الكتاب : الدر المصون في علم الكتاب المكنون
المؤلف : السمين الحلبي
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73)
قوله تعالى : { تالله } : التاءُ حرفُ قسمٍ ، وهي عند الجمهور بدلٌ من واو القسم ، ولذلك لا تدخُل إلا على الجلالةِ المقدسة أو الرب مضافاً للكعبة أو الرحمن في قولٍ ضعيف . ولو قلت : تالرحيم لم يَجُزْ . وهي فرع الفرع . هذا مذهبُ الجمهور ، وزعم السهيلي أنها أصل بنفسها ويلازِمُها التعجبُ غالباً كقوله تعالى : { تَالله تَفْتَؤُاْ } [ يوسف : 85 ] .
وقال ابن عطية : " والتاء في " تاللَّه " بدلٌ من واو ، كما أُبْدِلت في " تُراث " وفي " التوراة " وفي " التُّخَمَة " ، ولا تدخل التاء في القسم ، إلا في المكتوبة من أسماء اللَّه تعالى وغيره ذلك ، لا تقول : تالرحمن ، وتالرحيم " . وقد عرفْتَ أنَّ السهيلي خالَفَ في كونها بدلاً من واو . وأمَّا قولُه : " وفي التوراة " يريد عند البصريين . وزَعَمَ بعضُهم أنَّ التاء فيها زائدة . وأمَّا قوله : " إلا في المكتوبة " هذا هو المشهور . وقد تقدَّم دخولُها على غير ذلك .
قوله : { وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } يُحْتمل أن يكونَ جواباً للقسم ، فيكونون قد أَقْسموا على شيئين : نَفْيِ الفساد ونَفْيِ السَّرِقة .
وقوله : { مَّا جِئْنَا } يجوز أَنْ يكونَ مُعَلِّقاً للعلم ، ويجوز أن يُضَمَّنَ العلمُ نفسُه معنى القسم فيجاب بما يُجاب القسم . وقيل : هذان الوجهان في قولِ الشاعر :
2811 ولقد عَلِمْتُ لَتَأْتِيَنَّ مَنِيَّتي ... إنَّ المَنايا لا تَطيشُ سِهامُها
(1/2596)

قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74)
قوله تعالى : { فَمَا جَزَآؤُهُ } : الهاء تعودُ على الصُّواع ، ولا بد من حَذْفِ مضاف أي : فما جزاءُ سَرِقته . و " إنْ كنتم " يجوز أن يكونَ جوابُه محذوفاً أو متقدِّماً .
(1/2597)

قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75)
قوله تعالى : { جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ } : أربعةُ أوجه ، أحدها : أن يكونَ " جزاؤه " مبتدأً والضميرُ للسارق ، و " مَنْ " شرطية أو موصولةٌ مبتدأٌ ثانٍ ، والفاءُ جوابُ الشرط أو مزيدةٌ في خبر الموصول لشبهه بالشرط ، و " مَنْ " وما في حَيِّزها على وَجْهَيْها خبر المبتدأ الأول ، قاله ابن عطية ، وهو مردودٌ بعدم رابطٍ بين المبتدأ وبين الجملةِ الواقعةِ خبراً عنه ، هكذا رَدَّه الشيخُ عليه . وليس بظاهر؛ لأنه يُجاب عنه بأنَّ هذه المسألةَ من باب إقامة الظاهرِ مُقامَ المضمرِ ، وَيَتَّضِحُ هذا بتقرير الزمخشري قال رحمه اللَّه : " ويجوز أن يكونَ " جزاؤه " مبتدأً ، والجملةُ الشرطية كما هي خبره ، على إقامة الظاهر فيها مُقَامَ المضمر . والأصل : جزاؤه مَنْ وُجِدَ في رحله فهو هو ، فوضع الجزاء موضِعَ " هو " كما تقول لصاحبك : مَنْ أخو زيد؟ فيقول لك : " أخوه مَنْ يقعد إلى جنبه ، فهو هو " يرجع الضمير الأول إلى " مَنْ " والثاني [ إلى ] الأخ ، ثم تقول : فهو أخوه ، مقيماً للمظهر مقام المضمر " .
والشيخ جعل هذا الذي حكيته عن الزمخشري وجهاً ثانياً بعد الأول ولم يَعْتقدْ أنه هو بعينه ، ولا أنَّه جوابٌ عَمَّا رَدَّ به على ابن عطية . ثم قال : " ووَضْعُ الظاهرِ موضعَ المضمر للربط إنما هو فصيح في مواضع التفخيم والتأويل ، وغير فصيحٍ فيما سوى ذلك نحو : زيدٌ قام زيد ، ويُنَزَّه عنه القرآنُ ، قال سيبويه : " لو قلت : " كان زيدٌ منطلقاً زيد " لم يكن حَدَّ الكلام ، وكان ههنا ضعيفاً ولم يكنْ كقولِك : ما زيدٌ منطلقاً هو لأنك قد اسْتَغْنَيْتَ عن إظهاره ، وإنما ينبغي لك أن تُضْمِرَه " . قلت : ومذهب الأخفش أنه جائزٌ مطلقاً وعليه بنى الزمخشري .
وقد جَوَّز أبو البقاء ما تَوَهَّم أنه جواب عن ذلك فقال : " والوجه الثالث : أن يكونَ " جزاؤه " مبتدأً ، و " مَنْ وُجد " مبتدأ ثان ، و " فهو " مبتدأٌ ثالث ، و " جزاؤه " خبر الثالث ، والعائد على المبتدأ الأول الهاء الأخيرة ، وعلى الثاني " هو " انتهى . وهذا الذي ذكره أبو البقاء لا يَصِحُّ ، إذ يصير التقديرُ : فالذي وُجِدَ في رَحْله جزاء الجزاء؛ لأنه جَعَل " هو " عبارةً عن المبتدأ الثاني ، وهو { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } ، وجعل الهاءَ الأخيرةَ وهي التي في " جزاؤه " الأخير عائدةً على " جزاؤه " الأولِ ، وصار التقديرُ كما ذكَرْتُه لك .
الوجه الثاني من الأوجه المتقدمة : أن يكون " جزاؤه " مبتدأً ، والهاءُ تعود على المسروق ، و { مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ } خبره ، و " مَنْ " بمعنى الذي ، والتقدير : جزاء الصُّواع الذي وُجد في رَحْله ، كذلك كانت شريعتُهم : يُسْتَرَقُّ السارق ، فلذلك اسْتُفْتوا في جزائه .
(1/2598)

وقوله " فهو جزاؤه " تقرير للحكم أي : فَأَخْذُ السارقِ نفسِه هو جزاؤه لا غير كقولك : حَقُّ زيدٍ أن يكسى ويُطْعَمَ ويُنْعَمَ عليه ، فذلك حَقُّه " أي فهو حَقُّه لِتُقَرِّرَ/ ما ذكرْتَه مِن استحقاق وتُلْزِمَه ، قاله الزمخشري . ولمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ قال : " والتقدير استعبادُ مَنْ وُجِد في رَحْله ، وقوله : " فهو جزاؤه " مبتدأ وخبر ، مؤكِّد لمعنى الأول " .
ولمَّا ذَكَر الشيخُ هذا الوجهَ ناقلاً له عن الزمخشري قال : " وقال معناه ابن عطية ، إلا أنه جعل القول الواحد قولين ، قال : " ويَصِحُّ أن يكونَ " مَنْ " خبراً على أن المعنى : جزاءُ السارق مَنْ وُجِد في رَحْله ، عائد على " مَنْ " ويكون قوله : " فهو جزاؤه " زيادةَ بيانٍ وتأكيدٍ " ، ثم قال : " ويُحتمل أن يكونَ التقدير : جزاؤُه استرقاقُ مَنْ وجِد في رَحْلِه ، وفيما قبله لا بد مِنْ تقديره؛ لأنَّ الذاتَ لا تكونُ خبراً عن المصدر ، فالتقدير في القول قبله : جزاؤه أَخْذُ مَنْ وُجِد في رَحْله أو استرقاقه ، هذا لا بد منه على هذا الإِعراب " قلت : وهذا كما قال الشيخُ ظاهره أنه جَعَل القول الواحد قولين .
الوجه الثالث مِن الأوجه المتقدِّمة : أن يكون " جزاؤه " خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي : المسؤول عنه جزاؤه ، ثم أَفْتَوا بقولهم : " مَنْ وُجِد في رَحْله فهو جزاؤه " كما يقول مَنْ يَسْتفتي في جزاء صيد المُحْرِم : جزاءُ صيد المُحْرِم ، ثم يقول : { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } [ المائدة : 95 ] ، قاله الزمخشري . قال الشيخ : " وهو متكلف إذ تصير الجملة من قوله : " المسؤول عنه جزاؤه " على هذا التقدير ليس فيه كبيرُ فائدة؛ إذ قد عُلِمَ مِنْ قوله : " فما جزاؤه " أن الشيء المسؤولَ عنه جزاءُ سَرِقته ، فأيُّ فائدةٍ في نُطْقهم بذلك؛ وكذلك القول في المثال الذي مَثَّل به مِنْ قول المستفتي " .
قلت : قوله : " ليس فيه كبيرُ فائدة " ممنوعٌ بل فيه فائدةُ الإِضمار المذكور في علم البيان ، وفي القرآن أمثالُ ذلك .
الوجه الرابع : أن يكونَ " جزاؤه " مبتدأ ، وخبرُه محذوف تقديره : جزاؤه عندنا كجزائِه عندكم ، والهاءُ تعودُ على السارق أو على المسروق ، وفي الكلام المتقدم دليلٌ عليهما ، ويكون قولُه : " مَنْ وُجِدَ في رَحْله فهو جزاؤه على ما تقدَّم في الوجه الذي قبله ، وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء ، ولم يذكرْه الشيخ ، فقد جَعَلَ في الآية الكريمة أربعة أوجهٍ ، وتقدَّم أن الأولَ والثاني وَجْهٌ كما بَيَّنْتُه ، فإذا ضَمَمْنا هذا الوجهَ الأخيرَ الذي بدأ به أو البقاء إلى الأربعةِ التي ذكرها الشيخُ صارت خمسةً ، ولكن لا تحقيقَ لذلك ، وكذلك إذا التفَتْنا إلى قول ابن عطية في جَعْلِه القولَ الواحدَ قولين تصيرُ ستةً في اللفظ ، فإذا حَقَّقَتْها لم تجِىءْ إلا أربعةً كما ذكرتها لك .
قوله : { كذلك نَجْزِي الظالمين } محل الكاف نصب : إمَّا على أنها نعتٌ لمصدر محذوف ، وإمَّا حالٌ من ضميره ، أي : مثلَ ذلك الجزاءِ الفظيع نجزي الظالمين .
(1/2599)

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
وقرأ العامَّة : " وِعاء " بكسر الواو ، وقرأ الحسن بضمها ، وهي لغةٌ نُقِلَتْ عن نافع أيضاً . وقرأ سعيد بن جبير " مِنْ إعاء " بإبدالِ الواوِ همزةً ، وهي لغة هُذَيْلية : يُبْدلون من الواو المكسورة أولَ الكلمة همزة فيقولون : إشاح وإسادة وإعاء في : وشاحٍ ووِسادة ووِعاء . وقد تقدَّم ذلك في الجلالةِ المعظمة أولَ هذا الموضع .
قوله : { ثُمَّ استخرجها } في الضمير المنصوب قولان ، أحدهما : أنه عائدٌ على الصُّواع ، لأنَّ فيه التذكيرَ والتأنيثَ كما تقدم . وقيل : بل لأنه حُمِل على معنى السقاية . وقال أبو عبيد : " يؤنَّث الصُّواع من حيث يُسَمَّى " سقاية " ، ويُذكَّر من حيث هو صُواع " . قالوا : وكأنَّ أبا عبيد لم يَحْفظْ في الصُّواع التأنيثَ . وقال الزمخشري : " قالوا : رَجَع بالتأنيث على السِّقاية " ثم قال : " ولعل يوسف كان يُسَمِّيه " سِقاية " وعبيدَهُ " صُواعاً " فقد وقع فيما يتصل به من الكلام سقاية ، وفيما يتصل بهم صواع " . قلت : هذا الأخيرُ حَسَنٌ .
الثاني : أن الضميرَ عائدٌ على السَّرِقة . وفيه نظر؛ لأن السِّرقة لا تُسْتخرج ، إلا بمجازٍ .
قوله : { كذلك كِدْنَا } الكلامُ في الكاف كالكلام فيما قبلها أي : مثلَ ذلك الكَيْدِ العظيم كِدْنا ليوسُفَ أي : عَلَّمْناه إياه . وقوله : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ } تفسيرُ للكيد وبيان له ، وذلك أنه كان في دينِ مَلِك مِصْرَ أن يُغَرَّمَ السارقُ مِثْلَيْ ما أَخَذَ ، لا أنه يُلْزَمُ ويُسْتَعْبَدُ .
قوله : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } فيه وجهان أحدهما : أنه استثناءٌ منقطعٌ تقديرُه : ولكن بمشيئة اللَّه أَخَذَه في دين غيرِ الملك ، وهو دينُ آلِ/ يعقوب : أن الاسترقاقَ جزاءُ السارق . الثاني : أنه مفرغٌ من الأحوال العامة ، والتقدير : ما كان ليأخذَه في كل حال إلا في حال التباسِه بمشيئة اللَّه أي إذنه في ذلك . وكلامُ ابنِ عطية مُحْتَمِلٌ فإنه قال : " والاستثناء حكاية حال ، التقدير : إلا أن يَشاء اللَّه ما وقع من هذه الحيلة " .
وتقدَّم القراءتان في { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ } [ الآية : 83 ] في الأنعام . وقرأ يعقوب بالياء مِنْ تحت في " يرفع " و " يشاء " ، والفاعل اللَّه تعالى : وقرأ عيسى البصرة " نَرْفع " بالنون " درجات " منونة ، " يشاء " بالياء . قال صاحب " اللوامح " : " وهذه قراءةٌ مرغوبٌ عنها تلاوةً وجملة ، وإن لم يمكنْ إنكارُها " قلت : وتوجيهُها : أنه التفتَ في قولِه " يشاء " من التكلم إلى الغَيْبة ، والمرادُ واحد .
قوله : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } قرأ عبد اللَّه بن مسعود " وفوق كل ذي عالم " وفيها ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أن يكون " عالم " هنا مصدراً ، قالوا : مثل " الباطل " فإنه مصدرٌ فهي كالقراءة المشهورة . الثاني : أنَّ ثَمَّ مضافاً محذوفاً تقديرُه : وفوقَ كلِّ ذي مُسَمَّى عالم ، كقول لبيد :
2812 إلى الحَوْلِ ثم اسمِ السَّلامِ عليكما ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : مُسَمَّى السلام . الثالث : أنَّ " ذو " زائدة ، كقول الكميت :
2813 إليكم ذوي آلِ النبيِّ . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت .
(1/2600)

قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
قوله تعالى : { فَقَدْ سَرَقَ } : الجمهور على " سَرَق " مخففاً مبيناً للفاعل . وقرأ أحمد بن جبير الأنطاكي وابن أبي شريح عن الكسائي والوليد بن حسان عن يعقوب في آخرين " سُرِّق " مشدداً مبنياً للمفعول أي : نُسِب إلى السَّرِقة . وفي التفسير : أنَّ عَمَّته رَبَّتْه فأخذه أبوه منها ، فَشَدَّت في وَسَطِه مِنْطَقَة كانوا يتوارثونها من إبراهيم عليه السلام ففتَّشوا فوجدوها تحت ثيابه . فقال : هو لي فَأَخَذَتْه كما في شريعتهم ، وهذه القراءةُ منطبقة على هذا .
قوله : { فَأَسَرَّهَا } الضميرُ المنصوبُ مفسَّر بسياق الكلام أي : فَأَسَرَّ الحزازة التي حَصَلَتْ له مِنْ قولهم { فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ } كقول الشاعر :
2814 أما وِيَّ ما يُغْني الثَّراء عن الفتى ... إذا حَشْرَجَتْ يوماً وضاق بها الصدرُ
والضمير في " حَشْرَجَتْ " يعود على النفس ، كذا ذكره الشيخ ، وقد جعل البيتَ مِمَّا فُسِّر فيه الضميرُ بذِكْر ما هو كلٌّ لصاحب الضمير ، فلا يكون مما فُسِّر فيه بالسياق . ولتحقيق هذا موضعٌ آخرُ .
وقال الزمخشري : " إضمارٌ على شريطة التفسير ، تفسيره { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } ، وإنما أنَّثَ لأنَّ قولَه " شَرٌ مكاناً " جملة أو كلمةٌ على تسميتهم الطائفة من الكلام كلمة ، كأنه قيل : فَأَسَرَّ الجملةَ أو الكلمةَ التي هي قولُه : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } ، لأنَّ قولَه : { قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً } بدلٌ مِنْ أَسَرَّها " . قلت : وهذا عندَ مَنْ يُبْدل الظاهرَ من المضمر في غير المرفوع نحو : ضربته زيداً ، والصحيح وقوعه ، كقوله :
2815 فلا تَلُمْهُ أن يَخافَ البائسا ... وقرأ عبد اللَّه وابن أبي عبلة : " فَأَسَرَّه " بالتذكير . قال الزمخشري : " يريد القول أو الكلام " . وقال أبو البقاء : " المضمر يعود إلى نِسْبتهم إياه إلى السَّرقة ، وقد دَلَّ عليه الكلامُ ، وقيل : في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ تقديرهُ : قال في نفسه : أنتم شرٌّ مكاناً ، وأَسَرَّها أيْ هذه الكلمةَ " . قلت : ومِثْلُ هذا يَنْبغي أن لا يُقال : فإنَّ القرآنَ يُنَزَّهُ عنه .
قوله : { مَّكَاناً } تمييزٌ أي : منزلةً من غيركم .
(1/2601)

قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
قوله تعالى : { مَكَانَهُ } : فيه وجهان أحدهما : وهو الظاهر أنَّ " مكانَه " نصب على الظرفِ ، والعامل فيه " خُذْ " . والثاني : أنه ضَمَّن " خُذْ " معنى " اجْعَلْ " فيكونُ " مكانَه " في محل المفعول الثاني . وقال الزمخشري : " فَخُذْه بَدَلَه على جهةِ الاسترهان أو الاستبعاد " .
(1/2602)

قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
قوله تعالى : { إِنَّآ إِذاً } : هذه حرفُ جوابٍ وجزاء ، وتقدم الكلامُ على أحكامِها .
(1/2603)

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80)
قوله تعالى : { استيأسوا } : استفعل هنا بمعنى فَعِل المجرد يقال : يَئِس واستيئس بمعنىً ، نحو عَجِب واستعجب ، وسَخِر واستخسر . وقال الزمخشري : " وزيادة السين والتاء في المبالغة نحو ما مَرَّ في " استعصم " .
وقرأ البزي عن ابن كثير بخلافٍ عنه " اسْتَاْيَسوا " بألفٍ بعد التاء ثم ياء ، وكذلك في هذه السورة : " لا تايَسوا " ، إنه لا يايَس ( إذا اسْتايَسَ الرسلُ ) ، وفي الرعد : ( أفلم يايَسِ الذين ) الخلافُ واحد . فأمَّا قراءةُ العامة فهي الأصل إذ يُقال : يَئِس ، فالفاء ياء ، والعين همزة ، وفيه لغةٌ أخرى وهي القلبُ بتقديم العين على الفاء فيقال : أَيِس ، ويدلُّ على ذلك شيئان ، أحدُهما : المصدرُ الذي هو اليَأْس . والثاني : أنه لو لم يكنْ مقلوباً لَلَزِم قَلْبُ الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ، ولكنْ مَنَعَ من ذلك كونُ الياء في موضعٍ لا تُعَلَّ فيه ما وقعَتْ موقعَه ، وقراءةُ ابن كثير من هذا ، ولمَّا قَلَبَ الكلمةَ أَبْدَلَ مِن الهمزة ألفاً لسكونها بعد فتحة إذ صارَتْ كهمزة رَأْس وكأس ، / وإنْ لم يكنْ مِنْ أصله قَلْبُ الهمزة الساكنة حرفَ علة ، وهذا كما تقدم أنه يقرأ " القرآن " بالألف ، وأنه يُحْتمل أنْ يكون نَقَل حركة الهمزة وإن لم يكنْ من أصلِه النقلُ .
وقال أبو شامة بعد أن ذكر هذه الكلماتِ الخمسَ التي وقع فيها الخلافُ : " وكذلك رُسِمَتْ في المصحف " يعني كما قرأها البزي ، يعني بألفٍ مكان الياء وبياء مكان الهمزة . وقال أبو عبد اللَّه : " واختلفَتْ هذه الكلمات في الرسم فَرُسِمَ " يابَس " " ولا تايَسُوا " بالألف ، ورُسِم الباقي بغير ألف " قلت : وهذا هو الصوابُ ، وكأنها غَفْلَةٌ حَصَلَتْ من أبي شامة رحمه اللَّه .
قوله : { نَجِيَّاً } حال مِنْ فاعل " خَلَصوا " أي : اعتزلوا في هذه الحالِ ، وإنما أُفْرِدَت الحالُ وصاحبُها جَمْعٌ : إمَّا لأنَّ النَّجِيَّ فَعِيل بمعنى مُفاعِل كالعشير والخليط بمعنى المُخالطِ والمُعاشِر ، كقوله : { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } [ مريم : 52 ] أي : مُناجِياً ، وهذا في الاستعمال يُفْرَدُ مطلقاً ، يقال : هم خليطُكَ وعَشيرُكَ أي : مُخالِطوك ومُعاشِروك ، وإمَّا لأنَّه صفةٌ على فَعِيل بمنزلة صَديق ، وصديق وبابُه يُوحَّدُ لأنه بزِنَةِ المصادر كالصَّهيل والوَجيب والذَّمِيل ، وإمَّا لأنه مصدر بمعنى التناجي كما قيل : النجوى بمعناه ، قال تعالى : { وَإِذْ هُمْ نجوى } [ الإسراء : 47 ] ، وحينئذ يكون فيه التأويلاتُ المذكورةُ في " رجل عَدْل " وبابه ، ويُجمع على " أَنْجيَة " ، وكان مِنْ حَقِّه إذا جُعِل وصفاً أن يُجْمع على أفْعِلاء كغَنِيّ وأَغْنِياء وشَقِيّ وأَشْقِياء . ومِنْ مجيئه على أَنْجية قولُ الشاعر :
2816 إنِّي إذا ما القومُ كانوا أَنْجِيَهْ ... وقول الآخر وهو لبيد :
2817 وشَهِدْتُ أَنْجِيَةَ الأَفَاقةِ عالياً ... كَعْبي وأَرْدَافُ المُلوكِ شُهودُ
(1/2604)

وجَمْعُه كذلك يُقَوِّي كونَه جامداً ، إذ يصير كرغيف وأَرْغِفَة .
قوله : { وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ } في هذه الآيةِ وجوهٌ ستة ، أحدها : وهو الأظهر أنَّ " ما " مزيدةٌ ، فيتعلَّقُ الظرفُ بالفعل بعدها ، والتقدير : ومِنْ قبلِ هذا فَرَّطْتم ، أي : قَصَّرْتُمْ في حَقِّ يوسف وشأنِه ، وزيادةُ " ما " كثيرةٌ ، وبه بدأ الزمخشري وغيرُه .
الثاني : أن تكونَ " ما " مصدريةً في محلِّ رفع بالابتداء ، والخبرُ الظرف المتقدم . قال الزمخشري : " على أنَّ محلَّ المصدرِ الرفعُ بالابتداء ، والخبرُ الظرفُ ، وهو " مِنْ قبل " ، والمعنى : وقع مِنْ قَبْل تفريطكم في يوسف ، وإلى هذا نحا ابنُ عطية أيضاً فإنه قال : " ولا يجوز أن يكونَ قوله " مِنْ قَبلُ " متعلقاً ب " ما فَرَّطْتُمْ " ، وإنما تكونُ على هذا مصدريةً ، والتقدير : مِنْ قبلُ تفريطُكم في يوسف واقعٌ أو مستقرٌ ، وبهذا المقدرِ يتعلَّقُ قولُه " مِنْ قبل " . قال الشيخ : " وهذا وقولُ الزمخشري راجعان إلى معنى واحد وهو أنَّ " ما فَرَّطْتُمْ " يُقَّدرُ بمصدرٍ مرفوعٍ بالابتداء ، و " مِنْ قبل " في موضعِ الخبرِ ، وذَهِلا عن قاعدةٍ عربية وحُقَّ لهما أن يَذْهَلا وهو أن هذه الظروفَ التي هي غاياتُ إذا بُنِيَتْ لا تقع أخباراً للمبتدأ جَرَّتْ أو لم تجرَّ تقول : " يومُ السبت مباركٌ ، والسفر بعده " ، ولا تقول : " والسفر بعدُ ، وعمرو وزيد خلفَه " ، ولا يجوز : " زيد وعمرو خلفُ " وعلى ما ذكراه يكون " تفريطكم " مبتدأً ، و " من قبل " خبر [ وهو مبني ] وذلك لا يجوز ، وهو مقرر في علم العربية " .
قلت : قوله " وحُقَّ لهما أن يَذْهلا " تحاملٌ على هذين الرجلين المعروفِ موضعُهما من العلم . وأمَّا قولُه " إنَّ الظرف المقطوعَ لا يقع خبراً فمُسَلَّمٌ ، قالوا لأنه لا يفيد ، وما لا يفيد فلا يقع خبراً ، ولذا لا يقع صلةً ولا صفةً ولا حالاً ، لو قلت : " جاء الذي قبلُ " ، أو " مررت برجل قبلُ " لم يجز لِما ذكرت . ولقائلٍ أن يقولَ : إنما امتنع ذلك لعدمِ الفائدة ، وعدمُ الفائدة لعدمِ العلمِ بالمضاف إليه المحذوف ، فينبغي إذا كان المضاف إليه معلوماً مَدْلولاً عليه أن يقع ذلك الظرفُ المضافُ إلى ذلك المحذوفِ خبراً وصفةً وصلةً وحالاً ، والآيةُ الكريمة من هذا القبيل ، أعني ممَّا عُلِم فيه المضافُ إليه كما مرَّ تقريره . ثم هذا الردُّ الذي رَدَّ به الشيخ سبقه إليه أبو البقاء فقال : " وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ " قبل " إذا وقعت خبراً أو صلة لا تُقْطع عن الإِضافة لئلا تبقى ناقصة " .
الثالث : أنَّها مصدريةٌ أيضاً في محلِّ رفع بالابتداء ، والخبر هو قولُه : " في يوسف " ، أي : وتفريطكم كائن أو مستقر في يوسف ، وإلى هذا ذهب الفارسي ، كأنه اسْتَشْعر أن الظرفَ المقطوعَ/ لا يقع خبراً فعدل إلى هذا ، وفيه نظر؛ لأنَّ السياقَ والمعنى يجريان إلى تعلُّق " في يوسف " ب " فَرَّطْتُم " فالقولُ بما قاله الفارسي يؤدي إلى تهيئة العامل للعمل وقَطْعِه عنه .
(1/2605)

الرابع : أنها مصدريةٌ أيضاً ، ولكن محلَّها النصبُ على أنها منسوقةٌ على { أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ } ، أي : ألم تعلموا أَخْذَ أبيكم الميثاقَ وتفريطكَم في يوسف . قال الزمخشري : " كأنه قيل : ألم تعلموا أخْذَ أبيكم عليكم موثقاً وتفريطَكم مِنْ قبلُ في يوسف " . وإلى هذا ذهب ابن عطية أيضاً .
قال الشيخ : " وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيد ، لأنَّ فيه الفصلَ بالجارِّ والمجرور بين حرف العطف الذي هو على حرفٍ واحد وبين المعطوف ، فصار نظير : " ضربتُ زيداً وبسيفٍ عمراً " ، وقد زعم أبو علي الفارسي أنه لا يجوز ذلك إلا في ضرورة الشعر " . قلت : " هذا الردُّ أيضاً سبقه إليه أبو البقاء ولم يَرْتَضِه وقال : " وقيل : هو ضعيف لأنَّ فيه الفصلَ بين حرف العطف والمعطوف ، وقد بَيَّنَّا في سورة النساء أنَّ هذا ليس بشيء " . قلت : يعني أنَّ مَنْعَ الفصل بين حرف العطف والمعطوف ليس بشيء ، وقد تقدَّم إيضاح ذلك وتقريرُه في سورة النساء كما أشار إليه أبو البقاء .
ثم قال الشيخ : " وأمَّا تقديرُ الزمخشري " وتفريطكم من قبل في يوسف " فلا يجوزُ لأنَّ فيه تقديمَ معمولِ المصدر المنحلِّ لحرفٍ مصدري والفعل عليه ، وهو لا يجوز " . قلت : ليس في تقدير الزمخشري شيءٌ من ذلك؛ لأنه لَمَّا صَرَّح بالمقدَّر أخَّر الجارَّيْن والمجرورَيْن عن لفظِ المصدر المقدر كما ترى ، وكذا هو في سائر النسخ ، وكذا ما نقله الشيخ عنه بخطه ، فأين تقديم المعمول على المصدر؟ ولو رَدَّ عليه وعلى ابن عطية بأنه يلزم مِنْ ذلك تقديمُ معمولِ الصلة على الموصول لكان رَدَّاً واضحاً ، فإنَّ " من قبلُ " متعلقٌ بفَرَّطْتُم ، وقد تقدم على " ما " المصدرية ، وفيه خلافٌ مشهور .
الخامس : أن تكونَ مصدريةً أيضاً ، ومحلُّها نصبٌ عطفاً على اسم " أنَّ " ، أي : ألم تعلموا أنَّ أباكم وأنَّ تفريطكم من قبل في يوسف ، وحينئذٍ يكون في خبر " أنَّ " هذه المقدرة وجهان ، أحدهما وهو " من قبلُ " ، والثاني هو " في يوسف " ، واختاره أبو البقاء ، وقد تقدَّم ما في كلٍ منهما . ويُرَدُّ على هذا الوجه الخامسِ بما رُدَّ به على ما قبله من الفصل بين حرف العطف والمعطوف وقد عُرِف ما فيه .
السادس : أن تكونَ موصولةً اسميةً ، ومحلُّها الرفع أو النَصبُ على ما تقدَّم في المصدرية ، قال الزمخشري : " بمعنى : ومِنْ قبل هذا ما فرَّطتموه ، أي : قَدَّمتموه في حَقِّ يوسف من الجناية ، ومحلُّها الرفع أو النصب على الوجهين " .
(1/2606)

قلت : يعني بالوجهين رفعَها بالابتداء وخبرها " من قبل " ، ونصبَها عطفاً على مفعول " ألم تعلموا " ، فإنه لم يَذْكر في المصدرية غيرَهما . وقد عرْفْتَ ما اعتُرِض به عليهما وما قيل في جوابه . فتحصَّل في " ما " ثلاثة أوجه : الزيادةُ ، وكونُها مصدريةً ، أو بمعنى الذي ، وأنَّ في محلِّها وجهين : الرفعَ أو النصبَ ، وقد تقدم تفصيلُ ذلك كلِّه .
قوله : { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض } " بَرِحَ " هنا تامة ضُمِّنت معنى " أفارق " ف " الأرض " مفعولٌ به ، ولا يجوز أن تكون تامةً من غيرِ تضمين ، لأنها إذا كانت كذلك كان معناها ظهر أو ذهب ، ومنه " بَرِح الخَفاء " ، أي : ظهر أو ذهب ومعنى الظهور لا يليق ، والذهابُ لا يَصِلُ إلى الظرف المخصوص إلا بواسطة " في " تقول : ذهبت في الأرض ، ولا يجوز : ذهبت الأرض ، وقد جاء شيءٌ لا يُقاس عليه . وقال أبو البقاء : " ويجوز أن يكونَ ظرفاً " . قلت : ويحتمل أن يكونَ سقط من النسخ لفظةُ " لا " ، وكان : " ولا يجوز أن تكون ظرفاً " .
واعلمْ أنه لا يجوز في " أبرح " هنا أن تكونَ ناقصة لأنه لا يَنْتَظِم من الضمير الذي فيها ومن " الأرض " مبتدأ أو خبر ، ألا ترى أنك لو قلت : " أنا الأرض " لم يَجُزْ من غير " في "؛ بخلاف " أنا في الأرض " و " زيد في الأرض " .
قوله : { أَوْ يَحْكُمَ الله } في نصبه وجهان ، أحدهما : وهو/ الظاهر عَطْفُه على " يَأْذَن " . والثاني : أنه منصوبٌ بإضمار " أنْ " في جواب النفي وهو قوله " فلن أبرح " ، أي : لن أبرحَ الأرضَ إلا أَنْ يَحْكُم كقولهم : " لأَلْزَمَنَّكَ أو تقضيني حقي " ، أي : إلا أن تقضيني . قال الشيخ : " ومعناه ومعنى الغاية متقاربان " . قلت : وليس المعنى على الثاني ، بل سياقُ المعنى على عطفِه على " يَأْذن " فإنه غيى الأمرَ بغايتين ، أحدهما خاصة ، وهي إِذْن اللَّه ، والثانية عامة؛ لأن إذْنَ اللَّهِ له في الانصراف هو مِنْ حكم اللَّه .
(1/2607)

ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81)
وقرأ العامَّةُ " سَرَقَ " مبنياً للفاعل مخففاً ، وابن عباس وأبو رزين والكسائي في ورايةٍ " سُرِّق " مبنياً للمفعول مشدداً ، وقد تقدَّم توجيههُما .
وقرأ الضحاك " سارِق " جعله اسم فاعل .
(1/2608)

وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
قوله تعالى : { وَسْئَلِ القرية } : يحتمل ثلاثة أوجه ، أحدها : وهو المشهور أنه على حَذْفِ مضاف تقديره : واسأل أهلَ القرية وأهلَ والعير ، وهو مجازٌ شائع . قاله ابن عطية وغيره . قلت : وهذا على خلافٍ في المسألة : هل الإِضمارُ من باب المجاز أو غيرِه؟ المشهورُ أنه قسم منه وعليه أكثر الناس . قال أبو المعالي : " قال بعض المتكلمين : " هذا من الحذفِ وليس من المجاز ، [ وإنما المجاز ] : لفظةٌ استُعِيرَتْ لغير ما هي له " قال : " وحَذْفُ المضاف هو عينُ المجازِ وعُظْمُه ، هذا مذهب سيبويه وغيره " ، وحكى أنه قولُ الجمهور . وقال فخر الدين الرازي : " إنَّ المجازَ والإِضمارَ قسمان لا قسيمان ، فهما متباينان " .
الثاني : أنه مجازٌ ، ولكنه من باب إطلاق اسمِ المحلِّ على الحالِّ للمجاورة كالزاوية .
الثالث : أنه حقيقةٌ لا مجاز فيه ، وذلك أنه يجوز أن يسألَ القريةَ نفسَها والإِبل فتجيبه ، لأنه نبيٌّ يجوز أن ينطق له الجماد والبهائم .
(1/2609)

قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
قوله تعالى : { بَلْ سَوَّلَتْ } : هذا الإِضراب لا بد له من كلامٍ قبلَه متقدَّمٍ عليه يُضْرِب هذا عليه ، والتقدير : ليس الأمر كما ذكرتُمْ حقيقةً بل سَوَّلَتْ . وتقدَّم تفسيرُ مثلِ هذا وما بعده .
(1/2610)

وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
قوله تعالى : { ياأسفى } : الألف منقلبة عن ياء المتكلم وإنما قُلِبَتْ ألفاً؛ لأن الصوتَ معها أَتَمُّ ، ونداؤه على سبيل المجاز ، كأنه قال : هذا أوانكَ فاحضر نحو { ياحسرتا } [ الزمر : 56 ] : وقيل : هذه ألفُ الندبة ، وحُذِفَتْ هاءُ السكت وصلاً . قال الزمخشري : " والتجانسُ بين لفظَتَي الأسف ويوسف ممَّا يقع مطبوعاً غيرَ مُتَعَمَّل فَيَمْلُح ويَبْدُع ، ونحوه : { اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ } [ التوبة : 38 ] { يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } [ الأنعام : 26 ] { يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ } [ الكهف : 104 ] { مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ } [ النمل : 22 ] . قلت : ويُسَمَّى هذا النوع " تجنيس التصريف ، وهو أن تشترك الكلمتان في لفظٍ ويُفَرَّق بينهما بحرفٍ ليس في الأخرى ، وقد تقدَّم .
وقرأ ابن عباس ومجاهد " مِن الحَزَن " بفتحتين ، وقتادة بضمتين ، والعامَّةُ بضمة وسكون ، فالحُزْن والحَزَن كالعُدْم والعَدَم ، والبُخْل والبَخَل ، وأمَّا الضمتان فالثانية إتباعٌ .
و " كظيم " : يجوز أن يكون مبالغةً بمعنى فاعِل ، وأن يكونَ بمعنى مفعول كقولِه : { وَهُوَ مَكْظُومٌ } [ القلم : 48 ] وبه فسَّره الزمخشري .
(1/2611)

قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85)
قوله تعالى : { تَفْتَؤُاْ } : هذا جوابُ القسم في قوله : " تاللَّهِ " وهو على حذفِ " لا " ، أي : لا تَفْتَأ ، ويدلُّ على حَذْفها أنه لو كان مثبتاً لاقترن بلامِ الابتداء ونون التوكيد معاً عند البصريين ، أو إحداهما عند الكوفيين وتقول : " واللَّهِ أحبُّك " تريد : لا أحبك ، وهو من التورية فإن كثيراً من الناسِ مبادِرٌ ذهنَه إلى إثبات المحبة . و " تَفْتأ " هنا ناقصة بمعنى لا تزال فترفع الاسمِ وهو الضمير ، وتنصِبُ الخبر وهو الجملة من قوله " تَذْكُرُ " ، أي : لا تزال ذاكراً له ، يقال : ما فتىء زيدٌ ذاهباً . قال أوس بن حجر :
2818 فما فَتِئَتْ حتى كأنَّ غبارَها ... سُرادِق يومٍ ذي رياحٍ تُرَفَّعُ
وقال أيضاً :
2819 فما فَتِئَتْ خيلٌ تَثُوْبُ وتَدَّعي ... ويَلْحَقُ منها لاحِقٌ وتُقَطَّعُ
وعن مجاهد : " لا تَفْتُر " ، قال الزمخشري : " كأنه جعل الفُتوء والفُتور أخوين " .
وفيها لغتان : فَتَأَ على وزن ضَرَب ، وأَفْتَأَ على وزن أكرم ، وتكون تامةً بمعنى سَكَّن وأطفأ كذا قاله ابن مالك ، وزعم الشيخ أنه تصحيف منه ، وإنما هي هي " فَثَأ " بالثاء المثلثة . ورُسِمَتْ هذه اللفظةُ " تفتؤ " / بالواو والقياس " تفتأ " بالألف ، ولذلك يُوْقَفُ لحمزة بالوجهين اعتباراً بالخط الكريم أو القياس .
قوله : { حَرَضاً } الحَرَضُ : الإِشفاء على الموت يُقال منه : حَرَضَ الرجلُ يَحْرُض حَرَضاً بفتح الراء ، فهو حَرِض بكسرها ، فالحَرَضُ مصدر ، فيجيء في الآية الأوجهُ في " رجل عَدْل " وقد تقدَّم مراراً ، ويُطْلَق المصدر من هذه المادة على الجُثَث إطلاقاً شائعاً ، ولذلك يَسْتوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث تقول : هو حَرَضٌ ، وهما حَرَض ، وهم حَرَض ، وهنَّ حَرَض ، وهي حَرَض ، ويقال : رجل حُرُض بضمتين نحو : جُنُب وشُلُل ويقال : أَحْرضه كذا ، أي : أهلكه . قال الشاعر :
2820 إني امرؤٌ لَجَّ بيْ حُبٌّ فَأَحْرَضَني ... حتى بَلِيْتُ وحتى شَفَّني السَّقَمُ
فهو مُحْرَض قال :
2821 أرى المَرْءَ كالأذْوادِ يُصبح مُحْرَضاً ... كإحراض بِكْرٍ في الديار مريضِ
وقرأ بعضهم : " حَرِضاً " بكسر الراء . قال الزمخشري : " وجاءَتِ القراءةُ بهما جميعاً " . يعني بفتح الراء وكَسْرِها " وقرأ الحسن بضمتين ، وقد تقدم أنه كجُنُب وشُلُل ، وزاد الزمخشري " وغُرُب " قال الراغب : " الحَرَض : ما لا يُعْتَدُّ به ولا خيرَ فيه ، ولذلك يقال لِما أشرف على الهلاك حَرِض ، قال تعالى : { حتى تَكُونَ حَرَضاً } وقد أحرضه كذا ، قال الشاعر : " أني امرؤ لجَّ " البيت . والحُرْضَةُ : مَنْ لا يأكل إلا لحمَ المَيْسِر لنذالتِه ، والتحريض : الحَثُّ على الشيء بكثرةِ التنزيين وتسهيل الخَطْبِ فيه كأنه إزالةُ الحَرَضِ نحو : " قَدَّيْتُه " ، أي : أَزَلْتُ عنه القذى ، وأَحْرَضْتُه : أَفْسَدْتُه نحو : أَفْذَيْتُه ، أي : جَعَلْتَ فيه القذى " انتهى .
والحُرُض : الأُشْنان لإِزالته الفسادَ ، والمِحْرَضَةُ وعاؤُه ، وشُذوذُها كشذوذ مُنْخُل ومُسْعُط ومُكْحُلَة .
(1/2612)

قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
والبَثُّ أشدُّ الحزن كأنه لقوته لا يُطاق حَمْلُه فيبثُّه الإِنسان ، أي : يُفَرِّقُه ويُذيعه ، وقد تقدم أنَّ أصلَ هذه المادةِ الدلالةُ على الانتشار . وجَوَّز فيه الراغب هنا وجهين ، أحدهما : أنه مصدرٌ في معنى المفعول ، قال : " أي غَمِّي الذي بَثَثْته عن كتمان ، فهو مصدر في تقدير مفعول أو يعني غَمِّي الذي بَثَّ فكري فيكون في معنى الفاعل .
وقرأ الحسن وعيسى " وحَزَني " بفتحتين ، وقتادة بضمتين وقد تقدم .
(1/2613)

يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)
قوله تعالى : { فَتَحَسَّسُواْ } : أي : استقصوا خبره بحواسِّكم ، ويكون في الخير والشر . وقيل : بالحاء في الخير ، وبالجيم في الشر ، ولذلك قال هنا " فتحسَّسُوا " ، وفي الحجرات : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } [ الآية : 12 ] ، وليس كذلك ، فإنه قد قرىء بالجيم هنا . وتقدَّم الخلاف في قوله " وَلاَ تَيْأَسُواْ " . وقرأ الأعرج : " تَيْئَسوا " .
والعامَّةُ على " رَوْح اللَّه " بالفتح وهو رحمتُه وتنفيسُه وقرأ الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة بضم الراء . قال الزمخشري ، " أي : مِنْ رحمتِه التي يحيا بها العباد " . وقال ابن عطية : " وكأن معنى هذه القراءة : لا تَيْئَسوا مِنْ حَيٍّ معه رُوح اللَّه الذي وهبه ، فإنَّ مَنْ بقي روحُه يُرْجَى ، ومِنْ هذا قول الشاعر :
2822 وفي غيرِ مَنْ قدوارَتِ الأرضُ فاطْمَعِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومن هذا قول عبيد بن الأبرص :
2823 وكلُّ ذي غَيْبَةٍ يَؤُوْبُ ... وغائبُ الموتِ لا يَؤُوبُ
وقراءة أُبَيّ رحمه اللَّه : { مِن رَّحْمَةِ الله } و { عِنْدِ الله } { مِن فَضْلِ الله } تفسيرُ لا تلاوة .
وقال أبو البقاء : " الجمهورُ على فتح الراء ، وهو مصدر في معنى الرحمة ، إلا أنَّ استعمالَ الفعل منه قليل ، وإنما يُسْتَعمل بالزيادة مثل أراح ورَوَّح ، ويُقرأ بضم الراء وهي لغةٌ فيه . وقيل : هو اسمُ مصدرٍ مثل الشِّرْب والشُّرْب " .
(1/2614)

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
قوله تعالى : { مُّزْجَاةٍ } : أي : مَدْفُوعة يَدْفَعها كلُّ أحدٍ عنه لزهادته فيها ، ومنه : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً } [ النور : 43 ] ، أي : يَسُوقها بالريح . وقال حاتم الطائي :
2824 لِيَبْكِ على مِلْحانَ ضَيْفٌ مُدَفَّعٌ ... وأَرمَلَةٌ تُزْجي مع الليل أَرْمَلا
ويقال : أَزْجَيْتُ رديءَ الدرهم فَزُجِيَ ، ومنه استعير " زَجَا الخراج يَزْجُو زَجَاءً " ، وخَراجٌ زاجٍ ، وقولُ الشاعر :
2825 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وحاجةٍ غيرِ مُزْجاةٍ من الحاجِ
أي : غير يسيرةً يمكن دَفْعُها وصَرْفها لقلة الاعتداد بها/ فألف " مُزْجاةٌ " منقلبة عن واو .
وقوله : { فَأَوْفِ لَنَا الكيل } يجوز أن يُراد به حقيقته من الآلة ، وأن يُرادَ به المَكِيل فيكونَ مصدراً .
(1/2615)

قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89)
وقوله تعالى : { هَلْ عَلِمْتُمْ } : يجوزُ أن يكونَ استفهاماً للتوبيخ وهو الأظهرُ . وقيل : هو خبر ، و " هل " بمعنى قد .
(1/2616)

قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)
قوله تعالى : { أَإِنَّكَ } : قرأ ابن كثير ، إنَّك " بهمزة واحدة والباقون بهمزتين استفهاماً ، وقد عَرَفْتَ قراءاتهم في هاتين الهمزتين تخفيفاً وتسهيلاً وغيرَ ذلك . فأمَّا قراءة ابن كثير فيحتمل أن تكون خبراً محضاً ، واستُبْعِد هذا مِنْ حيث تخالُفُ القراءتين مع أن القائلَ واحد ، وقد أجيب عن ذلك بأنَّ بعضَهم قاله استفهاماً ، وبعضهم قاله خبراً ، ويحتمل أن تكونَ استفهاماً حُذِفَت منه الأداة لدلالة السياق ، والقراءةُ الأخرى عليه . وقد تقدَّم لك نحوٌ من هذا في الأعراف . و " لأَنْتَ " يجوز أن تكونَ " أنت " مبتدأً و " يوسف " خبرُه ، والجملةُ خبر " إنَّ " دَخَلَتْ عليها لامُ الابتداء . ويجوز أن يكونَ فصلاً ، ولا يجوز أن يكونَ تأكيداً لاسم إنَّ؛ لأنَّ هذه اللامَ لا تَدْخُل على التوكيد .
وقرأ أُبَيّ : " أإنك أو أنت يوسف " ، وفيها وجهان ، أحدهما ما قاله أبو الفتح : من أن الأصل أإنك لغيرُ يوسف أو أنت يوسفُ ، فحذف خبر " إن " لدلالة المعنى عليه . الثاني ما قاله الزمخشري : وهو إنك يوسفُ أو أنت يوسف " فحذف الأول لدلالة الثاني عليه ، وهذا كلامُ متعجبٍ مُسْتَغْرِبٍ لِما يَسْمع فهو يكرِّر الاستثباتَ " .
قوله : { يَتَّقِ } قرأ قنبل " يَتَّقي " بإثبات الياء وصلاً ووقفاً ، والباقون بحذفها فيهما . وأمَّا قراءةُ الجماعة فواضحة لأنه مجزوم . وأما قراءةُ قنبل فاخْتَلَفَ فيها الناسُ على قولين ، أجودهما : أنَّ إثباتَ حرفِ العلة في الحركة لغةٌ لبعض العرب ، وأنشدوا على ذلك قولَ قيس ابن زهير :
2826 ألم يأتيك والأنباء تَنْمي ... بما لاقَتْ لَبونُ بني زيادِ
وقول الآخر :
2827 هَجَوْت زَبَّانَ ثم جِئْتَ مُعْتَذِراً ... مِنْ هَجْوِ زَبَّانَ لم تَهْجُو ولم تَدَعِ
وقول الآخر :
2828 إذا العجوزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ ... ولا تَرَضَّاها ولا تَمَلَّقِ
ومذهبُ سيبويه أنَّ الجزمَ بحذف الحركة المقدرة ، وإنما تبعها حرفُ العلة في الحذف تَفْرِقةً بين المرفوع والجزوم . واعتُرض عليه بأنَّ الجازم يُبَيِّن أنه مجزوم ، وعَدَمَه يبيَّن أنه غير مجزوم . وأجيب بأنه في بعض الصور يُلْبِس فاطَّرَدَ الحَذْفُ ، بيانُه أنك إذا قلت : " زُرْني أعطيك " بثبوت الياء احتمل أن يكون " أعطيك " جزاءً لزيارته ، وأن يكونَ خبراً مستأنفاً ، فإذا قلت : " أُعْطك " بحذفها تعيَّن أن يكونَ جزاءً له ، فقد وقَع اللَّبْسُ بثبوت حرف العلة وفُقِد بحَذْفِه ، فيقال : حرفُ العلةُ يُحذف عند الجازم لا به . ومذهب ابن السَّراج أن الجازم أَثرَّ في نفسِ الحرف فحذفه ، وفيه البحث المتقدم .
الثاني : أنه مرفوعٌ غير مجزومٍ ، و " مَنْ " موصولةٌ والفعل صلتُها ، فلذلك لم يَحْذف لامَه . واعْتُرِض على هذا بأنه قد عُطِف عليه مجزومٌ وهو قولُه " ويَصْبِرْ " فإنَّ قنبلاً لم يَقْرأه إلا ساكنَ الراء .
(1/2617)

وأجيب عن ذلك بأنَّ التسكين لتوالي الحركات . وإنْ كان من كلمتين كقراءة أبي عمرو : { يَنصُرْكُمُ } [ آل عمران : 160 ] { يَأْمُرُكُمْ } [ البقرة : 67 ] . وأُجيب أيضاً بأنه جُزِم على التوهُّم ، يعني لَمَّا كانت " مَنْ " الموصولةُ تُشْبه " مَنْ " الشرطية . وهذه عبارةٌ فيها غَلَطٌ على القرآن فينبغي أن يُقال : فيها مراعاةٌ للشبه اللفظي ، ولا يقال للتوهُّم . وأجيب أيضاً بأنه سُكِّن للوقف ثم أُجري الوصلُ مجرى الوقفِ . وأُجيب أيضاً بأنه إنما جُزم حملاً ل " مَنْ " الموصولة على " مَنْ " الشرطية؛ لأنها مثلُها في المعنى ولذلك دَخَلَتِ الفاءُ في خبرها .
قلت : وقد يُقال على هذا : يجوز أن تكونَ " مَنْ " شرطيةً ، وإنما ثَبَتَت الياءُ ، ولم تَجْزِمْ " مَنْ " لشببها ب " مَنْ " الموصولة ، ثم لم يُعْتبر هذا الشبهُ في قوله " ويَصْبر " فلذلك جَزَمَه إلا أنه يَبْعُدُ مِنْ جهة أنَّ العامل لم يؤثِّر فيما بعده ، ويليه ويؤثرِّ فيما هو بعيدٌ منه . وقد تقدَّم الكلامُ على مثل هذه المسألة أولَ السورة في قوله { يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } [ يوسف : 12 ] .
وقوله { فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ } الرابطُ بين جملة الشرط وبين جوابها : أمَّا العمومُ في " المحسنين " ، وإمَّا الضميرُ المحذوف ، أي : المحسنين منهم ، وإمَّا لقيام أل مُقامه والأصل : مُحْسِنيهم ، قامَتْ أل مُقام ذلك الضمير .
(1/2618)

قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)
قوله تعالى : { آثَرَكَ } : أي : " تَفَضَّل عليك ، والإِيثار : التفضيلُ/ بجميع أنواع العطايا ، آثَره يُؤْثِره إيثاراً ، وأصلُه مِن الأَثَر وهو تَتَبُّع الشيءِ فكأنه يَسْتقصي جميعَ أنواع المكارم ، وفي الحديث " ستكون بعدي أثَرة " ، أي : يَسْتأثر بعضكُم على بعض ، ويقال : استأثر بكذا ، أي : اختصَّ به ، واستأثر اللَّه بفلانٍ كنايةٌ عن اصطفائه ، قال الشاعر :
2829 واللَّه أَسْماك سُماً مبارَكا ... آثرك اللَّه به إيثارَكا
(1/2619)

قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
قوله تعالى : { لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ } : " عليكم " يجوز أن يكون خبراً ل " لا " ، و " اليومَ " : يُحتمل أن يتعلَّقَ بما تعلَّق به هذا الخبر ، أي : لا تثريبَ مستقرٌّ عليكم اليومَ . ويجوزُ أَنْ يكونَ " اليوم " خبرَ " لا " و " عليكم " متعلقٌ بما تعلَّق به هذا الظرفُ . ويجوز أن يكون " عليكم " صفةً لاسم " لا " ، و " اليوم " خبرُها أيضاً ، ولا يجوز أن يتعلق كلٌّ مِن الظرف والجارِّ ب " تَثْريب " لأنه يصير مُطَولاً شبيهاً بالمضاف ، ومتى كان كذلك أُعْرِب ونُوِّن نحو : " لا خيراً مِنْ زيد عندك " ، ويزيدُ عليه الظرفُ : بأنه يَلْزم الفصلُ بين المصدرِ المؤول بالموصولِ ومعموله بأجنبي وهو " عليكم " لأنه : إمَّا خبر وإمَّا صفة .
وقد جَوَّز الزمخشري أن يكونَ الظرفُ متعلقاً ب " تَثْريب " فقال : " فإنْ قلت : بِمَ يتعلَّق " اليوم "؟ قلت : بالتثريب أو بالمقدَّر في " عليكم " من معنى الاستقرار ، أو ب " يَغْفر " . قلت : فَجَعْلُه أنَّه متعلقٌ ب " تَثْريب " فيه ما تقدم . وقد أَجْرَى بعضُهم الاسمَ العاملَ مُجرى المضافِ لشبهه به فَيُنْزَع ما فيه من تنوينٍ أو نون ، وجعل الفارسي من ذلك قوله :
2830 أراني ولا كُفْرانَ للَّه أيَّةً ... لنفسي ، لقد طالَبْتُ غيرَ مُنِيْلِ
قال : " فأيَّةً منصوب بكُفْران ، أي : لا أكفر اللَّهَ رحمة لنفسي . ولا يجوزُ أن تُنْصب " أيَّةً " بأَوَيْت مضمراً؛ لئلا يَلْزمَ الفصلُ بين مفعولي " أرى " بجملتين : أي ب " لا " وما في حَيِّزها ، و ب " أَوَيْت " المقدرة . ومعنى أَوَيْت رَقَقْت . وجعل منه الشيخ جمال الدين بن مالك ما جاء في الحديث " لا صَمْتَ يومٌ إلى الليل " برفع " يومٌ " على أنه مرفوعٌ بالمصدر المنحلِّ لحرفٍ مصدري وفعل مبني للمفعول ، وفي بعض ما تقدم خلافٌ لا يَليقُ التعرُّضُ له هنا .
وأمَّا تعليقُه بالاستقرار المقدر فواضِحٌ ، ولذلك وقف أكثرُ القراءِ عليه ، وابتدأ ب { يَغْفِرُ الله لَكُمْ } ، وأمَّا تعليقُه ب " يَغْفر " فواضِحٌ أيضاً ولذلك وقف بعضُ القرَّاء على " عليكم " وابتدأ { اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ } ، وجوَّزوا أن يكونَ " عليكم " بياناً ك " لك " في نحو " سقياً لك " ، فعلى هذا تتعلَّق بمحذوف ، ويجوز أن يكونَ خبرُ " لا " محذوفاً ، و " عليكم " و " اليوم " كلاهما متعلقان بمحذوفٍ آخر يدل عليه " تثريب " ، والتقدير : لا تثريب يَثْرِبُ عليكم اليومَ ، كما قَدَّروا في
(1/2620)

{ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله } [ هود : 43 ] لا عاصمَ يَعْصِم اليومَ . قال الشيخ : " لو قيل به لكان قوياً " .
وقد يُفرَّق بينهما بأنَّ هنا يلزم كثرةُ المجاز ، وذلك أنَّك تَحْذف الخبر ، وتَحْذف هذا الذي تَعَلَّق به الظرفُ وحرفُ الجر وتَنسِب الفعل إليه؛ لأن التثريب لا يَثْرِب إلا مجازاً كقولهم : " شعرٌ شاعر " بخلاف " عاصم يَعْصِم " فإن نسبة الفعل إلى العاصم حقيقة ، فهناك حَذْف شيءٍ واحدٍ من غير مجاز ، وهنا حَذْف شيئين مع مجاز .
والتَّثْريبُ العَتْب والتأنيب ، وعَبَّر بعضُهم عنه بالتعيير ، مِنْ عَيَّرته بكذا إذا عِبْته به ، وفي الحديث : " إذا زَنَتْ أَمَةُ أحدِكم فَلْيَجْلِدْها ولا يُثَرِّبْ " ، أي : لا يُعَيِّر ، وأصله مِن الثَّرْب وهو ما يَغْشى الكَرْش من الشحم ، ومعناه إزالة الثَّرْب كما أن التجليدَ إزالة الجِلْد ، فإذا قلت : " ثَرّبْتُ فلاناً " فكأنك لشدة عَيْبَتِك له أَزَلْت ثَرْبَه فضُرِب مَثَلاً في تمزيق الأعراض .
وقال الراغب : " ولا يُعْرف مِنْ لَفْظِه إلا قولُهم " الثَّرْب " وهو شَحْمة رقيقة ، وقولُه تعالى : { ياأهل يَثْرِبَ } [ الأحزاب : 13 ] يَصِحُّ أن يكونَ أصلُه من هذا الباب والياءُ في مزيدة " .
(1/2621)

اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
قوله تعالى : { بِقَمِيصِي } : يجوز أن يتعلق بما قبله على أنَّ الباءَ مُعَدِّيَةٌ/ كهي في " ذهبْتُ به " ، وأن تكون للحال فتتعلَّقَ بمحذوفٍ ، أي : اذهبوا معكم قميصي . و " هذا " نعت له أو بيان أو بدل ، و " بصيراً " حال . و " أجمعين " تأكيدٌ ، وقد أُكِّد بها دون " كل " ، ويجوز أن تكونَ حالاً .
(1/2622)

وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94)
قوله تعالى : { تُفَنِّدُونِ } : التَّفْنيد : الإِفساد ، يقال : فَنَّدت فلاناً ، أي : أَفْسَدْت رأيَه ورَدَدْته ، قال :
2831 يا صاحِبيَّ دَعَا لَوْمي وتَفْنيدي ... فليسَ ما قُلْتُ من أمرٍ بمَرْدُوْدِ
ومنه " أَفْنَدَ الدهرُ فلاناً " قال :
2832 دَعِ الدهرَ يَفْعَلُ ما أرادَ فإنه ... إذا كُلِّفَ الإِفنادَ بالناسِ أفندا
والفَنَدُ : الفساد ، قال النابغة :
2833 إلاَّ سليمانَ إذ قال الإِلهُ له ... قُمْ في البرِيَّةِ فاحْدُدْها عن الفَنَد
والفِنْد : شِمْراخ الجبل وبه سُمِّي الرجل فِنْداً ، والفِنْدُ الزمانيُّ أحدُ شعراء الحماسة من ذلك . وقال الزمخشري : " يقال : شيخ مُفَنَّد ولا يقال : عجوز مُفَنَّدة لأنهما لم تكن في شبيبتها ذاتَ رأي فتُفَنَّد في كبرها " وهو غريبٌ . و جوابُ " لولا " الامتناعية محذوفٌ تقديرُه لَصَدَّقْتُموني . ويجوز أن يكونَ تقديرُه : لأَخْبَرْتكم .
(1/2623)

فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96)
وقوله تعالى : { أَلْقَاهُ } : الظاهر أنَّ الفاعلَ هو ضمير البشير . وقيل : هو ضميرُ يعقوب . وفي " بصيراً " وجهان ، أحدهما : أنه حال أي : رَجَع في هذه الحال . والثاني : أنه خبرها لأنها بمعنى صار عند بعضهم . وبَصير مِنْ بَصُر بالشيء ، كظريف مِنْ ظَرُف . وقيل : هو مثالُ مبالغةٍ كعليم . وفيه دلالةٌ على أنه لم يذهب بَصَرُه بالكليَّة .
(1/2624)

وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
وقوله تعالى : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ } : من باب التغليب ، يريد أباه وأمَّه أو خالتَه . و " سُجَّداً " حال . قال أبو البقاء : " حالٌ مقدرة؛ لأنَّ السجود يكون بعد الخُرور " وفيه نظرٌ لأنه متصلٌ به غيرُ متراخٍ عنه .
قوله : { مِن قَبْلُ } يجوز أنْ يتعلق ب " رُؤْياي " ، أي : تأويل رُؤْياي في ذلك الوقت . ويجوز أنْ يكونَ العاملُ فيه " تَأْويل " لأنَّ التأويلَ كان مِنْ حينِ وقوعِها هكذا ، والآن ظهرَ له ، ويجوز أن يكونَ حالاً مِنْ " رُؤْياي " قاله أبو البقاء ، وقد تقدم أنَّ المقطوعَ عن الإِضافةِ لا يقع حالاً .
قوله : { قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي } حالٌ من " رؤياي " ويجوز أن تكون مستأنفة . وفي " حقاً " وجوه أحدُها : أنه حال . والثاني : أنه مفعولٌ ثان . والثالث : أنه مصدرٌ مؤكد للفعل من حيث المعنى ، أي : حَقَّقها ربي حَقَّاً بجَعْلِه .
قوله : { أَحْسَنَ بي } " أَحْسَنَ " أصله أن يتعدَّى ب " إلى " . قال : { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } [ القصص : 77 ] فقيل : ضُمِّن معنى لَطُف فتعدى بالباء كقوله : { وبالوالدين إِحْسَاناً } [ البقرة : 83 ] وقولِ كثيِّر عَزَّة :
2834 أَسِيْئِي بنا أو أَحْسِني لا مَلُوْمَةً ... لَدَيْنَا ولا مَقْلِيَّةً إنْ تَقَلَّتِ
وقيل : بل يتعدى بها أيضاً . وقيل : هي بمعنى " إلى " . وقيل : المفعولُ محذوفٌ : " أَحْسَنَ صُنْعَه بي " ، ف " بي " يتعلَّق بذلك المحذوفِ ، وهو تقدير أبي البقاء . وفيه نظر؛ من حيث حَذْفُ المصدرِ وإبقاءُ معموله ، وهو ممنوعٌ عند البصريين . و " إذ " منصوبٌ ب " أَحْسَنَ " أو المصدرِ المحذوف قاله أبو البقاء ، وفيه النظر المتقدم .
والبَدْوُ : ضد الحضارة وهو مِن الظهور ، بدا يبدو : إذا سكن البادية ، " إذا بَدَوْنا جَفَوْنا " يروى عن عمر ، أي : تخلَّقْنا بأخلاقِ البدويين .
قوله : { لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ } لَطُفَ أصلُه أن يتعدَّى بالباء ، وإنما تعدى باللام لتضمُّنِه معنى مُدَبِّر ، أي : أنت مُدَبِّر بلطفك لِما تَشاء .
(1/2625)

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
وقرأ عبد اللَّه : " آتَيْتَنِ " و " عَلَّمْتَنِ " بغير ياءٍ فيهما ، وحكى ابن عطية : أنَّ أبا ذر قرأ : " أتيتني " بغير ألفٍ بعد الهمزة و " مِنْ " في " مِن المُلْك " وفي " مِنْ تأويل " للتبعيض ، والمفعولُ محذوفٌ ، أي : عظيماً من الملك فهي صفة لذلك المحذوفِ وقيل : زائدة . وقيل : لبيان الجنس ، وهذان بعيدان .
و " فاطر " يجوز أن يكونَ نعتاً لربّ ، ويجوز أنْ يكون بدلاً أو بياناً أو منصوباً بإضمار أَعْني أو نداءً ثانياً .
(1/2626)

ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)
قوله تعالى : { ذَلِكَ } : مبتدأ ، و { مِنْ أَنْبَآءِ الغيب } خبره ، و " نُوحيه " حال . ويجوز أن يكونَ خبراً ثانياً ، أو حالاً من الضمير في الخبر . وجَوَّز الزمخشري أن يكونَ موصولاً بمعنى الذي . وقد تقدَّم نظيرُه . و " هم يَمْكُرون " حال .
(1/2627)

وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)
[ قوله : ] { وَلَوْ حَرَصْتَ } : معترضٌ بين " ما " وخبرها . وجوابُ " لو " محذوفٌ لدلالةِ ما تقدَّم عليه .
(1/2628)

وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
و [ قوله ] : { إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } : حال .
(1/2629)

أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
وقوله تعالى : { مِّنْ عَذَابِ الله } : صفةٌ ل " غاشية " ، و " بَغْتة " حال وهو في الأصلِ مصدر ، وتقدَّم نظيره .
والجمهور على جَرِّ " الأرض " عطفاً على " السماوات " والضمير في " عليها " للآية فيكون " يمرُّون " صفة للآية أو حالاً لتخصُّصها بالوصفِ بالجار . وقيل : يعود الضمير في " عليها " على الأرض فيكون " يمرون " حالاً منها . وقال أبو البقاء : " وقيل منها ومن السماوات " ، أي : تكون الحال من الشيئين جميعاً ، وهذا لا يجوز إذ كان يجب أن يقال " عليهما " ، وأيضاً فإنهم لا يَمُرُّون في السماوات ، / إلا أن يُراد : يمرُّون على آياتهما ، فيعودُ المعنى إلى عَوْد الضمير للآية . وقد يُجاب عن الأول بأنه مِنْ باب الحذف كقوله تعالى : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [ التوبة : 62 ] .
وقرأ السدِّي " والأرضَ " بالنصب ، ووجهُه أنه من باب الاشتغال ، ويُفَسَّر الفعلُ بما يوافقه معنى أي : يطؤون الأرض ، أو يسلكون الأرضَ يمرون عليها كقولك : " زيداً مررت به " .
وقرأ عكرمة وعمرو بن فائد : " والأرضُ " بالرفع على الابتداء ، وخبرُه الجملةُ بعده ، والضمير في هاتين القراءتين يعودُ على الأرض فقط .
وقرأ أبو حفص ومبشر بن عبيد : أو " يَأْتيهم الساعة " بالياء من تحت لأنه مؤنث مجازيٌّ وللفصلِ أيضاً .
(1/2630)

قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
قوله تعالى : { أَدْعُو إلى الله } : يجوز أن يكونَ مستأنفاً وهو الظاهر ، وأن يكونَ حالاً من الياء . و " على بصيرة " حال من فاعل " أدعو " أي : أَدْعو كائناً على بصيرة .
قوله : { وَمَنِ اتبعني } عطفٌ على فاعل " أدعو " ولذلك أكَّد بالضميرِ المنفصل في قوله " أنا " ، ويجوز أن يكون مبتدأً والخبرُ محذوف ، أي : ومَنِ اتَّبعني يَدْعو أيضاً . ويجوز أن يكون " على بصيرة " خبراً مقدماً ، و " أنا " مبتدأ مؤخرٌ ، و " ومَن اتَّبعني " عطفٌ عليه ، ويجوزُ أن يكونَ " على بصيرة " وحده حالاً ، و " أنا " فاعلٌ به ، " ومَنِ اتَّبعني " عطف عليه أيضاً . ومفعول " أدعو " يجوز أنْ لا يُراد ، أي : أنا مِنْ أهل الدعاء إلى اللَّه ، ويجوز أن يُقَدَّر : أنْ أدعوَ الناس .
وقرأ عبد اللَّه " هذا سبيلي " بالتذكير وقد تقدَّم أنه يُذَكَّر ويؤنَّث .
(1/2631)

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
قوله تعالى : { نوحي } : العامَّةُ على " يوحى " بالياء من تحت مبنياً للمفعول . وقرأ حفص " نوحي " بالنون مبنياً للفاعل اعتباراً بقوله " وما أَرْسَلْنا " وكذلك قرأ ما في النحل وما في أول الأنبياء ، ووافقه الأخَوان على قوله : " نوحي إليه " في الأنبياء على ما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى . والجملة صفةٌ ل " رجالاً " . و { مِّنْ أَهْلِ القرى } صفة ثانية ، وكان تقديمُ هذه الصفةِ على ما قبلها أكثرَ استعمالاً؛ لأنها أقربُ إلى المفردِ وقد تقدَّم تحريرُه في المائدة .
قوله : { وَلَدَارُ الآخرة } وما بعده قد تقدَّم في الأنعام .
(1/2632)

حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
قوله تعالى : { حتى } : ليس في الكلامِ شيءٌ تكون " حتى " غايةً له ، فمِنْ ثَمَّ اختلف الناسُ في تقدير شيءٍ يَصِحُّ تَغْيِيَتُه ب " حتى " : فقدَّره الزمخشري : " وما أَرْسَلْنا مِنْ قبلك إلا رجالاً فتراخى نَصْرُهُمْ حتى " . وقَدَّره القرطبي : " وما أَرْسَلْنا من قبلك يا محمدُ إلا رجالاً لم نعاقِب أُمَمَهم بالعقاب حتى إذا " . وقدَّره ابن الجوزي : " وما أَرْسَلْنا مِنْ قبلك إلا رجالاً فَدَعَوا قومهم فكذَّبوهم وطال دعاؤُهم وتكذيبُ قومِهم حتى إذا " . وأَحْسَنُها ما قدَّمْتُه .
وتَصَيَّد ابن عطية شيئاً من معنى قوله : " أفلم يسيروا " فقال : " ويتضمَّن قولُه " أفلم يسيروا " إلى " مِنْ قبلِهم " أنَّ الرسلَ الذين بعثهم اللَّه من أهل القرى دَعَوْهم فلم يُؤْمنوا بهم حتى نَزَلَتْ بهم المَثُلاتُ فصبروا في حَيِّز مَنْ يُعْتبر بعاقبته ، فلهذا المُضَمَّنِ حَسُن أن تَدْخُل " حتى " في قوله : " حتى إذا " . قال الشيخ : " ولم يتلخَّصْ لنا من كلامِه شيءٌ يكون ما بعد " حتى " غايةً له ، لأنه عَلَّق الغايةَ بما ادَّعَى أنه فَهِمَ ذلك مِنْ قوله : " أفلم يَسيروا " . الآية " . قلت : دَعَوْهم فلم يؤمنوا هو المغيى .
قوله : { كُذِبُواْ } قرأ الكوفيون " كُذِبوا " بالتخفيف والباقون بالتثقيل . فأمَّا قراءةُ التخفيف فاضطربت أقوالُ الناسِ فيها ، ورُوي إنكارها عن عائشة رضي الله عنها قالت : " معاذَ اللَّه لم يكنِ الرسلُ لِتَظُنُّ ذلك بربها " وهذا ينبغي أن لا يَصِحَّ عنها لتواتُرِ هذه القراءة .
وقد وَجَّهها الناسُ بأربعة أوجه ، أجودُها : أن الضميرَ في " وظنُّوا " عائدٌ على المُرْسَل إليهم لتقدُّمهم في قوله : { كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ } [ يوسف : 109 ] ، ولأن الرسلَ تَسْتدعي مُرْسَلاً إليه . والضمير في " أنهم " و " كُذِبوا " عائد على الرسل ، أي : وظنَّ المُرْسَل إليهم أنَّ الرسَلَ قد كُذِبوا ، أي : كذَّبهم مَنْ أُرْسِلوا إليه بالوحي وبنصرهم عليهم .
الثاني : أنَّ الضمائرَ الثلاثةَ عائدة على الرسل . قال الزمخشري في تقرير هذا الوجه " حتى إذا اسْتَيْئَسوا من النصر وظنُّوا أنهم قد كُذِبوا ، أي : كَذَّبَهم أنفسُهم حين حَدَّثَتْهم أنهم يُنْصَرون أو رجاؤُهم لقولهم رجاءٌ صادق ورجاءٌ كاذب ، والمعنى : أن مدَّة التكذيب والعداوةِ من الكفار ، وانتظارَ النصر من اللَّه وتأميلَه قد تطاولت عليهم وتمادَتْ ، حتى استشعروا القُنوط ، وتَوَهَّموا ألاَّ نَصْرَ لهم في الدنيا فجاءهم نَصْرُنا " انتهى/ فقد جعل الفاعلَ المقدر : إمَّا أنفسُهم ، وإمَّا رجاؤُهم ، وجعل الظنَّ بمعنى التوهم فأخرجه عن معناه الأصلي وهو تَرَجُّحُ أحدِ الطرفين ، وعن مجازه وهو استعمالُه في المُتَيَقَّن .
الثالث : أنَّ الضمائرَ كلَّها أيضاً عائدة على الرسل ، والظنُّ على بابه من الترجيح ، وإلى هذا نحا ابن عباس وابن مسعود وابن جبير ، قالوا : والرسل بَشَرٌ فَضَعُفوا وساءَ ظَنُّهم ، وهذا ينبغي ألاَّ يَصِحَّ عن هؤلاء فإنها عبارة غليظة على الأنبياء عليهم السلام ، وحاشى الأنبياء من ذلك ، ولذلك رَدَّتْ عائشة وجماعةُ كثيرة هذا التأويلَ ، وأعظموا أن تُنْسَبَ الأنبياء إلى شيء مِن ذلك .
(1/2633)

