ حَسَنٌ .
قوله : " من الصالحين " يجوز أَنْ يكونَ صفةً ل " نَبِيَّاً " ، وأَنْ يكونَ حالاً من الضمير في " نبيَّاً " فتكونَ حالاً متداخلةً . ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً ثانية . قال الزمخشري : " وُرُوْدُها على سبيلِ الثناءِ والتقريظ؛ لأنَّ كلّ نبيّ لا بُدَّ أَنْ يكونَ من الصالحين " .
(1/4379)
وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116)
قوله : { وَنَصَرْنَاهُمْ } : الضميرُ عائدٌ على موسى وهارونَ وقومِهما . وقيل : عائدٌ على الاثنين بلفظِ الجمع تعظيماً كقولِه :
3819 فإنْ شِئْتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكمُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
{ ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ } [ الطلاق : 1 ] .
قوله : " فكانوا هم " يجوز في " هم " أَنْ يكون تأكيداً ، وأن يكونَ بدلاً ، وأَنْ يكونَ فَصْلاً . وهو الأظهرُ .
(1/4380)
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123)
قوله : { وَإِنَّ إِلْيَاسَ } : العامَّةُ على همزةٍ مكسورةٍ ، همزةِ قطع . وابنُ ذكوان بوَصْلِها ، ولم يَنْقُلْها عنه الشيخُ بل نقلها عن جماعةٍ غيرِه . ووجهُ القراءتَيْن أنه اسمٌ أعجميٌّ تلاعَبَتْ به العربُ فقطعَتْ همزتَه تارةً ، ووَصَلَتْها أخرى وقالوا فيه : إلْياسين كجِبْرائين . وقيل : تحتمل قراءةُ الوصلِ أَنْ يكون اسمُه ياسين ثم دَخَلَتْ عليه أل المعرِّفةُ ، كما دَخَلَتْ على ليَسَع وقد تقدَّم . وإلياس هذا قيل : هو ابنُ إلْياسين المذكورِ بعدُ ، مِنْ وَلَدِ هارونَ أخي موسى . وقيل : بل إلياس إدريسُ . ويَدُلُّ له قراءةُ عبد الله والأعمش وابن وثاب " وإنَّ إدْريس " . وقُرِئ " إدْراس " كإبْرَاهيمَ . وإبراهام . وفي مصحف أُبَيّ وقراءتِه : قوله : " وإن إيْليسَ " بهمزة مكسورة ثم ياءٍ ساكنةٍ بنقطتين مِنْ تحتُ ثم لامٍ مكسورةٍ ، ثم ياءٍ بنقطتين مِنْ تحتُ ساكنةً ، ثم سينٍ مفتوحةٍ .
(1/4381)
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124)
قوله : { إِذْ قَالَ } : ظرفٌ لقولِه " لمن المرسلين " .
(1/4382)
أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125)
قوله : { بَعْلاً } : القرَّاءُ على تنوينِه منصوباً ، وهو الرَّبُّ بلغة اليمن . سمع ابنُ عباس رجلاً منهم يَنْشُدُ ضالةً فقال آخر : أنا بَعْلُها فقال : اللَّهُ أكبرُ ، وتلا الآيةَ . وقيل : هو عَلَمٌ لصنم بعينه ، وله قصةٌ في التفسير . وقيل : هو عَلَمٌ لامرأةٍ بعينها أَتَتْهم بضلال فاتَّبعوها ، كذا جاء في التفسير . وتأيَّد صاحبُ هذه المقالة بقراءةِ مَنْ قرأ " بَعْلاءَ " بزنة حَمْراء .
قوله : " وتَذَرُوْنَ " يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً على إضمار مبتدأ ، وأَنْ يكونَ عطفاً على " تَدْعُون " فيكونَ داخلاً في حَيِّز الإِنكار .
(1/4383)
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126)
قوله : { الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ } : قرأ الأخَوان وحفص بنصْبِ الثلاثةِ مِنْ ثلاثةِ أوجهٍ : النصبِ على المدحِ أو البدلِ أو البيانِ إنْ قلنا : إنَّ إضافةَ أَفْعَلَ إضافةٌ مَحْضَةٌ . والباقون بالرفع : إمَّا على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هو اللَّهُ ، أو على أنَّ الجلالةَ مبتدأٌ وما بعدَه الخبرُ . رُوِيَ عن حمزةَ أنَّه كان إذا وَصَلَ نَصَبَ ، وإذا وَقَفَ رَفَع . وهو حسنٌ جداً ، وفيه جَمْعٌ بين الرِّوايَتيْن .
(1/4384)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)
قوله : { إِلاَّ عِبَادَ الله } : استثناءٌ متصلٌ مِنْ فاعلِ " فكذَّبوه " وفيه دلالةٌ على أنَّ في قومِه مَنْ لم يُكَذِّبْه ، فلذلك اسْتُثْنُوا . ولا يجوزُ أَنْ يكونوا مُسْتَثْنَيْن مِنْ ضمير " لَمُحْضَرون " لأنه يَلْزَمُ أَنْ يكونوا مَنْدَرجين فيمَنْ كَذَّبَ ، لكنهم لم يُحْضَروا لكونِهم عبادَ اللَّهِ المُخْلِصين . وهو بَيِّنُ الفسادِ . لا يُقال : هو مستثنى منه استثناءً منقطعاً؛ لأنه يَصيرُ المعنى : لكنَّ عبادَ اللَّهِ المخلصين من غير هؤلاء لم يُحْضَروا . ولا حاجةَ إلى هذا بوجهٍ ، إذ به يَفْسُدُ نَظْمُ الكلامِ .
(1/4385)
سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130)
قوله : { على إِلْ يَاسِينَ } : قرأ نافعٌ وابن عامر { على آلِ يَاسِينَ } بإضافةِ " آل " بمعنى أهل إلى " ياسينَ " . والباقون بكسرِ الهمزةِ وسكونِ اللامِ موصولةً ب " ياسين " كأنه جَمَعَ " إلياس " جَمْعَ سلامةٍ . فأمَّا الأُوْلى : فإنَّه أراد بالآل إلياسَ وَلَدَ ياسين كما تقدَّم وأصحابَه . وقيل : المرادُ بياسين هذا إلياسُ المتقدمُ ، فيكونُ له اسمان . وآلُه : رَهْطُه وقومُه المؤمنون . وقيل : المرادُ بياسينَ محمدُ بن عبد الله صلَّى الله عليه وسلَّم .
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فقيل : هي جمعُ إلياس المتقدمِ . وجُمِعَ باعتبارِ أصحابِه كالمَهالبةِ والأَشاعثةِ في المُهَلَّبِ وبنيه ، والأَشعثِ وقومِه ، وهو في الأصلِ جمعُ المنسوبين إلى إلياس ، والأصلُ إلياسيّ كأشعَريّ . ثم اسْتُثْقِل تضعيفُهما فحُذِفَتْ إحدى ياءَي النسَب/ فلمَّا جُمِعَ سَلامةٍ التقى ساكنان : إحدى الياءَيْن وياءُ الجمعِ ، فحُذِفَتْ أولاهما لالتقاءِ السَّاكنين ، فصار إلياسين كما ترى . ومثلُه : الأَشْعَرُون والخُبَيْبُون . قال :
3820 قَدْنِيَ مِنْ نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدِيْ ... وقد تقدَّم طَرَفٌ من هذا آخر الشعراء عند " الأَعْجَمِيْن " . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قد رَدَّ هذا : بأنَّه لو كان على ما ذُكِر لَوَجَب تعريفُه بأل فكان يُقال : على الإِلياسين . قلت : لأنه متى جُمِعَ العَلَمُ جَمْعَ سَلامةٍ أو ثُنِّي لَزِمَتْه الألفُ واللامُ؛ لأنه تَزُوْلُ عَلَميَّتُه فيقال : الزيدان ، الزيدون ، الزينبات ولا يُلْتَفَتُ إلى قولهم : جُمادَيان وعَمايتان عَلَمَيْ شهرَيْن وجبلَيْن لندورِهما .
وقرأ الحسن وأبو رجاء " على إلياسينَ " بوصلِ الهمزةِ على أنه جَمْعُ إلياس وقومِه المنسوبين إليه بالطريق المذكورة . وهذه واضحةٌ لوجودِ أل المعرفةِ فيه كالزيدِيْن . وقرأ عبد الله " على إدْراسين " لأنَّه قرأ في الأول " وإنَّ إدْريَس " . وقرأ أُبَيٌّ " على إيليسِيْنَ " لأنه قرأ في الأول " وإنَّ إيليسَ " كما حَرَّرْتُه عنه . وهاتان تَدُلاَّن على أن إلياسينَ جَمْعُ إلياس .
(1/4386)
وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)
قوله : { مُّصْبِحِينَ } : حالٌ . وهو مِنْ أَصْبح التامَّة بمعنى داخلين في الصباح . ومنه " إذا سَمِعْتَ بسُرى القَيْنِ فاعلَمْ أنه مُصْبِح " أي : مُقيم في الصباح . وقد تقدَّم ذلك في سورة الروم .
(1/4387)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)
قوله : { وباليل } : عطفٌ على الحالِ قبلها أي : ومُلْتبسِيْنَ بالليل .
(1/4388)
إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140)
قوله : { إِذْ أَبَقَ } : ظرفٌ للمرسَلين ، أي : هو من المرسلين حتى في هذه الحالة . وأَبَقَ أي : هَرَبَ . يُقال : أَبَقَ العبدُ يَأْبِقُ إباقا فهو آبِقٌ ، والجمع أُبَّاق كضُرَّابِ . وفيه لغةٌ ثانية : أَبِقَ بالكسر يَأْبَق بالفتح . ويَأْبِقُ الرجل يُشَبَّه به في الاستتار . وقولُ الشاعر :
3821 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قد أُحْكِمَتْ حَكَماتِ القِدِّ والأَبَقا
قيل : هو القِنَّبُ .
(1/4389)
فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)
قوله : { فَسَاهَمَ } : أي : فغالَبَهم في المساهمة ، وهي الاقتراعُ . وأصلُه أَنْ يَخْرُجَ السَّهْمُ على مَنْ غلب .
(1/4390)
فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)
قوله : { وَهُوَ مُلِيمٌ } : حالٌ . والمليمُ : الذي أتى بما يُلامُ عليه . قال :
3822 وكم مِنْ مُليْمٍ لم يُصَبْ بمَلامَةٍ ... ومُتَّبَعٍ بالذَّنْبِ ليس له ذَنْبٌ
يقال : ألام فلانٌ أي : فَعَلَ ما يُلامُ عليه . وقُرِئ " مَليم " بفتح الميم مِنْ لامَ يَلُوْمُ ، وهي شاذَّةٌ جداً إذ كان قياسها " مَلُوْم " لأنَّها مِنْ ذوات الواوِ كمَقُول ومَصُون . قيل : ولكنْ أُخِذَتْ من لِيْم على كذا مبنياً للمفعول . ومثلُه في ذلك : شُبْتُ الشيءَ فهو مَشِيْب ، ودُعِيَ فهو مَدْعِيّ ، والقياسُ : مَشُوْب ومَدْعُوّ ، لأنَّهما مِنْ يَشُوْبُ ويَدْعُو .
(1/4391)
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)
قوله : { فِي بَطْنِهِ } : الظاهرُ أنه متعلِّقٌ ب " لَبِثَ " وقيل : حالٌ أي : مستقراً .
(1/4392)
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145)
قوله : { بالعرآء } : أي : في العَراء نحو : زيد بمكة . والعَراءُ : الأرضُ الواسعةُ التي لا نباتَ بها ولا مَعْلَمَ ، اشتقاقاً من العُري وهو عَدَمُ السُّتْرَةِ ، سُمِّيَتِ الأرضُ الجَرْداء لعدم اسْتِتارها بشيء . والعُرا بالقصر : الناحيةُ . ومنه اعتراه أي : قَصَدَ عُراه . وأما الممدودُ فهو - كما تقدَّم - الأرضُ الفَيْحاء . قال :
3823 ورَفَعْتُ رِجْلاً لا أخافُ عِثارَها ... ونَبَذْتُ بالمَتْن العَراء ثيابي
(1/4393)
وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146)
قوله : { مِّن يَقْطِينٍ } : هو يَفْعيل مِنْ قَطَنَ بالمكانِ إذا أقام فيه لا يَبْرَح . قيل : واليَقْطِيْنُ : كلُّ ما لم يكُنْ له ساقٌ مِنْ عُوْدٍ كالقِثَّاء والقَرْعِ والبِطِّيخ . وفي قوله : " شجرةً " ما يَرُدُّ قولَ بعضِهم إن الشجرةَ في كلامهم ما كان لها ساقٌ مِنْ عَوْدٍ ، بل الصحيحُ أنها أَعَمُّ . ولذلك بُيِّنَتْ بقولِه : " مِنْ يَقْطِين " . وأمَّا قولُه : { والنجم والشجر } [ الرحمن : 6 ] فلا دليلَ فيه لأنه استعمالُ اللفظِ العامِّ في أحدِ مَدْلولاته . وقيل : بل أَنْبَتَ اللَّهُ اليَقْطِيْنَ الخاصَّ على ساقٍ معجزةً له فجاء على أصلِه/ ولو بَنَيْتَ من الوَعْد مثلَ : يَقْطين لقلت : يَوْعِيْد لا يُقال : تُحذف الواوُ لوقوعِها بين ياءٍ وكسرٍ ك " يَعِدُ " مضارعَ وَعَد؛ لأنَّ شَرْطَ تلك الياءِ أَنْ تكونَ للمضارعةِ . وهذه مِمَّا يَمْتَحِنُ بها أهلُ التصريفِ بعضَهم بعضاً .
(1/4394)
وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)
قوله : { أَوْ يَزِيدُونَ } : في " أو " هذه سبعةُ أوجهٍ قد تقدَّمَتْ بتحقيقِها ودلائلها في أولِ البقرةِ عند قولِه { أَوْ كَصَيِّبٍ } [ الآية : 19 ] فعليكَ بالالتفاتِ إليهما ثَمَّةَ : فالشَّكُّ بالنسبةِ إلى المخاطبين ، أي : إن الرائي يَشُكُّ عند رؤيتِهم ، والإِبهامُ بالنسبةِ إلى أن الله تعالى أَبْهَمَ أمْرَهم ، والإِباحةُ أي : إن الناظرَ إليهم يُباح له أن يَحْزِرَهم بهذا القَدْر ، أو بهذا القَدْرِ ، وكذلك التخييرُ أي : هو مُخَيَّرٌ بين أَنْ يَحْزِرَهم كذا أو كذا ، والإِضرابُ ومعنى الواوِ واضحان .
(1/4395)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149)
قوله : { فاستفتهم } : قال الزمخشريُّ : " معطوفٌ على مثلِه في أولِ السورة ، وإنْ تباعَدَتْ " . قال الشيخ : " وإذا كانوا قد عَدُّوا الفصلَ بجملةٍ نحو : " كُلْ لحماً واضْرِب زيداً وخبزاً " من أقبح التركيبِ ، فكيف بجملٍ كثيرةٍ وقِصَصٍ متباينةٍ؟ " قلت : ولقائلٍ أن يقول : إنَّ الفَصْلَ - وإنْ كَثُرَ بين الجملِ المتعاطفةِ - مغتفرٌ . وأمَّا المثالُ الذي ذكره فمِنْ قبيلِ المفرداتِ . ألا ترى كيف عطف " خبزاً " على لَحْماً؟
(1/4396)
أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150)
قوله : { وَهُمْ شَاهِدُونَ } : جملةٌ حاليةٌ من الملائكة . والرابطُ : الواوُ ، وهي هنا واجبةٌ لَعدم رابِطٍ غيرِها .
(1/4397)
وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)
والعامَّةُ على " وَلَدَ اللَّهُ " فعلاً ماضياً مسنداً للجلالةِ أي : أتى بالولد ، تعالى اللَّهُ عَمَّا يقولون عَلُوَّاً كبيراً . وقُرِئ " وَلَدُ اللَّهِ " بإضافة الولد إليه أي : يقولون : الملائكةُ وَلَدُه . فحُذِف المبتدأُ للعِلْمِ به ، وأُبْقِيَ خبرُه . والوَلَدُ : فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبَض؛ فلذلك يقع خبراً عن المفردِ والمثنى والمجموع تذكيراً وتأنيثاً . تقول : هذي وَلَدي ، وهم وَلَدي .
(1/4398)
أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)
قوله : { أَصْطَفَى } : العامَّةُ على فتحِ الهمزة على أنها همزةُ استفهامٍ بمعنى الإِنكارِ والتقريعِ ، وقد حُذِفَ معها همزةُ الوَصْلِ استغناءً عنها .
وقرأ نافعٌ في روايةٍ وأبو جعفر وشيبةُ والأعمش بهمزةِ وَصْلٍ تَثْبُتُ ابتداءً وتَسْقُطُ دَرْجاً . وفيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه على نيةِ الاستفهامِ ، وإنما حُذِفَ للعِلْمِ به . ومنه قولُ عُمَرَ بن أبي ربيعة :
3824 ثم قالُوا : تُحِبُّها قلتُ بَهْراً ... عددَ الرَّمْلِ والحَصَى والترابِ
أي : أتُحبها . والثاني : أن هذه الجملةَ بَدَلٌ من الجملة المحكيَّةِ بالقول ، وهي " وَلَدَ اللَّهُ " أي : يقولون كذا ، ويقولون : اصطفى هذا الجنسَ على هذا الجنس . قال الزمخشري : " وقد قرأ بها حمزةُ والأعمشُ . وهذه القراءة وإنْ كان هذا مَحْمَلَها فهي ضعيفةٌ . والذي أَضْعَفَها أنَّ الإِنكارَ قد اكتنف هذه الجملةَ مِنْ جانَبيْها ، وذلك قولُه : " وإنهم لَكاذبون " ، { مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } فمَنْ جَعَلَها للإَثباتِ فقد أَوْقَعها دخِيلةً بين نَسِيبَيْنِ " . قال الشيخ : " وليسَتْ دخيلةً بين نَسِيْبَيْن؛ لأنَّ لها مناسَبةً ظاهرةً مع قولِهم : " وَلَدَ اللَّهُ " . وأمَّا قولُه : " وإنهم لَكاذبون " فهي جملةُ اعتراضٍ بين مقالتَيْ الكفرة جاءَتْ للتنديدِ والتأكيدِ في كَوْنِ مقالتِهم تلك هي مِنْ إفْكِهم " .
ونَقَلَ أبو البقاء أنه قُرِئ " آصْطفى " بالمدِّ . قال : " وهو بعيدٌ جداً " .
(1/4399)
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154)
قوله : { مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } : جملتان استفهاميتان ليس لإِحداهما تَعَلُّقٌ بالأُخْرى من حيث الإِعرابُ ، استفهم أولاً عَمَّا استقرَّ لهم وثَبَتَ ، استفهامَ إنكار ، وثانياً استفهامَ تعجيب مِنْ حُكْمِهِم بهذا الحكم الجائرِ ، وهو أنهم نَسَبوا أَخَسَّ الجنسَيْن وما يَتَطَّيرون منه ، ويَتَوارى أحدُهم مِنْ قومِه عند بِشارَتِه به ، إلى ربِّهم ، وأحسنَ الجنسيْنِ إليهم .
(1/4400)
إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
قوله : { إِلاَّ عِبَادَ الله } : مُسْتثنى منقطعٌ . والمستثنى منه : إمَّا فاعلُ " جَعَلُوا " أي : جعلوا بينه وبين الجِنَّةِ نَسَباً إلاَّ عبادَ الله . الثاني : أنه فاعلُ " يَصِفُوْن " أي : لكن عباد/ الله يَصْفُونه بما يَليق به تعالى . الثالث : أنه ضمير " مُحْضَرون " أي : لكنَّ عبادَ الله ناجُوْن . وعلى هذا فتكون جملةُ التسبيحِ معترضةً . وظاهرُ كلامِ أبي البقاء أنه يجوزُ أَنْ يكونَ استثناءً متصلاً لأنه قال : " مستثنى مِنْ " جَعَلُوا " أو " مُحْضَرون " . ويجوزُ أَنْ يكونَ منفصلاً " فظاهرُ هذه العبارةِ أنَّ الوجهين الأوَّلين هو فيهما متصلٌ لا منفصِلٌ . وليس ببعيدٍ كأنه قيل : وجَعَل الناسَ . ثم استثنى منهم هؤلاء وكلَّ مَنْ لم يجعل بين الله تعالى وبينَ الجِنَّةِ نَسَباً فهو عند الله مُخْلصٌ من الشِّرْك .
(1/4401)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161)
قوله : { وَمَا تَعْبُدُونَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه معطوفٌ على اسم " إنَّ " . و " ما " نافيةٌ ، و " أنتم " اسمُها أو مبتدأٌ ، و " أنتم " فيه تغليبُ المخاطبِ على الغائبِ؛ إذ الأصلُ : فإنكمُ ومعبودَكم ما أنتم وهو ، فغُلِّب الخطابُ . و " عليه " متعلقٌ بقوله : " بفاتِنين " . والضميرُ عائدٌ على " ما تعبدون " بتقديرِ حَذْفِ مضافٍ وضُمِّنَ فاتنين معنى حاملين بالفتنة والتقدير : فإنكم وآلهتكم ، ما أنتم وهم حامِلين على عبادته إلاَّ الذين سَبَقَ في عِلْمه أنَّه من أهل صَلْيِ الجحيم . فَمَنْ مفعولٌ ب " فاتِنين " والاستثناءُ مفرغٌ . والثاني : أنه مفعولٌ معه ، وعلى هذا فيَحْسُنُ السكوتُ على " تعبدون " كما يَحْسُن في قولك : " إنَّ كلَّ رجلٍ وضَيْعَتَه " ، وحكى الكسائيُّ أن كلَّ ثوبٍ وثمنَه والمعنى : أنكم مع معبودِيْكم مُقْتَرنون . كما يُقَدَّر ذلك في " كلُ رجلٍ وضَيْعَتُه مقترنان " . وقولُه : { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } مستأنفٌ أي : ما أنتم على ما تعبدون بفاتنين ، أو بحاملين على الفتنة ، إلاَّ مَنْ هو صالٍ منكم . قالها الزمخشريُّ . إلاَّ أنَّ أبا البقاء ضَعَّفَ الثاني : وكذا الشيخُ تابعاً له في تضعيفِه بعَدَم تَبَادُرِهِ إلى الفهم .
قلت : الظاهرُ أنه معطوفٌ ، واستئنافُ { مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } غيرُ واضحٍ ، والحقُّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ . وجَوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ يعودَ الضمير في " عليه " على اللَّهِ تعالى قال : " فإنْ قلتَ : كيف يَفْتِنُونهم على الله؟ قلت : يُفْسِدونهم عليه بإغوائهم ، مِنْ قولِك : فتن فلانٌ على فلانٍ امرأتَه ، كما تقول : أَفْسَدها عليه وخَيَّبها عليه " .
(1/4402)
إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163)
و " مَنْ هو " يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً أو موصوفةً .
وقرأ العامَّةُ " صالِ الجحيم " بكسرِ اللامِ؛ لأنه منقوصٌ مضافٌ حُذِفَتْ لامُه لالتقاءِ الساكنين ، وحُمِلَ على لفظ " مَنْ " فأَفْرَدَ كما أَفْرد هو . وقرأ الحسنُ وابن أبي عبلة بضمِّ اللامِ مع واوٍ بعدَها ، فيما نقله الهذلي عنهما ، وابن عطية عن الحسن . وقرآ بضمِّها مع عَدَمِ واوٍ فيما نقل ابنُ خالويه عنهما وعن الحسن فقط ، فيما نقله الزمخشريُّ وأبو الفضل . فأمَّا مع الواو فإنَّه جَمْعُ سَلامةٍ بالواو والنون ، ويكون قد حُمِلَ على لفظ " مَنْ " أولاً فأفردَ في قوله " هو " ، وعلى معناها ثانياً فجُمِعَ في قوله : " صالُو " وحُذِفَتْ النونُ للإِضافة . وممَّا حُمِل فيه على اللفظ والمعنى في جملةٍ واحدةٍ وهي صلةٌ للموصولِ قولُه تعالى : { إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] فأفرد في " كان " وجُمِعَ في هوداً . ومثله قولُه :
3825 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأَيْقَظَ مَنْ كان مِنْكُمْ نِياما
وأمَّا مع عَدَمِ الواو فيُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ جمعاً أيضاً ، وإنما حُذِفَتْ الواوُ خطاً كما حُذِفَتْ لفظاً . وكثيراً ما يَفْعلون هذا : يُسْقِطون في الخطِّ ما يَسْقط في اللفظِ . ومنه " يَقُضُّ الحق " في قراءةِ مَنْ قرأ بالضاد المعجمة ، ورُسِمَ بغير ياءٍ ، وكذلك { واخشون ، اليوم } [ المائدة : 3 ] . ويُحْتمل أَنْ يكونَ مفرداً ، وحقُّه على هذا كسرُ اللامِ فقط لأنه عينُ منقوصٍ ، وعينُ المنقوصِ مكسورةٌ أبداً وحُذِفَتِ اللامُ وهي الياءُ لالتقاءِ الساكنين نحو : هذا قاضِ البلد .
وقد ذكروا فيه توجيهَيْن ، أحدهما : أنه مقلوبٌ؛ إذا الأصلُ : صالي ثم صايل : قَدَّموا اللامَ إلى موضع العينِ ، فوقعَ الإِعرابُ على العين ، ثم حُذِفَتْ لامُ الكلمة بعد/ القلب فصار اللفظ كما ترى ، ووزنُه على هذا فاعُ فيُقال على هذا : جاء صالٌ ، ورأيتُ صالاً ، ومررت بصالٍ ، فيصيرُ في اللفظِ كقولك : هذا بابٌ ورأيتُ باباً ، ومررتُ ببابٍ . ونظيرُه في مجردِ القلبِ : شاكٍ ولاثٍ في شائك ولائث ، ولكنْ شائِك ولائِث قبل القلب صحيحان ، فصارا به معتلَّيْن منقوصَيْنِ بخلافِ " صال " فإنَّه قبلَ القلبِ معتلٌّ منقوصٌ فصار به صحيحاً . والثاني : أنَّ اللامَ حُذِفَتْ استثقالاً مِنْ غيرِ قَلْبٍ . وهذا عندي أسهلُ ممَّا قبلَه وقد رَأَيْناهم يتناسَوْن اللامَ المحذوفةَ ، ويجعلون الإِعرابَ على العين . وقد قُرِئَ " وله الجوارُ " برفع الراءِ ، { وَجَنَى الجنتين دَانٌ } برفعِ النونِ تشبيهاً ب جناح وجانّ . وقالوا : ما بالَيْت به بالة والأصل بالِية كعافِيَة . وقد تقدَّمَ طَرَف مِنْ هذا عند قولِه تعالى : { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٌ } فيمَنْ قرأه برفع الشين .
(1/4403)
وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164)
قوله : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنَّ " منَّا " صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ هو مبتدأٌ ، والخبرُ الجملةُ مِنْ قولِه : { إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } تقديرُه : ما أحدٌ منا إلاَّ له مقامٌ ، وحَذْفُ المبتدأ مع " مِنْ " جيدٌ فصيحٌ . والثاني : أنَّ المبتدأ محذوفٌ أيضاً ، و { إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ } صفتُه حُذِفَ موصوفُها ، والخبرُ على هذا هو الجارُّ المتقدم . والتقدير : وما منَّا أحدٌ إلاَّ له مقامٌ . قال الزمخشري : حَذَفَ الموصوفَ ، وأقامَ الصفةَ مُقامَه كقولِه :
3826 أنا ابنُ جَلا وطلاَّعُ الثَّنايا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[ وقوله ] :
3827 تَرْمي بكفَّيْ كان مِنْ أَرْمى البَشَرْ ... ورَدَّه الشيخُ فقال : " ليس هذا مِنْ حَذْفِ الموصوفِ وإقامةِ الصفةِ مُقامَه؛ لأنَّ المحذوفَ مبتدأٌ ، و { إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ } خَبَرُه؛ ولأنه لا ينعقِدُ كلامٌ مِنْ قولِه : " وما منَّا أحد " ، وقوله : { إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ } مَحَطُّ الفائدةِ ، وإنْ تُخُيِّل أن { إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } في موضع الصفةِ فقد نَصُّوا على أنَّ " إلاَّ " لا تكونُ صفةً إذا حُذِف موصوفُها ، وأنها فارقتْ " غير " إذا كانتْ صفةً في ذلك لتمكّنِ " غير " في الوصف وَعَدَمِ تمكُّنِ " إلاَّ " فيه ، وجَعَل ذلك كقولِه : " أنا ابنُ جَلا " أي : أنا ابنُ رجلٍ جَلا ، و " بكفَّيْ كان " أي : رجل كان ، وقد عَدَّه النَّحْويون مِنْ أقبحِ الضَّرائِر [ حيث حَذَفَ الموصوفَ والصفةُ جملةٌ لم تتقدَّمْها " مِنْ " بخلافِ قولِه " مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقام " يريدون : مِنَّا فريقٌ ظَعَن ، ومنَّا فريقٌ أقام ] وقد تقدَّم نحوٌ من هذا في النساء عند قوله : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ } [ النساء : 159 ] . وهذا الكلامُ وما بعده ظاهرُه أنه من كلامِ الملائكةِ . وقيل : مِنْ كلامِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم . ومفعول " الصافُّون " و " المُسَبِّحون " يجوزُ أن يكونَ مُراداً أي : الصافُّون أقدامَنا أو أجنحتَنا ، والمسبِّحون اللَّهَ تعالى وأنْ لا يُرادَ البتةَ أي : نحن مِنْ أهلِ هذا الفعلِ .
(1/4404)
إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)
قوله : { إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون } : تفسيرٌ للكلمة فيجوز أن لا يكونَ لها محلٌّ من الإِعراب ، ويجوزُ أَنْ تكونَ خبرَ مبتدأ مضمر أو منصوبةً بإضمارِ فعل أي : هي أنَّهم لهم المنصورون ، أو أعني بالكلمة هذا اللفظَ ، ويكون ذلك على سبيلِ الحكايةِ؛ لأنَّك لو صَرَّحْتَ بالفعل قبلَها حاكياً للجملة بعده كان صحيحاً ، كأنَّك قلت : عَنَيْتُ هذا اللفظ كما تقول : " كتبتُ زيدٌ قائمٌ " و " إنَّ زيداً لَقائمٌ " . وقرأ الضحَّاك " كلماتنا " جمعاً .
(1/4405)
فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177)
قوله : { نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ } : العامَّةُ على " نَزَلَ " مبنياً للفاعلِ ، وعبد الله ببنائه للمفعولِ ، والجارُّ قائمٌ مقامَ فاعِله . والسَّاحةُ : الفِناءُ الخالي مِن الأبنية ، وجَمْعُها سُوْحٌ فألفُها عن واوٍ ، فتُصَغَّرُ على سُوَيْحَة . قال الشاعر :
3828 فكان سِيَّانِ أَنْ لا يَسْرَحُوا نَعَماً ... أو يَسْرَحُوه بها واغْبَرَّت السُّوحُ
وبهذا يتبيَّنُ/ ضَعْفُ قولِ الراغب : إنها مِنْ ذواتِ الياءِ؛ حيث عَدَّها في مادة " سيح " ثم قال : " السَّاحة : المكانُ الواسعُ . ومنه ساحةُ الدار . والسَّائحُ : الماءُ الجاري في الساحة . وساحَ فلانٌ في الأرضِ : مَرَّ مَرَّ السَّائح ، ورجلٌ سائحٌ وسَيَّاح " انتهى . ويُحتمل أَنْ يكونَ لها مادتان ، لكنْ كان ينبغي أن يذكرَ : ما هي الأشهرُ ، أو يذكرَهما معاً . وحُذِفَ مفعولُ " أبْصر " الثاني : إمَّا اختصاراً لدلالةِ الأولِ عليه ، وإمَّا اقتصاراً . والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي : صباحُهم .
(1/4406)
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180)
قوله : { رَبِّ العزة } : أُضيف الربُّ إلى العزَّةِ لاختصاصه بها ، كأنه قيل : ذو العزَّة كما تقول : صاحبُ صِدْقٍ لاختصاصِه به . وقيل : المرادُ العزَّةُ المخلوقةُ الكائنةُ بين خَلْقِه . ويترتَّبُ على القولين مسألةُ اليمين . فعلى الأول ينعقدُ بها اليمينُ؛ لأنها صفةٌ من صفاتِه تعالى بخلاف الثاني ، فإنه لا ينعقدُ بها اليمينُ .
(1/4407)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
قرأ العامَّةُ بسكونِ الدالِ مِنْ " صادْ " كسائرِ حروف التهجِّي في أوائلِ السُور . وقد مرَّ ما فيه . وقرأ أُبَيٌّ والحسنُ وابنُ أبي إسحاق وابنُ أبي عبلة وأبو السَّمَّال بكسرِ الدال مِنْ غير تنوينٍ . وفيها وجهان ، أحدُهما : أنه كَسْرٌ لالتقاءِ الساكنين ، وهذا أقربُ . والثاني : أنه أمرٌ من المصاداة وهي المعارَضَةُ ومنه صَوْتُ الصَّدى لمعارضتِه لصوتِك وذلك في الأماكن الصلبةِ الخاليةِ والمعنى : عارِضِ القرآنَ بعملك ، فاعمَلْ بأوامرِه وانتهِ عن نواهيه . قاله الحسن . وعنه أيضاً : أنه مِنْ صادَيْتُ أي : حادَثْتُ . والمعنى : حادِثِ الناسَ بالقرآن .
وقرأ ابن أبي إسحاق كذلك ، إلاَّ أنه نَوَّنَه وذلك على أنَّه مجرورٌ بحرفِ قَسَمٍ مقدرٍ ، حُذِفَ وبقي عَمَلُه كقولِهم : " اللَّهِ لأفعلَنَّ " بالجرِّ . إلاَّ أنَّ الجرَّ يَقِلُّ في غيرِ الجلالة ، وإنما صَرَفه ذهاباً به إلى معنى الكتاب والتنزيل . وعن الحسنِ أيضاً وابن السَّمَيْفَعِ وهارون الأعور صادُ بالضمِّ من غيرِ تنوينٍ ، على أنه اسمٌ للسورةِ ، وهو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هذه صاد . ومُنِعَ من الصرف للعَلميَّة والتأنيث ، وكذلك قرأ ابن السَّمَيْفَع وهارون : قاف ونون بالضمِّ على ما تقَّدمَ .
وقرأ عيسى وأبو عمروٍ في روايةِ محبوب " صادَ " بالفتح مِنْ غير تنوينٍ . وهي تحتمل ثلاثةَ أوجهٍ . البناءَ على الفتح تخفيفاً ك أين وكيف ، والجرَّ بحرفِ القسمِ المقدرِ ، وإنما مُنع من الصرف للعلميَّةِ والتأنيثِ كما تقدَّم ، والنصبَ بإضمارِ فِعْل أو على حذفِ حَرْفِ القَسم نحوَ قولِه :
3829 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فذاكَ أمانةَ اللَّهِ الثريدُ
وامتنعَتْ من الصرف لِما تقدَّم ، وكذلك قرآ : " قاف " و " نون " بالفتح فيهما ، وهما كما تقدَّم ، ولم أحفَظْ التنوينَ مع الفتح والضم .
قوله : " والقرآنِ " قد تقدَّم مثلُه في { يس والقرآن } [ يس : 1-2 ] ، وجوابُ القسم فيه أقوالٌ كثيرةٌ ، أحدها : أنه قولُه : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ } [ ص : 64 ] ، قاله الزجاج والكوفيون غيرَ الفراءِ . قال الفراء : " لا نجده مستقيماً لتأخيره جداً عن قولِه : " والقرآن " . الثاني : أنه قولُه : " كم أهلَكْنا " والأصلُ : لكم أهلَكْنا ، فحذف اللامَ كما حَذَفها في قولِه : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] بعد قولِه : { والشمس } لَمَّا طال الكلام . قاله ثعلبٌ والفراء . الثالث : أنه قولُه : { إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل } [ ص : 14 ] قاله الأخفش . الرابع : أنه قولُه : " صاد "؛ لأنَّ المعنى : والقرآنِ لقد صدق محمد . قاله الفراء وثعلب أيضاً . وهذا بناءً منهما على جوازِ تقديمِ جوابِ القسم ، وأنَّ هذا الحرفَ مُقْتَطَعٌ مِنْ جملةٍ هو دالٌّ عليها . وكلاهما ضعيفٌ . الخامس : أنه محذوفٌ . واختلفوا في تقديره ، فقال الحوفي : / تقديرُه : لقد جاءَكم الحقُّ ، ونحوُه . وقَدَّره ابن عطية : ما الأمرُ كما يَزْعمون . والزمخشري : إنه لَمُعْجِزٌ .
(1/4408)
والشيخ : إنَّك لمن المُرْسَلين . قال : " لأنه نظيرُ { يس * والقرآن الحكيم * إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } [ يس : 1-3 ] وللزمخشري هنا عبارةٌ بشعةٌ جداً . وهي : " فإنْ قلتَ : قولُه : ص والقرآنِ ذي الذكر بل الذين كفروا في عِزَّةٍ وشِقاقٍ كلامٌ ظاهرُه متنافٍ غيرُ منتظِمٍ . فما وجهُ انتظامِه؟ قلت : فيه وجهان ، أَنْ يكونَ قد ذكر اسمَ هذا الحرفِ من حروفِ المعجمِ على سبيلِ التحدِّي والتنبيه على الإِعجازِ كما مَرَّ في أَول الكتاب ، ثم أتبعه القسمَ محذوفَ الجواب لدلالةِ التحدِّي عليه ، كأنه قال : والقرآنِ ذي الذِّكْرِ إنه لَكلامٌ مُعْجِزٌ . والثاني : أَنْ يكونَ " صاد " خبرَ مبتدأ محذوفٍ على أنها اسمٌ للسورةِ كأنه قال : هذه صاد . يعني هذه السورةَ التي أعْجَزَتِ العربَ والقرآنِ ذي الذِّكْر ، كما تقول : " هذا حاتِمٌ واللَّهِ " تريد : هو المشهورُ بالسَّخاءِ واللَّهِ ، وكذلك إذا أقسمَ بها كأنَّه قال : أَقْسَمْتُ بصاد والقرآنِ ذي الذِّكْر إنه لَمُعْجِزٌ . ثم قال : بل الذين كفروا في عِزَّةٍ واستكبارٍ عن الإِذعانِ لذلك والاعترافِ ، وشِقاقٍ لله ورسوله ، وإذا جَعَلْتَها مُقْسَمَاً بها ، وعَطَفْتَ عليها { والقرآن ذِي الذكر } جازَ لك أَنْ تريدَ بالقرآنِ التنزيلَ كلَّه ، وأَنْ تريدَ السورةَ بعينِها . ومعناه : أُقْسِمُ بالسورةِ الشريفة : والقرآنِ ذي الذِّكْر كما تقولُ : مَرَرْتُ بالرجلِ الكريم والنَّسْمَةِ المباركة ، ولا تريد بالنَّسْمَةِ غيرَ الرجلِ " .
(1/4409)
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2)
قوله : { بَلِ الذين كَفَرُواْ } : إضْرابُ انتقالٍ من قصةٍ إلى أخرى . وقرأ الكسائيُّ في روايةِ سَوْرة وحماد بن الزبرقان وأبو جعفر والجحدري " في غِرَّةٍ " بالغَيْن معجمةً والراءِ . وقد رُوي أن حماداً الراوية قرأها كذلك تصحيفاً ، فلمَّا رُدَّتْ عليه قال : " ما ظنَنْتُ أنَّ الكافرين في عِزَّة " وهو وهمٌ منه؛ لأن العِزَّةَ المُشارَ إليها حَمِيَّةُ الجاهلية . والتنكيرُ في " عزَّة وشِقاق " دلالةً على شِدَّتِهما وتَفاقُمهما .
(1/4410)
كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
قوله : { كَمْ أَهْلَكْنَا } : " كم " مفعولُ " أهلَكْنا " ، و " مِنْ قَرْنٍ " تمييزٌ ، و " مِنْ قبلِهم " لابتداء الغاية .
قوله : " ولات حين " هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل " نادَوْا " أي : استغاثوا ، والحالُ أنه لا مَهْرَبَ ولا مَنْجى .
وقرأ العامَّةُ " لاتَ " بفتح التاء و " حينَ " بالنصبِ ، وفيها أوجهٌ ، أحدها : - وهو مذهبُ سيبويه - أنَّ " لا " نافيةٌ بمعنى ليس ، والتاءُ مزيدةٌ فيها كزيادتِها في رُبَّ وثَمَّ ، ولا تعملُ إلاَّ في الأزمان خاصةً نحو : لاتَ حينَ ، ولات أوان ، كقوله :
3830 طلبُوا صُلْحَنا ولاتَ أَوانٍ ... فَأَجَبْنا أنْ ليسَ حينَ بقاءِ
وقول الآخر :
3831 نَدِمَ البُغاةُ ولاتَ ساعةَ مَنْدَمِ ... والبَغيُ مَرْتَعٌ مُبْتَغِيْه وخيمُ
والأكثرُ حينئذٍ حَذْفُ مرفوعِها تقديرُه : ولات الحينُ حينَ مناصٍ . وقد يُحْذَفُ المنصوبُ ويبقى المرفوعُ . وقد قرأ هنا بذلك بعضُهم كقوله :
3832 مَنْ صَدَّ عَنْ نيرانِها ... فأنا ابنُ قَيْسٍ لا بَراحُ
أي : لا براحٌ لي . ولا تعملُ في غيرِ الأحيان على المشهور ، وقد تُمُسِّك بإعمالها في غير الأحيان بقولِه :
3833 حَنَّتْ نَوارُ ولاتَ هَنَّا حَنَّتِ ... وبدا الذي كانَتْ نَوارُ أجَنَّتِ
فإنَّ " هَنَّا " مِنْ ظروفِ الأمكنةِ . وفيه شذوذٌ مِنْ ثلاثةِ أوجهٍ ، أحدها : عَمَلُها في اسمِ الإِشارةِ وهو معرفةٌ ولا تعملُ إلاَّ في النكراتِ . الثاني : كونُه لا يَتَصَرَّفُ . الثالث : كونُه غيرَ زمانٍ . وقد رَدَّ بعضُهم هذا بأنَّ " هَنَّا " قد خرجَتْ عن المكانية واسْتُعْمِلت في الزمان ، كقولِه تعالى : { هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون } [ الأحزاب : 11 ] وقولِ الشاعر :
3834 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فهناك يَعْتَرفون أين المَفْزَعُ
كما تقدم في سورة الأحزاب؛ إلاَّ أنَّ الشذوذَيْن الآخرَيْن باقيان . وتأوَّل بعضُهم البيتَ أيضاً بتأويلٍ آخرَ : وهو أَنَّ " لاتَ " هنا مهملةٌ لا عملَ لها و " هَنَّا " ظرفٌ خبرٌ مقدمٌ/ و " حَنَّتِ " مبتدأ بتأويلِ حَذْفِ " أنْ " المصدرية تقديرُه : أنْ حَنَّتْ نحو " تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّ خيرٌ مِنْ أَنْ تَراه " . وفي هذا تكلُّفٌ وبُعْدٌ . إلاَّ أنَّ فيه الاستراحةَ من الشذوذاتِ المذكورات أو الشذوذَيْن .
وفي الوقفِ عليها مذهبان : المشهورُ عند العربِ وجماهيرِ القراءِ السبعةِ بالتاءِ المجبورةِ إتْباعاً لمرسومِ الخطِّ الشريفِ . والكسائيُّ وحدَه من السبعةِ بالهاء . والأولُ مذهبُ الخليلِ وسيبويه والزجاج والفراء وابن كَيْسان ، والثاني مذهبُ المبرد . وأغرب أبو عبيد فقال : الوقفُ على " لا " والتاءُ متصلةٌ ب " حين " فيقولون : قُمْتُ تحينَ قمتَ ، وتحينَ كان كذا فعلتُ كذا . وقال : " رأيتها في الإِمام كذا : " ولا تحين " متصلة . وأنْشَدَ على ذلك أيضاً قولَ الشاعر :
3835 العاطفونَ تحينَ ما مِنْ عاطِفٍ ... والمُطْعِمون زمانَ لا من مُطْعِمِ
(1/4411)
والمصاحفُ إنما هي " ولاتَ حين " . وحَمَلَ العامَّةُ ما رآه على أنه ممَّا شَذَّ عن قياسِ الخَطِّ كنظائرَ له مَرَّتْ لك .
وأمَّا البيتُ فقيل : إنَّه شاذٌّ لا يُلْتَفَتُ إليه . وقيل : إنه إذا حُذِفَ الحينُ المضافُ إلى الجملة التي فيها " لات " جاز أَنْ تُحْذَفَ " لا " وحدها ويُسْتَغْنى عنها بالتاء . والأصل : العاطفونَ حين لات حينَ لا مِنْ عاطفٍ ، فحذف " حين " الأول و " لا " وحدَها ، كما أنه قد صَرَّح بإضافة " حين " إليها في قول الآخر :
3836 وذلك حينَ لاتَ أوانَ حِلْمٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ذكر هذا الوجهَ ابنُ مالك ، وهو متعسِّفٌ جداً . وقد تُقَدَّرُ إضافةُ " حين " إليها مِنْ غيرِ حَذْفٍ لها كقولِه :
3837 تَذَكَّرَ حُبَّ ليلى لاتَ حينَا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : حين لاتَ حين . وأيضاً فكيف يصنع أبو عبيدٍ بقوله :
3838 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . ولاتَ ساعةَ مَنْدَمِ
[ وقوله ] :
3839 . . . . . . . . . . . . . . لات أوانَ . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فإنه قد وُجِدت التاءُ مع " لا " دون " حين "؟
الوجه الثاني من الأوجه السابقة : أنها عاملةٌ عملَ " إنَّ " يعني أنها نافيةٌ للجنسِ فيكون " حينَ مناص " اسمَها ، وخبرُها مقدر تقديرُه : ولات حينَ مناصٍ لهم ، كقولك : لا غلامَ سفرٍ لك ، واسمها معربٌ لكونِه مضافاً .
الثالث : أنَّ بعدها فعلاً مقدراً ناصباً ل " حين مَناص " بعدها أي : لات أَرى حينَ مَناصٍ لهم بمعنى : لستُ أرى ذلك ومثلُه : { لاَ مَرْحَباً بِهِمْ } ولا أهلاً ولا سهلاً أي : لا أَتَوْا مَرْحباً ، ولا لَقُوا أهلاً ، ولا وَطِئوا سهلاً . وهذان الوجهان ذهب إليهما الأخفش وهما ضعيفان . وليس إضمارُ الفعلِ هنا نظيرَ إضماره في قوله :
3840 ألا رَجُلاً جَزاه اللَّهُ خيراً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لضرورةِ أنَّ اسمَها المفردَ النكرةَ مبنيٌّ على الفتح ، فلمَّا رأينا هذا معرباً قدَّرْنا له فعلاً خلافاً للزجاج ، فإنه يُجَوِّزُ تنوينَه في الضرورة ، ويدَّعي أن فتحتَه للإِعراب ، وإنما حُذِف التنوينُ للتخفيفِ ويَسْتَدِلُّ بالبيتِ المذكور وتقدَّم تحقيقُ هذا .
الرابع : أن " لات " هذه ليسَتْ هي " لا " مُزاداً فيها تاءُ التأنيث ، وإنما هي : " ليس " فأُبْدلت السينُ تاءً ، وقد أُبْدِلت منها في مواضعَ قالوا : النات يريدون : الناس . ومنه " سِتٌّ " وأصله سِدْس . قال :
3841 يا قاتلَ اللَّهُ بني السَّعْلاتِ ... عمرَو بنَ يَرْبُوعٍ شرارَ الناتِ
لَيْسوا بأخيارٍ ولا أَكْياتِ ... وقُرِئ شاذاً " قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النات " إلى آخره . يريد : شرارَ الناسِ ولا أكياسِ ، فأبْدل . ولَمَّا أبدل السينَ تاءً خاف من التباسها بحرفِ التمني فقلب الياءَ ألفاً فبقيَتْ " لات " وهو من الاكتفاء بحرف العلةِ؛ لأنَّ حرف العلة لا يُبْدل ألفاً إلاَّ بشروطٍ منها : أن يتحرَّكَ ، وأَنْ ينفتحَ ما قبله ، فيكون " حينَ مناص " خبرَها ، والاسمُ محذوفٌ على ما تقدَّم ، والعملُ هنا بحقِّ الأصالةِ لا الفرعيةِ .
(1/4412)
وقرأ عيسى بن عمر { وَّلاَتِ حِينِ مَنَاصٍ } بكسر التاء وجرِّ " حين " وهي قراءةٌ/ مُشْكلةٌ جداً . زعم الفراء أنَّ " لات " يُجَرُّ بها ، وأنشد :
3842 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولَتَنْدَمَنَّ ولاتَ ساعةِ مَنْدَمِ
وأنشد غيرُه :
3843 طلبوا صلحَنا ولاتَ أوانٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . وقال الزمخشري : " ومثلُه قول أبي زبيد الطائي : طلبوا صلحنا . البيت . قال : فإنْ قلتَ ما وجهُ الجرِّ في " أوان "؟ قلت : شُبِّه ب " إذ " في قوله :
3844 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . وأنتَ إذٍ صحيحُ
في أنه زمانٌ قُطِع منه المضافُ إليه وعُوِّض منه التنوينُ لأن الأصلَ : ولات أوان صلح . فإن قلتَ : فما تقولُ في " حينَ مناصٍ " والمضافُ إليه قائمٌ؟ قلت : نَزَّلَ قَطْعَ المضافِ إليه مِنْ " مناص " - لأنَّ أصلَه : حين مناصِهم - منزلةَ قَطْعِه مِنْ " حين " لاتحاد المضاف والمضاف إليه ، وجَعَل تنوينَه عوضاً من المضافِ المحذوفِ ، ثم بَنى الحين لكونِه مضافاً إلى غير متمكن " . انتهى .
وخرَّجه الشيخُ على إضمار " مِنْ " والأصل : ولات مِنْ حين مناص ، فحُذِفت " مِنْ " وبقي عملُها نحو قولِهم : على كم جِذْعٍ بَنَيْتَ بيتك؟ أي : مِنْ جذع في أصحِّ القولَيْن . وفيه قولٌ آخر : أنَّ الجرَّ بالإِضافة ، ومثله قوله :
3845 ألا رَجُلٍ جزاه اللَّهُ خَيْراً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أنشدوه بجرِّ " رَجُل " أي : ألا مِنْ رجل .
قلت : وقد يتأيَّد بظهورِها في قوله :
3846 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وقالَ : ألا لا مِنْ سبيلٍ إلى هندِ
قال : " ويكونُ موضعُ " مِنْ حين مناصٍ " رفعاً على أنه اسم لات بمعنى ليس ، كما تقولُ : ليس من رجلٍ قائماً ، والخبرُ محذوفٌ ، وعلى هذا قولُ سيبويه . وعلى أنه مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ على قولِ الأخفشِ . وخَرَّج الأخفشُ " ولاتَ أَوانٍ " على حَذْفِ مضافٍ ، يعني : أنه حُذِفَ المضافُ وبقي المضافُ إليه مجروراً على ما كان . والأصلُ : ولات حينُ أوانٍ .
وقد رَدَّ هذا الوجهَ مكيٌّ : بأنه كان ينبغي أَنْ يقومَ المضافُ إليه مَقامَه في الإِعراب فيُرفعَ . قلت : قد جاء بقاءُ المضافِ إليه على جَرِّه . وهو قسمان : قليلٌ وكثيرٌ . فالكثيرُ أَنْ يكونَ في اللفظ مِثْلُ المضاف نحو :
3847 أكلَّ امرِىءٍ تَحْسَبين امرَأً ... ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا
أي : وكلَّ نارٍ . والقليلُ أَنْ لا يكونَ كقراءة مَنْ قرأ { والله يُرِيدُ الآخرة } بجر " الآخرةِ " فليكنْ هذا منه . على أنَّ المبردَ رواه بالرفعِ على إقامتِه مُقامَ المضافِ .
وقال الزجَّاج : " الأصل : ولات أواننا ، فحُذِفَ المضافُ إليه فوجَبَ أَنْ لا يُعْرَبَ ، وكسرُه لالتقاءِ الساكنين " . قال الشيخ : " هذا هو الوجهُ الذي قرَّره الزمخشريُّ ، أَخَذَه من أبي إسحاقَ " قلت : يعني الوجهَ الأولَ ، وهو قولُه : ولاتَ أوان صلحٍ .
(1/4413)
هذا ما يتعلَّقُ بجرِّ " حين " .
وأمَّا كسرُ تاءِ " لات " فعلى أصلِ التقاءِ الساكنين ك جَيْرِ ، إلاَّ أنه لا تُعْرف تاءُ تأنيثٍ إلاَّ مفتوحةً .
وقرأ عيسى أيضاً بكسرِ التاءِ فقط ، ونصبِ " حين " كالعامَّةِ . وقرأ أيضاً " ولات حينُ " بالرفعِ ، " مناصَ " بالفتح . وهذه قراءةٌ مشكلةٌ جداً لا تَبْعُدُ عن الغلطِ مِنْ راويها عن عيسى فإنه بمكانةٍ مِنْ العلمِ المانعِ له من مثلِ هذه القراءةِ . وقد خَرَّجها أبو الفضلِ الرازيُّ في " لوامحه " على التقديمِ والتأخيرِ ، وأنَّ " حين " أُجْرِي مُجْرى قبل وبعد في بنائِه على الضمِّ عند قَطْعِه عن الإِضافة بجامع ما بينه وبينهما مِن الظرفيةِ الزمانيةِ . و " مَناصَ " اسمُها مبنيٌّ على الفتح فُصِل بينَه وبينها ب " حين " المقطوعِ عن الإِضافة . / والأصلُ : ولاتَ مناص حين كذا ، ثم حُذِفَ المضافُ إليه " حين " ، وبُني على الضم وقَدَّم فاصلاً بين " لات " واسمِها . قال : " وقد يجوزُ أَنْ يكونَ لذلك معنًى لا أَعْرِفُه " . وقد رُوِي في تاءِ " لاتَ " الفتحُ والكسرُ والضمُّ .
وقوله : " فنادَوْا " لا مفعولَ له؛ لأنَّ القصدَ : فَعَلوا النداءَ ، مِنْ غيرِ قصدِ منادى . وقال الكلبيُّ : " كانوا إذا قاتلوا فاضْطُرُّوا نادى بعضُهم لبعضٍ : مناص أي : عليكم بالفرارِ ، فلَمَّا أتاهم العذابُ قالوا : مناص " . فقال اللَّهُ تعالى لهم : ولات حينَ مناصٍ " . قال القشيريُّ : " فعلى هذا يكونُ التقديرُ : فنادَوْا مناص ، فحُذِف لدلالةِ ما بعده عليه " . قلت : فيكون قد حَذَفَ المنادى وهو بعضاً وما ينادُوْن به ، وهو مناص ، أي : نادَوْا بعضَهم بهذا اللفظِ . وقال الجرجانيُّ : " أي : فنادَوْا حين لا مناص أي : ساعةَ لا مَنْجَى ولا فَوْتَ ، فلمَّا قَدَّم " لا " وأَخَّر " حين " اقتضى ذلك الواوَ كما تقتضي الحالُ إذا جُعِل ابتداءً وخبراً مثلَ ما تقول : " جاء زيدٌ راكباً " ثم تقول : جاء وهو راكبٌ . ف " حين " ظرفٌ لقولِه " فنادَوْا " . قال الشيخ : " وكونُ أصلِ هذه الجملةِ فنادَوْا : حين لا مناص ، وأنَّ " حين " ظرفٌ لقولِه : " فنادَوْا " دعوى أعجميةٌ في نَظْمِ القرآن ، والمعنى على نظمِه في غايةِ الوضوح " . قلت : الجرجانيُّ لا يَعْني أنَّ حين ظرفٌ ل " نادَوْا " في التركيبِ الذي عليه القرآن الآن ، إنما يعني بذلك في أصلِ المعنى والتركيب ، كما شَبَّه ذلك بقولِك " جاء زيدٌ راكباً " ثم ب " جاء زيدٌ وهو راكبٌ " ف " راكباً " في التركيبِ الأولِ حالٌ ، وفي الثاني خبرُ مبتدأ ، كذلك " حين " كان في الأصل ظرفاً للنداء ، ثم صار خبرَ " لات " أو اسمَها على حسبِ الخلافِ المتقدِّم .
(1/4414)
والمناصُ : مَفْعَل مِنْ ناص يَنُوص أي : هَرَبَ فهو مصدرٌ يقال : نَاصه يَنُوصه إذا فاته فهذا متعدٍّ ، وناصَ يَنُوص أي : تأخَّر . ومنه ناص عن قِرْنِه أي : تأخَّر عنه جُبْناً . قاله الفراء ، وأنشد قولَ امرئ القيس :
3848 أمِنْ ذِكْرِ سَلْمى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوْصُ ... فتَقْصُرُ عنها حِقْبةً وتَبُوْصُ
قال أبو جعفر النحاس : " ناصَ يَنُوص أي : تقدَّم فيكون من الأضداد " . واستناص طلب المَناص . قال حارثة بن زيد :
3849 غَمْرُ الجِراءِ إذا قَصَرْتُ عِنانَه ... بيديْ اسْتَناصَ ورام جَرْيَ المِسْحَلِ
ويقال : ناص إلى كذا ينوص نَوْصاً أي : التجأ إليه .
(1/4415)
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)
قوله : { أن جاءكم } : أي : مِنْ أَنْ ، وفيها الخلافُ المشهورُ .
وقوله : " وقال الكافرون " من بابِ وَضْعِ الظاهرِ مَوْضعَ المضمر شهادةً عليهم بهذا الوَصْفِ القبيح .
(1/4416)
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)
قوله : { عُجَابٌ } : مبالغةً في " عجيب " كقولهم : رجل طُوال وأَمْرٌ سُراع هما أبلغُ مِنْ : طويل وسريع . وعلي والسلمي وعيسى وابن مقسم " عُجَّاب " بتشديد الجيم ، وهي أبلغُ مِمَّا قبلَها فهي مثلُ رجل كريم وكُرام بالتخفيف ، وكُرَّام بالتشديد . قال مقاتل : " وعُجاب - يعني بالتخفيفِ - لغةُ أزد شنوءة " . وهذه القراءةُ أعني بالتشديدِ كقوله : { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } [ نوح : 22 ] هو أبلغُ مِنْ كُبار ، وكُبار أبلغُ مِنْ كبير .
وقوله : " أجَعَلَ " أي : أصيَّرها إلهاً واحداً في قولِه وزَعْمه .
(1/4417)
وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6)
قوله : { أَنِ امشوا } : يجوزُ أَنْ تكونَ " أنْ " مصدريةً أي : انطلقوا بقولِهم : أن امْشُوا وأَنْ تكونَ مفسِّرةً : إمَّا ل انطلق لأنه ضُمِّنَ معنى القول . قال الزمخشريُّ : " لأنَّ المنطلقين عن مجلس التقاوُلِ/ لا بُدَّ لهم أَنْ يتكلموا ويتفاوضوا فيما جَرَى لهم " . انتهى . وقيل : بل هي مفسِّرةٌ لجملةٍ محذوفةٍ في محلِّ حالٍ تقديرُه : وانطلقوا يتحاورون أن امْشُوا . ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً معمولةً لهذا المقدرِ . وقيل : الانطلاقُ هنا الاندفاعُ في القولِ والكلامِ نحو : انطلق لسانُه ، فأَنْ مفسرةٌ له من غير تضمينٍ ولا حَذْفٍ . والمَشْيُ : الظاهر أنه هو المتعارَفُ . وقيل : بل هو دعاءٌ بكثرة الماشيةِ ، وهذا فاسِدٌ لفظاً ومعنى . أمَّا اللفظُ فلأنَّه إنما يقال من هذا المعنى " أَمْشَى الرجلُ " إذا كَثُرَتْ ماشيَتُه بالألفِ أي : صار ذا ماشيةٍ ، فكان ينبغي على هذا أَنْ يقرأَ " أَمْشُوا " بقطع الهمزةِ مفتوحةً . وأمَّا المعنى فليس مراداً البتةَ ، وأيُّ معنى على ذلك!!
إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ ذكر وجهاً صحيحاً من حيث الصناعةُ وأقربُ معنًى ممَّا تقدَّم ، فقال : " ويجوزُ أنَّهم قالوا : امشُوا أي : اكثروا واجتمعوا ، مِنْ مَشَتِ المرأةُ : إذا كَثُرَتْ وِلادتها ، ومنه الماشيةُ للتفاؤل " . انتهى . وإذا وُقِفَ على " أنْ " وابْتُدِئ بما بعدَها فليُبْتَدَأْ بكسرِ الهمزةِ لا بضمِّها لأنَّ الثالثَ مكسورٌ تقديراً إذ الأصل : امْشِيُوا ثم أُعِلَّ بالحَذْفِ . وهذا كما يُبْتدأ بضم الهمزةِ في قولك " اغْزِي يا امرأةُ " . وإنْ كانت الزايُ مكسورةً لأنَّها مضمومةٌ في الأصل إذ الأصل : اغْزُوِي كاخْرُجي فأُعِلَّ بالحذفِ .
(1/4418)
مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7)
قوله : { فِى الملة } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلقٌ ب " سَمِعْنا " أي : لم نسمَعْ في المِلَّةِ الآخرة بهذا الذي جئتَ به . والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ هذا أي : ما سمعنا بهذا كائناً في المِلَّةِ الآخرةِ . أي : لم نسمَعْ من الكُهَّانِ ولا مِنْ أهلِ الكتبِ أنه يَحْدُثُ توحيدُ اللَّهِ في الملَّةِ الآخرة ، وهذا مِنْ فَرْط كَذِبِهم .
(1/4419)
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)
قوله : { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر } : قد تقدَّم حكمُ هاتَيْن الهمزتين في أوائل آل عمران ، وأنَّ الواردَ منه في القرآن ثلاثةُ أماكنَ . والإِضراباتُ في هذه الآيةِ واضحةٌ و " أم " منقطعةٌ .
(1/4420)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10)
قوله : { فَلْيَرْتَقُواْ } : قال أبو البقاء : " هذا كلامٌ محمولٌ على المعنى أي : إنْ زعموا ذلك فَلْيَرْتَقُوا " ، فجعلها جواباً لشرطٍ مقدرٍ ، وكثيراً ما يَفْعَلُ الزمخشريُّ ذلك .
(1/4421)
جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
قوله : { جُندٌ } : يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : وهو الظاهرُ أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هم جُنْدٌ . و " ما " فيها وجهان ، أحدهما : أنها مزيدةٌ . والثاني : أنَّها صفةٌ ل " جُنْدٌ " على سبيلِ التعظيم للهُزْءِ بهم أن للتحقير ، فإنَّ " ما " الصفة تُستعمل لهذين المعنيين . ومثلُه قولُ امرىءِ القيس :
3850 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وحَديثٌ ما على قِصَرِهْ
وقد تقدَّم هذا في أوائلِ البقرة . و " هنالك " يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يكونَ خبر الجند و " ما " مزيدةٌ و " مَهْزُوم " نعتٌ ل " جُنْد " ذكره مكيٌّ . الثاني : أَنْ يكون صفةً ل " جند " . والثالث : أَنْ يكونَ منصوباً بمهزوم . ومَهْزوم يجوزُ فيه أيضاً وجهان ، أحدهما : أنه خبرٌ ثانٍ لذلك المبتدأ المقدرِ . والثاني : أنه صفةٌ ل " جُنْد " إلاَّ أنَّ الأحسنَ على هذا الوجهِ أَنْ لا يُجْعَلَ " هنالك " صفةً بل متعلقاً به ، لئلا يَلْزَمَ تقدُّم الوصفِ غيرِ الصريح على الصَّريح . و " هنالك " مشارٌ به إلى موضعِ التقاوُلِ والمجاوزةِ بالكلمات السابقة وهو مكةُ أي : سيُهزمون بمكةَ وهو إخبارٌ بالمغيَّبِ . وقيل : مُشارٌ به إلى نُصرةِ الأصنامِ . وقيل : إلى حَفْرِ الخندقِ يعني : إلى مكانِ ذلك . الثاني من الوجهين الأولين : أَنْ يكونَ " جندٌ " مبتدأ و " ما " مزيدةٌ . و " هنالك " نعتٌ و " مهزوم " خبرُه قاله أبو البقاء . قال الشيخ : " وفيه بُعْدٌ لتفلُّتِه عن الكلامِ الذي قبلَه " . قلت : وهذا الوجهُ المنقولُ عن أبي البقاءِ سبقه إليه مكي .
قوله : " من الأحزاب " يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً ل " جُند " ، وأنْ يكونَ صفةً ل " مهزومٌ " . وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ يكونَ متعلقاً به . وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ المرادَ بالأحزاب هم المهزومون .
(1/4422)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)
قوله : { ذُو الأوتاد } : هذه استعارةٌ بليغةٌ : حيث شبَّه المُلْكَ ببيت الشَّعْر ، وبيتُ الشَّعْرِ لا يَثبتُ إلاَّ بالأوتادِ والأطناب ، كما قال الأفوه :
3851 والبيتُ لا يُبْتَنى إلاَّ على عمدٍ ... ولا عمادَ إذا لم تُرْسَ أوتادُ
فاسْتعير لثباتِ العزِّ والمُلْكِ واستقرار الأمر ، كقول الأسود :
3852 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... في ظلِّ مُلْكٍ ثابتِ الأَوْتاد
/ والأَوْتادُ : جمعُ وَتِد . وفيه لغاتٌ : وَتِدٌ بفتح الواو وكسرِ التاءِ وهي الفصحى ، ووَتَد بفتحتين ، ووَدّ بإدغام التاء في الدال قال :
3853 تُخْرِجُ الوَدَّ إذا ما أَشْجَذَتْ ... وتُوارِيْه إذا ما تَشْتَكِرْ
و " وَتَّ " بإبدالِ الدالِ تاءً ثم إدغام التاء فيها . وهذا شاذٌّ لأنَّ الأصلَ إبدالُ الأولِ للثاني لا العكسُ . وقد تقدَّم نحوٌ من هذا في آل عمران عند قولِه تعالى : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار } [ آل عمران : 185 ] . ويُقال : وَتِدٌ واتِدٌ أي : قويٌّ ثابت ، وهو مِثْلُ مجازِ قولهم : شُغْل شاغِلٌ . وأنشد الأصمعي :
3854أ لاقَتْ على الماءِ جُذَيْلاً واتِداً ... ولم يَكُنْ يُخْلِفُها المَواعدا
وقيل : الأوتادُ هنا حقيقةٌ لا استعارةٌ . ففي التفسير : أنه كان له أوتادٌ يَرْبط عليها الناسَ يُعَذِّبُهم بذلك . وتقدم الخلافُ في الأَيْكة في سورة الشعراء .
(1/4423)
وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13)
قوله : { أولئك الأحزاب } : يجوزُ أَنْ تكون مستأنفةً لا محلَّ لها ، وأنْ تكونَ خبراً . والمبتدأ قال أبو البقاء : " من قوله : و " عادٌ " وأَنْ يكونَ من " ثمود " ، وأَنْ يكونَ مِنْ قولِه : " وقومُ لوط " . قلت : الظاهرُ عطفُ " عادٌ " وما بعدَه على " قومُ نوحٍ " واستئنافُ الجملةِ بعدَه . وكان يَسُوْغُ على ما قالَه أبو البقاءِ أَنْ يكونَ المبتدأُ وحدَه " وأصحابُ الأَيْكَة " .
(1/4424)
إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14)
قوله : { إِن كُلٌّ } : " إنْ " نافيةٌ ولا عملَ لها هنا البتةَ ولو على لغةِ مَنْ قال :
3854ب إن هو مُسْتَوْلِياً على أحدٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وعلى قراءة { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله عِبَاداً } لانتقاض النفي ب " إلاَّ " فإنَّ انتقاضَه مع الأصلِ ، وهي " ما " مُبْطِلٌ فكيف بفَرْعِها؟ وقد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ جواباً للقَسم .
(1/4425)
وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15)
قوله : { مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } : يجوزُ أَنْ يكونَ " لها " رافعاً ل " مِنْ فَواق " بالفاعليةِ لاعتمادِه على النفي ، وأَنْ يكونَ جملةً مِنْ مبتدأ وخبرٍ ، وعلى التقديرَيْن فالجملةُ المنفيَّةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ل " صَيْحةً " و " مِنْ " مزيدةٌ . وقرأ الأخَوان " فُواق " بضمِّ الفاءِ ، والباقون بفتحها . فقيل : [ هما ] لغتان بمعنًى واحدٍ ، وهما الزمانُ الذي بين حَلْبَتَيْ الحالبِ ورَضْعَتَيْ الراضِع ، والمعنى : ما لها مِنْ تَوَقُّفٍ قَدْرَ فُواقِ ناقةٍ . وفي الحديث : " العِيادَةُ قَدْرَ فُواقِ ناقة " وهذا في المعنى كقوله تعالى : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً } [ الأعراف : 34 ] . وقال ابن عباس : ما لها مِنْ رجوعٍ . مِنْ أفاق المريضُ : إذا رَجَعَ إلى صحته . وإفاقةُ الناقةِ ساعةَ يَرْجِعُ اللبنُ إلى ضَرْعِها . يقال : أفاقَتِ الناقةُ تُفِيْقُ إفاقَةً رَجَعَتْ واجتمعَتْ الفِيْقَةُ في ضَرْعِها . والفِيْقَةُ : اللبنُ الذي يَجْتمع بين الحَلَبَتين ويُجْمع على أفْواق . وأمّا أفاوِيْقُ فجمعُ الجمع . ويُقال : ناقة مُفِيْقٌ ومُفِيْقَةٌ . وقيل : فَواق بالفتح : الإِفاقة والاستراحة كالجواب من أجاب . قاله مُؤرِّج السدوسيُّ والفراء . ومن المفسِّرين ابن زيد والسدِّي . وأمَّا المضمومُ فاسمٌ لا مصدرٌ . والمشهورُ أنهما بمعنىً واحدٍ كقَصاصِ [ الشَّعْر ] وقُصاصِه وحَمام المكُّوك وحُمامِه .
(1/4426)
وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)
قوله : { قِطَّنَا } : أي : نصيبَنا وحَظَّنا . وأصلُه مِنْ قَطَّ الشيءَ أي : قطعَه . ومنه قَطَّ القلمَ . والمعنى : قَطْعه مِنْ ما وَعَدْتَنا به ولهذا يُطْلق على الصحيفةِ والصَّكِّ قِطٌّ لأنهما قطعتان تَقْطعان . ويقال للجائزة : أيضاً قِطٌّ لأنَّها قطعة من العَطِيَّةِ . قال الأعشى :
3855 ولا المَلِكُ النعمانُ يومَ لَقِيْتَه ... بغِبْطَتِه يُعْطي القُطوطَ ويَأْفِقُ
وأكثرُ استعمالِه في الكتابِ . قال أمية :
3856 قومٌ لهمْ ساحَةٌ أرضُ العراقِ وما ... يُجْبَى إليهمْ بها والقِطُّ والقَلَمُ
ويُجمع على قُطوط كما تقدَّم ، وعلى قِطَطَة نحو : قِرْد وقِرَدَة وقُرود . وفي القِلَّة على أَقِطَّة وأَقْطاط/ كقَدَح وأَقْدِحة وأَقْداح ، إلاَّ أن أَفْعِلة في فِعْل شاذ .
(1/4427)
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)
قوله : { دَاوُودَ } : بدل أو عطف بيانٍ ، أو منصوبٌ بإضمارِ أعني . و " ذا الأيْدِ " نعتٌ له . والأيْدُ : القوةُ . يقال : رجلٌ أَيْدٌ وأَيادٌ .
(1/4428)
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18)
قوله : { يُسَبِّحْنَ } : جملةٌ حاليةٌ من " الجبال " . وأتى بها فِعْلاً مضارعاً دونَ اسمِ فاعلٍ فلم يَقُلْ مُسَبِّحات ، دلالةً على التجدُّدِ والحدوثِ شيئاً بعد شيء ، كقولِ الأعشى :
3857 لعَمْري لَقَدْ لاحَتْ عيونٌ كثيرةٌ ... إلى ضوءِ نارٍ في يَفَاعٍ تُحَرَّقُ
أي : تُحَرَّقُ شيئاً فشيئاً . ولو قال : مُحَرَّقة لم يَدُلَّ على هذا المعنى .
(1/4429)
وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)
قوله : { والطير مَحْشُورَةً } : العامَّةُ على نَصْبِهما ، عَطَفَ مفعولاً على مفعول وحالاً على حال ، كقولِك : ضربْتُ زُيداً مكتوفاً وعمراً مُطْلَقاً . وأتى بالحالِ اسماً لأنه لم يَقْصِدْ أن الفعلَ وقع شيئاً فشيئاً لأنَّ حَشْرَها دُفْعَةً واحدةً أَدَلُّ على القدرة ، والحاشرُ اللَّه تعالى . وقرأ ابن أبي عبلة والجحدريُّ برفعِهما جعلاهما جملةً مستقلة مِنْ مبتدأ وخبر .
قوله : " كُلٌّ له " أي : كلٌّ من الجبالِ والطيرِ لداودَ . أي : لأجلِ تسبيحِه مُسَبِّح ، فوضَع " أوَّاب " موضعَ مُسَبِّح . وقيل : الضمير للباري تعالى ، والمرادُ كلٌّ مِنْ داودَ والجبالِ والطيرِ مُسَبِّح ورَجَّاع لله تعالى .
(1/4430)
وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
قوله : { وَشَدَدْنَا } : العامَّةُ على تخفيفِ " شَدَدْنا " أي : قَوَّيْنا كقوله : " سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بأخيك " . وابنُ أبي عبلة والحسن " شَدَدْنا " بالتشديد وهي مبالَغَةٌ لقراءةِ العامَّةِ .
(1/4431)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)
قوله : { نَبَأُ الخصم } : قد تقدَّم أنَّ الخَصْمَ في الأصل مصدرٌ فلذلك يَصْلُحُ للمفردِ والمذكرِ وضِدَّيْهِما ، وقد يطابِقُ . ومنه : { لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ } [ ص : 22 ] و { هذان خَصْمَانِ } [ الحج : 19 ] . والمرادُ بالخَصْمِ هنا جمعٌ بدليلِ قولِه : " إذ تَسَوَّرُوا " وقوله : " إذ دَخَلُوا " . قال الزَمخشريُّ : " وهو يقعُ للواحدِ والجمعِ كالضَّيْفِ . قال تعالى : { حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين } [ الذاريات : 24 ] لأنه مصدرٌ في أصله يُقال : خَصَمه يَخْصِمُه خَصْماً كما تقول : ضافه ضَيْفاً . فإنْ قلتَ : هذا جمعٌ وقولُه : " خصمان " تثنيةٌ فكيف استقَامَ ذلك؟ قلت : معنى خصمان : فريقان خَصْمان ، والدليلُ عليه قراءةُ مَنْ قرأ " [ خَصْمَانِ ] بغى بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ " ونحوُه قوله تعالى : { هذان خَصْمَانِ اختصموا } . فإنْ قلتَ : فما تصنعُ بقولِه : { إِنَّ هَذَآ أَخِي } وهو دليلٌ على الاثنين؟ قلت : هذا قولُ البعضِ المراد به : { بَعْضُنَا على بَعْضٍ } . فإنْ قلت : فقد جاء في الرواية : أنه بُعِثَ إليه مَلَكان . قلت : معناه أن التحاكمَ بين مَلَكَيْن ، ولا يمنعُ ذلك أَنْ يَصْحَبَهما آخرون . فإن قلت : كيف سَمَّاهم جميعاً خَصْماً في قوله : " نَبَأ الخَصْمِ " و " خَصْمان "؟ قلتُ : لَمَّا كان صَحِبَ كلَّ واحدٍ من المتحاكميْن في صورةِ الخَصْمِ صَحَّت التسميةُ به " .
قوله : " إذ تَسَوَّروا " في العامل في " إذ " أوجهٌ ، أحدها : أنه معمولٌ للنبأ إذا لم يُرِدْ به القصة . وإليه ذهبَ ابنُ عطيةَ وأبو البقاء ومكي . أي : هل أتاك الخبرُ الواقعُ في وقتِ تَسَوُّرِهم المحرابَ؟ وقد رَدَّ بعضُهم هذا : بأنَّ النبأ الواقعَ في ذلك الوقتِ لا يَصِحُّ إتيانُه رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، وإنْ أريد بالنبأ القصةُ لم يكن ناصباً . قاله الشيخ . الثاني : أنَّ العاملَ فيه " أتاك " ورُدَّ بما رُدَّ به الأولُ . وقد صَرَّحَ الزمخشريُّ بالردِّ على هذين الوجهين ، فقال : " فإنْ قلتَ بم انتصبَ " إذ "؟ قلت : لا يَخْلوا إمَّا أَنْ ينتصِبَ ب " أتاك " أو بالنبأ أو بمحذوفٍ . فلا يَسُوغ انتصابُه ب " أتاك " لأنَّ إتْيانَ النبأ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لا يقعُ إلاَّ في عهدِه لا في عهدِ دوادَ ، ولا بالنبأ؛ لأنَّ النبأ واقِعٌ في عهدِ داودَ فلا يَصِحُّ إتيانُه رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم . وإن أَرَدْتَ بالنبأ القصةَ في نفسِها لم يكنْ ناصباً ، فبقي أَنْ يكونَ منصوباً بمحذوف ، وتقديره : وهل أتاك نبأُ تحاكُمِ الخَصْمِ إذ ، فاختار أن يكونَ معمولاً لمحذوفٍ . الرابع : أَنْ ينتصِبَ بالخصْم لِما فيه من معنى الفعلِ .
(1/4432)
إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)
قوله : { إِذْ دَخَلُواْ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه بدل مِنْ " إذ " الأولى . الثاني : أنَّه منصوبٌ ب " تَسَوَّرُوا " ومعنى تَسَوَّروا : عَلَوْا/ أعلى السُّورِ ، وهو الحائطُ ، غيرُ مهموزٍ كقولك : تَسَنَّم البعيرَ أَي : بَلَغَ سَنامَه . والضميرُ في " تَسَوَّروا " و " دخلوا " راجعٌ على الخصم لأنه جمعٌ في المعنى على ما تقدَّم ، أو على أنَّه مثنى ، والمثنى جمعٌ في المعنى ، وقد مضى الخلافُ في هذا محققاً .
قوله : " خَصْمان " خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : نحن خَصْمان؛ ولذلك جاء بقولِه : " بَعْضُنا " . ومَنْ قرأ " بعضهم " بالغَيْبة يُجَوِّز أن يُقَدِّرَه كذلك ، ويكون قد راعى لفظَ " خَصْمان " ، ويُجَوِّزُ أنْ يُقَدِّرَ هم خصمان ليتطابَقَ . ورُوِي عن الكسائي " خِصْمان " بكسر الخاء . وقد تقدَّم أنه قرأها كذلك في الحج .
قوله : " بَغَى بَعْضُنا " جملةٌ يجوزُ أَنْ تكون مُفَسِّرَةً لحالِهم ، وأن تكونَ خبراً ثانياً .
قوله : " ولا تُشْطِطْ " العامَّةُ على ضَمِّ التاء وسكونِ الشينِ وكسرِ الطاءِ الأولى مِنْ أشْطَطَ يُشْطِطُ إشْطاطاً إذا تجاوز الحقَّ . قال أبو عبيدة : " شَطَطْتُ في الحُكْمِ؛ وأَشْطَطْتُ فيه ، إذا جُرْتُ " فهو ممَّا اتفق فيه فَعَل وأَفْعَل ، وإنما فَكَّه على أحدِ الجائزَيْن كقولِه : " مَنْ يَرْتَدِدْ " وقد تقدَّم تحقيقُه . وقرأ الحسن وأبو رجاء وابنُ أبي عبلة " تَشْطُط " بفتح التاءِ وضَمِّ الطاءِ مِنْ شَطَّ بمعنى أشَطَّ كما تقدَّم . وقرأ قتادة " تُشِطَّ " مِنْ أشطَّ رباعياً ، إلاَّ أنه أدغم وهو أحد الجائزَيْن كقراءة مَنْ قرأ { مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ } ، وعنه أيضاً " تُشَطِّطْ " بفتح الشين وكسرِ الطاءِ مُشَدَّدةً شَطَّطَ يُشَطِّطُ . والتثقيلُ فيه للتكثيرِ . وقرأ زر بن حبيش " تُشاطِطْ " من المفاعلة .
(1/4433)
إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)
قوله : { تِسْعٌ وَتِسْعُونَ } : العامَّةُ على كسر التاءِ ، وهي اللغةُ الفاشيةُ . وزيد بن علي والحسن بفتحها فيهما ، وهي لُغَيَّةٌ . وقرأ العامَّةُ " نَعْجة " بفتح النون ، والحسن وابن هرمز بكسرها . قيل : وهي لغةٌ لبعضِ بني تميمٍ . وكَثُرَ في كلامِهم الكنايةُ بها عن المرأةِ قال ابنُ عَوْنٍ :
3858 أنا أبُوْهُنَّ ثلاثٌ هُنَّهْ ... رابِعَةٌ في البيتِ صُغْراهُنَّهْ ... ونَعْجتي خَمْساً تُوَفِّيْهِنَّهْ ... وقال آخر :
3859 هما نَعْجَتان مِنْ نِعاج تَبالَةٍ ... لَدى جُؤْذُرَيْنِ أو كبعضٍ دُمَى هَكِرْ
وقوله : " وعَزَّني " أي : غَلَبني . قال الشاعر :
3860 قَطاةٌ عَزَّها شَرَكٌ فباتَتْ ... تُجاذِبُهُ وقد عَلِقَ الجَناحُ
يقال : عَزَّهُ يَعُزُّه بضمِّ العينِ وتقدَّم تحقيقُه في سورة يس . وقرأ طلحة وأبو حيوة " وَعَزَني " بالتخفيف . قال ابن جني : " حَذْف الزاي الواحدةِ تخفيفاً . كما قال :
3861 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أَحَسْنَ به فهنَّ إليه شُوْسُ
يريد : أَحْسَسْنَ " ، فحذف . وتُرْوَى هذه قراءةً عن عاصم . وقرأ عبد الله والحسن وأبو وائل ومسروق والضحاك " وعازَّني " بألفٍ مع تشديد الزاي ، أي : غالبني .
(1/4434)
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24)
قوله : { بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ } : مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه ، والفاعلُ محذوفٌ أي : بأَنْ سَأَلك نعجَتك ، وضُمِّنَ السؤالُ معنى الإِضافةِ والانضمامِ أي : بإضافةِ نعجتِك على سبيل السؤال ، ولذلك عُدِّي ب إلى .
قوله : " لَيَبْغي " العامَّةُ على سكونِ الياءِ وهو مضارعٌ مرفوعٌ في محلِّ الخبرِ ل " إنَّ " وقُرِئ " لَيَبْغيَ " بفتح ياءَيْه . ووُجِّهَتْ : بأن الأصلَ : لَيَبْغِيَنْ بنونِ التوكيد الخفيفة والفعل جواب قسم مقدر ، والقسم المقدر وجوابه خبر إنَّ تقديره : وإن كثيراً من الخلطاء والله ليبغين ، فحُذِفَت كما حُذِفَ في قوله :
3862 اضْرِبَ عَنْك الهمومَ طارِقَها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقُرِئ " ألم نَشْرَحَ " بالفتح وقوله :
3863 مِنْ يومِ لم يُقْدَرَ أو يومَ قُدِرْ ... بفتح الراء . وقُرِئَ " لَيَبْغِ " بحَذْف الياء . قال الزمخشري : " اكتفى منها بالكسرة " وقال الشيخ : " كقوله :
3864 محمدُ تَفِدْ نفسَك كلُّ نَفْسٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يريد " تَفْدِي " على أحدِ القولين " يعني : أنه حذفَ الياءَ اكتفاءً عنها بالكسرةِ . والقول الثاني : أنه مجزومٌ بلامِ الأمرِ المقدرةِ . وقد تقدَّم هذا في سورة إبراهيم عليه السلام ، إلاَّ أنَّه لا يتأتَّى هنا لأنَّ اللامَ مفتوحةٌ .
قوله : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ } استثناءٌ متصلٌ مِنْ قولِه : " بعضهم " وقوله : " وقليلٌ " خبرٌ مقدمٌ و " ما " مزيدةٌ للتعظيم . و " هم " مبتدأ .
قوله : " فَتَنَّاه " بالتخفيفِ . وإسنادُه إلى ضميرِ المتكلمِ المعظِّم نفسَه قراءةُ العامَّةِ . وعمرُ بن الخطاب والحسن وأبو رجاء " فَتَّنَّاه " بتشديد/ التاء وهي مبالغةٌ . وقرأ الضحاك " أفتنَّاه " يُقال : فَتَنَه وأَفْتَنَه أي : حَمَله على الفتنةِ . ومنه قولُه :
3865 لَئِنْ فَتَنَتْنِيْ لَهْيَ بالأَمْسِ أَفْتَنَتْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقرأ قتادةُ وأبو عمروٍ في روايةٍ " فَتَناه " بالتخفيف . و " فتنَّاه " بالتشديد والألفُ ضميرُ الخصمين . و " راكِعاً " حالٌ مقدرةٌ ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ لظهورِ المقارنة .
(1/4435)
فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
قوله : { ذَلِكَ } : الظاهرُ أنَّه مفعولُ " غَفَرْنا " . وجَوَّز أبو البقاءِ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : الأمرُ ذلك وأيُّ حاجةٍ إلى هكذا؟
(1/4436)
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
قوله : { فَيُضِلَّكَ } : فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه منصوبٌ في جوابِ النهي . والثاني : أنه عطفٌ على " لا تَتَّبِعْ " فهو مجزومٌ ، وإنما فُتِحَتْ اللامُ لالتقاء الساكنين ، وهو نهيٌ عن كل واحدٍ على حِدَتِه ، والأولُ فيه النهيُ عن الجمع بينهما . وقد يَتَرَجَّح الثاني لهذا المعنى . وقد تقدَّم تقريرُ ذلك في البقرة في قوله : { وَتَكْتُمُواْ الحق } [ البقرة : 42 ] . وفاعل " فَيُضِلَّك " يجوزُ أَنْ يكونَ " الهوى " ويجوزُ أَنْ يكونَ ضميرَ المصدرِ المفهوم من الفعل أي : فيُضِلَّك اتِّباعُ الهوى . والعامَّةُ على فتحِ " يَضِلُّون " ، وقرأ ابنُ عباس والحسن وأبو حيوة " يُضِلُّون " بالضمِّ أي : يُضِلُّون الناسَ ، وهي مُسْتَلْزِمَةٌ للقراءةِ الأولى ، فإنه لا يُضِلُّ غيرَه إلاَّ ضالٌّ بخلافِ العكسِ .
قوله : " بما نَسُوا " " ما " مصدريَّةٌ . والجارُّ يتعلَّقُ بالاستقرار الذي تضمنَّه " لهم " . و " لهم عذابٌ " يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً خبراً ل " إنَّ " ، ويجوزُ أَنْ يكونَ الخبرُ وحدَه الجارَّ . و " عذابٌ " فاعلٌ به وهوالأحسنُ لقُرْبِه من المفرد .
(1/4437)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27)
قوله : { بَاطِلاً } : يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، أو حالاً مِنْ ضميرِه أي : خَلْقاً باطلاً ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل " خَلَقْنا " أي : مُبْطِلين أو ذوي باطلٍ . ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً مِنْ أجلِه . أي : للباطل وهو العَبَثُ . و " أم " في الموضعَيْن منقطعةٌ وقد عَرَفْتَ ما فيها .
(1/4438)
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
قوله : { كِتَابٌ } : يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : هذا كتابٌ و " أَنْزَلْناه " صفةٌ و " مبارَكٌ " خبرُ مبتدأ مضمرٍ أو خبرٌ ثانٍ ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ثانياً ، لأنَّه لا يتقدَّمُ عند الجمهورِ غيرُ الصريحِ على الصريحِ . ومَنْ يرى ذلك استدلَّ بظاهِرها ، وقد تقدَّم هذا محرَّراً في المائدة .
و " لِيَدَّبَّروا " متعلقٌ ب " أَنْزَلْناه " . وقُرِئ " مبارَكاً " على الحالِ اللازمةِ؛ لأنَّ البركةَ لا تفارِقُه . وقرأ علي رضي الله عنه " لِيَتَدَبَّروا " وهي أصلُ قراءةِ العامَّةِ فأُدْغِمَتْ التاءُ في الدالِ . وأبو جعفر - ورُوِيَتْ عن عاصم والكسائي - " لِتَدَبَّروا " بتاءِ الخطاب وتخفيفِ الدالِ . وأصلُها لِتَتدَبَّروا بتاءَيْن فحُذِفَتْ إحداهما . وفيها الخلافُ المشهورُ : هل هي الأُوْلى أو الثانية؟
(1/4439)
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)
قوله : { نِعْمَ العبد } : مخصوصُها محذوفٌ أي : نِعْمَ العبدُ سليمانُ . وقيل : داودُ . والأولُ أظهرُ لأنه هو المَسُوْقُ للحديثِ عنه . وقُرِئ بكسرِ العين ، وهي الأصلُ كقولِه :
3866 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَعِمَ السَّاعونَ في القومِ الشُّطُرْ
(1/4440)
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31)
قوله : { إِذْ عُرِضَ } : في ناصبه أوجهٌ ، أحدها : نِعْم ، وهو أضعَفُها لأنه لا يَتَقَيَّدُ مَدْحُه بوقتٍ ، ولعدمِ تَصَرُّفِ نِعْمَ . والثاني : " أوَّاب " وفيه تقييدُ وَصْفِه بذلك بهذا الوقت . والثالث : اذكرْ مقدراً وهو أَسْلَمُها و " الصَّافِناتُ " جمعُ صافنٍ . وفيه خلافٌ بين أهلِ اللغةِ . فقال الزجَّاجُ : هو الذي يقفُ على إحدى يدَيْه ويَقِفُ على طَرَفِ سُنْبُكه ، وقد يفعل ذلك بإحدى رجلَيْه . قال : " وهي علامةُ الفَراهةِ فيه ، وأنشد :
3867 أَلِفَ الصُّفُوْنَ فما يَزال كأنَّه ... مِمَّا يقومُ على الثلاثِ كَسِيْرا
وقيل : هو الذي يَجْمَعُ يديه ويُسَوِّيهما . وأمَّا الذي يقفُ على سُنْبُكِه فاسمُه المُخِيْم قاله أبو عبيد . وقيل : هو القائمُ مطلقاً ، أي : سواءً كان من الخيل أم مِنْ غيرها قاله القُتبيُّ ، واستدلَّ بالحديث وهو قوله عليه السلام : " مَنْ سَرَّه أَنْ يقومَ الناسُ له صُفُوناً فَلْيتبوَّأْ مقعدَه من النار " أي : يُديمون له القيام . وحكاه قطرب أيضاً . وقيل : هو القيامُ مطلقاً سواءً وقفتَ على طَرَف سُنْبك أم لا . قال الفراء : " على هذا رأيْتُ أشعارَ العرب " . انتهى وقال النابغة : /
3868 لنا قُبَّةٌ مَضْروبة بفِنائها ... عِتاقُ المَهارى والجياد الصَّوافِنُ
والجِيادُ : إمَّا من الجَوْدَةِ يقال : جاد الفَرَسُ يجودُ جَوْدة وجُوْدة بالفتح والضم فهو جَوادٌ للذكر والأنثى ، والجمع : جِيادٌ وأَجْواد وأجاويد وقيل : جمع ل جَوْد بالفتح كثَوْب وثِياب . وقيل : جمع جَيِّد . وإما من الجِيْد وهو العُنُق والمعنى : طويلة الأجياد ، وهو دالٌّ على فَراهتِها .
(1/4441)
فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32)
قوله : { حُبَّ الخير } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : هو مفعولُ " أَحْبَبْت " لأنه بمعنى آثَرْتُ ، و " عَنْ " على هذا بمعنى على ، أي : على ذِكْر ربي؛ لأنه يُرْوَى في التفسيرِ - واللَّهُ أعلم - أنه عَرَضَ الخيلَ حتى شَغَلَتْه عن صلاة العصرِ أولَ الوقتِ حتى غَرَبَتِ الشمسُ . وقال الشيخ : " وكأنه منقولٌ عن الفراء أنه ضَمَّن أَحْبَبْتُ معنى آثَرْتُ حتى نصبَ " حُبَّ الخير " مفعولاً به . وفيه نظرٌ؛ لأنه متعدٍّ بنفسه ، وإنما يَحتاج إلى التضمين إنْ لو لم يكنْ متعدِّياً . الثاني : أنَّ " حُبَّ " مصدرٌ على حَذْفِ الزوائد . والناصبُ له " أَحببتُ " . الثالث : أنه مصدرٌ تشبيهيٌّ أي : حُباً مثلَ حُبِّ الخير . الرابع : أنه قيل : ضُمِّن معنى أَنَبْتُ ، فلذلك تَعَدَّى ب " عن " . الخامس : أنَّ " أَحْبَبْتُ " بمعنى لَزِمْتُ . السادس : أنَّ " أَحْبَبْتُ " مِنْ أحَبَّ البعيرُ إذا سَقَطَ وبَرَك من الإِعْياء . والمعنى : قَعَدْتُ عن ذِكْر ربي ، فيكون " حُبَّ الخيرِ " على هذا مفعولاً مِنْ أجله .
قوله : " حتى تَوارَتْ " في الفاعل وجهان ، أحدهما : هو " الصافنات " والمعنى : حتى دخلَتْ اصْطَبْلاتِها فتوارَتْ وغابَتْ . والثاني : أنه للشمس أُضْمِرَتْ لدلالة السِّياق عليها . وقيل : لدلالةِ العَشِيِّ عليها فإنها تشعر بها . وقيل : يدل عليها الإِشراق في قصة داود . وما أبعده .
وقوله : " ذِكْرِ ربي " يجوز أَنْ يكونَ مضافاً للمفعول أي : عن أَنْ أذكر ربي ، وأَنْ يكونَ مضافاً للفاعل أي : عَنْ أَنْ ذَكرني ربي . وضميرُ المفعولِ في " رُدُّوها " للصافناتِ . وقيل : للشمس ، وهو غريبٌ جداً .
(1/4442)
رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
قوله : { مَسْحاً } : منصوبٌ بفعلٍ مقدر ، وهو خبر " طَفِق " أي : فَطَفِق يَمْسَح مَسْحاً؛ لأنَّ خبرَ هذه الأفعالِ لا يكونُ إلاَّ مضارعاً في الأمر العام . وقال أبو البقاء وبه بَدأ : " مصدرٌ في موضعِ الحالِ " . وهذا ليس بشيء لأنَّ " طَفِقَ " لا بُدَّ لها مِنْ خبر .
وقرأ زيد بن علي : " مِساحاً " بزنةِ قِتال . والباءُ في " بالسُّوْق " مزيدةٌ ، مِثْلُها في قولِه : { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ } [ المائدة : 6 ] . وحكى سيبويه " مَسَحْتُ رأسَه وبرأسِه " بمعنًى واحدٍ . ويجوز أن تكونَ للإِلصاق كما تقدَّم تقريرُه . وتقدَّم هَمْزُ السُّؤْق وعدمُه في النمل . وجعل الفارسي الهمزَ ضعيفاً . وليس كما قال؛ لِما تقدَم من الأدلة . وقرأ زيد بن عليّ " بالساق " مفرداً اكتفاءً بالواحدِ لعَدمِ اللَّبْسِ كقولِه :
3869 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وأمَّا جِلْدُها فصَلِيْبُ
وقولِه :
3870 كلُوا في بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقولِه :
3871 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شَجيْنا
وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : بمَ اتَّصَلَ قولُه : " رُدُّوها عليَّ "؟ قلت : بمحذوفٍ تقديرُه قال : " رُدُّوها " فأضمر ، وأضمر ما هو جوابٌ له . كأنَّ قائلاً قال : فماذا قال سليمان؟ لأنه موضعٌ مُقتَضٍ للسؤالِ اقتضاءً ظاهراً " . قال الشيخ : " وهذا لا يُحتاجُ إليه؛ لأنَّ هذه الجملةَ مُنْدَرِجَةٌ تحت حكايةِ القولِ وهو : { فَقَالَ إني أَحْبَبْتُ } .
(1/4443)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34)
قوله : { جَسَداً } : فيه وجهان : أظهرُهما : أنه مفعولٌ به لأَلْقَيْنا . وفي التفسيرِ : أنه شِقُّ وَلَدٍ . والثاني : أنه حالٌ وصاحبُها : إمَّا سليمانُ؛ لأنه يُرْوى أنه مَرِضَ حتى صار كالجسد الذي لا رُوْحَ فيه ، وإمَّا وَلَدُه . قالهما أبو البقاء : ولكنْ جسدٌ جامدٌ ، فلا بُدَّ مِنْ تأويلِه بمشتقٍّ ، أي : ضعيفاً أو فارغاً .
(1/4444)
فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36)
قوله : { تَجْرِي } : يجوزُ أَنْ تكونَ مُفَسِّرةً لقولِه : " سَخَّرْنا " ، وأَنْ تكونَ حالاً من الريح . والعامَّةُ على توحيد الريح ، والمعنى على الجمعِ . وقرأ الحسن وأبو رجاء وأبو جعفر وقتادة " الرياح " و " رُخاءً " حالٌ مِنْ فاعل " تَجْري " . والرُّخاءُ : الليِّنَةُ مشتقةً من الرَّخاوة . ومعنى ذلك الطواعيةُ لأمْرِه .
قوله : " حيث " ظرفٌ ل " تَجْري " أو ل " سَخَّرْنا " . و " أصاب " : أراد بلغةِ حِمْير . وقيل : بلغة هَجَر . وعن [ رجلين مِنْ أهل اللغة ] أنهما خرجا يَقْصِدان رؤبة ليسألاه عن هذا الحرف . فقال لهما : أين تُصيبان؟ فعَرفاها وقالا : هذه بُغْيَتُنا . وأنشد الثعلبي على ذلك :
3872 أصابَ الجوابَ فلمْ يَسْتَطِعْ ... فأخْطا الجوابَ لدى المِفْصَلِ
/ أي : أراد الجوابَ . ويُقال : " أَصاب اللَّهُ بك خيراً " أي : أرده بك . وقيل : الهمزةُ في " أصاب " للتعديةِ مِنْ صابَ يَصُوْبُ أي : نَزَلَ ، والمفعولُ محذوفٌ أي : أصاب جنودَه أي : حيث وجَّههم وجعلهم يصُوْبون صَوْبَ المطرِ .
(1/4445)
وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37)
قوله : { والشياطين } : نَسَقٌ على " الريحَ " . و " كلَّ بنَّاءٍ " بدلٌ من " الشياطين " ، وأتى بصيغةِ المبالغةِ لأنَّه في مَعْرِضِ الامتنانِ . و " آخرين " عطفٌ على " كلَّ " فهو داخِلٌ في حكمِ البدلِ . وتقدَّم شَرْحُ { مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد } [ إبراهيم : 49 ] في آخرِ سورة إبراهيم .
(1/4446)
هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)
قوله : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه متعلقٌ ب " عَطاؤُنا " أي : أَعْطيناك بغَير حِسابٍ ولا تقديرٍ ، وهو دلالةٌ على كثرةِ الإِعطاء . الثاني : أنه حالٌ مِنْ " عَطاؤنا " أي : في حال كونِه غيرَ محاسَبٍ عليه لأنه جَمٌّ كثيرٌ يَعْسُر على الحُسَّاب ضَبْطُه . الثالث : أنه متعلقٌ ب " امْنُنْ " أو " أمسِكْ " ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعلهما أي غيرَ محاسَب عليه .
(1/4447)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
قوله : { وَحُسْنَ مَآبٍ } : العامَّةُ على نصبِه نسقاً على اسم " إنَّ " وهو " لَزُلْفَى " . وقرأ الحسن وابن أبي عبلة برَفعِه على الابتداءِ ، وخبرُه مُضْمَرٌ لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه ويَقِفان على " لَزلْفَى " ويَبتَدِئان ب " حُسْنُ مآب " أي : وحُسْنُ مآب له أيضاً .
(1/4448)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41)
قوله : { أَيُّوبَ } : كقولِه : { عَبْدَنَا دَاوُودَ } [ ص : 17 ] ففيه ثلاثةُ الأوجهِ . و " إذْ نادَى " بَدَلٌ منه بدلُ اشتمال . وقوله : " أني " جاء به على حكايةِ كلامِه الذي ناداه بسببه ولو لم يَحْكِه لقال : إنَّه مَسَّه لأنه غائبٌ . وقرأ العامَّةُ بفتح الهمزة على أنه هو المنادَى بهذا اللفظِ . وعيسى بن عمر بكسرِها على إضمار القولِ أو على إجراءِ النداءِ مُجْراه .
قوله : " بِنُصْبٍ " قرأ العامَّةُ بالضم والسكون . فقيل : هو جمعُ " نَصَبٍ " بفتحتين نحو : وَثَن ووُثْن ، وأَسَدِ وأُسْدٍ . وقيل : هي لغةٌ في النَّصَبَ نحوُ : رُشْد ورَشَد ، وحُزْن وحَزَن ، وعُدْم وعَدَم . وأبو جعفر وشيبة وحفص ونافع في روايةٍ بضمتين وهو تثقيلُ نُصْب بضمة وسكون ، قاله الزمخشري . وفيه بُعْدٌ لِماعَرَفْتَ أنَّ مقتضى اللغةِ تخفيفُ فُعُل كعُنُق لا تثقيل فُعْل كقُفْل ، وفيه خلافٌ . وقد تقدَّم في العُسْر واليُسْر في البقرة . وقرأ أبو حيوة ويعقوبُ وحفصٌ في روايةٍ بفتحٍ وسكونٍ ، وكلُّها بمعنًى واحدٍ : وهو التعبُ والمَشقةُ .
(1/4449)
وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43)
قوله : { رَحْمَةً } : و " ذكرى " مفعولٌ من أجله أي : وهَبْناهم له لأَجْلِ رحمتِنا إيَّاه وليتذكَّرَ بحالهِ أولو الألباب .
(1/4450)
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
قوله : { ضِغْثاً } : الضِّغْثُ : الحُزْمَةُ الصغيرةُ من الحشيشِ والقُضْبان . وقيل : الحُزْمَةُ الكبيرةُ من القُضْبان . وفي المثل : " ضِغْثٌ على إبَّالَة " والإِبَّالةُ : الحُزْمَةُ من الحطبِ . قال الشاعر :
3873 وأثقلَ مني نَهْدَةً قد رَبَطْتُها ... وأَلْقَيْتُ ضِغْثاً مِن خَلَىً مُتَطيَّبِ
وأصلُ المادة يَدُلُّ [ على ] جَمْعِ المختلطاتِ . وقد تقدَّم هذا في سورة يوسف في { أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ } [ يوسف : 44 ] .
قوله : " ولا تَحْنَثْ " الحِنْثُ : الإِثْمُ . ويُطْلَقُ على فِعْلِ ما حُلِفَ على تَرْكِه أو تَرْكِ ما حُلِفَ على فِعْله لأنَّهما سِيَّان فيه غالباً .
(1/4451)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45)
قوله : { عِبَادَنَآ } : قرأ ابنُ كثير " عَبْدَنا " بالتوحيد . والباقون " عبادَنا " بالجمعِ والرسمُ يحتملهما . فأمَّا قراءةُ ابنِ كثير ف " إبراهيمَ " بدلٌ أو بيانٌ ، أو بإضمار أَعْني ، وما بعدَه عطفٌ على نفس " عبدَنا " لا على إبراهيم؛ إذْ يَلْزَمُ إبدالُ جمع مِنْ مفردٍ . ولقائلٍ أنْ يقولَ : لمَّا كان المرادُ بعبدنا الجنسَ جاز إبدالُ الجمعِ منه . وهذا كقراءةِ ابنِ عباس { وإله أبيك إِبْرَاهِيمَ } في البقرة في أحدِ القولين وقد تقدَّم . وأمَّا قراءةُ الجماعةِ فواضحةٌ لأنَّها موافقةٌ للأولِ في الجمع .
قوله : " الأَيْدي " العامَّة على ثبوتِ الياءِ ، وهو جَمْعُ يدٍ : إمَّا الجارِحَةِ ، وكنَى بذلك/ عن الأعمالِ؛ لأنَّ أكثرَ الأعمالِ إنما تُزاوَلُ باليدِ . وقيل : المرادُ بالأيدي جمعُ " يَدٍ " المراد بها النعمةُ . وقرأ عبد الله والحسن وعيسى والأعمش " الأَيْد " بغيرِ ياء فقيل : هي الأُوْلى وإنَّما حُذِفَتِ الياءُ اجتزاءً عنها بالكسرة ولأنَّ أل تعاقِبُ التنوينَ ، والياءُ تُحْذَفُ مع التنوين ، فأُجْرِيَتْ مع أل إجراءَها معه . وهذا ضعيفٌ جداً . وقيل : الأَيْد : القوةُ . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قال : " وتَفْسيرُه بالأَيْد من التأييد قِلِقٌ غيرُ متمكن " انتهى . وكأنَّه إنما قَلِقَ عنده لعطفِ الأبصارِ عليه ، فهو مناسبٌ للأيدي لا للأَيْد من التأييد . وقد يقال : إنه لا يُراد حقيقةُ الجوارح؛ إذ كلُّ أحدٍ كذلك ، إنما المراد الكناية عن العمل الصالحِ والتفكُّرِ ببصيرتِه فلم يَقْلَقْ حينئذٍ؛ إذ لم يُرِدْ حقيقةَ الإِبصارِ . وكأنه قيل : أُولي القوةِ والتفكُّر بالبصيرةِ . وقد نحا الزمخشري إلى شيءٍ مِنْ هذا قبلَ ذلك .
(1/4452)
إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)
قوله : { بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى } : قرأ نافعٌ وهشام " بخالصةِ ذكرَى " بالإِضافة . وفيها أوجه ، أحدُها : أَنْ يكونَ أضافَ " خالصة " إلى " ذكرَى " للبيانِ؛ لأنَّ الخالصةَ تكونُ ذكرى وغيرَ ذكرْى كما في قولِه : { بِشِهَابٍ قَبَسٍ } [ النمل : 7 ] لأنَّ الشهابَ يكونُ قَبَساً وغيرَه . الثاني : أنَّ " خالصةً " مصدرٌ بمعنى إخلاص ، فيكون مصدراً مضافاً لمفعولِه ، والفاعلُ محذوفٌ أي : بأَنْ أَخْلَصوا ذكرى الدار وتناسَوْا عندها ذِكْرَ الدنيا . وقد جاء المصدرُ على فاعِلة كالعافِية ، أو يكونُ المعنى : بأَنْ أَخْلَصْنا نحن لهم ذكرى الدار . الثالث : أنها مصدرٌ أيضاً بمعنى الخلوص ، فتكونُ مضافةً لفاعِلها أي : بأنْ خَلَصَتْ لهم ذِكْرَى الدار .
وقرأ الباقون بالتنوينِ وعَدَمِ الإِضافة . وفيها أوجهٌ ، أحدها : أنها مصدرٌ بمعنى الإِخْلاص فيكون " ذكرى " منصوباً به ، وأنْ يكونَ بمعنى الخُلوص فيكون " ذكرى " مرفوعاً به كما تقدَّم ذلك ، والمصدرُ يعملُ منوَّناً كما يَعْمَلُ مضافاً ، أو يكونُ " خالصة " اسمَ فاعلٍ على بابِه ، و " ذكرى " بَدَلٌ أو بيانٌ لها ، أو منصوبٌ بإضمارِ أَعْني ، أو مرفوع على إضمار مبتدأ . و " الدار " يجوز أن يكونَ مفعولاً به بذكرى ، وأن يكونَ ظرفاً : إمَّا على الاتِّساعِ ، وإمَّا على إسقاط الخافض ، ذكرهما أبو البقاء . وخالصة إذا كانَتْ صفةً فهي صفةٌ لمحذوفٍ أي : بسببِ خَصْلَةٍ خَالصةٍ .
(1/4453)
وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)
والأَخْيار جمعُ خَيِّر ، أو خَيْر بالتثقيلِ والتخفيف كأموات جمع مَيِّت أو مَيْت .
(1/4454)
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49)
قوله : { هذا ذِكْرٌ } : جملةٌ جيْءَ بها إيذاناً بأنَّ القصةَ قد تَمَّتْ وأَخَذَ في أخرى ، وهذا كما فَعَل الجاحظ في كتبِه يقول : " فهذا بابٌ " ثم يَشْرَعُ في آخرَ . ويَدُلُّ على ذلك : أنه لمَّا أرد أَنْ يُعَقِّبَ بذِكْر أهل النارِ ذَكَرَ أهلَ الجنة . قال تعالى : { هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ } [ ص : 55 ] .
(1/4455)
جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50)
قوله : { جَنَّاتِ عَدْنٍ } : العامةُ على نصب " جنات " بدلاً من " حُسْنَ مَآب " سواءً كانَتْ جنات عدنٍ معرفةً أم نكرةً؛ لأنَّ المعرفةَ تُبْدَلُ من النكرة وبالعَكْس . ويجوزُ أن تكونَ عطفَ بيان إنْ كانَتْ نكرةً ولا يجوزُ ذلك فيها إنْ كانَتْ معرفةً . وقد جَوَّز الزمخشريُّ ذلك بعد حُكْمِه واستدلاله على أنها معرفةٌ ، وهذا كما تقدَّم له في مواضِعَ يُجِيْزُ عطفَ البيان ، وإنْ تَخالَفا تعريفاً وتنكيراً وقد تقدَّم هذا عند قولِه تعالى : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 97 ] ويجوزُ أَنْ تَنْتَصِبَ " جناتِ عَدْنٍ " بإضمارِ فِعْلٍ . و " مُفَتَّحةً " حالٌ مِنْ " جنات عدن " أو نعتٌ لها إن كانَتْ نكرةً . وقال الزمخشري : " حالٌ . والعاملُ فيها ما في " للمتقين " مِنْ معنى الفعلِ " انتهى . وقد عَلَّلَ أبو البقاءِ بعلةٍ في قوله/ : " مُتَّكئين " تقتضي مَنْعَ " مُفَتَّحة " أَنْ تكونَ حالاً ، وإنْ كانَتْ العلةُ غيرَ صحيحةٍ . وقال : " ولا يجوزُ أَنْ يكونَ " متكئين " حالاً مِنْ " للمتقين " لأنه قد أخبر عنهم قبلَ الحال " وهذه العلةُ موجودةٌ في جَعْل " مُفَتَّحةً " حالاً من " للمتقين " كما ذكره الزمخشري . إلاَّ أنَّ هذه العلةَ ليسَتْ صحيحةً وهو نظيرُ قولِك : " إن لهندٍ مالاً قائمةً " . وأيضاً في عبارتِه تجَوُّزٌ : فإنَّ " للمتقين " لم يُخْبِرْ عنهم صناعةً إنما أخبر عنهم معنًى ، وإلاَّ فقد أخبر عن " حُسْن مآب " بأنَّه لهم . وجعل الحوفيُّ العاملَ مقدراً أي : يَدْخلونها مفتحةً .
قوله : " الأبواب " في ارتفاعِها وجهان ، أحدهما : - وهو المشهورُ عند الناسِ - أنَّها مُرْتفعةٌ باسمِ المفعول كقوله : { وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] . واعْتُرِضَ على هذا بأن " مُفتَحةً " : إمَّا حالٌ ، وإمَّا نعتٌ ل " جنات " ، وعلى التقديرَيْن فلا رابطَ وأُجيب بوجهين ، أحدهما : قولُ البصريين : وهو أنَّ ثَمَّ ضميراً مقدراً تقديرُه : الأبوابُ منها . والثاني : أنَّ أل قامَتْ مقامَ الضمير؛ إذِ الأصلُ : أبوابُها . وهو قول الكوفيين وتقدَّم تحقيقُ هذا . والوجهان جاريان في قولِه : { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 41 ] . الثاني : أنها مرتفعةٌ على البدلِ من الضميرِ في " مُفَتَّحَةً " العائدِ على " جنات " وهو قولُ الفارسيِّ ، لمَّا رأى خُلُوَّها من الرابطِ لفظاً ادَّعَى ذلك . واعْتُرض على هذا : بأنَّ مِنْ بدلِ البعض أو الاشتمالِ ، وكلاهما لا بُدَّ فيهما مِنْ ضميرٍ فيُضْطَرُّ إلى تقديره كما تقدَّم . ورَجَّح بعضُهم الأولَ : بأنَّ فيه إضماراً واحداً ، وفي هذا إضماران وتَبعه الزمخشريُّ فقال : " والأبواب بدلٌ مِن الضمير في " مُفَتَّحَةً " أي : مفتحةً هي الأبواب كقولك : ضربَ زيدٌ اليدَ والرِّجْلَ ، وهو مِنْ بَدَلِ الاشتمال " فقوله : " بدلُ الاشتمال " إنما يعني به الأبواب ، لأنَّ الأبواب قد يُقال : إنها ليسَتْ بعضَ الجنات ، و " أمَّا ضَرَبَ زيدٌ اليدَ والرِّجْلَ " فهو بعضٌ مِنْ كل ليسَ إلاَّ .
وقرأ زيد بن علي وأبو حيوةَ { جَنَّاتُ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةٌ } برفعهما : إمَّا على أنهما جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ ، وإمَّا على أنَّ كلَّ واحدةٍ خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هي جناتٌ ، هي مفتحةٌ .
(1/4456)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51)
قوله : { مُتَّكِئِينَ } : حالٌ مِنْ " لهم " العاملُ فيها " مفتحةً " . وقيل : العاملُ " تُوْعَدون " تأخَّر عنها ، وقد تقدَّمَ مَنْعُ أبي البقاء أنها حال مِنْ " للمتقين " وما فيه . و " يَدْعُون " يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً ، وأَنْ يكونَ حالاً : إمَّا مِنْ ضمير " مُتَّكئين " وإمَّا حالاً ثانية .
(1/4457)
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53)
قوله : { تُوعَدُونَ } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا " يُوْعَدون " بالغَيْبة . وفي ق ابنُ كثيرٍ وحدَه . والباقون بالخطاب فيهما ووجهُ الغَيْبةِ هنا وفي ق تَقَدُّمُ ذِكْرِ المتقين . ووجْهُ الخطابِ الالتفاتُ إليهم والإِقبالُ عليهم .
(1/4458)
إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
قوله : { مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ } : " مِنْ نَفادٍ " : إمَّا مبتدأٌ وإمَّا فاعلٌ ، و " مِنْ " مزيدةٌ . والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من " رزقنا " أي : غيرَ فانٍ . ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً .
(1/4459)
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55)
قوله : { هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ " هذا " مبتدأ والخبرُ مقدَّرٌ ، فقدَّره الزمخشري : " هذا كما ذُكِر " . وقَدَّره أبو علي : " هذا للمؤمنين " . ويجوزُ أَنْ يكونَ خبر مبتدأ مضمرٍ أي : الأمرُ هذا .
(1/4460)
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56)
قوله : { جَهَنَّمَ } : يجوزُ أن تكون بدلاً مِنْ " شرَّ مآبٍ " أو منصوبةً بإضمار فعلٍ . وقياسُ قولِ الزمخشري في " جناتِ عدن " أن تكون عطفَ بيانٍ ، وأن تكونَ منصوبةً بفعل مقدرٍ على الاشتغالِ أي : يَصْلَوْن جهنَّمَ يَصْلَوْنَها . والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ أي : هي .
(1/4461)
هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57)
قوله : { هذا فَلْيَذُوقُوهُ } : في " هذا " أوجهٌ ، أحدها : أَنْ يكونَ مبتدأً ، وخبرُه " حميمٌ وغَسَّاقٌ " . وقد تقدَّم أنَّ اسم الإِشارة يُكْتَفَى بواحدِه في المثنى كقوله : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] ، أو يكون المعنى : هذا جامِعٌ بين الوصفَيْن ، ويكون قولُه : " فَلْيَذُوْقوه " جملةً اعتراضيةً . الثاني : أَنْ يكونَ " هذا " منصوباً بمقدَّرٍ على الاشتغال أي : لِيَذُوقوا هذا .
وشبَّهه الزمخشريُّ بقولِه تعالى : { وَإِيَّايَ فارهبون } [ البقرة : 40 ] ، يعني على الاشتغال . والكلامُ على مثلِ هذه الفائدةِ قد تقدَّم . و " حميمٌ " على هذا خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أو مبتدأٌ وخبره مضمرٌ أي : منه حميمٌ ومنه غَسَّاقٌ كقوله :
3874 حتى إذا ما أضاءَ البرقُ في غَلَسٍ ... وغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ ومَحْصُوْدُ
أي : منه مَلْوِيٌّ ومنه مَحْصود . الثالث : أَنْ يكونَ " هذا " مبتدأ ، والخبرُ محذوفٌ أي : هذا كما ذُكِر ، أو هذا للطاغين . الرابع : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : الأمرُ هذا ، ثم استأنف أمراً فقال : فَلْيذوقوه . الخامس : أن يكونَ مبتدأً ، وخبرُه " فَلْيذوقوه " وهو رأيُ الأخفشِ . ومنه :
3875 وقائلةٍ خَوْلانُ فانْكِحْ فتاتَهُمْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في المائدة عند { والسارق والسارقة } [ المائدة : 38 ] / وقرأ الأخَوان وحفصٌ " غَسَّاقٌ " بتشديد السينِ هنا وفي عمَّ يتساءَلْون ، وخَفَّفه الباقون فيهما . فأمَّا المثقلُ فهو صفةٌ كالجَبَّار والضَّرّاب مثالَ مبالغةٍ ، وذلك أنَّ فَعَّالاً في الصفاتِ أغلبُ منه في الأسماء . ومِنْ ورودِه في الأسماء : الكَلاَّء والجَبَّان والفَيَّاد لذَكَرِ البُوْم ، والعَقَّارُ والخَطَّارُ وأمَّا المخففُ فهو اسمٌ لا صفةٌ؛ لأنَّ فَعَالاً بالتخفيفِ في الأسماءِ كالعَذاب والنَّكال أغلبُ منه في الصفاتِ ، على أن منهم مَنْ جَعَله صفةً بمعنى ذي كذا أي : ذي غَسَقٍ . وقال أبو البقاء : " أو يكون فعَّال بمعنى فاعِل " . قلت : وهذا غيرُ مَعْروفٍ . والغَسَقُ : السَّيَلانُ . يقال : غَسَقَتْ عينُه أي : سالَتْ . وفي التفسير : أنه ماءٌ يَسيل مِنْ صَدِيدِهم . وقيل : غَسَق أي امتلأ . ومنه : غَسَقَتْ عينُه أي : امتلأت بالدمع ومنه الغاسقُ للقمرِ لامتلائِه وكمالِه . وقيل : الغَسَّاق ما قَتَل ببردِه . ومنه قيل لليلِ : غاسِق؛ لأنه أبردُ من النهار . وقيل : الغَسَق شدَّةُ الظُّلْمة ، ومنه قيل لليل : " غاسِق " . ويقال للقمر : غاسِقٌ إذا كُسِفَ لاسْوِداده ، ونُقِل القولان في تفسير قوله تعالى : { وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ } [ الفلق : 3 ] .
(1/4462)
وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58)
قوله : { وَآخَرُ } : قرأ أبو عمروٍ بضمِّ الهمزةِ على أنه جمع . وارتفاعُه من أوجهٍ ، أحدها : أنه مبتدأٌ ، و " من شَكْلِه " خبرُه ، و " أزواجٌ " فاعلٌ به . الثاني : أنْ يكونَ مبتدأ أيضاً ، و " مِنْ شكلِه " خبرٌ مقدَّمٌ ، و " أزواج " مبتدأٌ والجملةُ خبرُه ، وعلى هذين فيقال : كيف يَصِحُّ مِنْ غير ضميرٍ يعودُ على أُخَر ، فإن الضميرَ في " شكله " يعودُ على ما تقدَّم أي : مِنْ شكل المَذُوق؟ والجوابُ : أن الضميرَ عائدٌ على المبتدأ ، وإنما أُفْرد وذُكِّر لأنَّ المعنى : مِنْ شكلِ ما ذَكَرْنا . ذكر هذا التأويلَ أبو البقاءِ . وقد منع مكي ذلك لأجل الخُلُوِّ من الضمير ، وجوابُه ما ذكرته لك . الثالث : أن يكون " مِنْ شكله " نعتاً ل أُخَر ، وأزواج خبر المبتدأ أي : وأُخر من شكل المذوق أزواج . الرابع : أن يكون " من شكله نعتاً أيضاً ، وأزواجٌ فاعل به ، والضميرُ عائدٌ على أُخَر بالتأويل المتقدم ، وعلى هذا فيرتفعُ " أُخَرُ " على الابتداء ، والخبرُ مقدرٌ أي : ولهم أنواعٌ أُخَرُ ، استقرَّ مِنْ شكلها أزواجٌ . الخامس : أنْ يكونَ الخبر مقدراً كما تقدَّم أي : ولهم أُخَرُ ، ومِنْ شكلِه وأزواج صفتان ل أُخَر .
وقرأ العامَّة " مِنْ شَكْلِه " بفتح الشين ، وقرأ مجاهد بكسرِها ، وهما لغتان بمعنى المِثْل والضرب . تقولُ : هذا على شَكْلِه أي : مِثْله وضَرْبه . وأما الشِّكْلُ بمعنى الغُنْج فالبكسر لا غير ، قاله الزمخشري .
وقرأ الباقون " وآخَرُ " بفتح الهمزة وبعدها ألفٌ بصيغةِ أَفْعَل التفضيل ، والإِعرابُ فيه كما تقدَّم . والضمير في أحدِ الأوجه يعودُ عليه مِنْ غيرِ تأويل لأنه مفردٌ . إلاَّ أنَّ في أحد الأوجه يَلْزَمُ الإِخبارُ عن المفردِ بالجمع أو وَصْفُ المفردِ بالجمع؛ لأنَّ مِنْ جملة الأوجهِ المتقدمةِ أنْ يكونَ " أزواج " خبراً عن " آخر " أو نعتاً له كما تقدَّم . وعنه جوابان ، أحدُهما : أن التقديرَ : وعذابٌ آخرُ أو مَذُوقٌ ، وهو ضُروب ودرجاتٌ فكان في قوةِ الجمع . أو يُجْعَلُ كلُّ جزءٍ من ذلك الآخرِ مثلَ الكلِّ ، وسمَّاه باسمِه وهو شائعٌ كثيرٌ نحو : غليظ الحواجب ، وشابَتْ مفارِقُه . على أنَّ لقائلٍ أنْ يقولَ : إنَّ أزواجاً صفةٌ لثلاثةِ الأشياءِ المتقدِّمة ، أعني الحميم والغَسَّاق وآخرُ مِنْ شكلِه فيُلْغى السؤالُ .
(1/4463)
هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59)
قوله : { مُّقْتَحِمٌ } : مفعولُه محذوفٌ أي : مقتحِمٌ النارَ . والاقتحام : الدخولُ في الشيء بشدَّة ، والقُحْمَةُ : الشدةُ . وقال الراغب : الاقتحام توسُّطُ شِدَّةٍ مُخيفةٍ . ومنه قَحَمَ الفرسُ فارسَه أي : توغَّل به ما يُخافُ منه/ . والمقاحيم : الذين يَتَقَحَّمون في الأمر الذي يُتَجَنَّب " .
قوله : " معكم " يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ثانياً ل فَوْج ، وأَنْ يكونَ حالاً منه لأنه قد وُصِفَ ، وأَنْ يكونَ حالاً من الضمير المستتر في " مُقْتَحِم " . قال أبو البقاء : " ولا يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً لفسادِ المعنى " ، ولم أَدْرِ مِنْ أَيِّ أوجهٍ يَفْسُدُ ، والحاليةُ والصفةُ في المعنى كالظرفية؟
وقوله : " هذا فَوْجٌ " إلى قوله : " النار " يجوز أَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الرؤساء بعضِهم لبعضِ ، وأَنْ يكونَ مِنْ كلامِ الخَزَنَةِ ، ويجوز أَنْ يكونَ " هذا فَوْجٌ " مِنْ كلامِ الملائكة ، والباقي من كلام الرؤساء ، وكان القياسُ على هذا أَنْ يُقال : بل هم لا مَرْحباً بهم لأنهم لا يقولون للملائكة ذلك ، إلاَّ أنهم عَدَلُوا عن خطاب الملائكةِ إلى خطابِ أعدائِهم تَشَفِّياً منهم .
قوله : { لاَ مَرْحَباً } في " مَرْحباً " وجهان ، أظهرُهما : أنه مفعولٌ بفعل مقدرٍ أي : لا أتَيْتُمْ مَرْحباً أو لا سَمِعتم مرحباً . والثاني : أنه منصوبٌ على المصدرِ . قاله أبو البقاء أي : لا رَحِبَتْكم دارُكم مَرْحباً بَلْ ضَيِّقاً . ثم في الجملةِ المنفيةِ وجهان ، أحدهما : أنها مستأنفةٌ سِيْقَتْ للدعاءِ عليهم ، وقوله : " بهم " بيانٌ للمدعُوِّ عليه . والثاني : أنها حاليةٌ . وقد يُعْتَرَضُ عليه : بأنه دعاءٌ ، والدعاءُ طلبٌ والطلبُ لا يَقَعُ حالاً . والجوابُ أنه على إضمارِ القولِ أي : مَقُولاً لهم لا مَرْحباً .
(1/4464)
قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61)
قوله : { مَن قَدَّمَ } : يجوزُ أَنْ تكونَ " مَنْ " شرطيةً ، و " فَزِدْه " جوابَها ، وأنْ تكونَ استفهاميَّة ، و " قَدَّم " خبرُها . أي : أيُّ شخصٍ قَدَّم لنا هذا ، ثم استأنفوا دُعاءً بقولِهم " فَزِدْه " ، وأنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي ، وحينئذٍ يجوزُ فيها وجهان : الرفعُ بالابتداء ، والخبر " فَزِدْه " والفاءُ زائدةٌ تَشْبيهاً له بالشرطِ . والثاني : أنها منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ على الاشتغالِ ، والكلامُ في مثلِ هذه الفاءِ قد تقدَّم ، وهذا الوجهُ يجوزُ عند بعضِهم حالَ كونِها شرطيةً أو استفهاميةً أعني الاشتغالَ ، إلاَّ أنَّه لا يُقَدَّرُ الفعلُ إلاَّ بعدها؛ لأنَّ لها صدرَ الكلامِ و " ضِعْفاً " نعتٌ لعذاب أي : مضاعَفاً .
قوله : " في النارِ " يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً ل " زِدْه " ، أو نعتاً ل " عذاب " ، أو حالاً منه لتخصيصِه ، أو حالاً من المفعول " زِدْه " .
(1/4465)
أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63)
قوله : { أَتَّخَذْنَاهُمْ } : قرأ الأخَوان وأبو عمروٍ بوَصْلِ الهمزةِ ، وهي تحتملُ وجهين ، أحدهما ، أَنْ يكونَ خبراً مَحْضاً ، وتكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ صفةً ثانيةً ل " رِجالاً " كما وقع " كنا نَعُدُّهم " صفةً ، وأَنْ يكونَ المرادُ الاستفهامَ وحُذِفَتْ أداتُه لدلالةِ أم عليه كقوله :
3876 تَرُوْحُ من الحيِّ أَمْ تَبْتَكِرْ ... وماذا عليك بأَنْ تَنْتَظِرْ
ف أم متصلةٌ على هذا ، وعلى الأول منقطعة بمعنى بل والهمزة لأنها لم تتقدَّمْها همزةُ استفهامٍ ولا تسويةٍ . والباقون بهمزةِ استفهامٍ سَقَطَتْ لأجلِها همزةُ الوصلِ . والظاهر أنه لا محلَّ للجملةِ حينئذٍ لأنها طلبيةٌ . وجَوَّزَ بعضُهم فيها أَنْ تكونَ صفةً لكنْ على إضمارِ القولِ أي : رجالاً مَقُولاً فيهم : أتخذناهم كقوله :
3877 جاؤُوْا بمَذْقٍ هل رَأَيْتَ الذئبَ قَطْ ... إلاَّ أنَّ الصفةَ في الحقيقةِ ذلك القولُ المضمرُ . وقد تقدَّم الخلافُ في " سِخْرِيَّاً " في { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } . والمشهورُ أن المكسورَ في الهُزْء كقولِ الشاعر :
3778 إني أتاني لِسانٌ لا أُسَرُّ بها ... مِنْ عَلْوَ لا كَذِبٌ فيها ولا سَخْرُ
وتقدَّم معنى لَحاقِ الياءِ المشددَّةِ في ذلك . وأم مع الخبرِ منقطعةٌ فقط كما تقدَّم ، ومع الاستفهام يجوزُ أَنْ تكونَ متصلةً ، وأن تكونَ منقطعةً كقولِك : " أزيدٌ عندك أم عندك عمروٌ " ، ويجوزُ أنْ يكونَ " أم زاغَتْ " متصلاً بقوله : " ما لنا " لأنه استفهامٌ ، إلاَّ أنه يَتَعَيَّنُ انقطاعُها لعَدَمِ الهمزةِ ، ويكون ما بينهما معترضاً على قراءةِ " أتَّخَذْناهم " بالاستفهام إنْ لم نجعَلْه صفةً على إضمارِ القولِ كما تقدَّمَ .
(1/4466)
إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
قوله : { تَخَاصُمُ } : العامَّةُ على رَفْعِ " تَخاصُمُ " مضافاً لأهل . وفيه أوجه ، أحدها : أنَّه بدلٌ مِنْ " لَحَقٌّ " . الثاني : أنه عطفُ بيانٍ . الثالث : أنه بدلٌ مِنْ " ذلك " على الموضعِ ، حكاه مكي ، وهذا يُوافِقُ قولَ بعض الكوفيين . الرابع : أنه خبرُ ثانٍ ل " إنَّ " . الخامس : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هو تخاصُمُ . السادس : أنه مرفوعٌ بقولِه " لَحَقٌّ " . إلاَّ أنَّ أبا البقاء قال : " ولو قيل : هو مرفوعٌ ب " حَقٌّ " لكان بعيداً لأنه يَصيرُ جملةً/ ولا ضميرَ فيها يعود على اسم " إن " . وهذا ردٌّ صحيحٌ . وقد يُجابُ عنه : بأنَّ الضميرَ مقدرٌ أي : لحقٌّ تخاصُمُ أهلِ النار فيه كقوله : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } [ الشورى : 43 ] أي : منه . وقرأ ابن محيصن بتنوين " تخاصم " ورفع " أهلُ " فَرَفْعُ " تخاصُمٌ " على ما تقدَّم . وأمَّا رَفْعُ " أهلُ " فعلى الفاعلية بالمصدرِ المنونِ كقولك : " يُعْجبني تخاصمٌ الزيدون " أي : أنْ تخاصَموا . وهذا قولُ البصريين وبعضِ الكوفيين خلا الفراءَ .
وقرأ ابنُ أبي عبلة " تخاصُمَ " بالنصب مضافاً لأهل . وفيه أوجه ، أحدها : أنه صفةٌ ل " ذلك " على اللفظِ . قال الزمخشري : " لأنَّ أسماءَ الإِشارة تُوْصَفُ بأسماءِ الأجناس " . وهذا فيه نظرٌ؛ لأنهم نَصُّوا على أنَّ أسماء الإِشارة لا تُوْصَفُ إلاَّ بما فيه أل نحو : " يا هذا الرجلُ " ، ولا يجوز " يا هذا غلامَ الرجل " فهذا أبعدُ ، ولأن الصحيحَ أنَّ الواقع بعد اسمِ الإِشارة المقارنِ ل أل إنْ كان مشتقاً كان صفةً ، وإلاَّ كان بدَلاً و " تخاصُم " ليس مشتقاً . الثاني : أنه بدلٌ من ذلك . الثالث : أنه عطفُ بيانٍ . الرابع : على إضمارِ " أعني " . وقال أبو الفضل : " ولو نُصِبَ " تخاصم " على أنَّه بدلٌ من " ذلك " لجاز " انتهى . وكأنه لم يَطَّلِعْ عليها قراءةً . وقرأ ابن السَّمَيْفع " تخاصَمَ " فعلاً ماضياً " أهل " فاعلٌ به . وهي جملةٌ استئنافيةٌ .
(1/4467)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65)
قوله : { الواحد القهار } : إلى آخرها صفاتٌ للَّهِ تعالى . ويجوزُ أَنْ يكونَ " ربُّ السماواتِ " خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، وفيه معنى المدح .
(1/4468)
قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67)
قوله : { هُوَ نَبَأٌ } : " هو " يعودُ على القرآن وما فيه من القَصصِ والأخبارِ . وقيل : على { تَخَاصُمُ أَهْلِ النار } . وقيل : على ما تقدَّمَ مِنْ أخبارِه عليه السلام : بأنَّه نذيرٌ مبينٌ ، وبأنَّ اللَّهَ إلهٌ واحدٌ متصفٌ بتلك الصفاتِ الحسنى .
(1/4469)
أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68)
قوله : { أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } : صفةٌ ل " نَبَأ " أو مستأنفةٌ .
(1/4470)
مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)
قوله : { بالملإ } : متعلِّقٌ بقوله : " مِنْ عِلْم " وضُمِّن معنى الإِحاطة ، فلذلك تَعَدَّى بالباء ، وتقدَّم تحقيقُه .
وقوله : " إذ يَخْتَصِمُون " فيه وجهان ، أحدهما : هو منصوبٌ بالمصدرِ أيضا . والثاني : بمضافٍ مقدر أي : بكلامِ الملأ الأَعْلى إذ ، قاله الزمخشري . والضمير في " يَخْتَصِمُون " للمَلأ الأعلى . هذا هو الظاهرُ . وقيل : لقريش أي : يختصمون في الملأ الأعلى . فبعضُهم يقول : بناتُ الله وبعضهم يقولُ غيرَ ذلك . فالتقدير : إذ يختصمون فيهم .
(1/4471)
إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
قوله : { إِلاَّ أَنَّمَآ أَنَاْ } : العامَّةُ على فتح الهمزة " أنما " . وفيها وجهان ، أحدهما : أنها مع ما في حَيِّزها في محلِّ رفع لقيامِها مقامَ الفاعلِ أي : ما يُوْحَى إليَّ إلاَّ الإِنذارُ ، أو إلاَّ كَوْني نذيراً مبيناً . والثاني : أنها في محلِّ نصب أو جرٍ بعد إسقاطِ لامِ العلةِ . والقائم مقامَ الفاعلِ على هذا الجارُّ والمجرورُ أي : ما يُوْحى إليَّ إلاَّ للإِنذارِ أو لكَوْني نذيراً . ويجوز أَنْ يكونَ القائمُ مقامَ الفاعلِ على هذا ضميرِ ما يَدُلُّ عليه السِّياقُ أي : ما يُوْحى إليَّ ذلك الشيءُ إلاَّ للإِنذار .
وقرأ أبو جعفر بالكسر ، وهي القائمةُ مقامَ الفاعلِ على سبيلِ الحكايةِ ، كأنه قيل : ما يُوْحى إليَّ إلاَّ هذه الجملةُ المتضمنةُ لهذا الإِخبارِ . وقال الزمخشري : " على الحكاية أي : إلاَّ هذا القولُ وهو أنْ أقولَ لكم : إنما أنا نذيرٌ مبين ولا أدَّعي شيئاً آخرَ " . قال الشيخ : " وفي تخريجه تعارُضٌ لأنه قال : إلاَّ هذا القولُ ، فظاهرُه الجملةُ التي هي : { أَنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } . ثم قال : وهو أَن أقولَ لكم إني نذيرٌ فالمقامُ مقامُ الفاعلِ هو أَنْ أقولَ لكم ، وإنِّي وما بعده في موضعِ نصبٍ ، وعلى قولِه : " إلاَّ هذا القولُ " يكون في موضع رفع فتعارضا " . قلت : ولا تعارُضَ البتةَ؛ لأنَّه تفسيرُ معنًى في التقدير الثاني ، وفي الأول تفسير إعرابٍ ، فلا تعارُضَ .
(1/4472)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71)
قوله : { إِذْ قَالَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ " إذ " الأولى وأَنْ يكونَ منصوباً ب اذْكُرْ مقدَّراً ، قال الأولَ الزمخشري وأطلق ، وذكر أبو البقاءِ الثاني وأطلقَ . وأمَّا الشيخُ ففَصَّل فقال : " بدلٌ مِنْ " إذ يَخْتصمون " هذا إذا كانَتِ الخصومَةُ في شَأْنِ مَنْ يَسْتَخْلِفُ في الأرض ، وعلى غيرِه من الأقوال يكون منصوباً ب اذكرْ " . انتهى قلت : وتلك الأقوالُ : أنَّ التخاصُمَ : إمَّا بين الملأ الأعلى أو بين قُرَيْشٍ وفي ماذا كان المخاصمة ، خلافٌ يطول/ الكتابُ بذِكْرِه .
قوله : " مِنْ طينٍ " يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل " بَشَراً " ، وأَنْ يتعلَّقَ بنفسِ " خالِقٌ " .
(1/4473)
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73)
قوله : { كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } : تأكيدان . وقال الزمخشري : " كل " للإِحاطةِ و " أجمعون " للاجتماع ، فأفادا معاً أنهم سَجَدوا عن آخِرهم ، ما بقي منهم مَلَكٌ إلاَّ سَجَدَ ، وأنهم سجدوا جميعاً في وقتٍ واحدٍ غيرَ متفرقين " . قلت : قد تقدَّم الكلامُ معه في ذلك في سورة الحجر .
(1/4474)
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75)
قوله : { أَن تَسْجُدَ } : قد يَسْتَدِلُّ به مَنْ يَرَى أنَّ " لا " في { أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] في السورةِ الأخرى زائدةٌ؛ حيث سقطَتْ هنا والقصةُ واحدةٌ . وقوله : " لما خَلَقْتُ " قد يَسْتَدِلُّ به مَنْ يرى جوازَ وقوع " ما " على العاقل؛ لأنَّ المرادَ به آدمُ . وقيل : لا دليلَ فيه؛ لأنه كان فَخَّاراً غيرَ جسمٍ حَسَّاسٍ فأشير إليه في تلك الحال . وقيل : " ما " مصدريةٌ والمصدرُ غيرُ مُرادٍ ، فيكون واقعاً موقعَ المفعولِ به أي : لمخلوقي .
وقرأ الجحدري " لَمَّا " بتشديدِ الميمِ وفتحِ اللامِ ، وهي " لَمَّا " الظرفيةُ عند الفارِسيِّ ، وحرفُ وجوبٍ لوجوبٍ عند سيبويه . والمسجود له على هذا غيرُ مذكورٍ أي : ما مَنَعَك من السجود لَمَّا خلقْتُ أي : حين خَلَقْتُ لِمَنْ أَمَرْتُك بالسجود له . وقُرِئ " بيَدَيِّ " بكسرِ الياءِ كقراءةِ حمزةَ " بِمُصْرِخِيِّ " وقد تقدَّم ما فيها . وقُرِئ " بيدي " بالإِفرادِ .
قوله : " أسْتَكْبَرْت " قرأ العامَّةُ بهمزةِ الاستفهام وهو استفهامُ توبيخٍ وإنكارٍ . و " أم " متصلةٌ هنا . هذا قولُ جمهورِ النحويين . ونقل ابنُ عطيةَ عن بعضِ النحويين أنها لا تكونُ معادِلَةً للألفِ مع اختلافِ الفعلَيْن ، وإنما تكونُ معادِلةً إذا دَخَلَتا على فِعْلٍ واحد كقولِك : أقامَ زيدٌ أم عمروٌ ، وأزيدٌ قام أم عمروٌ؟ وإذا اختلف الفعلان كهذه الآيةِ فليسَتْ معادِلةً . وهذا الذي حكاه عن بعض النحويين مَذْهَبٌ فاسِدٌ ، بل جمهورُ النحاةِ على خلافِه قال سيبويه : " وتقول : " أضرَبْتَ زيداً أمْ قَتَلْتَه؟ " فالبَدْءُ هنا بالفعل أحسنُ؛ لأنك إنما تَسْأل عن أحدِهما لا تدري أيهما كان؟ ولا تَسْأَلُ عن موضعِ أحدِهما كأنك قلت : أيُّ ذلك كان " انتهى . فعادل بها الألفَ مع اختلافِ الفعلين .
وقرأ جماعةٌ - منهم ابنُ كثير ، وليسَتْ مشهورةً عنه - " استكبَرْتَ " بألف الوصلِ ، فاحتملَتْ وجهين ، أحدهما : أنْ يكونَ الاستفهامُ مُراداً يَدُلُّ عليه " أم " كقولِه :
3879 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أم بثمانِ
وقول الآخر :
3880 ترُوْحُ من الحَيِّ أم تَبْتَكِرْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فتتفق القراءتان في المعنى ، واحتمل أَنْ يكونَ خبراً مَحْضاً ، وعلى هذا فأم منقطعةٌ لعدمِ شَرْطِها .
(1/4475)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77)
قوله : { مِنْهَا } : أي : من الجنةِ أو من الخِلْقة؛ لأنه كان حسناً فَرَجَعَ قبيحاً ونُوْرانياً فعاد مظلماً . وقيل : من السماوات . وقال هنا : " لَعْنتي " وفي غيرها " اللعنةَ " ، وهما وإنْ كانا في اللفظ عاماً وخاصاً ، إلاَّ أنهما من حيث المعنى عامَّان بطريق اللازم؛ لأنَّ مَنْ كانت عليه لعنة الله كانَتْ عليه [ لعنة ] كلِّ أحدٍ لا محالةَ . وقال تعالى : { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ } [ البقرة : 161 ] . وباقي الجمل تقدَّم نظيرُه .
(1/4476)
قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84)
قوله : { فالحق والحق } : قرأهما العامَّةُ منصوبَيْن . وفي نصب الأول أوجهٌ ، أحدُها : أنه مُقْسَمٌ به حُذِفَ منه حرفُ القسمِ فانتصَبَ كقولِه :
3881 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فذاكَ أمانةَ اللَّهِ الثَّرِيْدُ
(1/4477)
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
وقوله : { لأَمْلأَنَّ } : جوابُ القسم . قال أبو البقاء : " إلاَّ أنَّ سيبويهِ يَدْفَعُه لأنه لا يُجَوِّزُ حَذْف حرفِ القسمِ إلاَّ مع اسم الله ، ويكون قولُه : " والحقَّ أقولُ " معترضاً بين القسم وجوابِه " . قال الزمخشري : " كأنه قيل : ولا أقولُ إلاَّ الحقَّ " يعني أن تقديمَه المفعولَ أفاد الحصرَ . والمرادُ بالحق : إمَّا الباري تعالى كقوله : { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين } [ النور : 25 ] وإمَّا نقيضُ الباطل . والثاني : أنه منصوبٌ على الإِغراءِ أي : الزموا الحقَّ . والثالث : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ قولِه : " لأَمْلأَنَّ " . قال الفراء : / " هو على معنى قولك : حقاً لا شكَّ ، ووجودُ الألفِ واللام وطَرْحُهما سواءٌ أي : لأملأن جهنَّم حقاً " انتهى . وهذا لا يَتَمَشَّى على قولِ البصريين؛ فإنَّ شَرْطَ نَصْبِ المصدرِ المؤكِّد لمضمونِ الجملة أَنْ يكونَ بعد جملةٍ ابتدائية خبراها معرفتان جامدان جموداً مَحْضاً .
وجَوَّز ابنُ العِلْج أَنْ يكونَ الخبرُ نكرةً . وأيضاً فإنَّ المصدرَ المؤكِّدَ لا يجوزُ تقديمُه على الجملةِ المؤكِّدِ هو لمضمونِها . وهذا قد تقدَّم . وأمَّا الثاني فمنصوبٌ ب " أقولُ " بعدَه . والجملةُ معترضةٌ كما تقدَّم . وجَوَّزَ الزمخشري أَنْ يكونَ منصوباً على التكرير ، بمعنى أنَّ الأول والثاني كليهما منصوبان ب أقولُ . وسيأتي إيضاحُ ذلك في عبارتِه .
وقرأ عاصم وحمزةُ برفعِ الأولِ ونصبِ الثاني . فَرَفْعُ الأولِ من أوجهٍ ، أحدها : أنه مبتدأ ، وخبرُه مضمرٌ تقديرُه : فالحقُّ مني ، أو فالحقُّ أنا . الثاني : أنه مبتدأ ، خبرُه " لأملأنَّ " قاله ابن عطية . قال : " لأنَّ المعنى : أنْ أَمْلأَ " . قال الشيخ : " وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّ لأملأنَّ جوابُ قسمٍ . ويجب أَنْ يكونَ جملةً فلا تتقدَّرُ بمفردٍ . وأيضاً ليس مصدراً مقدراً بحرفٍ مصدري والفعل حتى يَنْحَلَّ إليهما ، ولكنه لَمَّا صَحَّ له إسنادُ ما قَدَّرَ إلى المبتدأ حَكَمَ أنه خبرٌ عنه " قلت : وتأويلُ ابنِ عطيةَ صحيحٌ من حيث المعنى لا من حيث الصناعةُ .
الثالث : أنه مبتدأٌ ، خبرُه مضمرٌ تقديرُه : فالحقُّ قَسَمي ، و " لأملأنَّ " جوابُ القسم كقوله : { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الحجر : 72 ] ولكنَّ حَذْفَ الخبرِ هنا ليسَ بواجبٍ ، لأنه ليس نصاً في اليمين بخلافِ لَعَمْرك . ومثلُه قولُ امرئ القيس :
3882 فقلت يمينُ اللَّهِ أبْرَحُ قاعداً ... ولو قطعوا رأسي لديكِ وأوصالي
وأمَّا نصبُ الثاني فبالفعل بعدَه . وقرأ ابنُ عباس ومجاهد والأعمش برفعهما . فرفْعُ الأولِ على ما تقدَّم ، ورفعُ الثاني بالابتداءِ ، وخبرُه الجملةُ بعده ، والعائد محذوفٌ كقولهِ تعالى في قراءةِ ابنِ عامر : { وَكُلٌ وَعَدَ الله الحسنى } وقول أبي النجم :
3883 قد أصبَحَتْ أمُّ الخيارِ تَدَّعي ... عليَّ ذَنباً كلُّه لم أَصْنَعِ
ويجوز أَنْ يرتفعَ على التكريرِ عند الزمخشري وسيأتي . وقرأ الحسنُ وعيسى بجرِّهما .
(1/4478)
وتخريجُها : على أنَّ الأولَ مجرورٌ بواوِ القسم مقدرةً أي : فوالحقِ والحقِ عطفٌ عليه كقولِك : واللَّهِ واللَّهِ لأقومَنَّ ، و " أقول " اعتراضٌ بين القسم وجوابِه . ويجوز أَنْ يكونَ مجروراً على الحكايةِ . وهو منصوبُ المحل ب " أقولُ " بعده . قال الزمخشري : " ومجرورَيْن - أي وقُرئا مجرورَيْن - على أنَّ الأولَ مُقْسَمٌ به قد أُضْمِرَ حرفُ قَسَمِه كقولك : " اللَّهِ لأفعَلَنَّ " والحقَّ أقول أي : ولا أقول إلاَّ الحقَّ على حكايةِ لفظ المقسمِ به ، ومعناه التوكيدُ والتشديدُ . وهذا الوجهُ جائزٌ في المرفوعِ والمنصوبِ أيضاً ، وهو وجهٌ حسنٌ دقيق " انتهى . يعني أنه أعملَ القولَ في قوله : " والحق " على سبيلِ الحكايةِ فيكونُ منصوباً ب " أقول " سواءً نُصِب أو رُفِعَ أو جُرَّ ، كأنه قيل : وأقولُ هذا اللفظَ المتقدمَ مُقَيَّداً بما لُفِظ به أولاً .
قوله : " أجمعين " فيه وجهان ، أظهرهما : أنه توكيدٌ للضمير في " منك " و " لمَنْ " عطفٌ في قوله : " ومِمَّنْ تَبِعك " وجيْء بأجمعين دونَ " كل " ، وقد تقدَّم أن الأكثرَ خلافُهُ . وجَوزَّ الزمخشريُّ أَنْ يكونَ تأكيداً للضمير في " منهم " خاصةٌ فقدَّر " لأَمْلأَنَّ جهنم من الشياطين وممَّنْ تبعهم مِنْ جميع الناس لا تفاوتَ في ذلك بين ناسٍ وناسٍ " .
(1/4479)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)
قوله : { عَلَيْهِ } : متعلقٌ ب " أسْألكم " لا بالأَجْر؛ لأنه مصدرٌ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً منه . والضمير : إمَّا للقرآن ، وإمَّا للوحي ، وإمَّا للدعاء إلى الله . و " لتعلمُنَّ " جواب قَسمٍ مقدرٍ معناه : ولَتَعْرِفُنَّ .
(1/4480)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { تَنزِيلُ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه : هذا تنزيلُ . وقال الشيخ : " وأقولُ إنه خبرٌ ، والمبتدأ " هو " ليعودَ على قولِه : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } [ ص : 87 ] كأنه قيل : وهذا الذِّكْرُ ما هو؟ فقيل : هو تنزيلُ الكتابِ " . الثاني : أنه مبتدأٌ ، والجارُّ بعده خبرُه أي : تنزيلُ الكتابِ كائنٌ من اللَّهِ . وإليه ذهب الزجاج والفراء .
قوله : " مِنَ اللَّهِ " يجوزُ فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مرفوعُ المحلِّ خبراً لتنزيل ، كما تقدَّم تقريرُه . الثاني : أنه خبرٌ بعد خبرٍ إذا جَعَلْنا " تنزيلُ " خبرَ مبتدأ مضمرٍ كقولك : " هذا زيدٌ من أهل العراق " . الثالث : أنَّه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هذا تنزيلٌ ، هذا من الله . الرابع : أنَّه متعلِّقٌ بنفسِ " تَنْزيل " إذا جَعَلْناه خبرَ مبتدأ مضمرٍ . الخامس : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ " تنزيل " عَمِل فيه اسمُ الإِشارةِ المقدرُ ، قاله الزمخشري . قال الشيخ : " ولا يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً عَمِلَ فيها معنى الإِشارةِ؛ لأنَّ معانيَ الأفعالِ لا تعمل إذا كان ما هي فيه محذوفاً؛ ولذلك رَدُّوا على أبي العباس قولَه في بيت الفرزدق :
3884 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وإذ ما مثلَهمْ بَشَرُ
إن " مثلهم " منصوبٌ بالخبرِ المحذوف وهو مقدرٌ : وإذ ما في الوجود في حالِ مماثلتِهم بَشَرٌ . السادس : أنه حالٌ من " الكتاب " قاله أبو البقاء . وجاز مجيءُ الحالِ من المضاف إليه لكونِه مفعولاً للمضافِ؛ فإنَّ المضافَ مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه . والعامَّةُ على رَفْع " تَنْزيلُ " على ما تقدَّم . وقرأ زيد ابن علي وعيسى وابن أبي عبلة بنصبِه بإضمارِ فِعْلٍ تقديرُه : الزَمْ أو اقْرَأ ونحوهما .
(1/4481)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2)
قوله : { بالحق } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالإِنزال أي : بسبب الحق ، وأنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الفاعل أو المفعول وهو الكتاب ، أي : مُلْتبسين بالحق أو ملتبساً بالحقِّ . وفي قوله : { إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب } تكريرُ تعظيمٍ بسبب إبرازِه في جملةٍ أخرى مضافاً إنزالُه إلى المعظِّم نفسَه .
قوله : " مُخْلِصاً " حالٌ مِنْ فاعل " اعبد " ، و " الدين " منصوبٌ باسمِ الفاعلِ . والفاءُ في " فاعبُدِ " للربطِ ، كقولك : " أَحْسَنَ إليك فلانٌ فاشْكُرْه " . والعامَّةُ على نصبِ " الدينَ " كما تقدَّم . ورَفَعَه ابنُ أبي عبلة . وفيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه مرفوعٌ بالفاعليةِ رافعُه " مُخْلِصاً " ، وعلى هذا فلا بُدَّ مِنْ تجوُّزٍ وإضمارٍ . أمَّا التجوزُ فإسنادُ الإِخلاصِ للدين وهو لصاحبِه في الحقيقة . ونظيرُه قولُهم : شعرٌ شاعرٌ . وأمَّا الإِضمارُ فهو إضمارٌ عائدٌ على ذي الحالِ أي : مُخْلِصاً له الدينَ منك ، هذا رَأْيُ البصريين في مثل هذا . وأمَّا الكوفيون فيجوزُ أَنْ يكونَ عندهم أل عوضاً مِن الضميرِ أي : مُخْلِصاً ديْنَك . قال الزمخشري : " وحَقٌّ لمَنْ رَفَعه أَنْ يَقرأ " مُخْلَصاً " بفتحِ اللامِ لقولِه تعالى : { وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ } [ النساء : 146 ] حتى يطابقَ قولَه : { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص } ، والخالِصُ والمُخْلَص واحدٌ إلاَّ أَنْ يصفَ الدينَ بصفةِ صاحبِه على الإِسنادِ المجازيِّ كقولِهم : شعرٌ شاعرٌ " . والثاني : أَنْ يَتِمَّ الكلامُ على " مُخْلِصاً " وهو حالٌ مِنْ فاعلِ " فاعبدْ " و " له الدينُ " مبتدأٌ وخبرٌ ، وهذا قولُ الفراء . وقد رَدَّه الزمخشري ، وقال : " فقد جاء بإعرابٍ رَجَع به الكلامُ إلى قولِك : " لله الدينُ " { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص } قلت : وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ لا يظهرُ فيه رَدٌّ على هذا الإِعرابِ .