قال الزمخشري : " إن صَحَّ هذا عن ابن عباس فقد أراد بالظنِّ ما يَخْطِر بالبال ويَهْجِس في القلب مِنْ شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية ، وأمَّا الظنُّ الذي هو ترجيحُ أحدِ الجائزين على الآخر فغير جائز على رجلٍ من المسلمين ، فما بالُ رسلِ اللَّه الذين هم أعرفُ بربهم؟ " قلت : ولا يجوز أيضاً أن يقال : خَطَر ببالهم شبهُ الوسوسة؛ فإنَّ الوسوسة من الشيطان وهم مَعْصومون منه .
وقال الفارسي أيضا : " إنْ ذهب ذاهب إلى أن المعنى : ظنَّ الرسلُ الذين وعد اللَّه أمَمَهم على لسانهم قد كُذِبوا فيه فقد أتى عظيماً [ لا يجوزُ أَنْ يُنْسَبُ مثلُه ] إلى الأنبياء ولا إلى صالحي عبادِ اللَّه ، وكذلك مَنْ زعم أنَّ ابنَ عباس ذهب إلى أن الرسل قد ضَعُفوا فظنوا أنهم قد أُخْلفوا؛ لأن اللَّه تعالى لا يُخْلف الميعاد ولا مُبَدِّل لكلماته " . وقد روي عن ابن عباس أيضاً أنه قال : " معناه وظنُّوا حين ضَعُفوا وغُلبوا أنهم قد أُخْلفوا ما وعدهم اللَّه به من النصر وقال : كانوا بشراً وتلا قوله تعالى : { وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول } [ البقرة : 214 ] .
الرابع : أن الضمائر كلَّها تَرْجِعُ إلى المرسَل إليهم ، أي : وظَنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذبوهم فيما ادَّعوه من النبوَّة وفيما يُوْعِدون به مَنْ لم يؤمنْ بهم من العقاب قبلُ ، وهذا هو المشهور من تأويل ابن عباس وابن مسعود وابن جبير ومجاهد قالوا : ولا يجوز عَوْدُ الضمائر على الرسل لأنهم مَعْصومون . ويُحكى أن ابن جبير حين سُئِل عنها قال : نعم إذا استيئسَ الرسل من قومهم أن يُصَدِّقوهم ، وظنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذَبوهم " فقال الضحاك بن مزاحم وكان حاضِراً : " لو رَحَلْتُ في هذه إلى اليمن كان قليلاً " .
وأمَّا قراءةُ التشديدِ فواضحة وهو أن تعودَ الضمائرُ كلها على الرسل ، أي : وظنَّ الرسلُ أنهم قد كَذَّبهم أممُهم فيما جاؤوا به لطول البلاءِ عليهم ، وفي صحيح البخاري عن عائشة : " أنها قالت : هم أتباعُ الأنبياءِ الذي آمنوا بهم وصَدَّقوا طال عليهم البلاءُ واستأخر عنهم النصرُ حتى إذا استيئس الرسلُ ممَّن كذَّبهم مِنْ قومهم ، وظنَّتْ الرسلُ أن قومَهم قد كَذَّبوهم جاءهم نَصْرُ اللَّهِ عند ذلك " . قلت : وبهذا يَتَّحد معنى القراءتين ، والظنُّ هنا يجوز أن يكون على بابه ، وأن يكونَ بمعنى اليقين وأن يكونَ بمعنى التوهُّم حسبما تقدَّم .
(1/2634)

وقرأ ابن عباس والضحاك ومجاهد " كَذَبوا " بالتخفيف مبنياً للفاعل ، والضمير على هذه القراءة في " ظنُّوا " عائد على الأمم وفي { أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } عائدٌ على الرسل ، أي : ظنَّ المُرْسَلُ إليهم أنَّ الرسلَ قد كَذَبوهم فيما وعدوهم به من النصر أو من العقاب ، ويجوز أن يعودَ الضميرُ في " ظنُّوا " على الرسل وفي { أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } على المُرْسَل [ إليهم ] ، أي : وظنَّ الرسلُ أن الأممَ كَذَبَتْهم فيما وعدوهم به مِنْ أنَّهم يؤمنون به ، والظنُّ هنا بمعنى اليقين واضح .
ونقل أبو البقاء أنه قُرِىء مشدَّداً مبنياً للفاعل ، وأوَّلَه بأنَّ الرسل ظنُّوا أن الأمم قد كذَّبوهم . وقال الزمخشري : بعد ما حكى قراءة المبني للفاعل " ولو قرىء بهذا مشدَّداً لكان معناه : وظنَّ الرسلُ أنَّ قومَهم كذَّبوهم في موعدهم " فلم يحفظها قراءةً وهي غريبة ، وكان قد جَوَّز في القراءة المتقدمة أنَّ الضمائر كلَّها تعود على الرسل ، وأن يعودَ الأولُ على المُرْسَل إليهم وما بعده على الرسل فقال : " وقرأ مجاهد " كَذَبوا " بالتخفيف على البناء للفاعل على : وظنَّ الرسلُ أنهم قد كَذَبوا فيما حَدَّثوا به قومهم من النُّصْرة : إمَّا على تأويل ابن عباس ، وإمَّا على أنَّ قومهم إذا لم يَرَوا لموعدهم أثراً قالوا لهم : قد كَذَبْتُمونا فيكونون كاذبين عند قومهم أو : وظنَّ المُرْسَلُ إليهم أن الرسلَ قد كَذَبوا " .
قوله : { جَآءَهُمْ } جوابُ الشرط وتقدَّم الكلامُ في " حتى " هذه : ما هي؟
قوله : { فَنُجِّيَ } قرأ ابن عامر وعاصم/ بنونٍ واحدة وجيم مشددة وياء مفتوحة على أنَّه فعلٌ ماضٍ مبني للمفعول ، و " مَنْ " قائمة مقام الفاعل . والباقون بنونين ثانيتهما ساكنةٌ ، والجيم خفيفة ، والياء ساكنة على أنه مضارع أنجى و " مَنْ " مفعولةٌ ، والفاعل ضمير المتكلم نفسِه . وقرأ الحسنُ والجحدري ومجاهد في آخرين كقراءة عاصم ، إلا أنهم سَكَّنوا الياء . والأجودُ في تخريجها كما تقدَّم ، وسُكِّنَتْ الياءُ تخفيفاً كقراءة { تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } [ المائدة : 89 ] وقد سُكِّن الماضي الصحيح فكيف بالمعتل؟ كقوله :
2835 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قد خُلِطْ بجُلْجُلان
وتقدَّم معه أمثالُه . وقيل : الأصل : ننجي بنونين فأدغم النون في الجيم وليس بشيء ، إذ النونُ لا تُدْغم في الجيم . على أنه قد قيل بذلك في قوله { نُنجِي المؤمنين } [ الأنبياء : 88 ] كما سيأتي بيانه .
وقرأ جماعة كقراءة الباقين إلا أنهم فتحوا الياء . قال ابن عطية : " رواها ابنُ هبيرة عن حفص عن عاصم ، وهي غلطٌ من ابن هبيرة " قلت : توهَّمَ ابن عطية أنه مضارع باقٍ على رفعه فأنكر فتحَ لامِه وغلَّط راويَها ، وليس بغلط؛ وذلك أنه إذا وقع بعد الشرط والجزاء معاً مضارعٌ مقرونٌ بالفاء جاز فيه أوجهٌ أحدها : نصبُه بإضمار " أنْ " بعد الفاء وقد تقدَّم عند قولِه
(1/2635)

{ وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ } [ البقرة : 284 ] إلى أنْ قال : " فيغفر " قرىء بنصبه ، وتقدم توجيهه ، ولا فرق بين أن تكون أداةُ الشرط جازمة كآية البقرة أو غيرَ جازمة كهذه الآية . وقرأ الحسن أيضاً " فَنُنَجِّي " بنونين والجيم مشددة والياء ساكنة ، مضارع نجى مشدداً للتكثير . وقرأ هو أيضاً ونصر بن عاصم وأبو حيوة " فنجا " فعلاً ماضياً مخففاً و " مَنْ " فاعله .
ونقل الداني أنه قرأ لابن محيصن كذلك ، إلا أنه شَدَّ الجيم والفاعل ضمير النصر ، و " مَنْ " مفعوله ، ورجَّح بعضُهم قراءة عاصم بأن المصاحف اتفقت على كَتْبها " فنجي " بنونٍ واحدة نقله الداني . وقد نقل مكي أنَّ أكثرَ المصاحفِ عليها ، فأشعر هذا بوقوع خلافٍ في الرسل ، ورُجِّح أيضاً بأنَّ فيها مناسبةً لِما قبلها من الأفعال الماضية وهي جاريةٌ على طريقةِ كلامِ الملوك والعظماء من حيث بناءُ الفعلِ للمفعول .
وقرأ أبو حيوة " يشاء " بالياء ، وقد تقدَّم أنه يقرأ " فنجا " أي فنجا مَنْ يشاء اللَّه نجاته .
وقرأ الحسن " بأسَه " ، والضمير للَّه ، وفيها مخالفة يسيرةٌ للسواد .
(1/2636)

لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
وقرأ أبو عمرو في رواية عبد الوارث والكسائي في رواية الأنطاكي " قِصصهم " بكسر القاف وهو جمع قِصة ، وبهذه القراءة رجَّح الزمخشري عَوْدَ الضمير في " قصصهم " في القراءة المشهورة على الرسل وحدهم ، وحكى أنه يجوز أن يعودَ على يوسُفَ وإخوته . وحكى غيرُه أنه يجوز أن يعودَ على الرسل وعلى يوسف وإخوته جميعاً . قال الشيخ : " ولا تَنْصُره يعني هذه القراءة إذا قصص يوسف وأبيه وإخوته مشتملٌ على قصصٍ كثيرة وأنباء مختلفة " .
قوله : { مَا كَانَ حَدِيثاً } في " كان " ضميرٌ عائد على القرآن ، أي : ما كان القرآنُ المتضمِّنُ لهذه القصة الغريبة حديثاً مختلفاً ، وقيل : بل هو عائد على القصص أي : ما كان القصص المذكور في قوله " لقد كان في قَصَصِهم " . وقال الزمخشري : " فإن قلت : فالإمَ يَرْجِع الضمير في { مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى } فيمن قرأ بالكسر؟ قلت : إلى القرآن أي : ما كان القرآن حديثاً " . قلت : لأنه لو عاد على " قِصصهم " بكسر القاف لوجب أن يكون " كانت " بالتاء لإِسناد الفعل حينئذ إلى ضمير مؤنث ، وإن كان مجازياً .
قوله : { ولكن تَصْدِيقَ } العامَّةُ على نصب " تصديق " ، والثلاثة بعده على أنها منسوقةٌ على خبر كان أي : ولكن كان تَصْدِيْقَ . وقرأ حمران بن أعين وعيسى الكوفي وعيسى الثقفي برفع " تصديق " وما بعده على أنها أخبار لمبتدأ مضمر أي : ولكن هو تصديق ، أي : الحديث ذو تصديقٍ ، وقد سُمع من العرب مثلُ هذا بالنصب والرفع ، قال ذو الرمة :
2836 وما كان مالي مِنْ تُراثٍ وَرِثْتُه ... ولا ديةً كانَتْ ولا كَسْبَ مأثمِ
ولكنْ عطاءَ اللَّه من كل رحلةٍ ... إلى كل محجوبِ السُّرادِقِ خِضْرَمِ
وقال لوط بن عبيد :
2837 - وإني بحمد اللَّه لا مالَ مسلمٍ ... أخذْتُ ولا مُعْطي اليمينِ مُحالِفِ
ولكنْ عطاء اللِّهِ مْنِ مالِ فاجرٍ ... قَصِيِّ المحلِّ مُعْوِرٍ للمَقارفِ
يُرْوى " عطاء اللَّه " في البَيتين منصوباً على " ولكن كان عطاء " ومرفوعاً على : ولكن هو عطاء اللَّه . وتقدَّم نظيرُ ما بقي من السورة فأغنى عن إعادته .
(1/2637)

المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
قوله تعالى : { تِلْكَ آيَاتُ } : يجوز في " تلك " أن تكونَ مبتدأً والخبرُ { آيَاتُ الكتاب } ، والمشارُ إليه آياتُ السورة . والمرادُ بالكتابِ السورةُ . وقيل : إشارةٌ إلى ما قَصَّ عليه مِنْ أنباء الرسل .
وهذه الجملةُ لا محلَّ لها إن قيل : إنَّ " المر " كلامٌ مستقلٌ ، أو قُصِد به مُجَرَّدُ التنبيهِ ، وفي محلِّ رفعٍ على الخبرِ إنْ قيل : إنَّ " المر " مبتدأٌ ، ويجوز أن تكونَ " تلك " خبراً ل " المر " ، و { آيَاتُ الكتاب } بدلٌ أو بيانٌ . وقد تقدَّم تقريرُ هذا بإيضاحٍ أولَ الكتاب ، وأَعَدْتُه . . . .
قوله : { والذي أُنزِلَ } يجوز فيه أوجهٌ ، أحدُها : أن يكونَ مبتدأً ، و " الحقُّ " خبرُه . الثاني : أن يكون مبتدأً ، و { مِن رَّبِّكَ } خبرُه ، وعلى هذا ف " الحقُّ " خبرُ مبتدأ مضمر ، أي : هو الحق . الثالث : أنَّ " الحقُّ " خبرٌ بعد خبر . الرابع : أن يكونَ { مِن رَّبِّكَ الحق } كلاهما خبرٌ واحدٌ . قاله أبو البقاءُ والحوفيُّ . [ وفيه بُعْدٌ ] ؛ إذ ليس هو مثلَ " هذا حلوٌ حامِضٌ " .
الخامس : أن يكون " الذي " صفةً ل " الكتاب " . قاله أبو البقاء : " وأُدْخِلَت الواوُ [ في لفظه ، كما أُدْخِلت ] في " النازِلين " و " الطيبين " . قلت : يعني أن الواوَ تكونُ داخلةً على الوصف . وفي المسألة كلامٌ يحتاج إلى تحقيقٍ ، والزمخشريُّ [ يُجيز مثلَ ذلك ، ويجعلُ أنَّ ] في ذلك تأكيداً ، وسيأتي هذا أيضاً إن شاء اللهُ تعالى في الحجر ، في قوله { مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] . وقوله : " في النازلين " و " الطيبين " يشير إلى بيت الخِرْنِقِ بنت هَفَّان في قولها حين مَدَحَتْ قومَها :
2838- لا يَبْعَدَنْ قوميْ الذين هُمُ ... سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُزْرِ
النازِلينَ بكلِّ مُعْتَرَكٍ ... والطيِّبين مَعاقِدَ الأُزْرِ
فعطَفَ " الطيبين " على " النازِلين " ، وهما صفتان لقومٍ معينين ، إلاَّ أنَّ الفرقَ بين الآيةِ والبيتِ واضحٌ : من حيث إن البيتَ فيه عطفُ صفةٍ على مثلِها ، والآيةُ ليست كذلك .
وقال الشيخ شيئاً يقتضي أن تكونَ ممَّا عُطِفَ فيها وَصْفٌ على مثلِه فقال : " وأجاز الحوفي أيضاً أن يكونَ " والذي " في موضعِ رفعٍ عطفاً على " آيات " ، وأجاز هو وابنُ عطية أن يكونَ " والذي " في موضعِ خفضٍ ، وعلى هذين الإِعرابين يكون " الحقُّ " خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هو الحق ، ويكون " والذي " ممَّا عُطِفَ فيه الوصفُ على الوصفُ وهما لشيءٍ واحد ، كما تقول " جاءني الظريفُ والعاقلُ " وأنت تريد شخصاً واحداً ، ومن ذلك قولُ الشاعر :
2839- إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمامِ ... وليثِ الكَتِيبةِ في المُزْدَحَمْ
قلت : وأين الوصفُ المعطوفُ عليه حتى يجعلَه مثلَ البيتِ الذي أنشده؟
السادس : أن يكونَ " الذي " مرفوعاً نسقاً على " آيات " كما تقدَّمَتْ حكايتُه عن الحوفي . وجَوَّز الحوفيُّ أيضاً أن يكونَ " الحقُّ " نعتاً ل " الذي " حالَ عطفِه على { آيَاتُ الكتاب } .
وتَلَخَّص في " الحقِّ " خمسةُ أوجه ، أحدها : أنه خبرٌ أولُ أو ثانٍ أو هو مع ما قبله ، أو خبرٌ لمبتدأ مضمر ، أو صفةٌ ل " الذي " إذا جَعَلْناه معطوفاً على " آيات " .
(1/2638)

اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
قوله تعالى : { بِغَيْرِ عَمَدٍ } : هذا الجارُّ في محل نصبٍ على الحال من " السماوات " ، أي : رَفَعَهَا خاليةً مِنْ عَمَد . ثم في هذا الكلامِ وجهان ، أحدُهما : انتفاءُ العَمَدِ والرؤيةِ جميعاً ، أي : لا عَمَدَ فلا رؤيةَ ، يعني لا عَمَدَ لها فلا تُرَى . وإليه ذهب الجمهورُ . والثاني : أن لها عَمَدَاً ولكن غيرُ مرئيَّةٍ . وعن ابنِ عباس : " ما يُدْريكَ أنهما بِعَمَدْ لا تُرى؟ " ، وإليه ذهب مجاهدٌ ، وهذا قريبٌ مِنْ قولهم : ما رأيت رجلاً صالحاً ، ونحوُه : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } [ البقرة : 273 ] [ وقوله : ] .
2840- على لاحِبٍ لا يُهتدى بِمَنارِه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدَّم . هذا إذا قُلْنَا : إنَّ " تَرَوْنها " صفةٌ ، أمَّا إذا قلنا : إنها مستأنفةٌ -كما سيأتي- فيتعيَّن أنْ لا عَمَدَ لها البتةَ .
والعامَّةُ على فتحِ العين والميم وهو اسمُ جمعٍ ، وعبارةُ بعضِهم " إنه جمعٌ " ، نَظَرَ إلى المعنى دون الصناعة ، وفي مفرده احتمالان ، أحدهما : أنه عِماد ، ونظيرُه إهاب وأَهَب . والثاني : أنه عمود كأَدِيْم وأَدَم وقضيم وقَضَم ، كذا قال الشيخ : وقال أبو البقاء : " جمع عِماد ، أو عَمود مثل : أَدِيمْ وأَدَم ، وأَفِيْق وأَفَق ، وإِهاب وأَهَب ، ولا خامسَ لها " . قلت : فجعلوا فَعُولاً كفَعِيْل في ذلك ، وفيه نظر؛ لأنَّ الأوزانَ لها خصوصيةٌ فلا يلزمُ مِنْ جَمْعِ فَعِيل على كذا أن يُجْمع عليه فَعُول ، فكان ينبغي أن يُنَظِّروه بأنَّ فَعُولاً جُمِعَ على فَعَل .
ثم قول أبي البقاء " ولا خامسَ لها " يعني أنه لم يُجْمَعْ على فَعَل إلاَّ هذه الخمسةُ : عِماد ، وعَمُود ، وأَدِيم ، وأَفِيْق ، وإِهاب ، وهذا الحصرُ ممنوعٌ لِما ذكرْتُ لكَ مِنْ نحو : قَضِيم وقَضَم . ويُجْمعان في القِلَّة على " أَعْمِدة " .
وقرأ أبو حَيْوة ويحيى بن وثاب " عُمُد " بضمتين ، ومفرُده يحتمل أن يكونَ عِماداً كشِهاب وشُهُب ، وكِتاب وكُتُب ، وأن يكون عَمُوداً/ كرَسُول ورُسُل ، وقد قرِئ في السبع : { فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ } [ الهمزة : 9 ] بالوجهين . وقال ابن عطية في عَمَد : " اسم جمعِ عَمُود ، والبابُ في جمعه " عُمُد " بضم الحروفِ الثلاثة كرَسُوْل ورُسُل " .
قال الشيخ : " وهذا وهمٌ ، وصوابُه بضم الحرفين؛ لأن الثالث هو حرفُ الإِعراب ، فلا تُعْتبر ضمةً في كيفية الجمع " .
والعِماد والعَمود : ما يُعَمَّد به ، أي : يُسْنَدُ ، يقال : عَمَدْتُ الحائطَ أَعْمِدُه عَمْداً ، أي : أدْعَمْتُه فاعتمد الحائطُ على العِماد . والعَمَدُ : الأساطينُ . قال النابغة :
2841- وخَيَّسَ الجنَّ إني قد أَذِنْتُ لهمْ ... يَبْنُون تَدْمُرَ بالصُّفَّاح والعَمَدِ
والعَمْدُ : هو قَصْدُ الشيءِ والاستنادُ إليه ، فهو ضِدُّ السهو ، وعمودُ الصبح : ابتداءُ ضوئِه تشبيهاً بعمود الحديد في الهيئة ، والعُمْدَةُ : ما يُعتمد عليه مِنْ مالٍ وغيرِهِ ، والعَميد : السيِّدُ الذي يَعْمِدُه الناسُ ، أي : يَقْصِدُونه .
قوله : { تَرَوْنَهَا } في الضميرِ المنصوبِ وجهان ، أحدهما : أنه عائدٌ على " عَمَد " وهو أقربُ مذكورٍ ، وحينئذٍ تكون الجملةُ في محل جرٍّ صفةً ل " عَمَد " ، ويجيءُ فيه الاحتمالان المتقدمان : من كونِ العَمَد موجودةً ، لكنها لا تُرى ، أو غيرَ موجودةٍ البتةَ .
(1/2639)

والثاني : أن الضميرَ عائدٌ على " السماوات " . ثم في هذه الجملة وجهان ، أحدُهما : أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها ، أي : استشهد برؤيتهم لها كذلك ، ولم يَذْكر الزمخشريُّ غيرَه . والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِن " السماوات " ، وتكونُ حالاً مقدرة؛ لأنها حين رَفْعِها لم نكن مَخْلُوْقِينَ ، والتقدير : رَفَعَها مَرْئيةً لكم .
وقرأ اُبَيٌّ " تَرَوْنَه " مراعاةً للفظ " عَمَدَ " إذ هو اسمُ جمعٍ . وهذه القراؤةُ رجَّح بها الزمخشريُّ كونَ الجملةِ صفةً ل " عَمَد " .
وزعم بعضُهم أنَّ " تَرَوْنَها " خبرٌ لفظاً ، ومعناه الأمر ، أي : رَوْها وانظروا إليها لتعتبروا بها . وهو بعيدٌ ، ويتعيَّنُ على هذا أن تكونَ مستأنفةً؛ لأنَّ الطلبَ لا يقع صفةً ولا حالاً .
و " ثم " في " ثم استوى " لمجردِ العطفِ لا للترتيب؛ لأنَّ الاستواءَ على العرش غيرُ مرتَّبٍ على رَفْع السماوات .
قوله : { يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات } قرأ العامَّةُ هذين الحرفين بالياء مِنْ تحتُ جَرْياً على ضميرِ اسمِ الله تعالى ، وفيهما وجهان ، أحدُهما -وهو الظاهر- : أنهما مستأنفان للإِخبارِ بذلك . والثاني : أن الأولَ حالٌ مِنْ فاعلِ " سَخَّر " ، والثاني حالٌ مِنْ فاعل " يُدَبِّر " .
وقرأ النخعي وأبان بن تغلب : " نُدَبِّرُ الأمرَ ، نُفَصِّل " بالنون فيهما ، والحسنُ والأعمشُ " نُفَصِّل " بالنون ، " يُدَبِّر " بالياء . قال المهدوي : " لم يُخْتَلَفْ في " يُدَبِّر " ، يعني أنه بالياء ، وليس كما ذَكَر لِما قدَّمْتُه عن النخعيِّ وأبان بن تغلب .
(1/2640)

وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
والرَّواسِي : الثوابت وهي الجبال ، وفَواعِل الوصفُ لا يَطَّرِدُ إلاَّ في الإِناثِ ، إلاَّ أن المكسَّر ممَّا لا يَعْقِلُ يجري مَجْرى جمعِ الإِناث ، وأيضاً فقد كَثُرَ استعمالُه كالجوامِد فجُمِعَ كحائط وحوائط وكاهِل وكواهل . وقيل : هو جمعُ راسِيَة ، والهاء للمبالغة ، والرُّسُوُّ : الثبوت قال :
2842- بهِ خالداتٌ ما يَرِمْنَ وهامِدٌ ... وَأشْعَثُ أَرْسَتْهُ الوَليدةُ بالفِهْرِ
قوله : { وَمِن كُلِّ الثمرات } يجوز فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أَنْ يتعلَّقَ ب " جَعَل " بعده ، أي : وجعل فيها زوجين اثنين مِنْ كلٍ ، وهو ظاهر . والثاني : أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " اثنين "؛ لأنه في الأصلِ صفةٌ له . والثالث : أن يَتِمَّ الكلامُ على قوله { وَمِن كُلِّ الثمرات } فيتعلَّقَ ب " جَعَلَ " الأولى على أنه من عطفِ المفردات ، يعني عَطَفَ على معمول " جعل " الأولى ، تقديرُه : أنه جَعَلَ في الأرض كذا وكذا ومن كل الثمرات . قال أبو البقاء : " ويكون جَعَلَ الثاني مستأنفاً " .
و { يُغْشِي الليل } تقدَّم الكلامُ فيه وهو : إمَّا مستأنفٌ وإمَّا حالٌ مِنْ فاعلِ الافعالِ قبله .
(1/2641)

وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
قوله تعالى : { وَفِي الأرض قِطَعٌ } : العامَّة على رفع " قِطَعٌ " و " جنات " : إمَّا على الابتداء ، وإمَّا على الفاعلية بالجارِّ قبله . وقرئ { قِطَعاً مُّتَجَاوِرَاتٍ } بالنصب ، وكذلك في بعض المصاحف ، على إضمار " جَعَلَ " .
وقرأ الحسن " وجناتٍ " بكسر التاء وفيها أوجهٌ ، أحدُها : أنه جرٌ عطفاً على { كُلِّ الثمرات } . الثاني : أنه نصبٌ نَسَقاً على { زَوْجَيْنِ اثنين } قاله الزمخشري . الثالث : نَصْبُه نسقاً على " رواسي " . الرابع : نَصْبُه بإضمار " جَعَلَ " وهو أَوْلى لكثرةِ الفواصلِ في الأوجهِ قبله . قال أبو البقاء : " ولم يَقْرَأ أحدٌ منهم " وزرعاً " بالنصب " .
قوله : { وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحفص بالرفع في الأربعة ، والباقون بالخفض . فالرفعُ في { زَرْعٌ وَنَخِيلٌ } للنسقِ على " قِطَعٌ " وفي " صِنْوان " لكونِهِ تابعاً ل " نخيل " ، و " غيرُ " لعطفِهِ عليه .
وعاب الشيخُ على ابن عطية قولَه " عطفاً على " قطع " قال : " وليسَتْ عبارةً محررةً؛ لأنَّ فيها ما ليس بعطف وهو صِنْوان " قلت : ومثل هذا غيرُ مَعيبٍ لأنه عطفٌ محققٌ ، غايةُ ما فيه أنَّ بعضَ ذلك تابعٌ ، فلا يُقْدَحُ في هذه العبارة .
والخفضُ مراعاةُ ل " أعناب " . وقال ابن عطية : " عطفاً على أعناب " ، وعابَها الشيخ بما تقدَّم ، وجوابُه ما تقدَّم .
وقد طعنَ قومٌ على هذه القراءة وقالوا : ليس الزرعُ من الجنات ، رُوِيَ ذلك عن أبي عمروٍ . وقد أجيب عن ذلك : بأنَّ الجنةَ احتَوَتْ على النخيلِ والأعنابِ والزرعِ كقوله : { جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } [ الكهف : 32 ] . وقال أبو البقاء : " وقيل : المعنى : ونبات/ زرعٍ فَعَطَفه على المعنى " . قلت : ولا أدري ما هذا الجوابُ؟ لأنَّ الذين يمنع أن تكون الجنةُ من الزرعِ يمنع أن تكونَ من نباتِ الزرع ، وأيُّ فرق؟
والصَّنْوانُ : جَمْع صِنْوٍ كقِنْوان جمع قِنْو ، وقد تقدم تحقيق هذه البنية في الأنعام . والصِّنْوُ : الفَرْعُ ، يَجْمعه وفرعاً آخر أصلٌ واحدٌ ، وأصله المِثْلُ ، وفي الحديث : " عَمُّ الرجل صِنْوُ أبيه " ، أي : مثلُه ، أو لأنهما يجمعهما أصلٌ واحد .
والعامَّة على كسرِ الصاد . وقرأ السلمي وابن مصرِّف وزيدُ بن علي بضمِّها ، وهي لغةُ قيسٍ وتميم ، كذِئْب وذُؤْبان . وقرأ الحسنُ وقتادةُ بفتحها ، وهو اسمُ جمعٍ لا جمعُ تكسيرٍ؛ لأنه ليس مِنْ أبنيتِه فَعْلان ، ونظيرُ " صَنْوان " بالفتح " السَّعْدان " . هذا جمعُه في الكثرةِ ، وأمَّا في القِلَّة فيُجْمع على أَصْنَاءٍ كحِمْل وأَحْمال .
قوله : " يُسْقَى " قرأه بالياء مِنْ تحتُ ابنُ عامر وعاصمٌ ، أي : يُسقى ما ذُكِرَ ، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ مراعاةً للفظِ ما تقدم ، وللتأنيث في قولِه " بعضَها " .
(1/2642)

قوله : " ونُفَضِّل " قرأه بالياء مِنْ تحتُ مبنياً للفاعل الأخَوان ، والباقون بنونِ العظمة . ويحيى بن يعمر وأبو حيوة " يُفَضَّل " بالياء مبنياً للمفعول ، " بعضُها " رفعاً . قال أبو حاتم : " وَجَدْتُه كذلك في مصحف يحيى بن يعمر " وهو أولُ مَنْ نَقَّط المصاحفَ . وتقدَّم الخلاف في " الأُكُل " في البقرة .
و { فِي الأكل } فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه ظرفٌ للتفضيل . والثاني : أنه حال من " بعضها " ، أي : نُفضِّل بعضَها مأكولاً ، أي : وفيه الأكلُ ، قاله أبو البقاء ، وفيه بُعْدٌ مِنْ جهة المعنى والصناعة .
(1/2643)

وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
قوله تعالى : { فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } : يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه خبرٌ مقدمٌ ، و " قولُهم " مبتدأ مؤخرٌ ، ولا بد مِنْ حَذْفِ صفةٍ لتتِمَّ الفائدةُ ، أي : فَعَجَبٌ أيُّ عَجَبٍ ، أو غريب ونحوه . والثاني : أنه مبتدأٌ ، وسَوَّغَ الابتداءُ ما ذكرتْهُ مِن الوصفِ المقدِّرِ ، ولا يَضُرُّ حينئذٍ كونُ خبِرهِ ، معرفةً ، وهذا كما اَعْرب سيبويهِ " كم " مِنْ " كم مالُك " و " خيرٌ " مِنْ " اقصِدْ رجلاً خيرٌ منه أبوه " مبتدأين لمسوِّغِ الابتداء بهما ، وخبرُهما معرفةً . قاله الشيخ وللنزاعِ فيه مجالٌ .
على أنَّ هناك عِلَّةً لا تَتَأتَّى ههنا : وهي أن الذي حَمَلَ سيبويهِ على ذلك في المسألتين أنَّ أكثرَ ما يقع موقعَ " كم " و " خير " ما هو مبتدأ ، فلذلك حَكَمَ عليهما بحكمِ الغالبِ بخلافِ ما نحن فيه .
الثالث : أنَّ " عجبٌ " مبتدأٌ بمعنى مُعْجِب ، و " قولُهم " فاعلٌ به ، قاله أبو البقاء ، ورَدَّ عليه الشيخُ : بانهم نَصُّوا على أن " فَعَلاً " و " فُعْلَة " و " فِعْلاً " يَنُوب عن مفعولٍ في المعنى ولا يعمل عملَه ، فلا تقول : مررتُ برجلٍ ذِبْحٍ كبشُه ، ولا غُرْفةٍ ماؤه ، ولا قَبَضٍ مالُه " . قلت : وأيضاً فإن الصفاتِ لا تعملُ إلاَّ إذا اعتمَدَتْ على أشياءَ مخصوصةٍ ، وليس منها هنا شيءٌ .
قوله : { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } يجوز في هذه الجملةِ الاستفهاميةِ وجهان ، أحدُهما : -وهو الظاهر- أنها منصوبةُ المحلِّ لحكايتها بالقولِ . والثاني : أنها وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ بدلاً مِنْ قولُهم " ، وبه بدأ الزمخشري ، ويكون بدلَ كلٍ مِنْ كل ، لأنّ هذا هو نفسُ قولِهم . و " إذا " هنا ظرفٌ محضٌ ، وليس فيها معنى الشرطِ ، والعاملُ فيها مقدرٌ يُفَسِّره { لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } تقديرُه : أإذا كنا تراباً نُبْعَثُ أو نُحْشَر ، ولا يَعْمل فيها { خَلْقٍ جَدِيدٍ } لأنَّ ما بعد " إذا " لا يعمل فيما قبلها ، ولا يعمل فيها أيضاً " كُنَّا " لإِضافتها إليها .
واختلف القرَّاءُ في هذا الاستفهامِ المكررِ اختلافاً منتشراً ، وهو في أحدِ عشرَ موضعاً من القرآن ، فلا بُدَّ مِنْ تَعيينِها وبيانِ مراتبِ القرَّاء فيها ، فإنَّ في ضبطها عُسْراً يَسْهُل بعَوْنِ الله تعالى :
أمَّا المواضعُ المذكورةُ ، فأوَّلُها ما في هذه السورة . الثاني والثالث كلاهما في " الإِسراء " وهما : { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } [ الآيتان : 49 ، 98 ] موضعان الرابع : في " المؤمنون " { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [ الآية : 82 ] . وفي " النمل " : { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ } [ الآية : 67 ] ، وفي " العنكبوت " : { إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العالمين أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال }
(1/2644)

[ الآيتان : 28 ، 29 ] . وفي " ألم ، السجدة " { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ الآية : 10 ] . وفي " الصافات " موضعان ، وفي الواقعة موضعٌ : { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } [ الصافات : 16 ، 53 ، الواقعة : 47 ] . وفي " النازعات " : { أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } [ الآية : 11 ] .
هذه هي المواضعُ المختلَفُ فيها ، وأمَّا ضبطُ الخلافِ فيها بالنسبةِ إلى القرَّاء ففيه طريقان ، أحدهما بالنسبة إلى ذِكْر القُرَّاء ، والثاني : بالنسبة إلى ذِكْر السُّوَر وهذا الثاني أقربُ ، فلذلك بَدَأْتُ به فأقول : هذه المواضعُ تنقسم قسمين : قسمٌ منها سبعةُ مواضعَ لها حكمٌ واحدٌ ، وقسمٌ منها أربعةُ مواضعَ ، لكلٍ منها حكمٌ على حِدَته .
أمَّا القسم الأول : فمنه في هذه السورة ، والثاني والثالث في سبحان ، والرابع في المؤمنين ، والخامس في ألم السجدة ، والسادس والسابع في الصَّافات ، وقد عَرَفْتَ أعيانَها ممَّا تقدَّمَ .
أمَّا حكمُها : فإنَّ نافعاً والكسائيَّ يستفهمان في الأول ويُخْبران في الثاني ، وأن ابنَ عامرٍ يُخْبِر في الأول ، ويستفهم في الثاني ، وأنَّ الباقين يَسْتفهمون في الأول والثاني .
وأمَّا القسمُ الثاني : فأوَّله [ ما في سورة النمل ] ، وحكمُه : أنَّ نافعاً يُخْبِر في الأول ويستفهم في الثاني ، وأن ابنَ عامر والكسائي يعكِسُه ، أي : يَسْتفهمان في الأول ويُخْبِران في الثاني ، وأنَّ الباقين يَسْتفهمون فيهما . الثاني : ما في سورة العنكبوت ، وحكمُه : أن نافعاً وابنَ كثير وابنَ عامرٍ وحفصاً يُخْبرون في الأول ويستفهمون في الثاني ، وأن الباقين يستفهمون فيهما . الثالث : ما في سورة الواقعة ، وحكمُه : أن نافعاً والكسائيَّ يستفهمان في الأول ، ويُخبران في الثاني ، وأن الباقين يستفهمون فيهما . الرابع ما في سورة النازعات ، وحكمه : أنَّ نافعاً وابن عامر والكسائي يستفهمون في الأول ويخبرون في الثاني ، وأنَّ الباقين يستفهمون فيهما .
وأمَّا الطريقُ الآخرُ بالنسبة إلى القراء فأقول : إن القراء فيها على أربعِ مراتبَ ، والأولى : ان نافعاً -رحمه الله- قرأ بالاستفهام في الأول وبالخبر في الثاني ، إلا في النمل والعنكبوت فإنه عَكَس . المرتبة الثانية : أن ابن كثير وحفصاً قرآ بالاستفهام في الأول والثاني ، إلا الأولَ من العنكبوت فقرآه بالخبر . المرتبة الثالثة : أن ابنَ عامر قرأ بالخبر في الأول والاستفهام في الثاني ، إلا في النمل والواقعة والنازعات ، فقرأ في النمل والنازعات بالاستفهام في الأول ، وبالخبر في الثاني ، وفي الواقعة بالاستفهام فيهما . المرتبة الرابعة : الباقون -وهم أبو عمرو وحمزة وأبو بكر- قرؤوا بالاستفهام في الأول والثاني ، ولم يخالِفْ أحدٌ منهم أصلَه ، وإنما ذكرت هذين الطريقين لعُسْرهما وصعوبةِ استخراجهما من كتب القراءات .
ثم الوجهُ في قراءةِ مَن ، استفهم في الأول والثاني قَصْدُ المبالغة في الإِنكار ، فاتى به في الجملة الأولى ، وأعاده في الثانية تأكيداً له ، والوجهُ في قراءة منْ أتى به في مرة واحدةً حصولُ المقصودِ به؛ لأنَّ كلَّ جملة مرتبطةٌ بالأخرى ، فإذا أنكرَ في إحداهما حَصَل الإِنكار في الأخرى ، وأمَّا مَنْ خالف أصلَه في شيءٍ من ذلك فلاتِّباعِ الأثَر .
(1/2645)

وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
قوله تعالى : { قَبْلَ الحسنة } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه متعلقٌ بالاستعجال ظرفاً له ، والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حالٌ مقدَّرةٌ مِن " السَّيِّئة " قاله أبو البقاء .
قوله : { وَقَدْ خَلَتْ } يجوز أن تكونَ حالاً وهو الظاهر ، وأن تكونَ مستأنفةً . والعامَّةُ على فتح الميم وضمِّ المثلثة ، الواحدة " مَثُلَة " كسَمُرَة وسَمُرات ، وهي العقوبةُ الفاضحة . قال ابن عباس : : العقوباتُ المستأصِلات كَمَثُلَةِ قَطْعِ الأذن والأنف ونحوِهما " ، سُمِّيَت بذلك لما بين العقاب والمُعَاقَب من المماثلة كقوله : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ، أو لأَخْذِها من المِثال بمعنى القِصاص ، يقال : أَمْثَلْتُ الرجلَ منْ صاحبِه وأقْصَصْته ، بمعنى واحد ، أو لأخْذِها مِنْ ضَرْبِ المَثَل لعِظَم شأنها .
وقرأ ابن مُصَرِّف بفتح الميم وسكون الثاء . قيل : وهي لغةُ الحجاز في " مَثْلة " . / وقرأ ابن وثَّاب بضمِّ الميم وسكونِ الثاء ، وهي لغة تميم . وقرأ الأعمشُ ومجاهدٌ بفتحهما ، وعيسى بن عمر وأبو بكرٍ في روايةٍ بضمهما .
فأمَّا الضمُّ والإِسكانُ فيجوز أن يكونَ أصلاً بنفسه لغة ، وأن يكونَ مخففاً مِنْ قراءة مَنْ ضمَّهما . وأمَّا ضمُّهما فيُحْتمل أيضاً أن يكونَ اصلاً بنفسه لغةً ، وأن يكونَ إتباعاً مِنْ قراءة الضمِّ والإِسكان نحو : العُسُرِ في العُسْر ، وقد عُرِفَ ما فيه .
قوله : { على ظُلْمِهِمْ } حال من " للناس " . والعامل فيها قال أبو البقاء : " مغفرة " يعني أنه هو العامل في صاحبها .
(1/2646)

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
قوله تعالى : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أن هذا كلامٌ مستأنفٌ مستقلٌ من مبتدأ وخبر . الثاني : أنَّ { وَلِكُلِّ قَوْمٍ } متعلقٌ بهادٍ ، و " هادٍ " نَسَقٌ على مقدَّر ، أي : إنما أنت منذرٌ وهادٍ لكل قوم . وفي هذا الوجهِ الفصلُ بين حرفِ العطفِ والمعطوف بالجارِّ ، وفيه خلافٌ تقدَّم . ولمَّا ذكر الشيخ هذا الوجهَ لم يذكر هذا الإِشكالَ ، ومِنْ عادته ذِكْرُه رادّاً به على الزمخشري . الثالث : أنَّ هادياً خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه : [ إنما أنت منذرٌ ] ، وهو لكلِّ قومٍ هادٍ ، ف " لكلِّ " متعلقٌ به أيضاً .
ووقف ابن كثير على " هادٍ " و { وَاقٍ } [ الرعد : 34 ] حيث وقعا ، وعلى { وَالٍ } [ الرعد : 11 ] هنا [ وباقٍ في التخل بإثبات ] الياء ، وحَذَفها الباقون . ونقل ابن مجاهد عنه أنه يقف بالياء في جميع الباب ، ونَقَل عن ورش أنه خَيَّر في الوقف [ بين الياءِ وحَذْفِها ، والباب ] هو كلُّ منقوصٍ منوَّنٍ غيرِ منصوبٍ .
(1/2647)

اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8)
قوله تعالى : { الله يَعْلَمُ } : يجوز في الجلالة وجهان ، أحدُهما : أنها خبرٌ مبتدأٍ مضمر ، [ أي : هو الله ، وهذا ] على قول مَنْ فَسَّر هادياً بأنه هو الله تعالى ، فكأنَّ هذه الجملةَ تفسيرٌ له ، وهذا عَنَى الزمخشريُّ بقوله : " وأن يكونَ المعنى : هو الله تفسيراً لهادٍ على الوجه الأخير ، ثم ابتدأ فقال : " يَعْلَم " . والثاني : أن الجلالةَ مبتدأ و " يَعْلَمُ " خبرُها ، وهو كلامٌ مستأنفٌ مستقلٌّ .
قال الشيخ : " ويَعْلَمُ هنا متعديةٌ إلى واحدٍ ، لأنه لو يُراد هنا النسبةُ ، إنما المرادُ تعلُّق العلمِ بالمفردات " . قلت : وإذا كانت كذلك كانت عِرْفانيةً ، وقد قدَّمْتُ أنه لا ينبغي أن يجوزَ نسبةُ هذا إلى اللهِ تعالى ، وحَقَّقْتُه فيما تقدَّم ، فعليك باعتباره في موضعه من سورة الأنفال .
قوله : { مَا تَحْمِلُ } : " ما " تحتمل ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدُها : أن تكون موصولةً اسميةً ، والعائدُ محذوف ، أي : ما تحمله . والثاني : أن تكونَ مصدريةً فلا عائدَ . والثالث : أن تكونَ استفهاميةً ، وفي محلها وجهان ، أحدُهما : أنها في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ ، و " تحملُ " خبرُه ، والجملة معلِّقةٌ للعلمِ . والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ ب " تَحْمل " قاله أبو البقاء ، وهو أوْلى ، لأنه لا يُحْوِجُ إلى حَذْفِ عائدٍ ، ولا سيما عند البصريين فإنهم لا يُجيزون " زيدُ ضربْت " ، ولم يذكرِ الشيخُ غيرَ هذا ، ولم يتعرَّضْ لهذا الاعتراضِ .
و " ما " في قوله { وَمَا تَغِيضُ . . . وَمَا تَزْدَادُ } محتملةٌ للأوجهِ المتقدمة . وغاض وزاد سُمِع تعدِّيهما ولزومُهما ، فلك أن تدَّعيَ حَذْفَ العائدِ على القول بتعدِّيهما ، وأن تجعلَها مصدريةً على القولِ بمصدرهما .
قوله : " عندَه " يجوزُ أن يكونَ مجرورَ المحلِّ صفةً لشيءٍ ، أو مرفوعَه صفةً ل " كل " ، أو منصوبهَ لقوله " بمقدار " أو ظرفاً للاستقرار الذي تَعَلَّق به الجارُّ لوقوعِه خبراً .
(1/2648)

عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
قوله تعالى : { عَالِمُ الغيب } : يجوز أن يكونَ مبتدأً وخبرُه { الكبير المتعال } ، وأن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوف ، أي : هو عالِمٌ . وقرأ زيد بن عليّ " عالِمَ " نصباً على المدح . ووقف ابن كثير وأبو عمرو في روايةٍ على ياء " المتعال " وصلاً ووقفاً ، وهذا هو الأشهرُ في لسانهم ، وحَذَفَها الباقون وصلاً ووقفاً لحَذْفِها في الرسم . واستسهل سيبويه حَذْفَها في الفواصل والقوافي ولأن " أل " تعاقِبُ التنوين ، فَحُذِفَتْ معها إجراءً لها مُجْراها .
(1/2649)

سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)
قوله تعالى : { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ } : في " سواءٌ " وجهان ، أحدُهما : أنه خبرٌ مقدَّمٌ ، و { مَّنْ أَسَرَّ } و { وَمَنْ جَهَرَ } هو المبتدأ ، وإنما بم يُثَنَّ الخبر لأنه في الأصل مصدرٌ ، وهو هنا بمعنى مُسْتَوٍ ، وقد تقدَّم الكلامُ فيه أوَّلَ هذا الموضوعِ ، و " منكم " على هذا حالٌ من الضمير المستتر في " سواءٌ " لأنه بمعنى " مُسْتَوٍ " . قال أبو البقاء : " ويَضْعُفُ أن يكونَ حالاً من الضمير في " أَسَرَّ " أو " جَهَرَ " لوجهين ، أحدُهما : تقديمُ ما في الصلةِ على الموصولِ أو الصفة على الموصوف ، والثاني : تقديمُ الخبرِ على " منكم " ، وحقُّه أن يقعَ بعده " . قلت : [ قوله ] " وحقُّه أن يقع بعده " يعني بعده وبعد المبتدأ ، وإلا يَصِرْ/ كلامُه لا معنى له .
والثاني : أنه مبتدأ ، وجاز الابتداءُ به لوصفِه بقوله " مِنْكم " وأَعْرَبَ سيبويه " سواءٌ عليه الخيرُ والشرُّ " كذلك . وقولُ ابن عطية أن سيبويه ضَعَّفَ ذلك بأنه ابتداءٌ بنكرة ، غَلَطٌ عليه .
قوله : { وَسَارِبٌ بالنهار } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ معطوفاً على " مُسْتَخْفٍ " ، ويُرادُ ب " مَنْ " حينئذٍ اثنان ، وحَمَلَ المبتدأَ الذي هو لفطةُ " هو " على لفظِها فأفرده ، والخبرَ على معناها فثَنَّاه . الوجه الثاني : أن يكونَ عطفاً على " { مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ } لا على مُسْتَخْفٍ وحدَه . ويُرَجِّح هذين الوجهين ما قاله الزمخشري . قال رحمه الله : " فإنْ قلت : كان حقُّ العبارة أن يُقال : " ومَنْ هو مُسْتَخْفٍ بالليل ومَنْ هو ساربٌ بالنهار؛ حتى يتناولَ معنى الاستواء المستخفي والساربُ ، وإلاَّ فقد تناول واحداً هو مُسْتَخْفٍ وساربٌ . قلت : فيه وجهان ، أحدٌهما : أنَّ قولَه " وساربٌ " عطفٌ على { مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ } لا على " مُسْتَخْفٍ " . والثاني : أنه عَطْفٌ على " مُسْتَخْفٍ " ، إلا أنَّ " مَنْ " في معنى الاثنين ، كقوله :
2843- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَكُنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يَصْطَحِبانِ
كأنه قيل : سواءٌ منكم اثنان : { مُسْتَخْفٍ بالليل وَسَارِبٌ بالنهار } . قلت : وفي عبارتِه بقوله " كان حقُّ العبارةِ كذا " سوءُ أدب . وقوله : كقولِه " نَكُنْ مثلَ مَنْ " يشير إلى البيت المشهور في قصة بعضِهم مع ذئبٍ يخاطبه :
تَعَشَّ فإنْ عاهَدْتَني ولا تَخُونُني ... نَكُنْ مِثْل مَنْ يا ذئبُ يَصْطَحِبان
وليس في البيت حَمْلٌ على اللفظِ والمعنى ، إنما فيه حَمْلٌ على المعنى فقط ، وهو مقصودُه . وقوله : " وإلا فقد تناول واحداً هو مُسْتَخْفٍ وسارِبٌ " لو قال بهذا قائلٌ لأصاب الصوابَ ، وهو مذهبُ ابنِ عباس ومجاهدٍ ، ذهبا إلى أن المتسخفي والسارب شخصٌ واحد ، يَسْتخفي بالليل ويَسْرُب بالنهار ليرى تصرُّفَه في الناسِ .
الثالث : أن يكونَ على حذف " مَنْ " الموصولة ، أي : ومَنْ هو سارِبٌ ، وهذا إنما يَتَمَشَّى عند الكوفيين ، فإنهم يُجيزون حَذْفَ الموصول ، وقد تقدَّم استدلالُهم ذلك .
والسَّارِب : اسمُ فاعلٍ مِنْ سَرَبَ يَسْرُبُ ، أي : تَصَرَّف كيف شاء . قال :
2844- أنَّى سَرَبْتِ وكنتِ غيرَ سَرُوْبِ ... وتُقَرِّبُ الأحلامُ غيرَ قريبِ
وقال آخر :
2845- وكلُّ أُناسٍ قاربوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... ونحنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فهو سارِبُ
أي : متصرِّفٌ كيف تَوَجَّه ، لا يدفعه أحدٌ عن مَرْعى ، يَصِفُ قومه بالمَنَعَة والقوة .
(1/2650)

لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
قوله تعالى : { لَهُ } الضميرُ فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه عائدٌ على " مَنْ " المكررة ، أي : لِمَنْ أسرَّ القولَ ولِمَنْ جَهَرَ به ولِمَنْ استخفى وسَرَب مُعَقِّبات ، أي : جماعة من الملائكة يَعْقُبُ بعضُهم بعضاً . الثاني : أنه يعود على " مَنْ " الأخيرةِ ، وهو قولُ ابن عباس . قال ابنُ عطية : " والمُعَقِّبات على هذا : حَرَسُ الرَّجُلِ وجَلاوِزَتُه الذين يحفطونَه . قالوا : والآيةُ على هذا في الرؤساء الكفارِ ، واختاره الطبري في آخرين " ، إلا أنَّ الماورديَّ ذكر على التأويلِ أنَّ الكلامَ نفيٌ ، والتقدير : لا يحفطونه . وهذا ينبغي أن [ لا ] يُسْمَعَ البتة ، كيف يَبْرُزُ كلامٌ موجَبٌ ويُراد به نفي؟ وحَذْفُ " لا " إنما يجوز إذا كان المنفيُّ مضارعاً في جوابِ قسمٍ نحو : { تَالله تَفْتَؤُاْ } [ يوسف : 85 ] وقد تقدَّم تحريرُه ، وإنما معنى الكلام -كما قال المهدوي -يحفظونه مِنْ أمرِ اللهِ في ظنِّه وزعمه .
الثالث : أنَّ الضميرَ في " له " يعود على الله تعالى ذِكْرُه ، وفي " يَحْفظونه " للعبد ، أي : لله ملائكةٌ يحفظون العبدَ من الآفات ، ويحفطون عليه أعمالَه ، قاله الحسن .
الرابع : عَوْدُ الضميرين على النبي عليه السلام ، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ قريبٌ ، ولتقدُّم ما يُشعر به في قوله : { لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ } [ الأنعام : 8 ] .
ومعَقِّبات : جمع " مُعَقِّب " بزنة مُفَعِّل ، مِنْ عَقَّب الرجلُ إذا جاء على عَقِب الآخر؛ لأنَّ بعضَهم يعَقِّب بعضاً ، أو لأنهم يُعَقِّبون ما يتكلم به . وقال الزمخشري : " والأصلُ معْتَقِبات ، فَأُدْغمت التاءُ في القاف كقوله : { وَجَآءَ المعذرون } [ التوبة : 90 ] ، أي : : المُعْتَذِرُون " ، ويَجوز " مُعَقِّبات " بكسر العين ولم يقرأ به . وقال الشيخ : " وهذا وهمٌ فاحشٌ لا تُدْغم التاءُ في القاف ، ولا القاف في التاء ، لا مِنْ كلمةٍ ولا مِنْ كلمتين ، وقد نصَّ التصريفيون على أن القافَ والكاف كلٌ منهما يُدْغم في الآخر ، ولا يدغمان في غيرهما ، ولا يُدْغم غيرهما فيهما . وأمَّا تشبيهُه بقوله : { وَجَآءَ المعذرون } فلا يتعيَّن أن يكونَ أصلُه " المُعْتَذِرون " وقد تقدَّم توجيهُه ، وأنه لا يتعيَّن ذلك فيه . وأمَّا قوله " ويجوز " مُعَقِّبات " بكسر العين فهذا لا يجوز لأنه بناه على أنَّ أصلَه " مُتَعَقِّبات " فأُدْغِمَت التاءُ في القافِ ، وقد بيَّنَّا أنَّ ذلك وهمٌ فاحشٌ " / .
وفي " مُعَقِّبات " احتمالان ، أحدهما : أن يكون " مُعَقِّبة " بمعنى مُعَقِّب والتاء للمبالغة كعلاَّمَة ونسَّابة ، أي : مَلَكٌ مُعَقِّبٌ ، ثم جُمِع كعلاَّمات ونسَّابات . والثاني : أن يكون " مُعَقِّبة " صفةً لجماعة ، ثم جُمِع هذا الوصفُ . وذكر ابن جرير أنَّ " مُعَقِّبة " جمعُ مُعَقِّب ، وشبَّه ذلك برجل ورِجال ورجالات . قال الشيخ : " وليس كما ذَكَر ، إنما ذلك كَجَمَل وجِمال وجِمالات ، ومُعَقِّبة ومُعَقِّبات إنما هي كضاربةِ وضاربات .
(1/2651)

ويمكن أن يُجابَ عنه بأنه يريد بذلك أنه أُطْلِق مِنْ حيث الاستعمالُ على جمع مُعَقَّب ، وإن كان أصلُه أن يُطْلَق على مؤنث " مُعَقِّب " ، فصار مثلَ " الوارِدَة " للجماعة الذين يَرِدُون ، وإن كان أصلُه للمؤنثة من جهةِ أن جموعَ التكسير في العقلاء تُعَامَلُ معاملةَ المؤنثة في الإِخبار وعَوْدِ الضمير ، ومنه قولهم " الرجال وأعضادُها " ، [ و " العلماء ذاهبة إلى كذا " وتشبيهه ] ذلك برجل ورجال ورِجالات من حيث المعنى لا الصناعةُ " .
وقرأ أُبَيّ وإبراهيم وعُبيد الله بن زياد " له مَعاقيبُ " . قال الزمخشري : [ جمع مُعْقِب أو ] مُعْقِبة ، والياءُ عوضٌ مِنْ حذف إحدى القافين في التكسير " . قلت : ويوضِّحُ هذا ما قاله ابنُ جني فإنه قال : " معاقيب تكسير [ مُعْقِب بسكونِ العين ] وكسر القاف كمُطْعِم ومَطاعِيْم ، ومُقْدِم ومَقاديم ، فكأنَّ مُعْقِباً جُمِع على مَعاقِبَة ، ثم جُعِلَتِ الياء في " مَعاقيب " عوضاً من الهاء المحذوفة في مَعاقبة " .
قوله : { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ } يجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل " مُعَقِّبات " ويجوزُ أَنْ يعتلَّق بمعقِّبات ، و " مِنْ " لابتداء الغاية ، ويجوز أن يكونَ حالاً من الضمير الذي هو في الظرف الواقع خبراً . والكلامُ على هذه الأوجهِ تامٌّ عند قوله { وَمِنْ خَلْفِهِ } . وعَبَّر أبو البقاء عن هذه الأوجهِ بعبارةٍ مُشْكلة هذا شَرْحُها ، وهي قولُه : { مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ } يجوز أن يكونَ صفةً لمعَقِّبات ، وأن يكون ظرفاً ، وأن يكونَ حالاً مِنَ الضميرِ الذي فيه ، فعلى هذا يتم الكلامُ عنده " . انتهى .
ويجوز أَنْ يتعلَّق ب " يحفظونه " ، أي : يحفظونه مِنْ بينِ يديه ومِنْ خلفِه . [ فإن قلت : كيف يتعلَّق حرفان ] متحدان لفظاً ومعنى بعاملٍ واحد : وهما " مِنْ " الداخلةُ على " بين " و " مِنْ " الداخلة على " أَمْرِ الله "؟ فالجواب أنَّ " مِنْ " الثانيةَ مغايرةٌ للأولى في المعنى كما ستعرفه .
قوله { يَحْفَظُونَهُ } يجوز أن يكونَ صفةً ل " مُعَقِّبات " ، ويجوز أن يكونَ حالاً من الضميرِ المستكنِّ في الجارِّ الواقعِ خبراً . و { مِنْ أَمْرِ الله } متعلقٌ به ، و " مِنْ " : إمَّا للسبب ، أي : بسبب أمرِ الله ، -ويدلُّ له قراءة علي بن أبي طالب وابن عباس وزيد بن علي وعكرمة " بأَمْرِ الله " . وقيل : المعنى على هذا : يحفظون عملَه بإذن الله ، فحذف المضافَ- وإمَّا أن تكونَ على بابها . قال أبو البقاء : " مِنْ أَْمْرِ الله ، أي : من الجنِّ والإِنس ، فتكون " مِنْ " على بابها " . يعني أَنْ يُرادَ بأمر الله نفسُ ما يُحْفَظُ منه كَمَرَدة الإِنس والجنِّ ، فتكون " مِنْ " لابتداء الغاية .
(1/2652)

وجَوَّز أيضاً أن تكونَ بمعنى " عن " ، وليس عليه معنىً يليقُ بالآية الكريمة .
ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على انه صفةٌ لمُعَقِّبات أيضاً ، فيجيء الوصفُ بثلاثةِ أشياءَ في بعض الأوجه المتقدمة : بكونها مِنْ بينِ يديه ومِنْ خلفِه ، وبكونها تحفظُه ، وبكونها مِنْ أَمْرِ الله ، ولكن يتقدَّمُ الوصفُ بالجملةِ على الوصف بالجارِّ ، وهو جائزٌ فصيح . وليس في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ كما زعم الفراءُ وغيره ، وأن الأصلَ : له مُعَقِّبات مِنْ أَمْرِ الله يحفظونه مِنْ بينِ يديه ، لأنَّ الأصلَ عدمُه مع الاستغناءِ عنه .
قوله : { وَإِذَا أَرَادَ } العاملُ في " إذا " محذوفٌ لدلالة جوابِها عليه تقديرُه : لم يُرَدَّ ، أو وقع ، ونحوُهما ، ولا يَعْمل فيها جوابُها؛ لأنَّ ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها .
(1/2653)

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)
قوله تعالى : { خَوْفاً وَطَمَعاً } : يجوز أن يكونا مصدرين ناصبهما محذوفٌ ، أي : يخافون خَوْفاً ويطمعون طَمَعاً . ويجوز أن يكونا مصدرين في موضعِ نصبٍ على الحال ، وفي صاحبِ الحال حينئذٍ وجهان ، أحدهما : أنه مفعولُ " يُرِيْكم " الأول ، أي : خائفين طامعين ، أي : تخافون صواعقَه ، وتطمعون في مطره ، كما قال المتنبي :
2846- فتىً كالسَّحابِ الجُونِ يُخْشَى ويُرْتَجى ... يُرَجَّى الحَيا منها وتُخْشى الصَّواعِقُ
والثاني : أنه البرقُ ، أي : يريكموه حالَ كونِه ذا خوفٍ وطمع ، أو هو في نفسه خوفٌ وطمعٌ على المبالغة ، والمعنى كما تقدَّم . ويجوز أن يكونَ مفعولاً من أجله ، ذكره أبو البقاء ، ومنعه الزمخشري بعدمِ اتحاد الفاعلِ ، يعني أنَّ فاعلَ الإرادةِ وهو الله تعالى غيرُ فاعلِ الخوف والطمع وهو ضميرُ المخاطبين ، فاختلف فاعلُ الفعل المُعَلَّل وفاعلُ العلَّة . وهذا يمكن أن يجابَ عنه : بأنَّ المفعولَ في قوة الفاعل ، فإنَّ معنى " يُريكم " يجعلكم رائين ، فتخافون وتطمعون ، ومثلُه في المعنى قول/ النابغة الذبياني :
2847- وحَلَّتْ بيوتي في يَفاعٍِ مُمَنِّعٍ ... تَخال به راعي الحَمولةِ طائرا
حِذاراً على أن لا تُنال مَقَادَتي ... ولا نِسْوتي حتى يَمُتْنَ حَرائِرا
ف " حِذاراً " مفعولٌ من أجله ، وفاعلُه هو المتكلم ، والفعل المُعَلِّل الذي هو " حَلَّتْ " فاعلُه " بيوتي " ، فقد اختلف الفاعل . قالوا : لكن لمَّا كان التقدير : وأَحْلَلْتُ بيوتي حِذاراً صَحَّ ذلك .
وقد جوَّز الزمخشري : ذلك أيضاً على حَذْفِ مضاف فقال : " إلاَّ على تقدير حَذْفِ المضاف ، أي : إرادةَ خوفٍ وطَمَع " . وجوَّزه أيضاً على أنَّ بعضَ المصادر ناب عن بعض ، يعني : ان الأصلَ : يُريكم البرقَ إخافةً وإطماعاً؛ فإنَّ المُرْئِيَّ والمُخِيفَ والمُطْمِعَ هو اللهُ تعالى ، وناب " خوف " عن إخافة ، و " طمع " عن إطماع نحو : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] ، على أنه قد ذهب جماعةٌ منهم ابنُ خروفٍ إلى أنَّ اتحادَ الفاعل ليس بشرطٍ .
(1/2654)

وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
قوله تعالى : { وَهُمْ يُجَادِلُونَ } : يجوز أن تكون الجملةُ مستأنفةً أخبر عنهم بذلك ، ويجوز أن تكونَ حالاً . وظاهر كلام الزمخشري أنها حالٌ مِنْ مفعول " يُصِيب " ، فإنه قال : " وقيل : الواوُ للحال ، [ أي : فيصيب بها مِنْ يشاء في حالِ جِدالِهم " ] ، وجعلها غيرُه حالاً من مفعول " يشاء " .
قوله : { وَهُوَ شَدِيدُ المحال } [ هذه الجملة حالٌ من الجلالة ] الكريمة ، ويَضْعُفُ استئنافُها . وقرأ العامَّةُ بكسر الميم ، وهو القوة والإِهلاك ، قال عبد المطلب :
2848- لا يَغْلِبَنَّ صَلِيْبُهُمْ ... ومِحالُهم عَدْواً مِحالَكْ
وقال الأعشى :
2849- فَرْعُ نَبْعٍ يهتزُّ في غُصُنِ المَجْ ... دِ عظيمُ النَّدَى شديد المِحالِ
والمِحال أيضاً : أشدُّ المكايدة والمماكرة ، يقال : ماحَلَه مُمَاحَلةً ، ومنه : تَمَحَّلَ فلانٌ لكذا ، أي : تكلَّف له استعمالَ الحيلة . وقال أبو زيد : " هو النِّقْمة " . وقال ابنُ عرفةَ ، " هو الجِدال " [ وفيه على هذا ] مقابلةٌ معنوية كأنه قيل : وهم يجادلون في الله وهو شديدُ الجِدال .
[ واختلفوا في ميمه ] : فالجمهور على أنها أصليةٌ من المَحْلِ وهو المَكْرُ والكيد ، ووزنُه فِعال كمِهاد . وقال القتبي : إنه مِنَ الحيلة ، وميمُه مزيدةٌ ، كمكان من الكون ، ثم يقال : تمكَّنْتُ . وقد غلَّطه الأزهري وقال : لو كان مِفْعَلاً مِنَ الحيلة لظهرت مثل : مِزْوَد ومِحْوَل ومِحْوَر " .
وقرأ الأعرج والضحاك بفتحِها ، والظاهر أنه لغةٌ في المكسورِها ، وهو مذهبُ ابن عباس ، فإنه فسَّره بالحَوْل وفسَّره غيرُه بالحيلة . وقال الزمخشري : " وقرأ الأعرج بفتح الميمِ على أنه مَفْعَل مِنْ حال يحولُ مَحالاً ، إذا احتال ، ومنه " اَحْوَلُ مِنْ ذئب " ، أي : أشدُّ حِيْلة ، ويجوز أن يكونَ المعنى : شديد الفَقار ، ويكون مَثَلاً في القوَّة والقدرة ، كما جاء " فساعِدُ اللهِ أشدُّ ، ومُوْساه أَحَدٌ " ، لأنَّ الحيوانَ إذا اشتدَّ مَحالُه كان منعوتاً بشدةِ القوةِ والاضطلاع بما يَعْجُزُ غيرُه ، ألا ترى إلى قولهم : " فَقَرَتْه الفاقِرة " وذلك أنَّ الفَقارَ عمودُ الظهرِ وقِوامُه " .
(1/2655)

لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
وقوله : { لَهُ دَعْوَةُ الحق } : من باب إضافة الموصوف إلى الصفة ، والأصل : له الدعوةُ الحقُّ كقوله : { وَلَدَارُ الآخرة } [ يوسف : 109 ] على أحدِ الوجهين . وقال الزمخشري : " فيه وجهان ، أحدُهما : أن تُضافَ الدعوةُ إلى الحق الذي هو نقيض الباطل ، كما تُضاف الكلمةُ إليه في قوله " كلمة الحق " . والثاني : أن تُضافَ إلى الحق الذي هو اللهُ على معنى دعوةِ المَدْعُوِّ الحق الذي يسمع فيجيب " . قال الشيخ : " وهذا الوجهُ الثاني لا يظهر؛ لأنَّ مآلَه إلى تقدير : لله دعوةُ الله كما تقول : لزيدٍ دعوةُ زيد ، وهذا التركيبُ لا يَصِحُّ " . قلت : وأين هذا ممَّا قاله الزمخشريُّ حتى يَرُدَّ عليه به؟
قوله : { والذين يَدْعُونَ } يجوز أن يُرَاد بالذين المشركون ، فالواوُ في " يَدْعُون " عائده ، ومفعولُه محذوفٌ وهو الأصنام ، والواوُ في { لاَ يَسْتَجِيبُونَ } عائدٌ على مفعول " يَدْعون " المحذوفِ ، وعاد عليه الضمير كالعقلاء لمعاملتِهم إياه معاملتَهم . والتقدير : والمشركون الذين يَدْعُون الأصنام لا تستجيب لهم الأصنامُ إلا استجابةً كاستجابةِ باسطِ كَفَّيْه ، أي : كاستجابة الماءِ مَنْ بَسَطَ كَفَّيْه إليه ، يطلب منه أن يَبْلُغَ فاه ، والماءُ جمادٌ لا يَشْعُر ببَسْط كَفَّيْه ولا بعطشِه ، ولا يَقْدِرُ أن يُجيبَه ويَبْلُغَ فاه ، قال معناه الزمخشري . ولمَّا ذكر أبو البقاء قريباً من ذلك وقدَّر التقديرَ المذكور قال : " والمصدرُ في هذا التقدير مضافٌ إلى المفعول كقوله : { لاَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير } [ فصلت : 49 ] ، وفاعلُ هذا المصدرِ مضمرٌ هو ضميرُ الماءِ ، أي : لا يُجيبونهم إلا كما يُجيب الماءُ باسطَ كفِّه إليه ، والإِجابةُ هنا كنايةٌ عن الانقياد " . /
ويجوز أن يُرادَ بالذين الأصنامُ ، أي : والآلهة الذين يَدْعونهم مِنْ دونِ الله لا يستجيبون لهم بشيءٍ إلا استجابةً ، والتقديرُ كما تقدَّم في الوجهِ قبلَه . وإنما جَمَعَهم جَمْعَ العقلاء : إمَّا للاختلاطِ؛ لأنَّ الآلهةَ عقلاءُ وجمادٌ ، وإمَّا لمعاملتِهم إياها معاملةَ العقلاءِ في زعمهم ، فالواوُ في " يَدْعُون " للمشركين ، والعائدُ المحذوفُ للأصنام ، وكذا واوُ " يستجيبون " .
وقرأ اليزيديُّ عن أبي عمروٍ " تَدْعُونَ " بالخطاب وهو مُقَوِّيَةٌ للوجهِ الثاني : ولم يذكرِ الزمخشريُّ غيرَه .
قوله : " ليَبْلُغَ " اللامُ متعلقةٌ ب " باسِط " وفاعلُ " ليبلُغَ " ضميرُ الماءِ .
قوله : { وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ } في " هو " ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه ضميرُ الماء . والهاء في " ببالغِه " للفم ، أي : وما الماء ببالغِ فيه . الثاني : أنه ضميرُ الفم ، والهاء فيي " ببالِغه " للماء ، أي : وما الفمُ ببالغِ الماءِ؛ إذ كلُّ واحدٍ منهما لا يبلُغُ الآخرَ على هذه الحالِ ، فنسبةُ الفعلِ إلى كلِّ واحدٍ وعدمُها صحيحتان . الثالث : أن يكون ضميرَ الباسط ، والهاء في " ببالغه " للماء ، أي : وما باسطُ كَفَّيْهِ إلى الماء ببالغٍ الماءَ .
(1/2656)

ولا يجوز أن يكون " هو " ضميرَ الباسط ، وفاعلُ " ببالغِه " مضمراً والهاء في " ببالِغه " للماء ، لأنه حينئذٍ يكونُ من باب جَرَيان الصفةِ على غير مَنْ هي ] له ، ومتى كان كذا لزِم إبرازُ الفاعلِ فكان التركيبُ هكذا : وما هو ببالغِه الماءُ ، فإن جَعَلْتَ الهاءَ في " ببالغِه " للماءِ جاز أن يكونَ " هو " ضميرَ الباسط كما تقدَّم تقريرُه .
والكافُ في " كباسطِ " : إمَّا نعتٌ لمصدرٍ محذوف ، وإمَّا حالٌ من ذلك المصدرِ كما تقدَّم تقريرُه غيرَ مرة .
وقال أبو البقاء : " والكاف في " كباسط " إنْ جعلتَها حرفاً كان فيها ضميرٌ يعود على الموصوفِ المحذوفِ ، وإنْ جعلْتَها اسماً لم يكن فيها ضميرٌ " . قلت : وكونُ الكافِ اسماً في الكلام لم يَقُلْ به الجمهورُ ، بل الأخفشُ ، ويعني بالموصوفِ ذلك المصدرَ الذي قدَّره فيما تقدَّم .
(1/2657)

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
قوله تعالى : { طَوْعاً وَكَرْهاً } : إمَّا مفعولٌ مِنْ أجله ، وإمَّا حال ، أي : طائعِين وكارهين ، وإمَّا منصوبٌ على المصدر المؤكِّد بفعلٍ مضمر . وقرأ ألو مِجْلَز : " والإِيصال " بالياء قبل الصاد . وخرَّجها ابنُ جني على أنه مصدرٌ " آصَلَ " كضارَبَ ، أي : دَخل في الأصيل ، كأصْبَح ، أي : دخل في الصباح .
و " ظلالُهم " عطف على " مَنْ " . و " بالغُدُوِّ " متعلِّقٌ بيَسْجُد ، والباء بمعنى في ، أي : في هذين الوقتين .
(1/2658)

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
وقرأ الأخَوان وأبو بكر عن عاصم " يَسْتوي " بالياء من تحتُ ، والباقون بالتاء من فوق ، والوجهان واضحان باعتبار أنَّ الفاعلَ مجازيٌّ التأنيث ، فيجوز في فِعْله التذكيرُ والتأنيثُ ، كنظائرَ له مرَّتْ .
وقوله : " أَمْ هَلْ " هذه " أم " المنقطعةُ ، فتتقدَّر ب " بل " والهمزةِ عند الجمهور ، و ب " بل " وحدَها عند بعضهم ، وقد تقدَّم ذلك محرِّراً ، وقد يَتَقَوَّى بهذه الآيةِ مَنْ يرى تقديرَها ب " بل " فقط بوقوع " هَل " بعدها ، فلو قَدَّرْناها ب " بل " والهمزةِ لزم اجتماعُ حرفَيْ معنى ، فَتُقَدِّرها ب " بل " وحدها ولا تقويةَ له ، فإنَّ الهمزةَ قد جامَعَتْ " هل " في اللفظ كقول الشاعر :
2850- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أهلْ رَأَوْنا بوادِي القُفِّ ذي الأَكَمِ
فَأوْلَى أن يجامِعَها تقديراً . ولقائلٍ أن يقول : لا نُسَلِّمُ أنَّ " هل " هذه استفهاميةٌ بل بمعنى " قد " ، وإليه ذهب جماعةٌ ، وإن لم يجامِعْها همزةٌ كقولِه تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ } [ الإِنسان : 1 ] ، أي : قد أتى ، فهنا أَوْلى ، والسماعُ قد رَوَدَ بوقوع " هل " بعد " أم " وبعدمِه . فمِنَ الأوَّلِ هذه الآيةُ ، ومن الثاني وما بعدها مِنْ قولِه : " اَمْ جَعَلوا " ، وقد جمع الشاعرُ أيضاً بين الاستعمالين في قوله :
2851- هل ما عَلِمْتَ وما استُودِعْتَ مكتومُ ... أم حَبْلُها إذ نَأَتْكَ اليومَ مَصْرومُ
أَمْ هَلْ كبيرٌ بكَى لم يَقْضِ عَبْرَتَه ... إثرَ الأحبَّةِ يومَ البَيْنَ مَشْكُومُ
/ والجملةُ من قوله : خَلَقوا " صفةٌ لشركاء .
(1/2659)

أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
قوله تعالى : { أَوْدِيَةٌ } : هو جمعُ وادٍ ، وجمعُ فاعِل على أَفْعِلَة ، قال أبو البقاء : " شاذٌّ ، ولم نَسْمَعْه في غيرِ هذا الحرف ، ووجهُه : أنَّ فاعِلاً قد جاء بمعنى فَعِيل ، وكما جاء فَعِيل وأفْعِلَة كجَرِيْب وأَجْرِبَة ، وكذلك فاعِل " ، قلت : قد سُمع فاعِل وأفْعِلة في حرفين آخرين ، أحدُهما : قولهم : جائز وأجْوِزَة ، والثاني : ناحِية وأَنْحِية .
قوله : " بقَدَرها " فيه وجهان ، أحدُهما " أنه متعلِّقٌ ب " سالَتْ " ، والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ ل " أَوْدية " . وقرأ العامَّةُ بفتح الدال ، وزيد بن علي والأشهب العقيلي وأبو عمرو في روايةٍ بسكونها ، وقد تقدَّم ذلك في سورة البقرة .
و " احتمل " بمعنى حَمَل فافْتَعَلَ بمعنى المجرد ، وإنما نكَّر الأودية وعَرَّف السيلَ؛ لأنَّ المطر يَنْزِل في البِقاع على المناوبة ، فتسيلُ بعضُ أوديةِ الأرضِ دونَ بعضٍ ، وتعريفُ السيل لأنه قد فُهِم من الفعل قبله وهو " فسالَتْ " وهو لو ذُكِرَ لكان نكرةً ، فلمَّا اُعيد اُعِيدَ بلفظِ التعريفِ نحو : " رايت رجلاً فأكرمت الرجلَ " [ والزَّبَد : وَضَرُ الغَلَيان وخَبَثُه ] قال النابغة :
2852- فما الفُراتُ إذا هَبَّ الرياحُ له ... تَرْمي غوارِبُه العِبْرَيْنِ بالزَّبَدِ
وقيل : هو ما يَحْتمله السَّيلُ مِنْ غُثاءٍ ونحوه ، وما يرمي به [ على ] ضفَّته من الحَباب . وقيل : هو ما يَطْرحُه الوادي إذا جاش ماؤه ، وارتفعت أمواجُه . وهي عباراتٌ متقاربة . والزُّبَد : المستخرجُ من اللبن . قيل : مشتقٌّ مِنْ هذا لمشابَهَتِه إياه في اللون ، ويقال : زَبَدْتُه زَبْداً ، أي : أعطيته مالاً ، يُضرب به المثلُ في الكثرةِ ، وفي الحديث : " غُفِرَتْ له ذنوبُه وإن كانت مِثْلَ زَبَد البحر " .
قوله : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ } هذا الجارُّ [ خبر مقدَّمٌ ، ومبتدَؤه " زَبَدٌ " ] . و " مثلُه " صفةُ المبتدأ ، والتقدير : ومن الجواهرِ التي هي كالنحاس والذهب والفضة زَبَدٌ ، أي : خَبَثٌ مثلُه ، أي : مثلُ زَبَدِ الماء ، ووجهُ المماثلةِ : أنَّ كلاًّ منهما ناشئٌ مِن الأَكْدار .
وقَرَأَ الأخَوانِ وحفصٌ " يُوقِدُوْن " بالياء من تحت ، أي : الناسُ ، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ على الخطاب .
و " عليه " متعلقٌ ب " يُوْقِدون " . وأمَّا " في النار " ففيه وجهان ، أحدُهما : أنه متعلقٌ ب يوقِدون ، وهو قول الفارسيِّ والحوفيِّ وأبي البقاء . الثاني : أنه متعلقٌ بمحذوف ، أي : كائناً أو ثابتاً ، قاله مكي وغيره . ومنعوا تعلُّقه ب " يُوقِدُون " لأنهم زعموا أنه لا يُوْقَد على شيء إلا وهو في النار ، وتعليقُ حرفِ الجر ب " يُوْقِدون " يقتضي تخصيصَ حالٍ من حالٍ أخرى . وهذا غيرُ لازمٍ . قال أبو علي : " قد يُوْقَد على الشيء وإن لم يكنْ في النارِ ، كقولِه تعالى : { فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين }
(1/2660)

[ القصص : 38 ] والطِّين لم يكن فيها ، وإنما يُصيبُه لَهَبُها ، وأيضاً فقد يكونُ ذلك على سبيلِ التوكيدِ كقوله تعالى : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] .
قوله : " ابتغاءَ " فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه مفعولٌ مِنْ اجله . والثاني : أنه مصدرٌ في موضع الحال ، أي : مُبْتَغِين حِلْية ، و " حِلْيةٍ " مفعولٌ معنىً . " أو متاعٍ " نَسَقٌ على " حِلْيةٍ " ، فالحلْيَةُ ما يُتَزَيَّن به ، والمَتَاع : مَا يَقْضُون به حوائِجَهم كالمَساحي من الحديد ونحوِها . و " مِنْ " في قوله : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ } تحتمل وجهين ، أحدُهما : أن تكونَ لابتداءِ الغاية ، أي : ومنه ينشأ زَبَدٌ مثلُ زَبَدِ الماء . والثاني : أنها للتبعيضَ ، بمعنى : وبَعْضُه زَبَدٌ .
قوله : " جُفاءً " حال . والجُفَاءُ : قال ابن الأنباري : " المتفرِّقُ " . يقال : جَفَأَتِ الريحُ السحابَ ، أي : قَطَعَتْه وفَرَّقته . وقيل : الجُفاء : ما يَرْمِي به السَّيْلُ . يُقال : جَفَأَتِ القِدْرُ بزَبَدِها تَجْفَأُ ، وجَفَأَ السَّيْلُ بزَبَدِه وأَجْفَأَ وأَجْفَلَ ، وباللامِ قرأ رُؤبة بن العجاج . قال أبو حاتم : " لا يُقرأ بقراءةِ رؤبة ، لأنه كان يأكلُ الفارَ " يعني أنه أعرابيٌّ جافٍ . قلت : قد تقدَّم ثناءُ الزمخشري عيله أولَ البقرة ، وذِكْرُ فصاحتِه . وقد وجَّهوا قراءَتَه بأنها مِنْ أَجْفَلَتِ الريحُ الغنمَ ، أي : فَرَّقَتْه قِطَعاً فهي في المعنى كقراءةِ العامَّة بالهمزة .
وفي همزة " جُفاء " وجهان ، أظهرهُما : أنها أصلٌ لثبوتِها في تصاريف هذه المادةِ كما رأيتَ . والثاني : بدلٌ من واو ، وكأنه مختارُ أبي البقاء وفيه نظرٌ؛ لأنَّ مادة جفا يَجْفو لا يليق معناها هنا ، والأصلُ عدمُ الاشتراكِ .
قوله : " كذلك يَضْرِب " / الكافُ في محلِّ نصبٍ ، أي : مثلَ ذلك الضَّرْبِ يَضْرِب .
(1/2661)

لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
قوله تعالى : { لِلَّذِينَ استجابوا } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه متعلقٌ ب " يَضْرِب " وبه بدأ الزمخشريُّ . قال : " أي : كذلك يضرب الأمثالَ للمؤمنين الذين استجابوا ، وللكافرين الذين لم يَسْتَجيبوا " . والحُسْنى صفةٌ لمصدرِ " استجابوا " ، اي : استجابوا الاستجابةَ الحُسْنى . وقوله : { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض } كلامٌ مبتدأٌ في ذِكْر ما أعَدَّ لغيرِ المستجيبين " . قال الشيخ : " والتفسيرُ الأولُ أَوْلى " يعني به أنَّ " للذين " خبرٌ مقدَّم ، و " الحُسْنى " مبتدأ مؤخر كما سيأتي إيضاحُه .
قال : " لأن فيه ضَرْبَ الأمثالِ غيرُ مقيَّدٍ بمثل هذين ، واللهُ تعالى قد ضَرَبَ أمثالاً كثيرةً في هذين وفي غيرِهما ، ولأنَّ فيه ذِكْرَ ثواب المستجيبين ، بخلاف قولِ الزمخشريِّ ، فكما ذَكَر ما لغير المستجيبين من العقابِ ذَكَر ما للمستجيبين من الثَّواب ، ولأنَّ تقديرَه بالاستجابة الحُسْنَى مُشْعِرٌ بتقييدِ الاستجابة ، ومقابلُها ليس نفيَ الاستجابةِ مطلقاً ، إنما مقابلُها نفيُ الاستجابةِ الحسنى ، واللهُ تعالى قد نفى الاستجابةِ مطلقاً ، ولأنَّه على قولِه يكون قولُه { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض } مُفْلَتاً أو كالمُفْلَتِ؛ إذ يصير المعنى : كذلك يَضْرِبُ اللهُ الأمثالَ للمؤمنين وللكافرين لو أنَّ لهم ما في الأرض ، فلو كان التركيبُ بحرفٍ رابطٍ " لو " بما قبلَها زال التفلُّت ، وأيضاً فيُوهِمُ الاشتراكَ في الضمير ، وإن كان تخصيصُ ذلك بالكافرين معلوماً " .
قلت : قوله " لأنَّ فيه ضرْبَ الأمثال غيرُ مقيَّدٍ " ليس في قول الزمخشري ما يقتضي التقييدَ . وقوله : " ولأنَّ فيه ذِكْرُ ثوابِ المستجيبين " إلى آخره ، ما ذكره الزمخشري ايضاً يُؤْخذ مِنْ فحواه ثوابُهم . وقوله " واللهُ تعالى نفى الاستجابة مطلقاً " ممنوعٌ؛ بل نفى تلك الاستجابةَ الأولى ، لا يُقال : فَثَبَتَتْ استجابةٌ غيرُ حسنى؛ لأنَّ هذه الصفةَ لا مفهومَ لها؛ إذ الواقعُ أنَّ الاستجابةَ لله لا تكون إلا حُسْنى . وقوله : " يصيرُ مُفْلَتاً " كيف يكون مُفْلَتاً مع قول الزمخشري : [ كلامٌ ] مبتدأٌ في ذِكْر ما أعدَّ لهم؟ وقوله : " وأيضاً فيوهِمُ الاشتراك " كيف يُتَوَهَّمُ هذا بوجه من الوجوه؟ وكيف يقول ذلك مع قوله " وإنْ كان تخصيصُ ذلك بالكافرين معلوماً " فإذا عُلِم كيف يُتوَهَّم؟
والوجه الثاني : أن يكونَ " للذين " خبراً مقدَّماً ، والمبتدأ " الحُسْنَى " ، و { والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ } مبتدأٌ ، وخبرُه الجملةُ الامتناعيةُ بعده . ويجوز على الوجه الأول أن يكون { والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ } مبتدأً ، وخبره الجملةُ الامتناعية بعده ، وإنما خصَّ بضرب الأمثال الذين استجابوا ، لانتفاعِهم دونَ غيرِهم .
(1/2662)

أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
قوله تعالى : { أَفَمَن يَعْلَمُ } كقولِه : " أَفَلَمْ " وقد تقدَّم تقريرُ القولين فيه ، ومذهب الزمخشري فيه بُعْدٌ هنا .
(1/2663)

الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)
قوله تعالى : { الذين يُوفُونَ } يجوزُ أَنْ يكونَ نعتاً لأولِي أو بدلاً منه أو بياناً له ، أو مرفوعاً على إضمار مبتدأ ، أو منصوباً على إضمار فِعْلٍ ، كلاهما على المدح ، أو هو مرفوعٌ بالابتداء ، وما بعده عطفٌ عليه . و { أولئك لَهُمْ عقبى الدار } خبره .
(1/2664)

وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)
قوله تعالى : { ابتغاء وَجْهِ } يجوز أن يكونَ مفعولاً له وهو الظاهرُ ، وأن يكونَ حالاً ، أي : مُبْتَغِين ، والمصدرُ مضافٌ لمفعوله .
قوله : { عقبى الدار } يجوز أن يكونَ مبتدأً ، خبرُه الجارُّ قبله ، والجملةُ خبرُ " أولئك " ، ويجوز أنْ يكونَ " لهم " خبرَ " أولئك " و " عُقْبى " فاعلٌ بالاستقرار .
(1/2665)

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23)
قوله تعالى : { جَنَّاتُ عَدْنٍ } : يجوز أن يكون بدلاً مِنْ " عقبى " ، وأن يكونَ بياناً ، وأن يكونَ خبر مبتدأ مضمر ، وأن يكون مبتدأً خبرُه " يَدْخُلونها " وقرأ النخعيُّ " جنةُ " بالإِفراد . وتقدَّم الخلافُ في " يَدْخُلونها " .
والجملةُ مِنْ " يَدْخُلونها " تحتمل الاستئنافَ او الحاليةَ المقدرةَ .
قوله : { وَمَنْ صَلَحَ } يجوز أن يكونَ مرفوعاً عطفاً على الواو ، وأغنى الفصلُ بالمفعول عن التأكيد بالضمير المنفصل ، وأن يكونَ منصوباً على المفعولِ معه ، وهو مرجوحٌ .
وقرأ ابن أبي عبلة " صَلُحَ " بضم اللام ، وهي لغةٌ مَرْجوحة .
قوله : { مِنْ آبَائِهِمْ } في محلِّ الحال مِنْ { وَمَنْ صَلَحَ } و " مِنْ " لبيان الجنس . وقرأ عيسى الثقفي " وذُريَّتِهم " بالتوحيد .
قوله : " سلامٌ " الجملةُ محكيَّةٌ بقولٍ مضمر ، والقولُ المضمرُ حالٌ مِنْ فاعلِ " يَدْخُلون " ، أي : يَدْخُلون قائلين .
/ قوله : " بما صَبَرتم " متعلِّقٌ بما تعلَّق به " عليكم " ، و " ما " مصدريَّةٌ ، أي : بسبب صَبْركم . ولا يتعلَّقُ ب " سلامٌ " لأنه لا يُفْصَل بين المصدرِ ومعمولِه بالخبر .
قاله أبو البقاء . وقال الزمخشري : " ويجوز أن يتعلَّق ب " سلام " ، أي : نُسَلِّم عليكم ونُكْرمكم بصبركم " ، ولمَّا نقله عنه الشيخ لم يَعْترض عليه بشيء . والظاهرُ أنه لا يُعْترَض عليه بما تقدَّم؛ لأنَّ ذلك في المصدر المؤول بحرف مصدري ، وفعل ، وهذا المصدرُ ليس من ذلك . والباءُ : إمَّا سببيَّةٌ كما تقدَّم ، وإمَّا بمعنى بَدَل ، أي : بَدَلَ صبركم ، أي : بما احتملتم مَشاقَّ الصبر . وقيل : " بما صَبَرْتُم " خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هذا الثوابُ الجزيل بما صبرتم .
وقرأ الجمهور " فنِعْمَ " بكسرِ النونِ وسكونِ العين ، وابن يعمر بالفتحِ والكسر ، وقد تقدَّم أنها الأصلُ كقوله :
2538- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَعِمَ السَّاعُون في القومِ الشُّطُرْ
وابنُ وثاب بالفتح والسكون ، وهي تخفيفُ الأصلِ ، ولغةُ تميم تسكينُ عينِ فَعِل مطلقاً . والمخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ ، أي : الجنة .
(1/2666)

وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
قوله تعالى : { والذين يَنقُضُونَ } : مبتدأ ، والجملة مِنْ قوله : { أولئك لَهُمُ اللعنة } خبرُه . والكلامُ في اللعنةِ كالكلامِ في { لَهُمْ عقبى الدار } [ الرعد : 22 ] .
(1/2667)

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
وقرأ زيدُ بنُ عليّ " ويَقْدُر " بضم العين .
قوله " وفَرِحوا " هذا استئنافُ إخبار . وقيل : بل [ هو عطفٌ على صلةِ " الذين " ] قبله . وفيه نظرٌ : من حيث الفصلُ بين أبعاضِ الصلةِ بالخبر ، وأيضاً فإنَّ هذا ماضٍ وما قبله مستقبلٌ ، ولا بد من التوافق في الزمان ، إلا أن يُقال : المقصودُ استمرارُهم بذلك ، وإنَّ الماضي متى وقع صلةً صَلَحَ للمُضِيِّ والاستقبال .
قوله : { وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة } ، أي : في جنب الآخرة . وهذا الجارُّ في موضع الحال تقديرُه : وما الحياةُ القريبةُ كائنةً في جنب الآخرة إلا متاعٌ ، ولا يجوز تعلُّقُه بالحياة ولا بالدنيا لأنهما لا يقعان في الآخرة .
(1/2668)

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)
والضميرُ في " عليه " عائدٌ على الله تعالى ، أي : إلى دينِهِ وشَرْعه . وقيل : على الرسول . وقيل : على القرآن .
(1/2669)

الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
قوله تعالى : { الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ } يجوز فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكون مبتدأً خبرُه الموصولُ الثاني ، وما بينهما اعتراضٌ . [ الثاني : أنه بدلٌ ] مِنْ " مَنْ أناب " . الثالث : أنه عطفُ بيانٍ له . الرابع : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ . أنه منصوبٌ بإضمارِ فعل .
قوله : { بِذِكْرِ الله } يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب " تطمئنُّ " فتكون الباءُ سببيةً ، أي : بسبب ذِكْرِ الله . وقال أبو البقاء : " ويجوز أن يكونَ مفعولاً به ، أي : الطمأنينةُ تَحْصُل بذكْر الله ، الثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوف على أنه حالٌ مِنْ " قلوبُهم " أي : تطمئنُّ وفيها ذِكْرُ اللهِ " .
(1/2670)

الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
قوله تعالى : { الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ } : فيه أوجه : أن يكونَ بدلاً من " القلوبُ " على حَذْفِ مضاف ، أي : قلوب الذين آمنوا ، وأن يكونَ بدلاً مِن " مَنْ أناب " ، وهذا على قولِ مَنْ لم يجعلِ الموصولَ الأول بدلاً مِن " مَنْ أناب " ، وإلا كان يَتَوالَى بدلان . وأن يكونَ مبتدأً ، و " طُوْبَى لهم " جملةٌ خبرية ، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمر . وأن يكونَ منصوباً بإضمارِ فعلٍ . والجملةُ مِنْ " طُوبَى لهم " على هذين الوجهين حالٌ مقدَّرة ، العاملُ فيها " آمَنُوا وعَمِلوا " .
وواوُ " طُوبَى " منقلبةٌ عن ياءٍ لأنها من الطِّيب ، وإنما قُلِبَتْ لأجلِ الضمة قبلها كمُوسِر ومُوْقِن من اليُسْر واليقين . واختلفوا فيها : فقيل : هي اسمٌ مفردٌ مصدر كبُشْرى ورُجْعى ، مِنْ طاب يطيب . وقيل : بل هي جمعُ " طَيِّبة " كما قالوا : كُوْسَى في جمع كَيِّسَة ، وضُوْقَى في جمع ضَيِّقة . ويجوز أن يقال : " طِيْبى " بكسر الفاء وكذلك الكِيْسَى والضِيقَى . وهل هي اسمٌ لشجرةٍ بعينِها أو اسمٌ للجنة بلغةِ الهند أو الحبشة؟ خلافٌ مشهور .
وجاز الابتداءُ ب " طُوبَى " : إمَّا لأنها عَلَمٌ لشيءٍ بعينه ، وإمَّا لأنها نكرةٌ في معنى الدعاء كسَلام عليك ووَيْل له ، كذا قال سيبويه . وقال ابن مالك : " إنه يُلزم رَفْعُها بالابتداء ، ولا تدخُلُ عليها نواسِخُه " . وهذا يَرُدُّ عليه : أنَّ بعضَهم جعلها في الآيةِ منصوبةً بإضمارِ فِعْلٍ ، أي : وجَعَلَ لهم طُوْبَى ، وقد يَتَأَيَّد ذلك بقراءةِ عيسى الثقفي " وحُسْنَ مآب " بنصب النون . قال : " إنه معطوفٌ على " طُوْبَى " ، وإنها في موضع نَصْبٍ " . قال ثعلب : " وطُوْبَى على هذا مصدرٌ كما قالوا : سُقْياً " . وخَرَّج هذه القراءةَ صاحبُ " اللوامح " على النداء ك { ياأسفى } [ يوسف : 84 ] على الفَوْت ، يعني أنَّ " طُوْبَى " تضاف للضمير ، واللام/ مقحمةٌ ، كقوله :
2845- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يا بُؤْسَ للجهلِ ضَرَّاراً لأقوامِ
و [ قوله ] :
2855- يا بُوسَ للحَرْبِ التي ... وَضَعَتْ أراهِطَ فاستراحوا
ولذلك سقط التنوينُ مِنْ " بؤس " كأنه قيل : يا طِيْباهم ، أي : ما أَطيبَهم وأحسنَ مآبَهم . قال الزمخشري : " ومعنى طُوْبَى لك : أَصَبْتَ خيراً وطِيباً ، ومحلُّها النصبُ أو الرفع كقولك : طِيباً لك وطِيبٌ لك ، وسلاماً لك ، وسلامٌ لك ، والقراءةُ في قوله : " وحُسن مآب " بالنصب والرفع تدلُّك على مَحَلَّيْها ، واللامُ في " لهم " للبيان ، مثلها في " سَقْياً لك " . فهذا يدلُّ على أنها تتصرَّفُ ولا تلزم الرفعَ بالابتداء .
وقرأ مَكْوَزَةُ الأعرابي " طِيْبَى " بكسرِ الطاء لِتَسْلَمَ الياءُ نحو : بِيْض ومَعِيْشة .
وقُرِئ " وحُسْنَ مآبٌ " بفتح النون ورفع " مآب " على أنه فعلٌ ماضٍ ، أصلُه " حَسُن " فَنُقِلَت ضمةُ العينِ إلى الفاءِ قَصْداً للمدح ، كقولهم :
2856- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . حُسْنَ ذا أَدَبا
و " مَآبٌُ " فاعلُه .
(1/2671)

كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
قوله تعالى : { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ } : الكافُ في محلِّ نصبٍ كنظائرها . قال الزمخشري : " مثلَ ذلك الإِرسالِ أَرْسلناك ، يعني : ارسلناك إرسالاً له شأن " . وقيل : الكافُ متعلِّقةٌ بالمعنى الذي في قوله { إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي } [ الرعد : 27 ] ، أي : " كما أنفذ اللهُ هذا كذلك ارسلناك " . وقال ابن عطية : " الذي يظهر لي أن المعنى : كما أَجْرَيْنا العادةَ بأنَّ الله يُضِلُّ ويَهْدِيْ لا الآياتِ المقترحةَ ، فكذلك أيضاً فَعَلنا في هذه الأمَّةِ : أرسَلْناك إليها بوحيٍ لا بآيات مقترحة " .
وقال أبو البقاء : " كذلك " [ التقديرُ : ] الأمر كذلك فجعلها في موضعِ رفعٍ . وقال الحوفي : " الكافُ للتشبيه في موضع نصب ، أي : كفِعْلِنا الهدايةَ والإِضلال " . والإِشارةُ ب " ذلك " إلى ما وَصَفَ به نفسَه مِنْ أنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يشاء ويَهْدِي مَنِ يشاء .
قوله : { قَدْ خَلَتْ } جملةٌ [ في محلِّ جرٍّ صفةً ] . و " للتلُوَ " متعلِّقٌ ب " أَرْسَلْناك " .
قوله : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ } يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ استئنافيةً وأن تكونَ حاليةً ، والضميرُ في " وهم " عائدٌ على " أمة " من حيث المعنى ، ولو عاد على لفظِها لكان التركيبُ " وهي تكفر " . وقيل : الضميرُ عائدٌ على " أمَّة " وعلى " أُمَم " . وقيل : على الذين قالوا : { لَوْلاَ أُنزِلَ } [ الرعد : 27 ] .
(1/2672)

وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً } : جوابُها محذوفٌ ، أي : لكان هذا القرآنُ ، لأنه في غاية ما يكونُ من الصحة . وقيل : تقديرُه : لما آمنوا . ونُقِل عن الفراء أنَّ جوابَ " لو " هي الجملة مِنْ قولِه { وَهُمْ يَكْفُرُونَ } ففي الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ ، وما بينهما اعتراضٌ . وهذا في الحقيقة دالٌّ على الجوابِ . وإنما حُذِفَت التاءُ في قوله " وكُلِّم به المَوْتى " وثَبَتَتْ في الفعلَيْن قبله لأنه من باب التغليب؛ لأنَّ " المَوْتى " يشمل المذكرَ والمؤنث .
قوله : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين } أصلُ اليَأْسِ : قَطْعُ الطمعِ عن الشيء والقُنوطُ فيه . واختلف الناسُ فيه ههنا : فقال بعضهم : هو هنا على بابه ، والمعنى : أفلم يَيْئَسِ الذين آمنوا من إيمانِ الكفَّار من قريش ، وذلك أنَّهم لَمَّا سألوا هذه الآياتِ طَمِعوا في إيمانِهم وطلبوا نزولَ هذه الايات ليؤمِنَ الكفار ، وعَلِمَ اللهُ أنهم لا يؤمنون فقال : أفلم يَيْئَسوا من إيمانهم ، قاله الكسائي . وقال الفراء : " أَوْقَعَ الله للمؤمنين أنْ لو يشاء اللهُ لهدى الناسَ جميعاً فقال : أفلم يَيْئسوا عِلْماً ، يقول : أَيْئَسهم العِلْم مضمراً ، كما تقول في الكلام : يَئِست منك أن لا تفلح ، كأنه قال : عَلِمه علماً " ، قال : فيَئِسَتْ بمعنى عَلِمَت ، وإنْ لم يكنْ قد سمع ، فإنه يتوجَّه إلى ذلك بالتأويل " .
وقال ابن عطية : " ويحتمل أن يكونَ " اليأسُ " في هذه الآية على بابه ، وذلك : أنه لمَّا أبْعَدَ إيمانَهم في قوله : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً } على التأويلين في المحذوفِ المقدَّر قال في هذه : أفلم يَيْئَسِ المؤمنون من إيمانِ هؤلاءِ عِلْماً منهم أن لو يشاء اللهُ لهدَى الناسَ جميعاً " .
وقال الزمخشري : " ويجوز أن يتعلَّقَ { أَن لَّوْ يَشَآءُ } بآمَنوا على : أولم يَقْنَطْ عن إيمانِ هؤلاءِ الكَفَرَةِ الذين آمنوا بأن لو يشاءُ اللهُ لهدى الناسَ جميعاً ولهداهم " وهذا قد سبقه إليه أبو العباس .
وقال الشيخ : " ويُحْتَمَلُ عندي وجهٌ آخرُ غيرُ الذي/ ذكروه : وهو أنَّ الكلامَ تامٌّ عند قوله : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا } وهو تقريرٌ ، أي : قد يَئِس المؤمنون من إيمان المعاندين ، و { أَن لَّوْ يَشَآءُ الله } جوابُ قَسَمٍ محذوفٍ ، أي : وأُقْسِمُ لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ، ويدلُّ على هذا القَسَمِ وجودُ " أنْ " مع " لو " ، كقولِ الشاعر :
2857- أَمَا واللهِ انْ لو كنتَ حُرَّاً ... وما بالحُرِّ أنت ولا القَمينِ
وقول الآخر :
2858- فأُقسمُ أنْ لَوِ التقينا وأنتُمُ ... لكان لكم يومٌ من الشرِّ مظلِمُ
وقد ذكر سيبويه أنَّ " أنْ " تأتي بعد القَسَم ، وجعلها ابنُ عصفور رابطةً للقَسَم بالجملة المُقْسَمِ عليها .
وقال بعضُهم : " بل هو هنا بمعنى عَلِمَ وتَبَيَّن . قال القاسم بن معن وهو من ثقاتِ الكوفيين : " هي لغة هوازن " .
(1/2673)

وقال ابن الكلبي : " هي لغةُ حيّ من النَّخَع ، ومنه قولُ رباح بن عدي :
2859- ألم يَيْئَسِ الأقوامُ أني أنا ابنُهُ ... وإن كنتُ عن أرضِ العشيرةِ نائيا
وقول سحيم :
2860- أقولُ لهم بالشَّعْبِ إذ يَأْسِرُونني ... ألم تَيْئَسُوا أني ابنُ فارسِ زَهْدَمِ
وقول الآخر :
2861- حتى إذا يَئِسَ الرُّماةُ وأَرْسَلوا ... غُضْفاً دواجنَ قافِلاً أعْصامُها
وردَّ الفراء هذا وقال : " لم أَسْمَعْ يَئِسْتُ بمعنى عَلِمْتُ " . ورُدَّ عليه : بأنَّ مَنْ حَفِظ حجةٌ على مَنْ لم يَحْفَظْ ، ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عليّ وابن عباس وعكرمة وابن أبي مُلَيْكة والجحدري وعلي بن الحسين وابنه زيد وجعفر بن محمد وابن يزيد المديني وعبد الله بن يزيد وعلي ابن بَذِيمة : " أو لم يتبيَّنْ " ، مِنْ تبيَّنْتُ كذا إذا عَرَفْتَه . وقد افترى مَنْ قال : " إنما كتبه الكاتب وهو ناعِسٌ ، وكان أصله " أفلم يتبيَّن " فَسَوَّى هذه الحروفَ فَتُوُهِّمَ أنها سين " .
قال الزمخشري : " وهذا ونحوُه ممَّا لا يُصَدَّقُ في كتاب [ كتاب الله الذي لا يأتيه ] الباطلُ مِنْ [ بينِ ] يديه ولا مِنْ خلفِه ، وكيف يَخْفَى هذا حتى يَبْقى بين دَفَتَيْ الإِمام ، وكان متقلِّباً في أيدي أولئك الأعلامِ المحتاطِيْنَ في دين الله ، المهيمنين عليه ، لا يَغْفُلون عن جلائِله ودقائقِه ، خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجعُ ، والقاعدةُ التي عليها المبنى ، هذه واللهِ فِرْيَةٌ ، ما فيها مِرْيَةٌ " . وقال الزمخشري أيضاً : " وقيل : إنما اسْتَعْمل اليأسَ بمعنى العِلْم ، لأن الآيسَ عن الشيء عالمٌ بأنه لا يكونُ ، كما اسْتَعْمل الرجاءَ في معنى الخوف والنسيان والتركِ لتضمُّن ذلك " .
ويُحتمل في " أَنْ " قولان ، أحدُهما : أنها المخففةُ من الثقيلة فاسمُها ضميرُ الشأنِ ، والجملةُ الامتناعيةُ بعدها خبرُها ، وقد وقع الفصلُ ب " لو " ، و " أنْ " وما في حَيِّزها إن عَلَّقْناها ب " آمنوا " تكونُ في محلِّ نصبٍ أو جَرّ على الخلاف بين الخليلِ وسيبويه ، إذ أصلُها الجرُّ بالحرفِ ، أي : آمَنوا بأن لو يشاءُ الله ، وإن عَلَّقْناها ب " يَيْئَس " على أنه بمعنى " عَلِمَ " كانت في محلِّ نصبٍ لسَدِّها مَسَدَّ المفعولين .
والثاني : أنها رابطةٌ بين القًسَمِ والمُقْسِمِ عليه كما تقدم .
قوله : { أَوْ تَحُلُّ } يجوز أن يكونَ فاعلُه ضميرَ الخطاب [ أي : ] أو تَحُلُّ أنت يا محمدُ ، وأن يكونَ ضميرَ القارعة ، وهذا أَبْيَنُ ، أي : تُصيبهم قارِعَةٌ ، أو تَحُلُّ القارعة .
وقرأ ابن جبير ومجاهد " يَحُلُّ " بالياء مِنْ تحتُ ، والفاعلُ على ما تقدم : إمَّا ضميرُ القارعة ، وإنما ذكَّر الفعلَ لأنها بمعنى العذاب ، أو لأن التاءَ للمبالغة ، والمرادُ قارِع ، وإمَّا ضميرُ الرسول ، أتى به غائباً . وقرآ أيضاً " مِنْ ديارهم " وهي واضحة .
(1/2674)

أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
قوله تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ } : " مَنْ " موصولةٌ ، صلتُها " هو قائم " والموصولُ مرفوعٌ بالابتداء ، وخبرُه محذوفٌ تقديرُه : كمَنْ ليس كذلك مِنْ شركائِهم التي لا تَضُرُّ ولا تنفع . ودلَّ على هذا المحذوفِ قولُه { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } ونحوُه قولُه تعالى : { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } [ الزمر : 22 ] تقديره : كَمَنْ قَسا قلبُه ، يَدُلُّ عليه { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله } وإنما حَسَّن حَذْفَه كونُ الخبرِ مقابلاً للمبتدأ . وقد جاء منفياً كقولِه { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [ النحل : 17 ] { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى } [ الرعد : 19 ] .
قوله : { وَجَعَلُواْ } يجوز أن يكونَ استئنافاً وهو الظاهرُ ، جيءَ به للدلالةِ على الخبرِ المحذوفِ كما تقدم تقريرُه . وقال الزمخشري : " ويجوز أَن يُقَدَّر ما يقع خبراً للمبتدأ ، ويُعْطَفَ عليه و " جعلُوا " ، وتمثيلُه : أفَمَنْ هو بهذه الصفةِ لم يوحِّدوه ، / وجعلوا له وهو اللهُ الذي يستحقُّ العبادةَ وحدَه شركاءَ . قال الشيخ : " وفي هذا التوجيهِ إقامةُ الظاهر مُقامَ المضمر في قوله " وجعلوا لله : أي له " ، وفيه حَذْفُ الخبرِ عن المقابل ، وأكثرُ ما جاء هذا الخبرُ مقابلاً " . وقيل : الواو للحال والتقدير : اَفَمَنْ هو قائمٌ على نفسٍ موجودٌ ، والحالُ أنهم جعلوا له شركاءَ ، فَأُقيم الظاهرُ -وهو الله- مُقامَ المضمرِ ، تقريراً للإِلهية وتصريحاً بها .
وقال ابن عطيَّة : " ويظهر أن القولَ مرتبطٌ بقوله : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } كأن التقديرَ : أَفَمَنْ له القدرةُ والوحدانيةُ ، ويُجْعَلُ له شريكٌ ، أَهْلٌ أن ينتقمَ ويعاقِبَ أم لا " . وقيل : " وجعلوا " عطفٌ على " استُهزِئ " بمعنى : ولقدِ استهزَؤُوا وجعلوا .
وقال أبو البقاء : " وهو معطوفٌ على " كَسَبَت " ، أي : وبجَعْلِهم لله شركاءَ " .
قوله : { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ } أم هذه منقطعةٌ مقدَّرةٌ ب " بل " والهمزةِ ، والاستفهامُ للتوبيخ : بل أتُنَبِّئونه شركاء لا يعلمهم في الأرض ، ونحوُه : { قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض } [ يونس : 18 ] ، فجعل الفاعلَ ضميراً عائداً على الله ، والعائدُ على " ما " محذوفٌ ، تقديرُه : بما لا يعلمُهُ اللهُ ، وقد تقدَّم في تلك الآيةِ أنَّ الفاعلَ ضميرٌ يعودُ على " ما " وهو جائزٌ هنا أيضاً .
قوله : { أَم بِظَاهِرٍ } الظاهرُ أنها منقطعة . و " الظاهر " هنا قيل : الباطلُ . وأنشدوا :
2862- أَعَيَّرْتَنا ألبانَها ولحومَها ... وذلك عارٌ يا بنَ رَيْطَةَ ظاهِرُ
أي باطِلٌ ، وفَسَّره مجاهدٌ " بكذبٍ " وهو موافقٌ لهذا . وقيل : " أم " متصلةٌ ، أي : اتنبئونه بظاهرٍ لا حقيقةَ له .
قوله : { وَصُدُّواْ } قرأ الكوفيون " وصُدُّوا " مبنياً للمفعول ، وفي غافر { وَصُدَّ عَنِ السبيل } [ الآية : 37 ] كذلك . وباقي السبعة مبنيِّين للفاعل . و " صَدَّ " جاء لازماً ومتعدياً فقراءةُ الكوفةِ من المتعدِّي فقط ، وقراءةُ الباقين تتحمل أن يكونَ من المتعدِّي ومفعولُه محذوفٌ ، أي : وصَدُّوا غيرَهم أو أنفسَهم ، وأن يكونَ مِنَ اللازم ، أي : أَعْرَضوا وتَوَلَّوا .
وقرأ ابنُ وثاب " وصِدُّوا " و { وصِدَّ عن السبيل } بكسرِ الصاد ، وهو مبنيٌّ للمفعول ، اجراه مُجْرى قِيْل وبِيْع ، فهو كقراءة { رِدَّت إلينا } ، [ وقوله : ]
2863- وما حِلَّ مِنْ جهلٍ حُبا حُلَمائِنا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد تقدم .
(1/2675)

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
قوله تعالى : { مَّثَلُ الجنة } : مبتدأ ، وخبرُه محذوفٌ تقديره : فيما قَصَصْنا ، أو فيما يُتْلَى عليكم مَثَلُ الجنَّة ، وعلى هذا فقولُه { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } تفسيرٌ لذلك المَثَل . وقال أبو البقاء : " فعلى هذا " تَجري " " حالٌ من العائدِ المحذوف في " وُعِد " ، أي : وُعِدَها مُقَدَّراً جَرَيَانُ أنهارها " . ونَقَل عن الفراء أنه جعل الخبر قوله " تجري " . قال : " وهذا خطأٌ عند البصريين " . قال : " لأنَّ المَثَلَ لا تَجْري مِنْ تَحتِه الأنهارُ ، وإنما هو من صفاتِ المضافِ إليه ، وشُبْهَتُه : انَّ المَثَل هنا بمعنى الصفة فهو كقولِه " صِفَةُ زيدٍ أنه طويلٌ " ، ويجوز أن يكونَ " تجري " مستانَفاً " .
قلت : وهذا الذي ذكره ابو البقاء نَقَل نحوَه الزمخشريُّ : ونَقَل غيرُه عن الفراء في الآية تاويلين آخرين ، أحدُهما : على حذف لفظةِ " أنَّها " والأصلُ : صفةُ الجنَّة أنها تجري ، وهذا منه تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ ، وكيف يَحْذِفُ " أنها " من غير دليلٍ . والثاني : أنَّ لفظةَ " مثل " زائدةٌ ، والأصل : الجنة تجري مِنْ تحتِها الأنهار ، وزيادةُ " مَثَل " كثيرةٌ في لسانِهم . ومنه { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] { فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ } [ البقرة : 137 ] وقد تقدَّم .
وقال الزمخشري : " وقال غيرُه : -أي سيبويه - الخبر { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } كما تقول : صفةُ زيدٍ أسمرُ " . قال الشيخ : " وهذا أيضاً لا يَصِحُّ أن يكونَ " تَجْري " خبراً عن الصفةِ ، ولا " أسمر " خبراً عن الصفة ، وإنما يُتَأَوَّل " تجري " على إسقاطِ " أنْ " ورفعِ الفعل ، والتقدير : أَنْ تَجْري ، أي : جَرَيانُها .
وقال الزجَّاج : " مَثَل الجنَّة جَنَّةٌ تجري ، على حَذْفِ الموصوفِ تمثيلاً لِما غاب عنَّا بما نشاهده " . ورَدَّ عليه أبو عليٍّ قال : " لا يَصِحُّ ما قال الزجاج ، لا على معنى الصفة ، ولا على معنى الشَّبَه؛ لأنَّ الجنَّةَ التي قَدَّرها جثةٌ ولا تكونُ الصفة ، ولأنَّ الشَّبه عبارةٌ عن المماثلةِ التي بين المتماثلين وهو حَدَثٌ ، والجنَّةُ جثَّةٌ فلا تكون المماثلةُ ، والجمهورُ على أن المَثَلَ هنا بمعنى الصفة فليس هنا ضَرْبُ مَثَلٍ ، فهو كقولِه تعالى : { وَلِلَّهِ المثل الأعلى } [ النحل : 60 ] وأنكر أبو علي أَنْ تكون بمعنى الصفة ، وقال : معناه الشبه .
وقرأ عليٌّ وابن مسعود " أمثال الجنة " ، أي : صفاتها .
و { أُكُلُهَا دَآئِمٌ } كقوله " تَجْرِي " في الاستئناف التفسيري أو الخبرية أو الحالية . وقد تقدَّم خلافُ القرَّاءِ فيه في البقرة " .
(1/2676)

وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)
قوله تعالى : [ { ولا أُشْرِكَ } ] : قرأ نافع في روايةٍ عنه برفع { ولا أُشْرِكُ } وهي تحتمل القطع ، أي : وأنا لا أُشْرِك ، وقيل : هي حالٌ . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المنفيَّ ب " لا " كالمُثْبِتِ في عدمِ مباشرة واوِ الحال له .
(1/2677)

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
و { حُكْماً } حال/ من مفعولِ " أنزلناه " . والكاف في " كذلك " نصب ، أي : وكما يَسَّرنا هؤلاء للفرحِ ، وهؤلاء لإِنكار البعضِ كذلك اَنْزَلْناه حُكْماً .
(1/2678)

يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
وقرأ أبو عمروٍ وابنُ كثيرٍ وعاصمٌ : " ويُثْبتُ " مخففاً مِنْ اَثْبَتَ ، والباقون بالتشديد والتضعيف ، والهمزةُ للتعدية . ولا يَصِحُّ ان يكونَ التضعيفُ للتكثير ، إذ من شرطِه أن يكون متعدياً قبل ذلك . ومفعولُ " يُثْبِتُ " محذوفٌ ، أي : ويُثْبِتُ ما يشاء .
(1/2679)

وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
قوله تعالى : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } : جوابٌ للشرط قبله . قال الشيخ : " والذي تقدَّم شرطان؛ لأنَّ المعطوفَ على الشرط شرطٌ : فامَّا كونُه جواباً للشرط الأول فليس بظاهرٍ؛ لأنه لا يترتَّب عليه؛ إذ يصير المعنى : وإمَّا نُرِيَنَّك بعضَ ما نَعِدُهم من العذاب فإنَّما عليك البلاغُ ، وأمَّا كونُه جواباً للشرطِ الثاني وهو { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } فكذلك؛ لأنه يصير التقدير : إنْ ما نَتَوَفَّيَنَّك فإنَّما عليك البلاغُ ، ولا يترتَّب جوابُ التبليغِ عليه - على وفاتِه عليه السلام - لأنَّ التكليفَ ينقطعُ عند الوفاة فيُحتاج إلى تأويل : وهو أنْ يُقَدَّرَ لكلِّ شرطٍ ما يناسبُ أَنْ يكون جزاءً مترتباً عليه ، والتقدير : وإمَّا نُرِيَنَّك بعضَ الذي نَعِدُهم فذلك شافيك مِنْ أعدائك ، أو : إنْ نَتَوَفَّيَنَّك قبل خَلْقِه لهم فلا لَوْمَ عليك ولا عَتَبَ " .
(1/2680)

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
قوله تعالى : { نَنقُصُهَا } : حال : إمَّا مِنْ فاعل " نأتي " أو مِنْ مفعوله . وقرأ " نُنَقِّصُها " بالتضعيف الضحَّاكُ ، عدَّاه بالتضعيف .
قوله : { لاَ مُعَقِّبَ } جملةٌ حالية ، وهي لازمةٌ . والمُعَقِّبُ : الذي يكُرُّ على الشيء ، فيُبْطله . قال لبيد .
2864- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... طَلَبُ المُعَقِّبِ حَقَّه المَظْلومُ
(1/2681)

وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
قوله تعالى : { وَسَيَعْلَمُ } قرأ ابنُ عامرٍ والكوفيون " الكفَّار " جمعَ تكسير ، والباقون " الكافر " بالإِفراد ، ذهاباً إلى الجنس . وقرأ عبد الله " الكافرون " جمعَ سلامةٍ .
(1/2682)

وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
قوله تعالى : { وَمَنْ عِندَهُ } : العامَّة [ على فتح ميم ] " مَنْ " ، وهي موصولةٌ ، وفي محلِّها أوجهٌ ، أحدُها : أنها مجرورةُ المحلِّ نَسَقاً على لفظ الجلالةِ ، أي : بالله وبمَنْ عنده عِلْمُ الكتابِ كعبد الله بن سلام ونحوِه . والثاني : أنها في محلِّ رفعٍ عطفاً على محل [ الجلالة ، إذ هي ] فاعلةٌ ، والباءُ زائدةٌ فيها . الثالث : أن يكونَ مبتدأً ، وخبرُه محذوف ، أي : ومَنْ عنده عِلْم الكتاب أَعْدَلُ وأمضى قولاً .
و { عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } يجوز أن يكونَ الظرفُ صلةً ، و " عِلْمُ " فاعلٌ به . واختاره الزمخشري ، وتقدَّم تقريرُه ، وأن يكونَ مبتدأً وما قبله الخبرُ ، والجملةُ صلةٌ ل " مَنْ " .
والمراد بمَنْ عنده عِلْمُ الكتاب : إمَّا ابنُ سَلام أو جبريلُ أو اللهُ تعالى . قال ابن عطية : " ويُعْتَرض هذا القولُ بأنَّ فيه عطفَ الصفة على الموصوف ولا يجوز ، وإنما تُعْطَفُ الصفاتُُ " . واعترض الشيخُ عليه بأنَّ " مَنْ " لا يُوصَفُ بها ولا بغيرِها من الموصولات إلاَّ ما اسْتُثْني ، وبأنَّ عطفَ الصفاتِ بعضِها على بعض لا يجوز إلا بشرطِ الاختلاف .
قلت : ابن عطية إنما عَنَى الوصفَ المعنويَّ لا الصناعيَّ ، وأمَّا شرطُ الاختلافِ فمعلومٌ .
وقرأ عليٌّ وأُبَيٌّ وابنُ عباس وعكرمة وابن جبير وعبد الرحمن ابن أبي بكرة والضحاك وابن أبي إسحاق ومجاهد في خَلْق كثير { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } جعلوا " مِنْ " حرفَ جرّ ، و " عندِه " مجرورٌ بها ، وهذا الجارُّ هو خبرٌ مقدَّمٌ ، و " عِلْم " مبتدأ مؤخر . وقرأ عليٌّ أيضاً والحسن وابن السَّمَيْفع { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } يجعلون " مِنْ " جارَّةً ، و " عُلِمَ " مبنياً للمفعول ، و " الكتابُ " رفعٌ به . وقُرئ كذلك إلاَّ انه بتشديد " عُلِّم " . والضمير في " عنده " على هذه القراءاتِ لله تعالى فقط . وقُرئَ أيضاً " وبمَن " بإعادةِ الباءِ الداخلةِ على الجلالة .
(1/2683)

الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)
قوله تعالى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ } : يجوزُ أَنْ يرتفعَ خبراً ل " ألر " إن قلنا إنها مبتدأٌ ، والجملةُ بعده صفةٌ ، ويجوز أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هذا كتابٌ ، وأن يرتفعَ بالابتداء ، وخبرُه الجملةُ بعده ، وجاز الابتداءُ بالنكرةِ لأنها موصوفةٌ تقديراً . تقديره : كتابٌ أيُّ كتابٍ ، يعني عظيماً مِنْ بينِ الكتبِ السماوية .
قوله : " لِتُخْرِجَ " متعلقٌ ب " أَنْزَلْنا " وقُرِئَ " ليَخْرج الناسُ " بفتح الياء وضمَِّ الراء مِنْ خَرَجَ يَخْرُج ، " الناس " رفعاً على الفاعلية .
قوله : " بإذنِ " يجوز أن يتعلَّقَ بالإِخراج ، أي : بتسهيله وتيسيرِه ، ويجوز أَن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ فاعلِ " تُخْرِجَ " ، أي : مأذوناً لك .
قوله : { إلى صِرَاطِ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه بدلٌ من قوله { إِلَى النور } بإعادةِ العامل ، ولا يَضُرُّ الفصلُ بالجارِّ لأنه من معمولاتِ العاملِ في المُبْدَلِ منه . والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه جوابُ سؤالٍ مقدَّر ، كأنه قيل : إلى أيِّ نور؟ إلى صراط .
(1/2684)

اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2)
قوله تعالى : { الله الذي } : قرأ نافعٌ وابن عامرٍ برفعِ الجلالةِ والباقون - ورواها الأصمعيُّ عن [ نافع ] - بالجرِّ .
فأمَّا الرفعُ فعلى وجهين ، أحدُهما : أنه مبتدأٌ ، خبرُه الموصولُ بعده ، أو محذوفٌ تقديرُه : اللهُ الذي له ما في السماواتِ وما في الأرضِ العزيزُ الحميد ، حُذِف لدلالة ما تقدَّم . والثاني : أنه خبرُ مبتدأ مضمر ، أي : هو اللهُ ، وذلك على المدح .
وأمَّا الجرُّ فعلى البدلِ عند أبي البقاء والحوفي وابنِ عطية ، والبيان عند الزمخشري قال : " لأنه جَرَى مَجْرَى الأسماءِ الأعلام لغلبتِه على المعبودِ بحق كالنجم للثريا " . قال الشيخ : " وهذا التعليلُ لا يتمُّ إلا أن يكونَ أصلُه الإِله ، ثم فُعِل فيه ما تقدَّم أولَ هذا الموضوع " . وقال الأستاذ ابن عصفور : " ولا تُقََدَّمُ صفةٌ على مَوصوفٍ إلا حيث سُمِع ، وهو قليلٌ ، وللعربِ فيه وجهان ، أحدُهما : أنْ تتقدَّمَ الصفةُ بحالها ، وفيه إعرابان للنحويين ، أحدُهما : أن تُعْرَبَ صفةً متقدمةً . والثاني : أن يُجعل/ الموصوفُ بدلاً من صفتِه . الثاني من الأولين : أن تُضيفَ الصفةَ إلى الموصوف . فعلى هذا يجوز أن يُعْرَبَ { العزيز الحميد } صفةً متقدِّمة ، ومِنْ مجيء تقديمِ الصفةِ قولُه :
2865- والمُؤْمِنِ العائذاتِ الطيرِ يَمْسَحُها ... رُكْبانُ مكةَ بين الغِيل والسَّنَدِ
وقول الآخر :
2866- وبالطويل العُمْرِ عُمْراً حَيْدَراً ... يريد : الطير العائذات ، وبالعمر الطويل . قلت : وهذا فيما لم يكنِ الموصوفُ نكرةً ، أمَّا إذا كان نكرةً صار لنا عملٌ آخرُ : وهو أن تنتصبَ تلك الصفةُ على الحال .
قوله : { وَوَيْلٌ } جاز الابتداءُ به لأنه دعاء ك " سلامٌ عليكم " . و " للكافرين " خبره . و { مِنْ عَذَابٍ } متعلِّقٌ بالويل . ومنعه الشيخ . لأنه يَلْزَمُ منه الفصلُ بين المصدرِ ومعمولِه ، وقد تقدَّم لك بحثٌ في ذلك : وهو أنَّ ذلك ممنوعٌ حيث يتقدَّر المصدرُ بحرفٍ مصدريٍّ وفِعْلٍ ، ولذلك جَوَّزوا تعلُّقَ { بِمَا صَبَرْتُمْ } [ الرعد : 24 ] ب " سلام " ولم يَعْترضوا عليه بشيء ، وقد تقدَّم ذلك في السورةِ قبلها ، ولا فرقَ بين الموضعين .
وقال الزمخشريُّ : " فإنْ قلتَ : ما وجهُ اتصالِ قولِه : { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } بالويل؟ قلت : لأنَّ المعنى يُوَلْوِلون من عذاب شديد " . قال الشيخ : " فظاهره يدلُّ على تقدير عاملٍ يتعلَّقُ به { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } . ويجوز أنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ للمبتدأ ، وفيه سَلامةٌ من الاعتراضِ المتقدم ، ولا يَضُرُّ الفصلُ بالخبر .
(1/2685)

الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
قوله تعالى : { الذين يَسْتَحِبُّونَ } يجوز أن يكون مبتدأً خبرُه " أولئك " وما بعده ، وأن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هم الذين ، وأن يكونَ منصوباً بإضمارِ فعلٍ على المدح فيهما ، وأن يكون مجروراً على البدلِ أو البيانِ أو النعتِ ، قاله الزمخشري وأبو البقاء والحوفيُّ وغيرُهم . وردَّه الشيخ بأنَّ فيه الفَصْلَ بأجنبي وهو قولُه { مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } قال : " ونظيرُه إذا كان صفةً أن تقول : " الدارُ لزيدٍ الحسنةُ القُرَشِيِّ : وهذا لا يجوز ، لأنك فَصَلْتَ بين زيد وصفتِه بأجنبيٍّ منهما وهو صفةُ الدار ، وهولا يجوز ، والتركيبُ الفصيحُ أن تقول : الدارُ الحسنةُ لزيدٍ القرشيِّ ، أو : الدارُ لزيدٍ القرشيِّ الحسنةُ " .
و " يَسْتَحِبُّون " : استفعلَ فيه بمعنى أَفْعَل كاستجاب بمعنى أجاب ، أو يكونُ على بابه ، وضُمِّن معنى الإِيثار ، ولذلك تعدَّى ب على .
وقرأ الحسن " ويُصِدُّون " مِنْ أَصَدَّ ، وأَصَدَّ منقولٌ مِنْ صَدَّ اللازمِ ، والمفعولُ محذوفٌ ، أي : غيرَهم ، أو أنفسَهم .
و { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } تقدَّم مثله .
(1/2686)

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
قوله تعالى : { إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ } : يجوز أن يكونَ حالاً ، أي : إلاَّ متكلِّماً بلغةِ قومِهِ . وقرا العامَّةُ " بلسان " بزِنَةِ " كِتاب " ، أي : بلغةِ قومِه . وأبو الجوزاء وأبو السَّمَّال وأبو عمران الجوني : بِلِسْنِ " بكسر اللام وسكون السين . وفيه قولان ، أحدُهما : أنهما بمعنى واحدٍ كالرِّيش والرِّياش . والثاني : أن اللسانَ يُطْلَقُ على العضوِ المعروف وعلى اللغةِ ، وأمَّا اللِّسْنُ فخاصٌّ باللغة ، ذكره ابن عطية وصاحب " اللوامح " .
وأبو رجاء وأبو المتوكل والجحدريُّ " بِلُسُن " بضمِّ اللام والسين وهو جمع " لِسان " ككِتاب وكُتُب . وقرئ بسكونِ السين فقط ، وهو تخفيفٌ للقراءةِ قبلَه ، نحو : رُسُل في رُسُل ، وكُتْب في كُتُب .
والهاءُ في " قومه " الظاهرُ عَوْدُها على " رسول " المذكور . وعن الضحاك : أنها تعودُ لمحمد صلَّى الله عليه وسلم ، وغَلَّطوه في ذلك؛ إذ يصير المعنى : أنَّ التوراةَ وغيرَها أُنْزِلَتْ بلسان العربِ ، ليُبَيِّن لهم النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم التوراة .
قوله : { فَيُضِلُّ } استئنافُ إخبارٍ ، ولا يجوز نصبُه عطفاً على ما قبله ، لأنَّ المعطوفَ كالمعطوف عليه في المعنى ، والرسلُ اُرْسِلَتْ للبيانِ لا للإِضلالِ . قال الزجاج : لو قَرِئ بنصبِه على أنًّ اللامَ لامُ العاقبة جاز " .
(1/2687)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
قوله تعالى : { أَنْ أَخْرِجْ } : يجوز أن تكونَ " أنْ " مصدريةً ، أي : بأَنْ أخْرِجْ . والباءُ في " بآياتنا " للحال ، وهذه للتعدية . ويجوز أن تكونه مفسرةً للرسالة . وقيل : بل هي زائدةٌ ، وهو غلطٌ .
قوله : { وَذَكِّرْهُمْ } يجوز أن يكونَ منسوقاً على " أَخْرِجْ " فيكونَ من التفسير ، وأن لا يكونَ منسوقاً ، فيكونَ مستأنفاً . و " أيام الله " عبارةٌ عن نِعَمه ، كقوله :
2867- وأيامٍ لنا غُرٍّ طِوالٍ ... عَصَيْنا المَلْكَ فيها أن نَدِينا
أو نَقَمه ، كقوله :
2868- وأيامُنا مشهورةٌ في عَدُوِّنا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ووجهه : أنَّ العرب تتجوَّزُ فَتُسْنِدُ الحَدَثَ/ إلى الزمان مجازاً ، وتُضيفُه إليها كقولهم : نهارٌ صائمٌ ، وليل قائمٌ ، ومَكْرُ الليلِ .
(1/2688)

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)
قوله تعالى : { إِذْ أَنجَاكُمْ } : يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ منصوباً ب " نِعْمَةَ " . الثاني : أن يكونَ ب " عليكم " ويوضِّح ذلك ما ذكره الزمخشريُّ فإنه قال : " إذ أنْجاكم ظرفٌ للنعمة بمعنى الإِنعام ، أي : إنعامه عليكم ذلك الوقت . فإن قلت : هل يجوزُ أن ينتصِبَ ب " عليكم "؟ قلت : لا يَخْلو : إمَّا أن يكونَ صلةً للنعمة بمعنى الإِنعام ، أو غيرَ صلة إذا أردت بالنعمة العَطِيَّة ، فإذا كان صلةً لم يعملْ فيه ، وإذا كان غيرَ صلةٍ بمعنى : اذكروا نعمةَ الله مستقرةً عليكم عَمِلَ فيه . ويتبيَّن الفرقُ بين الوجهين : أنك إذا قلت : { نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ } فإنْ جَعَلْتَه صلةً لم يكن كلاماً حتى تقول : فائضة أو نحوها ، وإلاَّ كان كلاماً . والثالث : أنه بدلٌ من " نعمة " ، أي : اذكروا وقتَ إنجائِكم وهو مِنْ بدلِ الاشتمال .
قوله : { وَيُذَبِّحُونَ } حالٌ أُخرى مِنْ { آلِ فِرْعَوْنَ } . وفي البقرة دون واو لأنه قُصِد به التفسيرُ فالسَّوْم هنا غيرُ السَّوْمِ هناك .
(1/2689)

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)
قوله تعالى : { وَإِذْ تَأَذَّنَ } يجوزُ أن يكونَ نِسَقاً على { إِذْ أَنجَاكُمْ } ، وأن يكونَ منصوباً ب " اذكروا " مفعولاً لا ظرفاً . وجَوَّز فيه الزمخشري أن يكون نَسَقاً على " نعمة " فهو مِنْ قولِ موسى ، والتقدير : وإذ قال موسى : اذكروا نعمةَ الله واذكروا حين تَأَذَّن . وقد تقدَّم نظيرُ ذلك في الأعراف . وقرأ ابن محيصن " يَذْبَحون " مخففاً .
(1/2690)

أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
قوله تعالى : { قَوْمِ نُوحٍ } : بدلٌ أو عطفُ [ بيانٍ ] .
قوله : { والذين مِن بَعْدِهِمْ } يجوز أن يكونَ عطفاً على الموصولِ الأولِ ، او على المبدل منه ، وأن يكونَ مبتدأً ، خبرُه { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } ، و " جاءَتْهُم " خبر آخر . وعلى ما تقدَّم يكون " لا يعلمهم " حالاً من " الذين " ، أو من الضمير في { مِن بَعْدِهِمْ } لوقوعِه صلةً ، وهذا عنى أبو البقاء بقوله : " حال من الضمير في { مِن بَعْدِهِمْ } ، ولا يُريد به الضميرَ المجرورَ ، لأنَّ مذهبَه مَنْعُ الحالِ من المضاف إليه ، وإن كان بعضُهم جَوَّزه في صورٍ . وجَوَّز أيضاً هو الزمخشري أن تكونَ استئنافاً .
وقال الزمخشري : " والجملةُ مِنْ قولِه { لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله } اعتراضٌ . ورَدَّ عليه الشيخ بأنَّ الاعتراضَ إنما يكون بين جُزْأَيْن أحدهما يطلب الآخر ، ولذلك لمَّا أَعْرَبَ الزمخشريُّ " والذين " مبتدأً و " لا يَعْلمهم " خبره ، قال : " والجملةُ مِنَ المبتدأ والخبر اعتراضٌ " . واعترضه الشيخُ أيضاً بما تقدَّم . ويمكنُ أن يُجابَ عنه في الموضعين : بأنَّ الزمخشريَّ يمكن أن يعتقدَ أنَّ " جاءَتْهم " حالٌ مما تقدَّم ، فيكون الاعتراضُ واقعاً بين الحالِ وصاحبِها ، وهذا كلامٌ صحيح .
قوله : { فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ } يجوز أن تكونَ الضمائرُ للكفَّارِ ، أي : فَرَدَّ الكفارُ أيديَهم في أفواههم من الغيظ . و " في " على بابِها من الظرفية ، أو فَرَدُّوا أيديَهم على أفواههم ضحكاً واستهزاءً . ف " في " بمعنى على ، أو أشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقوا به من قولِهم : إنَّا كَفَرْنا ، فهي بمعنى إلى . ويجوز أن يكونَ المرفوعُ للكفار والآخران للرسل ، على أن يُراد بالأيدي النِّعَم ، أي : رَدُّوا نِعَمَ الرُّسُل وهي نصائحُهم في أفواهِ الرسل ، لأنهم إذا كَذَّبوها كأنهم رَجَعوا بها من حيث جاءَتْ على سبيل المثل . [ ويجوز أن يُراد هذا المعنى ، والمرادُ بالأيدي الجوارح ] . ويجوز أن يكون الأوَّلان للكفار ، والأخيرُ للرسُل ، أي : فَرَدَّ الكفارُ أيديَهم في أفواهِ الرسُل ، أي : أطبِقُوا أفواهَكم ، يشيرون إليهم بالسكوت ، أو وَضَعُوها على أفواههم يمنعونهم بذلك من الكلامِ .
وقيل : " في " هنا بمعنى الباء . قال الفراء : " قد وَجَدْنَا من العرب مَنْ يجعل " في " موضعَ الباء . يُقال : أَدْخَلَكَ بالجنَّة ، وفي الجنَّة ، وأنشَد :
2869- وأرغَبُ فيها عن لَقيطٍ ورَهْطِهِ ... ولكنَّني عن سِنْبِسٍ لستُ أرغبُ
أي : أرغب بها . وقال أبو عبيدةَ : " هذا ضَرْبُ مَثَلٍ ، تقول العرب : " رَدَّ يَدَه في فيه " ، إذا أمسكَ عن الجوابِ " ، وقاله الأخفش أيضاً . وقال القتيبي : " لم نسمعْ أحداً يقول : " رَدَّ يده في فيه " إذا تَرَكَ ما أُمِرَ به " . ورُدَّ عليه ، فإنَّ مَنْ حَفِظَ حجةٌ على مَنْ يَحْفَظْ .
وقرأ طلحة " تَدْعُونَّا " بإدغامِ نونِ الرفع في نون الضميرِ ، كما تُدْغَم في نونِ الوقاية .
(1/2691)

قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10)
قوله تعالى : { أَفِي الله شَكٌّ } : يجوز في " شَكٌّ " وجهان ، أظهرُهما : أنه فاعل بالجارِّ قبله ، وجاز ذلك لاعتماده على الاستفهام . والثاني : أنه مبتدأٌ وخبره الجارُّ ، والأولُ أوْلَى ، بل كان ينبغي أن يَتَعَيَّن لأنه يلزمُ مِنَ الثاني الفصلُ بين الصفة والموصوفِ بأجنبيّ وهو المبتدأ ، وهذا بخلاف الأول ، فإنَّ الفاصلَ ليسَ أجنبياً؛ إذ هو فاعلٌ ، والفاعلُ كالجزء من رافعه . ويدلُّ على ذلك تجويزُهم : " ما رأيت رجلاً أحسنَ في عينه الكحلُ منه في عين زيد " بنصب " أحسنَ " صفةً ورفع " الكحلُ " فاعلاً بأَفْعَلَ ، ولم يَضُرَّ الفصلُ به بين أَفْعَل وبين " مِنْ " لكونه كالجزء مِنْ رافعِه ، ولم يُجيزوا رَفْعَ " أحسن " خبراً مقدَّماً و " الكحلُ " مبتدأ مؤخر ، لئلا يلزم الفصلُ بين أَفْعَل وبين " مِنْ " بأجنبي . ووجهُ الاستشهادِ من هذه المسألة : أنهم جعلوا المبتدأَ أجنبياً بخلاف الفاعل ، ولهذه المسألةِ موضعٌ غيرُ هذا .
وقرأ العامَّةُ " فاطرِ " بالجرِّ . وفيه وجهان : النعتُ والبدليةُ ، قاله أبو البقاء : وفيه نظر؛ فإنَّ الإِبدالَ بالمشتقاتِ يَقِلُّ ، ولو جعله عطفَ بيانٍ كان أسهلَ . قال الزمخشريُّ : " أُدْخِلَتْ همزةُ الإِنكارِ على الظرف ، لأنَّ الكلامَ ليس في الشَّكِّ ، إنما هو في المشكوك فيه ، وأنه لا يحتمل الشكَّ لظهورِ الأدلَّةِ وشهادتِها عليه/ .
وقوله : " لِيَغْفِرَ " اللامُ متعلِّقةٌ بالدعاء ، أي : لأجلِ غفران ربِّكم ، كقوله :
2870- دَعَوْتُ لِما نابني مِسْور ا ... فَلَبَّى فَلَبَّى يَدَيْ مِسْوَرِ
ويجوز أن تكونَ اللامُ مُعَدِّيةً كقولِك : دَعَوْتُكَ لِزيدٍ ، وقوله : { إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى [ الإيمان ] } [ غافر : 10 ] . والتقدير : يَدْعُوْكم إلى غفرانِ ذنوبِكم .
وقوله : { أَن تَصُدُّونَا } العامَّة على تخفيفِ النون . وقرأ طلحةُ بتشديدها كما شدَّد " تَدْعُونَّا " . وفيها تخريجان ، أحدُهما : ما تقدَّم في نظيرتِها على أَنْ تكونَ " أَنْ " هي المخففةَ لا الناصبةَ ، واسمُها ضميرُ الشأنِ ، وشذَّ عَدَمُ الفصلِ بينها وبين الجملة الفعلية . والثاني : أنها الناصبةُ ، ولكنْ أُهْمِلَتْ حملاً على " ما " المصدريَّةِ ، كقراءةِ " أَنْ يُتِمُّ " برفع " يُتِمُّ " . وقد تقدَّمَ القولُ فيه .
و " مِنْ " في { مِّن ذُنُوبِكُمْ } قيل : مزيدةٌ . وقيل : تبعيضيةٌ . وقيل : بمعنى البدلِ أي : بدلَ عقوبةِ ذنوبكم ، كقوله : { أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة } [ التوبة : 38 ] .
قوله : " تُرِيْدون " يجوز أن يكونَ صفةً ثانيةً ل " بَشَرٌ " ، وحُمِل على معناه؛ لأنَّ بمنزلةِ القومِ والرَّهْط ، كقوله : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } [ التغابن : 6 ] وأَنْ يكونَ مُسْتَأنفاً .
(1/2692)

قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ } : يجوز أن يكونَ خبرَ " كان " : " لنا " ، و { أَن نَّأْتِيَكُمْ } اسمَها ، أي : وما كان لنا إتيانُكم بسلطانٍ . و { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } حالٌ . ويجوز أن يكونَ الخبرُ { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } و " لنا " تبيينٌ .
(1/2693)

وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
قوله تعالى : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ } : كقوله : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ } [ البقرة : 246 ] وقد تقدَّم و " لَنَصْبِرَنَّ " جوابُ قسمٍ . وقوله : " ما آذَيْتُمونا " يجوز أَنْ تكونَ " ما " مصدريةً ، وهو الأرجحُ لعدم الحاجةِ إلى رابطٍ ادُّعِيَ حَذْفُه على غير قياس والثاني أنها موصولةٌ اسميةٌ ، والعائدُ محذوفٌ على التدريج ، إذ الأصل : آذيْتُمونا به ، ثم حُذِفَت الباءُ ، فَوَصَلَ الفعلُ إليه بنفسِه .
وقرأ الحسن بكسرِ لامِ الأمرِ في " فَلْيَتَوَكَّلْ " وهو الأصلُ .
(1/2694)

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)
و { لَنُخْرِجَنَّكُمْ } : جوابُ قسمٍ مقدَّرٍ ، كقوله : " ولَنَصْبِرَنَّ " .
قوله : { أَوْ لَتَعُودُنَّ } في " أوْ " ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها على بابِها مِنْ كونِها لأحدِ الشيئين . والثاني : أنها بمعنى " حتى " . والثالث : أنها بمعنى " إلا " ، كقولهم : " لأَلْزَمَنَّكَ أو تَقْضِيَني حقي " . والقولان الأخيران مَرْدُودان؛ إذ لا يَصِحُّ تركيبُ " حتى " ولا تركيبُ " إلا " مع قولِه " لَتَعُودُونَّ " بخلافِ المثال المتقدم .
والعَوْدُ هنا : يُحتمل أن يكونَ على بابِه ، أي : لَتَرْجِعُنَّ . و { فِي مِلَّتِنَا } متعلقٌ به ، وأن يكونَ بمعنى الصيرورةِ ، فيكونَ الجارُّ في محلِّ نصبٍ خبراً لها ، ولم يذكُرْ الزمخشريُّ غيرَه . [ قال : ] " فإنْ قلتَ : كأنَّهم على مِلَّتهم حتى يَعُودوا فيها . قلت : مَعاذَ اللهِ ، ولكنَّ العَوْدَ بمعنى الصيرورة ، وهو كثيرٌ في كلام العرب كثرةً فاشيةً ، لا تكاد تسمعهم يستعملون " صار " ، ولكن " عاد " : ما عُدْتُ أراه ، عاد لا يكلمني ، ما عاد لفلان مالٌ ، أو خاطبوا به كلَّ رسولٍ ومَنْ آمن به ، فَغَلَّبوا في الخطاب الجماعةَ على الواحد " . فقوله " أو خاطبوا " إلى آخره هو الوجهُ الأولُ بالتأويلِ المذكورِ ، وهون تأويلٌ حسنٌ .
قوله : { لَنُهْلِكَنَّ } جوابُ قسمٍ مضمر ، وذلك القسمُ وجوابُه فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه على إضمارِ القول ، أي : قال : لَنُهْلِكَنَّ . والثاني : أنه أجرى الإِيحاءَ مُجْرى القول لأه ضَرْبٌ منه .
وقرأ أبو حَيْوَةَ " لَيُهْلِكَنَّ " ، و " لَيُسْكِنَنَّكم " بياءِ الغَيْبة مناسَبَةً لقوله " ربُّهم " .
(1/2695)

وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
قوله تعالى : { ذلك } : مبتدأٌ ، وهو مُشارٌ به إلى توريثِ الأرضِ . و " لِمَنْ خاف " الخبر . و " مَقامي " فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مُقْحمٌ وهو بعيدٌ؛ إذ الأسماءُ لا تُقْحم . الثاني : أنه مصدرٌ مضافٌ للفاعل .
قال الفراء : " مَقامي : مصدرٌ [ مضافٌ ] لفاعِله ، أي : قيامي عليه بالحِفْظ " . الثالث : أنه اسمُ مكانٍ . قال الزجاج : " مكان وقوفِه بين يَدَي الحسابِ ، كقولِه { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } [ الرحمن : 46 ] .
قوله : " وَعِيْد " أثبت الياءَ هنا وفي ( ق ) في موضعين : { كُلٌّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ وَعِيدِ } [ الآية : 14 ] { فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ الآية : 45 ] وصلاً وحَذَفَها وَقْفاً ورشٌ عن نافع ، وحذفها الباقون وَصْلاً ووقفاً .
(1/2696)

وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)
قوله تعالى : { واستفتحوا } : العامَّةُ على " استفتحوا " فعلاً ماضياً ، وفي ضميرِه أقوالٌ ، أحدُها : أنه عائدٌ على الرسلِ الكرام ، ومعنى الاستفتاحِ : الاستنصارُ : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } [ الأنفال : 19 ] . وقيل : طَلَبُ الحكم من الفُتاحة . الثاني : أن يعودَ على الكفَّار ، أي : استفتح أُمَمُ الرسلِ عليهم ، كقولِه : { فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء } [ الأنفال : 32 ] . وقيل : عائدٌ على الفريقين لأنَّ كُلاًّ طلبَ النصرَ على صاحبِه . وقيل : يعودُ على قريشٍ لأنهم في سِنِي الجَدْبِ اسْتَمْطَرُوْا فلم يُمْطِروا ، وهو على هذا مستأنفٌ ، وأمَّا على غيرِه من الأقوال فهو عطفٌ على قولِه { فأوحى إِلَيْهِمْ } .
وقرأ ابنُ/ عباسٍ ومجاهدٌ وابنُ محيصن " واسْتَفْتِحوا " على لفظِ الأمر ، أمراً للرسل بطلبِ النُّصرة ، وهي مقوِّيةٌ لعَوْدَهِ في المشهورةِ على الرسل . والتقدير : قال لهم : لنهلكنَّ وقال لهم : اسْتَفْتِحُوا .
قوله : " وخابَ " هو في قراءةِ العامَّةِ عطفٌ على محذوفٍ تقديرُه : انتَصروا وظَفِرُوا وخاب . ويجوز أن يكونَ عطفاً على " اسْتَفْتحوا " على انَّ الضميرَ فيه للكفار . وفي غيرها على القولِ المحذوف ، وقد تقدَّم أنه يُعْطَفُ الطلبُ على الخبر وبالعكس .
(1/2697)

مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16)
و { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } : جملةٌ في محل جَرٍّ صفةً ل " جبارٍ " . ويجوز أَنْ تكونَ الصفةُ وحدَها الجارِّ ، و " جهنمُ " فاعلٌ به . وقوله : " ويُسْقََى " صفةٌ معطوفةٌ على الصفةِ قبلَها ، جملةٌ فعلية على اسمية . وإنْ جَعَلْتَ الصفةَ من الجارِّ وحدَه ، وعَلَّقْته بفعلٍ كان من عطفِ فعليةٍ على فعلية . وقيل : عطفٌ على محذوفٍ ، أي : يُلْقَى فيها ويُسْقَى .
و " وراء " هنا على بابها . وقيل : بمعنى " أمام " فهو من الأضداد ، وهذا عنى الزمخشري بقوله : " منْ بين يديه " وأنشد :
2871- عَسَى الكربُ الذي أَمْسَيْتُ فيه ... يكون وراءَه فَرَجٌ قريبُ
وهو قولُ أبي عبيدة وقطرب وابن جرير . وقال الآخَرُ في ذلك :
2872- أيَرْجُو بنو مروانَ سَمْعي وطاعتي ... وقومي تميمٌ والفلاةُ ورائِيا
أي : قُدَّامي . وقال آخر :
2873- أليس ورائي إنْ تراخَتْ مَنِيَّتي ... لُزومُ العَصَا تُحْنى عليها الأَصابعُ
وقال ثعلب : " هو اسمٌ لِما توارَى عنك ، سواءً كان خلفَكَ أم قدَّامك " .
قوله : { مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ } في " صديد " ثلاثةُ أوجهٍ . أحدُها : أنه نعتٌ ل " ماء " وفيه تأويلان ، أحدهما : أنه على حَذْفِ أداة التشبيه ، أي : ماءٍ مثلِ صديد ، وعلى هذا فليس الماءُ الذي يَشْرَبونه صَديداً ، بل مثلُه . والثاني : أنَّ الصديدَ لَمَّا كان يُشبه الماءَ أُطْلِقَ عليه ماءٌ ، وليس هو ماءً حقيقةً ، وعلى هذا فيكونون يشربون نفسَ الصديد المُشْبِهِ للماء . وهو قول ابن عطية . وإلى كونِه صفةً ذَهَبَ الحوفيُّ وغيره . وفيه نظرٌ؛ إذ ليس بمشتقٍ ، إلا على مَنْ فسَّره بأنه صَدِيدٌ بمعنى مَصْدود ، أخذه مِن الصَّدِّ ، فكأنه لكراهيِتِه مَصْدودٌ عنه ، أي : يَمْتنع عنه كلُّ أحدٍ .
الثاني : أنه عطفُ بيانٍ ، وإليه ذهب الزمخشريُّ ، وليس مذهبَ البصريين جريانُه في النكرات ، إنما قال به الكوفيون ، وتَبعهم الفارسيُّ أيضاً .
الثالث : أن يكونَ بدلاً . وأعرب الفارسيُّ " زَيتونةٍ " مِنْ قولِه : " [ بُوْقَدُ ] مِنْ شجرةٍ مباركةٍ زَيْتُونةٍ " عطفَ بيان أيضاً .
والصَّديدُ : ماءٌ يسيل مِنْ أجساد أهل النار . وقيل : ما حالَ بين الجلدِ واللحمِ مِنَ القَيْحِ .
(1/2698)

يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)
قوله تعالى : { يَتَجَرَّعُهُ } : يجوز أن تكونَ الجملةُ صفةً ل " ماءٍ " ، وان تكونَ حالاً من الضمير في " يُسْقَى " ، وأن تكونَ مستأنفةً . و " تَجَرَّع " تَفَعَّل وفيه احتمالاتٌ ، أحدُها : أنه مطاوعٌ لجَرَّعْتُه نحو : عَلَّمْتُه فَتَعَلَّمْ .
والثاني : أن يكونَ للتكلُّف نحو : تَحَلَّم ، أي ، يتكلَّفُ جَرْعَه ، ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه : الثالث : أنه دالٌّ على المُهْلة نحو : فَهَّمته ، أي : يتناوله شيئاً فشيئاً بالجَرْع ، كما يَفْهم شيئاً فشيئاً بالتفهيم . الرابع : أنه بمعنى جَرَع المجرد نحو : " عَدَوْت الشيءَ " و " تَعَدَّيْتُه " .
{ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ } ، أي : لم يقارِبْ إساغَته فكيف بحصولها؟ كقوله : " لَمْ يَكَدْ يَرَاها " وستأتي إن شاء الله .
قوله : { وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } في الضمير وجهان ، أظهرُهما : أنه عائدٌ على " كل جبار " . والثاني : أنه عائدٌ على العذابِ المتقدِّمِ .
(1/2699)

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
قوله تعالى : { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ } : فيه أوجه ، أحدُها : - وهو مذهبُ سيبويه - أنه مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ تقديرُه : فيما يُتْلَى عليكم مَثَلُ الذين كفروا ، وتكون الجملة من قوله { أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ } مستأنفةً جواباً لسؤال مقدر ، كأنه قيل : كيف مَثَلُهم؟ فقيل : كيت وكيت . والمَثَلُ استعارةٌ للصفةِ التي فيها غرابةٌ كقولِكََ ، صفةُ زيدٍ ، عِرْضُه مَصُونٌ ، ومالُه مبذول .
الثاني : أن يكونَ " مَثَلَ " مبتدأً ، و " أعمالُهم " مبتدأ ثانٍ ، و " كرمادٍ " خبرُ الثاني ، والثاني وخبره خبرُ الأول . قال ابن عطية : " وهذا عندي أرجحُ الأقوالِ ، وكأنك قلت : المتحصِّلُ في النفس مثالاً للذين كفروا هذه الجملةُ المذكورةُ " . وإليه نحا الحوفي . قال الشيخ : " وهو لا يجوزُ لأنَّ الجملةَ التي وقعت خبراً للمبتدأ لا رابطَ فيها يربُطها بالمبتدأ ، وليست نفسَ المبتدأ فَتَسْتَغْني عن رابطٍ " . قلت : بل الجملةُ نفسُ المبتدأ ، فإنَّ نفسَ مَثَلِهم هو نفسُ أعمالِهم كرمادٍ في أنَّ كلاًّ منها لا يفيد شيئاً ، ولا يَبْقَى له أثرٌ ، فهو نظيرُ قولك / " هَجِّيْرى أبي لا إله إلا اللهُ " .
الثالث : أنَّ " مَثَلَ " مزيدةٌ ، قاله الكسائيُّ والفراء : أي : الذين كفروا أعمالُهم كرَمادٍ ، فالذين مبتدأ " أعمالُهم " مبتدأٌ ثانٍ و " كرمادٍ " خبرُه . وزيادة الأسماءِ ممنوعةٌ .
الرابع : أن يكونَ " مَثَلَ " مبتدأً ، و " أعمالُهم " بدلٌ منه ، على تقدير : مَثَلُ أعمالِهم ، و " كرمادٍ " الخبرُ . قاله الزمخشريُّ : ، وعلى هذا فهو بدلُ كلٍ مِنْ كلٍ ، على حَذْفِ المضافِ كما تقدَّم .
الخامس : أن يكونَ " مَثَل " مبتدأً ، و " أعمالُهم " بدلٌ منه بدلُ اشتمالٍ ، و " كرمادٍ " الخبر ، كقول الزَّبَّاء :
2874- ما للجِمال مَشْيِها وئيدا ... أجَنْدَلاً يَحْمِلْن أم حديدا
والسادس : أن يكونَ " مَثَل " مبتدأً ، و " أعمالُهم " خبرَه ، أي : مَثَلُ أعمالِهم ، فحذف المضاف . و " كرماد " على هذا خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، وقال أبو البقاء حين ذكر وجهَ البدل : " ولو كان القرآن لجاز إبدالُ " أعمالهم " من " الذين " وهو بدلُ اشتمال " ، يعني أنه كان يُقْرَأُ " أعمالِهم " مجرورةً ، لكنه لم يُقرأْ به .
و " الرمادُ " معروفٌ " وهو ما سَحَقَتْه النارُ من الأَجْرام ، وجمعُه في الكثرة على رُمُد ، وفي القلَّة على أرْمِدَة كجَماد وجُمُد وأَجْمِدَة ، وجمعُه على " أَرْمِدَاء " شاذٌّ . والرِّماد : السَّنَةُ أيضاً ، السَّنةُ : المَحْل ، أَرْمَدَ الماءُ ، أي : صار بلون الرماد ، والأَرْمَدُ : ما كان على لونِ الرَّماد . وقيل للبعوض " رُمْد " لذلك ، ويقال : رَمادٌ رِمْدِدٌ ، صار هباءً .
قوله : { اشتدت بِهِ الريح } في محلِّ جرٍّ صفةً لرماد ، و " في يوم " متعلِّقٌ ب " اشْتَدَّت " .
(1/2700)

قوله : " عاصفٍ " فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه على تقدير : عاصفٍ ريحُه ، أو عاصفِ الريح ، ثم حُذِفَ " الريح " وجُعلت الصفةُ لليوم مجازاً كقولهم : " يومٌ ماطر " و " ليلُ نائم " . قال الهرويُّ : " فَحُذِفَتْ لتقدُّم ذِكْرِهَا ، كما قال :
2875- إذا جاء يومٌ مظلِمُ الشمسِ كاسفُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : كاسِفُ الشمسِ .
الثاني : أنه على النَّسَبِ ، أي : ذي عُصُوفٍ كلابِن وتامِر .
الثالث : أنه خُفِض على الجِوار ، أي : كان الأصلُ أن يَتْبع العاصفُ الريحَ في الإِعراب فيُقال : اشتدَّتْ به الريحُ العاصفُ في يوم ، فلمَّا وقع بعد اليوم أُعْرِبَ بإعرابه ، كقولهم : " جُحرُ ضَبّ خَربٍ " . وفي جَعْلِ هذا من باب الخفضِ على الجوارِ نظرٌ ، لأنَّ مِنْ شرطِه : أن يكون بحيث لو جُعِل صفةُ لِما قُطع عن إعرابه لَصَحَّ كالمثال المذكورِ ، وهنا لو جَعَلْتَه صفةً للريح لم يَصِحَّ لتخالفِهما تعريفا وتنكيراً في هذا التركيبِ الخاصِّ .
وقرأ الحسن وابنُ أبي إسحاق بإضافة " يوم " ل " عاصِفٍ " . وهي على حَذْفِ الموصوفِ ، أي : في يومِ ريحٍ عاصِف ، فَحُذِفَ لفَهْم المعنى الدالِّ على ذلك . ويجوز أن يكونَ من بابِ إضافةِ الموصوف إلى صفته عند مَنْ يَرَى ذلك نحو : بَقْلَةُ الحَمْقَاء .
ويقال : ريحٌ عاصِفٌ ومُعْصِفٌ ، وأصلُه من العَصْفِ ، وهو ما يُكْسَرُ مِن الزِّرْع فقيل ذلك للريحِ الشديدة لأنها تَعْصِفُ ، أي : تكسِرُ ما تَمُرُّ عليه .
قوله : { لاَّ يَقْدِرُونَ } مستأنفٌ ، ويَضْعُفُ أن يكونَ صفةً ليوم على حَذْفِ العائد ، أي : لا يَقْدِرُون فيه ، و " مِمَّا كَسَبُوا " متعلِّقٌ بمحذوفٍ ، لأنَّه حالٌ من " شيء " إذ لو تأخَّر لكانَ صفةً . والتقديرُ : على شيءٍ مِمَّا كسبوا .
(1/2701)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ } : قرأ أبو عبد الرحمن بسكونِ الراء وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه أَجْرَى الوصلَ مُجْرى الوقف . والثاني : أنَّ العربَ حَذَفَتْ لامَ الكلمة عند عدمِ الجازمِ فقالوا : " ولو تَرَ ما الصبيانُ " فلما دخل الجازمُ تخيَّلوا أن الراءَ محلُّ الجزم ، ونظيرُه : لم أُبَلْ فإنَّ أصلَه أبالي ، ثم حذفوا لامَه رفعاً فلمَّا جزموه لم يَعْتَدُّوا بلامِه ، وتوهَّموا الجزم في اللام .
والرؤية هنا قلبيةٌ ف " أنَّ " في محلِّ المفعولَيْن أو أحدهما على الخلاف . وقرأ الأخَوان هنا { خالقَ السماوات والأرض } " خالق " اسمُ فاعلٍ مضافاً لِما بعده ، فلذلك خفضوا ما عُطِفَ عليه وهو الأرض . وفي النور : { خَالقُ كُلِّ دَآبَّةٍ } [ الآية : 45 ] اسمُ فاعل مضافاً لما بعده . والباقون " خَلَقَ " فعلاً ماضياً ، ولذلك نصبوا " الأرضَ " و { كُلِّ دَآبَّةٍ } ، فكسرُه " السماواتِ " في قراءة الأخوين خفضٌ ، وفي قراءةِ غيرِهما نصبٌ . / ولو قيل بأنه في قراءة الأخوين يجوزُ نَصْبُ " الأرضَّ " على أحدِ وجهين : إمَّا على المحلِّ ، وإمَّا على حَذْفِ التنوين لالتقاء الساكنين ، فتكون " السماواتِ " منصوبةً لفظاً وموضعاً ، لم يمتنعْ ، ولكن لم يُقْرأْ به .
و " بالحقِّ : متعلِّقٌ ب " خلق " على أن الباءَ سببيةٌ ، وبمحذوفٍ على أنها حاليةٌ : إمّا من الفاعلِ ، أي : مُحِقَّاً ، وإمَّا من المفعول ، أي : ملتبسةً بالحق .
(1/2702)

وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
قوله تعالى : { تَبَعًا } : يجوز أن يكونَ جمع " تابِع " كخادِم وخَدَم وغائِب وغَيَب ، ويجوزُ أن يكونَ مصدراً نحو : قومٌ عَدْلٌ ، ففيه ثلاثةُ التأويلاتِ المشهورةِ .
قوله : { مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ } في " مِنْ " أوجهٌ : أحدُها : أنَّ : مِنْ " الأولى للتبيين ، والثانيةَ للتبعيض ، تقديرُه : مُغْنون عنا بعضَ الشيءِِ الذي هو عذابُ الله ، قاله الزمخشري . قال الشيخ : " هذا يقتضي التقديمَ في قوله " مِن شَيْءٍ " على قوله { مِنْ عَذَابِ الله } ؛ لأنه جَعَلَ { مِن شَيْءٍ } هو المُبَيِّنَ بقولِهِ من عذاب ، و " مِنْ " التبيينيةُ مقدَّمٌ عليها ما تُبَيِّنه ولا يتأخَّر " . قلتُ : كلامُ الزمخشري صحيحٌ من حيث المعنى ، فإنَّ { مِنْ عَذَابِ الله } لو تأخَّر عن " شيء " كان صفةً له ومُبَيِّناً ، فلمَّا تقدَّم انقلب إعرابُه من الصفة إلى الحال ، وأمَّا معناه وهو البيانُ فباقٍ لم يتغيَّرْ .
الثاني : أن تكونا للتبعيضِ معاً بمعنى : هل أنتم مُغْنُوْن عنا بعضَ شيءٍ هو بعضُ عذابِ الله؟ أي : بعض عذاب الله ، قاله الزمخشري . قال الشيخ : " وهذا يقتضي أن يكونَ بدلاً ، فيكونَ بدلَ عامٍّ مِنْ خاص ، وهذا لا يُقال؛ فإنَّ بَعْضِيَّةِ الشيء مطلقةٌ ، فلا يكون لها بعضٌ " . قلت : لا نزاعَ أنه يقالُ : بعضُ البعض ، وهي عبارةٌ متداولةٌ ، وذلك البعضُ المُتَبَعِّضُ هو كلُّ لأبعاضِه بعضٌ لكلِّه ، وهذا كالجنسِ المتوسط هو نوعٌ لِما فوقَه ، جنسٌ لِما تحته .
الثالث : أنَّ " مِنْ " في { مِن شَيْءٍ } مزيدةٌ ، و " مِنْ " في { مِنْ عَذَابِ } فيها وجهان ، أحدُهما : أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنها في الأصل صفةٌ لشيء ، فلمَّا تقدَّمَتْ نُصِبت على الحال . والثاني : أنها تتعلَّق بنفس " مُغْنُوْنَ " على أن يكون " من شيء " واقعاً موقعَ المصدر ، أي : غِنى . ويوضح هذا ما قاله أبو البقاء ، قال : " ومِنْ زائدةٌ ، أي : شيئاً كائناً من عذاب الله ، ويكون محمولاً على المعنى تقديره : هل تمنعون عنا شيئاً؟ ويجوز أن يكونَ " شيء " واقعاً موقعَ المصدر ، أي : غِنَى ، فيكون { مِنْ عَذَابِ الله } متعلقاً ب " مُغْنُوْن " . وقال الحوفيُّ أيضاً : { ومِنْ عَذَابِ الله } متعلٌ ب " مُغْنُون " ، و " مِنْ " في { مِن شَيْءٍ } لاستغراقِ الجنسِ زائدةٌ للتوكيد " .
قوله : { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ } إلى آخرِه ، فيه قولان ، أحدُهما : أنه مِنْ كلام المستكبرين . والثاني : أنه من كلام المستكبرين والضعفاءِ معاً . وجاءَتْ كلٌّ جملةٍ مستقلةٍ من غيرِ عاطف دلالةً على أنَّ كلاًّ من المعاني مستقلٌّ بنفسه كافٍ في الإِخبار . وقد تقدَّم الكلامُ في التسويةِ والهمزةِ بعده في أول البقرة .
والجَزَعُ : عدمُ احتمالِ الشِّدَّةِ . قال امرؤ القيس :
2876- جَزِعْتُ ولم أَجْزَعْ من البَيْنِ مَجْزِعاً ... وعَزَّيْتَ قلباً بالكواعب مُولَعا
وقال الراغب : " أصلُ الجَزَعِ : قَطْعُ الحَبْل مِنْ نصفه يقال : جَزَعْتُه فانْجَزَعْ ، ولتصَوُّرِ الانقطاع فيه قيل : جَزْعُ الوادي لمُنْقَطَعِه ، ولانقطاعِ اللونِ بتغيُّره . قيل للخرزِ المتلوِّن : جَزْعٌ ، واللحمُ المُجَزَّع ما كان ذا لونين ، والبُسْرَة المُجَزَّعَة أن يَبْلغَ الإِرطابُ نصفَها ، والجازِع خشبةٌ تُجعل في وسط البيت تلْقى عليها رؤوس الخشب من الجانبين ، وكأنه سُمِّي بذلك تَصَوُّراً لجَزَعِهِ لِما حُمِل عليه من العِبْء أو لقطعِه وسطَ البيت " والجَزَعُ أخصُّ من الحزن ، فإنَّ الجَزَعَ حُزْنٌ يَصْرِف الإِنسان عمَّا هو بصددِه .
والمَحيصُ : يكون مصدراً ويكون مكاناً . ويقال : جاض بالضاد المعجمة وجَيْضاً ، بها وبالجيم .
(1/2703)

وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)
قوله تعالى : { وَعْدَ الحق } : يجوز أن يكونَ من إضافةِ الموصوفِ لصفتِه ، أي : الوعد الحق ، وأن يرادَ بالحق صفةُ الباري تعالى ، أي : وَعَدَكم الله وَعْدَه ، وأن يراد بالحقِّ البعثُ والجزاءُ على الإِجمال ، فتكونَ إضافةً صريحةً .
قوله : { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ } فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه استثناءٌ منقطعٌ لأنَّ دعاءَه ليس من جنسِ السلطانِ وهو الحُجَّةُ البيِّنَةُ . والثاني : أنه متصلٌ ، لأنَّ القدرةَ على حَمْلِ الإنسانِ على الشرِّ تارةً تكون بالقَهْرِ ، وتارةً تكون بقوة الداعية في قلبه ، وذلك بالوسوسة إليه فهو نوعٌ من التسلُّطِ .
وقُرِئَ " فلا يَلُوْموني " بالياء من تحتُ على الالتفاتِ ، كقولِه : { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم } [ يونس : 22 ] .
قوله : { بِمُصْرِخِيَّ } العامَّةُ على فتحِ الياءِ؛ لأنَّ الياءَ المدغمَ فيها تُفْتَحُ أبداً لا سيما وقبلها كسرٌ ثانٍ . وقرأ حمزةُ بكسرِها ، وهي لغةُ بني يَرْبوع . وقد اضطربت أقوالُ الناس في هذه القراءةِ اضطراباً شديداً : فمِنْ مُجْتَرِئٍ عليها مُلَحِّنٍ لقارئها ، ومِنْ مُجَوِّزٍ لها من غير ِ ضعفٍ ، ومِنْ مجوِّزٍ لها بضعفٍ .
قال حسين الجعفي : " سألتُ أبا عمروٍ عن كسرِ الياءِ فأجازه " . وهذه الحكايةُ تُحكى عنه بطرقٍ كثيرة ، منها ما تقدَّم ، ومنها : " سألت أبا عمروٍ وقلت : إن أصحابَ النحوِ يُلْحِّنُوننا فيها فقال : هي جائزة أيضاً ، إنما أراد تحريك الياء ، فلستَ تبالي إذا حَرَّكْتَها إلى أسفلَ أم إلى فوقُ " . وعنه : مَنْ شاء فتحَ ، ومَنْ شاء كسر ، ومنها أنه قال : إنها بالخفضِ حسنةٌ . وعنه قال : قَدِم علينا أبو عمرو بن العلاء فسألتُه عن القرآن فوجدْتُه به عالماً ، فسألتُه عن شيء [ مِنْ ] قراءة الأعمش واستشعرتُه { وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } بالجرِّ فقال : هي جائزةٌ ، فلما أجازها وقرأ بها الأعمشُ أَخَذْتُ بها .
وقد أنكر أبو حاتم على أبي عمروٍ تحسينَه لهذه القراءةِ ، ولا التفاتَ إليه لأنه عَلَمٌ من اعلامِ القرآن واللغةِ والنحوِ ، واطَّلع على ما لم يطَّلع عليه [ مَنْ فوقَ السجستاني ] :
2877- وابنُ اللَّبُونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يستطعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القناعيسِ
ثم ذكر العلماءُ في ذلك توجيهات : منها أنَّ الكسرَ على أصلِ التقاءِ الساكنين ، وذلك أنَّ/ ياءَ الإِعرابِ ساكنةٌ ، وياءَ المتكلمِ أصلُها السكونُ ، فلمَّا التقيا كُسِرَتْ لالتقاء الساكنين . الثاني : أنها تُشْبِهُ هاءَ الضميرِ في أنَّ كلاًّ منهما ضميرٌ على حرف واحد ، وهاءُ الضميرِ تُوْصَلُ بواوٍ إذا كانت مضمومةً ، وبياءٍ إذا كانت مكسورة ، وتُكْسَرُ بعد الكسرةِ والياءِ الساكنة ، فَتُكْسَرُ كما تُكْسَرُ الهاءُ في " عليْهِ " ، وبنو يربوعٍ يَصِلونها بياءٍ ، كما يَصِل ابن كثير نحو : " عليهي " بياء ، فحمزةُ كسرَ هذه الياءَ من غير صلةٍ ، إذ أصلُه يقتضي عدَمها . وزعم قطرب أيضاً أنها لغةُ بني يربوع ، قال : يزيدون على ياء الإِضافة ياءً ، وأنشد :
(1/2704)

2878- ماضٍ إذا ما هَمَّ بالمُضِيِّ ... قال لها : هل لكِ ياتا فِيَّ
أنشده الفراء وقال : " فإنْ يَكُ ذلك صحيحاً فهو ممَّا يلتقي من الساكنين " . وقال أبو عليّ : " قال الفراء في كتاب " التصريف " له : زعم القاسم بن معن أنه صوابٌ ، وكان ثقةً بصيراً " .
ومِمَّن طعن عليها أبو إسحاقَ قال : " هذه القراءةُ عند جميعِ النحويين رديئةٌ مَرْذُوْلَةٌ ولا وجهَ لها إلا وجهٌ ضعيفٌ " . وقال أبو جعفر : " صار هذا إدغاماً ، ولا يجوز أن يُحْمل كتابُ اللهِ تعالى على الشذوذ " . وقال الزمخشري : " هي ضعيفةٌ ، واستشهدوا لها ببيتٍ مجهول :
2879- قال لها : هل لكِ ياتا فِيَّ ... قالت له : ما أنت بالمَرْضِيِّ
وكأنه قدَّر ياء الإِضافة ساكنةً ، وقبلها ياءٌ ساكنة ، فحرَّكها بالكسر لِما عليه أصلُ التقاءِ الساكنين ، ولكنه غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ ياءَ الإِضافةِ لا تكونُ إلا مفتوحةً حيث قَبْلها ألفٌ نحو : " عصايَ " فما بالُها وقبلَها ياءٌ؟ فإن قلتَ : جَرَتِ الياءُ الأولى مَجْرى الحرفِ الصحيح لأجل الإِدغامِ فكأنها ياءٌ وقعَتْ [ ساكنةً " بعد حرفٍ صحيحٍ ساكنٍ فَحُرِّكَتْ بالكسرِ على الأصل . قلت : هذا قياسٌ حسنٌ ، ولكن الاستعمالَ المستفيضَ الذي هو بمنزلةِ الخبرِ المتواترِ تتضاءلُ إليه القياساتُ " .
قال الشيخ : " أمَّا قولُه " واستشهدوا لها ببيتٍ مجهولٍ ، فقد ذكر غيرُهُ أنه للأغلبِ العجليّ ، وهي لغةٌ باقيةٌ في أفواهِ كثيرٍ من الناس إلى اليوم يقولون : " ما فِيَّ أفعلُ " بكسر الياء " . قلت : الذي ذكر صاحبَ هذا الرجزِ هو الشيخُ أبو شامةَ ، قال : " ورأيتُه أنا في أول ديوانِه ، وأولُ هذا الرجز :
2880- أقبل في ثَوْبٍ مَعافِرِيِّ ... عند اختلاط الليلِ والعَشيِّ
ثم قال الشيخ : " وأمَّا التوجيهُ الذي ذكره فهو توجيه الفراء نقله عنه الزجَّاج . وأمَّا قولُه في غضونِ كلامِه " حيث قبلها ألفٌ " فلا أعلم " حيث " تضاف إلى الجملةِ المصدرةِ بالظرف نحو : " قعد زيد حيث أمام عمروٍ بكر " فيحتاج هذا التركيب إلى سماعٍ " قلت : إطلاقُ النحاةِ قولَهم : إنها تضافُ إلى الجملِ كافٍ في هذا ، ولا يُحتاج [ إلى ] تَتَبُّع كلِّ فردٍ فردٍ ، مع إطلاقِهم القوانينَ الكلية .
ثم قال : وأمَّا قولُه " ياء الإِضافةِ إلا آخره " قد رُوي سكونُ الياءِ بعد الألف ، وقد قرأ بذلك القراءُ نحو " محياْيْ " . قلت : مجيءُ السكون في هذه الياءِ لا يُفيده ههنا ، وإنما كان يفيده لو جاء بها مكسورةً بعد الألف فإنه مَحَلُّ البحثِ . وأنشد النحاة بين الذبياني بالكسرِ والفتحِ ، وهو قوله :
2881- عليَّ لِعمروٍ نِعْمةٌ بعد نعمةٍ ... لوالدِه ليسَتْ بذاتِ عَقارِبِ
وقال الفراء في كتاب " المعاني " له : " وقد خَفَضَ الياء مِنْ " بمُصْرِخِيِّ " الأعمشُ ويحيى بنُ وثاب جميعاً ، حدَّثني بذلك القاسمُ بن مَعْن عن الأعمش ، ولعلها مِنْ وَهْم القرَّاء ، فإنه قَلَّ مَنْ سَلِمَ منهم مِنَ الوَهْمِ ، ولعله ظنَّ أن الباءَ في " بمُضْرِخِيَّ " خافضةٌ للفظِ كلِّه ، والياءُ للمتكلم خارجةٌ من ذلك " .
(1/2705)

قال : " ومما نرى أنهم وَهِمُوا فيه قوله : { نُوَلِّهْ مَا تولى وَنُصْلِهْ جَهَنَّمَ } بالجزم في الهاء " . ثم ذكر غيرَ ذلك .
وقال أبو عبيد : " أمَّا الخفضُ فإنَّا نراه غلطاً ، لأنهم ظنُّوا أن الباءَ تُكْسِرُ كلَّ ما بعدها ، وقد كان في القرَّاء مَنْ يجعله لحناً ، ولا أحبُّ أن أبلغَ به هذا كلِّه ، ولكنَّ وجهَ القراءةِ عندنا غيرُها " .
قال الأخفش : " ما سَمِعْتُ بهذا مِنْ أحد من العرب ولا من أحدٍ من النحويين " . قال النحاس : " فصار هذا إجماعاً " .
قلت : ولا إجماعَ . فقد تقدَّم ما حكاه الناسُ من أنها لغةٌ ثانيةٌ لبعضِ العربِ . وقد انتدب لنُصرةِ هذه القراءة أبو عليٍّ الفارسيّ ، قال في " حُجَّته " . " وجهُ ذلك أن الياءَ ليسَتْ تخلُو مِنْ أَنْ تكونَ في موضعِ نصبٍ أو جرّ ، فالياءُ في النصبِ والجرِّ كالهاء فيهما ، وكالكاف في " أكرمتُك " و " هذا لك " ، فكما أنَّ الهاءَ قد لحقَتْها الزيادةُ في هذا : لهُوْ ، وضَرَبَهُوْ ، / ولحقَ الكاف أيضاً الزيادةُ في قولِ مَنْ قال " أَعْطَيْتُكاه " و " أَعْطَيْتُكِيْه " فيما حكاه سيبويه ، وهما أختا الياء ، ولحقت التاءَ الزيادةُ في قول الشاعر :
2882- رَمَيْتِيْهِ فَأَصْمَيْتِ ... وما أَخْطَأْتِ [ في ] الرَّمْيَهْ
كذلك ألحقوا الياءَ الزيادةَ مِن المدِّ فقالوا : " فِيَّ " ، ثم حُذِفَتْ الياءُ الزائدةُ على الياءِ كما حُذِفَتِ الزيادةُ مِن الهاء في قولِ مَنْ قال :
2883- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . لَهْ أَرِقانِ
وزعم أبو الحسنِ أنها لغةٌ " .
قلت : مرادُ أبي عليٍّ بالتنظير بالبيت في قولِه : " لَهْ أَرِقان " حَذْفُ الصلةِ ، واتفق أن في البيت أيضاً حَذْفَ الحركةِ ، ولو مَثَّل بنحو " عليهِ " و " فيهِ " لكن أولى .
ثم قال الفارسيُّ : " كما حُذِفَتْ الزيادةُ من الكاف فقيل : أعطيتكَهُ وأَعْطَيْتُكِهِ ، كذلك حُذِفت الياءُ اللاحقةُ للياء كما حُذِفَتْ من أُخْتَيْها ، وأُقِرَّتْ الكسرةُ التي كانت تلي الياء المحذوفةَ فبقيت الياءُ على ما كانت عليه من الكسرِ " . قال : " فإذا كانت الكسرةُ في الياء على هذه اللغةِ - وإن كان غيرُها أَفْشى منها ، وعَضَدَه مِن القياسِ ما ذكرناه لم يَجُزْ لقائلٍ أن يقول : إن القراءةَ بذلك لحنٌ لاستقامةِ ذلك في السماعِ والقياسِ ، وما كان كذلك لا يكون لحناً " .
قلت : وهذا التوجيهُ هو توضيحٌ للتوجيه الثاني الذي قدَّمْتُ ذِكْرَه . وأما التوجيهُ الأولُ فأوضحه الفراءُ أيضاً ، قال الزجاج : " أجاز الفراء على وجهٍ ضعيفٍ الكسرَ لأنَّ أصلَ التقاءِ الساكنين الكسرُ " .
(1/2706)

قال الفراء : " ألا ترى أنهم يقولون : مُذُ اليومِ ، ومُذِ اليوم ، والرفعُ في الذال هو الوجهُ ، لأنه أصلُ حركةِ " منذ " ، والخفضُ جائزٌ ، فكذلك الياءُ من " مُصْرِخيَّ " خُفِضَتْ ولها أصلٌ في النصب " .
قلت : تشبيهُ الفراءِ المسألةَ ب " مذ اليوم " فيه نظر؛ لأنَّ الحرفَ الأولَ صحيحٌ ، ولم يتوالَ قبله كَسْرٌ بخلافِ ما نحن فيه ، وهذا هو الذي عناه الزمخشريُّ بقوله فيما قدَّمْتُه عنه : " فكأنها وقعَتْ بعد حرفٍ صحيح " . وقد اضطرب النقلُ عن الفراء في هذه المسألةِ كما رأيْتَ " مِنْ نَقْلِ بعضِهم عنه التخطئةَ مرةً ، والتصويبَ أخرى ، ولعل الأمرَ كذلك ، فإنَّ العلماءَ يُسأَلُونَ فيُجيبون بما يَحْضُرهم حالَ السؤالِ وهي محتلفةٌ .
التوجيهُ الثالث : أنَّ الكسرَ للإِتباع لِما بعدها ، وهو كسرُ الهمزِ من " إنِّي " كقراءةِ " الحمدِ لله " ، وقولهم " بِعِير وشِعِير وشِهيد ، بكسر أوائِلها إتباعاً لما بعدها ، وهو ضعيفٌ جداً .
التوجيه الرابع : أنَّ المسوِّغ لهذا الكسرِ في الياء وإن كان مستثقلاً أنَّها لَمَّا أُدْغِمَتْ فيها التي قبلها قَوِيَتْ بالإِدغام ، فأشبهتِ الحروفَ الصِّحاحَ فاحتملتِ الكسرَ؛ لأنه إنما يُسْتَثْقَلُ فيها إذا خَفَّتْ وانكسر ما قبلها ، ألا ترى أن حركاتِ الإِعرابِ تجري على المشدِّدِ وما ذاك إلاَّ لإِلحاقِه بالحروفِ الصِّحاح .
والمُصْرِخُ : المُغِيْث يُقال : اسْتَصْرَخْتُه فَأَصْرَخَني ، أي : أعانني ، وكأنَّ همزتَه للسَّلْب ، أي : أزال صُراخي . والصَّارخ هو المستغيثُ . قال الشاعر :
2884- ولا تَجْزَعوا إني لكمْ غيرُ مُصْرِخٍ ... وليس لكم عندي غَناءٌ ولا نَصْرُ
ويُقال : صَرَخَ يَصْرُخُ صَرْخاً وصُراخاً وصَرْخَة . قال :
2885- كنَّا إذا ما أتانا صارخٌ فَزِعٌ ... كان الصُّراخُ له قَرْعَ الظَّنابيبِ
يريد : كان بدل الإِصراخ ، فحذف المضافَ ، أقام مصدرَ الثلاثي مُقام مصدرِ الرباعي نحو : { والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] .
والصَّريْخُ : القومُ المُسْتَصْرِخُونَ قال :
2886- قومٌ إذا سَمِعُوا الصَّريخَ رأيتَهُمْ ... ما بين مُلْجِمِ مُهْرِهِ أو سافِِعِ
والصَّريخُ أيضاً : المُغِيثون فهو من الأضداد ، وهو محتملٌ أَنْ يكون وَصْفاً على فَعِيْل كالخَليط ، وأن يكونَ مصدراً في الأصل . وقال : { فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ } [ يس : 43 ] فهذا يُحتمل أن يكونَ مصدراً ، وأن يكونَ فعيلاً بمعنى المُفْعِل ، أي : فلا مُصْرِخَ لهم ، أي : ناصر ، وتَصَرَّخ : تكلَّف الصُّراخ .
قوله : { بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ } يجوزُ في " ما " وجهان : أحدُهما : أَنْ تكونَ بمعنى الذي . ثم في المراد بهذا الموصولِ وجهان ، أحدُهما : أنه الأصنامُ ، تقديرُه : بالصنمِ الذي أطعتموني كما أَطَعْتُمُوه ، كذا قال أبو البقاء ، والعائدُ محذوفٌ ، فقدَّره أبو البقاء : بما أشركتموني به ، ثم حُذِفَ ، يعني بعد حذف الجارِّ ووصولِ/ الفعلِ إليه ، ولا حاجةَ إلى تقديرِه مجروراً بالباء؛ لأنَّ هذا الفعلَ متعدٍّ لواحدٍ نحو : شَرَكْتُ زيداً ، فلمَّا دَخَلَتْ همزةُ النقل أَكْسَبته ثانياً هو العائد ، تقول : أَشْرَكْتُ زيداً عمراً ، جعلتُه شريكاً له .
(1/2707)

الثاني : أنه الباري تعالى ، أي : بما أشركتموني ، أي : بالله تعالى ، والكلامُ في العائدِ كما تقدَّم ، إلا أنَّ فيه إيقاعَ " ما " على مَنْ يَعْلَمُ ، والمشهورُ فيها أنها لغير العاقل .
قال الزمخشريُّ : " ونحو : " ما " هذه " ما " في قولهم " سبحانَ ما سَخَّرَكُنَّ " ، ومعنى إشراكهم الشيطانَ بالله تعالى طاعتُهم له فيما كان يُزَيِّنُه لهم مِنْ عبادةِ الأوثانِ " . قال الشيخ : " ومن مَنَع ذلك جَعَل " سبحان " عَلَماً للتسبيح كما جعل " بَرَّة " عَلَماً للمَبَرَّة ، و " ما " مصدرية ظرفية " ، أي : فيكون على حذفِ مضافٍ ، أي : سبحانَ صاحبِ تسخيرِكنَّ؛ لأنَّ التسبيحَ لا يليقُ إلاَّ بالله .
الثاني من الوجهين الأولين : أنها مصدريةٌ ، أي : بإشراككم إياي .
قوله : { مِن قَبْلُ } متعلِّقٌ ب " كَفَرْتُ " على القولِ الأول ، أي : كفرتُ مِنْ قبلُ ، حين أَبَيْتُ السجودَ لآدمَ بالذي أشركتمونيه وهو اللهُ تعالى ، و ب " أشركْتُ " على الثاني ، أي : كفرتُ اليومَ بإشراكِكم إيَّاي مِنْ قبلِ هذا اليوم ، أي في الدنيا ، كقوله : { وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } [ فاطر : 14 ] هذا قولُ الزمخشريِّ . وأمَّا أبو البقاء فإنه جَوَّز تعلُّقَه بكفرْتُ وبأشركتموني ، من غير ترتيبِ على كون " ما " مصدريةً أو موصولية فقال : " ومِنْ قبلُ : متعلِّقٌ بأشركتموني ، أي : كفرْتُ الآن أَشْرَكتموني مِنْ قبل . وقيل : وهي متعلِّقةٌ ب " كفرتُ " أي : كَفَرْتُ مِنْ قبلِ إشراكِكم فلا أنفعُكم شيئاً " .
وقرأ أبو عمروٍ وبإثباتِ الياء في " أشركتموني " وصْلاً وحَذْفِها وقفاً ، وحَذَفها الباقون وصلاً ووقفاً .
وهنا تمَّ كلامُ الشيطان . وقوله : { إِنَّ الظالمين } مِنْ كلامِ الله تعالى ، ويجوز أن يكونَ مِنْ كلامِ الشيطان . و " عذاب " يجوز رَفْعُه بالجارِّ قبلَه على أنه الخبر ، وعلى الابتداءِ وخبرُه الجارُّ .
(1/2708)

وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
قوله تعالى : { وَأُدْخِلَ } قرأ العامَّةُ " أُدْخِلَ " ماضياً مبنياً للمفعولِ ، والفاعلُ اللهُ أو الملائكة . والحسن وعمرو بن عبيد " وأُدْخِلُ " مضارعاً مسنداً للمتكلم وهو الله تعالى ، فمحَلُّ الموصولِ على الأول رفعٌ ، وعلى الثانية نصبٌ .
قوله : { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } في " [ قراءةِ ] العامَّةِ يتعلق بأُدْخِلَ ، أي : أُدْخِلوا بأمرهِ وتيسيرِه . ويجوز تعلُّقه بمحذوف على أنه حالٌ ، أي : ملتبسين بأمرِ ربهم ، وجوَّز أبو البقاء أن يكون من تمام " خالدين " يعني أنه متعلِّقٌ به ، وليس بممتنعٍ . وأمَّا على قراءة الشيخين فقال الزمخشري : " فيم تتعلَّق في القراءة الأخرى ، وقولُك " وأُدْخِلُ أنا بإذنِ ربِّهم " كلامٌ غير مُلتئمٍ؟ قلت : الوجهُ في هذه القراءة أَنْ يتعلق بما بعده ، أي : تحيتُهم فيها سلامٌ بإذن ربهم " . ورَدَّ عليه الشيخ هذا بأنه لا يتقدَّم معمولُ المصدر عليه .
وقد عَلَّقه غيرُ الزمخشري بأُدْخِلُ ، ولا تنافٌرَ في ذلك؛ لأنَّ كلَّ أحدٍ يعلم أن المتكلم - في قوله : وأُدْخِلُ أنا - هو الربُّ تعالى . وأحسنُ من هذين أن تتعلَّقَ في هذه القراءة بمحذوفٍ على أنه حالٌ كما تقدَّم تقريرُه . و " تحيتُهم " مصدرٌ مضاف لمفعولِه ، أي : يُحَيِّيهم الله أو الملائكة . ويجوز أَنْ يكونَ مضافاً لفاعله ، أي : يُحَيِّي بعضُهم بعضاً . ويعضد الأولَ : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23 ] . و " فيها " متعلقٌ به .
(1/2709)

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)
قوله تعالى : { ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّ " ضَرَبَ " متعديةٌ لواحدٍ ، بمعنى : اعتمد مثلاً ، ووضَعَه ، و " كلمةً " على هذا منصوبةٌ بمضمرٍ ، أي : جعل كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبة ، وهو تفسيرٌ لقولِه { ضَرَبَ الله مَثَلاً } كقولك : " شرَّفَ الأميرُ زيداً ساه حُلَّة ، وحمله على فرس " ، وبه بدأ الزمخشري . قال الشيخ : " وفيه تكلُّفُ إضمار لا ضرورةَ تدعو إليه " . قلت : بل معناه إليه فيُضطرُّ إلى تقديرِهِ محافظةً على لَمْح هذا المعنى الخاصِّ .
الثاني : أنَّ " ضَرَب " متعديةٌ لاثنين لأنها بمعنى " صَيَّر " ، لكنْ مع لفظ " المَثَل " خاصة ، وقد تقدَّم تقريرُ هذا أولَ هذا الموضوعِ ، فتكون " كلمةً " مفعولاً أولَ ، و " مَثَلاً " هو الثاني ، فيما تقدَّم .
الثالث : أنه متعدٍّ لواحدٍ وهو " مَثَلاً " و " كلمةً " بدلٌ منه ، و " كشجرةٍ " خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هي كشجرةٍ طيبةٍ ، وعلى الوجهين قبله تكون " كشجرةٍ " نعتاً ل " كلمة " .
وقُرِئ " كلمةٌ " بالرفع ، وفيها وجهان . أحدهما : أنها خبرُ مبتدأ مضمر ، أي : هو ، أي : المَثَلُ كلمةٌ طيبةٌ ، " كشجرةٍ " على هذا نعتاً لكلمة . والثاني : أنها مرفوعةٌ بالابتداء ، و " كشجرةٍ " خبرُه .
وقرأ أنس بن مالك " ثابتٍ أصلُها " . قال الزمخشري : " فإن قلت : أيُّ فرقٍ بين القراءتين؟ قلت : قراءةُ الجماعةِ أقوى معنىً؛ لأنَّ قراءةَ أنسٍ أُجْرِيَتِ الصفةُ على " الشجرة " / وإذا قلت : " مررتُ برجلٍ أبوه قائمٌ " فهو أقوى مِنْ " برجل قائمٍ أبوه " لأنَّ المُخْبَرَ عنه إنما هو الأبُ لا رجل " .
والجملةُ مِنْ قولِه " أصلُها ثابتٌ " في محلِّ جرّ نعتاً لشجرة .
(1/2710)

تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
{ تؤتي أُكُلَهَا } : ويجوز فيهما أَنْ تكونا مستأنفتين . وجوَّز أبو البقاء في " تُؤْتي " أن تكونَ حالاً من معنى الجملة التي قبلها ، أي : ترتفع مُؤْتِيَةً . وتقدَّم الخلاف في " أُكُلَها " بالنسبة إلى القرَّاء .
(1/2711)

وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
وقُرِئ " ومَثَلَ " بنصب " مثلَ " عطفاً على " مثلَ " الأول ، " واجْتُثَّتْ " صفةٌ لشجرة . ومعنى " اجْتُثَّتْ " : بَلَغَتْ جُثَّتَها ، أي : شخصَها ، والجُثَّةُ : شَخْصُ الإِنسانِ قاعداً ونائماً يقال : اجْتَثَثْتُ الشيءَ ، أي : اقتَلَعْتُ ، فهو افتِعال من لفظ الجُثَّة ، وجَثَثْتُ الشيءَ : قَلَعْتُهُ . قال لقيط الإِيادي :
2887- هو الجَلاءُ الذي يَجْتَثُّ أصلَكُمُ ... فَمَنْ رَأَى مثلَ ذا يوماً ومَنْ سَمِعا
وقال الراغب : " جُثَّة الشيءِ شَخْصُه الناتِئُ ، والمَجَثَّةُ : ما يُجَثُّ به ، والجَثِيْثَة : لِما يأتي جُثَّته بعد طَحْنه ، والجَثْجاث نَبْتٌ " .
و " مِنْ قَرار " يجوز أن يكونَ فاعلاً بالجارِّ قبلَه لاعتمادِه على النفي ، وأن يكونَ مبتدأً . والجملةُ المنفيَّةُ : إمَّا نعتٌ لشجرة وإما حالٌ مِنْ ضميرِ " اجْتُثَّتْ " .
(1/2712)

يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
قوله تعالى : { بالقول } : فيه وجهان ، أحدُهما : تعلُّقُه ب " يُثَبَّتُ " . والثاني " أنه متعلقٌ ب " آمنوا " .
قوله : " في الحياةِ " متعلِّقٌ ب " يُثَبَّتُ " ، ويجوز أن يتعلَّقَ بالثابِتِ .
(1/2713)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28)
قوله تعالى : { بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً } فيه أوجهٌ :
أحدُها : أنَّ الأصلَ بَدَّلوا شكرَ نعمةِ [ الله ] كفراً ، كقوله : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } [ الواقعة : 82 ] [ أي ] : شُكر رزقكم ، وَجَبَ عليهم الشكرُ فوضَعُوا موضعَه الكفرَ .
الثاني : أنهم بدَّلوا نفسَ النعمةِ كفراً ، على أنهم لمَّا كَفَروها سُلِبوها ، فبَقُوا مَسْلوبِي النعمةِ موصوفين بالكفر حاصلاً لهم . قالهما الزمخشري . قلت : وعلى هذا فلا يُحتاج إلى حَذْفِ مضاف على هذا ، وقد تقدَّم أن " بَدَّلَ " يتعدَّى لاثنين ، أَوَّلُهما من غير حرف ، والثاني بالباء ، وأن المجرورَ هو المتروكُ ، والمنصوبَ هو الحاصلُ ، ويجوز حَذْفُ الحرفِ ، فيكونُ المجرورُ بالباءِ هنا هو " نعمة " لأنها المتروكةُ . وإذا عَرَفْتَ هذا عَرَفْتَ أنَّ قولَ الحوفيِّ وأبي البقاء أنَّ " كفراً " هو المفعولُ الثاني ليس بجيدٍ؛ لأنه هو الذي يَصِل إليه الفعل بنفسِه لا بحرف الجر ، وما كان كذا فهو المفعولُ الأول .
(1/2714)

جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)
قوله تعالى : { جَهَنَّمَ } : فيه ثلاثة أوجهٍ ، أحدُها : أنه بدلٌ من " دارَ " . الثاني : أنه عطفُ بيانٍ لها . وعلى هذين الوجهين فالإِحلالُ يقع في الآخرة . الثالث : أَنْ يَنْتَصِبَ على الاشتغال بفعلٍ مقدَّر ، وعلى هذا فالإِحلالُ يقع في الدنيا ، لأنَّ قولَه { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا } واقعٌ في الآخرة .
ويؤيِّد هذا التأويلَ قراءةُ ابن أبي عبلة " جهنمُ " بالرفع ، على أنها مبتدأٌ ، والجملةُ بعدها الخبرُ . وتحتمل قراءةُ ابن أبي عبلة وجهاً أخرَ : وهو أن يرتفعَ على خبرِ ابتداءٍ مضمر ، و " يَصْلَوْنها " حالٌ : إمَّا مِنْ " قومَهم " ، وإمَّا مِنْ " دارَ " ، وإمَّا مِنْ " جهنمَ " . وهذا التوجيهُ أَوْلى من حيث إنه لم يتقدَّمْ ما يرجِّح النصبَ ، ولا ما يَجْعلُه مساوياً ، والقرَّاءُ الجماهيرُ على النصبِ ، فلم يكونوا ليتركُوا الأفصحَ ، إلاَّ لأن المسألة لَيستْ من الاشتغالِ في شيءٍ . وهذا الذي ذكرتُه أيضاً مُرَجِّح لنصبهِ على البدليَّة أو البيانِ على انتصابِه على الاشتغال .
والبَوارُ : الهَلاكُ ، قال الشاعر :
2888- فلم أرَ مثلَهُم أبطالَ حربٍ ... غداةَ الرَّوْعِ إذ خِيْفَ البوارُ
وأصلُه من الكَسادِ ، كما قيل : كَسَد حتى فَسَد ، ولَمَّا كان الكسادُ يؤدي إلى الفسادِ والهلاكِ أُطْلِقَ عليه البَوار . ويقال : بار يَبُورُ بَواراً وبُوراً ، ورجل حائرٌ بائرٌ ، وقوله تعالى : { وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } [ الفتح : 12 ] يحتمل أن يكونَ مصدراً وُصِفَ به الجمعُ ، وأن يكونَ جمع بائر في المعنى . ومِنْ وقوعِ " بُور " على الواحد قوله :
2889- يا رسولَ المَليكِ إنَّ لساني ... راتِقٌ ما فَتَقْتُ إذ أنا بُوْرُ
أي : هالِكٌ .
(1/2715)

وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
قوله تعالى : { لِّيُضِلُّواْ } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا : { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيَضِلُّواْ } بفتح الياء ، والباقون بضمِّها ، مِنْ " أَضَلَّه " . واللامُ هي لامُ الجرِّ مضمرةً " أنْ " بعدها ، وهي لامُ العاقبةِ لمَّا كان مآلُهم إلى كذلك . ويجوز أن تكونَ للتعليل . وقيل : هي مع فتحِ الياءِ للعاقبةِ فقط ، ومع ضمِّها محتملةٌ للوجهين ، كأنَّ هذا القائلَ تَوَهَّم أنهم لم يجعلوا الأندادَ لضلالِهم ، وليس كما زَعَم؛ لأنَّ منهم مَنْ كفر عناداً ، واتخذ الآلهةَ ليضلَّ بنفسِه .
قوله : { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } " إلى النارِ " خبرُ " إنَّ " . و " المصير " مصدرٌ ل صار التامة ، أي : فإنَّ مرجعَكم كائن إلى النار . وأجاز الحوفيُّ أَنْ يتعلقَ " إلى النار " ب " مصيرَكم " . وقد ردَّ هذا بعضُهم بأنه لو جعلناه مصدراً صار بمعنى انتقل ، و " إلى النار " متعلقٌ به ، بقيَتْ " إنَّ " بلا خبر ، لا يقال : خبرُها حينئذ محذوفٌ؛ لأنَّ حَذْفَه في مثل هذا يَقِلُّ ، وإنما يكثرُ حَذْفُه إذا كان الاسمُ نكرةً : والخبرُ ظرفاً أو جارَّاً كقوله :
2890- إنَّ مَحَلاًّ وإنْ مُرْتَحَلا ... وإنَّ في السَّفْرِ ما مَضَى مَهَلا
(1/2716)

قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
قوله تعالى : { قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّ " يُقيموا " مجزومٌ بلامِ أمرٍ محذوفةٍ تقديرُه : ليقيموا ، فحُذِفَتْ وبقي عملُها ، كما يُحْذَفُ الجارُّ ويبقى عملُه ، كقولِه :
2891- محمدُ تَفْدِ نفسَك كلُ نفسٍ ... إذا ما خِفْتَ مِنْ شيءٍ تَبالا
يريد : لِتَفْدِ . أنشده سيبويه ، إلا أنَّه خَصَّه بالشعر . قال الزمخشري : " ويجوزُ أن يكونَ " يُقيموا " و " يُنْفِقوا " بمعنى : لِيُقيموا ولِيُنْفقوا ، ويكون هذا هو المَقُولَ . قالوا : وإنما جاز حَذْفُ اللامِ لأنَّ الأمرَ الذي هو " قُلْ " عِوَضٌ منها ، ولو قيل : يقيموا الصلاة ويُنفقوا ابتداءً بحذف اللام لم يَجُزْ " . قلت : وإلى قريبٍ من هذا نحا ابن مالك فإنه جَعَلَ حَذْفَ هذه اللامِ على أضربٍ : قليلٍ وكثيرٍ ومتوسطٍ . فالكثيرُ : أن يكونَ قبلَه قولٌ بصيغة الأمر كالآيةِ الكريمةِ ، والقليلُ : أن لا يتقدَّمَ قولٌ كقوله : " محمدُ تَفْدِ " البيت ، والمتوسط : أن يتقدَّمَ بغيرِ صيغةِ الأمرِ كقوله :
2892- قُلْتُ لبَوَّابٍ لديهِ دارُها ... تِيْذَنْ فإني حَمْؤُها وجارُها
الثاني : أنَّ " يُقيموا " مجزوم على جوابِ " قُلْ " ، وإليه نحا الأخفش والمبرد . وقد رَدَّ الناسُ عليهما هذا بأنه لا يلزمُ مِنْ قوله لهم : أقيموا " أَنْ يَفْعلوا ، وكم مَنْ تخلَّف عن هذا الأمر . وقد أجيب عن هذا : بأنَّ المرادَ بالعباد المؤمنون ، ولذلك أضافهم إليه تشريفاً ، والمؤمنون متى أَمَرَهم امْتَثَلُوا .
الثالث : أنه مجزومٌ على جوابِ المقولِ المحذوفِ تقديره : قل لعبادي : أقيموا وأَنْفِقُوا ، يُقيموا وينفقوا . قال أبو البقاء : وعزاه للمبرد- " كذا ذكره جماعة ولم يتعرَّضوا لإِفسادِه . وهو فاسد لوجهين ، أحدُهما : أنَّ جوابَ الشرطِ يُخالِفُ الشرطَ : إمَّا في الفعلِ أو في الفاعل أو فيهما ، فأمَّا إذا كان مثلَه في الفعلِ والفاعلِ فهو خطأٌ كقولِك : قم تقمْ ، والتقديرُ على ما ذُكِرَ في هذا الوجه : إنْ يُقيموا يُقيموا . والوجه الثاني : أنَّ الأمرَ المقدَّرَ للمواجهة ، و " يُقيموا " على لفظ الغَيْبَةِ وهو خطأٌ ، إذا كان الفاعل واحداً " . قلت : أمَّا الإِفسادُ الأولُ فقريبٌ ، وأمَّا الثاني فليس بشيء؛ لأنه يجوز أن يقول : قل لعبدي أَطِعْني يُطِعْك ، وإن كان للغَيْبة بعد المواجهة باعتبارِ حكايةِ الحال .
الرابع : أنَّ التقديرَ : إن تَقُلْ لهم : أقيموا ، يُقيموا ، وهذا مَرْوِيٌّ عن سيبويه فيما حكاه ابن عطية . قلت : وهذا هو القولُ الثاني .
الخامس : قال ابن عطية : " ويحتمل أن يكونَ " يُقيموا " جوابَ الأمرِ الذي يعطينا معناه قولُه " قُلْ "؛ وذلك أن تجعلَ قولَه " قُلْ " في هذه الآيةِ بمعن بَلّغْ وأَدِّ الشريعةَ يُقيموا " .
السادس : قال الفراء : " الأمرُ معه شرطٌ مقدَّرٌ تقول : " أَطِعِ اللهَ يُدْخِلْكَ الجنَّةَ " .
(1/2717)

والفرقُ بين هذا وبين ما قبله : أنَّ ما قبله ضُمِّن فيه الأمرُ نفسُه معنى الشرط ، وفي هذا قُدر فعلُ الشرطِ بعد فعلِ الأمرِ مِنْ غيرِ تضمينٍ .
السابع : قال الفارسيُّ : " إنَّه مضارعٌ صُرِف عن الأمرِ إلى الخبرِ ومعناه : أقيموا " . وهذا مردودٌ؛ لأنه كان ينبغي أن يُثْبِتَ نونَه الدالَّةَ على إعرابه . وأُجيبَ عن هذا بأنه بُني لوقوعِه موقعَ المبني ، كما بُني المنادى في نحو : " يا زيدُ " لوقوعِه موقعَ الضمير ، ولو قيل بأنه حُذِفَتْ نونُه تخفيفاً على حَدِّ حَذْفها في قولِه : " لا تَدْخُلوا الجنَّة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا " .
وفي معمول " قُلْ " ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : الأمرُ المقدَّرُ ، أي : قُلْ لهم : أقيموا ، يُقيموا ، الثاني : أنه نفسُ " يُقيموا " على ما قاله ابنُ عطية الثالث : أنَّه الجملةُ من قولِه { الله الذي خَلَقَ } إلى آخره ، قاله ابن عطية . وفيه تفكيكٌ للنَّظْم ، وجَعْلُ الجملةِ " يُقيموا الصلاة " إلى آخره مُفلتاً ممَّا قبلَه وبعدَه ، أو يكونُ جواباً فَصَل بين القولِ ومعمولِه ، لكنه لا يترتَّبُ على قولِ ذلك إقامةُ الصلاةِ والإِنفاقُ ، إلا بتأويلٍ بعيدٍ جداً .
قوله : " سِرَّاً وعلانِيَةً " في نصبِهِما ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُهما : أنهما حالان ممَّا تقدَّم ، وفيهما ثلاثةُ التأويلاتِ في " زيد عَدْل " ، أي : ذوي سر وعلانية أو مُسِرِّين ومُعْلِنين ، أو جُعِلوا نفسَ السِّرِّ والعَلانية مبالغةً . الثاني : أنهما منصوبان على الظرف ، أي : وَقْتَيْ سِرٍّ وعلانية . الثالث : أنهما/ منصوبان على المصدرِ ، أي إنفاق سرّ وإنفاق علانية .
قوله : " مِنْ قبل " متعلِّقٌ ب " يُقيموا " و " يُنْفِقوا " ، أي : يفعلون ذلك قبل هذا اليوم .
وقد تقدَّم خلاف القراء في { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ } . والخِلال : المُخالَّة وهي المصاحبةُ . يقال : خالَلْتُه خِلالاً ومُخَالَّةً . قال طرفة :
2893- كلُّ خليلٍ كنتُ خالَلْتُه ... لا تَرَكَ اللهُ له واضِحَهْ
وقال امرؤ القيس :
2894- صَرَفْتُ الهَوَى عنهنَّ مِنْ خشيةِ الرَّدى ... ولستُ بمَقْلِيِّ الخِلالِ ولا قالِ
وقال الأخفش : " خِلال جمعاً لخُلَّة ، نحو : بُرْمَة وبِرام " .
(1/2718)

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32)
قوله تعالى : { مِنَ السمآء } يجوز أن يتعلَّق بأًنْزَل ، و " مِنْ " لابتداءِ الغاية ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ " ما " لأنه صفةٌ ، في الأصل ، وكذلك " مِن الثمرات " في الوجهين .
وجَوَّز الزمخشريُّ وابنُ عطيةَ أن تكونَ " مِنْ " لبيان الجنسِ ، أي : رِزْقاً هو الثمرات . ويُرَدُّ عليهما : بأنَّ التي للبيان إنما تجيء بعد المبهم . وقد يُجاب عنهما : بأنهما أرادا ذلك من حيث المعنى لا الإِعراب . وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك في البقرة .
و " بأَمْرِهِ " يجوز ان يكونَ متعلِّقاً ب " تَجْرِي " ، أي : بسببِه ، أو بمحذوفٍ على أنها للحالِ ، أي : ملتبسةً به .
(1/2719)

وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)
قوله تعالى : و { دَآئِبَينَ } : حالٌ مِنَ الشمسِ والقمرِ ، وتقدَّم اشتقاقُ الدَّأْبِ .
(1/2720)

وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
قوله تعالى : { مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } : العامَّةُ على إضافةِ " كُلّ " إلى " ما " وفي " مِنْ " قولان ، أحدُهما : أنها زائدةٌ في المفعولِ الثاني ، أي : كُلِّ ما سألمتموه ، وهذا إنما يتأتَّى على قولِ الأخفش . والثاني : أن تكونَ تبعيضيَّةً ، أي : آتاكم بعضَ جميعِ ما سالتموه نظراً لكم ولمصالحكم ، وعلى هذا فالمفعولُ محذوفٌ ، تقديرُه ، وآتاكم شيئاً مِنْ كُلِّ ما سألتموه ، وهو رأيُ سيبويه .
و " ما " يجوز فيها أن تكونَ موصولةً اسمية أو حرفية أو نكرةً موصوفةً ، والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعولِ ، أي : مَسْؤولكم . فإن كانت مصدريَّةً فالضميرُ في " سَأَلْتموه " عائدٌ على الله تعالى ، وإن كانتْ موصولةً أو موصوفةً كان عائداً عليها ، ولا يجوزُ أن يكون عائداً على اللهِ تعالى ، وعائدُ الموصولِ أو الموصوفِ محذوفٌ؛ لأنه : إمَّا أن يُقَدَّر متصلاً : سألتموهوه أو منفصلاً : سألتموه إياه ، وكلاهما لا يجوز فيه الحَذْفُ لِما قدَّمْتُ لك أولَ البقرةِ في قوله { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } .
وقرأ ابنُ عباس ومحمد بن علي وجعفر بن محمد والحسن والضحّاك وعمرو بن فائد وقتادة وسلام ويعقوب ونافع في روايةٍ ، { مِّن كُلِّ } منونةً . وفي " ما " على هذه القراءة وجهان ، أحدُهما : أنها نافية ، وبه بدأ الزمخشري فقال : " وما سأَلْتُموه نفيٌ ، ومحلُّه النصبُ على الحال ، أي : آتاكم من جميعِ ذلك غيرَ سائِلية " . قلت : ويكون المفعولُ الثاني هو الجارِّ مِنْ قوله " مِنْ كُلٍ " ، كقوله : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ النمل : 23 ] .
والثاني : أنها موصولةٌ بمعنى الذي ، هي المفعول الثاني لآتاكم . وهذا التخريجُ الثاني أَوْلَى ، لأنَّ في الأول منافاةً في الظاهر لقراءةِ العامَّة . قال الشيخ : " ولما أحسَّ الزمخشريُّ بظهورِ التنافي بين هذه القراءةِ وبين تلك قال : " ويجوز أن تكونَ " ما " موصولةً على : وآتاكم مِنْ كُلِّ ذلك ما احتجتم إليه ، ولم تصلُحْ أحوالُكُم ولا معائِشُكم إلا به ، فكأنكم طلبتموه أو سألتموه بلسانِ الحال ، فتأوَّل " سَأَلْتموه " بمعنى ما احتجتم إليه " .
قول : " نعمةَ " في معنى المُنْعِمِ به ، وخُتِمَتْ هذه ب { إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ } ، ونظيرتُها في النحل ب { إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 18 ] ، لأنَّ في هذه تقدَّمَ قولُه { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً } [ إبراهيم : 28 ] ، وبعده { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } [ إبراهيم : 30 ] ، فجاء قولُه { إِنَّ الإنسان } شاهداً بقُبْحِ مَنْ فَعَلَ ذلك ، فناسَبَ خَتْمَها بذلك ، والتي في النحل ذكر فيها عدةَ تفصيلاتٍ وبالَغَ فيها ، وذكر قولَه { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } [ النحل : 17 ] ، أي : مَنْ أوجَدَ هذه النِّعَمَ السابقَ ذكرُها كَمَنْ لم يَقْدِرْ منها على شيءٍ ، فَذَكَرَ أيضاً أنَّ مِنْ جملة تَفَضُّلاتِه اتصافَه بهاتين الصفتين .
(1/2721)

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)
قوله تعالى : { هذا البلد آمِناً } : مفعولا الجَعْلِ التصييري ، وقد تقدَّم تحريرُه في البقرة . قال الزممخشري : " فإن قلت : أيُّ فَرْقٍ بين قولِه { اجعل هذا بَلَداً آمِناً } [ البقرة : 126 ] وبين قولِه { هذا البلد آمِناً } ؟ قلت : قد سأل في الأول أن يجعلَه مِنْ جملة البلادِ التي يأْمَنُ أهلُها ولا يخافون ، وفي الثاني أن يُخْرجَه مِنْ صفةٍ كان عليها من الخوفِ إلى ضِدِّها من الأمنِ ، كأنه قال : هو بلدٌ مَخُوفٌ فاجْعَلْه آمِناً " .
قوله : { واجنبني } يُقال : جَنَبَه شرَّاً ، / وأَجْنَبَه إياه ، ثلاثياً ، ورباعياً ، وهي لغةُ نجدٍ ، وجَنِّبه إياه مشدداً ، وهي لغةُ الحجازِ ، وهو المَنْعُ ، وأصلُه مِنَ الجانب . وقال الراغب : " وقولُه تعالى : { واجنبني وَبَنِيَّ } مِنْ جَنَبْتُه عن كذا ، أي : أَبْعَدْتُه منه . وقيل : مِنْ جَنَبْتُ الفَرَسَ كأنما أن يقودَه عن جانبِ الشِّرْك بألطافٍ منه وأسبابٍ خفيَّةٍ " .
و { أَن نَّعْبُدَ } على حَذْفِ الحرف ، أي : عن أن . وقرأ الجحدريُّ وعيسى الثقفي " وأَجْنِبْني " بقطعِ الهمزة مِنْ أَجْنَبَ .
(1/2722)

رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
والضميرُ في " إنَّهُنَّ " و " أَضْلَلْنَ " عائدٌ على الأصنامِ لأنها جمعُ تكسيرٍ غيرُ عاقلٍ . وقوله " مني " ، أي : من أشياعي .
قوله : { وَمَنْ عَصَانِي } شرطٌ ، ومحلُّ " مَنْ " الرفعُ بالابتداءِ ، والجوابُ { فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } والعائدُ محذوفٌ ، اي : له .
(1/2723)

رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
قوله تعالى : { مِن ذُرِّيَّتِي } : يجوزُ أَنْ يكون المفعولُ محذوفاً ، وهذا الجارُّ صفتُه ، أي : أسكنْتُ ذريةً مِنْ ذريتي . ويجوز أن تكونَ " مِنْ " مزيدةً عند الأخفش .
قوله : " بوادٍ " ، أي : في وادٍ ، نحو : هو بمكة .
قوله : { عِندَ بَيْتِكَ } يجوز أن يكونَ صفةً ل " وادٍ " . وقال أبو البقاء : " ويجوز أن يكونَ بدلاً منه " ، يعني أنه يكونُ بدلَ بعضٍ مِنْ كُلّ ، لأنَّ الواديَ أعمُّ مِنْ حضرةِ البيت . وفيه نظرٌ ، من حيث إنَّ " عند " لا تتصرَّف .
قوله : " ليُقِيموا " يجوز أَنْ تكونَ هذه اللامُ لامَ أمرٍ ، وأن تكونَ لامَ علَّة . وفي متعلقها حينئذٍ وجهان ، أحدُهما : أنها متعلقةٌ بأَسْكنْتُ وهو ظاهرٌ ، ويكون النداءُ معترضاً . الثاني : أنها متعلقةٌ باجْنُبْني ، أي : اجْنُبْهم الأصْنامَ ليُقِيموا ، وفيه بُعْدٌ .
قوله : { أَفْئِدَةً مِّنَ الناس } العامَّةُ على " أفْئِدة " جمع " فُؤاد " كغُراب وأَغْربة . وقرأ هشام عن ابن عامر بياءٍ بعد الهمزة ، فقيل : إشباع ، كقوله :
2895- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يُحِبَّك عَظْمٌ في الترابِ تَرِيْبُ
أي : تَرِب ، وكقوله :
2896- أعوذُ باللهِ مِنَ العَقْرابِ ... الشائلاتِ عُقدَ الأَذْنابِ
وقد طعن جماعةٌ على هذه القراءةِ وقالوا : الإِشباعُ من ضرائرِ الشعر فكيف يُجْعَلُ في أفصحِ كلامٍ؟ وزعم بعضُهم أنَّ هشاماً إنَّما قرأ بتسهيلِ الهمزةِ بين بين ، فظنَّها الراوي زيادةَ ياءٍ بعد الهمزة ، قال : " كما تُوُهِّم عن أبي عمروٍ واختلاسُه في " بارئكم " و " يَأْمُركم " أنه سَكَّن " . وهذا ليس بشيءٍ فإنَّ الرواةَ أجلُّ من هذا .
وقرأ زيدٌ بن عليّ " إفادة " بزنةِ " رِفادة " ، وفيها وجهان ، أحدهما : أن يكونَ مصدراً لأِفاد كأَقام إقامةً ، أي : ذوي إفادةٍ ، وهم الناسُ الذين يُنْتَفَعُ بهم . والثاني : أن يكون أصلُها " وِفادة " فأُبْدِلَتِ الواوُ همزةً نحو : إشاح وإعاء .
وقرأت أمُّ الهيثم " أَفْوِدَة " بواوٍ مكسورة ، وفيها وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ جمع " فُوَاد " المُسَهًّل : وذلك أنَّ الهمزةَ المفتوحةَ المضمومَ ما قبلها يَطَّرِد قَلْبُها واواً نحو : جُوَن ، ففُعِل في " فُؤاد " المفرد ذلك ، فأُقِرَّت في الجمع على حالها . والثاني : قال صاحب " اللوامح " : " هي جمعُ وَفْد " . قلت : فكان ينبغي أن يكونَ اللفظ " أَوْفِدة " بتقديم الواو ، إلا أن يُقال : إنه جَمَعَ " وَفْداً " على " أَوْفِدَة " ثم قلَبه فوزنه أَعْفِلَة ، كقولهم : آرام في أرْآم وبابِه ، إلا أنه يَقِلُّ جمعُ فَعْل على أفْعِلة نحو : نَجْد وأَنْجدة ، وَوَهْي وأَوْهِيَة . وأمُّ الهيثمِ امرأةٌ نُقِلَ عنها شيءٌ من اللغة .
وقُرِىء " آفِدَة " بزِنَةِ ضارِبة ، وهي تحتمل وجهين ، أحدُهما : أن تكونَ مقلوبةً مِنْ أَفئدة بتقديم الهمزة على الفاء فَقُلِبَتْ الهمزةُ ألفاً ، فوزنها أَعْفِلة كآرام في أرْآم .
(1/2724)

والثاني : أنها اسمُ فاعلٍ مِنْ أَفِد يَأْفَدُ ، أي : قَرُب ودَنا ، والمعنى : جماعة آفِدَة ، أو جماعات آفِدة .
وقُرِئ " آفِدَة " بالقَصْرِ ، وفيها وجهان أيضاً ، أحدُهما : أن يكونَ اسمَ فاعلٍ على فَعِل كفَرِحَ فهو فَرِح . [ والثاني ] : أن تكونَ محففةً من " أَفْئِدة " . بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الساكن قبلها ، وحَذْفِ الهمزةِ .
و " من الناس " في " مِنْ " وجهان ، أحدُهما : أنها لابتداءِ الغاية . قال الزمخشريُّ : " ويجوز أن تكونَ " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ كقولك : " القلبُ مني سقيم " تريد : قلبي ، كأنه قيل : أفئدةَ ناسٍ ، وإنما نَكَّرْتَ المضافَ في هذا التمثيلِ لتنكيرِ " أَفْئدة " لأنها في الآية نكرةٌ ، ليتناولَ بعضَ الأفئدةِ " . قال الشيخ : " ولا يَظْهر كونُها للغايةِ؛ لأنه ليس لنا فِعْلٌ يُبتدأ فيه بغايةٍ ينتهي إليها ، إذ/ لا يَصِحُّ جَعْلُ ابتداءِ الأفئدة من الناس " .
والثاني : أنها للتبعيضِ ، وفي التفسير : لو لم يقل " من الناس " لحجَّ الناسُ كلُّهم .
قوله : " تَهْوي " هذا هو المفعولُ الثاني للجَعْل . والعامَّة " تَهْوِي " بكسرِ العين بمعنى : تُسْرِعُ وتَطيرُ شوقاً إليهم . قال :
2897- وإذا رَمَيْتَ به الفِجاجَ رَأَيْتَه ... يَهْوي مخارمَها هُوِيَّ الأجْدَلِ
وأصلُه أنْ يتعدَّى باللام ، كقوله :
2898- حتى إذا ما هَوَتْ كفُّ الغلامِ لها ... طارَتْ وفي كَفِّه مِنْ ريشِها بِتَكُ
وإنَّما عُدِّي ب " إلى " لأنه ضُمِّنَ معنى " تميل " ، كقوله :
2899- تَهْوي إلى مكَّةَ تَبْغي الهدى ... ما مُؤْمِنُ الجِنِّ كأَنْجاسِها
وقرأ أميرُ المؤمنين علي وزيد بن علي ومحمد بن علي وجعفر ابن محمد ومجاهد بفتح الواو ، وفيه قولان ، أحدُهما : أنَّ " إلى " زائدةٌ ، أي : تهواهم . والثاني : أنه ضُمِّنَ معنى تَنْزِعُ وتميل ، ومصدرُ الأول على " هُوِيّ " ، كقوله :
2900- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يَهْوي مخارِمَها هُوِيَّ الأجْدَل
والثاني على " هَوَى " . وقال أبو البقاء : " معناهما متقاربان إلاَّ أَنَّ هَوَى - يعني بفتح الواو- متعدٍّ بنفسه ، وإنما عُدِّيَ بإلى حَمْلاً على تميل " .
وقرأ مسلمة بن عبد الله : " تُهْوَى " بضم التاء وفتح الواو مبنياً للمفعول مِنْ " أهوى " المنقول مِنْ " هَوِيَ " اللازمِ ، أي : يُسْرَع بها إلى إليهم .
(1/2725)

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)
قوله تعالى : { عَلَى الكبر } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ " على " على بابها من الاستعلاءِ المجازيِّ . والثاني : أنها بمعنى مع كقوله :
2901- إنِّي على ما تَرَيْنَ من كِبَري ... أعلمُ مِنْ تُؤْكَلُ الكَتِفَ
قاله الزمخشري . ومحلُّ هذا الجارِّ النصبُ على الحالِ من الباء في " هَبْ لي " .
قوله : { لَسَمِيعُ الدعآء } فيه أوجه ، أحدُها : أن يكون فعيل مثالَ مبالغةٍ مضافاً إلى مفعولِه ، وإضافتُه مِنْ نصبٍ ، وهذا دليلٌ لسيبويه على أن فَعِيلاً يعملُ عملَ اسمِ الفاعل ، وإن كان قد خالف جمهور البصريين والكوفيين .
الثاني : انَّ الإِضافةَ ليسَتْ مِنْ نصبٍ ، وإنما هو كقولك : " هذا ضاربُ زيدٍ أمس " . الثالث : أنَّ سميعاً مضافٌ لمرفوعه ويُجْعَلُ دعاءُ الله سميعاً على المجاز ، والمراد سماع الله ، قاله الزمخشري .
قال الشيخ : " وهو بعيدٌ لاستلزامِهِ أن يكونَ من الصفة المشبهة والصفةُ متعديةُ ، وهذا إنما يتأتَّى على قولِ الفارسيِّ فإنه يُجيز أن تكونَ الصفةُ المشبهة من الفعلِ المتعدِّي بشرطِ أَمْنِ اللَّبْس نحو : " زيد ظالمُ العبيد " إذا عُلِم أن له عبيداً ظالمين ، وأمَّا هنا فالَّبْسُ حاصلٌ؛ إذ الظاهرُ أنه من إضافةِ المثالِ للمفعولِ لا للفاعل " .
قلت : واللَّبْسُ أيضاً هنا مُنْتَفٍ لأن المعنى على الإِسناد المجازي كما تقرَّر فانتفى اللَّبْسُ .
(1/2726)

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)
قوله تعالى : { وَمِن ذُرِّيَتِي } : عطفٌ على المفعولِ الأول ل " اجعلني " ، أي : واجعل بعضَ ذرِّيَّتي مقيمَ الصلاة . وهذا الجارُّ في الحقيقة صفةٌ لذلك المحذوفِ ، أي : وبعضاً من ذريتي .
قوله : { وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ } قرأ أو عمروٍ وحمزةُ وورشٌ بإثبات الياء وصلاً وحَذْفِها وقفاً ، والبزيُّ بإثباتها في الحالين ، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً ، وقد روي بعضُهم إثباتَها وقفاً أيضاً .
(1/2727)

رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
قوله تعالى : { وَلِوَالِدَيَّ } : العامَّةُ على " والِدَيَّ " بألفٍ بعد الواو وتشديدِ الياء ، وابن جبير كذلك ، إلا أنه سَكَّن الياءَ أراد والده وحدّه كقولِه { واغفر لأبي } [ الشعراء : 86 ] .
وقرأ الحسين بن علي ومحمد وزيد ابنا علي بن الحسين وابن يعمر " ولولدي " دون ألف ، تثنية وَلَد ، ويعني بهما إسماعيل وإسحاق ، وأنكرها الجحدريُّ بأنَّ في مصحف أُبَيّ " ولأبويَّ " فهي مفسِّرةٌ لقراءةِ العامَّة .
ورُوي عن ابنِ يعمر أنَّه قرأ " ولِوُلْدي " بضمِّ الواو وسكونِ الياء ، وفيها تأويلان ، أحدُهما : أنه جمع " وَلَد " كأُسْد في " أَسَد " ، وأنْ يكونَ لغةً في الوَلَد كالحُزْن والحَزَن ، والعَدَم والعُدْم ، والبُخْل والبَخَل ، وعليه قول الشاعر :
2902- فليتَ زياداً كان في بَطْنِ أمِّه ... وليت زياداً كان وُلْدَ حمارِ
وقد قُرِئَ بذلك في مريم والزخرف ونوح في السبعة ، كما سيأتي إن شاء اللهُ تعالى . و " يومَ " نصبٌ ب " اغفر " .
(1/2728)

وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)
قوله تعالى : { لِيَوْمٍ } : أي : لأَجْلِ يومٍ ، فاللامُ للعلَّة وقيل : بمعنى إلى ، أي : للغاية . وقرأ العامَّة " يُؤَخِّرُهم " بالياء لتقدُّم اسمِ الله الكريم . وقرأ الحسن والسلميُّ والأعرج وخلائق - وتُروى عن أبي عمرو - " نَؤَخِّرُهم " بنون العظمة . و " تَشْخَصُ " صفةٌ ل " يوم " ومعنى شُخُوصِ البصر حِدّةُ النظرِ وعَدَمُ استقرارِه في مكانِه ، ويقال : شَخَص سَهْمُهُ وبَصَرُه وأشخصَهما صاحبُهما ، وشَخَصَ بصرُه : لم يَطْرِفْ جَفْنُه ، ويقال : شَخَص/ مِنْ بلدِه ، أي : بَعُدَ ، والشَّخْص : سوادُ الإِنسانِ المَرْئِيِّ من بعيد .
(1/2729)

مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
قوله تعالى : { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } : حالان من المضافِ المحذوفِ؛ إذ التقديرُ : أصحاب الأبصار ، إذ يُقال : شَخَصَ زيدٌ بصرَه ، أو تكون الأبصارُ دلَّتْ على أربابِها فجاءت الحالُ مِن المدلولِ عليه ، قالهما أبو البقاء . وقيل : " مُهْطِعين " منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ ، اي : يُبْصِرُهم مُهْطِعين . ويجوز في " مُقْنِعي " أن يكونَ حالاً من الضمير في " مُهْطِعين " فتكون حالاً متداخلةً . وإضافة " مُقْنعي " غيرُ حقيقيةٍ فلذلك وَقَعَتْ حالاً .
والإِهطاع : قيل : الإِسراعُ في المشي قال :
2903- إذا دعانا فأَهْطَعْنا لدَعْوَته ... داعٍ سميعٌ فَلَفُّونا وساقُوْنا
وقال :
2904- وبمُهْطِعٍ سُرُحٍ كأن عِنَانَه ... في [ رأس ] جَذْعٍ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال أبو عبيدة : " قد يكون الإِسراعَ وإدامةَ النظر " . وقال الراغب : " هَطَع الرجلُ ببصره إذا صَوَّبه ، وبعيرٌ مُهْطِعٌ إذا صَوَّب عُنُقَه " . وقال الأخفش : " هو الإِقبالُ على الإِصغاء " وأنشد :
2905- بِدِجْلَةَ دارُهُمْ ولقد أراهُمْ ... بِدِجْلِةَ مُهْطِعِيْن إلى السَّماعِ
والمعنى : مُقْبِلِيْن برؤوسهم إلى سَماع الدَّاعي . وقالَ ثعلب : " أَهْطِع الرجلُ إذا نظر بِذُلٍّ وخُشُوعِ ، لا يُقْلِعُ ببصره " ، وهذا موافِقٌ لقول أبي عبيدٍ فقد سُمِعَ فيه : أَهْطَعَ وهَطَعَ رباعياً وثلاثياً .
والإِقناع : رَفْعُ الرأسِ وإدامةُ النظر من غيرِ التفاتٍ إل غيرِه ، قاله القتبيُّ وابنُ عرفة ، ومنه قولُه يَصِفُ إبلاً ترعى أعالي الشجر فترفع رؤوسها :
2906- يُباكِرْن العِضَاهَ بمُقْنَعاتٍ ... نواجِذُهُنَّ كالِحَدأ الوَقيع
ويقال : أَقْنَعَ رأسَه ، أي : طَأْطَأها ونَكَّسها فهو من الأضداد ، والقَناعَةُ : الاجتِزاءُ باليسير ، ومعنى قَنِع بكذا : ارتفع رأسُه عن السؤال ، وفَمٌ مُقَنَّع : مَعْطُوفُ الأسنان داخله ورجلٌ مُقَنَّعٌ بالتشديد . ويقال : قَنِعَ يَقْنَعُ قَناعةً وقَنَعاً إذا رَضِيَ ، وقَنَعَ قُنُوعاً إذا سَأَل ، فوقع الفرقُ بالمصدر .
وقال الراغب : " قال بعضُهم : " أصلُ هذه الكلمةِ مِن القِناع ، وهو ما يُغَطَّي الرأسَ ، والقانِعُ مَنْ [ لا ] يُلحُّ في السؤال فَيَرْضَى بما يأتيه كقوله :
2907- لَمالُ المَرْءِ يُصْلِحُهُ فَيُغْني ... مَفاقِرَه أعفُّ مِنَ القُنُوعِ
ورجل مَقْنَعٌ يُقْنِعُ به . قال :
2908- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... شُهودِيْ على لَيْلَى عُدُولٌ مَقانِعُ
والرُّؤوس : جمع رَأْس وهو مؤنثٌ ، ويُجْمَع في القلة على أَرْؤُس ، وفي الكثرةِ على رُؤوس ، والأَرْأَسُ : العظيم الرأسِ ، ويُعَبَّر بها عن الرجل العظيم كالوجهِ ، والرئيس مشتق مِنْ ذلك ، ورِئاسُ السيفِ مَقْبَضُهُ ، وشاةٌ رَأْساء اسْوَدَّت رأسُها .
قوله : { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ } في محلِّ نصب على الحال أيضاً من الضمير في " مُقْنِعِي " . ويجوز أن يكونَ بدلاً من " مُقْنِعي " كذا قال أبو البقاء ، يعني أنه يَحُلُّ مَحَلَّه . ويجوز أن يكونَ استئنافاً .
والطَّرْفُ في الأصل مصدرٌ ، وأُطْلِقَ على الفاعلِ لقولِهم : " ما فيهم عَيْنٌ تَطْرِفُ " ، [ ولعلَّه ] هنا العينُ . قال :
2909- وأَغُضُّ طَرْفي ما بَدَتْ لي جارَتي ... حتى يُواري جارَتي مَأْواها
والطَّرْفُ : الجَفْنُ أيضاً ، يقال : ما طَبَّق طَرْفَه - أي : جَفْنَه - على الآخر ، والطَّرْفُ أيضاً تحريكُ الجَفْن .
(1/2730)

قوله : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } يجوز أن يكونَ استئنافاً ، وأن يكون حالاً ، والعاملُ فيه : إمَّا " يَرْتَدُّ " ، وإمَّا ما قبله من العوامل . وأفرد " هواء " وإن كان خبراً عن جمعٍ لأنه في معنى : فارغة متخرِّقة ، ولو لم يقصِدْ ذلك لقال : " أَهْوِيَة " ليُطابِقَ الخبرُ مبتدأه .
والهواءُ : الخالي من الأجسام ، ويُعَبَّر به عن الجبن ، يقال : جَوْفُه هواءٌ ، أي : فارغ ، قال زهير :
2910- كأن ارَّحْلَ منها فوق صَعْلٍ ... من الظَّلْمَانِ جُؤْجُؤُه هَواءُ
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه :
2911- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأنت مُجَوَّفٌ نَخِبٌ هواءُ
النَّخِب : الذي أَخَذْتَ نُخْبَته ، أي : خِيارَه .
(1/2731)

وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44)
قوله تعالى : { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ } : مفعولٌ ثانٍ ل " أَنْذِرْ " ، أي : خَوِّفْهم عذابَ يومٍ ، كذا قدَّره أبو البقاء ، وفيه نظرٌ؛ إذ يَؤُول إلى قولِك : أَنْذِرْ عذابَ يومِ يأتيهم العذابُ ، فلا حاجةَ إلى ذلك . ولا جائزٌ أن يكونَ ظرفاً له ، لأنَّ ذلك اليومَ لا إنذارَ فيه ، سواءً قيل : إنه يومُ القيامةِ ، أو يومٌ لهلاكهم ، أو يومَ يلقاهم الملائكةُ . وقوله : " نُجِبْ " جوابُ الأمر .
قوله : { أَوَلَمْ تكونوا } قال الزمخشريُّ : " على إرادةِ القول ، وفيه وجهان : أن يقولوا ذلك بَطَراً وأَشَرَاً ، وأَنْ يقولوه بلسان الحالِ حيث بَنَوْا شديداً وأمَّلوا بعيداً " .
و " مالكم " جوابُ القسمِ ، وإنما جاء بلفظِ الخطابِ ، لقوله : " أَقْسَمْتُمْ " ولو جاء بلفظِ المُقْسِمين لقيل : ما لنا . وقَدَّر الشيخ ذلك القولَ من قولِ الله تعالى أو الملائكةِ ، أي : فيقال لهم : أو لم تكونوا . وهو عندي أظهرُ مِن الأول ، أعني جَرَيانَ القولِ مِنْ غيرهم لا منهم .
(1/2732)

وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)
قوله تعالى : { وَسَكَنتُمْ فِي مساكن } : أصلُ " سَكَن " التعدِّي ب " في " كما في هذه الآيةِ ، وقد يتعدَّى بنفسه . قال الزمخشريُّ : " السُّكْنَى مِن السكونِ الذي هو اللُّبْث ، وأصلُ تَعَدِّيه ب " في " كقولك : قَرَّ/ في الدارِ ، وأقامَ فيها ، وغَنِي فيها ، ولكنه لمَّا نُقِل إلى سكونٍ خاص تصَرَّفَ فيه ، فقيل : " سَكَنَ الدارَ " كما قيل : تبوَّأَها وأَوْطَنها ، ويجوز ان يكونَ مِن السُّكون ، اي : قَرُّوا فيها واطمأنُّوا " .
قوله : " وتَبَيَّنَ " فاعلُه مضمرٌ لدلالةِ الكلامِ عليه ، [ أي ] : حالُهم وخبرُهم وهلاكُهم . و " كيف " نَصْبٌ بفَعَلْنا ، وجملةُ الاستفهامِ ليست معمولةً ل " تَبَيَّن "؛ لأنه من الأفعال التي لا تُعَلَّق ، ولا جائزٌ أن يكونَ " كيف " فاعلاً ، ؛ لأنها : إمَّا شرطيةٌ أو استفهاميةٌ ، وكلاهما لا يعمل فيه ما تقدَّمه ، والفاعلُ لا يتقدَّم عندنا .
وقال بعض الكوفيين : " إنَّ جملةَ " كيف فَعَلْنا " هو الفاعلُ " ، وهم يُجيزون أن تكونَ الجملةُ فاعلاً ، وقد تقدم هذا قريباً في قوله تعالى : { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ } [ يوسف : 35 ] .
والعامَّةُ على " تَبَيَّن " فعلاً ماضياً . وقرأ عمر لن الخطاب والسُّلَمي في روايةٍ عنه : " ونُبَيِّنَ " بضمِّ النونِ الأولى والثانية ، مضارع " بَيَّن " ، وهو خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، والجملةُ حالٌ ، أي : ونحنُ نبيِّن . وقرأ السُّلَميُّ - فيما نقل المهدويُّ - كذلك إلاَّ أنه سَكَّن النونَ للجزمِ نَسَقاً على " تكونوا " ، فيكونُ داخلاً في حيِّز التقدير .
(1/2733)

وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
قوله تعالى : { وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ } : يجوز أن يكونَ هذا المصدرُ مضافاً لفاله كالأولِ بمعنى : أنَّ مَكْرَهُمْ الذي مكروه جزاؤُه عند الله تعالى ، أو للمفعولِ ، بمعنى : أنَّ عند الله مَكْرَهم الذي يَمْكُرُهم به ، أي : يُعَذِّبهم . قالهما الزمخشري . قال الشيخ : " وهذا لا يَصِحُّ إلا إنْ كان " مَكَرَ " يتعدَّى بنفسِه كما قال هو ، إذ قدَّر : يمكرهم به ، والمحفوظ أنَّ " مَكَر " لا يتعدَّى إلى مفعولٍ به بنفسِه . قال تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } [ الأنفال : 30 ] ، وتقول : زيدٌ ممكورٌ به ، ولا يُحْفظ " زيدٌ ممكورٌ " بسبب كذا " .
قوله " لِتَزُولَ " قرأ العامَّةُ بكسر اللام ، والكسائيُّ بفتحِها فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثة أوجه ، أحدُها : أنها نافيةٌ واللامُ لامُ الجحودِ؛ لأنها بعد كونٍ منفيّ ، وفي " كان " حينئذٍ قولان ، أحدُهما : أنها تامَّةٌ ، والمعنى : تحقيرُ مَكْرِهم ، أنه ما كان لتزولَ منه الشرائع التي كالجبالِ في ثبوتِها وقوتِها . ويؤيد كونَها نافيةً قراءةُ عبد الله : " وما كان مَكْرُهم " . القول الثاني : أنها ناقصةٌ ، وفي خبرِها القولان المشهوران بين البصريين والكوفيين : هل هو محذوفٌ واللامُ متعلقةٌ به ، وإليه ذهب البصريون ، أو هذه اللام وما جَرَّتْه ، كما هو مذهبُ الكوفيين ، وقد تقرَّر هذا في آخر آل عمران .
الوجه الثاني : أن تكونَ المخففةَ من الثقيلة . قال الزمخشري : " وإنْ عَظُمَ مكرُهم وتبالغَ في الشدَّةِ ، فضرب زوالَ الجبالِ منه مثلاً لشدَّته ، أي : وإنْ كان مَكْرُهم مُعَدَّاً لذلك " . وقال ابن عطية : " ويحتمل عندي أن يكون معنى هذه القراءةِ : تَعظيمَ مَكْرِهم ، أي : وإن كان شديداً ، إنما يفعل لتذهب به عظامُ الأمور " فمفهومُ هذين الكلامين أنها مخففةٌ لأنه إثباتٌ .
والثالث : أنها شرطيةٌ ، وجوابُها محذوف ، أي : وإنْ كان مكرُهم مُعَدَّاً لإِزالةِ أشباهِ الجبال الرواسي ، وهي المعجزات والآيات ، فالله مجازِيْهم بمكرٍ هو أعظمُ منه . وقد رُجَّح الوجهان الأخيران على الأول وهو أنها نافيةٌ؛ لأن فيه معارضةً لقراءة الكسائي ، وذلك أن قراءَته تُؤْذِنُ بالإِثباتِ ، وقراءةَ غيره تُؤْذن بالنفي .
وقد أجاب بعضُهم عن ذلك بأنَّ الحالَ في قراءة الكسائي مُشارٌ بها إلى أمورٍ عظام غيرِ الإِسلامِ ومُعجزاتِه كمكرهم صلاحيةَ إزالتها ، وفي قراءةِ الجماعةِ مُشارُ بها إلى ما جاء به النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الدين الحق ، فلا تَعارُضَ ، إذ لم يتواردا على معنى واحدٍ نفياً وإثباتاً .
وأمَّا قراءةُ الكسائي ففي " إنْ " وجهان : مذهبُ البصريين ، أنها المخففةُ واللام فارقة ، ومذهبُ الكوفيين : أنها نافيةٌ واللامُ بمعنى " إلا " ، وقد تقدَّم تحقيقُ المذهبين .
وقرأ عمرُ وعليٌّ وعبد الله وزيد بن علي وأبو سلمة وجماعة " وإن كاد مكرهم لَتزول " كقراءةِ الكسائي إلا أنهم جعلوا مكان نون " كان " دالاًّ فعلَ مقاربة ، وتخريجها كما تقدَّم ، ولكن الزوالَ غيرُ واقعٍ .
وقُرِء " لَتَزُوْل " بفتح اللامين . وتخريجهما على إشكالها أنها جاءَتْ على لغةِ مَنْ يفتح لام " كي " .
(1/2734)

فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47)
قوله تعالى : { مُخْلِفَ وَعْدِهِ } : العامَّةُ على إضافة " مُخْلِف " إلى " وعدِه " وفيها وجهان ، أظهرهما : أن " مُخْلف " يَتَعَدَّى لاثنين كفعلِه ، فقدَّم المفعولَ الثاني ، وأُضيف إليه اسمُ الفاعل تخفيفاً نحو : " هذا كاسِيْ جُبَّةٍ زيداً " قال الفراء وقطرب : " لمَّا تعدَّى/ إليهما جميعاً لم يُبَالَ بالتقديمِ والتأخير " . وقال الزمخشري : " فإن قلت : هلا قيل : مُخْلِفَ رسلِه وعدَه ، ولِمَ قَدَّم المفعولَ الثاني على الأول؟ قلت : قَدَّمَ الوعدَ ليُعْلِمَ أنه لا يُخْلِفُ الوعدَ ثم قال " رسله " ليُؤْذِنَ أنه إذا لم يُخْلِفْ وعدَه أحداً - وليس من شأنِه إخلافُ المواعيد - كيف يُخْلِفُه رُسلَهُ " .
وقال أبو البقاء : " هو قريب من قولهم :
2912- يا سارقَ الليلةِ أهلَ الدارِ ... وأنشد بعضُهم نظيرَ الآيةِ الكريمة قولَ الشاعر :
2913- ترى الثورَ فيها مُدخِلَ الظلِ رأسَهُ ... وسائرُه بادٍ إلى الشمسِ أجمعُ
والحُسبان هنا : الأمر المنتفي ، كقوله :
2914- فلا تَحسَبَنْ أني أَضِلُّ مَنِيَّتي ... فكلُّ امرِئٍ كأسَ الحِمام يذوقُ
الثاني : أنه متعدٍّ لواحدٍ ، وهو " وعدِه " ، وأمَّا " رُسُلَه " فمنصوبٌ بالمصدر ، فإنه يَنْحَلُّ لحرفٍ مصدريٍّ وفعلٍ تقديرُه : مُخْلِفُ ما وعدَ رُسَلَه ، ف " ما " مصدريةٌ لا بمعنى الذي .
وقرأت جماعةٌ { مُخْلِفَ وَعْدَ رُسَلَهُ } بنصبِ " وعدَه " وجرِّ " رسلِه " فَصْلاً بالمفعولِ بين المتضايفين ، وهي كقراءةِ ابن عامرٍ { قَتْلُ أَوْلاَدَهمْ شُرَكَآئِهِمْ } قال الزمخشري جرأةً منه : " وهذه في الضَّعْفِ كمَنْ قرأ { قَتْلُ أَوْلاَدَهمْ شُرَكَآئِهِمْ } .
(1/2735)

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
قوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ } : يجوز فيه عدةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ منصوباً ب " انتقام " ، أي : يقع انتقامُهُ في ذلك اليوم . الثاني : أن ينتصبَ ب " اذكْر " . الثالث : ان ينتصبَ بما يتلخَّص مِنْ معنى { عَزِيزٌ ذُو انتقام } . الرابع : أن يكونَ بدلاً من { يَوْمَ يَأْتِيهِمُ } [ إبراهيم : 44 ] . الخامس : أن ينتصبَ ب " مُخْلِف " . السادس : أن ينتصبَ ب " وَعْدِه " ، و " إنَّ " وما بعدها اعتراضٌ . ومنع أبو البقاء هذين الأخيرين ، قال " لأنَّ ما قبل " إنَّ " لا يعمل فيما بعدها " . وهذا غيرُ مانعٍ لأنه كما تقدَّم اعتراضٌ فلا يُبالَى به فاصلاً .
وقوله : " والسماواتُ " تقديرُه : وتُبَدَّل السماواتُ غيرَ السماواتِ . وفي التبديلِ قولان : هل هو متعلِّقٌ بالذات أو بالصفة؟ وإلى الثاني مَيْلُ ابنِ عباس ، وأنشد :
2915- فما الناسُ بالناسِ الذين عَهِدْتُهُمْ ... ولا الدارُ التي كنتُ تَعْلَمُ
وقرئ " نُبَدِّل " بالنون ، " الأرضَ " نصباً ، و " السماواتِ " نَسَقٌ عليه .
قوله : " وبَرَزوا " فيه وجهان : أحدُهما أنها جملةٌ مستأنفةٌ ، أي : ويَبْرُزُون ، كذا قدَّره أبو البقاء ، يعني أنه ماضٍ يُراد به الاستقبالُ ، والأحسنُ أنه مِثْلُ { ونادى أَصْحَابُ النار } [ الأعراف : 50 ] { ونادى أَصْحَابُ الجنة } [ الأعراف : 44 ] { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ } [ الحجر : 2 ] { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] لتحقُّقِ ذلك .
والثاني : أنها حالٌ من الأرض ، و " قد " معها مُرادةٌ ، قاله أبو البقاء ، ويكون الضميرُ في " بَرَزوا " للخَلْق دَلَّ عليهم السياقُ ، والرابطُ بين الحالِ وصاحِبِها الواوُ .
وقرأ زيدُ بنُ علي " وبُرِّزوا " بضم الباءِ وكسر الراء مشددةً على التكثير في الفعلِ ومفعوله .
(1/2736)

وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49)
قوله تعالى : { مُّقَرَّنِينَ } : يجوز أن يكونَ حالاً على أنها بَصَرية ، وأن يكونَ مفعولاً ثانياً على أنها عِلْمية . و { فِي الأصفاد } متعلِّقٌ به . وقيل : بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ أو صفةٌ ل " مُقَرِّنين " . والمُقَرَّنُ : مَنْ جُمِعَ في القَرَن ، وهو الحبلُ الذي يُرْبط به ، قال :
2916- وابنُ اللَّبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَناعِيٍسِ
وقال آخر :
2917- والخيرُ والشرُّ مَلْزُوْزان في قَرَنْ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفي التفسير : أنَّ كلَّ كافرٍ يُقْرَنُ مع شيطانِه في سلسلة .
والأَصْفاد : جمعُ صَفَد وهوى الغِلُّ والقيد ، يُقال : صَفَده يَصْفِدُه صَفْداً : قَيَّده ، والاسمُ : الصَّفَد ، وصَفَّده مشدداً للتكثير . قال :
2981- فآبُوا بالنهَّائِبِ والسَّبايا ... وأُبْنا بالمُلوكِ مُصفَّدينا
والصِّفاد مثلُ الصَّفَدِ ، وأَصْفَده ، أي : أعطاه ، فَفَرَّقوا بين فَعَل وأَفْعل . وقيل : بل يُستعملان في القَيْد وفي العطاء .
قال النابغة :
2919- . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فلم أُعَرِّض -أبيتَ اللَّعْنَ- بالصَّفَد
أي : بالإِعطاءِ ، وسُمِّي العَطاءُ صَفَداً لأنه يُقَيِّدُ مَنْ يعطيه ومنه " أنا مَغْلولُ أياديك ، وأَسِيْرُ نِعْمَتِك " .
(1/2737)

سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)
قوله تعالى : { سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ } : مبتدأ وخبر في محلِّ نصبٍ على الحال : إمَّا من " المجرمين " ، وإمَّا من " مُقَرَّنين " ، وإمَّا مِنْ ضميره . ويجوز أن تكونَ مستانفةً ، وهو الظاهر .
والسَّرابيلُ : الثياب . وسَرْبَلْتُه ، أي : أَلْبَسْتَه السِّربال . قال :
2920- أَوْدَى بنَعْلَيَّ وسِرْباليَهْ ... ويُطلقُ على ما يُحَصَّنُ في الحَرْب ، من الدِّرْع وشبهِه ، قال تعالى : { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } [ النحل : 81 ] .
والقَطِران : ما يُسْتَخْرج مِنْ شجرٍ ، فيُطبخ وتُطْلَى به الإِبلُ الجُرُبُ لِيَذْهَبَ جَرْبُها بِحِدَّته ، وهو أفضلُ الأشياءِ للاشتعال به . وفيه لغاتٌ : قَطِران بفتح/ القاف وكسر الطاء ، وهي قراءةُ العامَّة . وقَطْران بزنة سَكْران وبها قرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب . وقال أبو النجم :
2921- لَبَّسَه القَطْرانَ والمُسُوحَا ... وقِطْران بكسر القافِ وسكونِ الطاء بزنة سِرْحان ، ولم يُقْرأ بها فيما عَلِمْت .
وقرأ جماعةٌ كثيرة منهم عليُّ بن أبي طالب وابن عباس وأبو هريرة والحسَن " بَقَطِرٍ " بفتح القافِ وكسرِ الطاءِ وتنوينِ الراء ، " آنٍ " بوزن عانٍ ، جعلوهما كلمتين والقَطِر : النحاس ، والآني : اسمُ فاعل مِنْ أَنَى يَأْني ، أي : تناهى في الحرارةِ كقوله : { وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 44 ] ، وعن عمرَ رضي الله عنه " ليس بالقَطْران ، ولكنه النحاسُ الذي يَصير بلَوْنِه " .
وقرىء : " وتَغَشَّى " بتشديدِ الشينِ ، أي : وتَتَغشَّى ، فحذف إحدى التاءين .
وقُرِئ برفعِ " وجوهُهم " ونصبِ " النار " على سبيلِ المجاز ، جَعَلَ ورودَ الوجوهِ النارَ غِشْياناً .
والجملةُ من قوله " وتَغْشى " قال أبو البقاء : " حالٌ أيضاً " ، يعني أنها معطوفةٌ على الحال ، ولا يَعْني أنها حالٌ ، والواوُ للحال؛ لأنه مضارعٌ مثبتٌ .
(1/2738)

لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)
قوله تعالى : { لِيَجْزِيَ } : في هذه الآيةِ وجهان . أولاهما : أن يتعلَّق ب " بَرَزُوا " ، وعلى هذا فقولُه " وَتَرَى " جملةٌ معترضةٌ بين المتعلِّق والمتعلِّق به . والثاني : أنها تتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : فَعَلْنا بالمجرمين ذلك ليَجْزي كلَّ نفس؛ لأنه إذا عاقب المجرمَ أثاب الطائعَ .
(1/2739)

هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
وقوله تعالى : { هذا } إشارةٌ إلى ما تقدَّم مِن قوله : { فَلاَ تَحْسَبَنَّ } [ إبراهيم : 47 ] إلى هنا ، أو إلى كلِّ القرآن نُزِّل مَنْزِلةَ الحاضر .
قوله : " وَلِيُنْذَروا " فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ ، أي : وليُنْذِرُوا به أَنْزَلْنا عليك .
الثاني : أنه معطوفٌ على محذوفٍ ، ذلك المحذوفُ متعلقٌ ب " بلاغ " ، تقديره : ليُنْصَحوا ولِيُنْذَروا . الثالث : أن الواوَ مزيدةٌ و " لِيُنْذَروا " متعلقٌ ب " بلاغ " ، وهو رأيُ الأخفش ، نقله الماوردي . الرابع : أنه محمولٌ على المعنى ، أي : ليُبَلَّغُوا ولِيُنْذَرُوا . الخامس : أن اللامَ لامُ الأمر . قال بعضُهم : وهو حسنٌ لولا قولُه " ولِيَذَّكَّر " فإنه منصوبٌ فقط . قلت : لا محذورَ في ذلك فإنَّ قولَه " ولِيَذَّكَّرَ " ليس معطوفاً على ما تقدَّمه ، بل متعلِّقٌ بفعلٍ مقدر ، أي : ولِيَذَّكَّر أَنْزَلْناه وأَوْحيناه . السادس : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ . التقدير : هذا بلاغٌ وهو ليذَّكَّر ، قاله ابن عطية . السابع : أنه عطفُ مفردٍ على مفردٍ ، أي : هذا بلاغٌ وإنذار ، قاله المبرد ، وهو تفسيرُ معنى لا إعرابٍ .
الثامن : أنه معطوفٌ على قوله { لِتُخْرِجَ الناس } [ إبراهيم : 1 ] في أولِ السورة . وهذا غريبٌ جداً . التاسع : قاله أبو البقاء : " المعنى : هذا بلاغٌ للناسِ وللإِنذار ، فتعلَّق بالبلاغ أو بمحذوف إذا جَعَلْتَ " الناس " صفةً ، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديره : ولِيُنْذَروا به أُنْزِل وتُلِي " . قلت : فيؤدي التقدير إلى أَنْ يَبْقى التركيبُ : هذا بلاغٌ للإِنذار ، والإِنذارُ لا يتأتَّى فيه ذلك .
وقرأ العامَّة : " لِيُنْذَرُوا " مبنياً للمفعول ، وقرأ مجاهد وحميد بن قيس : " ولِتُنْذِرُوا " بتاءٍ مضمومة وكسرِ الذال ، كأنَّ البلاغَ للعموم والإِنذار للمخاطبين .
وقرأ يحيى بن عُمارة الذارع عن أبيه ، وأحمد بن يزيد بن أسيد السلمي . " ولِيُنْذَرُوا " بفتح الياء والذال مِنْ نَذَر بالشيء ، أي : عَلِم به فاستعدَّ له ، قالوا : ولم يُعرف له مصدرٌ فهو كَعَسَى وغيرِها من الأفعالِ التي لا مصادرَ لها .
(1/2740)

الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1)
قوله تعالى : { تِلْكَ آيَاتُ } تقدَّم نظيرُها في أولِ الرعد . والإِشارة ب " تلك " إلى ما تضمَّنته السورةُ ، ولم يذكرْ الزمخشري غيرَه . وقيل : إشارةٌ إلى الكتب السالفة . وتنكيرُ القرآنِ للتفخيم .
(1/2741)

رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)
قوله تعالى : { رُّبَمَا } { رُبَ } : فيها قولان ، أحدُهما : أنها حرفُ جرٍّ ، وزعم الكوفيون وأبو الحسن وابن الطَّراوة أنها اسم . ومعناها التقليلُ على المشهور . وقيل : تفيد التكثير . وقيل : تفيد التكثير في مواضعِ الافتخار كقوله :
29220- فيا رُبَّ يومٍ قد لَهَوْتُ وليلةٍ ... بآنسةٍ كأنها خطُّ تِمْثالِ
وقد أُجيب عن ذلك : بأنها لتقليل النظير . ودلائلُ هذه الأقوال في النحو . وفيها لغاتٌ كثيرةٌ أشهرها : " رُبَ " بالضم والتشديد ، أو التخفيف ، وبالثانية قرأ نافع وعاصم . و " رَبَ " بالفتح مع/ التشديد والتخفيف ، ورُبْ ورَبْ بالضم والفتح مع السكون فيهما . وتتصل تاءُ التأنيث بكلِّ ذلك ، وبالتاء قرأ طلحةُ بن مصرف وزيدُ بن علي : رُبَّتَما . وإذا اتصلت بها التاء جاز فيها الإِسكانُ والفتح كثُمَّت ولات ، فتكثر الألفاظ ، ولها أحكامٌ كثيرةٌ منها : لزومُ تصديرِها ، ومنها تنكيرُ مجرورِها وقوله :
2923- رُبَّما الجامِلِ المُؤَبَّلِ فيهمُ ... وعَنَاجيجُ بينهنَّ المهَارى
ضرورةٌ في رواية مَنْ جَرًّ " الجامِل " . وتَجُرُّ ضميراً لازمَ التفسير بنكرةٍ بعده ، يُستغنى بتثيِتها وجمعِها وتانيثِها عن تثنية الضمير وجمعِه وتأنيثِه كقولِه "
2924- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ورُبَّه عَطِباً أَنْقَذْتُ مِنْ عَطَبِهْ
والمطابقةُ نحو : : رُبَّهما رجلين " نادرةٌ . وقد يُعطف على مجرورِها ما أُضيف إلى ضميرِه نحو : " رُبَّ رجلٍ وأخيه " . وها يلزم وَصْفُ مجرورِها ، ومُضِيُّ ما يتعلَّق به؟ خلاف ، والصحيحُ عدمُ ذلك . فمِنْ مجيئه غيرَ موصوفٍ قولُ هندٍ :
2925- يا رُبَّ قائلةٍ غداً ... يا لهفَ أمِّ مُعاويهْ
ومن مجيء المستقبلِ قولُه :
2926- فإنْ أَهْلَِكْ فربَّ فتىً سيبكيْ ... عليَّ مهذَّبٍ رَخْصِ البَنانِ
وقولُها : " يا رُبَّ قائلةٍ غداً " البيت ، وقول سليم :
2927- ومعتصمٍ بالحيِّ من خشية الرَّدى ... سيُرْدى وغازٍ مُشْفِقٍ سَيَؤُوب
فإنَّ حرف التنفيس و " غداً " خَلَّصاه للاستقبالِ .
و " ما " في " رُبما " تحتمل وجهين ، أظهرُهما : أنها المهيِّئَةُ ، بمعنى : أن " رُبَّ " مختصةٌ بالأسماء ، فلمَّا جاءت " ما " هَيَّأت دخولَها على الأفعال . وقد تقدَّم نظيرُ ذلك في " إنَّ " وأخواتها ، وتَكُفُّها أيضاً عن العمل كقولِه :
2928- رُبَّما الجامِلُ المُؤَبَّلُ . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
في روايةِ مَنْ رَفَعه ، كما جَرَى ذلك في كاف التشبيه . والثاني : أنَّ " ما " نكرةٌ موصوفةٌ بالجملةِ الواقعة بعدها ، والعائدُ على " ما " محذوفٌ ، تقديره : رُبَّ شيءٍ يَوَدُّه الذين كفروا .
وقوله : { يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ } مَنْ لم يلتزمْ مُضِيَّ متعلِّقِها لم يَحْتَجْ إلى تأويلٍ ، ومَنْ التَزَم ذلك قال : لأن المُتَرَقَّب في أخبار الله تعالى واقعٌ لا محالةَ ، فعبَّر عنه بالماضي تحقيقاً لوقوعِه ، كقوله : { أتى أَمْرُ الله } [ النحل : 1 ] ونحوِه .
قوله : { لَوْ كَانُواْ } يجوز في " لو " أن تكونَ الامتناعيةَ ، وحينئذٍ يكون جوابُها محذوفاً . تقديره : لو كانوا مسلمين لسُرُّوا بذلك ، أو لَخَلصوا ممَّا هم فيه . ومفعولُ " يَوَدُّ " محذوفٌ على هذا التقديرِ : أي : رُبَّما يودُّ الذين كفروا النجاةَ ، دَلَّ عليه الجملةُ الامتناعية .
والثاني : أنها مصدرية عند مَنْ يرى ذلك كما تقدَّم تقريرُه في البقرة . وحينئذٍ يكون هذا المصدرُ هو المفعولَ للوَدادة ، أي : يَوَدُّون كونَهم مسلمين ، إنْ جعلنا " ما " كافةً ، وإنْ جعلناها نكرةً كانت " لو " وما في حَيِّزِها بدلاً مِنْ " ما " .
(1/2742)

ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
قوله تعالى : { ذَرْهُمْ } : هذا لا يُستعمل له ماضٍ إلا قليلاً استغناءً عنه ب " تَرَكَ " بل يُستعمل منه المضارعُ نحو : { وَيَذَرُهُمْ } [ الأعراف : 186 ] . ومن مجيء الماضي قولُه عليه السلام : " ذَرُوا الحبشة ما وَذَرَتْكم " ، ومثله : دَعْ ويَدَعُ ، ولا يقال " وَدَعَ " إلاَّ نادراً ، وقد قرئ " ما وَدَعك " مخفَّفاً ، وأنشدوا قوله :
2929- سَلْ أميري ما الذي غيَّرهْ ... عن وصالي اليومَ حتى وَدَعَهْ
و { يَأْكُلُواْ } مجزومٌ على جوابِ الأمر ، وقد تقدَّم أنَّ " تَرَكَ " و " ذَرْ " يكونان بمعنى صَيَّر ، فعلى هذا يكون المفعولُ الثاني محذوفاً ، أي : ذَرْهُمْ مُهْمِلين ، ولا يكونوا هو الثاني ولا حالاً؛ إذ كان يجبُ رفعه .
(1/2743)

وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4)
قوله تعالى : { إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ } : فيه أوجه ، أحدُها : - وهو الظاهرُ- أنها واوُ الحالِ ، ثم لك اعتباران ، أحدُهما : أن تجعل الحالَ وحدَها الجارَّ ، ويرتفع " كتابٌ " به فاعلاً . والثاني : أن تجعلَ الجارَّ خبراً مقدماً ، و " كتاب " مبتدأ والجملةُ حالٌ ، وهذه الحالُ لازمةٌ .
الثاني : أنَّ الواوَ مزيدةٌ ، وأيَّد هذا قولَه بقراءة ابن أبي عبلة " إلا لها " بإسقاطِها . والزيادةُ ليسَتْ بالسهلةِ .
الثالث : أنَّ الواوَ داخِلةٌ على الجملةِ الواقعة صفةً تأكيداً ، قال الزمخشري : " /والجملةُ واقعةٌ صفةً لقرية ، والقياسُ أن لا تتوسطَ هذه الواوُ بينهما كما في قوله : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } [ الشعراء : 208 ] وإنما توسَّطَتْ لتأكيدِ لصوق الصفة بالموصوف ، كما تقول : " وجاءني زيد عليه يوبُه ، وجاءني وعليه ثوبُه " . وقد تَبِعَ الزمخشريُّ في ذلك أبو البقاء تعالى : وقد سبق له ذلك أيضاً في البقرة عند قوله تعالى : { وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ الآية : 216 ] .
قال الشيخ : " ولا نَعْلَمُ أحداً قاله من النحويين ، وفي محفوظي أنَّ ابنَ جني سَبَقهما إلى ذلك " . ثم قال الشيخ : " وهو مبنيٌّ على جوازِ أنَّ ما بعد " إلا " يكون صفةً ، وقد مَنَعُوا ذلك . قال الأخفش : " لا يُفْصَل بين الصفةِ والموصوفِ ب " إلا " . ثم قال : وأمَّا نحوُ : " ما جاءني رجلٌ إلا راكبٌ " على تقدير : إلا رجلٌ راكب ، وفيه قُبْحٌ لِجَعْلِكَ الصفةَ كالاسم " . وقال أبو عليّ : " تقول : ما مررتُ بأحدٍ إلا قائماً ، " قائماً " حال ، ولا تقول : إلا قائمٍ ، لأنَّ " إلاَّ " لا تعترضُ بين الصفةِ والموصوفِ " . وقال ابنُ مالك -وقد ذكر ما ذهب إليه الزمخشريُّ في قوله " ما مررت بأحدٍ إلا زيدٌ خيرٌ منه " : إنَّ الجملة بعد " إلا " صفةٌ ل " أحد " : " إنه مذهبٌ لا يُعرف لبصريٍّ ولا كوفيٍّ ، فلا يُلتفتُ إليه ، وأَبْطَلَ قولَه : إن الواوَ توسَّطت لتأكيدِ لُصوقِ الصفةِ بالموصوف .
قلت : قولُ الزمخشريُّ قويٌّ من حيث القياسُ ، فإنَّ الصفةَ كالحال في المعنى ، وإن كان بينهما فرقٌ مِنْ بعضِ الوجوهِ ، فكما أن الواوُ تدخلُ على الجملةِ الواقعةِ حالاً كذلك تَدْخلُ عليها واقعةً صفةً . ويقوِّيه أيضاً ما نظَّره به من الآيةِ الأخرى في قوله { إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ } ويُقَوِّيه أيضاً قراءةُ ابن أبي عبلة المتقدمةُ .
وقال منذر بن سعيد : " هذه الواوُ هي التي تعطي أنَّ الحالةَ التي بعدها في اللفظ هي في الزمنِ قبل الحالةِ التي قبل الواوِ ، ومنه قولُه تعالى : { حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الزمر : 73 ] .
(1/2744)

مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
قوله تعالى : { مِنْ أُمَّةٍ } فاعلُ " تَسْبِقُ " ، و " مِنْ " مزيدةٌ للتأكيد ، وحُمِل على لفظِ " أمَّة " في قوله " أجلَها " فأفردَ وأنَّثَ . وعلى معناها في قولِه { وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } فَجَمَعَ وَذَكَّرَ . وحَذَفَ متعلِّق " يَسْتأخِرُون " ، تقديرُه : " عنه " للدلالةِ عليه ، ولوقوعِه فاصلةً .
(1/2745)

وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)
قوله تعالى : { نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر } العامَّةُ على " نُزِّل " مشدَّداً مبنيَّاً للمفعول ، وزيدُ بنُ علي " نَزَلَ " مخففاً مبنياً للفاعل .
(1/2746)

لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7)
قوله تعالى : { لَّوْ مَا } حرفُ تحضيضٍ كهَلاَّ ، وتكون أيضاً حرفَ امتناعٍ لوجود ، وذلك كما أنَّ " لولا " مترددةٌ بين هذين المعنيين ، وقد عُرِف الفرقُ بينهما : وهو أنَّ التحضيضيَّةَ لا يليها إلا الفعلُ ظاهراً أو مضمراً كقولِهِ :
2930- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . لولا الكَمِيَّ المُقَنَّعَا
والامتناعيةُ لا يليها إلا الأسماءُ لفظاً أو تقديراً عند البصريين . وقولُه :
2931- ولولا يَحْسَبُون الحِلْمَ عَجْزاً ... لَمَا عَدِمَ المُسِيْئُون احتمالي
مؤولٌ خلافاً للكوفيين . فمِنْ مجئ " لَوْما " حرفَ امتناعٍ قولُه :
2932- لَوْما الحياءُ ولوما الدينُ عِبْتُكما ... ببعضِ ما فيكما إذ عِبْتُما عَوَري
واخْتُلِف فيها : هل هي بسيطةٌ أم مركبةٌ؟ فقال الزمخشري : " لو " رُكِّبَتْ مع " لا " ومع " ما " لمعنيين ، وأمَّا " هل " فلم تُرَكَّب إلا مع " لا " وحدَها للتحضيض . واخْتُلِف أيضاً في " لوما " : هل هي أصلٌ بنفسِها أو فرعٌ على " لولا "؟ وأن الميمَ مبدلةٌ من اللامِ كقولهم : خالَلْتُه وخالَمْته فهو خِلِّي وخِلْمي ، أي : صديقي . وقالوا : استولى عليَّ كذا ، واستومَى عليه بمعنى؟ خلاف مشهور . وهذه الجملةُ من التحضيضِ دالَّةٌ على جوابِ الشرطِ بعدَها .
(1/2747)

مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8)
قوله تعالى : { مَا نُنَزِّلُ الملائكة } قرأ أبو بكر : " ما نُنَزِّل " بضمِّ التاء وفتحِ النونِ والزايِ مشددةً مبنياً للمفعول ، " الملائكةُ " مرفوعاً لقيامِه مَقامَ فاعلِه ، وهو موافقٌ لقولِه : { وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] ، ولأنها لا تُنَزَّلُ إلا بأمرٍ من الله ، فغيرُها هو المُنَزِّل لها وهو الله تعالى .
وقرأ الأخَوان وحفصٌ بضم النون وفتح الثانية وكَسْرِ الزاي مشددةً مبنياً للفاعل المعَظَّم ، وهو الباري تعالى ، " الملائكةَ " نصباً مفعولاً بها ، وهو موافِقٌ لقولِه تعالى { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة } [ الأنعام : 111 ] ، ويناسِبُ قولَه قبل ذلك { وَمَآ أَهْلَكْنَا } [ الحجر : 4 ] ، وقولُه بعده { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا } [ الحجر : 9 ] وما بعده من ألفاظِ التعظيمِ . والباقون من السبعةِ " ما تَنَزَّلُ " بفتح التاء والنون والزايِ/ مشددةً ، و " الملائكةُ " مرفوعةً على الفاعلية ، والأصل : تَتَنَزَّل بتاءين ، فَحُذِفت إحداهما ، وقد تقدَّم تقريرُه في { تَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 152 ] ونحوه ، وهو موافقٌ لقولِه { تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا } [ القدر : 4 ] .
وقرأ زيدُ بنُ عليّ " ما نَزَلَ " مخفَّفاً مبنياً للفاعل ، " الملائكة " مرفوعةً بالفاعلية ، وهو كقولِه { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } [ الشعراء : 193 ] .
قوله : { إِلاَّ بالحق } يجوز تعلٌُّق بالفعلِ قبله ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنَ الفاعلِ أو المفعولِ ، أي : ملتبسين بالحق . ودعله الزمخشريُّ نعتاً لمصدر محذوف ، أي : تَنَزُّلاً ملتبساً بالحقِّ .
قوله : " إَذَنْ " قال الزمخشري : " إذن " حرفُ جوابٍ وجزاءٍ؛ لأنَّها جوابٌ لهم ، وجزاءُ الشرطِ مقدرٌ ، تقديرُه : ولو نَزَّلْنا الملائكة ما كانوا مُنْظرين ومات أُخِّر عذابُهم .
(1/2748)

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
قوله تعالى : { نَحْنُ } : إمَّا مبتدأ ، وإمَّا تأكيدٌ ، ولا يكون فصلاً لأنه لم يقع بين اسمين . والضمير في " له " للذِّكْر ، وهو الظاهرُ . وقيل : للرسولِ عليه السلام .
(1/2749)

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)
قوله تعالى : { أَرْسَلْنَا } : مفعولُه محذوفٌ ، أي : أرسلنا رسلاً من قبلك ، ف " مِنْ قبلك " يجوز أن يتعلَّقَ ب " أَرْسَلْنَا " ، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ ، على أنه نعتٌ للمفعولِ المحذوفِ .
و { شِيَعِ الأولين } قال الفراء : " هو من إضافة الموصوفِ لصفتِه ، والأصلُ : في الشِّيَع الأولين كصلاة الأُولى ، وجانب الغربيّ " . والبصريون يُؤَوِّلُونه على حذفِ الموصوفِ ، اي : في شِيَع الأممِ الأوَّلين ، وجانب المكانِ الغربي ، وصلاة الساعةِ الأولى .
(1/2750)

وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11)
قوله تعالى : { وَمَا يَأْتِيهِم } قال الزمخشري " حكايةُ حالٍ ماضيةٍ؛ لأنَّ " ما " لا تدخُل على مضارعٍ إلا وهو في موضع الحال ، ولا على ماضٍ إلا وهو قريبٌ من الحال " . وهذا الذي ذكرَه هو الأكثرُ في لسانِهم ، لكنه قد جاءَتْ مقارِنَةً للمضارعِ المرادِ به الاستقبالُ كقولِه تعالى : { قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي } [ يونس : 15 ] ، وأنشدوا للأعشى يمدح النبيَّ صلى الله عليه وسلم :
2933- له صَدَقاتٌ ما يَغِبُّ نَوالُها ... وليس عطاءُ اليومِ مانِعَه غَدا
وقولَ أبي ذؤيب :
2934- أودَى بَنِيَّ وأَوْدَعُونيْ حَسْرة ... عند الرُّقَادِ وعَبْرةً ما تُقْلِعً
قوله : { إِلاَّ كَانُواْ } هذه الجملةُ يجوز أن تكونَ حالاً من مفعولِ " يَأتِيهمْ " . ويجوزُ أن تكونَ صفةً ل " رسول " فيكونَ في محلِّها وجهان : الجرُّ باعتبارِ اللفظ ، والرفعُ باعتبارِ الموضعِ ، وإذا كانت حالاً فهي حالٌ مقدرةٌ .
(1/2751)

كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12)
قوله تعالى : { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ } يجوز في الكافِ أن تكونَ مرفوعةَ المحلِّ على أنها خبرُ مبتدأ مضمر ، أي : الأمرُ كذلك ، و " نَسْلُكُه " مستأنفٌ . ويجوز أن تكونَ منصوبةَ المحلِّ : إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوف ، أي : مثلَ ذلك السَّلْكِ ونحوِه نَسْلُكُه ، أي : نَسْلُكُ الذِّكْرَ ، وإمَّا حالاً من المصدرِ المقدَّرِ .
والهاءُ في " نَسْلُكُه " يجوز عَوْدُها للذِّكْر ، وهو الظاهر . وقيل : يعودُ للاستهزاء . وقيل : على الشِّرك . !
(1/2752)

لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
والهاء في : { بِهِ } يجوز عَوْدُها على ما تقدَّم من الثلاثة ، ويكون تأويلُ عَوْدِها على الاستهزاءِ والشِّرْكِ ، أي : لا يؤمنون بسببِه . وقيل : للرسولِ ، وقيل : للقرآن . وقال أبو البقاء : " ويجوز أن يكونَ حالاً ، أي : لا يؤمنون مُسْتهزئين " قلت : كأنه جعل " به " متعلقاً بالحالِ المحذوفةِ قائماً مَقامَها ، وهو مردودٌ؛ لأن الجارَّ إذا وقع حالاً أو نعتاً أو صلةً أو خبراً تعلَّق بكونٍ مطلقٍ لا خاصٍ ، وكذا الظرفُ .
ومحلُّ { لاَ يُؤْمِنُونَ } النصبُ على الحال ، ويجوز أَنْ لا يكونَ لها محلَّ ، لأنها بيانٌ لقوله { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ } .
وقوله { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين } استئناف .
والسَّلْكُ : الإِدخال . يقال : سَلَكْتُ الخيطَ في الإبْرة ، ومنه { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } [ المدثر : 42 ] يُقال : سَلَكَه وأَسْلكه ، أي : نَظَمَه ، قال الشاعر :
2935- وكنتُ لِزازَ خَصْمِك لم أُعَرِّدْ ... وقد سَلَكُوكَ في أَمْرٍ عَصِيْبِ
وقال الآخر في " أَسَلَكَ " :
2936- حتى إذا أَسْلَكُوهمْ في قُتائِدَةٍ ... شَلاًّ كما تَطْرُدُ الجَمَّالةُ الشُّرُدا
(1/2753)

وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14)
قوله تعالى : { فَظَلُّواْ } : هي الناقصةُ ، والضميرُ في " فظلُّوا " عائدٌ على الكفارِ المُفَتَّحِ لهم البابُ . وقيل : يعودُ على الملائكة . وقرأ الأعمشُ وأبو حَيْوة " يَعْرِجون " بكسر الراء ، وهي في لغةُ هُذَيْلٍ في عَرَج يَعْرِج ، أي : صَعِد .
(1/2754)

لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
قوله تعالى : { سُكِّرَتْ } : قرأ ابن كثير " سُكِرَتْ " مبنياً للمفعول مخففَ الكاف ، وباقي السبعة كذلك ، إلا أنهم شدَّدُوا الكاف . والزهري " سَكِرَتْ " بفتح السين وكسرِ الكاف خفيفةً مبنياًَ للفاعل .
فأمَّا القراءةُ الأولى فيجوز أن تكونَ بمعنى المشددة ، فإنَّ التخفيفَ يَصْلُح للقليلِ والكثير ، وهما مأخوذتان من " السِّكْر " بكسرِ السينِ وهو السَّدُّ ، فالمعنى : حُبِسَتْ أبصارنا وسُدَّت . وقيل : بمعنى عُطِبَتْ . وقيل : بمعنى أُخِذَتْ . وقيل : بمعنى سُحِرَتْ . وقيل : المشدَّدُ مِنْ سِكْرِ الماء ، والمخفَّفُ بمعنى سُحِرَتْ . / وقيل : المشدَّدُ مِنْ سِكْر الماءِ بالكسرِ ، والمخفَّفُ مِنْ سُكْرِ الشَّراب بالضم .
والمشهورُ أنَّ " سَكَر " لا يتعدَّى فكيف بُني للمفعول . فقال أبو علي : " ويجوز أن يكونَ سُمِع متعدَّياً في البصر " والذي قاله المحققون مِنْ أهل اللغة أنَّ " سَكَرَ " : إنْ كان مَنْ سَكِرَ الشرابِ ، أو مِنْ سَكَرِ الريح ، فالتضعيفُ فيه للتعدية ، وإن كان مِنْ سَكَرِ الماءِ فالتضعيفُ للتكثيرِ لأنه متعدًّ مخففاً ، وذلك أنه يُقال : سَكَرَتْ الريح تَسْكُرُ سَكَراً إذا رَكَدَتْ ، وسَكِر الرجلُ من الشراب سَكَراً إذا رَكَد ولم يَنْفُذْ لحاجته ، فهذان قاصران ، فالتضعيفُ فيهما للتعدية . ويقال : سَكَرْتُ الماءَ في مجارِيْه : إذا مَنَعْتَه من الجَرْيِ ، فهذا متعدٍّ ، قالتضعيفُ فيه للتكثير .
وأمَّا قراءةُ ابنِ كثير فإن كانت مِنْ سَكَر الماءِ فواضحةٌ لأنه متعدٍّ ، وإن كانَتْ مِنْ سَكَرِ الشَّرابِ أو سَكَر الريحِ فيجوز أن يكون الفعلُ استُعْمل لازماً تارةً ومتعدياً أخرى ، نحو : رَجَع زيدٌ ، ورَجَعَه غيرُه ، وسَعَدَ وسَعَدَه غيرُه .
وقال الزمخشري : " وسُكِّرت : حُيِّرَتْ ، أو حُبِسَتْ من السَّكَر أو السَّكْر ، وقُرئ " سُكِرَتْ " بالتخفيف ، أي : حُبِسَتْ كما يُحْبَسُ النهرُ مِنَ الجَرْيِ " فجعل قراءة التشديدِ محتملةً لمعنيين ، وقراءةَ التخفيفِ لمعنىً واحدٍ .
وأمَّا قراءةُ الزُّهريِّ فواضِحَةٌ ، أي : عُطِبَتْ . وقيل : هي مطاوعُ أَسْكَرْتُ المكانَ فسَكِرَ ، أي : سَدَدْتُه فانْسَدَّ .
(1/2755)

وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16)
قوله تعالى : { جَعَلْنَا } : يجوز أن يكونَ بمعنى خَلَقْنا ، فيتعلَّقَ به الجارُّ ، وأن يكونَ بمعنى صَيَّرنا ، فيكون مفعولُه الأول " بُروجاً " ، ومفعولُه الثاني الجارَّ ، فيتعلَّقُ بمحذوف .
و " للناظرين " متعلِّقٌ ب " زيَّنَاها " . والضميرُ للسماء . وقيل : للبروجِ ، وهي الكواكبُ ، زَيَّنها بالضوء . والنظر عينيٌّ . وقيل : قلبيٌّ . وحُذِف متعلِّقُه لِيَعُمَّ .
(1/2756)

إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)
قوله تعالى : { إِلاَّ مَنِ استرق } : فيه خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : في محلِّ نصب على الاستثناءِ المتصلِ ، والمعنى : فإنها لم تُحْفَظْ منه ، قاله غيرُ واحدٍ . والثاني : منقطع ، ومحلُّه النصبُ أيضاً . الثالث : أنه بدلٌ مِنْ { كُلِّ شَيْطَانٍ } فيكون محلُّه الجرَّ ، قاله الحوفي وأبو البقاء . وفيه نظر؛ لأن الكلامَ موجَبٌ . الرابع : أنه نعتٌ ل { كُلِّ شَيْطَانٍ } ، فيكونُ محلُّه الجرَّ على خلافٍ في هذه المسألة . الخامس : أنه في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه " فأَتْبعه " . وإنما دَخَلَتِ الفاءُ لأنَّ " مَنْ " : إمَّا شرطيةٌ ، وإمَّا موصولةٌ مُشَبَّهَةٌ بالشرطية ، قاله أبو البقاء ، وحينئذ يكونُ من بابِ الاستثناء المنقطع .
والشِّهاب : الشٌُّعْلَةُ من النار ، وسُمِّي بها الكوكبُ لِشِدَّة ضوئِه وبَرِيْقِهِ ، ويُجمع على شُهُب في الكثرة ، وأَشْهِبَة . والشُّهْبَةُ : بياضٌ مختلِط بسوادٍ تشبيهاً بالشهاب لاختلاطِه بالدخان ، ومنه كتيبةٌ شَهْباءُ لسوادِ القوم وبياضِ الحديد ، ومِنْ ثَمَّ غَلِط الناسُ في إطلاقهم الشُّهْبَةَ على البياضِ الخالِص .
(1/2757)

وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19)
قوله تعالى : { والأرض مَدَدْنَاهَا } : " الأرض " نصبٌ على الاشتغالِ ، ولم يُقرأ بغيرِه؛ لأنه راجحٌ مِنْ حيث العطفُ على جملةٍ فعليةٍ قبلها ، وهي قوله { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً } [ الحجر : 16 ] .
قال الشيخ : " ولمَّا كانَتْ هذه الجملةُ بعدها جملةً فعليةً كان النصبُ ارجحَ مِنَ الرفع " قلت : لم يَعُدُّوا هذا من القرائن المرجَّحة للنصب ، إنما عَدُّوا عطفَها على جملةٍ فعليةٍ قبلَها لا عطفَ جملةٍ فعليةٍ عليها ، ولكنه القياسُ ، إذ تُعْطَفُ فيه فعليةٌ على مثلِها بخلافِ ما لو رَفَعْتَ ، إذ تَعْطِفُ فعليةً على اسميةٍ ، لكنهم لم يعتبروا ذلك والضميرُ في " فيها " للأرض . وقيل : للرواسي . وقيل : لهما .
قوله : { مِن كُلِّ شَيْءٍ } يجوز في " مَنْ " أن تكونَ تبعيضيةً وهو الصحيحُ ، وأن تكونَ مزيدةً عند الكوفيين والأخفش .
(1/2758)

وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
قوله تعالى : { وَمَن لَّسْتُمْ } : يجوز في " مَنْ " خمسةُ أوجهٍ ، أحدُها : - وهو قول الزجاج - أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ تقديرُه : وأَعَشْنا مَنْ لستم لهم برازقين ، كالعبيد والدوابِّ/ والوحوشِ . الثاني : أنه منصوبٌ عطفاً على " معايش " ، أي : وجعلنا لكم فيها مَنْ لستم له برازقين من الدوابِّ المنتفعِ بها . الثالث : أنه منصوبٌ عطفاً على محلِّ " لكم . الرابع : أنه مجرورٌ عطفاً على " كم " المجرورِ باللام ، وجاز ذلك مِنْ غيرِ إعادةِ الجارِّ على رأيِ الكوفيين وبعضِ البصريين ، وقد تقدَّم تحقيقُه في سورة البقرة ، عند قوله { وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد } [ البقرة : 217 ] . الخامس : أنه مرفوعٌ بالابتداء ، وخبرُه محذوفٌ . أي : ومَنْ لستم له برازقين جَعَلْنا له فيها معايشَ ، وسُمِع من العرب " ضربْتُ زيداً وعمروٌ " برفع " عمرٌو " مبتدأً ، محذوفَ الخبر ، أي : وعمرٌو ضربْتُه .
و " مَنْ " يجوز أن يُرادَ بها العقلاءُ ، أي : ومَنْ لستُمْ له برازقين مِنْ مواليكم الذين تزعمون أنَّكم ترزقونه من وأن يُرادَ بها غيرُهم ، أي : ومَنْ لَسْتُمْ له برازقين من الدوابِّ ، وإن كنتم تزعمون أنكم ترزقونهم ، وإليه ذهب جماعةٌ من المفسِّرين . ويجوز أن يُراد بها النوعان ، وهو حَسَنٌ لفظاً ومعنى .
(1/2759)

وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
قوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ } : " إنْ " نافيةٌ ، و " مِنْ " مزيدةٌ في المبتدأ ، و " عندنا " خبرُه ، و " خزائنُه " فاعلٌ به لاعتماده ، ويجوز أن يكونَ " عندنا " خبراً لما بعده ، والجملةُ خبرُ الأولِ ، والأولُ أَوْلى لقُرْب الجارِّ من المفرد .
قوله : { إِلاَّ بِقَدَرٍ } يجوزُ أن يتعلَّق بالفعلِ قبلَه ، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعولِ ، أي : إلاَّ ملتبساً بقَدرٍ .
(1/2760)

وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)
قوله تعالى : { لَوَاقِحَ } حالٌ مقدرةٌ من " الرياح " . وفي اللواقح أقوال ، أحدها : أنه جمع " مُلْقِح " لأنه مِنْ أَلْقَحَ يُلْقِحُ فهو مُلْقِحٌ ، فحقُّه مَلاقِح ، فَحُذِفَتِ الميمُ تخفيفاً . يقال : أَلْقَحتِ الريحُ السحابَ ، كما يقالُ : ألقح الفحلُ الأنثى . ومثله الطوائح ، وأصلُه " المَطاوِح " لأنه مِنْ أطاح يُطيح قال :
2937- لِيُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ ... ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيح الطَّوائِحُ
وهذا قول أبي عبيدة .
والثاني : أنها جمع لاقِح يُقال : لَقِحَتِ الريحُ : إذا حَمَلَتِ الماءَ . وقال الأزهري : " حوامِلُ تحملُ السَِّحابَ كقولك : أَلْقَحَتِ الناقةُ فَلَحِقَتْ ، إذا حَمَلَتِ الجنينَ في بطنِها ، فشُبِّهَتْ الريحُ بها ، ومنه قوله :
2938- إذا لَقِحَتْ حربٌ عَوانٌ مُضِرَّةٌ ... ضَروسٌ تَهِرُّ الناسَ أنيابُها عُصْلُ
والثالث : أنها جمعُ " لاقِح " على النَسب ك لابنِ وتامرِ ، أي : ذاتُ لِقاح؛ لأنَّ الريحَ إذا مَرَّتْ على الماء ، ثم مَرَّتْ على السحابِ والماءِ كان فيها لِقاحٌ ، قاله الفراء . وقد تقدَّم الخلافُ في " معايش " في الأعراف ، وفي " يُنَزِّل " ، وفي " الريح " في البقرة . ولم يَبْقَ هنا إلا مَنْ أفردَ " الريح " ، فإنه يُقال : كيف نصبَ الحالَ مجموعةً عن مفردٍ؟ وقد تقدم أن المرادَ به الجنسُ وهو جمعٌ في المعنى فلا محذورَ .
قوله : { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } يقال : أَسْقاه وسَقاه وسيأتي بيانُهما في السورة بعدها فإنه قُرِئ بهما . واتصل الضميران هنا لاختلافِهما رتبةً ، ولو فُصِل ثانيهما لجاز عند غير سيبويه ، وهذا كما تقدَّم في قولِه { أَنُلْزِمُكُمُوهَا } [ هود : 28 ] .
قوله : { وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } جملةٌ مستأنفة و " له " متعلِّقٌ ب " خازنين " .
(1/2761)

وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23)
قوله تعالى : { لَنَحْنُ } " نحن " يجوز أن يكونَ مبتدأً ، و " نُحْيِيْ " خبرُه ، والجملةُ خبرُ " إنَّا " . ويجوز أن يكونَ تأكيداً ل " ن " في " إنَّا " ، ولا يجوز أن يكونَ فَصْلاً لأنه لم يَقَعْ بين اسمين ، وقد تقدَّم نظيرُه . وقال أبو البقاء : " لا يكون فَصْلاً لوجهين ، أحدهما : أنَّ بعده فعلاً ، والثاني : أنَّ معه اللامَ . قلت : الوجهُ الثاني غَلَطَ فإنَّ/ لامَ التوكيد لا يمتنع دخولُها على الفَصلِ ، نصَّ النحاةُ على ذلك ، ومنه قولُه تعالى : { إِنَّ هذا لَهُوَ القصص } [ آل عمران : 62 ] جَوَّزوا فيه الفصلَ مع اقترانِه باللامِ .
(1/2762)

وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26)
قوله تعالى : { مِن صَلْصَالٍ } : " مِنْ " لابتداء الغاية أو للتبعيضِ . والصَّلْصال : قال أبو عبيدة : " وهو الطينُ المختلِطُ بالرَّمْل ، ثم يَجِفُّ ، فيُسمع له صَلْصَلَةٌ ، أي : تَصْوِيْت " . وقال الزمخشري : " الطين اليابسُ الذي يُصَلْصِلُ من غيرِ طبخٍ ، فإذا طُبِخَ فهو فَخَّار " . وقال أبو الهيثم : " هو صوت اللِّجامِ وما أشبهه كالقَعْقَعَة في الثوبِ " . وقال الزمخشري أيضاً : " قالوا : إذا تَوَهَّمْتَ في صوتِه مَدَّاً فهو صَليل ، وإن توهَّمْتَ فيه ترجيعاً فهو صَلْصَلَة . وقيل : هو مِنْ تضعيفِ " صَلِّ : إذا أَنْتَنَ " . انتهى . وصَلْصال هنا بمعنى مُصَلْصِل كزَلْزال بمعنى مُزَلْزِل ، ويكون فَعْلال أيضاً مصدراً نحو : الزِّلزال . ويجوز كسرُه أيضاً .
وفي وزن هذا النوعِ أعني ما تكَّررت فاؤه وعينُه خلاف ، فقيل : وزنه فَعْفَع ، كُرِّرَتْ الفاءُ والعينُ ولا لامَ للكلمة ، قاله الفراء وغيرُه . وهو غَلَطٌ لأنَّ أقلَّ الأصولِ ثلاثةٌ : فاء وعين ولام . الثاني : أنّ وزنَه فَعْفَل وهو قولُ الفرّاء . الثالث : أنه فَعَّل بتشديدِ العينِ وأصلُه صَلَّل ، فلما اجتمع ثلاثةُ أمثالٍ أبدل الثاني من جنسِ فاءِ الكلمةِ وهو مذهبٌ كوفي . وخصَّ بعضُهم هذا الخلافَ بما إذا لم يختلَّ المعنى بسقوطِه نحو : لَمْلَمَ وكَبْكَبَ فإنك تقول فيهما : لَمَّ وكَبَّ ، فلو لم يَصِحَّ المعنى بسقوطِه نحو : سِمْسِم ، قال : فلا خلاف في أصالةِ الجميع .
قوله : { مِّنْ حَمَإٍ } فيه وجهان ، أحدهما : أنه في محلِّ جرّ صفةً لصَلْصال ، فيتعلَّقُ بمحذوف . والثاني : أنه بدلٌ من " صَلْصال " بإعادة الجارِّ .
والحَمَأُ : الطينُ الأسودُ المُنْتِنُ . قال الليث : " واحدُه حَمَأة بتحريك العين " ، جعله اسمَ جنسٍ ، وقد غَلِط في ذلك؛ فإنَّ أهلَ اللغة قالوا : لا يُقال إلا " حَمْأة " بالإِسكان ، ولا يُعْرَفُ التحريكُ ، نصَّ عليه أبو عبيدة وجماعة ، وأنشدوا لأبي الأسود :
2939- يجيءُ بِمِلْئِها طَوْراً وطَوْراً ... يَجِيءُ بِحَمْأَةٍ وقليلِ ماءِ
فلا تكون " الحَمْأَةُ " واحدةَ " الحَمَأ " لاختلاف الوزنين .
والمَسْنُون : المَصْبوبُ مِنْ قولهم : سَنَنْتُ الشرابَ كأنَّه لرطوبتِهِ جُعِل مَصْبوباً كغيره من المائعات ، فكأنَّ المعنى : أَفْرغ صورة إنسانٍ كما تُفْرَغُ الجواهرُ المُذابة . قال الزمخشري : " وحَقُّ مَسْنُون بمعنى مُصَوَّر أن يكون صفةً لصَلْصال ، كأنه أًَفْرغ الحَمَأَ فَصَوَّر منه تمثالَ شخصٍ " . قلت : يعني أنه يصيرُ التقدير : مِنْ صَلْصالٍِ مُصَوَّر ، ولكن يلزم تقديمُ الوصفِ المؤوَّلِ على الصريح إذا جَعَلْنَا { مِّنْ حَمَإٍ } صفةً لصَلْصال ، أمَّا إذا جَعَلْنَاه بدلاً منه فلا . وقيل : مَسْنُون مُصَوَّر ، مِنْ سُنَّةِ الوجهِ وهي صورتُه . قال الشاعر :
2940- تُريكَ سُنَّة وَجْهٍ غيرَ مُقْرِفَةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال الزمخشري : " مِنْ سَنَنْتُ الحجرَ بالحجر : إذا حَكَكْتُه به فالذي يَسِيل بينهما " سَنينٌ " ولا يكون إلا مُنْتِناً " . وقيل : المَسْنُون : المنسوبُ إليه ، والمعنى : يُنْسَبُ إليه ذُرِّيَّةً ، وكأن هذا القائلَ أخذه مِنَ الواقع . وقيل : هو من أسِن الماءُ إذا تَغَيَّر ، وهذا غَلطٌ لاختلافِ المادتين .
(1/2763)

وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
قوله تعالى : { والجآن خَلَقْنَاهُ } : منصوبٌ على الاشتغال ، ورُجِّح نصبُه لعطفِ جملتِه على جملةٍ فعلية . والجانُّ أو الجنُّ وهو إبليس كآدم أبي الإِنس . وقيل : اسمٌ لجنسِ الجِنِّ .
وقرأ الحسن " والجَأَنَّ " وقد تقدَّم القولُ في ذلك في أواخر الفاتحة .
و { مِن قَبْلُ } و { مِن نَّارِ } متعلقان ب " خَلَقْنا "؛ لأن الأولى لابتداءِ الغاية والثانيةَ للتبعيض ، وفيه دليلٌ على أن " مِنْ " لابتداء الغايةِ في الزمانِ ، وتأويلُ البصريين له ولنظائِره بعيدٌ .
والسَّمومُ : ما يَقْتُل من إفراطِ الحَرِّ من شمسٍ أو ريحٍ أو نار؛/ لأنها تَدْخُل في المَسامِّ فتقتُل . وقيل : السَّموم ما كان ليلاً ، والحَرُور ما كان نهاراً .
(1/2764)

فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)
قوله تعالى : { أَجْمَعُونَ } : تأكيدٌ ثانٍ ، ولا يفيد الاجتماع في الوقت ، خلافاً لبعضهم . قال أبو البقاء : " لكان حالاً [ لا ] توكيداً " يعني أنه يُفيد إفادةَ الحال مع أنه توكيدٌ ، وفيه نظر؛ إذ لا منافاةَ بينهما بالنسبة إلى المعنى . ألا ترى أنه يجوز " جاؤوني جميعاً " مع إفادتِه للتوكيدِ ، وقد تقدَّم لك تحريرُ هذا وحكايةُ ثعلب مع ابن قادم .
(1/2765)

قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)
قوله تعالى : { لأَسْجُدَ } : هذه لامُ الجحودِ .
وقوله : { فَقَعُواْ لَهُ } [ الحجر : 29 ] يجوز أن تتعلَّقَ اللامُ بالفعل قبلها ، وأن تتعلَّق بساجدين . وقد تقدم نظائرُ ألفاظِ هذه القصة في البقرة والأعراف .
(1/2766)

إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
قوله تعالى : { إلى يَوْمِ } يجوز أن يتعلَّقَ بالاستقرار في " عليك " ، ويجوز أن يتعلَّقَ بنفسِ اللعنةِ .
(1/2767)

قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39)
والضميرُ في : { لَهُمْ } لذرِّيَّةِ آدم ، وإن لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ للعِلْمِ بهم .
(1/2768)

قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41)
قوله تعالى : { هَذَا صِرَاطٌ } : " هذا " إشارةٌ إلى الإِخلاص المفهومِ من " المُخْلَصين " . وقيل : " هذا " ، أي : انتفاءُ تَزْيينِه وإغوائه . و " عليَّ " ، أي : مَنْ مَرَّ عليه مَرَّ عليَّ ، أي على رضواني وكرامتي . وقيل : على بمعنى إلى ، نُقِل عن الحسن .
وقرأ الضَّحاك وأبو رجاء وابن سيرين ويعقوب في آخرين : عَلِيٌّ " ، أي : عالٍ مرتفعٌ .
(1/2769)

إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)
قوله تعالى : { إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه استثناءٌ متصل ، لأنَّ المرادَ بعبادي العمومُ طائعهم وعاصيهم ، وحينئذ يَلْزَمُ استثناءُ الأكثرِ من الأقل ، وهي مسالةُ خلافٍ .
والثاني : أنه منقطعٌ؛ لأنَّ الغاوين لم يَنْدرجوا في " عبادي "؛ إذ المرادُ بهم الخُلَّصُ ، والإِضافةُ إضافةُ تشريفٍ .
(1/2770)

وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43)
و { أَجْمَعِينَ } : تأكيدٌ . وقال ابن عطية : " تأكيدٌ فيه معنى الحال " وفيه جنوحٌ لِمَنْ يَرَى اتحادَ الوقت . قوله : { لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } في " أجمعين " وجهان أظهرُهما : أنه تأكيدٌ للضمير . والثاني : أنه حالٌ منه ، والعاملُ فيه معنى الإِضافة ، قاله أبو البقاء . وقد عَرَفْتَ خلافَ الناس في مجيءِ الحالِ من المضافِ إليه . ولا يَعْمل فيها المَوْعِدُ إن أريد به المكانُ ، فإن أُريد به المصدرُ جاز أَنْ يعملَ لأنه مصدرٌ ، ولكن لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ ، أي : مكان موعدِهم .
(1/2771)

لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
قوله تعالى : { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ } يجوز في هذه الجملةِ أن تكونَ مستأنفةً وهو الظاهرُُ ، ويجوز أن تكونَ خبراً ثانياً ، ولا يجوز أن تكونَ حالاً من " جهنم " لأنَّ " إنَّ " لا تعملُ في الحال ، قاله أبو البقاء ، وقياسُ ما ذكروه في ليت وكأنَّ ولعلَّ مِنْ أخواتها ، مِنْ عملِها في الحال ، لأنها بمعنى تَمَنَّيْتُ وشَبَّهْتُ وترجَّيْتُ : أن تعمل فيها " إنَّ " أيضاً؛ لأنها بمعنى أكَّدْتُ ، ولذلك عَمِلَتْ عَمَلَ الفعلِ ، وهي أصلُ البابِ .
قوله : " منهم " يجوز أن يكونَ حالاً مِنْ " جُزْء " لأنه في الأصل صفةٌ له ، فلمَّا قُدِّمَتْ انتصبَتْ حالاً . ويجوز أن تكونَ حالاً من الضميرِ المستترِ في الجارِّ ، وهو " لكلِّ بابٍ " والعاملُ في هذه الحالِ ما عَمِل في هذا الجارَّ . ولا يجوز أن تكونَ حالاً من الضمير المستكنِّ في " مَقْسُوم " لأنَّ الصفةَ لا تعمل فيما قبل الموصوفِ . ولا يجوز أن تكونَ صفةً ل " باب " لأنَّ البابَ ليس من الناس .
وقرأ أبو جعفر بتشديد الزَّاي من غير همزٍ ، كأنه ألقى حركةَ الهمزةِ على الزاي ، ووَقَفَ عليها فَشَدَّدها ، كقولهم : " خالدّْ " ، ثم أَجْرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ .
(1/2772)