(1/4482)
أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3)
قوله : { والذين اتخذوا } : يجوز فيه أوجهٌ ، أحدها : أن يكونَ " الدينُ " مبتدأً ، وخبرُه قولٌ مضمرٌ حُذِف وبقي معمولُه وهو قولُه " ما نَعْبُدهم " . والتقديرُ : يقولون ما نعبدهم . الثاني : أن يكونَ الخبرُ قولَه : { إِنَّ الله يَحْكُمُ } / ويكونُ ذلك القولُ المضمرُ في محلِّ نصبٍ على الحال أي : والذين اتَّخذوا قائلين كذا ، إنَّ اللَّهَ يحكمُ بينهم . الثالث : أَنْ يكونَ القولُ المضمرُ بدلاً من الصلةِ التي هي " اتَّخذوا " . والتقديرُ : والذين اتخذوا قالوا ما نعبدُهم ، والخبرُ أيضاً : { إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } و " الذين " في هذه الأقوالِ عبارةٌ عن المشركين المتَّخِذين غيرَهم أولياءَ . الرابع : أن يكونَ " الذين " عبارةً عن الملائكةِ وما عُبِد من دونِ اللَّهِ كعُزَيْرٍ واللاتِ والعُزَّى ، ويكونُ فاعلُ " اتَّخَذَ " عائداً على المشركين . ومفعولُ الاتخاذِ الأولُ محذوفٌ ، وهو عائدُ الموصولِ ، والمفعولُ الثاني هو " أولياءَ " . والتقديرُ : والذين اتَّخذهم المشركون أولياءَ . ثم لك في خبرِ هذا المبتدأ وجهان ، أحدهما : القولُ المضمرُ ، التقدير : والذين اتَّخذهم المشركون أَوْلِياءَ يقول فيهم المشركون : ما نعبدهم إلاَّ . والثاني : أنَّ الخبرَ هي الجملةُ مِنْ قولِه : { إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } .
وقُرِئ " ما نُعْبُدُهم " بضمِّ النونِ إتباعاً للباءِ ، ولا يُعْتَدُّ بالساكن .
قوله : " زُلْفَى " مصدرٌ مؤكِّدٌ على غيرِ الصدرِ ، ولكنه مُلاقٍ لعاملِه في المعنى ، والتقدير : لَيُزْلِفُونا زُلْفى ، أو لِيُقَرِّبونا قُربى . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ تكونَ حالاً مؤكدة .
قوله : " كاذِبٌ كفَّارٌ " قرأ الحسنُ والأعرجُ - ويُرْوى عن أنسٍ - " كذَّابٌ كَفَّارٌ " ، وزيد بن علي " كَذُوبٌ كفورٌ " .
(1/4483)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)
قوله : { يُكَوِّرُ اليل } : في هذه الجملةِ وجهان ، أظهرُهما : أنَّها مستأنفةٌ أخبر تعالى بذلك . الثاني : أنها حالٌ ، قاله أبو البقاء . وفيه ضعفٌ؛ من حيث إن تكويرَ أحدِهما على الآخر ، إنما كان بَعْدَ خَلْقِ السماواتِ والأرضِ ، إلاَّ أَنْ يُقال : هي حالٌ مقدرةٌ ، وهو خلافُ الأصلِ .
والتكويرُ : اللفُّ واللَّيُّ . يقال : كارَ العِمامةَ على رأسه وكَوَّرها . ومعنى تكويرِ الليلِ على النهارِ وتكويرِ النهارِ على الليل على هذا المعنى : أنَّ الليلَ والنهارَ خِلْفَةٌ يذهب هذا ويَغْشى مكانه هذا ، وإذا غَشِيَ مكانه فكأنما لَفَّ عليه وأَلْبَسَه كما يُلَفُّ اللباسُ على اللابِسِ ، أو أنَّ كلَّ واحدٍ منهما يُغَيِّب الآخر إذا طرأ عليه ، فشُبِّه في تَغْييبه إياه بشيءٍ ظاهرٍ لَفَّ عليه ما غَيَّبه عن مطامحِ الأبصار ، أو أنَّ هذا يَكُرُّ على هذا كُروراً متتابِعاً ، فَشُبِّه ذلك بتتابع أكوارِ العِمامة بعضِها على بعضٍ . قاله الزمخشريُّ ، وهو أوفقُ للاشتقاقِ من أشياءَ قد ذُكِرَتْ . وقال الراغب : " كَوْرُ الشيءِ إدارتُه وضَمُّ بعضِه إلى بعضٍ كَكَوْر العِمامةِ . وقوله : { يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار } إشارةٌ إلى جَرَيانِ الشمسِ في مطالعها وانتقاصِ الليل والنهار وازديادِهما ، وكَوَّره إذا أَلْقاه مجتمعاً . واكتار الفرسُ : إذا رَدَّ ذَنبَه في عَدْوِه . وكُوَّارَةُ النَّحْلِ معروفةٌ . والكُوْر : الرَّحْلُ . وقيل : لكل مِصْرٍ " كُوْرَة " ، وهي البُقْعَةُ التي يَجْتمع فيها قُرىً ومحالُّ " .
(1/4484)
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
قوله : { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا } : في " ثم " هذه أوجهٌ ، أحدها : أنها على بابها من الترتيب بمُهْلة ، وذلك أنه يُرْوى أنه تعالى أخرجَنا من ظهرِ آدمَ كالذَّرِّ ثم خَلَق حواءَ بعد ذلك بزمانٍ . الثاني : أنها على بابها أيضاً ولكنْ لمَدْركٍ آخرَ : وهو أن يُعْطَفَ بها ما بعدها على ما فُهِم من الصفة في قولِه : " واحدة " إذ التقدير : من نفسٍ وَحَدَتْ أي انفَرَدَتْ ثم جَعَلَ منها زَوْجَها . الثالث : أنَّها للترتيب في الأخبار لا في الزمان الوجوديِّ كأنه قيل : كان مِنْ أمرها قبل ذلك أن جعل منها زوجَها . الرابع : أنها للترتيبِ في الأحوالِ والرُّتَبِ . قال الزمخشري : " فإنْ قلت : وما وجهُ قولِه : { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } وما يُعطيه من التراخي؟ قلت : هما آيتان من جملةِ الآياتِ التي عَدَّدها دالاًّ على وحدانيَّتِه وقُدْرَتِه بتشعيب هذا الخلقِ الفائتِ للحَصْرِ من نفسِ آدمَ عليه السلام وخَلْقِ حواء من قُصَيْراه ، إلاَّ أَن إحداهما جعلها اللَّهُ عادةً مستمرةً ، والأخرى لم تَجْرِ بها العادةُ ولم تُخْلَقْ أنثى غيرُ حواءَ من قُصيرى رجلٍ ، فكانَتْ أَدخلَ في كَوْنها آيةً وأَجْلَبَ لعَجَبِ السامعِ ، فعطفَها ب " ثم " على الآية الأولى للدلالةِ على مباينَتِها فضلاً ومزيةً ، وتراخيها عنها فيما يرجِعُ إلى زيادةِ كونِها آيةً فهي من التراخي في الحالِ والمنزلةِ لا من التراخي في الوجودِ .
قوله : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام } عطف على " خَلَقَكم " ، والإِنزالُ يَحتمل الحقيقةَ . يُرْوى أنه خَلَقها في الجنةِ ثم أَنْزَلَها ، ويُحتملُ المجازُ ، وله وجهان ، أحدهما : أنها لم تَعِشْ إلاَّ بالنبات والماء ، والنباتُ إنما يعيش بالماء ، والماءُ يَنْزِلُ من السحاب أطلق الإِنزالَ/ عليها وهو في الحقيقةِ يُطْلَقُ على سببِ السببِ كقولِه :
3885 أَسْنِمَةُ الآبالِ في رَبابَهْ ... وقوله :
3886 صار الثريدُ في رُؤوسِ العِيْدانْ ... وقوله :
3887 إذا نَزَل السماءُ بأرضِ قَوْمٍ ... رَعَيْناه وإنْ كانوا غِضابا
والثاني : أنَّ قضاياه وأحكامَه مُنَزَّلَةٌ من السماءِ من حيث كَتْبُها في اللوحِ المحفوظِ ، وهو أيضاً سبَبٌ في إيجادِها .
قوله : " يَخْلُقكم " هذه الجملةُ استئنافيةٌ ، ولا حاجةَ إلى جَعْلِها خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، بل اسُتُؤْنفت للإِخبار بجملةٍ فعلية . وقد تقدَّم خلافُ القراءِ في كسرِ الهمزةِ وفتحِها وكذا الميمُ .
قوله : " خَلْقاً " مصدرٌ ل " يَخْلُق " و { مِّن بَعْدِ خَلْقٍ } صفةٌ له ، فهو لبيانِ النوعِ من حيث إنه لَمَّا وُصِفَ زاد معناه على معنى عاملِه . ويجوز أن يتعلَّقَ { مِّن بَعْدِ خَلْقٍ } بالفعل قبلَه ، فيكون " خَلْقاً " لمجرد التوكيد .
قوله : " ظُلُمات " متعلقٌ بخَلْق الذي قبله ، ولا يجوز تعلُّقُه ب " خَلْقاً " المنصوبِ؛ لأنه مصدرٌ مؤكِّدٌ ، وإن كان أبو البقاء جَوَّزه ، ثم مَنَعَه بما ذكرْتُ فإنه قال : " و " في " متعلِّقٌ به أي ب " خَلْقاً " أو بخلق الثاني؛ لأنَّ الأولَ مؤكِّدٌ فلا يعملُ " ولا يجوزُ تعلُّقُه بالفعلِ قبله؛ لأنه قد تعلَّقَ به حرفٌ مثلُه ، ولا يتعلَّق حرفان متحدان لفظاً ومعنًى إلاَّ بالبدليةِ أو العطفِ .
(1/4485)
فإنْ جَعَلْتَ " في ظلمات " بدلاً مِنْ { فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } بدلَ اشتمالٍ؛ لأن البطونَ مشتملةٌ عليها ، وتكونُ بدلاً بإعادة العاملِ ، جاز ذلك ، أعني تعلُّقَ الجارَّيْن ب " يَخْلُقكم " . ولا يَضُرُّ الفصلُ بين البدلِ والمبدلِ منه بالمصدرِ لأنه مِنْ تتمةِ العاملِ فليس بأجنبي .
قوله : { ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ } يجوزُ أَنْ يكونَ " الله " خبراً ل " ذلكم " و " ربُّكم " نعتٌ للَّهِ أو بدلٌ منه . ويجوز أَنْ يكونَ " الله " بدلاً مِنْ " ذلكم " و " ربُّكم " خبرُه .
قوله : " له المُلْكُ " يجوز أَنْ يكونَ مستأنفاً ، ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً بعد خبر ، وأَنْ يكونَ " الله " بدلاً مِنْ " ذلكم " و " ربُّكم " نعتٌ لله أو بدلٌ منه ، والخبرُ الجملةُ مِنْ " له الملكُ " . ويجوزُ أَنْ يكون الخبرُ نفسَ الجارِّ والمجرور وحدَه و " المُلْكُ " فاعلٌ به ، فهو من بابِ الإِخبارِ بالمفرد .
قوله : { لا إله إِلاَّ هُوَ } يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً ، وأَنْ يكونَ خبراً بعد خبرٍ .
(1/4486)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
قوله : { يَرْضَهُ لَكُمْ } : قرأ " يَرْضَهُوْ " بالصلة - وهي الأصلُ مِنْ غيرِ خلافٍ - ابنُ كثيرٍ والكسائيُّ وابنُ ذكوان . وهي قراءةٌ واضحةٌ . وقرأ " يَرْضَهُ " بضم الهاءِ مِنْ غيرِ صلةٍ بلا خلافٍ نافعٌ وعاصمٌ وحمزةُ . وقرأ " يَرْضَهْ " بإسكانها وَصْلاً مِنْ غيرِ خلافٍ السوسيُّ عن أبي عمروٍ . وقرأ بالوجهين - أعني الإِسكانَ والصلةَ - الدُّوْريُّ عن أبي عمروٍ ، وقرأ بالوجهين - أعني الإِسكانَ والتحريكَ مِنْ غيرِ صلة - هشامٌ عن ابنِ عامرٍ ، فهذه خمسُ مراتبَ للقُرَّاءِ ، وقد عَرَفْتَ توجيهَ الإِسكانِ والقصرِ والإِشباع ممَّا تقدَّم في أوائلِ هذا الموضوع ، وما أَنْشَدْتُه عليه وأسْنَدْتُه لغةً إلى قائله . ولا يُلْتَفَتُ إلى أبي حاتمٍ في تَغْليطِه راويَ السكونِ ، فإنها لغةٌ ثابتةٌ عن بني عُقَيْل وبني كلاب .
(1/4487)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
قوله : { مُنِيباً } : حالٌ مِن فاعل " دَعَا " و " إليه " متعلق ب " مُنيباً " أي راجِعاً إليه .
قوله : " خَوَّله " يُقال : خَوَّلَه نِعْمَةً أي : أعطاها إياه ابتداءً مِنْ غيرِ مُقْتَضٍ . ولا يُسْتَعْمَلُ في الجزاءِ بل في ابتداءِ العَطِيَّةِ . قال زهير :
3888 هنالِك إنْ يُسْتَخْوَلُوا المالُ يُخْوِلُوْا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويُرْوَى " يُسْتَخْبَلُوا المالَ يُخْبِلوا " . وقال أبو النجم :
3889 أَعْطَى فلم يُبْخَلْ ولم يُبَخَّلِ ... كُوْمُ الذُّرَى مِنْ خَوَلِ المُخَوَّلِ
وحقيقةُ " خَوَّل " مِنْ أحدِ معنيين : إمَّا مِنْ قولِهم : " هو خائلُ مالٍ " إذا كان متعهِّداً له حَسَنَ القيام عليه ، وإمَّا مِنْ خال يَخُول إذا اختال وافتخر ، ومنه قولُه : " إنَّ الغنيَّ طويلُ الذيلِ مَيَّاسُ " ، وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادةِ مُسْتوفىً في الأنعام .
قوله : " منه " يجوز أَنْ يكونَ متعلقاً ب " خَوَّل " ، وأنْ يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل " نِعْمة " .
قوله : { مَا كَانَ يدعوا } يجوزُ في " ما " هذه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي ، مُراداً بها الضُّرُّ أي : نسي الضرَّ الذي يَدْعو إلى كَشْفِه . الثاني : أنها بمعنى الذي/ مُراداً بها الباري تعالى أي : نَسِي اللَّهَ الذي كان يَتَضرَّعُ إليه . وهذا عند مَنْ يُجيزُ " ما " على أُوْلي العلمِ . الثالث : أَنْ تكونَ " ما " مصدريةً أي : نَسِي كونَه داعياً . الرابع : أن تكونَ " ما " نافيةً ، وعلى هذا فالكلامُ تامٌّ على قولِه : " نَسِيَ " ثم استأنَفَ إخباراً بجملةٍ منفيةٍ ، والتقدير : نَسِيَ ما كان فيه . لم يكنْ دعاءُ هذا الكافرِ خالصاً لله تعالى . و " من قبلُ " أي : من قبلِ الضررِ ، على القول الأخير ، وأمَّا على الأقوالِ قبلَه فالتقديرُ : مِنْ قبل تخويلِ النِّعمة .
قوله : " لِيُضِلَّ " قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمروٍ " لِيَضِلَّ " بفتح الياء أي : ليفعلَ الضلالَ بنفسه . والباقون بضمِّها أي : لم يقنع بضلالِه في نفسِه حتى يَحْمِلَ غيرَه عليه ، فمفعولُه محذوفٌ وله نظائرُ تقدَّمَتْ . واللامُ يجوزُ أن تكونَ للعلةِ ، وأن تكونَ للعاقبة .
(1/4488)
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
قوله : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ } : قرأ الحَرميَّان : نافعٌ وابنُ كثير بتخفيف الميم ، والباقون بتشديدها . فأمَّا الأُولى ففيها وجهان ، أحدهما : أنها همزةُ الاستفهامِ دَخَلَتْ على " مَنْ " بمعنى الذي ، والاستفهامُ للتقريرِ ، ومقابلُه محذوفٌ ، تقديرُه : أمَنْ هو قانتٌ كمَنْ جعل للَّهِ تعالى أنداداً ، أو أَمَنْ هو قانِتٌ كغيرِه ، أو التقدير : أهذا القانِتُ خيرٌ أم الكافرُ المخاطبُ بقوله : { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً } ويَدُلُّ عليه قولُه : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } فحذفَ خبرَ المبتدأ أو ما يعادِلُ المُسْتَفْهَم عنه . والتقديران الأوَّلان أَوْلى لقلةِ الحَذْفِ . ومن حَذْفِ المعادِلِ للدلالةِ قولُ الشاعر :
3890 دَعاني إليها القلبُ إنِّي لأَمْرِها ... سميعٌ فما أَدْري أَرُشْدٌ طِلابُها
يريد : أم غَيٌّ . والثاني : أَنْ تكونَ الهمزةُ للنداءِ ، و " مَنْ " منادى ، ويكون المنادى هو النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم ، وهو المأمورُ بقولِه : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ } كأنه قال : يا مَنْ هو قانِتٌ قل كَيْتَ وكَيْتَ ، كقولِ الآخرِ :
3891 أزيدُ أخا وَرْقاءَ إنْ كنتَ ثائراً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفيه بُعْدٌ ، ولم يَقَعْ في القرآن نداءٌ بغير يا حتى يُحْمَلَ هذا عليه . وقد ضَعَّفَ الشيخُ هذا الوجهَ بأنه أيضاً أجنبيٌّ مِمَّا قبله وممَّا بعده . قلت : قد تقدَّمَ أنه ليس أجنبياً ممَّا بعدَه؛ إذ المنادَى هو المأمورُ بالقولِ . وقد ضَعَّفَه الفارسي أيضاً بقريبٍ مِنْ هذا . وقد تَجَرَّأ على قارئِ هذه القراءةِ أبو حاتم والأخفش .
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فهي " أم " داخلةً على " مَنْ " الموصولةِ أيضاً فأُدْغِمَتْ الميمُ . وفي " أم " حينئذٍ قولان ، أحدهما : أنها متصلةٌ ، ومعادِلُها محذوفٌ تقديرُه : آلكافرُ خيرٌ أم الذي هو قانِتٌ . وهذا معنى قولِ الأخفشِ . قال الشيخ : ويحتاج حَذْفُ المعادِلِ إذا كان أولَ إلى سَماعٍ " . وقيل : تقديرُه : أمَّنْ يَعْصي أمَّن هو مطيعٌ فيستويان . وحُذِفَ الخبرُ لدلالةِ قولِه : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ } . والثاني : أنَّها منقطعةٌ فتتقدَّرُ ب بل والهمزةِ أي : بل أمَّن هو قانِتٌ كغيرِه أو كالكافر المقولِ له : تمتَّعْ بكفرِك . وقال أبو جعفر : " هي بمعنى بل ، و " مَنْ " بمعنى الذي تقديرُه : بل الذي هو قانتٌ أفضلُ مِمَّنْ ذُكِرَ قبله " . وانتُقِدَ عليه هذا التقديرُ : من حيث إنَّ مَنْ تَقَدَّم ليس له فضيلةٌ البتةَ حتى يكونَ هذا أفضلَ منه . والذي ينبغي أَنْ يُقَدَّرَ : " بل الذي هو قانِتٌ مِنْ أصحاب الجنة "؛ لدلالة ما لقسيمِه عليه مِنْ قولِه : { إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار } . و " آناءَ " منصوبٌ على الظرفِ . وقد تقدَّم اشتقاقُه والكلامُ في مفردِه .
قوله : " ساجِداً وقائماً " حالان . وفي صاحبهما وجهان ، الظاهر منهما : أنه الضميرُ المستتر في " قانِتٌ " . والثاني : أنه الضميرُ المرفوعُ ب " يَحْذَرُ " قُدِّما على عامِلهما . والعامَّةُ على نصبِهما . وقرأ الضحاك برفعهما على أحد وجهين : إمَّا النعتِ ل " قَانِتٌ " ، وإمَّا أنهما خبرٌ بعد خبر .
قوله : " يَحْذَر " يجوز أن يكونَ حالاً من الضمير في " قانتٌ " وأن يكونَ/ حالاً من الضمير في " ساجداً وقائماً " ، وأَنْ يكونَ مستأنفاً جواباً لسؤالٍ مقدرٍ كأنه قيل : ما شأنُه يَقْنُتُ آناءَ الليل ويُتْعِبُ نفسَه ويُكُدُّها؟ فقيل : يَحْذَرُ الآخرَة ويَرْجُو رحمةَ ربِّه ، أي : عذابَ الآخرةِ . وقُرِئ { إِنَّمَا يَذَّكَّرُ أُوْلُو } بإدغامِ التاءِ في الذَّال .
(1/4489)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10)
قوله : { فِي هذه الدنيا } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالفعل قبله؛ وحُذِفَت صفةُ " حسنةٌ " ، إذ المعنى : حسنة عظيمة؛ لأنه لا يُوْعَدُ مَنْ عمل حسنةً في الدنيا ، حسنةً مطلقاً بل مقيَّدةً بالعِظَم ، وأنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ مِنْ حسنة كانَتْ صفةً لها ، فلمَّا تَقَدَّمَتْ بقيَتْ حالاً . و " بغيرِ حسابٍ " حالٌ : إمَّا مِنْ " أَجْرَهم " ، وإمَّا من " الصابرون " أي : غيرَ محاسَبٍ عليه ، أو غيرَ محاسَبين .
(1/4490)
وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)
قوله : { وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ } : في هذه اللامِ وجهان ، أحدهما : أنها للتعليلِ تقديره : وأُمِرْتُ بما أُمِرْتُ به لأَنْ أكونَ . قال الزمخشري : " فإن قلتَ : كيف عَطَفَ " أُمِرْت " على " أُمِرت " وهما واحدٌ؟ قلت : ليسا بواحدٍ لاختلافِ جهتيهما : وذلك أنَّ الأمرَ بالإِخلاصِ وتكليفَه شيءٌ ، والأمرَ به ليُحْرِز به قَصَبَ السَّبْقِ في الدين شيءٌ آخرُ . وإذا اختلفَ وجها الشيء وصفتاه يُنَزَّل بذلك مَنْزِلَةَ شيئين مختلفين " . والثاني أن تكونَ اللامُ مزيدةً في " أَنْ " . قال الزمخشري : " ولك أن تَجْعَلَ اللامَ مزِيدَةً ، مَثَلُها في قولك : " أَرَدْتُ لأَنْ أفعلَ " ولا تُزاد إلاَّ مع " أَنْ " خاصةً دونَ الاسمِ الصريح ، كأنها زِيْدَتْ عوضاً من تَرْكِ الأصل إلى ما يقومُ مَقامَه ، كما عُوِّض السينُ في " اسطاع " عوضاً من تَرْكِ الأصل الذي هو أَطْوَعَ . والدليلُ على هذا الوجهِ مجيئُه بغيرِ لامٍ في قولِه : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } [ يونس : 72 ] { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين } [ يونس : 104 ] { أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } [ الأنعام : 14 ] انتهى .
قوله : " ولا تُزاد إلا مع أنْ " فيه نظرٌ ، من حيث إنها تُزاد باطِّرادٍ إذا كان المعمولُ متقدماً ، أو كان العامل فرعاً . وبغير اطِّرادٍ في غيرِ الموضعين ، ولم يَذْكُرْ أحدٌ من النحويين هذا التفصيلَ . وقوله : " كما عُوِّض السينُ في اسْطاع " هذا على أحد القولين . والقول الآخر أنَّه استطاع فحُذِفَتْ تاءُ الاستفعالِ . وقوله : " والدليلُ عليه مجيئُه بغير لامٍ " قد يُقال : إنَّ أصلَه باللامِ ، وإنما حُذِفَتْ لأنَّ حَرْفَ الجرِّ يَطَّرِدُ حَذْفُه مع " أنْ " و " أنَّ " ، ويكون المأمورُ به محذوفاً تقديرُه : وأُمِرْت أن أعبدَ لأَنْ أكونَ .
(1/4491)
قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)
قوله : { قُلِ الله أَعْبُدُ } : قُدِّمَتِ الجلالةُ عند قومٍ لإِفادةِ الاختصاصِ . قال الزمخشريُّ : " ولدلالتِه على ذلك قَدَّمَ المعبودَ على فِعْلِ العبادةِ هنا ، وأَخَّره في الأول ، فالكلامُ أولاً واقعٌ في الفعل نفسِه وإيجادِه ، وثانياً فيمن يفعلُ الفعلَ مِنْ أجلِه ، فلذلك رَتَّبَ عَليه قولَه : { فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ } " .
(1/4492)
لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)
قوله : { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ } : يجوزُ أَنْ يكونَ الخبرُ أحدَ الجارَّيْنِ المتقدِّمَيْنِ ، وإن كان الظاهرُ جَعْلَ الأولِ هو الخبرَ ، ويكون " مِنْ فوقِهم " إمَّا حالاً مِنْ " ظُلَل " فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، وإمَّا متعلقاً بما تعلَّق به الخبرُ ، و " مِن النار " صفةٌ ل " ظُلَل " . وقوله : { وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } كما تقدَّم ، وسَمَّاها ظلالاً بالنسبة لمَنْ تَحْتهم .
(1/4493)
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17)
قوله : { أَن يَعْبُدُوهَا } : الضميرُ عائدٌ على الطاغوتِ لأنها تُؤَنَّثُ ، وقد تقدَّم القولُ عليها مستوفىً في البقرة . و " أَنْ يعبدوها " في محلِّ نصبٍ على البدل من الطاغوت بدلِ اشتمالٍ ، كأنه قيل : اجْتَنِبُوا عبادةَ الطاغوتِ . والموصولُ مبتدأٌ . والجملةُ مِنْ " لهم البشرى " الخبرُ . وقيل : " لهم " هو الخبرُ بنفسِه . " والبُشْرى " فاعلٌ به وهذا أَوْلَى لأنه مِنْ بابِ الإِخبار بالمفرداتِ . وقوله : " فبَشِّرْ عبادي " من إيقاع الظاهرِ مَوْقِعَ المضمرِ أي : فبَشِّرْهُمْ أي : أولئك المجتَنبين ، وإنما فُعِلَ ذلك تصريحاً بالوصفِ المذكور .
(1/4494)
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)
قوله : { الذين يَسْتَمِعُونَ } : الظاهرُ أنه نعتٌ لعبادي ، أو بدلٌ منه ، أو بيانٌ له . وقيل : يجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأً . وقوله : { أولئك الذين } إلخ خبرُه . وعلى هذا فالوقفُ على قولِه : " عبادي " والابتداءُ بما بعدَه .
(1/4495)
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
قوله : { أَفَمَنْ حَقَّ } : في " مَنْ " هذه وجهان ، أظهرهما : أنها موصولةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء . وخبرُه محذوفٌ ، فقدَّره أبو البقاء " كمَنْ نجا " . وقَدَّره الزمخشري : " فأنت تُخَلِّصُه " قال : " حُذِفَ لدلالةِ " أفأنت تُنْقِذُ " عليه . وقَدَّره غيرُه " تتأسَّفُ عليه " . وقدَّره آخرون " يَتَخَلَّص منه " أي : من العذاب/ وقدَّر الزمخشريُّ على عادته جملةً بين الهمزة والفاء . تقديرُه : أأنت مالِكُ أَمْرِهم ، فمَنْ حَقَّ عليه كلمةُ العذاب . وأمَّا غيرُه فيدَّعي أن الأصلَ تقديمُ الفاءِ وإنما أُخِّرَتْ لِما تستحقُّه الهمزةُ من التصديرِ . وقد تقدَّمَ تحقيق هذين القولين غيرَ مرةٍ . والثاني : أَنْ تكون " مَنْ " شرطيةً ، وجوابُها : أفأنت . فالفاء فاءُ الجوابِ دَخَلَتْ على جملةِ الجزاءِ ، وأُعيدتِ الهمزةُ لتوكيد معنى الإِنكار ، وأوقع الظاهرَ وهو { مَن فِي النار } موقعَ المضمرِ ، إذ كان الأصلُ : أفأنت تُنْقِذُه . وإنما وَقَعَ موقعَه شهادة عليه بذلك . وإلى هذا نحا الحوفيُّ والزمخشري . قال الحوفي : " وجيْءَ بألف الاستفهام لَمَّا طَال الكلامُ توكيداً ، ولولا طولُه لم يَجُزْ الإِتيانُ بها؛ لأنه لا يَصْلُحُ في العربيةِ أَنْ يأتيَ بألف الاستفهام في الاسمِ وألفٍ أخرى في الجزاء . ومعنى الكلام : أفأنت تُنْقِذُه . وعلى القول بكونِها شرطيةً يترتَّبُ على قولِ الزمخشري وقولِ الجمهور مسألةٌ : وهو أنَّه على قولِ الجمهورِ يكونُ قد اجتمع شرطٌ واستفهامٌ . وفيه حينئذٍ خلافٌ بين سيبويه ويونسَ : هل الجملة الأخيرةُ جواب الاستفهام وهو قولُ يونسَ ، أو جوابٌ للشرط ، وهو قولُ سيبويه؟ وأمَّا على قَوْلِ الزمخشريِّ فلم يَجْتمع شرطٌ واستفهامٌ؛ إذ أداةُ الاستفهامِ عندَه داخلةٌ على جملةٍ محذوفةٍ عُطِفَتْ عليها جملةُ الشرط ، ولم يَدْخُلْ على جملةِ الشرطِ . وقوله : " أفأنت تُنْقِذُ " استفهامُ توقيفٍ وقُدِّم فيها الضميرُ إشعاراً بأنك لست قادراً على إنقاذِه إنَّما القادرُ عليه اللَّهُ وحدَه .
(1/4496)
لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
قوله : { لكن الذين اتقوا } : استدراكٌ بين شيئين نقيضَيْن أو ضِدَّيْن ، وهما المؤمنون والكافرون .
وقوله : " وَعْدَ اللَّهِ " مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ الجملةِ ، فهو منصوبٌ بواجبِ الإِضمار .
(1/4497)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21)
قوله : { ثُمَّ يَجْعَلُهُ } : العامَّةُ على رَفْعِ الفعلِ نَسَقاً على ما قبلَه . وقرأ أبو بشر " ثم يَجْعَلَه " منصوباً . قال الشيخ : " قال صاحب الكامل : " وهو ضعيفٌ " انتهى . يعني بصاحب الكامل " الهذليَّ " ولم يُبَيِّنْ هو ولا صاحبُ الكامل وَجْهَ ضَعْفِه ولا تخريجَه . فأمَّا ضعفُه فواضحٌ حيث لم يتقدَّم ما يَقْتَضي نصبَه في الظاهر . وأمَّا تخريجُه فقد ذكر أبو البقاء فيه وجهين ، أحدُهما : أَنْ ينتصِبَ بإضمار " أن " ويكونَ معطوفاً على قولِه : { أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } في أولِ الآيةِ ، والتقدير : ألم تَرَ إنزالَ اللَّهِ ثم جَعْلَه . والثاني : أَنْ يكونَ منصوباً بتقدير تَرَى أي : ثم تَرَى جَعْلَه حُطاماً ، يعني أنه يُنْصَبُ ب " أنْ " مضمرةً ، وتكونُ " أنْ " وما في حَيِّزِها مفعولاً به بفعلٍ مقدرٍ وهو " تَرَى " لدلالة " ألم تَرَ " عليه .
(1/4498)
أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
قوله : { أَفَمَن شَرَحَ الله } : { أَفَمَن يَتَّقِي } [ الزمر : 24 ] كما تقدَّم في { أَفَمَنْ حَقَّ } [ الزمر : 19 ] . والتقديرُ : أفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صدرَه للإِسلامِ كمَنْ قسا قلبُه ، أو كالقاسي المُعْرِضِ ، لدلالةِ { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } عليه . وكذا التقديرُ في : أفَمَنْ يَتَّقِي أي : كمن أَمِنَ العذابَ ، وهو تقديرُ الزمخشريِّ ، أو كالمُنْعَمِيْنَ في الجنةِ ، وهو تقديرُ ابنِ عطية .
(1/4499)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
قوله : { كِتَاباً } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه بدلٌ مِنْ " أحسنَ الحديث " . والثاني : أنه حالٌ منه . قال الشيخ - لَمَّا نقله عن الزمخشري - : " وكأنَّه بناءً على أنَّ " أَحْسَن الحديث " معرفةٌ لإِضافتِه إلى معرفةٍ ، وأفعلُ التفضيلِ إذا أُضيف إلى معرفةٍ فيه خلافٌ . فقيل : إضافتُه مَحْضَةٌ . وقيل : غيرُ محضة " . قلت : وعلى تقديرِ كونِه نكرةً يَحْسُنُ أيضاً أَنْ يكونَ حالاً؛ لأنَّ النكرةَ متى أُضيفَتْ ساغ مجيءُ الحالِ منها بلا خلافٍ . والصحيحُ أنَّ إضافةَ أَفْعَلَ محضةٌ . و " مُتَشابِهاً " نعتٌ ل " كتاب " وهو المُسَوِّغُ لمجيءِ الجامدِ حالاً ، أو لأنَّه في قوةِ مكتوب .
وقرأ العامَّةُ " مثانيَ " بفتح الياء صفةً ثانية أو حالاً أخرى أو تمييزاً منقولاً من الفاعلية أي متشابهاً مثانيه وإلى هذا ذهب الزمخشري . وقرأ هشام عن ابن عامر وأبو بِشْرٍ بسكونها ، وفيها وجهان ، أحدُهما : أنه مِنْ تسكِينِ حرفِ العلةِ استثقالاً للحركةِ عليه كقراءة " تُطْعِمُوْن أهاليْكم " . [ وقوله ] :
3892 كأنَّ أَيْدِيْهِنَّ . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ونحوِهما . والثاني : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : هو مثاني ، كذا ذكره الشيخ . وفيه نظرٌ مِنْ حيث إنه كان ينبغي أَنْ يُنَوَّنَ وتُحْذَفَ ياؤُه لالتقاءِ الساكنين فيقال : مثانٍ ، كما تقول : هؤلاء جوارٍ . وقد يُقال : إنه وُقِفَ عليه . ثم أُجْرِيَ الوصلُ مُجْرى/ الوقفِ لكنْ يُعْتَرَضُ عليه : بأنَّ الوَقْفَ على المنقوصِ المنونِ بحَذْفِ الياءِ نحو : هذا قاضٍ ، وإثباتُها لغةٌ قليلةٌ . ويمكن الجوابُ عنه : بأنَّه قد قُرِئ بذلك في المتواترِ نحو : { مِنْ والي } و { باقي } و { هادي } في قراءة ابن كثير .
قوله : " تَقْشَعِرُّ " هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ل " كتاب " ، وأَنْ تكونَ حالاً منه لاختصاصِه بالصفةِ ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً . واقشعرَّ جِلْدُه إذا تقبَّضَ وتَجَمَّعَ من الخوف ، وقَفَّ شعرُه . والمصدرُ الاقشعرارُ والقُشَعْرِيرة أيضاً . ووزن اقْشَعَرَّ افْعَلَلَّ . ووزنُ القُشَعْرِيرة : فَعَلِّيْلَة .
و " مَثاني " جمعُ مَثْنى؛ لأنَّ فيه تثنيةَ القصصِ والمواعظِ ، أو جمعُ مَثْنى مَفْعَل مِنْ التثنية بمعنى التكرير . وإنما وُصِفَ " كتاب " وهو مفردٌ بمثاني ، وهو جمعٌ؛ لأنَّ الكتابَ مشتملٌ على سورٍ وآياتٍ ، أو هو من باب : بُرْمَةٌ أعشارٌ وثَوْبٌ أخلاقٌ . كذا قال الزمخشري : وقيل : ثَمَّ موصوفٌ محذوفٌ أي : فصولاً مثانيَ حُذِفَ للدلالةِ عليه .
(1/4500)
قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)
قوله : { قُرْآناً عَرَبِيّاً } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يكونَ منصوباً على المدح؛ لأنه لَمَّا كان نكرةً امتنع إتباعُه للقرآن . الثاني : أَنْ ينتصِبَ ب " يتذكَّرون " أي : يتذكَّرون قرآناً . الثالث : أن ينتصبَ على الحال مِن القرآن على أنَّها حالٌ مؤكِّدةٌ ، وتُسَمَّى حالاً موطئة لأنَّ الحالَ في الحقيقةِ " عربياً " و " قرآناً " توطئةٌ له نحو : " جاء زيدٌ رجلاً صالحاً " . رضي الله عنR> قوله : { غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } نعتٌ ل " قرآناً " أو حالٌ أخرى . قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : فهلاَّ قيل : مستقيماً أو غيرَ مُعْوَج . قلت : فيه فائدتان ، إحداهما : نفيُ أَنْ يكونَ فيه عِوَجٌ قط كما قال : { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [ الكهف : 1 ] . والثاني : أنَّ العِوَجَ يختصُّ بالمعاني دونَ الأعيان . وقيل : المرادُ بالعِوَجِ الشكُّ واللَّبْسُ " . وأنشد :
3893 وقد أتاكَ يقينٌ غيرُ ذي عِوَجٍ ... من الإِلهِ وقولٌ غيرُ مَكْذوبِ
(1/4501)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)
قوله : { فِيهِ شُرَكَآءُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ هذا جملةً مِنْ مبتدأ وخبرٍ في محلِّ نصب صفةً لرجل ، ويجوزُ أَنْ يكونَ الوصفُ الجارَّ وحدَه ، و " شركاءُ " فاعلٌ به ، وهو أَوْلَى لقُرْبه من المفردِ و " مُتَشاكِسُوْن " صفةٌ لشركاء . والتشاكُسُ : التخالُفُ . وأصلُه سوءُ الخُلُقِ وعُسْرُه ، وهو سببُ التخالُفِ والتشاجُر . ويقال : التَّشاكس والتشاخُسُ بالخاء موضع الكاف . وقد تقدَّم الكلامُ على نصب المثل وما بعده الواقعين بعد " ضَرَب " . وقال الكسائي : انتصَبَ " رجلاً " على إسقاط الجارِّ أي : لرجل أو في رجل .
وقوله : " فيه " أي : في رِقِّه . وقال أبو البقاء كلاماً لا يُشْبه أَنْ يَصْدُرَ مِنْ مثله ، بل ولا أَقَلَّ منه . قال : " وفيه شركاءُ الجملةُ صفةُ ل " رجل " و " في " متعلقٌ بمتشاكسون . وفيه دلالةٌ على جوازِ تقديمِ خبرِ المبتدأ عليه " انتهى . أمَّا هذا فلا أشُكُّ أنه سهوٌ؛ لأنه من حيث جَعَلَه جملةً كيف يقول بعد ذلك : إن " فيه " متعلقٌ ب " متشاكسون "؟ وقد يقال : أراد مِنْ حيث المعنى ، وهو بعيدٌ جداً . ثم قوله : " وفيه دلالةٌ " إلى آخره يناقضه أيضاً . وليست المسألةُ غريبةً حتى يقولَ : " وفيه دلالة " . وكأنه أراد : فيه دلالةٌ على تقديم معمولِ الخبر على المبتدأ ، بناءً منه على أنَّ " فيه " يتعلق ب " مُتشاكسون " ولكنه فاسدٌ ، والفاسدُ لا يُرام صَلاحُه .
قوله : " سَلَماً لرَجُلٍ " قرأ ابن كثير وأبو عمروٍ " سالماً " بالألفِ وكسرِ اللام . والباقون " سَلَماً " بفتح السين واللام . وابن جبير بكسرِ السينِ وسكونِ اللام . فالقراءةُ الأولى اسمُ فاعلٍ مِنْ سَلِمَ له كذا فهو سالمٌ . والقراءاتان الأُخْرَيان سَلَماً وسِلْماً فهما مَصدران وُصِف بهما على سبيل المبالغةِ ، أو على حَذْفِ مضافٍ ما ، أو على وقوعِهما موقعَ اسمِ الفاعل فتعودُ كالقراءةِ الأولى . وقُرِئ " ورجلٌ سالِمٌ " برفعِهما . وفيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ مبتدأً ، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه : وهناك رجلٌ سالمٌ لرجلٍ ، كذا قَدَّره الزمخشري . الثاني : أنه مبتدأٌ و " سالمٌ " خبرُه . وجاز الابتداءُ بالنكرةِ؛ لأنه موضعُ تفصيلٍ ، كقولِ امرئِ القيس :
3894 إذا ما بكى مِنْ خَلْفِها انصرَفَتْ له ... بشِقٍّ وشِقٌّ عندنا لم يُحَوَّلِ
وقولهم : الناسُ رجلان رجلٌ أكرمْتُ ، ورجلٌ أَهَنْتُ .
قوله : " مَثَلاً " منصوبٌ على التمييزِ المنقولِ من الفاعليةِ إذ الأصلُ : هل يَسْتَوي مَثَلُهما . وأُفْرد التمييزُ لأنه مقتصرٌ عليه أولاً في قولِه : { ضَرَبَ الله مَثَلاً } . وقرِئَ " مِثْلَيْن " فطابَقَ حالَيْ الرجلين . وقال الزمخشري - فيمَنْ قرأ مِثْلين - : " إنَّ الضميرَ في " يَسْتَويان " للمِثْلين؛ لأنَّ التقديرَ : مِثْلَ رجلٍ ، ومثلَ رجلٍ .
(1/4502)
والمعنى : هل يَسْتويان فيما يَرْجِعُ إلى الوصفيَّة كما تقول : كفى بهما رجلين " .
قال الشيخ : " والظاهرُ أنه يعود الضميرُ في " يَسْتَويان " على " رَجُلَيْن " . وأمَّا إذا جَعَلْتَه/ عائداً إلى المِثْلَيْنِ اللذيْن ذَكَرَ أنَّ التقديرَ : مِثْلَ رجلٍ ومِثْلَ رجلٍ؛ فإنَّ التمييزَ يكون إذ ذاك قد فُهِمَ من المميَّز الذي هو الضميرُ؛ إذ يصيرُ التقدير : هل يَسْتوي المِثْلان مِثْلين " . قلت : هذا لا يَضُرُّ؛ إذ التقديرُ : هل يَسْتوي المِثْلان مِثْلَيْن في الوصفيةِ فالمِثْلان الأوَّلان مَعْهودان ، والثانيان جنسان مُبْهمان كما تقول : كَفَى بهما رجلَيْن؛ فإنَّ الضميرَ في " بهما " عائدٌ على ما يُراد بالرجلين فلا فَرْقَ بين المسألتين . فما كان جواباً عن " كفَى بهما رجلين " يكونُ جواباً له .
(1/4503)
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)
قوله : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } : العامَّةُ على " مَيِّت ومَيِّتون " . وقرأ ابنُ محيصن وابنُ أبي عبلة واليماني " مائِتٌ ومائتون " ، وهي صفةٌ مُشْعِرَةٌ بحدوثِها دون " مَيِّت " . وقد تقدَّمَ أنَّه لا خلافَ بين القرَّاءِ في تثقيلِ مثلِ هذا . " ثم إنكم " تغليباً للمخاطبِ ، وإنْ كان واحداً في قوله : " إنَّك " على الغائبين في " وإنَّهم " .
(1/4504)
وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)
قوله : { والذي جَآءَ } : بالصدق لَفْظُه مفردٌ ، ومعناه جمعٌ لأنه أُريد به الجنسُ . وقيل : لأنه قُصِدَ به الجزاءُ ، وما كان كذلك كَثُرَ فيه وقوعُ " الذي " موقع " الذين " ، ولذلك رُوْعي معناه فجُمِع في قولِه : { أولئك هُمُ المتقون } كما رُوْعِيَ معنى " مَنْ " في قولِه : " للكافرين "؛ فإنَّ الكافرين ظاهرٌ واقعٌ موقعَ المُضْمرِ؛ إذ الأصلُ : مثوىً لهم . وقيل : بل الأصلُ : والذين جاء بالصدق ، فحُذِفَتِ النونُ تخفيفاً ، كقولِه : { وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] . وهذا وهمٌ؛ إذ لو قُصِد ذلك لجاء بعده ضميرُ الجمع ، فكان يُقال : والذي جاؤوا ، كقوله : " كالذي خاضُوا " . ويَدُلُّ عليه أنَّ نونَ التثنيةِ إذا حُذِفَتْ عاد الضميرُ مَثْنى ، كقولِه :
3895 أَبَني كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللَّذا ... قَتَلا الملوكَ وفَكَّكا الأَغْلالا
ولجاءَ كقوله :
3896 وإنَّ الذيْ حانَتْ بفَلْجٍ دماؤُهُمْ ... همُ القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ
وقرأ عبدُ الله { والذي جَآؤوا بالصدق وَصَدَّقَوا بِهِ } وقد تقدَّم تحقيقُ مثلِ هذه الآيةِ في أوائلِ البقرة وغيرها . وقيل : " الذي " صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ بمعنى الجمعِ ، تقديرُه : والفريق أو الفوج ولذلك قال : { أولئك هُمُ المتقون } . وقيل : المرادُ بالذي واحدٌ بعينِه وهو محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم ، ولكن لَمَّا كان المرادُ هو وأتباعُه اعْتُبر ذلك فجُمِعَ ، فقال : " أولئك هم " كقوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [ المؤمنون : 49 ] . قاله الزمخشري وعبارتُه : " هو رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم أراد به إياه ومَنْ تبعه ، كما أراد بموسى إياه وقومَه " . وناقشه الشيخ في إيقاعِ الضميرِ المنفصلِ موقعَ المتصلِ قال : " وإصلاحُه أَنْ يقولَ : أراده به كما أراده بموسى وقومِه " . قلت : ولا مناقَشَةَ؛ لأنَّه مع تقديم " به " و " بموسى " لغرضٍ من الأغراض استحالَ اتصالُ الضميرِ ، وهذا كما تقدَّم لك بحثٌ في قولِه تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } [ النساء : 131 ] ، وقوله : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] : وهو أنَّ بعضَ الناسِ زَعَمَ أنه يجوزُ الانفصالُ مع القدرةِ على الاتصال ، وتقدَّم الجوابُ بقريبٍ مِمَّا ذكَرْتُه هنا ، وبَيَّنْتُ حكمةَ التقديمِ ثمةَ . وقولُ الزمخشريِّ : " إن الضميرَ في " لعلهم يَهْتدون " لموسى وقومِه " فيه نظرٌ ، بل الظاهرُ خصوصُ الضميرِ بقومِه دونَه؛ لأنَّهم هم المطلوبُ منهم الهدايةُ . وأمَّا موسى عليه السلام فمهتدٍ ثابتٌ على الهداية . وقال الزمخشري أيضاً : " ويجوز أن يريدَ : والفوج أو الفريق الذي جاء بالصدقِ وصَدَّق به ، وهم : الرسولُ الذي جاء بالصدقِ وصحابتُه الذين صَدَّقوا به " . قال الشيخ : " وفيه توزيعُ الصلةِ ، والفوجُ هو الموصولُ ، فهو كقولِك : جاء الفريقُ الذي شَرُفَ وشَرُفَ ، والأظهرُ عَدَمُ التوزيعِ بل المعطوفُ على الصلةِ صلةٌ لمَنْ له الصلة الأولى " .
وقرأ أبو صالح وعكرمة بن سليمان/ ومحمد بن جُحادة مخففاً بمعنى صَدَقَ فيه ، ولم يُغَيِّرْه . وقُرِئ " وصُدِّق به " مشدَّداً مبنياً للمفعول .
(1/4505)
لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
قوله : { لِيُكَفِّرَ } : في تعلُّقها وَجْهان ، أحدهما : أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ أي : يَسَّرَ لهم ذلك ليُكَفِّرَ . والثاني : أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ المحسنين ، كأنه قيل : الذين احسنوا ليُكَفِّرَ أي : لأجلِ التكفير .
قوله : " أسْوَأَ الذي " الظاهرُ أنَّه أَفْعَلُ تفضيل ، وبه قرأ العامَّةُ . وقيل : ليسَتْ للتفضيل بل بمعنى سَيِّئَ الذي عمِلوا كقولِهم : " الأَشَجُّ والناقص أعدلُ بني مروان " أي : عادلاهم . ويَدُلُّ على هذا قراءةُ ابنِ كثير في رواية " أَسْواءَ " بألفٍ بين الواوِ والهمزةِ بزنَةِ أَحْمال جمعَ سُوء ، وكذا قرأ في حم السجدة .
(1/4506)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36)
قوله : { بِكَافٍ عَبْدَهُ } : العامَّةُ على توحيدِ " عبدَه " . والأخَوان " عبادَه " جمعاً وهم الأنبياءُ وأتباعُهم . وقُرِئ " بكافي عبادِه " بالإِضافة . و " يُكافى " مضارعُ كافى ، " عبادَه " نُصِب على المفعولِ به . ثم المفاعلةُ هنا تحتملُ أَنْ تكونَ بمعنى فَعَل نحو : نُجازي بمعنى نَجْزي ، وبُنِيَ على لفظةِ المُفاعلةِ لِما تقدَّم مِنْ أنَّ بناءَ المفاعلةِ يُشْعِ بالمبالغةِ؛ لأنه للمغالبة . ويُحتمل أَنْ يكونَ أصلُه يُكافِئ بالهمزِ ، من المكافأة بمعنى يَجْزِيْهم ، فخفَّف الهمزةِ .
قوله : " ويُخَوِّفُونَك " يجوزُ أَنْ يكون حالاً؛ إذ المعنى : أليس كافيَك حالَ تَخْويفِهم إياك بكذا ، ويَعْلَمُه . كأنَّ المعنى : أنَّه كافيه في كلِّ حالٍ حتى في هذه الحال . ويجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً .
(1/4507)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38)
قوله : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ } : هي المتعديةُ لاثنين ، أوَّلُهما " ما تَدْعوْن " وثانيهما الجملةُ الاستفهاميةُ . والعائدُ على المفعول منها قولُه : " هُنَّ " وإنما أنَّثَه تحقيراً لِما يَدْعُون مِنْ دونِه ، ولأنهم كانوا يُسَمُّونها بأسماءِ الإِناث : اللات ومَناة والعُزَّى . وقد تقدَّم تحقيقُ هذه مستوفىً في مواضعَ .
قوله : { هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } قرأ أبو عمرو " كاشفاتٌ مُمْسِكاتٌ " بالتنوين ونصبِ " ضُرَّه " و " رحمتَه " ، وهو الأصلُ في اسم الفاعل . والباقون بالإِضافةِ وهو تخفيفٌ .
(1/4508)
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
قوله : { والتي لَمْ تَمُتْ } : عطفٌ على الأنفس أي : يَتَوفَّى الأنفسَ حين تموتُ ، ويَتَوَفَّى أيضاً الأنفسَ التي لم تَمُتْ في مَنامِها . ففي منامِها ظرفٌ ل " يَتَوَّفَى " . وقرأ الأخَوان " قُضِيَ " مبنياً للمفعول ، " الموتُ " رفعاً لقيامَه مَقامَ الفاعلِ .
(1/4509)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43)
وقوله : { أَمِ اتخذوا } : " أم " منقطعةٌ فتتقدَّرُ ب بل والهمزةِ . وتقدَّم الكلامُ على نحوِ " أَوَلَوْ " وكيف هذا التركيبُ .
(1/4510)
وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
قوله : { وَإِذَا ذُكِرَ الذين } : قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : ما العاملُ في " إذا ذُكِرَ "؟ قلت : العاملُ في " إذا " الفجائية ، تقديرُه : وقتَ ذِكْرِ الذين مِنْ دونِه فاجَؤوا وقتَ الاستبشار " . قال الشيخُ : " أمَّا قولُ الزمخشريِّ فلا أَعْلَمُه مِنْ قولِ مَنْ ينتمي للنحوِ ، وهو أنَّ الظَّرْفَيْنِ معمولان لفاجؤوا ثم " إذا " الأولى تَنْتَصِبُ على الظرفيةِ ، والثانيةُ على المفعول به " . وقال الحوفي : " إذا هم يَسْتَبشرون " إذا " مضافةٌ إلى الابتداءِ والخبر ، و " إذا " مكررةٌ للتوكيد ، وحُذف ما تُضاف إليه . والتقدير : إذا كانَ ذلك هم يَسْتبشِرون فيكون هم يستبشرون هو العاملَ في " إذا " ، المعنى : إذا كان كذلك استبشروا " . قال الشيخ : " وهذا يَبْعُدُ جداً عن الصواب ، إذا جعل " إذا " مضافةً إلى الابتداء والخبر " ، ثم قال : " وإذا مكررةٌ للتوكيد وحُذِف ما تضاف إليه " إلى آخرِ كلامه فإذا كانَتْ " إذا " حُذِف ما تُضاف إليه ، فكيف تكون مضافةً إلى الابتداء والخبرِ الذي هو هم يَسْتَبْشِرون؟ وهذا كلُّه أَوْجبه عَدَمُ الإِتقانِ لعلمِ النحوِ والتحذُّقِ فيه " انتهى . وفي هذه العبارةِ تحامُلٌ على أهلِ العلمِ المرجوعِ إليهم فيه .
واختار الشيخُ أَنْ يكونَ العاملُ في " إذا " الشرطيةِ الفعلَ بعدها لا جوابَها ، وأنها ليسَتْ مضافةً لِما بعدها ، وإنْ كان قولَ الأكثرين ، وجَعَل " إذا " الفجائيةَ معمولةً لِما بعدها سواءً كانت زماناً أم مكاناً . أمَّا إذا قيل : إنها حرفٌ فلا تحتاجُ إلى عاملٍ وهي رابِطةٌ لجملةِ الجزاءِ بالشرطِ كالفاء .
والاشمِئْزازُ : النُّفورُ والتقبُّضُ . وقال أبو زيد : هو الذُّعْرُ . اشْمَأَزَّ فلانٌ : إذا ذُعِرَ ، ووزن افْعَلَلَّ كاقْشَعَرَّ . قال الشاعر :
3897 إذا عَضَّ الثِّقافُ بها اشْمَأَزَّتْ ... ووَلَّتْه عَشَوْزَنَةً زَبُوْنا
(1/4511)
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)
قوله : { سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } : يجوزُ أَنْ تكونَ " ما " مصدريةً أي : سَيِّئاتُ كَسْبِهم أو بمعنى الذي : سَيِّئات أعمالهم التي كَسَبوها .
(1/4512)
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)
قوله : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ } : يجوزُ أَنْ تكونَ " ما " مهيِّئةً زائدةً على " إنَّ " نحو : إنما قام زيد ، وأَنْ تكونَ موصولةً ، والضميرُ عائدٌ عليها مِنْ " أُوْتِيْتُه " أي : إنَّ الذي أُوْتِيْتُه على عِلْمٍ مني أو على عِلْمٍ من الله فيَّ ، أي : أستحقُّ/ ذلك .
قوله : " بل هي " الضميرُ للنعمةِ . ذكَّرها أولاً في قوله : " إنما أوتيتُه لأنها بمعنى الإِنعامِ ، وأنَّث هنا اعتباراً بلفظِها . وقيل : بل الحالةُ أو الإِتيانةُ .
(1/4513)
قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50)
قوله : { قَدْ قَالَهَا } : أي : قال القولةَ المَذْكورةَ . وقُرِئَ " قد قاله " أي : هذا القولَ أو الكلامَ . وإنما عُطِفَتْ هذه الجملةُ ، وهي قوله : { فَإِذَا مَسَّ الإنسان } بالفاء والتي في أول السورة بالواو؛ لأن هذه مُسَبَّبَةٌ عن قوله : " وإذا ذُكِر " أي : يَشْمَئِزُّون مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ويَسْتَبْشِرون بذِكْرِ آلهتِهم ، فإذا مَسَّ أحدَهم بخلاف الأولى حيث لا تَسَبُّبَ فيها ، فجيء بالواوِ التي لمطلقِ العطفِ ، وعلى هذا فما [ بين ] السببِ والمُسَبَّبِ جملٌ اعتراضيةٌ ، قال معناه الزمخشريُّ . واستبعده الشيخُ من حيث إنَّ أبا عليٍّ يمنع الاعتراضَ بجملتينِ فكيف بهذه الجملِ الكثيرةِ؟ ثم قال : " والذي يَظْهر في الرَّبْطِ أنه لَمَّا قال : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [ الزمر : 47 ] الآية كان ذلك إشعاراً بما يَنالُ الظالمين . مِنْ شِدَّةِ العذاب ، وأنه يَظْهر لهم يومَ القيامة من العذاب ، أَتْبع ذلك بما يَدُلُّ على ظُلمِه وبَغْيه ، إذ كان إذا مَسَّه ضُرٌّ دعا اللَّهَ ، فإذا أَحْسَن إليه لم يَنْسُبْ ذلك إليه " .
قوله : " فما أَغْنى " يجوزُ أَنْ تكونَ " ما " نافيةً أو استفهاميةً مؤولةً بالنفيِ ، وإذا احْتَجْنا إلى تأويلها بالنفيِ فَلْنَجْعَلْها نافيةً استراحةً من المجاز .
(1/4514)
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
قوله : { قُلْ ياعبادي } : قيل في هذه الآيةِ من أنواع المعاني والبيانِ أشياءُ حسنةٌ ، منها : إقبالُه عليهم ونداؤهم ، ومنها : إضافتُهم إليه إضافةَ تشريفٍ ، ومنها : الالتفاتُ من التكلم إلى الغَيْبةِ في قوله : { مِن رَّحْمَةِ الله } ، ومنها : إضافةُ الرحمةِ لأجلِ أسمائِه الحُسْنى ، ومنها : إعادةُ الظاهرِ بلفظِه في قولِه : " إنَّ اللَّهَ " ، ومنها : إبرازُ الجملةِ مِنْ قولِه : { إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } مؤكَّدةً ب " إنَّ " ، وبالفصلِ ، وبإعادة الصفتين اللتين تضَّمَنَتْهما الآيةُ السابقةُ .
(1/4515)
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)
قوله : { أَن تَقُولَ } : مفعولٌ مِنْ أجلِه ، فقدَّره الزمخشري كراهةَ أنْ تقول ، وابنُ عطية : أَنِيْبوا مِنْ أَجْلِ أَنْ تقولَ . وأبو البقاء والحوفي : أَنْذَرْناكم مخافةَ أَنْ تقولَ . ولا حاجةَ إلى إضمارِ هذا العاملِ مع وجودِ " أَنيبوا " وإنما نَكَّر نفساً لأنه أراد التكثيرَ ، كقولِ الأعشى :
3898 ورُبَّ بَقيعٍ لو هَتَفْتُ بجَوِّه ... أتاني كريمٌ يَنْفُضُ الرأسَ مُغْضَبا
يريد : أتاني كرام كثيرون لا كريمٌ فَذٌّ؛ لمنافاتِه المعنى المقصودَ . ويجوزُ أَنْ يريد : نفساً متميِّزةً من بينِ الأنفسِ باللَّجاجِ الشديدِ في الكفرِ أو بالعذابِ العظيمِ .
قوله : " يا حَسْرتا " العامَّةُ على الألفِ بدلاً مِنْ ياءِ الإِضافةِ . وعن ابن كثير " يا حَسْرَتاهْ " بهاءِ السكت وَقْفاً ، وأبو جعفر " يا حَسْرَتي " على الأصل . وعنه أيضاً " يا حَسْرتاي " بالألفِ والياء . وفيها وجهان ، أحدُهما : الجمعُ بين العِوَضِ والمُعَوَّضِ منه . والثاني : أنه تثنيةُ " حَسْرَة " مضافةً لياءِ المتكلمِ . واعْتُرِضَ على هذا : بأنه كان ينبغي أَنْ يُقالَ : يا حَسْرتيَّ بإدغامِ ياءِ النَّصْبِ في ياءِ الإِضافةِ . وأُجيب : بأنه يجوزُ أَنْ يكونَ راعى لغة الحارِث ابن كعبٍ وغيرهم نحو : " رأيتُ الزيدان " . وقيل : الألفُ بدلٌ من الياءِ والياءُ بعدها مزيدةٌ . وقيل : الألفُ مزيدةٌ بين المتضايفَيْنِ ، وكلاهما ضعيفٌ .
قوله : { على مَا فَرَّطَتُ } " ما " مصدريةٌ أي : على تَفْرِيطي . وثَمَّ مضافٌ أي : في جَنْبِ طاعةِ الله . وقيل : { فِي جَنبِ الله } المرادُ به الأمرُ والجهةُ . يقال : هو في جَنْبِ فلانٍ وجانبِه ، أي : جهته وناحيته . قال الراجز :
3899 الناسُ جَنْبٌ والأميرُ جَنْبُ ... وقال آخر :
3900 أفي جَنْبِ بَكْرٍ قَطَّعَتْني مَلامةً ... لَعَمْري لقد طالَتْ ملامَتُها بيا
ثم اتُّسِع فيه فقيل : فَرَّط في جَنْبِه أي في حَقِّه . قال :
3901 أَمَا تَتَّقِيْنَ اللَّهَ في جَنْبِ عاشِقٍ ... له كَبِدٌ حَرَّى عليكِ تَقَطَّعُ
(1/4516)
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58)
قوله : { فَأَكُونَ } : في نصبِه وجهان ، أحدهما : عَطْفُه على " كرَّة " فإنها مصدرٌ ، فعُطِفَ مصدرٌ مؤولٌ على مصدرٍ مُصَرَّح به كقولها :
3902 لَلُبْسُ عَباءةٍ وتَقَرَّ عَيْني ... أَحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفوفِ
وقول الآخر :
3903 فما لَكَ منها غيرُ ذكرى وحَسْرةٍ ... وتَسْأَلَ عن رُكْبانِها أينَ يَمَّموا
والثاني : أنه منصوبٌ/ على جوابِ التمني المفهومِ مِنْ قولِه : { لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً } . والفرقُ بين الوجهين : أن الأولَ يكونُ فيه الكونُ مُتَمَنَّى ، ويجوزُ أَنْ تُضْمَرَ " أَنْ " وأَنْ تظهرَ ، والثاني يكون فيه الكونُ مترتباً على حصولِ المُتَمَنَّى لا مُتمنى ويجب أَنْ تُضْمَرَ " أَنْ " .
(1/4517)
بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
قوله : { بلى } : حرفُ جوابٍ وفيما وقعَتْ جواباً له وجهان ، أحدُهما : هو نَفْيٌ مقدرٌ . قال ابنُ عطية : " وحَقُّ بلى أَنْ تجيْءَ بعد نفيٍ عليه تقريرٌ ، كأنَّ النفسَ قالَتْ : لم يَتَّسِعْ لي النظرُ ولم يَتَبَيَّنْ لي الأمرُ " . قال الشيخ : " ليس حَقُّها النفيَ المقررَ ، بل حَقُّها النفيُ ، ثم حُمِل التقريرُ عليه ، ولذلك أجاب بعضُ العربِ النفيَ المقررَ ب نعم دونَ بَلى ، وكذا وقع في عبارةِ سيبويه نفسه " . والثاني : أنَّ التمنيَ المذكورَ وجوابَه متضمنان لنَفْيِ الهدايةِ ، كأنه قال : لم أهتدِ ، فَرَدَّ الله عليه ذلك . قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : هَلاَّ قُرِنَ الجوابُ بما هو جوابٌ له ، وهو قولُه : { لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي } ولم يَفْصِلْ بينهما . قلت : لأنه لا يَخْلو : إمَّا أَنْ يُقَدَّم على إحدى القرائنِ الثلاثِ فيُفَرَّقَ بينهنَّ ، وإمَّا أن تُؤَخَّرَ القرينةُ الوسطى . فلم يَحْسُنِ الأولُ لِما فيه من تَبْتير النَّظْم بالجمع بين القرائنِ ، وأمَّا الثاني فلِما فيه من نَقْضِ الترتيبِ وهو التحسُّر على التفريط في الطاعةِ ثم التعلُّلُ بفَقْدِ الهدايةِ ثم تمنِّي الرَّجْعَة ، فكان الصواب ما جاءَ عليه : وهو أنَّه حكى أقوالَ النفسِ على ترتيبها ونَظْمِها ، ثم أجاب مِنْ بينِها عَمَّا اقتضى الجوابَ " .
وقرأ العَامَّةُ " جاءَتْكَ " بفتح الكاف فكذّبْتَ واستكبرتَ ، وكنتَ ، بفتح التاءِ خطاباً للكافر دونَ النفس . وقرأ الجحدريُّ وأبو حيوةَ وابن يعمر والشافعيُّ عن ابن كثير ، ورَوَتْها أمُّ سَلَمَةَ عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ، وبها قرأ أبو بكر وابنتُه عائشةُ رضي الله عنهما ، بكسرِ الكاف والتاءِ خطاباً للنفسِ . والحسن والأعرج والأعمش " جَأَتْكَ " بوزنِ " جَفَتْك " بهمزةٍ دون ألفٍ . فتحتمل أَنْ تَكونَ قَصْراً كقراءةِ قُنْبل { أَن رَّأهُ استغنى } وأَنْ يكونَ في الكلمةِ قَلْبٌ : بأَنْ قُدِّمَتِ اللامُ على العين ، فالتقى ساكنان فحُذِفَتِ الألفُ لالتقائِهما ، نحو : رَمَتْ وغَزَتْ .
(1/4518)
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)
قوله : { وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } : العامَّةُ على رفعِهما ، وهي جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ . وفي محلِّها وجهان ، أحدهما : النصبُ على الحالِ من الموصولاتِ؛ لأنَّ الرؤيةَ بَصَرِيَّةٌ ، وكذا أَعْرَبَها الزمخشريُّ . ومِنْ مذهبِه أنه لا يجوزُ إسقاطُ الواوِ مِنْ مثلِها إلاَّ شاذَّاً ، تابعاً في ذلك الفراءَ فهذا رجوعٌ منه عن ذلك . والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ مفعولاً ثانياً؛ لأنَّ الرؤيةَ قلبيةٌ . وهو بعيدٌ لأن تَعَلُّقَ الرؤيةِ البصريةِ بالأجسام وألوانِها أظهرُ مِنْ تعلُّقِ القلبيةِ بهما . وقُرِئ " وجوهَهم مُسْودَّة " بنصبِهما ، على أنَّ " وجوهَهم " بدلُ بعضٍ مِنْ كل ، و " مُسْوَدَّةً " على ما تقدَّم من النصبِ على الحال أو على المفعولِ الثاني . وقال أبو البقاء : " ولو قُرِئ " وجوهَهم " بالنصب لكانَ على بدلِ الاشتمالِ " . قلت : قد قُرِئ به والحمدُ لله ، ولكنْ ليس كما قال على بدلِ الاشتمال ، بل على بدلِ البعضِ ، وكأنه سَبْقُ لسانٍ أو طغيانُ قَلَم . وقرأ أُبَيٌّ " أُجوهُهم " بقلبِ الواوِ همزةً ، وهو فصيحٌ نحو : { أُقِّتَتْ } [ المرسلات : 11 ] وبابِه .
(1/4519)
وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
قوله : { بِمَفَازَتِهِمْ } : قرأ الأخَوان وأبو بكرٍ " بمفازاتِهم " جمعاً لَمَّا اختلفَتْ أنواعُ المصدرِ جُمِعَ . والباقون بالإِفرادِ على الأصلِ . وقيل : ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ ، أي : بدواعي مَفازتِهم أو بأسبابِها . والمَفازَةُ : المَنْجاة . وقيل : لا حاجةَ لذلك؛ إذ المرادُ بالمَفازةِ الفلاحُ .
قوله : { لاَ يَمَسُّهُمُ السواء } يجوزُ أَنْ تكونَ هذه الجملةُ مفسِّرةً لمفازَتهم كأنَّه قيل : وما مفازَتُهم؟ فقيل : لا يَمَسُّهم السوءُ فلا مَحَلَّ لها . ويجوزُ أَنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال من الذين اتَّقَوا .
(1/4520)
لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63)
قوله : { لَّهُ مَقَالِيدُ } : جملةٌ مستأنفةٌ . والمَقاليد : جمعُ مِقْلاد أو مِقْليد ، أو لا واحدَ له مِنْ لفظِه كأَساطير وأخواتِه ويُقال أيضاً : إِقْليد وأَقاليد ، وهي المفاتيح والكلمةُ فارسيةٌ مُعَرَّبَةٌ . وفي هذا الكلامِ استعارةٌ بديعة نحو قولك : بيدِ فلانٍ مِفْتاحُ هذا الأمرِ ، وليس ثَمَّ مِفْتاح وإنما هو عبارةٌ عن شِدَّةِ تمكُّنِهِ من ذلك الشيءِ . /
قوله : { والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله } في هذه الجملةِ وجهان ، أحدُهما : أنَّها معطوفةٌ على قوله : { وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا } [ الزمر : 61 ] أي : يُنَجِّي المتقين بمَفازَتِهم ، والكافرون هم الخاسرون . واعتُرِضَ بينهما بأنَّه خالِقُ الأشياءِ كلِّها ومُهَيْمِنٌ عليها ، قاله الزمخشري . واعترض عليه فخر الدين الرازي : بأنَّه عَطْفُ اسميةٍ على فعليةٍ ، وهو لا يجوزُ ، وهذا الاعتراضُ مُعْتَرَضٌ [ عليه ] إذ لا مانعَ من ذلك . الثاني : أنها معطوفةٌ على قولِه : { لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات } ؛ وذلك أنه تعالى لَمَّا وَصَفَ نفسَه بأنَّه خالقُ كلِّ شيءٍ في السماوات والأرضِ ، ومفاتيحُه بيده ، قال : والذين كفروا أَنْ يكونَ الأمرُ كذلك أولئك هم الخاسرون .
(1/4521)
قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64)
قوله : { أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : - وهو الظاهرُ - أنَّ " غير " منصوبٌ ب " أَعْبُدُ " . و " أعبدُ " معمولٌ ل " تَأْمرونِّي " على إضمارِ " أنْ " المصدريةِ ، فلَمَّا حُذِفَت بَطَل عملُها وهو أحد الوجهين . والأصل : أفتأمرونِّي بأَنْ أعبدَ غيرَ اللَّه ، ثم قُدِّم مفعولُ " أعبدُ " على " تَأْمُرونِّي " العاملِ في عامِله . وقد ضَعَّف بعضُهم هذا : بأنه يَلْزَمُ منه تقديمُ معمولِ الصلةِ على الموصول؛ وذلك أنَّ " غيرَ " منصوبٌ ب " أعبدُ " ، و " أعبدُ " صلةٌ ل " أنْ " وهو لا يجوزُ . وهذا الردُّ ليس بشيءٍ؛ لأنَّ الموصولَ لمَّا حُذِفَ لم يُراعَ حُكْمُه فيما ذُكِرَ ، بل إنما يراعَى معناه لتصحيح الكلامِ . قال أبو البقاء : " لو حَكَمْنا بذلك لأَفْضَى إلى حَذْفِ الموصولِ وإبقاءِ صلتِه ، وذلك لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةِ شعرٍ . وهذا الذي ذكره فيه نظرٌ؛ من حيث إنَّ هذا مختصٌّ ب " أنْ " دونَ سائرِ الموصولات ، وهو أنها تُحْذَفُ وتَبْقى صلتُها ، وهو منقاسٌ عند البصريين في مواضعَ تُحْذَفُ ويَبْقى عملُها ، وفي غيرِها إذا حُذِفَتْ لا يبقى عملُها إلاَّ في ضرورةٍ ، أو قليلٍ ، ويُنْشَدُ بالوجهين :
3904 ألا أيُّهذا الزاجريْ أحضرُ الوغى ... وأنْ أشهدَ اللذاتِ هل أنتَ مُخْلِدي
ويَدُلُّ على إرادة " أنْ " في الأصل قراءةُ بعضِهم " أعبدَ " بنصب الفعل اعتداداً بأَنْ . الثاني : أنَّ " غيرَ " منصوبٌ ب " تأمرونِّي " و " أعبد " بدلٌ منه بدلُ اشتمالٍ ، و " أنْ " مضمرةٌ معه أيضاً . والتقديرُ : أفغيرَ اللَّهِ تأمرونِّي عبادتَه . والمعنى : أفتأمرونِّي بعبادة غيرِ الله . وقدَّره الزمخشري : تُعَبِّدُوني وتقولون لي : اعْبُدْه . والأصل : تَأْمُرونني أن أعبدَ ، فَحَذَفَ " أنْ " ورَفَع الفعلَ . ألا ترى أنك تقول : أفغيرَ اللَّهِ تقولون لي اعبده ، وأفغيرَ اللَّهِ تقولون لي : اعبد ، فكذلك أفغيرَ الله تقولون لي أَن أعبده ، وأفغيرَ الله تأمروني أَنْ أعبدَ . والدليلُ على صحةِ هذا الوجهِ قراءةُ مَنْ قرأ " أعبدَ " بالنصبِ .
وأمَّا " أعبد " ففيه ثلاثة أوجه ، أحدُها : أنه مع " أَنْ " المضمرةِ في محلِّ نصبٍ على البدلِ مِنْ " غير " وقد تقدَّم . الثاني : أنَّه في محلِّ نصبٍ على الحال . الثالث : أنه لا محلَّ له البتَةَ .
قوله : " تَأْمُرُوْنِّي " بإدغامِ نونِ الرفعِ في نونِ الوقايةِ وفتح الياءِ ابنُ كثير ، وأَرْسلها الباقون . وقرأ نافع " تَأْمرونيَ " بنون خفيفة وفتح الياء . وابنُ عامر " تأْمرونني " بالفَكِّ وسكونِ الياء . وقد تقدَّم في سورة الأنعام والحجر وغيرِهما : أنه متى اجتمع نونُ الرفعِ مع نونِ الوقاية جاز ثلاثةُ أوجهٍ ، وتقدَّم تحقيقُ الخلافِ في أيتِهما المحذوفةِ؟
(1/4522)
وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)
قوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ } : الظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ هي القائمةُ مَقامَ الفاعلِ لأنها هي المُوْحاةُ . وأصولُ البصريين تأبى ذلك ، ويُقَدِّرون أنَّ القائمَ مقامَه ضميرُ المصدرِ؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ فاعلاً عندهم ، والقائمُ هنا مقامَ الفاعل الجارُّ والمجرورُ وهو " إليك " . وقرئ " لَيُحْبِطَنَّ " أي اللَّهُ . و " لَنُحْبِطَنَّ " بنونِ العظمةِ . و " عَمَلَكَ " مفعولٌ به على القراءتين .
(1/4523)
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
قوله : { بَلِ الله فاعبد } : الجلالةُ منصوبةٌ ب " اعبُدْ " . وتقدَّم الكلامُ في مثل هذه الفاء/ في البقرة . وجعَلَه الزمخشري جوابَ شرطٍ مقدرٍ أي : إنْ كنتَ عاقلاً فاعبدِ اللَّهَ فَحَذَفَ الشرطَ وجَعَلَ تقديمَ المفعولِ عِوَضاً منه . ورَدَّ الشيخُ عليه : بأنه يجوزُ أَنْ يجيءَ : " زيدٌ فعَمْراً اضرِبْ " فلو كان التقديمُ عِوَضاً لجمع بين العِوَضِ والمُعَوَّض منه . وقرأ عيسى " بل اللَّهُ " رفعاً على الابتداءِ ، والعائدُ محذوفٌ أي : فاعْبُدْه .
(1/4524)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
وقرأ الحسن وأبو حيوة وعيسى " قَدَّروا " بتشديد الدالِ ، " حَقَّ قَدَره " بفتح الدال . وافقهم الأعمشُ على فتح الدالِ مِنْ " قَدَره " .
قوله : { والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ } مبتدأٌ وخبرٌ في محلِّ نصبٍ على الحال أي : ما عَظَّموه حَقّ تعظيمِه والحالُ أنه موصوفٌ بهذه القدرةِ الباهرةِ ، كقولِه : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً } [ البقرة : 28 ] ؟ و " جميعاً " حالٌ وهي دالَّةٌ على أن المرادَ بالأرض الأَرَضُون ، ولأنَّ الموضِعَ موضِعُ تَفْخيمٍ ، ولِعَطْفِ الجمعِ عليها . والعاملُ في هذه الحالِ ما دَلَّ عليه قَبْضَتُه . ولا يجوز أَنْ يعملَ فيها " قبضَتُه " سواءً جَعَلْته مصدراً - لأنَّ المصدرَ لا يتقدَّم عليه معمُوله - أم مراداً به المقدارُ . قال الزمخشري : " ومع القصدِ إلى الجمع - يعني في الأرض - وأنَّه أُريد به الجمعُ وتأكيده بالجميعِ أتبعَ الجمعَ مؤكِّدَه قبل مجيْءِ الخبرِ ليُعْلَمَ أولَ الأمرِ أنَّ الخبرَ الذي يَرِدُ لا يقعُ عن أرضٍ واحدة ولكن عن الأراضي كلِّها " . وقال أبو البقاء : " وجميعاً حالٌ من الأرض ، والتقدير : إذا كانَتْ مجتمعةً قبضَتُه أي : مقبوضه ، فالعامل في " إذا " المصدرُ ، لأنه بمعنى المفعولِ . وقال أبو علي في " الحجة " : التقدير : ذاتُ قبضَتِه . وقد رُدَّ عليه : بأنَّ المضافَ إليه لا يَعْمَلُ فيما قبلَه ، وهذا لا يَصِحُّ لأنه الآن غيرُ مضافٍ إليه ، وبعد حَذْفِ المضافِ لا يَبْقى حكمُه " انتهى . وهو كلامٌ فيه إشكالٌ؛ إذ لا حاجةَ إلى تقديرِ العامل في " إذا " التي لم يُلْفَظْ بها .
وقوله : " قَبْضَتُه " إنْ قَدَّرْنا مُضافاً كما قال الفارسي أي : ذاتُ قبضَتِه لم يكن فيه وقوعُ المصدرِ مَوْقِعَ مفعولٍ ، وإنْ لم يُقَدَّرْ ذلك احتمل أَنْ يكونَ المصدرُ واقعاً موقعَه ، وحينئذٍ يُقال : كيف أنَّثَ المصدرَ الواقعَ موقعَ مفعولٍ وهو غيرُ جائزٍ؟ لا يُقال : " حُلَّة نَسْجة اليمن " بل نَسْجُ اليمن أي : منسوجته . والجواب : أن الممتنعَ دخولُ التاءِ الدالةِ على التحديد ، وهذه لمجرد التأنيثِ . كذا أُجيب ، وليس بذاك ، فإن المعنى على التحديدِ لأنه أَبْلَغُ في القدرةِ . واحتمل أَنْ يكونَ أُريد بالمصدر مِقْدارُ ذلك .
والقَبْضَةُ بالفتحِ : المرَّةُ ، وبالضم اسمٌ للمقبوضِ كالغَرْفة والغُرْفَة . والعامَّةُ على رفعِ " قَبْضَتُه " ، والحسنُ بنصبها . وخَرَّجها ابنُ خالويه وجماعةٌ على النصبِ على الظرفيةِ ، أي : في قبضته . وقد رُدَّ هذا : بأنها ظرفٌ مختصُّ فلا بُدَّ مِنْ وجود " في " وهذا هو رأيُ البصريين . وأمَّا الكوفيون فهو جائزٌ عندهم؛ إذ يُجيزون : " زيد دارَك " بالنصب أي : في دارك . وقال الزمخشري : " جعلها ظرفاً تشبيهاً للمؤقت بالمبهم " فوافق الكوفيين . والعامَّةُ على رَفْعِ " مَطْوياتٌ " خبراً ، و " بيمينِه " فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه متعلقٌ ب " مَطْوِيَّات " .
(1/4525)
الثاني : أنه حالٌ من الضمير في " مَطْوِيَّات " . الثالث : أنه خبرٌ ثانٍ ، وعيسى والجحدري نصباها حالاً . واستدلَّ بها الأخفشُ على جوازِ تقدُّم الحالِ إذا كان العاملُ فيها حرفَ جَرّ نحو : " زيدٌ قائماً في الدار " . وهذه لا حُجَّةَ فيها لإِمكان تَخْريجِها على وجهين ، أحدهما - وهو الأظهرُ - أَنْ تكونَ " السماوات " نَسَقاً على " الأرض " ، ويكون قد أَخْبر عن الأَرَضين والسماواتِ بأنَّ الجميعَ قبضَتُه ، وتكون " مَطْوِيَّاتٍ " حالاً من " السماوات " كما كان " جميعاً " حالاً من " الأرض " ، و " بيمينه " متعلقٌ بمطويَّات . والثاني : أن يكون " مطويَّات " منصوباً بفعلٍ مقدرٍ ، و " بيمينه " الخبرُ ، و " مَطْويَّات " وعاملُه جملةٌ معترضةٌ ، وهو ضعيفٌ .
(1/4526)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)
قوله : { فِي الصور } : العامَّةُ على سكونِ الواوِ ، وزيد بن علي وقتادة بفتحها جمعَ " صُوْرة " . وهذه تَرُدُّ/ قولَ ابنِ عطية أنَّ الصُّوْرَ هنا يتعيَّنُ أَنْ يكونَ القَرْنَ . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ جمعَ صُورَة . وقرِئَ " فَصُعِقَ " مبنياً للمفعولِ ، وهو مأخوذٌ مِنْ قولهم : صَعَقَتْهم الصاعقةُ . يُقال : صَعَقَه اللَّهُ فصَعِقَ .
{ إِلاَّ مَن شَآءَ الله } متصلٌ والمستثنى : إمَّا جبريلُ وميكائيل وإسْرافيلُ ، وإمَّا رِضوانُ والحُوْرُ والزَّبانية ، وإمَّا الباري تعالى قاله الحسن . وفيه نظرٌ من حيث قولُه : { مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض } فإنه تعالى لا يَتَحَيَّزُ . فعلى هذا يتعيَّنُ أَنْ يكونَ منقطعاً .
قوله : { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى } يجوزُ أَنْ تكونَ " أخْرى " هي القائمةَ مقامَ الفاعلِ ، وهي في الأصلِ صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي : نُفِخَ فيه نَفْخَةٌ أخرى ، ويؤيِّدُه التصريحُ بذلك في قولِه { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } [ الحاقة : 13 ] فصرَّحَ بإقامة المصدرِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ القائمُ مقامَه الجارَّ ، و " أخرى " منصوبةٌ على ما تقدَّم .
قوله : { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ } العامَّة على رفع " قيام " خبراً . وزيد بن علي نصبَه حالاً وفيه حينئذٍ أوجهٌ ، أحدهما : أنَّ الخبرَ " يَنْظرون " وهو العاملُ في هذه الحالِ أي : فإذا هم يَنْظُرون قياماً . والثاني : أنَّ العاملَ في الحالِ ما عَمِلَ في " إذا " الفجائيةِ إذا كانت ظرفاً . فإن كانت مكانيةً - كما قال سيبويه - فالتقدير : فبالحَضْرة هم قياماً . وإنْ كانت زمانيةً كقول الرُّمَّانيِّ ففي ذلك الزمانِ هم قياماً ، أي : وجودهم . وإنما احتيج إلى تقديرِ مضافٍ في هذا الوجهِ لأنَّه لا يُخْبَرُ بالزمانِ عن الجُثَثِ . الثالث : أن الخبرَ محذوفٌ هو العاملُ في الحال أي : فإذا هم مبعوثون ، أو مجموعون قياماً . وإذا جَعَلْنا الفجائيةَ حَرْفاً - كقولِ بعضِهم - فالعاملُ في الحالِ : إمَّا " يَنْظُرون " ، وإمَّا الخبرُ المقدرُ كما تقدَّم تحقيقُهما .
(1/4527)
وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69)
قوله : { وَأَشْرَقَتِ } : العامَّةُ على بنائِه للفاعل . وابن عباس وأبو الجوزاء وعبيد بن عمير على بنائه للمفعول ، وهو منقولٌ بالهمزة ، مِنْ شَرَقَتْ إذا طَلَعَتْ ، وليس مِنْ أشرقَتْ بمعنى أضاءَتْ لأنَّ ذاك لازمٌ . وجعله ابنُ عطية مثل : رَجَعَ ورَجَعْتُه ، ووَقَفَ ووقَفْته ، يعني فيكون أَشْرَق لازماً ومتعدياً .
(1/4528)
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71)
قوله : { زُمَراً } : حالٌ . وزُمَر جمع زُمْرَة ، وهي الجماعاتُ في تفرقةٍ بعضُها في إثْر بعضٍ وتَزَمَّروا : تجمَّعُوا قال :
3905 حتى احْزَألَّتْ زُمَرٌ بعد زُمَرْ ... هذا قولُ أبي عبيدة والأخفشِ . وقال الراغب : " الزُّمْرَة الجماعةُ القليلةُ ، ومنه شاةٌ زَمِرة أي : قليلة الشَّعْر ، ورجلٌ زَمِرٌ أي : قليلُ المروءةِ . وزَمَرَتِ النَّعامةُ تَزْمِرُ زَماراً ، ومنه اشتقَّ الزَّمْرُ والزَّمَّارة كناية عن الفاجرة " .
قوله : " حتى إذا " تقدَّمَ الكلامُ في حتى الداخلةِ على " إذا " غيرَ مرةٍ . وجوابُ " إذا " قوله : " فُتِحت " وتقدَّم خلافُ القراء في التشديد والتخفيف في سورة الأنعام . وقرأ ابن هرمز " ألم تَأْتِكم " بتاء التأنيث الجمعِ . و " منكم " صفةٌ ل " رسل " أو متعلِّق بالإِتيان ، و " يَتْلون " صفةٌ أخرى ، و " خالدين " في الموضعَيْن حالٌ مقدرةٌ .
(1/4529)
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73)
قوله : { وَفُتِحَتْ } : في جواب " إذا " ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : قوله : " وفُتحت " والواو زائدةٌ ، وهو رأيُ الكوفيين والأخفش ، وإنما جيْءَ هنا بالواوِ دونَ التي قبلها؛ لأنَّ أبوابَ السجون مغلقةٌ إلى أَنْ يَجيْئَها صاحب الجريمة فتُفتَحَ له ثم تُغْلَقَ عليه فناسَبَ ذلك عَدَم الواوِ فيها ، بخلافِ أبوابِ السرورِ والفرحِ فإنَّها تُفْتَحُ انتظاراً لمَنْ يَدْخُلُها . والثاني : أن الجوابَ قولُه : { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا } على زيادةِ الواوِ أيضاً أي : حتى إذا جاؤُوها قال لهم خَزَنَتُها . الثالث : أنَّ الجوابَ محذوفٌ ، قال الزمخشري : وحَقُّه أَنْ يُقَدَّرَ بعد " خالدين " . انتهى يعني لأنه يجيْء بعد متعلَّقاتِ الشرطِ وما عُطِف عليه ، والتقدير : اطمأنُّوا . وقدَّره المبرد : " سُعِدُوا " . وعلى هذين الوجهين فتكونُ الجملةُ مِنْ قولِه : و " فُتِحَتْ " في محلِّ نصب على الحال . وسَمَّى بعضُهم هذه الواوَ واوَ الثمانية . قال : لأنَّ أبوابَ الجنة/ ثمانيةٌ ، وكذا قالوا في قوله : { وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] وقيل : تقديرُه حتى إذا جاؤوها وفُتِحَتْ أبوابُها ، يعني أنَّ الجوابَ بلفظِ الشرطِ ولكنه بزيادةِ تقييده بالحالِ فلذلك صَحَّ .
(1/4530)
وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)
قوله : { نَتَبَوَّأُ } : جملةٌ حاليةٌ ، و " حيثُ " مفعولٌ به . ويجوز أن تكونَ ظرفاً على بابِها ، وهو الظاهرُ .
(1/4531)
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
قوله : { حَآفِّينَ } : جمعُ حافّ ، وهو المُحْدِقُ بالشيءِ ، مِنْ حَفَفْتُ بالشيءِ إذا أَحَطْتُ به قال :
3906 يَحُفُّه جانبا نِيْقٍ وتُتْبِعُهُ ... مثلَ الزُّجاجةِ لم تُكْحَلْ من الرَّمَدِ
وهو مأخوذٌ من الحِفاف وهو الجانبُ . قال الشاعر :
3907 له لَحَظاتٌ عن حِفافي سَرِيْرِه ... إذا كرَّها فيها عقابٌ ونائل
وقال الفراء وتبعه الزمخشري : " لا واحدَ ل حافِّين " وكأنهما رَأَيا أنَّ الواحدَ لا يكون حافًّا؛ إذِ الحُفُوْفُ هو الإِحداقُ بالشيء والإِحاطةُ به ، وهذا لا يتحقَّق إلاَّ في جمعٍ .
قوله : " مِنْ حَوْلِ " في " مِنْ " وجهان أحدُهما - وهو قولُ الأخفش - أنها مزيدةٌ . والثاني : أنها للابتداءِ ، والضميرُ في " بينهم " إمَّا للملائكةِ ، وإمَّا للعبادِ ، و " يُسَبِّحون " حالٌ من الضمير في " حافِّين " .
(1/4532)
حم (1)
بسم الله الرحمن الرحيم قوله : { حم} : كقوله : { الم } وبابه . وقرأ الأخَوان وأبو بكر وابن ذكوان بإمالة حاء في السورِ السبعِ إمالةً محضةً وورش وأبو عمرو بالإِمالة بينَ بينَ ، والباقون بالفتح . والعامَّةُ على سكونِ الميم كسائرِ الحروفِ المقطعة . وقرأ الزهري برفعِ الميم على أنَّها خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أو مبتدأٌ والخبرُ ما بعدها . وابن أبي إسحاق وعيسى بفتحِها ، وهي تحتملُ وجهين ، أحدهما : أنها منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ أي : اقرأ حم ، وإنما مُنِعَتْ من الصرف للعلميَّةِ والتأنيثِ ، أو للعلميَّة وشبهِ العُجمة . وذلك أنه ليس في الأوزان العربيةِ وزنُ فاعيل بخلافِ الأعجمية ، نحو : قابيل وهابيل . والثاني : أنها حركةُ بناءٍ تخفيفاً ك أينَ وكيف . وفي احتمال هذين الوجهين قولُ الكميت :
3908 وَجَدْنا لكم في آلِ حَمَ آيةً ... تَأَوَّلَها منا تقيٌّ ومُعْرِبُ
وقول شريح بن أوفى :
3909 يُذَكِّرُني حمَ والرُّمْحُ شاجِرٌ ... فهلا تلا حمَ قبلَ التقدُّمِ
وقرأ أبو السَّمَّال بكسرِها ، وهل يجوزُ أَنْ تُجْمَعَ " حم " على حواميم ، نَقَل ابنُ الجوزي عن شيخِه الجواليقي أنه خطأٌ ، بل الصوابُ أَنْ يقولَ : قَرَأْتُ آلَ حم . وفي الحديث عن ابن مسعود عنه عليه السلام : " إذا وَقَعْتَ في آلِ حم وَقَعْتَ في رَوْضَاتٍ " وقال الكميت :
3910 وَجَدْنا لكم في آلِ حم . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . ومنهم مَنْ جَوَّزَه . ورُويَ في ذلك أحاديثُ منها : " الحواميم ديباجُ القرآن " ومنها : " مَنْ أرادَ أَنْ يرتعَ في رياضٍ مُوْنَقَةٍ من الجنة فليقرأْ الحواميم " ومنها : " مَثَلُ الحواميم في القرآن مَثَلُ الحَبِرات في الثياب " فإنْ صَحَّتْ هذه الأحاديثُ فهي الفَيْصَلُ في ذلك .
(1/4533)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2)
قوله : { تَنزِيلُ } : إمَّا خبرٌ ل " حَم " إنْ كانت مبتدأً ، وإمَّا خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ ، وإمَّا مبتدأٌ . وخبرُه الجارُّ بعدَه .
(1/4534)
غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
قوله : { غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب } في هذه الأوصافِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها كلَّها صفاتٌ للجلالة كالعزيز العليم . وإنما جازَ وَصْفُ المعرفةِ بهذه وإنْ كانَتْ إضافتُها لفظيةً؛ لأنه يجوزُ أَنْ تُجْعَلَ إضافتُها معنويةً فتتعرَّفَ بالإِضافةِ . نَصَّ سيبويه على أنَّ كلَّ ما إضافتُه غيرُ مَحْضةٍ جاز أن يُجْعَلَ مَحْضةً ، وتُوصفَ به المعارفُ ، إلاَّ الصفةَ المشبهةَ ، ولم يَسْتَثْنِ غيرُه شيئاً وهم الكوفيون . يقولون في نحو : " حَسَنُ الوجهِ " إنه يجوزُ أن تصيرَ إضافتُه محضةً . وعلى هذا فقولُه " شديد العقابِ " من بابِ الصفةِ المشبهةِ فكيف أجزْتَ جَعْلَه صفةً للمعرفة وهو لا يَتَعَرَّفُ بالإِضافة؟
والجواب : إمَّا بالتزامِ مَذْهَبِ الكوفيين : وهو أنَّ الصفةَ المشبهةَ يجوزُ أَنْ تَتَمَحَّضَ إضافتُها أيضاً ، فتكونَ معرفةً ، وإمَّا بأنَّ شديداً بمعنى/ مُشَدِّد ك أَذِيْن بمعنى مُؤَذِّن فتتمحَّضُ إضافتُه .
الثاني : أَنْ يكونَ الكلُّ أبدالاً لأنَّ إضافتَها غيرُ محضةٍ ، قاله الزمخشري . إلاَّ أنَّ الإِبدال بالمشتقِّ قليلٌ جداً ، إلاَّ أن يُهْجَرَ فيها جانبُ الوصفية .
الثالث : أَنْ يكونَ " غافر " و " قابل " نعتَيْن و " شديد " بدلاً ، لِما تقدَّم : مِنْ أنَّ الصفةَ المشبهةَ لا تتعرَّفُ بالإِضافة ، قاله الزجَّاج . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ قال : " جَعْلُ الزجَّاجِ " شديد العقاب " وحدَه بدلاً من الصفاتِ ، فيه نُبُوٌّ ظاهرٌ ، والوجهُ أن يُقال : لَمَّا صُودِفَ بين هذه المعارفِ هذه النكرةُ الواحدةُ فقد آذنَتْ بأنَّ كلَّها أبدالٌ غيرُ أوصافٍ . ومثالُ ذلك قصيدةٌ جاءت تفاعيلُها كلُها على مستفعلن فهي محكومٌ عليها أنها من الرَجَز ، وإنْ وقع فيها جزءٌ واحدٌ على مَتَفاعلن كانت من الكامِل " . وقد ناقشه الشيخ فقال : " ولا نُبُوَّ في ذلك لأنَّ الجَرْيَ على القواعِدِ التي قد استقرَّتْ وصَحَّتْ هو الأصلُ وقوله : " فقد آذنَتْ بأنَّ كلّها أبدالٌ " تركيبٌ غيرُ عربيٍ؛ لأنه جَعَل " فقد آذنَتْ " جوابَ لَمَّا ، وليس من كلامهم " لَمَّا قام زيدٌ فقد قام عمروٌ " . وقولُه : بأنَّ كلَّها أبدْالٌ فيه تكريرٌ للأبدالِ . أمَّا بَدَلُ البَداءِ عند مَنْ أثبتَه فقد تكرَّرَتْ فيه الأبدالُ . وأمَّا بدلُ كلٍ مِنْ كل وبعضٍ مِنْ كل وبدلُ اشتمالٍ فلا نصَّ عن أحد من النحويين أَعْرِفُه في جوازِ التكرارِ فيها أو مَنْعِه . إلاَّ أنَّ في كلامِ بعضِ أصحابِنا ما يَدُلُّ على أنَّ البدلَ لا يُكَرَّرُ ، وذلك في قول الشاعر :
3911 فإلى ابنِ أُمِّ أُناسٍ أَرْحَلُ ناقتي ... عمْروٍ فتُبْلِغُ حاجتي أو تُزْحِفُ
مَلِكٍ إذا نَزَلَ الوفودُ ببابِه ... عَرَفُوا موارِدَ مُزْبِدٍ لا يُنْزَفُ
قال : " فَ " مَلكٍ " بدلٌ مِنْ " عمرو " بدلُ نكرةٍ مِنْ معرفة قال : " فإنْ قلتَ : لِمَ لا يكونُ بدلاً من " ابن أمِّ أناسٍ؟ " قلت : لأنَّه أبدلَ منه عَمْراً ، فلا يجوزُ أَنْ يُبْدَلَ منه مرة أخرى لأنَّه قد طُرِحَ " انتهى .
(1/4535)
قال الشيخ : " فَدَلَّ هذا على أنَّ البدلَ لا يتكَرَّرُ ويَتَّحد المبدلُ منه ، ودَلَّ على أنَّ البدلَ من البدلِ جائزٌ " . قلت : وقد تقدَّم له هذا البحثُ آخرَ الفاتحةِ عند قوله : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } [ الفاتحة : 7 ] فعليك بمراجعته قال : " وقولُه تفاعيلُها هو جمعُ تِفْعال أو تَفْعُول أو تُفْعُول أو تَفْعيل وليس شيءٌ منها معدوداً من أجزاء العَروض فإنَّ أجزاءَه منحصرةٌ ليس فيها شيءٌ من هذه الأوزانِ ، فصوابُه أَنْ يقولَ : جاءت أجزاؤُها كلُّها على مُستفعلن " .
وقال الزمخشري أيضاً : " ولقائل أَنْ يقولَ : هي صفاتٌ وإنما حُذِفت الألفُ واللامُ مِنْ " شديد " ليزاوجَ ما قبلَه وما بعدَه لفظاً فقد غَيَّروا كثيراً مِنْ كلامِهم عن قوانينِه لأجلِ الازدواجِ ، فقالوا : " ما يعرف سحادليه مِنْ عبادليه " فَثَنُّوا ما هو وِتْرٌ لأجلِ ما هو شَفْعٌ . على أن الخليلَ قال في قولهم : " ما يَحْسُنُ بالرجلِ مثلِك أَنْ يَفْعل ذلك " و " ما يَحْسُن بالرجلِ خيرٍ منك " إنه على نيةِ الألفِ واللامِ ، كما كان " الجَمَّاء الغفير " على نيةِ طرحِ الألفِ واللامِ . ومما سهَّل ذلك الأمنُ من اللَّبْسِ وجَهالَةُ الموصوفِ " . قال الشيخُ : " ولا ضرورةَ إلى حَذْفِ أل مِنْ " شديد العقاب " وتشبيهُه بنادرٍ مُغَيَّرٍ وهو تثنيةُ الوِتْر لأجلِ الشَّفْعِ ، فيُنَزَّه كتابُ اللَّهِ عن ذلك " . قلت : أمَّا الازدواجُ - وهو المشاكلة - من حيث هو فإنه واقعٌ في القرآن ، مضى لك منه مواضعُ .
وقال الزمخشري أيضاً : " ويجوزُ أَنْ يقالَ : قد تُعُمِّد تنكيرُه وإبهامُه للدلالةِ على فَرْطِ الشِّدَّةِ وعلى ما لا شيءَ أَدْهَى منه وأَمَرُّ لزيادةِ الإِنذار . ويجوز أَنْ يُقالَ : هذه النكتةُ هي الداعيةُ إلى اختيار البدلِ على الوصفِ ، إذا سُلِكَتْ طريقةُ الإِبدالِ " انتهى . وقال مكي : " يجوزُ في " غافر " و " قابل " البدلُ على أنهما نكرتان لاستقبالِهما ، والوصفُ على أنهما معرفتان لمُضِيِّهما " .
وقال فخر الدين الرازي : " لا نِزاعَ في جَعْل غافر وقابِل صفةً ، وإنما كانا كذلك لأنهما يُفيدان معنى الدَّوامِ والاستمرارِ ، فكذلك " شديدُ العقابِ " يُفيدُ ذلك؛ لأنَّ صفاتِه مُنَزَّهةٌ عن الحدوث والتجدُّدِ فمعناه كونُه بحيث شديدٌ عقابُه . وهذا المعنى حاصلٌ أبداً لا يُوْصَف/ بأنَّه حَصَلَ بعد أَنْ لم يكنْ " .
قال الشيخ : " وهذا كلامُ مَنْ لم يَقِفْ على علمِ النحوِ ولا نظرَ فيه ويَلْزَمُه أَنْ يكونَ { حَكِيمٍ عَلِيمٍ } [ النمل : 6 ] و { مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } [ القمر : 55 ] معارفَ لتنزيهِ صفاتِه عن الحُدوثِ والتجدُّدِ ، ولأنها صفاتٌ لم تَحْصُلْ بعد أَنْ لم تكنْ ، ويكونُ تعريفُ صفاتِه بأل وتنكيرُها سواءً ، وهذا لا يقولُه مُبْتدئ في علم النحو ، بَلْهَ أَنْ يُصَنِّفَ فيه ويُقْدِمَ على تفسيرِ كتابِ اللَّهِ تعالى " انتهى .
(1/4536)
وقد سُرِدَتْ هذه الصفاتُ كلُّها مِنْ غير عاطفٍ إلاَّ " قابِل التوب " قال بعضهم : " وإنما عُطِفَ لاجتماعِهما وتلازُمِهما وعَدَمِ انفكاكِ أحدِهما عن الآخر ، وقَطَعَ " شديدِ " عنهما فلم يُعْطَفْ لانفرادِه " . قال الشيخ : " وفيه نَزْعَةٌ اعتزاليَّةٌ . ومَذْهَبُ أهلِ السنة جوازُ الغفران للعاصي وإن لم يَتُبْ إلاَّ الشركَ " . قلت : وما أبعده عن نزعةِ الاعتزال . ثم أقول : التلازمُ لازمٌ مِنْ جهةِ أنه تعالى متى قَبِل التوبة فقد غَفَرَ الذنب وهو كافٍ في التلازم .
وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : ما بالُ الواوِ في قولِه : " وقابلِ التَّوْبِ؟ " قلت : فيها نُكْتةٌ جليلةٌ : وهي إفادةُ الجمعِ للمذنب التائبِ بين رحمتين : بين أَنْ يَقْبَلَ توبتَه فيكتبَها طاعةً من الطاعات وأنْ يجعلَها مَحَّاءةً للذنوب كمَنْ لم يُذْنِبْ كأنه قال : جامع المغفرةِ والقَبول " انتهى .
وبعد هذا الكلام الأنيق وإبرازِ هذه المعاني الحسنةِ . قال الشيخ : " وما أكثرَ تبجُّجَ هذا الرجلِ وشَقْشَقَتَه والذي أفاد أن الواوَ للجمعِ ، وهذا معروفٌ من ظاهرِ عَلِمِ النحوِ " . قلت : وقد أنشدني بَعضُهم :
3912 وكم مِنْ عائبٍ قَوْلاً صحيحاً ... وآفَتُه من الفَهْمِ السَّقيمِ
وقال آخر :
3913 قد تُنْكِرُ العينُ ضوءَ الشمسِ مِنْ رَمَدٍ ... ويُنكِرُ الفَمُ طَعْمَ الماءِ مِنْ سَقَمِ
والتَّوْبُ : يُحتمل أَنْ يكونَ اسماً مفرداً مُراداً به الجنسُ كالذَّنْب ، وأَنْ يكونَ جمعاً لتَوْبة كتَمْرٍ وتَمْرَة . و " ذي الطَّوْلِ " نعتٌ أو بدلٌ كما تقدَّمَ . والطَّوْلُ : سَعَةُ الفَضْلِ .
و { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } يجوزُ أَنْ يكون مستأنفاً ، وأَنْ يكونَ حالاً ، وهي حالٌ لازمةٌ ، وقال أبو البقاء : " يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً " ، وعلى هذا ظاهرُه فاسدٌ؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ صفةً للمعارفِ . ويمكنُ أَنْ يريدَ أنه صفةٌ ل " شديد العقاب " لأنَّه لم يتعرَّفْ عنده بالإِضافةِ . والقولُ في " إليه المصيرُ " كالقولِ في الجملةِ قبله ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الجملةِ قبلَه .
(1/4537)
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4)
وقرأ العامَّةُ " فلا يَغْرُرْكَ " بالفكِّ ، وهي لغةُ الحجازِ . وزيد ابن علي وعبيد بن عُمَيْر " فلا يَغُرَّكَ " بالإِدغامِ مفتوحَ الراءِ ، وهي لغةُ تميمٍ .
(1/4538)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5)
وقرأ عبد الله " برَسولها " أعاد الضميرَ على لفظ " أُمَّة " . والجمهورُ على معناها ، وفي قوله : " ليَأْخُذوه " عبارةٌ عن المُسَبَّبِ بالسبب؛ وذلك أنَّ القَتْلَ مُسَبَّبٌ عن الأَخْذِ ، ومنه قيل للأسير : " أَخِيْذ " . وقال :
3914 فإمَّا تَأْخُذُوني تَقْتُلوني ... فكَمْ مِنْ آخِذٍ يَهْوَى خُلودي
وقوله : " عِقابِ " فيه اجتزاءٌ بالكسرةِ عن ياء المتكلم وصلاً ، ووقفاً ، لأنَّها رأسُ فاصلةٍ .
(1/4539)
وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
قوله : { وَكَذَلِكَ } : تحتمل الكافُ أَنْ تكونَ مرفوعةَ المحلِّ على خبرِ مبتدأ مضمرٍ أي : والأمرُ كذلك ، ثم أخبر بأنه حَقَّتْ كلمةُ اللَّهِ عليهم بالعذاب ، وأَنْ تكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : مثلَ ذلك الوجوبِ مِنْ عقابِهم وَجَبَ على الكفرةِ .
وقوله : " أنهم أصحابُ " يجوزُ أَنْ يكونَ على حَذْفِ حرفِ الجرِّ أي : لأنَّهم ، فَحَذَفَ ، فيجري في محلِّها القولان . ويجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ رفعٍ بدلاً مِنْ " كلمةُ " . وقد تقدَّم خلافُهم في إفراد " كلمة " وجَمْعِها .
(1/4540)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7)
قوله : { الذين يَحْمِلُونَ } : مبتدأٌ " ويُسَبِّحون " خبرُه .
والعامَّةُ على فتح عين " العَرْش " . وابن عباس في آخرين بضمها فقيل : يُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ جمعاً ل " عَرْش " ك سُقْف في سَقْف .
وقوله : " ومَنْ حَوْلَه " يَحْتمل أَنْ يكونَ مرفوعَ المحلِّ عطفاً على " الذين يَحْملون " أَخْبر عن الفريقين بأنهم يُسَبِّحون ، وهذا هو الظاهرُ ، وأَنْ يكونَ منصوبَ المحلِّ عَطْفاً على العرش ، يعني أنَّهم يَحْملون أيضاً الملائكةَ الحافِّين بالعرشِ . وليس بظاهرٍ .
قوله : " رَبَّنا " / معمولٌ لقولٍ مضمرٍ تقديرُه : يقولون ربَّنا . والقولُ المضمرُ في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فاعل " يَسْتَغْفرون " أو خبرٌ بعد خبرٍ ، و " رحمةً وعِلْماً " تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية ، أي : وسِع كلَّ شيءٍ رحمتُك وعِلْمُك .
(1/4541)
رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8)
قوله : { جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ } : قد تقدَّمَ نظيرُها في مريم . والعامَّةُ على " جناتِ " جمعاً ، والأعمش وزيد بن علي " جنة " بالإِفراد .
قوله : " ومَنْ صَلَحَ " في محلِّ نصبٍ : إمَّا عطفاً على مفعولِ " أدْخِلْهُمْ " ، وإمَّا على مفعولِ " وَعَدْتَهم " . وقال الفراء والزجاج : " نصبُه مِنْ مكانَيْنِ : إنْ شئتَ على الضميرِ في " أَدْخِلْهم " ، وإنْ شِئْتَ على الضميرِ في وَعَدْتَهم " .
والعامَّةُ على فتحِ لامِ " صَلَح " يقال : صَلُح فهو صالحٌ . وابنُ أبي عبلة بضمِّها يُقال : صَلَح فهو صَليح . والعامَّةُ على " ذُرِّيَّاتهم " جمعاً . وعيسى " وذُرِّيَّتهم " إفراداً .
(1/4542)
وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
قوله : { يَوْمَئِذٍ } : التنوينُ عِوَضٌ مِنْ جملةٍ محذوفةٍ ، ولكنْ ليس في الكلامِ جملةٌ مُصَرَّحٌ بها ، عُوِّض منها هذا التنوينُ ، بخلافِ قولِه : { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } [ الواقعة : 84 ] أي : حينَ إذْ بَلَغَتِ الحلقومَ ، لتقدُّمِها في اللفظِ ، فلا بُدَّ مِنْ تقديرِ جملةٍ ، يكون هذا عوضاً منها تقديرُه : يوم إذْ يُؤَاخَذُ بها .
(1/4543)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10)
قوله : { إِذْ تُدْعَوْنَ } : منصوبٌ بمقدرٍ ، يَدُلُّ عليه هذا الظاهرُ ، تقديرُه : مَقْتِكم إذ تُدْعَوْن . وقَدَّره بعضُهم : اذكُروا إذْ تُدْعَوْن . وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ يكونَ منصوباً بالمَقْتِ الأول . ورَدَّ عليه الشيخُ : بأنَّه يَلْزَمُ منه الفَصْلُ بين المصدرِ ومعمولِه بأجنبيّ وهو الخبرُ . وقال : " هذا مِنْ ظواهرِ علمِ النحوِ التي لا تكاد تَخْفَى على المبتَدِئ فَضْلاً عَمَّنْ يُدْعَى من العجم أنه شيخُ العربِ والعَجَم " . قلت : مثلُ هذا لا يَخْفى على أبي القاسم ، وإنما أراد أنه دالٌّ على ناصبِه ، وعلى تقديرِ ذلك فهو مذهبٌ كوفيٌّ قال به ، أو لأنَّ الظرفَ يُتَّسَعُ فيه ما لا يُتَّسَعُ في غيره . وأيُّ غُموضٍ في هذا حتى يُنْحِي عليه هذا الإِنْحاءَ؟ ولله القائلُ :
3915 حَسَدُوا الفتى إذ لم يَنالُوا سَعْيَه ... فالقومُ أعداءٌ له وخُصومُ
كضَرائرِ الحَسْناءِ قُلْنَ لِوَجْهها ... كَذِباً وزُوْراً إنه لدَمِيمُ
وهذا الردُّ سبقه إليه أبو البقاء ، فقال : " ولا يجوزُ أن يَعْمَلَ فيه " مَقْتُ الله " لأنه مصدرٌ أُخْبِرَ عنه ، وهو قولُه : " أكبرُ " . فمِنْ ثَمَّ أَخَذه الشيخُ . ولا يجوزُ أَنْ ينتصِبَ بالمَقْتِ الثاني؛ لأنهم لم يَمْقُتوا أنفسَهم وَقْتَ دعائِهم إلى الإِيمان ، إنما مَقَتُوها يومَ القيامةِ . والظاهرُ أنَّ مَقْتَ اللَّهِ واقعٌ في الدنيا . وجَوَّزَ الحسنُ أَنْ يكون في الآخرة . وضَعَّفه الشيخُ : بأنه " يَبْقى " إذْ تُدْعَوْن " مُفْلَتاً من الكلامِ؛ لكونِه ليس له عاملٌ مقدمٌ ولا ما يُفَسِّر عاملاً . فإذا كان المَقْتُ في الدنيا أَمْكَنَ أَنْ يُضْمَرَ له عاملٌ تقديرُه : مَقْتِكم " . قلت : وهذا التجرُّؤُ على مثلِ الحسنِ يُهَوِّنُ عليك تَجَرُّؤَه على الزمخشريِّ ونحوهِ .
واللامُ في " لَمَقْتُ " لامُ ابتداءٍ أو قسمٍ . ومفعولُه محذوفٌ أي : لمقتُ اللَّهِ إياكم أو أنفسَكم ، فهو مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه كالثاني . ولا يجوزُ أَنْ تكون المسألةُ من بابِ التنازع في " أنفسَكم " بين المقتَيْن لئلا يَلزمَ الفصلُ بالخبرِ بين المَقْتِ الأول ومعمولِه على تقديرِ إعمالِه ، لكنْ قد اختلف النحاةُ في مسألةٍ : وهي التنازعُ في فِعْلَيْ التعجب ، فَمَنْ مَنَعَ اعتَلَّ بما ذكرْتُه؛ لأنه لا يُفْصَلُ بين فعلِ التعجبِ ومعمولِه . ومَنْ جَوَّزَ قال : يُلتزم إعمالُ الثاني؛ حتى لا يَلْزَمَ الفَصْلُ . فليكُنْ هذا منه . والحقُّ عدمُ الجوازِ فإنَّه على خلافِ قاعدةِ التنازع .
(1/4544)
ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)
قوله : { وَحْدَهُ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ ، وجاز كونُه معرفة لفظاً لكونِه في قوةِ النكرةِ كأنه قيل : منفرداً . والثاني : - وهو قولُ يونس - أنه منصوبٌ على الظرفِ ، والتقدير : دُعِي على حِيالِه ، وهو مصدرٌ محذوفُ الزوائدِ والأصلُ : أَوْحَدْتُه إيحاداً .
(1/4545)
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15)
قوله : { رَفِيعُ } : فيه وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونَ مبتدأً والخبرُ " ذو العرشِ " ، و " يُلْقي الروحَ " / يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً ، وأن يكونَ حالاً ، ويجوزُ أَنْ تكونَ الثلاثةُ أخباراً لمبتدأ محذوفٍ . ويجوزُ أَنْ تكونَ الثلاثةُ أخباراً لقولِه : { هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ } . قال الزمخشري : " ثلاثةُ أخبارٍ يجوزُ أَنْ تكونَ مترتبةً على قولِه : { هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ } ، أو أخبارَ مبتدأ محذوفٍ وهي مختلفةٌ تعريفاً وتنكيراً " . قلت : أمَّا الأولُ ففيه طولُ الفَصْلِ وتعدُّدُ الأخبارِ ، وليسَتْ في معنى خبرٍ واحدٍ . وأمَّا الثاني ففيه تَعدُّدُ الأخبارِ وليسَتْ في معنى خبرٍ واحدٍ ، وهي مسألةُ خلافٍ . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ " ذو العرش " صفةً ل " رفيعُ الدرجاتِ " إنْ جَعَلْناه صفةً مشبهةً ، أمَّا إذا جَعَلْناه مثالَ مبالغةٍ ، أي : يرفع درجاتِ المؤمنين ، فيجوزُ ذلك على أَنْ تُجْعَلَ إضافتُه مَحْضَةً ، وكذلك عند مَنْ يُجَوِّزُ تمحُّضَ إضافةِ الصفةِ المشبهة أيضاً ، وقد تقدَّمَ .
وقُرِئ " رفيعَ " بالنصبِ على المدح ، و " مِنْ أَمْرِه " متعلِّقٌ ب " يُلْقِي " و " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ . ويجوزُ أَن يكونَ متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " الروح " .
قوله : " لِيُنْذِرَ " العامَّةُ على بنائِه للفاعلِ ، ونصبِ اليوم . والفاعلُ هو اللَّهُ تعالى أو الروح أو مَنْ يشاء أو الرسول . ونَصْبُ اليوم : إمَّا على الظرفيَّةِ . والمُنْذَرُ به محذوفٌ تقديرُه : ليُنْذِرَ بالعذابِ يومَ التَّلاق ، وإمَّا على المفعول به اتِّساعاً في الظرفِ .
وقرأ أُبَيٌّ وجماعةٌ كذلك ، إلاَّ أنه رَفَع اليوم على الفاعليَّةِ مجازاً أي : ليُنْذِر الناسَ العذابَ يومُ التلاق . وقرأ الحسن واليمانيُّ " لِتُنْذِرَ " بالتاءِ من فوقُ . وفيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ الفاعلَ ضميرُ المخاطبِ ، وهو الرسولُ صلَّى الله عليه وسلَّم . والثاني : أنَّ الفاعلَ ضميرُ الروحِ فإنَّها مؤنثةٌ على رَأْيٍ . وقرأ اليمانيُّ أيضاً " لِيُنْذَرَ " مبنياً للمفعول ، " يومُ " بالرفعِ ، وهي تُؤَيِّدُ نصبَه في قراءةِ الجمهورِ على المفعولِ به اتِّساعاً .
وأثبت ياءَ " التلاقي " وَصْلاً ووَقْفاً ابن كثير وأَثْبَتها في الوقف دونَ الوصل - مِنْ غير خِلافٍ - ورشٌ ، وحَذَفها الباقون وَصْلاً ووقفاً ، إلاَّ قالونَ فإنه رُوِيَ عنه وجهان : وجهٌ كورش ، ووجهٌ كالباقين ، وكذلك هذا الخلافُ بعينِه جارٍ في { يَوْمَ التناد } [ غافر : 32 ] . وقد تقدَّم توجيهُ هذَيْن الوجهَيْن في الرعد في قولِه : { الكبير المتعال } [ الرعد : 9 ] .
(1/4546)
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16)
قوله : { يَوْمَ هُم بَارِزُونَ } : في " يوم " أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه بدلٌ مِنْ " يوم التلاق " بدلُ كل مِنْ كل . الثاني : أَنْ ينتصِبَ بالتلاق أي : يقع التلاقي في يومِ بُروزِهم . الثالث : أنْ ينتصِبَ بقولِه : { لاَ يخفى عَلَى الله } ، ذكره ابنُ عطيةَ ، وهذا على أحدِ الأقوالِ الثلاثةِ في " لا " : هل يعملُ ما بعدَها فيما قبلها؟ ثالثها : التفصيلُ بين أَنْ تقعَ جوابَ قسمٍ فيمتنعَ ، أو لا فيجوزَ . فيجوزُ هذا على قولين من هذه الأقوالِ . الرابع : أن ينتصِبَ بإضمار " اذكُرْ " . و " يومَ " ظرفٌ مستقبلٌ ك " إذا " . وسيبويه لا يرى إضافةَ الظرفِ المستقبلِ إلى الجمل الاسمية ، والأخفشُ يراه ، ولذلك قدَّر سيبويه في قولِه : { إِذَا السمآء انشقت } [ الانشقاق : 1 ] ونحوهِ فعلاً قبل الاسم ، والأخفشُ لم يُقَدِّرْه ، وعلى هذا فظاهرُ الآيةِ مع الأخفش . ويُجاب عن سيبويه : بأنَّ " هم " ليس مبتدأ بل مرفوعاً بفعلٍ محذوفٍ يُفَسِّره اسمُ الفاعل أي : يومَ برزوا ، ويكون " بارِزون " خبرَ مبتدأ مضمر فلمَّا حُذِف الفعلُ انفصل الضميرُ فبقي كما ترى ، وهذا كما قالوا في قوله :
3916 لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ ... كُنْتُ كالغَصَّانِ بالماءِ اعتصاري
في أنَّ " حَلْقي " مرفوعُ فعلٍ يُفَسِّره " شَرِقٌ " لأنَّ " لو " لا يَليها إلاَّ الأفعالُ ، وكذا قولُه :
3917 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فهَلاَّ نَفْسُ لَيْلى شَفيعُها
لأنَّ " هَلاَّ " لا يَليها إلاَّ الأفعالُ ، فالمُفَسَّرُ في هذه المواضعِ أسماءٌ مُسْبَقَةٌ ، وهو نظيرُ " أنا زيداً ضاربُه " من حيث التفسيرُ . وحركة " يومَ هم " حركةُ إعرابٍ على المشهورِ . ومنهم مَنْ جَوَّزَ بناءَ الظرفِ ، وإنْ أضيف إلى فعلٍ مضارعٍ أو جملة اسميةٍ ، وهم الكوفيون . وقد وَهِم/ بعضُهم فحتَّم بناءَ الظرفِ المضافِ للجملِ الاسمية . وقد عَرَفْتَ ممَّا تقدَّمَ أنه لا يُبْنَى عند البصريين إلاَّ ما أُضيف إلى فعلٍ ماض ، كقولِه :
3918 على حينَ عاتَبْتَ المشيبَ على الصِّبا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . وقد تقدَّم هذا مستوفىً في آخره المائدة . وكتبوا " يومَ هم " هنا وفي الذاريات منفصلاً ، وهو الأصلُ .
قوله : " لا يَخْفَى " يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً ، وأَنْ تكونَ حالاً من ضميرِ " بارِزون " وأَنْ تكونَ خبراً ثانياً .
(1/4547)
الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
قوله : { اليوم } : ظرفٌ لقولِه " لِمَن المُلْكُ " ، و [ يجوز ] أَنْ يكونَ ظرفاً للجارِّ بعده؛ لأنَّ التقدير : المُلْكُ لله ، فهو خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، واليومَ معمولٌ ل " تُجْزَى " ، و " اليومَ " الأخير خبرُ " لا ظلمَ " .
(1/4548)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18)
قوله : { يَوْمَ الأزفة } : يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً به اتِّساعاً ، وأَنْ يكونَ ظرفاً ، والمفعولُ محذوفٌ . والآزِفَةُ : القريبةُ ، مِنْ أَزِفَ الشيءُ ، أي : قَرُبَ . قال النابغةُ :
3919 أَزِف التَّرَحُّلُ غيرَ أنَّ رِكابَنا ... لَمَّا تَزَلْ برِحالِنا وكأنْ قَدِ
وقال كعبُ بن زهير :
3920 بان الشبابُ وهذا الشيبُ قد أَزِفا ... ولا أرَى لشبابٍ بائنٍ خلفا
وقال الراغب : " أَزِفَ وأَفِدَ يتقارَبان ، لكنَّ " أَزِفَ " يقال اعتباراً بضيقِ وقتِها . ويقال : أزِفَ الشُّخوصُ . والأَزَفُ : ضيقُ الوقت " ، قلت : فجَعَلَ بينهما فَرْقاً ، ويُرْوَى بيتُ النابغة : أَفِدَ الترحُّلُ . والآزِفَةُ : صفةٌ لمحذوفٍ ، فيجوز أَنْ يكونَ التقديرُ : الساعة الآزِفَةُ أو الطامَّةُ الآزِفة .
قوله : " إذ القلوبُ " بدْلٌ من يومِ الآزِفةِ ، أو مِنْ " هم " في " أَنْذِرْهُمْ " بدلُ اشتمالٍ .
قوله : " كاظِمين " نصبٌ على الحالِ . واختلفوا في صاحبها والعاملِ فيها . وقال الحوفي : " القلوبُ " مبتدأ . و " لدى الحناجِر " خبرُه ، و " كاظمين " حالٌ من الضميرِ المستكنِّ فيه " . قلت : ولا بُدَّ مِنْ جوابٍ عن جمعِ القلوبِ جمعَ مَنْ يَعْقِل : وهو أنْ يكونَ لَمَّا أَسْند إليهم ما يُسْنَدُ للعقلاءِ جُمِعَتْ جَمْعَه ، كقولِه : { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] ، { فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 4 ] . الثاني : أنها حالٌ من " القلوب " . وفيه السؤالُ والجوابُ المتقدِّمان . الثالث : أنه حالٌ من أصحاب القلوب . قال الزمخشري : " هو حالٌ مِنْ أصحاب القلوب على المعنى؛ إذ المعنى : إذْ قلوبُهم لدى الحناجر كاظمين عليها " . قلت : فكأنَّه في قوةِ أنْ جَعَلَ أل عِوَضاً من الضمير في حناجرهم : الرابع : أَنْ يكونَ حالاً مِنْ " هم " في " أَنْذِرْهم " ، وتكونُ حالاً مقدرةً؛ لأنهم وقتَ الإِنذارِ غيرُ كاظمين .
وقال ابن عطية : " كاظِمين حالٌ ممَّا أُبْدِلَ منه " إذ القلوب " أو ممَّا تُضاف القلوبُ إليه؛ إذ المرادُ : إذ قلوبُ الناس لدى حناجرِهم ، وهذا كقولِه : { تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار } [ إبراهيم : 42 ] أراد : تَشْخَصُ فيه أبصارُهم " . قلت : ظاهرُ قولِه أنه حالٌ ممَّا أُبْدِل منه .
قوله : " إذ القلوبُ " مُشْكِلٌ؛ لأنه أُبْدِل مِنْ قوله : " يومَ الآزِفَة " وهذا لا يَصِحُّ البتةَ ، وإنما يريد بذلك على الوجه الثاني : وهو أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ " هم " في " أَنْذِرْهُمْ " بدلَ اشتمالٍ ، وحينئذ يَصِحُّ . وقد تقدَّم الكلامُ على الكَظْمِ ، والحناجر ، في آل عمران والأحزاب .
قوله : { وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } " يُطاعُ " يجوزُ أَنْ يُحْكَمَ على موضعِه بالجرِّ نعتاً على اللفظِ ، وبالرفعِ نعتاً على المحلِّ؛ لأنه معطوفٌ على المجرور بمِنْ المزيدةِ .
وقوله : { وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } مِنْ باب :
3921 على لاحِبٍ لا يُهْتَدى بمَنارِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : لا شفيعَ فلا طاعةَ ، أو ثَمَّ شفيعٌ ولكن لا يُطاعُ .
(1/4549)
يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
قوله : { يَعْلَمُ } : فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : - وهو الظاهر - أنه خبرٌ آخرُ عن " هو " في قوله : { هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ } . قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : بِمَ اتَّصلَ قولُه : { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين } ؟ قلت : هو خبرٌ من أخبارِ " هو " في قولِه : { هُوَ الذي يُرِيكُمْ } مثل : { يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ } [ غافر : 15 ] ولكنْ " يُلْقي الروحَ " قد عُلِّلَ بقولِه : " لِيُنْذِرَ " ثم استطرد لذِكْرِ أحوالِ يومِ التَّلاقِ إلى قوله : { وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } فبَعُدَ لذلك عن أخواته " .
الثاني : أنه مُتَّصلٌ بقولِه : " وأَنْذِرْهم " لَمَّا أُمِرَ بإنذاره يوم الآزفة وما يَعْرِضُ فيه مِنْ شدَّة الغمِّ والكَرْبِ ، وأنَّ الظالمَ لا يجدُ مَنْ يَحْميه ، ولا شفيعَ له ، ذَكَر اطِّلاعَه على جميع ما يَصْدُر مِنَ الخلقِ سِرّاً وجَهْراً . وعلى هذا فهذه الجملةُ لا محلَّ لها لأنها في قوة التعليلِ للأمرِ بالإِنذار .
الثالث : أنها متصلةٌ بقولِه { سَرِيعُ الحساب } [ غافر : 17 ] .
الرابع : أنها متصلة بقولِه : { لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ } [ غافر : 16 ] . وعلى هذين الوجهين فيُحْتمل أَنْ تكونَ جاريةً مَجْرَى العلةِ ، وأنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال .
وخائنةُ الأَعْيُن فيه وجهان ، أحدهما : أنه مصدرٌ كالعافيةِ ، أي : يَعْلَمُ خيانةَ الأعين . / والثاني : أنها صفةٌ على بابِها ، وهو مِنْ بابِ إضافةِ الصفةِ للموصوفِ ، والأصلُ : الأعين الخائنة ، كقوله :
3922 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وإن سَقَيْتِ كِرامَ الناسِ فاسْقِينا
وقد رَدَّه الزمخشريُّ وقال : " لا يَحْسُنُ أَنْ يُراد : الخائنة من الأعين؛ لأنَّ قولَه : { وَمَا تُخْفِي الصدور } لا يُساعِدُ عليه " يعني أنه لا يناسِبُ أن يقابلَ المعنى إلاَّ بالمعنى . وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلِ أَنْ يقولَ : لا نُسَلِّمُ أنَّ " ما " في { وَمَا تُخْفِي الصدور } مصدريةٌ حتى يَلْزَمَ ما ذكره ، بل يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي ، وهو عبارةٌ عن نفس ذلك الشيءِ المَخْفِيِّ ، فيكونُ قد قابَلَ الاسمَ غيرَ المصدرِ بمثلهِ .
(1/4550)
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
قوله : { والذين يَدْعُونَ } : قرأ نافع وهشام " تَدْعُون " بالخطاب للمشركين ، والباقون بالغَيْبة إخباراً عنهم بذلك .
(1/4551)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21)
قوله : { فَيَنظُرُواْ } : يجوز أَنْ يكونَ منصوباً في جواب الاستفهام ، وأَنْ يكونَ مجزوماً نَسَقاً على ما قبله كقولِه :
3923 ألم تَسْأَلْ فتُخْبِرْكَ الرُّسومُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
رواه بعضُهم بالجزمِ والنصب .
قوله : " منهم قوةً " قرأ ابنُ عامرٍ " منكم " على سبيلِ الالتفاتِ ، والباقون بضميرِ الغَيْبة جَرْياً على ما سَبَقَ من الضمائرِ الغائبةِ .
قوله : " وآثاراً " عطفٌ على " قوةً " ، وهو في قوة قولِه : { يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً آمِنِينَ } [ الحجر : 82 ] ، وجعله الزمخشريُّ منصوباً بمقدر قال : " أو أراد : وأكثرَ آثاراً كقولِه :
3924 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . قد غدا ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحا
يعني : ومُعْتَقِلاً رمحاً " . ولا حاجةَ إلى هذا مع الاستغناء عنه .
(1/4552)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26)
قوله : { أَوْ أَن } : قرأ الكوفيون " أو أَنْ " بأو التي للإِبهام والباقون بواو النسق على تَسَلُّط الحرفِ على التبديل وظهور الفساد معاً . وقرأ نافعٌ وأبو عمروٍ وحفصٌ " يُظْهِرَ " بضم الياءِ وكسرِ الهاء مِنْ أَظْهر ، وفاعلُه ضميرُ موسى عليه السلام ، " الفسادَ " نصباً على المفعول به . والباقون بفتح الياء والهاء مِنْ ظهر ، " الفسادُ " رفعاً بالفاعلية وزيدُ بن علي " يُظْهَرَ " مبنياً للمفعول ، " الفسادُ " مرفوعٌ لقيامِه مقامَ الفاعل . ومجاهد " يَظَّهَّرَ " بتشديد الظاء والهاء ، وأصلها يَتَظَهَّر مِنْ تَظَهَّر بتشديد الهاء فأدغم التاء في الظاء . و " الفسادُ " رفعٌ على الفاعلية . وفتح ابن كثير ياءَ { ذروني أَقْتُلْ موسى } وسَكَّنها الباقون .
(1/4553)
وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)
قوله : { عُذْتُ } : أدغم أبو عمروٍ والأخَوان ، وأظهروا الذال مع التاء ، والباقون بالإِظهار فقط . و " لا يُؤْمِنُ " صفةٌ لمتكبِّر .
(1/4554)
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)
قوله : { مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } : يُحتمل أَنْ يكونَ متعلِّقاً ب " يَكْتُمُ " بعده أي : يكتمه مِنْ آلِ فرعون . والثاني : - وهو الظاهرُ - أنَّه متعلق بمحذوفٍ صفةً لرجل . وجاء هنا على أحسنِ ترتيبٍ : حيث قَدَّمَ المفردَ ثم ما يَقْرُبُ منه وهو حرفُ الجرِّ ، ثم الجملةَ . وقد تقدم إيضاحُ هذه المسألةِ في المائدةِ وغيرِها . ويترتَّبُ على الوجهين : هل كان هذا الرجلُ مِنْ قَرابَةِ فرعونَ؟ فعلى الأولِ لا دليلَ فيه ، وعلى الثاني فيه دليلٌ . وقد رَدَّ بعضُهم الأولَ : بأنه لا يُقال : كَتَمْتُ مِنْ فلانٍ كذا ، إنما يقال : كَتَمْتُ فلاناً كذا ، فيتعدَّى لاثنين بنفسِه . قال تعالى : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } [ النساء : 42 ] . وقال الشاعر :
3925 كَتَمْتُكَ هَمَّاً بالجَمومَيْنِ ساهِراً ... وهَمَّيْن هَمَّاً مُسْتَكِنَّاً وظاهراً
أحاديثَ نَفْسٍ تشتكي ما برَبِّها ... ووِرْدَ هُمومٍ لَنْ يَجِدْنَ مَصادِرا
أي : كتمتُك أحاديثَ نفسٍ وهَمَّيْن ، فقدَّم المعطوفَ على المعطوفِ عليه ، ومحلُّه الشعرُ .
قوله : { أَن يَقُولَ رَبِّيَ } أي : كراهةَ أَنْ يقولَ أو لأَنْ يقولَ . والعامَّةُ على ضَمِّ عين " رَجُل " وهي الفصحى . والأعمش وعبد الوارث على تسكينها ، وهي لغةُ تميمٍ ونجد . وقال الزمخشري : " ولك أَنْ تُقَدِّرَ مضافاً محذوفاً أي : وقت أَنْ يقولَ . والمعنى : أتقتلونه ساعةَ سَمِعْتم منه هذا القولَ من غير رَوِيَّةٍ ولا فِكْرٍ " . وهذا الذي أجازه رَدَّه الشيخ : بأنَّ تقديرَ هذا الوقتِ لا يجوزُ إلاَّ مع المصدرِ المُصَرَّحِ به تقول : جِئْتُكَ صياحَ الدِّيْكِ أي : وقتَ صِياحِه ، ولو قلت : أجيْئُك أنْ صاحَ الديكُ ، أو أَنْ يصيحَ ، لم يَصِحَّ . نصَّ عليه النحويون .
قوله : " وقد جاءَكم " جملةٌ حالية يجوز أَنْ تكونَ من المفعول . فإنْ قيلَ : هو نكرةٌ . / فالجوابُ : أنه في حيِّزِ الاستفهام وكلُّ ما سَوَّغ الابتداءَ بالنكرةِ سَوَّغ انتصابَ الحال عنها . ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الفاعل .
قوله : { بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ } " بعض " على بابِها ، وإنما قال ذلك ليهضِمَ موسى عليه السلام بعضَ حقه في ظاهرِ الكلام ، فيُرِيَهم أنه ليس بكلامِ مَنْ أعطاه حقه وافياً فَضْلاً أَنْ يتعصَّبَ له ، قاله الزمخشري . وهذا أَحسنُ مِنْ قولِ غيرِه : إنَّها بمعنى كل ، وأنشدوا قولَ لبيد :
3926 تَرَّاكُ أَمْكنةٍ إذا لم يَرْضَها ... أو يَرْتَبِطْ بعضُ النفوسِ حِمامُها
وأنشدوا قولَ عمرو بن شُيَيْم :
3927 قد يُدْرِكُ المتأنِّي بعضَ حاجتِه ... وقد يكونُ مع المستعجِلِ الزَّلَلُ
وقول الآخر :
3928 إنَّ الأمورَ إذا الأحداثُ دَبَّرها ... دون الشيوخِ ترى في بعضِها خَلَلا
ولا أدري كيف فَهِموا الكلَّ من البيتين الأخيرين؟ وأَمَّا الأولُ ففيه بعضُ دليلٍ؛ لأنَّ الموتَ يأتي على الكلِّ . ولَمَّا حكى هذا الزمخشريُّ عن أبي عبيدة ، وأنشد عنه بيتَ لبيدٍ قال : " إن صَحَّتِ الروايةُ عنه فقد حَقَّ فيه قولُ المازني في مسألة العَلْقى : " كان أَجْفَى مِنْ أن يفقهَ ما أقولُ له " .
(1/4555)
قلتُ : ومسألةُ المازني معه أنَّ أبا عبيدةَ قال للمازني : " ما أكذبَ النحويين!! يقولون : هاءُ التأنيثِ لا تدخل على ألفِ التأنيثِ وأن الألفَ في " عَلْقَى " مُلْحقة . قال : فقلت له : وما أنكرْتَ من ذلك؟ فقال : سَمِعْتُ رؤبةَ يُنْشِد :
3929 يَنْحَطُّ في عَلْقَى وفي مُكُوْرِ ... فلم يُنَوِّنْها . فقلتُ : ما واحدُ عَلْقى؟ قال : عَلْقاةٌ . قال المازني : فامتنعْتُ ولم أُفَسِّرْ له لأنه كان أَغْلظَ مِنْ أَنْ يفهمَ مثلَ هذا " قلت : وإنما استغلظَه المازنيُّ؛ لأنَّ الألفَ التي للإِلحاق تَدْخُل عليها تاءُ التأنيثِ دالةً على الوَحْدة فيقال : أَرْطى وأَرْطاة ، وإنما الممتنعُ دخولُها على ألفِ التأنيثِ نحو : دَعْوى وصَرْعى . وأمَّا عدمُ تنوين " عَلْقَى " فلأنَّه سَمَّى بها شيئاً بعينِه [ وألفُ الإِلحاقِ المقصورةُ حالَ العلميَّة تَجْري مَجْرى تاءِ التأنيث فيمتنعُ الاسمُ الذي هي فيه ، كما تمتنعُ فاطمة . وتَنْصَرِفُ قائمة ] .
(1/4556)
يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
قوله : { ظَاهِرِينَ } : حالٌ من الضميرِ في " لكم " ، والعاملُ فيها وفي " اليومَ " ما تَعَلَّقَ به " لكم " .
قوله : " ما أُرِيْكُمْ " هي مِنْ رؤيةِ الاعتقادِ ، فتتعدَّى لمفعولَيْن ، ثانيهما { إِلاَّ مَآ أرى } .
قوله : " الرَّشادِ " العامَّةُ على تخفيفِ الشينِ مصدرَ رشَدَ يَرْشُدُ . وقرأ معاذ بن جبل بتشديدِها ، وخَرَّجها أبو الفتح وغيرُه على أنه صفةُ مبالغةٍ نحو : ضَرَب فهو ضرَّاب ، وقد قال النحاس : " هو لحنٌ ، وتَوَهَّمه من الرباعي " يعني أَرْشد . ورُدَّ على النحاس قولُه : بأنه يُحْتمل أَنْ يكونَ مِنْ رَشَدَ الثلاثي ، وهو الظاهرُ . وقد جاء فَعَّال أيضاً مِنْ أَفْعَل وإنْ كان لا يَنْقاسُ . قالوا : أَدْرَك فهو دَرَّاك وأَجْبَرَ فهو جَبَّار ، وأَقْصَر فهو قَصَّار ، وأَسْأَر فهو سَآَّر ، ويَدُلُّ على أنه صفةُ مبالغةٍ أنَّ معاذاً كان يُفَسِّرها بسبيل الله .
قال ابنُ عطية : " ويَبْعُدُ عندي على معاذ - رضي الله عنه - وهل كان فرعونُ يَدَّعي إلاَّ الإِلهيَّة؟ ويَقْلَقُ بناءُ اللفظِ على هذا التركيبِ " . قلت : يعني ابنُ عطية أنه كيف يقول فرعونُ ذلك ، فيُقِرُّ بأنَّ ثَمَّ مَنْ يهدي إلى الرشادِ غيرُه ، مع أنه يَدَّعي أنه إلهٌ؟ وهذا الذي عَزاه ابنُ عطية والزمخشري وابن جُبارة صاحب " الكامل " إلى معاذ بن جبل من القراءة المذكورة ليس في " الرشاد " الذي هو في كلامِ فرعونَ كما توهَّموا ، وإنما هو في " الرشاد " الثاني الذي مِنْ قول المؤمنِ بعد ذلك . ويَدُلُّ على ذلك ما قاله أبو الفضل الرازي في كتابه " اللوامح " : " معاذ بن جبل " سبيل الرشاد " ، الحرف الثاني بالتشديد ، وكذلك الحسنُ ، وهو سبيلُ اللَّهِ تعالى الذي أوضحه لعبادِه ، كذلك فسَّره معاذ ، وهو منقولٌ مِنْ مُرْشِد كدَرَّاك مِنْ مُدْرِك وجَبَّار مِنْ مُجْبر ، وقَصَّار مِنْ مُقْصِر عن الأمر ، ولها نظائرُ معدودةٌ . فأمَّا " قَصَّار الثوب " مِنْ قَصَر الثوبَ قِصارةً " فعلى هذا يزولُ إشكالُ ابنِ عطية المتقدمُ ، وتتضح القراءةُ والتفسيرُ .
وقال أبو البقاء : " وهو الذي يَكْثُر منه الإِرشادُ أو الرُّشْدُ " يعني يُحْتمل أنه مِنْ أرشدَ الرباعيِّ أو رَشَد الثلاثي . والأَوْلَى أَنْ يكونَ من الثلاثيِّ لِما عَرَفْتَ أنه يَنْقاسُ دونَ الأول .
(1/4557)
مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31)
قوله : { مِثْلَ دَأْبِ } : " مثل " يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً ، وأَنْ يكون عطفَ بيانٍ .
(1/4558)
وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)
قوله : { يَوْمَ التناد } : قد تقدَّم الخلافُ/ في يائِه : كيف تُحذف وتُثْبَت؟ وهو مصدرُ " تَنادَى " نحو : تقاتَلَ تقاتُلاً . والأصلُ : تَنادُياً بضم الدالِ ولكنهم كسروها لتصِحَّ الياءُ . وقرأت طائفةٌ بسكون الدالِ إجراءً للوصل مُجْرى الوقفِ . وتنادَى القومُ أي : نادى بعضُهم بعضاً . قال :
3930 تنادَوْا فقالوا أَرْدَتِ الخيلُ فارساً ... فقُلْنا : عُبَيْدُ الله ذلكمُ الرَّدِي
وقال آخر :
3931 تنادَوْا بالرحيلِ غَداً ... وفي تَرْحالِهم نَفْسي
وقرأ ابن عباس والضحاك والكلبي وأبو صالح وابن مقسم والزعفراني في آخرين بتشديدِها ، مصدرُ " تَنادَّ " مِنْ نَدَّ البعيرُ إذا هَرَبَ ونَفَرَ ، وهو في معنى قولِه تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ } [ عبس : 34 ] الآية . وفي الحديث : " إن للناسِ جَوْلةً يندُّون ، يظنُّون أنهم يَجِدُون مهرباً " وقال أمية بن أبي الصلت :
3932 وبَثَّ الخَلْقَ فيها إذ دَحاها ... فهُمْ سُكَّانُها حتى التنادي
(1/4559)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
قوله : { يَوْمَ تُوَلُّونَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً من " يوم التَّناد " ، وأن يكونَ منصوباً بإضمارِ أعني . ولا يجوزُ أَنْ يُعْطَفَ عطفَ بيان لأنه نكرةٌ ، وما قبله معرفةٌ . وقد تقدَّم لك في قوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 97 ] أنَّ الزمخشريَّ جعله بياناً مع تخالُفِهما تعريفاً وتنكيراً ، وهو عكسُ ما نحن فيه ، فإن الذي نحن فيه الثاني نكرةٌ ، والأولُ معرفةٌ .
قوله : { مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ } يجوزُ في " مِنْ عاصِمٍ " أَنْ يكونَ فاعلاً بالجارِّ لاعتمادِه على النفي ، وأَنْ يكون مبتدأ ، و " مِنْ " مزيدةٌ على كلا التقديرَيْن . و " من الله " متعلقٌ ب " عاصِم " .
(1/4560)
وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34)
قوله : { حتى إِذَا } : غايةٌ لقولِه : " فما زِلْتُمْ " . وقُرئ { ألَن يَبْعَثَ الله } بإدخالِ همزةِ التقرير ، يُقرِّر بعضُهم بعضاً .
قوله : " كذلك " أي : الأمر كذلك . " ويُضِلُّ الله " مستأنفٌ أو نعتُ مصدرٍ أي : مثلَ إضلالِ اللَّهِ إياكم - حين لم يَقْبَلوا مِنْ يوسفَ عليه السلام - يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هو مُسْرِفٌ .
(1/4561)
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
قوله : { الذين يُجَادِلُونَ } يجوز فيه عشرةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه بدلٌ مِنْ قولِه : { مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } وإنما جُمِع اعتباراً بمعنى " مَنْ " . الثاني : أَنْ يكونَ بياناً له . الثالث : أَنْ يكونَ صفةً له . وجُمِع على معنى " مَنْ " أيضاً . الرابع : أَنْ ينتصِبَ بإضمار أعني . الخامس : أَنْ يرتفعَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : هم الذين . السادس : أَنْ يرتفعَ مبتدأً ، خبرُه " يَطْبَعُ اللَّهُ " . و " كذلك " خبرُ مبتدأ مضمرٍ أيضاً ، أي : الأمرُ كذلك . والعائدُ من الجملةِ وهي " يَطْبَعُ " على المبتدأ محذوفٌ ، أي : على كلِّ قلبِ متكبِّرٍ منهم . السابع : أنْ يكونَ مبتدأً ، والخبر " كَبُرَ مَقْتاً " ، ولكنْ لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مُضاف ليعودَ الضميرُ مِنْ " كَبُرَ " عليه . والتقديرُ : حالُ الذين يُجادلون كَبُرَ مَقتاً ويكون " مَقْتاً " تمييزاً ، وهو مَنْقولٌ مِنَ الفاعليةِ إذ التقديرُ : كَبُرَ مَقْتُ حالِهم أي : حالِ المجادلين . الثامن : أَنْ يكونَ " الذين " مبتدأً أيضاً ، ولكن لا يُقَدَّرُ حَذْفُ مضافٍ ، ويكونُ فاعلُ " كَبُرَ " ضميراً عائداً على جدالِهم المفهومِ من قوله : " ما يُجادِلُ " . والتقدير : كَبُرَ جِدالُهم مَقْتاً . و " مَقْتاً " على ما تقدَّمَ أي : كَبُرَ مَقْتُ جدالِهم . التاسع : أَنْ يكونَ " الذين " مبتدأً أيضاً ، والخبرُ { بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } . قاله الزمخشري : ورَدَّه الشيخ : بأنَّ فيه تفكيكَ الكلامِ بعضِه من بعضٍ؛ لأنَّ الظاهرَ تعلُّقُ " بغير سُلْطان " ب " يُجادلون " ، ولا يُتَعَقَّلُ جَعْلُه خبراً ل الذين لأنه جارٌّ ومجرورٌ ، فيصيرُ التقديرُ : الذين يُجادلون كائنون أو مستقرون بغيرِ سلطان ، أي : في غير سلطان؛ لأنَّ الباءَ إذ ذاك ظرفيةٌ خبرٌ عن الجُثَث . العاشر : أنه مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ أي : مُعانِدون ونحوه ، قاله أبو البقاء .
قوله : " كَبُرَ مَقْتاً " يُحْتمل أَنْ يُرادَ به التعجبُ والاستعظامُ ، وأَنْ يُرادَ به الذمُّ كبِئْس؛ وذلك أنه يجوزُ أَنْ يُبْنَى فَعُل بضمِّ العَيْن مِمَّا يجوزُ التعجُّبُ منه ، ويَجْري مَجْرى نِعْم وبئس في جميعِ الأحكامِ . وفي فاعلِه ستةُ أوجهٍ ، الأول : أنه ضميرٌ عائدٌ على حالِ المضافِ إلى الذين ، كما تقدَّم تقريرُه . / الثاني : أنه ضميرٌ يعودُ على جدالِهم المفهوم مِنْ " يُجادلون " كما تقدَّم أيضاً . الثالث : أنه الكافُ في " كذلك " . قال الزمخشري : " وفاعلُ " كَبُرَ " قولُه : " كذلك " أي : كَبُرَ مَقْتاً مثلُ ذلك الجدالِ ، ويَطْبع اللَّهُ كلامٌ مستأنفٌ " ورَدَّه الشيخُ : بأنَّ فيه تَفْكيكاً للكلامِ وارتكابَ مذهبٍ ليس بصحيحٍ . أمَّا التفكيكُ فلأنَّ ما جاء في القرآن مِنْ " كذلك نَطْبَعُ " أو " يَطْبع " إنما جاء مربوطاً بعضُه ببعض فكذلك هذا ، وأمَّا ارتكابُ مذهبٍ غيرِ صحيح فإنه جَعَل الكافَ اسماً ولا تكونُ اسماً إلاَّ في ضرورةٍ ، خلافاً للأخفش .
(1/4562)
الرابع : أنَّ الفاعلَ محذوفٌ ، نقله الزمخشري . قال : " ومَنْ قال : كَبُرَ مَقْتاً عند الله جِدالُهم ، فقد حَذَفَ الفاعلَ ، والفاعلُ لا يصِحُّ حَذْفُه " . قلت : القائلُ بذلك الحوفيُّ ، لكنه لا يريدُ بذلك تفسيرَ الإِعراب ، إنما يريدُ به تفسيرَ المعنى ، وهو معنى ما قَدَّمْتُه مِنْ أنَّ الفاعلَ ضميرٌ يعودُ على جدالِهم المفهومِ مِنْ فعلِه ، فصَرَّح الحوفيُّ بالأصلِ ، وهو الاسمُ الظاهرُ ، ومرادُه ضميرٌ يعودُ عليه .
الخامس : أنَّ الفاعلَ ضميرٌ يعودُ على ما بعدَه ، وهو التمييزُ نحو : " نِعْمَ رَجُلاً زيدٌ " ، و " بئس غلاماً عمروٌ " . السادس : أنه ضميرٌ يعودُ على " مَنْ " مِنْ قولِه : { مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ } . وأعاد الضميرَ مِنْ " كَبُرَ " مفرداً اعتباراً بلفظِها ، وحينئذٍ يكونُ قد راعَى لفظَ " مَنْ " أولاً في { مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } ، ثم معناها ثانياً في قوله : { الذين يُجَادِلُونَ } إلى آخره ، ثم لفظَها ثالثاً في قوله : " كَبُر " . وهذا كلُّه إذا أَعْرَبْتَ " الذين " تابعاً لمَنْ هو مُسْرِفٌ نعتاً أو بياناً أو بدلاً .
وقد عَرَفْتَ أن الجملةَ مِنْ قولِه : " كَبُرَ مَقْتاً " فيها وجهان ، أحدهما : الرفعُ إذا جَعلْناها خبراً لمبتدأ . والثاني : أنها لا محلَّ لها إذا لم تجْعَلْها خبراً . بل هي جملةٌ استِئْنافية . وقوله : " عندَ الله " متعلقٌ ب " كَبُرَ " ، وكذلك قد تقدَّم أنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ ، وأنْ يكونَ فاعلاً وهما ضعيفان . والثالث - وهو الصحيحُ - أنه معمولٌ ل " يَطْبَعُ " أي : مثلَ ذلك الطَّبْعِ يطبعُ اللَّهُ . و " يطبعُ اللَّهُ " فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه مستأنفٌ . والثاني : أنه خبرٌ للموصولِ ، كما تقدَّم تقريرُ ذلك كلِّه .
قوله : " قَلْبِ متكبِّرٍ " قرأ أبو عمروٍ وابن ذكوان بتنوين " قلب " ، وَصَفا القلبَ بالتكبُّر والجَبَروتِ؛ لأنهما ناشئان منه ، وإنْ كان المرادُ الجملةَ ، كما وُصِف بالإِثمِ في قوله : { فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة : 283 ] . والباقون بإضافة " قلب " إلى ما بعدَه أي : على كلِّ قَلْبِ شخصٍ متكبِّرٍ . وقد قَدَّرَ الزمخشريُّ مضافاً في القراءةِ الأولى أي : على كلِّ ذي قلب متكبر ، تجعلُ الصفةَ لصاحبِ القلب . قال الشيخ : " ولا ضرورةَ تَدْعو إلى اعتقادِ الحذفِ " . قلت : بل ثَمَّ ضرورةٌ إلى ذلك وهو توافُقُ القراءَتَيْن ، فإنه يَصيرُ الموصوفُ في القراءتَيْن واحداً ، وهو صاحبُ القلب ، بخلافِ عَدَم التقديرِ ، فإنه يَصيرُ الموصوفُ في إحداهما القلبَ وفي الأخرى صاحبَه .
(1/4563)
أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
قوله : { أَسْبَابَ السماوات } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه تابعٌ للأسبابِ قبله بدلاً أو عطفَ بيان . والثاني : أنه منصوبٌ بإضمار أَعْني ، والأولُ أَوْلَى؛ إذ الأصلُ عدمُ الإِضمارِ .
قوله : " فَأَطَّلِعَ " العامَّةُ على رفعِه عَطْفاً على " أَبْلُغُ " فهو داخِلٌ في حَيِّزِ الترجِّي . وقرأ حفصٌ في آخرين بنصبِه . وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه جوابُ الأمرِ في قولِه : " ابْنِ لي " فنُصِبَ بأَنْ مضمرةً بعد الفاءِ في جوابِه على قاعدة البصريين كقولِه :
3933 يا ناقُ سِيْري عَنَقاً فَسِيحا ... إلى سليمانَ فَنَسْتريحا/
وهذا أَوْفَقُ لمذهب البصريين . الثاني : أنه منصوبٌ . قال الشيخ : " عَطْفاً على التوهُّمِ لأنَّ خبر " لعلَّ " كثيراً جاء مَقْروناً ب " أن " ، كثيراً في النظمِ وقليلاً في النثر . فمَنْ نَصَبَ تَوَهَّم أنَّ الفعلَ المرفوعَ الواقعَ خبراً منصوبٌ ب " أنْ " ، والعطفُ على التوهُّمِ كثيرٌ ، وإنْ كان لا ينقاسُ " انتهى . الثالث : أن يَنْتَصِبَ على جوابِ الترجِّي في " لعلَّ " ، وهو مذهبٌ كوفي استشهد أصحابُه بهذه القراءةِ وبقراءة عاصم { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ } [ عبس : 3-4 ] بنصب " فتنفَعَه " جواباً لِقوله : " لعلَّه " . وإلى هذا نحا الزمخشري قال : " تشبيهاً للترجِّي بالتمني " والبصريُّون يأبَوْن ذلك ، ويُخَرِّجُون القراءتَيْنِ على ما تقدَّم . وفي سورة عبس يجوز أن [ يكون ] جواباً للاستفهام في قولِه : " وما يُدْريك " فإنه مترتبٌ عليه معنىً . وقال ابن عطية وابن جُبارة الهُذلي : " على جواب التمني " وفيه نظرٌ؛ إذ ليس في اللفظِ تَمَنٍّ ، إنَّما فيه تَرَجٍّ . وقد فَرَّقَ الناسُ بين التمني والترجِّي : بأنَّ الترجِّيَ لا يكونُ إلاَّ في الممكنِ عكسَ التمني ، فإنه يكونُ فيه وفي المستحيلِ كقولِه :
3934 لَيْتَ الشبابَ هو الرَّجيعُ على الفتى ... والشيبُ كان هو البَدِئُ الأولُ
وقُرِئ " زَيَّنَ لفرعونَ " مبنياً للفاعلِ وهو الشيطانُ . وتقدَّم الخلافُ في { وَصُدَّ عَنِ السبيل } في الرعد فمَنْ بناه للفاعلِ حَذَفَ المفعولَ أي : صَدَّ قومَه عن السبيلِ . وابنُ وثَّاب " وصِدَّ " بكسرِ الصادِ ، كأنه نَقَل حركةَ الدالِ الأولى إلى فاءِ الكلمة بعد توهُّمِ سَلْبِ حركتِها . وقد تقدَّم ذلك في نحو " رِدَّ " وأنه يجوزُ فيه ثلاثُ اللغاتِ الجائزةِ في قيل وبِيع . وابن أبي إسحاق وعبد الرحمن بن أبي بكرة " وصَدٌّ " بفتح الصادِ ورفع الدالِ منونةً جعله مصدراً منسوقاً على " سوءُ عملِه " أي : زَيَّن له الشيطانُ سوءَ العملِ والصدَّ . والتَّباب : الخَسارُ . وقد تقدَّم ذلك في قوله : { غَيْرَ تَتْبِيبٍ } [ هود : 101 ] . وتقدَّم الخِلافُ أيضاً في قوله : { يَدْخُلُونَ الجنة } في سورة النساء [ الآية : 40 ] .
(1/4564)
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41)
قوله : { وياقوم } : قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : ولِمَ جاء بالواوِ في النداء الثالثِ دونَ الثاني؟ قلت : لأنَّ الثاني داخلٌ في كلامٍ هو بيانٌ للمُجْمَلِ وتفسيرٌ له ، فأُعْطِي الداخلُ عليه حكمَه في امتناعِ دخولِ الواو . وأما الثالثُ فداخِلٌ على كلامٍ ليس بتلك المَثابةِ " .
قوله : { وتدعونني إِلَى النار } هذه الجملةُ مستأنفةٌ أخبر عنهم بذلك بعد استفهامِه عن دعاءِ نفسِه . ويجوز أن يكونَ التقديرُ : وما لكم تَدْعُونني إلى النارِ ، وهو الظاهرُ . ويَضْعُفُ أَنْ تكونَ الجملةُ حالاً أي : ما لكم أدعوكم إلى النجاةِ حالَ دعائِكم إياي إلى النار؟
(1/4565)
تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
قوله : { تَدْعُونَنِي } : هذه الجملةٌ بدلٌ مِنْ " تَدْعونني " الأولى على جهةِ البيان لها ، وأتى في قولِه " تَدْعُونني " بجملةٍ فعليةٍ ليدُلَّ على أنَّ دعوتَهم باطلةٌ لا ثبوتَ لها ، وفي قوله : " وأنا أَدْعوكم " بجملة اسميةٍ ليدُلَّ على ثبوتِ دعوتِه وتقويتِها .
وقد تقدَّم الخلافُ في { لاَ جَرَمَ } [ غافر : 43 ] . وقال الزمخشري هنا : ورُوي عن العرب " لا جُرْمَ أنه يفعل كذا " بضم الجيم وسكونِ الراء بمعنى لا بُدَّ ، وفُعْل وفَعَل أخَوان كرُشْد ورَشَد وعُدْم وعَدَم " .
(1/4566)
فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44)
قوله : { وَأُفَوِّضُ } : هذه مستأنفةٌ . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ تكونَ حالاً مِنْ فاعل " أَقول " .
(1/4567)
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
قوله : { النار } : الجمهورُ على رفعِها . وفيه ثلاثة أوجه ، أحدُها : أنه بدلٌ مِنْ " سوءُ العذاب " . الثاني : أنها خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : هو أي سوءُ العذابِ النارُ؛ لأنه جوابٌ لسؤالٍ مقدرٍ و " يُعْرَضُون " على هذين الوجهين : يجوز أَنْ يكون حالاً من " النار " ويجوز أن يكونَ حالاً من " آل فرعون " . الثالث : أنه مبتدأٌ ، وخبرُه " يُعْرَضون " . وقُرئ " النارَ " منصوباً . وفيه وجهان ، أحدهما : أنه منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره " يُعْرَضون " من حيث المعنى أي : يَصْلَوْن النارَ يُعْرَضون عليها ، كقوله : { والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ } [ الإنسان : 31 ] . والثاني : أَنْ ينتصبَ على الاختصاص . قاله الزمخشري ، فعلى الأولِ لا مَحَلَّ ل " يُعْرَضُون " لكونِه مفسِّراً ، وعلى الثاني هو حالٌ كما تقدَّمَ .
قوله : " ويومَ تقومُ " فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرها : أنه معمولٌ لقولٍ مضمرٍ ، وذلك القولُ المضمرُ محكيٌّ به الجملةُ الأمريَّةُ من قوله " أدخِلوا " والتقدير : ويُقال له/ يومَ تقومُ الساعةُ : أدْخِلوا . الثاني : أنه منصوبٌ بأَدخِلوا أي : أدْخِلوا يومَ تقومُ . وعلى هذين الوجهين فالوقفُ تامٌّ على قوله " وعَشِيَّاً " . والثالث : أنه معطوفٌ على الظرفَيْن قبلَه ، فيكونُ معمولاً ل " يُعْرَضُون " . فالوقفُ على هذا على قولِه " الساعة " و " أَدْخِلوا " معمولٌ لقولٍ مضمرٍ أي : يُقال لهم كذا وكذا . وقرأ الكسائي وحمزة ونافع وحفص " أدْخِلُوا " بقطع الهمزةِ أمراً مِنْ أَدْخَلَ ، فآلَ فرعون مفعولٌ أولُ ، و " أشدَّ العذاب " مفعولٌ ثانٍ . والباقون " ادْخُلوا " بهمزةِ وصلٍ مِنْ دَخَلَ يَدْخُلُ . فآلَ فرعونَ منادى حُذِف حرفُ النداءِ منه ، و " أشدَّ " منصوبٌ به : إمَّا ظرفاً ، وإمّا مفعولاً به ، أي : ادخلوا يا آل فرعونَ في أشدِّ العذاب .
(1/4568)
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47)
قوله : { وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ } : في العاملِ في " إذ " ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه معطوفٌ على " غُدُوَّاً " فيكونُ معمولاً ل " يُعْرَضون " أي : يُعْرَضُونَ على النار في هذه الأوقاتِ كلِّها ، قاله أبو البقاء . والثاني : أنه معطوفٌ على قولِه { إِذِ القلوب لَدَى الحناجر } [ غافر : 18 ] قاله الطبري . وفيه نظرٌ لبُعْدِ ما بينهما ، ولأنَّ الظاهرَ عَوْدُ الضميرِ مِنْ " يَتَحاجُّون " على آل فرعون . الثالث : أنه منصوبٌ بإضمارِ " اذْكُرْ " وهو واضحٌ .
قوله : " تَبَعاً " فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنه اسمُ جمعٍ لتابعٍ ، ونحوه : خادِم وخَدَم ، وغائِب ، وغَيَبَ ، وأَديم وأَدَم . والثاني : أنه مصدرٌ واقع موقعَ اسمِ الفاعلِ أي : تابِعين . والثالث : أنه مصدرٌ أيضاً ، ولكنْ على حَذْفِ مضاف أي : ذوي تَبَع .
قوله : " نصيباً " فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ ينتصبَ بفعلٍ مقدرٍ يَدُلُّ عليه قولُه " مُغْنُون " تقديرُه : " هل أنتم دافِعون عنا نصيباً . الثاني : أَنْ يُضمَّنَ " مُغْنون " معنى حامِلين . الثالث : أَنْ ينتصبَ على المصدرِ . قال أبو البقاء : " كما كان " شيءٌ " كذلك ، ألا ترى إلى قولِه { لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً } [ آل عمران : 116 ] ف " شيْئاً " في موضعِ غَناء ، فكذلك " نصيباً " . و " من النار " صفةٌ ل " نَصيباً " .
(1/4569)
قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48)
قوله : { إِنَّا كُلٌّ } : العامَّةُ على رفع " كلٌ " ، ورفعُه على الابتداء و " فيها " خبرُه ، والجملةُ خبرُ " إنَّ " ، وهذا كقولِه في آل عمران : { قُلْ إِنَّ الأمر كُلُّهُ للَّهِ } في قراءة أبي عمروٍ . وقرأ ابن السَّمَيْفع وعيسى بن عمر بالنصب وفيه ثلاثة أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يكونَ تأكيداً لاسم " إنَّ " . قال الزمخشري : " توكيدٌ لاسم إنَّ ، وهو معرفةٌ . والتنوينٌ عوضٌ من المضافِ إليه ، يريد : إنَّا كلَّنا فيها " انتهى . يعني فيكون " فيها " هو الخبر . وإلى كونِه تأكيداً ذهب ابنُ عطية أيضاً . وقد رَدَّ ابن مالكٍ هذا المذهبَ فقال في " تسهيله " : " ولا يُستغنى بنية إضافتِه خلافاً للزمخشري " : قلت : وليس هذا مذهباً للزمخشري وحدَه بل هو منقول عن الكوفيين أيضاً . الثاني : أَنْ تكونَ منصوبةً على الحال ، قال ابن مالك : " والقولُ المَرْضِيُّ عندي أنَّ " كلاً " في القراءة المذكورة منصوبةٌ على الحال من الضمير المرفوع في " فيها " ، و " فيها " هو العاملُ وقد قُدِّمَتْ عليه مع عَدَمِ تصرُّفه ، كما قُدِّمَتْ في قراءةِ مَنْ قرأ : { والسماوات مَطْوِيَّاتٍ بِيَمِينِهِ } . وكقولِ النابغة :
3935 رَهْطُ ابنِ كُوْزٍ مُحقِبيْ أَدْراعِهم ... فيهمْ ورَهْطُ ربيعةَ بنِ حُذار
وقول بعض الطائيين :
3936 دعا فَأَجَبْنَا وَهْو بادِيَ ذلَّةٍ ... لديكمْ وكان النصرُ غيرَ بعيدِ
يعني بنصب " باديَ " وهذا هو مذهبُ الأخفش ، إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ مَنَعَ مِنْ ذلك قال : " فإنْ قلتَ : هل يجوزُ أَنْ يكونَ " كلاًّ " حالاً قد عَمِل فيه " فيها "؟ قلت : لا؛ لأنَّ الظرفَ لا يعملُ في الحال متقدمةً كما يعملُ في الظرفِ متقدِّماً . تقول : كلَّ يوم لك ثوبٌ . ولا تقول : قائماً في الدار زيد " . قال الشيخ : " وهذا الذي منعه أجازه الأخفشُ إذا توسَّطَتِ الحالُ نحو : " زيدٌ قائماً في الدار " و " زيدٌ قائماً عندك " ، والمثالُ الذي ذكره ليس مطابقاً لِما في الآية؛ لأنَّ الآيةَ تَقَدَّمَ فيها المسندُ إليه الحكمُ وهو اسمُ إنَّ ، وتوسَّطَتِ الحالُ إذا قلنا إنها حالٌ ، وتأخَّر العاملُ فيها . وأمَّا تمثيلُه بقولِه : ولا تقولُ : " قائماً في الدار زيد " ، فقد تأخَّر فيه المسندُ والمسندُ إليه . وقد ذكر بعضُهم أنَّ المنعَ في ذلك إجْماعٌ من النحاة " .
قلت : الزمخشريُّ مَنْعُه صحيحٌ لأنه ماشٍ على مذهبِ الجمهور ، وأمَّا تمثيلُه بما ذَكَر فلا يَضُرُّه لأنه في محلِّ المَنْعِ ، فعدمُ تجويزِه صحيحٌ .
الثالث أنَّ " كلاً " بدلٌ مِنْ " ن " في " إنَّا " ، لأَنَّ " كلاً " قد وَلِيَتْ العوامِل/ فكأنه قيل : إنَّ كلاً فيها .
(1/4570)
وإذا كانوا قد تأوَّلوا قولَه :
2937 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . حَوْلاً أَكْتعاً ... [ وقوله : ] .
2938 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وحَوْلاً أَجْمعا ... على البدلِ مع عدم تصرُّفِ أكتع وأَجْمع فلأَنْ يجوزَ ذلك في " كل " أَوْلَى وأَحْرى . وأيضاً فإنَّ المشهورَ تعريفُ " كل " حالَ قَطْعها . حُكي في الكثير الفاشي : " مررتُ بكلٍ قائماً وببعض جالساً " ، وعزاه بعضُهم لسيبويه . وتنكيرُ " كل " ونصبها حالاً في غايةِ الشذوذ نحو : " مررت بهم كلاً " أي : جميعاً . فإن قيل : فيه بدلُ الكل من الكل في ضمير الحاضر ، وهو لا يجوز . أجيب بوجهين ، أحدهما : أن الكوفيين والأخفشَ يَرَوْن ذلك ، وأنشدوا قولَه :
3939 أنا سيفُ العشيرةِ فاعْرِفوني ... حُمَيْداً قد تَذَّرَّيْتُ السَّناما
فحُميداً بدل من ياء " اعرِفوني " ، وقد تأوَّلَه البصريون على نصبه على الاختصاص . والثاني : أن هذا الذي نحن فيه ليس محلَّ الخلافِ لأنه دالٌّ على الإِحاطة والشمول . وقد قالوا : إنه متى كان البدل دالاًّ على ذلك جاز ، وأنشدوا :
3940 فما بَرِحَتْ أقدامنا في مكانِنا ... ثلاثتِنا حتى أُزِيْرُوا المنَائيا
ومثلُه قولُه تعالى : { تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } [ المائدة : 114 ] ، قالوا " ثلاثتنا " بدلٌ من " ن " في " مكاننا " لدلالتِها على الإِحاطة ، وكذلك " لأوَّلنا وآخِرنا " بدلٌ من " ن " في " لنا " ، فلأَنْ يجوزَ ذلك في " كل " التي هي أصلٌ في الشمولِ والإِحاطة بطريق الأَوْلَى . هذا كلامُ الشيخِ في الوجه الثالث وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المبردَ ومكيَّاً نَصَّاً على أن البدلَ في هذه الآيةِ لا يجوزُ ، فكيف يُدَّعَى أنه لا خِلافَ في البدلِ والحالةُ هذه؟ لا يُقال : إنَّ في الآية قولاً رابعاً : وهو أنَّ " كلاً " نعتٌ لاسم " إنَّ " وقد صَرَّح الكسائيُّ والفراء بذلك فقالا : هو نعتٌ لاسمِ " إنَّ " لأنَّ الكوفيين يُطْلقون اسمَ النعتِ على التأكيدِ ، ولا يريدون حقيقةَ النعتِ . وممن نَصَّ على ما قلتُه من التأويلِ المذكورِ مكيٌّ رحمه الله تعالى ، ولأنَّ الكسائيَّ إنما جَوَّز نعتَ ضميرِ الغائبِ فقط دونَ المتكلمِ والمخاطبِ .
(1/4571)
وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49)
قوله : { يَوْماً مِّنَ العذاب } : في " يوماً " وجهان ، أحدهما : أنه ظرفٌ ل " يُخَفِّفْ " . ومفعولُ " يُخَفِّفْ " محذوفٌ أي : يُخَفِّف عنا شيئاً من العذاب في يوم . ويجوز على رأي الأخفش أن تكون " مِنْ " مزيدةً ، فيكون " العذاب " هو المفعولَ ، أي : يُخَفف عنا في يوم العذاب . الثاني : أَنْ يكونَ مفعولاً به ، واليوم لا يُخَفَّف ، وإنما يُخَفَّفُ مظروفُه فالتقديرُ : يُخَفِّف عذابَ يومٍ . وهو قَلِقٌ لقولِه " من العذاب " ، والقولُ بأنَّه صفةٌ مؤكِّدةٌ كالحالِ أقلقُ منه . والظاهرُ أنَّ " مِن العذاب " هو المفعولُ ل " يُخَفِّف " ، و " مِنْ " تبعيضيَّةٌ ، و " يوماً " ظرفٌ . سألوا أَنْ يخففَ عنهم بعضَ العذابِ لا كلَّه في يومٍ ما ، لا في كلِّ يومٍ ولا في يومٍ معين .
(1/4572)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51)
قوله : { وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } : قرأ الجمهور " يقوم " بالياء مِنْ أسفلَ . وأبو عَمْروٍ في روايةِ المنقريِّ عنه وابنُ هرمز وإسماعيل بالتاء مِنْ فوقُ لتأنيثِ الجماعةِ ، والأشهادُ يجوزُ أَنْ يكونَ جمعَ شهيد ك شَريف وأَشْراف ، وهو مطابِقٌ لقولِه : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ } [ النساء : 41 ] وأَنْ يكونَ جمعَ شاهِد ك صاحِب وأصحاب ، وهو مطابِقٌ لقولِه : { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } [ الأحزاب : 45 ] .
(1/4573)
يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)
قوله : { يَوْمَ } : بدلٌ مِنْ " يوم " قبلَه أو بيانٌ له ، أو نُصِب بإضمار أَعْني . وقد تقدَّم الخلافُ في قولِه " يَنْفَع الظالمين " بالتاء والياء آخر الروم .
(1/4574)
هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54)
قوله : { هُدًى وذكرى } : فيهما وجهان ، أحدهما : أنهما مفعولٌ مِنْ أجلهما أي : لأجلِ الهدى والذَّكْر . والثاني : أنهما مصدران في موضعِ الحالِ .
(1/4575)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55)
قوله : { لِذَنبِكَ } : قيل : المصدرُ مضافٌ للمفعولِ أي : لذنب أمَّتِك في حَقِّك . والظاهرُ أنَّ اللَّهَ يقولُ ما أرادَ ، وإنْ لم يَجُزْ لنا نحن أَنْ نُضيفَ إليه صلَّى الله عليه وسلَّم ذنباً .
(1/4576)
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57)
قوله : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } : المصدران مُضافان لمَفْعولِهما . والفاعلُ محذوفٌ وهو اللَّهُ تعالى . ويجوزُ أَنْ يكونَ الثاني مضافاً للفاعلِ أي : أكبرُ ممَّا يَخْلُقُه الناسُ أي : يَصْنَعونه . ويجوزُ أَنْ يكونا مصدرَيْن واقعَيْن موقعَ المخلوقِ أي : مَخلوقُهما أكبرُ مِنْ مَخْلوقهم أي : جُرْمُها أكبرُ مِنْ جُرْمِهم .
(1/4577)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58)
قوله : { وَلاَ المسياء } : " لا " زائدةٌ للتوكيدِ لأنه لَمَّا طالَ الكلامُ بالصلة بَعُدَ قَسِيْمُ المؤمنين ، فأعاد معه " لا " توكيداً . وإنما قَدَّم المؤمنين لمجاوَرَتهم/ قولَه : " والبصير " ، واعلَمْ أنَّ التقابلَ يجيْءُ على ثلاثِ طرقٍ ، أحدُها : أَنْ يجاوِرَ المناسبُ ما يناسِبُه كهذه الآيةِ . والثانية : أَنْ يتأخَّرَ المتقابِلان كقولِه تعالى : { مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع } [ هود : 24 ] . والثالثة : أن يُقَدِّمَ مقابلَ الأولِ ، ويُؤَخِّرَ مقابلَ الآخر ، كقولِه تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير وَلاَ الظلمات وَلاَ النور } [ فاطر : 19 ] وكلُّ ذلك تَفَنُّنٌ في البلاغة . وقَدَّم الأعمى في نَفْيِ التساوي لمجيئِه بعد صفةِ الذم في قولِه { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } .
قوله : " تَتَذَكَّرون " قرأ الكوفيون بتاء الخطاب ، والباقون بياءِ الغَيْبة . فالخطابُ على الالتفاتِ للمذكورَيْن بعد الإِخبار عنهم ، والغيبةُ نظراً لقولِه : { إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ } وهم الذين التفتَ إليهم في قراءةِ الخطاب .
(1/4578)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62)
قوله : { خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } : العامَّةُ على الرفعِ ، وزيد بن علي نصبَه ، قال الزمخشري : " على الاختصاص " . وقرأ طلحة بيَاءِ الغيبة .
(1/4579)
كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)
قوله : { كَذَلِكَ يُؤْفَكُ } : أي : مثلَ ذلك الإِفك .
(1/4580)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64)
قوله : { فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } : قرأ أبو رزين والأعمش : " صِوَرَكم " بكسر الصاد فِراراً من الضمة قبل الواوِ ، وقرأَتْ فرقةٌ بضم الصادِ وسكونِ الواو وجَعَلْته اسمَ جنسٍ لصورةٍ كبُسْرٍ وبُسْرَة .
(1/4581)
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70)
قوله : { الذين كَذَّبُواْ } : يجوز فيه أوجه : أَنْ يكونَ بدلاً من الموصول قبلَه ، أو بياناً له ، أو نعتاً ، أو خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، أو منصوباً على الذمِّ . وعلى هذه الأوجهِ فقولُه " فسوف يعلمونَ " جملةٌ مستأنفةٌ سِيقَتْ للتهديدِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأً ، والخبرُ الجملةُ مِنْ قولِه " فسوف يَعْلَمون " ودخولُ الفاءِ فيه واضحٌ .
(1/4582)
إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71)
قوله : { إِذِ الأغلال } : جَوَّزوا في " إذ " هذه أَنْ تكونَ بمعنى " إذا " لأنَّ العاملَ فيها محقَّقُ الاستقبالِ ، وهو " فسوف يَعْلمون " ، قالوا : وكما تقع " إذا " موقعَ " إذ " في قوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } [ الجمعة : 11 ] كذلك تقع " إذ " مَوْقِعَها ، وقد مضى نحوٌ من هذا في البقرة عند قوله { وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب } [ البقرة : 165 ] . قالوا : والذي حَسَّن هذا تَيَقَّنَ وقوعَ الفعلِ فأُخْرِجَ في صورةِ الماضي . قلت : ولا حاجةَ إلى إخراجِ " إذ " عن موضوعِها ، بل هي باقيةٌ على دلالتِها على المضيِّ ، وهي منصوبةٌ بقولِه " فسوفَ يَعْلَمون " نَصْبَ المفعولِ به أي : فسوف يعلمونَ يومَ القيامة وَقْتَ الأغلالِ في أعناقِهم أي : وقتَ سببِ الأغلالِ ، وهي المعاصي التي كانوا يَفْعَلونها في الدنيا كأنَّه قيل : سيعرفون وقتَ معاصيهم التي تجعل الأَغلالَ في أعناقِهم . وهو وجهٌ واضحٌ ، غايةُ ما فيه التصرُّف في " إذ " بجَعْلِها مفعولاً بها ، ولا يَضُرُّ ذلك؛ فإنَّ المُعْرِبين غالِبُ أوقاتِهم يقولون : منصوبٌ ب اذْكُرْ مقدراً ولا يكون حينئذٍ إلاَّ مفعولاً به لاستحالةِ عملِ المستقبل في الزمنِ الماضي . وجَوَّزوا أَنْ يكونَ منصوباً ب اذْكُرْ مقدَّراً أي : اذكُرْ لهم وقتَ الأغلالِ ليخافوا ويَنْزَجِروا . فهذه ثلاثةُ أوجهٍ ، خيرُها أوسطُها .
قوله : " والسَّلاسِلُ " العامَّةُ على رَفْعِها . وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه معطوفٌ على الأغلال ، وأخبر عن النوعَيْن بالجارِ ، فالجارُّ في نية التأخير . والتقديرُ : إذ الأغلالُ والسَّلاسلُ في أعناقِهم . الثاني : أنه مبتدأٌ ، وخبرُه محذوفٌ لدلالةِ خبر الأولِ عليه . الثالث : أنه مبتدأٌ أيضاً ، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه " يُسْحَبُون " . ولا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ يعودُ عليه منها . والتقديرُ : والسَّلاسل يُسْحَبُون بها حُذِفَ لقوةِ الدلالةِ عليه . فَيُسْحَبُون مرفوع المحلِّ على هذا الوجهِ . وأمَّا في الوجهَيْن المتقدِّمين فيجوز فيه النصبُ على الحالِ من الضمير المَنْوِيِّ في الجارِّ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً .
وقرأ ابن مسعود وابنُ عباس وزيد بن علي وابن وثاب والمسيبي في اختيارِه " والسلاسلَ " نَصْباً " يَسْحَبون " بفتح الياءِ مبنياً للفاعلِ ، فيكون " السلاسلَ " مفعولاً مقدماً ، ويكونُ قد عَطَفَ جملةً فعليةً على جملةٍ اسميةٍ . قال ابن عباس في معنى/ هذه القراءة : " إذ كانوا يَجُرُّوْنها ، فهو أشدُّ عليهم يُكَلَّفون ذلك ، ولا يُطيقونه " . وقرأ ابنُ عباس وجماعةٌ " والسلاسلِ " بالجرِّ ، " يُسْحَبون " مبنياً للمفعولِ . وفيها ثلاثةُ تأويلاتٍ ، أحدُها : الحَمْلُ على المعنى تقديرُه : إذ أعناقُهم في الأغلالِ والسلاسلِ ، فلمَّا كان معنى الكلام ذلك حُمِل عليه في العطف . قال الزمخشري : " ووجهُه أنه لو قيل : إذ أعناقُهم في الأغلال ، مكانَ قوله : { إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ } لكان صحيحاً مستقيماً ، فلمَّا كانتا عبارتين مُعْتَقِبتين حَمَلَ قولَه : " والسلاسل " على العبارةِ الأخرى .
(1/4583)
ونظيرُه :
3941 مَشائيمُ ليسوا مُصْلِحين عشيرةً ... ولا ناعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرابُها
كأنه قيل : بمُصْلحين " وقُرِئ " بالسلاسِل " . وقال ابن عطية : " تقديرُه : إذ أعناقُهم في الأغلالِ والسلاسِل ، فعُطِفَ على المرادِ من الكلام لا على ترتيبِ اللفظِ ، إذ ترتيبُه فيه قَلْبٌ وهو على حَدِّ قولِ العرب " أَدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ في رأسي " . وفي مصحف أُبَيّ { وفي السلاسل يُسْحَبُونَ } . قال الشيخ بعد قولِ ابنِ عطيةَ والزمخشريِّ المتقدِّم : " ويُسمَّى هذا العطفَ على التوهُّم ، إلاَّ أنَّ تَوَهُّمَ إدخالِ حرفِ الجرِّ على " مُصْلِحين " أقربُ مِنْ تغييرِ تركيب الجملةِ بأَسْرها ، والقراءةُ مِنْ تغييرِ تركيبِ الجملةِ السابقة بأَسْرِها . ونظيرُ ذلك قولُه :
3942 أجِدَّكَ لن تَرَى بثُعَيْلِباتٍ ... ولا بَيْداءَ ناجيةً ذَمُوْلا
ولا متدارِكٍ والليلُ طَفْلٌ ... ببعضِ نواشِغِ الوادي حُمُوْلا
التقدير : لستَ براءٍ ولا متداركٍ . وهذا الذي قالاه سَبَقهما إليه الفراء فإنه قال : " مَنْ جَرَّ السلاسل حَمَله على المعنى ، إذ المعنى : أعناقُهم في الأغلال والسلاسل " .
الوجه الثاني : أنه عطفٌ على " الحميم " ، فقدَّم على المعطوف عليه ، وسيأتي تقريرُ هذا . الثالث : أن الجرَّ على تقدير إضمار الخافِضِ ، ويؤيِّدُه قراءةُ أُبيّ " وفي السلاسل " وقرأه غيرُه " وبالسلاسل " وإلى هذا نحا الزجَّاج . إلاَّ أنَّ ابنَ الأنباري رَدَّه وقال : " لو قلتَ : " زيد في الدارِ " لم يَحْسُنْ أَنْ تُضْمَر " في " فتقول : " زيدٌ الدارِ " ثم ذكر تأويلَ الفراء . وخَرَّج القراءةَ عليه ثم قال : كما تقول : " خاصَمَ عبدُ الله زيداً العاقلَيْن " بنصب " العاقلين " ورفعِه؛ لأنَّ أحدَهما إذا خاصمه صاحبه ، فقد خاصمه الآخرُ . وهذه المسألةُ ليسَتْ جاريةً على أصول البصريين ، ونَصُّوا على مَنْعها ، وإنما قال بها من الكوفيين ابنُ سعدان . وقال مكيٌّ : " وقد قُرِئَ والسلاسلِ ، بالخفضِ على العطف على " الأَعْناق " وهو غَلَط؛ لأنه يَصير : الأغلال في الأعناق وفي السلاسل ، ولا معنى للأغلال في السلاسل " . قلت : وقوله على العطفِ على " الأعناقِ " ممنوعٌ بل خَفْضُه على ما تقدَّم . وقال أيضاً : " وقيل : هو معطوفٌ على " الحميم " وهو أيضاً لا يجوزُ؛ لأنَّ المعطوفَ المخفوضَ لا يتقدَّم على المعطوفِ عليه ، لو قلت : " مررتُ وزيدٍ بعمروٍ " لم يَجُزْ ، وفي المرفوع يجوزُ نحو : " قام وزيدٌ عمرو " ويَبْعُد في المنصوب ، لا يَحْسُنُ : " رأيتُ وزيداً عمراً " ولم يُجِزْه في المخفوض أحدٌ " .
قلت : وظاهرُ كلامِه أنه يجوزُ في المرفوع بعيدٌ ، وقد نصُّوا أنه لا يجوزُ إلاَّ ضرورةً بثلاثة شروطٍ : أن لا يقعَ حرفُ العطفِ صدراً ، وأَنْ يكونَ العاملُ متصرفاً ، وأَنْ لا يكونَ المعطوفُ عليه مجروراً ، وأنشدوا :
(1/4584)
3943 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... عليكِ ورحمةُ اللَّهِ السَّلامُ
إلى غيرِ ذلك من الشواهدِ ، مع تَنْصيصِهم على أنه مختصُّ بالضرورة .
والسِّلْسِلَةُ معروفةٌ . قال الراغب " وتَسَلْسَلَ الشيءُ : اضطرَبَ كأنه تُصُوِّرَ منه تَسَلُّلٌ مترددٌ ، فتَرَدُّدُ لفظِه تنبيهٌ على تردُّد معناه . وماءٌ سَلسَلٌ متردد في مقرِّه " . والسَّحْبُ : الجرّ بعنفٍ ، والسَّحابُ من ذلك؛ لأنَّ الريحَ تجرُّه ، أو لأنه يجرُّ الماءَ . وسَجَرْتُ التنُّورَ أي : ملأتُه ناراً وهَيَّجْتُها . ومنه البحر المَسْجُور أي : المملوء . وقيل : المضطرِمُ ناراً . قال الشاعر :
3944 إذا شاءَ طالعَ مَسْجُوْرَةً ... تَرَى حَوْلَها النَّبْعَ والشَّوْحَطا
فمعنى قولِه تعالى هنا : { ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ } أي : يُوْقَدُ لهم ، كقوله : { وَقُودُهَا الناس } [ البقرة : 24 ] والسَّجِيْرُ : الخليلُ الذي يُسْجَرُ في مودَّةِ خليلِه ، كقولهم : فلان يحترق في مودةِ فلان .
(1/4585)
ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75)
قوله : { تَفْرَحُونَ } : " تَمْرَحون " مِنْ باب التجنيس المحرَّفِ ، وهو أن يقعَ الفرقُ بين اللفظَيْنِ بحرفٍ .
(1/4586)
ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
قوله : { فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } : المخصوصُ محذوفٌ أي : جهنم ، أو مثواكم ، ولم يَقُلْ فبِئْسَ مَدْخَلُ؛ لأنَّ الدخولَ لا يَدوم وإنما يَدُوْمُ الثَّواءُ؛ فلذلك خَصَّه بالذمِّ ، وإنْ كان الدخولُ أيضاً مَذْموماً .
(1/4587)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77)
قوله : { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ } : قال الزمخشري : " أصلُه : فإنْ نَرَكَ و " ما " مزيدةٌ لتأكيدِ معنى الشرطِ ، ولذلك أُلْحِقَتِ النونُ بالفعل . ألا تراك لا تقول : إنْ تُكْرِمَنّي أُكْرِمْك ، ولكنْ إمَّا تُكْرِمَنِّي أكرمْك " . قال الشيخ : " وما ذكره مِنْ تلازُمِ النونِ ، و " ما " الزائدة ليس مذهبَ سيبويه ، إنما هو مذهبُ المبردِ والزجَّاجِ ، ونصَّ سيبويه على التخيير " . / قلت : وهذه القواعدُ وإنُ تقدَّمَتْ مُسْتَوفاةً ، إلاَّ أنِّي أذكُرها لذِكْرِهم إياها ، وفي ذلك تنبيهٌ أيضاً وتذكيرٌ بما تقدَّم .
قوله : " فإلينا يُرْجَعُون " ليس جواباً للشرطِ الأولِ ، بل جواباً لِما عُطِفَ عليه ، وجوابُ الأولِ محذوفٌ . قال الزمخشري : " فإلينا يُرْجَعُون " متعلِّق بقولِه : " نَتَوَفَّيَنَّك " وجوابُ " نُرِيَنَّك " محذوفٌ تقديرُه : فإنْ نُرِيَنَّك بعضَ الذي نَعِدُهم مِنَ العذابِ وهو القَتْلُ يومَ بدرٍ فذاك ، وإنْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبلَ يومِ بَدْرٍ فإلينا يُرْجَعُون فننتقمُ منهم أشدَّ الانتقامَ " . قلت : قد تقدَّمَ مثلُ هذا في سورةِ يونس وبحثُ الشيخِ معه فَلْيُلْتَفَتْ إليه . وقال الشيخ : " وقال بعضُهم : جوابُ " فإمَّا نُرِيَنَّك " محذوفٌ لدلالةِ المعنى عليه أي : فَتَقَرُّ عَيْنك . ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ " فإلينا يُرْجَعُون " جواباً للمعطوفِ عليه والمعطوفِ ، لأنَّ تركيبَ " فإمَّا نُرِيَنَّكَ بعضَ الذين نَعِدُهم في حياتك فإلينا يُرْجَعون " ليس بظاهرٍ ، وهو يَصِحُّ أَنْ يكونَ جوابَ " أو نَتَوَفَّيَنَّك " أي : فإلينا يُرْجَعُون فننتقمُ منهم ونُعَذِّبُهم لكونِهم لم يَتَّبِعوك . نظيرُ هذه الآيةِ قولُه تعالى : { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ } [ الزخرف : 42 ] إلاَّ أنه هنا صَرَّح بجوابِ الشرطَيْن " . قلت : وهذا بعينِه هو قولُ الزمخشريِّ .
وقرأ السُّلميُّ ويعقوبُ " يَرْجَعون " بفتح ياءِ الغَيْبَةِ مبنياً للفاعلِ . وابنُ مصرف ويعقوب أيضاً بفتح تاءِ الخطابِ .
(1/4588)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
قوله : { مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا } : يجوزُ أَنْ يكونَ " منهم " صفةً ل " رُسُلاً " ، فيكون " مَنْ قَصَصْنا " فاعِلاً به لاعتمادِه ، ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً مقدماً ، و " مَنْ " مبتدأٌ مؤخر . ثم في الجملة وجهان : الوصفُ ل " رُسُلاً " وهو الظاهرُ والاستئنافُ .
(1/4589)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79)
قوله : { مِنْهَا ، وَمِنْهَا } : " مِنْ " الأولى يجوزُ أَنْ تكونَ للتبعيضِ ، إذ ليس كلُّها تُرْكَبُ ، ويجوزُ أَنْ تكونَ لابتداءِ الغايةِ إذ المرادُ بالأنعامِ شيءٌ خاصٌّ ، وهي الإِبل . قال الزجَّاج : " لأنه لم يُعْهَدْ للركوبِ غيرُها " . وأمَّا الثانيةُ فكالأولى . وقال ابنُ عطية : " هي لبيانِ الجنسِ " قال : " لأنَّ الخيلَ منها ولا تُؤْكَلُ " .
(1/4590)
وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)
قوله : { وَعَلَى الفلك } : اخْتِير لفظُ " على " هنا على لفظِ " في " كقولِه : { قُلْنَا احمل فِيهَا } [ هود : 40 ] لمناسبةِ قولِه : " وعليها " ، كذا أجابُوا . ويظهر أنَّ " في " هناك أليقُ؛ لأنَّ سفينةَ نوحٍ عليه السلام على ما يقالُ كانَتْ مُطْبِقَةً عليهم ، وهي محيطةٌ بهم كالوعاءِ . وأمَّا غيرُها فالاستعلاءُ فيه واضحٌ؛ لأنَّ الناسَ على ظهرِها .
(1/4591)
وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
قوله : { فَأَيَّ آيَاتِ الله } : منصوبٌ ب " تُنْكِرون " وقُدِّمَ وجوباً؛ لأنَّ له صَدْرَ الكلامِ . قال مكي : " ولو كان مع الفعلِ هاءٌ لكان الاختيارُ الرفعَ في " أي " بخلافِ ألفِ الاستفهامِ تَدْخُلُ على الاسمِ ، وبعدها فعلٌ واقعٌ على ضميرِ الاسمِ ، فالاختيارُ النصبُ نحو قولِك : أزيداً ضَرَبْتُه ، هذا مذهبُ سيبويهِ فرَّقَ بين الألفِ وبين أيّ " قلت : يعني أنَّك إذا قلتَ : " أيُّهم ضربْتَه " كان الاختيارُ الرفعَ لأنه لا يُحْوِج إلى إضمارٍ ، مع أنَّ الاستفهامَ موجودٌ في " أزيداً ضربْتُه " يُختار النصبُ لأجلِ الاستفهامِ فكان مُقْتضاه اختيارَ النصبِ أيضاً ، فيما إذا كان الاستفهامُ بنفس الاسمِ . والفرقُ عَسِرٌ . وقال الزمخشري : " فأيَّ آياتِ جاءتْ على اللغةِ المستفيضةِ . وقولك : " فأيةَ آياتِ اللَّهِ " قليلٌ؛ لأنَّ التفرقةَ بين المذكرِ والمؤنثِ في الأسماءِ غير الصفاتِ نحو : حِمار وحِمارة غريبٌ ، وهو في " أَيّ " أغربُ لإِبهامِه " . قال الشيخ : " ومِنْ قِلَّةِ تأنيثِ " أيّ " قولُه :
3945 بأيِّ كتابٍ أم بأيةِ سُنَّةٍ ... ترى حُبَّهم عاراً عليَّ وتَحْسَبُ
قوله : " وهو في أيّ أغربُ " إنْ عنى " أيًّا " على الإِطلاق فليس بصحيحٍ ، لأنَّ المستفيضَ في النداء أَنْ يُؤَنَّثَ في نداء المؤنث كقولِه تعالى : { ياأيتها النفس المطمئنة } [ الفجر : 27 ] ولا نعلَمُ أحداً ذكر تَذْكيرها فيه ، فيقولُ : يا أيُّها المرأة ، إلاَّ صاحبَ " البديع في النحو " ، وإنْ عنى غيرَ المناداةِ فكلامُه صحيحٌ يَقِلُّ تأنيثها في الاستفهامِ وموصولةً وشرطيةً " . قلت : وأمَّا إذا وقعَتْ صفةً لنكرةٍ وحالاً لمعرفةٍ ، فالذي ينبغي أَنْ يجوزَ الوجهان كالموصولةِ ، ويكون التأنيثُ أقلَّ نحو : " مررتُ بامرأةٍ أيةِ امرأة " و " جاءَتْ هندٌ أيةَ امرأةٍ " ، وكان ينبغي للشيخِ أن ينبِّهَ على هذين الفرعَيْنِ .
(1/4592)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
قوله : { فَمَآ أغنى عَنْهُم } : يجوزُ في ما أَنْ تكونَ نافيةً ، واستفهاميةً بمعنى النفي ، ولا حاجةَ إليه .
قوله : " ما كانوا " يجوزُ أَنْ تكونَ " ما " مصدريةً ، ويجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى الذي ، فلا عائدَ على الأولِ ، وعلى الثاني هو محذوفٌ أي : يَكْسِبونه ، وهي فاعلٌ ب " أَغْنَى " على التقديرَيْن .
(1/4593)
فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83)
قوله : { بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه تهكُّمٌ بهم . والمعنى : ليس عندهم علمٌ . الثاني : أنَّ ذلك جاء على زَعْمِهم أنَّ عندهم عِلْماً يَنْتَفعون به . الثالث : أنَّ " مِنْ " بمعنى بَدَل أي : بما عندهم من الدنيا بدلَ العلمِ . وعلى هذه الأوجه فالضميران للكفارِ . الرابع : / أَنْ يكونَ الضَميران للرسل أي : فَرِحَ الرسُل بما عندهم من العلم . الخامس : أنَّ الأولَ للكفارِ ، والثاني للرسل ، ومعناه : فَرِحَ الكفارُ فَرَحَ ضَحِكٍ واستهزاءٍ بما عند الرسُلِ مِن العلمِ ، إذ لم يَأْخُذوه بقَبولٍ ويمتثِلوا أوامرَ الوحيِ ونواهيه . وقال الزمخشري : " ومنها - أي من الوجوه - أَنْ يُوْضَعَ قولُه : { فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم } مبالغةً في نَفْيِ فَرَحِهم بالوحيِ الموجِبِ لأَقْصى الفرحِ والمَسَرَّةِ مع تهكُّمٍ بفَرْطِ خُلُوِّهم من العلم وجَهْلِهم " . قال الشيخ : " ولا يُعَبَّرُ بالجملةِ الظاهرِ كونُها مُثْبتةً عن الجملةِ المنفيةِ ، إلاَّ في قليلٍ من الكلام نحو : " شَرٌّ أهرَّ ذا نابٍ " ، على خلافٍ فيه ، ولما آلَ أمرُه إلى الإِثباتِ المحصورِ جازَ . وأمَّا في الآيةِ فينبغي أَنْ لا يُحْمَلَ على القليلِ؛ لأن في ذلك تَخْليطاً لمعاني الجملِ المتباينةِ .
(1/4594)
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
قوله : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ } : يجوزُ رفعُ " إيمانُهم " اسماً ل " كان " ، و " يَنْفَعُهم " جملةٌ خبراً مقدماً ، ويجوزُ أَنْ يرتفعَ بأنه فاعلُ " يَنْفَعُهم " ، وفي " كان " ضمير الشأن . وقد تقدَّم لك هذا مُحَقَّقاً عند قولِه : { مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ } [ الأعراف : 137 ] وأنه لا يكونُ من بابِ التنازع فعليك بالالتفاتِ إليه ، ودَخل حرفُ النفي على الكونِ لا على النفيِ؛ لأنه بمعنًى لا يَصِحُّ ولا ينبغي ، كقوله : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ } [ مريم : 35 ] .
قوله : " سُنَّةَ اللَّهِ " يجوزُ انتصابُها على المصدرِ المؤكِّدِ لمضمونِ الجملةِ ، يعني : أنَّ الذي فَعَلَ اللَّهُ بهم سُنَّةٌ سابقةٌ من الله . ويجوزُ انتصابُها على التحذيرِ أي : احذروا سنةَ اللَّهِ في المكذِّبين التي قد خَلَتْ في عبادِه . و " هنالك " في الأصل مكان . قيل : واسْتُعير هنا للزمانِ ، ولا حاجةَ له ، فالمكانيَّةُ فيه ظاهرةٌ .
(1/4595)
تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { تَنزِيلٌ } : يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ " حم " على القولِ بأنها اسمٌ للسورةِ ، أو خبرَ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هذا تنزيلٌ أو مبتدأٌ ، وخبرُه " كتابٌ فُصِّلَتْ " .
(1/4596)
كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3)
قوله : { كِتَابٌ } : قد تقدَّم أنه يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ل " تَنْزيل " ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً ، وأَنْ يكونَ بدلاً مِنْ " تَنْزيل " ، وأَنْ يكونَ فاعلاً بالمصدرِ ، وهو " تنزيلٌ " أي : نَزَلَ كتابٌ ، قاله أبو البقاء ، و " فُصِّلَتْ آياتُه " صفةٌ لكتاب .
قوله : " قُرْآناً " في نصبِه ستةُ أوجهٍ ، أحدُها : هو حالٌ بنفسِه و " عربيَّاً " صفتُه ، أو حالٌ موطِّئَةٌ ، والحالُ في الحقيقةِ " عربيَّاً " ، وهي حالٌ غيرُ منتقلةٍ . وصاحبُ الحال : إمَّا " كتابٌ " لوَصْفِه ب " فُصِّلَتْ " ، وإمَّا " آياته " ، أو منصوبٌ على المصدرِ أي : تقرؤه قرآناً ، أو على الاختصاصِ والمدحِ ، أو مفعولٌ ثانٍ ل فُصِّلَتْ ، أو منصوبٌ بتقديرِ فعلٍ أي : فَصَّلْناه قرآناً .
قوله : " لقومٍ " فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ يتعلَّقَ ب فُصِّلَتْ أي : فُصِّلَتْ لهؤلاءِ وبُيِّنَتْ لهم؛ لأنهم هم المنتفعون بها ، وإنْ كانَتْ مُفَصَّلةً في نفسِها لجميعِ الناسِ . الثاني : أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل " قُرآناً " أي : كائناً لهؤلاءِ خاصةً لِما تقدَّم في المعنى . الثالث : أَنْ يتعلَّقَ ب " تَنْزِيلٌ " وهذا إذا لم يُجْعَلْ " من الرحمنِ " صفةً له؛ لأنَّك إنْ جَعَلْتَ " من الرحمن " صفةً له فقد أَعْمَلْتَ المصدرَ الموصوفَ ، وإذا لم يكن " كتابٌ " خبراً عنه ولا بَدَلاً منه؛ لئلا يَلْزَمَ الإِخبارُ عن الموصولِ أو البدلِ منه قبلَ تمامِ صلتِه . ومَنْ يَتَّسِعْ في الظرف وعديلِه لم يُبالِ بشيءٍ من ذلك . وأمَّا إذا جَعَلْتَ " من الرحمن " متعلِّقاً به و " كتاب " فاعلاً به فلا يَضُرُّ ذلك؛ لأنه مِنْ تتمَّاته وليس بأجنبيّ ، وهذا الموضعُ ممَّا يُظْهِرُ حُسْنَ علمِ الإِعرابِ ، ويُدَرِّبُكَ في كثيرٍ من أبوابِه .
(1/4597)
بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4)
قوله : { بَشِيراً وَنَذِيراً } : يجوزُ أَنْ يكونا نعتَيْن ل " قُرْآناً " ، وأَنْ يكونا حالَيْنِ : إمَّا مِنْ " كتاب " ، وإمَّا مِنْ " آياته " ، وإمَّا من الضميرِ المَنْوِيِّ في " قُرْآناً " . وقرأ زيد بن علي برفعهما على النعتِ ل " كتاب " أو على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هو بشيرٌ ونذيرٌ .
(1/4598)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
قوله : { في أَكِنَّةٍ } : قال الزمخشري : " فإنْ قُلْتَ : هَلاَّ قيل : على قلوبِنا أكنَّةٌ كما قيل : وفي آذاننا وَقْرٌ ، ليكونَ الكلامُ على نَمَطٍ واحد . قلت : هو على نَمَطٍ واحدٍ؛ لأنَّه لا فَرْقَ في المعنى بين قولِك : قلوبُنا في أكنَّةٍ ، وعلى قلوبِنا أكنَّةٌ ، والدليلُ عليه قولُه تعالى : { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } [ الأنعام : 25 ] ، ولو قيل : جَعَلْنا قلوبَهم في أكنَّةٍ لم يختلفِ المعنى ، وترى المطابيعَ منهم لا يَرَوْن الطباقَ والملاحظةَ إلاَّ في المعاني " . قال الشيخ : " و " في " هنا أَبْلَغُ مِنْ " على " لأنَّهم قَصَدوا الإِفراطَ في عَدَمِ القبول بحُصول قلوبِهِم في أكنَّةٍ احتوَتْ عليها احتواءَ الظرفِ على المظروفِ ، فلا يمكنُ أَنْ يَصِلَ إليها شيءٌ ، كما تقول : " المالُ في الكيس " بخلافِ قولِك : " على المالِ كيسٌ " ، فإنَّه لا يَدُلُّ على الحصر وعدمِ الوصولِ دلالةَ الوعاءِ ، وأمَّا " وجعلنا " فهو من إخبار اللَّهِ تعالى فلا يَحْتاجُ إلى مبالغةٍ " . وتقدَّمَ تفسيرُ الأَكنَّة والوقر . /
وقرأ طلحة بكسر الواوِ وتقدَّم الفرقُ بينهما .
قوله : " ممَّا تَدْعُوْنا " مِنْ في " ممَّا " وفي " ومِنْ بَيْنِنا " لابتداءِ الغايةِ فالمعنى : أنَّ الحجابَ ابتدأ مِنَّا وابتدأ منك ، فالمسافةُ المتوسطةُ لجهتِنا وجهتِك مُسْتوعبةٌ لا فراغَ فيها ، فلو لم تَأْت " مِنْ " لكان المعنى : أنَّ حجاباً حاصلٌ وسطَ الجهتين ، والمقصودُ المبالغَةُ بالتبايُنِ المُفْرِط ، فلذلك جيْءَ ب " مِنْ " قاله الزمخشري . وقال أبو البقاءِ : " هو محمولٌ على المعنى؛ لأنَّ المعنى : في أكنَّةٍ محجوبةٍ عن سماعِ ما تَدْعُونا إليه ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ل " أكنَّة "؛ لأنَّ الأكنَّةَ الأغشيةُ ، وليسَتِ الأغشيةُ ممَّا يُدْعَوْنَ إليه " .
(1/4599)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6)
قوله : { قُلْ } : قرأ ابنُ وثَّاب والأعمش " قال " فعلاً ماضياً خبراً عن الرسولِ . والرسمُ يَحْتَملهما ، وقد تقدَّم مثلُ هذا في الأنبياءِ وآخرِ المؤمنين . وقرأ الأعمشُ والنخعيُّ " يُوْحِي " بكسر الحاء أي : اللَّهُ تعالى .
قوله : " فاسْتَقِيموا إليه " عُدِّيَ ب " إلى " لتضمُّنِه معنى تَوَجَّهوا ، والمعنى : وَجِّهوا استقامتَكم إليه .
(1/4600)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
قوله : { غَيْرُ مَمْنُونٍ } : قيل : غيرُ منقوص ، وأنشدوا لذي الإِصبع العدواني :
3946 إني لَعَمْرُكَ ما بابي بذي غَلقٍ ... على الصديقِ ولا خَيْري بمَمْنُوْنِ
وقيل : مقطوعٌ ، مِنْ مَنَنْتُ الحَبْلَ أي : قطعْتُه ، وأنشدوا :
3947 فَضْلَ الجوادِ على الخيلِ البِطاءِ فلا ... يُعْطِي بذلك مَمْنُوْناً ولا نَزِقا
وقيل : غيرُ ممنونٍ ، مِن المَنِّ؛ لأنَّ عطاءَ اللَّهِ تعالى لا يَمُنُّ به ، إنما يَمُنُّ المخلوقُ .
(1/4601)
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9)
قوله : { وَتَجْعَلُونَ } : عطفٌ على " لَتَكْفُرون " فهو داخلٌ في حَيِّزِ الاستفهام .
(1/4602)
وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10)
قوله : { وَجَعَلَ } : مستأنف . ولا يجوز عَطْفُه على صلةِ الموصولِ للفصلِ بينهما بأجنبيّ ، وهو قولُه : " وتَجْعلون " فإنه معطوفٌ على " لَتَكْفرون " كما تقدَّم .
قوله : { في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } تقديرُه : في تمامِ أربعةِ أيام باليومَيْن المتقدِّمين . وقال الزجاج : " في تتمةِ أربعةِ أيام " يريدُ بالتتمَّةِ اليومينِ . وقال الزمخشري : " في أربعة أيام فَذْلَكَةٌ لمدةِ خَلْقِ اللَّهِ الأرضَ وما فيها ، كأنه قال : كلُّ ذلك في أربعةِ أيامٍ كاملةٍ مستويةٍ بلا زيادةٍ ولا نقصانٍ " . قلت : وهذا كقولِك : بَنَيْتُ بيتي في يومٍ ، وأكْمَلْتُه في يومَيْن . أي : بالأول . وقال أبو البقاء : " أي : في تمامِ أربعةِ أيامٍ ، ولولا هذا التقديرُ لكانَتِ الأيامُ ثمانيةً ، يومان في الأول ، وهو قوله : { خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ } ، ويومان في الآخِر ، وهو قوله : { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } [ وأربعة في الوسط ، وهو قولُه { في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ } ] .
قوله : " سواءً " العامَّةُ على النصبِ ، وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ أي : استَوتْ استواءً ، قاله مكي وأبو البقاء . والثاني : أنه حالٌ مِنْ " ها " في " أقواتها " أو مِنْ " ها " في " فيها " العائدةِ على الأرض أو من الأرض ، قاله أبو البقاء .
وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المعنى : إنما هو وصفُ الأيامِ بأنها سواءٌ ، لا وصفُ الأرضِ بذلك ، وعلى هذا جاء التفسيرُ . ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ " سَواءٍ " بالجرِّ صفةً للمضافِ أو المضافِ إليه . وقال السدي وقتادة : سواءً معناه : سواءً لمن سألَ عن الأمرِ واستفهم عن حقيقةِ وقوعِه ، وأرادَ العِبْرَةَ فيه ، فإنه يَجِدُه كما قال تعالى ، إلاَّ أنَّ ابنَ زيدٍ وجماعةً قالوا شيئاً يَقْرُبُ من المعنى الذي ذكره أبو البقاء ، فإنهم قالوا : معناه مُسْتَوٍ مُهَيَّأٌ أمرُ هذه المخلوقاتِ ونَفْعُها للمحتاجين إليها من البشر ، فعبَّر بالسائلين عن الطالبين .
وقرأ زيد بن علي والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى ويعقوب وعمرو بن عبيد " سَواءٍ " بالخفضِ على ما تقدَّمَ ، وأبو جعفرٍ بالرفع ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنه على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هي سواءٌ لا تَزيد ولا تنقصُ . وقال مكي : " هو مرفوعٌ بالابتداء " ، وخبرُه " للسائلين " . وفيه نظرٌ : من حيث الابتداءُ بنكرةٍ من غيرِ مُسَوِّغٍ ، ثم قال : " بمعنى مُسْتوياتٍ ، لمن سأل فقال : في كم خُلِقَتْ؟ وقيل : للسَّائلين لجميع الخَلْقِ لأنهم يَسْألون الرزقَ وغيرَه مِنْ عند اللَّهِ تعالى " .
قوله : " للسَّائلين " فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه متعلقٌ ب " سواء " بمعنى : مُسْتويات للسائلين . الثاني : أنه متعلِّقٌ ب " قَدَّر " أي : قَدَّر فيها أقواتَها لأجلِ الطالبين لها المحتاجين المُقتاتين . الثالث : أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ كأنه قيل : هذا الحَصْرُ لأجلِ مَنْ سأل : في كم خُلِقَتِ الأرضُ وما فيها؟
(1/4603)
ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)
والدُّخان : ما ارتفع مِنْ لَهَبِ النار ، ويُسْتعار لِما يُرى مِنْ بخارِ الأرضِ عند جَدْبِها . وقياسُ جَمْعِه في القلةِ : أَدْخِنة ، وفي الكثرة : دِخْنان نحو غُراب وأَغْرِبة وغِربان ، وشذُّوا في جَمْعِه على دواخِن . قيل : هو جمعُ داخِنة تقديراً على سبيلِ الإِسناد المجازيِّ . ومثله : عُثان وعَواثِن .
قوله : " وهي دُخانٌ " من باب التشبيهِ الصُّوري؛ لأن صورتِها صورةُ الدخان في رأي العَيْنِ .
قوله : " أَتَيْنا " قرأ العامَّةُ " ائْتِيا " أمراً من الإِتْيان ، " قالتا أَتَيْنا " منه أيضاً . وقرأ ابنُ عباس وابنُ جبير ومجاهدٌ : " آتِيا قالتا آتَيْنا " بالمدِّ فيهما . وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه من المُؤَاتاة ، وهي الموافَقَةُ أي : ليوافِقْ كلٌّ منكما الأخرى لِما يليقُ بها ، وإليه ذهب الرازي والزمخشري . فوزنُ " آتِيا " فاعِلا كقاتِلا ، و " آتَيْنا " وزنُه فاعَلْنا كقاتَلْنا . / والثاني : أنَّه من الإِيْتاء بمعنى الإِعطاء ، فوزنُ آتِيا أَفْعِلا كأَكْرِما ، ووزن آتَيْنا أَفْعَلْنا كأَكْرَمْنا . فعلى الأول يكونُ قد حَذَفَ مفعولاً ، وعلى الثاني يكونُ قد حَذَفَ مفعولَيْن إذ التقدير : أَعْطِيا الطاعةَ مِنْ أنفسكما مَنْ أَمَرَكما . قالتا : أَعْطَيْناه الطاعة .
وقد مَنَع أبو الفضل الرازيُّ الوجهَ الثاني . فقال : " آتَيْنا " بالمَدِّ على فاعَلْنا من المُؤاتاة ، بمعنى سارَعْنا ، على حَذْفِ المفعولِ به ، ولا تكونُ من الإِيتاء الذي هو الإِعطاءُ لبُعْدِ حَذْفِ مفعولَيْه " . قلت : وهذا هو الذي مَنَعَ الزمخشريِّ أَنْ يَجْعَلَه من الإِيتاء .
قوله " طَوْعاً أو كَرْهاً " مصدران في موضعِ الحال أي : طائِعتين أو مُكْرَهَتَيْن . وقرأ الأعمشُ " كُرْهاً " بالضم . وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك في النساء .
قوله : " قالتا " أي : قالَتِ السماء والأرض . وقال ابنُ عطية : " أراد الفرقتَيْن المذكورتَيْن . جَعَلَ السماواتِ سماءً ، والأرضين أرضاً ، وهو نحوُ قولِ الشاعر :
3948 ألم يُحْزِنْكَ أنَّ حبالَ قومي ... وقومِك قد تبايَنَتا انْقِطاعا
عَبَّر عنهما ب " تَباينتا " . قال الشيخ : " وليس كما ذَكَر؛ لأنه لم يتقدَّمْ إلاَّ ذِكْرُ الأرضِ مفردةً والسماءِ مفردةً ، فلذلك حَسُن التعبيرُ بالتثنيةِ . وأمَّا البيتُ فكأنه قال : حَبْلَيْ قومي وقومِك ، وأنَّثَ في " تبايَنَتا " على المعنى لأنه عنى بالحبالِ المودَّة " .
قوله : " طائِعِين " في مجيئِه مجيءَ جَمْعِ المذكرِين العقلاءِ وجهان ، أحدهما : أنَّ المرادَ : أَتيا بمَنْ فيهما من العقلاء وغيرِهم ، فلذلك غَلَّب العقلاءَ على غيرِهم ، وهو رَأْيُ الكسائيِّ . والثاني : أنه لمَّا عامَلهما معاملةَ العقلاء في الإِخبارِ عنهما والأمرِ لهما جُمِعا كجَمْعِهم ، كقولِه : { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] وهل هذه المحاوَرَةُ حقيقةٌ أو مجازٌ؟ وإذا كانت مجازاً فهل هو تمثيلٌ أو تخييلٌ؟ خلافٌ .
(1/4604)
فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
قوله : { سَبْعَ } : في نصبه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مفعولٌ ثانٍ ل " قَضاهُنَّ "؛ لأنه ضُمِّن معنى صَيَّرهُنَّ بقضائِه سبعَ سماواتٍ .
والثاني : أنَّه منصوبٌ على الحالِ مِنْ مفعولِ " قَضاهُنَّ " أي : قضاهُنَّ معدودةً ، و " قضى " بمعنى صَنَع ، كقولِ أبي ذؤيب :
3949 وعليهما مَسْرُوْدتان قَضاهما ... داوُدُ أو صَنَعُ السَّوابغِ تُبَّعُ
أي : صَنَعهما . الثالث : أنه تمييزٌ . قال الزمخشري : " ويجوزُ أَنْ يكونَ ضميراً مبهماً مُفَسَّراً بسبعِ سماوات [ على التمييز " ] يعني بقولِه " مبهماً " أنَّه لا يعودُ على السماء لا من حيث اللفظُ ولا مِنْ حيث المعنى ، بخلاف كونِه حالاً أو مفعولاً ثانياً . الرابع : أنه بدلٌ مِنْ " هُنَّ " في " فقَضاهُنَّ " قاله مكي . وقال أيضاً : " السَّماء تذكَّرُ وتؤنَّثُ . وعلى التأنيثِ جاء القرآن ، ولو جاء على التذكير لقيل : سبعة سماوات " . وقد تقدَّم تحقيقُ تذكيرِه وتأنيثِه في أوائل البقرة .
قوله : " وحِفْظاً " في نصبه وجهان ، أحدهما : أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ ، أي : وحَفِظْناها بالثواقب من الكواكِبِ حِفْظاً . والثاني : أنه مَفْعولٌ مِنْ أجله على المعنى ، فإنَّ التقديرَ : خلقنا الكواكبَ زينةً وحِفْظاً . قال الشيخ : " وهو تكلُّفٌ وعُدولٌ عن السَّهْلِ البيِّنِ " .
(1/4605)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13)
قوله : { فَإِنْ أَعْرَضُواْ } : التفاتٌ مِنْ خطابِهم بقولِه : " قل أئِنَّكم " إلى الغَيْبة لفِعْلهِم الإِعراضَ أعرضَ عن خطابِهم ، وهو تناسُبٌ حَسَنٌ . وقرأ الجمهورُ " صاعقَةً مثلَ صاعقةِ " بالألفِ فيهما . وابن الزبير والنخعي والسلمي وابن محيصن " صَعْقَةً مثلَ صَعْقة " بحَذْفِها وسكونِ العين . وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك في أوائلِ البقرة . يقال : صَعَقَتْه الصاعقةُ فصَعِقَ ، وهذا مما جاء فيه فَعَلْته - بالفتح - ففَعِل بالكسر ، ومثله جَدَعْتُه فَجَدِعَ . والصَّعْقَةُ المَرَّة .
(1/4606)
إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14)
قوله : { إِذْ جَآءَتْهُمُ } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه ظرفٌ ل " أَنْذَرْتُكم " نحو : لَقِيْتُك إذ كان كذا . الثاني : أنه منصوبٌ بصاعقةٍ لأنَّها بمعنى العذاب أي : أنذرتُكم العذابَ الواقعَ في وقتِ مجيْءِ رسُلِهم . الثالث : أنه صفةٌ ل " صاعِقَة " الأولى . الرابع : أنه حالٌ من " صاعقة " الثانية ، قالهما أبو البقاء وفيهما نظرٌ؛ إذ الظاهرُ أنَّ الصَّاعقةَ جثةٌ وهي قطعةُ نارٍ تَنْزِلُ من السماء فتحرقُ ، كما تقدَّمَ في تفسيرِها أولَ هذا التصنيفِ؛ فلا يقعُ الزمانُ صفةً لها ولا حالاً عنها ، وتأويلُها بمعنى العذابِ إخراجٌ لها عن مدلولِها مِنْ غيرِ ضرورةٍ ، وإنما جعلَها وَصْفاً للأولى لأنها نكرةٌ ، وحالاً مِن الثانية لأنها معرفةٌ لإِضافتها إلى عَلَم ، ولو جعلها حالاً من الأولى؛ لأنها تخَصَّصَتْ بالإِضافةِ لجاز/ فتعودُ الوجوهُ خمسةً .
قوله : { مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } الظاهرُ أنَّ الضميرَيْن عائدان على عادٍ وثمود . وقيل : الضميرُ في " خَلْفِهم " يعودُ على الرسلِ . واسْتُبْعِد هذا من حيث المعنى؛ إذ يصير التقديرُ : جاءتهم الرسلُ مِنْ خَلْفِ الرسلِ ، أي : مِنْ خَلْفِ أنفسِهم . وقد يُجاب عنه : بأنَّه مِنْ باب " دِرْهمٌ ونصفُه " أي : ومن خَلْفِ رسُلٍ آخرين .
قوله : { أَلاَّ تعبدوا } يجوزُ في " أَنْ " ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ تكونَ المخففةَ من الثقيلة ، واسمُها ضميرُ الشأن محذوفٌ ، والجملةُ النَّهْيِيةُ بعدها خبرٌ ، كذا أعربه الشيخُ . وفيه نظرٌ مِنْ وجهين ، أحدهما : أنَّ المخففةَ لا تقع بعد فِعْل إلاَّ مِنْ أفعال اليقين . الثاني : أنَّ الخبرَ في بابِ " إنَّ " وأخواتِها لا يكون طلباً ، فإنْ وَرَدَ منه شيءٌ أُوِّلَ ولذلك تأوَّلوا [ قولَ الشاعرِ : ]
3950 إنَّ الذينَ قَتَلْتُمْ أمسِ سَيِّدَهُمْ ... لا تَحْسَبُوا ليلَهم عن ليلِكم ناما
وقول الآخر :
3951 ولو أصابَتْ لقالَتْ وَهْيَ صادِقةٌ ... إنَّ الرِّياضَةَ لا تُنْصِبْكَ للشِّيْبِ
على إضمارِ القولِ . الثاني : أنها الناصبةُ للمضارعِ ، والجملةُ النَّهْييةُ بعدها صلتُها وُصِلَتْ بالنهي كما تُوْصَلُ بالأمر في " كَتبتُ إليه بأنْ قُمْ " ، وقد مَرَّ في وَصْلِها بالأمرِ إشكالٌ يأتي مثلُه في النهي . الثالث : أَنْ تكونَ مفسِّرَةً لمجيئِهم لأنه يتضمَّنُ قولاً ، و " لا " في هذه الأوجهِ كلِّها ناهيةٌ ، ويجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً على الوجهِ الثاني ، ويكون الفعلُ منصوباً ب " أنْ " بعد " لا " النافية ، فإنَّ " لا " النافيةَ لا تمنعُ العاملَ أَنْ يعملَ فيما بعدها نحو : " جئتُ بلا زيدٍ " ، ولم يذكرْ الحوفي غيرَه .
قوله : " لو شاءَ " قدَّر الزمخشريُّ مفعولَ " شاء " : لو شاءَ إرسالَ الرسلِ لأَنْزَلَ ملائكةً . قال الشيخ : " تَتَبَّعْتُ القرآنَ وكلامَ العربِ فلم أَجِدْ حَذْفَ مفعولِ " شاء " الواقع بعد " لو " إلاَّ مِنْ جنسِ جوابِها نحو :
(1/4607)
{ وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى } [ الأنعام : 35 ] أي : لو شاءَ جَمْعَهم على الهدى لجَمَعهم عليه ، { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } [ الواقعة : 65 ] { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } [ الواقعة : 70 ] { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ } [ يونس : 99 ] { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } [ الأنعام : 112 ] { لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ } [ النحل : 35 ] . وقال الشاعر :
3952 فلو شاءَ ربِّي كنتُ قيسَ بنَ خالدٍ ... ولو شاءَ ربي كنتُ قيسَ بنَ مَرْثدِ
وقال الراجز :
3953 واللذِ لو شاءَ لكنْتُ صَخْراً ... أو جَبَلاً أشمَّ مُشْمَخِرَّا
قال : " فعلَى ما تقرَّر لا يكونُ المحذوفُ ما قدَّره الزمخشريُّ ، وإنما التقديرُ : لو شاء ربُّنا إنزالَ ملائكةٍ بالرسالةِ منه إلى الإِنسِ لأَنْزَلهم بها إليهم ، وهذا أَبْلَغُ في الامتناع من إرسالِ البشرِ ، إذ عَلَّقوا ذلك بإنزال الملائكة ، وهو لم يَشَأْ ذلك فكيف يشاء ذلك في البشر؟ " قلت : وتقديرُ أبي القاسم أوقَعُ معنىً وأخلصُ من إيقاع الظاهرِ موقعَ المضمرِ؛ إذ يَصيرُ التقديرُ : لو شاءَ إنزالَ ملائكةٍ لأنزلَ ملائكةً .
قوله : { بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ } هذا خطابٌ لهودٍ وصالحٍ وغيرِهم مِن الأنبياءِ عليهم السلام ، وغَلَّب المخاطبَ على الغائبِ نحو : " أنت وزيدٌ تقومان " . و " ما " يجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي وعائدُها به ، وأنْ تكونَ مصدريةً أي : بإرسالِكم ، فعلى هذا يكون " به " [ يعودُ ] على ذلك المصدرِ المؤولِ ، ويكون من بابِ التأكيد كأنه قيل : كافرون بإرسالِكم به .
(1/4608)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16)
قوله : { صَرْصَراً } : الصَّرْصَرُ : الريحُ الشديدة فقيل : هي الباردةُ مِن الصِّرِّ ، وهو البردُ . وقيل : هي الشديدةُ السَّمومِ . وقيل هي المُصَوِّتَةُ ، مِنْ صَرَّ البابُ أي : سُمِع صريرُه . والصَّرَّة : الصَّيْحَةُ . ومنه : { فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ } [ الذاريات : 29 ] . قال ابن قتيبة : " صَرْصَر : يجوزُ أَنْ يكونَ من الصِّرِّ وهو البردُ ، وأَنْ يكونَ مِنْ صَرَّ البابُ ، وأَنْ تكونَ من الصَّرَّة ، وهي الصيحةُ ، ومنه : { فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ } [ الذاريات : 29 ] . وقال الراغب : " صَرْصَر لفظة من الصِّرِّ ، وذلك يرجِعُ إلى الشَّدِّ لِما في البرودة من التعقُّدِ " .
قوله : " نَحِساتٍ " قرأ الكوفيون وابن عامر بكسرِ الحاءِ ، والباقون بسكونِها . فأمَّا الكسرُ فهو صفةٌ على فَعِل ، وفعلُه فَعِل بكسرِ العين أيضاً كفِعْلِهِ يقال : نَحِس فهو نَحِسٌ كفَرِح فهو فَرِحٌ ، وأَشِرَ فهو أَشِرٌ . وأمال الليث/ عن الكسائي ألفَه لأجل الكسرةِ ، ولكنه غيرُ مشهورٍ عنه ، حتى نسبه الدانيُّ للوَهْم .
وأمَّا قراءةُ الإِسكانِ فتحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يكونَ مخففاً مِنْ فَعِل في القراءةِ المتقدمةِ ، وفيه توافُقُ القراءتين . والثاني : أنَّه مصدرٌ وُصِفَ به كرجلٍ عَدْلٍ . إلاَّ أنَّ هذا يُضْعِفُه الجمعُ فإنَّ الفصيحَ في المصدرِ الموصوفِ أَنْ يُوَحَّدَ ، وكأنَّ المُسَوِّغَ للجمع اختلافُ أنواعِه في الأصل . والثالث : أنه صفةٌ مستقلةٌ على فَعْل بسكونِ العينِ . ولكن أهلَ التصريفِ لم يذكروا في الصفةِ الجائيةِ مِنْ فَعِلَ بكسرِ العين ، إلاَّ أوزاناً محصورةً ليس فيها فَعْل بالسكونِ فذكروا : فَرِحَ فهو فَرِحٌ ، وحَوِرَ فهو أحورُ ، وشَبعَ فهو شبعانُ ، وسَلِمَ فهو سالمٌ ، وبَلي فهو بالٍ .
وفي معنى " نَحِسات " قولان ، أحدهما : أنها مِن الشُّؤْم . قال السدِّي : أي : مشائيم مِن النَّحْسِ المعروف . والثاني : أنها شديدةُ البردِ . وأنشدوا على المعنى الأول قولَ الشاعرِ :
3954 يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ ويوماً شَمْسا ... نَجْمَيْنِ سَعْدَيْنِ ونجماً نَحْسا
وعلى المعنى الثاني قولَ الآخرِ :
3955 كأنَّ سُلافَةً عُرِضَتْ لنَحْسٍ ... يُحِيْلُ شَفيفُها الماءَ الزُّلالا
ومنه :
3956 قد أَغْتدي قبلَ طُلوعِ الشمسِ ... للصيدِ في يومٍ قليلِ النَّحْسِ
وقيل : يُريدُ به في هذا البيت الغبارَ أي : قليلِ الغبار ، وقد قيل بذلك في الآيةِ أنها ذاتُ غُبارٍ . و " نَحِسات " نعتٌ لأيَّام ، والجمعُ بالألفِ والتاءِ مُطَّرِدٌ في صفةِ ما لا يَعْقِلُ كأيامٍ معدوداتٍ . وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة .
و " لِنُذِيْقَهُمْ " متعلِّقٌ ب " أَرْسَلْنا " . وقُرِئ " لِتُذِيقَهم " بالتاءِ مِنْ فوقُ . وفي الضمير قولان ، أحدهما : أنه الريحُ أي : لتذيقَهم الريحُ أو الأيَّامُ على سبيل المجاز . وعذاب الخِزْيِ من إضافةِ الموصوفِ لصفتِه ، ولذلك قال : { وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى } فإنه يَقْتضِي المشاركةَ وزيادةً . وإسنادُ الخِزْيِ إلى العذابِ مجازٌ لأنه سَبُبه .
(1/4609)
وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17)
قوله : { وَأَمَّا ثَمُودُ } : الجمهورُ على رَفْعِه ممنوعَ الصرفِ . والأعمشُ وابنُ وثَّاب مصروفاً ، وكذلك كلُّ ما في القرآن إلاَّ قولَه : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة } [ الإسراء : 59 ] قالوا : لأنَّ الرسم ثمود بغير ألفٍ . وقرأ ابنُ عباس وابنُ أبي إسحاق والأعمش في روايةٍ ، وعاصمٌ في رواية " ثمود " منصوباً مصروفاً . والحسن وابنُ هرمز وعاصمٌ أيضاً منصوباً غيرَ منصرفٍ . فأمَّا الصرفُ وعَدَمُه فقد تقدَّمَ توجيهُهُما في هود . وأمَّا الرفعُ فعلى الابتداء ، والجملةُ بعده الخبرُ ، وهو مُتَعَيّنٌ عند الجمهورِ؛ لأنَّ " أمَّا " لا يليها إلاَّ المبتدأُ فلا يجوزُ فيما بعدها الاشتغالُ إلاَّ في قليلٍ كهذه القراءةِ ، وإذا قَدَّرْتَ الفعلَ الناصبَ فقدِّرْه بعد الاسمِ المنصوبِ أي : وأمَّا ثمودَ هَدَيْناهم فهَدَيْناهم قالوا : لأنها لا يَليها الأفعالُ .
(1/4610)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)
قوله : { وَيَوْمَ يُحْشَرُ } : العاملُ في هذا الظرفِ فيه وجهان ، أحدُهما : محذوفٌ دَلَّ عليه ما بعدَه مِنْ قولِه : " فهم يُوْزَعُون " تقديره : يُسَاقُ الناسُ يومَ يُحْشَر . وقَدَّرَه أبو البقاء : يُمْنَعون يومَ الحَشْرِ . الثاني : أنه منصوبٌ ب اذْكُرْ أي : اذكُرْ يومَ . وقرأ نافع " نَحْشُرُ بنونِ العظمة وضمِّ الشين . " أعداءَ " نصباً أي : نَحْشُر نحن . والباقون بياءِ الغَيْبة مضمومةً ، والشينُ مفتوحةٌ على ما لم يُسَمَّ فاعلُه ، و " أعداءُ " رفعاً لقيامِه مقامَ الفاعلِ . وكَسَر الأعرجُ شين " نَحْشِر " و " حتى " غايةٌ ل " يُحْشَر " .
(1/4611)
وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22)
قوله : { أَن يَشْهَدَ } : يجوزُ فيه أوجهٌ ، أحدها : مِنْ أَنْ يَشْهدَ . الثاني : خيفةَ أن يَشْهد . الثالث : لأَجْلِ أَنْ يَشْهد ، وكلاهما بمعنى المفعول له . الرابع : عن أَنْ تَشْهَدَ أي : ما كنتم تَمْتَنِعون ، ولا يُمْكِنُكم الاختفاءُ عن أعضائِكم والاستتارُ عنها . الخامس : أنه ضُمِّن معنى الظنِّ وفيه بُعْدٌ .
(1/4612)
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
قوله : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنَّ " ظنُّكم " خبرُه ، و " الذي ظَنَنْتُمْ " نعتُه ، و " أَرْدَاكم " حالٌ و " قد " معه مقدرةٌ على رَأْيِ الجمهورِ خلافاً للأخفشِ . ومَنْعُ مكيّ الحاليةَ للخلوِّ مِنْ " قد " ممنوعٌ لِما ذكرْتُه . الثاني : أَنْ يكونَ " ظنُّكم " بدلاً والموصولُ خبرُه . و " أَرْدَاكم " حالٌ أيضاً . الثالث : أَنْ يكونَ الموصولُ خبراً ثانياً . الرابع : أَنْ يكونَ " ظَنُّكم " بدلاً أو بياناً ، والموصول هو الخبر ، و " أَرْداكم " خبرٌ ثانٍ . الخامس : أن يكون " ظَنُّكم " والموصولُ والجملةُ مِنْ " أَرْداكم " أخباراً . إلاَّ أنَّ الشيخ رَدَّ على الزمخشري قوله : " وظنُّكم وأَرْدَاكم خبران " . قال : " لأنَّ قوله : " وذلكم " إشارةٌ إلى ظَنِّهم السابقِ فيصير التقديرُ : وظَنُّكم بربكم أنه لا يعلم ظنُّكم بربكم ، فاسْتُفيد من الخبر ما اسْتُفيد من المبتدأ وهو لا يجوزُ ، وهذا نظيرُ ما منعه النحاةُ مِنْ قولك : " سَيِّدُ الجارية مالِكُها " . / وقد منع ابنُ عطية كونَ " أَرْداكم " حالاً لعدمِ وجودِ " قد " وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك .
(1/4613)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
قوله : { يَسْتَعْتِبُواْ } : العامَّةُ على فَتْحِ الياءِ وكسرِ التاءِ الثانيةِ مبنيَّاً للفاعلِ . { فَمَا هُم مِّنَ المعتبين } بفتح التاء اسمَ مفعول ، ومعناه : وإنْ طَلبوا العُتْبى وهي الرِّضا فما هم مِمَّنْ يُعْطاها . وقيل : المعنى : وإنْ طَلَبوا زوالَ ما يُعْتَبُون فيه فما هم من المُجابين إلى إزالةِ العَتَبِ .
وأصلُ العَتَبِ : المكانُ النائِي بنازِلَةٍ ، ومنه قيل لأُسْكُفَّةِ الباب والمِرْقاة : عَتَبة ، ويُعَبَّر بالعَتَبِ عن الغِلْظَة التي يَجدها الإِنسانُ في صدرِه على صاحبِه . وعَتَبْتُ فلاناً : أبرزْتُ له الغِلْظَة . وأَعْتَبْتُه : أَزَلْتُ عُتْباه كأَشْكَيْتُه . وقيل : حَمَلْتُه على العَتَب .
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد " وإن يُسْتَعْتَبوا " مبنيَّاً للمفعولِ . { فَمَا هُم مِّنَ المعتبين } اسمَ فاعلٍ بمعنى : إنْ يُطْلَبْ منهم أن يُرْضُوا فما هم فاعِلون ذلك ، لأنهم فارَقوا دارَ التكليف . وقيل معناه : إنْ يُطْلَبْ ما لا يُعْتَبُون عليه فما هم مِمَّنْ يُزيل العُتْبى . وقال أبو ذؤْيبٍ :
3957 أَمِنَ المَنُونِ ورَيْبِه تَتَوَجَّعُ ... والدهرُ ليسَ بمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
(1/4614)
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25)
قوله : { وَقَيَّضْنَا } : أصلُ التَّقْييضِ التيسيرُ والتهيئَةُ . قَيَّضْتُه له لكذا : هَيَّأْتُه ويَسَّرْتُه . وهذان ثوبان قَيْضان أي : كلٌّ منهما مكافِئٌ للآخَر في الثمن . والمقايَضَةُ : المعاوَضَةُ . وقوله : { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً } [ الزخرف : 36 ] أي : نُسَهِّلْ ليَسْتوليَ عليه استيلاءَ القَيْضِ على البَيْض . والقَيْضُ في الأصلِ : قِشْرُ البيضِ الأعلى .
قوله : " في أُمَمٍ " في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضمير في " عليهم " والمعنى : كائنين في جملةِ أمم ، وهذا كقولِه :
3958 إنْ تَكُ عَنْ أَحْسَنِ الصَّنيعةِ مَأْ ... فُوْكاً ففي آخَرين قد أَفِكُوا
أي : في جملة قومٍ آخرين . وقيل : إن " في " بمعنى مع .
(1/4615)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)
قوله : { والغوا } : العامَّةُ على فتحِ الغين . وهي تحتملُ وجهين ، أحدُهما : أَنْ يكون مِنْ لَغِي بالكسر يَلْغَى . وفيها معنيان ، أحدُهما : مِنْ لَغِيَ إذا تكلَّم باللَّغْوِ ، وهو ما لا فائدةَ فيه . والثاني : أنه مِنْ لَغِي بكذا ، أي : رَمى به فتكونُ " في " بمعنى الباء أي : ارْمُوا به وانبِذُوه . والثاني من الوجهين الأوَّلين : أَنْ تكونَ مِنْ لَغا بالفتح يَلْغَى بالفتحِ أيضاً ، حكاه الأخفش ، وكان قياسُه الضمَّ كغزا يَغْزو ، ولكنه فُتِح لأجلِ حَرْفِ الحلقِ . وقرأ قتادة وأبو حيوة وأبو السَّمَّالِ والزعفراني وابن أبي إسحاق وعيسى بضم الغين ، مِنْ لَغا بالفتحِ يَلْغُو كدَعا يَدْعُو . وفي الحديث : " فقد لَغَوْتَ " ، وهذا موافِقٌ لقراءةِ غيرِ الجمهور .
(1/4616)
ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)
قوله : { ذَلِكَ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه مبتدأٌ و " جزاءُ " خبره . والثاني : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : الأمرُ ذلك و { جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله النار } جملةٌ مستقلةٌ مبيِّنَةٌ للجملةِ قبلَها .
قوله : " النارُ " فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها بدلٌ مِنْ " جزاء " ، وفيه نظرٌ؛ إذ البدلُ يَحُلُّ مَحَلَّ المبدلِ منه ، فيصيرُ التقديرُ : ذلك النار . الثاني : أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ . الثالث : أنها مبتدأٌ ، و { لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ } الخبر . و " دارُ " يجوز ارتفاعُها بالفاعليَّة أو الابتداءِ .
وقوله : { فِيهَا دَارُ الخُلْدِ } يقتضي أَنْ تكونَ " دارُ الخلد " غيرَ النارِ ، وليس الأمرُ كذلك ، بل النارُ هي نفسُ دارِ الخُلْدِ . وأُجيب عن ذلك : بأنَّه قد يُجْعَلُ الشيءُ ظَرْفاً لنفسِه باعتبارِ متعلَّقِه على سبيل المبالغةِ ، كأنَّ ذلك المتعلَّقَ صار مستقَراً له ، وهو أبلغُ مِنْ نسبةِ المتعلَّقِ إليه على سبيلِ الإِخبارِ به عنه ، ومثلُه قولُه :
3959 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وفي اللَّهِ إنْ لم يُنْصِفُوا حَكَمٌ عَدْلُ
وقوله تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] ، والرسولُ عليه السلام هو نفسُ الأُسْوةِ . كذا أجابوا . وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهرُ - وهو معنىً صحيحٌ منقولٌ - أنَّ في النار داراً تُسَمَّى دارَ الخلدِ ، والنارُ مُحيطةٌ بها .
قوله : " جَزاءً " في نصبِه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ ، وهو مصدرٌ مؤكدٌ أي : يُجْزَوْن جزاءَ . الثاني : أَنْ يكونَ منصوباً بالمصدرِ الذي قبلَه ، وهو { جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله } ، والمصدرُ يُنْصَبُ بمثلِه كقوله/ : { فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً } [ الإسراء : 63 ] . الثالث : أَنْ يَنْتَصِبَ على أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ ، و " بما " متعلِّقٌ ب " جَزاء " الثاني ، إنْ لم يكنْ مؤكِّداً ، وبالأول إن كان ، و " بآياتِنا " متعلِّقٌ ب " يَجْحَدون " .
(1/4617)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
وتقدَّم الخلافُ في " أَرِنا " وفي نونِ " اللذَيْنِ " . قال الخليل : " إذا قلتَ : أَرِني ثوبَك بالكسرِ فمعناه بَصِّرْنِيْه ، وبالسكون أَعْطِنيه " . وقال الزمخشري : " أي : بما كانوا يَلْغَوْن " ، فذكر الجحودَ؛ لأنه سببُ اللغْوِ انتهى . يعني أنه مِنْ بابِ إقامةِ السببِ مُقامَ المُسَبَّبِ وهو مجازٌ سائغٌ .
(1/4618)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)
قوله : { ثُمَّ استقاموا } : ثم لتراخي الرتبة في الفضيلة .
قوله : { أَلاَّ تَخَافُواْ } : يجوزُ في " أَنْ " أن تكونَ المخففةَ ، أو المفسِّرةَ ، أو الناصبةَ . و " لا " ناهيةٌ على الوجهين الأوَّلين ، ونافيةٌ على الثالث . وقد تقدَّم ما في ذلك من الإِشكالِ ، والتقديرُ : بأنْ لا تَخافوا أي : بانتفاءِ الخَوْفِ . وقال أبو البقاء : " التقديرُ بأَنْ لا تَخافوا ، أو قائلين : أن لا تخافوا ، فعلى الأولِ هو حالٌ أي : نَزَلوا بقولِهم : لا تخافوا ، وعلى الثاني الحالُ محذوفةٌ " . قلت يعني أنَّ الباءَ المقدرةَ حاليةٌ ، فالحالُ غيرُ محذوفةٍ ، وعلى الثاني الحالُ هو القولُ المقدَّر . وفيه تسامحٌ ، وإلاَّ فالحالُ محذوفةٌ في الموضعَيْن ، وكما قام المقولُ مَقامَ الحالِ كذلك قام الجارُّ مَقامَها .
وقرأ عبدُ الله " لا تَخافوا " بإسقاط " أنْ " ، وذلك على إضمارِ القول أي : يقولون : لا تَخافوا .
(1/4619)
نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
قوله : { نُزُلاً } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه منصوبٌ على الحالِ من الموصولِ ، أو من عائدِه . والمراد بالنُزُلِ الرزقُ المُعَدُّ للنازِل ، كأنه قيل : ولكم فيها الذي تَدَّعُونه حال كونِه مُعَدًّا . الثاني : أنَّه حالٌ مِنْ فاعل " تَدَّعُوْن " ، أو من الضمير في " لكم " على أَنْ يكونَ " نُزُلاً " جمعَ نازِل كصابِر وصُبُر ، وشارِف وشُرُف . الثالث : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ مصدرَ نَزَل النزولُ لا النُّزُل . وقيل : هو مصدرُ أَنْزَل .
قوله : " مِنْ غَفَورٍ " يجوزُ تعلُّقه بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل " نُزُلاً " ، وأَنْ يتعلَّقَ بتَدَّعون ، أي : تَطْلبونه مِنْ جهةِ غفورٍ رحيمٍ ، وأَنْ يتعلَّقَ بما تعلَّقَ الظرفُ في " لكم " من الاستقرارِ أي : استقرَّ لكم مِنْ جهةِ غفورٍ رحيم . قال أبو البقاء : " فيكونُ حالاً مِنْ " ما " . قلت : وهذا البناءُ منه ليس بواضحٍ ، بل هو متعلِّقٌ بالاستقرارِ فَضْلةً كسائرِ الفضلاتِ ، وليس حالاً مِنْ " ما " .
(1/4620)
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)
قوله : { وَقَالَ إِنَّنِي } : العامَّةُ على " إنني " بنونين ، وابن أبي عبلةَ وابنُ نوح بنونٍ واحدةٍ .
(1/4621)
وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
قوله : { وَلاَ السيئة } : في " لا " هذه وجهان ، أحدهما ، أنها زائدةٌ للتوكيدِ ، كقوله : { وَلاَ الظل وَلاَ الحرور } [ فاطر : 21 ] وكقوله : { وَلاَ المسياء } [ غافر : 58 ] ؛ لأنَّ " استوى " لا يكتفي بواحدٍ . والثاني : أنها مؤسِّسَةٌ غيرُ مؤكِّدةٍ ، إذ المرادُ بالحسنةِ والسَّيئةِ الجنسُ أي : لا تَسْتوي الحسناتُ في أنفسِها ، فإنها متفاوتةٌ ولا تستوي السيئاتُ أيضاً فرُبَّ واحدةٍ أعظمُ مِنْ أخرى ، وهو مأخوذٌ من كلامِ الزمخشري . وقال الشيخُ : " فإنْ أَخَذْتَ الحسنةَ والسيئةَ جنساً لم تكنْ زيادتُها كزيادتِها في الوجهِ الذي قبلَ هذا " . قلت : فقد جَعَلها في المعنى الثاني زائدةً . وفيه نظرٌ لِما تَقَدَّم .
قوله : " كأنَّه وليٌّ " في هذه الجملةِ التشبيهيةِ وجهان ، أحدُهما : أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحال ، والموصولُ مبتدأٌ ، و " إذا " التي للمفاجأةِ خبرُه . والعاملُ في هذا الظرفِ من الاستقرارِ هو العاملُ في هذه الحالِ ، ومَحَطُّ الفائدةِ في هذا الكلامِ هي الحالُ ، والتقدير : فبالحضرة المُعادي مُشْبِهاً القريبَ الشَّفوقَ . والثاني : أن الموصولَ مبتدأٌ أيضاً ، والجملةُ بعده خبرُه ، و " إذا " معمولةٌ لمعنى التشبيه ، والظرفُ يتقدَّمُ على عامِله المعنويِّ . هذا إن قيل : إنها ظرفٌ ، وإن قيل : إنها حرف فلا عاملَ .
(1/4622)
وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)
قوله : { وَمَا يُلَقَّاهَا } : العامَّةُ على " يُلَقَّاها " من التَلْقِيَةِ . وابنُ كثيرٍ في روايةٍ وطلحة بن مصرف " يُلاقاها " مِن الملاقاةِ والضميرُ للخَصْلَة ، أو الكلمةِ أو الجنةِ أو لشهادةِ التوحيدِ .
(1/4623)
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37)
قوله : { خَلَقَهُنَّ } : في هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : / أنه يعودُ على الأربعةِ المتعاطفةِ . وفي مجيءِ الضميرِ كضميرِ الإِناثِ - كما قال الزمخشري - هو أنَّ جَمْعَ ما لا يَعْقِلُ حكمُه حكمُ الأنثى أو الإِناث نحو : " الأقلامُ بَرَيْتُها وبَرَيْتُهنَّ " . وناقشه الشيخ من حيث إنه لم يُفَرِّقْ بين جمعِ القلةِ والكثرةِ في ذلك؛ لأنَّ الأفصحَ في جمعِ القلةِ أَنْ يُعامَلَ معاملةَ الإِناثِ ، وفي جمع الكثرةِ أَنْ يُعامَلَ معاملةَ الأنثى فالأفْصحُ أَنْ يُقال : الأجذاعُ كَسَرْتُهُنَّ ، والجذوعُ كَسَرْتُها . والذي تقدَّمَ في هذه الآيةِ ليس بجمعِ قلةٍ أعني بلفظٍ واحدٍ ، ولكنه ذكر أربعةً متعاطفةً فتنزَّلَتْ منزلَة الجمعِ المعبَّرِ به عنها بلفظٍ واحد . قلت : والزمخشري ليس في مقام بيانِ الفصيح والأفصح ، بل في مقامِ كيفيةِ مجيء الضميرِ ضميرَ إناث بعد تقدُّم ثلاثةِ أشياءَ مذكَّراتٍ وواحدٍ مؤنثٍ ، فالقاعدةُ تغليبُ المذكرِ على المؤنثِ ، أو لمَّا قال : " ومِنْ آياته " كُنَّ في معنى الآياتِ فقيل : خلقهنَّ ، ذكره الزمخشريُّ أيضاً أنه يعود على لفظ الآياتِ . الثالث : أنه يعودُ على الشمس والقمر؛ لأنَّ الاثنين جمعٌ ، والجمعُ مؤنثٌ ، ولقولهم : شموس وأقمار .
(1/4624)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41)
قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } : في خبرها ستةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه مذكورٌ وهو قولُه : " أولئك ينادَوْن " . وقد سُئِل بلال بن أبي بردة عن ذلك في مَحْكِيَّتِه فقال : لا أجدُ لها نفاذاً . فقال له أبو عمرو بن العلاء : إنَّه منك لقَريبٌ ، أولئك ينادَوْن . وقد اسْتُبْعِدَ هذا من وجهَيْن ، أحدُهما : كثرةُ الفواصلِ . والثاني : تقدُّمُ مَنْ تَصِحُّ الإِشارةُ إليه بقوله : " أولئك " ، وهو قولُه : { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ } ، واسمُ الإِشارةِ يعودُ على أقربِ مذكورٍ .
والثاني : أنه محذوفٌ لفَهْمِ المعنى وقُدِّر : مُعَذَّبون ، أو مُهْلَكون ، أو معانِدون . وقال الكسائي : " سَدَّ مَسَدَّه ما تقدَّم من الكلامِ قبلَ " إنَّ " وهو قولُه : { أَفَمَن يلقى فِي النار } . قلت : يعني في الدلالةِ عليه والتقديرُ : يُخَلَّدون في النارِ . وسأل عيسى بن عمر عمرَو بن عبيدٍ عن ذلك فقال : معناه في التفسير : إنَّ الذين كفروا بالذكْرِ لَمَّا جاءهم كفروا به . فقدَّر الخبرَ مِنْ جنسِ الصلةِ . وفيه نظرٌ؛ من حيث اتحادُ الخبرِ والمخبرِ عنه في المعنى من غيرِ زيادةِ فائدةٍ نحو : " سيدُ الجاريةِ مالكُها " .
الثالث : أنَّ " الذين " الثانيةَ بدلٌ مِنْ " إنَّ الذين " الأولى ، والمحكومُ به على البدلِ محكومٌ به على المبدلِ منه فيلزَمُ أَنْ يكونَ الخبرُ { لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ } . وهو منتزَعٌ من كلامِ الزمخشري .
الرابع : أنَّ الخبرَ قولُه : { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل } والعائدُ محذوفٌ تقديره : لا يأتيه الباطلُ منهم نحو : السَّمْنُ مَنَوان بدرهم أي : مَنَوان منه . أو تكون أل عوضاً من الضمير في رأيِ الكوفيين تقديرُه : إنَّ الذين كفروا بالذِّكر لا يأتيه باطلُهم .
الخامسُ : أنَّ الخبرَ قولُه : { مَّا يُقَالُ لَكَ } ، والعائدُ محذوفٌ أيضاً تقديرُه : إنَّ الذين كفروا بالذكرِ ما يُقال لك في شَأنِهم إلاَّ ما قد قيل للرسلِ مِنْ قبلِك . وهذان الوجهان ذهب إليهما الشيخُ .
السادس : ذهب إليه بعضُ الكوفيين أنه قولُه : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } وهذا غيرُ متعقَّلٍ .
والجملةُ مِنْ قوله : " وإنَّه لكتابٌ " حاليةٌ ، و { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل } صفةٌ ل " كتاب " . و " تنزيلٌ " خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أو صفةٌ ل " كتابٌ " على أنَّ " لا يأتيه " معترِضٌ أو صفةٌ كما تقدَّم على رأي مَنْ يجوِّزُ تقديمَ غيرِ الصريح من الصفاتِ على الصريح . وتقدَّم تحقيقُه في المائدة . و " مِنْ حكيمٍ " صفةٌ ل " تَنْزيلٌ " أو متعلقٌ به . و " الباطلُ " اسمُ فاعلٍ . وقيل : مصدرٌ كالعافية والعاقبة .
(1/4625)
مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
قوله : { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ } : قيل : هو مُفَسِّر للمقولِ كأنه قيل : قيل للرسل : إنَّ ربَّك لَذو/ . وقيل : هو مستأنفٌ .
(1/4626)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)
قوله : { ءَاعْجَمِيٌّ } : قرأ الأخوان وأبو بكر بتحقيقِ الهمزة ، وهشام بإسقاطِ الأولى . والباقون بتسهيلِ الثانية بينَ بينَ . وأمَّا المدُّ فقد عُرِف حكمُه مِنْ قولِه : " أأنذَرْتَهم " في أولِ هذا الموضوع . فمَنْ استفَهْم قال : معناه أكتابٌ أَعجميٌّ ورسولٌ عربيٌّ . وقيل : ومُرْسَلٌ إليه عَربيٌّ . وقيل : معناه أَبَعْضُهُ أعجميٌّ وبعضُه عربيٌّ . ومَنْ لم يُثْبِتْ همزةَ استفهامٍ فيُحتمل أنه حَذَفها لفظاً وأرادها معنًى . وفيه توافُقُ القراءتين . إلاَّ أنَّ ذلك لا يجوز عند الجمهور ، إلاَّ إنْ كان في الكلام " أم " نحو :
3960 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أم بثمان
فإنْ لم تكنْ " أم " لم يَجُزْ إلاَّ عند الأخفش . وتقدَّم ما فيه ، ويحتمل أَنْ يكونَ جعله خبراً مَحْضاً ويكونُ معناه : هَلاَّ فُصِّلَتْ آياتُه فكان بعضُها أعجمياً تفهمُه العجمُ ، وبعضُها عربياً يفهمُه العربُ .
والأعجميُّ مَنْ لا يُفْصِحُ ، وإن كان مِنَ العرب ، وهو منسوبٌ إلى صفته كأحمرِيّ ودَوَّاريّ ، فالياءُ فيه للمبالغةِ في الوصفِ وليس النسبُ منه حقيقياً . وقال الرازيُّ في لوامحه : " فهو كياء كُرْسِيّ وبُخْتِيّ " . وفَرَّق الشيخُ بينهما فقال : " وليسَتْ كياءِ كُرْسِيّ فإن كرسيّ وبُخْتيّ بُنِيَتِ الكلمةُ عليها بخلافِ ياء " أعجميّ " فإنهم يقولون : رجل أَعْجم وأعْجميّ " .
وقرأ عمرو بن ميمون " أَعَجَمِيٌّ " بفتح العين وهو منسوبٌ إلى العجم ، والياءُ فيه للنسَبِ حقيقةً يُقال : رجل أعجميٌّ وإنْ كان فصيحاً . وقد تقدَّم الكلامُ في الفرقِ بينهما في سورةِ الشعراء .
وفي رفع " أَعْجميّ " ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مبتدأٌ ، والخبرُ محذوف تقديرُه ، أعجميٌّ وعربيٌّ يَسْتويان . والثاني : أنه خبرُ مبتدأ محذوف أي : هو ، أي : القرآن أعجميٌّ والمرسلُ به عربيٌّ . والثالث : أنه فاعلُ فعلٍ مضمرٍ أي : أيَسْتوي أعجميٌّ وعربيٌّ . وهذا ضعيفٌ؛ إذ لا يُحذف الفعلُ إلاَّ في مواضعَ بَيَّنْتُها غيرَ مرةٍ .
قوله : { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ يكونَ مبتدأً ، و " في آذانِهم " خبرُه و " وَقْرٌ " فاعلٌ ، أو " في آذانهم " خبرٌ مقدم " ووقرٌ " مبتدأٌ مؤخر ، والجملةُ خبرُ الأول . الثاني : أنَّ وَقْراً خبرُ مبتدأ مضمرٍ . والجملةُ خبرُ الأولِ والتقديرُ : والذين لا يُؤْمنون هو وَقْرٌ في آذانهم لَمَّا أَخْبر عنه بأنه هدىً لأولئك ، أخبر عنه أنه وَقْرٌ في آذان هؤلاءِ وَعَمَىً عليهم . قال معناه الزمخشري . ولا حاجةَ إلى الإِضمار مع تمام الكلامِ بدونه . الثالث : أن يكونَ { الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } عطفاً على " الذين آمنوا " ، و " وَقْرٌ " عطفٌ على " هدىً " وهذا من بابِ العطفِ على معمولَيْ عامِلَيْنِ . وفيه مذاهبُ تقدَّم تحريرُها .
قوله : " عَمَىً " العامَّةُ على فتحِ الميم المنونةِ وهو مصدرٌ ل عَمِي يَعْمَى نحو : صَدِي يَصْدَى صَدَىً ، وهَوِي يَهْوَى هَوَىً .
(1/4627)
وقرأ ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وجماعة " عَمٍ " بكسرِها منونةً اسماً منقوصاً وُصِفَ بذلك مجازاً . وقرأ عمرو بن دينار ورُوِيت عن ابن عباس " عَمِيَ " بكسر الميم وفتح الياء فعلاً ماضياً . وفي الضمير وجهان أظهرُهما : أنه للقرآن . والثاني : أنه للوَقْر والمعنى يأباه ، و " في آذانهم " - إنْ لم تجعَلْه خبراً - متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ منه؛ لأنه صفةٌ في الأصلِ ولا يتعلَّق به ، لأنَّه مصدرٌ ، فلا يتقدَّم معمولُه عليه وقوله : { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } كذلك في قراءة العامَّةِ ، وأمَّا في القراءتين المتقدمتين فتتعلَّق " على " بما بعده؛ إذ ليس بمصدرٍ .
(1/4628)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)
قوله : { فَلِنَفْسِهِ } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بفعلٍ مقدر أي : فلنفسِه عملُه ، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : فالعملُ الصالحُ لنفسِه . وقوله " فعليها " مثلُه . /
(1/4629)
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47)
قوله : { وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ } : " ما " هذه يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً وهو الظاهرُ ، وأَنْ تكونَ موصولةً ، جَوَّز ذلك أبو البقاء ، ولم يُبَيِّنْ وجهَه . وبيانُه أنها تكونُ مجرورةَ المحلِّ عطفاً على الساعة أي : عِلْمُ الساعةِ وعِلْمُ التي تخرج ، و " مِنْ ثمرات " على هذا حالٌ ، أو تكون " مِنْ " للبيان . و " مِنْ " الثانية لابتداء الغاية . وأما " ما " الثانيةُ فنافيةٌ فقط . قال أبو البقاء : " لأنَّه عَطَفَ عليها " ولا تَضَعُ " ، ثم نقض النفيَ ب " إلاَّ " ، ولو كانَتْ بمعنى الذي معطوفةً على " الساعة " لم يَجُز ذلك " .
وقرأ نافع وابن عامر " ثمرات " ويُقَوِّيه أنها رُسِمَتْ بالتاءِ الممطوطة . والباقون " ثمرة " بالإِفرادِ والمرادُ بها الجنسُ . فإنْ كانَتْ " ما " نافيةً كانَتْ " مِنْ " مزيدةً في الفاعلِ ، وإنْ كانَتْ موصولةً كانت للبيانِ كما تقدَّم .
والأَكْمام : جمع كِمّ بكسرِ الكاف ، كذا ضبطه الزمخشري ، وهو ما يُغَطِّي الثمرةَ كجُفِّ الطَّلْعِ . وقال الراغب : " الكمُّ ما يُغَطِّي اليدَ من القميصِ ، وما يغطي الثمرة ، وجمعُه أكْمام فهذا يدلُّ على أنه مضموم الكاف ، إذ جعله مشتركاً بين كُمِّ القيمصِ وكمِّ الثمرةِ . ولا خلافَ في كُمِّ القميصِ أنه بالضم ، فيجوزُ أَنْ يكونَ في وعاءِ الثمرةِ لغتان ، دون كُمِّ القميصِ ، جمعاً بين قولَيْهما . وأمَّا أَكِمَّة فواحدُه كِمام كأَزِمَّة وزِمام . وفتح ابن كثير ياءَ " شُركائيَ " .
قوله : { مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } هذه الجملةُ المنفيةُ معلِّقَةٌ ل " آذنَّاك " لأنها بمعنى أَعْلَمْناك قال :
3961 آذَنَتْنا ببَيْنِها أسماءُ ... رُبَّ ثاوٍ يَمَلُّ منه الثَّواءُ
وتقدَّم لنا خلافٌ في تعليقِ أعلم . . . ، والصحيحُ وقوعُه سماعاً من العربِ . وجَوَّز أبو حاتمٍ أَنْ يوقف على " آذنَّاك " وعلى " ظنُّوا " ويُبتدأَ بالنفي بعدَهما على سبيلِ الاستئناف . و " مِنَّا " خبرٌ مقدمٌ . و " مِنْ شهيد " مبتدأٌ . ويجوزُ أَنْ يكونَ " مِنْ شهيد " فاعلاً بالجارِّ قبلَه لاعتمادِه على النفي .
(1/4630)
وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
قوله : { مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } : كقوله : { مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } من غيرِ فرقٍ .
(1/4631)
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49)
قوله : { مِن دُعَآءِ الخير } : مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه ، وفاعلُه محذوفٌ أي هو . وقرأ عبد الله " مِن دُعَآءِ بالخير " .
(1/4632)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50)
قوله : { لَيَقُولَنَّ هذا لِي } : جوابُ القسمِ لسَبْقِهِ الشرطَ ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ ، كما عُرِف تقريرُه . وقال أبو البقاء : " ليقولَنَّ " جوابُ الشرطِ ، والفاءُ محذوفةٌ " . قلت : وهذا لا يجوزُ إلاَّ في شعرٍ كقولِه :
3962 مَنْ يَفْعلِ الحسناتِ اللَّهُ يَشْكُرُها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
حتى إنَّ المبردَ يمنعُه في الشعر . ويَرْوي البيت : " فالرحمن يشكرُه " .
(1/4633)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52)
قوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ } : قد تقدَّم الكلامُ عليها مراراً . ومفعولُها الأولُ هنا محذوفٌ تقديرُه : أرأيتم أنفسَكم ، والثاني : هو الجملةُ الاستفهامية .
والآفاق جمع أُفُق وهو الناحيةُ . قال الشاعر :
3963 لو نالَ حيٌّ مِن الدنيا بمنزلةٍ ... أفْقَ السماءِ لنالَتْ كفُّه الأُفُقا
وهو كأَعْناق في عُنُق ، أُبْدِلَتْ همزتُه ألفاً . ونقل الراغب أنه يقال : أَفَق بفتحِ الهمزةِ والفاءِ ، فيكون ك جَبَل وأَجْبال . وآفَقَ فلانٌ أي : ذهب في الآفاقِ . والآفِقُ : الذي بلغ نهايةَ الكرم تشبيهاً في ذلك بالذاهبِ في الآفاقِ . والنسَبُ إلى الأُفُقِ أَفَقيٌّ بفتحهما قلت : ويُحتمل أنه نسبه إلى المفتوح واسْتَغنوا بذلك عن النسبة إلى المضمومِ . وله نظائر .
(1/4634)
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53)
قوله : { أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ } فيه وجهان ، أحدهما : أن الباءَ مزيدةٌ في الفاعلِ ، وهذا هو الراجحُ . والمفعولُ محذوفٌ أي : أو لم يَكْفِكَ ربُّكَ . وفي قوله : { أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } وجهان ، أحدهما : أنه بدلٌ مِنْ " بربك " فيكون مرفوعَ المحلِّ مجرورَ اللفظِ كمتبوعِه . والثاني : أنَّ الأصلَ بأنَّه ، ثم حَذَفَ الجارَّ فجرى الخلافُ . الثاني من الوجهين الأولين : أَنْ يكون " بربك " هو المفعولَ ، وأنه وما بعده هو الفاعلُ أي : أو لم يكْفِ ربُّك شهادتَه . وقُرئ { أَنَّهُ على كُلِّ } بالكسر ، وهو على إضمارِ القولِ ، أو على الاستئناف .
(1/4635)
أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
وقرأ أبو عبد الرحمن والحسن " في مُرْيَة " بضم الميم ، وقد تقدم أنَّها لغةٌ في المكسورةِ الميم . والله أعلم .
(1/4636)
كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { كَذَلِكَ يوحي } : القُراء على " يُوْحي " بالياء مِنْ أسفلَ مبنياً للفاعلِ ، وهو اللَّهُ تعالى . " والعزيزُ الحكيمُ " نعتان . والكافُ منصوبةُ المحلِّ : إمَّا نعتاً لمصدرٍ ، أو حالاً مِنْ ضميرِه أي : يوحي إيحاءً مثلَ ذلك الإِيحاءِ . وقرأ ابنُ كثير - وتُروى عن أبي عمروٍ - " يُوْحَى " بفتحِ الحاءِ مبنياً للمفعول . وفي القائمِ مَقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : ضميرٌ مستترٌ يعود على " كذلك " لأنه مبتدأٌ ، والتقدير : مثلُ ذلك الإِيحاءِ يُوْحَى هو إليك . فمثلُ ذلك مبتدأٌ ، ويُوْحى هو إليك خبرُه . الثاني : أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ " إليك " ، والكافُ منصوبُ المحلِّ على الوجهَيْن المتقدِّمَيْن . الثالث : أنَّ القائمَ [ مَقامَه ] الجملةُ مِنْ قولِه : " اللَّهُ العزيزُ " أي : يُوْحَى إليك هذا اللفظُ . وأصولُ البَصْريين لا تساعِدُ عليه؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ فاعلةً ولا قائمةً مقامَه .
وقرأ أبو حيوةَ والأعمشُ وأبانٌ " نُوْحي " بالنون ، وهي موافقةٌ للعامَّةِ . ويُحتمل أَنْ تكونَ الجملةُ مِنْ قولِه : " اللَّهُ العزيزُ " منصوبةَ المحلِّ مفعولةً ب " نُوْحي " أي : نُوحي إليك هذا اللفظَ . إلاَّ أنَّ فيه حكايةَ الجملِ بغيرِ القولِ الصريحِ . و " نُوْحي " على اختلافِ قراءاتِه يجوزُ أَنْ يكونَ على بابه من الحالِ أو الاستقبالِ ، فيتعلَّقَ قولُه : { وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ } بمحذوفٍ لتعذُّرِ ذلك ، تقديرُه : وأوحَى إلى الذين ، وأَنْ يكونَ بمعنى الماضي . وجيْءَ به على صورةِ المضارعِ لغَرَضٍ وهو تصويرُ الحالِ .
قوله : " اللَّهُ العزيزُ " يجوزُ أَنْ يرتَفِعَ بالفاعليةِ في قراءةِ العامَّةِ ، وأَنْ يرتفعَ بفعلٍ مضمرٍ في قراءةِ ابنِ كثير ، كأنه قيل : مَنْ يُوْحيه؟ فقيل : اللَّه ، ك { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال } [ النور : 36 ] ، وقوله :
3964 لِيُبْكَ يزيدُ ضارِعٌ . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد مرَّ ، وأَنْ يرتفعَ بالابتداءِ ، وما بعدَه خبرُه ، والجملةُ قائمةٌ مَقامَ الفاعلِ على ما مَرَّ ، وأَنْ يكون " العزيزُ الحكيمُ " خبَريْن أو نعتَيْن . والجملةُ مِنْ قولِه : { لَهُ مَا فِي السماوات } خبرٌ أولُ أو ثانٍ على حَسَبِ ما تقدَّم في " العزيزُ الحكيمُ " .
وجوَّز أبو البقاءِ أَنْ يكونَ " العزيز " مبتدأً و " الحكيمُ " خبرَه ، أو نعتَه ، و { لَهُ مَا فِي السماوات } خبرَه . وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهرُ تَبَعيَّتُهما للجلالة . وأنت إذا قلتَ : " جاء زيدٌ العاقلُ الفاضلُ " لا تجعلُ العاقل مرفوعاً على الابتداء .
(1/4637)
تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)
قوله : { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ } : قد مَرَّ في مريم الخلافُ والكلامُ فيه مُشْبَعاً . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ زاد هنا : " وروِيَ عن يونسَ عن أبي عمروٍ قراءةٌ غريبةٌ " تَتَفَطَّرْنَ " بتاءَيْن مع النونِ ، ونظيرُهما حرفٌ نادرٌ رُوي في نوادر ابنِ الأعرابي : " الإِبلُ تَتَشَمَّمْن " . قال الشيخ : " والظاهرُ أنَّ هذا وهمٌ منه؛ لأنَّ ابن خالويه قال في " شاذِّ القراءاتِ " ما نَصُّه : " تَنْفَطِرْنَ " بالتاء والنون ، يونس عن أبي عمروٍ " قال ابنُ خالَوَيْه : " وهذا حرفٌ نادرٌ لأنَّ العربَ لا تجمعُ بين علامَتَيْ التأنيثِ . لا يقال : النساءُ تَقُمْنَ ، ولكن يَقُمْنَ ، { والوالدات يُرْضِعْنَ } [ البقرة : 233 ] ولا يقال : تُرْضَعْنَ . وقد كان أبو عُمَرَ الزاهدُ رَوَى في نوادرِ ابن الأعرابي : " الإِبلُ تَتشمَّمْن " فأنكَرْنَاه ، فقد قَوَّاه الآن هذا " . قال الشيخ : " فإنْ كانَتْ نُسَخُ الزمخشريِّ متفقةً على قولِه : " بتاءَيْن مع النون " فهو وهمٌ ، وإنْ كان في بعضها " بتاءٍ مع النونِ " كان موافقاً لقولِ ابن خالَوَيْهِ ، وكان " بتاءَيْن " تحريفاً من النَّساخ . وكذلك كَتْبُهُم " تَتَفَطَّرْن " و " تَتَشَمَّمْنَ " بتاءَيْن " انتهى .
قلت : كيف يَسْتقيم أَنْ يكونَ كتْبُهم تَتَشَمَّمْن بتاءَيْن وهماً؟ وذلك لأنَّ ابنَ خالَوَيْهِ أورَدَه في مَعْرِضِ النُّدْرَةِ والإِنكارِ ، حتى تَقَوَّى عنده بهذه القراءةِ ، وإنما يكون نادراً مُنْكَراً بتاءَيْن فإنه حينئذٍ يكونُ مضارِعاً مُسْنَداً لضمير الإِبلِ ، فكان مِنْ حَقِّه أَنْ يكونَ حرفُ مضارَعَتِه ياءً منقوطةً مِنْ أسفلَ نحو : " النساءُ يَقُمْنَ " فكان يَنْبغي أَنْ يقال : الإِبلُ يَتَشَمَّمْنَ بالياء مِنْ تحتُ ثم بالتاءِ مِنْ فوقُ ، فلمَّا جاء بتاءَيْن كلاهما مِنْ فوقُ ظهرَ ندورُه وإنكارُه . ولو كان على ما قال الشيخُ : إنَّ كَتْبَهم بتاءَيْن وهمٌ ، بل كان ينبغي كَتْبُه بتاءٍ واحدةٍ لَما كان فيه شذوذٌ/ ولا إنكارٌ؛ لأنه نظيرُ " النسوةُ قد خَرَجْنَ " فإنَّه ماضٍ مسندٌ لضميرِ الإِناثِ ، وكذا لو كُتِب بياءٍ مِنْ تحتُ وتاءٍ مِنْ فوقُ لم يكنْ فيه شذوذٌ ولا إنكارٌ ، وإنما يجيْءُ الشذوذُ والإِنكارُ إذا كان بتاءَيْنِ منقوطتَيْن مِنْ فوقُ ، ثم إنَّه سواءٌ قُرِئَ " تَتَفَطَّرْنَ " بتاءَيْن أو بتاءٍ ونونٍ فإنه نادرٌ كما ذَكَرَ ابنُ خالوَيْه ، وهذه القراءةُ لم يُقْرَأ بها في نظيرتِها في سورةِ مريم .
قوله : " مِنْ فَوْقِهِنَّ " في هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه عائدٌ على السماوات أي : يَبْتَدِئُ انفطارُهُنَّ مِنْ هذه الجهةِ ف " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ متعلقةً بما قبلَها . الثاني : أنه [ عائد ] على الأرضين لتقدُّم ذِكْرِ الأرضِ قبلَ ذلك . الثالث : أنه يعودُ على فِرَقِ الكفَّارِ والجماعاتِ المُلْحِدين ، قاله الأخفش الصغير ، وأنكره مكي ، وقال : " لا يجوزُ ذلك في الذكور مِنْ بني آدم " . وهذا لا يُلْزِمُ الأخفشَ فإنَّه قال : على الفِرَقِ والجماعات ، فراعى ذلك المعنى .
(1/4638)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)
قوله : { قُرْآناً عَرَبِيّاً } : فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه مفعولُ " أَوْحَيْنا " ، والكافُ للمصدرِ نعتاً أو حالاً . والثاني : أنَّه حالٌ من الكافِ ، والكافُ هي المفعولُ ل " أَوْحَيْنا " أي : أَوْحَيْنا مثلَ ذلك الإِيحاءِ ، وهو قرآنٌ عربيٌّ . وإليه نحا الزمخشريُّ ، وكونُ الكافِ اسماً في النَّثْر مذهبُ الأخفش .
قوله : " ومَنْ حَوْلها " عطفٌ على " أهل " المقدرِ قبل " أمَّ القرى " أي : لِتُنْذِرَ أهلَ أمِّ القرى ومَنْ حَوْلَها . والمفعولُ الثاني محذوفٌ أي : العذابَ . وقُرِئَ " لِيُنْذِرَ " بالياءِ مِنْ تحتُ أي : القرآن . وقولُه : { وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع } هو المفعولُ الثاني . والأولُ محذوفٌ أي : وتُنْذِرَ الناسَ عذابَ يومِ الجمع ، فحذفَ المفعولَ الأولَ من الإِنذار الثاني ، كما حَذَفَ المفعولَ الثاني مِنْ الإِنذار الأولِ .
قوله : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } إخبارٌ فهو مستأنَفٌ . ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ " يومَ الجمع " ، وجعلَه الزمخشريُّ اعتراضاً وهو غيرُ ظاهرٍ صناعةً؛ إذ لم يَقَعْ بين متلازِمَيْنِ .
قوله : " فَرِيقٌ " العامَّةُ على رَفْعِه بأحدِ وجهَيْنِ : إمَّا الابتداءِ ، وخبرُه الجارُّ بعدَه . وساغ هذا في النكرةِ لأنَّه مَقامُ تفصيلٍ كقولِه :
3965 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فثوبٌ لَبِسْتُ وثَوْبٌ أَجُرّْ
ويجوزُ أَنْ يكونَ الخبرُ مقدراً ، تقديرُه : منهم فريقٌ . وساغ الابتداءُ بالنكرةِ لشيْئَيْنِ : تقديمِ خبرِها جارًّا ومجروراً ، ووَصْفِها بالجارِّ بعدَها . والثاني : أنه خبرُ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هم ، أي : المجموعون دَلَّ على ذلك قولُه : " يومَ الجَمْعِ " .
وقرأ زيدُ بن علي " فريقاً ، وفريقاً " نصباً على الحال مِنْ جملةٍ محذوفةٍ أي : افترقوا أي : المجموعون . وقال مكي : " وأجاز الكسائيُّ والفراءُ النصبَ في الكلام في " فريقاً " على معنى : تُنْذِرُ فريقاً في الجنة وفريقاً في السَّعير يومَ الجمع " . قلت : قد تقدَّم أنَّ زيدَ بن علي قرأ بذلك ، فكأنَّه لم يَطَّلِعْ على أنها قراءةٌ؛ بل ظاهرُ نَقْلِه عن هذَيْن الإِمامَيْن أنهما لَم يَطَّلعا عليها ، وجَعَل " فريقاً " مفعولاً أولَ ل " تُنْذِرَ " و " يومَ الجَمْعِ " مفعولاً ثانياً . وفي ظاهرِه إشكالٌ : وهو أنَّ الإِنذارَ لا يقعُ للفريقَيْنِ ، وهما في الجنة ، وفي السَّعير ، إنَّما يكونُ الإِنذارُ قبل استقرارِهما فيهما . ويمكنُ أَنْ يُجابَ عنه : بأنَّ المرادَ مَنْ هو مِنْ أهلِ الجنة ومِنْ أهلِ السَّعير ، وإنْ لم يكنْ حاصلاً فيهما وقتَ الإِنذارِ ، و " في الجنة " صفةٌ ل " فَريقاً " أو متعلِّقٌ بذلك المحذوفِ .
(1/4639)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
قوله : { أَمِ اتخذوا } : هذه " أم " المنقطعةُ تتقَدَّر ب بل التي للانتقالِ وبهمزةِ الإِنكارِ ، أو بالهمزةِ فقط ، أو ب بل فقط .
قوله : { فالله هُوَ الولي } . الفاءُ عاطفةٌ ما بعدَها على ما قبلَها . وجعلها الزمخشريُّ جوابَ شرطٍ مقدرٍ . كأنَّه قيل : إنْ أرادوا أولياءَ بحقٍ فاللَّهُ هو الوليُّ .
(1/4640)
فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)
قوله : { فَاطِرُ } : العامَّةُ على رفعِه خبراً ل " ذلكم " أو نعتاً ل " ربِّي " على تَمَحُّضِ إضافتِه . و " عليه توكَّلْتُ " معترضٌ على هذا ، أو مبتدأ ، وخبرُه " جَعَلَ لكم " أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هو . وزيد بن علي : " فاطرِ " بالجرِّ نعتاً للجلالةِ في قوله : " إلى اللَّهِ " ، وما بينهما اعتراضٌ أو بدلاً مِن الهاء في " عليه " أو " إليه " .
وقال مكيٌّ : " وأجاز الكسائيُّ النصبَ على النداء " . وقال غيرُه : على المدح . ويجوزُ في الكلامِ الخفضُ على البدلِ من الهاءِ في " عليه " . قلت : قد قرأ بالخفضِ زيدُ بن علي . وأمَّا نصبُه فلم أحفَظْه قراءةً .
قوله : " يَذْرَؤُكُمْ فيه " يجوزُ أَنْ تكونَ " في " على بابِها . والمعنى : يُكَثِّرُكُمْ في هذا التدبير ، وهو أنْ جَعَلَ للناسِ والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذُكورِهم وإناثِهم التوالُدُ . والضميرُ في " يَذرَؤُكم " للمخاطبين والأنعامِ . وغَلَّب العُقلاءَ على غيرِهم الغُيَّبِ . قال الزمخشري : " وهي/ من الأحكامِ ذاتِ العلَّتَيْن " . قال الشيخ : " وهو اصطلاحٌ غريبٌ ، ويعني : أنَّ الخطابَ يُغَلَّبُ على الغَيْبة إذا اجتمعا " . ثم قال الزمخشريُّ : " فإنْ قلت : ما معنى يَذْرَؤُكم في هذا التدبيرِ؟ وهلا قيل يَذْرَؤُكم به . قلت : جُعِل هذا التدبيرُ كالمَنْبَع والمَعدِنِ للبَثِّ والتكثيرِ . ألا تَراك تقول : للحَيَوان في خلق الأزواج تكثير ، كما قال تعالى : { وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ } [ البقرة : 179 ] . والثاني : أنها للسببية كالباء أي : يُكَثِّرُكم بسبِبه . والضميرُ يعودُ للجَعْلِ أو للمخلوقِ " .
قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } في هذه الآيةِ أوجهٌ ، أحدُها - وهو المشهورُ عند المُعْرِبين - أنَّ الكافَ زائدةٌ في خبرِ ليس ، و " شيءٌ " اسمُها . والتقدير : ليس شيءٌ مثلَه . قالوا : ولولا ادِّعاءُ زيادتِها لَلَزِمَ أَنْ يكونَ له مِثْلٌ . وهو مُحالٌ؛ إذ يَصيرُ التقديرُ على أصالةِ الكاف : ليس مثلَ مثلِه شيءٌ ، فنفى المماثلةَ عن مثلِه ، فثبَتَ أنَّ له مثْلاً ، لا مثلَ لذلك المَثَلِ ، وهذا مُحالٌ تَعالى اللَّه عن ذلك .
وقال أبو البقاء : " ولو لم تكنْ زائدةً لأَفْضَى ذلك إلى المُحال؛ إذ كان يكونُ المعنى : أنَّ له مِثْلاً وليس لمثلِه مِثْلٌ . وفي ذلك تناقضٌ؛ لأنَّه إذا كان له مِثْلٌ فلِمِثْله مِثْلٌ وهو هو ، مع أنَّ إثباتَ المِثْلِ لله تعالى مُحالٌ " . قلت : وهذه طريقةٌ غريبةٌ في تقريرِ الزيادةِ ، وهي طريقةٌ حسنةٌ فيها حُسْنُ صناعةٍ .
والثاني : أنَّ مِثْلاً هي الزائدةُ كزيادتِها في قوله تعالى : { بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ } [ البقرة : 137 ] . قال الطبري : " كما زِيْدَتِ الكافُ في قوله :
3966 وصَالياتٍ كَكَما يُؤَثْفَيْنْ ...
(1/4641)
وقولِ الآخر :
3967 - فصُيِّروا مثلَ كعَصْفٍ مَأْكُوْلْ ... وهذا ليس بجيدٍ؛ لأنَّ زيادةَ الأسماءِ ليسَتْ بجائزةٍ . وأيضاً يصيرُ التقديرُ ليس ك هو شيءٌ ، ودخولُ الكافِ على الضمائرِ لا يجوزُ إلاَّ في شعرٍ .
الثالث : أنَّ العربَ تقولُ " مثلُكَ لا يَفْعَلُ كذا " يعْنُون المخاطبَ نفسَه؛ لأنَّهم يُريدون المبالغةَ في نَفْيِ الوصفِ عن المخاطب ، فينفونَها في اللفظِ عن مثلِه ، فَيَثْبُتُ انتفاؤُها عنه بدليلِها . ومنه قول الشاعر :
3968 على مِثْلِ ليلى يَقْتُل المرءُ نفسَه ... وإنْ باتَ مِنْ ليلى على اليأس طاويا
وقال أوس بن حجر :
3969 ليس كمثلِ الفتى زُهَيْرٍ ... خَلْقٌ يُوازِيه في الفضائلِ
وقال آخر :
3970 سَعْدُ بنُ زيدٍ إذا أبصرْتَ فضلَهُمُ ... فما كمِثْلِهِمْ في الناسِ مِنْ أَحَدِ
قال ابن قتيبة : " العرب تُقيم المِثْلَ مُقامَ النفسِ فتقول : مثلي لا يُقال له هذا ، أي : أنا لا يُقال لي " . قيل : و [ نظيرُ ] نسبةُ المِثْل إلى مَنْ لا مِثْل له قولُك : فلانٌ يدُه مبسوطةٌ تريد أنه جَوادٌ ، ولا نَظَرَ في الحقيقة إلى اليد ، حتى تقولُ ذلك لمَنْ لا يَدَ له كقولِه تعالى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [ المائدة : 64 ] .
الرابع : أَنْ يُرادَ بالمِثْلِ الصفةُ ، وذلك أنَّ المِثْلَ بمعنى المَثَلَ والمَثَلُ الصفةُ ، كقولِه تعالى : { مَّثَلُ الجنة } [ الرعد : 35 ] فيكونُ المعنى : ليس مِثْلُ صفتِه تعالى شيءٌ من الصفات التي لغيرِه ، وهو مَحْمَلٌ سهلٌ .
(1/4642)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13)
قوله : { أَنْ أَقِيمُواْ } : يجوز فيها أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ تكونَ مصدريةً في محلِّ رفعٍ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه : هو أَنْ أَقيموا أي : الدينُ المشروعُ توحيدُ الله تعالى . الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ بدلاً من الموصولِ كأنَّه قيل : شَرَعَ لكم توحيدَ الله تعالى . الثالث : أنَّها في محلِّ جرٍّ بدلاً من الدين . الرابع : أنَّها في محلِّ جَرٍّ أيضاً بدلاً من الهاء . الخامس : أَنْ تكونَ مُفَسِّرةً؛ لأنها قد تقدَّمها ما هو بمعنى القول .
(1/4643)
وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
قوله : { أُورِثُواْ } : قرأ زيد بن علي " وُرِّثوا " بالتشديد [ مِنْ ] وُرِّثَ مبنياً للمفعول .
(1/4644)
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
قوله : { فَلِذَلِكَ فادع } : في اللامِ وجهان ، أحدهما : أَنْ تكونَ بمعنى إلى . والثاني : أنها للعلةِ أي : لأجلِ التفرُّقِ والاختلافِ ادْعُ للدِّين القيِّمِ .
قوله : " وأُمِرْتُ لأَعْدِلَ " يجوزُ أَنْ يكونَ التقديرُ : وأُمِرْت بذلك لأَعْدِلَ . وقيل : وأُمرت أَنْ أَعْدِلَ ، فاللامُ مزيدةٌ . وفيه نَظَرٌ؛ لأنَّك بعد زيادةِ اللام تحتاج إلى تقديرِ حرفِ جر أي : بأَنْ أَعْدِلَ .
(1/4645)
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16)
قوله : { والذين يُحَآجُّونَ } : مبتدأٌ و " حُجَّتُهم " مبتدأٌ ثانٍ ، و " داحِضَةٌ " خبرُ الثاني ، والثاني وخبرُه خبرٌ عن الأول . وأعربَ مكيٌّ " حُجَّتُهم " بدلاً/ من الموصول بدلَ اشتمال . والهاءُ في " له " تعودُ على الله أو على الرسول عليه السلام أي : مِنْ بعدِ ما استجاب الناسُ لله تعالى ، أو مِنْ بعدِما استجاب اللَّهُ لرسولِه حين دعا على قومِه .
(1/4646)
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17)
قوله : { لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ } : إنما ذَكَّر " قَريب " وإنْ كان صفةً لمؤنث لأنَّ الساعةَ في معنى الوقتِ ، أو البعثِ ، أو على معنى النَّسب أي : ذاتُ قُرْب ، أو على حَذْفِ مضافٍ أي : مجيء الساعةِ . وقيل : للفرق : بينها وبين قرابةِ النسَبِ . وقيل : لأنَّ تأنيثها مجازيٌّ ، نقله مكي ، وليس بشيءٍ؛ إذ لا يجوز : الشمسُ طالعٌ ولا القِدْرُ فائرٌ . وجملةُ الترجِّي أو الإِشفاقِ مُعَلِّقَةٌ للدرايةِ . وتقدَّم مثلُه آخرَ الأنبياء .
(1/4647)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)
قوله : { نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } : قد تَقَدَّم أنَّ كَوْنَ الشرطِ ماضياً والجزاءِ مضارعاً مجزوماً لا يختَصُّ مجيْئُه ب " كان " خلافاً لأبي الحكم مصنِّفِ " كتابِ الإِعراب " فإنَّه قال : " لا يجوز ذلك إلاَّ مع " كان " إلاَّ في ضرورةِ شعرٍ " . وأطلق النَّحْويون جوازَ ذلك ، وأنشدوا بيتَ الفرزدق :
3971 دَسَّتْ رسولاً بأنَّ القوم إنْ قَدِرُوا ... عليك يَشْفُوا صدوراً ذاتَ تَوْغيرِ
وقولَه أيضاً :
3972 تَعَشَّ فإنْ عاهَدْتَني لا تَخُونني ... نكنْ مِثْلَ مَنْ يا ذئبُ يصْطَحِبان
وقرأ ابن مقسم والزعفراني ومحبوب " يَزِدْ " و " يُؤْتِه " بالياء مِنْ تحتُ أي : الله تعالى . وقرأ سلام " نُؤْتِهُ " بضمِّ هاءِ الكناية وهو الأصلُ ، وهي لغةُ الحجاز . وتقدَّمَ خلافُ القُرَّاءِ في ذلك .
(1/4648)
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)
قوله : { شَرَعُواْ لَهُمْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ المرفوع عائداً على الشركاء ، والمجرورُ على الكفار . ويجوز العكسُ؛ لأنَّهم جَعَلوا لهم أنْصِباءَ .
قوله : " وإنَّ الظالمين " العامَّةُ بالكسر على الاستئناف . ومسلم ابن جندب والأعرج بفتحِها عطفاً على " كلمةُ " ، وفَصَلَ بين المتعاطفَيْن بجوابِ " لولا " تقديرُه : ولولا كلمةٌ واستقرارُ الظالمين في العذاب لقُضِيَ ، وهو نظيرُ : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } [ طه : 129 ] .
(1/4649)
تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
قوله : { وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } : أي : والإِشفاقُ أو والعذاب . و " روضاتُ الجنَّات " : قال الشيخ : " واللغةُ الكثيرةُ تسكينُ الواوِ ، ولغةُ هُذَيْلٍ فَتْحُ الواو ، إجراءً لها مُجْرى الصحيح نحو : جَفَنات ، ولم يقرأ أحد فيما عَلِمْناه بلغتِهم " . قلت : إن عَنى لم يَقْرأ أحدٌ بلغتهم في هذا البابِ من حيث هو هو فليس كذلك؛ لأني قد قَدَّمْتُ لك في سورة النور أنَّ الأعمشَ قرأ { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ } [ النور : 58 ] بفتحِ الواو . وإنْ عنى أنَّه لم يُقْرأ في " رَوْضات " بخصوصِها - وليس بظاهرِ عبارته - فيُحْتمل ذلك .
قوله : " عندَ رَبِّهم " يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً ل " يَشاؤُون " قاله الحوفي ، أو للاستقرارِ العاملِ في " لهم " قاله الزمخشريُّ ، والعِنْدِيَّةُ مجازٌ .
(1/4650)
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
قوله : { يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ } : كقولِه : { كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] وقد تقدَّم تحقيقُه ، وتقدَّمَتِ القراءاتُ في " يُبَشِّر " . وقرأ مجاهد وحميد بن قيس " يُبْشِرُ " بضمِّ الياءِ وسكونِ الباءِ وكسرِ الشينِ مِنْ أَبْشَر منقولاً مِنْ بَشِر بالكسر ، لا مِنْ بَشَر بالفتح ، لأنه متعدٍّ . والتشديدُ في " بَشَّر " للتكثيرِ لا للتعديةِ؛ لأنه متعدٍّ بدونها . ونقل الشيخ قراءةَ " يَبْشُرُ " بفتح الياء وضم الشين عن حمزةَ والكسائي من السبعة ، ولم يذكرْ غيرَهما من السبعةِ ، وقد وافَقَهما على ذلك ابن كثير وأبو عمرو . و " ذلك " مبتدأٌ والموصولُ بعده خبرُه ، وعائدُه محذوفٌ على التدريجِ المذكورِ في قولِه : { كالذي خاضوا } أي : يُبَشِّرُ به ، ثم يُبَشِّره على الاتِّساع . وأمَّا على رأي يونسَ فلا تحتاج إلى عائدٍ لأنها عنده مصدريَّةٌ ، وهو قول الفراء أيضاً . أي : ذلك تبشيرُ اللَّهِ عبادَه . و " ذلك " إشارةٌ إلى ما أَعَدَّه الله لهم من الكرامة .
وقال الزمخشري : " أو ذلك التبشيرَ الذي يُبَشِّره اللَّهُ عبادَه " . قال الشيخ : " وليس بظاهرٍ؛ إذ لم يتقدَّمْ في هذه السورةِ لفظُ البُشْرى ، ولا ما يَدُلُّ عليها مِنْ بَشَّر أو شبهِه " .
قوله " إلاَّ المودَّةَ " فيها قولان ، أحدهما : أنَّها استثناءٌ منقطعٌ؛ إذ ليسَتْ من جنسِ الأَجْرِ . والثاني : أنه متصلٌ أي : لا أسألُكم عليه أجراً إلاَّ هذا . وهو أَنْ تَوَدُّوا أهلَ قرابتي ولم يكنْ هذا أجراً في الحقيقةِ؛ لأنَّ قرابتَه قرابتُهم فكانت صلتُهم لازمةً لهم في المروءةِ ، قاله الزمخشري . وقال أيضاً : " فإنْ قلت : هلاَّ قيل : إلاَّ مودةَ القُرْبَى ، أو إلاَّ المودةَ للقُرْبى . قلت : جُعِلوا مكاناً للمودَّةِ ومَقَرًّا لها كقولِك : لي في آل فلان مَوَدَّة ، وليست " في " صلةً للمودةِ كاللامِ إذا قلتَ : إلاَّ المودةَ للقربى ، إنما هي متعلقةٌ بمحذوفٍ تَعَلُّقَ الظَرفِ به في قولك : " المالُ في الكيس " ، وتقديرُه : إلاَّ المودةَ ثابتةً في القُرْبَى ومتمكنةً فيها " . قلت : وأحسنُ ما سَمِعْتُ في معنى هذه الآيةِ حكايةُ الشعبيِّ قال : أَكْثَرَ الناسُ علينا في هذه الآيةِ فكتَبْنا إلى ابن عباس نسألُه عنها . فكتب : أنَّ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان أوسطَ الناسِ في قريش ، ليس بطنٌ مِنْ بطونهم إلاَّ قد وَلَدَه ، فقال الله تعالى : قل لا أسألُكم عليه أَجْراً إلاَّ أن تَوَدُّوني في قَرابتي منكم فارْعَوْا ما بيني وبينكم فصَدِّقوني .
وقال أبو البقاء : " وقيل : متصلٌ أي/ : لا أسألكم شيئاً إلاَّ المودةَ " . قلت : وفي تأويلِه متصلاً بما ذَكَر ، نظرٌ لمجيئه ب " شيء " الذي هو عامٌّ ، وما مِنْ استثناءٍ منقطع إلاَّ ويمكن تأويلُه بما ذَكَر ، ألا ترى إلى قولِك : " ما جاءني أحدٌ إلاَّ حمارٌ " أنه يَصِحُّ : ما جاءني شيءٌ إلاَّ حماراً .
(1/4651)
وقرأ زيد بن علي " مَوَدَّة " دون ألفٍ ولام .
قوله : { نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } العامَّةُ على " نَزِدْ " بالنون للعظمة . وزيد ابن علي وعبدُ الوارث عن أبي عمروٍ " يَزِدْ " بالياءِ مِنْ تحتُ أي : يَزِدِ اللَّهُ . والعامَّةُ على " حُسْناً " بالتنوين مصدراً على فُعْل نحو : شُكْر . وهو مفعولٌ به . وعبدُ الوارث عن أبي عمرو " حُسْنى " بألفِ التأنيث على وزنِ بُشْرَى ورُجْعَى وهو مفعولٌ به أيضاً . ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ك فُضْلَى ، فيكونَ وصفاً لمحذوف أي خَصْلَةً حسنى .
(1/4652)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
قوله : { وَيَمْحُ الله الباطل } : هذا مستأنَفٌ غيرُ داخلٍ في جزاءِ الشرطِ ، لأنه تعالى يمحو الباطلَ مطلقاً ، وسَقَطت الواوُ منه لفظاً لالتقاءِ الساكنين في الدَّرْج ، وخَطَّاً حَمْلاً للخط على اللفظِ كما كتبوا { سَنَدْعُ الزبانية } [ العلق : 18 ] عليه ولكن ينبغي أَنْ لا يجوزَ الوقفُ على هذا؛ لأنه إنْ وَقَفَ عليه بالأصلِ ، وهو الواوُ ، خالَفْنا خطَّ المصحفِ ، وإنْ وَقَفْنا بغيرها موافَقَةً للرسمِ خالَفْنا الأصلَ ، وقد مَرَّ لك بحثُ مثلِ هذا . وقد مَنَعَ مكي الوقفَ على نحوِ { وَمَن تَقِ السيئات } [ غافر : 9 ] وبابِه .
قوله : " ما تَفْعَلُون " قرأ الأخوَان وحفص " تَفْعلون " بالتاءِ مِنْ فوقُ نظراً إلى قولِه : " عن عبادِه " . والباقون بالخطاب إقبالاً على الناسِ عامَّة .
(1/4653)
وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)
قوله : { وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ الموصولُ فاعلاً أي : يُجيبون ربَّهم إذا دعاهُمْ كقولِه : { استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم } [ الأنفال : 24 ] . واستجابَ كأَجاب . ومنه :
3973 وداعٍ دَاع يا مَنْ يُجيب إلى النَّدى ... فلم يَسْتَجِبْه عند ذاكَ مُجيبُ
ويجوزُ أَنْ تكونَ السينُ للطلب على بابِها بمعنى : ويُسْتَدْعَى المؤمنون للإِجابة عن ربِّهم بالأعمالِ الصالحة . ويجوزُ أَنْ يكونَ الموصولُ مفعولاً به ، والفاعلُ مضمرٌ يعودُ على الله بمعنى : ويُجيب اللَّهُ الذين آمنوا أي : دعاهم . وقيل : ثَمَّ لامٌ مقدرةٌ أي : ويَسْتجيب الله للذين آمنوا فَحَذَفها للعِلْم بها .
(1/4654)
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
قوله : { مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } : " ما " مصدريَّةٌ أي : مِنْ قُنوطهم . والعامَّةُ على فتح النون . وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش بكسرِها وهي لغةٌ ، وعليها قُرِئ " يَقْنَطُ " { لاَ تَقْنَطُواْ } [ الزمر : 53 ] بفتحِ النونِ في المتواتر . ولم يُقْرَأ بالكسر في الماضي إلاَّ شاذاً .
(1/4655)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)
قوله : { وَمَا بَثَّ } : يجوزُ أَنْ تكونَ مجرورةَ المحلِّ عطفاً على " السماواتِ " أو مرفوعتَه عطفاً على " خَلْقُ " على حَذفِ مضافٍ أي : وخَلْقُ ما بَثَّ ، قاله الشيخ . وفيه نظر؛ لأنَّه يَؤُول إلى جَرِّه بالإِضافةِ ل خَلْق المقدَّرِ ، فلا يُعْدَلُ عنه .
قوله : " فيهما " أي : السماوات والأرض . والسماءُ لا ذَوات فيها فقيل : هو مثلُ قولِه : { نَسِيَا حُوتَهُمَا } ، [ الكهف : 61 ] { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] . وقيل : بل خَلَقَ في السماء مَنْ يَدِبُّ . وقيل : مِن الملائكةِ مَنْ يمشي مع طَيَرانه . وقال الفارسي : " هو على حَذْفِ مضافٍ أي : وما بَثَّ في أحدِهما " وهذا إلغازٌ في الكلام .
قوله : " إذا يَشاء " " إذا " منصوبةٌ ب " جَمْعِهم " لا ب " قديرٌ " . قال أبو البقاء : " لأنَّ ذلك يُؤَدِّي إلى أَنْ يَصيرَ المعنى : وهو على جَمْعِهم قديرٌ إذا يشاء ، فتتعلَّقُ القدرةُ بالمشيئةِ وهو مُحالٌ " . قلت : ولا أَدْري ما وجهُ كونِه مُحالاً على مذهبِ أهلِ السُّنة؟ فإنْ كان يقولُ بقولِ المعتزلةِ : وهو أنَّ القدرةَ تتعلَّق بما لم يَشَأ الله يمشي كلامُه ، ولكنه مذهبٌ رديْءٌ لا يجوزُ اعتقادُه ، ونقول : يجوزُ تعلُّقُ الظرفِ به أيضاً .
(1/4656)
وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)
قوله : { فَبِمَا } : قرأ نافعٌ وابنُ عامر " بما " دونَ فاءٍ . والباقون " فبما " بإثباتِها . ف " ما " في القراءةِ الأولى الظاهرُ أنَّها موصولةٌ بمعنى الذي ، والخبر الجارُّ مِنْ قولِه : " بما كَسَبَتْ " . وقال قومٌ منهم أبو البقاء : إنَّها شرطيةٌ حُذِفَتْ منها الفاءُ . قال أبو البقاء : " كقوله تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } [ الأنعام : 121 ] . وقولِ الشاعر :
3974 مَنْ يَفْعَلِ الحسناتِ اللَّهُ يَشْكُرها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا ليس مذهبَ الجمهورِ ، إنما قال به الأخفشُ وبعضُ البغداديين . وأما الآية ف " إنَّكم لَمُشْرِكون " ليس جواباً للشرط ، إنما هو جوابٌ لقَسمٍ مقدرٍ حُذِفَتْ لامُه الموطِّئَةُ قبل أداةِ الشرطِ .
وأمَّا القراءةُ الثانيةُ فالظاهرُ أنها فيها شرطيةٌ ، ولا يُلْتَفَتُ لقولِ أبي البقاء : " إنَّه ضعيفٌ " . ويجوزُ أَنْ تكونَ الموصولةَ ، والفاءُ داخلةٌ في الخبر تشبيهاً للموصولِ بالشرط ، بشروطٍ ذكَرْتُها مُسْتوفاةً في هذا الموضوعِ بحمدِ الله تعالى . وقد وافق نافعٌ وابنُ عامرٍ مصاحفَهما؛ فإنَّ الفاءَ ساقطةٌ من مصاحفِ المدينةِ والشامِ ، وكذلك الباقون فإنها ثابتةٌ في مصاحفِ مكةَ والعراقِ .
(1/4657)
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32)
قوله : { الجوار } : أي : السفنُ الجوارِي . فإن قلت : الصفةُ متى لم تكن خاصَّةً بموصوفِها امتنع حَذْفُ الموصوفِ . لا تقولُ : مررتُ بماشٍ؛ لأنَّ المَشْيَ عامٌّ . وتقول : مررتُ بمهندسٍ وكاتبٍ ، والجَرْيُ ليس من الصفاتِ الخاصةِ فما وجهُ ذلك؟ فالجوابُ : / أنَّ قولَه : " في البحر " قرينةٌ دالَّةٌ على الموصوفِ . ويجوزُ أَنْ تكونَ هذه صفةً غالبةً كالأَبْطَح والأَبْرَق ، فَوَلِيَتِ العواملَ دونَ موصوفِها .
و " في البحر " متعلقٌ ب " الجوَاري " إذا لم يَجْرِ مَجْرى الجوامدِ . فإنْ جَرَى مَجْراه كان حالاً منه ، وكذا قولُه : " كالأَعْلام " هو حالٌ أي : مُشْبهةً بالأعلام - وهي الجبالُ - كقول الخنساء :
3975 وإنَّ صَخْراً لَتَأْتَمُّ الهُداةُ به ... كأنَّه عَلَمٌ في رأسِه نارُ
وسُمِع : هذه الجَوارُ ، وركبْتُ الجوارَ ، وفي الجوارِ ، بالإِعراب على الراءِ تناسياً للمحذوفِ . وقد تقدَّم هذا في قولِه : { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [ الأعراف : 41 ] في الأعراف .
(1/4658)
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)
قوله : { فَيَظْلَلْنَ } : العامَّةُ على فتحِ اللامِ التي هي عينٌ ، وهو القياسُ؛ لأنَّ الماضيَ بكسرِها ، تقول : ظَلِلْتُ قائماً . وقرأ قتادةُ بكَسْرِها ، وهو شاذٌ نحو : حَسِب يَحْسِب وأخواتِه وقد تقدَّمَتْ . . . وقال الزمخشري : " مِنْ ظَلَّ يَظَلُّ ويَظِلُّ ، نحو : ضَلَّ يَضَلُّ ويَضِلُّ " . قال الشيخ : " وليس كما ذَكر؛ لأنَّ يَضَلُّ بفتح العين مِنْ ضَلِلْتُ بكسرِها في الماضي ، ويَضِلُّ بالكسر مِنْ ضَلَلْتُ بالفتحِ وكلاهما مَقيسٌ " يعني أنَّ كلاً منهما له أصلٌ يَرْجِعُ إليه بخلافِ " ظَلَّ " فإنَّ ماضيَه مكسورُ العينِ فقط .
والنون اسمُها ، " ورَواكدَ " خبرُها . ويجوزُ أَنْ تكونَ " ظَلَّ " هنا بمعنى صار؛ لأنَّ المعنى ليس على وقتِ الظُّلول وهو النهارُ فقط ، وهو نظيرُ : " أين باتَتْ يدُه " من هذه الحيثيَّةِ . والرُّكودُ : الثبوتُ والاستقرارُ قال :
3976 وقد رَكَدَتْ وسطَ السماءِ نجومُها ... رُكوداً بوادِي الرَّبْرَبِ المتفرِّقِ
(1/4659)
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)
قوله : { أَوْ يُوبِقْهُنَّ } : عطفٌ على " يُسْكِنْ " قال الزمخشري : " لأنَّ المعنى : إنْ يَشَأْ يُسْكِن فيركَدْن . أو يَعْصِفْها فيَغْرَقْنَ بعَصْفِها " .
قال الشيخ : " ولا يَتَعَيَّنُ أَنْ يكونَ التقديرَ : أو يَعْصِفْها فيَغْرَقْنَ؛ لأنَّ إهْلاكَ السفنِ لا يَتَعَيَّنُ أَنْ يكونَ بعَصْفِ الريح ، بل قد يُهْلِكُها بقَلْعِ لوحٍ أو خَسْفٍ " . قلت : والزمخشريُّ لم يذكُرْ أنَّ ذلك مُتَعَيِّنٌ ، وإنما ذَكَرَ شيئاً مناسباً؛ لأنَّ قولَه : " يُسْكِنِ الريحَ " يقابِلُه " يعْصِفْها " فهو في غايةِ الحُسْنِ والطِّباق .
قوله : " ويَعْفُ " العامَّةُ على الجزمِ عطفاً على جزاءِ الشرط . واستشكلَه القُشَيْرِيُّ قال : " لأنَّ المعنَى : إن يَشَأ يُسْكِنِ الريحَ فتبقى تلك السفنُ رواكدَ ، أو يُهْلِكْها بذنوبِ أهلها فلا يَحْسنُ عَطْفُ " ويَعْفُ " على هذا؛ لأنَّ المعنى يَصير : إنْ يَشَأْ يَعْفُ ، وليس المعنى [ على ] ذلك بل المعنى : الإِخبارُ عن العفوِ مِنْ غير شرطِ المشيئةِ ، فهو عطفٌ على المجزومِ من حيث اللفظُ لا من حيث المعنى . وقد قرأ قومٌ " ويَعْفُو " بالرفع وهي جيدةٌ في المعنى " . قال الشيخ : وما قاله ليس بجيدٍ إذ لم يَفْهَمْ مدلولَ التركيبِ والمعنى ، إلاَّ أنَّه تعالى إنْ يَشَأْ أهلك ناساً وأَنْجَى ناساً على طريقِ العَفْوِ عنهم " .
وقرأ الأعمش " ويَعْفُوْ " بالواو . وهي تحتملُ أَنْ يكونَ كالمجزومِ ، وثَبَتَتِ الواوُ في الجزمِ كثبوتِ الياء في { مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ } [ يوسف : 90 ] . ويُحتمل أَنْ يكونَ الفعلُ مرفوعاً ، أخبر تعالى أنَّه يَعْفو عن كثيرٍ من السيئات . وقرأ بعضُ أهلِ المدينة بالنصب ، بإضمارِ " أَنْ " بعد الواوِ كنَصْبِه في قولِ النابغة :
3977 فإنْ يَهْلَكْ أبو قابوسَ يَهْلَكْ ... ربيعُ الناسِ والبلدُ الحرَامُ
ونأخذْ بعدَه بذِنابِ عَيْشٍ ... أجَبَّ الظهرِ ليس له سَنامُ
بنصبِ " ونَأْخُذ " ورفعِه وجَزْمِه . وهذا كما قُرِئ بالأوجه الثلاثة بعد الفاءِ في قولِه تعالى : { فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } [ البقرة : 284 ] وقد تقدَّم تقريرُه آخرَ البقرةِ ، ويكونُ قد عَطَفَ هذا المصدرَ المؤولَ مِنْ " أَنْ " المضمرةِ والفعلِ على مصدرٍ مُتَوَهَّمٍ من الفعلِ قبلَه . تقديرُه : أو يقع إيباقٌ وعَفْوٌ عن كثيرٍ . فقراءةُ النصبِ كقراءة الجزم في المعنى ، إلاَّ أنَّ في هذه عَطْفَ مصدرٍ مؤولٍ على مصدرٍ مُتَوَهَّمٍ ، وفي تَيْكَ عطفَ فعلٍ على مثلِه .
(1/4660)
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
قوله : { وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ } : قرأ نافعٌ وابنُ عامر برفعِه . والباقون بنصبِه . وقُرِئ بجزمِه أيضاً . فأمَّا الرفعُ فهو واضحٌ جداً ، وهو يحتملُ وجهين : الاستئنافَ بجملةٍ فعليةٍ ، والاستئنافَ بجملةٍ اسميةٍ ، فتُقَدِّرُ قبل الفعل مبتدأً أي : وهو يعلمُ الذين ، فالذين على الأول فاعلٌ ، وعلى الثاني مفعولٌ . فأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها أوجهٌ ، أحدُها : قال الزجَّاج : " على الصَّرْف " . قال : " ومعنى الصرفِ صَرْفُ العطف عن اللفظ إلى العطفِ على المعنى " . قال : " وذلك أنَّه لَمَّا لم يَحْسُنْ عطفُ " ويعلَمْ " مجزوماً على ما قبلَه إذ يكونُ المعنى : إنْ يَشَأْ/ يَعْلَمْ ، عُدِل إلى العطف على مصدرِ الفعلِ الذي قبلَه . ولا يتأتَّى ذلك إلاَّ بإضمار " أنْ " ليكونَ مع الفعلِ في تأويلِ اسم " .
الثاني : قولُ الكوفيين أنه منصوبٌ بواوِ الصرف . يَعْنُون أنَّ الواوَ نفسَها هي الناصبةُ لا بإضمارِ " أنْ " ، وتقدَّم معنى الصرف .
الثالث : قال الفارسيُّ - ونقله الزمخشري عن الزجاج - إن النصب على إضمار " أنْ "؛ لأنَّ قبلها جزاءً تقول : " ما تصنعْ أصنعْ وأكرمَك " وإنْ شِئْتَ : وأكرمُك ، على وأنا أكرِمُك ، وإنْ شِئْتَ " وأكرمْك " جزْماً . قال الزمخشري : " وفيه نظرٌ؛ لِما أَوْردَه سيبويه في كتابه " قال : " واعلَمْ أنَّ النصبَ بالواوِ والفاء في قوله : " إنْ تَأْتِني آتِك وأعطيكَ " ضعيفٌ ، وهو نحوٌ مِنْ قولِه :
3978 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأَلْحَقُ بالحجازِ فَأَسْتريحا
فهذا لا يجوزُ ، لأنه ليس بحَدِّ الكلامِ ولا وجهِه ، إلاَّ أنه في الجزاء صار أقوى قليلاً؛ لأنه ليس بواجبٍ أنَّه يفعلُ ، إلاَّ أَنْ يكونَ من الأولِ فِعْلٌ ، فلمَّا ضارَعَ الذي لا يُوْجِبُهُ كالاستفهام ونحوِه أجازوا فيه هذا على ضَعْفِه " . قال الزمخشري : " ولا يجوزُ أَنْ تُحْمَلَ القراءةُ المستفيضةُ على وجهٍ ليس بحَدِّ الكلامِ ولا وجهِه ، ولو كانَتْ من هذا البابِ لَما أَخْلَى سيبويه منها كتابَه ، وقد ذَكَرَ نظائرَها مِن الآياتِ المُشْكِلة " .
الرابع : أَنْ ينتصِبَ عطفاً على تعليلٍ محذوفٍ تقديرُه : لينتقمَ منهم ويعلمَ الذين ، ونحوُه في العطفِ على التعليلِ المحذوفِ غيرُ عزيزٍ في القرآن . ومنه : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } [ مريم : 21 ] وخَلَق اللَّهُ السماواتِ والأرضَ بالحقِّ ، ولِتُجْزَى " قاله الزمخشري . قال الشيخ : " ويَبْعُدُ تقديرُه : لِيَنْتَقِمَ منهم؛ لأنه تَرَتَّبَ على الشرطِ إهلاكُ قومٍ ونجاةُ قومٍ فلا يَحْسُنُ لينتَقِمَ منهم . وأمَّا الآيتان فيمكنُ أَنْ تكونَ اللامُ متعلقةً بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه : ولنجعلَه آيةً للناسِ فَعَلْنا ذلك ، ولُتْجزَى كلُّ نفسٍ فَعَلْنا ذلك ، وهو - كثيراً - يُقَدِّرُ هذا الفعل مع هذه اللامِ إذا لم يكنْ فعلٌ يتعلَّقُ به " . قلت : بل يَحْسُنُ تقديرُ " لينتقمَ " لأنَّه يعودُ في المعنى على إهلاكِ قومٍ المترتبِ على الشرط .
وأمَّا الجزمُ فقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : كيف يَصِحُّ المعنى على جزم " ويعلَمْ "؟ قلت : كأنه قيل : إنْ يَشَأْ يَجْمَعْ بين ثلاثةِ أمور : إهلاكِ قومٍ ، ونجاةِ قومٍ ، وتحذيرِ آخرين " . وإذا قُرِئَ بالجزم فتُكْسَرُ الميمُ لالتقاءِ الساكنين .
قوله : { مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } في محلِّ نصبٍ لسَدِّها مَسَدَّ مفعولَيْ العِلْم .
(1/4661)
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36)
قوله : { فَمَآ أُوتِيتُمْ } : " ما " شرطيةٌ . وهي في محلِّ نصبٍ مفعولاً ثانياً ل " أُوْتِيتم " والأولُ هو ضميرُ المخاطبين قامَ مقامَ الفاعلِ ، وإنما قَدَّم الثاني لأنَّ له صَدْرَ الكلامِ .
قوله : " مِنْ شَيءٍ " بيانٌ ل " ما " الشرطيةِ لِما فيها من الإِبْهام .
قوله : " فمتاعُ " الفاءُ جوابُ الشرطِ ، و " متاعُ " خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : فهو متاع . قوله : { وَمَا عِندَ الله } " ما " موصولةٌ مبتدأةٌ ، و " خيرٌ " خبرها ، و " الذين " متعلِّقٌ ب " أَبْقَى " .
(1/4662)
وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37)
قوله : { والذين يَجْتَنِبُونَ } : نَسَقٌ على " الذين " الأولى . وقال أبو البقاء : " الذين يَجْتَنبون في موضعِ جرّ بدلاً مِنْ " للذين آمنوا " . ويجوزُ أَنْ يكونَ في موضع نصبٍ بإضمار أعني ، أو في موضع رفعٍ على تقدير : هم " . وهذا وهمٌ منه في التلاوةِ كأنه اعتقد أنَّ القرآن { وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، والذين يَجْتَنِبُونَ } فبنى عليه ثلاثةَ الأوجهِ بناءً فاسداً .
قوله : " كبائرَ " قرأ الأخوان هنا وفي النجم " كبيرَ الإِثم " بالإِفراد . والباقون " كبائرَ " بالجمع في السورتَيْن . والمفردُ هنا في معنى الجمع ، والرسمُ يحتمل القراءتَيْن .
قوله : { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ } هذه " إذا " منصوبةٌ ب " يَغْفِرُون " ، و " يَغْفِرُون " خبرٌ ل " هم " ، والجملةُ بأَسْرِها عطفٌ على الصلة ، وهي " يَجْتَنِبون " والتقدير : والذين يَجْتَنِبون وهم يَغْفِرون ، عَطَفَ اسميةً على فعليةٍ . ويجوزُ أَنْ يكون " هم " توكيداً للفاعل في قوله : " غَضِبوا " ، وعلى هذا فيَغْفِرون جوابُ الشرطِ . وقال أبو البقاء : " هم مبتدأٌ ويَغْفِرون الخبرُ ، والجملةُ جوابُ إذا " وهذا غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّه لو كان جواباً ل " إذا " لاقترن بالفاء . تقول : " إذا جاء زيدٌ فعمروٌ منطلق " ولا يجوز : " عمروٌ ينطلق " وقيل : " هم " مرفوع بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره " يَغْفِرون " بعده ، ولَمَّا حُذِفَ الفعلُ انفصلَ الضميرُ ولم يَسْتَبْعِدْه الشيخُ . وقال : " ينبغي أَنْ يجوزَ ذلك في مذهبِ سيبويه؛ لأنه أجازَه في الأداةِ الجازمةِ ، تقول : " إنْ يَنْطَلِقْ ، زيدٌ يَنْطَلِق " تقديرُه : ينطلِقْ زيدٌ ينطلِقْ . ف " ينطلقْ " واقعٌ جواباً ، ومع ذلك فَسَّر الفعلَ فكذلك هذا ، وأيضاً فذلك/ جائزٌ في فعلِ الشرطِ بعدَها نحو : { إِذَا السمآء انشقت } [ الانشقاق : 1 ] فليَجُزْ في جوابِها أيضاً " .
(1/4663)
وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
قوله : { هُمْ يَنتَصِرُونَ } : كقولِه { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } سواءً ويجيْء فيه ما تقدَّم . إلاَّ أنَّه يزيدُ هنا أنه يجوزُ أَنْ يكونَ " هم " توكيداً للضميرِ المنصوبِ في " أصابَهم " أكَّد بالضميرِ المرفوعِ وليس فيه إلاَّ الفصلُ بين المؤكَّدِ والمؤكِّد بالفاعلِ . والظاهر أنَّه غيرُ ممنوعٍ .
(1/4664)
وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41)
قوله : { وَلَمَنِ انتصر } : هذه لامُ الابتداءِ . وجعلها الحوفي وابنُ عطيَّة للقسم . وليس بجيدٍ إذا جَعَلْنا " مَنْ " شرطيةً كما سيأتي؛ لأنه كان ينبغي أَنْ يُجابَ السابِقُ ، وهنا لم يُجَبْ إلاَّ الشرطُ . و " مَنْ " يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً ، وهو الظاهرُ ، والفاءُ في " فأولئك " جواب الشرطِ ، وأَنْ تكونَ موصولةً ، ودَخَلَتِ الفاءُ لِما عَرَفْتَ مِنْ شَبَهِ الموصولِ بالشرطِ . و " ظُلْمِه " مصدرٌ مضافٌ للمفعولِ . وأيَّدها الزمخشريُّ بقراءةِ مَنْ قرأ " بعدما ظُلِمَ " مبنياً للمفعول .
(1/4665)
وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
قوله : { وَلَمَن صَبَرَ } : الكلامُ في اللام بَيِّنٌ كما تقدَّم . فإنْ جَعَلْتَها شرطيةً ف " إنَّ " جوابُ القسمِ المقدَّر ، وحُذِفَ جوابُ الشرطِ للدلالةِ عليه . وإنْ كانَتْ موصولةً كان " إنَّ ذلك " هو الخبرُ . وجَوَّز الحوفي وغيرُه أن تكونَ " مَنْ " شرطيةً ، وأنَّ ذلك جوابُها على حَذْفِ الفاء على حَدِّ حَذْفِها في البيت المشهور :
3979 مَنْ يَفْعَلِ الحَسَناتِ . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفي الرابط قولان ، أحدُهما : هو اسمُ الإِشارةِ إذا أُريد به المبتدأُ ، ويكون حينئذٍ على حَذْفِ مضافٍ ، تقديره : إنَّ ذلك لَمِنْ ذوي عَزْمِ الأمور والثاني : أنه ضميرٌ محذوفٌ تقديرُه : لمِنْ عَزْمِ الأمورِ منه ، أوله . وقولُه : " ولَمَنْ صَبَرَ " عطفٌ على قولِه : " ولَمَنِ انتصَرَ " . والجملةُ مِنْ قولِه : " إنما السبيلُ " اعتراضٌ .
(1/4666)
وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45)
قوله : { يُعْرَضُونَ } : حالٌ لأنَّ الرؤيةَ بصريةٌ . " خاشعين " حالٌ . والضميرُ مِنْ عليها يعودُ على النار لدلالةِ " العذاب " عليها . وقرأ طلحةُ " من الذِّل " بكسر الذال . وقد تقدَّم الفرقُ بين الذُّل والذِّل . و " من الذُّل " يتعلَّقُ ب " خاشعين " أي : من أَجْل . وقيل : هو متعلقٌ ب " يَنْظُرون " . وقوله : " مِنْ طَرْفٍ " يجوزُ في " مِنْ " أَنْ تكونَ لابتداءِ الغاية ، وأَنْ تكونَ تبعيضيَّةً ، وأن تكونَ بمعنى الباء ، وبكلٍ قد قيل . والطرفُ قيل : يُراد به العُضْوُ . وقيل : يُراد به المصدرُ . يقال : طُرِفَتْ عَيْنُه تُطْرَفُ طَرْفاً أي : يَنْظُرون نَظَراً خَفِيًّا .
قوله : { وَقَالَ الذين آمنوا } يجوزُ أَنْ يَبْقَى على حقيقتِه ، ويكون " يومَ القيامة " معمولاً ل " خَسِروا " . ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى : يقول ، فيكون " يوم القيامةِ " معمولاً له .
(1/4667)
وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
قوله : { يَنصُرُونَهُم } : صفةٌ ل " أَوْلِياء " فيجوزُ أَنْ يُحْكَمَ على موضعِها بالجرِّ اعتباراً بلفظِ مَوْصوفِها ، وبالرفعِ اعتباراً بمحَلِّه فإنه اسمٌ ل " كان " .
قوله : " مِنْ سبيلٍ " إمَّا فاعلٌ ، وإمَّا مبتدأٌ .
(1/4668)
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)
قوله : { مِنَ الله } : يجوزُ تعلُّقُه ب " يأتي " أي : يأتي من الله يومٌ لا مَرَدَّ له ، وأَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه لا مَرَدَّ له أي : لا يَرُدُّ ذلك اليومَ ممَّا حكم اللَّهُ به فيه . وجَوَّز الزمخشري أَنْ يتعلَّقَ ب " لا مَرَدَّ " . وردَّه الشيخُ : بأنه يكونُ مُطَوَّلاً فكان ينبغي أَنْ يُعْرَبَ فينصبَ منوَّناً .
(1/4669)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)
قوله : { فَإِنَّ الإنسان } : مِنْ وقوعِ الظاهرِ مَوْقِعَ المضمرِ أي : فإنَّه كفورٌ . وقَدَّر أبو البقاء ضميراً محذوفاً فقال : " فإنَّ الإِنسانَ منهم " .
(1/4670)
أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
قوله : { ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } : حالٌ ، وهي حالٌ لازمةٌ ، وسَوَّغ مجيْئَها كذلك : أنَّها بعدما يجوزُ أَنْ يكونَ الأمرُ على خلافه؛ لأنَّ معنى " يُزَوِّجُهم " يَقْرِنُهم . قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : لِمَ قَدَّم الإِناثَ أولاً على الذكورِ مع تقديمِهم عليهنَّ ، ثم رَجَعَ فقدَّمَهم؟ ولِمَ عَرَّف الذكورَ بعدما نَكَّر الإِناثَ؟ قلت : لأنَّه ذكر البلاءَ في آخر الآية الأولى ، وكفرانَ الإِنسان بنسيانِه الرحمةَ السابقةَ ، ثم عَقَّبَ بذِكْر مُلْكِه ومشيئتِه وذكرَ قسمةَ الأولادِ فقدَّم الإِناثَ؛ لأنَّ سياق الكلامِ أنه فاعلُ ما يشاءُ لا ما يشاؤه الإِنسانُ ، فكان ذِكْرُ الإِناثِ التي مِنْ جملة ما لا يَشاؤه الإِنسانُ أهمَّ ، والأهمُّ واجبُ التقديمِ ، ولِيَليَ الجنسَ الذي كانت العربُ تَعُدُّه بلاءً ، ذكر البلاء ، وأخَّر الذكورَ ، فلمَّا أَخّرهم تدارَك تأخيرَهم وهم أَحِقَّاءُ بالتقديم بتعريفَهم؛ لأنَّ تعريفَهم فيه تَنْويهٌ وتشهيرٌ ، كأنه قال : ويَهَبَ لمَنْ يشاءُ الفرسانَ الأعلامَ المذكورين الذين لا يَخْفَوْن عليكم ، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسَيْن حقَّه من التقديمِ والتأخيرِ ، وعَرَّفَ أنَّ تقديمَهن لم يكُنْ لتقدُّمِهنَّ ولكنْ لمقتضٍ آخر ، فقال : ذُكْراناً وإناثاً ، كما قال : { إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى } [ الحجرات : 13 ] { فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى } [ القيامة : 39 ] .
(1/4671)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)
قوله : / { أَن يُكَلِّمَهُ الله } : " أَنْ " ومنصوبُها اسمُ كان وليس " خبرَ " " ما " . وقال أبو البقاء : " أَنْ والفعلُ في موضع رفعٍ على الابتداءِ وما قبلَه الخبرُ ، أو فاعلٌ بالجارِّ لاعتمادِه على حرفِ النفي " وكأنه [ وَهِمَ في التلاوةِ ، فزعَم أنَّ القرآنَ : وما لبشَرٍ أَنْ يُكَلِّمه ] مع أنَّه يمكنُ الجوابُ عنه بتكلُّفٍ . و " إلاَّ وَحْياً " يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً أي : إلاَّ كلامَ وَحْيٍ . وقال أبو البقاء : " استثناءٌ منقطعٌ؛ لأنَّ الوَحْيَ ليس من جنس الكلام " وفيه نظرٌ لأنَّ ظاهرَه أنه مُفرَّغٌ ، والمفرَّغُ لا يُوْصَفُ بذلك . ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً في موضعِ الحال .
قوله : " أو يُرْسِل " قرأ نافعٌ " يُرْسِلُ " برفع اللامِ ، وكذلك " فيوحِيْ " فسَكَنَتْ ياؤُه . والباقون بنصبهما . فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثة أوجهٍ ، أحدها : أنَّه رفعٌ على إضمارِ مبتدأ أي : أو هو يُرْسِلُ . الثاني : أنه عطفٌ على " وَحْياً " على أنَّه حالٌ؛ لأنَّ وَحْياً في تقديرِ الحال أيضاً ، فكأنه قال : إلاَّ مُوْحِياً أو مرسِلاً . الثالث : أَنْ يُعْطَفَ على ما يتعلَّقُ به " من وراءه " ، إذ تقديرُه : أو يُسْمِعُ مِنْ وراءِ حجاب ، و " وَحْياً " في موضعِ الحال ، عُطِف عليه ذلك المقدَّرُ المعطوفُ عليه " أَوْ يُرْسِلُ " . والتقدير : إلاَّ مُوْحِياً أو مُسْمِعاً مِنْ وراءِ حجابٍ ، أو مُرْسِلاً .
وأمَّا الثانيةُ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يُعْطَفَ على المضمرِ الذي يتعلَّقُ به { مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } إذ تقديرُه : أو يُكَلِّمه مِنْ وراءِ حجابٍ . وهذا الفعلُ المقدَّر معطوفٌ على " وَحْياً " والمعنى : إلاَّ بوَحْي أو إسماعٍ مِنْ وراءِ حجاب أو إرسالِ رسولٍ . ولا يجوزُ أَنْ يُعَطفَ على " يكلِّمَه " لفسادِ المعنى . قلت : إذ يَصيرُ التقديرُ : وما كان لبشَرٍ أن يُرْسِلَ اللَّهُ رسولاً ، فَيَفْسُدُ لَفْظاً ومعنى . وقال مكي : " لأنَّه يَلْزَم منه نَفْيُ الرسلِ ونفيُ المُرْسَلِ إليهم " .
الثاني : أَنْ يُنْصَبَ ب " أنْ " مضمرةً ، وتكونَ هي وما نَصَبَتْه معطوفَيْن على " وَحْياً " و " وَحْياً " حالٌ ، فيكونَ هنا أيضاً [ حالاً : والتقدير : إلاَّ مُوْحِياً أو مُرْسِلاً ] . وقال الزمخشري : " وَحْياً وأَنْ يُرْسِلَ مصدران واقعان موقعَ الحال؛ لأنَّ أَنْ يُرْسِلَ في معنى إرسالاً . و { مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } ظرفٌ واقعٌ موقعَ الحالِ أيضاً ، كقوله : { وعلى جُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 191 ] . والتقدير : وما صَحَّ أَنْ يُكَلَّم أحداً إلاَّ مُوْحياً أو مُسْمِعاً مِنْ وراءِ حجاب أو مُرسِلاً " . وقد رَدَّ عليه الشيخُ : بأنَّ وقوعَ المصدرِ موقعَ الحالِ غيرُ منقاسٍ ، وإنما قاسَ منه المبردُ ما كان نوعاً للفعلِ فيجوزُ : " أتيتُه رَكْضاً " ويمنعُ " أَتَيْتُه بكاءً " أي : باكياً .
(1/4672)
وبأنَّ " أَنْ يُرْسِلَ " لا يقعُ حالاً لنصِّ سيبويه على أنَّ " أَنْ " والفعلَ لا يَقَعُ حالاً ، وإن كان المصدرُ الصريحُ يقع حالاً تقولُ : " جاء زيد ضَحِكاً " ، ولا يجوز " جاء أَنْ يضحكَ " .
الثالث : أنَّه عطفٌ على معنى " وَحْياً " فإنَّه مصدرٌ مقدَّرٌ ب " أنْ " والفعلِ . والتقديرُ : إلاَّ بأَنْ يوحيَ إليه أو بأَنْ يُرْسِلَ ، ذكره مكي وأبو البقاء .
وقوله : { أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } العامَّةُ على الإِفراد . وابنُ أبي عبلةَ " حُجُبٍ " جمعاً . وهذا الجارُّ يتعلَّقُ بمحذوفٍ تقديرُه : أو يُكَلِّمَه مِنْ وراء حجاب . وقد تقدَّم أن هذا الفعلَ معطوفٌ على معنى وَحْياً أي : إلاَّ أَنْ يوحيَ أو يكلِّمَه . قال أبو البقاء : " ولا يجوزُ أَنْ تتعلَّق " مِنْ " ب " يُكَلِّمَه " الموجودةِ في اللفظِ؛ لأنَّ ما قبل الاستثناءِ لا يعملُ فيما بعد إلاَّ " ، ثم قال : " وقيل : " مِنْ " متعلِّقةٌ ب " يُكلِّمه " لأنه ظرفٌ ، والظرفُ يُتَّسَعُ فيه " .
(1/4673)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)
قوله : { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب } : " ما " الأولى نافيةٌ ، والثانيةُ استفهاميةٌ . والجملةُ الاستفهامية معلِّقَةٌ للدِّراية فهي في محلِّ نصبٍ لسَدِّها مَسَدَّ مفعولَيْنِ . والجملةُ المنفيةُ بأَسْرِها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الكافِ في " إليك " . قوله : " جَعَلْنَاه " الضميرُ يعودُ : إمَّا ل " رُوْحاً " وإمَّا ل " الكتاب " وإمَّا لهما؛ لأنَّهما مَقْصَدٌ واحدٌ فهو كقولِه : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] .
وقرأ ابن حوشب " لتُهْدَى " مبنياً للمفعول . وابن السَّمَيْفَع " لتُهْدي " بضم التاء وكسر الدال مِنْ أهْدَى .
قوله : " نَهْدِي " يجوز أَنْ يكونَ مُسْتأنفاً ، وأن يكونَ مفعولاً مكرَّراً للجَعْل ، وأَنْ يكونَ صفةً ل " نُوْراً " .
(1/4674)
صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
قوله : { صِرَاطِ الله } : بدلٌ مِنْ " صراطٍ " قبلَه بدلُ كلٍ مِنْ كلٍ ، معرفةٍ مِنْ نكرة . والله أعلم .
(1/4675)
وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { والكتاب } : إنْ جَعَلْتَ " حم " قَسَماً كانت الواوُ عاطفةً وإنْ لم ، كانت الواو للقسم ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا .
(1/4676)
إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)
قوله : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ } : جوابُ القَسَم ، وهذا عندهم من البلاغةِ : وهو كونُ القَسَمِ والمُقْسَمِ عليه مِنْ وادٍ واحد . كقول أبي تمام :
3980 وثناياك إنها إغريضُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إنْ أُرِيد بالكتابِ القرآنُ ، وإنْ أُريد به جنسُ الكتبِ المنزَّلةِ غيرِ القرآنِ لم يكنْ مِنْ ذلك . والضميرُ في " جَعَلْناه " على الأولِ يعودُ على الكتاب . وعلى الثاني للقرآنِ ، وإنْ لم يُصَرَّحْ بذِكْرِه . والجَعْلُ هنا تصييرٌ . ولا يُلْتَفَتُ لخطأ الزمخشريِّ في تجويزه أَنْ يكونَ بمعنى : خَلَقْناه .
(1/4677)
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
قوله : { في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا } : يتعلَّقان بما بعدهما . ولا تَمْنَعُ اللامُ من ذلك . ويجوز أَنْ يكونا حالَيْنِ ممَّا بعدهما لأنَّهما كانا وصفَيْن له في الأصل فيتعلَّقان بمحذوفٍ . ويجوزُ أَنْ [ يكون ] " لدينا " متعلِّقاً بما تعلَّق به الجارُّ قبله إذا جَعَلْناه حالاً مِنْ " لَعَلِيٌّ " ، وأَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ المستترِ فيه ، وكذا يجوزُ في الجارِّ أَنْ يتعلَّقَ بما تَعَلَّق/ به الظرفُ ، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ ضميرِه عند مَنْ يُجَوِّزُ تقديمَها على العاملِ المعنويِّ . ويجوزُ أَنْ يكونَ الظرفُ بدلاً من الجارِّ قبلَه ، وأَنْ يكونا حالَيْنِ من " الكتاب " أو من " أُمِّ " ، ذَكَرَ هذه الأوجهَ الثلاثةَ أبو البقاء . وقال : " ولا يجوزُ أَنْ يكونَ واحدٌ من الظرفين خبراً؛ لأنَّ الخبرَ لَزِمَ أَنْ يكونَ " عَليٌّ " من أجلِ اللامِ " . قلت : وهذا يَمْنَعُ أَنْ تقولَ : إن زيداً كاتبٌ لَشاعرٌ؛ لأنه مَنَع أَنْ يكونَ غيرُ المقترنِ بها خبراً .
(1/4678)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5)
قوله : { صَفْحاً } : فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدها : أنَّه مصدرٌ في معنى يَضْرِب؛ لأنه يُقال : ضَرَبَ عن كذا وأَضْرَبَ عنه ، بمعنى أعرض عنه ، وصَرَف وجهَه عنه . قال :
3981 اضْرِبَ عنكَ الهمومَ طارِقَها ... ضَرْبَك بالسيفِ قَوْنَسَ الفرسِ
والتقديرُ : أَفَنَصْفَحُ عنكم الذِّكْرَ أي : أفَنُزِيْلُ القرآنَ عنكم إزالةً ، يُنْكِرُ عليهم ذلك . الثاني : أنَّه منصوبٌ على الحالِ من الفاعل أي : صافِحين . الثالث : أَنْ ينتصِبَ على المصدرِ المؤكِّدِ لمضمونِ الجملةِ ، فيكونَ عاملُه محذوفاً ، نحو : { صُنْعَ الله } [ النمل : 88 ] قاله ابنُ عطية . الرابع : أن يكونَ مفعولاً من أجله . الخامس : أَنْ يكونَ منصوباً على الظرف . قال الزمخشري : " وصَفْحاً على وجهَيْن : إمَّا مصدرٍ مِنْ صَفَح عنه إذا أَعْرَضَ عنه ، منتصبٍ على أنَّه مفعولٌ له على معنى : أَفَنَعْزِلُ عنكم إنْزالَ القرآنِ وإلزامَ الحجةِ به إعراضاً عنكم . وإمَّا بمعنى الجانبِ مِنْ قولِهم : نَظَرَ إليه بصَفْحِ وَجْهِه . وصَفْحُ وَجْهِه بمعنى : أفَنُنَحِّيه عنكم جانباً ، فينتصبُ على الظرف نحو : ضَعْه جانباً وامْشِ جانباً . وتَعْضُدُه قراءةُ " صُفْحاً " بالضم " . قلت : يشيرُ إلى قراءةِ حسان ابن عبد الرحمن الضبعي وسميط بن عمير وشبيل بن عزرة قَرؤوا " صُفْحاً " بضم الصاد . وفيها احتمالان ، أحدهما : ما ذكره مِنْ كونِه لغةً في المفتوحِ ويكونُ ظرفاً . وظاهرُ عبارةِ أبي البقاء أنَّه يجوزُ فيه جميعُ ما جاز في المفتوح؛ لأنه جَعَله لغةً فيه كالسُّد والسَّد . والثاني : أنه جمعُ صَفُوح نحو : صَبور وصُبُر . فينتصبُ حالاً مِنْ فاعل نَضْرِب . وقَدَّر الزمخشري على عادته فِعْلاً بين الهمزةِ والفاءِ أي : أنُهمِلُكم فَنَضْرِب . وقد عَرَفْتَ ما فيه غيرَ مرةٍ .
قوله : " أنْ كُنتم " قرأ نافعٌ والأخَوان بالكسر على أنها شرطيةٌ ، وإسرافُهم كان متحققاً ، و " إنْ " إنما تدخلُ على غير المتحقِّق ، أو المتحقِّقِ المبهم الزمانِ . وأجاب الزمخشريُّ : " أنَّه من الشرط الذي يَصْدُر عن المُدِلِّ بصحةِ الأمرِ والتحقيق لثبوتِه ، كقول الأجير : " إنْ كنتُ عَمِلْتُ لك عملاً فَوَفِّني حقي " وهو عالمٌ بذلك ، ولكنه يُخَيَّلُ في كلامِه أَنَّ تفريطَك في إيصالِ حقي فِعْلُ مَنْ له شكٌّ في استحقاقِه إياه تجهيلاً له " . وقيل : المعنى على المجازاةِ والمعنى : أفنضرِبُ عنكم الذِّكر صَفْحاً متى أَسْرَفتم أي : إنكم غيرُ متروكين من الإِنذار متى كنتم قوماً مُسْرفين . وهذا أراد أبو البقاء بقولِه : " وقرئ إنْ بكسرِها على الشرط ، وما تقدَّم يدلُّ على الجواب " . والباقون بالفتحِ على العلَّة أي : لأَنْ كنتم ، كقول الشاعر :
3982 أتَجْزَعُ أنْ بانَ الخليطُ المُوَدَّعُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومثله :
3983 أتَجْزَعُ أنْ أُذْنا قتيبةَ حُزَّتا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يُرْوَى بالكسر والفتح ، وقد تقدَّم نحوٌ من هذا أول المائدة ، وقرأ زيد بن علي " إذ " بذالٍ عوضَ النونِ ، وفيها معنى العلَّة .
(1/4679)
وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6)
قوله : { وَكَمْ أَرْسَلْنَا } : " كم " خبريةٌ مفعولٌ مقدم . و " من نبيّ " تمييزٌ . و " في الأوَّلين " يتعلَّقُ بالإِرسالِ أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل نبي .
(1/4680)
فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
قوله : { بَطْشاً } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه تمييزٌ ل " أشدَّ " . والثاني : أنه حالٌ مِن الفاعل أي : أهلكناهم باطِشين .
(1/4681)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)
قوله : { خَلَقَهُنَّ العزيز } : كرَّرَ الفعلَ للتوكيد؛ إذ لو جاء " العزيزُ " بغير " خَلَقَهُنَّ " لكان كافياً ، كقولِك مَنْ قام؟ فيقال : زيد . وفيها دليلٌ على أنَّ الجلالةَ الكريمةَ مِنْ قوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الزخرف : 87 ] مرفوعةٌ بالفاعلية لا بالابتداء للتصريح بالفعل في نظيرتِها . وهذا الجوابُ مطابقٌ للسؤالِ من حيث المعنى ، إذ لو جاء على اللفظِ لجيْءَ/ فيه بجملةٍ ابتدائيةٍ كالسؤال .
(1/4682)
وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11)
قوله : { بَلْدَةً مَّيْتاً } : قرأه العامَّةُ مخفَّفاً . وعيسى وأبو جعفر مثقلاً . وقد تقدَّم الكلامُ فيه في آل عمران . وتقدَّم في الأعراف الخلافُ في تُخْرَجُون وتَخْرُجُون .
(1/4683)
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)
قوله : { مَا تَرْكَبُونَ } : " ما " موصولةٌ . وعائدُها محذوفٌ أي : ما تَرْكَبونه . و " ركب " بالنسبة إلى الفُلْك يتعدَّى بحرف الجر { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك } [ العنكبوت : 65 ] وفي غيرِه بنفسه قال : { لِتَرْكَبُوهَا } [ النحل : 8 ] فغلَّبَ هنا المتعديَ بنفسه على المتعدي بواسِطة فلذلك حَذَفَ العائدَ .
(1/4684)
لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13)
قوله : { لِتَسْتَوُواْ } : يجوزُ أَنْ تكونَ هذه لامَ العلة وهو الظاهرُ ، وأن تكونَ للصيرورة ، فتُعَلَّقَ في كليهما ب " جَعَل " . وجَوَّز ابنُ عطيةَ أَنْ تكونَ للأمر ، وفيه بُعْدٌ لقلَّة دخولها على أمر المخاطب . قُرِئ شاذاً " فَلْتَفْرحوا " وفي الحديث : " لِتَأْخُذوا مصافَّكم " وقال :
3984 لِتَقُمْ أنت يا بنَ خيرِ قُرَيْشٍ ... فَتُقَضَّى حوائجُ المُسْلمينا
نصَّ النحويون على قلِتَّها ، ما عدا أبا القاسِم الزجاجيَّ فإنه جَعَلها لغةً جيدة .
قوله : " على ظُهورِه " الضميرُ يعودُ على لفظِ " ما تَرْكَبون " ، فَجَمَعَ الظهورَ باعتبارِ معناها ، وأفرد الضميرَ باعتبار لفظِها .
قوله : " له مُقْرِنين " " له " متعلق ب " مُقْرِنين " قُدِّمَ للفواصل . والمُقْرِنُ : المُطيق للشيء الضابطُ له ، مِنْ أَقْرنه أي : أطاقه . والقَرَن الحَبْلُ . قال ابن هَرْمة :
3985 وأَقْرَنْتُ ما حَمَّلْتِني ولَقَلَّما ... يُطاق احتمالُ الصَّدِّ يا دعدُ والهَجْرِ
وقال عمرو بن معد يكرب :
3986 لقد عَلِمَ القبائلُ ما عُقَيْلٌ ... لنا في النائباتِ بمُقْرِنينا
وحقيقة أَقْرَنَه : وجده قَرينَه ، لأنَّ الصعب لا يكون قرينَةَ الضعيفِ . قال :
3987 وابنُ اللَّبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَناعيسِ
وقُرِئ " مُقْتَرنين " بالتاء قبل الراء .
(1/4685)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)
قوله : { جُزْءًا } : مفعولٌ أولُ للجَعْل ، والجَعْلُ تصييرٌ قوليٌّ . ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى : سَمَّوا واعتقدوا . وأغربُ ما قيل هنا أنَّ الجُزْء الأنثى . وأنشَدوا :
3988 إنْ أَجْزَأَتْ حُرَّةٌ يوماً فلا عَجَبٌ ... قد تُجْزِئُ الحُرَّةُ المِذْكارُ أحياناً
وقال آخر :
3989 زُوِّجْتُها مِنْ بنات الأَوْسِ مُجْزِئَةً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال الزمخشري : " وأثرُ الصنعةِ فيهما ظاهرٌ " .
(1/4686)
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16)
قوله : { وَأَصْفَاكُم } : يجوزُ أَنْ يكون داخلاً في حَيِّزِ الإِنكار معطوفاً على اتَّخذ . ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي : أم اتَّخذ في هذه الحالةِ و " قد " مقدرةٌ عند الجمهور . وقد تقدَّم نظيرُ :
(1/4687)
وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17)
قَوْلِه : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم } . وقرئ هنا " وجهُه مُسْوَدٌّ " برفع " مُسْوَدٌّ " على أنها جملةٌ في موضعِ خبرِ " ظَلَّ " . واسمُ " ظَلَّ " ضميرُ الشأن .
(1/4688)
أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18)
قوله : { أَوَمَن يُنَشَّأُ } : يجوزُ في " مَنْ " وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ مفعولاً بفعلٍ مقدر أي : أو يجعلون مَنْ يُنَشَّأُ في الحِلْية . والثاني : أنه مبتدأ وخبرُه محذوفٌ ، تقديره : أو من يُنَشَّأ جزءٌ أو ولدٌ؛ إذ جعلوه لله جزءاً . وقرأ العامَّةُ " يَنْشَأ " بفتح الياء وسكون النون مِنْ نَشَأَ في كذا يَنْشأ فيه . والأخوان وحفص بضم الياء وفتحِ النون وتشديدِ الشينِ مبنياً للمفعولِ أي : يُرَبَّى . وقرأ الجحدريُّ كذلك ، إلاَّ أنَّه خَفَّف الشينَ ، أَخَذَه مِنْ أنشأه . والحسن " يُناشَأُ " ك يُقاتَل مبنياً للمفعول . والمفاعَلَةُ تأتي بمعنى الإِفعال كالمُعالاة بمعنى الإِعلاء .
قوله : { وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ } الجملةُ حال . و " في الخصام " يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه ما بعده . تقديره : وهو لا يَبين في الخصام . ويجوز أَنْ يتعلَّق ب " مُبين " وجاز للمضافِ إليه أن يعملَ فيما قبل المضافِ؛ لأن " غيرَ " بمعنى " لا " . وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في آخر الفاتحة وما أنشدْتُه عليه وما في المسألةِ من الخلاف .
(1/4689)
وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19)
قوله : { عِبَادُ الرحمن } : قرأ نافع وابن كثير وابن عامر " عند الرحمن " ظرفاً . والباقون " عبادَ " جمع عَبْد ، والرسمُ يحتملهما . وقرأ الأعمش كذلك إلاَّ أنه نصبَ " عبادَ " على إضمارِ فعلٍ : الذين هم خُلِقوا عباداً ونحوِه . وقرأ عبدُ الله وكذلك هي في مصحفه " الملائكةَ عبادَ الرحمن " . وأُبَيٌّ وعبد الرحمن/ بالإِفراد . و " إناثاً " هو المفعولُ الثاني للجَعْلِ بمعنى الاعتقادِ أو التصيير القولي . وقرأ زيدُ بنُ علي " أُنُثا " جمعَ الجمع .
قوله : " أشَهِدُوا " قرأ نافعٌ بهمزةٍ مفتوحة ، ثم بأخرى مضمومةٍ مُسَهلةٍ بينها وبين الواو وسكونِ الشينِ . وقرأ قالون بالمدِّ يعني بإدخال ألفٍ بين الهمزتين والقصرِ ، يعني بعدمِ الألف . والباقون بفتح الشين بعد همزة واحدة . فنافع أدخل همزةَ التوبيخ على أُشْهِدوا [ فعلاً ] رباعياً مبنيَّاً للمفعول ، فسَهَّلَ همزتَه الثانيةَ ، وأدخل ألفاً بينهما كراهةً لاجتماعهما ، وتارة لم يُدْخِلْها ، اكتفاءً بتسهيل الثانية ، وهي أوجهُ . والباقون أدخلوا همزةَ الإِنكار على " شهدوا " ثلاثياً ، والشهادةُ هنا الحضورُ . ولم يَنْقُلِ الشيخُ عن نافع تسهيلَ الثانيةِ بل نَقَله عن علي بن أبي طالب .
وقرأ الزهريُّ " أُشْهِدُوا " رباعياً مبنياً للمفعول . وفيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ يكونَ حَذَفَ الهمزةَ لدلالةِ القراءةِ الأخرى ، كما تقدَّم في قراءةِ " أعجميٌّ " . والثاني : أَنْ تكونَ الجملةُ خبريةً وقعَتْ صفةً ل " إناثاً " أي : أجعلوهم إناثاً مَشْهوداً خَلْقُهم كذلك؟
قوله : " سَتُكْتَبُ شهادتُهم " قرأ العامَّةُ " سَتُكْتَبُ " بالتاءِ مِنْ فوقُ مبنياً للمفعول ، " شهادتُهم " بالرفع لقيامه مَقامَ الفاعل . وقرأ الحسن " شهاداتُهم " بالجمع ، والزهري : " سَيَكتب " بالياء مِنْ تحت وهو في الباقي كالعامَّة . وابن عباس وزيد بن علي وأبو جعفر وأبو حيوةَ " سنكتبُ " بالنون للعظمة ، " شهادتَهم " بالنصب مفعولاً به .
(1/4690)
بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22)
قوله : { على أُمَّةٍ } : العامَّةُ على ضم الهمزة ، بمعنى الطريقة والدين . قال قيس بن الخطيم :
3990 كُنَّا على أمةِ آبائِنا ... ويَقْتدي بالأولِ الآخِرُ
أي : على طريقتهم . وقال آخر :
3991 وهل يَسْتوي ذو أُمَّةٍ وكَفورُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : ذو دين . وقرأ مجاهد وقتادة وعمر بن عبد العزيز بالكسر قال الجوهري : " هي الطريقةُ الحسنةُ لغةً في أُمَّة بالضم " . وابن عباس بالفتح ، وهي المَرَّةُ من الأَمّ ، والمرادُ بها القصدُ والحال .
(1/4691)
قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24)
قوله : { قال } : قرأ ابن عامر وحفصٌ " قال " ماضياً مكان " قل " أمراً أي : قال النذير ، أو الرسول وهو النبي صلَّى الله عليه وسلَّم . والأمر في " قل " يجوز أَنْ يكونَ للنذير أو للرسول وهو الظاهر . وقرأ أبو جعفر وشيبة " جِئْناكم " بنون المتكلمين .
(1/4692)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26)
قوله : { بَرَآءٌ } : العامَّةُ على فتحِ الباءِ وألفٍ وهمزةٍ بعد الراء . وهو مصدرٌ في الأصل وقع موقعَ الصفةِ وهي بَريْء ، وبها قرأ الأعمش ولا يُثَنَّى " براء " ولا يُجْمع ولا يُؤَنث كالمصادر في الغالب . والزعفراني وابن المنادي عن نافع بضم الباء بزنة طُوال وكُرام . يقال : طَويل وطُوال وبَريء وبُراء . وقرأ الأعمش " إنِّي " بنونٍ واحدة .
(1/4693)
إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27)
قوله : { إِلاَّ الذي فَطَرَنِي } : فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه استثناءٌ منقطع؛ لأنَّهم كانوا عبدةَ أصنامٍ فقط . والثاني : أنه متصلٌ؛ لأنه رُوِي أنهم كانوا يُشْرِكون مع الباري غيرَه .
الثالث : أَنْ يكونَ مجروراً بدلاً مِنْ " ما " الموصولة في قولِه : " ممَّا تعبدُون " قاله الزمخشريُّ . ورَدَّه الشيخ : بأنه لا يجوزُ إلاَّ في نفيٍ أو شبهه قال : " وغَرَّه كونُ براء في معنى النفي ، ولا ينفعه ذلك لأنه موجَبٌ " . قلت : قد تأوَّل النحاةُ ذلك في مواضعَ من القرآن كقولِه تعالى : { ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ } [ التوبة : 32 ] { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] والاستثناء المفرغُ لا يكونُ في إيجاب ، ولكن لَمَّا كان " يأبى " بمعنى : لا يفعلُ ، وإنها لكبيرة بمعنى : لا تَسْهُلُ ولا تَخِفُّ ساغ ذلك ، فهذا مثلُه .
الرابع : أَنْ تكونَ " إلاَّ " صفةً بمعنى " غير " على أن تكونَ " ما " نكرةً موصوفةً ، قاله الزمخشريُّ قال الشيخ : " وإنما أخرجها في هذا الوجهِ عن كونِها موصولةً؛ لأنَّه يرى أنَّ " إلاَّ " بمعنى " غير " لا يُوْصَفُ بها إلاَّ النكرة " وفيها خلافٌ . فعلى هذا يجوزُ أَنْ تكونَ " ما " موصولةً و " إلاَّ " بمعنى " غير " صفةً لها .
(1/4694)
وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)
قوله : { وَجَعَلَهَا } : الضميرُ المرفوعُ لإِبراهيمَ عليه السلام - وهو الظاهرُ - أو لله . والمنصوبُ لكلمة التوحيد المفهومةِ مِنْ قولِه : " إنني بَراءٌ " إلى آخره ، أو لأنَّها بمنزلةِ الكلمة ، فعاد الضمير على ذلك اللفظِ لأجل المَعْنِيِّ به .
وقرئ " في عَقْبِه " بسكون القافِ . وقُرِئ " في عاقِبه " أي : وارِثه . وحميد بن قيس " كلمة " بكسر الكاف وسكون اللام .
(1/4695)
بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29)
والجمهورُ على " مَتَّعْتُ " بتاء المتكلم . وقتادةُ/ والأعمشُ بفتحِها للمخاطبِ ، خاطبَ إبراهيمُ أو محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم ربَّه تعالى بذلك . وبها قرأ نافعٌ في روايةِ يعقوبَ . والأعمشُ أيضاً " بل مَتَّعْنا " بنون العظمة .
(1/4696)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31)
قوله : { مِّنَ القريتين } : فيه حَذْفُ مضافٍ فقدَّره بعضُهم : من رَجُلَيْ القريَتَيْن . وقيل : من إحدى القريَتَيْن . والرجلان : الوليد ابن المغيرة وكان بمكة ، وعروة بن مسعود الثقفي ، وكان بالطائف . وقيل : كان يتردَّدُ بين القريتين فنُسب إلى كلتيهما . وقُرئ " رَجْل " بسكون العين وهي تميمةٌ .
وقد مضى الكلامُ في " سُخْرِيَّا " في المؤمنين . وقرأ بالكسر هنا عمرو بن ميمون وابن محيصن وأبو رجاء وابن أبي ليلى والوليد بن مسلم وخلائق ، بمعنى المشهورة ، وهو الاستخدام . ويَبْعُدُ قولُ بعضِهم : إنه استهزاء الغني بالفقير .
(1/4697)
وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)
قوله : { لِبُيُوتِهِمْ } : بدلُ اشتمالٍ بإعادةِ العاملِ . واللامان للاختصاص . وقال ابنُ عطية : الأُوْلى للمِلْك ، والثانية للتخصيص . ورَدَّه الشيخ : بأنَّ الثاني بدلٌ فيُشترط أَنْ يكونَ الحرفُ متحدَ المعنى لا مختلفَه . وقال الزمخشري : " ويجوزُ أَنْ يكونا بمنزلة اللامَيْن في قولك : " وَهَبْتُ له ثوباً لقميصِه " . قال الشيخ " ولا أدري ما أراد بقولِه هذا "؟ قلت : أراد بذلك أن اللامَيْن للعلة أي : كانت الهِبَةُ لأجلك لأجلِ قميصِك ، ف " لقميصك " بدلُ اشتمالٍ بإعادة العاملِ بعينه ، وقد نُقِلَ أنَّ قولَه : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ } [ الأنعام : 84 ] أنها للعلة .
قوله : " سُقُفا " قرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح السين وسكون القاف بالإِفراد على إرادةِ الجنسِ . والباقون بضمتين على الجمعِ كرُهُن في جمع رَهْن . وفي " رُهُن " تأويلٌ لا يمكنُ هنا : وهو أَنْ يكونَ جَمْعَ " رِهان " جَمْعَ رَهْن؛ لأنه لم يُسْمَعْ سِقاف جمع سَقْف . وعن الفراء أنه جمع سقيفة فيكون كصحيفة وصُحُف . وقُرئ " سَقَفاً " بفتحتين لغةً في سَقْف ، وسُقوفاً بزنة فَلْس وفُلوس . وأبو رجاء بضمة وسكون .
و " مِنْ فِضَّة " يجوز أن يتعلَّق بالجعل ، وأن يتعلق بمحذوف صفة لسُقُف . وقرأ العامَّة " معارِجَ " جمع مَعْرَج وهو السُّلَّم . وطلحة " معاريج " جمع مِعْراج ، وهذا كمفاتِح لمَفْتَح ، ومفاتيح لمفتاح .
(1/4698)
وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34)
قوله : { وَسُرُراً } : جمع سَرير . والعامَّةُ على ضم الراء . وقُرئ بفتحها وهي لغةُ بعض تميم وكلب . وقد تقدَّم أنَّ فعيلاً المضعَّفَ تفتحُ عينُه إذا كان اسماً أو صفةً نحو : ثوب جَديد وثياب جُدَد ، وفيه كلامٌ للنحاة . وهل قوله : " مِنْ فضة " شاملٌ للمعارج والأبواب والسُّرُر؟ فقال الزمخشري : نعم ، كأنه يرى تشريكَ المعطوف مع المعطوف عليه في قيودِه . و " عليها يَتَّكئون " و " عليها يَظْهَرون " صفتان لِما قَبْلَهما .
(1/4699)
وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
قوله : { وَزُخْرُفاً } : يجوز أَنْ يكونَ منصوباً ب جَعَلَ أي : وجَعَلْنا لهم زخرفا . وجوَّز الزمخشري أن ينتصبَ عطفاً على محلِّ " مِنْ فضة " كأنه قيل : سُقُفاً من فضةٍ وذَهَبٍ أي : بعضُها كذا ، وبعضها كذا .
وقد تقدَّم الخلافُ في " لَمَّا " تخفيفاً وتشديداً في سورة هود ، وقرأ أبو رجاء وأبو حيوةَ " لِما " بكسر اللام على أنها لامُ العلةِ دَخَلَتْ على " ما " الموصولة وحُذِفَ عائدُها ، وإنْ لم تَطُل الصلةُ . والأصل : الذي هو متاعٌ كقولِه : { تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ } [ الأنعام : 154 ] برفع النون . و " إنْ " هي المخففةُ من الثقيلة ، و " كل " مبتدأ ، والجارُّ بعده خبرُه أي : وإن كل ما تقدَّم ذِكْرُه كائن للذي هو متاعُ الحياة ، وكان الوجهُ أن تدخُلَ اللامُ الفارقة لعدم إعمالِها ، إلاَّ أنَّها لما دَلَّ الدليلُ على الإِثباتِ جاز حَذْفُها كما حَذَفها الشاعرُ في قوله :
3992 أنا ابنُ أباةِ الضَّيْم مِنْ آلِ مالكٍ ... وإنْ مالكٌ كانَتْ كرامَ المعادنِ
(1/4700)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36)
قوله : { وَمَن يَعْشُ } : العامَّة على ضم الشين مِن عشا يعشو أي : يتعامى ويتجاهل . وقتادة ويحيى بن سلام " يَعْشَ " بفتحها بمعنى يَعْمَ . وزيد بن علي " يَعْشو " بإثبات الواو . قال الزمخشري : " على أنّ " مَنْ " موصولة وحَقُّ هذا أن يقرأَ نقيضُ بالرفع " . قال الشيخ : " ولا تتعيَّنُ موصوليتُها بل تُخَرَّج على وجهين : إمَّا تقديرِ حذفِ حركةِ حرفِ العِلة ، وقد حكاها الأخفش لغةً ، وتقدَّم منه في سورةِ يوسفَ شواهدُ ، وإمَّا على أنه جزمٌ ب " مَنْ " الموصولة تشبيهاً لها ب " مَنْ " الشرطيةِ " . قال : " وإذا كانوا قد جَزَموا ب " الذي " ، وليس بشرطٍ قط فأَوْلَى بما اسْتُعْمِلَ شرطاً وغيرَ شرطٍ . وأنشد :
3993 ولا تَحْفِرَنْ بِئْراً تُريد أخاً بها ... فإنّك فيها أنت مِنْ دونِه تقَعْ
كذاكَ الذي يَبْغي على الناسِ ظالماً ... يُصِبْه على رَغْمٍ عواقبُ ما صَنَعْ
/قال : " وهو مذهبُ الكوفيين ، وله وَجْهٌ من القياسِ : وهو أنَّ " الذي " أَشْبَهَتْ اسمَ الشرطِ في دخولِ الفاءِ في خبرِها ، فتُشْبِهُ اسمَ الشرطِ في الجزم أيضاً . إلاَّ أنَّ دخولَ الفاءِ منقاسٌ بشرطِه ، وهذا لا ينقاسُ " .
ويقال : عَشا يَعْشُو ، وعَشِي يَعْشَى . فبعضُهم جعلهما بمعنىً ، وبعضُهم فَرَّقَ : بأنَّ عَشِيَ يَعْشَى إذا حَصَلَتْ الآفَةُ من بَصَرَه ، وأصلُه الواوُ وإنما قُلِبَتْ ياءً لانكسارِ ما قبلها كرضِيَ يَرْضى وعَشَا يَعْشُو أي : تفاعَل ذلك . ونَظَرَ نَظَرَ العَشِي ولا آفَةَ ببصرِه ، كما قالوا : عَرَجَ لمَنْ به آفةُ العَرَجِ ، وعَرُجَ لمَنْ تعارَجَ ، ومَشَى مِشْيَةَ العُرْجان . قال الشاعر :
3994 أَعْشُو إذا ما جارتي بَرَزَتْ ... حتى يُوارِيْ جارتي الخِدْرُ
أي : أنظرُ نَظَرَ الَعَشِي . وقال آخر :
3995 متى تَأْتِه تَعْشُوا إلى ضَوْءِ نارِه ... تَجِدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوْقِدِ
أي : تَنْظُرُ نَظَرَ العشِي لضَعْفِ بصرِه مِنْ كثرةِ الوَقودِ . وفَرَّق بعضُهم : بأنَّ عَشَوْتُ إلى النارِ إذا اسْتَدْلَلْتَ عليها بنظرٍ ضعيفٍ وقيل : وقال الفراء : " عَشا يَعْشى يُعْرِض ، وعَشِي يَعْشَى عَمِيَ " . إلاَّ أنَّ ابن قتيبة قال : " لم نَرَ أحداً حكى عَشَوْتُ عن الشيء : أَعْرَضْتُ عنه ، وإنما يقال : تعاشَيْتُ عن كذا إذا تغافَلْتَ عنه وتعامَيْتَ " .
وقرأ العامَّةُ " نُقَيِّضْ " بنونِ العظمةِ . وعلي بن أبي طالب والأعمش ويعقوبُ والسلميُّ وأبو عمروٍ وعاصمٌ في روايةٍ عنهما " يُقَيِّضْ " بالياء من تحت أي : يُقَيِّض الرحمنُ . و " شيطاناً " نصبٌ في القراءتين . وابن عباس " يُقَيَّضْ " مبنياً للمفعول ، " شيطانٌ " بالرفع ، قائمٌ مقامَ الفاعلِ .
(1/4701)
وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)
قوله : { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ } : الظاهرُ أنَّ ضميرَيْ النصبِ عائدان على " مَنْ " مِنْ حيث معناها ، راعى لفظَها أولاً فأفردَ في " له " و " له " ، ثم راعى معناها ، فجَمع في قولِه : " وإنَّهم ليَصُدُّوْنَهم " . والضميرُ المرفوعُ على الشيطان؛ لأنَّ المرادَ به الجنسُ ، ولأنَّ كلَّ كافرٍ معه قَرِيْنٌ . وقال ابن عطية : " إنَّ الضميرَ الأولَ للشياطين ، والثاني للكفار . التقدير : وإنَّ الشياطين ليَصُدُّوْنَ الكفارَ العابثين " .
(1/4702)
حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38)
قوله : { إِذَا جَآءَنَا } : قرأ أبو عمروٍ والأخوان وحفصٌ " جاءنا " بإسنادِ الفعلِ إلى ضميرٍ مفردٍ يعودُ على لفظ " مَنْ " وهو العاشي ، وحينئذٍ يكونُ هذا ممَّا حُمِل فيه على اللفظ ثم على المعنى ، ثم على اللفظ ، فإنَّه حُمِلَ أولاً على لفظِها في قوله : " نُقَيِّضْ له " " فهو له " ، ثم جُمِع على معناها في قوله : " وإنَّهم ليَصُدُّونهم " و " يَحْسَبون أنهم " ، ثم رَجَعَ إلى لفظِها في قوله : " جاءنا " ، والباقون " جاءانا " مُسْنداً إلى ضميرِ تثنيةٍ ، وهما العاشي وقَرينُه .
قوله : " بُعْدَ المَشْرِقَيْنِ " قيل : أراد المشرقَ والمغربَ ، فغلَّبَ كالعُمَرَيْن والقَمَرَيْن . وقيل : أراد بمَشْرِقَيْ الشمسِ مَشْرِقَها في أقصرِ يومٍ ومَشْرِقَها في أطولِ يومٍ . وقيل : بُعْدَ المَشْرِقَيْن من المَغْرِبَيْن .
قوله : " فبِئْسَ القَرينُ " مخصوصُه محذوفٌ أي : أنت .
(1/4703)
وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39)
قوله : { وَلَن يَنفَعَكُمُ } : في فاعلِه قولان ، أحدهما : أنه ملفوظٌ به ، وهو " أنَّكم " وما في حَيِّزِها . التقدير : ولن يَنْفَعَكم اشتراكُكم في العذاب بالتأسِّي ، كما يَنْفَعُ الاشتراكُ في مصائب الدنيا فيتأسَّى المُصاب بمثلِه . ومنه قولُ الخنساء :
3996 ولولا كَثْرَةُ الباكِيْنَ حَوْلي ... على إخوانِهم لقَتَلْتُ نَفْسي
وما يَبْكُون مثلَ أخي ولكنْ ... أُعَزِّي النفسَ عنه بالتأسِّي
والثاني : أنّه مضمرٌ . فقدَّره بعضُهم ضميرَ التمنِّي المدلولَ عليه بقوله : { ياليت بَيْنِي } أي : لن يَنْفَعكم تَمَنِّيْكم البُعْدَ . وبعضُهم : لن ينفَعَكم اجتماعُكم . وبعضُهم : ظُلْمُكم وجَحْدُكم . وعبارةُ مَنْ عَبَّر بأنَّ الفاعلَ محذوفٌ مقصودُه الإِضمارُ المذكورُ لا الحذفُ؛ إذ الفاعلُ لا يُحْذَفُ إلاَّ في مواضعَ ليس هذا منها ، وعلى هذا الوجهِ يكونُ قوله : " أنَّكم " تعليلاً أي : لأنَّكم ، فحذفَ الخافضَ فجرى في مَحَلِّها الخلافُ : أهو نصبٌ أم جرٌّ؟ ويؤيِّد إضمارَ الفاعلِ ، لا أنَّه هو " أنَّكم " ، قراءةُ " إنكم " بالكسرِ فإنَّه/ استئنافٌ مفيدٌ للتعليلِ .
قوله : " إذْ ظَلَمْتُمْ " قد استشكل المُعْرِبون هذه الآيةَ . ووجهُه : أنَّ قولَه " اليومَ " ظرفٌ حالِيٌّ ، و " إذ " ظرفٌ ماضٍ ، و " يَنْفَعَكم " مستقبلٌ؛ لاقترانِه ب " لن " التي لنفي المستقبلِ . والظاهرُ أنه عاملٌ في الظرفَيْن ، وكيف يعملُ الحدثُ المستقبلُ الذي لم يقَعْ بعدُ في ظرفٍ حاضرٍ أو ماضٍ؟ هذا ما لا يجوزُ . فأُجيب عن إعماله في الظرفِ الحاليِّ على سبيلِ قُرْبِه منه؛ لأنَّ الحالَ قريبٌ من الاستقبالِ فيجوز في ذلك . قال تعالى : { فَمَن يَسْتَمِعِ الآن } [ الجن : 9 ] وقال الشاعر :
3997 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سَأَسْعَى الآنَ إذ بَلَغَتْ أَناها
وهو إقناعيٌّ ، وإلاَّ فالمستقبلُ يَسْتحيلُ وقوعُه في الحالِ عقلاً . وأمَّا قولُه : " إذ " ففيها للناسِ أوجهٌ كثيرةٌ . قال ابن جني : " راجَعْتُ أبا عليّ فيها مِراراً فآخرُ ما حَصَّلْت منه : أنَّ الدنيا والآخرةَ متصلتان ، وهما سواءٌ في حُكْم اللَّهِ تعالى وعِلْمِه ، ف " إذ " بدلٌ من " اليوم " حتى كأنَّه مستقبلٌ أو كأنَّ اليومَ ماضٍ . وإلى هذا نحا الزمخشريُّ قال : " وإذْ بدلٌ من اليوم " وحَمَلَه الزمخشريُّ على معنى : إذْ تبيَّن وصَحَّ ظُلْمُكم ، ولم يَبْقَ لأحدٍ ولا لكم شبهةٌ في أنَّكم كنتم ظالمين . ونظيرُه :
3998 إذا ما انْتَسَبْنا لم تَلِدْني لئيمةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : تَبَيَّن أني وَلَدُ كريمةٍ " . وقال الشيخ : " ولا يجوزُ البدلُ ما دامت " إذ " على موضوعِها من المُضِيِّ ، فإنْ جُعِلَتْ لمطلقِ الزمانِ جاز " . قلت : لم يُعْهَدْ في " إذ " أنها تكونُ لمطلقِ الزمان ، بل هي موضوعةٌ لزمانٍ خاصٍ بالماضي كأَمْسِ . الثاني : أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه : بعد إذ ظَلَمْتُمْ .
(1/4704)
الثالث : أنها للتعليلِ . وحينئذٍ تكونُ حرفاً للتعليلِ كاللام . الرابعُ : أنَّ العاملَ في " إذ " هو ذلك الفاعلُ المقدَّرُ لا ضميرُه . والتقدير : ولن ينفعَكم ظلمُكم أو جَحْدُكم إذ ظَلَمْتم . الخامس : أنَّ العاملَ في " إذ " ما دَلَّ عليه المعنى . كأنه قال : ولكن لن ينفعَكم اجتماعُكم إذ ظَلَمْتُمْ . قاله الحوفي ، ثم قال : " وفاعلُ " يَنْفَعَكم " الاشتراكُ " انتهى . فظاهرُ هذا متناقضٌ؛ لأنَّه جَعَلَ الفاعلَ أولاً اجتماعَكم ، ثم جعلَه آخِراً الاشتراكَ . ومنع أَنْ تكونَ " إذ " بدلاً مِن اليوم لتغايُرِهما في الدلالة . وفي كتاب أبي البقاء " وقيل : إذْ بمعنى " أَنْ " أي : أَنْ ظَلَمْتُم " . ولم يُقَيِّدْها بكونِها أن بالفتح أو الكسر ، ولكن قال الشيخ : " وقيل : إذ للتعليلِ حرفاً بمعنى " أَنْ " يعني بالفتح؛ وكأنَّه أراد ما ذكره أبو البقاءِ ، إلاَّ أنَّ تَسْمِيَتَه " أنْ " للتعليل مجازٌ ، فإنها على حَذْفِ حرفِ العلةِ أي : لأَنْ ، فلمصاحبتِها لها ، والاستغناءِ بها عنها سَمَّاها باسمِها . ولا ينبغي أَنْ يُعْتَقَدَ أنَّها في كتابِ أبي البقاء بالكسرِ على الشرطية؛ لأنَّ معناه بعيدٌ .
وقُرِئ " إنكم " بالكسرِ على الاستئناف المفيدِ للعلةِ . وحينئذٍ يكونُ الفاعلُ مضمراً على أحدِ التقادير المذكورة .
(1/4705)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41)
قوله : { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ } : قد تقدَّم الكلامُ عليه قريباً .
(1/4706)
أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42)
وقُرئ " نُرِيَنْكَ " : بالنونِ الخفيفة . والعامَّةُ على { أُوحِيَ } [ الزخرف : 43 ] مبنيًّا للمفعولِ مفتوحَ الياء ، وبعضُ قرَّاء الشام سَكَّنها تخفيفاً . والضحاك " أَوْحَى " مبنياً للفاعل وهو اللَّهُ تعالى .
(1/4707)
وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
قوله : { مَنْ أَرْسَلْنَا } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنَّ " مَنْ " موصولة ، وهي مفعولةٌ للسؤالِ . كأنه قيل : واسأل الذي أرْسَلْناه مِنْ قَبْلِك عَمَّا أُرْسِلوا به ، فإنَّهم لم يُرْسَلوا إلاَّ بالتوحيد . الثاني : أنَّه على حَذْفِ حَرْفِ الجرِّ على أنه المسؤولُ عنه . والمسؤولُ الذي هو المفعولُ الأولُ محذوفٌ ، تقديرُه : واسْأَلْنا عن مَنْ أَرْسَلْناه . الثالث : أنَّ " مَنْ " استفهاميةٌ مرفوعةٌ بالابتداء ، و " أَرْسَلَ " خبرُه . والجملةُ مُعَلِّقَةٌ للسؤالِ ، فتكونُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ ، وهذا ليس بظاهرٍ ، بل الظاهرُ أنَّ المُعَلِّقَ للسؤال إنما هو الجملةُ الاستفهاميةُ مِنْ قولِه " أَجَعَلْنا " .
(1/4708)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47)
قوله : { إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ } : قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : كيف جازَ أَنْ تُجاب " لَمَّا " ب " إذا " المفاجأة؟ قلت : لأنَّ فِعْلَ المفاجأةِ معها مقدَّرٌ ، وهو عاملُ النصبِ في مَحَلِّها ، كأنه قيل : فلمَّا جاءهم بآياتنا فاجَؤُوا وقتَ ضَحِكهم " . قال الشيخ : " ولا نعلَمُ نحوَ ما ذهب إلى ما ذَهَب إليه مِنْ أنَّ " إذا " الفجائيةَ تكونُ منصوبةً بفعلٍ مقدرٍ تقديره : فاجأ ، بل المذاهبُ ثلاثةٌ : إمَّا حرفٌ فلا تحتاجُ إلى عاملٍ ، أو ظرفُ مكانٍ ، أو ظرفُ زمانِ . فإنْ ذُكِرَ بعد الاسمِ الواقع بعدها خبرٌ كانت منصوبةً على الظرفِ ، والعاملُ فيها ذلك الخبرُ نحوَ : " خرجتُ فإذا زيدٌ قائمٌ " تقديره : خرجتُ ففي المكان الذي خَرَجْتُ فيه زيدٌ قائمٌ ، أو ففي الوقتِ الذي خَرَجْتُ فيه زيدٌ قائمٌ ، وإنْ لم يُذْكَرْ بعد الاسمِ خبرٌ ، أو/ ذُكِرَ اسمٌ منصوبٌ على الحالِ : فإنْ كان الاسمُ جثةً وقُلنا : إنها ظرفُ مكانٍ كان الأمرُ واضحاً نحو : خرجْتُ فإذا الأسدُ أي : فبالحضرةِ الأسدُ ، أو فإذا الأسدُ رابضاً . وإنْ قلنا : إنها ظرفُ زمانٍ كان على حذفِ مضافٍ لئلا يُخْبَرَ بالزمانِ عن الجثةِ نحو : " خَرَجْتُ فإذا الأسدُ " أي : ففي الزمانِ حضورُ الأسدِ ، وإن كان الاسمُ حَدَثاً جازَ أن يكونَ مكاناً أو زماناً . ولا حاجةَ إلى تقديرِ مضافٍ نحو : " خرجْتُ فإذا القتالُ " إنْ شِئْتَ قَدَّرْتَ فبالحضرة القتالُ ، أو ففي الزمانِ القتالُ " . وفيه تلخيصٌ وزيادةٌ كبيرةٌ في الأمثلةِ رأيْتُ تَرْكَها مُخِلاًّ .
(1/4709)
وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48)
قوله : { إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ } : جملةٌ واقعةٌ صفةً لقولِه : " مِنْ آية " فيُحْكَمُ على موضِعها بالجَرِّ اعتباراً باللفظِ ، وبالنصبِ اعتباراً بالمحلِّ ، وفي معنى قولِه : { أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } أوجهٌ ، أحدها : - قاله ابنُ عطية - وهو أنهم يَسْتَعْظِمون الآيةَ التي تأتي ، لجِدَّةِ أَمْرِها وحُدوثِه؛ لأنهم أَنِسُوا بتلك الآيةِ السابقةِ فيَعْظُم أَمْرُ الثانيةِ ويَكْبرُ ، وهذا كما قال :
3999 على أنَّها تَعْفُو الكُلُوم ، وإنما ... نُوَكَّلُ بالأَدْنى وإنْ جَلَّ ما يَمْضي
الثاني : ما ذكرَه بعضُهم : مِنْ أنَّ المعنى : إلاَّ هي أكبرُ من أختها السابقةِ ، فحذَفَ الصفةَ للعِلْمِ بها . الثالث : قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : هو كلامٌ متناقضٌ؛ لأنَّ معناه : ما مِنْ آيةٍ من التسعِ إلاَّ وهي أكبرُ مِنْ كلِّ واحدةٍ منها ، فتكونُ كلُّ واحدةٍ منها فاضلةً ومفضولةً في حالةٍ واحدة . قلت : الغرضُ بهذا الكلامِ وَصْفُهُنَّ بالكبرِ لا يَكَدْنَ يتفاوَتْنَ فيه ، وكذلك العادةُ في الأشياء التي تتقارَبُ في الفضلِ التقاربَ اليسيرَ ، تختلفُ آراءُ الناس في تفضيلِها ، فبعضُهم يفضِّل هذا ، وبعضُهم يفضِّل هذا ، وربما اختلفَتْ آراءُ الواحدِ فيها ، كقول الحماسيِّ :
4000 مَنْ تَلْقَ منهم تَقُلْ لاقَيْتُ سَيِّدَهُمْ ... مثلَ النجومِ التي يَهْدِي بها السَّاري
وقالت الأنمارية في الجُمْلة من أبنائها : ثَكِلْتُهُمْ إنْ كنتُ أعلمُ أيُّهم أفضلُ ، هم كالحَلْقَةِ المُفْرَغَةِ لا يُدْرى أين طرفاها " انتهى كلامُه . وأولُه فظيعٌ جداً كأن العباراتِ ضاقَتْ عليه حتى قال ما قال ، وإنْ كان جوابُه حَسَناً فسؤالُه فظيعٌ . وقد تقدَّم الخلافُ في { ياأيها الساحر } في النور .
(1/4710)
فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
وقرأ أبو حيوةَ " يَنْكِثُوْن " بكسرِ الكافِ . وهي لغةٌ .
(1/4711)
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)
قوله : { وهذه الأنهار } : يجوزُ في " وهذه " وجهان ، أحدهما : أَنْ تكونَ مبتدأةً ، والواوُ للحالِ . والأنهارُ صفةٌ لاسمِ الإِشارةِ ، أو عطفُ بيانٍ . و " تجري " الخبرُ . والجملةُ حالٌ مِنْ ياء " لي " . والثاني : أنَّ " هذه " معطوفةٌ على " مُلْك مِصْرَ " ، و " تَجْري " على هذا حالٌ أي : أليس مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهارُ جاريةً أي : الشيئان .
قوله : " تُبْصِرونَ " العامَّةُ على الخطابِ لِمَنْ ناداه . وقرأ عيسى بكسر النون أي : تُبْصِروني . وفي قراءةِ العامَّةِ المفعولُ محذوفٌ أي : تُبْصِرون مُلْكي وعَظَمتي . وقرأ فهد بن الصقر " يُبْصِرون " بياء الغَيْبة : إمَّا على الالتفاتِ من الخطاب إلى الغَيْبة ، وإمَّا رَدًّا على قوم موسى .
(1/4712)
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52)
قوله : { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ } : في " أم " أقوالٌ ، أحدها : أنها منقطعةٌ ، فتتقدَّرُ ب بل التي لإِضرابِ الانتقال ، وبالهمزة التي للإِنكار . والثاني : أنها بمعنى بل فقط ، كقوله :
4001 بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ في رَوْنَق الضُّحى ... وصورتِها أم أنتِ في العينِ أَمْلَحُ
أي : بل أنتِ . الثالث : أنها منقطعةٌ لفظاً ، متصلةٌ معنىً . قال أبو البقاء : " أمْ هنا منقطعةٌ في اللفظ لوقوع الجملةِ بعدَها في اللفظ ، وهي في المعنى متصلةٌ معادِلةٌ؛ إذ المعنى : أنا خيرٌ منه أم لا ، وأيُّنا خيرٌ " وهذه عبارةٌ غريبةٌ : أن تكونَ منقطعةً لفظاً ، متصلةً معنى ، وذلك أنهما معنيان مختلفان؛ فإن الانقطاعَ يَقْتضي إضراباً : إمَّا إبطالاً ، وإمّا انتقالاً . الرابع : أنها متصلةٌ ، والمعادِلُ محذوفٌ تقديره : أم تُبْصِرون . وهذا لا يجوزُ إلاَّ إذا كانت " لا " بعد أم نحو : أتقومُ أم لا؟ أي : أم لا تقوم . وأزيدٌ عندك أم لا؟ أي : أم لا هو عندك . أمَّا حَذْفُه دون " لا " فلا يجوزُ ، وقد جاء حَذْفُ " أم " مع المعادِلِ وهو قليلٌ جداً . قال الشاعر :
4002 دعاني إليها القلبُ إني لأَمْرِها ... سميعٌ فلا أَدْري أَرُشْدٌ طِلابُها
أي : أم غَيٌّ . وكان الشيخ قد نقل عن سيبويه أنَّ هذه هي " أم " المعادِلَةُ أي : أم تُبْصِرُون الأمرَ الذي هو حقيقٌ أَنْ يُبْصَرَ عنده ، وهو أنَّه خيرٌ مِنْ موسى . قال : " وهذا القولُ بدأ به الزمخشريُّ فقال : " أم/ هذه متصلة لأنَّ المعنى : أفلا تُبْصِرون أم تُبْصرون ، إلاَّ أنه وَضَعَ قولَه : " أنا خيرٌ " موضعَ " تُبْصِرون "؛ لأنهم إذا قالوا : أنت خيرٌ ، فهم عنده بُصَراءُ ، وهذا من إنزالَ السببِ منزلةَ المسبب " . قال الشيخ : " وهذا متكلَّفٌ جداً؛ إذ المعادِلُ إنما يكونُ مقابلاً للسابقِ . فإن كان المعادِلُ جملةً فعليةً كان السابقُ جملةً فعليةً أو جملةً اسميةً يتقدَّر منها فعليةٌ ، كقوله : { أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ } [ الأعراف : 193 ] لأنَّ معناه : أم صَمَتُّم ، وهنا لا تتقدَّرُ منها جملةٌ فعليةٌ؛ لأنَّ قولَه : { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ } ليس مقابلاً لقولِه : " أفلا تُبْصِرون " . وإن كان السابقُ اسماً كان المعادِلُ اسماً ، أو جملةً فعليةً يتقدَّر منها اسمٌ نحو قولِه :
4003 أمُخْدَجُ اليدَيْنِ أم أَتَمَّتِ ... ف " أتمَّت " معادِلٌ للاسم ، فالتقديرُ : أم مُتِمًّا " قلت : وهذا الذي رَدَّه على الزمخشريِّ رَدٌّ على سيبويه؛ لأنه هو السابقُ به ، وكذا قولُه أيضاً : إنه لا يُحْذَفُ المعادِلُ بعد " أم " إلاَّ وبعدها " لا " فيه نظرٌ؛ من حيث تجويزُ سيبويه حَذْفُ المعادِلِ دون " لا " فهو رَدٌّ على سيبويهِ أيضاً .
[ قوله : { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ معطوفةً على الصلةِ ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً ، وأن تكونَ حالاً ] . والعامَّة على " يُبين " مِنْ أبان ، والباقر " يَبين " بفتحِها مِنْ بان أي : ظهر .
(1/4713)
فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)
قوله : { أَسْوِرَةٌ } : قرأ حفص " أَسْوِرَة " كأَحْمِرَة . والباقون " أساوِرَة " . فأسْوِرَة جمع سِوار كحِمار وأَحْمِرَة ، وهو جمعُ قلةٍ ، وأساوِرَة جمعُ إسْوار بمعنى سِوار . يقال : سِوارُ المرأة وإسْوارُها ، والأصل : أساوير بالياء ، فَعُوِّضَ من حرف المدِّ تاءُ التأنيثِ كزَنادقة . وقيل : بل هي جمعُ أَسْوِرة فهي جمعُ الجمعِ . وقرأ أُبَيٌّ والأعمش - ويُرْوى عن أبي عمرو - " أساوِر " دونَ تاءٍ . ورُوِي عن أُبَيّ أيضاً وعبد الله أساْوِير . وقرأ الضحاك " أَلْقَى " مبنياً للفاعلِ أي الله . و " وأساوِرة " نصباً على المفعولية . و " مِنْ ذَهَبٍ " صفةٌ ل أَساورة . ويجوزُ أَنْ تكون " مِنْ " الداخلةَ على التمييز .
(1/4714)
فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
قوله : { آسَفُونَا } : منقولٌ بهمزةِ التعديةِ مِنْ أسِفَ بمعنى غَضِبَ ، والمعنى : أَغْضَبونا بمخالَفَتِهم أمرَنا . وفي التفسيرِ : أحزنوا أولياءَنا يعني السَّحَرةَ .
(1/4715)
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
قوله : { سَلَفاً } : قرأ الأخَوان بضمتين ، والباقون بفتحتين . فأمَّا الأُولى فتحتمل ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدُها : أنها جمعُ سَليف كرَغيف ورُغُف . وسمع القاسمُ بنُ مَعَن من العرب : " مضى سَليفٌ من الناس " . والسَّليفُ من الناس كالفريقِ منهم . والثاني : أنها جمعُ سالِف كصابِر وصُبُر . والثالث : أنها جمعُ سَلَف كأَسَد وأُسُد . والثانية تحتمل وجهين ، أحدهما : أَنْ يكونَ جمعاً لسالِف كحارس وحَرَس ، وخادِم وخَدَم . وهذا في الحقيقة اسمُ جمعٍ لا جمعُ تكسيرٍ؛ إذ ليس في أبنيةِ التكسير صيغةُ فَعَل . والثاني : أنه مصدرٌ يُطْلق على الجماعة تقول : سَلَفَ الرجلُ يَسْلُفُ سَلَفاً أي : تقدَّم . وسلَفُ الرجلِ آباؤه المتقدِّمون ، والجمع أَسْلافٌ وسُلاف . وقال طفيل :
4004 مَضَوْا سَلَفاً قَصْدُ السَّبيلِ عليهمُ ... صُروفُ المنايا بالرجالِ تَقَلَّبُ
وقرأ عليٌّ كَرَّم اللَّهُ وجهَه ومجاهد " سُلَفاً " بضم السين وفتح اللام . وفيها وجهان ، أشهرُهما : أنه جمعُ سُلْفَة كغُرْفَة وغُرَف ، والسُّلْفَةُ الأمة . وقيل : الأصل " سُلُفاً " بضمتين ، وإنما أَبْدل من الضمة فتحةً .
(1/4716)
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)
قوله : { مَثَلاً } : إمَّا مفعولٌ ثانٍ إنْ كانت بمعنى صَيَّر ، وإلاَّ حالاً .
قوله : " يَصِدُّون " قرأ نافع وابن عامر والكسائي " يَصُدُّون " بضمِ الصادِ . والباقون بكسرِها . فقيل : هما بمعنىً واحدٍ ، وهو الصحيحُ ، واللفظُ يُقال : صَدَّ يَصِدُّ ويَصُدُّ كعَكَفَ يَعْكِفُ ويَعْكُفُ ، ويَعْرُشُ ويَعْرِشُ . وقيل : الضمُّ مِن الصُّدود ، وهو الإِعراضُ . وقد أنكر ابنُ عباسٍ الضمَّ ، وقد رُوِي له عن علي رضي الله عنهما - والله أعلم - قبل بلوغِه تواتُرُه .
(1/4717)
وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58)
قوله : { وقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ } : قرأ أهلُ الكوفة بتحقيق الهمزةِ الثانيةِ ، والباقون بتسهيلِها بينَ بينَ ، ولم يُدْخِلْ أحدٌ مِنْ القرَّاء الذين مِنْ قاعدتِهم الفصلُ بين الهمزتين بألفٍ ، ألفاً ، كراهةً لتوالي أربعةِ مُتشابهات ، وأَبْدل الجميعُ الهمزةَ الثالثة ألفاً . ولا بُدَّ/ مِنْ زيادةِ بيان : وذلك أن " آلِهة " جمعُ إله كعِماد وأَعْمِدَة ، فالأصلُ أَأْلِهَة بهمزتين : الأولى زائدةٌ ، والثانيةُ فاء الكلمة وقعتِ الثانيةُ ساكنةً بعد مفتوحةٍ وَجَبَ قلْبُها ألفاً كأَمِن وبابِه ، ثم دَخَلَتْ همزةُ الاستفهامُ على الكلمةِ ، فالتقى همزتان في اللفظ : الأولى للاستفهامِ والثانيةُ همزةُ أَفْعِلة . والكوفيون لم يَعْتَدُّوا باجتماعِهما فأبْقَوْهما على حالِهما . وغيرُهم استثقَل فخفَّفَ الثانيةَ بالتسهيلِ بينَ بينَ ، والثالثةُ بألفٍ محضةٍ لم تُغَيَّرْ البتةَ . وأكثرُ أهلِ العصرِ يُقرُّونَ هذا الحرفَ بهمزةٍ واحدة بعدها ألفٌ على لفظِ الخبرِ ولم يقرأْ به أحدٌ من السبعة فيما قَرَأْتُ به ، إلاَّ أنَّه رُوِي أنَّ وَرْشاً قرأ كذلك في روايةِ أبي الأَزْهر ، وهي تحتملُ الاستفهامَ كالعامَّةِ ، وإنما حَذَفَ أداةَ الاستفهامِ لدلالة " أم " عليها وهو كثيرٌ ، وتَحْتمل أنَّه قرأه خبراً مَحْضاً وحينئذٍ تكون " أم " منقطعةً فتُقَدَّرُ ب بل والهمزة .
وأمَّا الجماعةُ فهي عندهم متصلةٌ . فقوله : " أم هو " على قراءةِ العامة عطفٌ على " آلهتنا " وهو من عطفِ المفرداتِ . التقدير : أآلهتُنا أم هو خيرٌ أي : أيُّهما خيرٌ . وعلى قراءةِ ورشٍ يكونُ " هو " مبتدأً ، وخبرُه محذوفٌ تقديرُه : بل أهو خيرٌ ، وليست " أم " حينئذٍ عاطفةً .
قوله : " جَدَلاً " مفعولٌ مِنْ أجله أي : لأجلِ الجدلِ والمِراءِ لا لإِظهارِ الحقِّ . وقيل : هو مصدرٌ في موضعِ الحال أي : إلاَّ مُجادِلين .
وقرأ ابنُ مقسم " جِدالاً " والوجهان جاريان فيه . والظاهر أنَّ " هو " لعيسى كغيره من الضمائر . وقيل : هو للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم .
(1/4718)
وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60)
قوله : { لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً } : في " مِنْ " هذه أقوالٌ ، أحدها : أنها بمعنى بَدَل أي : لَجَعَلْنا بَدَلكم . ومنه أيضاً { أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة } [ التوبة : 38 ] أي بَدَلَها . وأنشد :
4005 أخَذُوا المَخاضَ من الفَصيل غُلُبَّةً ... ظُلْماً ويُكْتَبُ للأمير إفالا
وقال آخر :
4006 جارِيَةٌ لم تَأْكُلِ المُرَقَّقَا ... ولم تَذُقْ من البُقولِ الفُسْتقا
والثاني : - وهو المشهورُ - أنها تبعيضِيَّةٌ . وتأويلُ الآية عندهم : لَوَلَّدْنا منكم يا رجالُ ملائكةً في الأرض يَخْلُفونكم كما يَخْلُفكم أولادُكم ، كما وَلَّدْنا عيسى مِنْ أنثى دونَ ذكرٍ ، ذكره الزمخشري . والثالث : أنها تبعيضيَّةٌ . قال أبو البقاء : " وقيل : المعنى : لَحَوَّلْنا بعضَكم ملائكةً " . وقال ابن عطية : " لَجَعَلْنا بَدَلاً مِنْكم " .
(1/4719)
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
قوله : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ } : المشهورُ أنَّ الضمير لعيسى ، يعني نزولَه آخر الزمان . وقيل الضميرُ للقرآن أي : فيه عِلْمُ الساعةِ وأهوالُها ، أو هو علامةٌ على قُرْبها . وفيه { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } [ الأنبياء : 1 ] { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] . وقيل : للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم . ومنه " بُعِثْت أنا والساعةُ كهاتَيْن " .
والعامَّةُ على " عِلْم " مصدراً ، جُعِل عِلْماً مبالغَةً لَمَّا كان به يَحْصُلُ العِلْمُ ، أو لَمَّا كان شَرْطاً يُعْلَم به ذلك أُطْلِق عليه عِلْم . وابن عباس وأبو هُرَيْرَة وأبو مالكِ الغِفاري وزيد بن علي " لَعَلَمٌ " بفتح الفاءِ والعينِ أي : لَشَرْطُ وعَلامةٌ ، وقرأ أبو نضرة وعكرمةُ كذلك ، إلاَّ أنهما عَرَّفا باللام ، فقرآ " للعَلَمُ " أي : لَلْعلامَةُ المعروفةُ .
(1/4720)
الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)
قوله : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ } : مبتدأ ، وخبرُه " عَدُوٌّ " . والتنوين في " يومئذٍ " عِوَضٌ عن جملة تقديرُه : يومَ إذْ تَأْتيهم الساعةُ . والعامل في " يَوْمئذ " لفظُ " عَدُوٌّ " أي : عداوتُهم في ذلك اليوم .
(1/4721)
يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68)
قوله : { ياعبادي } : قرا أبو بكرٍ عن عاصمٍ " يا عبادِيَ ، لا خَوْفٌ " بفتح الياء . والأخوانَ وابن كثير وحفصٌ بحَذْفِها وصلاً ووقفاً . والباقون بإثباتها ساكنةً . وقرأ العامَّة " لا خوفٌ " بالرفع والتنوينِ : إمَّا مبتدأً ، وإمَّا اسماً لها ، وهو قليلٌ . وابن محيصن دونَ تنوينٍ على حَذْفِ مضافٍ وانتظارِه : لا خوفُ شيءٍ . والحسنُ وابن أبي إسحاق بالفتح على " لا " التبرئةِ ، وهي عندهم أَبْلَغُ .
(1/4722)
الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69)
قوله : { الذين آمَنُواْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً ل " عبادي " أو بدلاً منه ، أو عطف بيانٍ له ، أو مقطوعاً منصوباً أو مرفوعاً .
(1/4723)
يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71)
قوله : { يُطَافُ } : قبلَه محذوفٌ أي : يَدْخُلونُ يُطاف . والصِّحافُ : جمعُ صَحْفَة كجَفْنَة وجِفان . قال الجوهري : " الصَّحْفَةُ كالقَصْعَةِ . وقال الكسائيُّ : أعظمُ القَصاعِ الجَفْنةُ ، ثم القَصْعَةُ تُشْبِع العَشَرة ، ثم الصَّحْفَةُ تُشْبِعُ الخمسةَ ، ثم المِئْكَلَة تُشْبِعُ/ الرجلين والثلاثة " . والصَّحيفة : الكتابُ ، والجمعُ : صُحُف وصَحَائف . وأمال الكسائيُّ في روايةٍ " بِصحاف " . والأَكْواب جمعٌ . فقيل : هو كالإِبْريق إلاَّ أنه لا عُرْوَةَ له . وقيل : إلاَّ أنه لا خُرْطومَ له . وقيل : إلاَّ أنه لا عُرْوَةَ له ولا خُرْطومَ معاً . قال الجواليقي : " ليتمكَّنَ الشاربُ مِنْ أين شاءَ ، فإنَّ العُرْوَةَ تمنعُ من ذلك " .
وقال عَدِيّ :
4007 مُتَّكِئاً تَصْفِقُ أبْوابُه ... يَسْعَى عليه العبدُ بالكُوبِ
والتقدير : وأكواب مِنْ ذَهَب أو لم يُرِدْ تَقْييدَها .
قوله : { مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس } قرأ نافعٌ وابن عامرٍ وحفصٍ " تَشْتهيه " بإثباتِ العائدِ على الموصول كقوله : { الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان } [ البقرة : 275 ] والباقون بحَذْفِه كقوله : { أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] وهذه القراءةُ شبيهةٌ بقوله : { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } [ يس : 35 ] وتقدَّم ذلك في يس ،
وهذه الهاءُ في هذه السورةِ رُسِمَتْ في مصاحفِ المدينة والشام ، وحُذِفَتْ مِنْ غيرِها . وقد وقع لأبي عبد الله الفاسيِّ شارحِ القصيدِ وَهَمٌ فسَبَقَ قلمُه فكتب : " والهاءُ منه محذوفةٌ في مصاحفِ المدينةِ والشامِ ثابتةٌ في غيرِهما " . أراد أن يكتبَ " ثابتةٌ في مصاحف المدينة والشام محذوفةٌ من غيرِهما " فعكَسَ . وفي مصحفِ عبد الله { تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين } بالهاء فيهما .
(1/4724)
لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
قوله : { مِّنْهَا تَأْكُلُونَ } : " مِنْ " تبعيضيةٌ أو ابتدائيةٌ ، وقُدِّم الجارُّ لأجلِ الفاصلةِ .
(1/4725)
لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75)
قوله : { لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ } : جملةٌ حاليةٌ ، وكذلك { وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } : وقرأ عبد الله " وهُمْ فيها " أي : في النار لدلالةِ العذاب عليها .
(1/4726)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)
قوله : { ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين } : العامَّةُ على الياء خبراً ل " كان " ، و " هم " إمَّا فَصْلٌ وإمَّا توكيدٌ . وقرأ عبد الله وأبو زيدٍ النحويان " الظالمون " على أنَّ " هو " مبتدأٌ . و " الظالمون " خبرُه . والجملةُ خبر كان ، وهي لغةُ تميم . قال أبو زيد : " سَمِعْتُهم يَقْرؤون " تَجِدُوْه عند الله هو خيرٌ وأعظمُ أجراً " بالرفعِ . وقال قيس بن ذُرَيح :
4008 تَحِنُّ إلى ليلى وأنت تَرَكْتَها ... وكنتَ عليها بالمَلا أنتَ أقدرُ
برفع " أقدرُ " و " أنت " فصلٌ أو توكيدٌ . قال سيبويه : " بَلَغَنا أنَّ رؤبةَ كان يقولُ : أظنُّ زيداً هو خيرٌ منك " يعني بالرفع .
(1/4727)
وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)
قوله : { يامالك } : العامَّةُ مِنْ غير ترخيمٍ . وعلي بن أبي طالب وعبدُ الله وابنُ وثَّاب والأعمش " يا مالِ " مرخماً على لغة مَنْ ينتظر . وأبو السِّوار الغَنَويُّ " يا مالُ " مبنياً على الضم على لغةِ مَنْ لا يَنْوي .
(1/4728)
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79)
قوله : { أَمْ أبرموا } : أم منقطعةٌ . والإِبرام : الإِتقانُ ، وأصلُه في الفَتْلِ . يقال : أَبْرَمَ الحَبْلَ أي : أتقن فَتْلَه ، وهو الفَتْلُ الثاني ، والأولُ يُقال له : سَحِيل . قال زهير :
4009 لَعَمْرِي لَنِعْمَ السَّيِّدان وُجِدْتُما ... على كل حالٍ مِنْ سَحِيلٍ ومُبرَمِ
(1/4729)
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)
قوله : { إِن كَانَ للرحمن } : قيل : هي شرطيةٌ على بابِها . واخْتُلِفَ في تأويلِه فقيل : إنْ صَحَّ ذلك فأنا أولُ مَنْ يَعْبُده لكنه لم يَصِحَّ البتةَ بالدليلِ القاطعِ ، وذلك أنَّه عَلَّق العبادةَ بكيْنونة الولدِ ، وهي مُحالٌ في نفسِها ، فكان المُعَلَّقُ بها مُحالاً مثلَها ، فهو في صورةِ إثباتِ الكينونةِ والعبادةِ ، وفي معنى نَفْيهِما على أَبْلغِ الوجوهِ وأَقْواها ، ذكره الزمخشريُّ . وقيل : إن كان له ولدٌ في زَعْمِكم . وقيل : العابدين بمعنى : الآنفين . مِنْ عَبِدَ يَعْبَدُ إذا اشْتَدَّ أَنَفَةً فهو عَبِدٌ وعابِدٌ . ويؤيِّدُه قراءةُ السُّلَميِّ واليماني " العَبِدين " دون ألفٍ . وحكى الخليل قراءةً غريبةً وهي " العَبْدِيْن " بسكون الباءِ ، وهي تخفيفُ قراءةِ السُّلَمي فأصلها الكسرُ . قال ابنُ عرفة : " يقال : عَبِدَ بالكسر يَعْبَد بالفتح فهو عَبِد ، وقلَّما يقال : عابِد ، والقرآن لا يجيْءُ على القليلِ ولا الشاذِّ " . قلتُ : يعني فتخريج مَنْ قال : إنَّ العابدين بمعنى الآنفين لا يَصِحُّ ، ثم قال كقول مجاهد . وقال الفرزدق :
4010 أولئك آبائي فجِئْني بمثْلِهم ... وأَعْبَدُ أنْ أَهْجُوْ كُلَيْباً بدارِمِ
أي : آنَفُ . وقال آخر :
4011 متى ما يَشَأْ ذو الوُدِّ يَصْرِمْ خليلَه ... ويُعْبَدْ عليه لا مَحالةَ ظالما
وقال أبو عبيدة : " معناه الجاحِدين " . يقال : عَبَدَني حَقِّي أي : جَحَدنيه . وقال أبو حاتم : " العَبِدُ بكسر الباءِ : الشديدُ الغَضَبِ " ، وهو معنى حسنٌ أي : إنْ كان له ولدٌ على زَعْمِكم فأنا أولُ مَنْ يَغْضَبُ لذلك .
وقيل : " إنْ " نافيةٌ أي : ما كان ، ثم أَخْبَرَ بقولِه : { فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } وتكونُ الفاءُ سببيةً . ومنع مكي أَنْ تكونَ نافيةً قال : " لأنه يُوْهِمُ أنَّك إنما نَفَيْتَ عن الله الولدَ فيما مضى دونَ ما هو آتٍ ، وهذا مُحالٌ " .
وقد رَدَّ الناسُ على مكيّ ، وقالوا : كان قد تَدُلُّ على الدوامِ كقوله : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 96 ] إلى ما لا يُحْصَى ، والصحيحُ من مذاهبِ النحاةِ : أنها لا تدُلُّ على الانقطاعِ ، والقائلُ بذلك يقولُ : ما لم يكنْ قرينة كالآياتِ المذكورةِ . وتقدَّمَ الخلافُ في قراءَتَيْ : وَلَد ووُلْد في مريم .
(1/4730)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)
قوله : { يُلاَقُواْ } : العامَّةُ من المُلاقاةِ . وابنُ محيصن - وتُرْوى عن أبي عمروٍ - " يَلْقَوا " مِنْ لَقِيَ .
(1/4731)
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84)
قوله : { وَهُوَ الذي فِي السمآء إله } : " في السماء " متعلِّقٌ ب " إله " لأنه بمعنى معبودٌ أي : معبودٌ في السماء ومعبودٌ في الأرض ، وحينئذٍ فيقال : الصلة لا تكونُ إلاَّ جملةً أو ما في تقديرِها وهو الظرفُ وعديلُه ، ولا شيءَ منها هنا . والجوابُ : أنَّ المبتدأَ حُذِفَ لدلالة المعنى عليه ، وذلك المحذوفُ هو العائدُ تقديرُه : وهو الذي في السماءِ إلهٌ ، وهو في الأرض إلهٌ ، وإنما/ حُذِف لطولِ الصلةِ بالمعمولِ فإنَّ الجارَّ متعلِّقٌ ب إله . ومثلُه " ما أنا بالذي قائلٌ لك سوءاً " .
وقال الشيخ : " وحَسَّنه طولُه بالعطفِ عليه ، كما حَسَّنَ في قولِهم : قائل [ لك ] شيئاً طولُه بالمعمولِ " . قلت : حصولُه في الآيةِ وفيما حكاه سواءٌ؛ فإن الصلةَ طالَتْ بالمعمولِ في كلَيْهما ، والعطفُ أمرٌ زائدٌ على ذلك فهو زيادةٌ في تحسين الحَذْفِ . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ الجارُّ خبراً مقدماً ، و " إله " مبتدأٌ مؤخرٌ لئلا تَعْرَى الجملةُ مِنْ رابطٍ ، إذ يصيرُ نظيرَ " جاء الذي في الدار زيد " . فإن جَعَلْتَ الجارَّ صلةً وفيه ضميرٌ عائدٌ على الموصولِ وجَعَلْتَ " إله " بدلاً منه . قال أبو البقاء : " جاز على ضَعْفٍ؛ لأن الغَرَض الكليَّ إثباتُ الإِلهيةِ لا كونُه في السماء والأرض ، فكان يَفْسُدُ أيضاً من وجهٍ آخرَ وهو قولُه : { وَفِي الأرض إله } لأنه معطوفٌ على ما قبلَه ، وإذا لم تُقَدِّرْ ما ذكرْنا صار منقطعاً عنه وكان المعنى : أنَّ في الأرض إلهاً " انتهى . وقال الشيخ : " ويجوزُ أَنْ تكونَ الصلةُ الجارَّ والمجرورَ ، والمعنى : أنه فيهما بألوهِيَّتِه وربُوبِيَّتِه ، إذ يَستحيل حَمْلُه على الاستقرار " .
وقرأ عمرُ وعلي وعبد الله في جماعة { وَهُوَ الذي فِي السمآء الله } ضُمِّن العَلَمُ أيضاً معنى المشتقِّ ، فيتعلَّقُ به الجارُّ . ومثله " هو حاتمٌ في طَيِّئ " أي : الجوادُ فيهم . ومثلُه : فرعون العذاب .
(1/4732)
وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)
قوله : { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } : الأخَوان وابن كثير بالياء مِنْ تحتُ ، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ ، وهو في كلَيْهما مبني للمفعول . وقُرئ بالخطاب مبنياً للفاعل .
وقرأ العامَّةُ أيضاً " يَدْعُوْنَ " بياء الغَيْبة والضميرُ للموصل . والسلمي وابنُ وثابٍ بتاء الخطاب ، والأسود بن يزيد بتشديد الدالِ ، ونُقِل عنه القراءةُ مع ذلك بالتاء والياء .
(1/4733)
وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
قوله : { إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق } : فيه قولان ، أحدهما : أنه متصلٌ والمعنى : إلاَّ مَنْ شهد بالحقِّ كعُزَيْرٍ والملائكةِ ، فإنهم يملكون الشفاعةَ بتمليك اللَّهِ إياهم لها . وقيل : هو منقطعٌ بمعنى : أنَّ هؤلاءِ لا يَشْفَعُون إلاَّ فيمَنْ شَهِد بالحقِّ ، أي : لكن مَنْ شَهِدَ بالحق يَشْفَعُ فيه هؤلاء ، كذا قَدَّروه . وهذا التقديرُ يجوزُ فيه أَنْ يكونَ الاستثناءُ متصلاً على حَذْفِ المفعولِ ، تقديرُه : ولا يملكون الذين يَدْعُون مِنْ دونه الشفاعةَ في أحدٍ إلاَّ فيمَنْ شَهِدَ .
(1/4734)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87)
وقرأ العامَّة " فأنَّى يُؤْفَكون " بالغَيْبة . ورُوي عن أبي عمروٍ بالخطاب .
(1/4735)
وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88)
قوله : { وَقِيلِهِ } : قرأ حمزةُ وعاصمٌ بالجرِّ . والباقون بالنصب . فأمَّا الجرُّ فعلى وجهَيْن ، أحدهما : أنَّه عطفٌ على " الساعة " أي : عنده عِلْمُ قيلِه ، أي : قولِ محمدٍ أو عيسى عليهما السلام . والقَوْلُ والقالُ والقِيْلُ بمعنى واحد جاءَتْ المصادرُ على هذه الأوزانِ . والثاني : أنَّ الواوَ للقَسم . والجوابُ : إمَّا محذوفٌ تقديرُه : لتُنْصَرُنَّ أو لأَفْعَلَنَّ بهم ما أريد ، وإمَّا مذكورٌ وهو قولُه : { إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ } ذكره الزمخشريُّ .
وأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثمانيةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّه منصوبٌ على محلِّ " الساعة " . كأنَّه قيل : إنه يَعْلَمُ الساعةَ ويعْلَمُ قِيْله كذا . الثاني : أنَّه معطوفٌ على " سِرَّهم ونجواهم " أي : لا نعلم سِرَّهم ونجواهم ولا نعلمُ قِيْلَه . الثالث : عطفٌ على مفعولِ " يكتُبون " المحذوفِ أي : يكتبون ذلك ويكتبون قيلَه كذا أيضاً . الرابع : أنَّه معطوفٌ على مفعولِ " يعلمون " المحذوفِ أي : يَعْلمون ذلك ويعلمون قيلَه . الخامس : أنه مصدرٌ أي : قالَ قيلَه . السادس : أَنْ ينتصِبَ بإضمارِ فعلٍ أي : اللَّهُ يعلمُ قيلَ رسولِه وهو محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم . السابع : أَنْ ينتصِبَ على محلِّ " بالحق " أي : شَهِدَ بالحقِّ وبِقيْلِه . الثامن : أَنْ ينتصِبَ على حَذْفِ حرفِ القسمِ كقوله :
4012 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فذاك أمانةَ اللَّهِ الثَّريدُ
وقرأ الأعرجُ وأبو قلابةَ ومجاهدٌ والحسنُ بالرفع ، وفيه أوجه [ أحدها : ] الرفعُ عطفاً على " علمُ الساعةِ " بتقديرِ مضافٍ أي : وعنده عِلْمُ قِيْلِه ، ثم حُذِفَ وأُقيم هذا مُقامَه . الثاني : أنَّه مرفوعٌ بالابتداءِ ، والجملةُ مِنْ قولِه : " يا رب " إلى آخره هي الخبر . الثالث : أنه مبتدأٌ وخبرُه محذوفٌ تقديرِه : وقيلُه كيتَ وكيتَ مَسْموعٌ أو مُتَقَبَّلٌ . الرابع : أنه مبتدأ وأصلُه القسمُ كقولِهم : " ايمُنُ الله " و " لَعَمْرُ الله " فيكونُ خبرُه محذوفاً . والجوابُ كما تقدَّم ، ذَكرَه الزمخشري أيضاً .
واختار القراءةَ بالنصب جماعةٌ . قال النحاس : " القراءةُ البَيِّنَةُ بالنصب من جهتَيْن ، إحداهما : أنَّ التفرقةَ بين المنصوبِ وما عُطِفَ عليه مُغْتَفَرَةٌ بخلافِها بين المخفوضِ وما عُطِفَ عليه . والثانيةُ تفسيرُ أهلِ التأويل بمعنى النصب " . قلت : وكأنَّه يُريدُ ما قال أبو عبيدة قال : " إنما هي في التفسيرِ : أم يَحْسَبون أنَّا لا نَسْمع سِرَّهم ونجواهم ولا نسمعُ قِيْلَه يا رب . ولم يَرْتَضِ الزمخشريُّ من الأوجهِ المتقدمةِ شيئاً ، وإنما اختار أَنْ تكونَ قَسَماً في القراءاتِ الثلاثِ ، وتقدَّم تحقيقُها .
وقرأ أبو قلابة " يا رَبَّ " بفتح الباءِ على قَلْب الياء ألفاً ثم حَذََفَها مُجْتَزِئاً عنها بالفتحة كقولِه :
4013 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... بلَهْفَ ولا بِلَيْتَ . . . . . . . . . . . . . . . . .
والأخفشُ يَطَّرِدُها .
(1/4736)
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
قوله : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } : قرأ نافعٌ وابنُ عامر " تَعْلمون " بالخطاب التفاتاً ، والباقون بالغَيْبة نظراً لِما تقدَّم .
(1/4737)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ } : يجوزُ أن يكونَ جوابَ القسمِ ، وأَنْ يكونَ اعتراضاً ، والجوابُ قولُه : { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } ، واختاره ابنُ عطية . وقيل : " إنَّا كُنَّا " مستأنفٌ ، أو جوابٌ ثانٍ مِنْ غيرِ عاطِفٍ .
(1/4738)
فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
قوله : { فِيهَا يُفْرَقُ } : يجوزُ أَنْ تكونَ مُسْتَأْنَفَةً ، وأَنْ تكونَ صفةً ل " ليلة " وما بينهما اعتراضٌ . قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : إنَّا كُنَّا مُنْذِرين ، فيها يُفْرَقُ ، ما موقعُ هاتين الجملتين؟ قلت : هما جملتان مستأنفتان مَلْفوفتان ، فَسَّر بهما جوابَ القسمِ الذي هو " أَنْزَلْناه " كأنه قيل : أَنْزَلْناه؛ لأنَّ مِنْ شَأْنِنا الإِنذارَ والتحذيرَ ، وكان إنزالُنا إياه في هذه الليلةِ خصوصاً؛ لأنَّ إنزالَ القرآنِ مِنَ الأمورِ الحكيمةِ ، وهذه الليلةُ يُفْرَقُ فيها كلُّ أمرٍ حكيم " . قلت : وهذا مِنْ محاسِنِ هذا الرجلِ .
وقرأ الحسن والأعرج والأعمش " يَفْرُقُ " بفتح الياء وضمِّ الراءِ ، " كلَّ " بالنصب أي : يَفْرُقُ اللَّهُ كلَّ أَمْرٍ . وزيد بن علي " نَفْرِقُ " بنونِ العظمةِ ، " كلَّ " بالنصبِ ، كذا نقله الزمخشريُّ ، ونَقَلَ عنه الأهوازي " يَفْرِق " بفتح الياء وكسرِ الراء ، " كلَّ " بالنصب ، " حكيمٌ " بالرفع على أنه فاعل " يَفْرِق " ، وعن الحسن والأعمش أيضاً " يُفَرَّقُ " كالعامَّةِ ، إلاَّ أنه بالتشديد .
(1/4739)
أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)
قوله : { أَمْراً } : فيه اثنا عشر وجهاً ، أحدُها : أَنْ ينتصِبَ حالاً مِنْ فاعل " أَنْزَلْناه " . الثاني : أنه حالٌ مِنْ مفعولِه أي : أنزلناه آمِرِيْن ، أو مَأْموراً به . الثالث : أَنْ يكونَ مفعولاً له ، وناصبُه : إمَّا " أَنْزَلْناه " وإمَّا " مُنْذرِين " وإمَّا " يُفْرَقُ " . الرابع : أنه مصدرٌ مِنْ معنى يُفْرَق أي : فَرْقاً . الخامس : أنه مصدرٌ ل " أَمَرْنا " محذوفاً . السادس : أَنْ يكونَ " يُفْرَقُ " بمعنى يَأْمُر . والفرقُ بين هذا وما تقدَّم : أنَّك رَدَدْتَ في هذا بالعاملِ إلى المصدرِ وفيما تقدَّم بالعكس . السابع : أنَّه حالٌ مِنْ " كُلُّ " . الثامن : أنه حالٌ مِنْ " أَمْرٍ " وجاز ذلك لأنه وُصِفَ . إلاَّ أنَّ فيه شيئين : مجيءَ الحالِ من المضاف إليه في غيرِ المواضع المذكورة . والثاني : أنها مؤكدةٌ . التاسع : أنه مصدرٌ ل " أَنْزَل " أي : إنَّا أَنْزَلْناه إنزالاً ، قاله الأخفش . العاشر : أنَّه مصدرٌ ، لكن بتأويل العاملِ فيه إلى معناه أي : أَمَرْنا به أَمْراً بسببِ الإِنزال ، كما قالوا ذلك في وَجْهي فيها يُفْرَقُ فَرْقاً أو يَنْزِل إنزالاً . الحادي عشر : أنه منصوبٌ على الاختصاص ، قاله الزمخشري ، ولا يَعْني بذلك الاختصاصَ الاصطلاحيَّ فإنه لا يكون نكرةً . الثاني عشر : أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في " حكيم " . الثالث عشر : أَنْ ينتصِبَ مفعولاً به ب " مُنْذِرين " كقولِه : { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً } [ الكهف : 2 ] ويكونُ المفعولُ الأول محذوفاً أي : مُنْذِرين الناسَ أمراً . والحاصلُ أنَّ انتصابَه يَرْجِعُ إلى أربعة أشياء : المفعولِ به ، والمفعولِ له ، والمصدريةِ ، والحاليةِ ، وإنما التكثيرُ بحَسبِ المحالِّ ، وقد عَرَفْتَها بما قَدَّمْتُه لك .
وقرأ زيد بن علي " أَمْرٌ " بالرفع . قال الزمخشري : " وهي تُقَوِّي النصبَ على الاختصاصِ " .
قوله : " مِنْ عِنْدِنا " يجوز أَنْ يتعلَّق ب " يُفْرَقُ " أي : مِنْ جهتِنا ، وهي لابتداءِ الغاية مجازاً . ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ل أَمْراً .
قوله : { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } جوابٌ ثالثٌ أو مستأنفٌ ، أو بدلٌ من قوله : { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } .
(1/4740)
رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)
قوله : { رَحْمَةً } : فيها خمسةُ أوجهٍ [ أحدها ] : المفعولُ له . والعاملُ فيه : إمَّا " أَنْزَلْناه " وإمَّا " أَمْراً " وإمَّا " يُفْرَقُ " وإمَّا " مُنْذِرين " . الثاني : مصدرٌ بفعلٍ مقدرٍ أي : رَحِمْنا رَحْمَةً . الثالث : مفعولٌ ب مُرْسِلين . الرابع : حالٌ من ضمير " مُرْسِلين " أي : ذوي رحمة . الخامس : أنها بدلٌ مِنْ " أَمْراً " فيجيءُ فيها ما تقدَّم ، وتكثرُ الأوجهُ فيها حينئذٍ .
و " مِنْ رَبِّك " يتعلَّقُ برَحْمة ، أو بمحذوفٍ على أنها صفةٌ . وفي " مِنْ ربِّك " التفاتٌ من التكلُّم إلى الغَيْبة ، ولو جَرَى على مِنْوالِ ما تقدَّمَ لقال : رحمةً منا .
(1/4741)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)
قوله : { رَبِّ السماوات } : قرأ الكوفيون بخفض " رَبّ " ، والباقون برفعِه . فالجرُّ على البدلَ ، أو البيانَ ، أو النعتِ . والرفعُ على إضمارِ مبتدأ ، أو على أنَّه مبتدأٌ ، خبرُه { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } .
(1/4742)
لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)
قوله : { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ } : العامَّةُ على الرفع بدلاً أو بياناً أو نعتاً ل " ربُّ السماوات " فيمَنْ رَفَعه ، أو على أنَّه مبتدأٌ ، والخبرُ { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } أو خبرٌ بعد خبرٍ لقولِه : { إِنَّهُ هُوَ السميع } أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ عند الجميعِ أعني قُرَّاءَ الجرِّ والرفع ، أو فاعلٌ لقولِه : " يُميت " . وفي " يُحْيي " ضميرٌ يَرْجِعُ إلى ما قبلَه أي : يُحْيي هو ، أي : ربُّ السماوات ويميتُ هو ، فأوقَعَ الظاهرَ مَوْقِعَ المضمرِ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ " يُحيي ويُميت " من التنازع . ويجوزُ أَنْ يُنْسَبَ الرفعُ إلى الأول أو الثاني نحو : يَقُوم ويَقْعد زيد ، وهذا عَنَى أبو البقاء بقولِه : " أو على شريطةِ التفسير " .
وقرأ ابنُ محيصن وابنُ أبي إسحاق وأبو حيوة والحسن بالجرِّ/ على البدلِ أو البيانِ أو النعتِ ل " رب السماوات " ، وهذا يُوْجِبُ أَنْ يكونوا يَقْرؤون " رَبِّ السماوات " بالجرِّ . والأنطاكي بالنصب على المدحِ .
(1/4743)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)
قوله : { يَوْمَ تَأْتِي } : منصوبٌ ب " ارْتَقِبْ " على الظرفِ . والمفعولُ محذوفٌ أي : ارتقِبْ وَعْدَ الله في ذلك اليومِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ هو المفعولَ المرتقبَ .
(1/4744)
يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)
قوله : { يَغْشَى الناس } : صفةٌ ثانيةٌ أي : بدُخان مُبين غاشٍ .
قوله : " هذا عَذابٌ " في محلِّ نصبٍ بالقول . وذلك القولُ حالٌ أي : قائلين ذلك ، ويجوزُ أَنْ لا يكونَ معمولاً لقولٍ البتةَ ، بل هو مجرَّدُ إخبارٍ .
(1/4745)
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13)
قوله : { أنى لَهُمُ الذكرى } : يجوزُ أَنْ يكونَ " أنَّى " خبراً ل " ذِكْرى " و " لهم " تبيينٌ . ويجوزُ أَنْ يكونَ " أنَّى " منصوباً على الظرفِ بالاستقرار في " لهم " ، فإن " لهم " وَقَعَ خبراً ل " ذِكْرى " .
قوله : " وقد جاءَهم " حال مِنْ " لهم " . وقرأ زيد بن علي " مُعَلِّم " بكسر اللام .
(1/4746)
إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)
قوله : { قَلِيلاً } : نعتٌ لزمانٍ أو مصدرٍ محذوف ، أي : كَشْفاً قليلاً أو زماناً قليلاً .
(1/4747)
يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
قوله : { يَوْمَ نَبْطِشُ } قيل : هو بدلٌ مِنْ " يَومَ تأتي " . وقيل : منصوبٌ بإضمارِ اذْكُر . وقيل : ب مُنْتَقِمون . وقيل : بما دَلَّ عليه " مُنْتَقِمون " وهو يَنْتقم . ورُدَّ هذا : بأنَّ ما بعد " إنَّ " لا يَعْمل فيما قبلها ، وبأنه لا يُفَسَّر إلاَّ ما يَصِحُّ أَنْ يَعْمَلَ .
قوله : " نَبْطِش " العامَّةُ على فتح النونِ وكسرِ الطاء أي : نَبْطِش بهم . وقرأ الحسن وأبو جعفر بضم الطاء ، وهي لغةٌ في مضارع بَطَشَ . والحسن وأبو رجاء وطلحة بضمِّ النونِ وكسرِ الطاءِ ، وهو منقولٌ مِنْ بَطَشَ أي : تَبْطِشُ بهم الملائكةُ . والبَطْشَةُ على هذا يجوز أن تكونَ منصوبةً ب نُبْطِشُ على حَذْفِ الزائد نحو : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] وأَنْ يَنْتَصِبَ بفعلٍ مقدر أي : تَبْطِشُ الملائكةُ بهم فيَبْطِشُون البطشةَ .
(1/4748)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17)
قوله : { وَلَقَدْ فَتَنَّا } : قُرِئ " فَتَّنَّا " بالتشديدِ على المبالغة أو التكثيرِ لكثرةِ متعلَّقِه . و " جاءهم رسولٌ " يحتمل الاستئنافَ والحالَ .
(1/4749)
أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)
قوله : { أَنْ أدوا } : يجوزُ أَنْ تكونَ المفسِّرَةَ؛ لتقدُّمِ ما هو بمعنى القول ، وأَنْ تكونَ المخفَّفَةَ ، وأَنْ تكونَ الناصبةَ للمضارع ، وهي تُوْصَلُ بالأمر . وفي جَعْلِها مخففةً إشكالٌ تَقَدَّم : وهو أنَّ الخبرَ في هذا البابِ لا يقع طلباً ، وعلى جَعْلِها مصدريَّةً تكون على حَذْفِ الجرِّ أي : جاءهم بأَنْ أَدُّوا . و " عبادَ الله " يُحتمل أَنْ يكونَ مفعولاً به . وفي التفسير : أنَّه طلبَ منهم أَنْ يُؤَدُّوا إليه بني إسرائيل ، ويَدُلُّ عليه { فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ } ، وأَنْ يكونَ منادى ، والمفعولُ محذوفٌ أي : أَعْطوني الطاعةَ يا عبادَ الله .
(1/4750)
وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)
قوله : { وَأَن لاَّ تَعْلُواْ } : عطفٌ على " أَنْ " الأولى . والعامَّةُ على كسرِ الهمزةِ مِنْ قولِه : " إنِّي آتِيْكم " على الاستئنافِ . وقُرِئ بالفتح على تقديرِ اللامِ أي : وأَنْ لا تَعْلُوا لأنِّي آتِيْكم .
(1/4751)
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20)
قوله : { أَن تَرْجُمُونِ } : أي : مِنْ أَنْ تَرْجُمون .
وقوله : " إنِّي عُذْتُ " مستأنفٌ . وأدغم الذالَ في التاء أبو عمروٍ والأخَوان . وقد مَضَى توجيهُه في طه عند قوله : { فَنَبَذْتُهَا } [ طه : 96 ] .
(1/4752)
فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)
قوله : { أَنَّ هؤلاء } : العامَّةُ على الفتحِ بإضمارِ حرفِ الجرِّ أي : دعاه بأنَّ هؤلاء . وابنُ أبي إسحاق وعيسى والحسن بالكسرِ على إضمارِ القول عند البَصْرِيين ، وعلى إجراءِ " دَعا " مُجْرى القول عند الكوفيين .
(1/4753)
فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23)
قوله : { فَأَسْرِ بِعِبَادِي } : قد تقدَّم قراءتا الوصل والقطع . وقال الزمخشري : " وفيه وجهان : إضمارُ القولِ بعد الفاء : فقال أَسْرِ بعبادي ، وجوابُ شرطٍ مقدرٍ ، كأنَّه قال : إن كان الأمرُ - كما تقول - فَأَسْرِ بعبادي " . قال الشيخ : " وكثيراً ما يَدَّعي حَذْفَ الشرطِ ولا يجوزُ إلاَّ لدليلٍ واضحٍ كأَنْ يتقدَّمَه الأمرُ أو ما أشبهه " .
(1/4754)
وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)
قوله : { رَهْواً } : يجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً ثانياً على أنَّ " تَرَكَ " بمعنى صَيَّر ، وأَنْ يكونَ حالاً على أنَّها ليسَتْ بمعناها . والرَّهْوُ قيل : السكونُ ، فالمعنى : اتْرُكْه ساكناً . يقال : رَهَا يَرْهُوا رَهْواً . ومنه جاءَتِ الخيلُ رَهْواً . قال النابغة :
4014 والخيلَ تَمْزَعُ رَهْواً في أَعِنَّتِها ... كالطيرِ تَنْجُوْ مِنَ الشُّؤْبوب ذي البَرَدِ
ورَهَا يَرْهُو في سيرِه . أي : تَرَفَّقَ . قال القطامي :
4015 يَمْشِيْنَ رَهْواً فلا الأَعْجازُ خاذِلَةٌ ... ولا الصدورُ على الأعجازِ تَتَّكِلُ
عن أبي عبيدةَ : رَهْواً : أي اتركْه مُنْفَتحاً فُرَجاً على ما تركْتَه .
وفي التفسير : أنَّه لَمَّا انْفَلَق البحرُ لموسى وطَلَعَ منه خاف أن يتبعَه فرعونُ فأراد أَنْ يَضْرِبَه ليعودَ حتى لا يَلحقوه . فأَمَرَ أَنْ يتركَه فُرَجاً . وأصلُه مِنْ قولِهم : / رَها الرجلُ يَرْهُو رَهْواً فتح ما بينَ رِجْلَيْه ، والرَّهْوُ والرَّهْوَةُ : المكانُ المرتفعُ والمنخفضُ يَجْتمع فيه فهو من الأضداد . والرَّهْوَةُ المرأةُ الواسعةُ الهَنِ . والرَّهْوُ : طائر يقال هو الكُرْكِيّ . وقد تقدَّم الكلامُ في الشعراء على نظير { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ } .
(1/4755)
وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26)
قوله : { وَمَقَامٍ } : العامَّةُ على فتح الميم وهو اسم مكان القيام . وابن هرمز وقتادة وابن السَّمَيْفع ونافعٌ في روايةِ خارجةَ بضمِّها اسمُ مكانٍ مِنْ أقام .
(1/4756)
وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27)
والنَّعْمَةُ بالفتح : نَضارةُ العيشِ ولَذاذَتُه . والجمهور على جَرِّها . ونَصَبَها أبو رجاءٍ عَطْفاً على " كم " أي : تركوا كثيراً مِنْ كذا ، وتركوا نَعْمة .
قوله : " فاكِهين " العامَّةُ على الألف أي : طَيِّبي الأنفسِ أو أصحابُ فاكهة ك لابنِ وتامرِ . وقيل : فاكهين لاهين . وقرأ الحسن وأبو رجاء " فَكِهين " أي : مُسْتَخِفِّين مُسْتهزئين . قال الجوهري : " يُقال : فَكِهَ الرجلُ بالكسرِ فهو فَكِهٌ إذا كان مَزَّاحاً والفَكِهُ أيضاً : الأشِرُ " .
(1/4757)
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)
قوله : { كَذَلِكَ } : يجوزُ أَنْ تكونَ الكافُ مرفوعةَ المحلِّ خبراً لمبتدأ مضمر أي : الأمرُ كذلك ، وإليه نحا الزجَّاج . ويجوزُ أَنْ تكون منصوبةَ المحلِّ ، فقَدَّرها الحوفيُّ : أَهْلكنا إهْلاكاً وانتقَمْنا انتقاماً كذلك . وقال الكلبيُّ : " كذلك أَفْعَلُ بمَنْ عَصاني " . وقيل : تقديرُه : يَفْعل فِعْلاً كذلك . وقال أبو البقاء : " تَرْكاً كذلك " فجعله نعتاً للتركِ المحذوفِ . وعلى هذه الأوجهِ كلِّها يُوْقَفُ على " كذلك " ويُبْتدأ " وأَوْرَثْناها " . وقال الزمخشري : " الكافُ منصوبةٌ على معنى : مثلَ ذلك الإِخراجِ أَخْرَجْناهم منها وأَوْرَثْناها قوماً آخرين ليسوا منهم " ، فعلى هذا يكون " وأَوْرَثْناها " معطوفاً على تلك الجملةِ الناصبةِ للكاف ، فلا يجوزُ الوقفُ على " كذلك " حينئذٍ .
(1/4758)
فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)
قوله : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء } : يجوزُ أَنْ تكونَ استعارةً كقولِ الفرزدق :
4016 الشمسُ طالِعَةٌ ليسَتْ بكاسِفَةٍ ... تَبْكي عليك نجومَ الليلِ والقمرا
وقال جرير :
4017 لَمَّا أتى خبرُ الزُّبَيْرِ تواضَعَتْ ... سُوْرُ المدينةِ والجبالُ الخُشَّعُ
وقال النابغة :
4018 بكى حارِثُ الجَوْلانِ مِنْ فَقْدِ رَبِّهِ ... وحَوْرَانُ منه خاشِعٌ مُتَضائِلُ
(1/4759)
مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31)
قوله : { مِن فِرْعَوْنَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه بدلٌ من العذاب : إمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي : مِنْ عذابِ فرعونَ ، وإمَّا على المبالغةِ جعلَه نفسَ العذابِ فأبدله منه . والثاني : أنه حالٌ من العذابِ تقديرُه : صادراً مِنْ فرعونَ .
وقرأ عبد الله { مِنَ عَذَابِ المهين } وهي مِنْ إضافةِ الموصوفِ لصفتِه؛ إذ الأصلُ : العذابُ المُهين ، كالقراءةِ المشهورةِ .
وقرأ ابن عباس " مَنْ فرعونُ " بفتح ميم " مَنْ " ورفع " فرعونُ " على الابتداءِ والخبرِ ، وهو استفهامُ تحقيرٍ كقولِك : مَنْ أنتَ وزيداً . ثم بَيَّنَ حالَه بالجملة بعدُ في قوله : { إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين } .
(1/4760)
وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32)
قوله : { على عِلْمٍ عَلَى العالمين } : " على " الأولى متعلِّقةٌ بمحذوفٍ لأنَّها حالٌ من الفاعل في " اخْتَرْناهم " . والثانية متعلقةٌ ب " اخْتَرْناهم " . وفي عبارة الشيخ : أنَّه لَمَّا اختلفَ مدلولُها جاز تعلُّقُهما ب " اخْتَرْنا " . وأنشد الشيخُ نظيرَ ذلك :
4019 ويَوْماً على ظَهْر الكَثِيْبِ تَعَذَّرَتْ ... عليَّ وآلَتْ حَلْفَةً لم تَحَلَّلِ
ثم قال : " ف " على عِلْم " حالٌ : إمَّا من الفاعلِ أو من المفعول . و " على ظَهْر " حالٌ من الفاعل في " تَعَذَّرَتْ " . والعاملُ في الحال هو العاملُ في صاحبها " . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ قولَه أولاً : " ولذلك تَعَلَّقا بفعلٍ واحدٍ لَمَّا اختلف المدلولُ " ينافي جَعْلَ الأولى حالاً؛ لأنَّها لم تتعلَّقْ به . وقولُه : " والعاملُ في الحالِ هو العاملُ في صاحبِها " لا يَنْفَعُ في ذلك .
(1/4761)
أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
قوله : { والذين مِن قَبْلِهِمْ } : يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ يكونَ معطوفاً على " قومُ تُبَّع " . الثاني : أَنْ يكونَ مبتدأً ، وخبرُه ما بعده مِنْ " أَهْلَكْناهم " ، وأمَّا على الأول ف " أَهْلَكْناهم " : إمَّا مستأنفٌ ، وإمَّا حالٌ من الضمير الذي اسْتَكَنَّ في الصلة . الثالث : أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره " أَهْلَكْناهم " . ولا مَحَلَّ ل أَهْلكنا " حينئذٍ .
(1/4762)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38)
قوله : { لاَعِبِينَ } : حال . وقرأ عمرو بن عبيد " وما بينَهُنَّ " لأنَّ السماواتِ والأرضَ جمعٌ . والعامَّةُ " بينَهما " باعتبار النَوْعين .
(1/4763)
مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)
قوله : { إِلاَّ بالحق } : حالٌ : إمَّا من الفاعلِ ، وهو الظاهرُ ، وإمَّا من المفعولِ أي : إلاَّ مُحِقِّين أو مُلْتَبِسين/ بالحق .
(1/4764)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)
قوله : { إِنَّ يَوْمَ الفصل مِيقَاتُهُمْ } : العامَّةُ على رَفْعِ " ميقاتُهم " خبراً ل " إنَّ " . وقُرِئ بنصبِه على أنه اسمُ " إنَّ " و " يومَ الفصلِ " خبرُه . و " أَجْمعين " تأكيدٌ للضميرِ المجرور .
(1/4765)
يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41)
قوله : { يَوْمَ لاَ يُغْنِي } : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً من " يومَ الفصل " أو بياناً عند مَنْ لا يَشْتَرِط المطابقةَ تعريفاً وتنكيراً ، وأَنْ يكونَ منصوباً بإضمار أَعْني . وأَنْ يكونَ صفةً ل " مِيقاتُهم " ولكنه بُنِي . قاله أبو البقاء . وهذا لا يتأتَّى عند البَصْريين لإِضافتِه إلى مُعْرَبٍ . وقد تقدَّمَ آخرَ المائدة ، وأَنْ يَنْتَصِبَ بفعلٍ يَدُلُّ عليه " يومَ الفَصْلِ " أي : يَفْصِلُ بينهم يومَ لا يُغْني . ولا يجوز أَنْ ينتصِبَ بالفصلِ نفسِه لِما يَلْزَمُ مِنْ الفَصْلِ بينهما بأجنبيّ وهو " ميقاتُهم " ، و " الفَصْل " مصدر لا يجوز فيه ذلك . وقال أبو البقاء : " لأنَّه قد أُخْبر عنه " ، وفيه تَجَوُّزٌ فإنَّ الإِخبارَ عَمَّا أُضِيْفَ إلى الفَصْلِ لاغي الفَصْلِ .
قوله : " ولا هم " جُمِع الضميرُ عائداً به على " مَوْلَى " ، وإنْ كان مفرداً لأنه قَصَدَ معناه فجُمِعَ ، وهو نكرةٌ في سِياق النفيِ فَعَمَّ .
(1/4766)
إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
قوله : { إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله } يجوزُ فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : - وهو قولُ الكسائيِّ - أنه منقطِعٌ . الثاني : أنه متصِلٌ تقديرُه : لا يُغْني قريبٌ عن قريبٍ إلاَّ المؤمنين فإنَّهم يُؤْذَنُ لهم في الشفاعةِ فيَشْفَعُون في بعضِهم . الثالث : أَنْ يكونَ مرفوعاً على البدليةِ مِنْ " مَوْلَى " الأول ، ويكونُ " يُغْني " بمعنى يَنْفَعُ ، قاله الحوفي . الرابع : أنه مرفوعُ المحلِّ أيضاً على البدلِ مِنْ واو " يُنْصَرُون " أي : لا يمنعُ من العذابِ إلاَّ مَنْ رحمه الله .
(1/4767)
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45)
قوله : { كالمهل } : يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً ، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : هو كالمُهْلِ . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ " طعام الأثيم " . قال أبو البقاء : " لأنَّه لا عاملَ إذ ذاك " . وفيه نظرٌ؛ لأنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً ، والعاملُ فيه معنى التشبيه ، كقولك : زيدٌ أخوك شجاعاً .
والأَثيم صفةُ مبالَغَةٍ . ويقال : الأَثُوم كالصَّبورِ والشَّكور . والمُهْل : قيل دُرْدِيُّ الزيت . وقيل عَكَر القَطِران . وقيل : ما أُذِيْبَ مِنْ ذَهَبٍ أو فضة . وقيل : ما أُذِيْبَ منهما ومِنْ كُلِّ ما في معناهما من المُنْطبعات كالحديدِ والنحاس والرَّصاص . والمَهْلُ بالفتح : التُّؤَدَةُ والرِّفْقُ . ومنه { فَمَهِّلِ الكافرين } [ الطارق : 17 ] . وقرأ الحسن " كالمَهْل " بفتح الميم فقط ، وهي لغةٌ في المُهْلِ بالضم .
قوله : " يَغْلي " قرأ ابن كثير وحفصٌ بالياءِ مِنْ تحتُ . والفاعلُ ضميرٌ يعود على طعام . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يعودَ على الزَّقُّوم . وقيل : يعود على المُهْلِ نفسِه ، و " يَغْلي " حالٌ من الضميرِ المستترِ في الجارِّ أي : مُشْبهاً المُهْلَ غالياً . ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنَ المُهْلِ نفسِه . وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : هو يَغْلي أي : الزقُّوم أو الطعامُ . والباقون " تَغْلي " بالتاء مِنْ فوقُ ، على أنَّ الفاعلَ ضميرُ الشجرةِ ، والجملةُ خبرٌ ثانٍ أو حالٌ على رَأْيٍ ، أو خبرُ مبتدأ مضمر أي : هي تَغْلي .
(1/4768)
كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46)
قوله : { كَغَلْيِ الحميم } : نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أو حالٌ مِنْ ضميرِه أي : تَغْلي غَلْياً مثلَ غَلْيِ الحميمِ أو يَغْليه مُشْبهاً غَلْيَ الحميمِ .
(1/4769)
خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47)
قوله : { فاعتلوه } : قرأ نافعٌ وابنُ كثير وابن عامر بضمِّ عين " اعْتُلوه " . والباقون بكسرِها ، وهما لغتان في مضارع عَتَله أي : ساقَه بجفاءٍ وغِلْظَة ك عَرَش يَعْرِش ويَعْرُش . والعُتُلُّ : الجافي الغليظُ .
(1/4770)
ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
قوله : { إِنَّكَ أَنتَ } : قرأه الكسائيُّ بالفتحِ على معنى العلَّةِ أي : لأنَّك . وقيل : تقديرُه : ذُقْ عذابَ أنَّك أنت العزيزُ . والباقون بالكسرِ على الاستئنافِ المفيدِ للعلَّة ، فتتحدُ القراءاتان معنىً . وهذا الكلامُ على سبيلِ التهكمِ ، وهو أغيَظُ للمُسْتَهْزَأ به ، ومثلُه قولُ جريرٍ لشاعرٍ سَمَّى نفسه زهرةَ اليمن :
4020 ألَمْ يَكُنْ في وُسُومٍ قد وَسَمْتُ بها ... مَنْ كان موعظةً يا زهرةَ اليَمَنِ
وكان هذا الشاعرُ قد قال :
4021 أبْلِغْ كُلَيْباً وأَبْلِغْ عَنْك شاعرَها ... أنِّي الأَغَرُّ وأنِّي زهرةُ اليمنِ
(1/4771)
فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52)
قوله : { فِي جَنَّاتٍ } : / يجوز أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ قولِه : " في مَقام " بتكرير العاملِ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً .
(1/4772)
يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53)
قوله : { يَلْبَسُونَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ المستكِنِّ في الجارِّ ، وأَنْ يكونَ خبراً ل " إنَّ " فيتعلَّقَ الجارُّ به ، وأَنْ يكون مُسْتأنفاً .
قوله : " مُتقابلين " حالٌ مِنْ فاعلِ " يَلْبَسون " وقد تقدَّم تفسيرُ هذه الألفاظِ : السُّنْدس والإِستبرق والمقام .
(1/4773)
كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)
قوله : { كَذَلِكَ } : في هذه الكاف وجهان ، أحدُهما : النصبُ نعتاً لمصدرٍ أي : نفعلُ بالمتقين فعلاً كذلك أي : مِثْلَ ذلك الفعلِ . والثاني : الرفعُ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي : الأمرُ كذلك . وقَدَّر أبو البقاء قبلَه جملةً حاليةً فقال : " تقديرُه : فَعَلْنا ذلك والأمرُ كذلك " ، ولا حاجةَ إليه . والوقفُ على " كذلك " ، والابتداءُ بقولِه " وزَوَّجْناهم " .
قوله : " بِحُوْرٍ عِيْنٍ " العامَّةُ على تنوين " حور " مَوْصوفين ب " عِيْن " . وعكرمة لم يُنَوِّن ، أضافهنَّ لأنهنَّ ينقسِمْنَ إلى عِيْنٍ وغيرِ عِيْنٍ . وتقدَّم تفسيرُ الحُور العين .
(1/4774)
يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)
قوله : { يَدْعُونَ } : حالٌ مِنْ مفعولِ " زَوَّجْناهم " ، ومفعولُه محذوفٌ أي : يَدْعُوْن الخَدَمَ بكلِّ فاكهةٍ .
قوله : " آمِنين " يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً ثانية ، وأَنْ يكونَ حالاً من فاعلِ " يَدْعُون " فتكونَ حالاً متداخلةً .
(1/4775)
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)
قوله : { لاَ يَذُوقُونَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في " آمِنين " ، وأَنْ يكونَ حالاً ثالثةً أو ثانيةً مِنْ مفعولِ " زَوَّجْناهم " و " آمنين " حالٌ مِنْ فاعلِ " يَدْعُون " كما تقدَّمَ ، أو صفةٌ ل " آمِنين " أو مستأنفٌ . وقرأ عمرو بن عبيد " لا يُذاقون " مبنياً للمفعول .
قوله : { إِلاَّ الموتة الأولى } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه منقطعٌ أي : لكنْ الموتةُ الأولى قد ذاقُوها . الثاني : أنه متصلٌ وتَأَوَّلوه : بأنَّ المؤمنَ عند موتِه في الدنيا بمنزلته في الجنة لمعاينة ما يُعْطاه منها ، أو لِما يَتَيَقَّنُه مِنْ نعيمِها . الثالث : أنَّ " إلاَّ " بمعنى سِوى نقله الطبريُّ وضَعَّفَه . قال ابن عطية : " وليس تَضْعيفُه بصحيحٍ ، بل هو كونُها بمعنى سِوى مستقيمٌ مُتَّسِقٌ " . الرابع : أن " إلاَّ " بمعنى بَعْد . واختاره الطبريُّ ، وأباه الجمهورُ؛ لأنَّ " إلاَّ " بمعنى بعد لم يَثْبُتْ . وقال الزمخشري : " فإنْ قلت : كيف اسْتُثْنِيَتِ الموتةُ الأُولى المَذُوْقَةُ قبلَ دخول الجنةِ مِنَ الموتِ المنفيِّ ذَوْقُه؟ قلت : أُريدَ أَنْ يُقالَ : لا يَذُوْقون فيها الموتَ البتةَ ، فوضع قولَه { إِلاَّ الموتة الأولى } مَوْضِعَ ذلك؛ لأنَّ الموتَةَ الماضيةَ مُحالٌ ذَوْقُها في المستقبل فهو من بابِ التعليقِ بالمُحال : كأنَّه قيل : إنْ كانت الموتةُ الاُولى يَسْتقيم ذَوْقُها في المستقبلِ؛ فإنَّهم يَذْوْقونها في الجنة " . قلت : وهذا عند علماءِ البيانِ يُسَمَّى نَفْيَ الشيء بدليلِه . ومثلُه قول النابغةِ :
4022 لا عَيْبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهُمْ ... بهنَّ فُلولٌ مِنْ قِراعِ الكتائبِ
يعني : إنْ كان أحدٌ يَعُدُّ فُلولَ السيوفِ مِنْ قِراع الكتائب عَيْباً فهذا عيبُهم ، لكنَّ عَدَّهُ من العيوبِ مُحالٌ ، فانتفى عنهم العيبُ بدليل تعلُّقِ الأمرِ على مُحال . وقال ابن عطية بعد ما قَدَّمْتُ حكايَته عن الطبريِّ : فَبيَّنَ أنه نَفَى عنهم ذَوْقَ الموتِ ، وأنه لا ينالُهم من ذلك غيرُ ما تقدَّم في الدنيا " . يعني أنه كلامٌ محمولٌ على معناه .
قوله : " ووَقاهم " الجمهورُ على التخفيف . وقرأ أبو حيوةَ " ووقَّاهم " بالتشديد على المبالغة ، ولا يكونُ للتعدية فإنَّه متعدٍّ إلى اثنين قبلَ ذلك .
(1/4776)
فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)
قوله : { فَضْلاً } : هذا مفعولٌ مِنْ أجلِه ، وهو مُرادُ مكي حيث قال : " مصدرٌ عَمِلَ فيه " يَدْعُون " . وقيل : العاملُ فيه " ووَقاهم " وقيل : آمِنين " فهذا إنما يظهر على كونِه مفعولاً مِنْ أجله . على أنَّه يجوزُ أن يكونَ مصدراً لأنَّ يَدْعُون وما بعده من باب التفضُّلِ ، فهو مصدرٌ مُلاقٍ لعاملِه في المعنى . وجَعَله أبو البقاء منصوباً بمقدر أي : تَفَضَّلْنا بذلك فَضْلاً أي : تَفَضُّلاً .
(1/4777)
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58)
قوله : { يَسَّرْنَاهُ } : أي : القرآن بلسانك أي بلغتك . والباءُ للمصاحبة/ .
(1/4778)
فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
قوله : { فارتقب إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ } : مفعولا الارتقاب محذوفان أي : فارتقب النصرَ مِنْ رَبِّك إنهم مُرْتَقِبون بك ما يتمنَّوْنَه من الدوائرِ والغوائلِ ولن يَضِيْرَك ذلك .
(1/4779)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { تَنزِيلُ } : قد تقدَّم مثلُه أولَ غافر . وقال أبو عبدِ الله الرازيُّ : " العزيزِ الحكيمِ إنْ كانا صفةً لله كان حقيقةً ، وإنْ كانا صفةً للكتاب كان مجازاً " . وقد رَدَّ عليه الشيخ جَعْلَه إياهما صفةً للكتاب قال : " إذ لو كان كذلك لَوَلِيَتِ الصفةُ موصوفَها فكان يُقال : تَنزيلُ الكتابِ العزيزِ الحكيمِ من الله " قال : " لأنَّ " من الله " إنْ تَعَلَّقَ ب " تَنْزيل " وتنزيل خبرٌ ل حم أو لمبتدأ محذوفٍ لَزِمَ الفَصْلُ به بين الصفة والموصوف ، ولا يجوزُ ، كما لا يجوزُ " أعجبني ضَرْبُ زيدٍ بسوطٍ الفاضلِ؛ أو في موضع الخبر ، و " تنزيلُ " مبتدأ ، فلا يجوز الفصْلُ به أيضاً لا يجوز : ضرْبُ زيدٍ شديدٌ الفاضلِ " .
(1/4780)
وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
قوله : { وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه معطوفٌ على " خَلْقِكم " المجرورِ ب " في " والتقديرُ : وفي ما يَبُثُّ . والثاني : أنه معطوفٌ على الضميرِ المخفوضِ بالخَلْق ، وذلك على مذهبِ مَنْ يرى العطفَ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ واستقبحه الزمخشريُّ وإنْ أُكِّد نحو : " مررتُ بك أنت وزيدٍ " يُشير بذلك إلى مذهب الجرميِّ فإنَّه يقول : إن أُكِّد جازَ ، وإلاَّ فلا ، فقولُه مذهبٌ ثالثٌ .
قوله : { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } و { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } قرأ " آياتٍ " بالكسر في الموضعَيْن الأخوَان ، والباقون برفعهما . ولا خلافَ في كسرِ الأولى لأنها اسمُ " إنَّ " . فأمَّا { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } بالكسر فيجوزُ فيها وجهان ، أحدهما : أنها معطوفةٌ على اسم " إنَّ " ، والخبرُ قولُه : " وفي خَلْقِكم " . كأنه قيل : وإنَّ في خَلْقِكم وما يَبُثُّ مِنْ دابة آياتٍ . والثاني : أَنْ تكونَ كُرِّرَتْ تأكيداً لآيات الأُولى ، ويكونُ " في خَلْقكم " معطوفاً على " في السماوات " كُرِّر معه حرفُ الجَرِّ توكيداً . ونظيرُه أَنْ تقولَ : " إنَّ في بيتك زيداً وفي السوق زيداً " فزيداً الثاني تأكيدٌ للأول ، كأنك قلت : إنَّ زيداً زيداً في بيتك وفي السوق وليس في هذه عطفٌ على معمولَيْ عاملَيْن البتةَ .
وقد وَهِم أبو البقاء فجعلها مِنْ ذلك فقال : { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } يُقرأ بكسر التاءِ ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّ " إنَّ " مضمرةٌ حُذِفَتْ لدلالة " إنَّ " الأُولى عليها ، وليسَتْ " آيات " معطوفةً على " آيات " الأولى لِما فيه من العطفِ على معمولَيْ عامليْن . والثاني : أَنْ تكونَ كُرِّرَتْ للتأكيد لأنها مِنْ لفظ " آيات " الأُوْلى ، وإعرابُها كقولِك : " إن بثوبك دماً وبثوبِ زيد دماً " ف " دم " الثاني مكررٌ؛ لأنَّك مُسْتغنٍ عن ذِكْرِه " انتهى .
فقوله : " وليسَتْ معطوفةً على آياتِ الأولى لِما فيه من العطفِ على عامِلَيْن " وَهَمٌ؛ أين معمولُ العاملِ الآخر؟ وكأنه توهَّمَ أنَّ " في " ساقطةٌ مِنْ قولِه : " وفي خَلْقِكم " أو اختلطَتْ عليه { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } بهذه؛ لأنَّ تَيْكَ فيها ما يُوْهِمُ العطفَ على عامِلَيْن وقد ذكره هو أيضاً .
وأمَّا الرفعُ فمِنْ وجهَيْن أيضاً ، أحدهما : أَنْ يكونَ " في خَلْقِكم " خبراً مقدَّماً ، و " آياتٌ " مبتدأً مؤخراً ، وهي جملةٌ معطوفةٌ على جملة مؤكدةٍ . ب " إنَّ " . والثاني : أَنْ تكون معطوفةً على " آيات " الأولى باعتبار المحلِّ عند مَنْ يُجيزُ ذلك ، لا سيما عند مَنْ يقولُ : إنه يجوز ذلك بعد الخبرِ بإجماعٍ .
وأمَّا قولُه : { واختلاف الليل والنهار } الآية فقد عَرَفْتَ أنَّ الأخَوَيْن يقرآن " آيات " بالكسرِ ، وهي تحتاج إلى إيضاحٍ ، فإن الناسَ قد تكلَّموا فيها كلاماً كثيراً ، وخرَّجوها على أوجهٍ مختلفةٍ ، وبها استدلَّ على جوازِ العطفِ على عاملين .
(1/4781)
قلت : والعطفُ على عامِلَيْن لا يختصُّ بقراءةِ الأخوَيْن بل يجوز أَنْ يُسْتَدَلَّ عليه أيضاً بقراءة الباقين ، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى . فأما قراءةُ الأخوين ففيها أوجهٌ ، أحدُها : أن يكونَ " اختلافِ الليلِ " مجروراً ب " في " مضمرةً ، وإنما حُذِفَتْ لتقدُّم ذكرِها مَرَّتَيْنِ ، وحرفُ الجرِّ إذا دَلَّ عليه دليلٌ/ جاز حَذْفُه وإبقاءُ عملِه . وأنشَدَ سيبويه :
4023 الآن قَرَّبْتَ تَهْجُونا وتَشْتِمُنا ... فاذهَبْ فما بك والأيامِ من عَجَبِ
تقديرُه : وبالأيام لتقدُّم الباءِ في " بك " ولا يجوزُ عَطْفُه على الكاف لأنه ليس مِنْ مذهبه - كما عَرَفْتَ - العطفُ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ ، فالتقديرُ في هذه الآيةِ : " وفي اختلافِ آيات " ف " آيات " على ما تقدَّم من الوجهين في " آيات " قبلَها : العطفِ أو التأكيدِ . قالوا : ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عبد الله " وفي اختلافِ " تصريحاً ب " في " . فهذان وجهان .
الثالث : أَنْ يُعْطَفَ " اختلافِ " على المجرورِ ب " في " وآياتٍ على المنصوبِ ب " إنَّ " . وهذا هو العطفُ على عاملَيْنِ ، وتحقيقُه على معمولَيْ عاملين : وذلك أنَّك عَطَفْتَ " اختلاف " على خَلْق وهو مجرورٌ ب " في " فهو معمولُ عاملٍ ، وعَطَفْتَ " آياتٍ " على اسمِ " إنَّ " وهو معمولُ عاملٍ آخرَ ، فقد عَطَفْتَ بحرفٍ واحدٍ وهو الواوُ معمولين وهما " اختلاف " و " آيات " على معمولَيْن قبلَهما وهما : خَلْق وآيات . وبظاهرِها استدلَّ مَنْ جَوَّز ذلك كالأخفشِ . وفي المسألة أربعةُ مذاهب : المَنْعُ مطلقاً ، وهو مذهبُ سيبويه وجمهورِ البصريين . قالوا : لأنه يُؤَدِّي إلى إقامة حرفِ العطفِ مقامَ عاملين وهو لا يجوزُ؛ لأنه لو جاز في عامِلَيْن لجازَ في ثلاثةٍ ، ولا قائل به ، ولأنَّ حرفَ العطفِ ضعيفٌ فلا يَقْوَى أَنْ ينوبَ عن عاملَيْنِ ولأنَّ القائلَ بجوازِ ذلك يَسْتَضْعِفُه ، والأحسنُ عنده أن لا يجوزَ ، فلا ينبغي أَنْ يُحْمَلَ عليه كتابُ اللَّهِ ، ولأنه بمنزلةِ التعديتَيْنِ بمُعَدٍّ واحد ، وهو غيرُ جائزٍ .
قال ابن السراج : " العطفُ على عاملَيْن خطأٌ في القياسِ ، غيرُ مَسْموع من العرب " ثم حَمَل ما في هذه الآيةِ على التكرارِ للتأكيد . قال الرمَّاني : " هو كقولِك : " إنَّ في الدارِ زيداً والبيتِ زيداً " فهذا جائزٌ بإجماعٍ فتدبَّرْ هذا الوجهَ الذي ذكره ابنُ السراجِ فإنه حسنٌ جداً ، لا يجوزُ أَنْ يُحْمَلَ كتابُ اللَّهِ إلاَّ عليه . وقد بَيَّنْتُ القراءةَ بالكسرِ ولا عيبَ فيها في القرآن على وجهٍ ، والعطفُ على عاملَيْن عيبٌ عند مَنْ أجازه ومَنْ لم يُجِزْه ، فقد تناهى في العيب ، فلا يجوزُ حَمْلُ هذه الآيةِ إلاَّ على ما ذكره ابنُ السَّراج دون ما ذهبَ إليه غيرُه " .
(1/4782)
قلت : وهذا الحَصْرُ منه غيرُ مُسَلَّمٍ فإنَّ في الآيةِ تخريجاتٍ أُخَرَ غيرَ ما ذكره ابن السراج يجوزُ الحَمْلُ عليها . وقال الزجاج : " ومثلُه في الشعر :
4024 أكلَّ امرِئٍ تَحْسَبين امْرَأً ... ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا
وأنشد الفارسيُّ للفرزدق :
4025 وباشَرَ راعيها الصَّلا بلَبانِه ... وجَنْبَيْه حَرَّ النارِ ما يتحرَّق
وقول الآخر :
4026 أَوْصَيْتُ مِنْ رُبْدَةَ قَلْباً حُرَّاً ... بالكلبِ خيراً والحَماةِ شَرا
قلت : أمَّا البيتُ الأولُ فظاهرُه أنه عَطَفَ و " نارٍ " على " امرئ " المخفوض ب " كل " و " ناراً " الثانية على " امرَأ " الثاني . والتقدير : وتحسبين كلَّ نارٍ ناراً ، فقد عطف على معمولَيْ عاملَيْن . والبيتُ الثاني عَطَفَ فيه " جَنْبَيْه " على " بلبانه " وعَطَفَ " حَرَّ النارِ " على " الصلا " ، والتقدير : وباشر بجَنْبَيْه حرَّ النار ، والبيتُ الثالث عَطَفَ فيه " الحَماة " على " الكلب " و " شَرًّا " على " خيراً " ، تقديرُه وأَوْصَيْتُ بالحَماة شراً . وسيبويه في جميع ذلك يرى الجرَّ بخافضٍ مقدرٍ لكنه عُورض : بأنَّ إعمال حرفِ الجرِّ مضمراً ضعيفٌ جداً ، ألا ترى أنَّه لا يجوزُ " مررتُ زيدٍ " بخفضِ " زيد " إلاَّ في ضرورةٍ كقولِه :
4027 إذا قيلَ أيُّ الناسِ شرُّ قبيلةٍ ... أشارَتْ كليبٍ بالأكفِّ الأصابعُ
يريد : إلى كليب ، وقولِ الآخر :
4028- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... حتى تَبَذَّخَ فارتقى الأعلامِ
أي إلى الأعلام ، فقد فَرَّ مِنْ شيءٍ فوقَع في أضعفَ منه . وأُجيب عن ذلك : بأنه لَمَّا تَقَدَّم ذِكْرُ الحرف في اللفظِ قَوِيَتِ الدلالةُ عليه ، فكأنَّه ملفوظٌ به بخلافِ ما أَوْرَدْتموه في المثالِ والشعر .
والمذهب الثاني : التفصيلُ - وهو مذهب الأخفش - وذلك أنَّه يجوز بشرطَيْنِ ، أحدُهما : أَنْ يكونَ أحدُ العاملَيْن جارًّا . والثاني : أن يتصلَ المعطوفُ بالعاطفِ أو يُفْصَلَ بلا ، مثالُ الأولِ الآيةُ الكريمةُ والأبياتُ التي قَدَّمْتُها . ولذلك استصوب المبردُ استشهادَه بالآيةِ . ومثالُ الفَصْل ب لا قولك : " ما في الدارِ زيدٌ ولا الحجرةِ عمروٌ " ، فلو فُقِدَ الشرطانِ نحو : إنَّ/ زيداً شَتَمَ بِشْراً ، وواللَّهِ خالداً هنداً ، أو فُقِدَ أحدُهما نحو : إنَّ زيداً ضربَ بَكْراً ، وخالداً بشراً . فقد نَقَلَ ابنُ مالكٍ الامتناعَ عند الجميعِ . وفيه نظرٌ لِما سَتَعْرِفُه من الخلافِ .
الثالث : أنَّه يجوزُ بشرطِ أَنْ يكونَ أحدُ العامِلَيْنِ جارَّاً ، وأَنْ يكونَ متقدماً ، نحوَ الآيةِ الكريمةِ ، فلو لم يتقدَّمْ نحوَ : " إنَّ زيداً في الدار ، وعمراً السوقِ " لم يَجُزْ ، وكذا لو لم يكنْ حرفَ جرٍّ كما تقدَّمَ تمثيلُه .
الرابع : الجوازُ ، ويُعْزَى للفَرَّاء .
الوجهُ الرابعِ من أوجهِ تخريجِ القراءةِ المذكورة : أَنْ تنتصِبَ " آيات " على الاختصاصِ .
(1/4783)
قاله الزمخشريُّ ، وسيأتي فيما أَحْكيه عنه .
وأمَّا قراءةُ الرفعِ ففيها أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ يكونَ الأولُ والثاني ما تقدَّم في { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } . الثالث : أَنْ تكونَ تأكيداً لآيات التي قبلها ، كما كانَتْ كذلك في قراءةِ النصبِ . الرابع : أَنْ تكونَ المسألةُ من بابِ العطفِ على عامِلَيْن؛ وذلك أنَّ " اختلافِ " عطفٌ على " خَلْقِكم " وهو معمولٌ ل " في " و " آيات " معطوفةٌ على " آيات " قبلَها ، وهي معمولةٌ للابتداءِ فقد عَطَفَ على معمولَيْ عامِلَيْنِ في هذه القراءةِ أيضاً . قال الزمخشري : " قُرِئَ { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } بالرفع والنصبِ على قولِك : " إنَّ زيداً في الدار وعمراً في السوقِ ، أو وعمروٌ في السوق " . وأمَّا قولُه : { آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } فمن العطفِ على عامِلَيْنِ سواءً نَصَبْتَ أم رَفَعْتَ فالعاملان في النصبِ هما : " إنَّ " ، و " في " أُقيمت الواوُ مُقامَهما فعَمِلَتْ الجرَّ في و { واختلاف اليل والنهار } والنصبَ في " آياتٍ " . وإذا رَفَعْتَ فالعاملانِ : الابتداءُ ، و " في " عملت الرفع في " آيات " والجرَّ في " اختلاف " " . ثم قال في توجيهِ النصبِ : " والثاني أَنْ ينتصِبَ على الاختصاصِ بعد انقضاءِ المجرور " .
الوجهُ الخامسُ أَنْ يرتفعَ " آياتٌ " على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هي آياتٌ . وناقَشَه الشيخُ فقال : " ونسبةُ الجرِّ والرفعِ ، والجرِّ والنصبِ للواوِ ليس بصحيحٍ؛ لأنَّ الصحيحَ من المذاهبِ أنَّ حرفَ العطفِ لا يعملُ " قلت : وقد ناقشه الشيخُ شهابُ الدين أبو شامةَ أيضاً فقال : " فمنهم مَنْ يقولُ : هو على هذه القراءةِ أيضاً - يعني قراءةَ الرفعِ - عطفٌ على عاملَيْنِ وهما حرفُ " في " ، والابتداءُ المقتضي للرفعِ . ومنهم مَنْ لا يُطْلِقُ هذه العبارةَ في هذه القراءةِ؛ لأنَّ الابتداءَ ليس بعاملٍ لفظي " .
وقُرئ " واختلافُ " بالرفعِ " آيةٌ " بالرفعِ والتوحيدِ على الابتداء والخبر ، وكذلك قُرئ { وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٌ آيةٌ } بالتوحيد . وقرأ زيد بن علي وطلحة وعيسى " وتصريف الريح " كذا قال الشيخ . قلت وقد قرأ بهذه القراءةِ حمزةُ والكسائيُّ أيضاً ، وقد تقدَّم ذلك في سورةِ البقرةِ .
(1/4784)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
قوله : { نَتْلُوهَا } : يجوز أَنْ يكونَ خبراً ل " تلك " و " آيات الله " بدلٌ أو عطفُ بيانٍ . ويجوزُ أَنْ تكونَ " تلك آيات " مبتدأً أو خبراً ، و " نَتْلُوها " حالٌ . قال الزمخشري : " والعاملُ ما دَلَّ عليه " تلك " مِنْ معنى الإِشارةِ ونحوُه : { وهذا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] . قال الشيخ : " وليس نحوَه؛ لأنَّ في { وهذا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] حرفَ تنبيه . وقيل : العاملُ في الحالِ ما دَل عليه حرفُ التنبيهِ أي : تَنَبَّهْ . وأمَّا " تلك " فليس فيها حرفُ تنبيهٍ؛ فإذا كان حرفُ التنبيهِ عاملاً بما فيه مِنْ معنى التنبيهِ ، لأنَّ الحرفَ قد يَعْمَلُ في الحال ، فالمعنى : تَنَبَّه لزيدٍ في حال شيخِه أو في حال قيامِه . وقيل : العاملُ في مثل هذا التركيبِ فعلٌ محذوفٌ يَدُلُّ عليه المعنى ، أي : انظرْ إليه في حالِ شيخه ، ولا يكون اسمُ الإِشارةِ عاملاً ولا حرفُ التنبيهِ إنْ كان هناك .
قلت : بل الآيةُ نحوَ { وهذا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] من حيثيةِ نسبةِ العملِ لاسمِ الإِشارةِ . غايةُ ما ثَمَّ أنَّ في الآيةِ الأخرى ما يَصْلُحُ أَنْ يكونَ عاملاً ، وهذا لا يَقْدَحُ في التنظيرِ إذا قَصَدْتَ جهةً مشتركةً . وأمَّا إضمارُ الفعلِ فهو مشتركٌ في الموضعَيْن عند مَنْ يَرَى ذلك . قال ابنُ عطيَة : " وفي " نتْلوها " حَذْفُ مضافٍ أي : نَتْلُوْ شَأْنَها وشَرْحَ العِبْرَةِ فيها . ويُحتمل أَنْ يريدَ بآيات الله القرآنَ المنزَّلَ في هذا المعنى ، فلا يكونُ فيها حَذْفُ مضافٍ " / وقرأ بعضُهم " يَتْلوها " بياءِ الغَيْبةِ عائداً على الباري تعالى . و " بالحَقِّ " حالٌ من الفاعل أي : مُلْتَبسِينَ بالحق ، و من المفعولِ أي : مُلْتَبسةً بالحقِّ . ويجوزُ أَنْ تكونَ للسببيَّةِ فتتعلَّقَ بنفس " نَتْلوها " .
قوله : { بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ } . قال الزمخشريُّ : " أي : بعد آياتِ اللَّهِ فهو كقولِكَ : أَعْجبني زيدٌ وكرمُه تريدُ كرمَ زيدٍ " . ورَدَّ عليه الشيخُ : بأنَّه ليس مُراداً ، بل المرادُ إعجابان ، وبأنَّ فيه إقحامَ الأسماءِ مِنْ غيرِ ضرورة . قال : " وهذا قَلْبٌ لحقائقِ النحو " .
وقرأ الحرميَّان وأبو عمروٍ وعاصمٌ في روايةٍ " يُؤْمنون " بياء الغيبة . والباقون بتاءِ الخطاب . وقوله : " فبأيِّ " متعلِّقٌ به ، قُدِّم لأنَّ له صدرَ الكلامِ .
(1/4785)
يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8)
قوله : { يَسْمَعُ } : يجوزُ فيه أَنْ يكونَ مستأنفاً أي : هو يَسْمَعُ ، أو دونَ إضمارِ " هو " ، وأَنْ يكونَ حالاً من الضمير في " أثيم " وأَنْ يكونَ صفةً .
قوله : " تُتْلَى عليه " حالٌ مِنْ " آياتِ الله " ولا يَجيْءُ فيه الخلافُ : وهو أنه يجوزُ أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ مفعولاً ثانياً؛ لأنَّ شرطَ ذلك أَنْ يقعَ بعدها ما لا يُسْمَعُ نحو : " سمعت زيداً يقرأ " . أمَّا إذا وقع بعدها ما يُسْمَعُ نحو : " سمعتُ قراءةَ زيدٍ يترنَّم بها " فهي متعدية لواحدٍ فقط ، والآياتُ مِمَّا يُسْمَعُ .
قوله : " ثم يُصِرُّ " قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : ما معنى " ثم " في قوله : { ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً } ؟ قلت : كمعناه في قولِ القائل :
4029 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يرى غَمَراتِ الموتِ ثم يزورُها
وذلك أنَّ غمراتِ الموتِ حقيقةٌ بأَنْ ينجوَ رائيها بنفسِه ويطلبَ الفِرارَ منها ، وأمَّا زَوْراتُها والإِقدامُ على مزاوَلَتِها فأمرٌ مُسْتَبْعَدٌ . فمعنى " ثم " الإِيذانُ بأنَّ فِعْلَ المُقْدِمِ عليها بعدما رآها وعاينها شيءٌ يُسْتَبْعَدُ في العاداتِ والطباعِ ، وكذلك آياتُ اللَّهِ الواضحةُ الناطقةُ بالحق . فَمَنْ تُلِيَتْ عليه وسَمِعها كان مُسْتَبْعَداً في القول إصرارُه على الضلالةِ عندها واستكبارُه عن الإِيمان بها " .
قوله : { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكون مستأنفةً ، وأَنْ تكونَ حالاً .
(1/4786)
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9)
قوله : { وَإِذَا عَلِمَ } : العامَّةُ على فتح العينِ وكسرِ اللامِ خفيفةً مبنياً للفاعلِ . وقتادة ومطر الوراق " عُلِّم " مبنياً للمفعول مشدَّداً .
قوله : " اتَّخَذها " الضميرُ المؤنث فيه وجهان ، أحدهما : أنه عائد على " آياتِنا " . والثاني : أنه يعودُ على " شيئاً " وإنْ كان مذكراً؛ لأنه بمعنى الآية كقول أبي العتاهية :
4030 نفْسي بشيءٍ من الدنيا مُعَلَّقَةٌ ... اللَّهُ والقائمُ المهدِيُّ يَقْضِيها
لأنه أراد ب " شيء " جاريةً يقال لها : عُتْبَة .
قوله : " أولئك " إشارةٌ إلى معنى " كلِّ أَفَّاكٍ " حُمِل أولاً على لفظها فَأُفْرِدَ ، ثم على معناها فَجُمِعَ كقولِه : { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [ المؤمنون : 53 ] .
قوله : { وَلاَ مَا اتخذوا } عطف على " ما كَسَبوا " ، و " ما " فيهما : إمَّا مصدريةٌ أو بمعنى الذي أي : لا يُغْني كَسْبُهُمْ ولا اتِّخاذُهم ، أو الذي كَسَبُوه ولا الذي اتَّخذوه .
(1/4787)
هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
وقوله : { مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ } : قد ذُكِر في سبأ .
(1/4788)
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)
قوله : { جَمِيعاً مِّنْهُ } : " جميعاً " حالٌ مِنْ { مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } أو توكيدٌ . وقد عدَّها ابنُ مالكٍ في ألفاظِه . و " منه " يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل " جميعاً " ، وأَنْ يتعلَّقَ ب " سَخَّر " أي : هو صادرٌ مِنْ جهته ومِنْ عندِه . وجَوَّزَ الزمخشريُّ في " منه " أَنْ يكونَ خبرَ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هي جميعاً منه ، وأَنْ تكونَ { وَمَا فِي الأرض } مبتدأً ، و " منه " خبرَه . قال الشيخ : " وهذان لا يجوزان إلاَّ على رَأْيِ الأخفش مِنْ حيث إنَّ الحالَ تَقدَّمَتْ بمعنى جميعاً ، فقُدِّمَتْ على عاملِها المعنويِّ ، يعني الجارَّ ، فهي نظيرُ : " زيد قائماً في الدار " . والعامَّةُ على " مِنْه " جارّاً ومجروراً . [ وقرأ ] ابن عباس بكسرِ الميمِ وتشديدِ النونِ ونصبِ التاءِ ، جعله مصدراً مِنْ : مَنَّ يَمُنَّ مِنَّةً ، فانتصابُه عنده على المصدرِ المؤكِّد : إمَّا بعاملٍ مضمرٍ ، وإمَّا بسَخَّر؛ لأنَّه بمعناه . قال أبو حاتم : " سَندُ هذه القراءةِ إلى ابنِ عباسِ مظلمٌ " . قلت : قد رُوِيَتْ أيضاً عن جماعة جِلَّةٍ غيرِ ابنِ عباس ، فنقلها ابنُ خالويه عنه وعن عبيد بن عمير ، ونقلها صاحبُ " اللوامح " وابنُ جني ، عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو والجحدري وعبد الله بن عبيد بن عمير .
وقرأ مَسْلمة بن محارب كذلك ، إلاَّ أنَّه رفع التاءَ جَعَلَها خبرَ ابتداءٍ مضمرٍ أي : هي منه . وقرأ أيضاً في روايةٍ أخرى بفتحِ الميم وتشديدِ النون وهاءِ كنايةٍ مضمومة ، جعله مصدراً مضافاً لضمير الله تعالى .
ورَفْعُه من وجهين ، أحدهما بالفاعلية ب " سَخَّر " أي : سَخَّر لكم هذه الأشياءَ مَنُّه عليكم . والثاني : أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : هو ، أو ذلك مَنُّه عليكم .
(1/4789)
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
قوله : { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ } : قد تقدَّم نظيرُه في سورة إبراهيم .
قوله : " ليَجْزِيَ " قرأ ابنُ عامر والأخَوان " لنجزيَ " بنونِ العظمةِ أي : لنجزيَ نحن . وباقي السبعة " ليجزِيَ " بالياء مِنْ تحتُ مبنياً للفاعلِ أي : ليجزيَ اللَّهُ . وأبو جعفر بخلافٍ عنه وشيبةُ وعاصم في روايةٍ كذلك ، إلاَّ أنه مبنيٌّ للمفعولِ . هذا مع نصبِ " قوماً " . / وفي القائمِ مَقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : ضميرُ المفعولِ الثاني عادَ الضميرُ عليه لدلالةِ السِّياقِ تقديرُه : ليُجْزَى هو أي : الخيرُ قوماً . والمفعول الثاني مِنْ بابِ " أَعْطى " يقومُ مَقامَ الفاعلِ بلا خلافٍ . ونظيرُه : " الدرهمُ أُعْطي زيداً " . الثاني : أنَّ القائمَ مقامَه ضميرُ المصدرِ المدلولِ عليه بالفعلِ أي : ليُجْزَى الجزاءُ . وفيه نظر؛ لأنه لا يُتْرَكُ المفعول به ويُقام المصدرُ ولا سيما مع عَدَم التصريحِ به . الثالث : أنَّ القائمَ مَقامَه الجارُّ والمجرورُ . وفيه حُجَّةٌ للأخفشِ والكوفيين ، حيث يُجيزون نيابةَ غيرِ المفعولِ به مع وجودِه وأنشدوا :
4031 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... لَسُبَّ بذلك الجَرْوِ الكِلابا
[ وقوله ] :
4032 لم يُعْنَ بالعلياءِ إلاَّ سَيِّدا ... والبصريون لا يُجيزونه .
(1/4790)
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)
قوله : { على شَرِيعَةٍ } : هو المفعولُ الثاني ل " جَعَلْناك " . والشريعةُ في الأصلِ : ما يَرِدُه الناسُ من المياهِ في الأنهارِ . يقال لذلك الموضع : شَرِيعة . والجمعُ شرائِع قال :
4033 وفي الشَّرائِع مِنْ جَيْلانَ مُقْتَنِصٌ ... رَثُّ الثيابِ خَفِيُّ الشخصِ مُنْسَرِبُ
فاسْتُعير ذلك للدين لأنَّ العبادَ يَرِدُوْن ما تَحْيا به نفوسُهم .
(1/4791)
هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
قوله : { هذا بَصَائِرُ } : أي : هذا القرآنُ . جمعُ " بَصيرة " باعتبارِ ما فيه . وقُرِئ " هذه " رُجوعاً إلى الآياتِ؛ ولأنَّ القرآنَ بمعناها كقولِه :
4034 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... سائِلْ بني أَسَدٍ ما هذه الصَّوْتُ
لأنه بمعنى الصيحة .
(1/4792)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)
قوله : { أَمْ حَسِبَ } : " أم " منقطعةٌ ، فَتُقَدَّر ب بل والهمزةِ ، أو ب بل وحدها ، أو بالهمزة وحدَها . وتقدم تحقيق هذا .
قوله : { كالذين آمَنُواْ } : هو المفعولُ الثاني للجَعْل أي : أَنْ نجعلَهم كائنين كالذين آمنوا أي : لا يَحْسَبُوْن ذلك ، وقد تَقَدَّمَ في سورة الحج : أنَّ الأخَوَيْن وحفصاً قرؤُوا هنا " سواءً " بالنصب ، والباقون بالرفع ، ووَعَدْتُ بالكلام عليه هنا ، فأقول وبالله التوفيق : أمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ تَنْتَصِبَ على الحالِ من الضميرِ المستترِ في الجارِّ والمجرورِ وهما : " كالذين آمنوا " ، ويكونُ المفعولُ الثاني للجَعْل " كالذين آمنوا " أي : أحَسِبوا أَنْ نَجْعَلَهم مثلَهم في حالِ استواءِ مَحْياهم ومماتِهم ليس الأمرُ كذلك . الثاني : أَنْ يكونَ " سواءً " هو المفعولَ الثاني للجَعْل ، و " كالذين " في محلِّ نصبٍ على الحال أي : لن نجعلَهم حالَ كونِهم مثلَهم سواءً ، وليس معناه بذاك . الثالث : أَنْ يكونَ " سواءً " مفعولاً ثانياً ل " حَسِب " .
وهذا الوجهُ نحا إليه أبو البقاء ، وأظنُّه غَلَطاً لِما سَيَظْهَرُ لك فإنَّه قال : " ويُقْرأ بالنصب . وفيه وجهان ، أحدهما : هو حالٌ من الضميرِ في الكافِ أي : نجعلَهم مثلَ المؤمنين في هذه الحالِ . والثاني : أَنْ يكونَ مفعولاً ثانياً ل " حَسِب " والكافُ حالٌ ، وقد دَخَلَ استواءُ مَحْياهم وممَاتُهم في الحُسْبان ، وعلى هذا الوجهِ مَحْياهم ومماتُهم مرفوعان ب " سَواء "؛ لأنَّه قد قَوِيَ باعتمادِه " انتهى . فقد صَرَّح بأنه مفعولٌ ثانٍ للحُسْبان . وهذا لا يَصِحُّ البتةَ؛ لأنَّ " حَسِبَ " وأخواتِها إذا وَقَعَ بعدها " أنَّ " المشددةُ أو " أَنْ " المخففةُ أو الناصبةُ سَدَّتْ مَسَدَّ المفعولين ، وهنا قد وَقع بعد الحُسْبان " أنْ " الناصبةُ فهي سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْنِ ، فَمِنْ أين يكونُ " سواءً " مفعولاً ثانياً ل حَسِب؟
فإنْ قلتَ : هذا الذي قُلْتُه رأيُ الجمهورِ سيبويهِ وغيرِه ، وأمَّا غيرُهم كالأخفشِ فيدَّعي أنها تَسُدُّ مَسَدَّ واحدٍ . إذا تقرَّر هذا فقد يجوزُ أنَّ أبا البقاءِ ذَهَبَ هذا المذهبَ ، فأعرب " أَنْ نجعلَهم " مفعولاً أولَ و " سواءً " مفعولاً ثانياً . فالجواب : أنَّ الأخفشَ صَرَّحَ بأنَّ المفعولَ الثاني حينئذٍ يكونُ محذوفاً . ولَئِنْ سَلَّمْنا أنَّه لا يُحْذَفُ امتنع مِنْ وجهٍ آخرَ : وهو أنه قد رفع به " محياهُم ومماتُهم " لأنه بمعنى مُسْتَوٍ كما تقدَّم ، ولا ضميرَ يَرْجِعُ مِنْ مرفوعِه إلى المفعولِ الأولِ ، بل رَفَعَ أجنبياً من المفعولِ الأولِ . وهو نظيرُ : " حَسِبْتُ قيامَك مُسْتوياً ذهابُك وعَدَمُه " .
ومَنْ قرأ بالرفع فتحتمل قراءتُه وجهَيْن ، أحدهما : أَنْ يكونَ " سواءٌ " خبراً مقدماً . و " مَحْياهم " مبتدأً مؤخراً/ ويكون " سواء " مبتدأً و " مَحْياهم " خبرَه .
(1/4793)
كذا أعربوه . وفيه نظرٌ تقدَّم في سورة الحج وهو : أنَّه نكرةٌ لا مُسَوِّغ فيها ، وأنه متى اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ جَعَلْتَ النكرةَ خبراً لا مبتدأً . ثم في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّها استئنافية . والثاني : أنها بدلٌ من الكافِ الواقعةِ مفعولاً ثانياً . قال الزمخشري : " لأنَّ الجملةَ تقع مفعولاً ثانياً فكانَتْ في حكمِ المفردِ . ألا تراكَ لو قُلْتَ : أن نجعلَهم سواءٌ مَحْياهم ومماتُهم ، كان سديداً ، كما تقول : ظننتُ زيداً أبوه منطلقٌ " . قال الشيخ : " وهذا - أَعْني إبدالَ الجملة من المفرد - أجازه ابنُ جني وابنُ مالك ، ومنعَه ابنُ العِلْجِ " ، ثم ذكر عنه كلاماً كثيراً في تقرير ذلك ثم قال : " والذي يَظْهَرُ أنه لا يجوزُ " ، يعني ما جَوَّزه الزمخشريُّ قال : " لأنَّها بمعنى التصييرِ ولا يجوزُ : " صَيَّرْتُ زيداً أبوه قائمٌ " لأنَّ التصييرَ انتقالٌ من ذاتٍ إلى ذاتٍ ، أو من وصفٍ في الذاتِ إلى وصفٍ فيها . وتلك الجملةُ الواقعةُ بعد مفعولِ " صَيَّرْت " المقدرةُ مفعولاً ثانياً ليس فيها انتقالٌ مما ذكرْنا فلا يجوز " . قلت : ولِقائلٍ أَنْ يقولَ : بل فيها انتقالٌ مِنْ وصفٍ في الذاتِ إلى وصفٍ فيها؛ لأنَّ النحاة نَصُّوا على جوازِ وقوع الجملةِ صفةً وحالاً نحو : مررتُ برجلٍ أبوه قائمٌ ، وجاء زيدٌ أبوه قائم . فالذي حكموا عليه بالوصفيَّةِ والحاليةِ يجوزُ أَنْ يقعَ في حَيِّز التَّصْيير؛ إذ لا فَرْقَ بين صفةٍ وصفةٍ من هذه الحيثيَّة .
الثالث : أن تكونَ الجملةُ حالاً ، التقدير : أم حَسِبَ الكفار أَنْ نُصَيِّرهم مثلَ المؤمنين في حالِ استواءِ محياهم ومماتِهم ، ليسوا كذلك بل هم مُفْترقون . وهذا هو الظاهر عند الشيخِ . وعلى الوجهين الأخيرين تكونُ الجملةُ داخلةً في حَيِّز الحُسْبانِ . وإلى ذلك نحا ابن عطية فإنه قال : " يَقْتضي هذا الكلامُ أنَّ لفظَ الآية خبرٌ ، ويظهر أنَّ قولَه : { سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } داخلٌ في المَحْسَبَةِ المُنْكَرَةِ السيئةِ ، وهذا احتمالٌ حسن والأولُ جيدٌ " انتهى . ولم يبين كيفيةَ دخولِه في الحُسْبانِ ، وكيفيَّةُ أحدِ الوجهين الأخيرَيْن : إما البدلِ وإمَّا الحاليةِ كما عَرَفْتَه .
وقرأ الأعمشُ " سواءً " نصباً " مَحْياهم ومَماتَهم " بالنصب أيضاً . فأمَّا " سواءً " فمفعولٌ ثانٍ أو حالٌ كما تقدَّم . وأمَّا نصب " مَحْياهم ومماتَهم " ففيه وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونا ظَرْفَيْ زمانٍ ، وانتصبا على البدلِ مِنْ مفعولِ " نَجْعَلَهم " بدلِ اشتمال ، ويكون " سواءً " على هذا هو المفعولَ الثاني . والتقدير : أن نجعلَ محياهم ومماتَهم سواءً . والثاني : أَنْ ينتصِبا على الظرفِ الزمانيِّ . والعاملُ : إمَّا الجَعْلُ أو سواء . والتقدير : أَنْ نجعلَهم في هذَيْن الوقتَيْن سواءً ، أو نجعلَهم مُسْتَوِين في هذين الوقتين .
قال الزمخشري مقدِّراً لهذا الوجه : " ومَنْ قرأ بالنصبِ جَعَلَ " مَحْياهم ومماتَهم " ظَرْفَيْنِ كمَقْدَمِ الحاجِّ وخُفوقِ النجم " .
(1/4794)
قال الشيخ : " وتمثيلُه بخُفوق النجم ليس بجيدٍ؛ لأنَّ " خُفوقَ " مصدرٌ ليس على مَفْعَل فهو في الحقيقةِ على حَذْفِ مضافٍ أي : وقتَ خُفوقِ بخلاف مَحْيا ومَمات ومَقْدَم فإنها موضوعةٌ على الاشتراك بين ثلاثةِ معانٍ : المصدريةِ والزمانيةِ والمكانيةِ . فإذا اسْتُعْملت مصدراً كان ذلك بطريق الوَضْعِ لا على حَذْفِ مضافٍ كخُفوق؛ فإنه لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ لكونِه موضوعاً للمصدرية " . وهذا أمرٌ قريبٌ لأنَّه إنما أراد أنه وَقَع هذا اللفظُ مُراداً به الزمانُ . أمَّا كونُه بطريق الأصالةِ أو الفرعيةِ فلا يَضُرُّ ذلك .
والضميرُ في " مَحْياهم ومماتُهم " يجوزُ أَنْ يعودَ على القَبِيْلَيْنِ بمعنى : أنَّ مَحْيا المؤمنين ومماتَهم سواءٌ عند الله في الكرامةِ ، ومَحْيا المجترحين ومماتَهم سواءٌ في الإِهانةِ عنده ، فَلَفَّ الكلام اتِّكالاً على ذِهْنِ السَّامع وفهمِه . ويجوزُ أَنْ يعودَ على المُجْترحين فقط . أَخْبَرَ أَنَّ حالَهم في الزمانَيْن سواءٌ .
قال أبو البقاء : " ويُقْرَأُ " مَماتَهم " بالنصب أي : في مَحْياهم ومماتَهم . والعاملُ " نَجْعل " أو سواء . وقيل : هو ظرفٌ " . قلت : قوله : " وقيل " هو القولُ الأولُ بعينِه .
قوله : { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } قد تقدَّم إعرابُه . وقال ابنُ عطيةَ هنا : " ما " مصدريةٌ أي : ساء الحكمُ حُكْمُهم .
(1/4795)
وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22)
قوله : { بالحق } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ : حالٌ من الفاعلِ أو من المفعول أو الباءُ للسببيَّة .
قوله : " ولِتُجْزَى " فيه ثلاثةُ أوجهٍ : أَنْ يكونَ عطفاً على " بالحق " في المعنى؛ لأنَّ كلاً منهما سببٌ/ فعطفَ العلَة على مثلها . الثاني : أنَّها معطوفةٌ على مُعَلَّلٍ محذوفٍ تقديرُه : لِيَدُلَّ بها على الدلالةِ على قُدْرَتِه " ولتُجْزَى . الثالث : أنْ تكونَ لامَ الصيرورةِ أي : وصار الأمرُ منها مِنْ حيث اهْتدى بها قومٌ وضَلَّ عنها آخرون .
(1/4796)
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
قوله : { أَفَرَأَيْتَ } : بمعنى : أَخْبِرْني ، وتقدَّم حكمُها مشروحاً . والمفعولُ الأولُ " مَنْ اتَّخذ " ، والثاني محذوف ، تقديره بعد غشاوة : أيهتدي ، ودَلَّ عليه قولُه : " فَمَنْ يهْديه " وإنما قَدَّرْتَه بعد غشاوة لأجلِ صلاتِ الموصولِ .
قوله : " على عِلْمٌ " حالٌ من الجلالةِ أي : كائناً على علمٍ منه فيه أنَّه أهلٌ لذلك . وقيل : حالٌ من المفعول أي : أضلَّه وهو عالِمٌ ، وهذا أشنعُ له .
وقرأ الأعرجُ " آلهةً " على الجمع ، وعنه كذلك مضافة لضميره : " آلهتَه هواه " .
قوله : " غِشاوة " قرأ الأخَوان " غَشْوَة " بفتح الغين وسكونِ الشين . والأعمشُ وابن مصرف كذلك إلاَّ أنَّهما كسرا الغَيْنَ . وباقي السبعة " غِشاوة " بكسر الغين . وابنُ مسعود والأعمشُ أيضاً بفتحها ، وهي لغةُ ربيعةَ . والحسن وعكرمة وعبد الله أيضاً بضمِّها ، وهي لغةُ عُكْلية . وتقدَّم الكلامُ في ذلك أولَ البقرة ، وأنَّه قُرئ هناك بالعين المهملة . والعامَّةُ : " تَذَكَّرون " بالتشديد والجحدريُّ بتخفيفها . والأعمش بتاءَيْن " تَتَذَكَّرون " .
قوله : { مِن بَعْدِ الله } أي : مِنْ بعد إضلالِ الله إياه .
(1/4797)
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)
قوله : { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا } : تقدَّم نظيرُ هذه الآياتِ كلِّها . وقرأ زيد بن علي " نُحْيا " بضمِّ النون .
(1/4798)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)
قوله : { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ } : العامَّةُ على نصب الحجة . وزيد بن علي وعمرو بن عبيد وعبيد بن عمير بالرفع وتقدَّمَ تأويلُ ذلك ، و " ما كان " جوابُ " إذا " الشرطية . وجعله الشيخُ دليلاً على عدمِ إعمالِ جواب " إذا " فيها؛ لأن " ما " لا يعمل ما بعدها فيما قبلها قال : " وخالفَتْ غيرَها مِنْ أدواتِ الشرطِ ، حيث لم تقترنْ الفاءُ بجوابِها إذا نُفِي ب " ما " .
(1/4799)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27)
قوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ } : في عامِله وجهان ، أحدُهما : أنه " يَخْسَرُ " ويومئذٍ بدلٌ مِنْ " يومَ تَقومُ " ، التنوينُ على هذا تنوينُ عوضٍ من جملةٍ مقدرةٍ ، ولم يتقدَّم من الجمل إلاَّ " تقومُ الساعةُ " فيصير التقديرُ : ويومَ تقومُ الساعةُ يومئذٍ تقومُ الساعةُ . وهذا الذي قَدَّروه ليس فيه مزيدُ فائدةٍ ، فيكونُ بدلاً توكيدياً . والثاني : أن العاملَ فيه مقدرٌ . قالوا : لأنَّ يومَ القيامةِ حالةٌ ثالثةٌ ليسَتْ بالسماءِ ولا بالأرضِ؛ لأنهما يتبدَّلان فكأنه قيل : ولله مُلْكُ السماواتِ والأرضِ ، والمُلْكُ يومَ تقومُ . ويكون قولُه " يومئذ " معمولاً ليَخْسَرُ . والجملةُ مستأنفةٌ من حيث اللفظُ ، وإنْ كان لها تعلُّقٌ بما قبلَها مِنْ حيث المعنى .
(1/4800)
وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
قوله : { جَاثِيَةً } : حالٌ؛ لأنَّ الظاهرَ أنَّ الرؤيةَ بَصَرِيَّة . والجاثية أي : على الرُّكَبِ؛ لأنَّها خائفةٌ والمذنبُ مُسْتَوْفِزٌ . وقيل : مجتمعةً ، ومنه : الجُثْوَةُ للقَبْر لاجتماع الأحجارِ عليه . قال :
4035 تَرَى جُثْوَتَيْنِ مِنْ تُرابٍ عليهما ... صَفائِحٌ صُمٌّ مِنْ صَفِيْحٍ مُنَضَّدِ
وقُرِئ " جاذِيَةً " بالذال المعجمة ، وهو أشدُّ اسْتيفازاً من الجاثي .
قوله : " كلُّ أمةٍ " العامَّةُ على الرفعِ بالابتداءِ . و " تُدْعى " خبرُها . ويعقوب بالنصبِ على البدلِ مِنْ " كُلُّ أمة " الأولى بدلِ نكرةٍ موصوفةٍ مِنْ مِثْلها .
قوله : " اليومَ تُجْزَوْن " هذه الجملةُ معمولةٌ لقولٍ مضمرٍ التقديرُ : يُقال لهم : اليومَ تُجْزَوْن . واليومَ معمولٌ لِما بعدَه " وما كُنتم " هو المفعولُ الثاني .
(1/4801)
هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
قوله : { يَنطِقُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً ، وأَنْ يكونَ خبراً ثانياً ، وأَنْ يكونَ " كتابُنا " بدلاً و " يَنْطِقُ " خبرٌ وحده . و " بالحق " حال .
(1/4802)
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)
قوله : { أَفَلَمْ } : هو على إضمارِ القولِ أيضاً . وقدَّر الزمخشريُّ على عادتِه جملةً بين الهمزةِ والفاءِ أي : ألَمْ تَأْتِكم رُسُلي فلم تكنْ آياتي .
(1/4803)
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
قوله : { إِنَّ وعْدَ الله } : العامَّةُ على كسرِ الهمزةِ : لأنها مَحْكِيَّةٌ بالقولِ . والأعرج وعمرو بن فائد بفتحها . وذلك مُخَرَّجٌ على لغة سُلَيْمٍ : يُجْرُون القولَ مُجْرى الظنِّ مطلقاً . وفيه قولُه :
4036 إذا قلتُ أنِّي آيِبٌ أهلَ بلدةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قوله : " والساعةُ " قرأ حمزة بنصبِها عطفاً على " وعدَ الله " . والباقون برفعها ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ : الابتداءُ وما بعدها من الجملةِ المنفيَّة خبرُها . الثاني : العطفُ على محلِّ اسم " إنَّ " لأنَّه/ قبل دخولِها مرفوعٌ بالابتداءِ . الثالث : أنه عطفٌ على محلِّ " إنَّ " واسمِها معاً؛ لأنَّ بعضَهم كالفارسيِّ والزمخشريِّ يَرَوْنَ أنَّ ل " إنَّ " واسمِها موضعاً ، وهو الرفعُ بالابتداء .
قوله : " إلاَّ ظَنَّاً " هذه الآيةُ لا بُدَّ فيها مِنْ تأويلٍ : وذلك أنه يجوزُ تفريغُ العاملِ لِما بعده مِنْ جميعِ معمولاته ، مرفوعاً كان أو غيرَ مرفوعٍ ، إلاَّ المفعولَ المطلقَ فإنه لا يُفَرَّغُ له . لا يجوزُ " ما ضَرَبْتَ إلاَّ ضَرْباً " كأنه لا فائدةَ فيه؛ وذلك أنه بمنزلةِ تكريرِ الفعلِ فكأنَّه في قوةِ " ما ضرَبْتُ إلاَّ ضرَبْتُ " . وكانَتْ هذه العلةُ خَطَرَتْ لي حتى رأيتُ مكِّياً وأبا البقاءِ نَحَوا إليها فللَّه الحمدُ .
وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : ما معنى " إنْ نَظُنُّ إلاَّ ظَنًّا "؟ قلت : أصلُه نَظُنُّ ظنًّا . ومعناه إثباتُ الظنِّ فحسب . فأَدْخَلَ حرفَ النفي والاستثناءَ ليُفادَ إثباتُ الظنِّ ونفيُ ما سواه؛ وزِيْدَ نَفْيُ ما سوى الظنِّ توكيداً بقولِه : { وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } . فظاهرُ كلامِه أنه لا يَتَأَوَّلُ الآيةَ بل حَمَلها على ظاهرِها؛ ولذلك قال الشيخ : " وهذا كلامُ مَنْ لا شعورَ له بالقاعدةِ النحوية : مِنْ أنَّ التفريغَ يكونُ في جميع المعمولاتِ مِنْ فاعلٍ ومفعولٍ وغيرِهما إلاَّ المصدرَ المؤكِّدَ فإنه لا يكونُ فيه " .
وقد اختلفَ الناسُ في تأويلِها على أوجهٍ ، أحدُها : ما قاله المبردُ وهو : أنَّ الأصلَ : إنْ نحن إلاَّ نظنُّ ظنَّاً . قال : " ونظيرُه ما حكاه أبو عمروٍ " ليس الطِّيْبُ إلاَّ المِسْكُ " تقديرُه : ليس إلاَّ الطيبُ المسكُ " قلتُ : يعني أن اسمَ " ليس " ضميرُ الشأنِ مستترٌ فيها ، وإلاَّ الطيبُ المسكُ في محل نصب خبرُها ، وكأنه خَفِيَ عليه أنَّ لغةَ تميمٍ إبطالُ عملِ " ليس " إذا انتقض نفيُها ب " إلاَّ " قياساً على " ما " الحجازيةِ ، والمسألةُ طويلةٌ مذكورةٌ في كتابي " شرح التسهيل " وعليها حكايةٌ جَرَتْ بين أبي عمروٍ وعيسى بن عمر . الثاني : أنَّ " ظنَّاً " له صفةٌ محذوفةٌ تقديره : إلاَّ ظناً بَيِّناً ، فهو مختصٌّ لا مؤكِّد . الثالث : أَنْ يُضَمَّنَ " نظنُّ " معنى نَعْتقد ، فينتصِبَ " ظَنَّاً " مفعولاً به لا مصدراً . الرابع : أنَّ الأصلَ : إنْ نظنُّ إلاَّ أنكم تظنون ظنَّاً ، فحذف هذا كلَّه ، وهو مَعْزُوٌّ للمبردِ أيضاً . وقد رَدُّوه عليه : من حيثُ إنَّه حَذَفَ أنَّ واسمَها وخبرَها وأبقى المصدرَ . وهذا لا يجوزُ . الخامس : أنَّ الظنَّ يكونُ بمعنى العِلْمِ والشكِّ فاستثنى الشكَّ كأنه قيل : ما لنا اعتقادٌ إلاَّ الشكَّ . ومثلُ الآية قولُ الأعشى :
4037 وحَلَّ به الشَّيْبُ أثقالَه ... وما اعْتَرَّه الشيبُ إلاَّ اعْتِرارا
يريد اعْتِراراً بَيِّناً .
(1/4804)
وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34)
قوله : { لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا } : من التوسُّعِ في الظرف؛ حيث أضاف إليه ما هو واقعٌ فيه كقوله : { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } [ سبأ : 33 ] . وتقدَّم الخلافُ في قولِه : " لا يُخْرَجُون " في أولِ الأعراف . وتقدَّم معنى الاستعتاب .
(1/4805)
فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36)
قوله : { رَبِّ السماوت وَرَبِّ الأرض رَبِّ العالمين } : قرأ العامَّةُ " ربِّ " في الثلاثة بالجرِّ تَبَعاً للجلالة بياناً أو بدلاً أو نعتاً . وابن محيصن برفع الثلاثةِ على المدح بإضمار " هو " .
(1/4806)
وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
قوله : { وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات } : يجوزُ أَنْ يكونَ " في السماوات " متعلقاً بمحذوف حالاً مِنْ " الكبرياء " ، وأَنْ يتعلَّقَ بما تعلَّقَ به الظرفُ الأولُ لوقوعِه خبراً . ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ " الكبرياء " لأنها مصدرٌ . وقال أبو البقاء : " وأَنْ يكونَ - يعني في السماوات - ظرفاً ، والعاملُ فيه الظرفُ الأولُ والكِبْرياء؛ لأنَّها بمعنى العظمة " ولا حاجةَ إلى تأويل الكبرياء بمعنى العظمة فإنها ثابتةُ المصدرية .
(1/4807)
مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { عَمَّآ أُنذِرُواْ } : يجوزُ أَنْ تكونَ " ما " مصدريةً أي : عن إنذارهم ، أو بمعنى الذي أي : عن الذي أُنْذِرُوْه . و " عن " متعلقةٌ بالإِعراض و " مُعْرِضون " خبرُ الموصول .
(1/4808)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)
قوله : { أَرَأَيْتُمْ } : تقدَّمَ حُكْمُها . ووقع بعدَها " أَرُوْني " فاحتملت وجهين ، أحدُهما : أَنْ تكونَ توكيداً لها لأنَّهما بمعنى أَخْبروني ، وعلى هذا يكونُ المفعولُ الثاني ل " أَرَأَيْتُمْ " قولَه : " ماذا خَلَقوا " لأنه استفهامٌ ، والمفعولُ الأولُ هو قولُه : " ما تَدْعُون " . والوجه الثاني : أنْ لا تكونَ مؤكِّدةً لها ، وعلى هذا تكون المسألةُ من بابِ التنازعِ لأنَّ " أَرَأَيْتُمْ " يطلب ثانياً ، و " أرُوْني " كذلك ، وقولُه : " ماذا خَلَقوا " هو المتنازَعُ فيه ، وتكون المسألةُ من إعمالِ الثاني والحذفِ من الأولِ . وجوَّزَ ابنُ عطية في " أَرَأَيْتُم " أنْ لا يتعدَّى . وجعل " ما تَدْعُوْن " استفهاماً معناه التوبيخُ . قال : " وتَدْعُوْنَ " معناه " تَعْبدون " قلت : وهذا رأيُ الأخفشِ وقد قال بذلك في قولِه : { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة } [ الكهف : 63 ] وقد مضَى ذلك .
قوله : " من الأرض " هذا بيانُ الإِبهامِ الذي في قوله : " ماذا خَلَقُوا " .
قوله : " أَمْ لهم " هذه " أم " المنقطعةُ . والشِّرْكُ : المُشاركة .
قوله : { مِّن قَبْلِ هاذآ } صفةٌ ل " كتاب " أي : بكتابٍ مُنَزَّلٍ من قبل هذا . كذا قَدَّره أبو البقاء . والأحسنُ أَنْ يُقَدَّرَ/ كونٌ مطلقٌ أي : كائِن مِنْ قبلِ هذا .
قوله : " أَو أَثَارَةٍ " العامة على " أَثارة " وهي مصدرٌ على فَعالة كالسَّماحَة والغَواية والضَّلالة ، ومعناها البقيةُ مِنْ قولِهم : سَمِنَتِ الناقةُ على أثارةٍ مِنْ لحم ، إذا كانت سَمينةً ثم هَزَلَتْ ، وبقِيَتْ بقيةٌ مِنْ شَحْمِها ثم سَمِنَتْ . والأثارَةُ غَلَبَ استعمالُها في بقيةِ الشَّرَف . يقال : لفلانٍ أثارةٌ أي : بقيةٌ أشرافٌ ، ويُستعمل في غيرِ ذلك . قال الراعي :
وذاتِ أثارَةٍ أكلَتْ عليها ... نباتاً في أكِمَّتِهِ قِفارا
وقيل : اشتقاقها مِنْ أَثَر كذا أي : أَسْنَدَه . ومنه قول عمر : " ما حَلَفْتُ ذاكراً ولا آثِراً " أي : مُسْنِداً له عن غيري . وقال الأعشى :
4039أ إنَّ الذي فيه تَمارَيْتُما ... بُيِّنَ للسامعِ والآثِرِ
وقيل فيها غيرُ ذلك . وقرأ عليُّ وابنُ عباس وزيد بن علي وعكرمة في آخرين " أَثَرَة " دونَ ألفٍ ، وهي الواحدة . ويُجْمع على أثَر كقَتَرَة وقَتَر . وقرأ الكسائيُّ " أُثْرَة " و " إثْرَة " بضم الهمزة وكسرِها مع سكونِ الثاء . وقتادةُ والسُّلمي بالفتح والسكون . والمعنى : بما يُؤثَرُ ويُرْوى . أي : ايتوني بخبرٍ واحدٍ يَشْهَدُ بصحةِ قولِكم . وهذا على سبيلِ التنزُّلِ للعِلْمِ بكذِبِ المُدَّعي . و " مِنْ عِلْمٍ " صفةٌ لأَثارة .
(1/4809)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)
قوله : { وَمَنْ أَضَلُّ } : مبتدأ وخبرٌ .
قوله : { مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ } " مَنْ " نكرةٌ موصوفةٌ أو موصولةٌ ، وهي مفعولٌ بقولِه : " يَدْعُو " .
قوله : { وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ } يجوزُ أَنْ يكونَ الضميران عائدَيْنِ على " مَنْ " مِنْ قولِه : { مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ } وهم الأصنامُ وتُوْقَعُ عليهم " مَنْ " لمعاملتهم إياها معاملةَ العقلاءِ ، أو لأنَّه أراد جميعَ مَنْ عُبِدَ مِنْ دونِ الله . وغَلَّب العقلاءَ ، ويكون قد راعى معنى " مَنْ " فلذلك جَمَعَ في قوله : " وهم " بعدما راعى لفظَها فأفردَ في قولِه : " يَسْتَجيب " وقيل : يعود على " مَنْ " مِنْ قولِه " ومَنْ أضَلُّ " ، وحُمِلَ أولاً على لفظها فَأُفْرِدَ في قولِه : " يَدْعُو " ، وثانياً على معناها فجُمِعَ في قوله : { وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ } .
(1/4810)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
قوله : { قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ } : هنا أقام ظاهرَيْن مُقامَ مضمَريْنِ؛ إذ الأصلُ : قالوا لها ، أي للآياتِ ، ولكنه أبرزَهما ظاهرَيْن لأجلِ الوصفَيْن المذكورَيْن . واللام في " للحق " للعلةِ .
(1/4811)
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
قوله : { بِدْعاً } : فيه وجهان ، أحدهما : على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : ذا بِدْعٍ ، قاله أبو البقاء . وهذا على أَنْ يكونَ البِدْعُ مصدراً . والثاني : أَنَّ البِدْعَ بنفسِه صفةٌ على فِعْل بمعنى بديع كالخِفِّ والخَفيف . والبِدْعُ والبديعُ : ما لم يُرَ له مِثْلٌ ، وهو من الابتداع وهو الاختراعُ . أنشد قطرب :
4039ب فما أنا بِدْعٌ مِنْ حوادِثَ تَعْتَري ... رجالاً عَرَتْ مِنْ بعدِ بُؤْسَى بأَسْعُدِ
وقرأ عكرمة وأبو حيوةَ وابنُ أبي عبلة " بِدَعاً " بفتح الدال جمع بِدْعة أي : ما كنتَ ذا بِدَع . وجَوَّز الزمخشري أَنْ يكونَ صفةً على فِعَل ك " دِين قِيَم " و " لحم زِيَم " . قال الشيخ : " ولم يُثْبِتْ سيبويه صفةً على فِعَل إلاَّ قوماً عِدَا ، وقد اسْتُدْرِك عليه " لحم زِيَم " أي : متفرق ، وهو صحيحٌ . فأمَّا " قِيَم " فمقصورٌ مِنْ قيام ، ولولا ذلك لصَحَّتْ عينُه كما صَحَّتْ في حِوَل وعِوَض . وأمَّا قولُ العربِ : " مكان سِوَىً " و " ماء رِوَىً " ورجل رِضَا وماء صِرَىً فمتأوَّلَةٌ عند التَّصْريفيِّين " قلت : تأويلُها إمَّا بالمصدريَّة أو القَصْر كقِيَم في قيام .
وقرأ أبو حيوةَ أيضاً ومجاهد " بِدَع " بفتح الباء وكسر الدال وهو وصفٌ كحَذِر .
وقوله : " يُفْعَلُ " العامَّةُ على بنائه للمفعول . وابنُ أبي عبلة وزيد ابن علي مبنياً للفاعلِ أي : الله تعالى . والظاهرُ أنَّ " ما " في قولِه : { مَا يُفْعَلُ بِي } استفهاميةٌ مرفوعةٌ بالابتداءِ ، وما بعدها الخبرُ ، وهي معلِّقَةٌ لأَدْري عن العملِ ، فتكونُ سادَّةً مَسَدَّ مفعولَيْها . وجَوَّزَ الزمخشري أَنْ تكونَ موصولةً منصوبةً يعني أنها متعديةٌ لواحدٍ أي : لا أعْرِفُ الذي يفعلُه اللَّهُ تعالى .
قوله : { إِلاَّ مَا يوحى } العامَّةُ على بناء " يُوْحَى " للمفعول . وقرأ ابن عُمير بكسرِ الحاءِ على البناءِ للفاعلِ ، وهو اللَّهُ تعالى .
(1/4812)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
قوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ } : مفعولاها محذوفان تقديره : أرأيتم حالَكم إنْ كان كذا ألَسْتُمْ ظالمين/ ، وجوابُ الشرطِ أيضاً محذوفٌ تقديره : فقد ظَلَمْتُمْ ، ولهذا أتى بفعل الشرط ماضياً . وقَدَّره الزمخشريُّ : ألستُمْ ظالمين . ورَدَّ عليه الشيخ : " بأنَّه لو كان كذلك لَوَجَبَتْ الفاءُ؛ لأنَّ الجملةَ الاستفهامية متى وقعت جواباً للشرط لَزِمَتِ الفاءُ . ثم إنْ كانت أداةُ الاستفهامِ همزةً تقدَّمَتْ على الفاء نحو : " إنْ تَزُرْنا أفما نُكْرِمُك " ، وإنْ كانت غيرَها تقدَّمَتِ الفاءُ عليها ، نحو : إنْ تَزُرْنا فهل تَرى إلاَّ خيراً " . قلت : والزمخشريُّ ذكر أمراً تقديريَّاً فَسَّر به المعنى لا الإِعرابَ .
وقال ابن عطية : " وأَرَأَيْتُمْ تَحْتمل أن تكون مُنَبِّهةً ، فهي لفظٌ موضوعٌ للسؤالِ لا يَقْتضي مفعولاً ، وتحتمل أن تكونَ الجملةُ كان وما عملتْ فيه سادَّةً مَسَدَّ مفعولَيْها " . قال الشيخ : " وهذا خلافُ ما قَرَّره النحاة " . قلت : قد تقدَّم تحقيقُ ما قَرَّره . وقيل : جوابُ الشرطِ هو قولُه : " فآمَن واستكْبَرْتُمْ " وقيل : هو محذوفٌ تقديرُه : فَمَنْ المُحِقُّ منَّا والمُبْطِلُ . وقيل : فَمَنْ أَضَلُّ .
قوله : " وكَفَرْتُمْ به " الجملةُ حاليةٌ أي : وقد كَفَرْتُمْ . ومنهم من لا يُضْمِرُ " قد " في مثلِه .
(1/4813)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
قوله : { لِلَّذِينَ آمَنُواْ } : يجوزُ أَنْ تكونَ لامَ العلة أي : لأجلِهم ، وأَنْ تكونَ للتبليغ ، ولو جَرَوْا على مقتضى الخطابِ لَقالوا : ما سَبَقْتُمونا ، ولكنهم التفَتُوا فقالوا : ما سَبَقُوْنا . والضميرُ في " كان " وإليه عائدان على القرآن ، أو ما جاء به الرسولُ .
قوله : { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ } العامل في " إذْ " مقدرٌ أي : ظهر عِنادُهم وتَسَبَّب عنه قولُه : " فسَيقولون " . ولا يَعْمل في " إذ " " فسَيقولون " لتضادِّ الزمانَيْنِ ولأجل الفاءِ أيضاً .
(1/4814)
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
قوله : { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى } : العامَّةُ على كسر ميم " مِنْ " حرفَ جرٍّ . وهي مع مجرورِها خبرٌ مقدَّمٌ . والجملةٌ حاليةٌ أو خبرٌ مستأنفٌ .
وقرأ الكلبيُّ بنصبِ " الكتابَ " تقديرُه : وأَنْزَلَ مِنْ قبلِه كتابَ موسى . وقُرِئ " ومَنْ " بفتح الميم " كتابَ موسى " بالنصبِ على أن " مَنْ " موصولةٌ ، وهي مفعولٌ أولُ لآتَيْنا مقدَّراً . وكتابَ موسى مفعولُه الثاني . أي : وآتَيْنا الذي قبلَه كتابَ موسى .
قوله : " إماماً ورَحْمَةً " حالان مِنْ " كتاب موسى " . وقيل : منصوبان بمقدرٍ أي : أنْزَلْناه إماماً . ولا حاجةَ إليه . وعلى كَوْنِهما حالَيْن هما منصوبان بما نُصِبَ به " مِنْ قبل " من الاستقرار .
قوله : " لِساناً " حالٌ مِن الضمير في " مُصَدِّقٌ " . ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ " كتاب " والعاملُ التنبيهُ ، أو معنى الإِشارةِ و " عربيَّاً " [ صفةٌ ] ل " لساناً " ، وهو المُسَوِّغُ لوقوع هذا الجامد حالاً . [ وجَوَّز أبو البقاء ] أَنْ يكونَ مفعولاً به ناصبُهُ " مُصَدِّقٌ " . وعلى هذا تكون الإِشارةُ إلى غيرِ القرآنِ؛ لأنَّ المرادَ باللسانِ العربيِّ القرآنُ وهو خلافُ الظاهر . وقيل : هو على حَذْفِ مضافٍ أي : مُصَدِّقٌ ذا لسانٍ عربي ، وهو النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم . وقيل : هو على إسقاطِ حرفِ الجرِّ أي : بلسانٍ . وهو ضعيفٌ .
قوله : " ليُنْذِرَ " متعلِّقٌ بمصدِّق . و " بُشْرَى " عطفٌ على محلِّه . تقديره : للإِنذار وللبشرى ، ولمَّا اختلف العلةُ والمعلولُ وَصَلَ العاملُ إليه باللامِ ، [ وهذا فيمَنْ قرأ بتاء الخطابِ . فأمَّا مَنْ قرأ بياءِ الغَيْبة . وقد تقدَّم ذلك في يس فإنهما مُتَّحدان . وقيل : بُشْرى ] عطفٌ على لفظ " لتنذِرَ " أي : فيكونُ مجروراً فقط . وقيل : هي مرفوعةٌ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ . تقديرُه : هي بُشْرَى . وقيل : بل هي عطفٌ على " مُصَدِّقٌ " وقيل : هي منصوبةٌ بفعل مقدرٍ أي : وبَشِّر بُشْرى . ونقل الشيخُ وجهَ النصبِ عطفاً على محلِّ " لتنذِرَ " عن الزمخشري وأبي البقاء . ثم قال : " وهذا لا يَصِحُّ على الصحيح من مذاهبِ النحويين لأنهم يَشْتَرِطون في الحَمْلِ على المَحَلِّ أَنْ يكونَ بحقِّ الأصالة ، وأَنْ يكونَ للموضعِ مُحْرِزٌ ، وهنا المحلُّ ليسَ بحقِّ الأصالة ، إذ الأصلُ في المفعولِ [ له ] الجرُّ ، والنصبُ ناشِئ عنه ، لكن لَمَّا كَثُرَ بالشروط المذكورةِ وَصَلَ إليه الفعلُ فنصبَه " انتهى .
قوله : " الأصلُ في المفعول له الجرُّ بالحرفِ " ممنوعٌ بدليل قولِ النَّحْويين : إنَّه يَنْصِبُ بشروطٍ ذكروها . ثم يقولون : ويجوزُ جرُّه بلامٍ ، فقولُهم " ويجوز " ظاهرٌ في أنه فرعٌ لا أصلٌ .
و " للمُحْسِنين " متعلقٌ ب " بُشْرَى " أو بمحذوفٍ على أنَّه صفةٌ لها .
(1/4815)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)
قوله : { فَلاَ خَوْفٌ } : الفاءُ زائدةٌ في خبرِ الموصولِ لِما فيه من معنى الشرطِ ، ولم تمنَعْ " إنَّ " من ذلك لبقاءِ معنى الابتداء بخلاف " ليت " و " لعلَّ " و " كأن " .
(1/4816)
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
قوله : { خَالِدِينَ } : منصوبٌ على الحاليَّةِ . و " جزاءً " منصوب على المصدرِ : إمَّا بعاملٍ مضمرٍ أي : يُجْزَوْن جزاءً ، أو بما تقدَّم؛ لأنَّ معنى أولئك أصحاب الجنة معنى جازَيْناهم بذلك .
(1/4817)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)
قوله : { إِحْسَاناً } : قرأ الكوفيون " إحْساناً " وباقي السبعةِ " حُسْناً " بضمِّ الحاءِ وسكونِ السينِ ، فالقراءةُ الأولى يكون " إحساناً " فيها منصوباً بفعلٍ مقدَّرٍ أي : وَصَّيْناه أَنْ يُحْسِنَ إليهما إحساناً . وقيل : بل هو مفعولٌ به على تضمينِ وصَّيْنا معنى أَلْزَمْنا ، فيكونُ مفعولاً ثانياً . وقيل : بل هو منصوبٌ على المفعولِ به أي : وصَّيناه بهما إحساناً مِنَّا إليهما . وقيل : هو منصوبٌ على المصدرِ؛ لأنَّ معنى وصَّيْنا : أَحْسَنَّا فهو مصدرٌ صريحٌ . والمفعولُ الثاني/ هو المجرورُ بالباء . وقال ابن عطية : " إنها تتعلَّق : إمَّا بوَصَّيْنا ، وإمَّا بإحساناً " . ورَدَّ الشيخُ : هذا الثاني بأنَّه مصدرٌ مؤَوَّلٌ فلا يتقدَّم معمولُه عليه ، ولأن " أَحْسَنَ " لا يتعدَّى بالباء ، وإنما يتعدَّى باللامِ . لا تقول : " أحسَنْتُ بزيدٍ " على معنى وصول الإِحسان إليه . وقد رَدَّ بعضُهم هذا بقولِه : { وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي } [ يوسف : 100 ] وقيل : هو بغير هذا المعنى . وقدَّر بعضُهم : ووَصَّيْنا الإِنسانَ بوالدَيْه ذا إحسانٍ ، يعني فيكونُ حالاً . وأمَّا " حُسْناً " فقيل فيه ما تقدَّم في إحسان .
وقرأ عيسى والسُّلَمي " حَسَناً " بفتحِهما . وقد تقدَّمَ معنى القراءتَيْنِ في البقرة وفي لقمان .
قوله : " كُرْهاً " قد تَقَدَّم الخلافُ فيه في النساء . وله هما بمعنىً واحد أم لا؟ وقال أبو حاتم : " الكَرْهُ بالفتح لا يَحْسُنُ لأنَّه بالفتح الغَصْبُ والغَلَبَةُ " . ولا يُلْتَفَتُ لِما قاله لتواتُرِ هذه القراءةِ . وانتصابُها : إمَّا على الحالِ من الفاعلِ أي : ذاتَ كُرْه . وإمَّا على النعت لمصدرٍ مقدرٍ أي : حَمْلاً كُرْهاً .
قوله : " وحَمْلُه " أي : مدةُ حَمْلِه . وقرأ العامَّةُ " فِصالُه " مصدر فاصَلَ ، كأنَّ الأمَّ فاصَلَتْهُ وهو فاصَلَها . والجحدري والحسن وقتادة " فَصْلُه " . قيل : والفَصْلُ والفِصال بمعنىً كالفَطْمِ والفِطام ، والقَطْفِ والقِطاف . ولو نَصَب " ثلاثين " على الظرفِ الواقعِ موقعَ الخبرِ جاز ، وهو الأصلُ . هذا إذا لم نُقَدِّر مضافاً ، فإنْ قَدَّرْنا أي : مدةُ حَمْلِه لم يَجُزْ ذلك وتعيَّن الرفعُ ، لتصادُقِ الخبرِ والمُخْبَرِ عنه .
قوله : { حتى إِذَا بَلَغَ } لا بُدَّ مِنْ جملةٍ محذوفةٍ تكونُ " حتى " غايةً لها أي : عاش واستمرَّتْ حياتُه حتى إذا .
قوله : " أربعين " أي : تمامَها ف " أربعين " مفعولٌ به .
قوله : { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي } أَصْلَحَ يتعدَّى بنفسِه لقولِه : { وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } [ الأنبياء : 90 ] وإنما تعدَّى ب في لتضمُّنِه معنى الطُفْ بي في ذرِّيَّتي ، أو لأنه جَعَلَ الذرِّيَّة ظرفاً للصَّلاح كقولِه :
4040 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . يَجْرَحُ في عَراقيبها نَصْلي
(1/4818)
أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
قوله : { نَتَقَبَّلُ } : قرأ الأخوان وحفص " نَتَقَبَّلُ " بفتح النون مبنيَّاً للفاعلِ ونصبِ " أَحْسَنَ " على المفعول به ، وكذلك " ونتجاوَزُ " . والباقون ببنائِهما للمفعولِ ورفع " أحسنُ " لقيامِه مقام الفاعل ومكانَ النونِ ياءٌ مضمومةٌ في الفعلَيْن . والحسنُ والأعمش وعيسى بالياء منْ تحتُ ، والفاعلُ اللَّهُ تعالى .
قوله : { في أَصْحَابِ الجنة } فيه أوجه ، أحدُها : - وهو الظاهر - أنَّه في محلِّ حالٍ أي : كائنين في جملةِ أصحابِ الجنة كقولِك : أكرَمَني الأميرُ في أصحابِه ، أي : في جملتهم . والثاني : أن " في " بمعنى " مع " . والثالث : أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هم في أصحاب الجنة .
قوله : " وَعْدَ الصدقِ " مصدرٌ مؤكِّد لمضمونِ الجملةِ السابقة؛ لأنَّ قولَه { أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ } في معنى الوعد .
(1/4819)
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17)
قوله : { أُفٍّ } : قد تقدَّم الكلامُ على " أُفّ " مستوفى و " لكما " بيانٌ أي : التأفيفُ لكما نحو : { هَيْتَ } [ يوسف : 23 ] .
قوله : " أَتَعِدانِني " العامَّةُ على نونَيْن مكسورتَيْن : الأولى للرفع والثانية للوقاية ، وهشام بالإِدغام ، ونافع في روايةٍ بنونٍ واحدة . وهذه مُشَبَّهةٌ بقوله : { تأمروني أَعْبُدُ } [ الزمر : 64 ] . وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر وعبد الوارث عن أبي عمروٍ بفتح النونِ الأولى ، كأنَّهم فَرُّوا مِنْ توالي مِثْلَيْنِ مكسورَيْن بعدهما ياءٌ . وقال أبو البقاء : " وهي لغةٌ شاذَّةٌ في فتح نون الاثنين " قلت : إنْ عَنَى نونَ الاثنين في الأسماءِ نحو قولِه :
4041 على أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقَلَّتْ . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فليس هذا منه . وإن عَنَى في الفعلِ فلم يَثْبُتْ ذلك لغةً ، وإنَّما الفتحُ هنا لِما ذكَرْتُ .
قوله : " أَنْ أُخْرَجَ " هو الموعودُ به ، فيجوزُ أَنْ تُقَدِّرَ الباءَ قبل " أَنْ " وأَنْ لا تُقَدِّرَها .
قوله : " وقد خَلَتْ " جملةٌ حاليةٌ . وكذلك { وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ الله } أي : يَسْألان اللَّهَ . واستغاث يتعدَّى بنفسِه تارةً وبالباء أخرى ، وإن كان ابنُ مالكٍ زعمَ أنَّه متعدٍّ بنفسِه فقط ، وعابَ قولَ النحاةِ " مستغاث به " قلت : لكنه لم يَرِدْ في القرآن إلاَّ متعدَّياً بنفسِه : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ } [ الأنفال : 9 ] { فاستغاثه الذي } [ القصص : 15 ] { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ } [ الكهف : 29 ] قوله : " وَيْلَكَ " منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مُلاقٍ له في المعنى دونَ الاشتقاقِ . ومثله : وَيْحَه ووَيْسَه ووَيْبَه ، وإمَّا على المفعولِ به بتقدير : ألزمَك الله وَيْلَكَ . وعلى كلا التقديرَيْن الجملةُ معمولةٌ لقولٍ مقدرٍ أي : يقولان وَيْلَكَ آمِنْ . والقولُ في محلِّ نصب على الحال أي : يَسْتغيثان اللَّهَ قائلين ذلك .
قوله : { إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } العامةُ على كسرِ " إنَّ " / استئنافاً أو تعليلاً . وقرأ عمرو بن فائد والأعرج بفتحِها على أنها معمولةٌ ل آمِنْ على حَذْفِ الباءِ أي : آمِنْ بأنَّ وَعْدَ اللَّهِ حقٌّ .
(1/4820)
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)
قوله : { في أُمَمٍ } : كقوله : { في أَصْحَابِ الجنة } [ الأحقاف : 16 ] .
(1/4821)
وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)
قوله : { وَلِيُوَفِّيَهُمْ } : مُعَلَّلهُ محذوفٌ تقديرُه : جازاهم بذلك . وقرأ ابن كثير وأبو عمروٍ وعاصمٌ وهشامٌ بالياء مِنْ تحتُ . وباقي السبعة بالنونِ . والسُّلمي بالتاءِ مِنْ فوقُ أَسْنَدَ التوفيةَ للدرجات مجازاً .
قوله : { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } : إمَّا استئنافٌ ، وإمَّا حالٌ مؤكِّدة .
(1/4822)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
قوله : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ } : اليومَ منصوبٌ بقولٍ مقدرٍ أي : يُقال لهم : أَذْهَبْتُمْ في يومِ عَرْضِهم . وجَعَل الزمخشريُّ هذا مثل " عَرَضْتُ الناقةَ على الحوضِ " فيكونُ قَلْباً . ورَدَّه الشيخُ : بأنه ضرورةٌ . وأيضاً العَرْضُ أمرٌ نسبيٌّ فتصِحُّ نسبتُه إلى الناقةِ وإلى الحوضِ . وقد تقدَّم الكلامُ في القلبِ ، وأنَّ فيه ثلاثةَ مذاهبَ .
قوله : " أَذْهَبْتُم " قرأ ابن كثير " أَأَذْهَبْتُمْ " بهمزتَيْن : الأولى مخففةٌ ، والثانيةُ مُسَهَّلَةٌ بينَ بينَ ، ولم يُدْخِلْ بينهما ألفاً ، وهذا على قاعدتِه في { أَأَنذَرْتَهُمْ } [ البقرة : 6 ] ونحوِه . وابنُ عامرٍ قرأ أيضاً بهمزتَيْن ، لكن اختلفَ راوياه عنه : فهشام سَهَّل الثانيةَ وخَفَّفَها ، وأدخل ألفاً في الوجهيْن ، وليس على أصلِه فإنه من أهلِ التحقيق . وابنُ ذكوان بالتحقيقِ فقط دونَ إدخالِ ألفٍ . والباقون بهمزةٍ واحدةٍ فيكونُ : إمَّا خبراً ، وإمَّا استفهاماً ، فأُسْقِطَتْ أداتُه للدلالةِ عليها ، والاستفهامُ معناه التقريعُ والتوبيخُ .
قوله : " في حياتِكم " يجوزُ تَعَلُّقُه ب " أَذْهَبْتُمْ " ويجوزُ تعلُّقُه بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ " طيباتكم " .
(1/4823)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
قوله : { إِذْ أَنذَرَ } : بدلٌ مِنْ " أَخا " بدلُ اشتمالٍ ، وتقدَّم تحقيقُه . والأَحْقافُ : جمعُ حِقْف وهو الرَّمْلُ المستطيلُ المِعْوَجُّ ومنه " احْقَوْقَفَ الهِلالُ " قال امرؤ القيس :
4042 فلمَّا أَجَزْنا ساحةَ الحيِّ وانتحى ... بنا بَطْنُ حِقْفٍ ذي قِفافٍ عَقَنْقَلِ
قوله : " وقد خَلَتْ " يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِن الفاعل أو من المفعولِ ، والرابطُ الواوُ . والنُّذُر جمعُ نَذير . ويجوزُ أَنْ تكونَ معترضةً بين " أَنْذَرَ " وبين { أَلاَّ تعبدوا } أي : أَنْذَرهم بأَنْ لا .
(1/4824)
فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24)
قوله : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً } : في هاء " رَأَوْه " قولان ، أحدهما : أنه عائدٌ على " ما تَعِدُنا " . والثاني : أنه ضميرٌ مُبْهَمٌ يُفَسِّرُه " عارضاً " : إمَّا تمييزاً أو حالاً ، قالهما الزمخشريُّ . ورَدَّه الشيخُ : بأنَّ التمييزَ المفسِّرَ للضميرِ محصورٌ في باب : رُبَّ وفي نِعْمَ وبِئْس ، وبأنَّ الحالَ لم يَعْهَدُوها أَنْ تُوَضِّحَ الضميرَ قبلها ، وأنَّ النَّحْويين لا يَعْرفون ذلك .
قوله : " مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهم " صفةٌ ل " عارِضاً " وإضافتُه غيرُ مَحْضةٍ ، فمِنْ ثَمَّ ساغ أَنْ يكونَ نعتاً لنكرةٍ وكذلك " مُمْطِرُنا " وقع نعتاً ل " عارِض " ومثله :
4043 يا رُبَّ غابِطِنا لو كان يَطْلُبُكُمْ ... لاقى مباعَدَةً منكم وحِرْمانا
والعارِضُ : المُعْتَرِضُ من السحاب في الجوِّ . قال :
4044 يا مَنْ رَأَى عارِضاً أَرِقْتُ له ... بين ذراعَيْ وجَبْهَةِ الأَسَدِ
وقد تقدَّم : أَنَّ أَوْدِيَة جمعُ " وادٍ " ، وأنَّ أَفْعِلة شذَّتْ جمعاً ل فاعِل في ألفاظٍ : كوادٍ وأَوْدِيَة ، ونادٍ وأَنْدِية ، وجائِز وأَجْوِزة .
قوله : " ريحٌ " يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : هو ريحٌ . ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ " هو " . وقُرِئ " ما استُعْجِلْتُمْ " مبنياً للمفعول " وفيها عذابٌ " صفةٌ ل " ريحٌ " وكذلك " تُدَمِّرُ " . وقُرِئ { يَدْمُرُ كُلَّ شَيْءٍ } بالياءِ من تحتُ وسكونِ الدال وضمِّ الميم " كلُّ " بالرفع على الفاعلية أي : يهلك كلُّ شيء . وزيد بن علي كذلك إلاَّ أنه بالتاءِ مِنْ فوقُ ونصبِ " كلَّ " ، والفاعلُ ضميرُ الريح ، وعلى هذا فيكون دَمَّر الثلاثي لازِماً ومتعدياً .
(1/4825)
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
قوله : { فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } : قرأ حمزةُ وعاصم " لا يُرَى " بضمِّ الياءِ مِنْ تحتُ مبنياً للمفعولِ ، " مَسَاكنُهم " بالرفع لقيامِه مقامَ الفاعلِ . والباقون من السبعةِ بفتح تاءِ الخطاب " مَساكنَهم " بالنصب مفعولاً به . والجحدريُّ والأعمش وابنُ أبي إسحاقَ والسُّلميُّ وأبو رجاءٍ بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ مبنياً للمفعول . " مساكنُهم " بالرفع لقيامِه مقامَ الفاعل ، إلاَّ أنَّ هذا عند الجمهور لا يجوزُ ، أعني إذا كان الفاصلُ " إلاَّ " فإنه يمتنع لَحاقُ علامةِ التأنيثِ في الفعل إلاَّ في ضرورةٍ كقولِه : /
4045 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وما بَقِيَتْ إلاَّ الضلوعُ الجراشِعُ
وقول الآخر :
4046 كأنه جَمَلٌ هَمٌّ وما بَقِيَتْ ... إلاَّ النَّحِيزةُ والألواحُ والعَصَبُ
وعيسى الهمداني " لا يُرى " بالياء مِنْ تحتُ مبنياً للمفعول ، " مَسْكَنُهم " بالتوحيد . ونصر بن عاصم بتاء الخطاب " مَسْكَنَهم " بالتوحيد أيضاً منصوباً ، واجتُزِئ بالواحد عن الجمع .
(1/4826)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26)
قوله : { مَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ } : " ما " موصولةٌ أو موصوفةٌ . وفي " إنْ " ثلاثةُ أوجهٍ : شرطية وجوابُها محذوفٌ . والجملةُ الشرطيةُ صلةُ ما والتقديرُ : في الذي إنْ مَكَّنَّاكم فيه طَغَيْتُم . والثاني : أنها مزيدةٌ تشبيهاً للموصولةِ ب " ما " النافيةِ والتوقيتيةِ . وهو كقوله :
4047 يُرَجِّي المرءُ ما إنْ لا يَراهُ ... وتَعرِضُ دونَ أَدْناه الخُطوبُ
والثالث : - وهو الصحيحُ - أنها نافيةٌ بمعنى : مَكَّنَّاهم في الذي ما مكَّنَّاكم فيه من القوةِ والبَسْطَةِ وسَعَةِ الأرزاق . ويدلُّ له قولُه تعالى في مواضعَ : { كانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } [ الروم : 9 ] وأمثالِه . وإنما عَدَلَ عن لفظِ " ما " النافية إلى " إنْ " كراهيةً لاجتماعِ متماثلَيْن لفظاً . قال الزمخشري : " وقد أَغَثَّ أبو الطيبِ في قولِه :
4048 لَعَمْرُك ما ما بان منك لِضاربٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وما ضَرَّه لو اقتدى بعُذوبة لفظِ التنزيل فقال : " ما إنْ بانَ منك " .
قوله : " فما أَغْنَى " يجوزُ أَنْ تكونَ " ما " نفياً ، وهو الظاهرُ أو استفهاماً للتقرير . واستبعده الشيخُ لأجْلِ قولِه : " مِنْ شيء " قال : " إذ يصيرُ التقديرُ : أيُّ شيء أغنى عنهم مِنْ شيءٍ ، فزاد " مِنْ " في الواجب ، وهو لا يجوزُ على الصحيح " . قلت : قالوا تجوزُ زيادُتها في غيرِ الموجَبِ وفََسَّروا غيرِ الموجَبِ بالنفيِ والنهيِ والاستفهامِ ، وهذا استفهامٌ .
قوله : " إذ كانوا " معمولٌ ل " أَغْنى " وهي مُشْرَبَةٌ معنى التعليلِ أي : لأنهم كانوا يَجْحَدُون .
(1/4827)
فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
قوله : { قُرْبَاناً آلِهَةَ } : فيه أربعةُ أوجهٍ ، أوجَهُها : أنَّ المفعولَ الأولَ ل " اتَّخذوا " محذوفٌ هو عائدُ الموصولِ . " وقُرْباناً " نُصِبَ على الحال و " آلهةً " هو المفعولُ الثاني للاتخاذ . والتقدير : فهَلاَّ نَصَرهم الذين اتَّخَذُوْهم مُتَقَرَّباً بهم آلهةً . الثاني : أنَّ المفعولَ الأولَ محذوفٌ ، كما تقدَّم تقريرُه ، و " قُرْباناً " مفعولاً ثانياً و " آلهةً " بدلٌ منه . وإليه نحا ابنُ عطية والحوفيُّ وأبو البقاء . إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ مَنَعَ هذا الوجهَ قال : " لفسادِ المعنى " ، ولم يُبَيِّنْ جهةَ الفساد . قال الشيخ : " ويَظْهَرُ أنَّ المعنى صحيحٌ على ذلك الإِعراب " قلت : ووجهُ الفسادِ - واللَّهُ أعلم - أنَّ القُرْبان اسمٌ لِما يُتَقَرَّبُ به إلى الإِله ، فلو جَعَلْناه مفعولاً ثانياً ، وآلهةً بدلاً منه لَزِمَ أَنْ يكونَ الشيءُ المتقرَّبُ به آلهةً ، والفَرَضُ أنه غيرُ الآلهةِ ، بل هو شيءٌ يُتَقَرَّب به إليها فهو غيرُها ، فكيف تكون الآلهةُ بدلاً منه؟ هذا ما لا يجوزُ . الثالثُ : أنَّ " قُرْباناً " مفعولٌ مِنْ أجلِه ، وعزاه الشيخُ للحوفيِّ . قلت : وإليه ذهب أبو البقاء أيضاً ، وعلى هذا ف " آلهةً " مفعول ثانٍ والأولُ محذوفٌ كما تقدَّم . الرابع : أَنْ يكونَ مصدراً ، نقله مكيٌّ . ولولا أنَّه ذكر وجهاً ثانياً وهو المفعولُ مِنْ أجلِه لأوَّلْتُ كلامَه : أنَّه أراد بالمصدرِ المفعولَ مِنْ أجلِهِ لبُعْدِ معنى المصدر .
قوله : " إفْكُهم " العامَّةُ على كسرِ الهمزةِ وسكونِ الفاءِ ، مصدرُ أَفَكَ يَأْفِك إفْكاً أي : كَذِبُهم . وابن عباس بالفتح وهو مصدرٌ له أيضاً . وابنُ عباس أيضاً وعكرمة والصباح بن العلاء " أَفَكَهُمْ " بثلاثِ فتحات فعلاً ماضياً . أي : صَرَفَهم . وأبو عياض وعكرمةُ أيضاً ، كذلك إلاَّ أنَّه بتشديد الفاءِ للتكثير . وابن الزبير وابن عباس أيضاً " آفَكَهم " بالمدِّ فعلاً ماضياً أيضاً ، وهو يحتملُ أَنْ يكونَ بزنةِ فاعَلَ ، فالهمزةُ أصليةٌ ، وأَنْ يكونَ بزنةِ أَفْعَل ، فالهمزةُ زائدةٌ والثانيةُ بدلٌ مِنْ همزةٍ . وإذا قلنا : إنه أَفْعَلَ فهمزتُه تحتملُ أَنْ تكونَ للتعديةِ ، وأَنْ يكونَ أَفْعَلَ بمعنى المجرد . وابنُ عباس أيضاً : " آفِكُهم " بالمدِّ وكسرِ الفاءِ ورَفْعِ الكافِ ، جعله اسمَ فاعلٍ بمعنى صارِفهم . وقُرِئ " أَفَكُهم " بفتحتين ورفعِ الكافِ على أنَّه مصدرٌ لأَفَكَ أيضاً فتكونُ له ثلاثةُ مصادرَ : الأَفْكُ والإِفْكُ بفتح الهمزة وكسرها مع سكون الفاء وفتح الهمزة والفاء . وزاد أبو البقاء أنه قُرِئ " آفَكُهم " بالمدِّ وفتحِ الفاءِ ورفعِ الكافِ . قال : " بمعنى أَكْذَبُهم " فجعله أفْعَلَ تفضيلٍ .
قوله : { وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } / يجوزُ أَنْ تكونَ " ما " مصدريةً وهو الأحسنُ ليُعْطَفَ على مثلِه ، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ أي : يَفْتَرُونه . والمصدرُ مِنْ قولِه : " إفْكُهم " يجوزُ أَنْ يكونَ مضافاً إلى الفاعلِ بمعنى كَذبِهم ، وإلى المفعول بمعنى صَرْفِهم .
(1/4828)
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
قوله : { وَإِذْ صَرَفْنَآ } : منصوبٌ ب اذْكُرْ مقدَّراً . وقُرِئ " صَرَّفْنا " بالتشديدِ للتكثيرِ . " من الجنِّ " صفةٌ ل " نَفَراً " ، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب " صَرَفْنا " ، و " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ .
قوله : " يَسْتَمِعُون " صفةٌ أيضاً ل " نَفَراً " أو حالٌ لتخصُّصهِ بالصفةِ ، إنْ قلنا : إنَّ " مِنَ الجنِّ " صفةٌ له ، وراعى معنى النَّفر ، فأعاد عليه الضميرَ جمعاً ، ولو راعَى لفظَه وقال : " يَسْتمع " لَجاز .
قوله : " فلَمَّا حَضَرُوْه " يجوزُ أَنْ تكونَ الهاءُ للقرآنِ ، وهو الظاهرُ ، وأَنْ تكونَ للرسولِ عليه السلام ، وحينئذٍ يكونُ في الكلام التفاتٌ مِنْ قولِه : " إليك " إلى الغَيْبَةِ في قولِه : " حَضَرُوه " .
قوله : " قُضِي " العامَّةُ على بنائِه للمفعولِ أي : فَرَغَ [ مِنْ ] قراءةِ القرآنِ ، وهو يُؤَيِّدُ عَوْدَ هاء " حَضَروه " على القرآن . وأبو مجلز . وحبيب بن عبد الله " قَضَى " مبنياً للفاعلِ أي : أتَمَّ الرسولُ قراءتَه ، وهي تؤيِّدُ عَوْدَها على الرسولِ عليه السلام .
(1/4829)
يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31)
قوله : { مِّن ذُنُوبِكُمْ } : يجوزُ أَنْ تكونَ تبعيضيَّةً ، وأن تكونَ مزيدةً عند مَنْ يرى ذلك .
(1/4830)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
قوله : { وَلَمْ يَعْيَ } : العامَّةُ على سكونِ العينِ وفتحِ الياءِ مضارعَ عَيِيَ بالكسر يَعْيا بالفتحِ ، فلمَّا دَخَلَ الجازمُ حَذَفَ الألفَ . وقرأ الحسن " يَعِيْ " بكسر العين وسكون الياءِ . قالوا : وأصلُها عَيِيَ بالكسرِ ، فجعلَ الكسرةَ فتحةً على لغةِ طَيِّئ فصارَ " عَيا " كما قالوا في بَقِيَ : بَقَا . ولَمَّا بُني الماضي على فَعَلَ بالفتح جاء بمضارعِه على يَفْعِل بالكسرِ ، فصار يَعْيِي مثل : يَرْمي . فلمَّا دَخَلَ الجازمُ حَذَفَ الياءَ الثانيةَ فصار " لم يَعْيِ " بعين ساكنة وياء مكسورة ثم نَقَلَ حركةَ الياءِ إلى العينِ فصار اللفظُ كما ترى . وقد تَقَدَّم أن عَيِيَ وحَيِي فيهما لغتان : الفكُّ والإِدغامُ ، فأمَّا " حِيِي " فتقدَّمَ في الأنفال . وعَيَّ فكقولِه :
4049 عَيُّوا بأَمْرِهِمُ كما ... عَيَّتْ ببَيْضَتِها الحمَامَهْ
والعِيُّ : عَدَمُ الاهتداءِ إلى جهةٍ . ومنه العِيُّ في الكلامِ ، وعيِيَ بالأمرِ : إذا لم يَهْتَدِ لوَجْهه .
قوله : " بقادرٍ " الباءُ زائدةٌ . وحَسَّنَ زيادتَها كونُ الكلامِ في قوةِ " أليسَ اللَّهُ بقادرٍ " وقاس الزجَّاجُ " ما ظَنَنْتُ أنَّ أحداً بقائمٍ " عليها ، والصحيحُ التوقُّفُ . وقرأ عيسى وزيد بن علي والجحدريُّ " يَقْدِرُ " مضارعَ قَدَرَ ، والرسمُ يَحْتملُه . وقوله : " بلى " إيجابٌ لِما تضمَّنَه الكلامُ مِن النفي في قولِه : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } .
(1/4831)
وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34)
قوله : { أَلَيْسَ هذا } : معمولٌ لقولٍ مضمرٍ هو حالٌ ، كما تقدَّمَ في نظيرِه .
(1/4832)
فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
قوله : { فاصبر } : الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ على ما تقدَّمَ ، والسببيَّةُ فيها ظاهرةٌ .
قوله : " من الرسُل " يجوزُ أَنْ تكونَ تبعيضيَّةً ، وعلى هذا فالرسلُ أولو عَزْمٍ وغيرُ أُولي عَزْمٍ . ويجوز أَنْ تكونَ للبيانِ ، فكلُّهم على هذا أُوْلو عَزْم .
قوله : " بلاغٌ " العامَّةُ على رَفْعِه . وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، فقدَّره بعضُهم : تلك الساعةُ بلاغٌ ، لدلالةِ قولِه : { إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } وقيل : تقديرُه هذا أي : القرآن والشرعُ بلاغٌ . والثاني : أنَّه مبتدأٌ ، والخبرُ قولُه : " لهم " الواقعُ بعد قولِه : " ولا تَسْتَعْجِلْ " أي : لهم بلاغٌ ، فيُوْقَفُ على " فلا تَسْتعجل " . وهو ضعيفٌ جداً للفصلِ بالجملةِ التشبيهية ، لأنَّ الظاهرَ تَعَلُّقُ " لهم " بالاستعجال ، فهو يُشْبِه التهيئةَ والقطعَ . وقرأ زيد بن علي والحسن وعيسى " بلاغاً " نصباً على المصدرِ أي : بَلَغَ بلاغاً ، ويؤيِّده قراءةُ أبي مجلز " بَلِّغْ " أمراً . وقرأ أيضاً " بَلَغَ " فعلاً ماضياً .
ويُؤْخَذُ مِنْ كلامِ مكيّ أنه يجوزُ نصبُه نعتاً ل " ساعةً " فإنه قال : " ولو قُرِئ " بلاغاً " بالنصبِ على المصدر أو على النعتِ ل " ساعةً " جاز " . قلت : قد قُرِئ به وكأنه لم يَطَّلِعْ على ذلك .
وقرأ " الحسن " أيضاً " بلاغ " بالجرِّ . وخُرِّجَ على الوصف ل " نهار " على حَذْفِ مضافٍ أي : مِنْ نَهارٍ ذي بلاغ ، أو وُصِف الزمانُ بالبلاغ مبالغةً .
قوله : " يُهْلَكُ " العامَّةُ على بنائِه للمفعولِ . وابن محيصن " يَهْلِك " بفتح الياء وكسرِ اللام مبنياً للفاعل . وعنه أيضاً فتحُ اللامِ وهي لغةٌ . والماضي هلِكَ بالكسر . قال ابن جني : " كلٌ مرغوبٌ عنها " . وزيد بن ثابت بضمِّ الياءِ وكسرِ اللام/ والفاعلُ اللَّهُ تعالى . " القومَ الفاسقين " نصباً على المفعولِ به . و " نُهْلك " بالنون ونصب " القوم " .
(1/4833)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { الذين كَفَرُواْ } : يجوزُ فيه الرفعُ على الابتداءِ . والخبرُ الجملةُ مِنْ قولِه : " أضَلَّ أعمالَهم " ، ويجوزُ نصبُه على الاشتغالِ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّرُه " أضَلَّ " من حيثُ المعنى أي : خَيَّبَ الذين كفروا .
(1/4834)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)
قوله : { والذين آمَنُواْ } : يجوز فيه الوجهان المتقدمان . وتقديرُ الفعلِ : " رَحِمَ الذين آمنوا " .
قوله : { بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ } العامَّةُ على بنائِه للمفعول مشدَّداً . وزيد ابن علي وابن مقسم " نَزَّل " مبنياً للفاعل ، وهو اللَّهُ تعالى . والأعمش " أُنْزِل " بهمزة التعدية مبنياً للمفعول . وقُرِئ " نَزَلَ " ثلاثياً مبنياً للفاعل .
قوله : " وهو الحقُّ " جملةٌ معترضةٌ بين المبتدأ والخبرِ ، أو بين المفسَّر والمفسِّر . وتقدَّم تفسيرُ البال في طه .
(1/4835)
ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
قوله : { ذَلِكَ } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه مبتدأٌ . والخبرُ الجارُّ بعدَه . والثاني : قاله الزمخشري أنَّه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : الأمرُ ذلك بسببِ كذا . فالجارُّ في محلِّ نصبٍ . قال الشيخ : " ولا حاجةَ إليه " .
قوله : " كذلك يَضْرِبُ " خرَّجَه الزمخشريُّ على : مِثْلَ ذلك الضربِ يَضْرِبُ اللَّهُ للناسِ أمثالَهم . والضميرُ راجعٌ إلى الفريقين أو إلى الناسِ ، على معنى : أنه يَضْرِبُ أمثالَهم لأجلِ الناس ليَعْتَبِروا .
(1/4836)
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)
قوله : { فَإِذَا لَقِيتُمُ } : العاملُ في هذا الظرفِ فعلٌ مقدر هو العاملُ في " ضَرْبَ الرِّقاب " تقديرُه : فاضربوا الرقابَ وقتَ ملاقاتِكم العدوَّ . ومنع أبو البقاء أَنْ يكونَ المصدر نفسُه عاملاً قال : " لأنه مؤكَّدٌ " . وهذا أحدُ القولَيْن في المصدرِ النائبِ عن الفعل نحو : " ضَرْباً زيداً " هل العملُ منسوبٌ إليه أم إلى عامِله؟ ومنه :
4050 على حينَ أَلْهى الناسَ جُلُّ أمورِهمْ ... فنَدْلاً زُرَيْقُ المالَ نَدْلَ الثَّعالبِ
فالمالَ منصوبٌ : إمَّا ب " انْدُلْ " أو ب " نَدْلا " ، والمصدر هنا أُضيف إلى معمولِه . وبه اسْتُدِلَّ على أنَّ العملَ للمصدرِ لإِضافتِه إلى ما بعدَه ، ولو لم يكنْ عامِلاً لما أُضِيْفَ إلى ما بعده .
قوله : " حتى إذا " هذه غايةٌ للأمرِ بضَرْبِ الرقاب . وقرأ السُّلَمِيُّ " فَشِدُّوا " بكسر الشين . وهي ضعيفةٌ جداً . والوَثاق بالفتح - وفيه الكسر - اسمُ ما يُوْثَقُ به .
قوله : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } فيهما وجهان ، أشهرهما : أنهما منصوبان على المصدر بفعلٍ لا يجوزُ إظهارُه؛ لأنَّ المصدرَ متى سِيْقَ تفصيلاً لعاقبةِ جملةٍ وَجَبَ نصبُه بإضمارِ فِعْلٍ لا يجوزُ إظهارُه والتقديرُ : فإمَّا أَنْ تَمُنُّوا مَنًّا ، وإمَّا تُفادُوا فداءً . ومثله :
4051 لأَجْهَدَنَّ فإمَّا دَرْءُ واقِعَةٍ ... تُخْشَى وإمَّا بلوغُ السُّؤْلِ والأَمَلِ
والثاني : - قاله أبو البقاء - أنهما مفعولان بهما لعاملٍ مقدرٍ تقديره : " أَوْلُوْهُمْ مَنَّاً ، واقْبَلوا منهم فداءً " . قال الشيخ : " وليس بإعرابِ نحوي " . وقرأ ابن كثير " فِدَى " بالقصر . قال أبو حاتم : " لا يجوزُ؛ لأنه مصدرُ فادَيْتُه " ولا يُلْتَفت إليه؛ لأنَّ الفراءَ حكى فيه أربعَ لغاتٍ : المشهورةُ المدُّ والإِعرابُ : فداء لك ، وفداءٍ بالمد أيضاً والبناء على الكسر والتنوين ، وهو غريبٌ جداً . وهذا يُشْبه قولَ بعضِهم " هؤلاءٍ " بالتنوين ، وفِدى بالكسر مع القصر ، وفَدَى بالفتح مع القصرِ أيضاً .
والأَوْزارُ هنا : الأَثْقال ، وهو مجازٌ . قيل : هو مِنْ مجاز الحَذْف أي : أهل الحرب . والأَوْزار عبارةٌ عن آلاتِ الحرب . قال الشاعر :
4052 وأَعْدَدْت للحَرْبِ أوزارَها ... رِماحاً طِوالاً وخَيْلاً ذُكوراً
و " حتى " الأولى غايةٌ لضَرْبِ الرِّقاب ، والثانيةُ ل " شُدُّوا " . ويجوزُ أَنْ يكونا غايتين لضَرْبِ الرِّقابِ ، على أنَّ الثانيةَ توكيدٌ أو بدلٌ .
قوله : " ذلك " يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : الأمرُ ذلك ، وأَنْ ينتصِبَ بإضمارِ افْعَلوا .
قوله : " ليَبْلُوَ بَعْضَكم " أي : ولكنْ أَمَرَكم بالقتال ليَبْلُوَ .
قوله : " قُتِلُوا " قرأ العامَّةُ " قاتلوا " وأبو عمروٍ وحفص " قُتِلوا " مبنياً للمفعولِ على معنى : أنَّهم قُتِلوا وماتوا ، أصاب القتلُ بعضَهم كقولِه : { قُتِل مَعَهُ رِبِّيُّونَ } . وقرأ الجحدري " قَتَلوا " بفتح القاف والتاءِ خفيفةً ، ومفعولُه محذوفٌ . وزيد بن ثابت والحسن وعيسى " قُتِّلوا " بتشديد التاء مبنياً للمفعول . /
وقرأ أمير المؤمنين علي " تُضَلَّ " مبنياً للمفعولِ " أعمالُهم " بالرفع لقيامِه مَقامَ الفاعلِ . وقُرِئَ " تَضِلَّ " بفتح التاء ، " أعمالُهم " بالرفع فاعلاً .
(1/4837)
وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6)
قوله : { عَرَّفَهَا } : يجوزُ فيها وجهان ، أحدهما : أَنْ تكونَ مستأنفةً . والثاني : أَنْ تكونَ حالاً فيجوزَ أَنْ تُضْمِرَ " قد " وأن لا تُضْمِرَ . و " عَرَّفها " : من التعريف الذي هو ضدُّ الجهل . وقيل : من الرَّفْع . وقيل : من العَرْف وهو الطِّيب . وقرأ أبو عمروٍ في رواية " ويُدْخِلْهم " بسكون اللامِ . وكذا ميمُ { نُطْعِمُكُمْ } [ الانسان : 9 ] وعين { يَجْمَعُكُمْ } [ التغابن : 9 ] كأنه يَسْتَثْقِلُ الحركاتِ . وقد قرأتُ له بذلك في { يُشْعِرُكُمْ } [ الأنعام : 109 ] و { يَنصُرُكُمْ } [ الملك : 20 ] وبابه .
(1/4838)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)
قوله : { وَيُثَبِّتْ } : قرأه العامَّةُ مُشَدَّداً . ورُوي عن عاصم تخفيفُه مِنْ أَثْبَتَ .
(1/4839)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)
قوله : { والذين كَفَرُواْ } : يجوز أَنْ يكونَ مبتدأً ، والخبرُ محذوفٌ . تقديره : فَتَعِسُوا وأُتْعِسُوا ، يَدُلُّ عليه " فَتَعْساً " فتعساً منصوبٌ بالخبرِ . ودَخَلَتِ الفاءُ تشبيهاً للمبتدأ بالشرط . وقدَّرَ الزمخشري الفعلَ الناصبَ ل " تَعْساً " فقال : " لأنَّ المعنى : فقال تعساً أي : فقضى تَعْساً لهم " . قال الشيخ : " وإضمارُ ما هو من لفظِ المصدر أَوْلَى " . والثاني : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر يُفَسِّره " فتَعْساً لهم " كما تقول : زيداً جَدْعاً له ، كذا قال الشيخ تابِعاً للزمخشريِّ . وهذا لا يجوزُ لأنَّ " لهم " لا يتعلَّقُ ب " تَعْساً " ، إنما هو متعلقٌ بمحذوفٍ لأنَّه بيانٌ أي : أعني لهم : وقد تقدَّم تحقيقُ هذا والاستدلالُ عليه . فإنْ عَنَيا إضماراً مِنْ حيث مطلقُ الدلالةِ لا من جهةِ الاشتغالِ فَمُسَلَّمٌ ، ولكنْ تَأْباه عبارتُهما وهي قولُهما : منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسره " فَتَعْساً لهم " ، و " أَضَلَّ " عطفٌ على ذلك الفعل المقدرِ أي : أتعسَهُم وأضلَّ أعمالهم . والتَّعْسُ : ضدُّ السَّعْدِ يقال : تَعَسَ الرجلُ بالفتح تَعْساً وأَتْعَسَهَ اللَّهُ . قال مجمِّع :
4053 تقولُ وقد أَفْرَدْتُها مِنْ حَليلِها ... تَعِسْتَ كما أَتْعَسْتَني يا مُجَمِّعُ
وقيل : تعِس بالكسرِ ، عن أبي الهيثم وشَمِر وغيرِهما . وعن أبي عبيدة : تَعَسَه وأَتْعَسَه متعدِّيان فهما مما اتَّفَق فيهما فَعَل وأَفْعَل وقيل : التَّعْسُ ضدُّ الانتعاش . قال الزمخشري : " وتَعْساً له نقيض لَعَا له " يعني أنَّ كلمةَ " لَعا " بمعنى انتعش . قال الأعشى :
4054 بذاتِ لَوْثٍ عَفَرْناةٍ ، إذا عَثَرَتْ ... فالتَّعْسُ أَدْنى لها مِنْ أَنْ أقولَ لَعَا
وقيل : التَّعْسُ الهَلاك . وقيل : التَّعْسُ الجَرُّ على الوجهِ ، والنَّكْسُ الجرُّ على الرأس .
(1/4840)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)
قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ " ذلك " مبتدأً ، والخبرُ الجارُّ بعدَه ، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ . أي : الأمرُ ذلك بسبب أنهم كَرهوا ، أو منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ أي : فَعَل بهم ذلك بسببِ أنَّهم كَرِهوا ، فالجارُّ في الوجهَيْن الأخيرَيْن منصوبُ المحلِّ .
(1/4841)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)
قوله : { دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ حَذَفَ مفعولَه أي : أهلك اللَّهُ بيوتَهم وخَرَّبها عليهم ، أو يُضَمَّنَ " دَمَّر " معنى : سَخِط اللَّهُ عليهم بالتدمير .
قوله : " أمثالُها " أي : أمثال العاقبةِ المتقدِّمة . وقيل : أمثال العقوبة . وقيل : التَّدْميرة . وقيل : الهَلَكة . والأولُ أَوْلَى لتقدُّم ما يعودُ عليه الضميرُ صريحاً مع صحةِ معناه .
(1/4842)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)
قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ } : كقولِه فيما تقدَّم . والوَلِيُّ هنا : الناصِرُ .
(1/4843)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)
قوله : { كَمَا تَأْكُلُ الأنعام } : إمَّا حالٌ مِنْ ضميرِ المصدرِ أي : يأْكلوا الأكلَ مُشْبِهاً أَكْلَ الأنعام ، وإمَّا نعتٌ لمصدرٍ أي : أكلاً مثلَ أكلِ الأنعامِ .
قوله : { والنار مَثْوًى لَّهُمْ } يجوزُ أَنْ تكونَ هذه الجملةُ استئنافاً . ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً ، ولكنَّها مقدرةٌ أي : يأكلون مُقَدَّراً ثَوِيُّهم في النار .
(1/4844)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)
قوله : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } يريد أهلَ قريةٍ ، ولذلك راعى هذا المقدَّرَ في " أَهْلَكْناهم " { فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } بعد ما راعى المضافَ في قوله : " هي أشدُّ " والجملةُ مِنْ " هي أشدُّ " صفةٌ لقرية . وقال ابنُ عطية : " نَسَبَ الإِخراجَ للقرية ، حَمْلاً على اللفظِ ، وقال : " أهلكناهم " حَمْلاً على المعنى " . قال الشيخ : " وظاهرُ هذا الكلامِ لا يَصِحُّ؛ لأن الضميرَ في " أهلكناهم " ليس عائداً على المضافِ إلى القرية التي أَسْنَدَ إليها الإِخراجَ ، بل على أهلِ القرية ، في قوله : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } [ فإنْ كان أرادَ بقولِه : " حَمْلاً على المعنى " أي : معنى القرية مِنْ قوله : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ } ] فهو صحيحٌ ، لكنَّ ظاهرَ/ قولِه : " حَمْلاً على اللفظِ " و " حَمْلاً على المعنى " أَنْ يكونَ في مدلولٍ واحدٍ ، وكان على هذا يَبْقى " كَأَيِّنْ " مُفْلَتاً غيرَ مُحَدَّثٍ عنه بشيء ، إلاَّ أَنْ يُتَخَيَّلَ أنَّ " هي أشدُّ " خبرٌ عنه ، والظاهرُ أنَّه صفةٌ ل قرية " . قلت : وابن عطيةَ إنما أراد لفظَ القريةِ مِنْ حيث الجملةُ لا من حيث التعيينُ .
(1/4845)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)
قوله : { أَفَمَن كَانَ } : مبتدأٌ ، والخبر " كَمَنْ زُيِّنَ " ، وحُمِل على لفظ " مَنْ " فأُفْرِدَ في قوله : { لَهُ سواء عَمَلِهِ } وعلى المعنى فجُمِعَ في قوله : { واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ } ، والجملةُ مِنْ " اتَّبعوا " عطفٌ على " زُيِّنَ " فهو صلةٌ .
(1/4846)
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
قوله : { مَّثَلُ الجنة } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه مبتدأٌ ، وخبرُه مقدرٌ . فقدَّره النضر بن شميل : مثلُ الجنةِ ما تَسْمعون ، ف " ما تَسْمعون " خبرُه ، و " فيها أنهارٌ " مُفَسِّرٌ له . وقَدَّره سيبويه : " فيما يُتْلَى عليكم مَثَلُ الجنة " ، والجملةُ بعدَها أيضاً مُفَسِّرةٌ للمَثل . الثاني : أن " مَثَل " زائدةٌ تقديرُه : الجنة التي وُعِدَ المتقون فيها أنهارٌ . ونظيرُ زيادةِ " مَثَل " هنا زيادةُ " اسم " في قولِه :
4055 إلى الحَوْلِ ثم اسْمُ السَّلامِ عليكما ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الثالث : أنَّ " مَثَل الجنة " مبتدأٌ ، والخبر قولُه : " فيها أنهارٌ " ، وهذا ينبغي أَنْ يمتنعَ؛ إذ لا عائدَ من الجملةِ إلى المبتدأ ، ولا ينْفَعُ كونُ الضميرِ عائداً على ما أُضيف إليه المبتدأ . الرابع : أنَّ " مَثَل الجنة " مبتدأٌ ، خبرُه " { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النار } ، فقَدَّره ابنُ عطية : " أمَثَلُ أهلِ الجنة كمَنْ هو خالدٌ " ، فقدَّر حرفَ الإِنكارِ ومضافاً ليصِحَّ . وقدَّره الزمخشري : " أَمَثَلُ الجنةِ كمَثَلِ جزاءِ مَنْ هو خالدٌ " . والجملةُ مِنْ قولِه : " فيها أنهارٌ " على هذا فيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : هي حالٌ من الجنة أي : مستقرَّةٌ فيها أنهارٌ . الثاني : أنها خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ أي : هي فيها أنهارٌ ، كأنَّ قائلاً قال : ما مَثَلُها؟ فقيل : فيها أنهار . الثالث : أَنْ تكونَ تكريراً للصلة؛ لأنَّها في حكمِها ألا ترى إلى أنَّه يَصِحُّ قولُك : التي فيها أنهار ، وإنما عَرِيَ قولُه : " مَثَلُ الجنةِ " من حرفِ الإِنكار تصويراً لمكابرةِ مَنْ يُسَوِّي بين المُسْتَمْسِكِ بالبيِّنَةِ وبين التابِع هواه كمَنْ يُسَوِّي بين الجنة التي صفتُها كيتَ وكيتَ ، وبين النارِ التي صفتُها أَنْ يُسْقَى أهلُها الحميمَ . ونظيرُه قولُ القائلِ :
4056 أَفْرَحُ أَنْ أُرْزَأَ الكرامَ وأَنْ ... أُوْرَثَ ذَوْداً شَصائِصاً نَبْلا
هو كلامٌ مُنْكِرٌ للفرح برُزْئِه الكرامَ ووِراثةِ الذَّوْدِ ، مع تَعَرِّيه من حرف الإِنكارِ ، ذكر ذلك كلَّه الزمخشريُّ بأطولَ مِنْ هذه العبارةِ .
وقرأ عليُّ بن أبي طالب " مثالَ الجنةِ " . وعنه أيضاً وعن ابن عباس وابن مسعود " أمثالُ " بالجمع .
قوله : " آسِنٍ " قرأ ابنُ كثير " أَسِنٍ " بزنة حَذِرٍ وهو اسمُ فاعلٍ مِنْ أَسِنَ بالكسرِ يَأْسَنُ ، فهو أَسِنٌ ك حَذِرَ يَحْذَر فهو حَذِرٌ . والباقون " آسِنٍ " بزنةِ ضارِب مِنْ أَسَنَ بالفتح يَأْسِن ، يقال : أَسَن الماءُ بالفتح يَأْسِن ويَأْسُن بالكسرِ والضمِّ أُسُوْناً ، كذا ذكره ثعلب في " فصيحه " . وقال اليزيدي : " يقال : أَسِن بالكسرِ يَأْسَنُ بالفتح أَسَناً أي : تَغَيَّر طعمُه . وأمَّا أسِن الرجلُ - إذا دَخَل بئراً فأصابه مِنْ ريحِها ما جعل في رأسِه دُواراً - فأَسِن بالكسرِ فقط .
(1/4847)
قال الشاعر :
4057 قد أترُكُ القِرْن مُصْفَرَّاً أنامِلُه ... يَميد في الرُّمْح مَيْدَ المائِح الأَسِنِ
وقُرِئَ " يَسِنٍ " بالياء بدلَ الهمزةِ . قال أبو علي : " هو تَخفيفُ أَسِنٍ " وهو تخفيفٌ غريبٌ .
قوله : { لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } صفةٌ ل " لبنٍ " . قوله : " لذة " يجوز أَنْ يكونَ تأنيثَ لَذّ ، ولَذٌّ بمعنى لذيذ ، ولا تأويلَ على هذا ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً وُصِفَ به . وفيه التأويلاتُ المشهورةُ . والعامَّةُ على جرِّ " لَذَّةٍ " صفةً ل " خَمْرٍ " وقُرِئ بالنصب على المفعولِ له ، وهي تؤيِّدُ المصدريةَ في قراءةِ العامَّةِ ، وبالرفع صفةً ل " أنهارٌ " ، ولم تُجْمَعْ لأنها مصدرٌ إنْ قيلَ به ، وإنْ لا فلأنَّها صفةٌ لجمعٍ غيرِ عاقلٍ ، وهو يُعامَلُ معاملةَ المؤنثةِ الواحدةِ .
قوله : " مِنْ عَسَلٍ " نقلوا في " عَسَل " التذكيرَ والتأنيثَ ، وجاء القرآنُ على التذكيرِ في قوله : " مُصَفَّى " . والعَسَلان : العَدْوُ . وأكثرُ استعمالِه في الذئبِ ، يقال : عَسَل الذئبُ والثعلبُ ، وأصلُه مِنْ عَسَلانِ الرُّمح وهو اهتزازُه ، فكأنَّ العادِيَ يهزُّ أعضاءَه ويُحَرِّكها قال الشاعر : /
4058 لَدْنٌ بِهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتْنُه ... فيه كما عَسَل الطريقَ الثعلبُ
وكُنِي بالعُسَيْلة عن الجماعِ لِما بينهما . قال عليه السلام : " حتى تَذوقي عُسَيْلَتَه ويذوقَ عُسَيْلَتَك " . قوله : { مِن كُلِّ الثمرات } فيها وجهان ، أحدهما : أن هذا الجارَّ صفةٌ لمقدرٍ ، ذلك المقدَّرُ مبتدأٌ ، وخبرُه الجارُّ قبلَه وهو " لهم " . و " فيها " متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به . والتقديرُ : ولهم فيها زوجان مِنْ كلِّ الثمراتِ ، كأنه انَتَزَعَه مِنْ قولِه تعالى : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } [ الرحمن : 52 ] وقَدَّره بعضُهم : صِنْفٌ ، والأولُ أليقُ . والثاني : أن : " مِنْ " مزيدةٌ في المبتدأ .
قوله : " ومَغْفِرَةٌ " فيه وجهان ، أحدُهما : أنه عطفٌ على ذلك المقدر لا بقَيْدِ كونِه في الجنة أي : ولهم مغفرةٌ ، لأن المغفرةَ تكون قبلَ دخولِ الجنة أو بُعَيْدَ ذلك . ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ حينئذٍ أي : ونعيمُ مغفرةٍ؛ لأنه ناشِئٌ عن المغفرةِ ، وهو في الجنة .
والثاني : أن يُجْعَلَ خبرُها مقدَّراً أي : ولهم مغفرةٌ . والجملةُ مستأنفةٌ . والفرقُ بين الوجهَيْنِ : أنَّ الوجهَ الذي قبل هذا فيه الإِخبارُ ب " لهم " الملفوظِ به عن سَنَنِ ذلك المحذوف ، و " مغفرةٌ " ، وفي الوجه الآخر الخبر جارٌّ آخرُ ، حُذِفَ للدلالةِ عليه .
قوله : " كمَنْ هو " قد تقدَّم أنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً عن " مَثَلُ الجنة " بالتأويلَيْن المذكورَيْن عن ابنِ عطيةَ والزمخشريِّ . وأمَّا إذا لم نجعَلْه خبراً عن " مَثَلُ " ففيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه : أحال هؤلاء المتَّقين كحالِ مَنْ هو خالدٌ . وهذا تأويلٌ صحيحٌ . وذكر فيه أبو البقاء الأوجهَ الباقيةَ وقال : " وهو في موضعِ رفعٍ أي : حالُهم كحالِ مَنْ هو خالدٌ في النارِ .
(1/4848)
وقيل : هو استهزاءٌ بهم . وقيل : هو على معنى الاستفهامِ ، أي : أكمَنْ هو خالدٌ . وقيل : في موضعِ نصبٍ أي : يُشْبِهون حالَ مَنْ هو خالدٌ في النار " انتهى . معنَى قولِه : " وقيل هو استهزاءٌ " أي : أن الإِخبار بقولِك : حالُهم كحالِ مَنْ ، على سبيلِ الاستهزاءِ والتهكُّمِ .
قوله : " وسُقُوا " عطفٌ على الصلةِ ، عَطَفَ فعليةً على اسمية ، لكنه راعى في الأولِ لفظ " مَنْ " فأَفْرَدَ ، وفي الثانيةِ معناها فجَمَعَ .
والأَمْعاءُ : جمع مِعىً بالقصرِ ، وهو المُصْرانُ الذي في البطن وقد وُصِفَ بالجمع في قوله :
4059 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . ومِعَىً جياعا
على إرادةِ الجنسِ . وألفُه عن ياءٍ بدليلِ قولهم : مِعَيان .
(1/4849)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)
قوله : { آنِفاً } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه منصوبٌ على الحالِ ، فقدَّره أبو البقاء : " ماذا قال مُؤْتَنِفا " . وقَدَّره غيرُه : مُبْتَدِئاً أي : ما القولُ الذي ائْتَنَفه الآن قبلَ انفصالِه عنه . والثاني : أنه منصوبٌ على الظرفِ أي : ماذا قال الساعةَ ، قاله الزمخشري . وأنكره الشيخ قال : " لأنَّا لم نعلَمْ أحداً عَدَّه من الظروف " . واختلفَتْ عبارتُهم في معناه : فظاهرُ عبارةِ الزمخشري أنه ظرفٌ حاليٌّ ك الآن ، ولذلك فَسَّره بالساعة . وقال ابن عطية : " والمفسِّرون يقولون : آنِفاً معناه الساعةُ الماضيةُ القريبةُ منَّا وهذا تفسيرٌ بالمعنى " .
وقرأ البزيُّ بخلافٍ عنه " أَنِفاً " بالقصرِ . والباقون بالمدِّ ، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ ، وهما اسما فاعِل ك حاذِر وحَذِر ، وآسِن وأَسِن ، إلاَّ أنَّه لم يُسْتعمل لهما فِعْلٌ مجردٌ ، بل المستعملُ ائْتَنَفَ يَأْتَنِفُ ، واسْتَأْنف يَسْتأنف . والائْتِنافُ والاسْتِئْناف : الابتداء . قال الزجَّاج : " هو مِنْ اسْتَأْنَفْتُ الشيءَ إذا ابتدَأْتَه أي : ماذا قال في أولِ وقتٍ يَقْرُب مِنَّا " .
(1/4850)
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)
قوله : { والذين اهتدوا } : يجوزُ فيه الرفعُ بالابتداءِ ، والنصبُ على الاشتغالِ . و " تَقْواهم " مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه . والضمير في " آتاهم " يعودُ على اللَّهِ أو على قولِ المنافقين؛ لأنَّ قولهم ذلك مِمَّا يزيدُ المؤمنينَ تقوى ، أو على الرسول .
(1/4851)
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)
قوله : { أَن تَأْتِيَهُمْ } : بدلٌ من الساعة بدلُ اشتمالٍ . وقرأ أبو جعفر الرؤاسي : " إنْ تَأْتِهم " ب إنْ الشرطيةِ ، وجزمِ ما بعدها . وفي جوابِها وجهان ، أحدهما : أنَّه قولُه : " فأنَّى لهم " قاله الزمخشريُّ . ثم قال : " فإنْ قلت : بِمَ يتصلُ قولُه : { فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } على القراءتَيْن؟ قلت : بإتيان السَّاعةِ ، اتصالَ العلةِ بالمعلولِ كقولك : إنْ أكرَمَني زيدٌ فأنا حقيقٌ بالإِكرامِ أُكْرِمْه " . والثاني : أنَّ الجوابَ قولُه : { فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } ، وإتيانُ الساعةِ ، وإنْ كان متحققاً ، إلاَّ أنهم عُوْمِلوا مُعاملةَ الشاكِّ ، وحالُهم كانت كذا .
والأَشْراط : جمع شَرْط بسكونِ/ الراءِ وفتحِها . قال أبو الأسود :
4060 فإن كنتِ قد أَزْمَعْتِ بالصَّرْمِ بَيْنَنَا ... فقد جَعَلَتْ أَشْراطُ أَوَّلِه تَبْدو
والأشراطُ : العلاماتُ ، ومنه أَشْراط الساعةِ . وأَشْرَطَ الرجلُ نفسَه أي : ألزمها أموراً . قال أوس :
4061 فأَشْرَطَ فيها نَفْسَه وهو مُعْصِمٌ ... فأَلْقَى بأسبابٍ له وتَوَكَّلا
والشَّرْطُ : القَطْعُ أيضاً ، مصدرُ شَرَطَ الجلدَ يَشْرِطُه ( يَشْرُطُه ) شَرْطاً .
قوله : " فَأَنَّى لهم " " أنَّى " خبرٌ مقدمٌ و " ذِكْراهم " مبتدأٌ مؤخرٌ أي : أنَّى لهم التذكيرُ . وإذا وما بعدها معترضٌ وجوابُها محذوفٌ أي : كيف لهم التذكيرُ إذا جاءَتْهم الساعةُ؟ فيكف يتذكَّرون؟ ويجوز أن يكونَ المبتدأُ محذوفاً أي : أنَّى لهم الخَلاصُ ، ويكون " ذِكْراهم " فاعلاً ب " جاءَتْهم " .
وقرأ أبو عمروٍ في رواية " بَغَتَّةً " بفتح الغينِ وتشديدِ التاء ، وهي صفةٌ ، فنصبُها على الحال ، ولا نظيرَ لها في الصفات ولا في المصادر ، وإنما هي في الأسماء نحو : الجَرَبَّة للجماعةِ ، والشَّرَبَّة للمكان . قال الزمخشري : " ما أَخْوَفني أن تكونَ غَلْطَةً من الراوي عن أبي عمرو ، وأَنْ يكونَ الصوابُ " بَغَتَةً " بالفتح دون تشديد " .
(1/4852)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)
قوله : { لَوْلاَ نُزِّلَتْ } : هذه بمعنى : هَلاَّ ، ولا التفاتَ إلى قول بعضِهم : إنَّ " لا " زائدةٌ والأصلُ : لو نُزِّلَتْ . والعامَّةُ على رفع " سورةٌ مُحْكَمَةٌ " لقيامِها مقامَ الفاعل . وزيد بن علي بالنصبِ فيهما على الحالِ والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ السورة المتقدمةِ ، وسوَّغ وقوع الحال كذا وَصْفُها كقولك : الرجل جاءني رجلاً صالحاً . وقُرئ : { فَإِذَآ نَزَلَتْ سُورَةٌ } . وقرأ زيدُ بن علي وابن عمير " وذَكَرَ " مبنياً للفاعل أي : اللَّه تعالى . " القتالَ " نصباً .
قوله : " نَظَرَ المَغْشِيِّ " الأصلُ : نَظَراً مِثْلَ نَظَر المَغْشِيِّ .
قوله : { فأولى لَهُمْ طَاعَةٌ } اختلف اللغويون والمُعْربون في هذه اللفظةِ ، فقال الأصمعي : إنها فعلٌ ماضٍ بمعنى : قارَبَ ما يُهْلِكه وأنشد :
4062 فعادَى بينَ هادِيَتَيْنِ مِنْها ... وَأَوْلَى أَنْ يزيدَ على الثلاثِ
أي : قارَبَ أن يزيدَ . قال ثعلب : " لم يَقُلْ أحدٌ في " أَوْلَى " أحسنَ مِنْ قولِ الأصمعيِّ " ، ولكنْ الأكثرون على أنه اسمٌ . ثم اختلف هؤلاء فقيل : هو مشتقٌّ من الوَلْيِ وهو القُرْبُ كقوله :
4063 يُكَلِّفُني لَيْلَى وقد شَطَّ وَلْيُها ... وعادَتْ عَوادٍ بيننا وخُطُوْبُ
وقيل : هو مشتقُّ مِن الوَيْلِ . والأصلُ : فيه أَوْيَل فقُلبت العين إلى ما بعدَ اللام فصارَ وزنُه أَفْلَع . وإلى هذا نحا الجرجانيُّ . والأصلُ عدم القَلْبِ . وأمَّا معناها فقيل : هي تهديدٌ ووعيدٌ كقولِه :
4064 فأَوْلَى ثم أَوْلَى ثم أَوْلَى ... وهَلْ للدَرِّ يُحْلَبُ مِنْ مَرَدِّ
وقال المبرد : يُقال لمَنْ هَمَّ بالغضبِ : أَوْلَى لك ، كقولِ أعرابي كان يُوالي رَمْيَ الصيدِ فيَفْلَتُ منه فيقول : أَوْلى لك ، ثم رمى صيداً فقارَبَه فأفلتَ منه ، فقال :
4065 فلو كان أَوْلَى يُطْعِمُ القومَ صِدْتُهم ... ولكنَّ أَوْلى يَتْرُكُ القومَ جُوَّعا
هذا ما يتعلَّقُ باشتقاقِه ومعناه . أمَّا الإِعرابُ : فإن قلنا بقول الجمهور ففيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّ " أَوْلَى " مبتدأٌ ، و " لهم " خبرُه ، تقديرُه : فالهلاكُ لهم . وسَوَّغَ الابتداءَ بالنكرة كونُه دعاءً نحو : { ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ } [ الهمزة : 1 ] . الثاني : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه العقابُ أو الهلاكُ أَوْلَى لهم ، أي : أقربُ وأَدْنى . ويجوز أن تكونَ اللامُ بمعنى الباءِ أي : أَوْلَى وأحَقُّ بهم . الثالث : أنه مبتدأٌ ، و " لهم " متعلِّقٌ به ، واللامُ بمعنى الباء . و " طاعةٌ " خبره ، والتقدير : أولَى بهم طاعةٌ دونَ غيرِها . وإنْ قلنا بقول الأصمعيِّ فيكون فعلاً ماضياً وفاعلُه مضمر ، يَدُلُّ عليه السِّياقُ كأنه قيل : فأَوْلَى هو أي : الهلاكُ ، وهذا ظاهرُ عبارةِ الزمخشري حيث قال : " ومعناه الدعاءُ عليهم بأَنْ يَلِيَهم المكروهُ " . وقال ابن عطية : / " المشهورُ من استعمالِ العرب أنك تقول : هذا أَوْلَى بك مِنْ هذا أي : أحقُّ . وقد تَسْتعملُ العربُ " أَوْلَى " فقط على جهةِ الحذفِ والاختصارِ لِما معها من القول فتقول : أَوْلَى لك يا فلانُ على جهةِ الزَّجْرِ والوعيد " انتهى .
(1/4853)
وقال أبو البقاء : " أَوْلَى مؤنثة أَوْلات " وفيه نظر لأن ذلك إنما يكون في التذكير والتأنيث الحقيقيَيْن ، أمَّا التأنيثُ اللفظيُّ فلا يُقال فيه ذلك . وسيأتي له مزيدُ بيانٍ في سورة القيامة إنْ شاء الله .
قوله : { طَاعَةٌ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه خبرُ " أَوْلَى لهم " على ما تقدَّم . الثاني : أنها صفةٌ ل " سورةٌ " أي : فإذا أُنْزِلَتْ سورةٌ مُحْكَمَةٌ طاعةٌ أي : ذاتُ طاعةٍ أو مُطاعةٌ . ذكره مكيٌّ وأبو البقاء وفيه بُعْدٌ لكثرةِ الفواصلِ . الثالث : أنها مبتدأٌ و " قولٌ " عطفٌ عليها ، والخبرُ محذوفٌ تقديرُه : أَمْثَلُ بكم مِنْ غيرِهما . وقَدَّره مكي : مِنَّا طاعةٌ ، فقدَّره مقدَّماً . الرابع : أن يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : أَمْرُنا طاعةٌ . الخامس : أنَّ " لهم " خبرٌ مقدمٌ ، و " طاعةٌ " مبتدأٌ مؤخرٌ ، والوقف والابتداء يُعْرَفان مِمَّا قدَّمْتُه فتأمَّلْه .
قوله : " فإذا عَزَمَ " في جوابِها ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : قولُه : " فلو صَدَقُوا " نحو : " إذا جاءني طعامٌ فلو جِئْتَني أطعمتُك " . الثاني : أنه محذوفٌ تقديره : فاصْدُقْ ، كذا قَدَّره أبو البقاء . الثالث : أن تقديرَه : فاقْضُوا . وقيل : تقديره : كَرِهوا ذلك و " عَزَمَ الأمرُ " على سبيل الإِسنادِ المجازيِّ كقولِه :
4066 قد جَدَّتِ الحربُ بكم فَجُدُّوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أو يكونُ على حَذْفِ مضافٍ أي : عَزَمَ أهلُ الأمرِ .
(1/4854)
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)
قوله : { أَن تُفْسِدُواْ } : خبرُ " عسى " ، والشرطُ معترضٌ بينهما ، وجوابُه محذوفٌ لدلالةِ " فهل عَسَيْتُم " عليه أو هو يُفَسِّره " فهل عَسَيْتُمْ " عند مَنْ يرى تقديمَه . وقرأ عليٌّ " إنْ تُوُلِّيْتُمْ " بضم التاءِ والواوِ وكسرِ اللام مبنياً للمفعول مِن الوِلاية أي : إنْ وَلَّيْتُكم أمورَ الناس . وقُرئ " وُلِّيْتُمْ " من الوِلاية أيضاً . وهاتان تَدُلاَّن على أنَّ " تَوَلَّيْتُمْ " في العامَّةِ من ذلك . ويجوز أن يكونَ من الإِعراضِ وهو الظاهرُ . وفي قوله : " عَسَيْتُمْ " إلى آخره التفاتٌ مِنْ غَيْبة في قوله : { الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } إلى خطابِهم بذلك زيادةً في توبيخِهم .
وقرأ العامَّةُ " وتُقَطِّعوا " بالتشديد على التكثير . وأبو عمروٍ في روايةٍ وسلام ويعقوب بالتخفيف ، مضارعَ قَطَعَ . والحسن بفتح التاء والطاءِ مشددةً . وأصلُها تَتَقَطَّعوا بتاءَيْن حُذِفَتْ أحداهما . وانتصابُ " أرحامَكم " على هذا على إسقاط الخافض أي : في أرحامكم .
(1/4855)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)
قوله : { أولئك } : مبتدأ ، والموصولُ خبرُه . والتقدير : أولئك المُفْسِدون ، يَدُلُّ عليه ما تقدَّم . وقوله : " فأَصَمَّهم " . ولم يَقُلْ : فَأَصَمَّ آذانَهم ، و " أَعْمى أَبْصَارهم " ولم يَقُلْ : أَعْماهم . قيل : لأنَّه لا يَلزَمُ مِنْ ذهابِ الأُذُنِ ذَهابُ السماع فلم يتعرَّضْ لها ، والأَبْصار - وهي الأعينُ - يَلْزَمُ مِنْ ذهابِها ذهابُ الإِبصارِ ولا يَرِد عليك { في آذَانِهِمْ وَقْرٌ } [ فصلت : 44 ] ونحوه لأنه دونَ الصَّمَمِ ، والصَّممُ أعظمُ منه .
(1/4856)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)
قوله : { أَمْ على قُلُوبٍ } : أم منقطعةٌ . وقد عَرَفْتَ ما فيها . والعامَّةُ " على أَقْفالُها " بالجمع على أَفْعال . وقُرئ " أَقْفُلُها " على أَفْعُل . وقُرِئ " إقْفالُها " بكسرِ الهمزةِ مصدراً كالإِقبال . وهذا الكلامُ استعارةٌ بليغةٌ جُعِلَ ذلك عبارةً عن عَدَمِ وصولِ الحقِّ إليها .
(1/4857)
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)
قوله : { الشيطان سَوَّلَ } : هذه الجملةُ خبرُ { إِنَّ الذين ارتدوا } . وقد تقدَّم الكلامُ على " سَوَّل " معنًى واشتقاقاً . وقال الزمخشري هنا : " وقد اشتقَّه من السُّؤْل مَنْ لا عِلْمَ له بالتصريفِ والاشتقاقِ جميعاً " كأنَّه يُشير إلى ما قاله ابن بحر : مِنْ أنَّ المعنى : أعطاهم سُؤْلَهم . ووجهُ الغلطِ فيه أنَّ مادةَ السُّؤْلِ من السؤال بالهمز ، ومادةَ هذا بالواوِ فافترقا ، فلو كان على ما قيل لقيل : سَأَّل بتشديد الهمزة لا بالواو . وفيما قاله الزمخشريُّ نَظَرٌ؛ لأن السؤالَ له مادتان : سَأَل بالهمز ، وسال بالألفِ المنقلبةِ عن واوٍ ، وعليه قراءةُ " سال سايل " وقوله :
4067 سالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ الله فاحِشةً ... ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بما سالَتْ ولم تُصِبِ
وقد تقدَّم هذا في البقرةِ مُسْتوفى .
قوله : " وأَمْلَى " العامَّةُ على " أَمْلَى " مبنياً للفاعل ، وهو ضمير الشيطان . وقيل : هو للباري تعالَى . قال أبو البقاء : " على الأول يكونُ معطوفاً على الخبر ، وعلى الثاني يكونُ مُسْتأنفاً " . ولا يَلْزَمُ ما قاله بل هو معطوفٌ على الخبر في كلا التقديرَيْن ، أخبر عنهم بهذا وبهذا . وقرأ أبو عمروٍ في آخرين " أُمْلِيَ " مبنياً للمفعول ، والقائمُ مَقامَ الفاعلِ الجارُّ . وقيل : القائم مَقامَه ضميرُ الشيطان ، ذكره أبو البقاء ، ولا معنى لذلك . وقرأ يَعْقُوبُ وسلام ومجاهد/ " وأُمْلِيْ " بضمِ الهمزةِ وكسرِ اللام وسكونِ الياءِ . فاحتملَتْ وجهَيْن ، أحدُهما : أَنْ يكونَ مضارعاً مُسْنداً لضمير المتكلم أي : وأُمْلِي أنا لهم ، وأَنْ يكونَ ماضياً كقراءة أبي عمروٍ سُكِّنَتْ ياؤه تخفيفاً . وقد مضى منه جملةٌ .
(1/4858)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)
قوله : { إِسْرَارَهُمْ } : قرأ الأخَوان وحفصٌ بكسرِ الهمزة مصدراً ، والباقون بفتحها جمعَ " سِرّ " .
(1/4859)
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)
قوله : { فَكَيْفَ } : إمَّا خبرٌ مقدمٌ أي : فكيف عِلْمُه بإسْرارِهم إذا تَوَفَّتْهم؟ وإمَّا منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ أي : فكيف يَصْنعون؟ وإمَّا خبرٌ ل " كان " مقدرةً أي : فكيف يكونون؟ والظرفُ معمولٌ لذلك المقدَّرِ . وقرأ الأعمش " تَوَفَّاهم " دونَ تاءٍ فاحتملَتْ وجهين : أن يكونَ ماضياً كالعامَّةِ ، وأن يكونَ مضارعاً حُذِفَت إحدى ياءَيْه .
قوله : " يَضْرِبُون " حالٌ : إمَّا من الفاعلِ ، وهو الأظهرُ ، أو مِن المفعولِ .
(1/4860)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29)
قوله : { أَن لَّن يُخْرِجَ } : " أنْ " هذه مخففةٌ و " لن " وما بعدها خبرُها ، واسمُها ضميرُ الشأن . والأَضْغان : جمعُ ضِغْن ، وهي الأحقاد والضَّغِينة كذلك قال :
4068 وذي ضِغْنٍ كَفَفْتُ الوُدَّ عنه ... وكنتُ على إساءَتِه مُقِيتا
وقال عمرو بن كلثوم :
4069 فإنَّ الضِّغْنَ بعد الضِّغْنِ يَغْشُو ... عليكَ ويُخْرِجُ الداء الدَّفينا
وقيل : الضِّغْنُ العداوةُ . وأُنْشِد :
4070 قُلْ لابنِ هندٍ ما أردْتَ بمنطقٍ ... ساء الصديقَ وشَيَّد الأضغانا
يقال : ضَغِنَ بالكسرِ يَضْغَنُ بالفتح وقد ضُغِنَ عليه . واضْطَغَنَ القومُ وتَضاغنوا ، وأصل المادة من الالتواءِ في قوائم الدابةِ والقناة قال :
4071 إنَّ قناتي مِنْ صَليباتِ القَنا ... ما زادَها التثقيفُ إلاَّ ضَغَنا
وقال آخر :
4072 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كذاتِ الضِّغْنِ تَمْشي في الرِّفاقِ
والاضْطِّغانُ : الاحتواءُ على الشيء أيضاً . ومنه قولُهم : اضْطَغَنْتُ الصبيَّ أي : اختصَصْتُه وأنشد :
4073 كأنه مُضْطَغِنٌ صَبِيَّا ... وقال آخر :
4074 وما اضْطَغَنْتُ سِلاحي عند مَغْرِضِها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفرسٌ ضاغِنٌ : لا يَجْري إلاَّ بالضرب .
(1/4861)
وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
قوله : { لأَرَيْنَاكَهُمْ } : مِنْ رؤيةِ البصرِ . وجاء على الأفصح من اتصالِ الضميرَيْن ، ولو جاء على : أَرَيْناك إياهم جازَ .
قوله : " فَلَعَرَفْتَهُمْ " عطفٌ على جوابِ لو . وقوله : " ولَتَعْرِفَنَّهم " جواب قسمٍ محذوفٍ .
قوله : { فِي لَحْنِ القول } اللحن يُقال باعتبارَيْن ، أحدُهما : الكنايةُ بالكلامِ حتى لا يفهمَه غيرُ مخاطبَكِ . ومنه قولُ القَتَّالِ الكلابي في حكاية له :
4075 ولقد وَحَيْتُ لكم لكيما تَفْهموا ... ولَحَنْتُ لَحْناً ليس بالمُرْتابِ
وقال آخرُ :
4076 منطِقٌ صائبٌ وتَلْحَنُ أَحْيا ... ناً وخيرُ الحديثِ ما كان لَحْناً
واللَّحْنُ : صَرْفُ الكلامِ من الإِعراب إلى الخطأ . وقيل : يجمعُه هو والأولَ صَرْفُ الكلامِ عن وجهِه ، يقال من الأول : لَحَنْتُ بفتح الحاء أَلْحَنُ له فأنا لاحِنٌ ، وألحنتُه الكلامَ : أفهمتُه إياه فلَحِنَه بالكسر أي : فَهمه فهو لاحِنٌ . ويُقال من الثاني : لَحِن بالكسر إذا لم يُعْرِبْ فهو لَحِنٌ .
(1/4862)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)
قوله : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى } : قرأ " ولَيَبْلوَنَّكم حتى يَعْلم ويبلوَ أخبارَكم " أبو بكر الثلاثةَ بالياءِ مِنْ أسفلَ يعني اللَّهَ تعالى . والأعمش كذلك وتسكين الواو والباقون بنون العظمةِ ، ورُوَيس كذلك وتسكينُ الواوِ . والظاهرُ قَطْعُه عن الأول في قراءةِ تسكينِ الواو . ويجوزُ أَنْ يكونَ سَكَّن الواوَ تخفيفاً كقراءةِ الحسن { أَوْ يَعْفُوْ الذي } بسكونِ الواو .
(1/4863)
فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
قوله : { وتدعوا إِلَى السلم } : يجوز جَزْمُه عطفاً على فعل النهيِ . ونصبُه بإضمار " أَنْ " في جواب النهي . وقرأ أبو عبد الرحمن بتشديدِ الدال . وقال الزمخشري : " مِنْ ادَّعَى القومُ وتداعَوْا مثلَ : ارتَمَوْا إلى الصيد وتَرَامَوْا " . وقال غيره : بمعنى تَغْتَرُّوا يعني تَنْتَسِبوا . وتقدَّم الخلافُ في " السّلم " .
قوله : " وأنتم الأَعْلَوْن " جملةٌ حاليةٌ . وكذلك " والله معكم " وأصل الأعْلَوْنَ : الأَعْلَيُون فأُعِلَّ .
قوله : " يَتِرَكُمْ " أي : يُنْقِصكم ، أو يُفْرِدكم عنها فهو مِنْ : وَتَرْتُ الرجلَ إذا قتلْتَ له قتيلاً ، أو نهبْتَ مالَه ، أو من الوِتْر وهو الانفرادُ . وقيل : كلا المعنيين يَرْجِعُ إلى الإِفراد؛ لأنَّ مَنْ قُتِل له قتيلُ أو نُهِبَ له مالٌ/ فقد أُفْرِد عنه .
(1/4864)
إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)
قوله : { فَيُحْفِكُمْ } : عطفٌ على الشرط و " تَبْخَلوا " جوابُ الشرط .
قوله : " ويُخْرِجْ أَضْغانَكم " العامَّةُ على إسنادِ الفعل إلى ضميرِ فاعلٍ : إمَّا اللَّهِ تعالى أو الرسولِ أو السؤالِ؛ لأنَّه سببٌ وهو مجزومٌ عَطْفاً على جوابِ الشرط . ورُوي عن أبي عمروٍ رفعُه على الاستئنافِ . وقرأ أيضاً بفتح الياء وضمِّ الراء ورفعِ " أَضْغانُكم " فاعلاً بفعله . وابن عباس في آخرين " وتَخْرُجْ " بالتاء مِنْ فوقُ وضم الراء " أضغانُكم " فاعلٌ به . ويعقوب " ونُخْرِجْ " بنون العظمة وكسرِ الراء " أضغانَكم " نصباً .
وقُرِئ " يُخْرَجْ " بالياء على البناء للمفعولِ " أَضْغانُكم " رفعاً به . وعيسى كذلك إلاَّ أنه نَصَبه بإضمار " أَنْ " عطفاً على مصدرٍ متوهَّمٍ أي : يَكُنْ بُخْلُكُمْ وإخراجُ أضغانِكم .
(1/4865)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
قوله : { هَا أَنتُمْ هؤلاء } : قال الزمخشري : " هؤلاء " موصولٌ صلتُه " تَدْعُوْن " أي : أنتم الذين تَدْعُون ، أو أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون ، ثم استأنف وصفَهم كأنهم قالوا : وما وَصْفُنا؟ فقيل : تَدْعون " . قلت : قد تقدَّم الكلامُ على ذلك مُشْبَعاً في سورة آل عمران .
قوله : { يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } بَخِلَ وضَنَّ يتعديَّان ب على تارةً وب عن أخرى . والأجودُ أَنْ يكونا حالَ تَعدِّيهما ب " عن " مضمَّنَيْن معنى الإِمْساك .
قوله : " وإنْ تَتَوَلَّوْا " هذه الشرطيةُ عطفٌ على الشرطية قبلها ، و { ثُمَّ لاَ يكونوا } عطفٌ على " يَسْتَبْدِلْ " .
(1/4866)
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله : { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله } : متعلقٌ بفَتَحْنا ، وهي لامُ العلةِ . وقال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : كيف جُعِل فتحُ مكةَ علةً للمغفرة؟ قلت : لم يُجْعَلْ علةً للمغفرةِ ، ولكن لِما عَدَّد من الأمور الأربعة وهي : المغفرةُ ، وإتمامُ النعمةِ ، وهدايةُ الصراطِ المستقيمِ ، والنصرُ العزيزُ؛ كأنه قال : يَسَّرْنا لك فتح مكة ونَصَرْناك على عدوِّك؛ لنجمعَ لك بين عِزِّ الدارَيْن وأغراضِ العاجلِ والآجل . ويجوزُ أَنْ يكونَ فَتْحُ مكةَ من حيث إنَّه جهادٌ للعدو سبباً للغفران والثواب " . وهذا الذي قاله مخالِفٌ لظاهرِ الآية؛ فإنَّ اللامَ داخلةٌ على المغفرة ، فتكونُ المغفرةُ علةً للفتح ، والفتحُ مُعَلَّلٌ بها ، فكان ينبغي أَنْ يقولَ : كيف جُعِل فتحُ مكةَ مُعَلَّلاً بالمغفرةِ؟ ثم يقول : لم يُجْعَلْ مُعَلَّلاً . وقال ابنُ عطية : " المرادُ هنا أنَّ اللَّهَ تعالى فَتَح لك لكي يجعلَ الفتح علامةً لغفرانه لك ، فكأنها لامُ صيرورة " وهذا كلامٌ ماشٍ على الظاهر . وقال بعضُهم : إنَّ هذه اللامُ لامُ القسمِ والأصلُ : لَيَغْفِرَنَّ فكُسِرَتْ اللامُ تشبيهاً ب لام كي ، وحُذِفَتْ النونُ . ورُدَّ هذا : بأنَّ اللامَ لا تُكْسَرُ . وبأنَّها لا تَنْصِبُ المضارعَ . وقد يقال : إنَّ هذا ليس بنصبٍ ، وإنما هو بقاءُ الفتحِ الذي كان قبل نونِ التوكيد ، بقي ليدُلَّ عليها ، ولكنه قولٌ مردودٌ .
(1/4867)
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5)
قوله : { لِّيُدْخِلَ } : في متعلَّق هذه اللامِ أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : محذوفٌ تقديرُه : يَبْتَلي بتلك الجنود مَنْ شاء فيقبلُ الخيرَ مِمَّنْ أهَّله له ، والشرَّ مِمَّنْ قضى له به ليُدْخِلَ ويُعَذِّب . الثاني : أنها متعلقةٌ بقولِه : " إنَّا فَتَحْنا " . الثالث : أنَّها متعلقةٌ ب " يَنْصُرَك " . الرابع : أنها متعلقة ب " يَزْدادوا " . واسْتُشْكل هذا : بأنَّ قولَه تعالى : " ويُعَذِّبَ " عطفٌ عليه ، وازديادُهم الإِيمانَ ليس مُسَبَّباً عن تعذيبِ اللَّهِ الكفارَ . وأجيب : بأنَّ اعتقادَهم أنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الكفارَ يزيدُ في إيمانِهم لا محالة . وقال الشيخ : " والازديادُ لا يكونُ سبباً لتعذيب الكفارِ . وأُجيب : بأنَّه ذُكِر لكونِه مقصوداً للمؤمنِ . كأنه قيل : بسببِ ازديادِكم في الإِيمانُ يُدْخِلُكم الجنة ، ويُعَذِّبُ الكفار بأيديكم في الدنيا " . وفيه نظرٌ؛ كان ينبغي أن يقولَ : لا يكونُ مُسَبَّباً عن تعذيب الكفارِ ، وهذا يُشْبِهُ ما تقدَّم في { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله } [ الفتح : 2 ] .
قوله : " عندَ الله " متعلقٌ بمحذوفٍ ، على أنه حال مِنْ " فوزاً " لأنَّه صفتُه في الأصل . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكون ظرفاً لمكانٍ ، وفيه خلافٌ ، وأَنْ يكونَ ظرفاً لمحذوفٍ دَلَّ عليه الفوز أي : يفوزون عند اللَّهِ . ولا يتعلَّق ب " فَوْزاً " لأنَّه مصدرٌ؛ فلا يتقدَّم معمولُه عليه . ومَنْ اغْتَفَر ذلك في الظرفِ جَوَّزَه .
(1/4868)
وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)
قوله : { الظآنين بالله } : صفةٌ للفريقَيْن . وتقدَّم الخلافُ في " السوء " في التوبة . وقرأ الحسن " السُّوء " بالضم فيهما .
(1/4869)
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)
قوله : { لِّتُؤْمِنُواْ } : قرأ " ليؤمنوا " وما بعده بالياء مِنْ تحت ابنُ كثير وأبو عمروٍ رُجوعاً إلى قولِه : " المؤمنين والمؤمنات " . والباقون بتاءِ الخطاب . وقرأ الجحدري " تَعْزُرُوْه " بفتح التاء وضمِّ الزاي . وهو أيضاً وجعفر بن محمد كذلك إلاَّ أنهما كسرا الزاي . وابنُ عباس واليماني " ويُعَزِّرُوه " كالعامَّةُ ، إلاَّ أنه بزاءَيْن من العزَّة . والضمائر المنصوبةُ راجعةٌ إلى الله تعالى . / وقيل : على الرسول إلاَّ الأخيرَ .
(1/4870)
إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
قوله : { إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } : خبرُ " إن الذين " . و { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } جملةٌ حاليةٌ ، أو خبرٌ ثانٍ . وهو ترشيحٌ للمجازِ في مبايعةِ الله . وقرأ تمام بن العباس " يُبايعون الله " . والمفعولُ محذوفٌ أي : إنما يبايعونك لأجل الله .
قوله : يَنْكُثُ " قرأ زيد بن علي " يَنْكِثُ " بكسر الكاف . والعامَّةُ على نصب الجلالة المعظمة . ورَفَعَها ابنُ أبي إسحاق على أنَّه تعالى عاهدهم . وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر " فَسَنُؤْتيه " بنون العظمة . والباقون بالياءِ مِنْ تحت . وقرئ " عَهِد عليه " ثلاثياً .
(1/4871)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)
قوله : { شَغَلَتْنَآ } : حكى الكسائيُّ عن ابن نُوح أنه قرأ " شَغَّلَتْنا " بالتشديد .
قوله : " ضَرَّاً " قرأ الأخَوان بضم الضاد . والباقون بفتحها فقيل : لغتان بمعنى كالفُقْر والفَقْر ، والضُّعْف والضَّعْف . وقيل : بالفتح ضد النفع ، وبالضم سوءُ الحال .
(1/4872)
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)
وقرأ عبد الله " إلى أهلِهم " دونَ ياءٍ ، بل أضاف الأهل مفرداً . وقُرِئ " وزَيَّنَ " مبنياً للفاعل أي : الشيطان أو فِعْلُكم . و { كُنتُمْ قَوْماً بُوراً } أي : صِرْتُم . وقيل : على بابها من الإِخبار بكونِهم في الماضي كذا . والبُوْرُ : الهَلاك . وهو يحتمل أن يكونَ هنا مصدراً أُخْبر به عن الجمع كقولِه :
4077 يا رسولَ الإِلهِ إنَّ لِساني ... راتِقٌ ما فَتَقْتُ إذ أنا بُوْرُ
ولذلك يَسْتوي فيه المفردُ والمذكرُ وضدُّهما . ويجوز أن يكون جمع بائرِ كحائل وحُوْل في المعتلِّ . وبازِل وبُزْل في الصحيح .
(1/4873)
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13)
قوله : { وَمَن لَّمْ يُؤْمِن } : يجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً أو موصولةً . والظاهرُ قائمٌ مقامَ العائدِ على كلا التقديرَيْن أي : فإنَّا أَعْتَدْنا لهم .
(1/4874)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
قوله : { يُرِيدُونَ } : يجوز أَنْ يكونَ مستأنفاً ، وأَنْ يكونَ حالاً من " المخلَّفون " ، وأن يكونَ حالاً من مفعول " ذَرُوْنا " .
قوله : " كلامَ الله " قرأ الأخَوان " كَلِمَ " جمع كِلْمة . والباقون " كلامَ " . وقرأ أبو حيوة " تَحْسِدُوْننا " بكسرِ السين .
(1/4875)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)
قوله : { أَوْ يُسْلِمُونَ } : العامَّةُ على رَفْعِه بإثبات النون عطفاً على " تُقاتلونهم " أو على الاستئنافِ أي : أو هم يُسْلِمون . وقرأ أُبَيٌّ وزيد بن علي بحذفِ النون نَصَباه بحذِفها . والنصبُ بإضمارِ " أَنْ " عند جمهور البصريين وب " أو " نفسِها عند الجرميِّ والكسائي ، ويكون قد عَطَفَ مصدراً مؤولاً على مصدر متوهَّم . كأنه قيل : يكنْ قتال أو إسلامٌ . ومثلُه في النصبِ قولُ امرئ القيس :
4078 فقلتُ له لا تَبْكِ عَيْنُك إنما ... نُحاول مُلْكاً أو نموتَ فَنُعْذَرا
وقال أبو البقاء : " أو بمعنى : إلاَّ أَنْ ، أو حتى " .
(1/4876)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18)
قوله : { إِذْ يُبَايِعُونَكَ } : منصوبٌ ب " رَضي " و " تحت الشجرة " يجوزُ أَنْ يكونَ متعلِّقاً ب " يُبايعونك " ، وأنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعول . وفي التفسيرِ : أنه عليه السلام كان جالساً تحتها .
(1/4877)
وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)
قوله : { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً } : أي : وآتاكم مغانمَ ، أو آتاهم مغانمَ ، أو أثابَهم مغانم ، أو أثابكم مغانمَ ، وإنما قدَّرْتُ الخطابَ والغَيْبَة؛ لأنه يُقرأ " يَأْخُذونها " بالغيبة - وهي قراءة العامَّةِ - " وتَأْخُذونها " بالخطاب ، وهي قراءةُ الأعمشِ وطلحةَ ونافعٍ في رواية سقلاب .
(1/4878)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)
قوله : { وَلِتَكُونَ } : يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه متعلِّقٌ بفعلٍ مقدرٍ بعده ، تقديرُه : ولِتَكونَ فَعَلَ ذلك . الثاني : أنَّه معطوفٌ على علةٍ محذوفةٍ ، تقديرُه : وَعَدَ فعجَّل وكَفَّ لتنتَفِعوا ولتكونَ ، أو لتشكروه ولتكونَ . الثالث : أنَّ الواوَ مزيدةٌ ، والتعليلُ لِما قبلَه أي : وكَفَّ لتكونَ .
(1/4879)
وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)
قوله : { وأخرى } : يجوزُ فيها أوجهٌ ، أحدها : أَنْ تكونَ مرفوعةً بالابتداءِ ، و { لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا } صفتُها . و { قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا } خبرُها . الثاني : أنَّ الخبرَ محذوفٌ ، مقدَّرٌ قبلها أي : وثَمَّ أُخْرى لم تَقْدِروا عليها . الثالث : أَنْ تكونَ منصوبةً بفعلٍ مضمرٍ على شريطةِ التفسيرِ ، فيُقَدَّرُ الفعلُ مِنْ معنى المتأخِّر ، وهو قد أحاط اللَّهُ بها أي : وقَضى اللَّهُ أخرى . الرابع : أَنْ تكونَ منصوبةً بفعلٍ مضمرٍ لا على شريطةِ التفسير ، بل لدلالةِ السِّياقِ أي : ووعَد أخرى ، أو وآتاكم أخرى . الخامس : أنْ تكونَ مجرورةً ب " رُبَّ " مقدرةً ، وتكونَ الواوُ واوَ " رُبَّ " ، ذكره الزمخشريُّ . وفي المجرورِ بعد الواوِ المذكورة خلافٌ مشهورٌ : هو برُبَّ مضمرةً أم بنفسِ الواو . إلاَّ أنَّ الشيخ قال : " ولم تَأْتِ رُبَّ جارَّةً في القرآنِ على كثرةِ دَوْرِها " يعني جارَّةً لفظاً ، وإلاَّ فقد قيل : إنها جارَّةٌ تقديراً هنا وفي قولِه : " رُبَما " على قولنا : إنَّ " ما " نكرةٌ موصوفة .
قوله : { قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا } / يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ل " أُخْرى " كما تقدَّم ، أو صفةً ثانيةً إذا قيل : بأنَّ " أُخْرى " مبتدأٌ ، وخبرُها مضمرٌ أو حال أيضاً .
(1/4880)
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)
قوله : { سُنَّةَ الله } : مصدرٌ مؤكِّد لمضمونِ الجملةِ المتقدمة أي : سَنَّ اللَّهُ ذلك سُنَّةَ .
(1/4881)
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
قوله : { بِمَا تَعْمَلُونَ } : قرأ أبو عمروٍ " يَعْلمون " بالياء مِنْ تحتُ ، رجوعاً إلى الغَيْبة في " أيديهم " و " عنهم " والباقون بالخطاب ، رجوعاً إلى الخطاب في قوله : " أيديكم " و " عنكم " .
(1/4882)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)
قوله : { والهدي } : العامَّةُ على نصبِه . والمشهورُ أنَّه نسقٌ على الضميرِ المنصوبِ في " صَدُّوْكم " . وقيل : نُصِبَ على المعيَّةِ . وفيه ضَعْفٌ لإِمكان العطفِ . وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ بجرِّه عطفاً على " المسجد الحرام " ، ولا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ أي : وعن نَحْرِ الهَدْي . وقُرِئ برفعِه على أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدرٍ لم يُسَمَّ فاعلُه أي : وصُدَّ الهَدْيُ . والعامة على فتح الهاءِ وسكونِ الدالِ ورُوي عن أبي عمروٍ وعاصم وغيرِهما كسرُ الدالِ وتشديدُ الياء . وحكى ابن خالويه ثلاثَ لغاتٍ : الهَدْيُ وهي الشهيرةُ لغةُ قريشٍ والهَدِيُّ والهَدَى .
قوله : " مَعْكوفاً " حالٌ من الهدي أي : محبوساً يُقال : عَكَفْتُ الرجلَ عن حاجتِه . وأنكر الفارسيُّ تعديةَ " عَكَفَ " بنفسِه وأثبتَها ابنُ سيده والأزهريُّ وغيرُهما ، وهو ظاهرُ القرآنِ لبناء اسمِ المفعول منه .
قوله : " أَنْ يَبْلُغَ " فيه أوجهٌ ، أحدها : أنَّه على إسقاطِ الخافضِ أي : عَنْ أَنْ ، أو مِنْ أَنْ . وحينئذٍ يجوزُ في هذا الجارِّ المقدرِ أن يتعلَّقَ ب " صَدُّوكم " ، وأن يتعلَّقَ بمعكوفاً أي : مَحْبوساً عن بلوغِ محلِّه أو من بلوغِ مَحِلِّه . الثاني : أنه مفعولٌ مِنْ أجله ، وحينئذٍ يجوز أن يكونَ علة للصدِّ ، والتقدير : صَدُّوا الهَدْيَ كراهةَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّه ، وأن يكون علةً لمعكوفاً أي : لأجل أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّه ، ويكون الحبسُ من المسلمين . الثالث : أنه بدلٌ من الهَدْي بدلُ اشتمالٍ أي : صَدُّوا بلوغَ الهَدْيِ مَحِلَّه .
قوله : " لم تَعْلَموهم " صفةٌ للصِّنفَيْن وغَلَّب الذكورَ .
قوله : " أَنْ تَطَؤُوْهم " يجوز أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ رجال ونساء ، وغَلَّبَ الذكورَ كما تقدَّمَ ، وأن يكونَ بدلاً مِنْ مفعول " تَعْلَموهم " فالتقدير على الأول : ولولا وَطْءُ رجالٍ ونساءٍ غيرِ معلومين ، وتقدير الثاني : لم تعلموا وَطْأَهم ، والخبرُ محذوفٌ تقديره : ولولا رجالٌ ونساء موجودون أو بالحضرة . وأمَّا جوابُ " لولا " ففيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنَّه محذوفٌ لدلالةِ جواب لو عليه . والثاني : أنه مذكورٌ . وهو " لَعَذَّبْنا " ، وجوابُ " لو " هو المحذوفُ ، فَحَذَفَ من الأول لدلالةِ الثاني ، ومن الثاني لدلالةِ الأول . والثالث : أنَّ " لَعَذَّبْنا " جوابُهما معاً وهو بعيدٌ إن أرادَ حقيقة ذلك . وقال الزمخشري قريباً مِنْ هذا ، فإنَّه قال : " ويجوزُ أَنْ يكونَ " لو تَزَيَّلوا " كالتكرير ل { لَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ } لمَرْجِعِهما إلى معنىً واحدٍ ، ويكون " لَعَذَّبْنا " هو الجوابَ " . ومنع الشيخ مرجِعَهما لمعنى واحدٍ قال : " لأنَّ ما تعلَّق به الأولُ غيرُ ما تعلَّق به الثاني " .
قوله : " فتُصيبَكم " نَسَقٌ على " أَنْ تَطَؤُوهم " . وقرأ ابن أبي عبلةَ وأبو حيوة وابنُ عونٍ " لو تَزايَلوا " على تفاعَلوا .
(1/4883)
والضمير في " تَزَيَّلوا " يجوز أَنْ يعودَ على المؤمنين فقط ، أو على الكافرين أو على الفريقين أي : لو تَمَيَّز هؤلاء مِنْ هؤلاء لَعَذَّبْنا .
والوَطْءُ هنا : عبارةٌ عن القتلِ والدَّوْسِ . قال عليه السلام : " اللَّهم اشدُدْ وَطْأتك على مُضَرَ " ، وأنشدوا :
4079 ووَطِئْتَنا وَطْئاً على حَنَق ... وَطْءَ المقيَّدِ ثابِتَ الهَرْمِ
والمَعَرَّة : الإِثم .
قوله : " بغيرِ عِلْمٍ " يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل " مَعَرَّةٍ " ، أو أَنْ يكونَ حالاً مِنْ مفعول " تُصيبكم " . وقال أبو البقاء : " من الضمير المجرورِ " يعني في " منهم " ولا يَظْهر معناه ، أو أن يتعلَّقَ ب " يُصيبكم " ، أو أن يتعلَّقَ ب " تَطَؤُوْهم " .
قوله : " لِيُدْخِلَ اللَّهُ " متعلقٌ بمقدرٍ أي : كان انتفاءُ التسليطِ على أهلِ مكةَ وانتفاءُ العذابِ ليُدْخِلَ اللَّهُ .
(1/4884)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
قوله : { إِذْ جَعَلَ } : العاملُ في الظرفِ : إما " لَعَذَّبْنا " أو " صَدُّوكم " أو اذكُرْ ، فيكونُ مفعولاً به .
قوله : " في قلوبهم " يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب جَعَلَ على أنها بمعنى أَلْقى فتتعدَّى لواحدٍ أي : إذ ألقى الكافرونَ في قلوبِهم الحميةَ ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه مفعولٌ ثانٍ قُدِّمَ على أنها بمعنى صَيَّرَ .
قوله : " حَمِيَّةَ الجاهليةِ " بدلٌ مِنْ " الحميةَ " قبلها . والحميَّةُ : الأنَفَةُ من الشيءِ . وأنشد للمتلمِّس :
4080 ألا إنني منهمْ وعِرْضي عِرْضُهُمْ ... كذا الرأسُ يَحْمي أنفَه أَنْ يُهَشَّما
وهي المَنْعُ ، ووزنُها فعيلة ، وهي مصدرٌ يقال : حَمَيْتُ عن كذا حَمِيَّةً .
قوله : " وكانوا أحَقَّ " الضميرُ يجوزُ أَنْ يعودَ على المؤمنين ، وهو الظاهر أي : أحقَّ بكلمةِ التقوى من الكفار . وقيل : يعودُ على الكفار/ أي : كانت قُرَيْشٌ أَحَقَّ بها لولا حِرْمانُهم .
(1/4885)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
قوله : { لَّقَدْ صَدَقَ } : صَدَقَ يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرفِ الجرِّ يُقال : صَدَقْتُكَ في كذا . وقد يُحْذَفُ كهذه الآيةِ .
قوله : " بالحَقِّ " فيه أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ يتعلَّق ب " صدق " . الثاني : أَنْ يكونَ صفةً لمصدرٍ محذوفٍ أي : صِدْقاً مُلْتَبساً بالحق . الثالث : أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " الرؤيا " أي : مُلْتبسةً بالحق . الرابع : أنَّه قسمٌ وجوابُه " لَتَدْخُلُنَّ " فعلى هذا يُوقف على " الرؤيا " ويُبْتَدَأُ بما بعدَها .
قوله : " لَتَدْخُلُنَّ " جوابُ قسمٍ مضمرٍ ، أو لقوله : " بالحق " على ذلك القولِ . وقال أبو البقاء : " و " لَتَدْخُلُنَّ " تفسيرٌ للرؤيا أو مستأنَفٌ أي : والله لَتَدْخُلُنَّ " ، فجعل كونَه جوابَ قسمٍ قسيماً لكونِه تفسيراً للرؤيا . وهذا لا يَصِحُّ البتةَ ، وهو أَنْ يكونَ تفسيراً للرؤيا غيرَ جوابٍ لقسم ، إلاَّ أَنْ يريدَ أنه جوابُ قسمٍ ، لكنه يجوزُ أَنْ يكونَ هو مع القسم تفسيراً ، وأن يكونَ مستأنفاً غيرَ تفسيرٍ وهو بعيدٌ من عبارته .
قوله : " آمِنين " حالٌ مِنْ فاعل " لَتَدْخُلُنَّ " وكذا " مُحَلِّقين ومُقَصِّرِين " ، ويجوزُ أَنْ يكونَ " مُحَلِّقين " حالاً مِنْ " آمِنين " فتكونَ متداخلةً .
قوله : " لا تَخافون " يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً ، وأنْ يكونَ حالاً ثالثةً ، وأَنْ يكونَ حالاً : إمَّا مِنْ فاعل " لَتَدْخُلُنَّ " أو مِنْ ضميرِ " آمنين " أو " مُحَلِّقين " أو " مقصِّرين " . فإن كانَتْ حالاً مِنْ " آمِنين " أو حالاً من فاعل " لَتَدْخُلُنَّ " فهي حالٌ للتوكيد و " آمنين " حالٌ مقاربةٌ ، وما بعدها حالٌ مقدرةٌ إلاَّ قولَه : " لا تَخافون " إذا جُعِل حالاً فإنها مقارنةٌ أيضاً .
(1/4886)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
قوله : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله } : يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، لأنه لَمَّا تقدَّمَ : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ } دَلَّ على ذلك المقدَّرِ أي : هو أي : الرسولُ بالهدى محمدٌ ، و " رسولُ " بدلٌ أو بيانٌ أو نعتٌ ، وأن يكونَ مبتدأً أو خبراً ، وأن يكونَ مبتدأً و " رسولُ اللَّهِ " على ما تقدَّم من البدلِ والبيانِ والنعتِ . و " الذين معه " عطفٌ على " محمدٌ " والخبرُ عنهم قوله : { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار } . وابن عامر في روايةٍ " رسولَ الله " بالنصبِ على الاختصاصِ ، وهي تؤيِّدُ كونَه تابعاً لا خبراً حالةَ الرفعِ . ويجوزُ أَنْ يكونَ " والذين " على هذا الوجه مجروراً عطفاً على الجلالة أي : ورسولُ الذين آمنوا معه؛ لأنه لَمَّا أُرْسِل إليهم أُضيف إليهم فهو رسولُ اللَّهِ بمعنى : أنَّ اللَّهَ أرسله ، ورسولُ أمتِه بمعنى : أنه مُرْسَلٌ إليهم ، ويكون " أشدَّاءُ " حينئذٍ خبرَ مبتدأ مضمر أي : هم أشدَّاء . ويجوزُ أَنْ يكونَ تَمَّ الكلام على " رسولُ الله " و " الذين معه " مبتدأٌ و " أشدَّاءُ " خبره .
وقرأ الحسن " أشداءَ ، رحماءَ " بالنصبِ : إمَّا على المدحِ ، وإمَّا على الحال من الضميرِ المستكنِّ في " معه " لوقوعِه صلةً ، والخبرُ حينئذٍ عن المبتدأ .
قوله : { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً } حالان؛ لأنَّ الرؤيةَ بَصَرِيَّةٌ ، وكذلك " يَبْتَغُون " يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً ، وإذا كانَتْ حالاً فيجوزُ أَنْ تكونَ حالاً ثالثةً مِنْ مفعول " تَراهم " وأن تكونَ من الضمير المستترِ في " رُكَّعاً سجداً " . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ " سُجَّداً " حالاً مِنَ الضمير في " رُكَّعاً " حالاً مقدرة . فعلى هذا يكونُ " يَبْتَغون " حالاً من الضميرِ في " سُجَّداً " فتكونُ حالاً مِنْ حال ، وتلك الحالُ الأولى حالٌ مِنْ حال أخرى .
وقرأ ابن يعمر " أَشِدَّا " بالقصرِ ، والقصرُ مِنْ ضرائر الأشعار كقوله :
4081 لا بدَّ مِنْ صَنْعا وإنْ طالَ السَّفرْ ... فلذلك كانَتْ شاذَّةً . قال الشيخ : " وقرأ عمرو بن عبيد " ورُضوانا " بضم الراء " . قلت : هذه قراءةٌ متواترةٌ قرأها عاصمٌ في روايةِ أبي بكرٍ عنه قَدَّمْتها في سورة آل عمران ، واستثنيتُ له حرفاً واحداً وهو ثاني المائدة .
وقُرِئ " سِيْمِياؤهم " بياء بعد الميمِ والمدِّ ، وهي لغةٌ فصيحةٌ وأُنْشِد :
4082 غلامٌ رَماه اللَّهُ بالحُسْن يافعاً ... له سِيْمِياءُ لا تَشُقُّ على البصَرْ
وتقدَّم الكلامُ عليها وعلى اشتقاقِها في آخر البقرة . و " في وجوههِم " خبرُ " سِيماهم " .
قوله : { مِّنْ أَثَرِ السجود } حال من الضمير المستتر في الجارِّ ، وهو " في وجوههم " .
(1/4887)
والعامَّةُ " مِنْ أَثَرِ " بفتحتين ، وابن هرمز بكسرٍ وسكون ، وقتادة " مِنْ آثارَ " جمعاً .
قوله : " ذلك مَثَلُهم " " ذلك " إشارةٌ إلى ما تقدَّم من وَصْفِهم بكونهم أَشِدَّاءَ رُحَماءَ لهم سِيما في وجوههم ، وهو مبتدأ خبرُه " مَثَلُهم " و " في التوراة " حالٌ مِنْ مَثَلُهم " والعاملُ معنى الإِشارة .
قوله : { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل } يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه مبتدأٌ وخبرُه " كزَرْعٍ " فيُوقَفُ على قولِه : " في التوراة " فهما مَثَلان . وإليه ذهب ابن عباس . والثاني : أنه معطوفٌ على " مَثَلُهم " الأولِ ، فيكونُ مَثَلاً/ واحداً في الكتابَيْن ، ويُوْقَفُ حينئذٍ على " الإِنجيل " وإليه نحا مجاهدٌ والفراء ، ويكون قولُه على هذا : " كزَرْع " فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : مَثَلُهم كزَرْعٍ ، فَسَّر بها المثل المذكور . الثاني : أنه حالٌ من الضمير في " مَثَلُهم " أي : مُماثِلين زَرْعاً هذه صفتُه . الثالث : أنها نعتُ مصدرٍ محذوفٍ أي : تمثيلاً كزرع ، ذكره أبو البقاء . وليس بذاك . وقال الزمخشريُّ : " ويجوزُ أَنْ يكونَ " ذلك " إشارةً مُبْهَمَةً أُوْضِحَتْ بقولِه : " كَزَرْع " كقوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ } " .
قوله : " أَخْرَجَ شَطْأَه " صفةٌ لزرع . وقرأ ابن كثير وابن ذكوان بفتح الطاء ، والباقون بإسكانها ، وهما لغتان . وفي الحرف لغاتٌ أخرى قُرِئَ بها في الشاذِّ : فقرأ أبو حيوةَ " شَطاءَه " بالمدِّ ، وزيد بن علي " شَطاه " بألفٍ صريحةٍ بعد الطاءِ ، فاحتملَتْ أَنْ تكونَ بدلاً من الهمزةِ بعد نقلِ حركتِها إلى الساكنِ قبلَها على لغةِ مَنْ يقولُ : المَراةُ والكَماةُ بعد النقلِ ، وهو مقيسٌ عند الكوفيين ، واحتملَ أَنْ يكونَ مقصوراً من الممدود . وأبو جعفر ونافعٌ في روايةٍ " شَطَه " بالنقل والحَذْفِ وهو القياسُ . والجحدري " شَطْوَه " أبدل الهمزة واواً ، إذ تكونُ لغةً مستقلةً . وهذه كلُّها لغاتٌ في فراخِ الزَّرْع . يقال : شَطَأَ الزَّرْعُ وأَشْطَأ أي : أخرجَ فِراخَه . وهل يختصُّ ذلك بالحِنْطة فقط ، أو بها وبالشعيرِ فقط ، أو لا يختصُّ؟ خلاف مشهور قال :
4083 أَخْرج الشَّطْءَ على وجهِ الثَّرى ... ومنَ الأشجارِ أفنانَ الثمرْ
قوله : " فآزَرَه " العامَّةُ على المدِّ وهو على أَفْعَل . وغَلَّطوا مَنْ قال : إنه فاعَلَ كمجاهدٍ وغيرِه بأنَّه لم يُسْمَعْ في مضارِعه يُؤَازِرُ بل يُؤْزِرُ . وقرأ ابن ذكوان " فَأَزَره " مقصوراً جعله ثلاثياً . وقُرِئ " فأَزَّرَه " بالتشديدِ والمعنى في الكلِّ : قَوَّاه .
وقيل : ساواه . وأُنْشد :
4084 بمَحْنِيَةٍ قد آزَرَ الضالُّ نَبْتَها ... مَجَرَّ جُيُوشٍ غانِميْنَ وخُيَّبِ
قوله : " على سُوْقِه " متعلِّقٌ ب " اسْتوى " ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي : كائناً على سُوْقِه أي : قائماً عليها . وقد تقدَّم في النمل أن قنبلاً يقرأ " سُؤْقِه " بالهمزةِ الساكنة كقولِه :
(1/4888)
4085 أحَبُّ المُؤْقِدين إليَّ موسى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وبهمزةٍ مضمومةٍ بعدها واوٌ كقُرُوْح ، وتوجيهُ ذلك . والسُّوْق : جمع ساق .
قوله : " يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ " حالٌ أي : مُعْجِباً ، وهنا تَمَّ المَثَلُ .
قوله : " ليَغيظَ " فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه متعلِّقٌ ب " وَعَدَ "؛ لأنَّ الكفارَ إذا سَمِعوا بعِزِّ المؤمنين في الدنيا وما أُعِدَّ لهم في الآخرة غاظَهم ذلك . الثاني : أَنْ يتعلَّق بمحذوفٍ دَلَّ عليه تشبيهُهم بالزَّرْعِ في نَمائِهم وتَقْويتِهم . قاله الزمخشري أي : شَبَّههم اللَّهُ بذلك ليَغيظَ . الثالث : أنه متعلِّقٌ بما دَلَّ عليه قولُه : { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار } إلى آخره أي : جعلهم بهذه الصفاتِ ليَغيظَ .
قوله : " مِنْهم " " مِنْ " هذه للبيانِ لا للتبعيضِ؛ لأنَّ كلَّهم كذلك فهي كقولِه : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] . وقال الطبري : " منهم أي : من الشَّطْء الذي أخرجه الزرعُ ، وهم الداخلون في الإِسلامِ إلى يومِ القيامة " ، فأعاد الضميرَ على معنى الشَّطْءِ ، لا على لفظِه ، وهو معنى حسنٌ .
(1/4889)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
قوله : { لاَ تُقَدِّمُواْ } : العامَّةُ على ضمِّ التاءِ وفتح القافِ وتشديدِ الدالِ مكسورةً ، وفيها وجهان ، أحدُهما : أنَّه متعدٍّ ، وحُذِفَ مفعولُه : إمَّا اقتصاراً كقولهم : هو يعطي ويمنع ، { وَكُلُواْ واشربوا } [ البقرة : 187 ] ، وإمَّا اختصاراً للدلالةِ عليه أي : لا تُقَدِّموا ما لا يَصْلُحُ . والثاني : أنه لازمٌ نحو : وَجَّه وتَوَجَّه ، ويَعْضُدُه قراءةُ ابنِ عباس والضَّحَّاك " لا تَقَدَّمُوا " بالفتح في الثلاثة ، والأصلُ : لا تَتَقَدَّمُوْا فحذَف إحدى التاءَيْن . وبعضُ المكِّيين " لا تَّقَدَّمُوْا " كذلك ، / إلاَّ أنَّه بتشديد التاء كتاءات البزي . والمتوصَّلُ إليه بحرفِ الجرِّ في هاتَيْن القراءتَيْن أيضاً محذوفٌ أي : لا تَتَقَدَّموا إلى أمرٍ من الأمور . وقُرِىء " لا تُقْدِموا " بضمِّ التاءِ وكسرِ الدالِ مِنْ أَقْدَمَ أي : لا تُقْدِموا على شيءٍ .
(1/4890)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)
قوله : { أَن تَحْبَطَ } : مفعولٌ من أجلِه . والمسألةُ من التنازعِ لأنَّ كُلاًّ مِنْ قولِه : " لا تَرْفَعوا " و { لاَ تَجْهَرُواْ لَهُ } يَطْلُبه من حيث المعنى ، فيكون معمولاً للثاني عند البصريين في اختيارِهم ، وللأولِ عند الكوفيين . والأولُ أَصَحُّ للحَذْفِ من الأولِ أي : لأَنْ تحبطَ . وقال أبو البقاء : " إنها لامُ الصيرورة " ولا حاجةَ إليه . { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } حالٌ .
(1/4891)
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
قوله : { أولئك } : يجوزُ أَنْ يكونَ " أولئك " مبتدأ ، و " الذين " خبرُه . والجملةُ خبر " إنَّ " ويكونُ " لهم مغفرةٌ " جملةً أخرى : إمَّا مستأنفةً وهو الظاهرُ ، وإمَّا حاليةً . ويجوزُ أَنْ يكونَ " الذين امتحنَ " صفةً ل " أولئك " أو بدلاً منه أو بياناً ، و " لهم مغفرةٌ " جملةٌ خبريةٌ . ويجوزُ أَنْ يكونَ " لهم " هو الخبرَ وحده ، و " مغفرةٌ " فاعلٌ به .
(1/4892)
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)
قوله : { مِن وَرَآءِ } : " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ . وفي كلامِ الزمخشريِّ ما يمنعُ أنَّ " مِنْ " تكونُ لابتداءِ الغاية وانتهائِها . قال : " لأنَّ الشيءَ الواحدَ لا يكونُ مَبْدَأً للفعلِ ومنتهىً له " وهذا أثبتَه بعضُ الناس ، وزعم أنَّها تَدُلُّ على ابتداءِ الفعلِ وانتهائِه في جهةٍ واحدةٍ نحو : " أَخَذْتُ الدرهمَ من الكيس " . والعامَّةُ على " الحُجُرات " بضمتين . وأبو جعفر وشَيْبَةُ بفتحها . وابنُ أبي عبلةَ بإسكانها وهي ثلاثُ لغاتٍ تقدَّم تحقيقُها في البقرة في قوله : { فِي ظُلُمَاتٍ } [ البقرة : 17 ] . والحُجْرَةُ فُعْلَة بمعنى مَفْعولة كغُرْفة بمعنى مَغْروفة .
(1/4893)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ } : قد تقدَّم مِثْلُه . وجعله الزمخشري فاعلاً بفعلٍ مقدرٍ أي : ولو ثَبَتَ صبرُهم ، وجعل اسمَ كان ضميراً عائداً على هذا الفاعلِ . وقد تقدَّم أنَّ مذهب سيبويهِ أنها في محلِّ رفع بالابتداءِ ، وحينئذٍ يكون اسمُ كان ضميراً عائداً على صبرِهم المفهومِ من الفعل .
(1/4894)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
قوله : { أَن تُصِيببُواْ } : مفعولٌ له ، كقولِه : { أَن تَحْبَطَ } [ الحجرات : 2 ] .
(1/4895)
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)
قوله : { لَوْ يُطِيعُكُمْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً : إمَّا من الضميرِ المجرور مِنْ " فيكم " ، وإمَّا من المرفوعِ المستترِ في " فيكم " لأدائِه إلى تنافُرِ النَّظْمِ . ولا يَظْهر ما قاله بل الاستئناف واضحٌ أيضاً . وأتى بالمضارعِ بعد " لو " لدلالةً على أنه كان في إرادتِهم استمرارُ عملِه على ما يتقوَّلون .
قوله : { ولكن الله } الاستدراكُ هنا من حيث المعنى لا من حيث اللفظُ؛ لأنَّ مَنْ حُبِّبَ إليه الإِيمانُ غايَرَتْ صفتُه صفةَ مَنْ تقدَّم ذِكْرُه .
وقوله : { أولئك هُمُ } التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبَةِ .
(1/4896)
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
قوله : { فَضْلاً } : يجوز أَنْ ينتصِبَ على المفعولِ من أجله . وفيما ينصِبُه وجهان ، أحدهما : قوله : { ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ } ، وعلى هذا فما بينهما اعتراضٌ مِنْ قولِه : { أولئك هُمُ الراشدون } . والثاني : أنه الراشدون . وعلى هذا فكيف جازَ مع اختلاف الفاعلِ لأنَّ فاعلَ الرُّشدِ غيرُ فاعلِ الفضل؟ فأجاب الزمخشريُّ : بأنَّ الرُّشْدَ لَمَّا وقع عبارةً عن التحبيب والتزيين والتكريه مسندةً إلى أسمائِه صار الرُّشد كأنه فِعْلُه " . وجَوَّزَ أيضاً أَنْ ينتصِبَ بفعلٍ مقدرٍ أي : جرى ذلك أو كان ذلك . قال الشيخ : " وليس مِنْ مواضِع إضمارِ " كان " ، وجَعَلَ كلامَه الأولَ اعتزالاً . وليس كذلك؛ لأنه أراد الفعلَ المسندَ إلى فاعلِه لفظاً ، وإلاَّ فالتحقيقُ أنَّ الأفعالَ كلَّها مخلوقةٌ للَّهِ تعالى ، وإنْ كان الزمخشريُّ غيرَ موافقٍ عليه . ويجوزُ أَنْ ينتصِبَ على المصدرِ المؤكِّد لمضمونِ الجملة السابقةِ لأنها فضلٌ أيضاً . إلاَّ أنَّ ابنَ عطيةَ جعله من المصدرِ المؤكِّد لنفسه . وجَوَّزَ الحوفيُّ أن ينتصبَ على الحالِ وليسَ بظاهرٍ ، ويكون التقديرُ : مُتَفَضِّلاً مُنَعِّماً ، أو ذا فضلٍ ونِعْمة .
(1/4897)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
قوله : { اقتتلوا } : عائدٌ على أفراد الطائفتَيْن ، كقوله : { هذان خَصْمَانِ اختصموا } [ الحج : 19 ] وفي " بينهما " على اللفظ . وقرأ ابن أبي عبلة " اقْتتلَتا " مراعِياً لِلَّفْظ . وزيد بن علي وعبيد بن عمير " اقتتلا " أيضاً ، إلاَّ أنه ذَكَّر الفعلَ باعتبار الفريقَيْن ، أو لأنه تأنيثٌ مجازيٌّ .
قوله : { حتى تفياء } العامَّةُ على همزِه مِنْ فاء يَفيء أي : رَجَعَ كجاء يجيْء . والزهري بياءٍ مفتوحةٍ كمضارع وَفَى ، وهذا على لغةِ مَنْ يَقْصُرُ فيقول : جا ، يَجي ، دونَ همزٍ ، وحينئذ فَتَحَ الياءَ لأنها صارَتْ حرفَ الإِعراب . /
(1/4898)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
قوله : { بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } : العامَّةُ على التثنيةِ ، وزيد بن ثابت وعبد الله والحسن وحماد بن سلمة وابن سيرين " إخوانِكم " جمعاً على فِعْلان . وقد تقدَّم أنَّ " الإِخوان " تَغْلِبُ في الصداقة ، والإِخْوَة في النَّسَب . وقد يُعْكس كهذه الآيةِ . ورُوي عن أبي عمروٍ وجماعةٍ " إخْوَتِكم " بالتاء مِنْ فوقُ . وقد رُوي عن أبي عمروٍ أيضاً القراءاتُ الثلاثُ .
وتقدَّم الخلاف في " القوم " . وجَعَله الزمخشريُّ هنا جمعاً ل " قائم " قال : " كصَوْمٍ وزَوْرٍ جمع صائم وزائر " وفَعْل ليس من أبنية التكسير إلاَّ عند الأخفش نحو : رَكْب وصَحْب .
وقرأ أُبَيٌّ وعبد الله " عَسَوْا " و " عَسَيْنَ " جعلاها ناقصةً وهي لغةُ تميمٍ . وقرأ العامَّةُ لغة الحجاز . وقرأ الحسن والأعرج " ولا تَلْمُزوا " بالضمِّ . واللَّمْزُ بالقول وغيرِه ، والهَمْزُ باللسانِ فقط .
قوله : { وَلاَ تَنَابَزُواْ } التنابُزُ : تفاعُلٌ من النَّبْزِ ، وهو التداعِي بالنَّبْزِ . والنَّزْبُ ، وهو مقلوبٌ منه لقلةِ هذا وكثرةِ ذاك ويُقال : تنابَزُوا وتنازَبُوا إذا دعا بعضُهم بعضاً بلقَبِ سُوْءٍ . وأصلُه من الرَّفْعِ كأنَّ النَّبْزَ يَرْفَعُ صاحبَه فيشاهَدُ ، واللَّقَبُ : ما أَشْعَرَ بضَعَة المُسَمَّى كقُفَّة وبَطَّة ، أو رِفْعَتِه كالصِّدِّيق وعتيق والفاروق وأسدِ الله وأسدِ رسوله ، وله مع الاسم والكنيةِ أحكامٌ ذكَرْتُها في النحو .
(1/4899)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
قوله : { إِثْمٌ } : جعلَ الزمخشريُّ همزه بدلاً من واوٍ . قال : " لأنه يَثِمُ الأعمال أي : يكسِرُها " وهذا غيرُ مُسَلَّمٍ بل تلك مادةٌ أخرى . ولا تَجَسَّسوا : التجسُّسُ : التتبُّع ، ومنه الجاسوسُ والجَسَّاسَةُ . وجَواسُّ الإِنسان وحواسُّه : مشاعِرُه : ، وقد قرأ هنا بالحاء الحسنُ وأبو رجاء وابن سيرين .
قوله : { مَيْتاً } نصبٌ على الحالِ من " لحم " أو " أخيه " وتقدَّم الخلافُ في " مَيْتا " .
قوله : { فَكَرِهْتُمُوهُ } قال الفراء : " تقديرُه : فقد كرهتموه فلا تَفْعَلُوه " . وقال أبو البقاء : " المعطوفُ عليه محذوفٌ تقديره : عَرَضَ عليكم ذلك فكرِهْتموه ، والمعنى : يُعْرَضُ عليكم فتكرهونه . وقيل : إنْ صَحَّ ذلك عندكم فأنتم تَكْرهونه " وقيل : هو خبرٌ بمعنى الأمرِ كقولهم : " اتقى اللَّهَ امرؤٌ فَعَلَ خيراً يُثَبْ عليه " . وقرأ أبو حيوةَ والجحدري " فَكُرِّهْتُموه " بضمِّ الكاف وتشديدِ الراءِ عُدِّيَ بالتضعيفِ إلى ثانٍ ، بخلافِ قولِه أولاً : { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر } [ الآية : 7 ] ، فإنه وإنْ كان مُضَعَّفاً لم يَتَعَدَّ إلاَّ لواحدٍ لتضمُّنِه معنى بَغَّض .
(1/4900)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
قوله : { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ } : الشُّعوب : جمع شَعْب وهو أعلى طبقاتِ الأنسابِ ، وذلك أن طبقاتِ النَّسَبِ التي عليها العربُ ستٌّ : الشَّعْبُ والقبيلة والعِمارة والبَطْنُ والفَخِذُ والفَصيلةُ ، وكلُّ واحدٍ يَدْخُل فيما قبله ، فالفصيلةُ تَدْخُلُ في الفَخِذ ، والفَخِذُ في البطن . وزاد بعضُ الناسِ بعد الفَخِذ العشيرة ، فجعلها سبعاً وسُمِّيَ الشَّعبُ شعباً لتشَعُّبِ القبائلِ منه ، والقبائل سُمِّيَتْ بذلك لتقابُلها ، شُبِّهَتْ بقبائلِ الرأسِ وهي قطعٌ متقابلةٌ . وقيل : الشُّعوب في العجم ، والقبائل في العرب ، والأسباطُ في بني إسرائيل . وقيل : الشعبُ النَسبُ الأبعدُ ، والقبيلةُ الأقربُ . وأنشد :
4086 قبائلُ مِنْ شُعوبٍ ليس فيهِمْ ... كريمٌ قد يُعَدُّ ولا نَجيبُ
والنسَبُ إلى الشَّعْب " شَعوبيَّة " بفتح الشين ، وهم جيلٌ يَبْغَضون العربَ .
قوله : { لتعارفوا } العامَّةُ على تخفيفِ التاء ، والأصلُ : لتتعارفوا فحذفَ إحدى التاءَيْن . والبزيُّ بتشديدِها . وقد تقدَّم ذلك في البقرة . واللام متعلقةٌ بجَعَلْناكم . وقرأ الأعمش بتاءَيْن وهو الأصلُ الذي أدغمه البزيُّ وحَذَفَ منه الجمهورُ . وابن عباس : " لِتَعْرِفُوا " مضارعَ عَرَفَ . والعامَّةُ على كسرِ " إنَّ أكْرَمَكم " . وابن عباس على فتحها : فإنْ جَعَلْتَ اللامَ لامَ الأمرِ وفيه بُعْدٌ اتَّضَحَ أَن يكونَ قولُه : " أنَّ أَكْرَمَكم " بالفتح مفعولَ العِرْفان ، أَمَرَهم أَنْ يَعْرِفوا ذلك ، وإنْ جَعَلْتَها للعلة لم يظهرْ أَنْ يكونَ مفعولاً؛ لأنه لم يَجْعَلْهم شعوباً وقبائلَ ليعرِفوا ذلك ، فينبغي أن يُجْعَلَ المفعولُ محذوفاً واللامُ للعلة أي : لِتَعْرِفوا الحقَّ؛ لأنَّ أكرمَكم .
(1/4901)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
قوله : { وَلَمَّا يَدْخُلِ } : هذه الجملةُ مستأنفةٌ أخبر تعالى بذلك . وجعلها الزمخشريُّ حالاً من الضميرِ في " قولوا " . وقد تقدَّم الكلامُ في " لَمَّا " وما تدلُّ عليه والفرقُ بينها وبينَ " لم " . وقال الزمخشري : " فإنْ قلت : هو بعدَ قولِه : " لم تؤمنوا " يُشْبِهُ التكريرَ من غير استقلالٍ بفائدةٍ مُتَجدِّدة . قلت : ليس كذلك فإنَّ فائدةَ قولِه : " لم تؤمنوا " هو تكذيبُ دَعْواهم . و " لَمَّا يَدْخُل " توقيتٌ لِما أُمِروا به أَنْ يقولوه " ثم قال : " وما في " لَمَّا " مِنْ معنى التوقع دليلٌ على أنَّ هؤلاء قد آمنوا فيما بعدُ " . قال الشيخ : " ولا أدري مِنْ أيِّ وجه يكونُ المنفيُّ ب " لَمَّا " يقعُ بعدُ "؟ قلت : لأنَّها لنفيِ قد فَعَلَ ، و " قد " للتوقع .
قوله : { لاَ يَلِتْكُمْ } قرأ أبو عمروٍ و " لا يَأْلِتْكُمْ " بالهمز مِنْ أَلَتَه يَأْلُتُهُ بالفتح في الماضي ، والكسرِ والضم في المضارع ، والسوسيُّ يُبْدل الهمزةَ ألفاً على أصلِه . والباقون " يَلِتْكم " مِنْ لاته يَليتُه كباعه يَبيعه ، وهي لغةُ الحجازِ ، والأولى لغة غطفانَ وأَسَدٍ . وقيل : هي مِنْ وَلَتَه يَلِتُه كوَعَده يَعِدُه ، فالمحذوفُ على القولِ الأول عينُ الكلمةِ ووزنُها يَفِلْكم ، وعلى الثاني فاؤُها ووزنها يَعِلْكم . ويقال أيضاً : ألاتَه يُليته/ كأَباعه يُبِيعه ، وآلتَهَ يُؤْلِتُه كآمَنَ يُؤْمِنُ . وكلُّها لغاتٌ في معنى : نَقَصَه حَقَّه . قال الحطيئة :
4087 أَبْلِغْ سَراةَ بني سعدٍ مُغَلْغَلَةً ... جَهْدَ الرسالةِ لا أَلْتاً ولا كَذِباً
وقال رؤبة :
4088 وليلةٍ ذاتِ ندىً سَرَيْتُ ... ولم يَلِتْني عن سُراها ليتُ
أي : لم يَمْنَعْني ويَحْبِسْني .
(1/4902)
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16)
قوله : { أَتُعَلِّمُونَ } : هذه منقولةٌ بالتضعيفِ مِنْ عَلِمْتُ به بمعنى شَعَرْتُ به ، فلذلك تَعَدَّتْ لواحدٍ بنفسِها ولآخرَ بالباء .
(1/4903)
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)
قوله : { أَنْ أَسْلَمُواْ } : يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أنَّه مفعولٌ به؛ لأنه ضُمِّن " يَمُنُّون " معنى يَعْتَدُّون " ، كأنه قيل : يَعْتَدُّون عليك إسلامَهم مانِّيْنَ به عليك؛ ولهذا صَرَّح بالمفعولِ به في قولِه : { لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ } أي : " لا تَعْتَدُّوا عليَّ إسلامَكم " كذا استدلَّ الشيخُ بهذا . وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلٍ أَنْ يقولِ : لا نُسَلِّمُ انتصابَ " إسلامَكم " على المفعولِ به ، بل يجوزُ فيه المفعولُ مِنْ أجلِه ، كما يجوزُ في محلِّ " أَنْ أَسْلَموا " وهو الوجهُ الثاني فيه ، أي : يمنُّون عليك لأجلِ أَنْ أَسْلَمُوا ، فكذلك في قولِه : { لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ } وشروطُ النصبِ موجودةٌ ، والمفعولُ له متى كان مضافاً استوى جَرُّه بالحرفِ ونصبُه .
وقوله : { أَنْ هَداكُمْ } كقولِه : " أن أَسْلَموا " . وقرأ زيد بن علي " إذ هَداكم " ب " إذ " مكانَ " أَنْ " وهي تفيد التعليلَ . وجوابُ الشرطِ مقدرٌ أي : فهو المانُّ عليكم لا أنتم عليه وعليَّ .
(1/4904)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
قوله : { والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } : ابن كثير الغَيْبة نظراً لقولِه : " يَمُنُّون " وما بعده ، والباقون بالخطابِ نظراً إلى قولِه : { لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ } إلى آخره .
(1/4905)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)
قوله : { والقرآن } : قَسَمٌ . وفي جوابِه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه قولُه : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض } . الثاني : { مَا يُبَدَّلُ القول } الثالث : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ } . الرابع : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى } . الخامس { بَلْ عجبوا } وهو قولٌ كوفيٌّ . قالوا : لأنَّه بمعنى " قد عَجِبوا " السادس : أنَّه محذوفٌ ، فقدَّره الزجَّاج والأخفشُ والمبردُ " لَتُبْعَثُنَّ " . وفَتَحَها عيسى ، وكَسَرها الحسنُ وابن أبي إسحاق ، وضمَّها هارونُ وابنُ السَّمَيْفَع . وقد مَضَى توجيهُ ذلك كلِّه . وهو أنَّ الفتحَ يحتمل البناءَ على الفتح للتخفيفِ ، أو يكونُ منصوباً بفعلٍ مقدرٍ ، ومُنِع الصرفَ ، أو مجرورٌ بحرفِ قسمٍ مقدرٌ ، وإنما مُنعَ الصرفَ أيضاً . والضمُّ على أنه مبتدأٌ أو خبرٌ ، ومُنع الصرف أيضاً .
(1/4906)
أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3)
قوله : { أَإِذَا مِتْنَا } : قرأ العامَّةُ بالاستفهام ، وابنُ عامر في روايةٍ ، وأبو جعفر والأعمش والأعرج بهمزةٍ واحدةٍ ، فتحتملُ الاستفهامَ كالجمهورِ ، وإنما حَذَفَ الأداةَ للدلالةِ ، وتحتملُ الإِخبارَ بذلك . والناصبُ للظرفِ في قراءةِ الجمهورِ مقدرٌ أي : أنُبْعَثُ أو أَنَرْجِعُ إذا مِتْنا . وجوابُ " إذا " على قراءةِ الخبرِ محذوفٌ أي : رَجَعْنا . وقيل : قولُه : " ذلك رَجْعٌ " على حذفِ الفاءِ ، وهذا رأيُ بعضِهم . والجمهور لا يُجَوِّزُ ذلك إلاَّ في شعرٍ . وقال الزمخشريُّ : " ويجوزُ أَنْ يكونَ الرَّجْعُ بمعنى المَرْجوع هو الجوابَ ، ويكونَ مِنْ كلامِ اللَّهِ تعالى ، استبعاداً لإِنكارهم ما أُنْذِروا به من البَعْثِ . والوقفُ على ما قبلَه على هذا التفسيرِ حسنٌ " . فإنْ قلت : فما ناصبُ الظرفِ إذا كان الرَّجْعُ بمعنى المَرْجوع؟ قلت : ما دَلَّ عليه المنذِرُ من المنذَرِ به وهو البعثُ " وأَنْحَى عليه الشيخُ في فهمِه هذا الفهمَ .
(1/4907)
بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
قوله : { بَلْ كَذَّبُواْ } : هذا إضرابٌ ثانٍ . قال الزمخشري : " إضرابٌ أُتبع الإِضرابَ قبله للدلالةِ على أنَّهم جاؤُوا بما هو أفظعُ مِنْ تعجُّبهم ، وهو الكذيبُ بالحق " . وقال الشيخ : " وكأن هذا الإِضرابَ الثاني بدلُ بدَاءٍ من الأول " . قلت : وإطلاقُ مثلِ هذا في كتابِ الله لا يجوزُ البتةَ . وقيل : قبل هذه الآيةِ جملةٌ مُضْرَبٌ عنها . تقديرُها : ما أجادُوا النظرَ ، بل كَذَّبوا . وما قاله الزمخشريُّ أحسنُ .
والعامَّةُ على تشديد " لَمَّا " وهي : إمَّا حرفُ وجوبٍ لوجوب ، أو ظرفٌ بمعنى حين ، كما عَرَفْتَه . وقرأ الجحدريُّ بكسرِ اللام وتخفيفِ الميمِ على أنَّها لامُ الجرِّ دَخَلَت على " ما " المصدرية ، وهي نظيرُ قولِهم : " كتبْتُه لخمسٍ خَلَوْن " أي : عندها .
قوله : { مَّرِيجٍ } أي : مُخْتَلِط . قال أبو واقد :
4089 مَرِجَ الدِّيْنُ فأَعْدَدْتُ له ... مُشْرِفَ الأَقْطارِ مَحْبوكَ الكَتَدْ
وقال آخر :
4090 فجالَتْ والتمسْتُ به حَشاها ... فَخَرَّ كأنَّه خُوْطٌ مَرِيْجُ
وأصلُه من الحركةِ والاضطرابِ/ ومنه : مَرَجَ الخاتمُ في إصبعِه .
(1/4908)
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6)
قوله : { فَوْقَهُمْ } : حالٌ من " السماء " وهي مؤكِّدةٌ . و " كيف " منصوبةٌ بما بعجها وهي معلِّقَةٌ للنظرِ قبلها .
(1/4909)
تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)
قوله : { تَبْصِرَةً } : العامَّةُ على نصبِها على المفعول مِنْ أجله أي : تبصيرَ أمثالِهم وتذكيراً مِنَّا لهم . وقيل : منصوبان بفعلٍ مِنْ لفظِهما مقدرٍ أي : بَصِّرْهم تَبْصِرةً وذكِّرْهم تَذْكرةً . وقيل : حالان أي : مُبَصَّرين مُذَكَّرين . وقيل : حالٌ من المفعول أي : ذاتَ تَبْصِيرٍ وتَذْكيرٍ لمَنْ يَراها . وزيد بن علي بالرفع . وقرأ " وذِكْرٌ " أي : هي تبصرةٌ وذِكْرٌ . و " لكلِّ " : إمَّا صفةٌ ، وإمَّا متعلِّقٌ بنفسِ المصدر .
(1/4910)
وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9)
قوله : { وَحَبَّ الحصيد } : يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ بابِ حَذْفِ الموصوفِ للعِلْم به تقديرُه : وحَبَّ الزَرْع الحصيدِ نحو : مسجد الجامع وبابِه . وهذا مذهبُ البصريين؛ لئلا تَلْزَمَ إضافةُ الشيءِ إلى نفسِه . ويجوزُ أَنْ يكونَ من بابِ إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه؛ لأنَّ الأصلَ : والحَبَّ الحصيدَ أي : المحصود .
(1/4911)
وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)
قوله : { والنخل } : منصوبٌ عطفاً على مفعول " أَنْبَتْنا " أي : وأَنْبَتْنا النخلَ . و " باسِقاتٍ " حالٌ . وهي حالٌ مقدرةٌ؛ لأنَّها وقتَ الإِنباتِ لم تكن طِوالاً . والبُسُوْقُ : الطُّوْلُ . يُقال : بَسَقَ فلانٌ على أصحابِه أي : طالَ عليهم في الفَضْلِ . ومنه قولُ ابنِ نوفل في ابن هبيرة :
4091 يا بنَ الذين بمَجْدِهمْ ... بَسَقَتْ على قَيْسٍ فَزارَهْ
وهو استعارةٌ ، والأصلُ استعمالُه في : بَسَقَتِ النخلةُ تَبْسُق بُسُوْقاً أي : طالَتْ . قال الشاعر :
4092 لنا خَمْرٌ وليسَتْ خمرَ كَرْمٍ ... ولكنْ مِنْ نِتاجِ الباسِقاتِ
كِرامٌ في السماءِ ذَهَبْنَ طُوْلاً ... وفاتَ ثمارَها أيدي الجُناةِ
وبَسَقَتِ الشاةُ : وَلَدَتْ ، وأَبْسَقَت الناقةُ : وَقَع في ضَرْعِها اللِّبَأ قبل النِّتاج ، ونوقٌ مَباسِيْقُ من ذلك . والعامَّةُ على السين . وقرأ قطبة بن مالك ويَرْويها عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم " باصِقاتٍ " بالصاد ، وهي لغةٌ لبني العَنْبر ، يُبْدِلون السينَ صاداً قبل القافِ والغينِ والخاءِ والطاء إذا وَلِيَتْها ، أو فُصِلَتْ منها بحرفٍ أو حَرْفين .
قوله : { لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ حالاً من النخل أو من الضمير في " باسِقاتٍ " ، ويجوزُ أَنْ يكونَ الحالُ وحدَه لها ، و " طَلْعٌ " فاعلٌ به ، ونَضِيْدٌ بمعنى مَنْضود .
(1/4912)
رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
قوله : { رِّزْقاً } : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي : مرزوقاً للعباد أي : ذا رزقٍ ، وأَنْ يكونَ مصدراً مِنْ معنى أَنْبَتْنا؛ لأنَّ إنباتَ هذا رِزْقٌ ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له . و " للعباد " إمَّا صفةٌ ، وإمَّا متعلِّقٌ بالمصدرِ ، وإمَّا مفعولٌ للمصدرِ ، واللامُ زائدةٌ أي : رزْقاً للعباد .
قوله : { بِهِ } أي : بالماءِ . و " مَيْتاً " صفةٌ ل " بَلْدة " . ولم يُؤَنَّثْ حَمْلاً على معنى المكانِ . والعامَّةُ على التخفيف . وأبو جعفر وخالد بالتثقيل .
(1/4913)
وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)
قوله : { الأيكة } : قد تقدَّم الكلامُ عليها في الشعراء . وقرأ ههنا " لَيْكَة " بزِنَةِ لَيْلَة أبو جعفر وشيبةٌ . وقال الشيخُ : " وقرأ أبو جعفرٍ وشيبةُ وطلحةُ ونافع " الأَيْكةِ " بلام التعريفِ ، والجمهور " لَيْكَة " وهذا الذي نقلَه غفلةٌ منه ، بل الخلافُ المشهورُ إنما هو في سورة الشعراء و ص كما حَقَّقْتُه ثَمَّةَ ، وأمَّا هنا فالجمهورُ على لامِ التعريفِ .
قوله : { كُلٌّ } التنوينُ عِوَضٌ من المضافِ إليه . وكان بعضُ النحاةِ يُجيز حَذْفَ تنوينِها وبناءَها على الضم كالعامَّةِ نحو : قبل وبعد .
(1/4914)
أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
قوله : { أَفَعَيِينَا } : العامَّةُ على ياءٍ مكسورةٍ بعدها ياءٌ ساكنةٌ . وقد مَضَى معناه في الأحقاف . وقرأ ابنُ أبي عبلة " أفَعَيِّنا " بتشديدِ الياءِ مِنْ غيرِ إشباعٍ . وهذه القراءةُ على إشكالِها قرأ بها الوليد بن مسلم وأبو جعفر وشيبةٌ ونافعٌ في روايةٍ ، وروى ابنُ خالويه عن ابن أبي عبلة " أفَعَيِّينا " كذلك لكنه أتى بعد الياء المشدَّدة بأخرى ساكنة . وخرَّجَها الشيخ على لغةِ مَنْ يقولُ عَيِيَ : عَيَّ ، وفي حَيِيَ : حَيَّ بالإِدغام . ثم لَمَّا أَسْنَدَ هذا الفعلَ وهو مُدْغَمٌ ، واعتبر لغةَ بكر بن وائلِ : وهو أنهم لا يَفُكُّون الإِدغامَ في مثلِ هذا إذا أَسْنَدوا ذلك الفعلَ المدغَم لتاءِ المتكلم ، ولا إحدى أخَواتها التي تُسَكَّنُ لها لامُ الفعل ، فيقولون في رَدَّ : رَدْتُ ورَدْنا ، قال : " وعلى هذه اللغةِ/ تكونُ الياءُ مفتوحةً " . قلت : " ولم يَذْكُرْ توجيهَ القراءةِ الأخرى . وتوجيهُها : أنها مِنْ عَيَّا يُعَيِّي كحَلَّى يُحَلِّي .
(1/4915)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)
قوله : { وَنَعْلَمُ } : خبرُ مبتدأ مضمرٍ . تقديرُه : ونحن نعلمُ . والجملةُ الاسميةُ حينئذٍ حالٌ . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ هو حالاً بنفسه؛ لأنه مضارعٌ مثبتٌ باشَرَتْهُ الواو . وكذلك قولُه : " ونحن أقربُ " .
قوله : { مِنْ حَبْلِ الوريد } هذا كقولهم : مسجد الجامع أي : حبلِ العِرْقِ الوريد ، أو لأنَّ الحبلَ أعمُّ للبيان نحو : بعير سانية ، أو يراد حَبْلُ العاتق فأضيف إلى الوريد كما يضاف إلى العاتِق ، لأنهما في عضو واحد . والوريد : إمَّا بمعنى الوارد ، وإمَّا بمعنى المورود . والوريد : عِرْقٌ كبير في العنق يقال : إنهما وريدان . قال الزمخشري : " عِرْقان مُكْتنفان لصفحتَيْ العُنُق في مُقَدَّمِهما يتصلان بالوَتين ، يَرِدان من الرأس إليه . ويسمَّى وريداً؛ لأنَّ الروحَ تَرِدُ إليه " . وأنشد :
4093 كأنْ وَرِيْدَيْهِ رِشاءُ خُلْبِ ... وقال الأثرم : " هو نهرُ الجسدِ : هو في القلبِ الوَتينُ ، وفي الظهر الأَبْهَرِ ، وفي الذِّراعِ والفَخِذِ الأَكْحَلُ والنَّسا ، وفي الخِنْصِرِ الأَسْلَم " .
(1/4916)
إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)
قوله : { إِذْ يَتَلَقَّى } : ظرفٌ ل " أَقْرَبُ " . ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً ب اذكُرْ .
قوله : { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ } يجوز أَنْ يكونَ مفرداً على بابِه ، فيكون بمعنى مُفاعِل كخليط بمعنى مُخالِط ، أو يكونَ عَدَلَ مِنْ فاعِل إلى فعيل مبالغةً ك عليم . وجوَّز الكوفيون أَنْ يكونَ فعيل واقعاً مَوْقِعَ الاثنين . وقال المبرد : " والأصل : عن اليمين قعيدٌ وعن الشِّمال ، فأُخِّرَ عن موضعِه " وهذا لا يُنْجي مِنْ وقوعِ المفردِ موقعَ المثنى . والأَجْوَدُ أَنْ يُدَّعَى حَذْفٌ : إمَّا من الأول أي : عن اليمين قعيدٌ وعن الشِّمال قعيدٌ ، وإمَّا من الثاني ، فيكون قعيدٌ الملفوظُ به للأول ، ومثلُه قولُ الآخر :
4094 رَماني بأَمْرٍ كنتُ منه ووالدي ... بَريئاً ومِنْ أجل الطَّوِيِّ رَماني
(1/4917)
مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)
قوله : { مَّا يَلْفِظُ } : العامَّةُ على كسرِ الفاء ومحمدُ بن أبي معدان على فتحِها . ورقيبٌ عتيدٌ قيل : هو بمعنى : رقيبان عتيدان .
(1/4918)
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
قوله : { بالحق } : يجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ للحال أي : ملتبسةً بالحقِّ ، ويجوزُ أَنْ تكونَ للتعديةِ . وقرأ عبد الله " سَكَراتُ " وتَحيد : تميلُ ، مِنْ حادَ عن الشيء يَحيد حُيُوداً وحُيُوْدَة وحَيْداً .
(1/4919)
وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21)
قوله : { مَّعَهَا سَآئِقٌ } : جملةٌ في موضعِ جرّ صفةً ل " نَفْسٍ " أو رفعٍ صفةً ل " كل " ، أو نصبٍ حالاً مِنْ " كلُّ " . والعامَّةُ على عدمِ الإِدغام في " معها " ، وطلحة على الإِدغام " مَحَّا " بحاءٍ مشددةٍ؛ وذلكَ أنه أدغم العينَ في الهاء ، ولا يمكنُ ذلك ، فقَلَبَ الهاءَ حاءً ، ثم أدغم فيها العينَ فقلبها حاءً . وسُمِع " ذَهَبَ مَحُّمْ " أي : معهم . قال الزمخشري : " ومحلُّ " معها سائقٌ " النصبُ على الحال من " كلُّ " لتعرُّفِه بالإِضافة إلى ما هو في حكم المعرفة " . وأنحى عليه الشيخ مُتَحَمِّلاً على عادته ، وقال : " لا يقولُ هذا مبتدِىءٌ في النحوِ ، لأنه لو نُعِتَ " كلُّ نفسٍ " ما نُعِتَ إلاَّ بالنكرة " . وهذا منه غيرُ مَرْضيٍّ؛ إذ يَعْلم أنه لم يُرِدْ حقيقةً ما قاله .
(1/4920)
لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
قوله : { لَّقَدْ كُنتَ } : أي : يُقال له : لقد كنتَ ، والقولُ : إمَّا صفة أو حالٌ . والعامَّةُ على فتح التاءِ والكافِ في " كنتَ " و " غِطاءَكَ " و " فبصَرُك " حَمْلاً على لفظ " كلُّ " من التذكير . والجحدري " كنتِ " بالكسر مخاطبةً للنفس ، وهو وطلحة بن مصرف " عنكِ " ، " غطاءَكِ " ، " فبصَرُكِ " بالكسر مراعاةً للنفس أيضاً . ولم ينقل صاحبُ " اللوامح " الكسرَ في الكاف عن الجحدريِّ ، وعلى الجملة فيكونُ قد راعى اللفظَ والمعنى أخرى .
(1/4921)
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23)
قوله : { هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } : يجوزُ أَنْ تكونَ " ما " نكرةً موصوفةً و " عتيدٌ " صفتُها و " لَدَيَّ " متعلقٌ ب " عتيدٌ " أي : هذا شيءٌ عَتيدٌ لديَّ أي : حاضرٌ عندي . ويجوزُ على هذا أَنْ يكونَ " لديَّ " وصفاً ل " ما " ، و " عتيدٌ " صفةٌ ثانيةٌ ، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : هو عتيدٌ . ويجوزُ أَنْ تكونَ موصولةً بمعنى الذي . و " لَدَيَّ " صلتُها و " عتيدٌ " خبرُ الموصولِ ، والموصولُ وصلتُها خبرُ الإِشارةِ . ويجوزُ أَنْ تكون " ما " بدلاً مِنْ " هذا " موصولةً كانت أو موصوفةً ب " لَدَيَّ " و " عتيدٌ " خبرُ " هذا " . وجَوَّز الزمخشريُّ في " عَتيدٌ " أَنْ يكونَ بدلاً أو خبراً بعد خبر أو خبرَ مبتدأ محذوفٍ . / والعامَّةُ على رفعِه ، وعبد الله نصبَه حالاً . والأجودُ حينئذٍ أَنْ تكونَ " ما " موصولةً؛ لأنها معرفةٌ ، والمعرفةُ يَكْثُرُ مجيءُ الحالِ منها . قال أبو البقاء : " ولو جاء ذلك في غيرِ القرآنِ لجاز نصبُه على الحالِ " . قلت : قد جاء ما وَدَّه ولله الحمدُ ، وكأنَّه لم يَطَّلعْ عليها قراءةً .
(1/4922)
أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)
قوله : { أَلْقِيَا } : اختلفوا : هل المأمورُ واحدٌ أم اثنان؟ فقال بعضُهم : واحد ، وإنما أتى بضميرِ اثنين ، دلالةً على تكرير الفعل كأنه قيل : أَلْقِ أَلْقِ . وقيل : أراد أَلْقِيَنْ بالنونِ الخفيفة فأبدلها ألفاً إجراءً للوَصْلِ مُجْرى الوقفِ ، ويؤيِّده قراءةُ الحسنِ " أَلْقِيَنْ " بالنونِ .
وقيل : العرب تخاطِبُ الواحدَ مخاطبةَ الاثنين تأكيداً كقولِه :
4095 فإن تَزْجُراني يا بنَ عَفَّانَ أَزْدَجِرْ ... وإنْ تَدَعاني أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعا
وقال آخر :
4096 فقُلْتُ لصاحبي لا تَحْبِسانا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت . وقال بعضُهم : المأمور مثنى . وهذا هو الحقُّ لأنَّ المرادَ مَلَكان يفعلان ذلك .
(1/4923)
الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)
قوله : { الذي جَعَلَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً على الذمِّ ، أو على البدلِ مِنْ " كل " ، وأَنْ يكونَ مجروراً بدلاً من " كَفَّار " ، أو مرفوعاً بالابتداء ، والخبرُ " فَأَلْقياه " . قيل : ودَخَلَتِ الفاءُ لشِبْهِه بالشرط . ويجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : هو الذي جَعَلَ ، ويكونُ " فَأَلْقِياه " تأكيداً . وجَوَّز ابنُ عطية أَنْ يكونَ صفةً للكَفَّار قال : " من حيثُ يختصُّ " كَفَّار " بالأوصافِ المذكورة ، فجاز وَصْفُه بهذه المعرفة " ، وهذا مردودٌ . وقُرىء بفتح التنوينِ فِراراً مِن توالي أربعة متجانساتٍ .
(1/4924)
قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27)
قوله : { قَالَ قَرِينُهُ } : جاءَتْ هذه بلا واوٍ؛ لأنها قُصِدَ بها الاستئنافُ؛ كأنَّ الكافرَ قال : ربِّ هو أَطْغاني . فقال قَرينُه : ما أَطْغَيْتُه ، بخلاف التي قبلَها ، فإنها عُطِفَتْ على ما قبلَها للدلالة على الجمعِ بين معناها ومعنى ما قبلَها في الحصولِ ، أعني مجيْءَ " كلُّ نفس " مع المَلَكَيْن وقولَ قرينِه ما قاله له .
(1/4925)
قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28)
قوله : { قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ } : استئنافٌ أيضاً ، كأن قائلاً قال : فماذا قال اللَّهُ له؟ فأُجيب ب " قال : لا تَخْتصموا " .
قوله : { وَقَدْ قَدَّمْتُ } جملةٌ حاليةٌ . ولا بُدَّ مِنْ تأويلِها . وذلك أنَّ النهيَ في الآخرةِ وتَقْدِمةَ الوعيدِ في الدنيا ، فاختلف الزمنان ، فكيف يَصِحُّ جَعْلُها حاليةً؟ وتأويلها : هو أن المعنى وقد صَحَّ أني قَدََّمْتُ ، وزمانُ الصحةِ وزمانُ النهيِ واحدٌ ، و " قَدَّمْتُ " يجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى تَقَدَّمْتُ ، فتكون التاءُ للحال ، ولا بُدَّ من حَذْفِ مضافٍ أي : وقد تقدَّم قولي لكم مُلْتبساً بالوعيد . ويجوزُ أن يكونَ " قَدَّمْتُ " على حاله متعدِّياً ، والباءُ مزيدةٌ في المفعولِ أي : قَدَّمْتُ إليكم الوعيدَ .
(1/4926)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
قوله : { يَوْمَ نَقُولُ } : " يوم " منصوبٌ : إمَّا بظَلاَّم ، ولا مفهومَ لهذا؛ لأنه إذا لم يَظْلِمْ في هذا اليومِ فَنَفْيُ الظلمِ عنه في غيرِه أَحْرَى أو بقولِه : { وَنُفِخَ فِي الصور } [ ق : 20 ] والإِشارة بذلك إلى " يومَ نقول " قاله الزمخشري ، واستبعده الشيخُ بكثرةِ الفواصلِ ، أو ب " اذْكُرْ " مقدَّراً أو بأَنْذِرْ ، وهو على هذَيْن الأخيرَيْن مفعولٌ به لا ظرفٌ .
قوله : { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } سؤالُ تقريرٍ وتوقيفٍ . وقيل : معناه النفيُ . وقيل : السؤالُ لخَزَنَتِها . والجوابُ منهم ، فلا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ أي : نقولُ لخزنةِ جهنمَ ويقولون ، ثم حَذَفَ . وقرأ نافع وأبو بكر " يقول لجهنمَ " بياء الغَيْبة ، والفاعلُ اللَّهُ تعالى لتقدُّم ذِكْرِه في قولِه : " مع الله " ، والباقون بنونِ المتكلِّمِ المعظِّم نفسَه لتقدُّم ذِكْرِه في قوله : " لديَّ " ، " وقد قَدَّمْتُ " . والأعمش " يُقال " مبنياً للمفعول . والمزيد يجوز أَنْ يكونَ مصدراً ، وأن يكونَ اسمَ مفعولٍ أي : مِنْ شيءٍ تَزيدونَنِيْه أَحْرقه .
(1/4927)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)
قوله : { غَيْرَ بَعِيدٍ } : يجوزُأَنْ تكونَ حالاً من الجنة ، ولم تُؤنَّثْ لأنها بمعنى البستان ، أو لأنَّ فعيلاً لا يُؤَنَّثُ لأنه بزنةِ المصادرِ ، قاله الزمخشري ، ولم يُسَلِّمْه الشيخُ ، وقد تقدَّم في قولِه : { إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ } [ الأعراف : 56 ] ما يُغْنِيك عن هذا . ويجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً على الظرفِ المكانيِّ أي : مكاناً غيرَ بعيدٍ . ويجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ أي : إزْلافاً غيرَ بعيدٍ . وهو ظاهرُ عبارةِ الزمخشري فإنه قال : " أو شيئاً غيرَ بعيدٍ " .
(1/4928)
هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)
قوله : { هذا مَا تُوعَدُونَ } : هذه الجملةُ يجوزُ فيها وجهان ، أحدهما : أَنْ تكونَ معترضةً بين البدلِ والمبدلِ منه؛ ولذلك أنَّ " لكل أَوَّابٍ " بدلٌ من " للمتقين " بإعادةِ العامل . والثاني : أَنْ تكونَ مصنوبةً بقولٍ مضمرٍ ، ذلك القولُ منصوبٌ على الحالِ أي : مقولاً لهم . وقد تقدَّم في ص أنه قُرِىء " تُوْعَدون " بالتاء والياء . ونَسَبَ الشيخُ قراءةَ الياءِ مِنْ تحتُ هنا لابن كثيرٍ وأبي عمروٍ ، وإنما هي عن ابن كثير وحدَه .
(1/4929)
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)
قوله : { مَّنْ خَشِيَ } : يجز أن يكونَ مجرورَ المحلِّ بدلاً أو بياناً ل " كل " . وقال الزمخشري : " إنه يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً بعد بدل تابعاً لكل " انتهى . يعني أنه بدلٌ مِنْ " كل " بعد أن أُبْدِلَتْ " لكل " مِنْ " للمتقين " ولم يَجْعَلْه بدلاً آخر من نفس " للمتقين " لأنَّه لا يتكرَّرُ البدلُ والمبدلُ منه واحدٌ/ . ويجوز أن يكونَ بدلاً عن موصوفِ أَوَّاب وحفيظ ، قاله الزمخشري ، يعني أن الأصلَ : لكل شخصٍ أوَّابٍ ، فيكون " مَنْ خَشِي " بدلاً مِنْ شخص المقدر قال : " ولا يجوزُ أَنْ يكونَ في حُكم أوَّاب وحفيظ لأنَّن " مَنْ " لا يُوْصَفُ بها ، ولا يُوْصَفُ مِنْ بين الموصولاتِ إلاَّ ب " الذي " . يعني بقولِه : " في حُكْمِ أوَّاب " أن يُجْعَل " مَنْ " صفةً ، وهذا كما قال لا يجوزُ . إلاَّ أنَّ الشيخَ اسْتَدْرَكَ عليه الحصرَ فقال : " بل يوصف بغير " الذي " من الموصولاتِ كوَصْفِهم بما فيه أل الموصولة نحو : الضارب والمضروب ، وكوَصْفِهم ب ذو وذات الطائيَّتين نحو قولهم : " بالفضل ذو فَضَّلكم اللَّهُ به والكرامةِ ذاتُ أكرمكم اللَّهُ بَهْ " .
وجَوَّز ابنُ عطية في " مَنْ خَشِي " أَنْ يكونَ نعتاً لِما تقدَّم ، وهو مردودٌ بما تقدَّم ، ويجوز أَنْ يكونَ يرتفع " مَنْ خَشِي " على خبر ابتداءٍ مضمرٍ ، أو يُنْصَبُ بفعلٍ مضمرٍ ، وكلاهما على القطع المُشْعِرِ بالمدح ، وأن يكونَ مبتدأ خبرُه قولٌ مضمرٌ ناصبٌ لقولِه : " ادْخُلوها " أي : مَنْ خَشِي الرحمنَ يُقال لهم : ادْخُلوها . وحُمِل أولاً على اللفظِ ، وفي الثاني على المعنى ، وقيل : " مَنْ خَشي " منادى حُذِفُ منه حرفُ النداءِ أي : يا مَنْ خَشِي ادْخلُوها باعتبار الحَمْلَيْن المتقدِّمَيْنِ ، وأَنْ تكونَ شرطيةً ، وجوابُها محذوفٌ وهو ذلك القولُ ، ولكن رُدَّ معه فاءٌ أي : فيقال لهم : و " بالغيب " حالٌ أي : غائباً عنه ، فيُحتمل أَنْ يكونَ حالاً من الفاعل أو المفعول أو منهما . وقيل : الباءُ للسببية أي : خَشْيةً بسببِ الغيب الذي أَوْعَدَه مِنْ عذابِه . ويجوزُ أَنْ تكونَ صفةً لمصدرِ خشي أي : خَشيَه خَشْيْةً ملتبسةً بالغيب .
(1/4930)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)
قوله : { بِسَلاَمٍ } : حالٌ من فاعل " ادْخلوها " ، أي : سالمين من الآفات ، فهي حالٌ مقارِنةٌ أو مُسَلَّماً عليكم ، فهي حالٌ مقدرةٌ كقوله : { فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] كذا قيل . وفيه نظر؛ إذ لا مانعَ من مقارنة تسليم الملائكةِ عليهم حالَ الدخول بخِلافِ { فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] فإنه لا يُعْقَلُ الخلودُ إلاَّ بعد الدخولِ .
قوله : { ذَلِكَ يَوْمُ الخلود } قال أبو البقاء : " أي زمنُ ذلك يومُ الخلود " كأنه جَعَلَ ذلك إشارةً إلى ما تقدَّم مِنْ إنعام اللَّهِ عليهم بما ذُكِرَ . ولا حاجةَ إلى ذلك؛ بل ذلك مُشارٌ به لما بعدَه من الزمانِ كقولك " هذا زيدٌ " .
قوله : { فِيهَا } يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب يَشاؤُون ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الموصول ، أو مِنْ عائِده والأولُ أَوْلى .
(1/4931)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36)
قوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا } : " كم " نُصِب بما بعده . وقُدِّم : إمَّا لأنه استفهامٌ ، وإمَّا لأنَّ الخبريَّة تَجْري مَجْرى الاستفهاميةِ في التصدير . و " مِنْ قَرْن " تمييزٌ ، و " هم أشدُّ " صفةٌ : إمَّا ل " لكم " وإمَّا ل " قرن " .
قوله : { فَنَقَّبُواْ } الفاءُ عاطفةٌ على المعنى كأنه قيل : اشتدَّ بَطْشُهم فنَقَّبوا . والضمير في " نَقَّبوا " : إما للقرونِ المقتدمةِ وهو الظاهرُ ، وإمَّا لقريش ، ويؤيِّده قراءةُ ابنِ عباس وابن يعمر وأبي العالية ونصر ابن سيَّار وأبي حيوةَ والأصمعيِّ عن أبي عمرو " فَنَقِّبوا " بكسر القاف أَمْراً لهم بذلك . والتنقيب : التنقير والتفتيش ، ومعناه التطوافُ في البلاد . قال الحارث بن حِلِّزة :
4097 نَقَّبوا في البلاد مِنْ حَذَرِ الموْ ... تِ وجالُوا في الأرض كلَّ مجَالِ
وقال امرؤ القيس :
4098 وقد نَقَّبْتُ في الآفاقِ حتى ... رَضِيْتُ مِن الغنيمة بالإِياب
وقرأ ابن عباس وأبو عمروٍ أيضاً في رواية " نَقَبوا " بفتح القاف خفيفةً . ومعناها ما تقدَّم . وقُرِىء " نَقِبوا " بكسرها خفيفةً أي : تَعِبَتْ أقدامُهم وأقدامُ إِبِلهم ودَمِيَتْ ، فَحُذِفَ المضافُ ، وذلك لكثرةِ تَطْوافِهم .
قوله : { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } مبتدأٌ ، وخبرُه مضمرٌ تقديرُه : هل لِمَنْ سَلَكَ طريقتَهم ، أو هل لهم مِنْ مَحيصٍ ، وهذه الجملةُ تحتمل أن تكون إلى إضمارِ قولٍ ، وأَنْ لا تكونَ .
(1/4932)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
قوله : { أَوْ أَلْقَى } : العامَّةُ على " أَلْقى " مبنياً للفاعل . والسملي وطلحة والسُّدِّي وأبو البرهسم " أُلْقِي " مبنياً للمفعول " السَّمعُ " رُفِع به ، وذُكِرت هذه القراءةُ لعاصمٍ عن السُّدِّي فمقته وقال : أليس يقول : " يُلْقُوْن السَّمْعَ " .
(1/4933)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38)
قوله : { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } : يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً ، وأن تكونَ مستأنفةً . والعامَّةُ على ضمِّ لام اللُّغوب . وعلي وطلحة والسلمي ويعقوبُ بفتحِها ، وهما مصدران بمعنىً . وينبغي أَنْ يُضَمَّ هذا إلى ما حكاه سيبويه من المصادر الجائيةِ على هذا الوزنِ وهي خمسة ، وإلى ما زاده الكسائي وهو الوَزُوعُ ، فتصير سبعةً . وقد أتقَنْتُ هذا في البقرة عند قوله : { وَقُودُهَا } [ الآية : 24 ] .
(1/4934)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
قوله : { وَأَدْبَارَ } : قرأ نافع وابن كثير وحمزة " إِدْبار " بكسر الهمزة ، على أنه مصدرٌ قام مَقامَ ظرفِ الزمان كقولهم : " آتيك خُفوقَ النجمِ وخلافة الحجَّاج " . والمعنى : وقتَ إدبار الصلاة أي : انقضائِها وتمامِها . والباقون بالفتح جمعَ " دُبُر " وهو آخرُ الصلاة وعَقِبُها ، ومنه قولُ أوس :
4099 على دُبُرِ الشهرِ الحَرامِ فأَرْضُنا ... وما حولَها جَدْبٌ سِنونَ تَلْمَعُ
ولم يختلفوا في { وَإِدْبَارَ النجوم } [ الطور : 49 ] .
(1/4935)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41)
قوله : { واستمع } : هو استماعٌ على بابِه . وقيل : بمعنى الانتظارِ ، وهو بعيدٌ . فعلى الأولِ يجوزُ أَنْ يكونَ المفعولُ محذوفاً أي : استمعْ نداءَ المنادي أو نداءَ الكافر بالويلِ والثُّبور ، فعلى هذا يكون " يومَ ينادي " ظرفاً ل " استمتعْ " أي : استمعْ ذلك في يوم .
وقيل : استمعْ ما أقولُ لك . فعلى هذا يكون " يومَ يُنادي " . منصوباً ب " يَخْرجون " مقدَّراً مدلولاً عليه بقوله : { ذَلِكَ يَوْمُ الخروج } [ ق : 42 ] ، وعلى الثاني يكون " يومَ ينادي " مفعولاً به أي : انتظرْ ذلك اليومَ .
ووقف ابن كثير على " يُنادي " بالياء ، والباقون دونَها . ووجهُ إثباتِها أنه لا مُقْتضٍ لحذفِها ، ووجهُ حَذْفِها وَقْفاً اتِّباعُ الرسمِ ، وكان الوقفُ مَحَلَّ تخفيفٍ . وأمَّا " المنادي " فأثبتَ ابنُ كثير أيضاً ياءَه وصلاً ووقفاً ، ونافع وأبو عمروٍ بإثباتِها وصلاً وحَذْفِها وقفاً ، وباقي السبعةِ بحَذْفِها وَصْلاً ووقفاً . فمَنْ أثبت فلأنَّه الأصلُ ، ومَنْ حَذَفَ فلاتِّباع الرسمِ ، ومَنْ خَصَّ الوقفَ بالحذفِ فلأنَّه مَحَلُّ راحةٍ ومَحَلُّ تغييرٍ .
(1/4936)
يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)
قوله : { يَوْمَ يَسْمَعُونَ } : بدلٌ مِنْ " يومَ ينادي " و " بالحق " حالٌ من الصيحة أي : ملتسبةً بالحق ، أو من الفاعلِ أي : يَسْمعون مُلْتبسين بسماع حق .
قوله : { ذَلِكَ يَوْمُ الخروج } يجوز أَنْ يكونَ التقديرُ : ذلك الوقتُ أي : وقتُ النداءِ والسماع يومُ الخروجِ . ويجوز أَنْ يكونَ " ذلك " إشارةً إلى النداء ، ويكونُ قد اتُّسِع في الظرف فأُخْبِرَ به عن المصدر ، أو يُقَدَّرَ مضافٌ إلى ذلك النداءِ والاستماع : نداء يومِ الخروجِ واستماعِه .
(1/4937)
يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44)
قوله : { يَوْمَ تَشَقَّقُ } : " يوم " يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ " يوم " قبله . وقال أبو البقاء : " إنه أُبْدِل مِنْ " يوم " الأول " وفيه نظرٌ مِنْ حيث تَعَدُّدُ البدلِ والمبدلُ منه واحدٌ . وقد تقدَّم أن الزمخشريَّ منعه . ويجوزُ أَنْ يكونَ اليوم ظرفاً للمصير . وقيل : ظرفٌ للخروج . وقيل : منصوبٌ ب " يَخْرُجون " مُقَدَّرا . وتقدَّمَ الخلافُ في " يَشَّقَّقُ " في الفرقان . وقرأ زيد " تَتَشَقَّق " بفكِّ الإِدغام .
قوله : { سِرَاعاً } حالٌ من الضمير في " عنهم " ، والعاملُ فيها " تَشَقَّقُ " . وقيل : عاملُها هو العامل في " يومَ تَشَقَّقُ " المقدر أي : يَخْرُجون سِراعاً يوم تَشَقَّقُ .
قوله : { عَلَيْنَا } متعلق ب " يَسير " ففَصَل بمعمولِ الصفة بينها وبين موصوفِها ، ولا يَضُرُّ ذلك . ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ منه . لأنه في الأصلِ يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً . وقال الزمخشري : " التقديمُ للاختصاصِ ، أي : لا يتيسَّر ذلك إلاَّ على الله وحده " . وقد تقدَّم الخلافُ في ياء " وعيد " إثباتاً وحَذْفاً .
(1/4938)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1)
قوله : { ذَرْواً } : منصوبٌ على المصدرِ المؤكِّد ، العاملُ فيه فَرْعُه وهو اسمُ الفاعلِ . والمفعولُ محذوفٌ اقتصاراً؛ إذ لا نظيرَ لما يَذْرُوه هنا . وأدغم أبو عمروٍ وحمزةُ تاءَ " الذاريات " في ذال " ذَرْواً " .
(1/4939)
فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2)
قوله : { وَقْراً } : مفعولٌ به بالحاملات . والوِقْر بالكسر : اسمُ ما يُوْقَر أي : يُحْمَلُ . وقُرِىء " وَقْراً " بالفتح ، وذلك على تسمية المفعول بالمصدر . ويجوز أن يكونَ مصدراً على حالِه ، والعاملُ فيه معنى الفعلِ قبله؛ لأنَّ الحَمْلَ والوَقْرَ بمعنىً واحد ، وإن كان بينهما عمومٌ وخصوصٌ/ .
(1/4940)
فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3)
قوله : { يُسْراً } : يجوزُ أن يكونَ مصدراً مِنْ معنى ما قبلَه أي : جَرْياً يُسْراً ، وأَنْ تكونَ حالاً أي : ذات يُسْرٍ أو مَيْسَرة أو جُعِلَتْ نفسَ اليُسْرِ مبالغةً .
(1/4941)
فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4)
قوله : { أَمْراً } : يجوزُ أن يكونَ مفعولاً به ، وهو الظاهر ، وأَنْ يكون حالاً أي : مأمورَه ، وعلى هذا فيحتاج إلى حَذْف مفعولِ " المُقَسِّمات " . وقد يقال : لا غرضَ لتقديرِه كما في " الذَّارِيات " . وهل هذه أشياءُ متختلفةٌ فتكونُ الواوُ على بابِها من عطفِ المتغايراتِ ، فإنَّ الذارياتِ هي الرياحُ ، والحاملاتِ الفلكُ ، والجارياتِ الكواكبُ ، والمُقَسِّماتِ الملائكةُ . وقال الزمخشري : " ويجوزُ أَنْ يُراد الريحُ وحدَها لأنها تُنْشِىءُ السحابَ وتُقِلُّه وتُصَرِّفُه ، وتجري في الجوِّ جَرْياً سهلاً " . قلت : فعلى هذا يكونُ مِنْ عطفِ الصفاتِ ، والمرادُ واحدٌ كقولِه :
4100 يا لَهْفَ زَيَّابَةَ للحارثِ الصَّا ... بِحِ فالغانِمِ فالآيِبِ
وقولِ الآخر :
4101 إلى المَلِك القَرْمِ وابْنِ الهُمامِ ... ولَيْثِ الكتيبةِ في المُزْدَحَمْ
وهذا قَسَمٌ جوابُه قولُه : " إنما تُوْعدون " .
(1/4942)
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5)
و " ما " يجوزُ أَنْ تكونَ اسميةً ، وعائدُها محذوفٌ أي : تُوْعَدونه ، ومصدريةً فلا عائدَ على المشهور ، وحينئذٍ يُحتمل أَنْ يكونَ " تُوْعدون " مبنياً من الوَعْدِ ، وأَنْ يكونَ مبنيَّاً من الوعيد لأنه صالحٌ أَنْ يُقال : أَوْعَدْتُه فهو يُوْعَد ، ووَعَدْتُه فهو يُوعَد لا يختلفُ ، فالتقدير : إنَّ وَعْدَكم ، أو إنَّ وَعيدكم . ولا حاجةَ إلى قولِ مَنْ قالَ : إن قولَه : " لَصادِقٌ " وقع فيه اسمُ الفاعلِ موقع المصدرِ أي : لصِدْقٌ؛ لأنَّ لفظَ اسمِ الفاعل أَبْلَغُ إذ جُعِل الوعدُ أو الوعيدُ صادقاً مبالغةً ، وإن كان الوصفُ إنما يقوم بمَنْ يَعِدُ أو يُوْعِدُ .
(1/4943)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7)
قوله : { ذَاتِ الحبك } : العامَّةُ على " الحُبُك " بضمتين وهي الطرائقُ نحو : طرائق الرَّمْل والماءِ إذا صَفَقَتْه الريحُ ، وحُبُك الشَّعْر : آثارُ تَثَنِّيه وتَكَسُّرِه . قال زهير :
4102 مُكَلَِلٌ بأصولِ النجم تَنْسُجُه ... ريحُ حَريقٍ لضاحي مائِه حُبُكُ
والحُبُكُ : جمعٌ يُحتمل أَنْ يكونَ مفردُه " حَبيكة " كطريقةٍ وطُرُق أو حباكِ نحو : حِمار وحُمُر . قال الراجز :
4103 كأنَّما جَلَّلها الحُوَّاكُ ... طِنْفِسَةٌ في وَشْيِها حِباكُ
وأصلُ الحَبْكِ : إحكامُ الشيءِ وإتقانُه ، ومنه يقال للدِّرع : مَحْبوكة . وقيل : الحَبْكُ الشَّدُّ والتوثُّقُ . قال امرؤ القيس :
4104 قد غدا يَحْمِلُنِي في أَنْفِه ... لاحِقُ الإِطْلَيْنِ مَحْبوكٌ مُمَرّْ
وفي هذه اللفطةِ قراءاتٌ كثيرةٌ : فعن الحسن ستٌ : الحُبُك بالضم كالعامَّةِ ، الحُبْك بالضمِّ والسكون ، وتُروى عن ابن عباس وأبي عمروٍ ، الحِبِك بكسرهما ، الحِبْك بالكسر والسكون ، وهو تخفيف المكسور ، الحِبَك بالكسر والفتح ، الحِبُك بالكسر والضم . فهذه سِتٌّ أقلقُها الأخيرةُ؛ لأنَّ هذه الزِّنةَ مهملةٌ في أبنية العربِ ، قال ابنُ عطية وغيرُه : " هو من التداخُلِ " يعني : أن فيها لغتين : الكسرَ في الحاء والباء والضمَّ فيهما ، فأخذ هذا القارىءُ الكسرَ من لغةٍ والضمَّ مِنْ أخرى . واستبعدها الناسُ؛ لأن التداخُلَ إنما يكون في كلمتين . وخَرَّجها الشيخ على أن الحاءَ أُتْبِعَتْ لحركة التاءِ في " ذات " قال : " ولم يَعْتَدَّ باللام فاصلةً لأنها ساكنةٌ فهي حاجزٌ غيرُ حصينٍ " . وقد وافق الحسنَ على هذه القراءةِ أو مالك الغفاريُّ . وقرأ عكرمةُ بالضمِّ والفتح جمعَ " حُبْكَة " نحو : غُرْفة وغُرَف . وابن عباس وأبو مالك " الحَبَك " بفتحتين جمعُ " حَبَكة " كعَقَبة وعَقَب ، فهذه ثمانِ قراءات .
(1/4944)
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8)
قوله : { إِنَّكُمْ } : هذا جوابُ القسم .
(1/4945)
يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)
قوله : { يُؤْفَكُ عَنْهُ } : صفةٌ لقول . والضميرُ في " عنه " للقرآن ، أو للرسول ، أو للدِّين أو لِما تُوْعَدون أي : يُصْرَفُ عنه . وقيل : " عن " للسبب . والمأفوكُ عنه محذوفٌ ، والضميرُ في " عنه " على هذا ل " قولٍ مختلفٍ " أي : يُؤْفَكُ بسبب القولِ مَنْ أراد الإِسلام بأَنْ يقول/ : هو سحرٌ ، هو كِهانَةٌ . والعامَّةُ على بناء الفعلَيْن للمفعول . وقتادة وابن جبير " يُؤْفَكُ عنه مَنْ أَفَك " الأول للمفعول ، والثاني للفاعل أي : يُصْرَفُ عنه مَنْ صَرَف الناسَ عنه . وزيد بن علي يَأْفَكُ مبنياً للفاعل مِنْ أفك الشيء أي : يَصْرِف الناسَ عنه مَنْ هو مأفوك في نفسه . وعنه أيضاً : " يَأْفِكُ عنه مَنْ أَفَّك " بالتشديد أي : مَنْ هو أفَّاك في نفسِه . وقُرِىء " يُؤْفَنُ عنه مَنْ أُفِنَ " بالنون فيهما أي : يَحْرِمُه مَنْ حَرَمه ، مِنْ أَفِنَ الضَّرْعَ إذا نهكَه حَلْباً .
(1/4946)
قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10)
وقُرِىءَ " قَتَل " مبنياً للفاعل هو اللَّهُ تعالى : " الخَرَّاصين " مفعولُه .
(1/4947)
يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12)
قوله : { أَيَّانَ يَوْمُ الدين } : مبتدأٌ وخبرٌ . قيل : وهما ظرفان فكيف يقع أحدُ الظرفين في الآخر؟ وأُجيب : بأنه على حَذْفِ حَدَثٍ ، أي : أيَّان وقوعُ يومِ ، فأيَّان ظرفٌ للوقوع . وتقدَّم قراءة " إيَّان " بالكسر في الأعراف .
(1/4948)
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13)
قوله : { يَوْمَ هُمْ } : يجوز أَنْ يكونَ منصوباً بمضمرٍ أي : الجزاءُ كائنٌ يومَ هم . ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ " يومُ الدين " ، والفتحةُ للبناء على رأي مَنْ يُجيز بناءَ الظرفِ وإنْ أُضيفَ إلى جملةٍ اسميةٍ ، وعلى هذا فيكون حكايةً لمعنى كلامِهم قالوه على الاستهزاء ، ولو جاء على حكايةِ لفظِهم المتقدِّمِ لقيل : يومَ نحن على النار نُفْتَنُ . ويومَ منصوبٌ بالدين . وقيل : بمضمرٍ أي : يَحارون . وقيل : هو مفعولٌ ب أعني مقدراً . وعَدَّى " يُفْتَنون " ب على لأنه بمعنى يُخْتبرون . وقيل : على بمعنى في . وقيل " يومَ هم " خبرُ مبتدأ مضمر أي : هو يومَ هم . والفتحُ لِما تقدم ، ويؤيِّد ذلك قراءةُ ابن أبي عبلة والزعفراني " يومُ هم " بالرفع ، وكذلك يؤيِّد القولَ بالبدلِ . وتقدَّم الكلامُ في مثلِ هذا في غافر .
(1/4949)
ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
قوله : { ذُوقُواْ } : أي : يُقال لهم : ذُوقوا . و " هذا الذي كنتم " مبتدأٌ وخبر ، هذا هو الظاهرُ . وجَوَّز الزمخشريُّ أن يكونَ " هذا " بدلاً مِنْ " فِتْنتكم " لأنها بمعنى العذاب .
(1/4950)
آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)
قوله : { آخِذِينَ } : حالٌ من الضمير في قوله : " جناتٍ " . و " ما آتاهم " يعني من ما في الجنة فتكونُ حالاً حقيقية . وقيل : ما آتاهم مِنْ أوامِره ونواهيه في الدنيا ، فتكون حالاً محكيَّةً لاختلافِ الزمانين . وجعل الجارَّ هنا خبراً ، والصفةَ فضلةً ، وعَكَسَ هذا في قولِه : { إِنَّ المجرمين فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } [ الزخرف : 74 ] . وقيل : لأن الخبرَ مقصودُ الجملة . والغرضُ هناك الإِخبارُ عن تخليدِهم؛ لأنَّ المؤمِنَ قد يَدْخُلُ النارَ ، ولكن لا بُدَّ مِنْ خروجِه . وأمَّا آيةُ المتقين فجعل الظرفَ فيها خبراً لأَمْنِهم الخروجَ منها ، فجعل لذلك مَحَطَّ الفائدةِ لتحصُل لهم الطمأنينةُ فانتصبَتْ الصفةُ حالاً .
(1/4951)
كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)
قوله : { كَانُواْ قَلِيلاً } : فيه أوجهٌ؛ أحدها : أنَّ الكلامَ تَمَّ على " قليلاً " ، ولهذا وَقَفَ بعضُهم على " قليلاً " ليُؤاخيَ بها قولَه تعالى : { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } [ ص : 24 ] { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } [ سبأ : 13 ] ويَبْتدىء { مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ } . أي : ما يَهْجَعون من الليل ، وهذا لا يَظْهر من حيث المعنى ولا من حيث الصناعة : أمَّا الأول فلا بُدَّ أن يَهْجَعوا ولا يُتَصَوَّرُ نَفْيُ هجوعِهم . وأمَّا الصناعةُ فلأنَّ ما في حيِّز النفي لا يتقدَّم عليه عند البصريين ، هذا إنْ جَعَلْتَها نافيةً ، وإنْ جَعَلْتَها مصدريةً صار التقديرُ : من الليل هجوعُهم . ولا فائدةَ فيه لأنَّ غيرَهم من سائر الناس بهذه المَثابة .
الثاني : أَنْ تجعلَ " ما " مصدريةً في محلِّ رفع ب " قليلاً " . والتقدير : كانوا قليلاً هجوعُهم .
الثالث : أَنْ تجعلَ " ما " المصدريةَ بدلاً من اسمِ كان بدلَ اشتمال ، أي : كان هجوعُهم قليلاً ، و " من الليل " على هذين لا يتعلَّق ب " يَهْجَعون "؛ لأنَّ ما في حَيِّز المصدر لا يتقدَّم عليه على المشهورِ؛ وبعَضُ المانعين اغتفره في الظرفِ ، فيجوزُ هذا عنده ، والمانع يُقَدِّر فعلاً يدلُّ عليه " يَهْجَعون " أي : يهجعون من الليل .
الرابع : أن " ما " مزيدةٌ و " يَهْجَعون " خبرُ كان . والتقدير : كانوا يَهْجَعون من الليلِ هُجوعاً أو زمناً قليلاً؛ ف " قليلاً " نعتٌ لمصدرٍ أو ظرف . الخامس : أنها بمعنى الذي ، وعائدُها محذوفٌ تقديره : كانوا قليلاً من الليل الوقتَ الذي يَهْجَعونه ، وهذا فيه تكلُّفٌ .
(1/4952)
وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)
قوله : { وبالأسحار } : متعلقٌ ب " يَسْتَغْفرون " . والباءُ بمعنى " في " ، قُدِّمَ متعلَّقُ الخبرِ على المبتدأ لجواز تقديمِ العامل .
(1/4953)
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)
قوله : { وفي أَنفُسِكُمْ } : نَسقٌ على " في الأرض " فهو خبر عن " آياتٌ " أيضاً . والتقدير : وفي الأرض وفي أنفسكم آياتٌ . وقال أبو البقاء : " ومَنْ رفع بالظرفِ جَعَل ضميرَ الآيات في الظرف " يعني مَنْ يرفعُ الفاعلَ بالظرفِ مطلقاً/ أي : وإنْ لم يَعْتَمِدْ يَرْفَعُ بهذا الجارِّ فاعلاً هو ضمير " آياتٌ " . وجَوَّز بعضُهم أَنْ يتعلَّقَ ب " تُبْصِرُون " وهو فاسدٌ؛ لأنَّ الاستفهامَ والفاء يمنعان جوازَه . وقرأ قتادة " آيَةٌ " [ الذاريات : 20 ] بالإِفراد .
(1/4954)
وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22)
قوله { رِزْقُكُمْ } : أي : سببُ رزقِكم . وقرأ حميد وابن محيصن " رازِقُكم " اسمَ فاعل ، واللَّهُ تعالى مُتَعالٍ عن الجهة .
(1/4955)
فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
والضميرُ في " إنَّه لحقٌّ " : إمَّا للقرآنِ ، وإمَّا للدينِ ، وإمَّا لليوم في قولِه : { وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ } [ الذاريات : 6 ] { يَوْمَ هُم } [ الذاريات : 13 ] { يَوْمُ الدين } [ الذاريات : 12 ] وإمَّا للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم .
قوله { مِثْلَ مَا } الأخَوان وأبو بكر " مثلُ " بالرفع ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه خبرٌ ثانٍ مستقلٌّ كالأولِ . والثاني : أنه مع ما قبله خبرٌ واحدٌ نحو : هذا حُلْوٌ حامِضٌ ، نقلهما أبو البقاء . والثالث : أنَّه نعتٌ ل " حق " و " ما " مزيدةٌ على ثلاثةِ الأوجهِ . و " أنَّكم " مضافٌ إليه أي : لَحَقٌّ مثلُ نُطْقِكم . ولا يَضُرُّ تقديرُ إضافتِها لمعرفةٍ لأنها لا تتعرَّفُ بذلك لإِبهامِها .
والباقون بالنصبِ وفيه أوجهٌ ، أشهرُها : أنه نعتٌ ل " حَقٌّ " كما في القراءةِ الأولى ، وإنما بُنِي الاسم لإِضافتِه إلى غيرِ متمكنٍ ، كما بناه الآخرُ في قولِه :
4105 فتَداعَى مَنْخِراه بدَمٍ ... مثلَ ما أثمرَ حَمَّاضُ الجَبَلْ
بفتح " مثلَ " مع أنها نعتٌ ل " دم " وكما بُنِيَتْ " غيرَ " في قوله :
4106 لم يَمْنَعِ الشُّرْبَ منها غيرَ أَن نَطَقَتْ ... حمامةٌ في غُصونٍ ذاتِ أَوْقالِ
" غيرَ " فاعلُ " يَمْنع " فبناها على الفتح لإِضافتِها إلى " أنْ نَطَقَتْ " وقد تقدَّم في قراءةِ { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] بالفتحِ ما يُغْني عن تقريرِ مثل هذا .
الثاني : أنَّ " مثلَ " رُكِّب مع " ما " حتى صارا شيئاً واحداً . قال المازني : " ومثلُه : وَيْحَما وهَيَّما وأَيْنَما " وأنشد لحميد بن ثور :
4107 ألا هَيَّما مِمَّا لَقِيْتُ وهَيَّما ... ووَيْحاً لِمَنْ لم يَدْرِ ما هُنَّ وَيْحَما
قال : فلولا البناءُ لكان منوَّناً . وأنشد أيضاً :
4108 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فأكْرِمْ بنا أُمَّاً وأكْرِمْ بنا ابْنَما
وهذا الذي ذكرَه ذهب إليه بعضُ النَّحْويين ، وأَنْشد :
4109 أثورَ ما أَصِيْدُكم أم ثورَيْنْ ... أم هذه الجَمَّاءَ ذاتَ القرنَيْنْ
وأمَّا ما أنشدَه مِنْ قولِه : " وأكرِمْ بنا ابنَما " فليس هذا من الباب لأنَّ هذا " ابن " زِيْدَتْ عليه الميم . وإذا زِيْدَتْ عليه الميمُ جُعِلَتِ النونُ تابعةً للميم في الحركاتِ على الفصيح ، فتقول : هذا ابنمٌ ، ورأيت ابنَماً ، ومررت بابنِم ، فتُجْري حركاتِ الإِعراب على الميم وتَتْبَعُها النونُ . " وابنما " في البيت منصوبٌ على التمييز ، فالفتحُ لأجلِ النصبِ لا للبناءِ ، وليس هذه " ما " الزائدةَ ، بل الميمُ وحدَها زائدةٌ ، والألفُ بدلٌ من التنوين .
الثالث : أنَّه منصوبٌ على الظرفِ ، وهو قولُ الكوفيين ، ويجيزون " زيدٌ مثلَك " بالفتح . ونقله أبو البقاء عن أبي الحسن ، ولكن بعبارةٍ مُشْكِلةٍ فقال : " ويُقْرَأ بالفتح ، وفيه وجهان ، أحدُهما : هو مُعْرَبٌ . ثم في نصبِه أوجهٌ " . ثم قال : " أو على أنه مرفوعُ الموضعِ ، ولكنَّه فُتحَ كما فُتح الظرفُ في قوله :
(1/4956)
{ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] على قولِ الأخفَشِ " . ثم قال : " والوجه الثاني هو مبنيٌّ " . وقال أبو عبيد : " بعضُ العربِ يَجْعَلُ " مثلَ " نصباً أبداً فيقولون : هذا رجلٌ مثلَك " .
الرابع : أنه منصوب على إسقاطِ الجارِّ ، وهو كافُ التشبيهِ . وقال الفراء : " العربُ تَنْصِبُها إذا رُفِعَ بها الاسمُ ، يعني المبتدأ ، فيقولون : مثلَ مَنْ عبدُ الله؟ وعبدُ الله مثلَك ، وأنت مثلَه؛ لأنَّ الكافَ قد تكونُ داخلةً عليها فتُنْصَبُ إذا أَلْقَيْتَ الكافَ " . قلت : وفي هذا نظرٌ ، أيُّ حاجةٍ إلى تقدير دخولِ الكافِ و " مثْل " تفيدُ فائدتَها؟ وكأنه لمَّا رأى الكافَ قد دخلَتْ عليها في قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] قال ذلك .
الخامس : أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أي : لحَقٌّ حقاً مثلَ نُطْقِكم . السادس : أنه حالٌ من الضميرِ في " لَحَقٌّ " لأنه قد كَثُرَ الوصفُ بهذا المصدرِ ، حتى جَرَى مَجْرى الأوصافِ المشتقةِ ، والعاملُ فيها " حَقٌّ " . السابع : أنه حالٌ من نفس " حقٌّ " وإن كان نكرةً . وقد نَصَّ سيبويه في مواضع من كتابه على جوازِه ، وتابعه أبو عمرَ على ذلك .
و " ما " هذه في مثلِ هذا التركيبِ نحو قولِهم : " هذا حَقٌّ كما أنَّك ههنا " لا يجوز حَذْفُها فلا يُقال : " هذا حَقٌّ كأنَّك هنا " . نَصَّ على ذلك الخليل رحمه الله تعالى فإذا جعلْتَ " مثلَ " معربةً كانت " ما " مزيدةً و " أنكم " في محلِّ خفضٍ بالإِضافةِ كما تقدَّم ، وإذا جَعَلْتَها مبنيَّة : إمَّا للتركيب ، وإمَّا لإِضافتِها إلى غيرِ متمكِّنٍ جاز في " ما " هذه وجهان الزيادةُ وأَنْ تكونَ نكرةً موصوفةً/ كذا قال أبو البقاء . وفيه نظرٌ لعدم الوصفِ هنا . فإنْ قال : هو محذوفٌ فالأصلُ عَدَمُه . وأيضاً فنصُّوا على أن هذه الصفةَ لا تُحْذَفُ لإِبهامِ موصوفِها ، وأمَّا " أنَّكم تَنْطِقون " فيجوز أَنْ يكونَ مجروراً بالإِضافةِ إنْ كانَتْ " ما " مزيدةً ، وإنْ كانت نكرةً كان في موضعِ نصبٍ بإِضمارِ أعني أو رفعٍ بإضمار مبتدأ .
(1/4957)
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25)
قوله : { إِذْ دَخَلُواْ } : في العاملِ في " إذ " أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّه " حديثُ " أي : هل أتاك حديثُهم الواقعُ في وقت دخولِهم عليه . الثاني : أنه منصوبٌ بما في " ضَيْف " من معنى الفعل؛ لأنه في الأصلِ مصدرٌ ، ولذلك استوى فيه الواحدُ المذكرُ وغيره ، كأنه قيل : الذي أضافهم في وقتِ دخولِهم عليه . الثالث : أنَّه منصوبٌ ب " المُكْرَمين " إنْ أريد بإِكرامهِم أنَّ إبراهيمَ أكرمَهم بخدمتِه لهم . الرابع : أنه منصوبٌ بإضمارِ اذْكُر ، ولا يجوزُ نصبُه ب " أتاك " لاختلافِ الزمانَيْن .
وقرأ العامَّةُ " المُكْرَمين " بتخفيفِ الراءِ مِنْ أكرم . وعكرمة بالتشديد .
قوله : { سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ } : قد تقدَّم تحريرُ هذا في هود . وقال ابن عطية : " ويتجهُ أن يعملَ في " سَلاماً " " قالوا " على أَنْ يُجعل " سلاماً " في معنى قولاً ، ويكون المعنى حينئذٍ : أنهم قالوا تحية وقولاً معناه سلاماً . وهذا قولُ مجاهد " . قلت : ولو جُعِل التقدير أنَّهم قالوا هذا اللفظَ بعينِه لكان أَوْلى ، وتفسيرُ هذا اللفظِ هو التحيةُ المعهودةُ . وتقدَّم أيضاً خلافُ القرَّاءِ في " سلاماً " بالنسبة إلى فتحِ سِينه وكسرِها وإلى سكونِ لامِه وفتحِها .
والعامَّةُ على نصب " سلاماً " الأول ورفع الثاني ، وقُرئا مرفوعَيْن ، وقُرىء " سَلاماً قال : سِلْماً " بكسرِ سينِ الثاني ونصبِه ، ولا يَخْفَى توجيهُ ذلك كلِّه مِمَّا تقدَّمَ في هود .
قوله : { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } خبرُ مبتدأ مضمرٍ فقدَّروه : أنتم قومٌ ، ولم يَسْتحسِنْه بعضُهم؛ لأنَّ فيه عَدَمَ أُنْسٍ فمثلُه لا يقعُ من إبراهيم عليه السلام ، فالأَوْلَى أَنْ يُقَدَّر : هؤلاء قومٌ أو هم قومٌ ، وتكون مقالتُه هذه مع أهلِ بيتِه وخاصَّتِه لا لنفسِ الضيفِ؛ لأنَّ ذلك يُوْحِشُهم .
(1/4958)
فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26)
وقوله : { فَجَآءَ } : عطفٌ على " فراغَ " ، وتَسَبُّبُه عنه واضحٌ . والهمزةُ في " ألا تأكلون " للإِنكار عليهم في عَدَمِ أكلِهم ، أو للعَرْضِ أو للتحضيضِ .
(1/4959)
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)
قوله : { فِي صَرَّةٍ } : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الفاعل أي : كائنةً في صَرَّة . والصَّرَّة قيل : الصيحة . قال امرؤ القيس :
4110 فَأَلْحَقَنا بالهادياتِ ودونَه ... جَواحِرُها في صَرَّةٍ لم تَزَيَّلِ
قال الزمخشري : " مِنْ صَرَّ الجُنْدُبُ والبابُ والقلمُ . ومحلُّه النصبُ على الحالِ أي : فجاءَتْ صارَّةً " ، ويجوزُ أَنْ يكونَ متعلقاً ب " أَقْبَلَتْ " أي : أقبلَتْ في جماعةِ نسوةٍ كُنَّ معها . والصَّرَّةُ : الجماعةُ من النساء .
قوله : { فَصَكَّتْ } أي : لَطَمَتْ : واخْتُلف فيه ، فقيل : هو الضَّرْبُ باليد مبسوطةً . وقيل : بل ضَرْبُ الوجهِ بأطرافِ الأصابعِ فِعْلَ المتعجِّبِ ، وهي عادةُ النساءِ .
قوله : " عجوزٌ " : خبرٌ مبتدأ مضمرٍ أي : أنا عجوزٌ عقيمٌ فكيف أَلِدُ؟ تفسِّرها الآيةُ الأخرى .
(1/4960)
قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
قوله : { كَذَلِكَ } : منصوبٌ على المصدرِ ب " قال " الثانية أي : مثلَ ذلك القولِ الذي أخبرناك به قال ربُّك أي : إنه من جهةِ اللَّهِ فلا تَتَعجَّبي منه .
(1/4961)
مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34)
قوله : { مُّسَوَّمَةً } : فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنه منصوبٌ على النعتِ لحجارة . والثاني : أنَّه حالٌ من الضمير المستكنِّ في الجارِّ قبله . الثالث : أنه حالٌ مِنْ " حجارة " وحَسَّن ذلك كونُ النكرةِ وُصِفَتْ بالجارِّ بعدها .
قوله : { عِندَ رَبِّكَ } ظرفٌ ل " مُسَوَّمةً " أي : مُعْلَمَةً عنده .
(1/4962)
وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
قوله : { فِيهَآ آيَةً } : يجوز أن يعود الضمير على القرية أي : تَرَكْنا في القرية علامةً كالحجارةِ أو الماء المُنْتِنِ ، ويجوزُ أَنْ يعودَ على الإِهلاكةِ المفهومةِ/ من السِّياق .
(1/4963)
وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
قوله : { وَفِي موسى } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : وهو الظاهر أنه عطفٌ على قولِه : " فيها " بإعادةِ الجارِّ؛ لأن المعطوفَ عليه ضميرٌ مجرورٌ فيتعلَّقُ ب " تَرَكْنا " من حيث المعنى ، ويكونُ التقديرُ : وتَرَكْنا في قصةِ موسى آيةً . هذا معنىً واضحٌ . والثاني : أنه معطوفٌ على قولِه : { وَفِي الأرض آيَاتٌ } [ الذاريات : 20 ] أي : وفي الأرضِ وفي موسى آياتٌ للموقِنين ، قاله الزمخشري وابنُ عطية . قال الشيخُ : " وهذا بعيدٌ جداً يُنَزَّه القرآنُ عن مثلِه " . قلت : ووجهُ استبعادِه له : بُعْدُ ما بينهما ، وقد فعل أهلُ العلمِ هذا في أكثرَ من ذلك . الثالث : أنه متعلقٌ ب " جَعَلْنا " مقدرةً لدلالةِ " وتَرَكْنا " . قال الزمخشري : " أو على قولِه يعني أو يُعْطَفُ على قولِ وترَكْنا فيها آيةً على معنى : وجَعَلْنا في موسى آيةً كقوله :
4111 فَعَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال الشيخ : " ولا حاجةَ إلى إضمار " وجَعَلْنا " لأنه قد أمكن أَنْ يكونَ العامل في المجرور " وتَرَكْنا " . قلت : والزمخشريُّ إنما أراد الوجهَ الأولَ بدليلِ قوله : " وفي موسى معطوفٌ على " وفي الأرض " أو على قوله : " وتركْنا فيها " . وإنما قال : " على معنى " من جهةِ تفسيرِ المعنى لا الإِعراب ، وإنما أظهر الفعلَ تنبيهاً على مغايرة الفعلَيْن . يعني : أن هذا التركَ غيرُ ذاك التركِ ، ولذلك أبرزَه بمادةِ الجَعْلِ دون مادة التركِ لتظهرَ المخالفةُ .
قوله : { إِذْ أَرْسَلْنَاهُ } يجوز في هذا الظرفِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يكونَ منصوباً بآية على الوجهِ الأول أي : تركنا في قصة موسى علامةً في وقتِ إرْسالِنا إياه . والثاني : أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنَّه نعتٌ لآية أي : آيةً كائنةً في وقتِ إرْسالِنا . الثالث : أنه منصوبٌ ب " تَرَكْنا " .
قوله : { بِسُلْطَانٍ } يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بنفس الإِرسال ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ : إمَّا مِنْ موسى ، وإمَّا مِنْ ضميرِه أي : ملتبساً بسلطان ، وهي الحُجَّةُ .
(1/4964)
فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39)
قوله : { بِرُكْنِهِ } : حالٌ من فاعل " تَوَلَّى " .
قوله : { سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } " أو " هنا على بابِها من الإِبهام على السامعِ أو للشكِّ ، نَزَّل نفسَه مع أنَّه يَعْرِفُه نبياً حقاً منزلةَ الشَّاكِّ في أمرِه تَمْويهاً على قومِه . وقال أبو عبيدة : " أو بمعنى الواو " . قال : " لأنه قد قالهما ، قال تعالى : { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } [ الأعراف : 109 ] . وقال في موضع آخرَ : { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } [ الشعراء : 27 ] . وتجيْءُ " أو " بمعنى الواو كقولِه :
4112 أثَعْلَبَةَ الفوارِسَ أو رِياحا ... عَدَلْتَ بهم طُهَيَّةَ والخِشابا
وردَّ الناسُ عليه هذا وقالوا : لا ضرورةَ تَدْعُو إلى ذلك ، وأمَّا الآيتان فلا تَدُلاَّن على أنَّه قالهما معاً ، وإنما تفيدان أنه قالهما أعَمَّ مِنْ أَنْ يكونا معاً ، وهذه في وقت وهذه في آخرَ .
(1/4965)
فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40)
قوله : { وَجُنُودَهُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على مفعول " أَخَذْناه " وهو الظاهرُ ، وأَنْ يكونَ مفعولاً معه .
قوله : { وَهُوَ مُلِيمٌ } جملةٌ حاليةٌ ، فإن كانت حالاً من مفعول " نَبَذْناهم " فالواوُ لازمةٌ إذ ليسَ فيها ذِكْرٌ يعودُ على صاحب الحال ، وإن كانت حالاً من مفعول " أَخَذْناه " فالواوُ ليسَتْ واجبةٍ؛ إذ في الجملة ذِكْرٌ يعودُ عليه . وقد يُقال : إنَّ الضمير في " نَبَذْناهم " يعود على فرعون وعلى جنودِه ، فصار في الحال ذِكْرٌ يعودُ على بعض ما شَمَلَه الضميرُ الأول . وفيه نظرٌ؛ إذ يصيرُ نظيرَ قولِك : " جاء السلطانُ وجنوده فأكرمتُهم راكباً فرسَه " فتجعل " راكباً " حالاً من بعضِ ما اشتمل عليه ضميرُ " أكرمتُهم " .
(1/4966)
وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41)
قوله : { وَفِي عَادٍ ، وَفِي ثَمُودَ ، وَفِي موسى } : تقدَّم مثلُه .
(1/4967)
مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)
قوله : { إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } : هذه الجملةُ في موضع المفعول الثاني ل " تَذَرُ " كأنه قيل : ما تَتْرك من شيءٍ إلاَّ مجعولاً نحو : ما تركتُ زيداً إلاَّ عالماً . وأعرَبها الشيخُ حالاً وليس بظاهرٍ .
(1/4968)
فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44)
قوله : { الصاعقة } : هذه قراءةُ العامَّةِ . وقرأ الكسائي " الصَّعْقَة " ، والحسن " الصاقِعة " . وتقدَّم ذِكْرُ هذا كلِّه في البقرة .
قوله : { وَهُمْ يَنظُرُونَ } جملةٌ حاليةٌ من المفعول . و " ينظرون " قيل : من النظر . وقيل : من الانتظار أي : ينتظرون ما وُعِدوه من العذاب .
(1/4969)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
قوله : { وَقَوْمَ نُوحٍ } : قرأ الأخَوان وأبو عمرو بجرِّ الميم ، والباقون/ بنصبها . وأبو السَّمَّال وابن مقسم وأبو عمرو في روايةِ الأصمعيِّ " وقومُ " بالرفع . فأمَّا الخفضُ ففيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه معطوفٌ على " وفي الأرض " . الثاني : أنه معطوفٌ على " وفي موسى " الثالث : أنه معطوفٌ على " وفي عاد " . الرابع : أنه معطوفٌ على " وفي ثمودَ " ، وهذا هو الظاهرُ لقُرْبِه وبُعْدِ غيرِه . ولم يذكرْ الزمخشريُّ غيرَه فإنه قال : " وقُرِىء بالجرِّ على معنى " وفي قوم نوح " . ويُقَوِّيه قراءةُ عبد الله " وفي قوم نوح " . ولم يَذْكُرْ أبو البقاء غيرَ الوجهِ الأخيرِ لظهورِه .
وأمّا النصبُ ففيه ستةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ أي : وأهلَكْنا قومَ نوح؛ لأنَّ ما قبلَه يَدُلُّ عليه . الثاني : أنه منصوبٌ ب اذْكُرْ مقدراً ، ولم يَذْكُرْ الزمخشريُّ غيرَهما . الثالث : أنَّه منصوبٌ عطفاً على مفعول " فأَخَذْناه " . الرابع : أنه معطوفٌ على مفعول { فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم } وناسَبَ ذلك أنَّ قومَ نوح مُغْرقون من قبلُ . لكنْ يُشْكِلُ أنَّهم لم يَغْرَقوا في اليمِّ . وأصلُ العطفِ أَنْ يقتضيَ التشريكَ في المتعلَّقات . الخامس : أنَّه معطوفٌ على مفعولِ " فَأَخَذَتْهم الصاعقةُ " . وفيه إشكالٌ؛ لأنهم لم تأخُذْهم الصاعقةُ ، وإنما أُهْلكوا بالغَرَقِ . إلاَّ أَنْ يُرادَ بالصاعقةِ الداهيةُ والنازلةُ العظيمة من أيِّ نوع كانت ، فيَقْرُبُ ذلك . السادس : أنه معطوفٌ على محلِّ " وفي موسى " ، نقله أبو البقاء وهو ضعيفٌ .
وأما الرفعُ على الابتداءِ والخبرُ مقدَّرٌ أي : أهلَكْناهم . وقال أبو البقاء : " والخبرُ ما بعدَه " يعني مِنْ قولِه : إنهم كانوا قوماً فاسقين . ولا يجوز أَنْ يكونَ مرادُه قولَه : " من قبلُ "؛ إذ الظرفُ ناقصٌ فلا يُخبَرُ به .
(1/4970)
وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)
قوله : { والسمآء بَنَيْنَاهَا } : العامة على النصب على الاشتغالِ ، وكذلك قولُه : { والأرضَ فَرَشْناها } والتقديرُ : وبَنَيْنا السماءَ بَنَيْناها . وقال أبو البقاء : " أي : ورفَعْنا السماءَ " فقدَّر الناصبَ مِنْ غير لفظ الظاهر ، وهذا إنما يُصار إليه عند تعذُّرِ التقديرِ الموافقِ لفظاً نحو : زيداً مررت به ، وزيداً ضربْتُ غلامَه . وأمَّا في نحو " زيداً ضربتُه " فلا يُقَدَّر : إلاَّ ضربْتُ زيداً . وقرأ أبو السَّمَّال وابن مقسم برفعِهما على الابتداء ، والخبرُ ما بعدهما . والنصبُ أرجحُ لعطفِ جملة الاشتغال على جملةٍ فعلية قبلَها .
قوله : { بِأَيْدٍ } يجوز أَنْ يتعلقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ . وفيها وجهان ، أحدهما : أنَّها حالٌ من فاعل " بَنَيْناها " أي : ملتبسين بقوةٍ : والثاني : أنها حالٌ مِنْ مفعولِه أي : ملتبسةً بقوةٍ . ويجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ للسببِ أي : بسببِ قدرتِنا . ويجوزُ أَنْ تكون الباءُ مُعَدِّيَةً مجازاً ، على أن تجعلَ الأَيْدَ كالآلةِ المبنيِّ بها كقولك : بَنَيْتُ بيتَك بالآجُرِّ .
قوله : { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } يجوز أَنْ تكونَ الجملةُ حالاً مِنْ فاعل " بَنَيْناها " ، ويجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من مفعوله ، ومفعول " مُوْسِعون " محذوفٌ أي : موسِعون بناءَها . ويجوزُ أَنْ لا يُقَدَّر له مفعولٌ؛ لأنَّ معناه " لَقادِرون " ، مِنْ قولك : ما في وُسْعي كذا أي : ما في طاقتي وقوتي .
(1/4971)
وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48)
قوله : { فَنِعْمَ الماهدون } : المخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ لفهمِ المعنى أي : نحن كقوله : { نِعْمَ العبد } [ ص : 44 ] .
(1/4972)
وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49)
قوله : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب " خَلَقْنا " أي : خَلَقْنا مِنْ كلِّ شيء زوجَيْن ، وأَنْ يتعلَّق بمحذوف على أنه حالٌ مِنْ " زوجَيْن "؛ لأنه في الأصل صفةٌ له؛ إذ التقديرُ : خَلَقْنا زوجَيْن كائنين من كلِّ شيءٍ ، والأولُ أقوى في المعنى .
(1/4973)
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)
قوله : { كَذَلِكَ } : فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي : الأمرُ مثلُ ذلك . والإِشارةُ ب " ذلك " قال الزمخشريُّ : " إلى تكذيبهِم الرسولَ وتسميتِه ساحراً ومجنوناً " ثم فَسَّر ما أَجْمل بقولِه : " ما أَتى " . والثاني : أن الكاف في محلِّ نصبٍ نعتاً لمصدر محذوف ، قاله مكي ، ولم يُبَيِّنْ تقديرَه/ ولا يَصِحُّ أَنْ ينتصِبَ بما بعده لأجل " ما " النافية . وأمَّا المعنى فلا يمتنعُ ، ولذلك قال الزمخشري : " ولا يَصِحُّ أن تكون الكافُ منصوبةً ب " أتى " لأنَّ " ما " النافيةَ لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، ولو قيل : لم يأتِ لكان صحيحاً " يعني لو أتى في موضع " ما " ب " لم " لجازَ أن تنتصِبَ الكافُ ب " أتى " لأن المعنى يَسُوغ عليه . والتقدير : كَذَّبَتْ قريشٌ تكذيباً مثلَ تكذيب الأمم السابقة رسلَهم . ويَدُلُّ عليه قولُه : { مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ } الآية .
قوله : { إِلاَّ قَالُواْ } الجملةُ القوليةُ في محلِّ نصب على الحال من { الذين مِن قَبْلِهِمْ } ، و " من رسولٍ " فاعلُ " أتى " كأنه قيل : ما أتى الأوَّلين رسولٌ إلاَّ في حالِ قولهم : هو ساحرٌ . والضميرُ في " به " يعودُ على القولِ المدلولِ عليه ب " قالوا " أي : أتواصَى الأوَّلُوْن والآخرِون بهذا القولِ المتضمِّنِ لساحرٍ أو مجنونٍ ، والاستفهامُ للتعجب .
(1/4974)
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
قوله : { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } : متعلقٌ ب " خَلَقْتُ " . واخْتُلف في الجن والإِنس : هل المرادُ بهم العمومُ ، والمعنى : إلاَّ لأمْرِهم بالعبادة ، ولِيقِرُّوا بها؟ وهذا منقولٌ عن عليّ ، أو يكون المعنى : ليطيعونِ وينقادوا لقضائي ، فالمؤمنُ يفعل ذلك طَوْعاً والكافرُ كَرْهاً ، أو يكون المعنى : إلاَّ مُعَدِّين للعبادة . ثم منهم منْ يتأتَّى منه ذلك ، ومنهم مَنْ لا كقولك : هذا القلمُ بَرَيْتُه للكتابة ، ثم قد تكتب به وقد لا تكتب ، أو المرادُ بهم الخصوص . والمعنى : وما خلقتُ الجنَّ والإِنس المؤمنين . وقيل : الطائعين . والأولُ أحسن .
(1/4975)
مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)
قوله : { أَن يُطْعِمُونِ } : قيل : فيه حَذْفُ مضافٍ ، أي : يُطعموا خَلْقي . وقيل : المعنى أَنْ ينفعونِ ، فعبَّر ببعضِ وجوه الانتفاعات؛ لأنَّ عادةَ السادة أَنْ ينتفعوا بعبيدِهم ، واللَّهُ سبحانه وتعالى مُسْتَغْنٍ عن ذلك .
(1/4976)
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58)
قوله : { المتين } : العامَّةُ على رفعِه . وفيه أوجهٌ : إمَّا النعتُ للرزَّاق ، وإمَّا النعتُ ل " ذو " ، وإمَّا النعتُ لاسم " إنَّ " على الموضع ، وهو مذهبُ الجَرْميِّ والفراءِ وغيرِهما ، وإمَّا خبرٌ بعد خبرٍ ، وإمَّا خبرُ مبتدأ مضمرٍ . وعلى كل تقدير فهو تأكيدٌ لأن " ذو القوة " يُفيد فائدتَه . وقرأ ابن محيصن " الرازق " كما قرأ " وَفِي السمآء رازِقُكُمْ " كما تقدَّم . وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش " المتينِ " بالجر فقيل : صفة للقوة ، وإنما ذَكَّر وصفَها لكونِ تأنيثها غيرَ حقيقي . وقيل : لأنها في معنى الأَيْد . وقال ابن جني : " هو خفضٌ على الجوارِ كقولِهم : " هذا جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ " يعني أنه صفةٌ للمرفوع ، وإنما جُرَّ لَمَّا جاور مجروراً . وهذا مرجوحٌ لإِمكانِ غيرِه ، والجِوارُ لا يُصار إليه إلاَّ عند الحاجة .
(1/4977)
فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59)
قوله : { ذَنُوباً } : الذَّنوبُ في الأصل : الدَّلْوُ المَلأَى ماءً . وفي الحديث : " فأتى بذَنوبٍ من ماءٍ " فإنْ لم تكن مَلأَى فهو دَلْوٌ ، ثم عُبِّر به عن النصيب . قال علقمة :
4113 وفي كلِّ حَيٍّ قد خبَطْتُ بنِعْمَةٍ ... فحُقَّ لشاسٍ مِنْ نَداكَ ذَنوبُ
ويُجْمع في القلةِ على : أَذْنِبة ، وفي الكثرةِ على : ذَنائب . وقال المَلِكُ لَمَّا أُنْشد هذا البيتَ : نعم ، وأَذْنِبَة . وقال الزمخشري : " الذَّنوبُ : الدَّلْوُ العظيمةُ . وهذا تمثيلٌ ، أصلُه في السُّقاةِ يَقْتسمون الماءَ ، فيكونُ لهذا ذَنُوب ، ولهذا ذَنوب . قال الراجز :
4114 لنا ذَنوبٌ ولكم ذَنُوبُ ... فإنْ أَبَيْتُمْ فلنا القَليبُ
وقال الراغبُ : " الذَّنوبُ : الدَّلْوُ الذي له ذَنَبٌ " انتهى . فراعى الاشتقاقَ ، والذَّنُوب أيضاً : الفرسُ الطويلُ الذَّنَبِ وهو صفةٌ على فَعُوْل ، والذَّنُوب : لحمُ أسفلِ المَتْن . ويُقال : يومٌ ذَنوبٌ أي : طويلُ الشَّرِّ استعارةً من ذلك .
(1/4978)
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
قوله : { الذي يُوعَدُونَ } : حُذِفَ العائدُ لاستكمالِ شروطِه أي : يُوْعَدُونه/ .
(1/4979)
وَالطُّورِ (1)
قوله : { والطور } : وما بعدَه أقسامٌ جوابُها : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } [ الطور : 7 ] والواواتُ التي بعد الأولى عواطفُ لا حروفُ قسمٍ لِما قَدَّمْتُه في أولِ هذا الموضوعِ عن الخليل . ونَكَّر الكتاب تفخيماً وتعظيماً .
(1/4980)
فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3)
قوله : { فِي رَقٍّ } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بِمَسْطُور أي : مكتوبٍ في رَقّ . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ نعتاً آخرَ ل " كتابٍ " وفيه نظرٌ؛ لأنه يُشبه تهيئةَ العاملِ للعملِ وقَطْعَه عنه . والرَقُّ بالفتح : الجِلْدُ الرقيقُ يُكتب فيه . وقال الراغب : " الرَّقُّ ما يُكتب فيه شِبْهُ كاغَد " انتهى . فهو أعمُّ مِنْ كونِه جِلْداً وغيرَه . ويقال فيه " رِقٌّ " بالكسر ، فأمَّا المِلْكُ للعبيد فلا يُقال إلاَّ " رِقٌّ " بالكسر . وقال الزمخشري : " والرَّقُّ : الصحيفةُ . وقيل : الجِلْدُ الذي تُكتب فيه [ الأعمال ] " . انتهى . وقد غَلَّط بعضُهم مَنْ يقول : كتبْتُ في الرِّق بالكسر ، وليس بغلطٍ لثبوتِه لغةً بالكسر . وقد قرأ أبو السَّمَّال " في رِقّ " بالكسر .
(1/4981)
وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6)
قوله : { المسجور } : قيل : هو من الأضدادِ . ويقال : بحر مَسْجور أي : مملوء ، وبحرٌ مَسْجور أي : فارغٌ . ورَوى ذو الرمة الشاعرُ عن ابنِ عباس أنه قال : خرَجَتْ أمَةٌ لتستقيَ فقالت : إن الحوضَ مَسْجور ، أي فارغ . ويؤيِّد هذا أنَّ البحارَ يذهبُ ماؤُها يومَ القيامة . وقيل : المسجورُ المَمْسوك ، ومنه ساجورُ الكلب لأنه يَمْسِكُه ويَحْبسه .
(1/4982)
إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7)
وقرأ زيدُ بن علي " إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ وَاقِعٌ " بغيرِ لامٍ .
(1/4983)
مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)
قوله : { مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } : يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ خبراً ثانياً ، وأَنْ تكونَ صفةً ل " واقعٌ " أي : واقعٌ غيرُ مدفوعٍ ، قاله أبو البقاء . و " مِنْ دافِع " يجوزُ أَنْ يكونَ فاعلاً ، وأَنْ يكونَ مبتدأً ، و " مِنْ " مزيدةٌ على الوجهين .
(1/4984)
يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9)
قوله : { يَوْمَ تَمُورُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ فيه " واقعٌ " أي : يقعُ في ذلك اليومِ ، وعلى هذا فتكونُ الجملةُ المنفيةُ معترضةً بين العاملِ ومعمولِه . ويجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ فيه " دافعٌ " قاله الحوفي ، وأبو البقاء ومنعه مكي . قال الشيخ : " ولم يذكرْ دليلَ المنع " وقلت : قد ذَكَرَ دليلَ المنع في " الكشف " إلاَّ أنه ربما يكونُ غَلَطاً عليه ، فإنه وهمٌ وانا أذكُر لك عبارتَه . قال رحمه الله : " العامل فيه " واقعٌ " أي : إنَّ عذاب ربك لَواقعٌ في يومِ تمورُ السماءُ مَوْراً . ولا يَعْمل فيه " دافعٌ " لأنَّ المنفيَّ لا يعمل فيما قبل النافي . لا تقول : " طعامَك ما زيدٌ آكلاً " ، رفعْتَ " آكلاً " أو نَصَبْتَه أو أَدْخَلْتَ عليه الباءَ . فإن رَفَعْتَ الطعامَ بالابتداءِ وأوقَعْتَ " آكلاً " على هاءٍ جازَ ، وما بعد الطعام خبرٌ " انتهى . وهذا كلامٌ صحيح في نفسِه ، إلاَّ أنه ليس في الآية شيءٌ من ذلك؛ لأنَّ العاملَ وهو " دافعٌ " والمعمولُ وهو " يومَ " ، كلاهما بعد النافي وفي حَيِّزه . وقوله : " وأوقَعْتَ " آكلاً " على هاء " أي على ضميرٍ يعود على الطعامِ ، فتقول : طعامَك ما زيدٌ آكلَه .
وقد يقال : إنَّ وجهَ المنعِ مِنْ ذلك خَوْفُ الوهَمِ : أنه يُفْهَمُ أن أحداً يدفعُ العذاب في غيرِ ذلك اليومِ ، والفرضُ أنَّ عذابَ اللَّهِ لا يُدفع في كل وقت . وهذا أمرٌ مناسِبٌ قد ذُكِر مثلَه كثيرٌ؛ ولذلك مَنَعَ بعضُهم أن ينتصِبَ { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ } بقولِه : { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ آل عمران : 29-30 ] لئلا يُفْهَمَ منه ما لا يَليق ، وهو أبعدُ من هذا في الوهمِ بكثيرٍ . وقال أبو البقاء : " وقيل : يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً لِما دَلَّ عليه " فوَيْلٌ " . انتهى وهو بعيد .
والمَوْرُ : الاضطرابُ والحركةُ يقال : مار الشيءُ أي : ذهب وجاء . وقال الأخفش وأبو عبيدة : تَكَفَّأ . وأنشد للأعشى :
4115 كأن مِشْيتَها مِنْ بيتِ جارتِها ... مَوْرُ السَّحابةِ لا رَيْثٌ ولا عَجَلُ
وقال الزمخشري : " وقيل هو تحرُّكٌ في تموُّج ، وهو الشيءُ يتردَّدُ في عَرْضٍ كالداغِصة " . قلت : الداغِصَةُ : الجِلْدَةُ التي فوق قُفْل الرُّكْبةِ . وقال الراغب : " المَوْرُ : الجريان السريعُ . ومار الدمُ على وجهِه . والمُوْرُ بالضم : الترابُ المتردِّدُ به الريحُ " . وأكَّد بالمصدَرَيْن رفعاً للمجازِ أي : هذان الجُرْمان العظيمان مع كَثافتهما يقعُ ذلك منهما حقيقةً .
(1/4985)
فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11)
قوله : { يَوْمَئِذٍ } : منصوبٌ ب " وَيْل " . والخبرُ " للمكذِّبين " . والفاءُ في " فوَيْلٌ " قال مكي : " جوابُ الجملةِ المتقدمة . وحَسُن ذلك لأن في الكلام معنى الشرطِ؛ لأنَّ المعنى : إذا كان ما ذُكِر فَوَيْلٌ " .
(1/4986)
يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13)
قوله : { يَوْمَ يُدَعُّونَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ ظرفاً ل " يُقال " المقدرةِ مع قولِه : " هذه النارُ " أي : يقال لهم هذه النارُ يوم يُدَعُّون . ويجوز أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ قولِه " يومَ تمور " أو مِنْ " يومئذٍ " قبلَه . والعامَّةُ على/ فتح الدال وتشديد العين مِنْ دَعَّه يَدُعُّه أي : دفعه في صدرهِ بعنفٍ وشدةٍ . قال الراغب : " وأصلُه أَنْ يُقالَ للعاثر : دَعْ دَعْ ، كما يقال له : لعَا " وهذا بعيدٌ من معنى هذه اللفظةِ .
وقرأ علي والسلمي وأبو رجاء وزيد بن علي بسكونِ الدالِ وتخفيفِ العينِ مفتوحةٍ من الدعاء أي : يُدْعَوْن إليها فيقال لهم : هلمُّوا فادْخُلوها . و " هذه النارُ " جملةٌ منصوبةٌ بقولٍ مضمرٍ أي : تقولُ لهم الخزنة : هذه النارُ .
(1/4987)
أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15)
قوله : { أَفَسِحْرٌ } : خبرٌ مقدمٌ . و " هذا " مبتدأٌ مؤخرٌ . ودَخَلَتِ الفاءُ . قال الزمخشري : " يعني كنتمْ تقولون للوحي : هذا سحرٌ ، فسحر هذا ، يريد : أهذا المصداقُ أيضاً سِحْرٌ ، ودخَلَت الفاءُ لهذا المعنى " .
(1/4988)
اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
قوله : { سَوَآءٌ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه خبرٌ مبتدأ محذوفٍ أي : صبرُكم وتَرْكُه سواءٌ ، قاله أبو البقاء . والثاني : أنه مبتدأٌ ، والخبرُ محذوفٌ أي : سواءٌ الصبرُ والجَزَعُ ، قاله الشيخ : والأولُ أحسنُ لأنَّ جَعْلَ النكرةِ خبراً أَوْلَى مِنْ جَعْلِها مبتدأً وجَعلِ المعرفةِ خبراً . ونحا الزمخشريُّ مَنْحَى الوجهِ الثاني فقال : " سواء خبرُه محذوفٌ أي : سواءٌ عليكم الأمران : الصبرُ وعَدَمُه " .
(1/4989)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17)
قوله : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ } : يجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً ، أخبر تعالى بذلك بشارةً ، ويجوزُ أَنْ يكونَ من جملة المقول للكفار زيادةً في غَمِّهم وتَحَسُّرهم .
(1/4990)
فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18)
قوله : { فَاكِهِينَ } : هذه قراءةُ العامَّةِ ، نُصِبَ على الحال ، والخبرُ الظرفُ . وصاحبُ الحالِ الضميرُ المستترُ في الظرف . وقرأ خالد " فاكهون " بالرفع ، فيجوزُ أن يكونَ الظرفُ لَغْواً متعلقاً بالخبر ، ويجوزُ أن يكونَ خبراً آخر عند مَنْ يُجيز تَعْدادَ الخبرِ . وقُرىء " فَكِهين " مقصوراً . وسيأتي أنه قَرَأ به في المطففين في المتواتر حفصٌ عن عاصم .
قوله : { بِمَآ آتَاهُمْ } يجوزُ أن تكونَ الباء على أصلها ، وتكونَ " ما " حينئذٍ واقعةً على الفواكه التي في الجنة أي : مُتَلَذِّذين بفاكهة الجنة . ويجوز أن تكونَ بمعنى " في " أي : فيما آتاهم من الثمارِ وغيرِ ذلك . ويجوزُ أَنْ تكونَ " ما " مصدريةً أيضاً .
قوله : { وَوَقَاهُمْ } يجوزُ فيه أوجهٌ ، أظهرها : أنَّه معطوفٌ على الصلة أي : فَكهين بإيتائِهم ربُّهم وبوقايتِه لهم عذابَ الجحيم . والثاني : أنَّ الجملةَ حالٌ ، فتكونُ " قد " مقدرةً عند مَنْ يشترطُ اقترانَها بالماضي الواقعِ حالاً . والثالث : أَنْ يكونَ معطوفاً على " في جنات " ، قاله الزمخشريُّ ، يعني فيكونُ مُخْبَراً به عن المتقين أيضاً . والعامَّةُ على تخفيفِ القاف من الوِقاية . وأبو حيوة بتشديدها .
(1/4991)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19)
قوله : { كُلُواْ } : على إضمارِ القولِ كقوله : " هذه النار " وشَتَّان ما بين القَوْلين .
قوله : { هَنِيئَاً } قد تقدَّم القولُ فيه وفي " مريئاً " مُشْبَعاً في النساء . وقال الزمخشري هنا : " يُقال لهم : كُلوا واشربوا أَكْلاً وشُرْباً هنيئاً ، أو طعاماً وشَراباً هَنيئاً ، وهو الذي لا تَنْغيصَ فيه . ويجوز أَنْ يكونَ مثلُه في قوله :
4116 هَنِيئاً مَرِيئاً غيرَ داءٍ مُخامِرٍ ... لِعَزَّةَ من أعراضِنا ما اسْتَحلَّتِ
أعني صفةً اسْتُعْمِلَتْ استعمالَ المصدرِ القائم مقامَ الفعلِ مرتفعاً به " ما استحلَّت " كما يرتفع بالفعلِ كأنه قيل : هَنَأ عَزَّةَ المُسْتَحَلُّ من أعراضنا ، وكذلك معنى " هنيئاً " هنا : هَنَأَكم الأكلُ والشربُ ، أو هَنَأَكم ما كنتم تعملون ، أي : جزاءُ ما كنتم تعملون ، والباء مزيدةٌ كما في { وكفى بالله } [ النساء : 45 ] والباءُ متعلقةٌ ب " كلوا واشربوا " إذا جَعَلْتَ الفاعلَ الأكلَ والشربَ " . قلت : وهذا مِنْ محاسنِ كلامِه .
قال الشيخ : " أمَّا تجويزُه زيادةَ الباءِ فليسَتْ بمقيسةٍ في الفاعل إلاَّ في فاعلِ كفى على خلافٍ فيها ، فتجويزُها هنا لا يَسُوغُ . وأمَّا قولُه : إنها تتعلَّقُ ب " كُلوا واشربوا " فلا يَصِحُّ إلاَّ على الإِعمال فهي تتعلَّقُ بأحدهما " . انتى وهذا قريبٌ .
(1/4992)
مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
قوله : { مُتَّكِئِينَ } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه حالٌ من فاعلِ " كُلوا " الثاني : أنه حالٌ مِنْ مفعولِ " آتاهم " . الثالث : أنَّه حالٌ من مفعولِ " وَقَاهم " . الرابع : أنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في الظرف . الخامس : أنه حالٌ من الضمير/ في " فاكهين " وأحسنُها أن يكونَ حالاً من ضميرِ الظرفِ لكونِه عمدةً . و " على سُرُر " متعلقٌ بمتكئين ، وقراءةُ العامَّةِ بضم الراءِ الأولى . وأبو السَّمَّال بفتحِها . وقد تقدَّم أنها لغةٌ لكَلْب في المضعَّف يَفِرُّون من توالي ضمتين في المضعَّفِ . وقرأ عكرمة " بحورِ عينٍ " بإضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه على التأويل المشهور .
(1/4993)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)
قوله : { والذين آمَنُواْ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه مبتدأٌ ، والخبرُ الجملةُ من قولِه : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } والذُّرِّيَّةُ هنا تَصْدُق على الآباء وعلى الأبناء أي : إنَّ المؤمنَ إذا كان عملُه أكبرَ أُلْحِقَ به مَنْ دونَه في العمل ، ابناً كان أو أباً ، وهو منقولٌ عن ابن عباس وغيرِه . والثاني : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ . قال أبو البقاء : " على تقدير وأكرَمْنا الذين آمنوا " . قلت : فيجوزُ أَنْ يريدَ أنه من باب الاشتغالِ وأنَّ قولَه : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } مُفَسِّر لذلك الفعلِ من حيث المعنى ، وأَنْ يريدَ أنه مضمرٌ لدلالةِ السياقِ عليه ، فلا تكونُ المسألةُ من الاشتغالِ في شيء .
والثالث : أنه مجرورٌ عطفاً على " حورٍ عينٍ " . قال الزمخشري : " والذين آمنوا معطوفٌ على " حورٍ عينٍ " أي : قَرَنَّاهم بالحورِ وبالذين آمنوا أي : بالرُّفَقاءِ والجُلَساءِ منهم ، كقوله : { إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } [ الحجر : 47 ] فيتمتَّعون تارةً بملاعبةِ الحُور ، وتارةً بمؤانسةِ الإِخوانِ " . ثم قال الزمخشري : " ثم قال تعالى : { بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } أي : بسببِ إيمانٍ عظيمٍ رفيعِ المحلِّ وهو إيمانُ الآباءِ أَلْحَقْنا بدَرَجَتِهم ذرِّيَّتَهم ، وإنْ كانوا لا يَسْتَأهِلُونها تَفَضُّلاً عليهم " .
قال الشيخ : " ولا يتخيَّلُ أحدٌ أنَّ " والذين آمنوا " معطوفٌ على " بحورٍ عينٍ " غيرُ هذا الرجلِ ، وهو تخيُّلُ أعجميٍّ مُخالفٍ لِفَهْمِ العربيِّ القُحِّ ابنِ عباسٍ وغيرِه " . قلت : أمَّا ما ذكره أبو القاسم من المعنى فلا شكَّ في حُسْنِه ونَضارَتِه ، وليس في كلامِ العربيِّ القُحِّ ما يَدْفَعُه ، بل لو عُرِض على ابنِ عباسٍ وغيرِه لأَعْجبهم . وأيُّ مانعٍ معنوي أو صناعي يمنعُه؟ .
وقوله : { واتبعتهم } يجوزُ أَنْ يكونَ عطفاً على الصلةِ ، ويكونَ " والذين " مبتدأً ، ويتعلقَ " بإيمان " بالاتِّباع بمعنى : أنَّ اللَّهَ تعالى يُلْحق الأولادَ الصغارَ ، وإن لم يَبْلغوا الإِيمانَ ، بأحكام الآباءِ المؤمنين . وهذا المعنى منقولٌ عن ابنِ عباس والضحاك . ويجوزُ أَنْ يكونَ معترضاً بين المبتدأ والخبر ، قاله الزمخشري . ويجوزُ أَنْ يتعلَّق " بإيمان " بألحَقْنا كما تقدَّم . فإنْ قيل : قولُه : " اتَّبَعتْهم ذُرِّيَّتَهم " يفيد فائدةَ قولِه : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } . فالجوابُ أنَّ قولَه : " أَلْحَقْنا بهم " أي : في الدرجات والاتِّباعُ إنما هو في حُكْمِ الإِيمان ، وإن لم يَبْلُغوه كما تقدَّم . وقرأ أبو عمرو و " وأَتْبَعْناهم " بإسناد الفعل إلى المتكلمٍ المعظِّمِ نفسَه . والباقون " واتَّبَعَتْهم " بإسنادِ الفعلِ إلى الذرِّيَّة وإلحاقِ تاء التأنيث . وقد تَقَدَّم الخلافُ في إفرادِ " ذُرِّيَّتهم " وجمعِه في سورة الأعرافِ محرراً بحمد الله تعالى .
قوله : { أَلَتْنَاهُمْ } قرأ ابن كثير " أَلِتْناهم " بكسر اللام ، والباقون بفتحِها . فأمَّا الأولى فَمِنْ أَلِتَ يَأْلَتُ بكسرِ العينِ في الماضي وفتحِها في المضارع كعَلِمَ يَعْلَمُ .
(1/4994)
وأمَّا الثانيةُ فتحتمل أَنْ تكونَ مِنْ أَلَتَ يَأْلِتُ كضَربَ يَضْرِبُ ، وأَنْ تَكونَ مِنْ أَلات يُليت كأَماتَ يُميت ، فَأَلَتْناهم كأَمَتْناهم . وقرأ ابن هرمز " آلَتْناهم " بألفٍ بعد الهمزة ، على وزنِ أَفْعَلْناهم . يقال : آلَتَ يُؤْلِتُ كآمَنَ يُؤْمِنُ . وعبد الله وأُبَيٌّ والأعمش وطلحة ، وتُرْوى عن ابنِ كثير " لِتْناهم " بكسر اللام كبِعْناهم يُقال : لاتَه يَليته ، كباعه يَبيعه . /
وقرأ طلحة والأعمش أيضاً " لَتْناهم " بفتح اللام . قال سهل : " لا يجوز فتحُ اللامِ مِنْ غير ألفٍ بحالٍ " ولذلك أَنْكر " آلَتْناهم " بالمدِّ : وقال : " لا يَدُلُّ عليها لغةٌ ولا تفسيرٌ " . وليس كما زعم؛ بل نَقَلَ أهلُ اللغةِ : آلَتَ يُؤْلِتُ . وقُرِىء " وَلَتْناهم " بالواو ك " وَعَدْناهم " نَقَلها هارون . قال ابن خالويه : " فيكونُ هذا الحرفُ مِنْ لاتَ يَليت ، ووَلَتَ يَلِتَ ، وأَلِتَ يَأْلَت ، وأَلَت ، وأَلات يُليت . وكلُّها بمعنى نَقَص . ويقال : أَلَتَ بمعنى غَلَّظ . وقام رجلٌ إلى عمر يَعِظُه فقال له رجل : لا تَأْلِتْ أميرَ المؤمنين أي : لا تُغْلِظْ عليه " . قلت : ويجوزُ أَنْ يكونَ هذا الأثرُ على حالِه ، والمعنى : لا تُنْقِصْ أميرَ المؤمنين حَقَّه ، لأنه إذا أَغْلَظَ له القولَ نَقَصَه حَقَّه .
قوله : { مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } " مِنْ شيءٍ " مفعولٌ ثانٍ ل " أَلَتْناهم " و " مِنْ " مزيدةٌ فيه . والأُولى في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ " شيء " لأنَّها في الأصلِ صفةٌ له ، فلَمَّا قُدِّمَتْ نُصِبَتْ حالاً . وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ يتعلَّقَ ب " أَلَتْناهم " وليس بظاهرٍ . وفي الضمير في " أَلَتْناهم " وجهان ، أظهرهما : أنَّه عائدٌ على المؤمنين . والثاني : أنَّه عائد على أبنائهم . قيل : ويُقَوِّيه قولُه : { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } .
(1/4995)
يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23)
قوله : { يَتَنَازَعُونَ } : في موضع نصبٍ على الحال مِنْ مفعول " أَمَدَدْناهم " ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً . وتقدَّم الخلافُ في قولِه : { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا } في البقرة . والجملةُ في موضع نصبٍ صفةً ل " كأس " وقوله : " فيها " أي : في شُرْبِها .
(1/4996)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24)
والجملة مِنْ قولِه { كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } صفةٌ ثانية لغِلمان .
(1/4997)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25)
قوله : { يَتَسَآءَلُونَ } : جملةٌ حاليةٌ مِنْ " بعضُهم " ومعنى يتنازَعون : أي يتعاطَوْنها بتجاذُبٍ لأنه كمالُ اللذة قال :
4117 نازَعْتُه طَيِّبَ الراحِ الشَّمولِ وقد ... صاح الدَّجاجُ وحانَتْ وَقْعَةُ السَّاري
(1/4998)
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27)
قوله : { وَوَقَانَا } : العامَّةُ على التخفيفِ ، وأبو حيوةَ بالتشديد وقد تقدَّم . والسَّمُومُ في الأصل : الريحُ الحارةُ التي تَتَخَلَّلُ المَسامَّ ، والجمع سَمائِم . وسُمَّ يومُنا أي : اشتدَّ حَرُّه . وقال ثعلب : " السَّمومُ شدَّةُ الحرِّ أو شدَّةُ البردِ في النهار " . وقال أبو عبيدة : " السَّمومُ بالنهار ، وقد تكون بالليلِ ، والحَرور بالليل ، وقد تكون بالنهار ، وقد تُستعمل السَّموم في لَفْح البردِ ، وهو في لَفْحِ الحرِّ والشمسِ أكثرُ " . وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك في سورة فاطر .
(1/4999)
إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
قوله : { إِنَّهُ هُوَ البر } : قرأ نافع والكسائي بفتح الهمزة على التعليل ، أي : لأنه . والباقون بالكسرِ على الاستئنافِ الذي فيه معنى العلةِ فيتحدُ معنى القراءتين .
(1/5000)
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29)
قوله : { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه مُقْسَمٌ به متوسطٌ بين اسم " ما " وخبرها ، ويكونُ الجوابُ حينئذٍ محذوفاً لدلالة هذا المذكورِ عليه ، التقدير : ونعمةِ ربِّك ما أنت بكاهنٍ ولا مجنونٍ . الثاني : أنَّ الباءَ في موضع نصبٍ على الحالِ ، والعامل فيها " بكاهن " أو " مجنون " والتقدير : ما أنت كاهناً ولا مجنوناً ملتبساً بنعمةِ ربِّك ، قاله أبو البقاء ، وعلى هذا فهي حالٌ لازمةٌ؛ لأنه عليه السلام لا يُفارِقْ هذه الحال . الثالث : أنَّ الباءَ متعلقةٌ بما دَلَّ عليه الكلامُ ، وهو اعتراضٌ بين اسم " ما " وخبرِها . والتقدير : ما أنت في حالِ إذكارِك بنعمةِ ربك بكاهنٍ ولا مجنون ، قاله الحوفي . ويظهر وجهٌ رابعٌ : وهو أَنْ تكونَ الباء سببيةً ، وتتعلَّقُ حينئذٍ بمضمون الجملةِ المنفيةِ ، وهذا هو مقصودُ الآيةِ الكريمةِ . والمعنى : انتفى عنك الكهانةُ والجنونُ بسبب نعمةِ اللَّهِ عليك ، كما تقول : ما أنا بمُعْسِر بحمد الله وغَنائه .
(1/5001)
أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30)
قوله : { أَمْ يَقُولُونَ } : قال الثعلبي : " قال الخليل : كلُّ ما في سورة الطور/ مِنْ " أم " فاستفهامٌ وليس بعطفٍ " . وقال أبو البقاء : " أم في هذه الآياتِ منقطعةٌ " . قلت : وتقدَّم لك الخلافُ في المنقطعةِ : هل تتقدَّرُ ب بل وحدَها ، أو ب بل والهمزةِ ، أو بالهمزةِ وحدَها ، والصحيحُ الثاني . وقال مجاهد في قوله : " أم تأمرهم " تقديره : بل تأمرهم . وقرأ { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونُ } بدلَ " أم هم " .
قوله : { نَّتَرَبَّصُ } في موضعِ رفعٍ صفةً لشاعر . والعامَّةُ على " نتربَّصُ " بإسنادِ الفعل لجماعة المتكلمين " ريبَ " بالنصب . وزيدُ بن علي " يتربَّص " بالياء مِنْ تحتُ على البناء للمفعولِ " ريبُ " بالرفع . وريبُ المنونِ : حوادثُ الدهرِ وتقلُّباتُ الزمانِ لأنها لا تدوم على حالٍ كالرَّيْبِ وهو الشَّكُّ ، فإنه لا يبقى ، بل هو متزلزِلٌ قال الشاعر :
4118 تَرَبَّصْ بها رَيْبَ المنونِ لَعَلَّها ... تُطَلَّقُ يوماً أو يموتُ حليلُها
وقال أبو ذُؤَيْب :
4119 أمِن المَنونِ ورَيْبِه تتَوَجَّعُ ... والدهرُ ليس بمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ
والمنون في الأصل : الدهرُ . وقال الراغب : " المنون المنيَّة ، لأنها تَنْقُصُ العددَ وتَقْطَعُ المَدَدَ " ، وجَعَل مِنْ ذلك قولَ : { أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [ فصلت : 8 ] أي : غيرُ مقطوع . وقال الزمخشري : " وهو في الأصلِ فَعُول مِنْ منَّه إذا قطعه لأنَّ الموتَ قَطوعٌ ولذلك سُمِّيت شَعُوب " . و " ريبَ " مفعولٌ به أي : نَنْتَظِرُ به حوادثَ الدهرِ أو المنيَّة .
(1/5002)
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)
قوله : { بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ } : العامَّةُ على تنوين " حديث " ووصفِه بمثله . والجحدريُّ وأبو السَّمَّال " بحديثِ مثلِه " بإضافة " حديث " إلى " مثلِه " على حذفِ موصوفٍ أي : بحديثِ رجلٍ مثلِه مِنْ جنسه .
(1/5003)
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)
قوله : { مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ } : يجوزُ أَنْ تكونَ " مِنْ " لابتداءِ الغاية على معنى : أم خُلِقوا مِنْ غير شيء حيّ كالجماد ، فهم لا يُؤْمَرون ولا يُنْهَوْن كما الجماداتُ . وقيل : هي للسببية على معنى : مِنْ غيرِ علةٍ ولا لغايةِ ثوابٍ ولا عقابٍ .
(1/5004)
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37)
قوله : { المصيطرون } : المُسَيْطِرُ : القاهرُ الغالِبُ . مِنْ سَيْطَرَ عليه إذا راقَبَه وحَفِظه أو قَهَرَه . ولم يَأْتِ على مُفَيْعِل إلاَّ خمسةُ ألفاظٍ ، أربعةٌ صفةٌ اسمُ فاعلٍ نحو : مُهَيْمِن ومُبَيْقِر ومُسَيْطِر ومُبَيطِر ، وواحدٌ اسمُ جبلٍ وهو المُجَيْمِر . قال امرؤ القيس :
4120 كأن ذُرا رأسِ المُجَيْمِرِ غُدْوَةً ... من السيلِ والغُثَّاءِ فَلْكَةُ مِغْزَلِ
والعامَّةُ " المُصَيْطِرون " بصادٍ خالصةٍ مِنْ غيرِ إشمامِها زاياً لأجلِ الطاءِ ، لِما تقدَّم في { صِرَاطَ } . وقرأ بالسين الخالصة التي هي الأصلُ هشام وقنبل من غير خلافٍ عنهما ، وحفص بخلافٍ عنه . وقرأ خلاَّد بصادٍ مُشَمَّةٍ زاياً من غير خلافٍ عنه . وقرأ خلاَّد بالوجهين ، أعني كخَلَفٍ وكالعامَّةِ . وتوجيهُ هذه القراءتِ كلِّها واضحةٌ مِمَّا تقدَّم لك أولَ الفاتحة .
(1/5005)
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38)
قوله : { يَسْتَمِعُونَ } : صفةٌ لسُلَّم . " وفيه " على بابِها من الظرفيةِ . وقيل : هي بمعنى " على " ولا حاجةَ إليه . وقَدَّره الزمخشري متعلقاً بحالٍ محذوفة تقديره : صاعدِين فيه . ومفعول " يَسْتَمعون " محذوفٌ ، فقدَّره الزمخشري : " يَسْتمعون ما يُوحي إلى الملائكةِ مِنْ عِلْمِ الغيب " . وقَدَّرَهُ غيرُه : يَسْتمعون الخبرَ بصحة ما يَدَّعُون . والظاهر أنه لا يُقدَّر له مفعولٌ بل المعنى : يُوْفِعون الاستماع .
(1/5006)
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42)
قوله : { فالذين كَفَرُواْ } : هذا مِنْ وقوعِ الظاهر موقعَ المضمر تنبيهاً على اتِّصافهِم بهذه الصفةِ القبيحة . والأَصلُ : أم يريدون كَيْداً فهم المَكيدون ، أو حَكَمَ على جنسٍ هم نوعٌ منه فيندرجون اندراجاً أوَّلياً لتوغُّلهم في هذه الصفةِ .
(1/5007)
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44)
قوله : { وَإِن يَرَوْاْ } : " إنْ " هذه شرطيةٌ على بابِها . وقيل : هي بمعنى " لو " وليس بشيءٍ .
قوله : { سَحَابٌ } خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هذا سحابٌ . والجملةُ نصبٌ بالقول .
(1/5008)
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46)
قوله : { يُلاَقُواْ يَوْمَهُمْ } : " يَوْمَهم " مفعولٌ به لا ظرفٌ . وقرأ أبو حيوةَ " يَلْقَوْا " مضارعَ لَقِي . ويَضْعُفُ أَنْ يكونَ المفعولُ محذوفاً ، و " يَوْمَهم " ظرفٌ ، أي : يُلاقُوا أو يَلْقَوا جزاءَ أعمالِهم في يَوْمِهم .
/ قوله : { يُصْعَقُونَ } قرأ ابن عامر وعاصم بضم الياء مبنياً للمفعول . وباقي السبعةِ بفتحها مبنياً للفاعل . وقرأ أبو عبد الرحمن بضم الياء وكسر العين . فأمَّا الأُولى فيُحتمل أن تكونَ مِنْ صُعِقَ فهو مَصْعُوق مبنياً للمفعولِ ، وهو ثلاثي ، حكاه الأخفش ، فيكونُ مثلَ سُعِدوا ، وأَنْ يكونَ مِنْ أَصْعَقَ رباعياً . يقال : أَصْعَق فهو مُصْعَق ، قاله الفارسيُّ . والمعنى : أنَّ غيرَهم أَصْعَقَهم . وقراءةُ السلمي تُؤْذِنُ أنَّ أَفْعَلَ بمعنى فَعَل . وقوله : { يَوْمَ لاَ يُغْنِي } بدلٌ مِنْ " يومَهم " .
(1/5009)
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)
قوله : { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } : يجوزُ أَنْ يكون مِنْ إيقاعِ الظاهر موقعَ المضمرِ ، وأَنْ لا يكونَ كما تقدَّم فيما قبلُ .
(1/5010)
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)
قوله : { بِأَعْيُنِنَا } : قراءةُ العامة بالفك . وأبو السَّمَّال بإدغامِ النونِ فيما بعدَها . وناسَبَ جمعَ الضميرِ هنا جمعُ العين . ألا تراه أفردَ حيث أفردَها في قوله : { وَلِتُصْنَعَ على عيني } [ طه : 39 ] قاله الزمخشري .
(1/5011)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
قوله : { وَإِدْبَارَ النجوم } : العامَّةُ على كسر الهمزة مصدراً بخلافِ التي في آخر قاف كما تقدَّم؛ فإن الفتحَ هناك لائقٌ لأنه يُراد به الجمعُ لدُبْرِ السجود أي : أعقابِه . على أنه قد قرأ سالم الجعدي ويعقوب والمنهال بن عمرو بفتحِها هنا أي : أعقابَ النجوم . وإدْبارُها : إذا غَرَبَتْ . والله أعلم .
(1/5012)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)
قوله : { إِذَا هوى } : في العاملِ في هذا الظرفِ أوجهٌ ، وعلى كلٍ فيها إشكال . أحدُ الأوجهِ : أنه منصوبٌ بفعل القسمِ المحذوفِ تقديرُه : أُقْسِمُ بالنجم وقتَ هُوِيِّه ، قاله أبو البقاء وغيرُه . وهو مُشْكِلٌ فإن فِعْلَ القسمِ إنشاءٌ ، والإِنشاءُ حالٌ ، و " إذا " لِما يُسْتقبل من الزمان فكيف يتلاقيان؟ الثاني : أنَّ العاملَ فيه مقدرٌ على أنَّه حالٌ من النجم أي : أُقْسِم به حالَ كونِه مستقراً في زمانِ هُوِيِّه . وهو مُشْكِلٌ مِنْ وجهين ، أحدهما : أن النجم جثةٌ ، والزمانُ لا يكونُ حالاً عنها كما لا يكونُ خبراً عنها . والثاني : أنَّ " إذا " للمستقبلِ فكيف يكونُ حالاً؟ وقد أُجيب عن الأول : بأنَّ المرادَ بالنجم القطعةُ من القرآن ، والقرآنُ قد نَزَلَ مُنَجَّماً في عشرين سنةً . وهذا تفسيرُ ابن عباس وغيرِه . وعن الثاني : بأنها حالٌ مقدرةٌ . الثالث : أنَّ العاملَ فيه نفسُ النجم إذا أُريد به القرآنُ ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ القرآنَ لا يَعْمل في الظرف إذا أُريد به أنه اسمٌ لهذا الكتابِ المخصوص . وقد يُقال : إن النجمَ بمعنى المُنَجَّم كأنه قيل : والقرآنِ المنجَّمِ في هذا الوقتِ . وهذا البحثُ وارِدٌ في مواضعَ منها { والشمس وَضُحَاهَا } [ الشمس : 1 ] وما بعدَه ، وقولُه : { والليل إِذَا يغشى } [ الليل : 1 ] ، { والضحى والليل إِذَا سجى } [ الضحى : 1 ] . وسيأتي في الشمس بحثٌ أخصُّ مِنْ هذا تقف عليه إنْ شاء الله تعالى . وقيل : المراد بالنجم هنا الجنسُ وأُنْشد :
4121 فباتَتْ تَعُدُّ النجمَ في مُسْتَحيرةٍ ... سريعٍ بأيدي الآكلين جمودُها
أي : تَعُدُّ النجومَ ، وقيل : بل المرادُ نجمٌ معين . فقيل : الثُّريَّا . وقيل : الشِّعْرَى لذِكْرِها في قوله : { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى } [ النجم : 49 ] . وقيل : الزُّهْرة لأنها كانت تُعْبَدُ . والصحيح أنها الثريَّا ، لأنَّ هذا صار عَلَماً بالغَلَبة . ومنه قولُ العرب : " إذا طَلَعَ النجمُ عِشاءً ابتغى الراعي كِساءً " . وقالوا أيضاً : " طَلَعَ النجمُ غُدْيَة فابتغى الراعي كُسْيَة " . وهَوَى يَهْوي هُوِيّاً أي : سقط من علو ، وهَوِي يَهْوَى هَوَىً أي : صَبَا . وقال الراغب : " الهُوِيُّ سقوطٌ مِنْ عُلُوّ " . ثم قال : والهُوِيُّ : ذهابٌ في انحدارٍ . والهوى : ذهابٌ في ارتفاع وأَنْشد : /
4122 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يَهْوي مخارِمَها هُوِيَّ الأجدَلِ
وقيل : هَوَى في اللغة خَرَقَ الهوى ، ومَقْصَدُه السُّفْلُ ، أو مصيرُه إليه وإن لم يَقْصِدْه . قال :
4123 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... هُوِيَّ الدَّلْوِ أسْلَمَها الرِّشاءُ
وقد تقدَّم الكلامُ في هذا مُشْبَعاً .
(1/5013)
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)
وقوله : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ } : هذا جوابُ القسم . و " عن الهوى " أي ما يَصْدُرُ عن الهوى نُطْقُه ف " عن " على بابِها . وقيل : هي بمعنى الباء . وفي فاعِل " يَنْطِق " وجهان ، أحدُهما : هو ضميرُ النبيِّ عليه السلام ، وهو الظاهرُ . والثاني : أنه ضميرُ القرآنِ كقولِه : { هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق } [ الجاثية : 29 ] .
(1/5014)
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)
قوله : { إِنْ هُوَ } : أي : إنْ الذي يَنْطِق به ، أو إنْ القرآنُ .
قوله : { يوحى } صفةٌ ل " وَحْيٌ " . وفائدةُ المجيْءِ بهذا الوصفِ أنه يَنْفي المجازَ أي : هو وحيٌ حقيقةً لا بمجردِ تسميتِه ، كما تقول : هذا قولٌ يقال . وقيل : تقديرُه : يُوحى إليه ، وفيه مزيدُ فائدةٍ .
(1/5015)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5)
قوله : { عَلَّمَهُ شَدِيدُ } : يجوز أَنْ تكونَ هذه الهاءُ للرسول ، وهو الظاهرُ ، فيكونَ المفعولُ الثاني محذوفاً أي : عَلَّم الرسولَ الوحيَ أي : المُوْحى ، وأن تكونَ للقرآنِ والوحيِ ، فيكونَ المفعولُ الأولُ محذوفاً أي : عَلَّمه الرسولَ . وشديدُ القُوى : قيل : جبريلُ وهو الظاهرُ . وقيل : الباري تعالى لقوله : { الرحمن عَلَّمَ القرآن } [ الرحمن : 1-2 ] وشديدُ القُوى : من إضافة الصفةِ المشبهة لمرفوعِها فهي غيرُ حقيقية .
(1/5016)
ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6)
قوله : { مِرَّةٍ } : المِرَّةُ : القوةُ والشدةُ . ومنه " أَمْرَرْتُ الحَبْلَ " إذا أَحْكَمْتَ فَتْلَه ، والمَرِير : الحَبْلُ ، وكذلك المَمَرُّ ، كأنه كُرِّر فَتْلُه مرةً بعد أخرى . وقال قطرب : " العربُ تقول لكلِّ جَزْلِ الرأي حصيفِ العقلِ : ذو مِرَّة " وأنشد :
4124 وإني لَذو مِرَّةٍ مُرَّةٍ ... إذا رَكِبَتْ خالةٌ خالَها
(1/5017)
وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)
قوله : { وَهُوَ بالأفق } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه مبتدأٌ ، و " بالأفق " خبرُه ، والضميرُ لِجبريلَ أو للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم . ثم في هذه الجملةِ وجهان ، أحدُهما : أنَّ هذه الجملةَ حالٌ مِنْ فاعل " استوى " قاله مكي . والثاني : أنها مستأنفةٌ أخبر تعالى بذلك . والثاني : أنَّ " هو " معطوفٌ على الضميرِ المستترِ في " استوى " . وضميرُ " استوى " و " هو " : إمَّا أن يكونا لله تعالى ، وهو قولُ الحسنِ . وقيل : ضميرُ " استوى " لجبريل و " هو " لمحمد عليه السلام . وقيل : بالعكس . وهذا الوجهُ الثاني إنما يتمشَّى على قول الكوفيين؛ لأن فيه العطفَ على الضمير المرفوع المتصل مِنْ غيرِ تأكيدٍ ولا فاصلٍ . وهذا الوجهُ منقولٌ عن الفراء والطبريِّ .
(1/5018)
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8)
قوله : { فتدلى } : التدلِّي : الامتداد من عُلُوٍّ إلى سُفْل ، فَيُستعمل في القُرْب من العلوِّ ، قاله الفراء وابن الأعرابي . وقال الهُذلي :
4125 تَدَلَّى علينا وهو زَرْقُ حَمامةٍ ... له طِحْلِبٌ في مُنْتهى القَيْظِ هامِدُ
وقال آخر :
4126 تَدَلَّى عليها بين سِبٍّ وخَيْطَةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويقال : " هو كالقِرِلَّى ، إن رأى خيراً تدلَّى ، وإن لم يَرَه تولَّى " . واستوى قال مكي : " يقع للواحد ، وأكثرُ ما يقع من اثنين ، ولذلك جَعَل الفراء الضميرَ لاثنين " .
(1/5019)
فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)
قوله : { فَكَانَ قَابَ } : ههنا مضافاتٌ محذوفاتٌ يُضْطَرُّ لتقديرِها أي : فكان مقدارُ مسافةِ قُرْبِه منه مثلَ مقدارِ مسافةِ قابٍ . وقد فَعَلَ أبو علي هذا في قولِ الشاعر :
4127 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وقد جَعَلَتْني مِنْ حَزِيْمَةَ إصبعا
أي : ذا مقدارِ مسافةِ إصبع . والقابُ : القَدْرُ . تقول : هذا قابُ هذا أي : قَدْرُه . ومثلُه : القِيبُ والقادُ والقِيس قال الزمخشري : " وقد جاء التقديرُ بالقوس والرُّمْح والسَّوْط والذِّراع والباعِ والخُطْوة والشُّبر والفِتْر والإِصبع ، ومنه : لا صَلاةَ إلى أن ترتفعَ الشمسُ مِقدار رُمْحين . وفي الحديث : " لَقابُ قوس أحدِكم من الجنة وموضعُ قِدِّه خيرٌ من الدنيا وما فيها " ، والقِدُّ السَّوْط . وألفُ " قاب " عن واوٍ . نصَّ عليه أبو البقاء . وأمَّا " قِيْبٌ " فلا دَلالة فيه على كونِها ياءً؛ لأنَّ الواوَ إذا انكسر ما قبلها قُلِبت ياءً كدِيْمة وقِيمة ، وذكره الراغب أيضاً في مادة " قوب " إلاَّ أنه قال في تفسيره : " هو ما بين المَقْبَضَ والسِّيَةِ من القوس " فعلى هذا يكون مقدارَ نصفِ القوس؛ لأن المَقْبَضَ في نصفِه . والسِّيَةُ هي الفُرْضَة التي يُخَطُّ فيها الوَتَرُ . وفيما قاله نظرٌ لا يخفى . ويُرْوى عن مجاهد : أنه من الوَتَر إلى مَقْبَضِ القوس في وسَطه . وقيل : إنَّ القوسَ ذراعٌ يُقاس به ، نُقل ذلك عن ابن عباس وأنه لغةٌ للحجازيين .
والقَوْسُ معروفةٌ ، وهي مؤنثةٌ ، وشَذُّوا في تصغيرِها فقالوا : قُوَيْس من غيرِ تأنيثٍ كعُرَيْبٍ وحُرَيْبٍ ، ويُجْمع على قِسِيّ ، وهو مَقْلوب مِنْ قُوُوْس ، ولتصريفِه موضعٌ آخر . /
قوله : { أَوْ أدنى } هي كقوله : { أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] لأنَّ المعنى : فكان بأحدِ هذين المقدارَيْنِ في رَأْيِ الرائي ، أي : لتقارُبِ ما بينهما يَشُكُّ الرائي في ذلك . وأَدْنى أفعلُ تفضيلٍ ، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ أي : أو أدنى مِن قاب قوسين .
(1/5020)
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)
قوله : { فأوحى } : أي اللَّهُ ، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ لعدم اللَّبْس . وقوله : " ما أَوْحى " أُبْهِم تعظيماً له ورَفْعاً مِنْ شأنِه ، وبه استدلَّ جمال الدين ابن مالك على أنه لا يُشْتَرَطُ في الصلة أَنْ تكونَ معهودة عند المخاطبِ . ومثلُه { فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ } [ طه : 78 ] ، إلاَّ أنَّ هذا الشرطَ هو المشهورُ عند النَّحْوِيين .
(1/5021)
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)
قوله : { مَا كَذَبَ } : قرأ هشامٌ بتشديدِ الدال . والباقون بتخفيفها . فأمَّا [ القراءةُ ] الأولى فإنَّ معناها أنَّ ما رآه محمدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم بعينِه صَدَّقه قلبُه ، ولم يُنْكِرْه أي : لم يَقُلْ له : لم أَعْرِفْك و " ما " مفعولٌ به موصولةٌ ، والعائدُ محذوفٌ . ففاعِلُ " رأى " ضميرٌ يعودُ على النبي صلَّى الله عليه وسلَّم . وأمَّا قراءةُ التخفيفِ فقيل فيها كذلك . و " كذَبَ " يتعدى بنفسِه . وقيل : هو على إسقاطِ الخافضِ : أي : فيما رآه ، قاله مكي وغيرُه . وجوَّز في " ما " وجهين ، أحدُهما : أَنْ يكونَ بمعنى الذي . والثاني : أَنْ تكونَ مصدريةً ، ويجوزُ أَنْ يكونَ فاعلُ " رأى " ضميراً يعودُ على الفؤادِ أي : لم يَشُكَّ قلبُه فيما رآه بعينِه .
(1/5022)
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12)
قوله : { أَفَتُمَارُونَهُ } : قرأ الأخَوان " أَفَتَمْرُوْنَه " بفتح التاء وسكون الميمِ ، والباقون " تُمارونه " . وعبد الله بن مسعود والشعبي " أَفَتُمْرُوْنَه " بضمِّ التاءِ وسكون الميم . فأمَّا الأولى ففيها وجهان ، أحدهما : أنها مِنْ مَرَيْتُه حَقَّهُ إذا غَلَبْتَه وجَحَدْتَه إياه . وعُدِّي ب " على " لتضمُّنِه معنى الغَلَبة . وأُنشِد :
4128 لَئِن هَجَرْتَ أخا صدقٍ ومَكْرُمَةٍ ... لقد مَرَيْتَ أخاً ما كان يَمْرِيكا
لأنه إذا جَحَده حقَّه فقد غَلَبه عليه . والثاني : أنها مِنْ مَراه على كذا أي : غَلَبه عليه فهو مِن المِراء وهو الجِدالُ . وأمَّا الثانيةُ فهي مِنْ ماراه يُماريه مُراءاة أي : جادَلَه . واشتقاقُه مِنْ مَرْي الناقةِ؛ لأنَّ كلَّ واحد من المتجادِلِيْن يَمْري ما عند صاحبه . وكان مِنْ حَقِّه أن يتعدَّى ب " في " كقولك : جادَلْتُه في كذا ، وإنما ضُمِّن معنى الغَلَبة فعُدِّيَ تَعْدِيَتَها . وأمَّا قراءةُ عبد الله فمِنْ أمراه رباعياً .
(1/5023)
وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)
قوله : { نَزْلَةً أخرى } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها منصوبةٌ على الظرفِ . قال الزمخشري : " نَصْبَ الظرفِ الذي هو مَرَّة؛ لأنَّ الفَعْلَةَ اسمٌ للمَرَّة من الفعلِ فكانَتْ في حُكْمها " قلت : وهذا ليس مذهبَ البصريين ، وإنما هو مذهبُ الفرَّاء ، نقله عنه مكي . الثاني : أنها منصوبةٌ نَصْبَ المصدرِ الواقعِ موقعَ الحالِ . قال مكي : " أي : رآه نازلاً نَزْلة أخرى " ، وإليه ذهب الحوفيُّ وابنُ عطية . والثالث : أنه منصوبٌ على المصدرِ المؤكِّد ، فقدَّره أبو البقاء : " مرةً أخرى أو رُؤْيةٌ أخرى " . قلت : وفي تأويلِ " نَزْلَةً " برؤية نظرٌ . و " أخرى " تَدُلُّ على سَبْقِ رؤيةٍ قبلها .
(1/5024)
عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)
قوله : { عِندَ سِدْرَةِ } : ظرفٌ لِرَآه و " عندها جنةُ " جملةٌ ابتدائيةٌ في موضعِ الحالِ . والأحسنُ أَنْ يكونَ الحالُ الظرفَ ، و " جَنَّةُ المَأْوى " فاعلٌ به . والعامَّةُ على " جنَّة " اسمٌ مرفوعٌ . وقرأ أمير المؤمنين وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنس وزر بن حبيش ومحمد بن كعب " جَنَّة " فعلاً ماضياً . والهاء ضميرُ المفعول يعود للنبي صلَّى الله عليه وسلَّم . والمَأْوَى فاعلٌ بمعنى : سَتَره إيواءُ اللَّهِ تعالى . وقيل : المعنى : ضَمَّه المبيتُ والليلُ . وقيل : جَنَّه بظلالِه ودَخَلَ فيه . وقد رَدَّت عائشةُ رضي الله عنها هذه القراءةَ وتبعها جماعةٌ وقالوا : " أجَنَّ اللَّهُ مَنْ قرأها " ، وإذا ثبتت قراءةً عن مثلِ هؤلاء فلا سبيلَ إلى رَدِّها ، ولكنِّ المستعملَ إنما/ هو أَجَنَّه رباعياً ، فإن استعمل ثلاثياً تَعَدَّى ب " على " كقولِه { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل } [ الأنعام : 76 ] . وقال أبو البقاء : " وهو شاذٌّ والمستعملُ أجنَّه " . وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادةِ في الأنعام . و " إذ يَغْشَى " منصوبٌ ب رآه . وقولُه : " ما يَغْشَى " كقولِه : { مَآ أوحى } [ النجم : 10 ] .
(1/5025)
لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
قوله : { الكبرى } فيه وجهان ، أحدُهما : وهو الظاهرُ أنَّ " الكبرى " مفعولُ رأى ، و { مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ } حالٌ مقدمةٌ . والتقدير : لقد رأى الآياتِ الكبرى من آياتِ ربه . والثاني : أنَّ { مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ } وهو مفعولُ الرؤية والكُبْرى صفةٌ لآيات ربِّه . وهذا الجمعُ يجوزُ وَصْفُه بوَصْف المؤنثةِ الواحدةِ ، وحَسَّنه هنا كونُه فاصلةً . وقد تقدَّم مِثْلُه في طه [ الآية : 23 ] كقوله : { لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى }
(1/5026)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19)
قوله : { اللات } : اسمُ صَنَمٍ . قيل : كان لثَقيفِ بالطائف ، قاله : قتادة . وقيل : بنخلة . وقيل : بعُكاظ . ورَجَّح ابنُ عطيةً الأولَ بقولِ الشاعر :
4129 وفَرَّتْ ثَقِيْفٌ إلى لاتِها ... بمُنْقَلَبِ الخائبِ الخاسرِ
والألف واللام في " اللات " زائدةٌ لازمةٌ . فأمَّا قولُه : " إلى لاتِها " فَحَذَفَ للإِضافة . وهل هي والعُزَّى عَلَمان بالوَضْع ، أو صفتان غالبتان؟ خلافٌ ويَتَرَتَّبُ على ذلك جوازُ حَذْفِ أل وعدمُه . فإنْ قلنا : إنهما ليسا وصفَيْن في الأصلِ فلا تُحْذَفُ منهما أل . وإنْ قلنا : إنهما صفتان ، وإنَّ أل لِلَمْحِ الصفةِ جاز ، وبالتقديرَيْن فأل زائدةٌ . وقال أبو البقاء : " وقيل : هما صفتان غالبتان مثلَ : الحارث والعباس فلا تكون أل زائدة " انتهى .
وهو غَلَطٌ لأن التي لِلَمْحِ الصفةِ منصوصٌ على زيادِتها ، بمعنى أنها لم تؤثِّرْ تعريفاً .
واخْتُلِف في تاء " اللات " فقيل : أصلٌ ، وأصلُه مِنْ لات يليتُ فألفُها عن ياءٍ ، فإنَّ مادةَ ل ي ت موجودةٌ . وقيل : زائدة ، وهي مِنْ لَوَى يَلْوي لأنهم كانوا يَلْوُوْن أعناقَهم إليها ، أو يَلْتَوون أي : يَعْتكِفُون عليها ، وأصلُها لَوَيَة فحُذِفت لأمُها ، فألفُها على هذا مِنْ واوٍ . وقد اختلف القراءُ في الوقف على تائِها . فوقف الكسائيُّ عليها بالهاء والباقون بالتاء ، وهو مبنيُّ على القولَيْن المتقدمَيْن : فَمَنْ اعتقدَ تاءَها أصليةً أقَرَّها في الوقف كتاء بَيْت ، ومَنْ اعتقد زيادتَها وَقَف عليها هاءً . والعامَّةُ على تخفيفِ تائِها . وقرأ ابن عباس ومجاهد ومنصور بن المعتمر وأبو الجوزاء وأبو صالح وابن كثير في روايةٍ بتشديدِ التاء . وقيل : هو رجلٌ كان يَلُتُّ السَّوِيْق ويُطْعِمُ الحاجَّ ، فهو اسمُ فاعلٍ في الأصل غَلَبَ على هذا الرجلِ ، وكان يجلسُ عند حَجَرٍ ، فلما مات سُمِّي الحَجَرُ باسمِه وعُبِدَ مِنْ دون الله تعالى .
والعُزَّى فُعْلى من العِزِّ ، وهي تأنيثُ الأَعَزِّ كالفُضْلى ، والأفضل ، وهي اسمُ صنمٍ . وقيل : شجرةٌ كانت تُعْبَدُ .
(1/5027)
وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)
قوله : { وَمَنَاةَ } : قرأ ابن كثير " مَناءَة " بهمزةٍ مفتوحةٍ بعد الألف ، والباقون بألفٍ وحدَها ، وهي صخرةٌ كانت تُعْبَدُ من دونِ اللَّه . فأمَّا قراءةُ ابنِ كثير فاشتقاقُها من النَّوْء ، وهو المطرُ لأنهم يَسْتَمطرون عندها الأَنْواء ، ووزنُها حينئذٍ مَفْعَلَة فألفُها عن واوٍ ، وهمزتُها أصليةٌ ، وميمُها زائدةٌ . وأنشدوا على ذلك :
4130 ألا هل أَتَى تَيْمَ بنَ عبدِ مَناءة ... علَى النَّأْيِ فيما بيننا ابنُ تميمِ
وقد أَنْكر أبو عبيد قراءةَ ابن كثير ، وقال : " لم أسمع الهمز " . قلت : قد سمعه غيرُه ، والبيتُ حُجَّةٌ عليه .
وأمَّا قراءةُ العامَّة فاشتقاقُها مِنْ مَنى يَمْني أي : صبَّ؛ لأن دماءَ النَّسائِكِ كانت تُصَبُّ عندها ، وأنشدوا لجرير :
4131 أزيدَ مَناةَ تُوْعِدُ يا بنَ تَيْمٍ ... تَأَمَّلْ أين تاهَ بك الوعيدُ
وقال أبو البقاء : " وألفه من ياءٍ لقولِك : مَنَى يَمْني إذا قدَّر ، ويجوز أَنْ تكونَ من الواو ، ومنه مَنَوان " فوزْنُها على قراءة القصر فَعْلة .
" والأُخْرى " صفةٌ لمَناة . قال أبو البقاء : " والأُخْرى توكيدٌ؛ لأنَّ الثالثةَ لا تكونُ إلاَّ أُخرَى " . وقال الزمخشري : " والأُخْرى ذَمٌ وهي المتأخرةُ الوضيعةُ المقدارِ ، كقولِه : { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ } [ الأعراف : 38 ] أي : وُضَعاؤُهم لأَشْرافِهم ، ويجوزُ أَنْ تكونَ الأَوَّليةُ والتقدمُ عندهم لِلاَّت والعُزَّى " . انتهى . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الأخرى إنما تدلُّ على الغَيْرِيَّة وليس فيها تَعَرُّضٌ لمَدْح ولا ذَمٍّ ، فإن جاء شيءٌ مِنْ هذا فلقرينةٍ خارجيةٍ . وقيل : الأُخْرى صفةٌّ للعُزَّى؛ لأنَّ الثانيةَ أُخْرى بالنسبة إلى الأُوْلى . وقال الحسين ابن الفضل : " فيه تقديمٌ وتأخيرٌ " أي : العُزَّى الأخرى ومناةَ الثالثة ، ولا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ الأصلَ عدمُه .
و " أرأيت " بمعنى أَخْبِرْني فيتعدَّى لاثنين ، أوَّلُهما : " اللات وما عُطِف عليها . والثاني : الجملةُ الاستفهاميةُ مِنْ قولِه : " أَلكُمُ الذَّكَرَ " فإنْ قيل : لم يَعُدْ من هذه الجملةِ ضميرٌ على المفعول الأولِ . فالجوابُ : أنَّ قولَه : " وله الأنثى " في قوةِ " وله هذه الأصنامُ " وإن كان أصلُ التركيبِ : ألكم الذَّكَر وله هُنَّ ، أي : تلك الأصنامُ ، وإنما أُوْثِرَ هذا الاسمُ الظاهرُ لوقوعِه رَأْسَ فاصلةٍ . /
وقد جَعَلَ الزجَّاجُ المفعولَ الثاني محذوفاً فإنَّه قال : " وجهُ تَلْفيقِ هذه الآيةِ مع ما قبلَها فيقول : أَخْبِروني عن آلهتِكم هل لها شيءٌ من القدرةِ والعظمة التي وُصِفَ بها ربُّ العزَّةُ في الآي السالفة " انتهى . فعلى هذا يكونُ قولُه : " ألكم الذَّكَرُ " متعلقاً بما قبلَه من حيث المعنى ، لا من حيث الإِعرابُ . وجَعَل ابنُ عطية الرؤية هنا بَصَريةً فقال : " وهي من رؤيةِ العين؛ لأنَّه أحال على أَجْرام مرئيةٍ ، ولو كانَتْ " أَرَأَيْتَ " التي هي استفتاءٌ لم تَتَعَدَّ " وهذا كلامٌ مُثْبَجٌ ، وقد تقدَّم لك الكلامُ عليها مُشْبَعاً في الأنعام وغيرها .
(1/5028)
تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)
قوله : { ضيزى } : قرأ ابنُ كثير " ضِئْزَى " بهمزةٍ ساكنةٍ ، والباقون بياءٍ مكانَها . وزيدُ علي " ضَيْزَى " بفتح الضادِ والياءِ الساكنة . فأمَّا قراءةُ العامَّةِ فيُحْتمل أَنْ تكونَ مِنْ ضازه يَضَيزه إذا ضامه وجارَ عليه . فمعنى ضِيْزَى أي : جائرة . قال الشاعر :
4132 ضازَتْ بنو أُسْدٍ بحُكْمِهِمُ ... إذ يَجْعلون الرأسَ كالذَّنَبِ
وعلى هذا فتحتملُ وجهين ، أحدُهما : أَنْ تكونَ صفةً على فُعْلى بضم الفاءِ ، وإنما كُسِرت الفاءُ لتصِحَّ الياءُ كبِيْض . فإنْ قيل : وأيُّ فالجوابُ أن سيبويه حكى أنه لم يَرِدْ في الصفاتِ فِعْلَى بكسر الفاء إنما وَرَدَ بضمِّها نحو : حُبْلى وأُنْثى ورُبَّى وما أشبهه . إلاَّ أنه قد حَكى غيرُه في الصفات ذلك ، حكى ثعلب : " مِشْية حِيْكى " ، ورجلٌ كِيْصَى . وحكى غيرُه : أمرأةٌ عِزْهى ، وامرأة سِعْلى ، وهذا لا يُنْقَضُ لأن سيبويه يقول : حِيْكى وكِيْصى كقولِه في " ضيزَى " لتَصِحَّ الياءُ ، وأما عِزْهَى وسِعْلى فالمشهورُ فيهما : سِعْلاة وعِزْهاة .
والوجه الثاني : أَنْ تكونَ مصدراً كذِكْرى ، قال الكسائي : يقال : ضازَ يَضيز ضِيْزَى ، كذَكَر يَذْكُر ذِكْرى . ويُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ ضَأَزَه بالهمز كقراءةِ ابن كثير ، إلاَّ أنه خُفِّفَ همزُها ، وإن لم يكنْ من أصولِ القُرَّاءِ كلِّهم إبدالُ مثلِ هذه الهمزةِ ياءً لكنها لغةٌ التُزِمَتْ فقرؤُوا بها ، ومعنى ضَأَزَه يَضْأَزُه بالهمز : نَقَصه ظُلماً وجَوْراً ، وهو قريبٌ من الأول . ومِمَّن جَوَّز أَنْ تكونَ الياءُ بدلاً مِنْ همزة أبو عبيد ، وأَنْ يكونَ أصلُها ضُوْزَى بالواوِ لأنه سُمِع ضازَه يَضُوْزُه ضُوْزى ، وضازه يَضِيْزُه ضِيْزى ، وضَأَزه يَضْأَزُه ضَأْزاً ، حكى ذلك كلَّه الكسائيُّ ، وحكى أبو عبيد ضِزْتُه وضُزْته بكسرِ الفاء وضمِّها . وكُسِرت الضادُ مِنْ ضُوْزَى لأنَّ الضمةَ ثقيلةٌ مع الواو ، وفعلوا ذلك ليَتَوَصَّلوا به إلى قَلْب الواوِ ياءً ، وأنشد الأخفش على لغةِ الهمز :
4133 فإن تَنْأَ عَنَّا نَنْتَقِصْك وإن تَغِبْ ... فَسَهْمُكَ مَضْؤُوْزٌ وأَنْفُكَ راغِمُ
و " ضِئْزَى " في قراءةِ ابن كثير مصدرٌ وُصِفَ به ، ولا يكون وصفاً أصلياً لِما تقدَّم عن سيبويه . فإنْ قيل : لِم لا قيل في " ضِئْزى " بالكسر والهمز : إنَّ أصلَه ضُئْزَى بالضم فكُسِرَتِ الفاءُ كما قيل فيها مع الياء؟ فالجواب : أنه لا مُوْجِبَ هنا للتغيير؛ إذ الضمُّ مع الهمز لا يُسْتثقل استثقالَه مع الياء الساكنة ، وسُمع منهم " ضُوْزَى " بضم الضاد مع الواو أو الهمزة .
وأمَّا قراءةُ زيدٍ فَتَحْتمل أَنْ تكونَ مصدراً وُصِف به كدَعْوى ، وأَنْ تكونَ صفةً كسَكْرى وعَطْشَى .
(1/5029)
إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)
قوله : { إِنْ هِيَ } : في " هي " وجهان ، أحدهما : أنها ضميرٌ للأصنام أي : وما هي إلاَّ أسماءٌ ليس تحتها في الحقيقة مُسَمَّياتٌ في الحقيقة لأنكم تَدَّعُوْن الإِلهية لِما هو أبعدُ شيءٍ منها وأشدُّ منافاةً لها ، كقوله : { مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ } [ يوسف : 40 ] . والثاني : أن تكونَ ضميرَ الأسماءِ ، وهي اللاتُ والعُزَّى ومَناة ، وهم يَقْصِدُون بها أسماءَ الآلهة ، يعني : وما هذه الأسماءُ إلاَّ أسماءٌ سَمَّيْتموها بهواكم وشهواتِكم ليس لكم على صحةِ تَسْمِيَتِها بُرْهانٌ تتعلَّقون به ، قاله الزمخشري . وقال أبو البقاء : " أسماء " يجب أن يكون المعنى : ذواتُ أسماءٍ : لقوله " سَمَّيْتُموها " لأنَّ الاسمَ لا يُسَمَّى " .
قوله : { إِن يَتَّبِعُونَ } العامَّةُ على الغَيْبة التفاتاً من خطابهم إلى الغيبة عنهم تحقيراً لهم . وقرأ عبد الله/ وابن عباس وطلحة وعيسى بن عمر وابن وثاب بالخطاب ، وهو حسنٌ موافِقٌ .
قوله : { وَمَا تَهْوَى الأنفس } نَسَقٌ على الظنِّ ، و " ما " مصدريةٌ ، أو بمعنى الذي .
قوله : { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى } يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من فاعلِ " يَتَّبعون " أي : يَتَّبعون الظنَّ وهَوَى النفس في حالِ تنافي ذلك وهي مجيْءُ الهدى مِنْ عند ربِّهم . ويجوزُ أَنْ يكونَ اعتراضاً فإنَّ قولَه : " أم للإِنسان " متصلٌ بقولِه : { وَمَا تَهْوَى الأنفس } وهي أم المنقطعةُ فتتقدَّر ب بل والهمزةِ على الصحيح . قال الزمخشري : " ومعنى الهمزةِ فيها الإِنكارُ أي : ليس للإنسانِ ما تَمَنَّى " .
(1/5030)
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)
قوله : { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ } : كم هنا خبريةٌ تفيد التكثيرَ ، ومحلُّها الرفعُ على الابتداءِ " ولا تُغْني شفاعتُهم " هو الخبرُ . والعامَّةُ على إفراد الشفاعة وجُمِعَ الضميرِ اعتباراً بمعنى مَلَكَ وبمعنى " كم " . وزيد بن علي " شفاعتُه " بإفرادها اعتبر لفظ " كم " ، و " مَلَكَ " . وابن مقسم " شفاعاتُهم " بجمعها . و " شيئاً " مصدرٌ أي : شيئاً من الإِغناء .
(1/5031)
وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)
قوله : { وَمَا لَهُم بِهِ } : أي : بما يقولون أو بذلك . وقال مكي : " الهاءُ تعود على الاسمِ لأنَّ التسميةَ والاسمَ بمعنى " . وقرأ أُبي " بها " أي : بالملائكة أو بالتسمية ، وهذا يُقَوِّي قولَ مكي .
(1/5032)
ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
قوله : { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ } : قال الزمخشري : " هو اعتراض أي : فأَعْرِضْ عنه ولا تُقابِلْه ، إنَّ ربك هو أعلمُ [ بالضالِّ ] " . قال الشيخ : " كأنه يقول : هو اعتراضٌ بين " فأعرِضْ " وبين " إنَّ ربك " ، ولا يظهر هذا الذي يقولُه من الاعتراضِ " . قلت : كيف يقولُ : كأنه يقول هو اعتراضٌ وما بمعنى التشبيه ، وهو قد نَصَّ عليه وصرَّح به فقال : أي فأعرِضْ عنه ولا تقابِلْه ، إنَّ ربك؟ وقوله : " ولا يَظْهر " ، ما أدري عدمَ الظهورِ مع ظهور أنَّ هذا علةٌ لذاك ، أي : قوله : " إنَّ ربَّك " علةٌ لقولِه : " فأعْرِضْ " والاعتراضُ بين العلةِ والمعلولِ ظاهرٌ ، وإذا كانوا يقولون : هذا معترضٌ فيما يجيءُ في أثناء قصةٍ فكيف بما بين علةٍ ومعلول؟
وقوله : { أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ } جوَّزَ مكي أن يكونَ على بابِه من التفضيل أي : هو أعلمُ مِنْ كل أحد ، بهذين الوصفَيْن وبغيرِهما ، وأَنْ يكونَ بمعنى عالِم وتقدَّم نظيرُ ذلك مراراً .
(1/5033)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)
قوله : { لِيَجْزِيَ } : في هذه اللامِ أوجهٌ : أحدها : أَنْ تتعلَّقَ بقولِه : { لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ } ذكره مكي . وهو بعيدٌ من حيث اللفظُ ومن حيث المعنى . الثاني : أَنْ تتعلَّقَ بما دَلَّ عليه قولُه : { وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات } أي : له مِلْكُهما يُضِلُّ مَنْ يشاء ويَهْدي مَنْ يشاء ليجزيَ المحسنَ والمسيءَ . الثالث : أَنْ تتعلَّق بقولِه : " بمنْ ضَلَّ وبمَنْ اهتدى " . واللام للصيرورةِ أي : عاقبة أمرهم جميعاً للجزاءِ بما عملوا ، قال معناه الزمخشري . الرابع : أن تتعلَّقَ بما دَلَّ عليه قولُه : { أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ } أي : حَفِظ ذلك ليجزيَ ، قاله أبو البقاء . وقرأ زيد بن علي " لنجزيَ ، ونجزيَ " بنونِ العظمة ، والباقون بياء الغَيْبَةِ .
(1/5034)
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
قوله : { الذين يَجْتَنِبُونَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ منصوباً بدلاً أو بياناً أو نعتاً للذين أحسنوا ، وبإضمار أَعْني ، وأن يكونَ خبر مبتدأ مضمرٍ أي : هم الذين ، وقد تقدَّم الخلاف في " كبائر " و " كبير الإِثم " .
قوله : { إِلاَّ اللمم } فيه أوجه ، أحدهما : أنه استثناءٌ منقطعٌ لأنَّ اللَّمَمَ الصغائرُ ، فلم تندرِجْ فيما قبلَها ، قاله جماعةٌ وهو المشهور . الثاني : أنه صفةٌ و " إلاَّ " بمنزلة " غير " كقولِه : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله } [ الأنبياء : 22 ] أي : كبائرَ الإِثم والفواحش غيرِ اللمم . الثالث : أنه متصلٌ وهذا عند مَنْ يُفَسِّر اللممَ بغير الصغائرِ ، والخلاف مذكور في التفسير . وأصلُ اللَّمَم : ما قَلَّ وصَغُر ، ومنه اللَّمَمُ وهو المَسُّ من الجنون ، وألمَّ بالمكان قلَّ لُبْثُه به ، ألَمَّ بالطعام أي : قَلَّ أكلُه منه . وقال أبو العباس : " أًصلُ اللَّمم : أَنْ يُلِمَّ بالشيء من غير أن يركَبَه يقال : ألمَّ بكذا إذا قاربه ، ولم يُخالِطْه " . وقال الأزهري : " العربُ تستعمل الإِلمامَ في معنى الدُنوِّ والقُرْب " . وقال جرير :
4134 بنفسي مَنْ تجنُّبُه عزيزٌ ... عليَّ ومَنْ زيارَتُه لِمامُ
وقال آخر :
4135 متى تأتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تَأجَّجا
وقال آخر :
4136 لقاءُ أخِلاَّءِ الصَّفاءِ لِمامُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومنه لِمَّة الشَّعْرِ لِما دونَ الوَفْرةِ .
قوله : { أَجِنَّةٌ } جمع جَنين ، وهو الحَمْلُ في البطنِ لاستتارِه . وجنين وأَجِنَّةَ كسرير وأَسِرة .
(1/5035)
وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34)
قوله : { وأكدى } : أصلُه مِنْ أكدى الحافرُ إذا حفر شيئاً فصادفَ كُدْيَةً مَنَعَتْه من الحفر ، ومثلُه أَجْبَلَ أي : صادف جبلاً منعه من الحفر ، وكُدِيَتْ أصابِعُه : كلَّتْ من الهزِّ ، ثم اسْتُعْمل في كلِّ مَنْ/ طلب شيئاً ، فلم يَصِلْ إليه أو لم يُتَمِّمْه . وأَرَأَيْتَ بمعنى أخبرني .
(1/5036)
أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35)
و { أَعِندَهُ عِلْمُ } : هو المفعولُ الثاني . والمفعولُ الأولُ محذوفٌ اقتصاراً لأعطى .
قوله : " فهو يَرَى " هذه الجملةُ مترتبةٌ على ما قبلَها ترتُّباً ظاهراً . وقال أبو البقاء : " فهو يرى " جملةٌ اسميةٌ واقعةٌ موقعَ الفعليةِ . والأصل : أَعنده عِلْمُ الغيبِ فيَرى . ولو جاء على ذلك لكان نصباً على جوابِ الاستفهام " انتهى . وهذا لا حاجةَ إليه مع ظهورِ الترتُّبِ بالجملةِ الاسميةِ ، وقد تقدَّم له نظيرُ هذا الكلامِ في موضعٍ آخرَ وتقدَّمَ الردُّ عليه .
(1/5037)
وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)
قوله : { وَإِبْرَاهِيمَ } : عطفٌ على " موسى " ، وإنما خَصَّ هذين النبيَّيْن عليهما السلامُ بالذِّكْر؛ لأنه كان بين إبراهيم وموسى يُؤْخَذُ الرجلُ بجَريرةِ غيره ، فأولُ مَنْ خالفهم إبراهيمُ عليه السلام . و " أم " منقطعةٌ أي : بل ألم يُنَبَّأ . والعامَّةُ على " وَفَّى " بالتشديد . وقرأ أبو أمامةَ الباهلي وسعيد بن جبير وابن السَّمَيْفع " وَفَى " مخففاً . وقد تقدَّم أنَّ فيه ثلاثَ لغاتٍ ، وأَطْلَقَ التوفيةَ والوفاءَ ليتناولا كلَّ ما وَفَى .
(1/5038)
أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)
قوله : { أَلاَّ تَزِرُ } : " أَنْ " مخففةٌ من الثقيلة ، واسمُها محذوفٌ هو ضميرُ الشأنِ . ولا تزرُ هو الخبرُ وجيْءَ بالنفيِ لكونِ الخبرِ جملةً فعليةً متصرفةً غيرَ مقرونةٍ ب " قد " ، كما تقدَّم تحريرُه في المائدة و " أنْ " و ما في حَيِّزها فيها قولان ، أظهرهُما : الجرُّ بدلاً مِنْ " ما " في قولِه : { بِمَا فِي صُحُفِ } . والثاني : الرفعُ خبراً لمبتدأ مضمر أي : ذلك أَنْ لا تَزِرُ أو هو أَنْ لا تَزِرُ ، وهو جوابٌ لسؤالٍ مقدر كأنَّ قائلاً قال : وما في صُحُفهما؟ فأجيب بذلك . قلت : ويجوزُ أَنْ يكونَ نصباً بإضمار أعني جواباً لذلك السَّائل . وكلُّ موضعٍ أُضْمِرَ فيه هذا المبتدأُ لهذا المعنى أُضْمِرَ فيه هذا الفعلُ .
(1/5039)
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)
قوله : { وَأَن لَّيْسَ } : هي المخففةُ أيضاً . ولم يُفْصَلْ هنا بينها وبين الفعلِ لأنه لا يَتَصَرَّفُ . ومحلُّها الجرُّ أو الرفعُ أو النصبُ لعَطْفِها على أَنْ قبلَها ، وكذلك محلُّ " وأَنَّ سَعْيَه " و " يُرَى " مبني للمفعول فيجوزُ أَنْ يكونَ من البصرية أي : يُبْصَر ، وأن يكونَ من العِلميَّة ، فيكونُ الثاني محذوفاً أي : يُرى حاضراً ، والأولُ أوضحُ . وقال مكي : " وأجاز الزجَّاج " يَرى " بفتح الياء على إضمارِ الهاءِ أي : سوفَ يَراه ، ولم يُجِزْه الكوفيون لأنَّ سَعْيَه يَصير قد عملَ فيه " أنَّ " و " يَرى " وهو جائزٌ عند المبرد وغيرِه؛ لأن دخولَ " أنَّ " على " سَعْيَه " وعملَها يَدُلُّ على أن الهاء المحذوفة مِنْ " يَرَى " ، وعلى هذا جَوَّز البصريون : " إنَّ زيداً ضربْتُ " بغير هاء " . قلت : وهو خلافٌ ضعيفٌ؛ توهَّموا أن الاسمَ تَوَجَّه عليه عاملان مختلفان في الجنسيةِ ، وإنما قلتُ في الجنسية لأنَّ رأيَ بعضِهم أنه يُعْمِلُ فعلَيْن في معمولٍ واحدٍ ، ومنه بابُ التنازع في بعض صورِه نحو : قام وقعد زيدٌ ، وضربْتُ وأكرمْتُ عَمْراً ، وأن يعملَ عاملٌ واحدٌ في اسمٍ وفي ضميرِه معاً نحو : " زيداً ضربتُه " في باب الاشتغال ، وهذا توهُّمٌ باطلٌ لأنَّا نقولُ " سَعْيَه " منصوبٌ ب " أنَّ " ، و " يَرى " متسلِّطٌ على ضميره المقدر .
قلت : فظاهرُ هذا أنه لم يُقْرَأْ به ، وقد حكى أبو البقاء أنه قُرِىء به شاذَّاً ، ولكنه ضَعَّفه مِنْ جهةٍ أخرى فقال : " وقُرِىء بفتح الياء وهو ضعيفٌ؛ لأنه ليس فيه ضميرٌ يعودُ على اسم " أنَّ " وهو السَّعْي ، والضميرُ الذي فيه للهاءِ ، فيبقى الاسمُ بغير خبرٍ ، وهو كقولِك : " إنَّ غلامَ زيدٍ قامَ " وأنت تعني : قام زيدٌ ، فلا خبرَ لغلام . وقد وُجِّه على أن التقديرَ : سوف يَراه فتعودُ الهاءُ على السعي وفيه بُعْدٌ " انتهى . وليت شعري كيف توهَّم المانعَ المذكورَ ، وكيف نَظَّره بما ذكر؟ ثم أيُّ بُعْدٍ في تقدير : سوف يَرى سعي نفسِه؟ وكأنَّه اطلع على مذهبِ الكوفيين في المنعِ إلاَّ أنَّ المُدْرَك غيرُ المُدْرِك .
(1/5040)
ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)
قوله : { ثُمَّ يُجْزَاهُ } : يجوزُ فيه وجهان ، أظهرهما : أنَّ الضميرَ المرفوعَ عائدٌ على الإِنسان ، والمنصوبَ عائدٌ على سعيه . والجزاء مصدرٌ مبيِّنٌ للنوع . والثاني : قال الزمخشريُّ : " ويجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ للجزاء ، ثم فَسَّره بقولِه " الجزاءَ " ، أو أبدلَه عنه كقولِه : { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] . قال الشيخ : " وإذا كان تفسيراً للضميرِ المنصوبِ في " يُجْزاه " فعلى ماذا ينتصِبُ ، وأمَّا إذا كان بدلاً فهو مِنْ بدلِ الظاهرِ/ من المضمرِ ، وهي مسألةُ خلافٍ والصحيحُ المنعُ " .
قلت : العجبُ كيف يقولُ : فعلى ماذا ينتصِبُ؟ وانتصابُه من وجهَيْن ، أحدُهما : وهو الظاهرُ البيِّن - أنْ يكونَ عطفَ بيانٍ ، وعطفُ البيانِ يَصْدُقُ عليه أنه مُفَسِّرٌ ، وهي عبارةٌ سائغةٌ شائعةٌ . والثاني : أَنْ ينتصِبَ بإضمار أَعْني ، وهي عبارةٌ سائغةٌ أيضاً يُسَمُّون مثلَ ذلك تفسيراً . وقد مَنَعَ أبو البقاء أن ينتصِبَ الجزاء الأَوْفى على المصدرِ ، فقال : " الجزاءَ الأوفى هو مفعولُ " يُجْزاه " وليس بمصدرٍ لأنَّه وَصَفَه بالأَوْفى ، وذلك مِنْ صفةِ المَجْزِيِّ به لا من صفةِ الفعلِ " . قلت : وهذا لا يَبْعُدُ عن الغلطِ؛ لأنه يلزَمُ أَنْ يتعدَّى يُجْزى إلى ثلاثةِ مفاعيل . بيانه : أنَّ الأولَ قام مقامَ الفاعلِ ، والثاني : الهاءُ التي هي ضميرُ السعي ، والثالث : الجزاءَ الأوفى . وأيضاً فكيف يَنْتَظم المعنى؟ وقد يُجاب عنه : بأنه أراد أنه بدلٌ من الهاءِ كما تقدَّم نَقْلُه عن الزمخشريَّ فيَصِحُّ أَنْ يُقالَ : هو مفعولُ " يُجْزاه " ، فلا يتعدَّى لثلاثةٍ حينئذٍ ، إلاَّ أنه بعيدٌ مِنْ غَرَضِه ، ومثلُ هذا إلغازٌ . وأمَّا قولُه : " والأوفى ليس من صفات الفعل " ممنوعٌ ، بل هو من صفاتِه مجازٌ ، كما يُوْصف به المجزيُّ به مجازاً ، فإن الحقيقةَ في كليهما منتفيةٌ ، وإنما المُتَّصِفُ به حقيقةُ المُجازَى .
(1/5041)
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)
قوله : { وَأَنَّ إلى رَبِّكَ } : العامَّةُ على فتح هذه الهمزةِ وما عُطِفَ عليها بمعنى : أن الجميعَ في صُحُفِ موسى وإبراهيم . وقرأ أبو السَّمَّال بالكسرِ في الجميع على الابتداءِ . وقولُه : " أَضْحك وأَبْكى " وما بعده : هذا يُسَمِّيه البيانيون الطباقَ والتضادَّ ، وهو نوعٌ من البديعِ ، وهو أَنْ يُذْكَرَ ضدان أو نَقْيضان أو متنافيان بوجهٍ من الوجوه .
(1/5042)
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48)
قوله : { أقنى } : قال الزمخشريُّ : " أعطى القُنْيَة وهي المالُ الذي تَأَثَّلْتَه وعَزَمْتَ أن لا يَخْرُج مِنْ يَدِك " . قال الجوهري : " قَنِيَ الرجلُ يَقْنَى قِنَىً ، مثلَ : غنِيَ يَغْنَى غِنَى " . ثم يتعدَّى بتغييرِ الحركة فيقال : قَنَيْتُ مالاً أي : كَسَبْتُه ، وهو نظير : شَتِرَتْ عينُه بالكسر وشَتَرَها اللَّهُ بالفتح ، فإذا دَخَلَتْ عليه الهمزةُ أو التضعيفُ اكتسب مفعولاً ثانياً فيقال : أَقْناه الله مالاً ، وقَنَّاه إياه أي : أَكْسَبه إياه ، قال الشاعر :
4137 كم مِنْ غنيٍّ أصاب الدهرُ ثَرْوَته ... ومِنْ فقيرٍ تَقَنَّى بعد إقْلالِ
أي : تقنَّى مالاً ، فحذف الثاني ، وحُذِفَ مفعولا أغْنى وأَقْنى؛ لأنَّ المرادَ نسبةُ هذين الفعلين إليه وحدَه وكذلك في باقيها .
وألفُ " أَقْنى " عن ياءٍ لأنه مِنَ القُنِيْةِ قال :
4138 ألا إنَّ بَعْد العُدْمِ للمَرْءِ قُنِيَةً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقيل : أقْنى أَرْضَى . قال الراغب : " وتحقيقُه : أنه جَعَلَ له قُنْية من الرضا وقَنَيْتُ كذا واقْتَنَيْتُه قال :
4139 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قَنِيْتُ حَيائي عِفَّةً وتَكَرُّما
(1/5043)
وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49)
قوله : { رَبُّ الشعرى } : الشِّعْرى في لسان العرب كوكبان يُسَمَّى أحدُهما : الشِّعْرى العَبُور ، وهو المرادُ في الآيةِ الكريمةِ فإنَّ خُزاعةَ كانت تَعْبُدها ، وسَنَّ عبادتَها أبو كبشةَ رجلٌ مِنْ ساداتِهم ، وكانت قريشٌ تقولُ لرسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم : أبو كبشَة تشبيهاً بذلك الرجل ، في أنه أَحْدَثَ ديناً غيرَ دينهم . والشِّعْرى العَبُور تَطْلُعُ بعد الجوزاءِ في شدَّةِ الحرِّ ، ويُقال لها : مِرْزَمُ الجَوْزاء ويُسَمَّى كلبَ الجبَّار . والثاني : / الشِّعْرَى الغُمَيْصاء ، وهي التي في الذِّراع . وسبب تَسْميتها بذلك ما زَعَمَتْه العربُ : مِنْ أنَّهما كانا أخْتَيْن أو زوجَيْن لسُهَيْل ، فانحدر سهيلٌ إلى اليمنِ ، فاتَّبَعْته الشِّعْرى العَبُوْر فعبَرَتْ المَجَرَّة فسُمِّيَتِ العَبورَ ، وأقامَتِ الغُمَيْصاءُ ، وبَكَتْ لفَقْدِه حتى غَمَصَتْ عَيْنُها ، ولذلك كانت أَخْفَى من العَبُوْر .
(1/5044)
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50)
قوله : { عَاداً الأولى } : اعلَمْ أنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ مِنْ أشكلِ الآياتِ نَقْلاً وتوجيهاً ، وقد يَسَّر اللَّهُ تعالى تحريرَ ذلك كلِّه بحولِه وقوتِه فأقول : إنَّ القرَّاءَ اختلفوا في ذلك على أربعِ رُتَبٍ ، إحداها : قرأ ابن كثير وابن عامر والكوفيون " عادَاً الأُولى " بالتنوين مكسوراً وسكونِ اللام وتحقيقِ الهمزةِ بعدها ، هذا كلُّه في الوصلِ فإذا وقفوا على " عاداً " وابتدؤوا ب " الأُوْلى " فقياسُهم أَنْ يقولوا " الأولى " بهمزةِ الوصلِ وسكونِ اللامِ وتحقيقِ الهمزة .
الثانيةُ : قرأ قالون " عاداً لُّؤْلَى " بإدغامِ التنوين في اللامِ ، ونَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى لام التعريفِ ، وهمزِ الواوِ ، هذا في الوصل . وأمَّا في الابتداءِ بالأولى فله ثلاثةُ أوجهٍ ، الأولُ : " الُّؤْلَى " بهمزةِ وصل ، ثم بلامٍ مضمومة ، ثم بهمزةٍ ساكنة . الثاني : " لُؤْلَى " بلامٍ مضمومةٍ ثم بهمزةٍ ساكنةٍ . الثالث : كابتداءِ ابنِ كثير ومَنْ معه .
الثالثة : قرأ ورش " عاداً لُّوْلى " بإدغامِ التنوين في اللام ونَقْلِ حركةِ الهمزةِ إليها كقالون ، إلاَّ أنه أبقى الواوَ على حالِها غيرَ مبدلةٍ همزةً هذا في الوصل . وأمَّا في الابتداءِ بها فله وجهان : " ألُّوْلَى " بالهمزةِ والنقلِ ، و " لُوْلَى " بالنقلِ دونَ همزِ وصلٍ ، والواوُ ساكنةٌ على حالِها في هذَيْن الوجهَيْن .
الرابعة : قرأ أبو عمروٍ كوَرْشٍ وَصْلاً وابتداءً سواءً بسواءٍ ، إلاَّ أنه يزيدُ عليه في الابتداءِ بوجهٍ ثالثٍ ، وهو وجهُ ابنِ كثير ومَنْ ذُكِرَ معه ، فقد تحصَّل أنَّ لكلّ مِنْ قالون وأبي عمرو في الابتداء ثلاثةَ أوجهٍ ، وأنَّ لورشٍ وجهين . فتأمَّلْ ذلك فإنَّ تحريرَه صعبُ المأخذِ من كتب القراءات هذا ما يتعلَّقُ بالقراءات .
وأمَّا توجيهُها فيُوقف على معرفةِ ثلاثةِ أصولٍ ، الأول : حكمُ التنوينِ إذا وقع بعدَه ساكنٌ . الثاني : حكمُ حركةِ النقلِ . الثالث : أصلُ " أُوْلَى " ما هو؟ إمَّا الأولُ فحكمُ التنوينِ الملاقي أنْ يُكْسَرَ لالتقاءِ الساكنين نحو : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } [ الإِخلاص : 1 ] أو يُحْذَفَ تشبيهاً بحرفِ العلةِ كقراءةِ { أَحَدٌ الله الصمد } ، وكقولِ الشاعر :
4140 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلاً
وهو قليلٌ جداً ، وقد مضى تحقيقُه . وأمَّا الثاني فإنَّ للعرب في الحركة المنقولةِ مذهبين : الاعتدادَ بالحركةِ ، وعدمَ الاعتدادِ بها ، وهي اللغةُ العالية . وأمَّا الثالثُ فأُوْلَى تأنيثُ أَوَّل ، وقد تقدَّم الخلافُ في أصلِه مستوفى في أولِ هذا التصنيفِ فعليك باعتبارِه . إذا تقرَّرَتْ هذه الأصولُ الثلاثةُ فأقولُ :
أمَّا قراءةُ ابنِ كثير ومَنْ معه فإنهم صرفوا " عاداً " : إمَّا لأنه اسمٌ للحيِّ أو الأبِ فليس فيه ما يمنعُه ، وإمَّا لأنَّه كان مؤنثاً اسماً للقبيلةِ أو الأمِّ ، إلاَّ أنَّه مثلُ هِنْد ودَعْد فيجوزُ فيه الصرفُ وعدمُه فيكونُ كقوله :
4141 لم تَتَلَفَّعْ بفَضْلِ مِئْزَرِها ... دَعْدٌ ولم تُسْقَ دعدُ في العُلَب
(1/5045)
فصرفَها أولاً ومَنَعَها ثانياً ، ولَم يَنْقُلوا حركةَ الهمزةِ إلى لام التعريف فالتقى ساكنان ، فكسروا التنوينَ لالتقائِهما على ما هو المعروفُ من اللغتين وحذفوا همزةَ الوصلِ من " الأُوْلى " للاستغناءِ عنها بحركة التنوين وَصْلاً فإذا ابتدَؤوا بها احتاجُوا إلى همزة الوصل فأَتَوْا بها فقالوا : الأُوْلى كنظيرِها/ من هَمَزاتِ الوصلِ . وهذه قراءة واضحة لا إشكال فيها ومن ثم اختارها الجَمُّ الغَفيرُ .
وأمَّا قراءة مَنْ أدغم التنوينَ في لامِ التعريفِ وهما نافعٌ وأبو عمرو مع اختلافِهما في أشياءَ كما تقدَّم بيانُه فوجْهُه الاعتدادُ بحركةِ النقل؛ وذلك أنَّ مِنَ العربِ مَنْ إذا نَقَل حركة الهمزةِ إلى ساكنٍ قبلَها كلامِ التعريفِ عامَلَها معاملَتَها ساكنةً ، ولا يَعْتَدُّ بحركةِ النقلِ ، فيكسرُ الساكَنَ الواقعَ قبلَها ، ولا يُدْغِم فيها التنوينَ ، ويأتي قبلها بهمزةِ الوصلِ فيقول : لم يَذْهَبِ لَحْمَرُ ، ورأيت زياداً لَعْجَم ، من غيرِ إدغام التنوينِ ، والَحْمَرُ والَعْجَمُ بهمزة الوصلِ لأن اللامَ في حكمِ السكونِ ، وهذه هي اللغةُ المشهورة . ومنهم مَنْ يَعْتَدُّ بها ، فلا يكسِر الساكنَ الأولَ ، ولا يأتي بهمزةِ الوصلِ ، ويُدْغم التنوين في لام التعريف فيقولُ : لم يَذْهَبْ لَحْمر بسكون الباء ، ولَحْمَرُ ولَعْجَمُ من غيرِ همزٍ ، وزيادُ لّعجم بتشديدِ اللامِ ، وعلى هذه اللغةِ جاءَتْ هذه القراءةُ ، هذا من حيث الإِجمال .
وأمَّا من حيث التفصيلُ فأقول : أمَّا قالون فإنه نَقَلَ حركة الهمزةِ إلى لام التعريف ، وإنْ لم يكنْ من أصلِه النقلُ لأجل قَصْدِه التخفيفَ بالإِدغام ، ولَمَّا نقل الحركةَ اعْتَدَّ بها ، إذ لا يمكن الإِدغامُ في ساكنٍ ولا ما هو في حُكْمِه .
وأمَّا همزُه الواوُ ففيه وجهان منقولان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ أُوْلى أصلُها عنده وُؤْلَى مِنْ وَأَل أي : نجا ، كما هو قولُ الكوفيين ، ثم أَبْدَلَ الواوَ همزةً لأنها واوٌ مضمومةٌ ، وقد تقدَّم لك أنها لغةٌ مطردةٌ ، فاجتمع همزتان ثانيتُهما ساكنةٌ فَوَجَبَ قلبُها واواً نحو : " أُوْمِنُ " ، فلمَّا حُذِفَتْ الهمزةُ الأولى بسببِ نَقْلِ حركتِها رَجَعَتْ الثانيةُ إلى أصلِها من الهمزةِ لأنَّها إنما قُلِبت واواً من أجلِ الأُولى ، وقد زالَتْ ، وهذا كما رأيتَ تكلُّفٌ لا دليلَ عليه . والثاني : أنَّه لَمَّا نَقَلَ الحركةَ إلى اللامِ صارَت الضمةُ قبل الواوِ كأنَّها عليها ، لأنَّ حركةَ الحرفِ بين يديه ، فأبدل الواوَ همزةً كقولِه :
4142 أَحَبُّ المُؤْقِدِيْنَ إليَّ موسى ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكقراءةِ " يُؤْقنون " وهمزِ " السُّؤْقِ " و " سُؤْقِه " وقد تقدَّم تحريرُ ذلك ، وهذا بناءً منه على الاعتدادِ بالحركةِ أيضاً . وليس في هذا الوجهِ دليلٌ على أصلِ " أُوْلى " عنده ما هو؟ فيُحتمل الخلافُ المذكورُ جميعُه . وأمَّا ابتداؤُه الكلمةَ من غير نَقْلٍ فإنه الأصلُ ، ولأنه إنما نَقَلَ في الوصلِ لقَصْدِه التخفيفَ بالإِدغام ، ولا إدغامَ في الابتداءِ فلا حاجةَ إلى النقلِ . وأمَّا الابتداءُ له بالنقلِ فلأنه محمولٌ على الوصل ليجريَ اللفظُ فيهما على سَنَنٍ واحدٍ .
(1/5046)
وعلةُ إثباتِ ألفِ الوصلِ مع النقلِ في أحدِ الوجهَينِ : تَرْكُ الاعتدادِ بحركةِ اللامِ على ما عليه القراءةُ في نظائرِه ممَّا وُجِدَ فيه النقلُ؛ إذ الغَرَضُ إنما هو جَرْيُ اللفظِ في الابتداءِ والوصلِ على سَنَنٍ واحدٍ ، وذلك يَحْصُل بمجرد النقلِ وإنْ اختلفا في تقديرِ الاعتدادِ بالحركةِ وتركِه . وعلةُ تَرْكِ الإِتيانِ بالألفِ في الوجهِ الثاني حَمْلُ الابتداءِ على الوصلِ في النقلِ والاعتدادِ بالحركةِ جميعاً . ويُقَوِّي هذا الوجهَ رسمُ " الأولى " في هذا الموضع بغيرِ ألفٍ . والكلامُ في همز الواوِ مع النقل في الابتداءِ كالكلامِ عليه في الوَصْل كما تقدَّم .
وأمَّا ورشٌ فإنَّ أصلَه أن ينقلَ حركةَ الهمزةِ على اللام في الوصلِ فنقل على أصلِه ، إلاَّ أنه اعتدَّ بالحركةِ ليصِحَّ ما قَصَدَه في التخفيفِ بالإِدغامِ ، وليس من أصله الاعتدادُ بالحركة في نحو ذلك . ألا ترى أنه يَحْذِفُ الألفَ في { سِيَرتَهَا الأولى } [ طه : 21 ] و { وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى } [ الأعلى : 11 ] ولو اعْتَدَّ بالحركةِ لم يَحْذِفْها . وأمَّا ما جاء عنه في بعضِ الرواياتِ : { قَالُواْ لآنَ جِئْتَ بالحق } [ البقرة : 71 ] فإنه وجهٌ نادرٌ مُعَلَّلٌ باتِّباعِ الأثرِ والجَمْعِ بين اللغتين . والابتداءُ له بالنَّقْلِ على أصلِه في ذلك أيضاً ، والابتداءُ له بألفِ الوصلِ على تَرْكِ الاعتدادِ بالحركةٍِ ، إذْ لا حاجةَ إلى قَصْد ذلك في/ الابتداءِ ، وتَرْكِ الإِتْيانِ له بالألف على الاعتدادِ له بالحركة حَمْلاً للابتداءِ على الوصل وموافقةَ الرسمِ أيضاً ، لا يُبْتَدأ له بالأصل ، إذ ليس مِنْ أصلِه ذلك ، و " الأُوْلَى " في قراءتِه تَحْتَمل الخلافَ المذكورَ في أصلِها .
وأمَّا أبو عمروٍ فالعلةُ له في قراءتِه في الوصلِ والابتداءِ كالعلةِ المتقدمةِ لقالون ، إلاَّ أنَّه يُخالفه في همزِ الواو لأنه لم يُعْطِها حكمَ ما جاوَرَها ، وليسَتْ عنده مِنْ وَأل بل مِنْ غيرِ هذا الوجهِ ، كما تقدَّم لكَ الخلافُ فيه أولَ هذا الموضوع ، ويجوز أَنْ يكونَ أصلُها عندَه مِنْ وَأَل أيضاً إلاَّ أنه أَبْدَلَ في حالِ النقلِ مبالغةً في التخفيف ، أو موافَقَةً لحالِ تَرْكِ النَّقلِ ، وقد عاب هذه القراءةَ أعني قراءةَ الإِدغامِ أبو عثمانَ ، وأبو العباس ، ذهاباً منهما إلى أنَّ اللغةَ الفَصيحة عدمُ الاعتدادِ بالعارِضِ ، ولكن لا التفاتَ إلى رَدِّهما لثبوتِ ذلك لغةً وقراءةً ، وإن كان غيرُها أَفْصَحَ منها . وقد ثَبَتَ عن العرب أنَّهم يقولون : الَحْمَر ولَحْمَر بهمزةِ الوصلِ وعَدَمِها مع النقل ، واللَّهُ أعلمُ .
وقرأ أُبَيٌّ وهي في حَرْفِه " عادَ الأُولى " ، غيرَ مصروفٍ ذهاباً إلى القبيلةِ أو الأمِّ كما تقدَّم ، ففيه العلَمِيَّةُ والتأنيثُ ، ويَدُلُّ على التأنيثِ قولُه : " الأُوْلَى " فوصَفَها بوَصْفِ المؤنث .
(1/5047)
وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51)
وقد تقدَّمَ الخلافُ في " ثمود " بالنسبة للصَرْفِ وعَدَمِه في سورة هود ، وفي انتصابِه هنا وجهان ، أحدُهما : أنه معطوفٌ على " عاداً " . والثاني : أنَّه منصوبٌ بالفعلِ المقدَّرِ ، أي : وأهلَك ، قاله أبو البقاء ، وبه بَدَأ ، ولا حاجةَ إليه ، ولا يجوزُ أن ينتصِبَ ب " أَبْقَى " لأنَّ ما بعد " ما " النافيةِ لا يعملُ فيما قبلها ، والظاهرُ أنَّ متعلَّقَ " أَبْقَى " عائدٌ على مَنْ تقدَّم مِنْ عادٍ وثمودَ ، أي : فما أَبْقَى عليهم ، أي : على عادٍ وثمودَ ، أو يكونُ التقديرُ : فما أَبْقَى منهم أحداً ولا عَيْناً تَطْرُفُ .
(1/5048)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52)
و { قَوْمَ نُوحٍ } : كالذي قبلَه . و " مِنْ قبلُ " ، أي : مِنْ قَبْلِ عادٍ وثمودَ .
وقوله : { إِنَّهُمْ } يُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ الضميرُ لقومِ نوحٍ خاصةً ، وأن يكونَ لجميعِ مَنْ تقدَّمَ مِن الأمم الثلاثةِ .
وقوله : { كَانُواْ هُمْ } يجوز في " هم " أَنْ يكون تأكيداً ، وأَنْ يكون فَصْلاً ، ويَضْعُفُ أَنْ يكونَ بدلاً ، والمفضَّل عليه محذوفٌ ، تقديرُه : مِنْ عادٍ وثمودَ ، على قولنا : إن الضميرَ لقومِ نوحٍ خاصةً ، وعلى القول بأنَّ الضميرَ للكلِّ يكون التقديرُ : مِنْ غيرهم . و " المُؤْتَفِكَة " منصوبٌ ب " أَهْوَى " وقُدِّمَ لأَجْلِ الفواصل .
(1/5049)
فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)
قوله : { مَا غشى } : كقولِه { مَآ أوحى } [ النجم : 10 ] في الإِبهام وهو المفعولُ الثاني ، إنْ قلنا : إنَّ التضعيفَ للتعديةِ ، وإن قُلْنا : إنه للمبالغةِ والتكثيرِ فتكونُ " ما " فاعلةً كقولِه : { فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ } [ طه : 78 ] .
(1/5050)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)
قوله : { فَبِأَيِّ } متعلقٌ ب " تَتَمارَى " والباءُ ظرفيةٌ بمعنى في . وقرأ ابنُ محيصن ويعقوبُ " تَمارى " بالحذف كقراءةِ " تَذَكَّرون " .
(1/5051)
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56)
و { هذا } : إشارةٌ إلى ما تقدَّم من الآي أو إلى القرآن ، وإلى الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم ، ونذير : يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً ، وأَنْ يكونَ اسمَ فاعلٍ ، وكلاهما لا يَنْقاس ، بل القياسُ في مصدرِه إنذار ، وفي اسمِ فاعلِه مُنْذِر ، والنُّذُر يجوز أَنْ يكونَ جمعاً لنَذير بمعنَييْهِ المذكوريَنْ ، و " الأَُوْلَى " صفةٌ حملاً على معنى الجماعةِ كقولِه : { مَآرِبُ } ، [ طه : 18 ] والآزِفَةُ ، أي : الساعةُ الآزفة ، كقولِه : { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] ، ويجوز أن تكونَ الآزفةُ عَلَماً للقيامة بالغَلَبة .
(1/5052)
لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)
قوله : { كَاشِفَةٌ } : يجوز أَنْ يكونَ وصفاً ، وأَنْ يكونَ مصدراً ، فإنْ كانَتْ وصفاً احتمل أَنْ يكونَ التأنيثُ/ لأجلِ أنَّه صفةٌ لمؤنثٍ محذوفٍ وقيل : تقديرُه : نفسٌ كاشفةٌ ، أو حالٌ كاشِفة ، واحتمل أَنْ تكونَ التاءُ للمبالغة كعلاَّمَة ونَسَّابة ، أي ليس لها إنسانٌ كاشفةٌ ، أي : كثيرُ الكشف ، وإن كان مصدراً فهو كالعافِية والعاقِبَة وخائِنَةِ الأَعْين ، ومعنى الكَشْفِ هنا : إمَّا مِنْ كَشَفَ الشيءَ ، أي : عَرَفَ حقيقتَه كقولِه : { لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } ، وإمَّا مِنْ كَشَفَ الضُرَّ ، أي : أزاله ، أي : ليس لها مَنْ يُزيلها ويُنَجِّيها غيرُ اللَّهِ تعالى ، وقد تقدَّم الكلامُ على مادة " أزف " في سورة غافر .
(1/5053)
أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)
قوله : { أَفَمِنْ هذا الحديث } : متعلِّقٌ ب " تَعْجَبون " ولا يجيءُ فيه الإِعمالُ؛ لأنَّ مِنْ شرطِ الإِعمال تأخُّرَ المعمولِ عن العوامل ، هنا هو متقدِّمٌ . وفيه خلافٌ بعيدٌ ، وعليه تَتَخَرَّج الآيةُ الكريمةُ . فإنَّ كلاً مِنْ قولِه : تَعْجبون ، وتَضْحكون ولا تَبكون يَطْلُبُ هذا الجارَّ مِنْ حيث المعنى .
والعامَّةُ على فتح التاءِ والجيم والحاءِ مِنْ تَعْجَبون ، تَضْحكون . والحسن : بضم التاءَ وكسرِ الجيمِ والحاءِ مِنْ غيرِ واوٍ عاطفةٍ بين الفعلَيْن ، وهي أبْلَغُ : مِن حيث إنَّهم إذا أَضْحكوا غيرَهم كان تجرُّؤُهم أكثرَ . وقرأ أُبَيٌّ وعبد الله كالجماعةَ ، إلاَّ أنهما بلا واوٍ عاطفةٍ كالحسن ، فيُحتمل أَنْ تكونَ " تضحكون " حالاً ، وأَنْ تكونَ استئنافاً كالتي قبلها .
(1/5054)
وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61)
قوله : { وَأَنتُمْ سَامِدُونَ } : هذه الجملةُ تَحْتمل أَن تكونَ مستأنفةً ، أخبرَ اللَّهُ تعالى عنهم بذلك ، وتَحْتمل أَنْ تكونَ حالاً أي : انتفى عنكم التباكي حالَ كونِكم " سامدونَ " . والسُّمُود قيل الإِعراضُ . وقيل : اللهوُ . وقيل : الجمود . وقيل : الاستكبار . قال الشاعر :
4143 رَمَى الحِدْثانُ نِسْوَةَ آلِ سَعْدٍ ... بمقدارٍ سَمَدْن له سُمودا
فرَدَّ شعرورَهن السودَ بِيْضاً ... ورَدَّ وجوهَهن البيضَ سُودا
فهذا بمعنى الجمود والخُشوع ، وقال آخر :
4144 ألا أيها الإِنسانُ إنَّك سامِدٌ ... كأنَّك لا تَفْنَى ولا أنت هالكُ
فهذا بمعنى لاهٍ لاعِبٌ ، وقال أبو عبيدة/ : " السُّمود " : الغناءُ بلغة حمير ، يقولون : يا جاريةُ اسْمُدي لنا ، أي : غَنِّي ، وقال الراغب : " السَّامِدُ : اللاهي الرافعُ رأسَه ، مِنْ قولهم : بعيرٌ سامِدٌ في سَيْرِه ، وقيل : سَمَّدَ رأسَه وسَبَّدَه ، أي : استأصلَ شَعْرَه " .
(1/5055)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)
قوله : { وانشق القمر } : هذا ماضٍ على حقيقتِه وهو قولُ عامَّةِ المسلمين ، إلاَّ مَنْ لا يُلْتَفَتُ إلى قولِه ، وقد صَحَّ في الأخبار أنه انشقَّ على عهدَِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم مرَّتين . وقيل : انشَقَّ بمعنى : سينشَقُّ يومَ القيامةِ ، فأوقع الماضيَ موضع المستقبلِ لتحقُّقِه ، وهو خلافُ الإِجماع . وقيل : انشَقَّ بمعنى انْفَلَقَ عنه الظلامُ عند طلوعِه ، كما يُسَمَّى الصبحُ فَلَقاً . وأنشد للنابغة :
4145 فلمَّا أَدْبَرُوا ولهُم دَوِيٌّ ... دعانا عند شَقِّ الصُّبْحِ داعي
وإنما ذَكَرْتُ لك تنبيهاً على ضَعْفِه وفسادِه .
(1/5056)
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2)
قوله : { مُّسْتَمِرٌّ } فيه أقوالٌ ، أحدها : أنَّ معناه : دائمٌ مُطَّرِدٌ . وكلُّ شيءٍ قد انقادَتْ طريقتُه ودامَتْ حالُه قيل فيه : استمرَّ . قاله الزمخشري . ومِنْه قولُه :
4146 ألا إنما الدنيا ليالٍ وأَعْصُرٌ ... وليسَ على شيءٍ قويمٍ بمُسْتَمِرّ
أي : بدائم باقٍ . الثاني : أنَّ معناه : مُوَثَّقٌ مُحْكَمٌ مِنْ قولِهم : أَمَرَّ الحبلَ ، أي : أَحْكَمَ فَتْلَه . قال :
4147 حتى اسْتَمَرَّتْ على شَزْرٍ مَريرتُه ... صِدْقُ العزيمةِ لا رثَّاً ولا ضَرَعا
الثالث : أنَّ معناه مارٌّ ذاهب مَنَّوْا أنفسَهم بذلك . الرابع : أنَّ معناه شديدُ المرارة . قال الزمشخري : " أي : مُسْتَبْشَعٌ عندنا ، مُرٌّ على لَهَواتنا ، ولا نَقْدِرُ أَنْ نَسِيْغَه كما لا نَسيغُ المُرَّ المَقِرَ " انتهى . يقال : مَرَّ الشيءُ بنفسِه ومَرَّه غيرُه ، فيكون متعدياً ولازِماً ويقال : أَمَرَّه أيضاً . الخامس : أنَّ معناه/ مُشْبِهٌ بعضُه بعضاً ، أي : استمرَّتْ أفعالُه على هذا الحالِ . قاله الشيخ ، وهو راجِعٌ إلى المعنى الأول ، أعني الدوامَ والاطِّرادَ ، وكان هو قد حكاه قبل ذلك . وأتى بهذه الجملةِ الشرطيةِ تنبيهاً على أَنَّ حالَهم في المستقبلِ كحالِهم في الماضي . وقُرِىء " يُرَوْا " مبنياً للمفعول مِنْ أَرى .
(1/5057)
وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
قوله : { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } : العامَّة على كسرِ القافِ ورفعِ الراءِ اسمَ فاعلٍ ورفعِه خبراً ل " كل " الواقعِ مبتدأً . وقرأ شَيْبَةُ بفتح القافِ ، وتُروَى عن نافعٍ . قال أبو حاتم : " لا وجهَ لها " وقد وَجَّهها غيرُه على حَذْفِ مضافٍ ، أي : وكلُّ أمرٍ ذو استقرار ، أو زمانَ استقرارٍ أو مكانَ استقرارٍ ، فجاز أن يكونَ مصدراً ، وأن يكون ظرفاً زمانياً أو مكانياً ، قال معناه الزمخشري .
وقرأ أبو جعفر وزيد بن علي بكسر القاف وجَرِّ الراء وفيها أوجهٌ ، أحدُها : ولم يَذْكُرْ الزمخشريُّ غيرَه أَنْ يكونَ صفةً لأمر . ويرتفعُ " كلُّ " حينئذٍ بالعطفِ على " الساعة " ، فيكونُ فاعلاً ، أي : اقتربَتِ الساعةُ وكلُّ أمرٍ مستقرٍ . قال الشيخ : " وهذا بعيدٌ لوجودِ الفصلِ بجملٍ ثلاثٍ ، وبعيدٌ أَنْ يوجدَ مثلُ هذا التركيبِ في كلام العربِ نحو : أكلتُ خبزاً ، وضربْتُ خالداً ، وإن يَجِىءْ زيدٌ أُكْرِمْه ، ورَحَل إلى بني فلان ، ولحماً ، فيكونُ " ولحماً " معطوفاً على " خبزاً " بل لا يوجَدُ مثلُه في كلام العربِ . انتهى " . قلت : وإذا دلَّ دليلٌ على المعنى فلا نبالي بالفواصلِ . وأين فصاحةُ القرآن من هذا التركيبِ الذي ركَّبه هو حتى يَقيسَه عليه في المنع؟
الثاني : أَنْ يكونَ " مُسْتقرٍ " خبراً ل " كلُّ أمرٍ " وهو مرفوعٌ ، إلاَّ أنه خُفِضَ على الجِوار ، قاله أبو الفضل الرازي . وهذا لا يجوزُ؛ لأن الجِوارَ إنما جاء في النعتِ أو العطفِ ، على خلافٍ في إثباته ، كما قدَّمْتُ لك الكلامَ فيه مستوفى في سورةِ المائدة . فكيف يُقال في خبر المبتدأ : هذا ما لا يجوزُ؟ الثالث : أنَّ خبرَ المبتدأ قولُه " حكمةٌ بالغةٌ " أخبر عن كلِّ أمرٍ مستقرٍ بأنَّه حكمةٌ بالغةٌ ، ويكون قولُه : " ولقد جاءهم من الأنباءِ ما فيه مُزْدَجَرٌ " جملةَ اعتراضٍ بين المبتدأ وخبرِه . الرابع : أنَّ الخبرَ مقدرٌ ، فقدَّره أبو البقاء : معمولٌ به ، أو أتى . وقدَّره غيرُه : بالغوه لأنَّ قبلَه { وَكَذَّبُواْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ } ، أي : وكلُّ أمرٍ مستقرٍّ لهم في القَدَر مِن خيرٍ أو شرٍّ بالغوه .
(1/5058)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
قوله : { مُزْدَجَرٌ } : يجوزُ أَنْ يكونَ فاعِلاً ب " فيه "؛ لأنَّ " فيه " وقع صلةً ، وأَنْ يكونَ مبتدأ ، و " فيه " الخبرُ . والدال بدلٌ مِنْ تاءِ الافتعال . وقد تقدَّم أنَّ تاءَ الافتعال تُقْلَبُ دالاً بعد الزاي والدال والذال؛ لأنَّ الزايَ حرفٌ مجهورٌ ، والتاءَ حرفٌ مهموسٌ ، فأبدلوها إلى حرفٍ مجهورٍ قريبٍ من التاءِ ، وهو الدالُ . ومُزْدَجَر هنا اسمُ مصدرٍ ، أي : ازْدِجار ، أو اسمُ مكانٍ ، أي : موضعَ ازْدِجار . وقُرِىء " مُزَّجَر " بقَلْبِ تاءِ الافتعال زاياً ثم أُدْغِمَ . وزيد بن علي " مُزْجِر " اسمَ فاعلٍ من أَزْجر ، أي : صار ذا زَجْر كأَعْشَبَ ، أي : صار ذا عُشْبٍ .
(1/5059)
حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)
قوله : { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه بدلٌ من " ما فيه مُزْدَجر " كأنه قيل : ولقد جاءَهُمْ حكمةٌ بالغةٌ من الأنباء ، وحينئذٍ يكونُ بدلَ كلٍ مِنْ كلٍ ، أو بدلَ اشتمال . الثاني : أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هو حكمةٌ ، أي : ذلك الذي جاءهم . وقد تقدَّم أنه يجوزُ على قراءةِ أبي جعفرٍ وزيدٍ أَنْ يكونَ خبراً ل " كلُّ أمرٍ مستقرٍ " . وقُرِىء " حكمةً " بالنصب حالاً مِنْ " ما " قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : إن كانَتْ " ما " موصولةً ساغ لك أَنْ تَنْصِبَ " حكمةً " حالاً ، فكيف تعمل إنْ كانت موصوفةً وهو الظاهرُ؟ قلت : تَخَصُّصُها بالصفةِ فيَحْسُنُ نَصْبُ الحالِ عنها " انتهى . وهو سؤال واضحٌ جداً .
قولَه : { فَمَا تُغْنِ النذر } يجوزُ في " ما " أَنْ تكونَ استفهاميةً ، وتكون في محلِّ نصبٍ مفعولاً مقدماً ، أي : أيُّ شيءٍ تُغْني النذرُ؟ وأن تكون نافيةً ، أي : لم تُغْنِ النذرُ شيئاً . والنُّذُرُ : جمعُ نذيرٍ المرادِ به المصدرُ أو اسمُ الفاعل ، كما تقدَّم في آخر النجم .
وكُتِب " تُغْنِ " إتباعاً لِلَفْظِ الوصلِ فإنَّها ساقطةٌ لالتقاء الساكنين : قال بعضُ النحويين : وإنما حُذِفَتْ الياءُ مِنْ " تُغْني " حَمْلاً ل " ما " على " لم " فجَزَمَتْ كما تَجْزِمُ " لم " . قال مكي : " وهذا خطأٌ؛ لأنَّ " لم " تَنْفي الماضيَ وتَرُدُّ المستقبلَ ماضياً ، و " ما " تنفي الحالَ ، فلا يجوزُ أَنْ تقعَ إحداهما موقع الأخرى لاختلافِ معنَيَيْهما " .
(1/5060)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)
قوله : { يَوْمَ يَدْعُ الداع } : منصوبٌ : إمَّا ب " اذْكُرْ " مضمرةً وهو أقربُها ، وإليه ذهب الرُّمَّاني والزمخشري ، وإمَّا ب " يَخْرُجون " بعده وإليه ذهب الزمخشريُّ أيضاً ، وإمَّا بقولِه " فما تُغْني " ، ويكون قولُه " فَتَوَلَّ عنهم " اعتراضاً ، وإمَّا منصوباً بقولِه { يَقُولُ الكافرون } [ القمر : 8 ] وفيه بُعْدٌ لبُعْدِه منه ، وإمَّا بقولِه " فَتَوَلَّ " وهو ضعيفٌ جداً؛ لأنَّ المعنى ليس أَمْرَه/ بالتوليةِ عنهم في يومِ النفخ في الصُّورِ ، وإمَّا بحذفِ الخافض ، أي فَتَوَلَّ عنهم إلى يوم؛ قاله الحسن . وضُعِّف من حيث اللفظُ ، ومن حيث المعنى . أمَّا اللفظُ : فلأنَّ إسقاطَ الخافضِ غيرُ مُنْقاسٍ . وأمَّا المعنى : فليس تَوَلِّيه عنهم مُغَيَّا بذلك الزمان ، وإمَّا ب انتظرْ مضمراً . فهذه سبعةُ أوجهٍ في ناصب " يومَ " . وحُذِفَتْ الواوُ مِنْ " يَدْعُ " خَطَّاً اتِّباعاً للِّفْظِ ، كما تقدَّم في { يُغْنِ } { وَيَمْحُ الله الباطل } [ الشورى : 24 ] وشبهِه ، والياءُ من " الداعِ " ، مبالغةً في التخفيف إجراءً لأل مُجْرى ما عاقبها وهو التنوينُ فكما تُحْذَفُ الياءُ مع التنوينِ كذلك مع ما عاقَبها .
قوله : { نُّكُرٍ } العامَّةُ على ضمِّ الكاف وهو صفةٌ على فُعُل ، وفُعُل في الصفات عزيزٌ ، منه : أمرٌ نُكُرٌ ، ورجلٌ شُلُل ، وناقةٌ أُجُد ، وروضةٌ أُنُفٌ ، ومِشْيَةٌ سُجُحٌ . وابن كثير بسكونِ الكافِ فيُحتمل أَنْ يكونَ أصلاً ، وأَنْ يكونَ مخفَّفاً مِنْ قراءةِ الجماعةِ . وقد تقدَّم لك هذا محرَّراً في اليُسْر والعُسْر في المائدة . وسُمِّي الشيءُ الشديدُ نُكُراً لأن النفوس تُنْكِره قال مالك بن عوف :
4148 اقْدُمْ مَحاجِ إنه يومٌ نُكُرْ ... مِثْلي على مِثْلِك يَحْمي ويَكُرّْ
وقرأ زيدُ بنُ علي والجحدري وأبو قلابة " نُكِرَ " فعلاً ماضياً مبنياً للمفعولِ؛ لأنَّ " نَكِرَ " يتعدى قال : { نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ } [ هود : 70 ] .
(1/5061)
خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
قوله : { خُشَّعاً } : قرأ أبو عمر والأخَوان " خاشِعاً " وباقي السبعة " خُشَّعاً " . فالقراءةُ الأولى جاريةٌ على اللغةِ الفُصْحى مِنْ حيث إن الفعلَ وما جرى مَجْراه إذا قُدِّمَ على الفاعلِ وُحِّد . تقول : تَخْشَع أبصارُهم ولا تقولُ : تَخْشَعْن أبصارُهم ، وأنشد قولَ الشاعر :
4149 وشَبابٍ حَسَنٍ أَوْجُهُهُمْ ... مِنْ إيادِ بنِ نزارِ بنِ مَعَدّْ
وقال آخر :
4150 يَرْمي الفِجاجَ بها الرُّكبانُ معْتَرِضاً ... أعناقَ بُزَّلِها مُرْخى لها الجُدُلُ
وأمَّا الثانيةُ فجاءَتْ على لغة طَيِّىء يقولون : أكلوني البراغيث . وقد تقدَّم القولُ في هذا مشبعاً في المائدة والأنبياء . ومثلُه قولُ الآخر :
4151 بمُطَّرِدٍ لَدْنٍ صِحاح كُعُوبُه ... وذي رَوْنَقٍ عَضْبٍ يَقُدُّ القَوانِسا
وقيل : وجمعُ التكسير في اللغة في مثل هذا أكثرُ من الإِفراد . وقرأ أُبَيٌّ وعبد الله " خاشعةً " على تَخْشَعُ هي . وقال الزمخشري : " وخُشَّعاً على : تخشَعْن أبصارهم ، وهي لغةُ مَنْ يقول : أكلوني البراغيث وهم طيىء " ، قال الشيخ : " ولا يَجْري جمعُ التكسيرِ مَجْرى جمعِ السلامةِ ، فيكون على تلك اللغةِ النادرِ القليلةِ . وقد نَصَّ سيبويه على أنَّ جمعَ التكسيرِ في كلام العربِ أكثرُ ، فكيف يكونُ أكثرَ ، ويكون على تلك اللغةِ النادرةِ القليلة؟ وكذا قال الفراء حين ذكر الإِفراد مذكراً ومؤنثاً وجمعَ التكسيرِ ، قال : " لأنَّ الصفةَ متى تَقَدَّمَتْ على الجماعة جاز فيها جميعُ ذلك ، والجمعُ موافِقٌ لِلَفْظِها فكان أشبهَ " قال الشيخ : " وإنما يُخَرَّجُ على تلك اللغةِ إذا كان الجمعُ جَمْعَ سلامةٍ نحو : " مَرَرْتُ بقومٍ كريمين آباؤُهم " والزمخشريُّ قاسَ جَمْعَ التكسيرِ على جَمْعِ السلامةِ وهو قياسٌ فاسدٌ يَرُدُّه النَّقْلُ عن العربِ : أنَّ جَمْعَ التكسيرِ أجودُ من الإِفرادِ ، كما ذكره سيبويهِ ، ودَلَّ عليه كلامُ الفراء " . قلت : قد خَرَّج الناسُ قولَ امرىء القيس :
4152 وُقوفاً بها صَحْبي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ ... يقولون : لا تَهْلِكْ أسىً وتَجَمَّلِ
على أنَّ " صحبي " فاعل ب " وقوفاً " وهو جمعُ واقِف في أحدِ القولين في " وقوفاً " . وفي انتصابِ خاشعاً وخُشَّعاً وخاشعةً أوجهٌ ، أحدُها : أنه مفعولٌ به وناصبُه " يَدْعُ الداعِ " وهو في الحقيقةِ لموصوفٍ محذوفٍ تقديرهُ : فريقاً خاشعاً ، أو فوجاً خاشعاً . والثاني : أنه حالٌ مِنْ فاعل " يَخْرُجون " المتأخرِ عنه . ولَمَّا كان العاملُ متصرِّفاً جاز تقدُّمُ الحالِ عليه ، وهو رَدٌّ على الجرميِّ حيث زعم أنه لا يجوزُ . ورُدَّ عليه أيضاً بقول العرب : " شَتَّى تَؤُوب الحَلَبَة " ، ف " شتى " حالٌ من " الحلَبَة " وقال الشاعر :
4153 سَريعاً يهون الصَّعْبُ عند أُولي النُّهى ... إذا برجاءٍ صادقٍ قابلوا البأسا
الثالث : أنه حالٌ من الضمير في " عنهم " ولم يذكر/ مكيٌّ غيره .
(1/5062)
الرابع : أنه حالٌ مِنْ مفعولَ " يَدْعُو " المحذوفِ تقديره : يومَ يَدْعوهم الداعي خُشَّعاً ، فالعامل فيها " يَدْعو " ، قاله أبو البقاء . وهو تكلُّفُ ما لا حاجةَ إليه .
وارتفع " أبصارهم " على وجهين : إمَّا الفاعلية بالصفةِ قبلَه وهو الظاهرُ ، وإمَّا على البدلِ من الضمير المستتر في " خُشَّعاً " لأنَّ التقديرَ : خُشَّعاً هم . وهذا إنما يتأتَّى على قراءةِ " خُشَّعاً " فقط .
وقرِىء " خُشَّعٌ أبصارهم " على أنَّ خشعاً خبرٌ مقدمٌ و " أبصارُهُمْ " مبتدأ . والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ وفيه الخلافُ المذكورُ مِنْ قبلُ كقوله :
4154 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وَجَدْتُه حاضِراه الجودُ والكرمُ
قوله : { يَخْرُجُونَ } يجوزُ أنْ يكونَ حالاً من الضمير في " أبصارُهم " ، وأنْ يكونَ مستأنفاً . والأَجْداث : القبورُ . وقد تقَدَّم ذكرُه في سورةِ يس .
قوله : { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ } هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً مِنْ فاعلِ " يَخْرُجون " أو مستأنفةً . و " مُهْطِعين " حالٌ أيضاً مِنْ اسم كان أو مِنْ فاعلِ " يَخْرُجون " عند مَنْ يرى تعدُّدَ الحال . قال أبو البقاء : " ومُهْطِعين حالٌ من الضميرِ في " مُنْتَشِرٌ " عند قوم . وهو بعيدٌ؛ لأنَّ الضميرَ في " مُنتشِر " للجراد ، وإنما هو حالٌ مِنْ فاعل " يَخْرُجون " أو من الضمير المحذوف " انتهى . وهو اعتراضٌ حسنٌ على هذا القول .
والإِهْطاعُ : الإِسراعُ وأُنْشِد :
4155 بدِجلَةَ دارُهُمْ ولقد أَرَاهُمْ ... بدِجْلةَ مُهْطِعين إلى السَّماع
وقيل : الإِسراعُ مع مَدِّ العُنُق . وقيل : النظر . وأنشد :
4156 تَعَبَّدَني نِمْرُ بنُ سَعْدٍ وقد أُرَى ... ونِمْرُ بنُ سَعْدٍ لي مُطيعٌ ومُهْطِعُ
وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادةِ في سورة إبراهيم . قوله : { يَقُولُ الكافرون } قال أبو البقاء : " حالٌ من الضمير في " مُهْطعين " . وفيه نظرٌ من حيث خلوُّ الجملةِ مِنْ رابطٍ يَرْبُطُها بذي الحال . وقد يُجابُ عنه : بأنَّ " الكافرون " هم الضميرُ في المعنى ، فيكونُ من باب الربطِ بالاسمِ الظاهر عند مَنْ يرى ذلك ، كأنه قيل : يقولون هذا . وإنما أَبْرزهم تشنيعاً عليهم بهذه الصفةِ القبيحةِ .
(1/5063)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9)
قوله : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ } : مفعولُه محذوفٌ ، أي : كَذَّبَتِ الرسلَ؛ لأنهم لَمَّا كذَّبوا نوحاً عليه السلام فقد كَذَّبوا جميعَ الرسل . ولا يجوزُ أَنْ تكونَ المسألةُ من باب التنازع؛ إذ لو كان منه لكان التقدير : كَذَّبَتْ قبلَهم قومُ نوحٍ عبدَنا فكذَّبوه ، ولو لُفِظ بهذا لكان تأكيداً ، إذ لم يُفِدْ غيرَ الأولِ . وشرطُ التنازعِ أَنْ لا يكونَ الثاني تأكيداً ، لذلك منعوا أَنْ يكونَ قولُه :
4175 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أتاكِ أتاكِ اللاحقون احْبِسِ احبسِ
من ذلك . وفي كلامِ الزمخشريِّ ما يُجَوِّزُه فإنه أخرجه عن التأكيدِ فقال : " فإنْ قلتَ ما معنى قولِه " فكذَّبوا " بعد قولِه " كَذَّبَتْ "؟ قلت : معناه كذَّبوا فكذَّبوا عبَدنا أي : كذَّبوه تكذيباً عَقِبَ تكذيبٍ كلما مضى منهم قَرَنٌ مُكَذِّبٌ تَبِعه قرنٌ مكذبٌ " فهذا معنى حسن يسوغُ معه التنازعُ . و " مجنون " خبرُ ابتداءٍ مضمر أي : هو مجنون . والدالُ في " ازْدُجِر " بدلٌ مِنْ تاء كما تَقَدَّم . وهل هو مِنْ مَقولِهم ، أي : قالوا : إنه ازْدُجِرَ ، أي : ازْدَجَرَتَهُ الجنُّ ، وذهبَتْ بلُبِّه ، قاله مجاهد ، أو هو مِنْ كلام الله تعالى ، أخبر عنه : بأنه انْتُهِر وزُجِرَ بالسبِّ وأنواع الأذى .
(1/5064)
فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10)
قوله : { أَنِّي مَغْلُوبٌ } : العامَّةُ على فتح الهمزة ، أي : دعاه بأني مغلوبٌ وجاء هذا على حكاية المعنى ولو جاء على حكاية اللفظِ لقال : إنه مغلوبٌ ، وهما جائزان . وقرأ ابنُ أبي إسحاق والأعمشُ ورُويت عن عاصمٍ بالكسر : إمَّا على إضمارِ القولِ ، أي : فقال ، فَسَّر به الدعاءَ ، وهو مذهبُ البصريين ، وإمَّا إجراءً للدعاءِ مُجْرى القولِ وهو مذهبُ الكوفيين . وقد تقدَّم الخلاف في " فَتَحْنا " في الأنعام ولله الحمد .
(1/5065)
فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11)
قوله : { مُّنْهَمِرٍ } : المنهمر : الغزيرُ النازلُ بقوة . وأُنشد :
4158 راحَ تَمْرِيْه الصَّبا ثم انتحى ... فيه شُؤْبُوْبُ جَنوبٍ مُنْهَمِرْ
/ واسْتُعير ذلك في قولهم : هَمَر الرجلُ في كلامِه ، وفلانٌ يُهامِر الشيءَ ، أي : يَجْرُفُهُ ، وهَمَرَه مِنْ ماله : أعطاه بكثرةٍ .
وفي الباء في " بماء " وجهان ، أظهرهما : أنها للتعدية ويكونُ ذلك على المبالغة في أنه جَعَلَ الماءَ كالآلةِ المُفْتتحِ بها كما تقول : فَتَحْتُ بالمفتاح . والثاني : أنها للحال ، أي : فَتَحْناها ملتبسةً بهذا الماء . وقرأ عبد الله وأبو حيوة وعاصم في رواية " وفَجَرْنا " مخففاً ، والباقون مثقلاً .
(1/5066)
وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)
قوله : { عُيُوناً } : فيه أوجهٌ ، أشهرها : أنه تمييزٌ ، أي : فَجَّرْنا عيونَ الأرض فنَقله من المفعوليةِ إلى التمييز ، كما يُنقل من الفاعلية .
ومنعه بعضُهم ، وتأوَّل هذه الآية على ما سيأتي : { وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } أبلغُ مِنْ " فَجَّرْنا عيونَ الأرض " لِما ذُكِر في نظيرِه غيرَه مرةٍ . الثاني : أنه منصوبٌ على البدلِ من " الأرض " . ويُضْعِفُ هذا خُلُوُّه من الضميرِ فإنه بدلُ بعضٍ مِنْ كل . ويُجاب عنه : بأنَّه محذوفٌ ، أي : عيوناً منها كقوله { الأخدود النار } [ البروج : 4-5 ] فالنار بدلُ اشتمالٍ . ولا ضميرَ فهو مقدرٌ . الثالث : أنه مفعولٌ ثانٍ لأنه ضُمِّن " فَجَّرنا " معنى صَيَّرْناها بالتفجير عيوناً . الرابع : أنها حالٌ . وفيه تَجَوُّزان : حَذْفُ مضافٍ ، أي : ذات عيون ، وكونُها حالاً مقدرة لا مقارنةً .
قوله : { فَالْتَقَى المآء } لَمَّا كان المرادُ بالماءِ الجنسَ صَحَّ أَنْ يُقالَ : فالتقى الماء ، كأنه : فالتقى ماءُ السماء وماءُ الأرض . وهذه قراءة العامَّة . وقرأ الحسن والجحدري ومحمد بن كعب ، وتُرْوَى عن أمير المؤمنين أيضاً " الماءان " يتثنيةٍ ، والهمزةُ سالمةٌ . وقرأ الحسن أيضاً " الماوان " بقَلْبها واواً . قال الزمخشري : " كقولهم : عِلْباوان يعني : أنه شَبَّه الهمزةَ المقلبةَ عن هاء بهمزةِ الإِلحاق . ورُوِي عنه أيضاً " المايان " بقَلْبها ياءً وهي أشدُّ مِمَّا قبلَها .
وقوله : { قَدْ قُدِرَ } العامَّةُ على التخفيفِ . وقرأ ابنُ مقسم وأبو حيوةَ بالتشديد ، وهما لغتان قُرِىء بهما : قولُه { قَدَّرَ فهدى } [ الأعلى : 3 ] ، { قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ } [ الطلاق : 7 ] كما سيأتي .
(1/5067)
وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)
قوله : { ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } : ، أي : سفينةٌ ذاتُ ألواحٍ قال الزمخشري : وهي من الصفات التي تقوم مَقام الموصوفات فتنوب مَنابها وتؤدي مُؤَدَّاها ، بحيث لا يُفْصَلُ بينها وبينها . ونحوه :
4159 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ولكنْ ... نَ قميصي مَسْرودةٌ مِنْ حديدِ
أراد : ولكنَّ قميصي دِرْع . وكذلك :
4160 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولو في عيونِ النازياتِ بأَكْرُعِ
أراد : ولو في عين الجَراد . ألا ترى أنَّك لو جَمَعْتَ بين السفينة وبين هذه الصفاتِ أو بين عيونِ الجراد والدِّرْع وهاتَيْن الصفتَيْن لم يَصِحَّ ، وهذا من فصيحِ الكلام وبديعِه " . والدُّسُرُ : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه المساميرُ جمع دِسار نحو : كُتُب في جمع كِتاب . وقال الزمخشري : " جمعُ دِسار وهو المِسمارُ فِعال ، مِنْ دَسَره إذا دَفَعه؛ لأنه يُدْسَرُ به مَنْفَذُه " وقال الراغب : " الواحدُ دَسْر يعني فيكونُ مثلَ : سَقْف وسُقُف وأصل الدِّسْرِ الدَّفْعُ الشديدُ بقَهْر ، دَسَرَه بالرُّمْح ، ومِدْسَرٌ مثلُ مِطْعَنْ ورُوِي : " ليس في العَنْبَر زكاةٌ إنما هو شيءٌ دَسَرَه البحرُ " ، أي : دفعه . الثاني : أنها الخيوطُ التي تُشَدُّ بها السفنُ . الثالث : أنها عَوارِضُ السفينة . الرابع : أنها أضلاعُها .
(1/5068)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14)
قوله : { بِأَعْيُنِنَا } : أي : مُلْتبسةً بحِفْظِنا وهو في المعنى كقولِه تعالى : { وَلِتُصْنَعَ على عيني } [ طه : 39 ] . وقرأ زيد بن علي وأبو السَّمَّال " بأَعْيُنَّا " بالإِدغام .
قوله : { جَزَآءً } منصوبٌ على المفعولِ له ناصبُه " فَفَتْحْنا " وما بعده . وقيل : منصوب على المصدرِ : إمَّا بفعلٍ مقدرٍ ، ي : جازَيْناهم جزاءً ، وإمَّا على التجوُّزِ : / بأنَّ معنى الأفعالِ المتقدِّمة : جازَيْناهم بها جزاءً .
قوله : { لِّمَن كَانَ كُفِرَ } العامَّةُ على " كُفِرَ " مبنياً للمفعول والمرادُ ب مَنْ كُفِر نوحٌ عليه السلام ، أو الباري تعالى . وقرأ مسلمة به محارب " كُفْر " بإسكان الفاء كقوله :
4161 لو عُصْرَ منه المِسْكُ والبانُ انعصَرْ ... وقرأ يزيد بن رومان وعيسى وقتادة " كَفَر " مبنياً للفاعل . والمرادُ ب " مَنْ " حينئذٍ قومُ نوحٍ . و " كُفِرَ " خبرُ كان . وفيه دليلُ على وقوع خبر كان ماضياً مِنْ غير " قد " وبعضُهم يقولُ : لا بُدَّ من " قَدْ " ظاهرةً أو مضمرةً . ويجوز أَنْ تكونَ " كان " مزيدةً . وضميرُ " تَرَكْناها " إمَّا للقصة . أو الفَعْلة ، أو السفينة ، وهو الظاهرُ .
(1/5069)
وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)
قوله : { مُّدَّكِرٍ } : أصلُه مُذْتَكِر ، فأُبْدِلت التاءُ دالاً مهملة ، ثم أُبْدِلت المعجمة مهملةً لمقاربتها وقد تَقَدَّم هذا في قوله : { وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] . وقد قُرِىء " مُذْتكِر " بهذا الأصلِ وقرأ قتادة فيما نَقَل عنه أبو الفضل " مُذَكِّر " بفتح الذالِ مخففةً وتشديد القاف مِنْ ذَكَّر بالتشديد ، أي : ذكر نفسه أو غيره بما مضى مِنْ قَصَص الأولين . ونَقَلَ عنه ابنُ عطية كالجماعة ، إلاَّ أنَّه بالذال المعجمة وهو شاذٌّ ، لأنَّ الأولَ يُقْلَبُ للثاني ، لا الثاني للأولِ .
(1/5070)
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16)
قوله : { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي } : " كان " الظاهرُ فيها أنها ناقصةٌ ف " كيف " خبرٌ مقدمٌ . وقيل : يجوزُ أَنْ تكون تامة فتكون " كيف " في محلِّ نصبٍ : إمَّا على الظرف ، وإمَّا على الحال ، كما تقدَّم تحقيقُه في البقرة .
(1/5071)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
ومعنى يَسَّرْنا القرآن : هَيَّأْناه للذِّكْر مِنْ قولِهم : يَسَّر فَرَسَه ، أي : هَيَّأه للركوب بإلْجامِه . قال الشاعر :
4162 فَقُمتُ إليه باللِّجام مُيَسَّراً ... هنالك يَجْزِيني الذي كنتُ أصنع
(1/5072)
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19)
قوله : { صَرْصَراً } : أي الشديدةُ الصوتِ مِنْ صَرْصَرَ البابُ أو القلمُ إذا صوَّت ، أو الشديدة البرد مِنْ الصِّرِّ وهو البرد . وهو كله أصولٌ عند الجمهور . وقال مكي : أصلُه صَرَّر مِنْ صرَّ البابُ إذا صَوَّتَ لكنْ أبدلوا من الراء المشدة صاداً " . قلت : وهذا قول الكوفيين . ومثلُه : كَبْكَبَ وكَفْكَفَ ، وتقدَّم هذا في فُصِّلَتْ وغيرها .
قولُه : { يَوْمِ نَحْسٍ } العامّةُ على إضافة " يوم " إلى " نَحْس " بسكونِ الحاءِ . وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّه من إضافة الموصوف إلى صفتِه . والثاني : وهو قَولُ البصريين أنه صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ ، أي : يوم عذابِ نحس ، وقرأ الحسن بتنوينه ووَصْفِه ب نَحْس ، ولم يُقَيِّدْه الزمخشريُّ بكسر الحاء . وقَيَّده الشيخ . وقد قُرِىء قولُه تعالى { في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ } [ فصلت : 16 ] بسكونِ الحاءِ وكسرِها . وتنوين " أيام " عند الجميع كما تقدَّم تقريره " ومُسْتمر " صفةٌ ل " يوم " أو " نَحْسٍِ " ومعناه كما تَقدَّم ، أي : دامَ عليهم حتى أهلكهمِ أو مِنْ المرارة .
(1/5073)
تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20)
و " تَنْزِعُ " في موضع نصبٍ إمَّا نعتاً ل " ريحاً " ، وإمَّا حالاً منها لتخصُّصِها بالصفةِ ويجوزُ أن تكون مستأنفةً . وقال " الناس " لتَضُمَّ ذَكَرهم وأُنثاهم ، فأوقع الظاهر موقعَ المضمرِ لذلك ، وإلاَّ فالأصلُ : تَنْزِعُهم .
قوله : { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ } حالٌ من الناسِ مقدرةً . و " مُنْقَعِر " صفةً ل " نَخْلٍ " باعتبار الجنس ، ولو أَنَّثَ لاعتبر معنى الجماعة ، كقوله { نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الخاقة : 7 ] وقد تقدَّم تحقيق اللغتين فيه ، وإنما ذَكَّر هنا وأَنَّثَ في الحاقةِ مراعاةً للفواصل في الموضعَيْن . وقرأ أبو نهيك " أَعْجُزُ " على وزن أَفْعُل نحو : ضَبُع وأضْبُع ، وقيل : الكاف في موضع نصبٍ بفعل مقدرٍ تقديرُه : فتركهم كأنهم أعجازٌ ، قاله مكي ، ولو جُعِلَ مفعولاً ثانياً على التضمين ، أي : يُصَيِّرهم بالنَّزْع كأنهم ، لكان أقربَ .
والأَعْجاز : جمعُ عَجُزٍ وهو مُؤَخَّرُ الشيءِ ومنه " العَجْزُ " لأنه يُؤَدِّي إلى تأخُّرِ الأمورِ . والمُنْقَعِرُ : المُنْقَلعُ مِنْ أصله ، قَعَرْتُ النخلةَ : قَلَعْتُها مِنْ أصلها فانقَعَرَتْ . وقَعَرْتُ البئر : وصَلْتُ إلى قعرها . وقَعَرْتُ الإِناء : شَربْتُ ما فيه حتى وَصَلْتُ إلى قَعْرِه ، وأَقْعَرْتُ البئر : ، أي : جعلتُ لها قَعْراً ، وقَعَرْتُها : وَصَلْتُ إلى قَعْرها .
(1/5074)
فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24)
قوله : { أَبَشَراً } : منصوبٌ على الاشتغالِ ، وهو الراجحُ ، لتقدُّم أداةٍ هي بالفعل أَوْلَى ، " ومِنَّا " نعتٌ له . و " واحداً " فيه وجهان ، أظهرهما : أنه نعتٌ ل " بَشَراً " إلاَّ أنه يُشْكِلُ عليه تقديمُ الصفةِ المؤولة على الصريحة . ويُجاب : بأنَّ " مِنَّا " حينئذ ليس وَصْفاً بل حالٌ من " واحداً " قُدِّمَ عليه . والثاني : أنه نصبٌ على الحالِ من هاء " نَتَّبِعُه " وهو تخلُّصٌ من الإِعرابِ المتقدِّم . إلاَّ أنَّ المُرجِّحَ لكونه صفةً قراءتهما مرفوعَيْنِ : أبَشرٌ مِنا واحد نَتَّبِعُهُ على ما سيأتي فهذا يُرَجِّحُ كونَ/ " واحداً " نعتاً ل " بشراً " لا حالاً . وقرأ أبو السَّمَّال فيما نقل الهذلِيُّ والدانيُّ برفعِهما على الابتداء ، و " واحدٌ " صفتُه " ونَتَّبعهُ " خبرُه . وقرأ أبو السَّمَّال أيضاً ، فيما نَقَل ابن خالويه وأبو الفضل وابن عطية برفع " بَشَرٌ " ونصب " واحداً " وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أن يكونَ " أبَشَرٌ " مبتدأًً ، وخبرُه مضمر ، تقديره : أَبَشَرٌ منا ، يُبْعَثُ إلينا أو يُرْسَلُ . وأمَّا انتصابُ " واحداً " ففيه وجهان ، أحدهما : أنَّه حالٌ من هاء بالابتداءِ أيضاً ، والخبر " نَتَّبِعُه " و " واحداً " حالٌ على الوجهَيْن المذكورَين آنفاً . الثالث : أنه مرفوعٌ بفعلٍ مضمر مبني للمفعول تقديره : أيُنَبَّأُ بَشَرٌ و " مِنَّا " نعتٌ و " واحداً " حالٌ أيضاً على الوجهَيْن المذكورَيْن آنفاً . وإليه ذهبَ ابنُ عطية .
قوله : { وَسُعُرٍ } يجوزُ أن يكون مفرداً ، أي : جنون . يقال : ناقةٌ مَسْعُورة ، أي : كالمجنونة في سَيْرها . قال الشاعر :
4163 كأنَّ بها سُعْراً إذا العِيْسُ هَزَّها ... ذَمِيْلٌ وإرْخاءٌ من السير متعبُ
وأَنْ يكونَ جمعَ سَعير ، وهو النار ، والاحتمالان منقولان .
(1/5075)
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25)
قوله : { مِن بَيْنِنَا } : حالٌ من هاء " عليه " ، أي : أَلْقى عليه منفرداً مِنْ بيننا .
قوله : { أَشِرٌ } الأَشِرُ : البَطِرُ . يقال : أَشِر يأْشَر أَشَراً فهو أشِرٌ كفَرِح ، وآشِر كضارب ، وأشْران كسَكران ، وأُشارى كسُكارى . وقرأ أبو قُلابةِ وجعلهما أَفْعَلَ تفضيلٍ تقول : زيدٌ خيرٌ مِنْ عمروٍ وشرٌّ مِنْ بكر . ولا نقول : أَخْبرُ ولا أَشَرُّ إلاَّ في نُدورٍ كهذه القراءة وكقول رُؤْبة :
4164 بِلالُ خيرُ الناسِ وابنُ الأَخْيَرِ ... وَثَبَتَتْ فيهما في التعجب نحو : ما أَخْيره وما أشَرَّه . ولا تُحْذَفُ إلاَّ في نُدورٍ عكسَ أفعل التفضيل . قالوا : " ما خيرَ اللبنِ للصحيح وما شَرَّه للمبطون " وهذا مِنْ محاسِن الصناعة . وقرأ أبو قيس الأوْدِيُّ ، ومجاهد الحرفَ الثاني " الأُشُرُ " ثلاث ضماتٍ . وتخريجها : على أنَّ فيه لغةَ " أَشُر " بضم الشين كحَذُر وحذِر ، ثم ضُمَّت الهمزة على أصلِ تيْكَ اللغةِ كحَذُر .
(1/5076)
إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
قوله : { فِتْنَةً } : مفعولٌ له أو مصدرٌ من معنى الأول ، أو في موضع الحال .
(1/5077)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28)
وقرأ العامة " قِسْمَةٌ " بكسر القاف . ورُوي عن أبي عمروٍ فتُحها وهو قياس المَرَّةِ . والضمير في " بَيْنَهم " لقوم صالحٍ والناقة ، فغلَّب العاقلَ .
(1/5078)
فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29)
قوله : { فَنَادَوْاْ } : قبله محذوفٌ ، أي : فتمادَوْا على ذلك ثم مَلُّوْهُ فعزمُوا على عَقْرِها فنادَوْا صاحبَهم/ وتَعاطَى : مطاوعُ عاطَى ، كأنهم كانوا يتدافَعُونْ ذلك حتى تَوَلاَّه أَشْقاها .
(1/5079)
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)
قوله : { كَهَشِيمِ المحتظر } : العامَّةُ على كسر الظاء اسمَ فَاعلٍ وهو الذي يَتَّخِذُ حَظيرةً مِنْ حَطَب وغيرِه . وقرأ أبو السَّمَّال وأبو حيوة وأبو رجاء وعمرو بن عبيد بفتحها . فقيل : هو مصدرٌ ، أي : كَهَشِيم الاحتظار وقيل : هو مكانٍ . وقيل هم اسمُ مفعولٍ وهو الهَشيمُ نفسهُ ، ويكون من بابِ إضافةِ الموصوفِ لصفتِه كمسجدِ الجامع . والحَظْرُ : المَنْعُ ، وقد تقدَّم تحريرُه في سبحان .
(1/5080)
إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34)
قوله : { إِلاَّ آلَ لُوطٍ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه مُتصلٌ ويكون المعنى : أنه أرسل الحاصِبَ على الجميع إلاَّ أهلَه فإنه لم يرسِلْ عليهم . والثاني : أنه منقطعٌ ، ولا أدري ما وجهُه؟ فإنَّ الانقطاعَ وعدمَه عبارةٌ عن عدم دخولِ المستثنى في المستثنى منه ، وهذا داخلٌ ليس إلا . وقال أبو البقاء : " هو استثناءٌ منقطعٌ . وقيل : متصلٌ ، لأنَّ الجميع أُرْسِلَ عليهم الحاصبُ فهَلَكوا إلاَّ آل لوطٍ . وعلى الوجهِ الأولِ يكون الحاصِبُ لم يُرْسَلْ على آلِ لوطٍ " انتهى . وهو كلامٌ مُشْكِلٌ .
وقوله : { نَّجَّيْنَاهُم } تفسيرٌ وجوابٌ لقائلٍ يقولُ : فما كان مِنْ شأنِ آلِ لوطٍ؟ كقولِه " أبى " بعد قولِه { إِلاَّ إِبْلِيسَ } [ البقرة : 34 ] وقد تقدَّم في البقرة .
" وبسَحَرٍ " الباءُ حاليةٌ أو ظرفيةٌ . وانصرف " سَحَر " لأنه نكرةٌ ، ولو قُصِدَ به وقتٌ بعينِه لمُنعَ للتعريفِ والعَدْلِ عن أل ، هذا هو المشهورُ وزعم صدرُ الأفاضل أنه مبنيُّ على الفتح كأمسِ مبنياً على الكسر .
(1/5081)
نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35)
قوله : { نِّعْمَةً } : إمَّا مفعولٌ به ، وإمَّا مصدرٌ بفعلٍ مِنْ لفظِها ، أو مِنْ معنى " نَجَّيْناهم " لأنَّ تَنْجِيَتَهم إنعامٌ ، فالتأويلُ : إمَّا في العامل ، وإمَّا في المصدر " ومِنْ عندِنا " : إمَّا متعلقٌ بنعمة ، وإمَّا بمحذوفٍ صفةً لها . والكاف في " كذلك " نعتُ مصدرٍ محذوفٍ ، أي : مثلَ ذلك الجزاء نَجْزِي . وقرأ العامَّةُ " فَطَمَسْنا " مخففاً . وابن مقسم مُشَدَّداً على التكثيرِ لأجلِ المتعلَّق أو لشِدَّة الفعلِ في نفسِه .
(1/5082)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38)
قوله : { بُكْرَةً } : انصرفَ لأنه نكرةٌ ، ولو قُصِد به وقتٌ بعينه امتنع للتعريف والتأنيثِ . وهذا كما تقدَّم في " غُدْوة " ومَنَعَها زيد بن علي الصرفَ ، ذَهَب بها إلى وقتٍ بعينه .
(1/5083)
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)
قوله : { أَخْذَ عَزِيزٍ } : مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه .
(1/5084)
أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44)
و : { أَمْ يَقُولُونَ } : العامَّةُ على الغَيْبة التفاتاً . وأبو حيوة وأبو البرهسم وموسى الأسواري بالخطاب جَرْياً على ما تقدَّم مِنْ قوله " أكُفَّاركم " إلى آخره .
(1/5085)
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)
والعامَّةُ على " سَيُهْزَمُ " مبنياً للمفعول . " والجَمْعُ " مرفوعٌ به . وقُرِىء " ستَهْزِمُ " بفتح التاء خطاباً للرسول عليه السلام ، " الجمعَ " مفعولٌ به ، وأبو حيوة في روايةٍ ويعقوب " سَنَهْزِمُ " بنونِ المعظِّمِ نفسَه ، و " الجمعَ " منصوبٌ أيضاً ، ورُوِيَ عن أبي حيوة أيضاً وابن أبي عبلة " سَيَهْزِمُ " بياء الغَيْبة مبنياً للفاعل ، " الجمعَ " منصوبٌ ، أي : سَيَهْزِمُ اللهُ الجمعَ . " ويُوَلُّوْن " العامَّة على الغَيْبة . وأبو حيوة وأبو عمروٍ في روايةٍ " وتُوَلُّون " بتاء الخطاب ، وهي واضحةٌ .
والدُّبُرُ هنا : اسمُ جنسٍ . وحَسُنَ هنا لوقوعِه فاصلةً بخلافِ { لَيُوَلُّنَّ الأدبار } [ الحشر : 12 ] . وقال الزمشخري : " أي : الأدبار ، كما قال :
4166 كُلُوا في بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقُرىء " الإِدْبار " . قال الشيخ : " وليس مثل/ " بعضِ بَطْنكم " لأن الإِفراد هنا له مُحَسِّنٌ ولا مُحَسِّنٌ لإِفرادِ " بَطْنكم " .
(1/5086)
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
قوله : { ذُوقُواْ } : على إرادةِ القولِ ، وقرأ أبو عمروٍ وفي روايةِ محبوبٍ عنه " مَسَّقَر " وخَطَّأه ابن مجاهد . وهو معذورٌ لأنَّ السينَ الأخيرةَ مِنْ " مَسَّ " مُدْغَم فيها فلا تُدْغَمُ في غيرها لأنها متى أُدْغِم فيها لَزِم تحريكُها ، ومتى أُدْغمت هي لَزِم سكونُها فتنافس الجَمْعُ بينهما . قال الشيخ : " والظَّنُّ بأبي عمروٍ أنه لم يُدْغِمْ حتى حَذَفَ أحد الحرفينِ ، لاجتماع الأمثال ثم أَدْغم " قلت : كلامُ ابن مجاهد إنما هو فيما قالوه إنه أدغم ، أمَّا إذا حَذَفَ وأَدْغَمَ فلا إشكالَ .
" وسَقَر " عَلَمٌ لجهنم أعاذَنا اللَّهُ منها مشتقةٌ مِنْ سَقَرَتْه الشمسُ والنارُ ، أي : لَوَّحَتْه ويُقال : صَقَرَتْه بالصاد ، وهي مبدلَةٌ من السين لأجل القاف . قال ذو الرمة :
4167 إذا ذابتِ الشمسُ اتَّقى صَقَراتِها ... بأَفْنانِ مَرْبوع الصَّريمةِ مُعْبِلِ
" وسَقَر " متحتمُ المنعِ؛ لأن حركةَ الوسطِ تَنَزَّلَتْ مَنْزِلةَ الحرفِ الرابع كعَقْرب وزينب .
(1/5087)
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)
قوله : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ } : العامَّةُ على نصب " كل " على الاشتغال وأبو السَّمَّال بالرفع . وقد رَجَّحَ الناسُ ، بل بعضُهم أوجبَ النصبَ قال : لأن الرفعَ يُوْهِمُ ما لا يجوزُ على قواعد أهل السُّنَّة . وذلك أنه إذا رُفع " كل شيء " كان مبتدأً " وخَلَقْناه " صفةٌ ل " كل " أو لشيء . و " بقَدَر " خبرهُ . وحينئذٍ يكون له مفهومٌ لا يَخْفَى على متأمِّله ، فيلزَمُ أن يكون الشيءُ الذي ليس مخلوقاً لله تعالى لا بَقَدَر ، كذا قَدَّره بعضُهم . وقال أبو البقاء : " وإنما كان النصبُ أَوْلى لدلالتِه على عموم الخَلْقِ ، والرفعُ لا يدلُّ على عمومِه ، بل يُفيد أنَّ كل شيءٍ مخلوقٌ فهو بقدر " . وقال مكي بن أبي طالب : " كان الاختيارُ على أصول البَصْريين رفع " كل " كما أن الاختيارَ عندهم في قولك " زيدٌ ضربْتُه " الرفعُ ، والاختيارُ عند الكوفيين النصبُ فيه بخلاف قولِنا " زيد أكرمتُه " لأنه قد تقدَّم في الآية شيءٌ عَمِل فيما بعده وهو " إنَّ " والاختيارُ عندهم النصبُ فيه . وقد أجمع القرّاءُ على النصبِ ف " كل " على الاختيار فيه عند الكوفيين لِيَدُلُّ ذلك على عموم الأشياء المخلوقاتِ أنها لله تعالى بخلافِ ما قاله أهلُ الزَيْغِ مِنْ أنَّ ثمَّ مخلوقاتٍ لغير الله تعالى ، وإنما دلَّ النصبُ في " كلَّ " على العموم؛ لأن التقديرَ : إنَّا خَلَقْنا كلَّ شيء خَلَقْناه بَقَدَر ، فَخَلَقْناه تأكيدٌ وتفسيرٌ ل " خَلَقْنا " المضمر الناصبِ ل " كلَّ " . وإذا حَذَفْتَه وأَظْهَرْت الأولَ صار التقديرُ : إنَّا خَلَقْناه كلَّ شيءٍ بَقدَر ، فهذا لفظٌ عامٌ يَعُمُّ جميع المخلوقاتِ . ولا يجوز أَنْ يكون " خَلَقْناه " صفةً ل " شيءٍ " لأنَّ الصفةَ والصلةَ لا يعملان فيما قبل الموصوفِ ولا الموصولِ ، ولا يكونان تفسيراً لِما يعملُ فيما قبلهما ، فإذا لم يَبْقَ " خَلَقْناه " صفةً لم يَبْقَ إلاَّ أنه تأكيدٌ وتفسيرٌ للمضمر النصب ، وذلك يَدُلُّ على العموم . وأيضاً فإن النصبَ هو الاختيارُ لأنَّ " إنَّا " عندهم يَطلبُ الفعلَ فهو أَوْلى به ، فالنصبُ عندهم في " كل " هو الاختيارُ ، فإذا انضاف إليه معنى العموم والخروج عن الشُبَهِ كان النصبُ أَوْلى من الرفع " .
وقال ابن عطية : / " وقومٌ من أهلِ السُّنَّة بالرفع " . وقال أبو الفتح : " هو الوجهُ في العربية ، وقراءتُنا بالنصب مع الجماعة " . وقال الزمخشري : " كلَّ شيء " منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ يُفَسِّره الظاهرُ . وقُرِىء " كلُّ شيءٍ " بالرفع . والقَدْر والقَدَر : التقديرُ ، وقُرِىء بهما ، أي : خَلَقْنا كلَّ شيء مُقَدَّراً مُحْكَماً مُرَتَّباً على حَسَبِ ما اقْتَضَتْه الحكمةُ أو مُقَدَّراً مكتوباً في اللوح ، معلوماً قبل كونِه قد عَلِمْنا حاله وزمانَه " انتهى .
(1/5088)
وهو هنا لم يَتَعَصَّبْ للمعتزلةِ لضعفِ وجهِ الرفع .
وقال قومٌ : إذا كان الفعل يُتَوَهَّمُ فيه الوصفُ وأنَّ ما بعدَه يَصْلُحُ للخبر ، وكان المعنى على أن يكون الفعلُ هو الخبرَ اختير النصبُ في الاسمِ الأولِ حتى يتضحَ أنَّ الفعل ليس بوصفٍ ، ومنه هذا الموضعُ؛ لأنَّ قراءة الرفع تُخَيِّل أنَّ الفعلَ وصفٌ ، وأن الخبرَ " بقدَر " . وقد تنازع أهلُ السنة والقَدَرِيَّة الاستدلال بهذه الآية : فأهلُ السُّنَّة يقولون : كلُّ شيء مخلوقٌ لله تعالى بقَدَرٍ ، ودليلُهم قراءة النصبِ لأنه لا يُفَسَّر في هذا التركيب إلاَّ ما يَصِحُّ أن يكون خبراً لو رُفِع الأولُ على الابتداء . وقال القَدَرية : القَراءةُ برفع " كل " و " خَلَقْناه " في موضع الصفة ل " كل " ، أي : إنَّ أمْرَنا أو شأنَنا : كلُّ شيء خَلَقْناه فهو بَقَدر أو بمقدار ، وعلى حَدِّ ما في هيئتهِ وزمنِه .
وقال بعضُ العلماء : في القَدَر هنا وجوهٌ ، أحدها : أنه المقدارُ في ذاتِه وفي صفاته . والثاني : التقديرُ كقولِهِ { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون } [ المرسلات : 23 ] . وقال الشاعر :
4168 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وقَد قَدَّر الرحمنُ ما هو قادِرُ
أي : ما هو مُقَدَّر . والثالث : القَدَرُ الذي يُقال مع القضاء كقولِكَ : كان بقضاءِ اللهِ وقَدَرِه فقوله " بقَدَرٍ " على قراءة النصب متعلِّقٌ بالفعل الناصب وفي قراءةِ الرفع في محلِّ رفع ، لأنه خبرٌ ل " كل " و " كل " وخبرُها في محل رفع خبراً ل إنَّ .
(1/5089)
وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52)
وسيأتي قريباً آيةٌ عكسَ هذه أعني في اختيار الرفع وهي قولُه { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر } فإنَّه لم يختلف في رفعِه قالوا لأنَّ نصبَه يُؤدَّي إلى فسادِ المعنى لأنَّ الواقعَ خلافُه ، وذلك أنَّك لو نَصَبْتَه لكان التقديرُ : فعلوا كلَّ شيءٍ في الزبُر ، وهو خلافُ الواقع؛ إذ في الزُّبُر أشياءُ كثيرةٌ جداً لم يفعلوها . وأمَّا قراءةُ الرفعِ فتؤَدِّي أنَّ كلَّ شيءٍ فعلوه هم ، ثابتٌ في الزُبُر وهو المقصود فلذلك اتُّفِقَ على رفعِه ، وهذان الموضعان مِنْ نُكَتِ المسائلِ العربيةِ التي اتَّفق مجيئُها في سورةٍ واحدةٍ في مكانَيْن متقاربين ومما يَدُلُّ على جلالةِ علمِ الإِعراب وإفهامهِ المعانيَ الغامضةَ . والجاهلون لأهل العلم أعداءٌ .
(1/5090)
وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
وقرأ العامَّةُ " مُسْتَطَرٌ " بتخفيف التاءِ من السَّطر وهو الكَتْبُ ، أي : مُكْتَتب . وقرأ الأعمش وعمران بن حدير وتُرْوَى عن عاصم بتشديدها . وفيه وجهان . أحدهما : أنه مشتقٌ مِنْ طَرَّ الشاربُ والنبات ، أي : ظهر ونَبَتَ ، بمعنى : أنَّ كلَّ شيءٍ قلَّ أو كثُر ظاهرٌ في اللوح غيرُ خفي ، فوزنُه مُسْتَفْعَل كمُسْتَخْرج . والثاني : أنَّه من الاستطار ، كالقراءة العامة وإنما شُدِّدَت الراءُ من أجل الوقفِ كقولهم : " هذا جَعْفَرّْ وفَرَجّْ " ثم أُجري الوصلُ مُجرى الوقف فوزنه مُفْتَعَلَ كقراءة الجمهور .
(1/5091)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54)
قوله : { نَهَرٍ } : العامةُ بالإِفرادِ وهو اسمُ جنسٍ بدليل مقارنتِه للجمع ، والهاء مفتوحةٌ كما هو الفصيح ، وسَكَّنها مجاهد والأعرج وأبو السَّمَّال والفياض وهي لُغَيَّةٌ . وقد تقدَّم الكلامُ عليها أولَ البقرة . وقيل ليس المرادُ هنا نهرَ الماءِ ، وإنما المرادُ به سَعَةُ الأرزاقِ لأنَّ المادةَ تَدُلُّ على ذلك كقول قيس بن الخطيم : /
4169 مَلَكْتُ بها كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَها ... يَرى قائمٌ مِنْ دونِها ما وراءَها
أي : وسَّعْتُ . وقرأ أبو نهيك وأبو مجلز والأعمش وزهير الفرقبي " ونُهُر " بضم النونِ والهاءِ ، وهي تحتمل وجهين ، أحدهما : أَنْ يكونَ جمعَ نَهَر بالتحريك وهو الأَوْلى نحو : أُسُد في أَسَد . والثاني : أن يكون جمعَ الساكنِ نحو : سُقُف في سَقْف ورُهُن في رَهْن ، والجمع مناسِبٌ للجمع قبلَه في " جنات " وقراءةُ العامة بإفرادِه أَبْلَغُ وقد تقدَّم كلامُ ابن عباس في قوله تعالى آخر البقرة { وملائكته وَكُتُبِهِ } [ البقرة : 285 ] بالإِفرادِ ، وأنه أكثرُ مِنْ " الكتب " . وتقدَّم أيضاً تقديرُ الزمخشري لذلك ، فعليك . . .
قوله تعالى { فِي مَقْعَدِ } يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً ، وهو الظاهرُ وأَنْ يكون حالاً من الضمير في الجارِّ لوقوعِه خبراً . وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ قولِه " في جنات " وحينئذٍ يجوزُ أَنْ يكونَ بدلَ بعضٍ ، لأن المقعدَ بعضُها ، وأَنْ يكون اشتمالاً أنها مشتمِلَةٌ ، والأولُ أظهرُ ، والعامَّةُ على إفراد " مَقْعَد " مُراداً به الجنس كما تقدَّم في " نَهَر " . وقرأ عثمان البتِّي " مقاعِدِ " وهو مناسبٌ للجمع قبلَه . ومَقْعَدُ صِدْقِ من بابِ رجلُ صدقٍ : في أنه يجوزُ أنْ يكون من إضافةِ الموصوف لصفتِه . والصدقُ يجوزُ أَنْ يُرادَ بهِ ضدُّ الكذبِ ، أي : صُدِّقوا في الإِخبار به ، وأَنْ يرادَ به الجَوْدَةُ والخيريَّةُ .
و " مليك " مثلُ مبالغةٍ وهو مناسِبٌ هنا ، ولا يُتَوهَّمُ أنَّ أصلَه مَلِك لأنه هو الوارِدُ في غيرِ موضعٍ ، وأنَّ الكسرةَ أُشْبِعَتْ فتولَّد منها ياءٌ؛ لأنَّ الإِشباعَ لم يَرِدْ إلاَّ ضرورةً أو قليلاً ، وإنْ كان قد وقع في قراءةِ هشام " أَفْئِيدَةً " في آخر إبراهيم ، وهناك يطالعَ ما ذكَرْتُه فيه .
(1/5092)
الرَّحْمَنُ (1)
قوله : { الرحمن } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : اللَّهُ الرحمنُ . الثاني : أنه مبتدأٌ ، وخبرُه مضمرٌ ، أي : الرحمنُ ربُّنا . وهذان الوجهان عند مَنْ يرى أنَّ " الرحمن " آيةٌ مع هذا المضمرِ معه ، فإنهم عَدُّوا " الرحمن " آيةً ولا يُتَصَوَّرُ ذلك إلاَّ بانضمامِ خبرٍ أو مُخْبَرٍ عنه إليه ، إذ الآيةُ لا بُدَّ أَنْ تكونَ مفيدةً ، وسيأتي ذلك في قولِه " مُدْهامَّتان " . الثالث أنه ليس بآيةٍ ، وأنه مع ما بعده كلامٌ واحدٌ ، وهو مبتدأٌ خبرُه " عَلَّم القرآنَ " .
(1/5093)
عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)
قوله : { عَلَّمَ القرآن } : فيه وجهان ، أظهرُهما : أنها عَلَّم المتعديةُ إلى اثنين أي : عَرَّف ، من التعليم ، فعلى هذا المفعولُ الأولُ محذوف فقيل : تقديره : عَلَّم جبريلَ القرآنَ . وقيل : علَّم محمداً . وقيل : عَلَّم الإِنسانَ . وهذا أَوْلَى لعُمومِه ، ولأنَّ قولَه " خَلَق الإِنسانَ " دالٌّ عليه . والثاني : أنها من العلامةِ . فالمعنى : جَعَله علامةً وآيةً يُعْتنى بها .
وهذه الجملُ التي جيْءَ بها من غيرِ عاطفٍ لأنها سِيْقَتْ لتعديدِ نعمةٍ كقولك : فلانٌ أَحْسَنَ إلى فلانٍ : أكرمه ، أشاد ذِكْرَه ، رَفَعَ مِنْ قَدْرِه ، فلشِدَّةِ الوصلِ تَرَكَ العاطفَ . والظاهر أنها أخبارٌ . وقال أبو البقاء : و " خَلَق الإِنسان " مستأنفٌ وكذلك " عَلَّمه " يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الإِنسان مقدرةً و " قد " معها مرادةٌ " . انتهى . وهذا ليس بظاهرٍ بل الظاهرُ ما قدَّمتهُ ولم يذكُرْ الزمخشريُّ غيرَه . فإن قيل : لِمَ قَدَّم تعليمَ القرآنِ للإِنسان على خَلْقِه وهو متأخرٌ عنه في الوجودِ؟ قيل : لأنَّ التعليمَ هو السببُ في إيجادِه وخَلْقِه .
(1/5094)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)
قوله : { بِحُسْبَانٍ } : فيه ثلاثة أوجه ، أحدُها : أن " الشمس " مبتدأ و " بحُسْبان " خبرُها على حَذْفِ مضافٍ تقديره : جَرْيُ الشمس والقمر بحُسْبانٍ ، أي : كائن أو مستقر أو استقرَّ بحُسْبان . الثاني : أنَّ الخبرَ محذوفٌ يتعلَّق به هذا الجارُّ تقديره : يَجْريان بحسبان ، وعلى هذين القولَيْن فيجوز في الحُسْبان وجهان ، أحدهما : أنه مصدرٌ مفردٌ بمعنى الحُسْبان ، فيكونُ كالشُّكران والكُفْران . والثاني : أنه جمعُ حِساب كشِهاب وشُهْبان . / والثالث : أنَّ الحُسْبَانَ خبرُه ، والباءُ ظرفيةٌ بمعنى في ، أي : كائنان في حُسْبان ، وحُسْبان ، وحُسْبان على هذا اسمٌ مفرد ، اسمٌ للفَلَكِ المستدير ، شَبَّهه بحُسْبان الرَّحى الذي باستدارته تستدير الرحى ، قاله مجاهد .
(1/5095)
وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)
قوله : { والسمآء رَفَعَهَا } : العامَّةُ على النصب على الاشتغال مراعاً لعَجُزِ الجملةِ التي يُسَمِّيها النحاةُ ذاتَ وجهين . وفيها دليلٌ لسيبويه حيث يُجَوِّزُ النصبَ ، وإنْ لم يكنْ في جملةِ الاشتغالِ ضميرٌ عائدٌ على المبتدأ الذي تضمَّنَتْه الجملةُ ذاتُ الوجهين . والأخفشُ يقول : لا بُدَّ من ضميرٍ ، مثالُه : " هند قامَتْ وعمراً أكرمْتُه لأجلها " قال : " لأنك راعَيْتَ الخبرَ ، وعَطَفْتَ عليه ، والمعطوفُ على الخبرِ خبرٌ فيُشْترط فيه ما يُشْترط فيه ، ولم يَشْتَرِطِ الجمهورُ ذلك وهذا دليلُهم ، قال الفراء : " كلهم نَصَبُوا مع عدم الرابط إلاَّ مَنْ شذَّ منهم . وقد تقدَّمَ هذا محرراً في سورة يس عند قولِه تعالى : { والقمر قَدَّرْنَاهُ } [ يس : 39 ] فهناك اختلف السبعةُ في نَصْبِه ورفعِه ولله الحمدُ .
قوله : { وَوَضَعَ الميزان } العامَّةُ على " وَضَع " فعلاً ماضياً . و " الميزانَ " نُصِبَ على المفعولِ به . وقرأ إبراهيم . " ووَضْعَ الميزانِ " بسكون الضاد وخفض " الميزانِ " . وتخريجُها : على أنه معطوفٌ على مفعولِ " رَفَعَها " ، أي : وَرَفَعَ وَضْعَ الميزان ، أي : جَعَلَ له مكانةً ورِفْعَةً لأَخْذِ الحقوق به ، وهو مِنْ بديعِ اللفظِ ، حيث يصير التقديرُ : ورَفَعَ وَضْعَ الميزان .
وقال الزمخشري : " فإن قلتَ : كيف أَخَلَّ بالعاطف في الجمل الأُوَل وجِيْءَ به بعدُ؟ قلت : بَكَّتَ بالجملِ الأُوَلِ واردةً على سَنَنِ التعديد الذين أنكروا الرحمنَ وآلاءَه كما يُبَكَّتُ مُنْكِرُ أيادي المُنْعَمِ [ عليه ] من الناسِ بتعدُّدها عليه في المثالِ الذي قَدَّمْتُه ، ثم رَدَّ الكلامَ إلى منهاجِه بعد التبكيت في وَصْلِ ما يجب وَصْلُه للتناسُبِ والتقارُب بالعاطفِ . فإنْ قلت : أيُّ تناسُبٍ بين هاتَيْنِ الجملتَيْن حتى وَسَّط بينهما العاطفَ؟ قلت : إن الشمسَ والقمرَ سماويان ، والنجمَ والشجرَ أَرْضيان فبينهما تناسُبٌ من حيث التقابلُ ، وأن السماءَ والأرضَ لا تزالان قرينتَيْن ، وأنَّ جَرْيَ الشمسِ والقمرِ بحُسْبان مِنْ جنسِ الانقيادِ لأمرِ اللهِ ، فهو مناسِبٌ لسُجودِ النجمِ والشجرِ " .
(1/5096)
أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8)
قوله : { أَلاَّ تَطْغَوْاْ } : في " أنْ " هذه وجهان ، أحدُهما : أنَّها الناصبةُ ، و " لا " بعدها نافيةٌ ، و " تَطْغَوْا " منصوبٌ ب " أنْ " ، وأنَّ قبلَها لامَ العلةِ مقدرةً ، تتعلَّقُ بقولِه : " ووَضَع الميزانَ " التقدير : لئلا تَطْغَوا ، وهذا بَيِّنٌ . وأجاز الزمخشريُّ وابنُ عطية أَنْ تكونَ المفسِّرَةَ ، وعلى هذا تكونُ " لا " ناهيةً والفعلُ مجزومٌ بها . إلاَّ أنَّ الشيخَ رَدَّه : بأنَّ شَرْطَها تقدُّمُ جملةٍ متضمنةٍ لمعنى القول ، وليسَتْ موجودةً . قلت : وإلى كونِها مفسِّرةً ذهبَ مكي وأبو البقاء : إلاَّ أنَّ أبا البقاءِ كأنَّه تَنَبَّه للاعتراضِ فقال : " وأَنْ بمعنى أَيْ ، والقولُ مقدَّرٌ " ، فجعل الشيءَ المفسَّرَ ب " أَنْ " مقدَّراً لا ملفوظاً بها ، إلاَّ أنه قد يُقال : قولُه/ " والقولُ مقدَّرٌ " ليس بجيدٍ ، لأنها لا تُفَسِّرُ القولَ الصريحَ ، فكيف يُقَدِّر ما لا يَصِحُّ تفسيرُه؟ فإِصْلاحُه أَنْ يقولَ : وما هو بمعنى القول مقدرٌ .
(1/5097)
وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)
قوله : { وَلاَ تُخْسِرُواْ } : العامَّةُ على ضَمِّ التاءِ وكسرِ السينِ مِنْ أَخْسَرَ ، أي : نَقَصَ كقولِه : { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } وقرأ زيد بن علي وبلال بن أبي بردة بفتح التاءِ وكسرِ السين فيكون فَعَلَ وأَفْعَلَ بمعنىً . يقال : خَسِر الميزانَ وأخسَره ، بمعنىً واحدٍ نحو : جَبَر وأَجْبَر . ونقل أبو الفتح وأبو الفضل عن بلال فتحَ التاءِ والسينِ . وفيها وجهان ، أحدُهما : أنه على حَذْفِ حرفِ الجر تقديره : ولا تَخْسَروا في الميزان . ذكره الزمخشري وأبو البقاء : إلاَّ أنَّ الشيخَ قال : " لا حاجةَ إلى ذلك؛ لأنَّ " خَسِرَ " جاء متعدياً . قال تعالى : َ { خسروا أَنْفُسَهُمْ } [ الأنعام : 12 ] . و { خَسِرَ الدنيا والآخرة } [ الحج : 11 ] . قلت : وهذا ليس مِنْ ذاك . ألا ترى أنّ { خَسِروا أنفسَهم } { وخَسِر الدنيا والآخرةَ } معناه : أنَّ الخُسْران واقعٌ بهما ، وأنَّهما معدومان . وهذا المعنى ليس مُراداً في الآيةِ قطعاً ، وإنما المرادُ : لا تُخْسِروا الموزونَ في الميزان . وقُرِىء " تَخْسُروا " بفتح التاء وضمِّ السينِ . قال الزمخشري : " وقُرِىء ولا تَخْسروا بفتح التاء وضم السين وكسرِها وفتحِها . يقال : خَسِر الميزانَ يَخْسِره ويَخْسُره . وأمَّا الفتحُ : فعلى أنَّ الأصلَ " في الميزان " فحذف الجارَّ ووصلَ الفعلَ إليه " وكَرَّر لفظ الميزان ، ولم يُضْمِرْه في الجملتَيْن بعده تقويةً لشَأْنِه وهذا كقولِه :
4170 لا أَرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنى والفقيرا
(1/5098)
وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10)
قوله : { والأرض وَضَعَهَا } : كقولِه : { والسمآء رَفَعَهَا } [ الرحمن : 7 ] . وقرأ أبو السَّمَّال بالرفع مبتدأً . و " للأَنام " علةٌ للوَضْع . والأَنام . قيل : الحيوان . وقيل : بنوا آدمَ خاصةً . وقيل : هم الإِنسُ والجنُّ ، ووزنُه فَعال كقَذال ، فيُجْمع في القلة على آنِمَة بزنة : امرأةٌ آثِمة وفي الكثرة : على أُنُم ، كقَذال وأَقْذِلَة وقُذُل .
(1/5099)
فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11)
قوله : { فِيهَا فَاكِهَةٌ } : يجوزُ أَنْ تكون هذه الجملةُ حالاً من الأرض ، إلاَّ أنَّها حالٌ مقدَّرَةٌ . ويجوزُ وهو الأحْسَنُ أَنْ يكونَ الجارُّ والمجرورُ هو الحالَ ، و " فاكهةٌ " رَفْعٌ بالفاعليَّةِ ، ونُكِّرَتْ؛ لأنَّ الانتفاعَ بها دونَ الانتفاعِ بما ذُكِرَ بعدها ، وهو من باب الترقِّي مِنْ الأَدْنى إلى الأعلَى ، والأَكْمام : جمعُ كِمّ بالكسر وهو وعاءُ الثمرة .
(1/5100)
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12)
قوله : { والحب ذُو العصف والريحان } : قرأ ابنُ عامر بنصب الثلاثة . وفيه ثلاثةُ أوجهٍ : النصبُ على الاختصاص ، أي : وأخُصُّ الحبَّ ، قاله الزمخشري . وفيه نظرٌ؛ لأنه لم يَدْخُلْ في مُسَمَّى الفاكهة والنخل حتى يَخُصَّه مِنْ بَيْنِها ، وإنما أراد إضمارَ فعلٍ وهو أَخَصُّ ، فليس هو الاختصاصَ الصناعيَّ . الثاني : أنَّه معطوفٌ على الأرض . قال مكي : " لأنَّ قولَه " والأرضَ وَضَعَها " ، أي : خلقها ، فعطف " الحَبَّ " على ذلك " . الثالث : أنَّه منصوبٌ ب " خَلَق " مضمراً ، أي : وخلق الحَبَّ . قال مكي : " أو وخَلَقَ الحَبَّ " وقرأ به موافقةً لرَسْم مصاحِف بلده ، فإنَّ مصاحفَ الشامِ " ذا " بالألف . وجَوَّزوا في " الرَّيْحان " أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ ، أي : وذا الريحان فحُذِفَ/ المضافُ ، وأٌقيم المضافُ إليه مُقامَه ك { وَسْئَلِ القرية } [ يوسف : 82 ] .
وقرأ الأخَوان برفع الأَوَّلين وجَرِّ " الرَّيْحان " عطفاً على " العَصْفِ " ، وهي تؤيِّدُ قولَ مَنْ حذفَ المضافَ في قراءةِ ابنِ عامرٍ . والباقون برفع الثلاثةِ عطفاً على فاكهة ، أي : وفيها أيضاً هذه الأشياءُ . ذكر أولاًّ ما يتلذَّذُون به من الفواكه ، وثانياً الشيءَ الجامعَ بين التلذُّذِ والتغذِّي وهو ثَمَرُ النَخْلِ ، وثالثاً ما يَتَغَذَّى به فقط ، وهو أعظمُها ، لأنه قُوْتُ غالبِ الناسِ . ويجوز في الرَّيْحان على هذه القراءةِ أَنْ يكونَ معطوفاً على ما قبلَه ، أي : وفيها الرَّيْحانُ أيضاً ، وأَنْ يكونَ مجروراً بالإِضافةِ في الأصلِ ، أي : وذو الرَّيحْان ففُعِلَ به ما تقدَّم .
والعَصْفُ : وَرَقُ الزَّرْعِ . وقيل : التِّبْنُ . وأصلُه كما قال الراغب : مِن " العَصْفِ والعَصِيْفة وهو ما يُعْصَفُ ، أي : يُقْطَعُ من الزَرْع " وقيل : هو حُطامُ النباتِ . والريحُ العاصف : التي تكسِرُ ما تمرُّ عليه وقد مَرَّ ذلك . والرَّيْحان في الأصل : مصدرٌ ثم أُطْلِقَ على الرزق كقولهم : " سُبْحانَ الله ورَيْحَانَه " ، أي : استِرْزاقُه وقيل : الرَّيْحان هنا هو المَشْمومُ .
وفي الرَّيْحان قولان ، أحدُهما : أنه على فَعْلان كاللَّيَّان مِنْ ذواتِ الواوِ . والأصلُ : رَوْحان . قال أبو علي : " فأُبْدِلَتْ الواوُ ياءً ، كما أَبْدَلوا الياءَ واواً في " أَشاوى " . والثاني : أن يكون أصلُه رَيْوِحان ، على وزن فَيْعِلان ، فأُبْدِلَتِ الواوُ ياءً ، وأُدْغِمَتْ فيها الياءُ ، ثم خُفِّفَ بحَذْفِ عينِ الكلمةِ كما قالوا : كَيْنُوْنة وبَيْنُونة . والأصلُ تشديدُ الياءِ فخفِّفَتْ كما خُفِّف هَين ومَيْت . قال مكي : " ولَزِم تَخْفِيْفُه لطولِه بلَحاق الزيادتَيْنِ " . ثم رَدَّ قولَ الفارسيِّ بأنه لا مُوْجبَ لقَلْبِها ياءً ثم قال : " وقال بعضُ الناسِ " فذكَر ما قَدَّمْتُه عن أبي علي إلى آخره .
(1/5101)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
قوله : { فَبِأَيِّ } : متعلقٌ ب " تُكذِّبان " والعامَّةُ على إضافة " أيّ " إلى الآلاء . وقُرِىء في جميع السورة بتنوينِ " أيّ " وتخريجُها : على أنه قَطَع أيَّاً عن الإِضافةِ إلى شيء مقدر ، ثم أَبْدَل منه " آلاء ربِّكما " بدلَ معرفةٍ مِنْ نكرةٍ . وتقدَّم الكلامُ في " الآلاء " وما مفردُها في الأعراف ولله الحمد . والخطابُ في " رَبِّكما " قيل : للثَّقَلَيْن من الإِنس والجنِّ ، لأنَّ الأنامَ يتضمَّنُهما على القول المشهور . وقيل : للذكر والأنثى . وقيل : هو مثنَّى مُرادٌ به الواحدُ ، كقولِه تعالى : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } [ ق : 24 ] وقولِ الخبيث الثقفي : " يا حَرَسيُّ اضْربا عُنُقَه " وقد تقدَّم ما فيه . و " كالفَخَّار " نعتٌ لصَلْصال وتقدَّم تفسيرُه .
(1/5102)
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15)
والجانُّ قيل : هو اسم جنس كالإِنسان . وقيل : هو أبو الجنِّ إبليسُ . وقيل : هو أبوهم وليس بإبليسَ .
قوله : { مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } " مِنْ " الأولى لابتداء الغاية . وفي الثانيةِ وجهان ، أحدهما : أنها للبيانِ . والثاني : أنها للتبعيض . والمارِجُ قيل : ما اختْلَطَ مِنْ أحمرَ وأَصفَر وأخضرَ ، وهذا مُشاهَدٌ في النار ، تُرى الألوانُ الثلاثةُ مختلِطاً بعضُها ببعض . وقيل : الخالِصُ . وقيل : الأحمرُ . وقيل : الحُمْرَةُ في طرفِ النار . وقيل : المختلطُ بسواد . وقيل : الخالصُ . وقيل : اللهبُ المضطربُ . و " مِنْ نار " نعتٌ ل " مارج " . وقوله : فبأيِّ " إلى آخره . توكيدٌ وتكريرٌ ، كما تقدَّم في قوله : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن } [ القمر : 21 ] وكقولِه فيما سيأتي : { َوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ المرسلات : 15 ] . وذهبَ جماعةٌ منهم ابنُ قتيبة إلى أنَّ التكريرَ لاختلافِ النِّعَم ، فلذلك كَرَّر التوقيفَ مع واحدةٍ واحدةٍ .
(1/5103)
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17)
قوله : { رَبُّ المشرقين } : العامَّةُ على رَفْعِه . وفيه وجهان ، أحدهما : أنه مبتدأٌ ، خبرُه " مَرَج البحرَيْن " وما بينهما/ اعتراضٌ . والثاني : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي : هوَ رَبُّ أي : ذلك الذي فَعَلَ هذه الأشياء . والثالث : أنه بدلٌ من الضمير في " خَلَق " . وابن أبي عبلة " ربِّ " بالجر بدلاً أو بياناً ل " ربِّكما " . قال مكي : " ويجوزُ في الكلام الخفضُ على البدلِ مِنْ " ربِّكما " كأنَّه لم يَطَّلعْ على أنها قراءةٌ منقولةٌ والمَشْرقان ، قيل : مَشرِقُ الشتاءِ والصيفِ ومَغْرباهما . وقيل : مَشْرقا الشمس والقمر ومَغْربهما . وقيل : مَشرقا الشمس فقط ومَغْرباها . قال الشيخ : " وعن عباس : للشمس مَشْرِقٌ في الصيفِ مُصْعِدٌ ، ومَشْرِقٌ في الشتاءِ مُنْحَدرٌ ، تنتقل فيهما مُصْعِدةً ومُنحَدرة " . وقال الشيخ : " فالمشرقان والمغربان للشمس " قلت : وهذا هو القولُ الذي يقول : مَشْرِقُ الصيفِ ومَشْرِقُ الشتاء فإنه إنَّما يعني بهما شُروق الشمسِ والقمرِ فيهما ، أو شروق الشمسِ وحدَها فيهما ، فهو داخلٌ في أحدِ القولَيْن المذكورَيْن ضرورةً .
(1/5104)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20)
قوله : { يَلْتَقِيَانِ } : حالٌ من " البحرَيْنِ " وهي قريبةٌ من الحال المقدرةِ . ويجوز بتجوُّزِ أَنْ تكونَ مقارنَةً . و " بينهما بَرْزَخٌ " يجوز أن تكونَ جملةً مستأنفةً ، وأَنْ تكونَ حالاً ، وأَنْ يكونَ الظرفُ وحدَه هو الحالَ . والبَرْزَخ : فاعلٌ به وهو أحسنُ لقُرْبه من المفرد . وفي صاحبِ الحال وجهان ، أحدُهما : هو " البحرَيْن " ، والثاني : هو فاعلُ " يَلْتقيان " ولا " يَبْغِيان " حالٌ أخرى كالتي قبلَها أي : مَرَجَهما غيرَ باغيَيْن ، أو يلتقيان غيرَ باغيين ، أو بينهما بَرْزَخٌ في حالِ عَدَمِ بَغْيهما . وهذه الحالُ في قوة التعليل؛ إذ المعنى : لئلا يَبْغِيا . وقد تَمَحَّل بعضُهم وقال : أصلُ ذلك لئلا يَبْغِيا ، ثم حَذَفَ حرفَ العلة ، وهو مُطَّرِدٌ مع " أَنْ " و " أَنَّ " ، ثم حُذِفَتْ " أَنْ " أيضاً وهو حَذْفٌ مُطَّرِد كقولِه تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ } [ الروم : 24 ] فلمَّا حُذِفَتْ " أَنْ " ارتفع الفعلُ ، وهذا غيرُ ممنوعٍ ، إلاَّ أنه يتكرَّرُ فيه الحَذْفُ ، وله أَنْ يقولَ : قد جاء الحَذْفُ أكثرَ مِنْ ذلك فيما هو أَخْفَى من هذا ، كما تقدَّم في { قَابَ قَوْسَيْنِ } [ النجم : 9 ] ، وكما سيأتي في قولِه : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } [ الواقعة : 82 ] .
(1/5105)
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)
قوله : { يَخْرُجُ } : قرأ نافع وأبو عمرو " يُخْرَج " مبنياً للمفعول . والباقون مبنياً للفاعل على المجاز . قالوا : وثَمَّ مضافٌ محذوفٌ أي : مِنْ أحدِهما؛ لأنَّ ذلك لم يُؤْخَذْ من البحرِ العَذْبِ ، حتى عابُوا قولَه :
4171 فجاءَ بها ما شِئتَ مِنْ لَطَمِيَّةٍ ... على وَجْهِها ماءُ الفُراتِ يموجُ
قال مكي : " كما قال تعالى : { على رَجُلٍ مِّنَ القريتين } [ الزخرف : 31 ] أي : مِنْ إحدى القريَتيْن ، وحَذْفُ المضافِ كثيرٌ شائعٌ " وقيل : هو كقوله : { نَسِيَا حُوتَهُمَا } [ الكهف : 61 ] وإنما الناسِي فتاه ، ويُعْزَى هذا لأبي عبيدة . وقيل : يَخْرُجُ من أحدِهما اللؤلؤ ، ومن الآخر المَرْجانُ . وقيل : بل يَخْرجان منهما جميعاً ، ثم ذكروا تآويلَ منها : أنهما يَخْرُجان من المِلْح في الموضعِ الذي يقع فيه العَذْبُ ، وهذا مشاهَدٌ عند الغوَّاصين ، وهو قولُ الجمهورِ فناسَبَ ذلك إسنادَه إليهما . ومنها قولُ ابنِ عباس : تكون هذه الأشياءُ في البحرِ بنزول المطر ، والصَّدَفُ تفتح أفواهَها للمطر وقد شاهده الناسُ . ومنها : أنَّ العَذْبَ في المِلْح كاللِّقاح كما يُقال : الولدُ يخرُجُ من الذَّكر والأنثى . ومنها أنه قيل " منهما " من حيث هما نوعٌ واحدٌ ، فخروجُ هذه الأشياءِ إنما هي مِنْهما ، كما قال تعالى : { وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً } [ نوح : 16 ] وإنما هو في واحدةٍ منهن .
وقد الزمخشري : " فإنْ قلتَ : لِمَ قال " منهما " وإنما يَخْرجان من المِلْح؟ قلت : لَمَّا التَقَيا وصارا كالشيء الواحدِ جاز أَنْ يُقال : يَخْرجان منهما ، كما يقال : يَخْرجان من البحر ولا يَخْرجان من جميع البحر ، وإنما يخرجان مِنْ بعضِه . وتقول : خَرَجْتُ من البلد ، وإنما خَرَجْتُ مِنْ مَحَلَّةٍ مِنْ محالِّه ، مِنْ دارٍ واحدة من دُوْره . وقيل : لا يخرجان إلاَّ مِنْ ملتقى المِلْح والعَذْب " انتهى . وقال بعضُهم : كلامُ الله أَوْلى بالاعتبارِ من كلامِ بعض الناس فمن الجائز أنه يَسُوقُها من البحرِ العَذْب إلى المِلْحِ ، واتفق أنهم لم يُخْرجوها إلاَّ من المِلْح ، وإذا كان في البرِّ أشياءُ تَخْفَى على التجار المتردِّدين القاطعِين للمَفاوُز ، فكيف بما في قَعْر البحرِ؟ والجوابُ عن هذا : أنَّ اللَّهَ تعالى لا يُخاطِبُ الناسَ ولا يَمْتَنُّ عليهم إلاَّ بما يَأْلَفُون ويشاهِدُون .
واللؤلؤ قيل : / كبارُ الجوهر . والمَرْجانُ صغاره ، وقيل بالعكس ، وأنشدوا قولَ الأعشى :
4172 مِنْ كلِّ مَرْجانةٍ في البحرِ أَحْرَزها ... تَيَّارُها ووقاها طِيْنَها الصَّدَفُ
أراد اللؤلؤةَ الكبيرةَ . وقيل : المَرْجان حجرٌ أحمرُ . وقيل : حجرٌ شديد البياض ، والمَرْجانُ أعجميُّ . قال ابن دريرد : " لم أسمَعْ فيه فعلاً متصرفاً . واللؤلؤ بناءٌ غريبٌ ، لم يَرِدْ على هذه الصيغة إلاَّ خمسةُ ألفاظٍ : اللُّؤلُؤ ، والجُؤْجُؤ وهو الصَّدْر ، والدُّؤْدُؤُ ، واليُؤْيُؤُ لطائر ، والبُؤْبؤ بالموحَّدتين ، وهو الأصلُ . واللؤلؤُ بضمتين والهمز هو المشهورُ ، وإبدال الهمزةِ واواً شائعٌ فصيحٌ وقد تقدَّم ذلك .
وقرأ طلحة " اللُّؤْلِىءُ " بكسر اللام الثالثة ، وهي لغةٌ محفوظةٌ . ونَقَل عنه أبو الفضلِ " اللُّؤْلِيْ " بقَلْبِ الهمزة الأخيرة ياءً ساكنة كأنه لَمَّا كسَر ما قبل الهمزة قلبها ياءً استثقالاً . وقرأ أبو عمرو في رواية " يُخْرِجُ " أي الله تعالى . ورُوِي عنه أيضاً وعن ابن مقسم " نُخْرِجُ " بنون العظمة . واللؤلؤُ والمَرْجان في هاتين القراءتَيْن منصوبان .
(1/5106)
وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24)
قوله : { الجوار } : العامَّة على كسرِ الراء لأنه منقوصٌ على مَفاعِل ، والياءُ محذوفةٌ لفظاً لالتقاءِ الساكنين . وقرأ عبد الله والحسن وتُروَى عن أبي عمروٍ " الجَوارُ " برفع الراء تناسياً للمحذوف ومنه :
4173 لها ثنايا أربعٌ حِسانُ ... وأربعٌ فثَغْرُها ثَمانُ
وهذا كما قالوا : " هذا شاكٌ " وقد تقدَّم تقريرُ هذا في الأعراف عند قولِه : { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [ الأعراف : 41 ] .
قوله : { المنشئات } قرأ حمزةُ وأبو بكر بخلافٍ عنه بكسرِ الشينِ بمعنى : أنها تُنْشِىءُ الموجَ بجَرْيِها ، أو تُنْشِىء السيرَ إقبالاً وإدباراً ، أو التي رَفَعَتْ شُرُعَها أي : قِلاعَها . والشِّراع : القِلْع . وعن مجاهد : كلما رَفَعتْ قِلْعَها فهي من المُنْشَآت ، وإلاَّ فليسَتْ منها . ونسبةُ الرَّفْع إليها مجازٌ كما يقال : أنْشَأتِ السحابةُ المطرَ . والباقون بالفتح وهو اسمُ مفعول أي : أنشأها اللَّهُ أو الناسُ ، أو رفعوا شُرُعَها . وقرأ ابن أبي عبلة " المُنَشَّآت " بتشديد الشين مبالغةً . والحسنُ " المُنْشات " بالإِفراد ، وإبدالِ الهمزة ألفاً وتاءٍ مجذوبة خَطَّاً فأْفَردَ الصفةَ ثقةً بإفهام الموصوف الجمعيةَ ، كقولِه { أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } [ البقرة : 25 ] وأمَّا إبدالُه الهمزةَ ألفاً ، وإن كان قياسُها بينَ بينَ فمبالَغَةٌ في التخفيف ، كقوله :
4174 إنَّ السِّباعَ لَتَهْدَا في مَرابِضِها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : لتهدَأ . وأمَّا كَتْبُها بالتاءِ المجذوبة فإتباعاً للفظها في الوصلِ . و " في البحر " متعلقٌ بالمُنْشِئات أو المنشَآت . ورسمُه بالياء بعد الشين في مصاحفِ العراقِ يُقَوِّي قراءةَ الكسرِ ورَسْمُه بدونِها يُقَوِّي قراءةَ الفتح ، وحَذَفُوا الألفَ كا تُحْذَفُ في سائر جمع المؤنث السالم . و " كالأَعْلام " حالٌ : إمَّا من الضميرِ المستكنِّ في " المُنْشَآت " ، وإمَّا مِنْ " الجوار " وكلاهما بمعنىً واحد . والأَعلام : الجبالُ جمعُ عَلَم . قال :
4175 رُبَّما أَوْفَيْتُ في عَلَم ... تَرْفَعَنْ ثوبي شَمالاتُ
(1/5107)
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26)
وقوله : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } : غَلَّبَ مَنْ يَعْقِلُ على غيره ، وجميعُهم مُرادٌ . والضميرُ في " عليها " للأرضِ . قال بعضُهم . " وإنْ لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ كقولِه : { حتى تَوَارَتْ بالحجاب } [ ص : 32 ] . وقد رُدَّ على هذا القائلِ وقالوا : بل تَقَدَّم ذِكْرُها في قولِه : { والأرض وَضَعَهَا } [ الرحمن : 10 ] .
(1/5108)
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)
قوله : { ذُو الجلال } : العامَّةُ على " ذو " بالواو صفةً للوجه . وأبَيٌّ وعبدُ الله " ذي " بالياءِ صفةً ل " ربِّك " وسيأتي خلافٌ بين السبعةِ في آخر السورة إنْ شاءَ الله تعالى .
(1/5109)
يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)
قوله : { يَسْأَلُهُ مَن فِي السماوات } : فيه وجهان : أحدهما : هو مستأنفٌ . والثاني : أنه حالٌ مِنْ " وَجْه " والعاملُ فيه " يَبْقَى أي : يَبْقَى مَسْؤولاً مِنْ أهلِ السماواتِ والأرضِ .
قوله : { كُلَّ يَوْمٍ } منصوبٌ بالاستقرارِ الذي تضمَّنه الخبرُ وهو قولُه " في شَأْنٍ " والشَّأْنُ : الأَمْرُ .
(1/5110)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31)
قوله : { سَنَفْرُغُ } : قرأ سَيَفْرُغُ بالياءِ الأخَوان أي : سَيَفْرُغُ اللَّهُ تعالى . والباقون من السبعة بنون العظمة ، والراءُ مضمومةٌ في القراءتَيْن ، وهي اللغةُ الفُصْحى لغة الحجازِ . وقرأها مفتوحة الراء مع النونِ الأعرجُ ، وتحتمل وجهَيْن ، أحدهما : أَنْ تكونْ مِنْ فَزَغَ بفتحِ الراء في الماضي ، وفُتِحت في المضارع لأَجْلِ حرفِ الحَلْقِ . والثاني : أنه سُمِعَ فيه فَرِغَ بكسرِ العينِ ، فيكون هذا مضارعه/ وهذه لغةُ تميمٍ . وعيسى بن عمر وأبو السَّمَّال " سَنِفْرَغُ " بكسر حرفِ المضارعةِ وفتحِ الراءِ . وتوجيهُها واضحٌ مِمَّا تقدَّم في الفاتحة قال أبو حاتم : " وهي لُغَةُ سُفْلى مُضَرَ . والأعمش وأبو حيوةَ وإبراهيمُ " سَنِفْرَغُ " بضم الياء مِنْ تحتُ مبنياً للمفعولِ . وعيسى أيضاً بفتح نونِ العظمةِ وكسرِ الراء . والأعرجُ أيضاً بفتح الياء والراء . ورُوي عن أبي عمروٍ . وقد تقدَّم قراءةُ " أيها " في النور . والفَراغُ هنا استعارةٌ . وقيل : هو القَصْدُ . وأُنْشِد لجرير :
4176 ألانَ وقد فَرَغْتُ إلى نُمَيْرٍ ... فهذا حينَ كُنْتُ لهمُ عَذاباً
وأنشد الزجاج :
4177 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فَرَغْتُ إلى العبدِ المقيَّدِ في الحِجْلِ
ويَدُلُّ عليه قراءةُ أُبَيّ " سَنَفْرُغُ إليكم " أي : سَنَقْصِدُ إليكم . والثَّقَلان : الجن والإِنس لأنهما ثَقَلا الأرضِ . وقيل : لثِقَلِهم بالذنوب . وقيل : الثَّقَلُ : الإِنسُ لشَرَفَهم . وسُمِّيَ الجنُّ بذلك مجازاً للمجاورة . والثَّقَل . العظيم الشريف . وفي الحديث : " إني تاركٌ فيكم ثَقَلَيْن كتابَ الله وعِتْرتي "
(1/5111)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)
قوله : { فانفذوا } : أمرُ تعجيزٍ : والنُّفوذُ : الخروج بسرعة وقد تقدَّم في أولِ البقرة : أنَّ ما فاؤُه نونٌ وعينُه فاءٌ يَدُلُّ على الخروج كنَفَق ونَفَرَ . و " إلاَّ بسُلْطان " حالٌ أو متعلِّقٌ بالفعلِ قبلَه . وقرأ زيد بن علي " إنْ اسْتَطَعْتما " خطاباً للثَّقَلَيْن ، وحَقُّه أَنْ يمشيَ على سَنَنٍ واحدٍ فيَقْرأَ " أنْ تَنْفَذا ، لا تنفُذان " والعامَّةُ جعلوه كقولِه : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ الحجرات : 9 ] إذ تحت كلِّ واحدٍ أفرادٌ كثيرةٌ وقد رُوْعي لفظُ التثنية في قوله بعدُ : " يُرْسَلُ عليكما " فلا تبعدُ قراءةُ زيدٍ .
(1/5112)
يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35)
قوله : { شُوَاظٌ } : قرأ ابن كثير بكسر الشين . والباقون بضمِّها ، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ . والشُواظُ : قيل : اللَّهَبُ معه دُخانٌ . وقيل : بل هو اللهبُ الخالِصُ . وقيل : اللَّهَبُ الأحمرُ . وقيل : هو الدخانُ الخارجُ مِن اللهَب . وقال رؤبة :
4178 ونارَ حَرْبٍ تُسْعِرُ الشُّواظا ... وقال حسان :
4179 هَجَوتُكَ فاخْتَضَعْتَ لها بذُلٍّ ... بقافِيَة تَأَجَّجُ كالشُّواظِ
و " يُرْسَلُ " مبنيٌّ للمفعولِ؛ وهو قراءةُ العامَّةِ . وزيد بن علي " نُرْسِلُ " بالنونِ ، " شواظاً ونُحاساً " بالنصب . و " مِنْ نار " صفةٌ لشواظ أو متعلِّقٌ ب " يُرْسَلُ " .
قوله : " ونُحاس " قرأ ابنُ كثير وأبو عمروٍ بجرِّه عطفاً على " نارٍ " ، والباقون برفعِه عطفاً على " شُواظ " . والنحاس قيل : هو الصُّفْرُ المعروفُ ، يذيبه اللَّهُ تعالى ويُعَذِّبهم به . وقيل : الدخان الذي لا لَهَبَ معه . قال الخليل : وهو معروفٌ في كلامِ العرب ، وأنشد للأعشى :
4180 يُضيْءُ كضَوْءِ سراجِ السَّلِيْ ... طِ لم يَجْعَلِ اللَّهُ فيه نُحاسا
وتُضَمُّ نونُه وتُكْسَرُ ، وبالكسرِ قرأ مجاهد وطلحة والكلبي . وقرأ ابن جندب " ونَحْسٌ " كقولِه : { فِي يَوْمِ نَحْسٍ } [ القمر : 19 ] وابن أبي بكرة وابن أبي إسحاق " ونَحُسُّ " بضم الحاء والسين مشددةً من قوله : { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } [ آل عمران : 152 ] أي : ونقتلُ بالعذاب . وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً " ونَحَُِسٍ " بضمِّ الحاء وفتحِها وكسرِها ، وجرِّ السين . والحسن والقاضي .
" ونُحُسٍ " بضمتين وجرِّ السين . وتقدَّمَتْ قراءةُ زيدٍ " ونُحاساً " بالنصبِ لِعَطْفِه على " شواظاً " في قراءته .
(1/5113)
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37)
قوله : { فَإِذَا انشقت } : جوابُه مقدرٌ أي : رأيت هَوْلاً عظيماً ، أو كان ما كان .
قوله : { وَرْدَةً } أي : مثلَ وَرْدَةٍ فقيل : هي الزهرة المعروفة التي تُشَمُّ ، شَبَّهها بها في الحُمْرة ، وأنشد :
4181 فلو كُنْتُ وَرْداً لَوْنُه لعَشِقْنَني ... ولكنَّ ربي شانَني بسَواديا
وقيل : هي من لَوْنِ الفَرَسِ الوَرْد ، وإنما أُنِّثَ لكونِ السماءِ مؤنثةً . وقال الفراء : " أراد لونَ الفرسِ الوَرْدِ ، يكون في الربيع إلى الصفرة ، وفي الشتاء إلى الحُمْرة ، وفي اشتدادِ البَرْدِ إلى الغُبْرة ، فشبَّه تلوُّنَ السماءِ بتلَوُّنِ الوَرْدَةِ من الخيل " . وقرأ عبيد بن عمير " وَرْدَةٌ " بالرفع . قال الزمخشري : " بمعنى : فَحَصَلَتْ سماءٌ وردةٌ ، وهو من الكلام الذي يُسَمَّى التجريدَ ، كقوله :
4182 فَلَئِنْ بَقِيْتُ لأَرْحَلَنَّ بِغَزْوةٍ ... تَحْوِي الغنائمَ أو يموتَُ كريمُ
قوله : { كالدهان } يجوز أن يكونَ خبراً ثانياً ، وأَنْ يكونَ نعتاً لوردة . وأَنْ يكونَ حالاً من اسم " كانت " . وفي " الدِّهان " قولان ، أحدُهما : أنه جمعُ دُهْن نحو : قُرْط وقِراط ، ورُمْح ورِماح ، وهو في معنى قوله : { يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل } [ المعارج : 8 ] .
وهو دُرْدِيُّ الزَّيْتِ . والثاني : أنه اسمٌ مفردٌ ، فقال الزمخشري : " اسمُ ما يُدْهَنُ به كالجِزام والإِدام وأنشد :
4183 كأنَّهما مَزادَتا مُتَعَجِّلٍ ... فَرِيَّانِ لَمَّا تُدْهَنا بدِهان
/ وقال غيرُه : هو الأديمُ الأحمرُ ، وأنشد للأعشى :
4184 وأَجْرَدَ مِنْ كِرامِ الخَيْلِ طِرْفٍ ... كأنَّ على شَواكِله دِهانا
أي : أديماً أحمرَ ، وهذا يَحْتمل أنْ يكونَ جمعاً . ويؤيِّده ما أنشده منذرُ بنُ سعيد :
4185 يَبِعْنَ الدِّهانَ الحُمْرَ كلَّ عَشِيَّةٍ ... بموسِمِ بَدْرٍ أو بسُوْقِ عُكاظِ
فقوله " الحُمْرَ " يؤيِّدُ كونَه جمعاً ، وقد يُقال : هو كقولِهم : " أهلك الناسَ الدينارُ الحُمْرُ والدرهمُ البِيْضُ " ، إلاَّ أنَّه خِلافُ الأصلِ . وقيل : شُبِّهَتْ بالدِّهانِ ، وهو الزَيْتُ لذَوْبِها ودَوَرانِها ، وقيل : لبَريقِها .
(1/5114)
فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)
قوله : { فَيَوْمَئِذٍ } : التنوينُ عِوَضٌ من الجملةِ ، أي : فيومَ إذ انشَقَّت السَّماءُ . والفاء في " فيومئذٍ " جوابُ الشرط . وقيل : هو محذوفٌ ، أي : فإذا انشَقَّتِ السماءُ رَأَيْتَ أَمْراً مَهُولاً ، ونحو ذلك . والهاءُ في " ذَنْبه " [ تعودُ على أحد المذكورِيْن ] . وضميرُ الآخرِ مقدرٌ ، أي : ولا يُسْأَل عن ذنبِه جانٌّ أيضاً . وناصبُ الظرفِ " لا يُسأَلُ " و " لا " غيرُ مانعةٍ . وقد تقدَّم خلافُ الناسِ فيها في الفاتحة . وتقَدَّمَتْ قراءة " جأَنّ " بالهمز فيها أيضاً .
(1/5115)
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)
وقرأ حماد بن أبي سليمان " بسِيْمائِهم " بالمدِّ . وتقدَّم الكلامُ على ذلك في آخر البقرة .
قوله : { فَيُؤْخَذُ بالنواصي } " يُؤْخَذُ " متعدٍّ ، ومع ذلك تَعَدَّى بالباء؛ لأنه ضُمِّنَ معنى يُسْحَبُ ، قاله الشيخ . وسحب إنما يُعَدَّى ب " على " قال تعالى : { يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ } [ القمر : 48 ] فكان يَنْبغي أَنْ يقولَ : ضُمِّنَ معنى يُدَعُّوْن ، أي : يُدْفَعون . وقال مكي : " إنما يُقال : أَخَذْتُ الناصِيةَ وأخَذْتُ بالناصية . ولو قلت : أَخَذْتُ الدابَّةَ بالناصيةِ لم يَجُزْ . وحُكي عن العرب : أَخَذْتُ الخِطامَ ، وأَخَذْتُ بالخِطام بمعنى . وقد قيل : إنَّ تقديرَه : فيُؤْخَذُ كلُّ واحدٍ بالنَّواصي ، وليس بصوابٍ ، لأنه لا يَتَعَدَّى إلى مفعولَيْنِ أحدُهما بالباء ، لِما ذكَرْنا . وقد يجوز أَنْ يتعدَّى إلى مفعولَيْنِ أحدُهما بحرفِ جرّ غيرِ الباء نحو : أَخَذْتُ ثوباً من زيد .
فهذا المعنى غيرُ الأولِ ، فلا يَحْسُن مع الباء مفعولٌ آخرُ ، إلاَّ أَنْ تجعلَها بمعنى : مِنْ أَجْل ، فيجوزُ أن تقولَ : أَخَذْتُ زيداً بعمروٍ ، أي : مِنْ أجلِه وبذنبِه " انتهى . وفيما قاله نَظَرٌ ، لأنك تقولُ : أَخَذْتُ الثوبَ بدرهمٍ ، فقد تعدَّى بغير " مِنْ " أيضاً بغير المعنى الذي ذكره .
وأل في النواصي والأقدام ليسَتْ عِوَضاً مِنْ ضمير عند البَصْريين فالتقدير : بالنواصي منهم ، وهي عند الكوفيين عِوَضٌ . والنَّاصِيَةُ : مُقَدَّمُ الرأسِ . وقد تقدَّم هذا مستوفى في هود . وفي حديث عائشة رضي الله عنها : " ما لكم لا تَنْصُون مَيِّتكم " ، أي : لا تَمُدُّون ناصِيته . والنَّصِيُّ مَرْعى طيب . وقولهم : " فلانٌ ناصيةُ القوم " يُحتمل أن يكونَ من هذا ، يَعْنون أنه طيب مُنْتَفَعٌ به ، أو مثلَ قولِهم : هو رأسُ القوم .
(1/5116)
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)
قوله : { هذه جَهَنَّمُ } : أي : يُقال لهم و " آن " بمعنى : حار متناهٍ في الحرارة ، وهو منقوصٌ كقاضٍ يُقال : أنى يَأْني فهو آن كقَضى يَقْضي فهو قاضٍ . وقد تَقَدَّمَ في الأحزاب . والعامَّةُ يَطوفون مِنْ طاف . وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبو عبد الرحمن " يُطافُون " مبنياً للمفعول ، مِنْ أطافهم غيرُهم . والأعمش وطلحة وابن مقسم " يُطَوِّفُون " بضمِّ الياء وفتح الطاءِ وكسرِ الواوِ مشددةً ، أي : يُطَوِّفُون أنفسَهم . وقرأت فرقةٌ " يَطَّوَّون " بتشديد الطاء والواو . والأصلُ : يتطَوَّفون .
(1/5117)
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46)
قوله : { مَقَامَ رَبِّهِ } : يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً ، وأَنْ يكونَ مكاناً . فإِنْ كان مصدراً ، فيُحْتمل أَنْ يكونَ مضافاً لفاعلِه ، أي : قيامَ ربِّه عليه وحِفْظَه لأعمالِه مِنْ قولِه : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الرعد : 33 ] ويُرْوَى هذا المعنى عن مجاهد ، وأن يكونَ مضافاً لمفعولِه . والمعنى : القيام بحقوق الله فلا يُضَيِّعُها . وإنْ كان مكاناً فالإِضافةُ بأَدْنى مُلابسة لَمَّا كان الناسُ يقومون بين يَدَيِ اللّهِ تعالى للحاسب في عَرَصات القيامة . قيل : فيه مَقامُ الله . والظاهرُ أن الجنَّتَيْن لخائفٍ واحدٍ . وقيل : جنةٌ لخائفِ الناسِ ، وأُخرى لخائفِ الجنِّ ، فيكون من بابِ التوزيعِ . وقيل " مَقام " هنا مُقْحَمٌ والتقدير : ولِمَنْ خاف ربَّه وأنشد :
4186 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ونَفَيْتُ عنه ... مَقامَ الذِّئْبِ كالرَّجُلِ اللعينِ
أي : نَفَيْتُ الذئبَ ، وليس بجيدٍ؛ لأنَّ زيادةَ الاسمِ ليسَتْ بالسهلة .
(1/5118)
ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48)
قوله : { ذَوَاتَآ } : صفةٌ ل جَنَّتان ، أو خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هما ذواتا . وفي تثنية " ذات " لغتان : الردُّ إلى الأصلِ ، فإنَّ أصلَها " ذَوْيَة " فالعينُ واوٌ ، واللامُ ياءٌ ، لأنَّها مؤنثةُ ذو . والثانية : التثنيةُ على اللفظِ فيُقال : ذاتا .
والأَفْنان : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه جمعُ فَنَن كطَلَل وهو الغُصْنُ . قال النابغة الذبياني :
4187 بكاءَ حمامةٍ تَدْعو هَدِيلاً ... مُفَجَّعةٍ على فَنَنٍ تُغَنِّي
وقال آخر :
4188 رُبَّ وَرْقاءَ هَتُوفٍ بالضُّحى ... ذاتِ شَجْوٍ صَدَحَتْ في فَنَنِ
وقال آخر :
4189 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... على كلِّ أفنانِ العِضاهِ تَرُوْقُ
والثاني : أنه جمعُ فَنّ كدَنّ ، وإليه أشار ابنُ عباس . والمعنى : ذواتا أنواعٍ وأشكالٍ . وأنشدوا :
4190 ومِنْ كلِّ أفنانِ اللَّذاذَةِ والصِّبا ... لَهَوْتُ به والعيشُ أخضرُ ناضِرُ
إلاَّ أنَّ الكثيرَ في " فَنّ " أَنْ يُجْمع على " فُنون " .
(1/5119)
مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54)
قوله : { مُتَّكِئِينَ } : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ " مَنَ " في قولِه : " ولِمَنْ خافَ " ، وإنَّما جُمعَ حَمْلاً على معنى " مَنْ " بعد الإِفراد حَمْلاً على لفظها . وقيل : حالٌ عامِلُها محذوفٌ أي : يَتَنَعَّمون مُتَّكئين . وقيل : منصوبٌ على الاختصاصِ . والعامَّةُ على " فُرُش " بضمَّتين . وأبو حيوة بضمةٍ وسكونٍ وهي تخفيفٌ منها . /
قوله : { بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً . والظاهر أنَّها صفةٌ ل " فُرُش " . و " مِنْ إستبرق " قد تَقَدَّم الكلام في الاستبرق وما قيل فيه في سورة الكهف . وقال أبو البقاء هنا : " أصلُ الكلمةِ فِعْلٌ على اسْتَفْعَلَ فلمَّا سُمِّي به قُطِعَتْ همزتُه . وقيل : هو أعجميُّ . وقرِىء بحَذْفِ الهمزةِ وكسر النونِ ، وهو سَهْوٌ؛ لأنَّ ذلك لا يكون في الأسماءِ بل في المصادرِ والأفعال " . انتهى . أمَّا قولُه " وهو سهوٌ لأن ذلك لا يكون " إلى آخرِه ، يَعْني أنَّ حَذْفِ الهمزةِ في الدَّرْجِ لا يكونُ إلاَّ في الأفْعال والمصادرِ ، وأمَّا الأسماءُ فلا تُحْذَفُ هَمَزاتُها لأنَّها هَمَزات قَطْعٍ . وهذا الكلامُ أحقُّ بأن يكونَ سَهْواً؛ لأنَّا أولاً لا نُسَلِّمُ أنَّ هذه القراءةَ مِنْ حَذْفِ همزةِ القطعِ إجراءً لها مُجْرى همزةِ الوَصْلِ . وإنَّما ذلك مِنْ بابِ نَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكن قبلَها ، وحركةُ الهمزةِ كانَتْ كسرةً فحركةُ النونِ حركةُ نَقْلٍ لا حركةُ التقاءِ ساكنين . ثم قولُه : " إلاَّ في الأفعال والمصادرِ " ليس هذا الحصرُ بصحيح اتفاقاً لوجودِ ذلك في أسماءٍ عشرةٍ ليسَتْ بمصادرَ ، ذكرْتُها في أولِ هذا الموضوع .
قوله : { وَجَنَى الجنتين دَانٍ } مبتدأٌ وخبرٌ . ودانٍ أصلهُ دانِوٌ مثلَ غازٍ ، فأُعِلَّ كإِعلالِه . وقرأ عيسى بن عمر " وجَنِيَ " بكسر النون . وتوجيهُها : أن يكونَ أمال الفتحة لأجل الألف ، ثم حذف الألف لالتقاءِ السَّاكنين ، وأبقى إمالة النون فَظُنَّتْ كسرةً . وقُرِىء " وجِنَى " بكسر الجيم ، وهي لغة . والجَنى : ما يُقْطَفُ من الثمار . وهو فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبَض والنَقَص .
(1/5120)
فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)
قوله : { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ } : اختُلِفَ في هذا الضمير ، فقيل : يعود على الجنات ، فيقال : كيف تَقَدَّمَ تثنيةٌ ثم أُتِي بضمير جَمْع؟
فالجوابُ : أنَّ أقلَّ الجمعِ اثنان على قولٍ ، وله شواهدُ قد تقدَّم أكثرُها . وإمَّا أن يقالَ : عائدٌ على الجنات المدلولِ عليها بالجنتْين ، وإمَّا أَنْ يقالَ : إنَّ كل فردٍ فردٍ له جنتان فصَحَّ أنها جناتٌ كثيرة ، وإمَّا أنَّ الجنةَ تشتمل على مجالسَ وقصورٍ ومنازلَ فأطلقَ على كلِّ واحدٍ منها جنة . وقيل : يعودُ على الفُرُش . وهذا قولٌ حَسَنٌ قليلُ الكُلْفَةِ .
وقال الزمشخري : " فيهِنَّ : في هذه الآلاءِ المعدودة من الجنَّتَيْن والعينَيْن والفاكهةِ والفُرُشِ والجَنَى " . قال الشيخ : " وفيه بُعْدٌ " وكان قد اسْتَحْسَنَ الوجهَ الذي قبله . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الاستعمالَ أَنْ يُقال : على الفِراش كذا ، ولا يقال : في الفِراش كذا إلاَّ بتكلُّف؛ فلذلك جَمَعَ الزمخشريُّ مع الفُرُش غيرَها حتى صَحَّ له أَنْ يقولَ : " فيهن " بحرف الظرفيَّة ، ولأن الحقيقةَ أنَّ الفُرُشَ يكون الإِنسانُ عليها؛ لأنه مُستَعْلٍ عليها . وأمَّا كونُه فيها فلا يقال إلاَّ بمجازٍ . وقال الفراء : " كلُّ موضع في الجنةِ جنةٌ ، فلذلك صَحَّ أَنْ يُقالَ : فيهِنَّ ، والقاصِراتُ : الحابساتُ الطرفِ ، أي : أعينُهُنَّ عن غيرِ أَزْواجهن . ومعناه : قَصَرْنَ ألحاظَهُنَّ على أزواجِهنَّ . قال امرؤ القيس :
4191 مِن القاصِراتِ الطَّرْفِ لو دَبَّ مُحْوِلٌ ... من الذَّرِّ فوق الإِتْبِ منها لأَثَّرا
وقاصراتُ الطرفِ : مِنْ إضافةِ اسم الفاعلِ لمنصوبِه تخفيفاً إذ يقال : قَصَرَ طَرْفَه على كذا . وحُذِف متعلَّقُ القَصْرِ للعلمِ به ، أي : على أزواجِهِنَّ ، كما تقدَّم تقريرُه . وقيل : المعنى : قاصراتٌ طَرْفَ غيرِهن عليهنَّ ، أي : إذا رآهن أحدٌ لم يتجاوَزْ طرفُه إلى غيرِهنَّ .
قوله : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ } هذه الجملةُ يجوز أَنْ تكونَ نعتاً لقاصِرات؛ لأن إضافتَها لفظيةٌ ، كقولِه { هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } [ الأحقاف : 24 ] و [ وقوله ] :
4192 يا رُبَّ غابطِنا لو كان يَطْلُبُكمْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وأَنْ تكونَ حالاً لتخصُّصِ النكرةِ بالإِضافة . واخْتُلِفَ في هذا الحرفِ والذي بعدَه عن الكسائيِّ : فنُقِل عنه أنَّه كان يُخَيِّرُ في ضَمِّ أيِّهما شاءَ القارىءَ . ونَقَل عنه الدُّوريُّ ضمَّ الأولِ فقط ونَقَل عنه أبو الحارث ضمَّ الثاني فقط ، وهما لغتان . يُقال : طَمَثَها يَطْمِثُها ويَطْمُثُها إذا جامَعَها . وأصلُ الطَّمْثِ : الجماعُ المؤدِّي إلى خروجِ دمِ البِكْرِ ، ثم أُطْلِقَ على كلِّ جِماع : طَمْثٌ ، وإنْ لم يَكُنْ معه دمٌ . وقيل : الطَمْثُ دَمُ الحَيْضِ أو دمُ الجِماع . وقيل : الطَمْثُ المَسُّ الخاص . وقرأ الجحدري " يَطْمَثْهُنَّ " بفتح الميم في الحرفَيْن ، وهو شاذٌّ إذ ليسَتُ عينُه ولا لامُه حرفَ حَلْقٍ . والضميرُ في " قبلَهُمْ " عائدٌ على الأزواجِ الدالِّ عليهم قولُه " قاصراتُ الطَّرْفِ " أو الدالِّ عليه " مُتَّكئين " .
(1/5121)
كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)
قوله : { كَأَنَّهُنَّ الياقوت } : هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكون نعتاً لقاصِرات ، وأن تكونَ حالاً منها . ولم يَذْكُرْ مكيٌّ غيرَه . والمَرْجان تقدَّم ما هو؟ والياقوتُ : جوهرٌ نفيسٌ . يُقال : إن النارَ لم تُؤَثِّرْ فيه ، ولذلك قال الحريري :
4193 وطالما أُصْلِيَ اليقاوتُ جَمْرَ غَضَا ... ثم انْطفا الجمرُ والياقوتُ ياقوتُ
أي : باقٍ على حالِه لم يتأثَّرْ بها . ووجهُ التشبيهِ كما قال الحَسَنُ . في صفاءِ الياقوتِ/ وبياضِ المَرْجان . وهذا على القول بأنه أبيضُ وقد تقدَّم ، وقيل : الوجهُ في . . . ونفاسَتِهما ولذلك سَمَّوْا بمَرْجانة ودُرَّة وشبهِ ذلك .
(1/5122)
هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)
وقرأ ابن أبي إسحاق " إلاَّ الحِسانُ " ، أي : إلاَّ الحُوْرُ الحِسان .
(1/5123)
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62)
قوله : { وَمِن دُونِهِمَا } : أي : مِنْ دونِ تَيْنَكَ الجَنَّتَيْن المتقدِّمتين : جَنَّتان في المنزلةِ وحُسْنِ المنظرِ . وهذا على الظاهر مِنْ أنَّ الأُوْلَيَيْنِ أفضلُ من الأُخْرَيَيْنِ . وقيل بالعكس ، ورَجَّحه الزمخشري .
(1/5124)
فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66)
والنَّضْخُ : فوق النَّضْحِ بالحاءِ ، لأنَّ النَّضْحَ بالحاءِ : الرَّشُّ والرَّشْحُ ، والنَّضْخُ بالخاء : فَوَرانُ الماء . والادْهِيْمامُ : السَّوادُ وشدةُ الخضرةِ ، جُعِلا مُدْهامَّتيْن لشدَّة رِيِّهما ، وهذا مُشاهَدٌ بالنظر ، ولذلك قالوا : " سوادُ العراق " لكثرةِ شَجَره وزروعِه .
(1/5125)
فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68)
قوله : { وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } : استدلَّ بعضُهم بها على أنهما ليسا من الفاكهة لاقتضاءِ العطفِ المغايرة . فلو حَلَفَ : " لا يأكلُ فاكهةً " لم يَحْنَثْ بأَكْلهما . وبعضُهم يقول : هو من باب ذِكْر الخاص بعد العام تفصيلاً له كقولِه : { وملائكته } [ البقرة : 97 ] ثم قال : " وجبريلَ وميكَال " وهو تَجَّوُّزٌ؛ لأنَّ فاكهة ليس عامَّاً؛ لأنه نكرةٌ في سياقِ الإِثْبات ، وإنما هو مُطْلَقٌ ، ولكنْ لَمَّا كان صادقاً على النخل والرمَّان قيل فيه ذلك .
(1/5126)
فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70)
قوله : { خَيْرَاتٌ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه جمعُ " خَيْرَة " . بزِنةِ فَعْلَة بسكونِ العين . يقال : امرأةٌ خَيْرَةٌ وأخرى شَرَّةٌ . والثاني : أنه جمعُ خَيْرة المخففة مِنْ خَيِّرة . ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ ابن مقسم واليزيدي وبكر بن حبيب " خَيِّرات " تشديد الياء . وقرأ أبو عمروٍ " خَيَرات " بفتح الياء جمع " خَيْرَة " وهي شاذَّةٌ ، لأن العين معتلةٌ؛ إلاَّ أن بني هُذَيلٍ تُعامِله معاملةَ الصحيح فيقولون ، جَوَزات وبَيَضات وأُنْشِد :
4194 أخو بَيَضاتٍ رائِحٌ مُتَأَوِّبُ ... رفيقٌ بمَسْحِ المَنْكِبَيْنِ سَبُوْحُ
(1/5127)
حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72)
ومَقْصورات ، أي : مَحْبوسات ، ومنه " القَصْر " لأنه يَحْبِسُ مَنْ فيه ، ومنه قولُ النحاة " المقصور " لأنه حُبِس عن المدِّ أو حُبس عن الإِعراب ، أو حُبِس الإِعرابُ فيه ، والنساء تُمْدَحُ بملازَمَتِهِنَّ البيوتَ كما قال [ أبو ] قيس بن الأسلت :
4195 وتَكْسَلُ عن جيرانِها فيَزُرْنَها ... وتَعْتَلُّ عن إتْيانِهِنَّ فتُعْذَرُ
ويقال : امرأةٌ مَقْصورة وقَصيرة وقَصورة ، بمعنىً واحد . قال كثير عزة :
4196 وأنتِ التي حَبَّبْتِ كلَّ قصيرةٍ ... إليَّ ولم تَعْلَمْ بذاك القَصائرُ
عَنَيْتُ قصيراتِ الحِجالِ ولم أُرِدْ ... قِصارَ الخُطا شَرُّ النساءِ البَحاتِرُ
والخِيام : جمعُ خَيْمة وهي تكونُ مِنْ نَمَّام وسائرِ الحَشيش ، فإنْ كانَتْ مِنْ شَعْرٍ فلا يُقال لها : خَيْمةٌ بل بَيْتٌ . وقال جرير :
4197 متى كان الخيامُ بذي طُلوحٍ ... سُقِيْتِ الغَيْثَ أيتها الخيامُ
(1/5128)
مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76)
قوله : { رَفْرَفٍ } : الرَّفْرَفُ جمع رَفْرَفَة فهو اسمُ جنسٍ . وقيل : بل هو اسمُ جمعٍ ، نقلهما معاً مكيٌّ ، وهي ما تَدَلَّى من الأسِرَّة مِنْ عالي الثياب . وقال الجوهريُّ : " ثيابٌ خُضْرٌ يُتَّخَذُ منها المجالِسُ ، الواحدةُ رَفْرَفة " واشتقاقُه مِنْ رَفَّ الطائرُ : أي : ارتفع في الهواء . ورَفْرَفَ بجناحَيْه : إذا نَشَرهما للطيران ورَفْرَفُ السَّحابِ هُبوبُه ، ويَدُلُّ على كونه جمعاً وصفُه بالجمع . وقال الراغب : " رفيفُ الشجر : انتشارُ أغصانِه . ورَفَّ الطائرُ : نَشَرَ جناحَه يَرِفُّ بالكسرِ . ورَفَّ فَرْخَه يَرُفُّه بالضم تَفَقَّده ، ثم اسْتُعير للتفَقُّدِ . ومنه " ماله حافٌّ ولا رافٌّ " ، أي : مالَه مَنْ يَحُفُّه ويتفقَّدُه . والرَّفْرَفُ : المنتشِرُ من الأوراقِ . وقولُه { على رَفْرَفٍ خُضْرٍ } : ضَرْبٌ من الثياب مُشَبَّه بالرياض . وقيل : الرَّفْرَفُ طرفُ الفُسْطاطِ والخِباءِ الواقعِ على الأرض دونَ الأَطنْابِ والأوتادِ . وذكر الحسن أنه المَخادُّ " انتهى . وقال ابن جُبير : " رياضُ الجنَّة ، مِنْ رَفَّ البيتُ إذا تَنَعَّمَ وحَسُن . وعن ابن عُيَيْنة هي الزَّرابِيُّ . ونُعِت هنا بخُضْر لأنَّ اسمَ الجنسِ يُنْعَتُ بالجمعِ كقولِه : { والنخل بَاسِقَاتٍ } [ ق : 10 ] وبالمفرِد . وحَسَّنَ جَمْعَه هنا جَمْعُ حِسان . وقرأ العامَّةُ " رَفْرَفٍ " وقرأ عثمان بن عفان ونصر ابن عاصم وعاصم والجحدري والفرقبي وغيرهم " رَفارِفَ خُضْرٍ " بالجمع وسكونِ الضاد . وعنهم أيضاً " خُضُرٍ " بضم الضاد وهو إتباعٌ للخاء . وقيل : هي لغةٌ في جمع أَفْعَلَ الصفةِ . وأُنْشد لطرفة :
4198 أيها الفتيانُ في مَجْلِسِنا ... جَرِّدُوا منها وِراداً وشُقُرْ
وقال آخر :
4199 وما انْتَمَيْتُ إلى خُوْرٍ ولا كُسُف ... ولا لئامٍ غداةَ الرَّوْع أَوْزاعِ
وقرؤوا " عباقِرِيَّ " بكسر القاف وفتحِها وتشديدِ الياءِ متوحةً/ على مَنْعِ الصرفِ . وهي مُشْكِلَةٌ؛ إذ لا مانعَ من تنوينِ ياءَيْ النسَبِ ، وكأنَّ هذا القارىءَ تَوَهَّمَ كَوْنَها في مَفاعِل فمنعَها من الصرفِ . وقد رَوَى عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وجماعةٍ " وعباقِرِيٍّ " منوناً ابنُ خالويه ورُوِي عن عاصمٍ " رَفارِفٍ " بالصرف . وقد يُقال في مَنْ مَنَعَ " عباقِرِيَّ " إنَّه لما جاوزَ " رفارِفَ " الممتنعَ امتنع مُشاكلةً . وفي مَنْ صَرَفَ رفارِفَ : إنَّه لما جاوَزَ عباقِريَّاً المنصرفَ صَرَفَه للتناسُب ك { سَلاسلاً وأَغْلالاً } [ الإِنسان : 4 ] كما سيأتي .
وقرأ أبو محمد المروزي وكان نَحْوياً " خَضَّارٍ " كضَرَّاب بالتشديد . وأَفْعَلُ وفَعَّالٌ لا يُعْرَفُ .
والجمهورُ " وعَبْقِرِيٍّ " منسوب إلى عَبْقَر ، تَزْعُم العربُ أنه بلدُ الجن فكلُّ ما عَظَّموه وتعجَّبوا منه قالوا : هذا عَبْقريٌّ . وفي الحديث : " فلم أرَ عَبْقَريَّاً يَفْري فَرِيَّه " والمرادُ به هنا قيل : البُسُط التي فيها صُوَرٌ وتماثيلُ . وقيل : هي الزَّرابِيُّ . وقيل : الطَّنافِسُ . وقيل : الدِّيباج . وعَبْقريّ جمع عَبْقَريَّة ، يعني فيكونُ اسمَ جنسٍ ، كما تقدَّم في رَفْرفَ . وقيل : هو واحدٌ دالٌّ على الجمع ، ولذلك وُصِف بحسان .
(1/5129)
تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
قوله : { ذِي الجلال } : قرأ ابن عامر " ذو الجَلال " بالواو ، وجَعَله تابعاً للاسم ، وهكذا هي مرسومةٌ في مصحف الشاميين . والباقون بالياء صفةً للرَّبِّ ، فإنه هو الموصوفُ بذلك ، وأَجْمَعوا على الواوِ في الأول إلاَّ مَنْ ذكَرْتُه فيما تقدَّم .
(1/5130)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2)
قوله : { إِذَا وَقَعَتِ } : فيها أوجهٌ أحدها : أنها ظرفٌ محْضٌ ليس فيه معنى الشرط والعامل فيها " ليس " . والثاني : أنَّ العاملَ فيها اذْكُر مقدراً . قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : بم انتصبت " إذا "؟ قلت : بليس ، كقولك : " يومَ الجمعة ليس لي شُغْلٌ " ثم قال : " أو بإضمارِ اذكُرْ " . قال الشيخ : " ولا يقول هذا نَحْوِيٌّ ، ولا مَنْ شدا شيئاً مِنْ صناعةِ النحوِ " . قال : " لأن " لَيْسَ " مثل " ما " النافية ، فلا حَدَثَ فيها ، فكيف يعملُ في الظرف مِنْ غير حَدَثٍ؟ وتَسْمِيتُها فِعْلاً مجازٌ . فإنَّ حَدَّ الفعل غير مُنْطَبِقٍ عليها " ، وكَثَّرَ الشيخُ عليه من هذا المعنى . ثم قال : " وأما المثال الذي نَظَّر به فالظرف ليس معمولاً ل " ليس " بل للخبر ، وتقَدَّمَ معمولُ خبرِها عليها ، وهي مسألةُ خلاف " انتهى . قلت : الظروفُ تعملُ فيها روائحُ الأفعالِ . ومعنى كلامِ الزمخشريِّ : أنَّ النفي المفهومَ مِنْ " ليس " هو العاملُ في " إذا " كأنه قيل : ينفي كَذِبُ وقوعِها إذا وَقَعَتْ . ويدلُّ على ما قُلْتُه قولُ أبي البقاء : " والثاني ظرفٌ لِما دَلَّ عليه { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } ، أي : إذا وقعت لم تكذبْ " فإنْ قيل فَلْيَجُزْ ذلك في " ما " النافية أيضاً ، فالجواب : أنَّ الفعلَ أقربُ إلى الدلالةِ على الحَدَثِ من الحرفِ .
الثالث : أنَّها شرطيةٌ . وجوابُها مقدرٌ ، أي : إذا وقعَتْ كان كيتَ وكيتَ ، وهو العاملُ فيها . والرابع : أنها شرطيةٌ ، والعاملُ فيها الفعلُ الذي بعدَها ويليها ، وهو اختيارُ الشيخ ، وتبَع في ذلك مكيَّاً . قال مكي : " والعاملُ فيها " وَقَعَتْ " لأنها قد يُجازى بها ، فعَمِل فيها الفعلُ الذي بعدها كما يَعْمل في " ما " و " مَنْ " اللتَيْن للشرط في قولك : ما تفعَلُ أفعَلْ ، ومَنْ تُكرِمْ أُكْرِمْ " ، ثم ذكر كلاماً كثيراً . الخامس : أنها مبتدأٌ ، و " إذا رُجَّتْ " خبرُها ، وهذا على قولِنا : إنها تَتَصرَّفُ ، وقد مَضَى القولُ فيه مُحرَّراً ، إلاَّ أن هذا الوجهَ إنما جَوَّزه الشيخُ ، جمالُ الدين ابن مالك وابن جني وأبو الفضل الرازي على قراءةِ مَنْ نصب " خافضةً رافعةً " على الحالِ . وحكاه بعضُهم عن الأخفش ، ولا أدري اختصاص ذلك يوجه النصب .
السادس : أنه ظرفٌ ل " خافضة " أو " رافعة " ، قاله أبو البقاء ، أي : إذا وَقَعَتْ خَفَضَتْ ورفعَتْ . السابع : أَنْ يكونَ ظرفاً ل " رُجَّتْ " " وإذا " الثانيةُ على هذا إمَّا بدلٌ من الأولى أو تكريرٌ لها . الثامن : أنَّ العاملَ فيه ما دلَّ عليه قوله : { فأصحابُ المَيْمَنَةِ } ، أي : إذا وَقَعَتْ باتَتْ أحوالُ الناسِ فيها .
(1/5131)
التاسع : أنَّ جوابَ الشرطِ قولُه : { فأصحابُ المَيْمنةِ } إلى آخره .
و " لِوَقْعَتِها " خبرٌ مقدمٌ و " كاذبة " اسم مؤخرٌ . و " كاذبة " يجوزُ أَنْ يكونَ اسم فاعل وهو الظاهرُ ، وهو صفةٌ لمحذوف ، فقَدَّره الزمخشريُّ : " نفسٌ كاذبةٌ ، أي : إنه ذلك اليومَ لا يَكْذِبُ على الله أحدٌ ، ولا يُكَذِّبُ بيوم القيامةِ أحد " ثم قال : " واللامُ مثلُها في قولِه { قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } [ الفجر : 24 ] إذ ليس لها نفسُ تُكَذِّبها وتقول : لم تكوني كما لها نفوسٌ كثيرةٌ يُكّذِّبْنَها اليومَ يَقُلْنَ لها : لم تكوني ، أو هو مِنْ قولهم : كَذَّبَتْ فلاناً نفسُه في الخطر العظيم إذا شَجَّعَتْهُ على مباشرته وقالَتْ له : إنَّك تُطيقه وما فوقه فَتَعَرَّضْ له ، ولا تبال به على معنى أنها وقعةٌ لا تُطاقُ شدةً وفظاعةً ، وأنْ لا نفس حينئذٍ تُحدِّث صاحبَها بما تُحَدِّثه به عند عظائمِ الأمورِ ، وتزيِّن له احتمالها وإطاقتها؛ لأنهم يومئذٍ أضعفُ مِنْ ذلكَ وأَذلُّ . ألا ترى إلى قولِه تعالى { كالفراش المبثوث } [ القارعة : 4 ] والفَراشُ مَثَلٌ في الضعف " . وقَدَّره ابن عطية : " حالٌ كاذبةٌ " قال : " وَيْحتمل الكلامُ على هذا معنيين ، أحدهما : كاذبة ، أي : مكذوبة فيما أَخْبر به عنها فسَمَّاها كاذبةً لهذا ، كما تقول : هذه قصةٌ كاذبةٌ ، أي : مكذوبٌ فيها . والثاني : أي : / لا يَمْضي وقوعُها كقولك : فلانٌ إذا حَلَّ لم يكذِبْ . والثاني : أن كاذبة مصدرٌ بمعنى التكذيب نحو : خائنة الأعين . قال الزمخشري : " مِنْ قولِك حَمَلَ فلانٌ على قرْنِه فما كَذَبَ ، أي : فما جَبُنَ ولا تَثَبَّط . وحقيقتهُ فما كَذَّب نفسَه فيما حَدَّثَتْه به من إطاقتِه له وإقدامهِ عليه وأنشد لزهير :
4200 لَيْثٌ بعَثَّرَ يَصْطادُ الرجالُ إذا ... ما الليثُ كَذَّب عن أقرانِه صَدَقا
أي : إذا وَقَعَتْ لم يكن لها رَجْعَةٌ ولا ارْتدادٌ " ، انتهى . وهو كلامٌ حسنٌ جداً .
ثم لك في هذه الجملةِ وجهان ، أحدُهما : أنها لا محلَّ لها من الإِعرابِ : إمَّا لأنَّها ابتدائيةٌ ولا سيما على رَأْيِ الزمخشري ، حيث جَعَلَ الظرفَ مُتَعَلِّقاً بها وإمَّا لأنَّها اعتراضيةٌ بين الشرطِ وجوابِه المحذوف . والثاني : أنَّ مَحَلَّها النصبُ على الحال ، قاله ابن عطية ، ولم يُبَيِّن صاحب الحال ماذا؟ وهو واضحٌ إذا لم يكُنْ هنا إلاَّ الواقعةُ ، وقد صَرَّحَ أبو الفضل بذلك .
وقرأ العامَّةُ برفعِ " خافضةٌ رافعةٌ " على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ ، أي : هي خافضةٌ قوماً إلى النار ورافعةٌ آخرين إلى الجنةِ ، فالمفعولُ محذوفٌ لفَهْمِ المعنى ، أو يكونُ المعنى : أنَّها ذاتُ خَفْضٍ ورَفْعٍ كقوله : { يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ آل عمران : 156 ] { وكُلُواْ واشربوا } [ البقرة : 187 ] وقرأ زيد بن علي وعيسى والحسن وأبو حيوة وابن مقسم واليزيدي بنصِبها على الحالِ ، ويُروى عن الكسائيِّ أنه قال : " لولا أنَّ اليزيديَّ سَبَقني إليه لقَرَأْتُ به " انتهى . ولا أظنُّ مثلَ هذا يَصِحُّ عن مثل هذا .
(1/5132)
واخْتُلف في ذي الحال ، فقال أبو البقاء : " من الضمير في " كاذبة " أو في " وَقَعَتْ " ، وإصلاحُه أن يقولَ : أو فاعل " وقعَتْ " إذ لا ضميرَ في " وقعَتْ " . وقال ابن عطية وأبو الفضل مِنْ " الواقعة " ، ثم قَرَّرا مجيءَ الحالِ متعددةً من ذي حالٍ واحدةٍ كما تجيءُ الأخبارُ متعددةً . وقد بَيَّنْتُ لك هذا فيما تقدَّم فاستغْنَيْت عن كلامِهما . قال أبو الفضل : " وإذا جُعِلَتْ هذه كلُّها أحوالاً كان العامل في " إذا وَقَعَتْ " محذوفاً يَدُلُّ عليه الفحوى ، أي : إذا وقعتْ يُحاسَبون .
(1/5133)
إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
قوله : { إِذَا رُجَّتِ } : يجوزُ أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ " إذا " الأولى ، أو تأكيداً لها أو خبراً لها على أنها مبتدأةٌ كما تقدَّم تحريرُ هذا جميعِه ، وأَنْ يكونَ شرطاً ، والعامل فيها : إمَّا مقدَّرٌ وإمَّا فِعْلُها الذي يليها كما تقدَّم في نظيرتِها . وقال الزمشخري : " ويجوز أَنْ تنتصِب بخافضة رافعة ، أي : تَخْفِضُ وترفعُ وقتَ رَجِّ الأرض وبَسِّ الجبالِ ، لأنه عند ذلك ينخفضُ ما هو مرتفعٌ ويرتفعُ ما هو منخفضٌ " . قال الشيخ : " ولا يجوزُ أَنْ تنتصِبَ بهما معاً بل بأحدِهما ، لأنه لا يجتمعُ مؤثِّران على أثرٍ واحد " . قلت : معنى كلامِه أنَّ كلاً منهما متسلِّطٌ عليه من جهة المعنى ، وتكونُ المسألة من التنازع ، وحيئنذٍ تكون العبارةُ صحيحةً إذ يَصْدُقُ أنَّ كلاً منهما عاملٌ فيه ، وإن كان على التعاقُب .
والرَّجُّ : التحريكُ الشديدُ بمعنى زُلزلت . وبُسَّت الجبالُ : سُيِّرت مِنْ قولهم : بَسَّ الغنمَ ، أي : ساقَها أو بمعنى فُتِّتَتْ كقوله : { يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] يدلُّ عليَه { فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } . وقرأ زيد بن علي " رَجَّتْ " و " بَسِّتْ " مبنيين للفاعل على أنِّ رجَّ وبَسَّ يكونان لازمَيْن ومُتَعَدِّيَيْن ، أي : اُزِيحت وذهَبَتْ . وقرأ النخعي " مْنْبَتَّاً " بنقطتين مِنْ فوق ، أي : متقطعاً من البَتِّ . ومعنى الآية يَنْبو عنه .
(1/5134)
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8)
قوله : { فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة } : " أصحاب " الأولى مبتدأٌ ، و " ما " استفهامٌ فيه تعظيمٌ مبتدأٌ ثانٍ ، و " أصحاب " الثاني خبرُه والجملةُ خبرُ الأولِ ، وتكرارُ المبتدأ هنا بلفظِه مُغْنٍ عن الضمير ومثلُه { الحاقة مَا الحآقة } [ الحاقة : 1-2 ] { القارعة مَا القارعة } [ القارعة : 1-2 ] ولا يكون ذلك إلاَّ في مواضعِ التعظيم . وهنا سؤالٌ : وهو أنَّ " ما " نكرةٌ وما بعده معرفةٌ ، فكان ينبغي أَنْ يقال " ما " خبر مقدمٌ ، " وأصحاب " الثاني وشبهُه مبتدأٌ؛ لأن المعرفة أحقٌّ بالابتداء من النكرةِ . وهذا السؤال واردٌ على سيبويه من مثل هذا ، وفي قولك : " كم مالُك " و " مَرَرْتُ برجل خيرٌ منه أبوه " ، فإنه يُعْرِبُ ما الاستفهامية و " كم " و " أَفْعَل " مبتدأ ، وما بعدها خبرُها . والجوابُ : أنه كَثُرَ وقوعُ النكرةِ خبراً عن هذه الأشياء كثرةً متزايدةً ، فاطَّردَ البابُ ليجريَ على سَننٍ واحدٍ . هكذا أجابوا ، وهذا لا ينهضُ مانعاً مِنْ جوازِ أَنْ تكونَ " ما " و " كم " وأفعلُ خبراً مقدماً . ولو قيل به لم يكنْ خطأ بل أقربُ إلى الصوابِ .
والمَيْمَنَةُ : مَفْعَلَةُ من لفظِ اليُمْن وكذلك المَشْأَمَة من اليدِ الشُّؤمى وهي الشِمالُ لتشاؤمِ العربِ بها ، أو من الشُّؤْم .
(1/5135)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)
قوله : { والسابقون السابقون } : فيه أوجهٌ : أحدُها : أنهما مبتدأٌ وخبرٌ . وفي ذلك تأويلان ، أحدهما : أنه بمعنى السابقون ، هم الذي اشْتُهِرَتْ حالُهم بذلك كقولِهم : أنت أنت ، والناسُ الناسُ ، وقولِه :
4201 أنا أبو النجمِ وشِعْري شِعْري ... وهذا يُقال في تعظيمِ الأمرِ وتفخيمهِ ، وهو مذهبُ سُيبويه .
التأويل الثاني : أنَّ مُتَعلَّقَ السَّبْقَتْينِ مختلفٌ ، إذ التقدير : والسابقونَ إلى الإِيمانِ السابقونَ إلى الجنة ، / أو السابقونَ إلى طاعةِ اللَّهِ السابقون إلى رحمتِه ، أو السابقون إلى الخيرِ السابقون إلى الجنة .
الوجه الثاني : أَنْ يكونَ " السابقون " الثاني تأكيداً للأول تأكيداً لفظيَّاً ، و " أولئك المقرَّبون " جملةٌ ابتدائيةٌ في موضوع خبرِ الأولِ ، والرابطُ اسمُ الإِشارةِ ، كقولِه تعالى : { وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ } [ الأعراف : 26 ] في قراءة مَنْ قرأ برفع " لباسُ " في أحد الأُوجه .
الثالث : أَنْ يكونَ " السابقون " نعتاً للأول ، والخبرُ الجملةُ المذكورةُ . وهذا ينبغي أَنْ لا يُعَرَّجَ عليه ، كيف يُوْصَفُ الشيءُ بلفِظه وأيُّ فائدةٍ في ذلك؟ والأقربُ عندي إنْ وَرَدَتْ هذه العبارةُ مِمَّن يُعتبر أَنْ يكون سَمَّى التأكيدَ صفةً ، وقد فعل سيبويه قريباً من هذا .
الرابع : أَنْ يكونَ الوقفُ على قولِه " والسابقون " ويكونَ قولُه " السابقون ، أولئك المقرَّبون " ابتداءً وخبراً ، وهذا يقتضي أن يُعْطَفَ " والسابقون " على ما قبلَه ، لكنْ لا يليق عَطْفُه على ما قبلَه ويليه ، وإنما يليقُ عطفُه على " أصحابُ المَيْمنة " كأنه قيل : وأصحابُ الميمنة ما أصحابُ الميمنة ، والسابقون ، أي : ما السابقون تعظيماً لهم ، فيكون شركاءَ لأصحابِ الميمنة في التعظيم ، ويكون قولُه على هذا " وأصحابُ المَشْأمَةِ ، ما أصحابُ المشأمة " اعتراضاً بين المتعاطفَيْن . وفي هذا الوجهِ تكلُّفٌ كثير جداً .
(1/5136)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
قوله : { ثُلَّةٌ } : خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هم . ويجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأ خبرُه مضمرٌ ، أي : منهم ثُلَّةٌ ، أي : من السابقين يعني : أن التقسيمَ وقع في السابقين ، وأَنْ يكونَ مبتدأً خبرُه { فِي جَنَّاتِ النعيم } أو قولُه " على سُرُر " فهذه أربعةُ أوجهٍ .
والثُّلَّة : الجماعةُ من الناس . وقَيَّدها الزمخشريُّ بالكثيرة وأنشد :
4202 وجاءَتْ إليهم ثُلَّةٌ خِنْدِفِيَّةٌ ... بجيشٍ كتَيَّارٍ مِنْ البحرِ مُزْبِدِ
ولم يُقَيِّدْها غيرُه ، بل صَرَّح بأنها الجماعة قلَّت أو كَثُرَتْ . وقال الراغب : " الثُّلَّةُ قطعةٌ مجتمعةٌ من الصوف ، ولذلك قيل للغنم : ثَلَّة . قلت : يعني بفتح الثاء ، ومنه قولُه :
4203 أَمْرَعَتِ الأرضُ لَوَ أنَّ مالا ... لَوْ أن نُوْقاً لك أو جِمالا
أو ثَلَّةً مِنْ غنم إمَّا لا ... انتهى . ثم قال الراغب : " ولاعتبار الاجتماع قيل : " ثُلَّة من الأوَّلين ، وثُلَّة من الآخِرين " ، أي : جماعة وثَلَّلْتُ كذا : تناوَلْتُ ثُلَّةً منه . وثَلَّ عرشَه : أسقطَ ثُلَّة منه . والثَّلَلُ : قِصَرُ الأسنانِ لسُقوط ثُلَّةٍ منها . وأثَلَّ فَمُه سَقَطَتْ أسنانُه . وتَثَلَّلَتِ الرَّكِيَّةُ : تَهَدَّمَتْ " انتهى . فقد أطلق أنها الجماعة من غيرِ قَيْدٍ بقِلَّة ولا كثرةٍ ، والكثرةُ التي فهمها الزمخشريُّ قد تكونُ من السِّياق . و " مِنْ الأوَّلِين " صفةٌ لثُلَّة ، وكذلك " مِنْ الآخِرين " صفةٌ لقليل .
(1/5137)
عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15)
وقرأ زيد بن علي وأبو السَّمَّال " سُرَر " بفتح الراء الأولى وقد تقدَّم أنها لغةٌ لبعضِ كلبٍ وتميم . والمَوْضونة : المَنْسوجة وأصلُه مِنْ : وضَّنْتُ الشيءَ ، أي : رَكَّبْتُ بعضَه على بعض . ومنه قيل للدِّرْعِ : مَوْضونة لتراكُبِ حِلَقِهِا . قال الأعشى :
4204 ومِن نَسْجِ داودَ مَوْضَوْنَةً ... تسيرُ مع الحيِّ عِيْراً فَعِيْرا
ومنه أيضاً " وَضِين الناقة ، وهو حِزامُها لتراكُبِ طاقاته قال الراجز :
4205 إليك تَعْدُو قِلقاً وضِيْنُها ... مُعْتَرضاً في بَطْنِها جنينُها
مُخالفاً دينَ النَّصارى دينُها ... وقال الراغب : " الوَضْنُ : نَسْيجُ الدِّرعِ . ويُسْتعار لكل نَسْجٍ مُحْكَم " ، فجعله أصلاً في نَسْج الدَّرْع . قال الشاعر :
4206 تقولُ وقد دَرَأْتُ لها وَضِيْني ... أهذا دينُه أبداً ودِيني
أي : حِزامي .
(1/5138)
مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)
قوله : { مُّتَّكِئِينَ ، مُتَقَابِلِينَ } : حالان من الضمير في " على سُرُر " ويجوز أَنْ تكونَ حالاً متداخلةً ، فيكون " متقابلين " حالاً من ضمير " متَّكئين " .
(1/5139)
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17)
قوله : { يَطُوفُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً ، وأنْ يكون استئنافاً .
(1/5140)
بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18)
و " بأكْواب " متعلقٌ ب " يَطُوف " . والأباريق : / جمع إبْريق ، وهو مِنْ آنيةِ الخَمْر قال :
4207 أَفْنى تِلادي وما جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ ... قَرْعُ القواقيزِ أَفْواهَ الأباريقِ
وقال عدي بن زيد :
4208 وتداعَوا إلى الصَّبوحِ فجاءتْ ... قَيْنةٌ في يمينِها إبْريقُ
وقال آخر :
4209 كأن إبْريقَهم ظبيٌ على شَرَفٍ ... مُفَدَّمٍ بسَبا الكَتَّانِ مَلْثُوْمُ
ووزنُه إفْعيل لاشتقاقِه مِنْ البَريق والإِبريقُ ما له خُرطومٌ . قال بعضهم : وأُذُنٌ . وتقدَّم تفسيرُ الأكواب .
(1/5141)
لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19)
قوله : { لاَّ يُصَدَّعُونَ } : يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفة أخبر عنهم بذلك ، وأن تكونَ حالاً من الضمير في " عليهم " ومعنى لا يُصَدَّعون عنها أي : بسببها . قال الزمخشري : " وحقيقتُه : لا يَصْدُرُ صُداعُهم عنها " والصُّداع : هو الداءُ المعروفُ الذي يَلْحَقُ الإِنسانَ في رأسِه ، والخمر تؤثِّر فيه . قال علقمة بن عبدة في وصف الخمر :
4210 تَشْفي الصُّداعَ ولا يُؤْذِيك صالبُها ... ولا يخالِطُها في الرأس تدويمُ
ولما قرأت هذا الديوان على الشيخ أثير الدين أبي حيان رحمه الله قال لي : هذه صفةُ خمر الجنة . وقال لي : لَمَّا قرأتُه على الشيخ أبي جعفر ابن الزبير قال لي : هذه صفةُ خمر الجنة . وقيل : لا يُصَدَّعون : لا يُفَرَّقون كما يتفرَّق الشَّربُ عن الشَّراب للعوارض الدنيوية . ومِنْ مجيء تَصَدَّعَ بمعنى تَفَرَّق قولُه : " فتصدَّع السحابُ عن المدينة " ، أي : تفرَّق . ويُرَجِّحه قراءةُ مجاهد " لا يَصَّدَّعون " بفتح الياءِ وتشديد الصادِ . والأصلُ : يَتَصَدَّعون ، أي : يتفرَّقون كقوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] . وحكى الزمخشري قراءةً وهي " لا يُصَدِّعون " بضم الياء وتخفيفِ الصادِ وكسرِ الدال مشددةً . قال : أي لا يُصَدِّعُ بعضُهم بعضاً ، أي : لا يُفَرِّقُونهم . وتقدَّم الخلافُ بين السبعة في " يُنزِفُونَ " وتفسيرُ ذلك .
وقرأ ابن أبي إسحاق بفتح الياء وكسر الزاي مِنْ نَزَفَ البِئْرُ ، أي : اسْتُقِيَ ما فيها . والمعنى : لا تَنْفَدُ خمرُهم . قال الشيخ : " وابن أبي إسحاق أيضاً ، وعبد الله والجحدريُّ والأعمش وطلحة وعيسى ، بضمِّ الياء وكسر الزاي أي : لا يَفْنى لهم شراب " . قلت : وهذا عجيبٌ منه فإنَّه قد تقدَّم في الصافات أن الكوفيين يَقْرَؤون في الواقعة بكسر الزاي ، وقد نقل هو هذه القراءة في قصيدته .
(1/5142)
وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20)
قوله : { وَفَاكِهَةٍ } : العامَّةُ على جَرِّ " فاكهة ولحم " نَسَقاً على " أكواب " أي : يطوفون عليهم بهذه الأشياء : المأكول والمشروبِ والمتفكَّهِ به ، وهذا كمالُ العِيشةِ الراضيةِ . وقرأ زيد بن علي وأبو عبد الرحمن برفعهما ، على الابتداء ، والخبرُ مقدَّرٌ أي : ولهم كذا .
(1/5143)
وَحُورٌ عِينٌ (22)
قوله : { وَحُورٌ } قرأ الأخَوان بجرِّ " حور عين " . والباقون برفعِهما . والنخعيُّ : " وحِيرٍ عين " بقلب الواو ياءً وجرِّهما ، وأُبَيٌّ وعبد الله " حُوْراً عيناً " بنصبهما . فأمَّا الجرُّ فمن أوجه ، أحدها : أنه عطفٌ على { جَنَّاتِ النعيم } [ الواقعة : 12 ] كأنه قيل : هم في جنات وفاكهة ولحمٍ وحورٍ ، قاله الزمخشري . قال الشيخ : " وهذا فيه بُعْدٌ وتفكيكُ كلامٍ مرتبطٍ بعضُه ببعض ، وهو فُهْمُ أعجمي " . قلت : والذي ذهب إليه معنى حسنٌ جداً ، وهو على حَذْفِ مضافٍ أي : وفي مقاربة حور ، وهذا هو الذي عناه الزمخشري . وقد صرَّح غيرُه بتقدير هذا المضاف . الثاني : أنه معطوفٌ على " بأكواب " وذلك بتجوُّزٍ في قوله : " يطُوفُ " إذ معناه : يُنَعَّموْن فيها باكواب وبكذا وبُحور ، قاله الزمخشري . الثالث : أنه معطوفٌ عليه حقيقةً ، وأن الوِلْدانَ يَطُوفون عليهم بالحور أيضاً ، فإن فيه لذةً لهم ، طافُوا عليهم بالمأكولِ والمشروبِ والمُتَفَكَّهِ بعد المنكوحِ ، وإلى هذا ذهب أبو عمرو بن العلاء وقطرب . ولا التفات إلى قولِ أبي البقاء : " عطفاً على أكواب في اللفظ دون المعنى؛ لأنَّ الحوَر لا يُطاف بها " .
وأمَّا الرفعُ فمِنْ أوجهٍ أيضاً ، عطفاً على " ولْدانٌ " ، أي : إنَّ الحورَ يَطُفْنَ عليهم بذلك ، كما الوَلائدُ في الدنيا . وقال أبو البقاء : " أي : يَطُفْنَ عليهم للتنعُّمِ لا للخدمة " قلت : / وهو للخدمةِ أبْلَغُ؛ لأنهم إذا خدمهم مثلُ أولئك ، فما الظنُّ بالمَوْطوءات؟ الثاني : أَنْ يُعطفَ على الضمير المستكنِّ في " مُتَّكِئين " وسَوَّغ ذلك الفصلُ بما بينهما . الثالث : أَنْ يُعْطفَ على مبتدأ وخبر حُذِفا معاً تقديرُه : لهم هذا كلُّه وحورٌ عين ، قاله الشيخ ، وفيه نظر؛ لأنَّه إنما عُطِف على المبتدأ وحدَهُ ، وذلك الخبرُ له ولِما عُطِف هو عليه .
الرابع : أَنْ يكونَ مبتدأً ، خبرُه مضمرٌ تقديرُه : ولهم ، أو فيها ، أو ثَمَّ حورٌ . وقال الزمخشري " على وفيها حُوْرٌ كبيت الكتاب :
4211 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إلاَّ رَواكدَ جَمْرُهُنَّ هَباءُ
الخامس : أن يكونَ خبراً لمبتدأ مضمر ، أي : نساؤهم حورٌ ، قاله أبو البقاء . وأمَّا النصبُ ففيه وجهان ، أحدهما : أنه منصوبٌ بإضمارِ فِعْل ، أي : يَعْطَوْن ، أو يَرِثُون حُوْراً ، والثاني : أن يكونَ محمولاً على معنى : يَطوف عليهم؛ لأن معناه يُعْطَوْن كذا وكذا فعطف عليه هذا . وقال مكي : " ويجوز النصبُ على أَنْ يُحْمَلَ أيضاً على المعنى؛ لأنَّ معنى يَطوفُ وِلْدانٌ بكذا وكذا يُعْطَوْن كذا وكذا ، ثم عطف حوراً على معناه " فكأنه لم يَطَّلعْ عليها قراءةً .
وأمَّا قراءةُ " وحِيْرٍ " فلمجاورتها " عين " ولأنَّ الياءَ أخفُّ من الواو ، ونظيرهُ في التغيير للمجاورة : " أَخَذَه ما قَدُم وما حَدُث " بضم دال " حَدُث " لأجل " قَدُم " وإذا أُفْرِد منه فَتَحْتَ دالَه فقط ، وقوله عليه السلام :
(1/5144)
" وربِّ السماوات ومَنْ أَظْلَلْنَ ورَبِّ الشياطين ومَنْ أَضْلَلْنَ " وقوله عليه السلام : " أيتكنَّ صاحبةُ الجمل الأَرْبَب تَنْبَحُها كلابُ الحَوْءَب " فَكَّ " الأَرْبَبَ " لأجل " الحَوْءَب " .
وقرأ قتادة " وحورُ عينٍ " بالرفع والإِضافة ل " عين " وابن مقسم بالنصب والإِضافةِ وقد تقدَّم توجيهُ الرفع والنصب . وأمَّا الإِضافةُ فمِنْ إضافة الموصوف لصفته مؤولاً . وقرأ عكرمةُ " وحَوْراءَ عَيْناءَ " بإفرادِهما على إرادةِ الجنس . وهذه القراءةُ تحتمل وجهَيْن : أحدهما : أَنْ تكونَ نصباً كقراءة أُبَيّ وعبد الله ، وأن تكونَ جرَّاً ، كقراءة الأخوَيْن؛ لأن هذين الاسمَيْن لا ينصرفان فهما محتملان للوجَهْين . وتقدَّم الكلام في اشتقاق العِين .
(1/5145)
كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24)
و { كَأَمْثَالِ } صفةٌ أو حالٌ . و " جزاءً " مفعول من أجله ، أو مصدر ، أي : يُجْزَوْن جزاءً .
(1/5146)
إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
قوله : { إِلاَّ قِيلاً } : فيه قولان ، أحدهما : أنه استثناءٌ منقطعٌ وهذا واضحٌ؛ لأنه لم يندَرِجْ تحت اللَّغْو والتأثيم . والثاني : أنه متصلٌ وفيه بُعْدٌ ، وكأن هذا رأى أن الأصلَ لا يَسْمعون فيها كلاماً فاندرَج عنده فيه . وقال مكي : " وقيل : منصوبٌ بيَسْمعون " وكأنه أرادَ هذا القول .
قوله : { سَلاَماً سَلاَماً } فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه بدلٌ مِنْ " قيلاً " أي : لا يسمعُون فيها إلاَّ سلاماً سلاماً . الثاني : أنه نعتٌ لقِيلا . الثالث : أنه منصوبٌ بنفس " قيلاً " أي : إلاَّ أَنْ يقولوا : سلاماً سلاماً ، هو قولُ الزجَّاج . الرابع : أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مقدرٍ ، ذلك الفعلُ مَحْكِيٌّ ب " قيلاً " تقديره : إلاَّ قيلاً اسْلَموا سَلاماً .
وقُرىء " سَلامٌ " بالرفع قال الزمخشري : " على الحكاية " . قال مكي : " ويجوزُ في الكلام الرفعُ على معنى : سلامٌ عليكم ، ابتداءٌ وخبرٌ " وكأنه لم يَعْرِفْها قراءةً .
(1/5147)
فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28)
قوله : { مَّخْضُودٍ } : المخضودُ : الذي قُطِع شَوْكُه ، مِنْ خَضَدْتُه أي : قَطَعْتُه . وقيل المُوْقَرُ من الحَمْل حتى لا يَتَبَيَّن ساقُه وتَنْثَنِيَ أغصانُه مِنْ خَضَدْت الغصنَ أي ثنيْتُه . قال أمية بن أبي الصلت :
4212 إن الحَدائقَ في الجِنانِ ظليلةٌ ... فيها الكواعِبُ سِدْرُها مَخْضُوْدُ
والطَّلْحُ : جمع الطلحةُ وهي العظيمةُ من العِضاه . وقيل : هي أم غَيْلان . قال مجاهد : ولكنَّ ثمرَها أَحْلى من العسل . وقيل : هو المَوْزُ . ومعنى مَنْضود أي : متراكبٌ . وفي التفسير : لا يُرى له ساقٌ مِنْ كثرةِ ثمرِه . وقرأ علي رضي الله عنه وعبد الله وجعفر بن محمد " وطَلْع " بالعين ، ولمَّا قرأها علي رضي الله عنه قال : وما شَأْنُ الطَّلْح؟ واستدلَّ بقولِه : { لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } [ ق : 10 ] فقيل له : أنُحَوِّلُها؟ فقال : آيُ القرآنِ لا تُهاجُ اليومَ ولا تُحَوَّلُ . ويُرْوى عن ابن عباس مثلُه . ومَسْكوب : أي مَصْبُوبٌ بكثرةٍ . وقُرِىءَ برفع " فاكهة " أي : وهناك ، أولهم ، أو فيها ، أو ثَمَّ فاكهة .
(1/5148)
لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)
قوله : { لاَّ مَقْطُوعَةٍ } : فيه وجهان ، أظهرهُما : أنه نعتٌ لفاكهة " ولا " للنفي ، كقولك : " مَرَرْتُ برجلٍ لا طويلٍ ولا قصير " ولذلك لزم تكرارُها . والثاني : هو معطوفٌ على فاكهة ، / و " لا " عاطفةٌ قاله أبو البقاء . وحينئذٍ لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ موصوفٍ أي : لا فاكهةٍ مقطوعةٍ؛ لئلا تُعْطَفَ الصفةُ على موصوفِها .
(1/5149)
وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)
قوله : { وَفُرُشٍ } : العامَّةُ على ضمِّ الراء جمع فِراش . وأبو حيوة بسكونها وهي مخففةٌ من المشهورة . والفُرُشُ قيل : هي القماشُ المعهودُ . ومرفوعة على الأَسِرَّة . وقيل : هي كنايةٌ عن النساءِ ، كما كُنِي عنهنَّ باللِّباس ، قاله أبو عبيدة وغيرُه . قالوا : ولذلك أعاد الضميرَ عليهنَّ في قوله : " إنَّا أنشأناهنَّ " . وأجاب غيرُهم : بأنه عائدٌ على النساءِ الدالِّ عليهنَّ الفُرُشُ . وقيل : يعودُ على " حُور " المتقدمة . وعن الأخفش : هُنَّ ضميرٌ لمَنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ ، يعني يدلُّ عليه السِّياقُ .
(1/5150)
عُرُبًا أَتْرَابًا (37)
قوله : { عُرُباً } : جمع عَروب كصَبور وصُبُر . والعَرُوْب : المتحبِّبة إلى بَعْلِها . وقيل : الحسناءُ . وقيل : المُحْسِنة لكلامها . وقرأ حمزة وأبو بكر بسكونِ الراء ، وهذا كرسُل ورُسْل ، وفُرُش وفُرْش ، وقال ابن عباس : " هي العواتِقُ " . وأنشد للبيد :
4213 وفي الخُدورِ عَروبٌ غيرُ فاحِشةٍ ... رَيَّا الرَّوادِفِ يَعْشى دونَها البصَرُ
قوله : { أَتْرَاباً } جمع تِرْب وهو المساوي لك في سِنِّك؛ لأنَّه يَمَسُّ جِلْدَهما الترابُ في وقتٍ واحد ، وهو آكد في الائتلافِ ، وهو من الأسماءِ التي لا تتعرَّفُ بالإِضافةِ لأنه في معنى الصفةِ ، إذ معناه : مُساويك ، ومثلُه " خِدْنُك " لأنَّه في معنى صاحبك .
(1/5151)
لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38)
قوله : { لأِّصْحَابِ اليمين } : في هذه اللامِ وجهان؛ أحدهما : أنها متعلِّقةٌ ب " أَنْشَأْنَاهُنَّ " أي : لأجل . والثاني : أنها متعلقةٌ ب " أَتْراباً " كقولك : هذا تِرْبٌ لهذا أي : مُساوٍ له .
(1/5152)
وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43)
واليَحْموم وزنه فَيْعول . قال أبو البقاء : " مِنْ الحِمَم أو الحَميم " واليَحْموم قيل : هو الدُّخان الأسود البهيم . وقيل : وادٍ في جهنم . وقيل : اسمٌ من أسمائها ، والأولُ أظهرُ .
(1/5153)
لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44)
قوله : { لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } : صفتان للظلِّ كقولِه : " من يَحْموم " . وفيه أنه قد قَدَّم غيرَ الصريحة على الصريحة ، فالأَوْلَى أن يُجْعَلَ صفةً ليَحْموم ، وإن كان السياقُ يُرْشِدُ إلى الأول .
وقرأ ابنُ أبي عبلة " لا باردٌ ولا كريمٌ " برفعهما أي : هو لا باردٌ كقوله :
4214 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فأَبِيْتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرومُ
(1/5154)
وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46)
قوله : { الحنث } : هو في أصلِ كلامهم العِدْلُ الثقيل ، وسُمِّي به الذنبُ والإِثم لثقلِهما ، قاله الخطابي : وفلانٌ حَنَثَ في يمينه أي : لم يَفِ بها؛ لأنه يَأْثَمُ غالباً ، ويُعَبَّرُ بالحِنْث عن البلوغِ ومنه " لم يَبْلُغوا الحنث " وإنما قيل ذلك لأنَّ الإِنسانَ عند بلوغِه إياه يُؤَاخذ بالحِنْث أي بالذنب . وتَحَنَّثَ فلانٌ أي : جانَبَ الحِنْثَ . وفي الحديث : " كان يَتَحَنَّثُ بغار حراء " أي يتعبَّد لمجانبته الإِثمَ نحو : تَحَرَّجَ ف تَفَعَّلَ في هذه كلِّها للسَلْب .
(1/5155)
وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47)
قوله : { أَإِذَا مِتْنَا } : قد تقدَّم تقرير هذا كلِّه في الصافات . وتقدَّم الكلامُ على الاستفهامَيْن في سورة الرعد فأغنى ذلك عن إعادةِ كلِّ ذلك ولله الحمد .
(1/5156)
لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52)
قوله : { مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ } : فيه أوجه ، أحدها : أَنْ تكونَ " مِنْ " الأولى لابتداء الغاية ، والثانية للبيان أي : مُبْتَدِئون الأكلَ من شجرٍ هو زَقُّوم . الثاني : أَنْ تكونَ " مِنْ " الثانيةُ صفةً لشجر ، فتتعلَّقَ بمحذوفٍ أي : مستقرٍ . والثالث : أَنْ تكونَ " مِنْ " الأولى مزيدةً أي : لآكلون شجراً ، و " مِنْ " الثانيةُ على ما تقدَّم فيها من الوجهَيْن . الرابع : عكسُ هذا ، وهو أَنْ تكونَ الثانيةُ مزيدةً أي : لآكلون زَقُّوماً ، و " مِنْ " الأُولى للابتداء ، أو في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ " زَقُّوم " أي : كائناً مِنْ شجرٍ ، ولو تأخَّر لكان صفةً . الخامس : أنَّ " مِنْ شجر " صفةٌ لمفعولٍ محذوفٍ أي : لآكلون شيئاً مِنْ شجرٍ ، " ومِنْ زَقُّوم " على هذا نعتٌ لشجر ، أو لشيء المحذوفِ . السادس : أنَّ الأولى للتبعيض ، والثانيةَ بدلٌ منها ، والضميرُ في " منها " عائدٌ على الشجر . وفي " عليه " للشجر أيضاً ، وقد تقدَّم أنه يجوزُ تذكيرُ اسم الجنس وتأنيثُه ، وأنهما لغتان . وقيل : في " عليه " عائدةٌ على الزقوم . وقال أبو البقاء : " للمأكول " . وقال ابن عطية : " للمأكول أو الأكل " . انتهى وفي قوله : " الأكل " بُعْدٌ . وقال الزمخشري : " وأنَّثَ ضميرَ الشجر على المعنى ، وذكَّره على اللفظ في " منها " و " عليه " . ومَنْ قرأ { مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ } فقد جعل الضميرين للشجرةِ ، وإنما ذكَّر الثاني على تأويلِ الزَّقُّوم لأنه تفسيرُها " .
(1/5157)
فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
قوله : { شُرْبَ الهيم } : قرأ نافعٌ وعاصمٌ وحمزةُ بضم الشين ، وباقي السبعة بفتحِها ، ومجاهد وأبو عثمان النهدي بكسرِها فقيل : الثلاثُ لغاتٌ في مصدر شَرِب ، والمقيسُ منها إنما هو المفتوحُ . وقيل : المصدرُ هو المفتوحُ والمضموم والمكسورُ اسمان لِمَا يُشْرَبُ كالرِّعْي والطِّحْن . / وقال الكسائي : يُقالُ شرِبْتُ شُرباً وشَرْباً . ويروى قولُ جعفر : " أيامُ مِنى أيامُ أكلٍ وشُرْبٍ وبِعال " بفتح الشين . والشَّرْب في غيرِ هذا اسمٌ للجماعة الشاربين قال :
4215 كأنَّه خارِجٌ من جَنْبِ صَفْحَتِهِ ... سَفُّوْدُ شَرْبٍ نَسُوْهُ عند مُفْتَأَدِ
والمعنى : مثلَ شُرْبِ الهِيم . والهِيْمُ فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه جَمْعُ أَهْيمَ أو هَيْماء ، وهو الجَمَلَُ والناقةُ التي أصابها الهُيامُ وهو داءٌ مُعْطِشٌ تشرب الإِبلُ منه إلى أن تموتَ أو تَسْقُمُ سُقْماً شديداً ، والأصلُ : هُيْم بضمِّ الهاءِ كأَحْمر وحُمْراء وحُمْر ، فقُلِبت الضمةُ كسرةً لتصِحَّ الياءُ ، وذلك نحو : بِيْض في أبيض . وأُنْشد لذي الرمة :
4216 فأصبَحْتُ كالهَيْماءِ لا الماءُ مُبْرِدٌ ... صَداها ولا يَقْضي عليها هُيامُها
الثاني : أنه جمع هائِم وهائِمة من الهُيام أيضاً ، إلاَّ أنَّ جَمْعَ فاعِل وفاعِلة على فُعْل قليلٌ نادرٌ نحو : بازِل وبُزْل وعائِذ وعُوْذ ومنه : العُوْذُ المَطافيل . وقيل : هو من الهُيام وهو الذَّهابُ؛ لأنَّ الجملَ إذا أصابه ذلك هامَ على وَجْهه . الثالث : أنه جمع هَيام بفتح الهاء وهو الرَّمْلُ غيرُ المتماسكِ الذي لا يُرْوَى من الماء أصلاً ، فيكونُ مثلَ سَحاب وسُحُب بضمتين ، ثم خُفِّف بإسكان عينه ثم كُسِرَتْ فاؤه لتصِحَّ الياء ، كما فُعِلَ بالذي قبله . الرابع : أنَّه جمعُ " هُيام " بضم الهاء وهو الرَّمْل غيرُ المتماسكِ أيضاً لغةً في " الهَيام " بالفتح ، حكاها ثعلب ، إلاَّ أن المشهورَ الفتحُ ثم جُمع على فُعْل نحو : قُراد وقُرْد ، ثم خُفِّفَ وكُسِرَتْ فاؤُه لتصِحَّ الياء والمعنى : أنَّه يُصيبهم من الجوع ما يُلجِئُهم إلى أَكْلِ الزَّقُّوم ، ومن العطشِ ما يَضْطرُّهم إلى شُرْب الحميم مثلَ شُرْبِ الهِيْم . وقال الزمخشري : " فإن قلتَ : كيف صَحَّ عَطْفُ الشاربين على الشاربين ، وهما لذواتٍ واحدةٍ ، وصفتان متفقتان ، فكان عطفاً للشيء على نفسِه؟ قلت : لَيْستا بمتفقتَيْن من حيث إنَّ كونَهم شاربين على ما هو عليه مِنْ تناهي الحرارة وقَطْع الأمعاء أمرٌ عجيبٌ ، وشُرْبُهم له على ذلك كما تَشْرَب الهِيم أمرٌ عجيب أيضاً ، فكانتا صفتَيْن مختلفتَيْن " انتهى يعنى قولَه : " فشاربون عليه من الحميم ، فشاربون " وهو سؤالٌ حسنٌ ، وجوابُه مثلُه .
وأجاب بعضُهم عنه بجواب آخر : وهو أنَّ قولَه : { فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم } تفسيرٌ للشُرْب قبلَه ، ألا ترى أنَّ ما قبلَه يَصْلُح أن يكونَ مثلَ شُرْبِ الهيمِ ومثلَ شُرْبِ غيرِها ففَسَّره بأنه مثلُ شُرْبِ هؤلاء البهائم أو الرِّمالِ .
وفي ذلك فائدتان ، إحداهما : التنبيهُ على كثرةِ شُرْبهم منه والثاني : عَدمُ جَدْوَى الشُّرْب ، وأن المشروبَ لا يَنْجَعُ فيهم كما لا يَنْجَعُ في الهِيْم على التفسيرَين .
وقال الشيخ : " والفاءُ تقتضي التعقيبَ في الشُّرْبَيْنِ ، وأنهم أولاً لمَّا عَطِشوا شَرِبوا من الحميم ، ظَنّاً منهم أنه يُسَكِّنُ عَطَشَهُم ، فازداد العطشُ بحرارةِ الحميمِ ، فشربوا بعده شُرْباً لا يقع بعدَه رِيٌّ أبداً . وهو مِثْلُ شُرْبِ الهيم فهما شُربان مِنَ الحَميم لا شُرْبٌ واحدٌ ، اختلفَتْ صفتاه فَعَطف . والمشروبُ مِنْه في { فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم } محذوفٌ لفَهْمِ المعنى تقديرُه : فشاربون منه " انتهى . والظاهرُ أنه شُرْبٌ واحدٌ بل الذي نعتقدُ هذا فقط ، وكيف يُناسِبُ أَنْ تكونَ زيادتُهم العطشَ بشُرْبِه مقتضيةً لشُرْبِهم منه ثانياً؟
(1/5158)
هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
وقرأ العامَّةُ " نُزُلُهم " بضمتين . ورُوي عن أبي عمروٍ من طُرُق ، وعن نافعٍ وابنِ محيصنٍ بضمةٍ وسكونٍ ، وهو تخفيفٌ . وقد تقدَّم أن النُّزُلَ ما يُعَدُّ للضيفِ . وقيل : هو أولُ ما يأكلُه فسُمِّي به هذا تهكُّماً بمَنْ أُعِدَّ له ، وهو في المعنى كقولِ أبي السعر الضَّبِّي :
4217 وكُنَّا إذا الجبَّارُ أَنْزَلَ جَيْشَه ... جَعَلْنَا القَنا والمُرْهَفاتِ له نُزْلا
(1/5159)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)
قوله : { فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ } : تحضيضٌ . ومتعلَّقُ التصديقِ محذوفٌ تقديرُه : فلولا تُصَدِّقُون بخَلْقِنا .
(1/5160)
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58)
وقوله : { أَفَرَأَيْتُمْ } : هي بمعنى أَخْبِرْني . ومفعولُها الأولُ " ما تُمْنُوْن " ، والثاني : الجملةُ الاستفهاميةُ ، وقد تقدَّم تقريرُ هذا .
(1/5161)
أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59)
و { أَأَنتُمْ } : يجوزُ فيه وجهان ، أحدُهما : أنه فاعل/ فعلٍ مقدرٍ أي : أتخلقونه ، فلَمَّا حُذِفَ الفعل لدلالةِ ما بعدَه عليه انفصل الضميرُ ، وهذا من بابِ الاشتغال . والثاني : أنَّ " أنتم " مبتدأٌ ، والجملةُ بعده خبرُه . والأولُ أرجحُ لأجلِ أداةِ الاستفهام .
وقوله : { أَم } يجوز فيها وجهان ، أحدهما : أنها منقطعةٌ؛ لأن بعدها جملةً ، وهي إنما تَعْطِفُ المفرداتِ . والثاني : أنها متصلةٌ . وأجابوا عن وقوعِ الجملةِ بعدها : بأنَّ مجيءَ الخبرِ بعد " نحن " أُتي به على سبيلِ التوكيدِ إذ لو قال : " أم نحنُ " لاكتُفِيَ به دونَ الخبرِ . ونظيرُ ذلك جوابُ مَنْ قال : [ مَنْ ] في الدار؟ زيدٌ في الدار ، أو زيدٌ فيها ، ولو اقْتُصِر على " زيد " لكان كافياً . قلت : ويؤيِّد كونَها متصلة أنَّ الكلامَ يَقْتَضي تأويلَه : أيُّ الأمرَيْن واقعٌ؟ وإذا صَلَحَ ذلك كانت متصلةً إذ الجملةُ بتأويلِ المفردِ .
ومفعولُ " الخالقون " محذوفٌ لفَهْم المعنى أي : الخالِقوه .
وقرأ العامَّةُ " تُمْنُوْن " بضمِّ التاء مِنْ أَمْنَى يُمْني . وابن عباس وأبو السَّمَّال بفتحِها مِنْ مَنَى يَمْنِي . وقال الزمخشري : يقال : " أمْنَى النُّطْفَةَ ومَناها . قال اللَّهُ تعالى : { مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى } [ النجم : 46 ] انتهى . فظاهرُ هذا أنه استشهادٌ للثلاثي ، وليس فيه دليلٌ له؛ إذ يُقال من الرباعي أيضاً " تُمْنَى " كقول : " أنت تُكْرَم " وهو مِنْ أَكْرَم .
(1/5162)
نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60)
وقرأ ابن كثير " قَدَرْنا " بتخفيفِ الدال . والباقون بالتشديد هنا ، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ في التقدير الذي هو القضاءُ .
(1/5163)
عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)
قوله : { على أَن نُّبَدِّلَ } : يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب " مَسْبوقين " وهو الظاهرُ ، ولم يَسْبِقْنا أحدٌ على تبديلِنا أمثالَكم أي : يُعْجِزْنا يُقال : سبقَه على كذا أي : أَعْجَزه عنه وغَلَبه عليه . والثاني : أنه متعلِّقٌ بقوله : " قَدَّرنا " أي : قَدَّرْنا بينكم على أَنْ نُبَدِّلَ أي : نُمَوِّت طائفةً ونَخْلُقَها طائفةً أخرى ، قال معناه الطبري . فعلى هذا يكون قولُه : { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } معترضاً ، وهو اعتراضٌ حسنٌ .
ويجوز في " أمثالَكم " وجهان ، أحدهما : أنه جمعُ " مِثْل " بكسر الميم وسكون الثاء ، أي : نحن قادرون على أن نُعدِمَكم ونَخْلُقَ قوماً آخرين أمثالَكم ، ويؤيِّده : " إنْ يَشَأْ يُذْهِبْكم أيها الناسُ ويَأْتِ بآخرين " والثاني : أنه جمع " مَثَل " بفتحتين ، وهو الصفةُ أي : نُغَيِّرُ صفاتِكم التي أنتم عليها خَلْقاً وخُلُقاً ، ونُنْشِئُكم في صفاتٍ غيرِها .
(1/5164)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)
وتقدَّم قراءتا " النشأة " في العنكبوت .
(1/5165)
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63)
قوله : { أَفَرَأَيْتُم } : وما بعده قد تَقَدَّم نظيرُه . وأُتي هنا بجواب " لو " مقروناً باللام وهو الأكثرُ؛ لأنه مُثْبَتٌ وحُذف في قولِه : " جَعَلْناه أُجاجاً " لأنَّ المِنَّةَ بالمأكولِ أعظمُ منها بالمشروب .
وقرأ طلحة " تَذْكُرُون " بسكون الذال وضمِّ الكاف .
(1/5166)
لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)
قوله : { فَظَلْتُمْ } : هذه قراءةُ العامَّةِ أعني فتحَ الظاء مع لامِ واحدة . وقد تقدَّم الكلامُ عليها مستوفى في طه . وأبو حيوة وأبو بكرٍ في روايةٍ بكسرِ الظاء . وعبد الله والجحدريُّ " فظَلِلْتُمْ " على الأصل بلامَيْن ، أُولاهما مكسورةٌ . ورُوي عن الجحدري فتحُها ، وهي لغةٌ أيضاً .
والعامةُ " تَفَكَّهون " بالهاء ، ومعناه : تَنْدَمون ، وحقيقتُه : تُلْقُون الفُكاهةَ عن أَنْفسِكم ، ولا تُلْقَى الفُكاهةُ إلاَّ من الخِزْيِ فهو من بابِ : تَحَرَّج وتَأَثَّم وتَحَوَّب . وقيل : تَفَكَّهون : تَعْجَبون . وقيل : تَلاومون ، وقيل : تَتَفَجَّعون ، وهذا تفسيرٌ باللازم .
وقرأ أبو حرام العكلي " تَفَكَّنون " بالنون مثل تَتَنَدَّمون . قال ابن خالويه : " تَفَكَّهَ تَعَجَّب ، وتَفَكَّن تندَّمَ " . وفي الحديث : " مَثَلُ العالِمِ مَثَلُ الحَمَّة يَأْتيها البُعَداء ويترُكها القُرَباء . فبيناهُمْ إذ غار ماؤها فانتفع بها قومٌ وبقي قومٌ يَتَفَكَّنون " أي : يَتَنَدَّمون .
(1/5167)
إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)
قوله : { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } : قرأ أبو بكر " أإنا " بالاستفهام وهو على أصلِه في تحقيقِ الهمزتَيْن وعَدَمِ إدْخال ألفٍ بينهما والباقون بالخبر . وقبلَ هذه الجملةِ قولٌ مقدرٌ على كلتا القراءتين . وذلك في محلِّ نصبٍ على الحالِ تقديرُه : فَظَلْتُم تَفَكَّهون قائلين أو تقولون : إنا لمُغْرَمون أي : لَمُلْزَمون غَرامةَ ما أَنْفَقْنا أو مُهْلَكون لهلاكِ رِزْقِنا ، من الغَرام وهو الهلاكُ . قاله الزمخشري . ومن الغَرام بمعنى الهَلاك قولُه :
4218 إن يُعَذِّبْ يَكُنْ غَراماً وإنْ يُعْ ... طِ جَزيلاً فإنَّه لا يُبالي
(1/5168)
أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70)
قوله : { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } : / قد تقدَّم عدمُ دخولِ اللامِ في جواب " لو " هذه . وقال الزمشخري : " فإن قلتَ : لِمَ أُُدخِلَتِ اللامُ في جواب " لو " في قوله : { لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } [ الواقعة : 65 ] ونُزِعَتْ منه ههنا؟ قلت : إنَّ " لو " لمَّا كانَتْ داخلةً على جملتَيْن ، مُعَلَّقةٍ ثانيتُهما بالأولى تعليقَ الجزاءِ بالشرط ، ولم تكن مُخَلِّصةً للشرط ك " إنْ " ولا عاملةً مثلَها ، وإنما سَرَى فيها معنى الشرطِ اتفاقاً ، من حيث إفادتُها في مضومونَيْ جملَتَيْها أنَّ الثاني امتنع لامتناع الأولِ ، افتقرَتْ في جوابِها إلى ما يَنْصَبُّ عَلَماً على هذا التعليقِ ، فزِيْدَتْ هذه اللامُ لتكونَ عَلَماً على ذلك ، فإذا حُذِفَتْ بعدما صارَتْ عَلَماً مشهوراً مكانُه فلأِنَّ الشيءَ إذا عُلِمَ وشُهِر مَوْقِعُه وصار مَأْلوفاً ومَأْنوساً به لم يُبالَ بإسقاطِه عن اللفظِ ، استغناءً بمعرفةِ السامع . ألا ترى إلى ما يُحْكى عن رؤبةَ أنه كان يقول : " خير " لمَنْ يقولُ له : كيف أصبحْتَ؟ فَحَذَفَ الجارَّ لِعِلْمِ كلِّ أحدٍ بمكانِه وتَساوي حالَيْ إثباتِه وحَذْفِه لشُهْرةِ أَمْرِه . وناهِيك بقولَ أوس :
4219 حتى إذا الكَلاَّبُ قال لها ... كاليومِ مَطْلوباً ولا طَلَبا
فحذفَ " لم أَرَ " حَذْفُها اختصارٌ لفظي ، وهي ثابتةٌ في المعنى فاستوى الموضعان بلا فرقٍ بينهما . على أن تَقَدُّمَ ذِكْرِها والمسافةُ قصيرةٌ مُغْنٍ عن ذِكْرِها ثانيةً . ويجوزُ أَنْ يُقال : إنَّ هذه اللامَ مفيدةٌ معنى التوكيدِ لا مَحالةَ ، فأُدْخِلَتْ في آيةِ المطعوم دونَ آيةِ المَشْروبِ ، للدلالةِ على أنَّ أَمْرَ المطعومِ مُقَدَّمٌ على أَمْرِ المشروبِ ، وأنَّ الوعيدَ بفَقْدِهِ أشدُّ وأصعبُ من قِبَلِ أنَّ المشروبَ إنما يُحتاجُ إليه تَبَعاً للمطعوم ، ألا ترى أنك إنما تَسْقي ضيفَك بعدما تُطْعِمُهُ ، ولو عَكَسْتَ قَعَدْتَ تحت قولِ أبي العلاءِ :
4220 إذا سُقِيَتْ ضُيوفُ الناس مَحْضاً ... سَقَوْا أضيافَهم شَبِماً زُلالا
وسُقِي بعضُ العربِ فقال : أنا لا أَشْرَبُ إلاَّ على ثميلة ، ولهذا قُدِّمَتْ آيةُ المطعومِ على آيةِ المشروب " انتهى .
قال الشيخ : " وقد طوَّل الزمخشريُّ " فلم يَذْكُرْ هذا الكلامَ الحسنَ ، ثم ذَكَر بعض كلامِه ، وواخَذَه في قولِه : " إنَّ الثاني امتنع لامتناعِ الأول " وجعلها عبارةَ بعض ضعفاءِ المُعْرِبين ، ثم ذكر عبارةَ سيبويه ، وهي : حرفٌ لِما كان سيقعُ لوقوعِ غيرِه ، وذكر أنَّ قولَ مَنْ قال : " امتناع لامتناع " فاسدٌ بقولك : لو كان هذا إنساناً لكان حيواناً ، يعني أنه لا يَلْزَمُ مِن امتناع الإِنسانية امتناعُ الحيوانية . ومِثْلُ هذه الإِيراداتِ سهلةٌ وإذا تَبِعَ الرجلُ الناسَ في عبارتهم لا عليه . على أنها عبارةُ المتقدِّمين من النحاة ، نَصَّ على ذلك غيرُ واحدٍ .
وقوله : { مِنَ المزن } : السحاب وهو اسم جنس واحدُه مُزْنة . قال الشاعر :
4221 فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ... ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها
وقال الآخر :
4222 ونحن كماءِ المُزْنِ ما في نِصابِنا ... كَهامٌ ولا فينا يُعَدُّ بخيلُ
(1/5169)
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71)
قوله : { تُورُونَ } : مِنْ أَوْرَيْتُ الزَّنْدَ أي : قَدَحْتَه فاستخرجتَ نارَه ، ووَرِي الزَّنْدُ يَرِي أي : خَرَجَتْ نارُه . وأصلُ تُوْرُوْن تُوْرِيُون .
(1/5170)
نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)
قوله : { لِّلْمُقْوِينَ } : يُقال : أَقْوَى الرجلُ : إذا حلَّ في الأرض القِواءِ ، وهي القَفْرُ ، كأصْحَرَ : دَخَلَ في الصحراء . وأَقْوَتِ الدار : خَلَتْ ، مِنْ ذلك لأنها تصير قَفْراً . قال النابغة :
4223 يا دارَميَّةَ بالعَلْياءِ فالسَّنَدِ ... أَقْوَتْ وطال عليها سالفُ الأبَدِ
(1/5171)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)
قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ } : قرأه العامَّةُ " فلا " ، لامَ ألفٍ ، وفيها أوجهٌ ، أحدُها : أنها حرفُ نفي ، وأنَّ المنفيَّ بها محذوفٌ ، وهو كلامُ الكافرِ الجاحدِ تقديرُه : فلا حُجَّةَ لِما يقولُ الكافرُ ، ثم ابتدأ قَسَماً بما ذَكَر ، وإليه ذهب جماعةٌ من المفسِّرين والنَّحْويين . وضُعِّفَ هذا : بأنَّ فيه حَذْفَ اسمِ " لا " وخبرِها . قال الشيخ : " ولا يجوز " ولا ينبغي؛ فإن القائلَ بذلكَ مثلُ سعيدِ بنِ جُبير تلميذِ حَبْر القرآنِ وبحرِه عبدِ اللَّهِ ابن عباس رضي الله عنهما ، ويَبْعُدُ أَنْ يقولَه سعيدٌ إلاَّ بتوقيف .
الثاني : أنها زائدةٌ للتوكيدِ ، مِثْلُها في قولِه تعالى : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ } [ الحديد : 29 ] والتقدير : فأُقْسِمُ ، وليَعْلَمَ ، وكقولِه :
4224 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فلا وأَبي أعدائِها لا أَخُوْنُها
الثالث : أنَّها لامُ الابتداءِ . والأصلُ : فَلأُقْسِمُ فأُشْبِعَتْ الفتحةُ فتولَّد منها ألفٌ ، كقولِه :
4225 أَعوذُ باللَّهِ من العَقْرابِ ... قاله الشيخُ ، واستشهدَ بقراءةِ هشام " أَفْئِيْدَة " . قلت . وهذا ضعيفٌ جداً ، واستند أيضاً لقراءةِ الحسن وعيسى/ " فَلأُقْسِمُ " بلامٍ واحدةٍ . قلت : وفي هذه القراءةِ تخريجان أحدُهما : أنَّ اللامَ لامُ الابتداءِ ، وبعدَها مبتدأٌ محذوفٌ ، والفعلُ خبرُه ، فلمَّا حُذِفَ المبتدأُ اتصلَتْ اللامُ بخبرِه وتقديرُه : فلأَنا أٌقْسِمُ نحو : لَزيدٌ منطلقٌ ، قاله الزمخشري وابن جني . والثاني : أنها لامُ القسمِ دخَلَتْ على الفعل الحالي . ويجوز أَنْ يكونَ القسم جواباً للقسمِ كقوله : { وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا } [ التوبة : 107 ] فنفسُ " ليَحْلِفُنَّ " قسمٌ جوابُه " إنْ أرَدْنَا " وهو جوابٌ لقسمٍ مقدرٍ ، كذلك هذا ، وهو قولُ الكوفيين : يُجيزون أَنْ يُقْسَم على فعلِ الحالِ . البصريُّون يَأْبَوْنه ويُخَرِّجون ما يُوهم ذلك على إضمار مبتدأ فيعود القسم على جملةٍ اسمية . ومنع الزمخشري أن تكونَ لامَ القسمِ قال : " لأمرَيْن ، أحدهما : أنَّ حَقَّها أَنْ تُقْرَنَ بالنونِ المؤكدةِ ، والإِخلالُ بها ضعيفٌ قبيحٌ . والثاني : أنَّ لأفعلنَّ في جواب القسم للاستقبالِ ، وفعلُ القسمِ يجب أَنْ يكونَ للحال " وهذا كما تقدَّم أنه يرى مذهبَ البَصرْيين ، ومعنى قولِه : " وفعلُ القَسَمِ يجبُ أنْ يكونَ للحال " يعني أنَّ فِعْلَ القسمِ إنشاءٌ والإِنشاءُ حالٌ . وإمَّا قولُه : " أَنْ يُقْرن بها النونُ " هذا مذهبُ البصريين . وأمَّا الكوفيون فيجيزون التعاقبَ بين اللام والنونِ نحو : واللَّهِ لأَضْرِبُ زيداً كقولِه :
4226 لَئِن تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكمْ ... لَيَعْلَمُ ربِّي أنَّ بيتيَ واسعُ
وواللَّهِ اضربَنَّ زيداً كقولِه :
4227 وقتيلُ مُرَّةَ أَثْأَرَنَّ . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم قريبٌ من هذه الآية في قولِه تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ } [ النساء : 65 ] ولكن هناك ما لا يُمْكن القولُ به هنا كما أنَّ هنا ما لا يمكن القولُ به هناك ، وسيأتي قريبٌ منه في القيامةِ في قراءةِ ابن كثير { لأُقْسِمُ بيوم القيامة } [ القيامة : 1 ] .
وقرأ العامَّة " بمواقِع " جمعاً ، والأخَوان " بموقع " مفرداً بمعنى الجمع لأنَّه مصدرٌ فوُحِّدَ ، ومواقعُها : مَساقِطُها ومَغارِبُها .
(1/5172)
وقيل : سُقوطُها يوم تَنْكَدِرُ . وقيل : النجومُ للقرآن ، ويؤيِّدُه " وإنَّه لَقَسَمٌ " ، و { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } والمُقْسَمُ عليه قولُه : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } وعلى هذا فيكونُ في الكلام اعتراضان ، أحدُهما : الاعتراضُ بقوله : " وإنه لَقَسَمٌ " بين القسمِ والمُقْسَم عليه ، والثاني : الاعتراضُ بقولِه : " لو تعلمون " بين الصفةِ والموصوفِ . وأبى ابنُ عطية أَنْ يُجْعَلَ قولُه : " وإنَّه لَقَسَمٌ " اعتراضاً فقال : " وإنه لَقَسَمٌ " تأكيدٌ للأمرِ وتنبيهُ المُقْسَم به ، وليس هذا باعتراضٍ بين الكلامَيْن ، بل هذا معنىً قُصِدَ التَّهَمُّمُ به ، وإنما الاعتراضُ قولُه : " لو تعلمون " قلت : وكونُه تأكيداً ومُنَبِّهاً على تعظيمِ المُقْسَمِ به لا يُنافي الاعتراضَ بل هذا معنى الاعتراضِ وفائدتُه .
(1/5173)
لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)
قوله : { لاَّ يَمَسُّهُ } : في " لا " هذه وجهان ، أحدهما : أنها نافيةٌ فالضمةُ في " لا يَمَسُّه " ضمةُ إعرابٍ ، وعلى هذا القولِ ففي الجملةِ وجهان ، أحدهما : أنَّ محلَّها الجرُّ صفةً ل " كتاب " والمرادُ ب " كتاب " : إمَّا اللوحُ المحفوظُ ، والمُطهَّرون حينئذٍ الملائكةُ أو المرادُ به المصاحف ، والمرادُ بالمُطهَّرين المكلَّفون كلُّهم . والثاني : أن محلَّها الرفعُ صفةً لقرآنِ ، والمرادُ بالمطهَّرينِ الملائكةُ فقط أي : لا يَطَّلع عليه أو لا يَمَسُّ لَوْحَه . لا بُدَّ من أحد هَذَيْن التجوُّزَيْن؛ لأن نسبةَ المسِّ إلى المعاني حقيقةً متعذَّرٌ . ويؤيِّد كونَ هذه نفياً قراءةُ عبد الله " ما يَمَسُّه " ب " ما " النافيةِ .
والثاني من الوجهين الأوَّلَيْن : أنها ناهيةٌ ، والفعلُ بعدها مجزومٌ؛ لأنه لو فُكَّ عن الإِدغامِ لظهر ذلك فيه كقولِه : { لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } [ آل عمران : 174 ] ولكنه أَدْغم ، ولَمَّا أُدْغِمَ حُرِّك آخرُه بالضمِّ لأجلِ هاء ضميرِ المذكرِ الغائبِ ، ولم يَحْفَظْ سيبويه في نحوِ هذا إلاَّ الضمَّ . وفي الحديث : " إنَّا لم نَرُدُّه عليك إلاَّ أننا حُرُمٌ " وإن كان القياسُ يَقْتضي جوازَ فَتْحِه تخفيفاً ، وبهذا الذي ذكرْتُه يظهر فسادُ رَدِّ/ مَنْ رَدَّ : بأنَّ هذا لو كان نَهْياً لكان يُقال : " لا يَمَسَّه " بالفتح؛ لأنه خَفي عليه جوازُ ضَمِّ ما قبل الهاءِ في هذا النحوِ ، لا سيما على رأيِ سيبويه فإنه لا يُجيز غيرَه . وقد ضَعَّفَ ابنُ عطية كونَه نهياً : بأنه إذا كان خبراً فهو في موضعِ الصفةِ ، وقولُه بعد ذلك " تنْزيلٌ " صفةٌ فإذا جعلناه نَهْياً كان أجنبياً معترضاً بين الصفاتِ وذلك لا يَحْسُن في رَصْفِ الكلامِ فتدبَّرْه . وفي حرف ابن مسعود " ما يمسُّه " انتهى .
وليس فيما ذكرَه ضَعْفٌ لهذا القول؛ لأنَّا لا نُسَلِّم أنَّ " تنزيل " صفةٌ ، بل هو خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هو تنزيلٌ فلا يَلْزَم ما ذَكرَه من الاعتراضِ . ولَئِنْ سَلَّمْنَا أنه صفةٌ ف " لا يَمَسُّه " صفةٌ أيضاً ، فيُعْترض علينا : بأنه طلبٌ . فيُجاب : بأنه على إضمارِ القولِ أي : مقولٌ فيه : لا يمسُّه ، كما قالوا ذلك في قوله : " فتنةً لا تصيبَنَّ " على أنَّ " لا تصيبنَّ " نَهْيٌ وهو كقولِه :
4228 جاؤوا بمَذْقٍ هل رأيْتَ الذئبَ قطّ ... وقد تقدَّم تحقيقُه في الأنفال ، وهذه المسألةُ يتعلَّقُ بها خلافُ العلماء في مَسِّ المُحْدِث المصحفَ ، وهو مبنيٌّ على هذا ، وسيأتي تحقيقُه بأشبعَ مِنْ هذا في كتاب " أحكام القرآن " إن شاء الله تعالى إتمامَه .
وقرأ العامَّةُ " المُطَهَّرون " بتخفيف الطاء وتشديد الهاء مفتوحةً اسمَ مفعول ، وعن سلمان الفارسي كذلك ، إلاَّ أنه بكسرِ الهاء اسمَ فاعلٍ أي : المُطَهِّرون أنفسَهم ، فحذف مفعولَه . ونافع وأبو عمروٍ في رواية عنهما وعيسى بسكون الطاء وفتح الهاء خفيفة اسم مَفعول من أطهر . وزيد والحسن وعبد الله بن عون وسلمان أيضاً " المُطَّهِّرُوْن " بتشديدِ الطاءِ والهاءِ المكسورةِ ، وأصلُه المتطهِّرون فأُدْغِم . وقد قُرىءَ بهذا الأصلِ أيضاً .
(1/5174)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)
وقرِىء " تنزيلاً " بالنصب على أنه حال من النكرة . وجاز ذلك لتخصُّصِها بالصفةِ ، أو أَنْ يكونَ مصدراً لعاملٍ مقدر أي : نُزِّل تنزيلاً ، وغَلَب التنزيلُ على القرآن .
و " من رَبِّ " يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ به على الأول لا الثاني؛ لأن المؤكَّد لا يعملُ ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ له ، وأمَّا على قراءةِ " تنزيل " بالرفعِ فيجوز الوجهان .
(1/5175)
أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81)
قوله : { أفبهذا } : متعلِّقٌ بالخبر ، وجازَ تقديمُه على المبتدأ؛ لأنَّ عامله يجوزُ فيه ذلك . والأصل : أفأنتم مُدْهِنون بهذا الحديث وهو القرآنُ . ومعنى " مُدْهِنون " : مُتهاوِنون كمن يُدْهِنُ في الأمر أي : يُلَيِّنُ جانبَه ولا يتصلَّب فيه تهاوُناً به يقال : أَدْهَن فلانٌ أي : لايَنَ وهاوَدَ فيما لا يُحْمَلُ عند المُدْهَنِ . قال الشاعر :
4229 الحَزْمُ والقُوَّةُ خيرٌ من الْ ... إدْهانِ والفَهَّةِ والهاعِ
وقال الراغب : " والإِدهانُ في الأصل مثلُ التدهين لكن جُعِل عبارةً عن المُداراة والمُلاينة وتَرْكِ الجدِّ ، كما جُعِل التقريدُ وهو نَزْعُ القُراد ، عبارةً عن ذلك " .
(1/5176)
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
قوله : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه على التهكُّم بهم؛ لأنهم وَضَعوا الشيءَ غيرَ موضعِه كقولك : " شَتَمني حيث أَحْسَنْتُ إليه " أي : عَكَسَ قضيةَ الإِحسانِ ومنه :
4230 كأن شُكْرَ القَوْمِ عند المِنَنِ ... كيُّ الصَحيحاتِ وفَقْءُ الأعينِ
أي : شُكْرَ رِزْقِكم تكذيبَكم ، الثاني : أنَّ ثَمَّ مضافَيْنِ محذوفَيْنِ ، أي : بَدَل شُكْرِ رِزْقكم ليَصِحَّ المعنى قاله جمال الدين بن مالك ، وقد تقدَّم لك في قولِه : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } [ النجم : 9 ] أكثرُ من هذا . الثالث : أنَّ الرِّزْقَ هو الشُّكْرُ في لغةِ أزدِ شنوءة : ما رَزَقَ فلانٌ فلاناً أي : ما شكره ، فعلى هذا لا حَذْفَ البتةَ ، ويُؤَيِّدُهُ قراءةُ علي بنِ أبي طالب وتلميذِه عبد الله بن عباس رضي الله عنهم " وتَجْعَلون شُكْرَكم " مكان " رِزْقَكم " .
وقرأ العامَّةُ " تُكَذِّبون " من التكذيب . وعلي رضي الله عنه وعاصمٌ في رواية المفضل عنه " تَكْذِبون " مخففاً من الكَذِب .
(1/5177)
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83)
قوله : { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم } : ترتيبُ الآيةِ/ الكريمة : فلولا تَرْجِعُونها أي النفسَ إذا بلغت الحلقومَ إن كنتم غيرَ مَدِيْنين . و " فلولا " الثانيةُ مكررةٌ للتوكيدِ . قاله الزمخشريُّ . قلت : فيكونُ التقدير : فلولا فلولا تَرْجِعونها ، من باب التوكيد اللفظي ، وتكون " إذا بَلَغَت " ظرفاً ل " تَرْجِعونها " مقدَّماً عليه؛ إذ لا مانعَ مِنْه ، أي : فلولا تَرْجِعون النفسَ في وقتِ بُلوغها الحلقومَ . وقوله : { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } جملةٌ حالية مِنْ فاعل بَلَغَتْ ، والتنوينُ في " حينئذٍ " عِوَضٌ من الجملة المضافِ إليها " إذا " ، أي : إذا بلغَتْ الحلقومَ خلافاً للأخفش حيث زعمَ أن التنوينَ للصَّرْفِ والكسرَ للإِعرابِ ، وقد مضى تحقيقُه .
(1/5178)
وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84)
وقرأ العامَّةُ بفتحِ نونِ " حينئذٍ " لأنَّه منصوبٌ على الظرفِ ناصبُه " تَنْظُرون " وعيسى بكسرها ، وهي مُشْكِلَةٌ لا تَبْعُدُ عن الغَلَطِ عيله ، وخُرِّجَتْ على الإِتباع لحركة الهمزة ، ولا غَرْوَ في ذلك فليسَتْ بأبعدَ من قراءةِ " الحمد للَّهِ " [ الفاتحة : 1 ] بكسر الدال لتلازُمِ المتضايفَيْنِ ولكثرةِ دَوْرِهما على الخصوص .
(1/5179)
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85)
قوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً أي : تَنْظُرون في هذه الحالِ التي تَخْفَى عليكم ، وأن تكونَ مستأنفةً ، فتكونَ اعتراضاً ، والاستدراكُ ظاهرٌ . والبَصَرُ : يجوز أَنْ يكونَ من البصيرة ، وأَنْ يكونَ من البَصَرِ أي : لا تَنْظُرون أعوانَ مَلَكِ الموتِ .
(1/5180)
فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86)
و { إِن كُنتُمْ } : شرطٌ جوابُه محذوفٌ عند البَصْريين لدلالةِ " فلولا " عليه أو مقدَّمٌ عند مَنْ يرى ذلك ، كما تقدَّمَ تقريرُه . والحُلْقُوْمُ : مَجْرى الطعامِ . و " مَدِيْنين " أي : مَسُوسين ، أو محاسَبين ، أو مجازِين . وقد تقدَّم ذلك أولَ الفاتحة ولله الحمدُ . وهذا ما تلخص في الآية الكريمة محرَّراً . وقال أبو البقاء : " وتَرْجِعونها جوابُ " لولا " الأولى ، وأغنى ذلك عن جوابِ الثانية وقيل عكسُ ذلك . وقيل : لولا الثانيةُ تكريرٌ " انتهى . وتسميةُ مثلِ هذا جواباً ليس بصحيح البتَة؛ لأنَّ هذه تحضيضيةٌ لا جوابَ لها ، إنما الجوابُ للامتناعيةِ لوجودٍ نحو : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله } [ النساء : 83 ] .
وقال ابن عطية : " وقولُه : " تَرْجِعونها " سَدَّ مَسَدَّ الأجوبةِ والبياناتِ التي تَقْتَضيها التَّحْضيضاتُ ، و " إذا " مِنْ قولِه : " فلولا إذا " و " إنْ " المكررة ، وحَمَلَ بعضُ القولِ بعضاً إيجازاً " واقتضاباً " انتهى . فجعل " إذا " شرطيةً . وقولُه : " الأجوبة " يعني ل " إذا " ول " إنْ " ول " إنْ " في قولِه : { إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ } ، { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } . والبياناتُ يعني الأفعالَ التي حَضَّض عليها ، وهي عبارةٌ قَلِقَةٌ ، ولذلك فَسَّرْتُها .
قال الشيخ : " وإذا ليسَتْ شرطاً؛ بل ظرفاً يعمل فيها " تَرْجعونها " المحذوفُ بعد " لولا " لدلالةِ " تَرْجِعونها " في التحضيض الثاني عليه ، فجاء التحضيضُ الأولُ مقيَّداً بوقتِ بلوغِ الحُلْقومِ . وجاء التحضيضُ الثاني مُعَلَّقاً على انتفاء مَرْبُوْبيَّتهم وهم لا يَقْدرون على رَجْعِها إذ مَرْبُوبِيَّتُهم موجودةٌ ، فهم مقْهورون لا قُدْرَةَ لهم " انتهى . فجعل " تَرْجِعونها " المذكورَ ل " لولا " الثانية ، وهو دالٌّ على محذوفٍ بعد الأولى ، وهو أحد الأقوالِ التي نَقَلها أبو البقاء فيما تقدم .
(1/5181)
تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88)
قوله : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } : شرطٌ آخرُ ، وليس هذا من اعتراضِ الشرطِ على الشرطِ نحو : " إنْ ركبتِ إنْ لَبِسْتِ فأنتِ طالق " حتى يجيءَ فيه ما قَدَّمْتُه في هذه المسألةِ؛ لأنَّ المرادَ هنا : إنْ وُجِد الشرطان كيف كانا فهلا رَجَعْتُمْ بنفِس الميتِ .
قوله : { فَأَمَّآ إِن كَانَ } قد تقدَّم الكلامُ في " إمَّا " في أولِ هذا الموضوعِ مستوفىً ولله الحمدُ . وهنا أمرٌ زائدٌ وهو وقوعُ شرطٍ آخرَ بعدها . واختلف النحاةُ في الجوابِ المذكورِ بعدها : هل هو ل " أمَّا " أو ل " إنْ " ، وجوابُ الأخرى محذوفٌ لدلالةِ المنطوقِ عليه ، أو الجوابُ لهما معاً؟ ثلاثةُ أقوالٍ ، الأولُ لسيبويه والثاني للفارسيِّ في أحدِ قولَيْه ، وله قولٌ آخرُ كسيبويهِ ، والثالث للأخفش ، وهذا كما تقدَّم في الجوابِ بعد الشرطَيْن المتواردَيْن . وقال مكي : " ومعنى " أمَّا " عند أبي إسحاقَ الخروجُ مِنْ شيءٍ إلى شيءٍ ، أي : دَعْ ما كُنَّا فيه وخُذْ في غيره " . قلت : وعلى هذا فيكونُ الجوابُ ل " إنْ " فقط لأنَّ " أمَّا " ليسَتْ شرطاً . ورجَّح بعضُهم أنَّ الجوابَ ل " أمَّا "؛ لأنَّ " إنْ " كَثُرَ حَذْفُ جوابِها/ منفردةً ، فادِّعاءُ ذلك مع شرطٍ آخرَ أَوْلَى . والضميرُ في " كان " و " كان " للمتوفَّى لدلالةِ قولِه : " فلولا تَرْجِعُونَها " .
(1/5182)
فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)
والرَّوْحُ : الاستراحةُ ، وقد تقدَّم ذلك في يوسف . وقرأ ابن عباس وعائشة والحسن وقتادة في جماعةٍ كثيرة بضمِّ الراءِ ، وتُرْوَى عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم . قال الحسن : الرَّوْحُ : الرحمةُ؛ لأنها كالحياة للمرحومِ . وعنه أيضاً : رُوْحُه تَخْرُج في رَيْحان . وقد تقدَّم الكلامُ على { رَيْحَانٌ } والخلافُ فيه وكيفيةُ تصريفِه في السورةِ قبلها .
و [ قوله ] : { فَرَوْحٌ } مبتدأٌ ، خبرُه مقدَّر قبلَه أي : فله رَوْحٌ . ويجوزُ أَنْ يُقَدَّر بعدَه لاعتمادِه على فاءِ الجزاءِ .
(1/5183)
فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91)
قوله : { فَسَلاَمٌ لَّكَ } : مبتدأٌ وخبرٌ . و " مِنْ أصحاب " . قال الزمخشري : " فسلامٌ لك يا صاحبَ اليمين من إخوانك إصحابِ اليمينِ ، أي : يُسَلِّمون عليك " . وقال ابن جرير : " معناه فسلامٌ لكَ أنت مِنْ أصحابِ " . وهذا يَحْتمل أَنْ يكونَ كقولِ الزمخشريِّ ، ويكونَ " أنت " تأكيداً للكافِ في " لك " ، ويَحْتمل أَنْ يكونَ أراد أنَّ " أنت " مبتدأٌ و " من أصحابِ " خبرُه ، ويؤيِّدُ هذا ما حكاه قومٌ مِنْ أنَّ المعنى : فيُقال لهم : سلامٌ لك إنَّك من أصحاب اليمين . وأولُ هذه الأقوالِ هو الواضحُ البيِّن؛ ولذلك لم يُعرِّجْ أبو القاسمِ على غيرِه .
(1/5184)
وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)
قوله : { وَتَصْلِيَةُ } : عطفٌ على " فُنُزُل " أي : فله نُزُلٌ وتَصْلِيَةٌ . وقرأ أبو عمروٍ في روايةِ اللُّؤْلؤي عنه وأحمد بن موسى والمنقري بجرِّ التاءِ عَطْفاً على " مِنْ حميمٍ " .
(1/5185)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)
قوله : { حَقُّ اليقين } : فيه وجهان ، أحدهما : هو من إضافةِ الموصوفِ لصفتِه . والثاني : أنه من باب إضافةِ المترادَفَيْن على سبيل المبالغةِ . وسهَّلَ ذلك تخالُفُ لفظِهما . وإذا كانوا فعلوا ذلك في اللفظِ الواحدِ فقالوا : صوابُ الصوابِ ، ونفس النفس ، مبالغةً فَلأَنْ يَفْعلوه عند اختلافِ اللفظِ أَوْلَى .
(1/5186)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
قوله : { باسم رَبِّكَ } : يجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ للحال أي : فسَبِّحْ مُلْتَبِساً باسمِ ربك على سبيلِ التبرُّكِ كقوله : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } [ البقرة : 30 ] ، وأَنْ تكونَ للتعديةِ ، على أنَّ " سَبَّح " يتعدَّى بنفسه تارةً كقولِه : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ } [ الأعلى : 1 ] وبحرفِ الجرِّ تارةً كهذه الآيةِ ، وادعاءُ زيادتها خلافُ الأصلِ .
و " العظيم " يجوزُ أَنْ يكونَ صفةً للاسم ، وأَنْ يكونَ لربك؛ لأنَّ كلاً منهما مجرورٌ . وقد وُصِفَ كلٌّ منهما في قوله : " تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذُو الجلال " [ الرحمن : 78 ] و { ذي الجلال } . ولتغايُرِ المتضايفَيْن في الإِعراب ظهر الفرقُ في الوصف .
(1/5187)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
قوله : { للَّهِ } : يجوزُ في هذه اللامِ وجهان ، أحدهما : أنها مزيدةٌ كهي في " نَصَحْتُ لزيدٍ " و " شكرْتُ له " إذ يقال : سَبَّحْت الله تعالى . قال تعالى : { وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } [ الأعراف : 206 ] . والثاني : أَنْ تكونَ للتعليلِ ، أي : أَحْدَثَ التسبيحَ لأجلِ الله تعالى .
(1/5188)
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)
قوله : { لَهُ مُلْكُ } : جملةٌ مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعرابِ .
قوله : { يُحْيِي وَيُمِيتُ } يجوزُ في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنها لا مَحَلَّ لها كالتي قبلها . والثاني : أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هو له مُلك . والثالث : أنها حالٌ من الضمير في " له " فالعامل فيها الاستقرارُ ، ولم يُذْكَرْ مفعولا الإِحياءِ والإِماتةِ؛ إذ الغَرَضُ ذِكْرُ الفعلَيْنِ فقط .
(1/5189)
هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
قوله : { هُوَ الأول والآخر } : قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : ما معنى الواوِ؟ قلت : الواوُ الأولى معناها الدلالةُ على أنه الجامعُ بين الصفَتَيْن الأوَّليَّةِ والآخِريَّةِ ، والثالثةُ على أنه الجامعُ بين الظهورِ والخَفاءِ ، وأمَّا الوُسْطى فعلى أنه الجامعُ بين مجموع الصفَتَيْن الأُوْلَيَيْن ومجموعِ الصفَتَيْن الأُخْرَيين " .
(1/5190)
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5)
قوله : { تُرْجَعُ الأمور } : قد تقدَّم في البقرة أن الأخَوَين وابنَ عامر يقرؤون بفتح التاء وكسر الجيم مبنياً للفاعل ، والباقون مبنياً للمفعول في جميع القرآن . وقال الشيخ هنا : " وقرأ الجمهور " تُرْجَعُ " مبنياً للمفعول . والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج مبنياً للفاعل " وهذا عجيبٌ منه ، وقد وقع له مِثْلُ ذلك كما نَبَّهْتُ عليه . /
وقوله : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ } قد تقدَّم مثلُه في سورة سبأ .
(1/5191)
وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)
قوله : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ } : مبتدأ وخبرٌ ، وحالٌ ، أي : أيُّ شيءٍ استقر لكم غيرَ مؤمنين؟
وقوله : { والرسول يَدْعُوكُمْ } جملةٌ حاليةٌ من " يُؤمِنون " . قال الزمخشري : " فهما حالان متداخلان و " لِتُؤْمنوا " متعلِّقٌ ب " يَدْعو " أي : يدعوكم للإِيمان كقولك : دَعَوْتُه لكذا . ويجوزُ أَنْ تكونَ اللامُ للعلةِ ، أي : يدعوكم إلى الجنةِ وغفرانِ اللهِ لأجلِ الإِيمانِ . وفيه بُعْدٌ .
قوله : { وَقَدْ أَخَذَ } حالٌ أيضاً . وقرأ العامَّةُ " أَخَذَ " مبنياً للفاعلِ ، وهو اللّهُ تعالى لتقدُّم ذِكْرِه . وأبو عمرو " أُخِذ " مبنياً للمفعول ، حُذِفَ الفاعلُ للعِلْم به . و " ميثاقَكم " منصوبٌ في قراءة العامةِ ، مرفوعٌ في قراءة أبي عمروٍ . و " إنْ كنتم " جوابُه محذوفٌ تقديرُه : فما يَمْنَعُكم من الإِيمانِ . وقيل : تقديرُه : إنْ كنتم مؤمنين لموجِبٍ ما ، فهذا هو الموجِبُ . وقدَّره ابنُ عطية : " إنْ كنتم مؤمنين فأنتم في رتبةٍ شريفةٍ . وقد تقدَّمَتْ قراءتا " يُنَزَّل " تخفيفاً وتشديداً في البقرة . وزيد بن علي " أَنْزَل " ماضياً .
(1/5192)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
قوله : { أَلاَّ تُنفِقُواْ } كقوله { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ } [ البقرة : 246 ] فالأصلُ : في أن لا تُنْفِقُوا ، فلمَّا حُذِف حرفُ الجرِّ جَرى الخلافُ المشهورُ . وأبو الحسن يرى زيادتَها كما تقدَّم تقريرُه في البقرة .
قوله : { وَللَّهِ مِيرَاثُ } جملةٌ حاليةٌ مِنْ فاعل الاستقرار ومفعولِه ، أي : وأيُّ شيءٍ يمنعُكم من الإِنفاقِ في سبيلِ اللهِ والحالُ أنَّ ميراثَ السماواتِ والأرضِ له ، فهذه حالٌ منافيةٌ لبُخْلِكم .
قوله : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَق } في فاعل " يَسْتوي " وجهان ، أظهرُهما : أنه مِنْ أَنْفَق ، وعلى هذا فلا بُدَّ مِنْ حذفِ معطوفٍ يتمُّ به الكلامُ ، فقدَّره الزمخشري : " لا يَسْتوي منكم مَنْ أنفقَ قبلَ فتحِ مكةَ وقوةِ الإِسلام ومَنْ أنفق مِنْ بعدِ الفتح ، فَحَذَفَ لوضوحِ الدلالة " وقَدَّره أبو البقاء " ومَنْ لم يُنْفِق " قال : " ودلَّ على المحذوفِ قولُه : { مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح } والأول أحسنُ لأنَّ السِّيَاقَ إنما جيء بالآية ليُفرِّق بين المُنْفِقين في زمانَيْنِ . والثاني : أنَّ فاعلَه ضميرٌ يعود على الإِنفاقِ ، أي : لا يَسْتوي جنسُ الإِنفاقِ إذ منه ما وَقَعَ قبل الفتح ، ومنه ما وَقَعَ بعدَه ، فهذان النوعان متفاوتان . وعلى هذا فتكون " مَنْ " مبتدأ و " أولئك " مبتدأٌ ثانٍ و " أَعظَمُ " خبرُه ، والجملةُ خبرُ " مَنْ " وهذا ينبغي أن لا يجوزَ البتةَ ، وكأنَّ هذا المُعْرِبَ غَفَل عن قولِه : " منكم " ولو أعربَ هذا القائلُ " منكم " خبراً مقدماً ، و " مَنْ " مبتدأ مؤخراً . والتقدير : مِنْكم مَنْ أنفق من قبلِ الفتحِ ، ومنكم مَنْ لم يُنْفِقْ قبلَه ولم يقاتِلْ ، وحُذِف هذا لدلالةِ الكلامِ عليه لكان سديداً ، ولكنه سها عن لفظةِ " منكم " .
قوله : { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } قراءةُ العامَّةِ بالنصبِ على أنه مفعولُ مقدمٌ ، وهي مرسومةٌ في مصاحفِهم " وكلاً " بألفٍ ، وابنُ عامر برفعِه ، وفيه وجهان ، أظهرُهما : أنه ارتفعَ على الابتداءِ ، والجملة بعدَه خبرٌ ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : وعده اللهُ . ومثلُه :
4231 قد أصبحَتْ أمُّ الخِيار تَدَّعِي ... عليَّ ذَنْباً كلُّه لم أَصْنَعِ
برفع " كلُّه " ، أي : لم أَصْنَعْه . والبصريُّون لا يُجيزون هذا إلاَّ في شعرٍ كقولِه :
4232 وخالِدٌ يَحْمَدُ ساداتُنا ... بالحقِّ لا يُحْمَدُ بالباطلِ
وقد نقل ابن مالك الإِجماعَ من البصريين والكوفيين على جواز ذلك إنْ كان المبتدأ " كلاً " أو ما أشبهَها في الافتقار والعمومِ ، وهذا لم أَرَه لغيره . وقد تقدَّم نحوٌ مِنْ ذلك في سورة المائدةِ عند قولِه : { أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } [ المائدة : 50 ] ولم يُرْوَ قولُه : " كلُّه لم أصنَع " إلاَّ بالرفعِ مع إمكانِ أَنْ ينصبَه فيقول : " كلَّه لم أصنعِ " مفعولاً مقدَّماً . قال أهل البيان : لأنه قصد عمومَ السلبِ لا سَلْبَ العمومِ ، فإن الأولَ أبلغُ ، وجعلوا من ذلك قولَه عليه السلام :
(1/5193)
" كل ذلك لم يكنْ " ولو قال : " لم يكن كلُّ ذلك " لكان سَلْباً للعُموم ، والمقصودُ عمومُ السَّلْب .
والثاني : أن يكونَ " كل " خبَر مبتدأ محذوفٍ ، و { وَعَدَ الله الحسنى } صفةٌ لما قبله ، والعائدُ محذوف ، أي : وأولئك كلٌّ وعدَه اللهُ الحسنى . فإن قيل : الحذفُ موجودٌ أيضاً وقد عُدْتم لِما فرَرْتُمْ منه . فالجوابُ : أنَّ حَذْفَ العائدِ من الصفة كثيرٌ بخلاف حَذْفِه من الخبرِ . ومِنْ حَذْفِه من الصفة قولُه :
4233 وما أَدْري أغَيَّرهم تَناءٍ ... وطولُ العَهْدِ أم مالٌ أصابوا
أي أصابوه ، ومثله كثيرٌ . وهي في مصاحفِ الشامِ مرسومةٌ " وكلٌّ " بدون ألف ، فقد وافق كلٌّ مصحفَه . و " الحُسْنى " مفعولٌ ثانٍ ، والأولُ محذوفٌ على قراءةِ الرفعِ ، وأمَّا النصبُ فالأولُ مقدَّمٌ/ على عامِله .
(1/5194)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
قوله : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ } : قد تقدَّم بحمدِ الله هذا وما بعده مستوفىً ، واختلافُ القرَّاءِ فيه في سورةِ البقرة . وقال ابن عطية هنا : " الرفعُ على العطفِ أو القطعِ والاستئنافِ " . وقرأ عاصم " فيضاعِفَه " بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام . وفي ذلك قَلَقٌ ، قال أبو علي : " لأنَّ السؤالَ لم يقَعْ عن القَرْضِ ، وإنما وقع عن فاعلِ القَرْضِ ، وإنما تَنْصِبُ الفاءُ فعلاً مردوداً على فعلِ مُسْتَفْهَمٍ عنه ، لكن هذه الفِرْقَةَ حَمَلَتْ ذلك على المعنى ، كأنَّ قولَه { مَّن ذَا الذي يُقْرِض } بمنزلةِ قولِه أيقرِضُ اللَّهَ أحدٌ " انتهى . وهذا الذي قالَه أبو علي ممنوعٌ ، ألا ترى أنه يُنْصَبُ بعد الفاءِ في جواب الاستفهام بالأسماءِ ، وإن لم يتقدَّم فعلٌ نحو : " أين بيتُك فأزورَك " ومثلُ ذلك : " مَنْ يَدْعوني فأستجيبَ له " و " متى تسير فأرافِقك " و " كيف تكونُ فأصْحَبَكَ " فالاستفهام إنما وقع عن ذاتِ الداعي وعن ظرفِ الزمان وعن الحال ، لا عن الفعل . وقد حكى ابنُ كيسانُ عن العرب : أين ذَهَبَ زيدٌ فَنَتْبَعَه ، ومَنْ أبوك فنُكْرِمَه .
(1/5195)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
قوله : { يَوْمَ تَرَى } : فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه معمولٌ للاستقرار العاملِ في " لهم أجرٌ " ، أي : استقرَّ لهم أجرٌ في ذلك اليوم . الثاني : أنه مضمرٌ ، أي : اذكرْ فيكون مفعولاً به . الثالث : أنه يُؤْجَرون يومَ ترى فهو ظرفٌ على أصلِه . الرابع : أنَّ العاملَ فيه " يَسْعى " ، أي : يَسْعى نورُ المؤمنين والمؤمناتِ يومَ تراهم ، هذا أصلُه . الخامس : أنَّ العاملَ فيه " فيضاعفَه " قالهما أبو البقاء .
قوله : { يسعى } حالٌ ، لأنَّ الرؤيةَ بَصَرِيَّة ، وهذا إذا لم يَجْعَلْه عامِلاً في " يوم " و " بين أيديهم " ظرفٌ للسَّعْي ، ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ " نورُهم " .
قوله : { وَبِأَيْمَانِهِم } ، أي : وفي جهةِ أيمانهم . وهذه قراءةُ العامَّةِ أعني بفتح الهمزةِ جمع يَمين . وقيل : الباءُ بمعنى " عن " ، أي : عن جميعِ جهاتِهم ، وإنما خَصَّ الأَيمانَ لأنها أشرفُ الجهاتِ . وقرأ أبو حيوة وسهلُ بن شعيب بكسرِها . وهذا المصدرُ معطوفٌ على الظرفِ قبلَه .
والباءُ سببيةٌ ، أي : يسعى كائناً وكائناً بسبب إيمانهم . وقال أبو البقاء تقديرُه : وبإيمانِهم استحقُّوه ، أو بإيمانهم يُقال لهم : بُشْراكم .
قوله : { بُشْرَاكُمُ } مبتدأٌ ، و " اليومَ " ظرفٌ . و " جناتٌ " خبرهُ على حذفِ مضافٍ ، أي : دخولُ جناتٍ . وهذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ بقولٍ مقدر ، وهو العاملُ في الظرفِ كما تقدَّم . وقال مكي : " وأجاز الفراءُ نصبَ " جنات " على الحال ويكون " اليومَ " خبرَ " بُشْراكم " قال : وكونُ " جنات " حالاً لا معنى له؛ إذ ليس فيها معنى فِعْل . وأجاز أَنْ يكونَ " بُشْراكم " في موضع نصبٍ على : يُبَشِّرونهم بالبُشرى ، وتُنْصَبُ " جنات " بالبُشْرى . وكلُّه بعيدٌ لأنه لا يُفْصَلُ بين الصلةِ والموصولِ باليوم " انتهى . وعجيبٌ من الفراء كيف يَصْدُرُ عنه ما لا يُتَعَقَّل ، ولا يجوزُ صناعةً ، كيف تكون " جنات " حالاً وماذا صاحبُ الحال؟ .
(1/5196)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)
وقوله : { يَوْمَ يَقُولُ } : بدلٌ مِنْ " يومَ ترى " أو معمولٌ ل " اذْكُر " . وقال ابن عطية : " ويظهرُ لي أنَّ العاملَ فيه { ذلك هُوَ الفوز العظيم } ويجيء معنى الفوز أفخم ، كأنه يقول : إن المؤمنين يفوزون بالرحمةِ يومَ يَعْتري المنافقين كذا وكذا؛ لأنَّ ظهورَ المرءِ يومَ خمولِ عَدُوِّه ومُضادِّه أبدعُ وأفخمُ " . قال الشيخ : " وظاهرُ كلامِه وتقديرِه أنَّ " يومَ " معمولٌ للفوز . وهو لا يجوزُ ، لأنه مصدرٌ قد وُصِفَ قبلَ أَخْذِ متعلَّقاته فلا يجوزُ إعمالُه ، فلو أُعْمِل وصفُه لجاز ، أي : الذي عَظُمَ قَدْرُه يومَ " . قلت : وهذا الذي قاله ابنُ عطية صَرَّح به مكي فقال : " ويومَ ظرفٌ العاملُ فيه ذلك الفوزُ ، أو هو بدلٌ من " اليوم " الأول " .
قوله : { خَالِدِينَ } [ الحديد : 12 ] نصبٌ على الحالِ العاملُ فيها المضافُ المحذوف إذ التقديرُ : بُشْراكم دخولُكم جناتٍ خالدين فيها ، فحذف الفاعلَ وهو ضميرُ المخاطبِ ، وأُضيف المصدرُ لمفعولِه فصار : دخولُ جنات ، ثم حُذِف المضافُ وقام المضافُ إليه مَقَامَه في الإِعراب ، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ " بُشْراكم " هو العاملَ فيها؛ لأنه مصدرٌ قد أُخْبر عنه قبل ذِكْرِ متعلَّقاتِه ، فيلزَمُ الفصلُ بأجنبي . وظاهرُ كلامِ مكي أنه عاملٌ في الحالِ فإنَّه قال : " خالدين نصبٌ على الحالِ من الكاف والميم " والعاملُ في الحالِ هو العاملُ في صاحِبها فَلَزِمَ أَنْ يكونَ " بُشْراكم " هو العاملَ ، وفيه ما تقدَّمَ من الفصلِ بينَ المصدرِ ومعمولِه .
قوله : { لِلَّذِينَ آمَنُواْ } اللامُ للتبليغ . و " انْظُرونا " قراءةُ العامَّةِ " انظرونا " أَمْراً من النظر . وحمزة " أَنْظِرونا " بقطع الهمزة وكَسْر الظاء من الإِنْظار بمعنى الانتظار ، أي : انتظرونا لِنَلْحَقَ بكم فنستضيْءَ بنورِكم . والقراءةُ الأولى يجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى هذه إذ يقال : نَظَره بمعنى انتظره ، وذلك أنه يُسْرَعُ بالخُلَّصِ إلى الجنَّة على نُجُبٍ ، فيقول المنافقون : انتظرونا لأنَّا مُشاة لا نَسْتطيع لُحوقَكم . ويجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ النظر وهو الإِبصارُ لأنَّهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوهِهم فيضيءُ لهم المكانُ ، وهذا أليقُ بقولِه { نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } قال معناه الزمخشري . إلاَّ أنَّ الشيخ قال : إنَّ النظرَ بمعنى الإِبْصار لا يتعدَّى بنفسِه إلاَّ في الشعر ، إنما يتعدَّى بنفسِه إلاَّ في الشعر ، إنما يتعدَّى ب " إلى " / .
قوله : { وَرَآءَكُمْ } فيه وجان ، أظهرُهما : أنه منصوبٌ ب ارْجِعوا على معنى : ارْجِعوا إلى الموقفِ ، إلى حيث أُعطِينا هذا النورَ فالتمِسوه هناك ممَّنْ نقتبس ، أو ارْجِعوا إلى الدنيا فالتمِسوا نوراً بتحصيلِ سببِه وهو الإِيمانُ ، أو فارْجِعوا خائبين وتَنَحَّوْا عنا فالتمسُوا نوراً آخرَ ، فلا سبيلَ لكم إلى هذا النورِ . والثاني : أنَّ " وراءكم " اسمٌ للفعلِ فيه ضميرُ فاعلٍ ، أي : ارْجِعوا ارْجعوا ، قاله أبو البقاء ، ومنع أَنْ يكونَ ظَرْفاً ل ارْجِعوا قال : لقلةِ فائدتِه لأنَّ الرجوعَ لا يكونُ إلاَّ إلى وراء .
(1/5197)
وهذا فاسدٌ؛ لأنَّ الفائدةَ جليلةٌ كما تقدَّم شَرْحُها .
قوله : { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ } العامَّةُ على بنائِه للمفعول . والقائمُ مَقامَ الفاعلِ يجوزُ أَنْ يكونَ " بسورٍ " وهو الظاهرُ ، وأَنْ يكونَ الظرفَ . وقال مكي : " الباءُ مزيدةٌ ، أي : ضُرِب سورٌ " ثم قال : " والباءُ متعلِّقةٌ بالمصدر ، أي : ضرباً بسُور " وهذا متناقضٌ ، إلاَّ أَنْ يكونَ قد غُلِط عليه من النُّسَّاخ ، والأصل " أو الباءُ متعلقةٌ بالمصدر " ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ الظرفُ . وعلى الجملةِ هو ضعيفٌ .
والسُّور : البناءُ المحيطُ . وتقدَّمَ اشتقاقُه أولَ البقرةِ .
قوله : { لَّهُ بَابٌ } مبتدأ وخبرٌ في موضع جرٍّ صفةً ل سُوْر .
قوله : { بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة } هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ في موضعِ جرٍّ صفةً ثانيةً ل " سُوْر " ، ويجوز أن تكونَ في موضع رفعٍ صفةً ل " بابٌ " ، وهو أَوْلَى لقُرْبِه . والضميرُ إنما يعود على الأَقْرب إلاَّ بقرينةٍ .
وقرأ زيد بن علي وعبيد بن عمير " فَضَرَبَ " مبنياً للفاعل وهو اللهُ أو المَلَكَ .
(1/5198)
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)
قوله : { يُنَادُونَهُمْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في " بَيْنهم " قاله أبو البقاء ، وهو ضعيفٌ لمجيءِ الحالِ من المضافِ إليه في غيرِ المواضعِ المستثناةِ ، وأَنْ تكونَ مستأنفةً ، وهو الظاهرُ .
قوله : { أَلَمْ نَكُن } يجوزُ أَنْ يكونَ تفسيراً للنداءِ ، وأَنْ يكونَ منصوباً بقولٍ مقدرٍ .
قوله : { الغرور } قراءةُ العامَّة بفتح الغَيْن ، وهو صفةٌ على فَعول ، والمرادُ به الشيطانُ . وقرأ سماك بن حرب " الغُرور " بالضم ، وهو مصدرٌ ، وتقدَّم نظيرُه .
(1/5199)
فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
قوله : { فاليوم } : منصوبٌ ب " يُؤْخَذُ " . ولا يُبالَى ب " لا " النافيةِ ، وهو قولُ الجمهورِ . وقد تقدَّم أولَ هذا الموضوعَ أخرَ الفاتحةِ أنَّ فيها ثلاثةَ أقوالٍ . وقرأ ابن عامر " تُؤْخَذُ " بالتأنيثِ للفظِ الفِدْية . والباقون بالياء مِنْ تحت؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ وللفَصْلِ .
قوله : { هِيَ مَوْلاَكُمْ } يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً ، أي : ولايتكم ، أي : ذاتُ وِلايتكم . وأَنْ يكونَ مكاناً ، أي : مكانَ ولايتكم ، وأَنْ يكونَ بمعنى أَوْلَى بكم ، كقولك : هو مَوْلاه . وبئس المصيرُ ، أي : هي .
(1/5200)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)
قوله : { أَن تَخْشَعَ } : فاعلُ " يَأْنِ " ، أي : ألم يَقْرُبْ خشوعُ قلوبِهم . واللامُ قال أبو البقاء : " للتبيين " فعلى هذا تتعلَّق بمحذوفٍ ، أي : أَعْني الذينَ ، ولا حاجةَ إليه . والعامة " أَلَمْ " . والحسن وأبو السَّمَّال " ألَمَّا " وقد عَرَفْتَ الفرقَ بين الحرفين ممَّا تقدَّم . والعامَّةُ أيضاً " يَأْنِ " مضارعَ أنَى ، أي : حان وقَرُبَ مثل : رمى يَرْمي . والحسن " يَئِنْ " مضارع آن بمعنى حانَ أيضاً مثل : باع يبيع .
قوله : { وَمَا نَزَلَ } قرأ نافع وحفص " نَزَل " مخففاً مبنياً للفاعلِ . وباقي السبعةِ كذلك إلاَّ أنه مشدَّدٌ . والجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمروٍ في روايةٍ " نُزِّلَ " مشدَّداً مبنياً للمفعولِ . وعبد الله " أَنْزَل " مبنياً للفاعلِ هو الله تعالى . و " ما " في " ما نَزَلَ " مخففاً يتعيَّنُ أَنْ تكونَ اسميةً . ولا يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً؛ لئلا يَخْلو الفعلُ من الفاعل ، وما عداها يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً ، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي . فإن قلتَ : وقراءةُ الجحدريِّ ومَنْ معه ينبغي أَنْ تكونَ فيها اسميةً ، لئلا يخلوَ الفعلُ مِنْ مرفوعٍ . فالجواب : أنَّ الجارَّ وهو قولُه " من الحق " يقوم مَقامَ الفاعل .
والعامَّةُ على الغيبة في " ولا يَكونوا " جَرْياً على ما تقدَّم . وأبو حيوة وابنُ أبي عبلة بالتاء مِنْ فوقُ على سبيل الالتفات . ثم هذا يُحْتمل أَنْ يكونَ منصوباً عطفاً على " تَخْشَعَ " كما في قراءةِ الغَيْبة وأَنْ يكونَ نهياً ، فتكونَ " لا " ناهيةً والفعلُ مجزومٌ بها . ويجوزُ أَنْ يكونَ نهياً في قراءة الغَيْبة أيضاً ، ويكونُ ذلك انتقالاً إلى نهيِ أولئك المؤمنين عن كونِهم مُشْبِهين لمَنْ تَقَدَّمهم نحو : لا يَقُمْ زيدٌ .
قوله : { الأمد } العامَّةُ على تخفيف الدال بمعنى العامَّة كقولك : أَمَدُ فلانٍ ، أي : غايتُه . وابن كثير في روايةٍ بتشديدِها وهو الزمنُ الطويلُ .
(1/5201)
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)
قوله : { المصدقين والمصدقات } : خَفَّفَ الصاد منها ابنُ كثير وأبو بكر ، وثَقَّلها باقي السبعة . فقراءةُ ابنِ كثيرٍ من التصديق ، أي : صَدَّقوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به كقولِه تعالى : { والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ } [ الزمر : 33 ] ، وقراءةُ الباقين من الصدقة وهو مناسِبٌ لقولِه " وأَقْرَضوا " والأصل : المُتَصَدِّقين والمتُصدِّقات فَأَدْغَمَ ، وبها قرأ أُبَيٌ . وقد يُرَجَّحُ الأولُ . بأنَّ الإِقراضَ مُغْنٍ عن ذِكْرِ الصدقة .
قوله { وَأَقْرَضُواْ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه معطوفٌ على اسم الفاعلِ في " المُصَّدِّقين " لأنَّه لمَّا وقع صلةً لأل حَلَّ مَحَلَّ الفعلِ ، فكَأنَّه قيل : إن الذين صَدَّقوا وأَقْرضوا ، وعليه جمهورُ المُعربين . وإليه ذهب الفارِسيُّ والزمخشري وأبو البقاء . وهو فاسدٌ لأنه يَلْزَمُ الفصلُ بين أَبْعاضِ الصلة بأجنبي . ألا ترى أنَّ " المُصَّدِّقات " عطفٌ على " المصَّدِّقين " قبل تمام الصلةِ ، ولا يجوز أن يكونَ عطفاً على المُصَّدِّقاتِ لتغايُرِ الضمائرِ تذكيراً وتأنيثاً .
الثاني : أنه معترضٌ بين اسم " إنَّّ " وخبرها وهو " يُضاعَفُ " . قال أبو البقاء : " وإنما قيل ذلك لئلاَّ يُعْطفَ الماضي على اسم الفاعل " ولا أَدْري ما هذا المانعُ؟ لأنَّ اسمَ الفاعلِ متى وقع صلةً لأل صَلَحَ للأزمنةِ الثلاثة ، ولو مَنَع بما ذكَرْتُه من الفصلِ بالأجنبي لأصابَ ، ولكن خَفي عليه كما خَفي على مَنْ هو أكبرُ منه : الفارسيُّ والزمخشريُّ .
الثالث : أنه صلةٌ لموصولٍ محذوفٍ لدلالةِ الأول عليه كأنه قيل : والذين أَقْرضوا كقولِه :
4234 أَمَنْ يَهْجُو رسولَ اللَّهِ مِنْكُمْ ... ويَمْدَحُه ويَنْصُرُه سَواءُ
أي : ومَنْ ينصُرُه واختاره الشيخ : وهذا قد عَرَفْتَ ما فيه في أوائلِ هذا التصنيفِ .
قوله { يُضَاعَفُ لَهُمْ } القائم مقامَ الفاعلِ فيه وجهان ، أحدهما : وهو الظاهرُ أنَّه الجارُّ بعده . والثاني : أنَّه ضميرُ التصديقِ ، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ ، أي : ثوابُ التصديق .
(1/5202)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
قوله : { والذين آمَنُوا } : [ مبتدأ ] و " أولئك " مبتدأ ثان و " هم " يجوز أَنْ يكونَ مبتدأ ثالثاً و " الصِّدِّيقون " خبرُه ، وهو مع خبرِه خبرُ الثاني ، والثاني وخبرُهُ خبرُ الأول . ويجوزُ أَنْ يكون " هم " فصلاً فأولئك وخبرُه خبرُ الأول .
قوله { والشهدآء } يجوز فيه وجهان : أنه معطوفٌ على ما قبلَه ، ويكون الوقفُ على الشهداء تاماً . أخبر عن الذين آمنوا أنهم صِدِّيقون شهداءُ . فإنْ قيل : الشهداءُ مخصوصون بأوصافٍ أُخَرَ زائدةٍ على ذلك كالسبعَةِ المذكورين . أجيب : بأنَّ تَخْصِيصَهم بالذِّكْر لشَرَفِهم على غيرِهم لا للحَصْر .
والثاني : أنه مبتدأٌ ، وفي خبرِه وجهان ، أحدهما : أنه الظرفُ بعده . والثاني : أنه قولُه " لهم أَجْرهُم " إمَّا الجملةُ ، وإمَّا الجارُّ وحدَه ، والمرفوع فاعلٌ به . والوقفُ لا يَخْفَى على ما ذكَرْتُه من الإِعراب .
والصِّدِّيقُ : مثالُ مبالغةٍ ، ولا يجيءُ إلاَّ من ثلاثيٍ غالباً . قال بعضُهم : وقد جاء " مِسِّيك " مِنْ أمَسْك . وهو غَلَطٌ لأنه يقال : مَسَك ثلاثياً فمِسِّيك منه .
(1/5203)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
قوله : { وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ } : العامَّةُ على تنوين " تَفاخُرٌ " موصوفٌ بالظرفِ أو عاملٌ فيه ، والسُّلميُّ أضافه إليه .
قوله : { كَمَثَلِ غَيْثٍ } يجوزُ أنَّ يكونَ في موضعِ نصبٍ حالاً من الضمير في " لَعِبٌ " لأنه بمعنى الوصفِ ، وأَنْ يكونَ خبراً لمبتدأ محذوف ، أي : ذلك كمثَل . وجَوَّزَ ابن عطية أَنْ يكونَ في موضعِ رفع صفةً لِما تقدَّم . ولم يُبَيِّنْه مكي فقال : " نعت ل تَفاخُر " . وفيه نظرٌ لتخصيصه له مِنْ بين ما تقدَّم . وجَوَّزَ أَنْ يكون خبراً بعد خبر للحياة الدنيا .
وقُرِىء " مُصْفارَّاً " مِنْ اصفارَّ وهي أبلغُ مِنْ اصْفَرَّ .
قوله : { وَفِي الآخرة } خبرٌ مقدمٌ وما بعده مبتدأ . أخبر أنَّ في الآخرةِ عذاباً شديداً ، ومغفرةً منه ورضواناً ، وهذا معنىً حسنٌ ، وهو أنه قابل العذابَ بشيئين : بالمغفرة والرضوان فهو من باب " لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَين " .
(1/5204)
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
قوله : { عَرْضُهَا كَعَرْضِ } : مبتدأٌ وخبرٌ . والجملةُ صفةٌ لجنة وكذلك " أُعِدَّتْ " . ويجوزُ أَنْ يكونَ " أَعِدَّتْ " مستأنفةٌ .
(1/5205)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)
قوله : { مِن مُّصِيبَةٍ } : فاعلُ " أصاب " . و " مِنْ " مزيدةٌ لوجودِ/ الشرطين . وذَكَّر فعلَها لأنَّ التأنيث مجازيُّ .
قوله { فِي الأرض } يجوزُ أَنْ يتعلَّق ب أصاب ، وأَنْ يتَعلَّقَ بنفسِ " مصيبةٍ " ، وأَنْ يتَعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لمصيبة وعلى هذا فيَصْلُح أَنْ يُحْكَمَ على موضِعه بالجرِّ نظراً إلى لفظِ موصوفِه وبالرفعِ نظراً إلى مَحَلِّه ، إذ هو فاعلٌ . والمُصيبة غَلَبَتْ في الشر . وقيل : المرادُ بها جميعُ الحوادثِ مِنْ خيرٍ وشرٍ ، وعلى الأول يُقال : لِمَ ذُكِرَتْ دون الخير؟ وأجيب : بأنه إنَّما خَصَّصها بالذِّكْرِ لأنها أهمُّ على البشر .
قوله { إِلاَّ فِي كِتَابٍ } حال مِنْ " مصيبة " ، وجاز ذلك وإنْ كانت نكرةً لتخصُّصِها : إمَّا بالعملِ أو بالصفةِ ، أي : إلاَّ مكتوبةً .
قوله { مِّن قَبْلِ } نعتٌ ل كتاب ، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ به قاله أبو البقاء؛ لأنه هنا اسمٌ للمكتوبِ ، وليس بمصدرٍ . والضمير في " نَبْرَأَها " الظاهرُ عَوْدُه على المصيبة . وقيل : على الأنفس . وقيل : على الأرض أو على جميع ذلك ، قاله المهدويُّ ، وهو حسنٌ .
(1/5206)