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45)
وكَسرَ عينَ { وَعُيُونٍ } : منكِّراً و " العِيون " مُعَرَّفاً حيث وقع ابنُ كثير والأخوان وأبو بكر وابن ذكوان . والباقون بالضمِّ وهو الأصل .
(1/2773)

ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46)
قوله تعالى : { ادخلوها } : العامَّةُ على وَصْلِ الهمزةِ من دَخَل يَدْخُل . وقد تقدَّم خلافُ القرِّاء في حركةِ هذا التنوين/ لالتقاء الساكنين في البقرة . وقرأ يعقوب بفتح التنوين وكسرِ الخاء . وتوجيهُها : أنه أمرٌ مِنْ أَدْخَل يُدْخِل ، فلمَّا وقع بعد " عيون " ألقى حركة الهمزةِ على التنوين لأنها همزةُ قطع ، ثم حذفها . والأمرُ مِنَ الله تعالى للملائكةِ ، أي أَدْخِلوها إياهم .
وقرأ الحسن ويعقوب أيضاً " أُدْخِلوها " ماضياً مبنياً للمفعول ، إلا أنَّ يعقوبَ ضمَّ التنوين ، ووجهُه : أنه أخذه مِنْ أَدْخَلَ رباعياً ، فألقى حركَة همزةِ القطع على التنوين ، كما ألقى حركةَ المفتوحةِ في قراءتِه الأولى . والحسن كَسَره على أصلِ التقاءِ الساكنين ، ووجهُه : أن يكونَ أجرى همزةَ القطعِ مُجْرى همزةِ الوصلِ في الإِسقاط .
وقراءةُ الأمرِ على إضمارِ القول ، أي : يُقال لأهل الجنة : ادْخُلوها . أو يُقال للملائكة : أَدْخِلُوها إياهم . وعلى قراءة الإِخبار يكون مستأنفاً مِنْ غيرِ إضمارٍ قولٍ .
قوله : " بسلامٍ " حالٌ ، أي : ملتبسين بالسلامة ، أو مُسلَّماً عليكم .
قوله : آمِنين " حالٌ أخرى وهي بدلٌ مِمَّا قبلها : إمَّا بدلُ كلٍ من كلٍ ، وإمَّا بدلُ اشتمال؛ لأنَّ الأَمْنَ مُشْتملٌ على التحيةِ أو بالعكس .
(1/2774)

وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47)
قوله تعالى : { إِخْوَاناً } : يجوز فيه أن يكونَ حالاً من " هم " في " صدورِهم " ، وجاز ذلك لأنَّ المضافَ جزءُ المضاف إليه . وقال أبو البقاء : " والعاملُ فيها معنى الإِلصاق " . ويجوز أن يكونَ حالاً مِنْ فاعل " ادْخُلوها " على أنها حالٌ مقدرةٌ ، كذا قال أبو البقاء ، ولا حاجةَ إليه ، بل هي حالٌ مقارِنةٌ ، ويجوز أن يكونَ حالاً من الضمير في " آمِنين " ، وأن يكونَ حالاً مِنَ الضمير في قوله { فِي جَنَّاتٍ } .
قوله : { على سُرُرٍ } يجوز أن يتعلَّقَ بنفسِ " إخواناً " لأنه بمعنى متصافِّيْنَ على سُرُر . قاله أبو البقاء ، وفيه نظرٌ من حيث تأويلُ جامدٍ بمشتق بعيدٍ منه . و " متقابلين " على هذا حالٌ من الضمير في " إخواناً " ، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ لإِخوان ، وعلى هذا ف " متقابلين " حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في الجارِّ . ويجوز أن يتعلَّقَ ب " متقابلين " ، أي : متقابلين على سُرُرٍ ، وعلى هذا ف " متقابلين " حالٌ من الضمير في " إخواناً " أو صفةٌ ل " إخواناً " ويجوز نصبُه على المدح ، يعني أنه لا يمكن أن يكونَ نعتاً للضمير فلذلك قُطِعَ .
والسُّرُر : جمع سَرِيْر وهو معروفٌ . ويجوز في " سُرُر " ونحوِه ممَّا جُمِعَ على هذه الصيغةِ مِنْ مضاعَف فعيل فَتْحُ العين تخفيفاً ، وهي لغةُ كلبٍ وتميم فيقولون : سُرَرٌ وذُلَلٌ في جمع : سَرير وذَليل .
(1/2775)

لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)
قوله تعالى : { لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } : يجوز أن تكون هذه مستأنفةً ، ويجوزُ أن تكونَ حالاً من الضمير في " متقابلين " . والنَّصَب : التَّعَبُ . يُقالا منه : نَصِبَ يَنْصِبُ فهو نَصِبٌ وناصِب ، وأَنْصَبَني كذا . قال :
2941- تأوَّبَني هَمٌّ مع الليلِ مُنْصِبُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهَمٌّ ناصِبٌ ، أي : ذو نَصَب ك لا بنٍ وتامرٍ . قال النابغة :
2942- كِلِيْني لِهَمٍّ يا أُميمةُ ناصِبِ ... وليلٍ أقاسيه بَطِيْءِ الكواكبِ
و " منها " متعلقٌ ب " مُخْرَجِيْن " .
(1/2776)

نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)
قوله تعالى : { أَنَا الغفور } : يجوز في " أنا " أن يكونَ تأكيداً ، وأن يكونَ مبتدأً ، وأن يكونَ فصلاً .
(1/2777)

وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
قوله تعالى : { هُوَ العذاب } : يجوز في " هو " الابتداء والفصلُ ، ولا يجوزُ التوكيدُ؛ إذ المُظْهَرُ لا يُؤَكَّد بالمضمرِ .
(1/2778)

إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)
قوله تعالى : { إِذْ دَخَلُواْ } : في " إذ " وجهان : أحدُهما : أنه مفعولٌ بفعلٍ مقدَّر ، أي : اذكر إذ دخلوا . والثاني : أنه ظرفٌ على بابِه . وفي العاملِ فيه وجهان ، أحدُهما : أنه محذوفٌ تقديره : خبر " ضيفِ " . والثاني : أنه نفس " ضيف " . وفي توجيه ذلك وجهان ، أحدُهما : أنه لمَّا كان في الأصل مصدراً اعتُبر ذلك فيه ، ويدلُّ على اعتبار مصدريَّته بعد الوصفِ بِه عدمُ مطابقته لِما قبله تثنيةً وجمعاً وتانيثاً في الأغلب ، ولأنه قائمٌ مَقامَ وصفٍ ، والوصفُ يعمل . والثاني : أنه على حَذْفِ مضاف ، أي : أصحاب ضيفِ إبراهيم ، أي : ضيافته ، فالمصدرُ باقٍ على حالِه فلذلك عَمِلَ .
وقال أبو البقاء : -بعد أنْ قَدَّر أصحابَ ضيافته -/ " والمصدرُ على هذا مضافٌ إلى المفعول " . قلت : وفيه نظر؛ إذ الظاهرُ إضافتُهُ لفاعِله ، إذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هو . . . . . . . .
(1/2779)

قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)
قوله تعالى : { لاَ تَوْجَلْ } : العامة على فتح التاء ، مِنْ وَجِل كشَرِب يَشْرَب ، والفتحُ قياسُ فَعِل ، إلا أنَّ العربَ آثرَتْ يَفْعِل بالكسرِ في بعضِ الألفاظِ إذا كانت فاؤه واواً نحو : يَثِقُ .
وقرأ الحسن " تُوْجَل " مبنياً للمفعول من الإِيجال . وقُرِئ " لا تَاجَل " والأصلُ " تَوْجَل " كقراءة العامَّةِ ، إلاَّ أنه أبدل من الواو ألفاً لانفتاحِ ما قبلها ، وإن لم تتحرَّكْ ، كقولهم : تابة وصامة ، في تَوْبة وصَوْمَة ، وسُمِع : : اللهم تقبَّل تابتي وصامتي " . وقُرِئ أيضاً " لا تَوَاجَلْ " من المواجلة .
(1/2780)

قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54)
قوله تعالى : { أَبَشَّرْتُمُونِي } قرأ الأعرج " بَشَّرْتموني " بإسقاطِ أداةِ الاستفهام ، فتحتمل الإِخبارَ ، وتحتمل الاستفهامَ وإنما حَذَفَ أداتَه للعلمِ بها .
قوله : { على أَن مَّسَّنِيَ } في محلِّ نصبٍ على الحال . وقرأ ابنُ محيصن " الكُبْرُ " بزنةِ قُفْل .
قوله : { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } " بِمَ " متعلقٌ ب " تُبَشِّرون " ، وقُدِّم وجوباً لأنَّ له صدرَ الكلامِ . وقرأ العامَّةُ بفتح النون مخففةً على أنها نونُ الرفع ، ولم يُذْكَرْ مفعولُ التبشير . وقرأ نافع بكسرها ، والأصل " تُبَشِّرُوني " فَحَذَفَ الياءَ مجتزِئاً عنها بالكسرة . وقد غلَّطه أبو حاتم وقال : " هذا يكونُ في الشعرِ اضطراراً " .
وقال مكي : " وقد طَعَنَ في هذه القراءةِ قومٌ لبُعْدِ مَخْرَجِها في العربيةِ؛ لأنَّ حَذْفَ النونِ التي تصحب الياءَ لا يَحْسُنُ إلا في شِعْرٍ ، وإن قُدِّر حَذْفُ النونِ الأولى حَذَفْتَ عَلَمَ الرفعِ من غيرِ ناصبٍ ولا جازمٍ؛ ولأنَّ نونَ الرفعِ كَسْرُها قبيحٌ ، إنما حَقُّها الفتح " . وهذا الطعنُ لا يُلتفت إليه لأنَّ ياءَ المتكلمِ قد كَثُرَ حَذْفُها مجتزَأً عنها بالكسرةِ ، وقد قرئ بذلك في قوله : { أَفَغَيْرَ الله تأمروني } [ الزمر : 64 ] كما سيأتي بيانُه .
ووجهُه : أنه لَمَّا اجتمع نونان إحداهما للرفع ، والأخرى نونُ الوقاية ، استثقل اللفظ : فمنهم مَنْ أدغم ، ومنهم مَنْ حذف . ثم اخْتُلِف في المحذوفة : هل هي في الأولى أو الثانية؟ وقد قدَّمْتُ دلائلَ كلِّ قولٍ مستوفاةً في سورةِ الأنعام . وقرأ ابن كثير بتشديدِها مكسورةً ، أدغم الأولى في الثانية وحَذَف ياءَ الإِضافةِ . والحسن أثبت الياءَ مع تشديدِ النون . ويرجِّح قراءةَ مَنْ أثبت مفعولَ " تُبَشِّرون " وهو الياءُ قولُه : { قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ } .
(1/2781)

قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55)
و { بالحق } : متعلقٌ بالفعلِ قبله ، ويَضْعُفُ أن يكون حالاً ، أي : بَشَّرْناك ومعنا الحقُّ .
(1/2782)

قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
قوله تعالى : { وَمَن يَقْنَطُ } : هذا الاستفهامُ معناه النفي؛ ولذلك وقع بعده الإِيجابُ ب " إلا " . وقرأ أبو عمروٍ والكسائي " يَقْنِط " بكسرِ عينِ هذا المضارعِ حيث وقع ، والباقون بفتحها ، وزيدُ بن علي والأشهبُ بضمِّها . وفي الماضي لغتان : قَنِط بكسر النون ، يَقْنَظ بفتحها ، وقَنَط بفتحِها يَقْنِط بكسرِها ، ولولا أنَّ القراءةَ سُنَّةٌ متبعةٌ لكان قياسُ مِنْ قرأ " يَقْنَطُ " بالفتح أن يقرأَ ماضيَه " قَنِط " بالكسر ، لكنهم أَجْمعوا على فتحِه في قولِه تعالى في قوله : { مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } [ الشورى : 28 ] . والفتحُ في الماضي هو الأكثر ولذلك أُجْمِعَ عليه . ويُرَجِّح قراءَة " يَقْنَطُ " بالفتح قراءةُ أبي عمروٍ في بعض الروايات { فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين } كفَرِح يَفْرَحُ فهو فَرِح . والقُنُوط : شدةُ اليأسِ من الخير .
(1/2783)

إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59)
قوله تعالى : { إِلاَّ آلَ لُوطٍ } : فيه [ أوجهٌ ] أحدُها : أنه مستثنى متصلٌ على أنه مستثنى من الضميرِ المستكنِّ في " مجرمين " بمعنى : أَجْرَموا كلُّهم إلا آلَ لوطٍ فإنهم لم يُجْرِموا ، ويكونُ قولُه { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ } / استئنافَ إخبارٍ بنجاتهم لكونِهم لم يُجْرِموا ، ويكون الإِرسالُ حينئذ شاملاً للمجرمين ولآلِ لوط ، لإِهلاكِ أولئك ، وإنجاءِ هؤلاء .
والثاني : أنه استثناءٌ منقطع؛ لأنَّ آل لوط لم يَنْدَرجوا في المجرمين البتَة . قال الشيخ : " وإذا كان استثناءً منقطعاً فهو ممِّا يجبُ فيه النصبُ ، لأنه من الاستثناءِ الذي لا يمكن تَوَجُّه العاملِ إلى المستثنى فيه؛ لأنهم لم يُرْسَلوا إليهم ، إنما أُرْسِلوا إلى القوم المجرمين خاصةً ، ويكون قوله { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ } جَرَى مجرى خبرِ " لكن " في اتصالِه بآلِ لوطٍ ، لأنَّ المعنى : لكن آل لوطٍ مُنَجُّوهم . وقد زعم بعض النحويين في الاستثناءِ المنقطعِ المقدَّرِ ب " لكن " إذا لم يكن بعده ما يَصِحُّ أن يكونَ خبراً أنَّ الخبرَ محذوفٌ ، وأنه في موضعِ رفعٍ لجريان " إلا " وتقديرها ب " لكن " .
قلت : وفيه نظرٌ؛ لأنَّ قولَهم : لا يتوجَّه عليه العاملُ ، أي : لا يمكن ، نحو : " ضحك القومُ إلا حمارَهم " ، و " صَهِلَت الخيلُ إلا الإِبلَ " . وأمَّا هذا فيمكن الإِرسالُ إليهم مِنْ غيرِ مَنْعٍ . وأمَّا قولُه " لأنهم لم يُرْسَلُوا إليهم " فصحيحٌ لأنَّ حكمَ الاستثناءِ كلِّه هكذا ، وهو أن يكونَ خارجاً عن ما حُكِم به الأولِ ، لكنه لو تَسَلَّط عليه لَصَحَّ ذلك ، بخلافِ ما ذكرْتُه مِنْ أمثلتِهم .
(1/2784)

إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
قوله تعالى : { إِلاَّ امرأته } : فيه وجهان : أحدُهما : أنه استثناءٌ مِنْ آل لوط . قال أبو البقاء : " والاستثناءُ إذا جاء بعد الاستثناءِ كان الاستثناءُ الثاني مضافاً إلى المبتدأ كقولِك : " له عندي عشرةٌ إلا أربعةً إلا درهماً " فإنَّ الدرهمَ يُستثنى من الأربعة ، فهو مضافٌ إلى العشرة ، فكأنك قلت : أحد عشر إلا أربعةً ، أو عشرة إلا ثلاثةً " .
الثاني : أنَّها مستثناةٌ من الضمير المجرور في " مُنجُّوهم " . وقد مَنَعَ الزمخشريُّ الوجهَ الأول ، وعَيَّن الثاني فقال : " فإن قلتَ : فقوله : " إلا امرأته " مِمَّ استثني؟ وهل هو استثناءٌ مِنْ استثناءٍ؟ قلت : مستثنى من الضمير المجرور في قوله " لمنجُّوهُمْ " وليس من الاستثناء من الاستثناء في شيءٍ؛ لأنَّ الاستثناءَ من الاستثناء إنما يكونُ فيما اتَّحد الحكمُ فيه ، وأن يقالَ : أهلكناهم إلا آلَ لوطٍ إلا امرأتَه ، كما اتحد في قولِ المُطْلَق : أنتِ طالقٌ ثلاثاً إلا اثنتين إلا واحدةً ، وقولِ المُقِرِّ لفلان : عليَّ عشرةٌ إلا ثلاثةً إلا درهماً ، وأمَّا الآيةُ فقد اختلف الحكمان لأنَّ { إِلاَّ آلَ لُوطٍ } متعلقٌ ب " أَرْسَلْنا " أو بمجرمين ، و { إِلاَّ امرأته } قد تعلَّق بقولِه " لمنجُّوهم " فأنَّى يكون استثناءً من استثناء "؟
قال الشيخ : " ولمَّا استسلف الزمخشريُّ أن " امرأته " استثناءٌ من الضمير في لمنجُّوهم " أنى أن يكون استثناءً من استثناء؟ ومَنْ قال إنه استثناءٌ من استثناء فيمكن تصحيحُ قولِه بأحدِ وجهين ، أحدُهما : أنَّه لمَّا كان " امرأتَه " مستثنى من الضمير في " لمُنجُّوهم " وهو عائدٌ على آلِ لوط صار كأنه مستثنى مِن آلِ لوط ، لأنَّ المضمرَ هو الظاهر . والوجهُ الآخر : أن قولَه { إِلاَّ آلَ لُوطٍ } لمَّا حَكَمَ عليهم بغيرِ الحكم الذي حَكَم به على قومٍ مجرمين اقتضى ذلك نجاتَهم فجاء قولُه : { إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ } تاكيداً لمعنى الاستثناء ، إذ المعنى : إلا آلَ لوط لم يُرْسَلْ إليهم بالعذاب ، ونجاتُهم مترتبةٌ على عدمِ الإِرسال إليهم بالعذاب ، فصار نظيرَ قولِك : " قام القومُ إلا زيداً لم يَقُمْ " ، أو " إلا زيداً فإنه لم يَقُمْ " ، فهذه الجملةُ تأكيدٌ لِما تَضَمَّن الاستثناءُ من الحكم على ما بعد إلاّ بضدِّ الحكم السابق على المستثنى منه ، ف " إلا امرأته " على هذا التقريرِ الذي قَرَّرْناه مستثنى مِنْ آل لوط ، لأنَّ الاستثناءَ ممَّا جيء به للتأسيسِ أَوْلَى من الاستثناءِ ممَّا جِيْءَ به للتأكيد " .
وقرأ الأخوان " لمُنَجُوْهم " مخفَّفاً ، وكذلك خَفَّفا أيضاً فِعْلَ هذه الصفةِ في قولِه تعالى في العنكبوت : { لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ } [ الآية : 32 ] وكذلك خَفَّفا أيضاً قولَه فيها : { إِنَّا مُنَجُّوكَ } [ الآية : 33 ] فهما جاريان على سَنَنٍ واحد .
(1/2785)

وقد وافقهما ابنُ كثير/ وأبو بكر على تخفيف " مُنْجوك " كأنهما جمعا بين اللغتين . وباقي السبعة بتشديد الكلِّ ، والتخفيفُ والتشديدُ لغتان مشهورتان مِنْ نَجَّى وأَنْجَى كأَنْزَلَ ونَزَّل ، وقد نُطِقَ بفعلهما قال : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ } [ العنكبوت : 65 ] وفي موضعٍ آخرَ { أَنجَاهُمْ } [ يونس : 23 ] .
قوله : " قَدَّرْناها " أبو بكر بتخفيف [ الدال ] والباقون بتشديدها ، وهما لغتان : قَدَرَ وقدَّر ، وهذا الخلافُ أيضاً جارٍ في سورة النمل .
قوله : " إنَّها " كُسِرتْ من أجلِ اللامِ في خبرها وهي معلِّقةٌ لِما قبلها ، لأنَّ فِعْلَ التقديرِ يُعَلَّقُ إجراءً له مُجْرى العِلْم : إمَّا لكونِه بمعناه ، وإمَّا لأنَّه مترتِّبٌ عليه . قال الزمخشري : " فإن قلتَ " لِمَ جاز تعليقُ فِعْلِ التقدير في قوله " قَدَّرْنَآ إِنَّهَا " ، والتعليق مِنْ خصائصِ أفعالِ القلوب؟ قلت : لتضمُّنِ فِعْلِ التقدير معنى العِلْمِ " . قال الشيخ : " وكُسِرَتْ " إنها " إجراءً لفعل التقدير مُجْرى العِلْم " . قلت : وهذا لا يَصِحُّ علةً لكسرِها ، إنما يَصْلُحُ علةً لتعليقِها الفعلَ قبلها ، والعلةُ في كسرِها ما قَدَّمْتُه في وجودِ اللامِ ولولاها لفُتِحَتْ .
(1/2786)

قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63)
قوله تعالى : { بَلْ جِئْنَاكَ } إضرابٌ عن المفعول المحذوفِ تقديرُه : ما جئناك بما يُنْكَرُ ، بل جِئْناك .
(1/2787)

فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)
وقد تقدَّم الخلافُ في قولِه تعالى : { فَأَسْرِ } : قطعاً ووصلاً في هود . وقرأ اليمانيُّ فيما نقل ابن عطية وصاحب " اللوامح " " فَسِرْ " من السَّيْر . وقرأت فرقةٌ " بقِطَع " بفتح الطاء . وقد تَقَدَّم في يونس : أن الكسائيَّ وابنَ كثير قرآه بالسكون في قوله " قطعاً " ، والباقون بالفتح .
قوله : { حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } " حيث " على بابِها مِنْ كونِها ظرفَ مكانٍ مبهمٍ ، ولإِبهامها تعدَّى إليها الفعلُ من غير واسطة على أنه قد جاء في الشعر تَعَدِّيْه إليها ب " في " كقولِه :
2943- فَأصْبَحَ في حيثُ التقَيْنا شريدُهُمْ ... طَليقٌ ومكتوفُ اليدين ومُزْعِفُ
وزعم بعضُهم أنها هنا ظرفُ زمانٍ ، مستدلاًّ بقولِه " بقِطْعٍ من الليل " ، ثم قال : { وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } ، أي : في ذلك الزمان . وهو ضعيفٌ ، ولو كان كما قال لكان التركيبُ : حيث أُمِرْتم ، على أنه لو جاء التركيب كذا لم يكن فيه دلالةٌ .
(1/2788)

وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
قوله تعالى : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ } ضَمَّن القضاءَ معنى الإِيحاء ، فلذلك تَعَدَّى تعديتَه ب " إلى " ، ومثلُه : { وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الإِسراء : 4 ] .
قوله : { ذَلِكَ الأمر } " ذلك " مفعولُ القضاء ، والإِشارةُ به إلى ما وَعَدَ من إهلاكِ قومِه ، و " الأمرَ " : إمَّا بدلٌ منه أو عطفُ بيانٍ له .
قوله : { أَنَّ دَابِرَ } العامَّةُ على فتحِ " أنَّ " وفيها أوجهٌ ، أحدُها : أنها بدلٌ مِنْ " ذلك " إذا قلنا : " الأمر " عطفُ بيان . الثاني : أنها بدل من " الأمر " سواء قلنا : إنها بيانٌ أو بدل ممَّا قبلَه . والثالث : أنه على حَذْفِ الجارِّ ، أي : بأنَّ دابِرَ ، ففيه الخلافُ المشهور .
وقرأ زيدُ بن علي بكسرِها؛ لأنه بمعنى القولِ ، أو على إضمار القول . وعَلَّله الشيخُ بأنَّه لمَّا عَلَّق ما هو بمعنى العلم كُسِر . وفيه النظرُ المتقدم .
قوله : { مُّصْبِحِينَ } حالٌ من الضمير المستتر في " مقطوعٌ " وإنما جُمِع حَمْلاً على المعنى ، وجعله الفراء وأبو عبيد خبراً ل " كان " مضمرة ، قالا : " وتقديره : إذا كانوا مُصْبِحين نحو : " أنتَ ماشياً أحسنُ منك راكباً " . وهو تكلُّفٌ . و " مُصْبِحين " داخلين في الصَّباح فهي تامَّةٌ .
(1/2789)

وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67)
قوله تعالى : و { يَسْتَبْشِرُونَ } : حال .
(1/2790)

قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71)
قوله تعالى : { هَؤُلآءِ بَنَاتِي } : يجوز فيه أوجهٌ ، أحدها : أن يكونَ " بناتي " مفعولاً بفعلٍ مقدرٍ ، أي : تَزَوَّجوا هؤلاء . و " بناتي " بيانٌ أو بدلٌ . الثاني : أن يكونَ " هؤلاء بناتي " مبتدأً وخبراً ولا بُدَّ مِنْ شيءٍ محذوفٍ تَتِمُّ به الفائدةُ ، أي : فَتَزَوَّجُوْهن . الثالث : أن يكونَ " هؤلاء " مبتدأً ، و " بناتي " بدلٌ أو بيان ، والخبرُ محذوفٌ ، أي : هُنَّ أطهرُ لكم ، كما جاء في نظيرتها .
قوله : { فَلاَ تَفْضَحُونِ } [ الحجر : 68 ] : الفَضْحُ والفَضيْحَةُ البيان والظهور ، ومنه فَضَحَه الصُّبْحُ قال :
2944- ولاحَ ضوءُ هِلالِ الليل يَفْضَحُنا ... مثلَ القُلامَةِ قد قُصَّتْ من الظُفُرِ
إلا أنَّ الفضيحةَ اختصَّتْ بما هو عارٌ على الإِنسانِ عند ظهورِه .
(1/2791)

لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
قوله تعالى : { لَعَمْرُكَ } : مبتدأٌ ، محذوفٌُ الخبر وجوباً ، ومثلُه : لايْمُنُ الله . و " إنهم " وما في حَيِّزه جوابُ القسمِ تقديرُه : لَعَمْرك قسمي أو يميني إنهم . والعَمْر والعُمْر بالفتح والضم هو البقاء ، إلا أنهم التزموا الفتح في القسم . قال/ الزجاج : " لأنَّه أَخَفُّ عليهم ، وهم يُكْثرون القَسَم ب " لَعَمْري " و " لَعَمْرك " . وله أحكامٌ كثيرة منها : أنه متى اقترن بلامِ الابتداء لَزِم فيه الرفعُ بالابتداءِ ، وحُذِفَ خبرُه ، لِسَدِّ جوابِ القسم مَسَدَّه . ومنها : أنه يصير صريحاً في القسم ، أي : يَتَعَيَّن فيه ، بخلافِ غيرِه نحو : عهدُ الله وميثاقُه . ومنها : أنه يَلْزَمُ فَتْحُ عينِه ، فإن لم يقترنْ به لامُ الابتداء جاز نصبُهُ بفعل مقدر نحو : عَمْرَ اللهِ لأفعلنَّ ، ويجوز حينئذ في الجلالةِ وجهان : النصبُ والرفعُ ، فالنصبُ على أنه مصدرٌ مضافٌ لفاعله وفي ذلك معنيان ، أحدهمل : أنَّ الأصلَ : أسألُكَ بتعميرك اللهَ . أي : بوصِفك اللهَ تعالى بالبقاء ، ثم حُذِف زوائدُ المصدرِ . والثاني : أن المعنى : عبادتك الله ، والعَمْر : العبادة ، حكى ابن الأعرابي " عَمَرْتُ ربي " ، أي : عَبَدْته ، وفلانٌ عامِرٌ ربِّه ، أي : عابدُه .
وأمَّا الرفعُ : فعلى أنه مضافٌ لمفعولِه . قال الفارسي : " معناه : عَمَّرَك اللهُ تَعْميراً " . وقال الأخفش : " أصله : أسألك بتعميرك اللهَ ، فحُذِفَ زوائدُ المصدرِ والفعلُ والباءُ فانتصب ، وجاز أيضاً ذِكْرُ خبرِهِ فتقول : عَمْرُك قَسَمي لأقومَنَّ ، وجاز أيضاً ضَمُّ عينِه ، ويُنْشِدُ بالوجهين قولُه :
2945- أيُّها المُنْكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلاً ... عَمْرَكَ اللهَ كيفَ يلتقيانِ
ويجوزُ دخولُ باءِ الجرِّ عليه ، نحو : بعَمْرِكَ لأفعلَنَّ . قال :
2946- رُقَيَّ بعَمْرِكُمْ لا تَهْجُرِينا ... ومَنَّيْنا المُنَى ثم امْطُلِينا
وهو من الأسماء اللازمة للإِضافة ، فلا يُقطع عنها ، ويُضاف لكلِّ شيءٍ . وزعم بعضُهم أنه لا يُضاف إلى الله . قيل : كأنَّ قائل هذا تَوَهَّم أنه لا يُسْتعمل إلا في الانقطاع ، وقد سُمع إضافُته للباري تعالى . قال الشاعر :
2947- إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْرٍ ... لعَمْرُ اللهِ أَعْجبني رِضاها
ومَنَع بعضُهم إضافتَه إلى ياءِ المتكلمِ قال : لأنه حَلْفٌ بحياة المُقْسِم ، وقد وَرَدَ ذلك ، قال النابغة :
2943- لَعَمْري -وما عَمْري عليَّ بهَيِّنٍ- ... لقد نَطَقَتْ بُطْلاً عَلَيَّ الأقارِعُ
وقد قَلَبَتْه العربُ بتقديمِ رائِه على لامه فقالوا : " رَعَمْلي " ، وهي ردئيةٌ .
والعامَّة على كسرِ " إنَّ " لوقوعِ اللامِ في خبرها . وقرأ أبو عمروٍ في روايةِ الجَهْضَمِيِّ بفتحها . وتخريجُها على زيادةِ اللامِ وهي كقراءة ابن جبير : { إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام } [ الفرقان : 20 ] بالفتح .
والأعمش : " سَكْرِهم " دون تاءٍ . وابن أبي عبلة " سَكَراتهم " جمعاً . والأشهبُ " سُكْرَتِهم " بضم السين .
و " يَعْمَهُون " حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في الجارِّ ، وإمَّا من الضميرِ المجرورِ بالإِضافةِ . والعامل : إمَّا نفسُ " سَكْرَة " لأنها مصدرٌ ، وإمَّا معنى الإِضافة .
(1/2792)

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73)
قوله تعالى : { مُشْرِقِينَ } : حالٌ مِنْ مفعول " أَخَذَتْهم " ، أي : داخلين في الشُّروق .
(1/2793)

فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74)
والضميرُ في { عَالِيَهَا سَافِلَهَا } للمدينة . وقال الزمخشري : " لقرى قومِ لوطٍ " . ورُجِّح الأولُ بأنه تقدَّم ما يعود عليه لفظاً بخلاف الثاني .
(1/2794)

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)
قوله تعالى : { لِلْمُتَوَسِّمِينَ } : متعلِّقٌ بمحذوف على أنه صفةٌ لآيات . والأجودُ أَنْ يتعلَّق بنفس " آياتٍ " لأنها بمعنى العلامات . والتَّوَسُّم تَفَعُّلٌ مِنَ الوَسْمِ ، والوَسْم : أصلُه التَّثبُتُ والتفكُّر ، مأخوذٌ من الوَسْم ، وهو التأثير بحديدةٍ في جِلْد البعير أو غيره . وقال ثعلب : " الواسم : الناظرُ إليك مِنْ قَرْنِكَ إلى قَدَمِك " ، وفيه معنى التثُّبت . وقيل : / أصلُه : استقصاءُ التعرِّفِ يُقال : تَوَسَّمْتُ ، أي : تَعَرَّفْتُ مُسْتَقْصِياً وجوهَ التعرُّف . قال :
2949- أوَ كلما وَرَدَتْ عُكاظَ قبيلةٌ ... بَعَثَتْ إليَّ عريفَها يتوسَّمُ
وقيل : هو تَفَعُّل من الوَسْمِ ، وهو العَلاَمَةُ : تَوَسَّمْتُ فيك خيراً ، أي : ظَهَر له مِيْسَمُه عليك . قال ابن رواحة في النبي صلَّى الله عليه وسلم :
2950- إنِّي تَوَسَّمْتُ فيك الخيرَ أَعْرِفُه ... والله يَعلم أني ثابتُ البَصَرِ
وقال آخر :
2951- تَوَسَّمْتُه لَمَّا رَأَيْتُ مَهابَةً ... عليهِ وقُلْتُ : المرءُ مِنْ آلِ هاشمِ
ويُقال : اتَّسَمَ الرجلُ : إذا اتَّخَذَ لنفسِه علامةً يُعْرَفُ بها ، وتَوَسَّمَ : إذا طلبَ كَلأَ الوَسْمِيَّ ، أي : العشبِ النابتِ في أولِ مطرِ [ الربيعِ ] .
(1/2795)

وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76)
قوله تعالى : { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ } : الظاهرُ عَوْدُ الضميرِ على المدينة أو القُرى . وقيل : على الحجارةِ . وقيل : على الآيات .
(1/2796)

وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78)
قوله تعالى : { وَإِن كَانَ أَصْحَابُ } : " إنْ " هي المخففةُ واللامُ فارقةٌ ، وقد تَقَدَّم حكمُ ذلك . والأَيْكَةُ : الشجرةُ المُلْتَفَّةُ ، واحدةُ الأَيْكِ . قال :
2952- تَجْلُوْ بقادِمَتَيْ حَمامةِ أيْكةٍ ... بَرَداً أُسِفَّ لِثاتُه بالإثْمِدِ
ويقال : لَيْكَة . وسيأتي بيانُ هذا عند اختلافِ القرَّاءِ فيه إن شاء الله تعالى في الشعراء .
(1/2797)

فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
قوله تعالى : { وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ } في ضمير التثنيةِ أقوالٌ ، أَرْجَحُها : عَوْدُه على قريَتْي قومِ لوطٍ وأصحابِ الأيكة وهم قوم شُعَيب لتقدَّمِهما ذِكْراً . وقيل : يعودُ على لوطٍ وشُعَيْبٍ ، وشعيبٌ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ ، ولكنْ دَلَّ عليه ذِكْرُ قومِه . وقيل : يعود على الخبرين : خبرِ إهلاكِ قومٍ لوطٍ ، وخبر إهلاكِ قومِ شعيب . وقيل : يعودُ على أَصحابِ الأيكةِ وأصحابِ مَدْيَنَ؛ لأنه مُرْسَلٌ إليهما فَذِكْرُ أحدِهما مُشْعِرٌ بالآخرِ .
(1/2798)

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83)
و { مُصْبِحِينَ } حالٌ كما تقدَّم ، وهي تامَّةٌ .
(1/2799)

فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
قوله تعالى : { فَمَآ أغنى } : يجوز أن تكونَ نافيةً ، أو استفهاميةً فيها معنى التعجبِ . و " ما " يجوزُ أنْ تكونَ مصدريةً ، أي : كَسْبُهم ، أو موصوفةً ، أو بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : شيءٌ يَكْسِبونه ، أو الذي يَكْسِبونه .
(1/2800)

وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85)
قوله تعالى : { إِلاَّ بالحق } : نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : خَلْقاً ملتبساً بالحقِّ .
(1/2801)

كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)
قوله تعالى : { كَمَآ أَنْزَلْنَا } فيه أقوالٌ ، أحدُهما : أنَّ الكافَ متعلقٌ ب " آتيناك " ، وإليه ذهب الزمخشري فإنه قال : " أي : أَنْزَلْنا عليك مثلَ ما أَنْزَلْنا على أهل الكتاب ، وهم المُقتسِمُون الذين جعلوا القرآن عِضِينَ " . والثاني : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ منصوبٍ ب " آتيناك " تقديرُه : آتَيْناك إتْياناً كما أَنْزَلْنا . الثالث : أنه منصوبٌ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ ، ولكنه مُلاقٍ ل " آتيناك " من حيث المعنى لا من حيث اللفظُ ، تقديرُه : أَنْزَلْنا إليك إنزالاً كما أَنْزَلْنا ، لأنَّ " آتيناك " بمعنى أَنْزَلْنَا إليك . الرابع : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف ، العاملُ فيه مقدرٌ أيضاً تقديرُه : مَتَّعْناهم تمتيعاً كما أَنْزَلْنا ، والمعنى : نَعَّمْنا بعضَهم كما عَذَّبنا بعضَهم . الخامس : أنه صفةٌ لمصدرٍ دَلَّ عليه " النذير " والتقدير : أنا النذيرُ إنْذاراً كما أَنْزَلْنا ، أي : مثلَ ما أنزلناه .
السادس : أنه نعتٌ لمفعولٍ محذوف ، الناصبُ له " النذير " ، تقديرُه : النذير عذاباً ، كما أنزلنا على المُقْتَسِمين ، وهم قومٌ صالحٍ لأنهم قالوا : { لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } [ النمل : 49 ] فأَقْسموا على ذلك ، أو يُراد بهم قريشٌ حيث قَسَموا القرآنَ إلى سِحْرٍ وشِعْرٍ وافتراء . وقد رَدَّ بعضُهم هذا بأنه يلزمُ منه إعمالٌ الوصفِ موصوفاً ، وهو غيرُ جائزٍ عند البصريين ، جائزٌ عند الكوفيين ، فلو عَمِل ثم وُصِفَ جاز عند الجميعِ .
السابع : أنه مفعولٌ به ، ناصبُه " النذير " أيضاً . قال الزمخشريُّ : " والثاني : أَنْ يتعلَّقَ بقوله : " وقل : إني أنا النذيرُ المبين ، أي : وأَنْذِرْ قريشاً مثلَ ما/ أَنْزَلْنَا من العذابِ على المقتسمين ، يعني اليهودَ وهو ما جَرَى على قُرَيْظَةَ والنَّضِير " . وهذا مردودٌ بما تقدم من إعمالِ الوصفِ موصوفاً .
الثامن : أنه منصوبٌ نعتاً لمفعولٍ به مقدرٍ ، والناصبُ لذلك المحذوفِ مقدَّرٌ لدلالةِ لفظِ " النذير " عليه ، أي : أُنْذِرُكم عذاباً مثلَ العذابِ المنزَّلِ على المقتسمين ، وهم قومٌ صالحٍ أو قريشٌ ، قاله أبو البقاء ، وكأنه فَرَّ مِنْ كونِهِ منصوباً بلفظِ " النَّذير " لِما تقدَّم من الاعتراض البَصْرِيِّ .
وقد اعترض ابنُ عطيةَ على القول السادس فقال : " والكافُ من قوله " كما " متعلقةٌ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه : وقل إني أنا النذيرُ المبينُ عذاباً كما أنزَلْنا ، فالكافُ اسمٌ في موضع نصبٍ ، هذا قولُ المفسِّرين . وهو عندي غيرُ صحيحٍ ، لأنَّ { كَمَآ أَنْزَلْنَا } ليس مما يقولُه محمدٌ عليه السلام ، بل هو مِنْ كلامِ اللهِ تعالى ، فينفصِلُ الكلامُ ، وإنما يترتَّبُ هذا القولُ بأن الله تعالى قال له : أَنْذِرْ عذاباً كما . والذي أقول في هذا : " المعنى : وقل : إني أنا النذيرُ المبين ، كما قال قبلَك رسلُنا ، وأنزلْنا عليهم كما أَنْزَلْنا عليك . ويُحْتمل أن يكونَ المعنى : وقل إني أنا النذيرُ المُبينُ ، كما قد أَنْزَلْنا في الكتب أنك ستأتي نذيراً ، على أنَّ المُقْتَسِمين اهلُ الكتاب " .
(1/2802)

انتهى .
وقد اعتذر بعضُهم عَمَّا قاله أبو محمدٍ فقال : " الكافُ متعلقةٌ بمحذوفٍ دَلَّ عليه المعنى تقديرُه : أنا النذيرُ بعذابٍ مثلِ ما أنزلنا ، وإنْ كان المُنَزِّل اللهَ ، كما يقول بعضُ خواصِّ المَلِك : أَمَرْنا بكذا ، وإن كان المَلِكُ هو الآمرَ ، وأمَّا قولُ أبي محمدٍ : وأنْزَلْنَا عليهم كما أَنْزَلْنا عليك كلامٌ غيرُ منتظمٍ ، ولعل أصلَه : وأَنْزَلْنا عليك كما أَنْزَلْنا عليهم ، كذا اصلحه الشيخ وفيه نظرٌ : كيف يُقَدَّر ذلك والقرآن ناطقٌ بخلافِهِ : وهو قولُه { عَلَى المقتسمين } ؟
التاسع : أنه متعلِّقٌ بقوله { لَنَسْأَلَنَّهُمْ } [ الحجر : 92 ] تقديرُه : لَنَسْأَلَنَّهم أجمعين مثلَ ما أَنْزَلْنا .
العاشر : أنَّ الكافَ مزيدةٌ تقديره : أنا النذير المُبين ما أنزلناه على المقتسِمين ، ولا بد مِنْ تأويلِ ذلك : على أنَّ " ما " مفعولٌ بالنذير عند الكوفيين فإنهم يُعْمِلون الوصفَ الموصوفَ ، أو على إضمارِ فعلٍ لائق ، أي : أُنْذِركم ما أنزلناه كما يليق بمذهبِ البصريين .
الحادي عشر : أنه متعلِّقٌ ب " قل " التقديرُ : وقُلْ قولاً كما أنزَلْنا على المقتسِمين : إنك نذيرٌ لهم ، فالقولُ للمؤمنين في النِّذارة كالقولِ للكفارِ المقتسِمين؛ لئلا تظنَّ أن إنذارَك للكفارِ مخالِفٌ لإِنذار المؤمنين ، بل أنت في وصفِ النِّذارة لهم بمنزلةٍ واحدةٍ ، تُنْذِر المؤمنَ كما تُنْذر الكافرَ ، كأنه قال : أنا النذير المبينُ لكم ولغيرِكم .
(1/2803)

الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)
قوله تعالى : { الذين جَعَلُواْ } : فيه أوجهٌ : أظهرُها : أنه نعتٌ للمقتسِمين . الثاني : أنه بدلٌ منه . الثالث : أنه بيانٌ له . الرابع : أنه منصوبٌ على الذمِّ . الخامس : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ . السادس : أنه منصوب بالنذير المبين ، قاله الزمخشري ، وهو مردودٌ بإعمال الوصفِ الموصوفِ عند البصريين ، وتقدَّم تقريرُه .
و " عِضيْن " جمع " عِضَة " وهي الفِرْقَةُ ، ف " العِضين " الفِرَق ، ومعنى جَعْلِهم القرآنَ كذلك : أنَّ بعضَهم جعله شعراً ، وبعضَهم سحراً ، وبعضَهم كِهانةً ، نعوذ بالله من ذلك . وقيل : العَضْهُ : السِّحْرُ بلغة قريش ، يقولون : هو عاضِهٌ وهي عاضِهَةٌ . قال :
2953- أَعُوذُ بربِّي مِن النَّافِثا ... تِ في عُقَدِ العاضِهِ المُعْضِهِ
وفي الحديث : " لَعَن العاضِهَة والمُسْتَعْضِهَة " ، أي : الساحرة والمُسْتَسْحِرَة . وقيل : هو مِنْ العِضَهِ ، وهو الكذبُ والبُهْتانُ . يقال : عَضَهَهُ عَضْهَاً وعَضِيْهَةً ، أي : رماه بالبُهتان ، وهذا قولُ الكسائيِّ . وقيل : هو من العِضَاه ، وهي شجرٌ شَوْكٌ مُؤْذٍ ، قاله الفراء .
وفي لام " عِضَة " قولان يَشْْهد لكلٍّ منهما التصريفُ : الواوُ ، لقولهم : عِضَوات ، واشتقاقها من العُضْوِ ، لأنه جزءٌ مِنْ كلٍّ ، ولتصغيرِها على عُضَيِّة ، والهاء/ لقولهم : عُضَيْهَة وعاضِهٌ وعاضِهَةٌ وعَضِهٌ ، وفي الحديث : " لا تَعْضِيَةَ في مِيراثٍ " وفُسِّر بأنْ لا تَفْريقَ فيما يَضُرُّ بالوَرَثَةِ ، تفريقُه كسيفٍ يُكْسَر بنصفَيْن فَيَنْقُصُ ثمنُه .
وقال الزمخشريُّ : " عَضين : أجزاءٌ ، جمع عِضَة ، وأصلُها عِضْوَة فِعْلَة ، مِنْ عَضَا الشاةَ إذا جَعَلها أعضاءً . قال :
2954- وليسَ دينُ اللهِ بالمُعَضَّى ... وجُمِعََ عِضَة على عِضين ، كما جُمع سَنَة وثُبَة وظُبَةَ ، وبعضهم يُجْري النونَ بالحركاتِ مع الياء ، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك ، وحينئذ تَثْبُُتُ نونُه في الإِضافةِ فيقال : هذه عِضِيْنُك .
(1/2804)

فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
قوله تعالى : { فاصدع } : أصلُ الصَّدْعِ : الشَّقُّ : صَدَعْتُه فانصَدَعَ ، أي : شَقَقْتُه فانْشَق ، ومنه التفرقةُ أيضاً كقوله : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] .
وقال :
2955- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كأنَّ بياضَ غِرَّتِه صَدِيعُ
والصَّديعُ : ضوء الفجر لانشقاقِ الظلمةِ عنه ، ومعنى " فاصدَعْ " : فافرُقْ بين الحقِّ والباطلِ وافْصِلْ بينهما . وقال الراغب : " الصَّدْعُ شِقٌّ في الأجسامِ الصُّلْبة كالزُّجَاج والحديد ، وصَدَّعْتُه بالتشديد فتصَدَّع ، وصَدَعْتُه بالتخفيفِ فانْصَدَع ، وصُداع الرأسِ منه لتوهُّمِ الانشقاقِ فيه ، وصَدَعْتُ الفَلاةَ ، أي : قطعتُها " مِنْ ذلك ، كأنه تَوَهَّم تفريقَها .
و " ما " في " بما تُؤْمَر " مصدريةٌ أو بمعنى الذي ، والأصلُ : تُؤْمَر به ، وهذا الفعلُ يَطَّرِدُ حَذْفُ الجارِّ معه ، فَحَذْفُ العائدِ فصيحٌ ، وليس هو كقولك " جاء الذي مررت " ونحوُه :
2956- أَمَرْتُكَ الخيرَ فافعَلْ ما أُمِرْتَ به ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والأصل : بالخير . وقال الزمخشري : " ويجوز أن تكونَ " ما " مصدريةً ، أي : بأَمْرِك ، مصدرٌ من المبني للمفعول " . انتهى . وهو كلامٌ صحيحٌ . ونَقَل الشيخُ عنه أنه قال : " ويجوز أن يكونَ المصدرُ يُراد به " أَنْ " والفعلِ المبنيِّ للمفعول " . ثم قال الشيخ : " والصحيحُ أنَّ ذلك لا يجوز " . قلت : الخلافُ إنما في المصدرِ المُصَرَّح به : هل يجوز أن يَنْحَلَّ لحرفٍ مصدريٍ وفعلٍ مبني للمفعول أم لا يجوزُ ذلك؟ خلافٌ مشهور ، أمَّا أنَّ الحرفَ المصدريَّ هل يجوزُ فيه أن يُوْصَلَ بفعل مبني للمفعول نحو : " يُعجبني أن يُكْرَمَ عمرٌو " أم لا يجوز؟ فليس محلَّ النِّزاعِ .
(1/2805)

أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
قوله تعالى : { أتى أَمْرُ الله } : في " أتى " وجهان ، أحدُهما : - وهو المشهورُ- أنه ماضٍ لفظاً مستقبلٌ معنى؛ إذ المرادُ به يومُ القيامة ، وإنما أُبْرِز في صورةِ ما وَقَع وانقضى تحقيقاً له ولصِدْقِ المخبِرِ به . والثاني : أنه على بابه ، والمرادُ به مقدِّماتُه وأوائلُه ، وهو نَصْرُ رسولِه صلى الله عليه وسلم .
قوله : { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } في الضميرِ المنصوبِ وجهان ، أظهرُهما : أنَّه للأمرِ ، فإنَّه هو المُحَدَّثُ عنه . والثاني : أنه لله ، أي : فلا تستعجلوا عذابَه .
قوله : { عَمَّا يُشْرِكُونَ } يجوز أن تكونَ " ما " مصدريةً فلا عائدَ عند الجمهور ، أي : عن إشراكِهم به غيرَه ، وأن تكونَ موصولةً اسميةً .
وقرأ العامَّةُ : { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } بالتاء خطاباً للمؤمنين أو للكافرين . وابنُ جبير بالياء من تحتُ عائداً على الكفار أو المؤمنين .
وقرأ الأَخَوان : " تُشْرِكُون " بتاءِ الخطابِ جَرْياً على الخطابِ في " تَسْتَعْجِلُوه " والباقون بالياء عَوْداً على الكفار . وقرأ الأعمشُ وطلحةُ والجحدريُّ وجَمٌّ غفيرٌ بالتاء من فوقُ في الفعلين .
(1/2806)

يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
قوله تعالى : { يُنَزِّلُ الملائكة } : قد تقدَّم الخلافُ في " يُنَزِّل " بالنسبة إلى التشديدِ والتخفيفِ في البقرة . وقرأ زيدُ بن علي والأعمشُ وأبو بكر عن عاصم " تَنَزَّلُ " مشدداً مبنياً للمفعول وبالتاءِ مِنْ فوقُ ، " الملائكةُ " رفعاً لقيامِه مَقامَ الفاعلِ وقرأ الجحدريُّ كذلك ، إلا أنه خَفَّف الزايَ . وقرأ الحسنُ والأعرجُ وأبو العالية والمفضَّل عن عاصم " تَنَزَّلُ " بتاءٍ واحدةٍ مِنْ فوقُ ، وتشديدِ الزايِ مبنياً للفاعل ، والأصلُ : " تَتَنَزَّل " بتاءَيْن . وقرأ ابنُ أبي عبلة " نُنَزِّلُ " بنونينِ وتشديدِ الزايِ ، " الملائكةَ " نصباً ، وقتادةُ كذلك إلا انه بالتخفيف . قال/ ابن عطية : " وفيهما شذوذٌ " ولم يُبَيِّن وجهَ ذلك ، ووجهُه : أنَّ ما قبله وما بعده مضمرٌ غائبٌ ، وتخريجُه على الالتفات .
قوله : " بالرُّوْحِ " يجوز أن يكونَ متعلقاً بنفس الإِنزال ، وأن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الملائكة " ، أي : ومعهم الروحُ .
قوله : { مِنْ أَمْرِهِ } حالٌ من " الرُّوحِ " . و " مِنْ " : إمَّا لبيانِ الجنسِ ، وإمَّا للتبعيضِ .
قوله : { أَنْ أنذروا } في " أَنْ " ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها المُفَسِّرةُ؛ لأنَّ الوحيَ فيه ضَربٌ من القولِ ، والإِنزالُ بالروحِ عبارةٌ عن الوحيِ . الثاني : أنها المخففةُ مِنَ الثقيلة ، واسمُها ضميرُ الشأنِ محذوفٌ تقديره : أنَّ الشأنَ أقولُ لكم : إنه لا إله إلا أنا ، قاله الزمخشريُّ : الثالث : أنها المصدريةُ التي من شأنِها نصبٌ نصبُ المضارع ووُصِلَتْ بالأمر كقولهم : " كتبت إليه بأنْ قُمْ " ، وقد مضى لنا فيه بحثٌ .
فإن قلنا : إنها المفسِّرةُ فلا مَحَلَّ لها ، وإنْ قلنا : إنها المخففةُ أو الناصبةُ ففي محلِّها وثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها مجرورةُ المحلِّ بدلاً من " الرُّوح "؛ لأنَّ التوحيدَ رُوْحٌ تَحْيا به النفوسُ . الثاني : أنها في محلِّ جرٍّ على إسقاطِ الخافضِ كما هو مذهبُ الخليل . والثالث : أنها في محل نصب على إسقاطه وهو مذهبُ سيبويه ، والأصلُ : بأَنْ أَنْذِروا ، فلمَّا حُذِفَ الجارُّ جَرَى الخلافُ المشهورُ .
قوله : { أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ } هو مفعولُ الإِنذار والإِنذار قد يكونُ بمعنى الإِعلامِ . يقال : نَذَرْتُه وأَنْذَرته بكذا ، أي : أَعْلِمُوهم التوحيدَ . وقوله " فاتَّقونِ " التفاتٌ إلى التكلمِ بعد الغَيْبة .
(1/2807)

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
قوله تعالى : { مِن نُّطْفَةٍْْ } متعلِّقٌ ب " خَلَق " و " مِنْ " لابتداءِ الغاية . والنُّطْفَةُ : القَطْرَةُ من الماء ، نَطَفَ رأسُه ماءً ، أي : قَطَر . وقيل : هي الماء الصافي ويُعَبَّرُ بها عن ماءِ الرجل ، ويُكْنَى بها عن اللؤلؤة ، ومنه صبيٌّ مُنَطَّف : إذا كان في أذنه لُؤْلؤة ، ويقال : ليلة نَطُوف : إذا جاء فيها مطرٌ . والناطِف : ما سال من المائعاتِ ، نَطَفَ يَنْطِفُ ، أي : سال فهو ناطِفٌ . وفرنٌ يَنْطِفُ بسوءٍ .
قوله : { فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ } عَطَفَ هذه الجملةَ على ما قبلَها . فإن قيل : الفاءُ تدلُّ على التعقيب ، ولا سيما وقد وُجِدَ معها " إذا " التي تقتضي المفاجَأةَ ، وكونُه خصيماً مبيناً لم يَعْقُبْ خَلْقَه مِنْ نُطْفة ، إنما توسَّطَتْ بينهما وسائطُ كثيرةٌ . فالجوابُ من وجهين ، أحدُهما : أنه من باب التعبير عن حال الشيءِ بما يَؤُول إليه ، كقولِه تعالى : { أَعْصِرُ خَمْراً } [ يوسف : 36 ] . والثاني : أنه أشار بذلك إلى سُرْعَةِ نِسْيانهم مَبْدَأَ خَلْقِهم . وقيل : ثَمَّ وسائِطُ محذوفةٌ . والذي يظهر أنَّ قولَه " خَلَقَ " عبارةٌ عن إيجاده وتربيتِه إلى أن يبلغَ حدَّ هاتين الصفتين .
و " خصيم " فَعِيْل ، مثالُ مبالغةٍ مِنْ خَصَم بمعنى اختصم ، ويجوز أن يكونَ مُخاصِم كالخَلِيط والجَلِيس .
(1/2808)

وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5)
قوله تعالى : { والأنعام خَلَقَهَا } : العامَّةُ على النصبِ وفيه وجهان ، أحدُهما : نصبٌ على الاشتغالِ ، وهو أرجحُ مِن الرفعِ لتقدُّمِ جملةٍ فِعليةٍ . والثاني : أنه نصبٌ على عَطْفِه على " الإِنسان " ، قاله الزمخشريُّ وابنُ عطية ، فيكون " خَلَقَها " على هذا مؤكِّداً ، وعلى الأول مفسِّراً . وقُرئ في الشاذِّ " والأنعامُ " رفعاً وهي مَرْجُوحَةٌ .
قوله : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } يجوز أن يَتَعَلَّقَ " لكم " ب " خَلَقَها " ، أي : لأجلِكم ولمنافعِكم ، ويكون " فيها " خبراً مقدماً ، " ودِفْءٌ " مبتدأً مؤخراً . ويجوز أن يكونَ " لكم " هو الخبر ، و " فيها " متعلِّقٌ بما تعلَّقَ به الخبرُ ، أو يكونَ " فيها " حالاً من " دِفْء " لأنه لو تاخَّر لكان صفةً له ، أو يكونَ " فيها " هو الخبرَ ، و " لكم " متعلِّقٌ بما تعلَّق به ، أو يكونَ حالاً مِنْ " دِفْء " قاله أبو البقاء . ورَدَّه الشيخ بأنه إذا كان العاملُ في الحال معنوياً فلا يتقدَّم على الجملةِ بأسرها ، لا يجوز : " قائماً في الدار زيدٌ " فإنْ تأخَّرَتْ نحو : " زيدٌ في الدار قائماً " جازَ بلا خلافٍ ، أو توسَّطَتْ/ فخلافٌ ، أجازه الأخفشُ ، ومنعه غيرُه .
قلت : ولقائلٍ أن يقولَ : لَمَّا تقدَّمَ العاملُ فيها وهي معه جاز تقديمُها عليه بحالها ، إلاَّ أنْ يقولَ : لا يَلْزَمُ مِنْ تقديمِها عليه وهو متأخرٌ تقديمُها عليه وهو متقدمٌ ، لزيادةِ القبح .
وقال أبو البقاء أيضاً : " ويجوز أَنْ يرتفعَ " دِفْء " ب " لكم " أو ب " فيها " والجملةُ كلُّها حالٌ من الضمير المنصوب " . قال الشيخ : " ولا تُسَمَّى جملةً؛ لأنَّ التقدير : خلقها كائناً لكم فيها دفءٌ ، أو خَلَقها لكم كائناً فيها دِفْءٌ " قلت " قد تقدَّم الخلاف في تقدير متعلِّق الجارِّ إذا وقع حالاً أو صفةً أو خبراً : هل يُقَدَّرُ فِعْلاً أو اسماً؟ ولعلَّ أبا البقاء نحا إلى الأولِ ، فتسميتُه له جملةً صحيحٌ على هذا .
والدِّفْء اسمٌ لِما يُدْفَأُ به ، أي : يُسْخَنُ ، وجمعُه أدْفاء ، ودَفِئَ يومُنا فهو دَفِىءٌ ، ودَفِئَ الرجلُ يَدْفَأُ دَفاءَةً ودَفَاءً فهو دَفْآنُ ، وهي دَفْأَى ، كسَكْران وسَكْرى . والمُدْفَأة بالتخفيفِ والتشديد : الإِبلُ الكثيرةُ الوبرِ والشحمِ . قيل : الدِّفْءُ : نِتاجُ الإِبل وألبانُها ، وما يُنْتفع به منها .
وقرأ زيدُ بنُ عليّ " دِفٌ " بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى الفاء ، والزهريُّ كذلك ، إلا أنه شَدَّدَ الفاء ، كأنه أجرى الوَصْلَ مُجْرى الوقفِ نحو قولِهم : " هذا فَرُخّْ " بالتشديد وقفاً . وقال صاحب " اللوامح " : " ومنهم مَنْ يُعَوِّضُ من هذه الهمزةَ فَيُشَدِّد الفاءَ ، وهو أحدُ وجهَيْ حمزةَ بنِ حبيب وقفاً " . قلت : التشديد وَقْفاً لغةٌ مستقلةٌ ، وإن لم يكن ثَمَّ حَذْفٌ من الكلمةِ الموقوفِ عليها .
قوله : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } " مِنْ " هنا لابتداء الغاية ، والتبعيض هنا ضعيفٌ . قال الزمخشري : فإن قلت : تقديمُ الظرفِ مُؤْذِنٌ بالاختصاصِ ، وقد يُؤْكَلُ مِنْ غيرِها . قلت : الأكل منها هو الأصلُ الذي يعتمده الناسُ ، وأمَّا غيرُها مِن البَطِّ والدَّجاج ونحوِها من الصَّيْد فكغيرِ المُعْتَدِّ به " .
(1/2809)

وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)
قوله تعالى : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } : كقوله : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } [ النحل : 5 ] . و " حين " منصوبٌ بنفس " جَمال " ، أو بمحذوفٍ على أنه صفةٌ له ، أو معمولٌ لِما عَمِل في " فيها " أو في " لكم " .
وقرأ عكرمةُ والضحاكُ " حينا " بالتنوين على أنَّ الجملةَ بعدَه صفةٌ له ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : حيناً تُرِيْحون فيه ، وحيناً تَسْرحُون فيه ، كقولِه تعالى : { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ } [ البقرة : 281 ] .
وقُدِّمَتْ الإِراحةُ على السَّرْحِ؛ لأنَّ الأنعامَ فيها أجملُ لِمَلْءِ بطونِها وتَحَفُّلِ ضُروعِها .
والجَمالُ : مصدرُ جَمُلَ بضمِّ الميم يَجْمُل فهو جميل ، وهي جميلة . وحكى الكسائيُّ جَمْلاء كَحَمْراء ، وأنشد :
2957- فهِيَ جَمْلاءُ كَبَدْرٍ طالعٍ ... بَذَّتِ الخَلْقَ جميعاً بالجَمالْ
ويقال : أراحَ الماشيةَ وهَرَاحَها بالهاءِ بدلاً من الهمزة . وسَرَحَ الإِبلَ يَسْرَحُها سَرْحاً ، أي : أرسلَها ، وأصلُه أن يُرْسِلَها لترعى السَّرْحَ ، والسَّرْحُ شجرٌ له ثمرٌ ، الواحدة سَرْحَة . قال :
2958- أبى اللهُ إلا أنَّ سَرْحَةَ مالكٍ ... على كلِّ افنانِ العِضاهِ تَرُوْقُ
وقال :
2959- بَطَلٌ كأن ثيابَه في سَرْحةٍ ... يُحْذَى نِعالَ السَّبْتِ ليس بتوْءَم
ثم أُطْلِق على كل إرسالٍ ، واستُعير أيضاً للطَّلاق فقالوا : سَرَّحَ فلانٌ امرأتَه ، كما تسعير الطلاقُ أيضاً من إطلاق الإِبل من عُلُقِها . واعتُبِر من السَّرْحِ المُضِيُّ فقيل : ناقَةَ سُرُحٌ ، أي : سريعة قال :
2960- . . . سُرُحُ اليَدَيْن . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وحَذَفَ مفعولي " تُرِيْحون " و " تَسْرَحُون " مراعاةً للفواصل مع العلم بهما .
(1/2810)

وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
قوله تعالى : { لَّمْ تَكُونُواْ } : صفةٌ ل " بلد " و " إلا بشِقٍّ " حالٌ من الضمير المرفوع في " بالِغِيْه " ، أي : لم تَبْلُغوه إلا ملتبسِيْنَ بالمَشَقَّة .
والعامَّةُ على كسرِ الشين . وقرأ أبو جعفر ، ورُوِيَتْ عن نافع وأبي عمرو بفتحها . فقيل : هما مصدران بمعنىً واحدٍ ، أي : المَشَقَّة ، فمِنَ الكسر قولُه :
2961- رأى إبِلاً تَسْعى ، ويَحْسِبُها له ... أخي نَصَبٍ مِنْ شِقِّها ودُؤْوْبِ
أي : مِنْ مَشَقَّتها . / وقيل : المفتوحُ المصدرُ ، والمكسورُ الاسمُ . وقيل : بالكسرِ نصفُ الشيء . وفي التفسير : إلا بنصفِ أنفسكم ، كما تقول : " لم تَنَلْه إلا بقطعةٍ من كَبِدك " على المجاز .
(1/2811)

وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
قوله تعالى : { والخيل } : العامَّةُ على نصبِها نَسَقاً على " الأنعامَ " . وقرأ ابن أبي عبلة برفعِها على الابتداء والخبرُ محذوفٌ ، أي : مخلوقَةٌ أو مُعَدَّةٌ لتركبوها ، وليس هذا ممَّا نابَ فيه الجارُّ منابَ الخبرِ لكونِه كوناً خاصاً .
قوله : " وزينةً " في نصبها أوجهٌ ، أحدُها : أنها مفعولٌ من أجلِه ، وإنما وَصَل الفعلُ إلى الأول باللام في قوله : " لتركبوها " وإلى هذا بنفسِه لاختلالِ شرطٍ في الأول ، وهو عَدَمُ اتحادِ الفاعلِ ، فإن الخالقَ اللهُ ، والراكبَ المخاطبون بخلافِ الثاني .
الثاني : أنها منصوبةٌ على الحال ، وصاحبُ الحال : إمَّا مفعول " خَلَقَها " ، وإمَّا مفعولُ " لتركبوها " ، فهو مصدرٌ أقيم مُقامَ الحال .
الثالث : أَنْ ينتصِبَ بإضمارِ فِعْلٍ ، فقدَّره الزمخشري " وخَلَقها زينة " . وقدَّره ابن عطية وغيرُه " وجَعَلها زينةً " .
الرابع : أنه مصدرٌ لفعلٍ محذوف ، أي : وَيَتَزَيَّنُوْن بها زينةً .
وقرأ قتادةُ عن ابن عباس " لتَرْكَبوها زينةً " بغير واوٍ ، وفيها الأوجهُ المتقدمةُ ، ويزيد أن تكونَ حالاً من فاعل " لتركبوها " ، أي : تركبونها مُتَزَيِّنين بها .
(1/2812)

وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
قوله تعالى : { وَمِنْهَا جَآئِرٌ } : { } الضميرُ يعود على السبيل لأنها تُؤَنَّثُ : { قُلْ هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] ، أو لأنها في معنى سُبُل ، فَأَنَّثَ على معنى الجمع .
والقَصْدُ مصدرٌ يُوصَفُ به فهو بمعنى قاصِد ، يُقال : سبيلٌ قَصْدٌ وقاصِدٌ ، أي : مستقيم كأنه يَقْصِد الوجهَ الذي يَؤُمُّه السَّالكُ لا يَعْدِل عنه . وقيل : الضمير يعود على الخلائق ويؤيِّده قراءةُ عيسى وما في مصحف عبد الله : " ومنكم جائِزٌ " ، وقراءةُ عليٍّ : " فمنكم جائر " بالفاء .
وقيل : أل في السبيل للعَهْدِ ، فعلى هذا يعود الضميرُ على " السبيل " التي يتضمَّنها معنى الآية كأنه قيل : ومِن السبيل ، فأعاد عليها وإنْ لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ؛ لأنَّ مقابلَها يَدُلُّ عليها . وأمَّا إذا كانت أل للجنس فتعودُ على لفظها .
والجَوْرُ : العُدولُ عن الاستقامةِ . قال النابغة :
2962- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يَجُور بها الملاَّحُ طَوْراً ويَهْتدي
وقال آخر :
2963- ومن الطريقةِ جائرٌ وهُدىً ... قَصْدُ السبيلِ ومنه ذُو دَخْلِ
وقال أبو البقاء : " وقَصْدُ مصدرٌ بمعنى إقامةِ السبيل وتَعِديلِ السبيلِ ، وليس مصدرَ قصَدْتُه بمعنى أتَيْتُه " .
(1/2813)

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)
قوله تعالى : { مَآءً لَّكُم مَّنْهُ شَرَابٌ } : يجوزُ في " لكم " أن يتعلَّقَ ب " أنْزَلَ " ، ويجوزُ أن يكونَ صفةً ل " ماءً " ، فيتعلَّقَ بمحذوفٍ ، فعلى الأولِ يكون " شرابٌ " مبتدأً و " منه " خبرُه مقدَّمٌ عليه ، والجملةُ أيضاً صفةٌ ل " ماءً " وعلى الثاني يكون " شرابٌ " فاعلاً بالظرف ، و " منه " حالٌ من " شراب " . و " مِنْ " الأولى للتبعيض ، وكذا الثانيةُ عند بعضِهم ، لكنه مجاز لأنه لمَّا كان سَقْيُه بالماء جُعِل كأنه من الماء كقوله :
2946- أسنِمَة الآبالِ في رَبابَهْ ... أي : في سَحابة ، يعني به المطرَ الذي يَنْبُتُ به الكلأُ الذي تأكلُه الإِبِلُ فَتَسْمَنُ اَسْنِمَتُها .
وقال أبو بكر بن الأنباري : " هو على حذف مضاف إمَّا من الأول ، يعني قبل الضمير ، أي : مِنْ سَقْيِه وجِهتِه شجرٌ ، وإمَّا من الثاني ، يعني قبل شجر ، أي : شُرْب شجر أو حياة شجر " . وجعل أبو البقاء الأولى للتبعيض والثانية للسبيية ، أي : بسببه ، ودَلَّ عليه قولُه : { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع } .
والشَّجَرُ هنا : كلُّ نباتٍ من الأرض حتى الكَلأُ ، وفي الحديث : " لا تأكُلوا الشجرَ فإنه سُحْتٌ " يعني الكلأ ، ينهى عن تحجُّر المباحاتِ المحتاجِ إليها بشدة . وقال :
2965- نُطْعِمُها اللحمَ إذا عَزَّ الشجَرْ ... وهو مجازٌ؛ لأنَّ الشجرَ ما كان له ساقٌ .
قوله : { فِيهِ تُسِيمُونَ } هذه صفةٌ أخرى ل " ماءً " . والعامَّة على " تُسِيمون " بضمِّ الياء مِنْ أسام ، أي : أَرْسَلَها لِتَرْعى ، وزيد بن علي بفتحِها ، فيحتمل أن يكونَ متعدياً ، ويكون فَعَل وأَفْعَل بمعنى ، ويحتمل أن يكون لازماً على حذفِ مضافٍ ، أي : تَسِيْمُ مواشِيَكُمْ .
(1/2814)

يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
قوله تعالى : { يُنبِتُ } : تحتمل هذه الجملةُ الاستئنافَ والتبعيةَ كما في نظيرتِها . ويقال : " أَنْبت اللهُ الزرعَ " فهو مَنْبُوت ، وقياسُه مُنْبَتٌ . وقيل : " أَنْبت " قد يجيْءُ لازماً ك " نَبَت " أنشد الفراء :
2966- رأيتَ ذوي الحاجاتِ حولَ بيوتِهمْ ... قَطِيناً لهم حتى إذا أَنْبَتَ البَقْلُ
وأباه الأصمعي ، والبيتُ حجةٌ عليه ، وتأويلُه ب " أَنبت البقلُ نفسَه " على المجاز بعيدٌ جداً .
وقرأ أبو بكر " نُنْبِتُ " بنون العظمة ، / والزهري " نُنَبِّتُ " بالتشديد . والظاهر أنه تضعيف المتعدي . وقيل : بل للتكرير . وقرأ أُبَي " يَنْبُت " بفتحِ الياءِ وضم الباء ، " الزَّرعُ " وما بعده رفعٌ بالفاعلية .
(1/2815)

وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12)
وقد تقدَّم خلافُ القراء في رفع " الشمس " وما بعدها ونصبِها ، وتوجيهُ ذلك في سورة الأعراف .
(1/2816)

وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
قوله تعالى : { وَمَا ذَرَأَ } عطفٌ على " الليل " قاله الزمخشري يعني ما خَلَقَ فيها من حيوانٍ وشَجَر . وقال أبو البقاء : " في موضعِ نصبٍ بفعلٍ محذوف ، أي : وخَلَقَ وأَنْبَتَ " . كأنه استبعد تَسلُّطَ " سَخَّر " على ذلك فقدَّر فعلاً لائقاً . و " مختلفاً " حالٌ منه ، و " ألوانُه " فاعلٌ به .
وخَتَمَ الآيةَ الأولى بالتفكُّر؛ لأنَّ ما فيها يحتاج إلى تأمُّلٍ ونَظَر ، والثانيةَ بالعقل؛ لأنَّ مدارَ ما تقدَّم عليه ، والثالثةَ بالتذكُّر؛ لأنه نتيجةُ ما تقدَّمَ . وجَمَعَ " آيات " في الثانية دونَ الأولى والثالثةِ؛ لأنَّ ما نِيْطَ بها أكثرُ ، ولذلك ذَكَرَ معها العقلَ .
(1/2817)

وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)
قوله تعالى : { مِنْهُ لَحْماً } : يجوز في " منه " تعلُّقُه ب " لتأكلوا " ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه حالٌ من النكرة بعده . و " مِنْ " لابتداء الغاية أو للتبعيضِ ، ولا بُدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ ، أي : مِنْ حيوانِه .
و " طَرِيّاً " فَعِيْل مِنْ طَرُوَ يَطْرُوْ طَراوةً كسَرُوَ يَسْرُوْ سَراوَةً . وقال الفراء : " بل يقال : طَرِيَ يَطرَى طَراوةً وطَراءً مثل : شَقِيَ يَشْقَى شَقَاوَةً وشَقاءً " . والطَّراوةُ ضد اليَبُوسة ، أي : غَضاً جديداً . ويُقال : الثيابُ المُطَرَّاة . والإِطراء : مَدْحٌ تَجَدَّد ذِكْرُه ، وأمَّا " طَرَأَ " بالهمز فمعناه طَلَع .
قوله : " حِلْيةً " الحِلْيَةُ : اسمٌ لِما يُتَحَلَّى به ، وأصلُها الدلالةُ على الهيئة كالعِمَّة والخِمْرَة . و " تَلْبَسُونها " صفةٌ . و " منه " يجوز فيه ما جاز في " منه " قبله . وقوله " تَرَى " جملةٌ معترضةٌ بين التعليلين وهما " لتأكلوا " و " لِتَبْتَغُوا " ، وإنما كانَتْ اعتراضاً لأنها خطابٌ لواحد بين خطابين لجمعٍ .
قوله : " فيه " يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب " ترى " ، وأَنْ يتعلَّقَ ب " مواخِرَ " لأنها بمعنى شَواقَّ ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه حالٌ مِنْ " مَواخِر " ، أو مِنَ الضميرِ المستكنِّ فيه .
و " مَواخِر " جمع ماخِرة ، والمَخْرُ : الشَّقُّ ، يُقال : مَخَرَتِ السفينةُ البحرَ ، أي : شَقَّتْه ، تَمْخُره مَخْراً ومُخُوراٌ . ويقال للسُّفُنِ : بناتُ مَخْرٍ وبَخْرٍ بالميم ، والباءُ بدل منها . وقال الفراء : " هو صوتُ جَرْيِ الفُلْكِ " . وقيل : صوتُ شدَّةِ هُبوبِ الريحِ . وقيل : " بناتُ مَخْرٍ " لسَحابٍ ينشَأُ صَيْفاً ، وامْتَخَرْتُ الريحَ واسْتَمْخَرْتُها ، أي : استقبلْتَها بأنفك . وفي الحديث : " اسْتَمْخِروا الريحَ ، وأَعِدُّوا النُّبَلَ " يعني في الاستنجاء ، والماخُور : الموضع الذي يُباع فيه الخمرُ . و " ترى " هنا بَصَريَّةٌ فقط .
قوله : " ولِتَبْتَغُوا " فيه ثلاثةُ أوجهٍ : عطفُه على " لتأكلوا " ، وما بينهما اعتراضٌ -كما تقدَّم- وهذا هو الظاهرُ . ثانيها : أنه عطفٌ على علةٍ محذوفةٍ تقديره : لتنتفعوا بذلك ولتبتَغُوا ، ذكره ابن الأنباري ، ثالثُها : أنه متعلِّقٌ بفعلٍ محذوفٍ ، أي : فَعَل ذلك لتبتغوا ، وفيهما تكلُّفٌ لا حاجةَ إليه .
(1/2818)

وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)
قوله تعالى : { أَن تَمِيدَ } : ، أي : كراهةَ أَنْ تَمِيْدَ ، أو : لئلاَّ تَمِيْدَ .
قوله : " وأنهاراً " عطفٌ على " رَواسي " لأنَّ الإِلقاءَ بمعنى الخَلْقَ . وادِّعاءُ ابنِ عطية أنه منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ ، أي : وجَعَل فيها أنهاراً ، ليس كما ذكره . وقدَّره أبو البقاء : " وشَقَّ فيها أنهاراً " وهو مناسِبٌ ، و " سُبُلاً " ، أي : وذَلَّل ، أو : وجعل فيها طُرُقاً .
(1/2819)

وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)
و { وَعَلامَاتٍ } ، أي : ووَضَعَ فيها علاماتٍ .
قوله تعالى : { وبالنجم } متعلِّق ب " يهتدون " . والعامَّةُ على فتحِ النونِ وسكونِ الجيمِ بالتوحيدِ فقيل : المرادُ به كوكبٌ بعينه كالجَدْيِ أو الثُّرَيَّا . وقيل : بل هو اسمُ جنسٍ . وقرأ ابن وثاب بضمِّهما ، والحسنُ بضمِّ النون فقط ، وعَكَسَ بعضُهم النَّقْلَ عنهما .
فأمَّا قراءةُ الضمتين ففيها تخريجان ، أظهرُهما : أنها جمعٌ صريحٌ لأنَّ فَعْلاً يُجْمع على فُعُل نحو : سَقْف وسُقُف ، ورَهْن ورُهُن . / والثاني : أنَّ أصلَه النجومُ ، وفَعْل يُجمع على فُعُول نحو : فَلْس وفُلُوس ، ثم خُفِّف بحَذْفِ الواوِ كما قالوا : أَسَد وأُسُود وأُسُد . قال أبو البقاء : " وقالوا في خِيام : خِيَم ، يعني أنه نظيرُه ، من حيث حَذَفوا منه حرفَ المدِّ . وقال ابنُ عصفور : إن قولهم " النُّجُم مِنْ ضرورة الشعر " وأنشد :
2967- إنَّ الي قَضَى بذا قاضٍ حَكَمْ ... أن تَرِدَ الماءَ إذا غابَ النُّجُمْ
يريد : النحوم ، كقوله :
2968- حتى إذا ابْتَلَّتْ حَلاقِيْمُ الحُلُقْ ... يريد الحُلُوق .
وأمَّا قراءةُ الضمِّ والسكونِ ففيها وجهان ، أحدهما : أنها تخفيفٌ من الضم . والثاني : أنها لغةٌ مستقلة .
وتقديمُ كلٍّ من الجار والمبتدأ يفيد الاختصاصَ . قال الزمشخري : " فإن قلت : قوله : { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } مُخْرَجٌ عن سَنَنِ الخِطاب ، مقدَّم فيه النجم ، مُقْحَمٌ فيه [ هم ] ، كأنه قيل : وبالنجمِ خصوصاً هؤلاء خصوصاً يهتدونَ ، فَمَنْ المرادُ بهم؟ قلت : كأنَّه أراد قريشاً ، كان لهم اهتداءٌ بالنجوم في مسائرِهم ، وكان لهم به عِلْمٌ لم يكنْ لغيرِهم فكان الشكرُ عليهم أوجبَ ولهم أَلْزَمَ " .
(1/2820)

أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17)
قوله تعالى : { كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } إنْ أُريد ب " مَنْ لا يَخْلُق " جميعٌ ما عُبِد مِنْ دونِ الله كان ورودُ " مَنْ " واضحاً؛ لأن العاقلَ يُغَلَّبُ على غيرِه ، فيُعبَّر عن الجميع ب " مَنْ " ولو جِيْء ب " ما " أيضاً لجازَ ، وإنْ أريد به الأصنامُ ففي إيقاعِ " مَنْ " عليهم أوجهٌ ، أحدُها : إجراؤهم لها مُجْرى أُولي العلمِ في عبادتهم إياها واعتقادِ أنها تَضُرُّ وتنفع كقوله :
2969- بَكَيْتُ إلى سِرْبِ القَطا إذْ مَرَرْنَ بي ... فقلتُ ومِثْلي بالبكاءِ جديرُ
أسِرْبَ القَطا هل مَنْ يُعيرُ جناحَه ... لعلِّي إلى مَن قد هَوَيْتُ أطيرُ
فأوقعَ على السِّرْب " مَنْ " لمَّا عاملها معاملةَ العقلاءِ . الثاني : المشاكلةُ بينه وبين مَنْ يَخْلُق . الثالث : تخصيصُه بمَنْ يَعْلَم ، والمعنى : أنه إذا حَصَلَ التبايُنُ بين مَنْ يَخْلُقُ وبين مَنْ لا يَخْلُق مِنْ أولي العلم ، وأنَّ غيرَ الخالقِ لا يَسْتحق العبادةَ البتة ، فكيف تستقيم عبادةُ الجمادِ المنحطِّ رتبةً ، الساقطِ منزلةً عن المخلوقِ من أولي العلم كقوله : { أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ } [ الأعراف : 195 ] إلى آخره؟ وأمَّا مَنْ يُجيز إيقاعَ " مَنْ " على غيرِ العقلاء مِنْ شرطٍ كقطرب فلا يحتاج إلى تأويلٍ .
قال الزمخشريُّ : " فإن قلتَ : هو إلزامٌ للذين عَبَدوا الأوثانَ ونحوَها ، تشبيهاً بالله تعالى ، وقد جعلوا غيرَ الخالقِ مثلَ الخالق ، فكان حَقُّ الإِلزامِ أن يُقال لهم : أَفَمَنْ لا يَخْلُق كَمَنْ يَخْلق؟ قلت : حين جعلوا غيرَ الله مِثْلَ اللهِ لتسميتِهم باسمِه ، والعبادةِ له ، جعلوا من جنس المخلوقات وشبيهاً بها ، فأنكر عليهم ذلك بقولِه { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ } .
(1/2821)

وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)
قوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ } : قرأ العامَّةُ " تُسِرُّون " و " تُعْلِنون " بتاء الخطاب . وأبو جعفر بالياء مِنْ تحتُ .
(1/2822)

وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20)
وقرأ عاصم وحده " يَدْعُون " بالياء ، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ . وقُرِئ " يُدْعَوْن " مبنياً للمفعول . وهنَّ واضحاتٌ .
(1/2823)

أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
قوله تعالى : { أَمْواتٌ } : يجوز أن يكونَ خبراً ثانياً ، أي : وهم يُخْلَقُون وهم أمواتٌ . ويجوز أن يكونَ " يُخْلَقون " و " أمواتٌ " كلاهما خبراً من بابِ " هذا حُلْوٌ حامِض " ذكره أبو البقاء ، ويجوزُ أن يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هم أمواتٌ .
قوله : { غَيْرُ أَحْيَآءٍ } يجوزُ فيه ما تقدم ، ويكون تأكيداً . وقال أبو البقاء : " ويجوزُ أَنْ يكونَ قصد بها أنهم في الحال غيرُ أحياءٍ ليَرْفَعَ به توهُّمَ أنَّ قولَه " أمواتٌ " فيما بعد إذ قال تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] . قلت : وهذا لا يُخْرِجُه عن التأكيدِ الذي ذكره قبلَ ذلك .
قوله : { أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } " أيَّان " منصوبٌ بما بعده لا بما قبلَه لأنه استفهامٌ ، وهو مُعَلَّقٌ ل " يَشْعُرون " فجملتُه في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافضِ ، هذا هو الظاهرُ . وفي الآية قولٌ آخرُ : وهو أن " أيَّان " ظرفٌ لقولِه { إلهكم إله وَاحِدٌ } يعني أن الإِلهَ واحدٌ يومَ القيامة ، ولم يَدَّعِ أحدٌ الإِلهيةَ في ذلك اليومِ بخلاف أيَّام الدنيا ، فإنه قد وُجد فيها من ادَّعى ذلك ، وعلى هذا فقد تَمَّ الكلامُ على قوله " يَشْعُرون " ، إلا أن هذا القول مُخْرِجٌ ل " أيَّان " عن موضوعِها - وهو : إمَّا/ الشرطُ ، وإمَّا الاستفهامُ - إلى مَحْضِ الظرفيةِ بمعنى وقت ، مضافٌ للجملة بعده كقولِك : " وقتَ تَذْهَبُ عمروٌ منطلق " فوقتَ منصوبٌ بمُنْطَلِق ، مضافٌ لتذهب .
(1/2824)

لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
قوله تعالى : { لاَ جَرَمَ } : قد تقدَّمَ الكلامُ على هذه اللفظةِ في سورةِ هود . والعامَّةُ على فتحِ الهمزة مِنْ " انَّ اللهَ " وكَسَرَها عيسى الثقفيُّ ، وفيها وجهان ، أظهرُهما : الاستئنافُ . والثاني : جَرَيانُ " لا جَرَم " مَجْرَى القسمِ فَتُتَلَقَّى بما يُتَلَقَّى به . وقال بعضُ العرب : " لا جَرَم واللهِ لا فارَقْتُك " وهذا عندي يُضْعِفُ كونَها للقسم لتصريحه بالقسمِ بعدها ، وإن كان الشيخ أتى بذلك مُقَوِّياً لجريانِها مَجْرى القسَم .
(1/2825)

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24)
قوله تعالى : { مَّاذَآ أَنْزَلَ } : قد تقدَّم الكلامُ على " ماذا " أولَ البقرة . وقال الزمخشري : " أو مرفوعٌ بالابتداءِ بمعنى : أيُّ شيءٍ أنزلَه ربُّكم؟ قال الشيخ : " وهذا غيرُ جائزٍ عند البصريين " . يعني مِنْ كونِه حَذَفَ عائدَه المنصوب نحو : " زيدٌ ضربتُ " وقد تقدَّم خلافُ الناس في هذا ، والصحيحُ جوازه .
والقائمُ مَقامَ فاعلِ " قيل " الجملةُ مِنْ قولِه { مَّاذَآ أَنْزَلَ } لأنها المَقُولَةُ ، والبصريون يَأْبَوْنَ ذلك ، ويجعلون القائمَ مقامَه ضميرَ المصدرِ؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ فاعلةً ولا قائمةً مقامَ الفاعلِ ، والفاعلُ المحذوفُ : إمَّا المؤمنون ، وإمَّا بعضُهم ، وإمَّا المقتسِمون .
وقرئ : " أساطيرَ " بالنصب ، على تقدير : أَنْزَلَ أساطيرَ على سبيل التهكُّم ، أو ذكرتُمْ أساطيرَ ، والعامَّةُ ، برفعِه على خبر مبتدأ مضمرٍ ، أي : المنزَّلُ أساطيرٌ على سبيل التهكُّم ، أو المذكورُ أساطيرُ . وللزمخشريِّ هنا عبارةٌ فظيعةٌ يقف منها الشَّعْرُ .
(1/2826)

لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
قوله تعالى : { لِيَحْمِلُواْ } : في هذه اللام ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنها لامُ الأمرِ الجازمةُ على معنى الحَتْمِ عليهم ، والصِّغارِ الموجبِ لهم ، وعلى هذا فقد تَمَّ الكلامُ عند قولِه " الأوَّلين " ، ثم اسْتُؤْنِف أَمْرُهم بذلك . الثاني : أنها لامُ العاقبة ، أي : كان عاقبةُ قولِهم ذلك ، لأنهم لم يقولوا " أساطير " لِيَحْمِلوا ، فهو كقولِه تعالى { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] ، وقوله :
2970- لِدُوا للموتِ وابْنُوا للخرابِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الثالث : أنَّها للتعليل ، وفيه وجهان : أحدهما : أنه تعليلٌ مجازيٌّ . قال الزمخشري : " واللامُ للتعليلِ مِنْ غيرِ أن يكونَ غرضاً نحو قولِك : خرجْتُ من البلد مخافةَ الشرِّ " . والثاني : أنه تعليلٌ حقيقةً . قال ابن عطية : - بعد حكاية وجهِ لامِ العاقبة - " ويُحتمل أن تكونَ صريحَ لامِ كي ، على معنى : قَدَّر هذا لكذا " انتهى . لكنه لم يُعَلِّقُها ب " قالوا " إنما قَدَّرَ لها علةَ " كيلا " ، وهو قَدَّر هذا ، وعلى قول الزمخشري يتعلَّقُ ب " قالوا "؛ لأنها ليست لحقيقةِ العلَّةِ . و " كاملةً " حالٌ .
قوله : { وَمِنْ أَوْزَارِ } فيه وجهان ، أحدهما : أنَّ " مِن " مزيدةٌ ، وهو قولُ الأخفش ، أي : وأوزار الذين على معنى : ومثل أوزارِ ، كقولِه : كان عليه وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عَمِل بها " . والثاني : أنها غيرُ مَزيدةٍ وهي للتبعيضِ ، أي : وبعض أوزارِ الذين . وقدَّر أبو البقاء مفعولاً حُذِف وهذه صفتُه ، أي : وأوزاراً مِنْ أوزارِ ، ولا بدَّ مِنْ حذف " مثل " أيضاً .
وقد منع الواحديُّ أن تكونَ " مِنْ " للتبعيض قال : " لأنه يَسْتلزِمُ تخفيفَ الأوزارِ عن الأتباع ، وهو غيرُ جائزٍ لقوله عليه السلام " من غير أن ينقصَ من أوزارهم شيءٌ " لكنها للجنس ، أي : ليحملوا من جنس أوزارِ الأتباع " . قال الشيخ : " والتي لبيانِ الجنسِ لا تتقدَّر هكذا ، إنما تتقدَّر : والأوزار التي هي أوزارُ الذين ، فهو من حيث المعنى كقول الأخفش ، وإن اختلفا في التقدير " .
قوله : { بِغَيْرِ عِلْمٍ } حالٌ ، وفي صاحبِها وجهان ، أحدُهما : أنه مفعولٌ " يُضِلُّونهم " ، أي : يُضِلُّون مَنْ لا يعلم أنهم ضُلاَّلٌ ، قاله الزمخشري . والثاني : أنه الفاعل ، ورُجِّح هذا بأنه هو المُحدَّث عنه . وقد تقدَّم الكلامُ في إعرابِ نحو " ساءَ ما يَزِرون " ، وأنها قد تجري مَجْرى بِئْس .
(1/2827)

قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)
قوله تعالى : { مِّنَ القواعد } : " مِنْ " لابتداءِ الغاية ، أي : من ناحيةِ القواعدِ ، أي : أتى أمرُ الله وعذابُه .
قوله : { مِن فَوْقِهِمْ } يجوز أن يتعلَّقَ ب " خَرَّ " وتكون " مِنْ " لابتداء الغاية ، ويجوز/ أَنْ يتعلق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من " السقف " وهي حالٌ مؤكِّدة؛ إذ السقفُ لا يكون تحتهم . وقال جماعة : ليس قوله " مِنْ تحتِهم " تأكيداً؛ لأنَّ العرب تقول : " خَرَّ علينا سَقْفٌ ، ووقع علينا حائط " إذا كان يملكه وإنْ لم يَقعْ عليه ، فجاء بقوله " من فوقهم " ليُخْرج هذا الذي في كلام العرب ، أي : عليهم وَقَعَ وكانوا تحته فهلكوا . وهذا معنىً غيرُ طائلٍ ، والقولُ بالتأكيد أَنْصَعُ منه .
والعامَّةُ على " بُنْيانِهم " . وفرقة : " بِنْيَتَهُمْ " . وفرقة - منهم أبو جعفر- " بَيْتهم " . والضحاك " بُيوتهم " .
والعامَّةُ أيضاً : " السَّقْفُ " مفرداً . وفرقةٌ بفتحِ السين وضمِّ القاف بزنةِ عَضُد ، وهي لغةٌ في السَّقْف ، ولعلها مخففةٌ من المضموم ، وكَثُرَ استعمالُ الفرعِ لخفَّتِه كقول تميم : " رَجْل " ، ولا يقولون : " رَجُل " . وقرأ الأعرج " السُّقُف " بضمتين . وزيدٌ بن علي بضم السين وسكونِ القاف ، وقد تقدَّم مثلُ ذلك في قراءةِ { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } [ النحل : 16 ] .
(1/2828)

ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)
قوله تعالى : { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ } مبتدأٌ وخبر . والعامَّة على " شركائي " ممدوداً . وسَكَّن ياءَ المتكلم فرقةٌ ، فَتُحْذَفُ وصلاً لالتقاء الساكنين . وقرأ البزي بخلافٍ عنه بقصره مفتوحَ الياء . وقد أنكر جماعةٌ هذه القراءةَ ، وزعموا أنَّها غيرُ مأخوذٍ بها ، لأنَّ قصرَ الممدودِ لا يجوز إلاَّ ضرورةً . وتعجب أبو شامةَ من أبي عمروٍ الداني حيث ذكرها في كتابه مع ضعفها ، وترك قراءاتٍ شهيرةً واضحة .
قلت : وقد رُوِي عن ابنِ كثير أيضاً قَصْرُ التي في القصص ، ورُوِي عنه أيضاً قَصْرُ " ورائي " في مريم ، ورَوى عنه قنبل أيضاً قَصْرَ { أَن رَّآهُ استغنى } [ الآية : 7 ] في العلق ، فقد رَوَى عنه قصرَ بعضِ الممدوداتِ ، فلا تَبْعُدُ روايةُ ذلك عنه هنا ، وبالجملة فَقَصْرُ الممدودِ ضعيفٌ ، ذكره غيرُ واحدٍ لكن لا يَصِلُ به إلى حَدِّ الضرورة .
قوله : " تُشَاقُّون " نافع بكسرِ النونِ خفيفةً والأصل : تُشاقُّوني ، فَحَذَفَها مجتزِئاً عنها بالكسرة ، والباقون بفتحها خفيفةً ، ومفعولُه محذوفٌ ، أي : تُشَاقُّون المؤمنين أو تشاقُّون اللهَ ، بدليلِ القراءةِ الأولى . وقد ضَعَّفَ أبو حاتمٍ هذه القراءةَ ، أعني قراءةَ نافعٍ . وقرأَتْ فرقةٌ بتشديدِها مكسورةً ، والأصل : تُشَاقُّونني فأدغم ، وقد تقدَّم تفصيلُ ذلك في { أتحاجواني } [ الأنعام : 80 ] { فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] وسيأتي في قولِه تعالى { قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني } [ الزمر : 64 ] .
قوله : " اليومَ " منصوب بالخِزْي ، وعَمِل المصدرُ وفيه أل . وقيل : هو منصوبٌ بالاستقرار في " على الكافرين " إلا أنَّ فيه فَصْلاً بالمعطوفِ بين العاملِ ومعمولِه ، واغتُفِر ذلك لأنهم يَتَّسِعُون في الظروفِ .
(1/2829)

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
قوله تعالى : { الذين تَتَوَفَّاهُمُ } : يجوز أن يكونَ الموصولُ مجرورَ المحلِّ نعتاً لِما قبله ، أو بدلاً منه ، أبو بياناً له ، وأن يكونَ منصوباً على الذمِّ ، أو مرفوعاً عليه ، أو مرفوعاً عليه ، أو مرفوعاً بالابتداء ، والخبرُ قولُه { فَأَلْقَوُاْ السلم } والفاءُ مزيدةٌ في الخبر ، قاله ابن عطية ، وهذا لا يجيْءُ إلاَّ على رأي الأخفش في إجازته زيادةَ الفاء في الخبر مطلقاً ، نحو : " زيد فقام " ، أي : قام . ولا يُتَوَهَّم أن هذه الفاءَ هي التي تدخل مع الموصولِ المتضمِّنِ معنى الشرط؛ لأنه لو صُرِّح بهذا الفعلِ مع أداةِ الشرط لم يَجُزْ دخولُ الفاء عليه ، فما ضُمِّن معناه أَوْلَى بالمنع ، كذا قاله الشيخ ، وهو ظاهر . وعلى الأقوالِ المتقدمةِ خلا القول الأخيرِ يكون " الذين " وصلتُه داخلاً في المَقُول ، وعلى القولِ الأخيرِ لا يكنُ داخلاً فيه .
وقرأ " يَتَوَفَّاهُمْ " في الموضعين بالياء حمزة ، والباقون بالتاء مِنْ فوق ، وهما واضحتان ممَّا تقدَّم في قوله { فَنَادَتْهُ الملائكة } [ آل عمران : 39 ] " فناداه " . وقرأت فرقةٌ بإدغام إحدى التاءين في الأخرى ، في مصحفِ عبد الله " تَوَفَّاهم " بتاءٍ واحدة ، وهي مُحْتَمِلةٌ للقراءةِ بالتشديد على الإِدغام ، وبالتخفيفِ على حَذْفِ إحدى التاءَيْن .
و { ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } حالٌ مِنْ مفعولِ " تَتَوَفَّاهم " و " تَتَوَفَّاهم " يجوز أن يكونَ مستقبلاً على بابه إن كان القولُ واقعاً في الدنيا ، وأن يكونَ ماضياً على حكاية الحال إن كان واقعاً يوم القيامة .
قوله : " فَأَلْقَوا " يجوز فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه خبر الموصول وقد تقدَّم فسادُه . الثاني : أنه عطفٌ على { قَالَ الذين } . الثالث : أن يكونَ مستأنفاً ، والكلامُ قم تَمَّ عند قولِه " أنفسِهم " ، ثم عاد بقولِه " فألْقَوا " إلى حكاية كلام المشركين يومَ القيامة ، فعلى هذا يكون قولُه { قَالَ الذين أُوتُواْ العلم } إلى قوله " أنفسهم " جملةَ اعتراض . الرابع : أن يكونَ معطوفاً على " تَتَوفَّاهم " قاله أبو البقاء ، وهذا إنما يتمشَّى على أنَّ " تَتَوفَّاهم " بمعنى المُضِيِّ ، ولذلك لم يذكرْ أبو البقاء في " تَتَوفَّاهم " سواه .
قوله : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ } فيه أوجه ، أحدها : أن يكون تفسيراً للسَّلَم الذي أَلْقَوه؛ لأنه بمعنى القول بدليلِ الآيةِ الأخرى : { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول } [ النحل : 86 ] ، قاله أبو البقاء ، ولو قال : " يحكي ما هو بمعنى القول " كان أوفقَ لمذهب الكوفيين . الثاني : أن يكونَ " ما كنَّا " منصوباً بقولٍ مضمرٍ ، ذلك الفعلُ منصوب على الحال ، أي : فألقَوا السَّلَم قائلين ذلك . / و { مِن سواء } مفعول " نعمل " ، زِيْدَتْ فيه " مِنْ " ، و " بلى " جوابٌ ل " ما كنَّا " فهو إيجابٌ له .
(1/2830)

فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
قوله تعالى : { فَلَبِئْسَ } هذه لامُ التأكيدِ ، وإنما دخَلَتْ على الماضي لجمودِه وقُرْبِه من الأسماء . والمخصوص بالذمِّ محذوفٌ . أي : جهنم .
(1/2831)

وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30)
قوله تعالى : { خَيْراً } : خيراً : العامَّةُ على نَصْبِه ، أي : أَنْزل خيراً . قال الزمخشري : " فإن قلتَ : لِمَ قلتَ : لِمَ رَفَعَ الأولَ ونَصَبَ هذا؟ قلت : فصلاً بين جواب المُقِرِّ وجوابِ الجاحد " . يعني أن هؤلاء لمَّا سُئِلوا لم يَتَلَعْثموا ، وأطبقوا الجوابَ على السؤال بَيِّنا مكشوفاً مفعولاً للإِنزال فقالوا : خيراً ، وأولئك عَدَلوا بالجواب عن السؤال فقالوا : هو أساطيرُ الأولين ، وليس هو من الإِنزال في شيء .
وزيدُ بن علي : " خيرٌ " بالرفع ، أي : المُنْزَل خيرٌ ، وهي مؤيدةٌ لجَعْلِ " ذا " موصولةً ، وهو الأحسنُ لمطابقة الجوابِ لسؤاله ، وإن كان العكسُ جائزاً ، وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة .
قوله : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } هذه الجملةُ يجوز فيها أوجهٌ ، أحدها : أن تكونَ منقطعةً مِمَّا قبلها ، إخبارَ استئنافٍ بذلك . الثاني : أنها بدلٌ مِنْ " خيراً " . قال الزمخشري : " هو بدل من " خيراً " حكايةً لقول الذين اتَّقَوْا ، أي : قالوا هذا القولَ فقدَّم تسميتَه خيراً ثم حكاه " . الثالث : أن هذه الجملةَ تفسيرٌ لقوله : " خيراً "؛ وذلك أن الخيرَ هو الوحيُ الذي أَنْزل الله فيه : مَنْ أَحْسَنَ في الدنيا بالطاعة حسنةٌ في الدنيا وحسنةٌ في الآخرة .
وقوله : { فِي هذه الدنيا } الظاهرُ تعلُّقه ب " أَحْسَنوا " ، أي : أَوْقَعوا الحسنةَ في دار الدنيا . ويجوز أن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حال مِنْ " حَسَنَة " إذ لو تأخَّر لكان صفةً لها ، ويَضْعُفُ تعلُّقه بها نفسِها لتقدُّمِه عليها .
(1/2832)

جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)
قوله تعالى : { جَنَّاتُ عَدْنٍ } : يجوز أن يكونَ هو المخصوصَ بالمدح فيجيءُ فيها ثلاثةُ الأوجهِ : رفعُها بالابتداء ، والجملةُ المتقدمة خبرُها ، أو رفعُها خبرَ المبتدأ المضمر ، أو رفعُها بالابتداءِ والخبرُ محذوفٌ ، وهو أضعفُها ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك . ويجوز أن يكونَ { جَنَّاتُ عَدْنٍ } خبرَ مبتدأ مضمرٍ لا على ما تقدَّم ، بل يكونُ المخصوصُ محذوفاً ، تقديرُه : ولَنِعْمَ دارُ المتقين دارُهم هي جنات . وقَدَّره الزمخشريُّ " ولَنِعْمَ دارُ المتقين دارُ الآخرة " . ويجوز أن يكونَ مبتدأً . والخبرُ الجملةُ مِنْ قوله : " يَدْخلونها " ، ويجوز أن يكونَ الخبرُ مضمراً تقديره : لهم جناتُ عدن ، ودلَّ على ذلك قولُه { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } .
والعامَّة على رفع " جناتُ " على ما تقدَّم . وقرأ زيد بن ثابت والسُّلَمي " جناتِ " نصباً على الاشتغال بفعل مضمر تقديره : يَدْخلون جناتِ عدن يَدْخُلونها ، وهذه تُقَوِّي أن يكونَ " جنات " مبتدأً ، و " يَدْخلونها " الخبرَ في قراءةِ العامَّة .
وقرأ زيد بن علي " ولَنِعْمَةُ دارِ " بتاءِ التأنيثِ مرفوعةٌ بالابتداء ، و " دارِ " خفضٌ بالإِضافة ، و " جَنَّاتُ عَدْنٍ " الخبر . و " يَدْخُلونها " في جميعِ ذلك نصبٌ على الحال ، إلاّ إذا جَعَلْناه خبراً ل { جَنَّاتُ عَدْنٍ } .
وقرأ نافع في روايةٍ " يُدْخَلُونها " بالياءِ مِنْ تحتُ مبنياً للمفعول ، وأبو عبد الرحمن " تَدْخُلونها " بتاء الخطاب مبنياً للفاعل .
قوله : " تَجْري " يجوز أن يكونَ منصوباً على الحالِ مِنْ " جنات " قاله ابن عطية ، وأن يكونَ في موضعِ الصفةِ ل " جنات " قاله الحوفي ، والوجهان مبنيَّان على القولِ في " عَدْن " : هل هو معرفةٌ لكونِه علماً ، أو نكرةً ، فقائلُ الحالِ لَحَظ الأولَ ، وقائلُ النعتِ لحظَ الثاني .
قوله : { لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ } الكلامُ في هذه الجملةِ كالكلامِ في الجملة قبلَها ، والخبرُ : إمَّا " لهم " و إمَّا " فيها " .
قوله : " كذلك " الكافُ في محلِّ نصب على الحال من ضمير المصدرِ ، أو نهتٌ لمصدرٍ مقدرٍ ، أو في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ مضمر ، أي : الأمرُ كذلك . و { يَجْزِي الله المتقين } مستأنَفٌ .
(1/2833)

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
و {
1649;لَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ } يَحْتمل ما ذكرناه فيما تقدَّم ، إذا جَعَلْنا " يقولون " خبراً فلا بُدَّ مِنْ عائدٍ محذوفٍ ، أي : يقولون لهم ، وإذا لم نَجْعَلْه خبراً كان حالاً من " الملائكة " / فيكون " طيبين " حالاً مِنَ المفعولِ ، و " يقولون " حالاً مِن الفاعل . وهي يجوز أن تكونَ حالاً مقارِنَةً إن كان القولُ واقعاً في الدنيا ، ومقدَّرةً إنْ كان واقعاً في الآخرة .
و " ما " في " بما " مصدريةً ، أو بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ .
(1/2834)

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33)
وقوله تعالى : { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة } : وقد تقدَّم في آخرِ الأنعام أن الأَخَوَيْنِ يَقْرآن بالياء مِنْ تحتُ ، والباقين يقرؤون بالتاءِ من فوقُ ، وهما واضحتان لكونِه تأنيثاً مجازياً .
(1/2835)

فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
وقوله تعالى : { فَأَصَابَهُمْ } : عطفٌ على { فَعَلَ الذين } وما بينهما اعتراضٌ .
(1/2836)

وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)
قوله تعالى : { أَنِ اعبدوا الله } : يجوز في " أَنْ " أَنْ تكونَ تفسيريةً؛ لأن البَعْثَ يتضمَّن قولاً ، وأن تكونَ مصدريةً ، أي : بَعَثْناه بَأَنِ اعْبُدُوا .
قوله : { مَّنْ هَدَى } و { مَّنْ حَقَّتْ } يجوزُ أنْ تكونَ موصولةً ، وأن تكون نكرةً موصوفةً ، والعائدُ على كلا التقديرينِ محذوفٌ من الأولِ .
(1/2837)

إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
وقرأ العامَّةُ { إِن تَحْرِصْ } : بكسرِ الراءِ مضارعَ " حَرَص " بفتحِها ، وهي اللغةُ العاليةُ لغةُ الحجاز . والحسن وأبو حَيْوة " تَحْرَصُ " بفتح الراء مضارعَ " حَرِص " بكسرِها ، وهي لغةُ لبعضِهم ، وكذلك النخعي ، إلا أنه زاد واواً قبل " إنْ " فقرأ { وَإنْ تَحْرَصْ } .
قوله : { لاَ يَهْدِي } قرأ الكوفيون " يَهْدِي " بفتح الياءِ وكسرِ الدالِ ، وهذه القراءةُ تحتمل وجهين ، أحدُهما : أن يكون الفاعلُ ضميراً عائداً على الله ، أي : لا يَهْدِي اللهُ مَنْ يُضِلُّه ، ف " مَنْ " مفعولُ " يَهْدِي " ويؤيده قراءةُ أُبَيّ " فإنَّ اللهَ لا هاديَ لِمَنْ يُضِلُّ ، ولِمَنْ أضلَّ " ، وأنه في معنى قولِه : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ } [ الأعراف : 186 ] .
والثاني : أن يكونَ الموصول هو الفاعلَ ، أي : لا يَهْدِيْ المُضِلَّون ، و " يَهْدِي " يجيءُ في معنى يهتدي . يقال : هداه فَهَدَى ، أي : اهتدى . ويؤيد هذا الوجهَ قراءةُُ عبدِ الله " يَهْدِي " بتشديدِ الدالِ المكسورةِ ، فَأَدْغم . ونقل بعضُهم في هذه القراءةِ كسرَ الهاءِ على الإِتباع ، وتحقيقُه تقدَّمَ في يونس . والعائدُ على " مَنْ " محذوفٌ : { مَن يُضِلُّ } ، أي : الذي يُضِلُّه اللهُ .
والباقون : " لا يُهْدَى " بضمِّ الياءِ وفتحِ الدالِ مبنياً للمفعول ، و " مَنْ " قائمٌ مَقامَ فاعِله ، وعائدُه محذوفٌ أيضاً .
وجَوَّز أبو البقاء في " مَنْ " أن يكونَ مبتدأً و " لا يَهْدِي " خبره ، يعني : مقدَّمٌ عليه . وهذا خطأٌ؛ لأنه متى كان الخبرُ فعلاً رافعاً لضميرٍ مستترٍ وجب تأخُّرُه نحو : " زيدٌ لا يَضْرِبُ " ، ولو قَدَّمْتَ لالتبس بالفاعل .
وقُرِئ " لا يُهْدِيْ " بضمِّ الياءِ وكسرِ الدالِ . قال ابن عطية : " وهي ضعيفةٌ " قال الشيخ : " وإذا ثَبَتَ أنَّ " هَدَى " لازمٌ بمعنى اهتدى لم تكنْ ضعيفةً؛ لأنه أدخل همزةَ التعديةِ على اللازم ، فالمعنى : لا يُجْعَلُ مهتدياً مَنْ أضلَّه اللهُ " .
وقوله : " ومالهم " حُمِلَ على معنى " مَنْ " ، فلذلك جُمِعَ .
وقُرِئ " مَنْ يَضِلُّ " بفتحِ الياءِ مِنْ " ضَلَّ " ، أي : لا يَهْدي مَنْ ضَلَّ بنفسِه .
(1/2838)

وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38)
قوله تعالى : { وَأَقْسَمُواْ } : ظاهرُه أنه استئنافٌ خبرٍ ، وجعله الزمخشريُّ نَسَقاً على " وقال الذين أشركوا " إيذانٌ بانهما كَفْرتان عظيمتان . قوله : { وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً } هذان منصوبان على المصدرِ المؤكَّد ، أي : وَعَدَ ذلك ، وحَقَّ حقاً . وقيل : " حقاً " نعتٌ ل " وَعْد " والتقدير : بلى يَبْعثهم وَعَدَ بذلك . وقرأ الضحاك : { وَعْدٌ عَلَيْهِ حَقٌّ } برفعِهما على أنَّ وَعْداً خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : بلى بَعْثُهم وَعْدٌ على الله ، و " حَقٌّ " : نعتٌ ل " وعدٌ " .
(1/2839)

لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39)
قوله تعالى : { لِيُبَيِّنَ } : هذه اللامُ متعلقةٌ بالفعلِ المقدَّرِ بعد حرفِ الإِيجاب ، أي : بلى يَبْعثهم لِيُبَيِّنَ .
(1/2840)

إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
وقوله تعالى : { كُنْ فَيَكُونُ } قد تقدَّم ذلك في البقرة . واللامُ في " لِشيءٍ " وفي " له " لامُ التبليغِ كهي في : " قلت له قم " . وجعلها الزجاج للسببِ فيهما ، أي : لأجل شيءٍ ، أَنْ نقولَ لأجلهِ ، وليس بواضح . وقال ابن عطية : " وقوله تعالى { أَن نَّقُولَ } يُنَزَّلُ مَنْزِلةَ المصدرِ ، كأنه قال : قولُنا ، ولكنَّ " أنْ " مع الفعلِ تعطي استقبالاً ليس في المصدر في أغلبِ أَمْرِها ، وقد تجيءُ في مواضعَ لا يُلْحَظُ فيها الزمنُ كهذه الآيةِ ، وكقولِهِ : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ } [ الروم : 25 ] إلى غيرِ ذلك .
قال الشيخ : " وقوله : في أغلبِ أمرِها " ليس بجيدٍ بل تَدُلُّ على المستقبل في جميع أمورِها ، وقوله " وقد تجيءُ إلى آخره " لم يُفْهَمْ ذلك مِنْ " أنْ " ، إنما فُهِمَ من نسبةِ قيامِ السماءِ والأرض بأمرِ الله لأنه لا يختصُّ بالمستقبلِ دونَ الماضي في حَقِّه تعالى ، ونظيرُه : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } و " كان " تدل على اقترانِ مضمونِ الجملةِ بالزمنِ الماضي ، وهو تعالى/ متصفٌ بذلك في كلِّ زمن .
(1/2841)

وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
قوله تعالى : { حَسَنَةً } فيها أوجهٌ ، أحدُها : أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : تَبْوِئَةً حسنةً . والثاني : أنها منصوبةٌ على المصدر الملاقي لعامِله في المعنى؛ لأنَّ معنى " لَنُبَوِّئَنَّهم " : لَنُحْسِنَنَّ إليهم . الثالث : أنها مفعولٌ ثانٍ لأنَّ الفعلَ قبلها مضمِّنٌ معنى : " لَنُعْطِيَنَّهم . و " حسنة " صفةً لموصوفٍ محذوفٍ ، أي : داراً حسنة ، وفي تفسيرِ الحسن : داراً حسنة ، وهي المدينةُ . وقيل : تقديره : منزلةً حسنةً وهي الغَلَبَةُ على أهلِ المشرقِ والمغربِ وقيل : " حسنة " بنفسها هي المفعولُ من غيرِ حَذْفِ موصوفٍ .
وقرأ أميرُ المؤمنين وابنُ مسعود ونعيم بن ميسرة : " لَنُثْوِيَنَّهُمْ " بالثاء المثلثة والياء ، مضارع أَثْوَى المنقولِ بهمزةِ التعديةِ مِنْ ثَوَى بمعنى أقام ، وسيأتي أنه قُرئ بذلك في السبع في العنكبوت ، و " حسنةً " على ما تقدَّم . ونزيد أنه يجوز أن يكونَ على نَزْع الخافضِ ، أي : في حسنة .
والموصولُ مبتدأٌ ، والجملةُ مِنَ القسمِ المحذوفِ وجوابِه خبرُه ، وفيه رَدٌّ على ثعلب حيث مَنَعَ وقوعَ جملةِ القسم خبراً . وجَوَّز أبو البقاء في " الذين " النصبَ على الاشتغال بفعلٍ مضمرٍ ، أي : لَنُبَوِّئَنَّ الذين . ورَدَّه الشيخُ : بأنه لا يجوز أن يُفَسِّر عاملاً إلا ما جاز أَنْ يعملَ ، وأنت لو قلت : " زيداً لأضْرِبَنَّ " لم يَجُزْ ، فكذا لا يجوزُ " زيداً لأضربنَّه " .
وقوله : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يجوز أن يعودَ الضميرُ على الكفار ، أي : لو كانوا يَعْلمون ذلك لرجَعوا مسلمين ، أو على المؤمنين ، أي : لاجتهدوا في الهجرةِ والإِحسانِ ، كما فعل غيرُهم .
(1/2842)

الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
قوله تعالى : { الذين صَبَرُواْ } : مَحَلَّه رفعٌ على " هم " أو نصبٌ على " أمدحُ " ، ويجوز أن يكونَ تابعاً للموصولِ قبله نعتاً أو بدلاً أو بياناً فمحلُّه محلُّه .
(1/2843)

وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)
قوله تعالى : { نوحي إِلَيْهِمْ } : قد تقدَّم في آخر يوسف . وقرأت فرقةٌ " يُوحي " ، أي : الله .
(1/2844)

بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
قوله تعالى : { بالبينات } : فيه ثمانيةُ أوجه ، أحدُها : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل " رِجالاً " فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، أي : رجالاً ملتبسين بالبينات ، أي : مُصاحبين لها . وهو وجهٌ حسنٌ ذكره الزمخشري لا محذورَ فيه . الثاني : أنه متعلقٌ ب " أَرْسَلْنا " ذكره الحوفيِّ والزمخشريُّ وغيرُهما ، وبه بدأ الزمخشريُّ قال : يتعلَّق ب " أَرسَلْنا " داخلاً تحت حكمِ الاستثناءِ مع " رجالاً " ، أي : وما أرسَلْنا إلا رجالاً بالبينات كقولِك : " وما ضربْتُ إلا زيداً بالسَّوْطِ "؛ لأنَّ أصلَه : ضربْتُ زيداً بالسَّوْط " . وضعَّفه أبو البقاء بأنَّ ما قبلَ " إلاَّ " لا يعمل فيما بعدهم إذا تَمَّ الكلامُ على " إلا " وما يليها . قال : " وإلا أنه قد جاء في الشِّعر :
2971- نُبِّئْتُهُمْ عَذَّبوا بالنارِ جارتَهمْ ... ولا يُعَذِّبَ إلا الله بالنارِ
قال الشيخ : وما أجازه الحوفيُّ والزمشخريُّ لا يُجيزه البصريون ، إذ لا يُجيزون أن يقع بعد " إلا " إلا مستثنى أو مستثنى منه أو تابعٌ لذلك ، وما ظُنَّ بخلافه قُدِّر له عاملٌ . وأجاز الكسائيُّ أن يليَها معمولُ ما قبلها مرفوعاً ومنصوباً ومخفوضاً ، نحو : ما ضَرَب إلا عمراً زيدٌ ، وما ضَرَب إلا زيدٌ عمراً وما مرَّ إلا زيدٌ بعمروٍ ، ووافقه ابنُ الأنباريِّ في المرفوع ، والأخفش في الظرف وعديله ، فما لاقاه يتمشَّى على قولِ الكسائي والأخفش " .
الثالث : أنه يتعلَّقَ بأَرْسَلْنا أيضاً ، إلا أنه نيةِ التقديمِ قبل أداةِ الاستثناءِ تقديرُه : وما أرسلْنا مِنْ قبلك بالبيناتِ والزبر إلا رجالاً ، حتى لا يكونَ ما بعد " إلا " معمولَيْنِ متأخِّرَيْنِ لفظاً ورتبةً داخلَيْنِ تحت الحصرِ لِما قبل " إلا " ، حكاه ابنُ عطية .
الرابع : أنَّه متعلقٌ ب " نُوحِي " كما تقول : " أُوْحي إليه بحق " ، ذكره الزمخشري وأبو البقاء . الخامس : أن الباءَ مزيدةٌ في " " بالبيِّنات " وعلى هذا فيكون " بالبيِّنات " هو القائمَ مَقامَ الفاعل لأنها هي المُوْحاة . السادس : أن الجارِّ متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنَ القائمِ مَقامَ الفاعل ، وهو " إليهم " ذكرهما أبو البقاء ، وهما ضعيفان جداً معنىً وصناعةً .
السابع : أَنْ يتعلَّق ب " لا تعلمون " على أنَّ الشرطَ/ في معنى التبكيتِ والإِلزام ، كقولِ الأجير : " إن كنتُ عَمِلْتُ لك فَأَعْطِني حقي " . قال الزمخشري : " وقوله : " فاسْألوا أهلَ " اعتراضٌ على الوجوه المتقدِّمة " ويعني بقوله " فاسألوا " الجزاءَ وشرطَه ، وأمَّا على الوجهِ الأخير فعدَمُ الاعتراضِ واضحٌ .
الثامن : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ جواباً لسؤالٍ مقدر ، كأنه قيل : بم أُرْسِلوا؟ فقيل : أُرْسِلوا بالبينات والزُّبُر . كذا قدَّره الزمخشري ، وهو أحسنُ مِنْ تقديرِ أبي البقاء : " بُعِثوا " ، لموافقتِه للدالِّ عليه لفظاً ومعنىً .
(1/2845)

أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45)
قوله تعالى : { السيئات } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوف ، أي : المَكَرات السيئات ، ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه . الثاني : أنه مفعولٌ به على تضمين " مَكَروا " عَمِلُوا وفعلوا ، وعلى هذين الوجهين فقولُه : { أَن يَخْسِفَ الله } مفعول ب " أَمِنَ " . الثالث : أنه منصوبٌ ب " أَمِنَ " ، أي : أَمِنُوا العقوباتِ السيئات ، وعلى هذا فقولُه { أَن يَخْسِفَ الله } بدلٌ من " السيئات " .
(1/2846)

أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
قوله تعالى : { على تَخَوُّفٍ } : متعلقٌ بمحذوفٍ ، فإنه حالٌ إمَّا مِنْ فاعلِ " يأخذهم " ، وإمَّا مِنْ مفعوله ، ذكرهما أبو البقاء . والظَاهِرُ كونُه حالاً من المفعولِ دونَ الفاعل .
والتخوُّفُ : التنقُّص . حكى الزمخشري أن عمر بن الخطاب سألهم على المِنْبر عنها فسكتوا ، فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا : التخوُّفُ : التنقُّصُ قال : فهل تعرف [ العربُ ] ذلك في أشعارِها؟ قال : نعم . قال شاعرُنا وأنشد :
2972- تَخَوَّف الرَّحْلُ منها تامِكاً قَرِداً ... كما تَخَوَّفَ النَّبْعَةِ السَّفَنُ
فقال عمر : " أيها الناسُ ، عليكم بديوانِكم لا يَضِلُّ " . قالوا : وما ديواننا؟ قال : " شعرُ الجاهلية ، فإنِّ فيه تفسيرَ كتابكم " .
قلت : وكان الزمخشريُّ نَسَبَ البيتَ قبل ذلك لزهيرٍ ، وكأنه سهوٌ ، فإنَّه لأبي كبير الهذلي ، ويؤيد ذلك قول الرجل : " قال شاعرنا " ، وكان هُذَلِيَّاً كما حكاه هو . وقيل : التخوُّفُ : الخوفُ .
(1/2847)

أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48)
قوله تعالى : { أَوَ لَمَْ } : قرأ الأخَوان " تَرَوْا " بالخطاب جَرْياً على قولِه { فَإِنَّ رَبَّكُمْ } ، والباقون بالياءِ جَرْياً على قوله : { أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ } . وأمَّا قولُه : { أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير } [ النحل : 79 ] فقرأه حمزةُ أيضاً بالخطاب ، ووافقه ابنُ عامر فيه ، فحصل من مجموعِ الآيتين أنَّ حمزةَ بالخطاب فيهما ، والكسائيَّ بالخطابِ في الأول والغَيْبة في الثاني ، وابنَ عامر بالعكس ، والباقون بالغيبة فيهما .
فأمَّا توجيهُ الأولى فقد تقدَّم ، وأمَّا الخطابُ في الثانية فَجَرْياً على قوله { والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } [ النحل : 78 ] . وأمَّا الغيبةُ فَجَرْياً على قوله { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } [ النحل : 73 ] . وأمَّا تفرقَةُ الكسائيِّ وابنِ عامرٍ بين الموضعين فجمعاً بين الاعتبارين وأنَّ كلاً منهما صحيحٌ .
قوله : { مِن شَيْءٍ } هذا بيانٌ لِما في قوله : { مَا خَلَقَ الله } فإنها موصولةٌ بمعنى الذي . فإن قلتَ : كيف يُبَيِّنُ الموصولُ -وهو مبهمٌ- ب " شيء " وهو مبهمٌ ، بل أَبْهَمُ ممَّا قبله؟ فالجواب أنَّ شيئاً قد اتضح وظهر بوصفِه بالجملة بعدَه ، وهي { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } .
قال الزمخشري : " وما موصولة ب { خَلَقَ الله } وهو مبهمٌ ، بيانُه { مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } . وقال ابن عطية : " وقولُه { مِن شَيْءٍ } لفظٌ عامٌّ في كل ما اقتضَتْه الصفةُ مِنْ قوله { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } فظاهر هاتين العبارتين أنَّ جملةَ { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } صفة لشيء ، وأمَّا غيرُهما فإنه قد صَرَّح بعدمِ كونِ الجملةِ صفةً فإنه قال : " والمعنى : من شيءٍ له ظِلٌ من جبلٍ وشجرٍ وبناءٍ وجسمٍ قائمٍ . وقوله : { يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ } إخبارٌ عن قوله { مِن شَيْءٍ } ليس بوصفٍ له ، وهذا الإِخبارُ يَدُلُّ على ذلك الوصفِ المحذوفِ الذي تقديرُه : هو له ظلٌّ " وفيه تكلُّفٌ لا حاجةَ له ، والصفةُ أبينُ . و { مِن شَيْءٍ } في محلِّ نصبٍ على الحال من الموصولِ ، أو متعلقٌ بمحذوفٍ على جهةِ البيان ، أي : أَعْني مِنْ شيء .
والتفيُّؤُ : تَفَعَّل مِنْ فاء يَفِيْءُ ، أي : رَجَع ، و " فاء " قاصرٌ ، فإذا أُريد تعديتُه عُدِّي بالهمزة كقوله تعالى : { مَّآ أَفَآءَ/ الله على رَسُولِهِ } [ الحشر : 7 ] أو بالتضعيف نحو : فَيَّأ اللهُ الظلَّ فَتَفَيَّأ . وَتَفَيَّأ مطاوِعٌ فهو لازمٌ . ووقع في شعر أبي تمام متعدياً في قوله :
2973- طَلَبَتْ ربيعَ ربيعةَ المُمْرَى لها ... وتفيَّأَتْ ظلالَه مَمْدودا
واخْتُلِفَ في الفَيْءِ فقيل : هو مُطْلَقُ الظِّلِّ سواءً كان قبل الزَّوالِ أو بعده ، وهو الموافِقُ لمعنى الآيةِ ههنا . وقيل : " ما كان [ قبل ] الزوال فهو ظلٌّ فقط ، وما كان بعده فهو ظِلٌّ وفَيْءٌ " ، فالظلُّ أعمُّ ، يُرْوَى ذلك عن رؤبَة ابن العجاج . وقيل : بل يختصُّ الظِّلُّ بما قبل الزوالِ والفَيْءُ بما بعده . قال الأزهري : " تَفَيَّؤُ الظلالِ رجوعُها بعد انتصافِ النهارِ ، فالتفيُّؤُ لا يكون إلا بالعَشِيّ ، وما انصرفَتْ عنه الشمسُ ، والظلُّ ما يكون بالغداة ، وهو ما لم تَنَلْهُ [ الشمس ] قال الشاعر :
(1/2848)

2975- فلا الظِلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحى تَسْتطيعُه ... ولا الفيْءُ من بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوْقُ
وقال امرؤُ القيس أيضاً :
2975- تَيَمَّمَتِ العينَ التي عند ضارِجٍ ... يَفِيْءُ عليها الظِّلُّ عَرْمَضُها طامِ
وقد خطَّأ ابن قتيبة الناسَ في إطلاقهم الفَيْءَ على ما قبلَ الزَّوال ، وقال : إنما يُطْلَقُ على ما بعده ، واستدلَّ بالاشتقاق ، فإن الفيْءَ هو الرجوعُ وهو متحققٌ ما بعد الزوال ، فإنَّ الظلَّ يَرْجِعُ إلى جهةِ المشرق بعد الزوال بعدما نَسَخَتْه الشمسُ قبل الزَّوال .
وقرأ أبو عمرو " تَتَفَيَّأ " بالتاءِ مِنْ فوقُ مراعاةٍ لتأنيث الجمع ، وبها قرأ يعقوب ، والباقون بالياء لأنه تأنيثٌ مجازي .
وقرأ العامَّة " ظلالُه " جمع ظِلّ ، وعيسى بن عمر " ظُلَلُهُ " جمع " ظُلَّة " كغُرْفَة وغُرَف . قال صاحب " اللوامح " في قراءة عيسى " ظُلَلُهُ " : " والظُلَّة : الغَيْمُ ، وهو جسمٌ ، وبالكسرِ الفَيْءُ وهو عَرَضٌ ، فرأى عيسى أنَّ التفيُّؤُ الذي هو الرجوعُ بالأجسام أَوْلَى منه بالأَعْرَاضِ ، وأمَّا في العامَّة فعلى الاستعارة " .
قوله : " عن اليمين " فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها تتعلَّقُ ب " يتفيَّأ " ، ومعناها المجاوزةُ ، أي : تتجاوز الظلالُ عن اليمينِ إلى الشِّمائل . الثاني : أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من " ظلالُه " . الثالث : أنها اسمٌ بمعنى جانب ، فعلى هذا تَنْتَصِبُ على الظرف .
وقوله : { عَنِ اليمين والشمآئل } فيه سؤالان ، أحدهما : ما المراد باليمين والشَّمائل؟ والثاني : كيف أفرد الأولَ وجوع الثاني؟ وأُجيب عن الأول بأجوبةٍ ، أحدُها : أنَّ اليمينَ يمينُ الفَلَك وهو المشرقُ ، والشَّمائلُ شمالُه وهي المغرب ، وخُصَّ هذان الجانبان لأنَّ أقوى الإِنسانِ جانباه وهما يمينُه وشماله ، وجعل المشرقَ يميناً؛ لأن منه تظهر حركةُ الفَلَكِ اليومية .
الثاني : البلدةُ التي عَرْضُها أقلُّ مِنْ مَيْل الشمس تكون الشمس صيفاً عن يمينِ البلدِ فيقع الظلُّ عن يمينهم .
الثالث : أنَّ المنصوبَ للعِبْرة : كلُّ جِرْمٍ له ظِلٌّ كالجبل والشجر ، والذي يترتَّبُ فيه الأيْمان والشَّمائل إنما هو البشرُ فقط ، لكنَّ ذِكْرَ الأَيْمانِ والشَّمائلِ هنا على سبيل الاستعارة .
الرابع : قال الزمخشري : " أو لم يَرَوْا إلى ما خَلَقَ اللهُ من الأَجْرامِ التي لها ظلالٌ متفيِّئَةٌ عن أَيْمانِها وشَمائِلها عن جانبي كل واحدٍ منها وشِقَّيْه استعارةً من يمين الإِنسان وشمائله لجانبي الشيءِ ، أي : تَرْجِعُ من جانبٍ إلى جانب " . وهذا قريبٌ ممَّا قبله .
وأُجِيْب عن الثاني بأجوبةٍ ، أحدُها : أن الابتداءَ يقع من اليمين وهو شيءٌ واحدٌ ، فلذلك وَحَّد اليمينَ ثم يَنْتَقِصُ شيئاً فشيئاً ، حالاً بعد حال/ فهو بمعنى الجمعِ ، فَصَدَق على كلِّ حالٍ لفظةُ " الشمال " ، فَتَعَدَّدَ بتعدُّدِ الحالات . وإلى قريبٍ منه نحا أبو البقاء .
والثاني : قال الزمخشري : " واليمين بمعنى الأَيْمان " يعني أنه مفردٌ قائمٌ مقامَ الجمع ، وحينئذٍ فهما في المعنى جمعان كقوله
(1/2849)

{ وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] ، أي : الأدبار .
الثالث : قال الفراء : " كأنه إذا وَحَّد ذَهَبَ إلى واحدٍ من ذواتِ الظلال ، وإذا جَمَع ذَهَب إلى كلِّها ، لأنَّ قولَه { مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ } لفظُه واحدٌ ومعناه الجمعُ ، فعبَّر عن أحدِهما بلفظِ الواحدِ كقوله تعالى : { وَجَعَلَ الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] وقوله : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ } [ البقرة : 7 ] .
الرابع : أنَّا إذا فَسَّرْنا اليمينَ بالمشرقِ كانت النقطةُ التي هي مَشْرِقُ الشمسِ واحدةً بعينها ، فكانت اليمينُ واحدةً ، وأمَّا الشمائلُ فهي عباراتٌ عن الانحرافاتِ الواقعةِ في تلك الظلال بعد وقوعِها على الأرضِ وهي كثيرةٌ ، فلذلك عَبَّر عنها بصيغةِ الجمع .
الخامس : قال الكرماني : " يُحتمل أَنْ يُراد بالشمائل الشِمالُ والخَلْفُ والقُدَّامُ؛ لأنَّ الظِّلَّ يفيءُ من الجهاتِ كلِّها ، فبُدِئ باليمينِ لأنَّ ابتداءَ التفيُّؤِ منها أو تَيَمُّناً بذِكرها ، ثم جَمَع الباقي على لفظ الشِّمال لما بين اليمين واليسار مِنَ التَّضادِّ ، ونَزَّلَ القُدَّام والخلفَ منزلةَ الشَّمائل لِما بينهما وبين اليمينِ من الخلافِ " .
السادس : قال ابن عطية : " وما قال بعضُ الناس : مِنْ أنَّ اليمينَ أولُ وَقْعَةٍ للظلِّ بعد الزوالِ ثم الآخر الغروبُ هي عن الشِّمائل ، ولذلك جَمَعَ الشمائل وأَفْرد اليمين ، فتخليطٌ من القول ، ويَبْطُل مِنْ جهات . وقال ابن عباس : " إذا صَلَّيْتَ الفجرَ كان ما بين مَطْلَعِ الشمس ومَغْرِبِها ظِلاًّ ثم بَعَثَ الله عليه الشمسَ دليلاً ، فقبضَ إليه الظلَّ ، فعلى هذا فأوَّلُ ذُرُوْرِ الشمس فالظِّلُّ عن يمينِ مستقبِلِ الجنوب ، ثم يبدأ الانحرافُ فهو عن الشَّمائل؛ لأنه حركاتٌ كثيرة وظلالٌ متقطعةٌ فهي شمائلُ كثيرةُ ، فكان الظلُّ عن اليمينِ متصلاً واحداً عامّاً لكلِّ شيء " .
السابع : قال ابن الضائع : " أَفْرَدَ وجَمَع بالنظر إلى الغايتين؛ لأنَّ ظِلَّ الغَداةِ يَضْمَحِلُّ حتى لا يبقى منه إلا اليسيرُ ، فكأنه في جهةٍ واحدة ، وهي في العَشِيِّ على العكس لاستيلائِه على جميع الجهات ، فلُحِظَت الغايتان في الآية . هذا من جهةِ المعنى ، وأمَّا مِِنْ جهةِ اللفظ ففيه مطابقةٌ؛ لأنَّ " سُجَّداً " جمع فطابقه جَمْعُ الشَّمائل لاتصاله به ، فَحَصَل في الآية مطابَقَةُ اللفظِ للمعنى ولَحْظُهما معاً ، وتلك الغايةُ في الإِعجاز " .
قوله : " سُجَّداً " حالاٌ مِنْ " ظلالُه " و " سُجَّداً " جمع ساجِد كشاهِد وشُهَّد ، وراكِع ورُكَّع .
قوله : { وَهُمْ دَاخِرُونَ } في هذه الجملة ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها حالٌ من الهاءِ في " ظلالُه " . قال الزمخشري : " لأنه في معنى الجمع ، وهو ما خلق اللهُ مِنْ شيءٍ له ظِلٌّ وجُمِع بالواوِ والنون؛ لأنَّ الدُّخورَ من أوصافِ العقلاء ، أو لأن في جملة ذلك مَنْ يَعْقِل فَغُلِّبَ " .
وقد رَدَّ الشيخُ هذا : بأن الجمهور لا يُجيزون مجيءَ الحال من المضافِ إليه ، وهو نظيرُ : " جاءني غلامُ هندٍ ضاحكةً " قال : " ومَنْ أجاز مجيئَها منه إذا كان المضافُ جزءاً أو كالجزء جوَّز الحاليةَ منه هنا ، لأنَّ الظِّلَّ كالجزءِ إذ هو ناشِئٌ عنه " .
(1/2850)

الثاني : أنها حالٌ من الضميرِ المستتر في " سُجَّدا " فهي حالٌ متداخلِةٌ .
الثالث : أنها حالٌ مِنْ " ظلالُه " فينتصبُ عنه حالان .
ثم لك في هذه الواو اعتباران ، أحدُهما : أن تجعلَها عاطفةً حالاً على مثلِها فهي عاطفةٌ ، وليست بواوِ حال ، وإن كان خُلُوُّ الجملةِ الاسميةِ الواقعةِ حالاً من الواو قليلاً أو ممتنعاً على رأيٍ . وممَّن صَرَّح بأنها عاطفةٌ أبو البقاء . والثاني : أنها واوُ الحال ، وعلى هذا فيقال : كيف يقتضي العاملُ حالين؟ فالجوابُ أنه جاز ذلك لأنَّ الثانيةَ بدلٌ مِن الأولى ، فإن أُريد بالسجودِ التذلُّلُ والخضوعُ فهو/ بدلُ كلٍ من كل ، وإن أُريد به حقيقته فهو بدلُ اشتمالٍ؛ إذ السجودُ مشتملٌ على الدُّخور ، ونظير ما نحن فيه : " جاء زيد ضاحكاً وهو شاكٍ " فقولك " وهو شاكٍ " يحتمل الحاليةَ من " زيد " أو من ضمير " ضاحكاً " .
والدُّخور : التواضعُ قال :
2976- فلم يَبْقَ إلا داخِرٌ في مُخَيَّسٍ ... ومُنْجَحِرٌ في غير أرضِكَ في جُحْرِ
وقيل : هو القهرُ والغلبةُ . ومعنى داخِرُون : أَذِلاَّاءُ صاغِرون .
(1/2851)

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49)
قوله تعالى : { مِن دَآبَّةٍ } : يجوز أن يكونَ بياناً لِما في السماوات وما في الأرض ، ويكون لله تعالى في سمائِه خَلْقٌ يَدِبُّون كما يَدِبُّ الخَلْقُ الذي في الأرض . ويجوز أن يكون بياناً لِما في الأرض فقط . قال الزمخشري : " فإن قلت : فهلاَّ جيْءَ ب " مَنْ " دونَ " ما " تغليباً للعقلاء مِن الدوابِّ على غيرهم؟ قلت : لأنه لو جِيْءَ ب " مَنْ " لم يكنْ فيه دليلٌ على التغليب فكأن متناولاً للعقلاءِ خاصة فجيء بما هو صالحٌ للعقلاءِ وغيرِهم إرادةَ العمومِ " .
قال الشيخ : " وظاهرُ السؤالِ تسليمُ أنَّ " مَنْ " قد تشمل العقلاءَ وغيرَهم على جهةِ التغليبِ ، وظاهرُ الجوابِ تخصيصُ " مَنْ " بالعقلاء ، وأنَّ الصالحَ للعقلاء [ وغيرِهم ] " ما " دون " مَنْ " وهذا ليس بجواب؛ لأنه أورد السؤالَ على التسليم ، ثم أورد الجوابَ على غير التسليم ، فصار المعنى : أنَّ " مَنْ " يُغَلَّبُ بها والجوابَ لا يُغَلَّبُ بها ، وهذا في الحقيقةِ ليس بجوابٍ " .
قوله : { وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } يجوز أن تكونَ الجملةُ استئنافاً أخبر عنهم بذلك ، وأن تكونَ حالاً مِنْ فاعلِ " يَسْجُدُ " .
(1/2852)

يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
قوله تعالى : { يَخَافُونَ } يجوز فيها أن تكونَ مفسِّرةً لعدم استكبارِهم ، كأنه قيل : ما لهم لا يَسْتكبرون؟ فَأُجِيبَ بذلك ، ويُحْتمل أن تكونَ حالاً مِنْ فاعل " لا يَسْتكبرون " ومعنى { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ } أي : عقابَه .
قوله : { مِّن فَوْقِهِمْ } يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أن تتعلَّقَ ب " يَخافون " ، أي : يخافون عذابَ ربهم كائناً مِنْ فوقهم؛ لأنَّ العذابَ إنما ينزل مِنْ فوقُ . الثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " ربهم " أي يخافون ربَّهم عالياً عليهم ، قاهراً لهم ، كقولِه تعالى : { وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ } [ الأنعام : 18 ] .
(1/2853)

وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)
قوله تعالى : { اثنين } : فيه قولان ، أحدُهما : أنه مؤكد ل " إلهَيْن " وعليه أكثرُ الناسِ ، و " اتَّخذ " على هذا يحتمل أن تكونَ متعديةً لواحدٍ ، وأن تكونَ متعديةً لاثنين ، والثاني منها محذوفٌ ، أي : لا تَتَّخذوا إلهين اثنين معبوداً .
والثاني : أنَّ " اثنين " مفعولٌ أولُ ، وإنما أُخِّر ، والأصلُ : لا تَتِّخذوا اثنين إلهين ، وفيه بُعْدٌ .
وقال أبو البقاء : " هو مفعولٌ ثانٍ " وهذا كالغلط إذ لا معنى لذلك البتةَ ، وكلامُ الزمخشري هنا يُفْهِم أنه ليس بتأكيدٍ فإنه قال : " فإنْ قلتَ : إنما جمعوا بين العددِ والمعدودِ فيما وراء الواحدِ والاثنين ، فقالوا : عندي رجالٌ ثلاثةٌ وأفراسٌ أربعةٌ؛ لأنَّ المعدودَ عارٍ عن العدد الخاص ، فأمَّا رجل ورجلان وفَرَسٌ وفرسان فمعدودان فيهما دلالةً على العدد ، فلا حاجةَ على أَنْ يقال : رجل واحد ، ورجلان اثنان ، فما وجه قوله تعالى { إلهين اثنين } ؟ قلت : الاسمُ الحاملُ لمعنى الإِفرادِ أو التثنيةِ دَلَّ على شيئين : على الجنسيةِ والعددِ المخصوصِ ، فإذا أُريدت الدلالةُ على أن المعنيَّ به منهما والذي يُساق إليه الحديثُ هو العددُ شُفِع بما يؤكِّد العددَ ، فدلَّ به على القصدِ إليه والعنايةِ به ، ألا ترى أنك لو قلْتَ : إله ، ولم تؤكِّده بواحدٍ لم يَحْسُنْ ، وخُيِّل أنك تُثْبِتُ الإِلهيةَ لا الوَحْدانية " .
وقال الشيخ : " لمَّا كان الاسمُ الموضوع للإِفراد والتثنية قد يُتَجَوَّزُ به فَيُراد به الجنسُ نحو : نِعم الرجلُ زيدٌ ، ونِعْم الرجلان الزيدان ، وقول الشاعر : /
2977- فإنَّ النارَ بالعُوْدَيْنِ تُذْكَى ... وإنَّ الحربَ أَوَّلُها الكلامُ
أكَّدَ الموضوعَ لهما بالوصفِ فقيل : إلهين اثنين ، وقيل : إله واحد " .
قوله : " فإيَّايَ " منصوبٌ بفعلٍ مضمرٍ مقدرٍ بعدهن يُفَسِّره هذا الظاهرُ ، أي : إياي ارهبوا فارْهَبون . وقدَّر ابنُ عطية " ارهَبوا إيَّاي فارهبون " . قال الشيخ : " وهو ذُهولٌ عن القاعدةِ النحوية ، وهي أنَّ المفعولَ إذا كان ضميراً منفصلاً والفعلُ متعدٍّ لواحد وَجَبَ تأخيرُ الفعلِ نحو : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } [ الفاتحة : 5 ] ولا يجوزُ أن يتقدَّمَ إلا في ضرورةٍ كقوله :
2978- إليك حتى بَلَغَتْ إيَّاكا ... وهذا قد مَرَّ تقريرُه في أولِ البقرة . وقد يُجاب عن ابنِ عطية : بأنه لا يَقْبُحُ في الأمور التقديرية ما يقبح في [ الأمورِ ] اللفظيةِ . وفي قوله : " فإيَّايَ " التفاتٌ من غَيْبة وهي قولُه { وَقَالَ الله } إلى تكلُّمٍ وهو قوله " فإيَّاي " ثم التفت إلى الغِيْبة أيضاً في قوله : { وَلَهُ مَا فِي السماوات } .
(1/2854)

وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)
قوله تعالى : { وَاصِباً } : حالٌ من " الدِّين " العاملُ فيها الاستقرارُ المتضمِّنُ الجارُّ الواقعَ خبراً . والواصِبُ : الدائم ، قال حسَّان :
2979- غَيَّرَتْهُ الريحُ تَسْفِي بِهِ ... وهَزِيْمٌ رَعْدُهُ واصِبُ
[ وقال ] أبو الأسود :
2980- لا أبتغيْ الحَمْدَ القليلَ بقاؤُه ... يوماً بِذَمِّ الدهرِ أَجْمَعَ واصِبا
والوَصِبُ : العليلُ لمداوَمَةِ السَّقَمِ له . وقيل : مِنَ الوَصَبِ وهو التَّعَبُ ، ويكون حينئذٍ على النَّسَب ، أي : ذا وَصَبٍ؛ لأن الدينَ فيه تكاليفُ ومَشَاقُّ على العبادِ ، فهو كقوله :
2981- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . أضحى فؤادي به فاتِنا
أي : ذا فُتُوْن وقيل : الواصِبُ : الخالِصُ .
وقال ابن عطية : والواوُ في قوله : { وَلَهُ مَا فِي السماوات } عاطفةٌ على قولِه { إله وَاحِدٌ } ، ويجوزُ أن تكونَ واوَ ابتداء " . قال الشيخ : " ولا يُقال واوُ ابتداءٍ إلا لواوِ الحال ، ولا تظهر هنا الحالُ " . قلت : وقد يُطْلِقون واوَ الابتداء ، ويريدون واوَ الاستئناف ، أي : التي لم يُقْصَدْ بها عطفٌ ولا تَشْريكٌ ، وقد نصُّوا على ذلك فقالوا : قد يُؤْتَى بالواو أولَ كلامٍ من غير قَصْدٍ إلى عَطفٍ . واسْتَدَلُّوا على ذلك بإتيانهم بها في أولِ قصائدِهم وأشعارِهم ، وهو كثيرٌ جداً . ومعنى قولِه " عاطفة على قوله { إله وَاحِدٌ } ، أي : أنها عَطَفَتْ جملةً على مفرد ، فيجبُ تأويلُها بمفردٍ لأنها عَطَفَتْ على الخبرِ فيكونُ خبراً ، ويجوز على كونِها عاطفةً أن تكونَ عاطفةً على الجملة بأسرها ، وهي قوله { إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } وكأنَّ ابنَ عطية قَصَدَ بواوِ الابتداءِ هذا ، فإنها استئنافيةٌ .
(1/2855)

وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53)
قوله تعالى : { وَمَا بِكُم } : يجوز في " ما " وجهان ، أحدهما : أن تكونَ موصولةً ، والجارُّ صلتُها ، وهي مبتدأٌ ، والخبرُ قولُه { فَمِنَ الله } والفاءُ زائدةٌ في الخبر لتضمُّنِ الموصولِ معنى الشرطِ ، تقديره : والذي استقرَّ بكم . و { مِّن نِّعْمَةٍ } بيان للموصول . وقدَّر بعضُهم متعلِّق " بكم " خاصَّاً فقال : " وما حَلَّ بكم أو نزل بكم " وليس بجيدٍ؛ إذ لا يُقَدَّرُ إلا كونٌ مطلقٌ .
والثاني : أنها شرطية ، وفعلُ الشرطِ بعدها محذوفٌ وإليه نحا الفراء ، وتبعه الحوفيُّ وأبو البقاء . قال الفراء : " التقدير : وما يكنْ بكم " . وقد رُدَّ هذا بأنه لا يُحْذَفُ فعلٌ إلا بعد " إنْ " خاصةً ، في موضعين ، أحدُهما : أن يكون في باب الاشتغال نحو : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك } [ التوبة : 6 ] لأنَّ المحذوفَ في حكمِ المذكورِ . والثاني : أن تكونَ " إنْ " متلوَّةً ب " لا " النافية ، وأنْ يَدُلَّ على الشرطِ ما تقدَّمه من الكلامِ كقوله :
2982- فطلِّقْها فَلَسْتَ لها بكُفْءٍ ... وإلاَّ يَعْلُ مَفْرِقَك الحُسامُ
أي : وإن لا تُطَلِّقْها ، فَحَذَفَ لدلالةِ قوله " فَطَلِّقْها " عليه فإن لم توجَدْ " لا " النافيةُ ، أو كانت الأداةُ غيرَ " إنْ " لم يُحْذَفْ إلا ضرورةً ، مثالُ الأول :
2983- قالَتْ بناتُ العمِّ يا سَلْمَى وإنْ ... كان غنياً مُعْدِماً قالت : وإنْ
أي : وإن كان غنياً رَضِيْتُه . ومثالُ الثاني :
2984- صَعْدَة نابتةٌ في حائرٍ ... اَيْنَما الريحُ تُمَيِّلْها تَمِلْ
وقول الآخر :
2985- فمتى واغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو ... ه وتُعْطَفْ عليه كأسُ الساقي
قوله : { فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } الفاءُ جوابُ " إذا " . والجُؤار رَفْعُ الصوتِ ، قال رؤبة يصفُ راهباً . /
2986- يُراوِحُ مِنْ صلواتِ المَلِي ... كِ طَوْراً سُجوداً وطَوْراً جُؤاراً
ومنهم مَنْ قَيَّده بالاستغاثة ، وأنشد الزمخشري :
2987- جَآَّرُ ساعاتِ النيامِ لربِّه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقيل : الجُؤَار كالخُوار ، جَأَر الثورُ وخارَ واحد ، إلا أنَّ هذا مهموزُ العين وذلك معتلُّها . وقال الراغب : " جَأَر إذا أفرط في الدعاء والتضرع ، تشبيهاً بجُؤَارِ الوَحْشِيَّات " .
وقرأ الزهري : " تَجَرون " بحذفِ الهمزةِ وإلقاء حركتها على الساكنِ قبلَها ، كما قرأ نافع " رِدَّاً " في " رِدْءاً " .
(1/2856)

ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54)
قوله تعالى : { إِذَا كَشَفَ } : " إذا " الأولى شرطيةٌ والثانيةُ فجائية جوابُها . وفي الآيةِ دليلٌ على أنَّ " إذا " الشرطية لا تكونُ معمولةً لجوابها؛ لأنَّ ما بعد " إذا " الفجائية لا يعمل فيما قبلَها .
وقرأ قتادة " كاشَفَ " على فاعَلَ . قال الزمخشري : " بمعنى فَعَل ، وهو أقوى مِنْ " كَشَفَ " لأنَّ بناءَ المغالبةِ يدلُّ على المبالغة " .
قوله : " منكم " يجوز أن يكونَ صفةً ل " فريق " و " مِنْ " للتبعيض ، ويجوز أن تكونَ للبيان . قال الزمخشري : " كأنه قال : إذا فريقٌ كافرٌ ، وهم أنتم " .
(1/2857)

لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
قوله تعالى : { لِيَكْفُرُواْ } : في هذه اللامِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها لامُ كي ، وهي متعلقةٌ ب " يُشْركون " ، أي : إنَّ إشراكهم سببُه كفرُهم به . الثاني : أنها لامُ الصيرورةِ ، أي : صار أمرُهم إلى ذلك . الثالث : أنها لامُ الأمرِ ، وإليه نحا الزمخشريُّ .
وقرأ أبو العالية - ورواها مكحول عن أبي رافع مولَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه صلى الله عليه وسلم " فَيُمْتَعُوا " بضمِّ الياء مِنْ تحتُ ، ساكنَ الميم مفتوحَ التاء ، مضارعَ مُتِع مبنياً للمفعول . { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } بالياءِ مِنْ تحتُ أيضاً . وهذا المضارع في هذه القراءةِ يجوز أن يكونَ حَذْفُ النونِ فيه : إمَّا للنصبِ عطفاً على " ليكفروا " إنْ كانت لامَ كي ، أو للصيرورة ، وإمَّا للنصبِ أيضاً ، ولكنْ على جوابِ الأمر إنْ كانت اللامُ للأمر . ويجوز أن يكونَ حَذْفُها للجزم عَطْفاً على " لِيَكْفُروا " إن كانت للأمر أيضاً .
(1/2858)

وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56)
قوله تعالى : { لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ } : الضميرُ في " يَعْلمون " يجوز أن يكونَ للكفار ، أي : لِما لا يَعْلم الكفار ، ومعنى لا يَعْلمونها : أنهم يُسَمُّونها آلهةً ، ويعتقدون أنها تَضُرُّ وتنفع وتسمع ، وليس الأمر كذلك . ويجوز أن يكونَ للآلهة وهي الأصنامُ ، أي : لأشياءَ غيرِ موصوفةٍ بالعلم .
و " نصيباً " هو المفعول الأول ، والجارُّ قبلَه هو الثاني ، أي : ويُصيِّرون للأصنام نصيباً . و { مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ } يجوز أن يكونَ نعتاً ل " نصيباً " ، وأن يتعلَّقَ بالجَعْلِ . ف " مِنْ " على الأول للتبعيض ، وعلى الثاني للابتداء .
(1/2859)

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57)
قوله تعالى : { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } : يجوز فيه وجهان ، أحدُهما : أن هذا جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبر ، أي : يجعلون لله البناتِ ، ثم أخبر أنَّ لهم ما يَشْتَهون . وجوَّز الفراء والحوفيُّ والزمخشريُّ وأبو البقاء أن تكونَ " ما " منصوبةَ المحلِّ عطفاً على " البناتِ " و " لهم " عطفٌ على " الله " ، أي : ويجعلون لهم ما يشتهون .
قال الشيخ : " وقد ذَهَلُوا عن قاعدةٍ نحوية : وهو أنه لا يتعدَّى فِعْلُ المضمرِ المتصلِ إلى ضميره المتصل إلا في باب ظنَّ وفي عَدَمِ وفَقَد ، ولا فرقَ بين أن يتعدَّى الفعلُ بنفسِه أو بحرفِ الجر ، فلا يجوز : " زيدٌ ضربه " ، أي : ضربَ نفسَه ، ولا " زيدٌ مَرَّ به " ، أي : مرَّ بنفسه ، ويجوز : زيدٌ ظنَّه قائماً " ، و " زيدٌ فَقَده " و " عَدِمه " ، أي : ظنَّ نفسَه قائماً وفَقَد نفسه وعَدِمها . إذ تقرَّر هذا فَجَعْلُ " ما " منصوبةً عطفاً على " البنات " يؤدِّي إلى تعدَّي فِعْلِ المضمرِ المتصل وهو واو / " يَجْعَلون " إلى ضميرِه المتصل ، وهو " هم " في " لهم " . انتهى ملخصاً .
وما ذكره يحتاج إلى إيضاحٍ أكثرَ مِنْ هذا فأقول فيها مختصراً : اعلمْ أنه لا يجوز تَعَدَّي فِعْلِ المضمرِ المتصلِ ولا فعلِ الظاهرِ إلى ضميرِهما المتصلِ ، إلا في بابِ ظَنَّ وأخواتِها من أفعال القلوب ، وفي فَقَد وعَدَمِ ، فلا يجوز : " زيد ضربه " ولا " ضربه زيد " ، أي : ضربَ نفسه . ويجوز : " زيد ظنَّه قائماً " ، وظنَّه زيدٌ قائماً ، و " زيد فَقَده وعَدِمه " ، و " فَقَدَه وعَدِمَه زيد " ، ولا يجوز تَعَدَّي فِعْلِ المضمر المتصل إلى ظاهره في بابٍ من الأبواب ، لا يجوز " زيداً ضرب " ، أي : ضربَ نفسَه .
وفي قولي : " إلى ضميرِهما المتصلِ " قيدان أحدُهما : كونُه ضميراً فلو كان ظاهراً كالنفس لم يمتنع نحو : " زيدٌ ضَرَبَ نفسَه " و " ضَرَبَ نفسَه زيدٌ " . والثاني : كونُه متصلاً ، فلو كان منفصلاً جاز نحو : " زيدٌ ما ضربَ إلا إياه " ، و " ما ضرب زيدٌ إلا إياه " ، وعِلَلُ هذه المسألةِ وأدلتُها موضوعُها غيرُ هذا الموضوعِ ، وقد أَتْقَنْتُها في " شرح التسهيل " .
وقال مكي : " وهذا لا يجوزُ عند البصريين ، كما لا يحوز جعلتُ لي طعاماً ، إنما يجوز : جعلتُ لنفسي طعاماً ، فلو كان لفظُ القرآن " ولأنفسِهم ما يَشْتَهون " جاز ما قال الفراء عند البصريين . وهذا أصلٌ يحتاج إلى تعليلٍ وبَسْطٍ كثير " .
(1/2860)

قلت : ما أشارَ إليه من المَنْعِ قد عَرفْتَه ولله الحمدُ مما قدَّمْتُه لك .
وقال الشيخ بعد ما حكى أنَّ " ما " في موضعِ نصبٍ عن الفراءِ ومَنْ تبعه : " وقال ابو البقاء - وقد حكاه - : وفيه نظرٌ " . قلت : وأبو البقاء لم يجعلِ النظرَ في هذا الوجه ، إنما جعله في تضعيفه بكونِه يؤدِّي إلى تَعَدِّي فِعْلِ المضمر المتصل إلى ضميره المتصل في غيرِ ما اسْتُثْني فإنه قال : " وضَعَّف قومٌ هذا الوجهَ وقالوا : لو كان كذلك لقال : ولأنفسهم ، وفيه نظرٌ " فجعل النظرَ في تضعيفِه لا فيه .
وقد يُقال : وَجْهُ النظرِ الممتنعُ تعدَّي ذلك الفعلِ ، أي : وقوعُه على ما جُرَّ بالحرف نحو : " زيدٌ مَرَّ به " فإن المرورَ واقعٌ بزيد ، وأمَّا ما نحن فيه فليس الجَعْلُ واقعاً بالجاعِلِين ، بل بما يَشْتهون ، وكان الشيخُ يَعْترض دائماً على القاعدةِ المتقدمةِ بقوله تعالى : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة } [ مريم : 25 ] { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } [ القصص : 32 ] والجوابُ عنهما ما تقدَّم : وهو أنَّ الهَزَّ والضَّمَّ ليسا واقعين بالكاف ، وقد تقدَّم لنا هذا في مكانٍ آخرَ ، وإنما أَعَدْتُه لصعوبتِه وخصوصيةِ هذا بزيادةِ فائدةٍ .
(1/2861)

وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58)
قوله تعالى : { ظَلَّ وَجْهُهُ } : يجوز أن تكونَ على بابِها مِنْ كونِها تدلُّ على الإِقامة نهاراً على الصفةِ المسندةِ إلى اسمها ، وأن تكونَ بمعنى صار ، وعلى التقديرَيْن فهي ناقصةٌ ، و " مُسْوَدّاً " خبرُها . وأمَّا " وجهُه " ففيه وجهان ، المشهور - وهو المتبادَرُ إلى الذهن - أنه اسمها . والثاني : أنه بدلٌ من الضميرِ المستتر في " ظل " بدلُ بعضٍ من كل ، أي : ظلَّ أحدُهم وجهُه ، أي : ظلَّ وجهُ أحدِهم .
قوله : " كَظِيم " يجوز ان يكونَ بمعنى فاعِل ، وأن يكونَ بمعنى مَفْعول كقوله { وَهُوَ مَكْظُومٌ } [ القلم : 48 ] . والجملة حال من الضمير في " ظَلَّ " ، أو مِنْ " وجهه " ، أو من الضمير في " ظَلَّ " . وقال أبو البقاء هنا : " فلو قُرِئ " مُسْوَدٌّ " يعني بالرفع لكان مستقيماً ، على أن تَجْعَلَ اسمَ " ظَلَّ " مضمراً ، والجملةُ خبرها " . وقال في سورة الزخرف : " ويُقرآن بالرفع على أنه مبتدأٌ وخبر في موضعِ خبرِ " ظلَّ " .
(1/2862)

يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)
قوله تعالى : { يتوارى } : يحتمل أن تكونَ مستأنفةً ، وأن تكونَ حالاً ممَّا كانت الأُوْلى حالاً منه ، إلا [ مِنْ ] " وجهُه " فإنه لا يليق ذلك به ، ويجوز أن تكونَ حالاً من الضمير في " كظيم " .
قوله : { مِنَ القوم مِن سواء } يُعَلِّق هنا جارَّان بلفظٍ واحدٍ لاختلافِ معناهما؛ فإنَّ الأولى للابتداء ، والثانية للعلة ، أي : من أجلِ سُوْءِ ما بُشِّر به .
قوله { أَيُمْسِكُهُ } . قال أبو البقاء : " في موضع الحال تقديرُه : يَتَوارى متردِّداً . هل يُمْسكه أم لا " ، وهذا خطأٌ عن النَّحْويين؛ لأنهم نَصُّوا على أن الحالَ لا تقع جملةً طلبيةً . والذي يظهر أنَّ هذه الجملةَ الاستفهاميةَ معمولةٌ لشيء محذوفٍ هو حالٌ مِنْ فاعل " يتوارى " المتممِ للكلام ، أي : يتوارى ناظراً أو مفكَّراً : أيُمْسِكُه على هُوْن .
والعامَّةُ على تذكير الضمائر اعتباراً بلفظ " ما " وقرأ / الجحدريُّ { أَيُمْسِكُها } ، { أَمْ يَدُسُّها } مُراعاةً للأنثى أو لمعنى " ما " . وقُرِئ { أَيُمْسِكُهُ أَمْ يَدُسُّهُ } .
والجحدريُّ وعيسى قرآ على " هَوان " بزنة " قَذَالٍ " ، وفرقةٌ على " هَوْنٍ " بفتح الهاء ، وهي قَلِقَةٌ هنا؛ لأن " الهَوْن " بالفتح الرِّفقُ واللين ، ولا يناسب معناه هنا ، وأمَّا " الهَوان " فبمعنى هُوْن المضمومة .
قوله : { على هُونٍ } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه حالٌ مِنَ الفاعلِ ، وهو مَرْوِيٌّ عن ابن عباس فإنه قال : يُمْسِكه مع رضاه بهوانِ وعلى رغمِ أنفِه .
والثاني : أنه حالٌ من المفعولِ ، أي : يُمْسِكها ذليلةً مُهانةً .
والدَّسُّ : إخفاءُ الشيءِ وهو هنا عبارةٌ عن الوَأْد .
(1/2863)

وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
قوله تعالى : { أَلْسِنَتُهُمُ الكذب } : العامَّةُ على أنَّ " الكذبَ " مفعولٌ به ، و { أَنَّ لَهُمُ الحسنى } بدلٌ منه بدلُ كلٍ مِنْ كل ، أو على إسقاط الخافض ، أي : بأنَّ لهم الحسنى .
وقرأ الحسن " أَلْسِنَتْهُمْ " بسكونِ التاءِ تخفيفاً ، وهي تُشْبه تسكينَ لامِ { بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [ الزخرف : 80 ] ، وهمزة " بارِئْكم " ونحوه .
والأَلْسِنَةُ جمع " لِسان " مراداً به التذكير فجُمِع كما يُجْمَعُ فِعال المذكر نحو : حِمار وأَحْمِرة ، وإذا أُريد به التأنيثُ جُمِعَ جمعَ أفْعُل كذِراع وأَذْرُع .
وقرأ معاذ بن جبل " الكُذُبُ " بضمِّ الكاف والذال ورفعِ الباء ، على أنه جَمْعُ كَذُوب كصَبُور وصُبُر ، وهو مقيسٌ ، وقيل : جمع كاذِب نحو : شارِف وشُرُف ، كقولها :
3988- ألا يا حَمْزُ للشُّرُفِ النَّواءِ ... ......... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لكنه غيرُ مقيسٍ ، وهو حينئذٍ صفةٌ ل " ألسنتهم " ، وحينئذٍ يكون { أَنَّ لَهُمُ الحسنى } مفعولاً به . وقد تقدَّم الكلامُ في " لا جَرَمَ " مستوفى في هود .
قوله : { وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } قرأ نافع بكسرِ الراءِ اسمَ فاعلٍ مِنْ أَفْرَطَ إذا تجاوَزَ ، فالمعنى : أنهم يتجاوزون الحَدَّ في معاصي الله تعالى . فأفْعَلَ هنا قاصرٌ . والباقون بفتحها اسمَ مفعولٍ مِنْ أَفْرَطْتُه ، وفيه معنيان ، أحدُهما : أنَّه مِنْ أَفْرطته خلفي ، أي : تركتُه ونَسِيْتُه ، حكى الفراء أنَّ العرب تقول : أَفْرِطْتُ منهم ناساً ، أي : خَلَّفْتُهم ، والمعنى : أنهم مَنْسِيًّون متروكون في النار . والثاني : أنه مِنْ أَفْرَطْتُه ، أي : قَدَّمْتُه إلى كذا ، وهو منقولٌ بالهمزة مِنْ فَرَط إلى كذا ، أي : تقدَّم إليه ، كذا قال الشيخ ، وأنشد للقطامي :
2989- واسْتَعْجَلُونْا وكانوا مِنْ صحابَتِنا ... كما تَعَجَّلَ فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ
فَجَعَلَ " فَرَط " قاصراً و " أفرط " منقولاً . وقال الزمخشري : " بمعنى يتقدَّمون إلى النار ، ويتعجَّلون إليها ، مِنْ أَفْرَطْتُ فلاناً وفَرَطْتُه إذا قدَّمته إلى الماء " ، فجعل فَعَل وأفْعَل بمعنى ، لا أن أَفْعل منقولٌ مِنْ فَعَل ، والقولان محتملان ، ومنه " الفَرَطُ " ، أي : المتقدم . قال عليه السلام : " أنا فَرَطُكم على الحوض " ، أي : سابِقُكم . ومنه " واجعله فَرَطاً وذُخْراً " ، أي : متقدِّماً بالشفاعةِ وتثقيلِ الموازين .
وقرأ أبو جعفر - في روايةٍ - " مُفَرِّطون " بتشديدِ الراءِ مكسورةً مِنْ فَرَّط في كذا : أي : قَصَّر ، وفي روايةٍ ، مفتوحةً ، مِنْ فَرَّطته مُعَدَّى بالتضعيفِ مِنْ فَرَط بالتخفيف ، أي : تَقَدَّم وسَبَقَ .
وقرأ عيسى بن عمر والحسن " لا جَرَمَ إنَّ لهم النارَ وإنهم " بكسرِ " إنَّ فيهما على أنَّها جوابُ قسمٍ أَغْنَتْ عنه " لا جَرَمَ " .
(1/2864)

تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
قوله تعالى : { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم } : يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ حكايةَ حالٍ ماضيةٍ ، أي : فهو ناصرُهم ، أو آتيةٍ ، ويراد باليوم يومُ القيامة ، هذا إذا عاد الضمير على " أُمَم " وهو الظاهر .
وجَوَّز الزمخشريُّ أن يعودَ على قريش ، فيكونَ حكايةَ حالٍ في الحال لا ماضيةٍ ولا آتيةٍ ، وجوَّز أن يكون عائداً على " أمم " ولكنْ على حَذْفِ مضافٍ تقديره : فهو وَلِيٌّ أمثالِهم اليومَ . واستبعده الشيخُ ، وكأنَّ الذي حمله على ذلك قولُه " اليومَ " فإنه ظرفٌ حالِيٌّ ، وقد تقدَّم أنه على حكايةِ الحالِ الماضية أو الآتية .
(1/2865)

وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)
قوله تعالى : { وَهُدًى وَرَحْمَةً } : فيه وجهان : أحدُهما : أنهما انتصبا على أنهما مفعولان مِنْ أجلهما ، والناصبُ " أَنْزَلْنَا " ، ولَمَّا اتَّحد الفاعلُ في العِلَّة والمعلول وَصَل الفعلُ إليهما بنفسه ، ولَمَّا لم يتحَّدْ في قولِه : " وما أنْزَلْنا إلاَّ لِتُبَيِّن "؛ لأنَّ فاعلَ الإِنزالِ ، اللهُ وفاعلَ التبيينِ الرسولُ / وَصَلَ الفعلُ إلى العلةِ بالحرفِ فقيل : { إِلاَّ لِتُبَيِّنَ } ، أي : لأَنْ تُبَيِّنَ ، على أنَّ هذه اللامَ لا تَلْزَمُ من جهةٍ أخرى : وهي كونُ مجرورِها " أن " . وفيه خلافٌ في خصوصيةِ هذه المسألةِ .
وهذا معنى قولِ الزمخشري فإنه قال : " معطوفان على محلِّ " لِتُبَيِّنَ " إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعولٌ لهما ، لأنَّهما فِعْلُ الذي أَنْزَلَ الكتابَ ، ودخلت اللامُ على " لتبيِّنَ " لأنه فِعْلُ المخاطبِ لا فِعْلُ المُنَزِّلِ ، وإنما ينتصبُ مفعولاً له ما كان فعلَ الفاعلِ الفعل المعلل " . قال الشيخ : " قوله : معطوفان على محل " لتبيِّنَ " ليس بصحيح؛ لأنَّ مَحَلَّه ليس نصباً فيُعطفَ منصوبٌ [ عليه ] ، ألا ترى أنه لو نصبه لم يَجُزْ لاختلافِ الفاعل " .
قلت : الزمخشريُّ لم يجعلِ النصبَ لأجل العطفِ على المحلِّ ، إنما جَعَله بوصولِ الفعلِ إليهما لاتحادِ الفاعلِ كما صَرَّح به فيما حكيْتُه عنه آنفاً ، وإنما جَعَلَ العطفَ لأجل التشريكِ في العِلِّيَّةِ لا غير ، يعني أنهما علتان ، كما أنَّ " لتبيِّنَ " علةٌ . ولَئِنْ سَلَّمْنا أنه نُصِب عطفاً على المحلِّ فلا يَضُرُّ ذلك . قوله : " لأنَّ محلَّه ليس نصباً " ممنوعٌ ، وهذا ما لا خلافَ فيه : مِنْ أنَّ محلَّ الجارِّ والمجرورِ النصبُ لأنه فَضْلَةٌ ، إلا أنْ يقومَ مقامَ مرفوعٍ ، ألا ترى إلى تخريجِهم قولَه { وَأَرْجُلَكُمْ } [ المائدة : 6 ] في قراءة النصبِ على العطف على محلِّ " برؤوسكم " ، ويُجيزون " مَرَرْتُ بزيدٍِ وعمراً " على خلافٍ في ذلك ، بالنسبة إلى القياسِ وعدمِه لا في أصلِ المسألة . وهذا بحثٌ حسنٌ تركه المَرْدُودُ عليه .
(1/2866)

وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66)
قوله تعالى : { نُّسْقِيكُمْ } : يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ مفسرةً للعِبْرة ، كأنه قيل : كيف العِبْرة؟ فقيل : نُسْقيكم من بينِ فَرْثٍ ودمٍ لبناً خالصاً . ويجوز أن تكونَ خبراً لمبتدأ مضمر ، والجملةُ جوابٌ لذلك السؤالِ ، أي : هي ، أي : العِبْرَةُ نُسْقيكم ، ويكون كقولهم : تَسْمَعُ بالمُعْيدِيَّ خيرٌ من أَنْ تَراه " .
وقرأ نافع وابنُ عامر وأبو بكر " نَسْقيكم " بفتح النون هنا وفي المؤمنين . والباقون بضمَّها فيهما . واختلف الناس : هل سَقَى وأَسْقى لغتان ، بمعنىً واحدٍ أم بينهما فرقٌ؟ خلافٌ مشهور . فقيل : هما بمعنىً ، وأنشد جمعاً بين اللغتين :
2290- سَقَى قومي بني مَجْدٍ وأسْقَى ... نُمَيْراً والقبائلَ من هلالِ
دعا للجميع بالسَّقْيِ والخِصْب . و " نُمَيْراً " هو المفعول الثاني : أي : ماءٌ نُمَيْراً . وقال أبو عبيد : " مَنْ سَقَى الشِّفَةِ : سَقَى فقط ، ومَنْ سقى الشجرَ والأرضَ . أَسْقَى ، وللداعي بالسُّقْيَا وغيرها : أَسْقَى فقط " . وقال الأزهري : " العربُ تقول ما كان من بطونِ الأنعام ، ومن السماء ، أو نهرٍ يجري ، أَسْقَيْتُ ، أي : جَعَلْتُ شِرْباً له وجَعَلْتُ له منه سُقْيَا؟ ، فإذا كان للشَّفَة قالوا : سَقَى ، ولم يقولوا : أسقى " .
وقال الفارسي : " سَقَيْتُه ختى رَوِيَ ، وأَسْقَيْتُه نهراً ، أي : جَعَلْتُه له شِرْباً " . وقيل " سَقاه إذا ناوله الإِناءَ ليشربَ منه ، ولا يُقال مِنْ هذا : أَسْقاه .
وقرأ أبو رجاء " يُسْقِيْكم " بضمِّ الياء من أسفلَ وفي فاعلِه وجهان ، أحدُهما : هو الله تعالى ، الثاني : أنه ضميرُ النَّعَمِ المدلولُ عليه بالأنعامِ ، أي : نَعَماً يُجْعَلُ لكم سُقْيا . وقُرئ " تًسْقيكم " بفتح التاء من فوق . قال ابن عطية : " وهي ضعيفةٌ " . قال الشيخ : " وضَعْفُها عنده - والله أعلمُ - أنه أنَّثَ في " تِسْقِيْكم " ، وذَكَّر في قوله { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } ، ولا ضَعْفَ مِنْ هذه الجهةِ؛ لأنَّ التذكيرَ والتأنيثَ باعتبارين " . قلت " وضَعْفُها عنده من حيث المعنى : وهو أنَّ المقصودَ الامتنانُ على الخَلْقِ فنسبةُ السَّقْيِ إلى اللهِ تعالى هو الملائِمُ ، لا نِسْبتُه إلى الأنعام .
قوله : { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } يجوز أن تكونَ " مِنْ " للتبعيض ، وأن تكونَ لابتداءِ الغاية . وعاد الضميرُ هنا على الأنعام مفرداً مذكراً . قال الزمخشري : " ذكر سيبويه الأنعامَ في باب " ما لا ينصرف " في الأسماءِ المفردةِ الواردةِ على أَفْعال كقولهم : ثوبٌ أَكْياش ، ولذلك رَجَع الضميرُ إليه مفرداً ، وأمَّا " في بطونها " في سورة المؤمنين فلانَّ معناه جمع . ويجوز أن يُقال في " الأنعام " وجهان ، أحدهما : أن يكون تكسير " نَعَم " كأَجْبال في جَبَل ، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع [ كَنَعم ] ، فإذا ذُكِّرَ فكما يُذكَّرُ " نَعَم " في قوله :
(1/2867)

2991- في كل عام نَعَمٌ تَحْوُوْنَهُ ... يَلْقِحُه قومٌ وتَنْتِجُونَهْ
وإذا أُنِّثَ ففيه وجهان : أنه تكسير " نَعَم " ، وأنَّه في معنى الجمع " .
قال الشيخ : أمَّا ما ذَكَره عن سيبويه ففي كتابه في : " هذا بابُ ما كان مِثال مَفاعِل ومفاعِيل ما نصُّه : " وأمَّا أَجْمال وفُلُوس فإنها تَنْصَرِفُ وما أشبهها؛ لأنها ضارَعَتْ الواحد / ألا ترى أنك تقول : أَقْوال وأقاويل ، وأعراب وأعاريب وأَيْدٍ وأيادٍ ، فهذه الأحرفُ تَخْرُج إلى مثال مفاعِل ومفاعيل ، كما يَخْرُج إليه الواحد إذا كُسِّر للجمع . وأمَّا مَفاعِل ومَفاعيل فلا يُكسَّرُ ، فلا يَخْرُجُ الجمعُ إلى بناءٍ غيرِ هذا؛ لأن هذا البناءَ هو الغايةُ ، فلمَّا ضارَعَتِ الواحدَ صُرِفَتْ " . ثم قال : " وكذلك الفُعُوْل لو كَسَّرْتَ مثل الفُلوس لأَنْ تُجْمَعَ جميعاً لأَخْرَجَتْه إلى فَعَائِل ، كما تقول : جَدُود وجَدائد ورَكوب وركائب ، ولو فَعَلْتَ ذلك بِمَفاعِل ومَفاعيل لم تجاوِزْ هذا البناءَ ، ويُقَوِّي ذلك أنَّ بعضَ العربِ يقول : أُتِيَّ فَيَضُمُّ الألفَ . وأمَّا أفْعَال فقد يقع للواحد ، مِنَ العرب مَنْ يقول : هو الأنعام : قال الله عز وجل { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } . وقال أبو الخطاب : " سَمِعْت مِنَ العرب مَنْ يقول : هذا ثوبٌ أكياش " .
قال : " والذي ذكر سيبويهِ هو الفرق بين مَفاعِل ومفاعِيل وبين أفعال وفُعول ، وإن كان الجميعُ أبنيةً للجمع من حيث إنَّ مفاعِل ومفاعِيل لا يُجْمعان وأَفْعالاً وفُعولاً قد يَخْرُجان إلى بناءٍ يُشبِه مَفَاعِل أو مفاعيل ، فلمّا كانا قد يَخْرُجان إلى ذلك انصرفا ، ولم يَنصَرِفْ مَفَاعِل ومفاعيل لشِبْه ذَيْنك بالمفردِ؛ من حيث إنه يمكن جمعُها وامتناعُ هذين من الجمع ، ثم قَوِيَ شَبَهُهما بالمفرد بأنَّ بعض العرب يقول في أُتِيّ : " أُتِيّ " بضمِّ الهمزة ، يعني أنه قد جاءَ نادراً فُعول من غير المصدرِ للمفرد ، وبأنَّ بعضَ العربِ قد يُوْقعُ أفعالاً للمفرد من حيث أفرد الضميرَ فيقول : " هو الأنعامُ " ، وإنما يعني أنَّ ذلك على سبيل المجاز؛ لأن الأنعامَ في معنى النَّعَم ، والنَّعَمُ مفردٌ كما قال :
2992- تَرَكْنا الخيلَ والنَّعَمَ المُفَدَّى ... وقلنا للنساءِ بها أَقيمي
ولذلك قال سيبويه : " وأمَّا أَفْعال فقد يقع للواحد " فقوله " قد يقع للواحد " دليلٌ على أنه ليس ذلك بالوضْعِ ، فقولُ الزمخشري : " أنه ذكره في الأسماء المفردة على أَفْعال " تحريفٌ في اللفظ ، وفَهِمَ عن سيبويه ما لم يُرِدْه . ويَدُلُّ على ما قلناه أنَّ سيبويه حيث ذَكَرَ أبنيةَ الأسماء المفردةِ نَصَّ على أنَّ أَفْعالاً ليس من أبنيتها . قال سيبويه في باب ما لحقته الزيادةُ من بنات الثلاثة : " وليس في الكلام أُفْعِيل ولا أَفْعَوْل ولا أُفْعال ولا أَفْعِيْل ولا أَفْعال ، إلا أن تُكَسَّرَ عليه اسماً للجمع " . قال : " فهذا نصُّ منه على أنَّ أَفْعالاً لا يكون في الأسماء المفردة " .
(1/2868)

قلتُ : الذي ذكره الزمخشريُّ هو ظاهرُ عبارةِ سيبويه وهو كافٍ في تسويغ عَوْد الضمير مفرداً ، وإن كان أَفْعال قد يقع موقعَ الواحد مجازاً فإنَّ ذلك ليس بضائرٍ فيما نحن بصددِه ، ولم يُحَرِّفْ لفظَه ، ولم يَفْهَمْ عنه غيرَ مرادِه ، لِما ذكرْتُه من هذا المعنى الذي قَصَدَه .
وقيل : إنما ذَكَّر الضميرَ لأنه يعودُ على البعض وهو الإِناث؛ لأنَّ الذكورَ لا أَلْبانَ لها ، فكأنَّ العِبْرَة هي بعض الأنعام . وقال الكسائي : " أي في بطونِ ما ذَكَرَ " . قال المبرد : " وهذا شائعٌ في القرآن ، قال تعالى : { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } [ عبس : 1112 ] ، أي : ذَكَر هذا الشيءَ . وقال تعالى : { فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي } [ الأنعام : 78 ] ، أي : هذا الشيءُ الطالعُ ، ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازيِّ ، لا يجوز : جاريتُك ذهب " . قلت : وعلى ذلك خُرِّج قوله :
2993- فيها خطوطٌ مِنْ سوادٍ وبَلَقْ ... كأنه في الجِلدِ تَوْليْعُ البَهَقْ
أي : كأنَّ المذكورَ . وقيل : جمعُ التكسير فيما لا يُعْقَل يُعامَل معاملةَ الجماعةِ ومعاملةَ الجمع ، ففي هذه السورةِ اعتُبِر معنى الجمع ، وفي سورة المؤمنين اعتُبر معنى الجماعة ، ومن الأولِ قولُ الشاعر : /
2994- مثل الفراخِ نُتِفَتْ حواصِلُهْ ... وقيل : أنه يَسُدُّ مَسَدَّه واحدٌ يُفْهِم الجمعَ ، فإنه يَسُد مَسَدَّه " نَعَم " ، و " نَعَم " يُفْهِم الجمعَ ومثلُه قولُه :
2995- وطابَ أَلْبانُ الِّلقاحِ وبَرَدْ ... لأنه يَسُدُّ مَسَدَّها لَبَن ، ومثلُه قولهم " هو أحسنُ الفتيان وأجملُه " ، أي : أحسنُ فتىً ، إلا أن هذا لا ينقاس عند سييويه وأتباعِه .
وذكر أبو البقاء ستةَ أوجهٍ ، تقدَّم منها في غضون ما ذكرْتُه خمسةٌ . والسادس : أنه يعود على الفحل؛ لأن اللبن يكون مِنْ طَرْقِ الفحلِ الناقةَ ، فأصلُ اللبنِ [ ماءُ ] الفحلِ قال : " وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ اللبن وإن نُسِب إلى الفحلِ فقد جَمَعَ البطون ، وليس فحلُ الأنعام واحداً ولا للواحد بطونٌ . فإن قال : أراد الجنسَ فقد ذُكِر " . يعني أنه قد تقدَّم أن التذكيرَ باعتبارِ جنسِ الأنعام فلا حاجة إلى تقدير عَوْدِه على " فَحْل " المرادِ به الجنسُ . قلت : وهذا القولُ نقله مكي عن إسماعيل القاضي ولم يُعْقِبْه بنكير .
قوله : { مِن بَيْنِ فَرْثٍ } يجوز فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه متعلقٌ بالسَّقْي ، على أنها لابتداءِ الغاية ، فإن جَعَلْنا ما قبلها كذلك تَعَيَّن أن يكونَ مجرورُها بدلاً مِنْ مجرور " مِنْ " الأولى؛ لئلا يتعلَّقَ عاملان متحدان لفظاً ومعنىً بعاملٍ واحد وهو ممتنعٌ . وهو مِنْ بدلِ الاشتمالِ؛ لأن المكانَ مشتمِلٌ على ما حَلَّ فيه . وإن جعلْتَها للتبعيض هان الأمرُ .
الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ " لَبَناً "؛ إذْ لو تأخَّرَتْ لكانَتْ مع مجرورِها نعتاً له . قال الزمخشري : " وإنما تقدَّم لأنه موضعُ العِبْرة ، فهو قَمِنٌ بالتقديم " .
الثالث : أنَّها مع مجرورِها حالٌ من الموصولِ قبلها .
والفَرْث : فُضالةُ ما يَبْقى مِنَ العَلَفِ في الكِرْش ، وكثيفُ ما يبقى من الأكل في المَعِيّ . ويقال : فَرَثَ كّبِدَه ، أي : فتَّتها ، وأَفْرث فلانٌ فلاناً : أوقعه في بَليَّةٍ تجري مجرى الفَرْث .
قوله : " لَبَنا " هو المفعولُ الثاني لنُسْقي . وقرئ " سَيِّغاً " بتشديد الياء بزِنة " سَيِّد " ، وتصريفُه كتصريفِه . وخَفَّفه عيسى بن عمر نحو : مَيْت وهَيْن . ولا يجوز أن يكون فَعْلاً؛ إذ كان يجب أن يكونَ " سَوْغاً " كقَوْل .
(1/2869)

وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
قوله تعالى : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل } : فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه متعلقٌ بمحذوف ، فقدَّره الزمخشريُّ : " ونُسْقيكم من ثمراتِ النخيل والأعناب ، أي : مِنْ عصيرِها ، وحُذِف لدلالةِ " نُسْقيكم " قبلَه عليه " . قال : " وتَتَّخذون : بيانٌ وكَشْفٌ عن كيفية الإِسقاء " . وقدَّره أبو البقاء : " خَلَقَ لكم وجَعَلَ لكم " .
وما قدَّره الزمخشريُّ أَلْيَقُ ، لا يُقال : لا حاجةَ إلى تقدير " نُسْقيكم " بل قولُه { وَمِن ثَمَرَاتِ } عطفٌ على قولِه { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } فيكون عَطَفَ بعضَ متعلِّقاتِ الفعلِ الأولِ على بعضٍ ، كما تقول : " سَقَيْتُ زيداً من اللبن ومن العسل " فلا يحتاج إلى تقديرِ فعلٍ قبل قولك " من العسل " ، لا يُقال ذلك لأنَّ " نُسْقيكم " الملفوظَ به وقع تفسيراً لِعبْرة الأنعام فلا يَليقُ تَعَلُّق هذا به ، لأنه ليس من العِبْرة المتعلقةِ بالأنعام . قال الشيخ : " وقيل : متعلِّقٌ ب " نُسْقيكم " . فيكونُ معطوفاً على { مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } أو ب " نُسقيكم " محذوفةً دلَّ عليها " نُسْقِيكم " . انتهى . ولم يُعْقِبْه بنكير ، وفيه ما قَدَّمْتُه آنفاً .
الثاني : أنه متعلِّقٌ ب " تَتَّخذون " و " منه " تكريرٌ للظرف توكيداً نحو : " زيدٌ في الدارِ فيها " قاله الزمخشريٌّ . وعلى هذا فالهاءُ في " منه " فيها ستةُ أوجهٍ . أحدها : أنها تعودُ على المضافِ المحذوفِ الذي هو العصيرُ ، كما رَجَعَ في قوله { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] إلى الأهلِ المحذوفِ . الثاني : أنها تعود على معنى الثمراتِ لأنها بمعنى الثَّمَر . الثالث : أنها تعودُ على النخيل . الرابع : أنها تعودُ على الجنس . الخامس : أنها تعودُ على البعض . السادس : أنها تعود على المذكور .
الثالث من الأوجهِ الأُوَلِ : أنه معطوفٌ على قولِه { فِي الأنعام } ، فيكونُ في المعنى خبراً عن اسمِ " إنَّ " في قوله : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً } ، التقدير : وإنّ لكم في الأنعام ومن ثمرات النخيل لَعِبْرَةً ، ويكونُ قوله " تتخذون " بياناً وتفسيراً للعِبْرة كما وقع " نُسْقِيكم " تفسيراً لها أيضاً .
الرابع : أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوفٍ فقدَّره الطبريُّ : " ومن ثمراتِ النخيل ما تتَّحذون " / قال الشيخ : " وهو لا يجوزُ على مذهبِ البصريين " . قلت : وفيه نظر؛ لأنَّ له أن يقول : ليسَتْ " ما " هذه موصولةً ، بل نكرةٌ موصوفةٌ ، وجاز حَذْفُ الموصوفِ والصفةُ جملةٌ ، لأن في الكلام " مِنْ " ، ومتى كان في الكلام " مِنْ " اطَّرد الحذفُ نحو : " منا ظَعَنَ ومنا أقام " ولهذا نظَّره مكيٌّ بقولِه تعالى : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ } [ الصافات : 164 ] ، أي : إلا مَنْ له مقام .
(1/2870)

قال : فَحُذِفَتْ " " مَنْ " لدلالةِ " مِنْ " عليها في قوله " وما مِنَّا " . ولما قدَّر الزمخشري الموصوفَ قدَّره : ثَمَرٌ تتخذون ، ونظَّره بقول الشاعر :
2996- يَرْمي بكفِّيْ كان مِنْ أَرْمى البشر ... تقديرُه : بكفَّيْ رجل ، إلاَّ أنَّ الحذفَ في البيت شاذٌّ لعدم " مِنْ " : ولمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ قال : " وقيل : هو صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه : شيئاً تتخذون منه ، بالنصب ، أي : وإنَّ من ثمراتِ النخيل . وإن شئت " شيء " بالرفعِ بالابتداء ، و { مِن ثَمَرَاتِ } خبرُه " .
والسَّكَر : - بفتحتين - فيه أقوال ، أحدها : أنه من أسماءِ الخمر ، كقول الشاعر :
2997- بئس الصُّحاةُ وبئس الشَّرْبُ شَرْبُهُمُ ... إذا جَرَى فيهم المُزَّاءُ والسَّكَرُ
الثاني : أنه في الأصل مصدرٌ ، ثم سُمِّي به الخمرُ . يقال : سَكِر يَسْكَرُ سُكْراً وسَكَراً ، نحو : رَشِد يَرْشَدُ رُشْداً ورَشداً .
قال الشاعر :
2998- وجاؤُوْنا بهم سَكَرٌ علينا ... فَاَجْلَى اليومُ والسَّكْران صاحي
قاله الزمخشري . الثالث : أنه اسمٌ للخَلِّ بلغةِ الحبشة ، قاله ابن عباس . الرابع : أنه اسمٌ للعصير ما دام حُلْواً ، كأنه سُمِّي بذلك لمآله لذلك لو تُرِكَ . الخامس : أنه اسمٌ للطُعْم قاله أبو عبيدة ، وأنشد :
2999- جَعَلْتَ أعراضَ الكرامِ سَكَراً ... أي : تتقلَّبُ بأعراضِهم . وقيل في البيت : إنه من الخمر ، وإنه إذا انتهك أعراضَ الناسِ كأنه تَخَمَّر بها .
وقوله : { وَرِزْقاً حَسَناً } يجوز أن يكونَ مِنْ عطف المغايِرات ، وهو الظاهرُ . وفي التفسير : أنه كالزَّبيب والخَلِّ ونحوِ ذلك ، وأن يكونَ من عطفِ الصفاتِ بعضِها على بعضٍ ، أي : تتخذون منه ما يُجْمَعُ بين السَّكَرِ والرِّزْقِ الحسن كقوله :
3000- إلى المَلِكِ القَرْمِ وابن الهُمامِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت .
(1/2871)

وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68)
قوله تعالى : { أَنِ اتخذي } : يجوز أن تكونَ مفسِّرةً ، وأن تكون مصدريةً . واستشكل بعضُهُم كونَها مفسرةً . قال : " لأنَّ الوَحْيَ هنا ليس فيه معنى القول؛ إذ هو إلهامٌ لا قولَ فيه " . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ القولَ لكلِّ شيءٍ بحسَبِه .
والنَّحْلُ : يذكَّر ويؤنَّث على قاعدةِ أسماء الأجناس . والتأنيثُ فيه لغةُ الحجاز ، وعليها جاء { أَنِ اتخذي } . وقرأ ابن وثَّاب " النَحَل " فيُحتمل أن يكون لغةً مستقلةً ، وأن يكونَ إتباعاً .
و { مِنَ الجبال } " مِنْ " فيه للتبعيض؛ إذ لا يتهيَّأُ لها ذلك في كلِّ جبلٍ ولا شجرٍ . وتقدَّم القول في " يَعْرِشُونَ " ، ومَنْ قرأ بالكسر والفتحِ في الأعراف .
(1/2872)

ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
قوله تعالى : { ذُلُلاً } : جمع ذَلُول . ويجوز أن تكونَ حالاً مِن السُّبُل ، أي : ذَلَّلها اللهُ تعالى ، كقوله : { هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً } [ الملك : 15 ] ، وأن تكونَ حالاً مِنْ فاعلِ " اسْلُكي " ، أي : مطيعةً منقادةً . وفي التفسير المعنيان منقولان .
وانتصابُ " سُبُل " يجوز أن يكونَ على الظرفية ، أي : فاسْلُكي ما أكلْتِ في سُبُلِ ربِّك ، أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النَّوْر ونحوه عَسَلاً ، وأن يكونَ مفعولاً به ، أي : اسْلكي الطرقَ التي أَفْهَمَكِ وعلَّمَكِ في عَمَلِ العسل . و " مِنْ " في { مِن كُلِّ الثمرات } يجوز ان تكونَ تبعيضيةً ، وأن تكونَ للابتداء على معنى : أنها تأكُلُ شيئاً ينزل من السماء شِبْهَ التَّرَنْجَبِيْن على وَرَق الشجر وثمارِها ، لا أنها تأكلُ نَفْسَ الثمرات ، وهو بعيدٌ جداٌ .
قوله : { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } التفاتٌ وإخبارٌ بذلك ، ولو جاءَ على الكلام الأوَّل لقيل : مِنْ بطونِك . والهاء في / " فيه " تعودُ على " شَراب " ، وهو الظاهرُ ، وقيل : تعودُ على القرآن .
(1/2873)

وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
قوله تعالى : { لِكَيْ لاَ } : في هذه اللامِ وجهان ، أحدهما : أنها لامُ التعليل ، و " كي " بعدها مصدريةٌ ليس إلا ، وهي ناصبةٌ بنفسِها للفعلِ بعدَها ، وهي ومنصوبُها في تأويلِ مصدرٍ مجرورٍ باللام ، واللامُ متعلقةٌ ب " يُرَدُّ " . وقال الحوفيُّ : " إنها لامُ كي ، وكي للتأكيد " وفيه نظرٌ؛ لأنَّ اللامَ للتعليلِ و " كي " مصدريةٌ لا إشعارَ لها بالتعليل والحالةُ هذه ، وأيضاً فعلمُها مختلفٌ .
الثاني : إنها لامُ الصَّيْرورةِ .
قوله : " شيئاً " يجوز فيه التنازع؛ وذلك أنه تقدمه عامِلان : " يَعْلَمَ " و " عِلْمٍ " . فعلى رأيِ البصريين - وهو المختار - يكون منصوباً ب " عِلْم " ، وعلى رأيِ الكوفيين يكون منصوباً ب " يَعلم " . وهو مردودٌ؛ إذ لو كان كذلك لأَضْمَرَ في الثاني ، فكان يُقال : لكيلا يعلمَ بعد عِلْمٍ إياه شيئاً .
(1/2874)

وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
قوله تعالى : { فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } : في هذه الجملةِ أوجهٌ ، أحدُها : أنها على حَذْفِ أداةِ الاستفهام تقديرُه : أَفَهُمْ فيه سواءٌ ، ومعناه النفيُ ، أي : ليسوا مُسْتَوين فيه . الثاني : أنها إخبارٌ بالتساوي ، بمعنى : أن ما تُطْعِمونه وتُلْبِسونه لمماليككم إنما هو رِزْقي أَجْرَيْتُه على أيديهم ، فهم فيه سواءٌ . الثالث : قال أبو البقاء : " إنها واقعةٌ موقعَ فعلٍ " ، ثم جَوَّز في ذلك الفعلِ وَجْهَيْنِ ، أحدهما : أنه منصوبٌ في جوابِ النفي تقديرُه : فما الذين فُضِّلوا برادِّي رزقِهم على ما ملكَتْ أيمانُهم فيَسْتَوُوا . والثاني : أنه معطوفٌ على موضع " برادّي " فيكون مرفوعاً تقديرُه : فما الذين فُضِّلوا يَرُدُّون فما يَسْتَوُوْن .
وقرأ أبو بكر " تَجْحَدون " بالخطابِ مراعاةً لقولِه " بعضَكم " ، والباقونَ بالغَيْبَةِ مراعاةً لقولِه { فَمَا الذين فُضِّلُواْ } .
(1/2875)

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
قوله تعالى : { وَحَفَدَةً } : في " حَفَدَة " أوجهٌ . أظهرُها : أنه معطوفٌ على " بنين " بقيدِ كونِه من الأزواج ، وفُسِّر هنا بأنه أولادُ الأولادِ . الثاني : أنه مِنْ عطفِ الصفاتِ لشيءٍ واحدٍ ، أي : جَعَلَ لكم بنينَ خَدَماً ، والحَفَدَةُ : الخَدَمُ . الثالث : أنه منصوبٌ ب " جَعَلَ " مقدرةً ، وهذا عند مَنْ يُفَسِّر الحَفَدة بالأعوان والأَصْهار ، وإنما احتيج إلى تقدير " جَعَلَ " لأنَّ " جَعَلَ " الأولى مقيدةٌ بالأزواج ، والأعوانُ والأصهارُ ليسوا من الأزواج .
والحَفَدَةُ : جمع حافِد كخادِم وخَدَم . وفيهم للمفسرين أقوالٌ كثيرةٌ ، واشتقاقُهم مِنْ قولِهم : حَفَد يَحْفِد حَفْداً وحُفوداً وحَفَداناً ، أي : أسرع في الطاعة . وفي الحديث : " وإليك نَسْعَى ونَحْفِدُ " ، أي : نُسْرِعِ في طاعتِك . قال الأعشى :
3001- كَلَّفْتُ مجهولَها نُوْقاً يَمانيةً ... إذا الحُداة على أَكْسائها حَفَدُوا
وقال الآخر :
3002- حَفَدَ الولائدُ حولَهُنَّ وأَسْلَمَتْ ... بأكفِّهنَّ أَزِمَّةَ الأجْمالِ
ويستعمل " حَفَدَ " أيضاً متعدياً . يقال : حَفَدَني فهو حافِدٌ ، وأُنْشِد :
3003- يَحْفِدون الضيفَ في أبياتِهمْ ... كَرَماً ذلك منهم غيرَ ذُلّْ
وحكى أبو عبيدة أنه يقال : " أَحْفَدَ " رباعياً . وقال بعضهم : " الحَفَدَةُ : الأَصْهار ، وأنشد :
3004- فلو أنَّ نفسي طاوَعَتْني لأصبحَتْ ... لها حَفَدٌ ممَّا يُعَدُّ كثيرُ
ولكنها نَفسٌ عليَّ أَبِيَّةٌ ... عَيُوفٌ لإِصهارِ اللِّئامِ قَذْوْرُ
ويقال : سيفٌ مُحْتَفِدٌ ، أي : سريعُ القطع . وقال الأصمعيُّ : " أصلُ الحَفْدِ : مقارَبَةُ الخَطْوِ " .
و " مِنْ " في { مِّنَ الطيبات } للتبعيض .
(1/2876)

وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73)
قوله تعالى : { شَيْئاً } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه منصوبٌ على المصدرِ ، أي : لا يَمْلِكُ لهم مِلْكاً ، أي : شيئاً من المِلْك . والثاني : أنه بدلٌ مِنْ " رِزْقاً " ، أي : لا يَمْلِكُ لهم شيئاً . وهذا غيرُ مفيدٍ؛ إذ من المعلومِ أنَّ الرزقَ شيءٌ من الأشياء ، ويؤيِّد ذلك : أنَّ البدلَ يأتي لأحدِ معنيين : البيانِ أو التأكيد ، وهذا ليس فيه بيانٌ؛ لأنه أعمُّ ، ولا تأكيدَ . الثالث : أنه منصوبٌ ب " رِزْقاً " على أنه اسمُ مصدرٍ ، واسمُ المصدرِ يعمل عملَ المصدرِ على خلافٍ في ذلك .
ونقل مكيٌّ أن اسمَ المصدرِ لا يعملُ عند البصريين إلا في شعرٍ . قلت : وقد اختلفتِ النقلةُ / عند البصريين : فمنهم مَنْ نَقَلَ المَنْعَ ، ومنهم مَنْ نَقَلَ الجوازَ . وقد ذكر الفارسيُّ انتصابَه ب " رِزْقاً " كما تقدَّم . ورَدَّ عليه ابنُ الطَّراوة بأن الرزْقَ اسم المرزوق كالرَّعْيِ والطَّحْن . ورُدَّ على ابنِ الطراوة : بأنَّ الرِّزْقَ بالكسرِ أيضاً مصدرٌ ، وقد سُمِعَ فيه ذلك . قلت : فظاهرُ هذا أنه مصدرٌ بنفسِه لا اسمُ مصدرٍ .
وقوله : { مِّنَ السماوات } فيه ثلاثةُ أوجهٍ : أحدُها : أنه متعلقٌ ب " يملك " ، وذلك على الإِعرابين الأوَّلَيْنِ في نصبِ " شيئاً " . الثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل " رزقاً " . الثالث : أن يتعلَّقَ بنفس " رِزْقاً " إن جعلناه مصدراً . وقال ابن عطية : - بعد أن ذكر إعمالَ المصدرِ منوَّناً - " والمصدرُ يعمل مضافاً باتفاق؛ لأنه في تقديرِ الانفصالِ ، ولا يَعْمَل إذ دخله الألفُ واللام؛ لأنه قد تَوَغَّلَ في حالِ الأسماءِ ، وبَعُد عن الفعليَّة ، وتقدير الانفصالِ في الإِضافةِ حَسَّنَ عملَه ، وقد جاء عاملاً مع الألف واللام في قول الشَّاعر :
3005- ضعيفُ النكايةِ أعداءَه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[ وقوله ] :
3006- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فلم أَنْكِلْ عن الضَرْبِ مِسْمَعا
قال الشيخ : " أمَّا قولُه " باتفاق " : إن عَنَى من البصريين فصحيحُ ، وإن عَنَى مِنَ النحويين فليس بصحيح؛ إذ قد ذهب بعضُهم إلى أنه لا يعمل . فإن وُجِد بعده منصوبٌ أو مرفوعٌ قَدَّر له عاملاً . وأمَّا قولُه " في تقدير الانفصال " فليس كذلك؛ لئلا تكون إضافتُه غيرَ محضةٍ ، كما قال به ابن الطراوة وابن بَرْهان . ومذهبُهما فاسدٌ؛ لأنَّ هذا المصدرَ قد نُعِتَ وأُكِّد بالمعرفة . وقوله " لا يعمل " إلى آخره ناقَضَه بقولِه " وقد جاء عاملاً " إلى آخرِه .
قلت : فغايةُ ما في هذا أنه نحا إلى أقوالٍ قال بها غيرُه . وأمَّا المناقضةُ فليست صحيحةً؛ لأنه عَنَى أولاً أنه لا يَعْمل في السِّعَة ، وثانياً أنه قد جاء عاملاً في الضرورة ، ولذلك قيَّده فقال : " في قول الشاعر " .
قوله : { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } يجوز في الجملة وجهان : العطفُ على صلةِ " ما " ، والإِخبارُ عنهم بنفيِ الاستطاعةِ على سبيلِ الاستئنافِ ، ويكون قد جَمَع الضميرَ العائدَ على " ما " باعتبارِ معناها؛ إذ المرادُ بذلك آلهتُهم ، ويجوز أن يكونَ الضميرُ عائداً على العابدين .
(1/2877)

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
قوله تعالى : { وَمَن رَّزَقْنَاهُ } : يجوزُ في " مَنْ " هذه أن تكونَ موصولةً ، وأن تكونَ موصوفةً . واختاره الزمخشري قال : " كأنه قيل : وحُرَّاً رَزَقْناه ، ليطابِقَ عَبْداً " . ومحلُّها النصبُ عطفاً على " عبداً " . وقد تقدَّم الكلامُ في المَثَلِ الواقعِ بعد " ضَرَبَ " .
قوله : { سِرّاً وَجَهْراً } يجوز أن يكونَ منصوباً على المصدر ، أي : إنفاقَ سِرٍّ وجَهْر ، ويجوز أن يكونَ حالاً .
قوله : { هَلْ يَسْتَوُونَ } إنما جُمِعَ الضميرُ وإن تَقَدَّمَه اثنان؛ لأنَّ المرادَ جنسُ العبيدِ والأحرارِ المدلولِ عليهما بعبد وبمَنْ رَزَقْنَاه . وقيل : على الأغنياءِ والفقراءِ المدلولِ عليهما بهما أيضاً . وقيل : اعتباراً بمعنى " مَنْ " فإنَّ معناها جمعٌ ، راعى معناها بعد ان راعَى لفظَها .
قوله : { وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 74 ] حُذِفَ مفعولُ العِلْمِ اختصاراً أو اقتصاراً .
(1/2878)

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
والكَلُّ : الثقيل ، والكَلُّ : العِيال ، والجمع : كُلُول . والكَلُّ : مَنْ لا وَلَدَ له ولا والدَ ، والكَلُّ أيضاً : اليتيم ، سُمِّي بذلك لثِّقْلِه على كافِلِه . قال الشاعر :
3007- أَكُولٌ لِمالِ الكَلِّ قبل شبابِه ... إذا كان عَظْمُ الكَلِّ غيرَ شديدِ
قوله : { أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ } شرطٌ وجزاؤُه . وقرأ ابنُ مسعودٍ وابن وثاب وعلقمةُ " يُوَجِّهْ " بهاءٍ ساكنة للجزم . وفي فاعلِه وجهان ، أحدُهما : أنه ضميرُ الباري تعالى ، ومفعولُه محذوفٌ ، تقديرُه كقراءةِ العامة . والثاني : أنه ضميرُ الأبكم ، ويكون " يُوَجِّه " لازماً بمعنى تَوَجَّه ، يقال : وَجَّه وتَوَجَّه بمعنى .
وقرأ علقمةُ أيضاً وطلحةُ كذلك ، إلا أنه بضم الهاء ، وفيها أوجهُ ، أحدها : أنَّ " أينما " ليست هنا شرطيةً و " يُوَجِّهُ " خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : أينما هو يُوَجِّهُ ، أي : الله تعالى ، والمفعولُ محذوفٌ/ أيضاً ، وحُذِفَتْ الياءُ مِنْ { لاَ يَأْتِ } تخفيفاً ، كما حُذِفَتْ في قولِه { يَوْمَ يَأْتِ } [ هود : 106 ] و { إِذَا يَسْرِ } [ الفجر : 4 ] . ورُدَّ هذا بأن " أينما " إما شرط أو استفهام فقط ، والاستفهام هنا غير لائق . والثاني أنَّ لامَ الكلمةِ حُذِفَتْ تخفيفاً لأجلِ التضعيفِ ، وهذه الهاءُ هي هاءُ الضمير فلم يُحِلَّها جزم . ذكر هذين الوجهين أبو الفضل الرازي .
الثالث : أن " أينما " أُهْمِلَتْ حَمْلاً على " إذا " لما بينهما من الأُخُوَّة في الشرط ، كما حُمِلَتْ " إذا " عليها في الجزم في نفسِ المواضع ، وحُذِفت الياءُ مِنْ " يَأْتِ " تخفيفاً أو جزماً على التوهم ، ويكون " يُوَجِّهُ " لازماً بمعنى يَتَوَجَّه كما تقدَّم .
[ وقرأ عبدُ الله أيضاً ] . وقال أبو حاتم - وقد حكى هذه القراءة - " هذه ضعيفةٌ؛ لأنَّ الجزمَ لازمٌ " وكأنه لم يعرف توجيههَا .
وقرأ علقمةُ وطلحةُ " يُوَجَّهْ " بهاءٍ واحدة ساكنةٍ للجزم والفعلُ مبنيٌّ للمفعولِ ، وهي واضحةٌ .
وقرأ ابن مسعود أيضاً " تُوَجِّهْه " كالعامَّةِ ، إلا أنه بتاء الخطاب وفيه التفاتٌ .
وفي الكلام حَذْفٌ ، وهو حَذْفُ المقابلِ لقوله { أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ } كأنه قيل : والآخرُ ناطِقٌ متصرفٌ في مالِه ، وهو خفيفٌ على مولاه ، أينما يُوَجِّهْهُ يأتِ بخيرٍ . ودَلَّ على ذلك قولُه : { هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل } .
ونَقَلَ أبو البقاء أنه قُرِئ " أينما تَوَجَّهَ " فعلاً ماضياً ، فاعلُه ضميرُ الأبكم .
وقوله : { وَمَن يَأْمُرُ } الراجحُ أَنْ يكونَ مرفوعاً عطفاً على الضميرِ المرفوعِ في " يَسْتوي " ، وسَوَّغَه الفصلُ بالضمير . والنصبُ على المعيَّة مرجوحٌ . { وَهُوَ على صِرَاطٍ } الجملةُ : إمَّا إستئنافٌ أو حالٌ .
(1/2879)

وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77)
قوله تعالى : { أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } : أي : أو أَمْرٌ ، فالضميرُ للأمر ، والتقدير : أو أمرُ الساعةِ أقربُ من لَمْحِ البصر .
(1/2880)

وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)
قوله تعالى : { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً } : الجملةُ حالٌ مِنْ مفعول " أَخْرجكم " ، أي : أخرجكم غيرَ عالِمين . و " شيئاً " إمَّا مصدرٌ ، أي : شيئاً من العلم ، وإمَّا مفعولٌ به . والعِلْمُ هنا العِرْفان . وقد تقدَّم الكلامُ في " أمَّهاتكم " في النساء .
قوله : " وَجَعَلَ " يجوز أن يكونَ معطوفاً على " أَخْرجكم " فيكونَ داخلاً فيما أَخْبر به عن المبتدأ ، ويجوز أن يكونَ مستأنفاً .
والأَفْئِدَةُ : جمعُ " فؤاد " وقد تقدَّم . وقال الرازي : " إنما جُمِعَ جَمْعَ قِلَّة؛ لأنَّ أكثرَ الناسِ مشغولون بأفعالٍ بهيمية فكأنهم لا فؤادَ لهم " . وقال الزمخشري : " إنه من الجموع التي استُعْمِلت للقلة والكثرة ، ولم يُسمع فيها غيرُ القلة ، نحو : " شُسُوع " فإنها للكثرة ، ويستعمل في القِلة ، ولم يُسْمَع غيرُ شُسُوع " . كذا قال ، وفيه نظر . سُمِع منهم " أَشْسَاع " فكان ينبغي أن يقول : غَلَبَ شُسُوع .
(1/2881)

أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
قوله تعالى : { مَا يُمْسِكُهُنَّ } : يجوز أن تكون الجملةُ حالاً من الضمير المستتر في " مُسَخَّراتٍ " ، ويجوز ان تكونَ من " الطير " ، ويجوز أن تكونَ مستأنفةً .
(1/2882)

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80)
قوله تعالى : { سَكَناً } : يجوز أن يكونَ مفعولاً اولَ ، على أنَّ الجَعْلَ تصييرٌ ، والمفعولُ الثاني أحدُ الجارَّيْنِ قبله . ويجوز أن يكونَ الجَعْلُ بمعنى الخَلْقِ فيتعدَّى لواحدٍ . وإنما وَحَّد السَّكن لأنه بمعنى ما تَسْكُنُون فيه ، قاله أبو البقاء : وقد يُقال : إنه في الأصل مصدرٌ ، وإليه ذهب ابن عطية فتوحيدُه واضحٌ . إلا أنَّ الشيخ منه كونَه مصدراً ، ولم يذكر وَجْهَ المنعِ ، وكأنه اعتمد على قولِ أهل اللغة أن " السَّكَن " فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبْضِ والنَّقَض بمعنى المقبوض والمنقوض ، وأنشد الفراء :
3008- جاء الشتاءُ ولَمَّا أتخِذْ سَكَناً ... يا ويحَ نفسي مِنْ حَفْرِ القراميصِ
قوله : { يَوْمَ ظَعْنِكُمْ } قرأ نافعٌ وابن كثير وأبو عمرو بفتح العين؛ والباقون بإسكانها ، وهما لغتان بمعنىً كالنَّهْر والنَّهَر . وزعم بعضُهم أن الأصلَ الفتحُ ، والسكونُ تخفيفٌ لأجلِ حرفِ الحلق كالشَّعْر في الشعَر .
قوله : { أَثَاثاً } فيه وجهان ، أحدهما : أنه منصوبٌ عطفاً على " بُيوتاً " ، أي " وَجَعَلَ لكم من أصوافِها أثاثاً ، وعلى هذا فيكونُ قد عطف مجروراً على مجرور ومنصوباً على منصوبٍ ، ولا فَصْلَ هنا بين حرفِ العطفِ والمعطوف حينئذٍ . وقال أبو البقاء : " وقد فُصِلَ بينه وبين حرفِ العطفِ بالجارِّ والمجرور وهو قولُه { وَمِنْ أَصْوَافِهَا } ، وهو ليس بفصلٍ مستقبَحٍ كما زعم في " الإِيضاح "؛ لأنَّ الجارَّ والمجرورَ مفعول ، وتقديمُ / مفعولٍ على مفعولٍ قياسٌ " . وفيه نظرٌ؛ لِما عَرَفْتَ من أنه عَطْفُ مجرورٍ على مثلِه ومنصوبٍ على مثله .
والثاني : أنه منصوبٌ على الحالِ ، ويكون قد عَطَفَ مجروراً على مثلِه ، تقديرُه : وجَعَل لكم مِنْ جلودِ الأنعام ومِنْ أصوافِها وأوبارِها وأشعارِها بيوتاً حالَ كونِها أثاثاً ، فَفَصَل بالمفعول بين المتعاطفين . وليس المعنى على هذا ، إنما هو على الأول .
وقوله : { كَلَمْحِ البصر } [ النحل : 77 ] : اللَّمْحُ مصدرُ لَمَحَ يَلْمَح لَمْحاً ولَمَحاناً ، أي : أَبْصَرَ بسرعة . وقيل : أصلُه من لَمْحِ البرق ، وقولهم " لأُرِيَنَّك لَمْحاً باصراً " ، أي : أمراً واضحاً .
وقوله : { فِي جَوِّ السمآء } [ النحل : 79 ] : الجَوُّ : الهواء ، وهو ما بين السماءِ والأرض . قال :
3009- فلستَ لإِنْسيٍّ ولكن لِمَلأَكٍ ... تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السماء يَصُوبُ
وقيل : الجَوُّ ما يلي الأرضَ في سَمْتِ العُلُوِّ ، واللُّوح والسُّكاك أبعدُ منه .
وقوله : " ظَعْنِكم " مصدرُ ظَعَن ، أي : ارْتَحَلَ ، والظَّعِيْنَةُ الهَوْدَجُ فيه المرأةُ ، وإلا فهو مَحْمَلٌ ، ثم كَثُر حتى قيل للمرأة ، ظَعينة .
وقال أهل اللغة : الأصوافُ للضَّأْن ، والأَوْبار للإِبِل ، والشَّعْر للمَعِز . والأَثاث : مَتاعُ البيت إذا كان كثيراً . وأصلُه مِنْ أثَّ الشعرُ والنَّباتُ إذا كَثُفا وتكاثرا . قال امرؤ القيس :
3010- وفَرْعٍ يُغْشَي المَتْنَ أسودَ فاحمٍ ... أثيثٍِ كقِنْوِ النخلةِ المُتَعَثْكِلِ
ونساء أَثائِثُ ، أي : كثيراتُ اللحمِ ، كأنَّ عليهن أَثاثاً ، وتَأَثَّث فلانٌ : كَثُر أثاثُه . وقال الزمخشري : " الأثاث ما جَدَّ مِنْ فَرْشِ البيت ، والخُرْثِيُّ : ما قَدُم منها " ، وأنشد :
(1/2883)

3011- تقادَم العهدُ مِنْ أُمِّ الوليد بنا ... دَهْراً وصار أثاثُ البيتِ خُرْثِيَّا
وهل له واحدٌ من لفظه؟ فقال الفراء : لا . وقال أبو زيد : " واحدة : أَثاثَةٌ ، وجمعُه في القلَّة " أثِثَّة ، كبَتات وأَبِتَّة " . قال الشيخ : " وفي الكثير على " أَثَثٍ " . وفيه نظر؛ لأنَّ فَعالاً المُضَعَّف يلزمُ جَمْعُه على أَفْعِلَة في القلة والكثرة ، ولا يُجْمع على فُعُل إلا في لفظتين شَذَّتا ، وهما : عُنُن وحُجُج جمع عِنان وحِجاج ، وقد نصَّ النحاة على مَنْع القياس عليهما ، فلا يجوز : زِمام وزُمُم بل أَزِمَّة . وقال الخليل : " الأَثَاثُ والمَتاع واحدٌ ، وجُمِع بينهما لاختلافِ لَفْظَيْهما كقوله :
3012- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأَلْفَى قولَها كَذِباً ومَيْنا
[ وقوله ] :
3013- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . أتى مِنْ دونِها النَّأْيُ والبُعْدُ
(1/2884)

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)
قوله تعالى : { أَكْنَاناً } : جمع " كِنّ " وهو ما حَفِظ مِن الريح والمطرِ ، وهو في الجبل : الغار .
قوله : { تَقِيكُمُ الحر } قيل : حُذِف المعطوفُ لفَهْمِ المعنى ، أي : والبردَ كقوله :
3014- كأنَّ الحصى مِنْ خلفِها وأمامِها ... إذا نَجَلَتْه رِجْلُها حَذْفُ أَعْسرا
أي : ويدُها ، وقيل : لا حاجةَ إلى ذلك لأنَّ بلادَهم حارَّة . وقال الزجاج : " اقتصر على ذِكْر الحرِّ؛ لأنَّ ما يقيه يَقي البردَ " . وفيه نظرٌ للاحتياجِ إلى زيادةٍ كثيرةٍ لوقاية البرد .
قوله : { كَذَلِكَ يُتِمُّ } أي : مِثْلَ ذلك الإِتمامِ السابقِ يُتِمُّ نعمتَه عليكم في المستقبل . وقرأ ابن عباس : " تَتِمُّ " بفتح التاءِ الأولى ، " نِعْمَتُه " بالرفع على الفاعلية . وقرأ أيضاً " نِعَمه " جمع " نعمة " مضافةً لضميرِ الله تعالى . وعنه : { لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } بفتح التاءِ واللامِ مضارع " سَلِم " من السَّلامة ، وهو مناسبٌ لقولِه { تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } ؛ فإنَّ المرادَ به الدُّروعُ الملبوسةُ في الحرب .
(1/2885)

فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82)
قوله تعالى : { فَإِن تَوَلَّوْاْ } يجوز أن يكونَ ماضياً ، ويكون التفاتاً مِن الخطاب المتقدَّم ، وأن يكونَ مضارعاً ، والأصل : تَتَوَلَّوا بتاءَيْن فحذف نحو : { تَنَزَّلُ } [ القدر : 4 ] و { تَذَكَّرُونَ } [ الأنعام : 152 ] ، ولا التفاتَ على هذا بل هو جارٍ على الخطابِ السابق .
قوله : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } هو جوابُ الشرط ، وفي الحقيقة جوابُ الشرطِ محذوفٌ ، أي : فأنتَ معذورٌ ، وإنما ذلك على إقامةِ السببِ مُقامَ المسبب؛ وذلك لأنَّ تبليغَه سببٌ في عُذْرِه ، فَأُقيم السببُ مُقامَ المُسَبَّب .
(1/2886)

يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
قوله تعالى : { ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } : جِيْءَ ب " ثُمَّ " هنا للدلالةِ على أنَّ إنكارَهم أمرٌ مستبعدٌ بعد حصولِ المعرفة؛ لأنَّ مَنْ عَرَفَ النعمة حَقُّه أن يَعْتَرِفَ لا أَنْ يُنْكِرَ .
(1/2887)

وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84)
قوله تعالى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوبٌ بإضمارِ اذكر . الثاني : بإضمارِ " خَوِّفْهم " . الثالث : تقديره : ويوم نَبْعَثُُ وقعوا في أمرٍ عظيم . الرابع : أنه معطوفٌ على ظرفٍ محذوف ، أي : ينكرونها اليومَ ويوم نَبْعَثُ .
/قوله : { ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ } قال الزمخشري : " فإن قلتَ : ما معنى " ثم " هذه؟ قلت : معناه أنهم يُمَنَّوْن بعد شهادةِ الأنبياء بما هو أَطَمُّ منه ، وهو أنهم يُمْنَعُون الكلام ، فلا يُؤْذَنُ لهم في إلقاءِ مَعْذرةٍ ولا إدلاءٍ بحجةٍ " . انتهى . ومفعولُ الإِذنِ محذوفٌ ، أي : لا يُؤْذَنُ لهم في الكلامِ ، كما قاله الزمخشري ، أو : في الرجوعِ إلى الدنيا .
قوله : { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } أي : لا تُزال عُتْباهم ، وهي ما يُعْتَبُون عليها ويُلامون . يقال : اسْتَعْتَبْتُ فلاناً بمعنى أَعْتَبْتُه ، أي : أزلت عُتْباه ، واستفعل بمعنى أَفْعل غيرُ مُسْتَنْكَرٍ . قالوا : اسْتَدْنَيْتُ فلاناً ، وأَدْنَيْتُه ، بمعنىً واحد . وقيل : السين على بابها من الطلب ، ومعناه : أنهم لا يُسْأَلون أن يَرْجِعُوا عَمَّا كانوا عليه في الدنيا ، فهذا استعتابٌ معناه طَلَبُ عُتْباهم . وقال الزمخشري : " ولا هم يُسْتَرْضَوْن أي : لا يُقال لهم : أَرْضُوا ربَّكم؛ لأن الآخرةَ ليست بدارِ عملٍ " . وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ إن شاء الله في سورة حم السجدة؛ لأنه أَلْيَقُ به لاختلافِ القرَّاء فيه .
(1/2888)

وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)
قوله تعالى : { فَلاَ يُخَفَّفُ } : هذه الفاءُ وما في حيِّزِها جوابُ " إذا " ولا بُدَّ من إضمارِ مبتدأ قبلَ هذه الفاءِ ، أي : فهو لا يُخَفَّفُ ، لأنَّ جوابَ " إذا " متى كان مضارعاً لم يَحْتَجْ إلى فاءٍ سواءً كان موجَباً كقولِه تعالى : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ } [ الحج : 72 ] أم منفيَّاً نحو : " إذا جاء زيدٌ لا يكرُمك " .
(1/2889)

وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87)
قوله تعالى : { السلم } : العامَّةُ على فتحِ السين واللام وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ بسكونِ اللامِ . ومجاهدٌ بضم السين واللام . وكأنه جمع " سَلام " نحو قَذَال وقُذُل ، والسَّلام والسَّلَم واحدٌ ، وقد تقدَّم الكلامُ عليهما في سورة النساء .
(1/2890)

الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
قوله تعالى : { الذين كَفَرُواْ } : يجوز أن يكونَ مبتدأً ، والخبرُ " زِدْناهم " وهو واضحٌ . وجوَّز ابنُ عطية أن يكونَ { الذين كَفَرُواْ } بدلاً مِنْ فاعلِ " يَفْتَرُوْن " ، ويكون " زِدْناهم " مستأنفاً . ويجوز أن يكونَ { الذين كَفَرُواْ } نصباً على الذمِّ أو رفعاً عليه ، فَيُضْمَرُ الناصبُ والمبتدأُ وجوباً .
(1/2891)

وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
قوله تعالى : { تِبْيَاناً } : يجوز أن يكونَ في موضعِ الحال ، ويجوز أن يكونَ مفعولاً مِنْ أجله وهو مصدرٌ ، ولم يَجِيءْ من المصادرِ على هذه الزِّنَةِ إلا لفظان : هذا وتِلْقاء ، وفي الأسماء كثيرٌ نحو : التِّمْساح والتِّمْثال . وأمَّا المصادرُ فقياسُها فتحُ الأولِ دلالةً على التكثير كالتِّطواف والتِّجْوال . وقال ابن عطية : " إن التِّبْيان اسمٌ وليس بمصدرٍ " ، والنَّحْويون على خلافِه .
قوله : " للمُسْلمين " متعلقٌ ب " بُشْرَى " وهو متعلقٌ من حيث المعنى ب { وَهُدًى وَرَحْمَةً } أيضا . وفي جوازِ كونِ هذا من التنازعِ نظرٌ من حيث لزومُ الفصلِ بين المصدرِ معمولِه بالمعطوفِ حالَ إعمالِك غيرَ الثالِث فتأمَّله . وقياسُ مَنْ جَوَّز التنازعَ في فعلِ التعحبِ والتزم إعمال الثاني لئلا يَلْزَمَ الفصلُ أن يُجَوِّز هذا على هذه الحالةِ .
(1/2892)

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
قوله تعالى : { وَإِيتَآءِ ذِي القربى } : مصدرٌ مضافٌ لمفعوله ولم يَذْكر متعلِّقاتِ العدلِ والإِحسانِ والبَغْي لِيَعُمَّ جميعَ ما يُعْدَلُ فيه ، ويُحْسَنُ به إليه ، ويُبغى فيه؛ فلذلك لم يذكُرِ المفعولَ الثاني للإِيتاء ، ونَصَّ على الأول حَضَّاً عليه لإِدلائه بالقرابة ، فإنَّ إيتاءَه صدقَةٌ وصِلَةٌ .
قوله : " يَعِظُكم " يجوز ان يكونَ مستأنفاً في قوة التعليل للأمرِ بما تقدَّم ، أي : إنَّ الوعظَ سببٌ في أمره لكم بذلك . وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ حالاً من الضمير في " يَنْهَى " ، وفي تخصيصِه الحالَ بهذا العاملِ فقط نظرٌ؛ إذ يظهرُ جَعْلُه حالاً مِنْ فاعل " يأمرُ " أيضاً ، بل أَوْلى؛ فإن الوعظ يكونُ بالأوامر والنواهي ، فلا خصوصيةَ له بالنهي .
(1/2893)

وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91)
قوله تعالى : { بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } : متعلقٌ بفعل النهي . والتوكيدُ مصدرُ وَكَّدُ يُوَكِّدُ بالواو ، وفيه لغةٌ أخرى : أَكَّد يُؤَكِّد بالهمز ، وهذا كقولِهم : وَرَّخْتُ الكتابَ وأرَّخْتُه ، وليست الهمزة بدلاً من واوٍ كما زعم أبو إسحق؛ لأنَّ الاستعمالين في المادتين متساويان ، فليس ادِّعاءُ كونِ أحدهما أصلاً أَوْلَى من الآخر .
وتبع مكيٌّ الزجاجَ في ذلك ثم قال : " ولا يَحْسُن أَنْ يقال : الواوُ بدلٌ من الهمزة ، كما لا يَحْسُنُ أن يقالَ ذلك في " أَحَد "؛ إذ أصلُه " وَحَد " ، فالهمزةُ بدل من الواو " . يعني أنه لا قائلَ بالعكس ، وكذلك تَبِعه في ذلك الزمخشري أيضاً . و " تَوْكِيدها " مصدرٌ/ مضافٌ لمفعوله .
وأدغم أبو عمروٍ الدالَ في التاء ، ولا ثانيَ له في القرآنِ ، أعني أنه لم تُدْغَمْ دالٌ مفتوحةٌ بعد ساكنٍ إلا في هذا الحرفِ .
قوله : { وَقَدْ جَعَلْتُمُ } الجملةُ حالٌ : إمَّا مِنْ فاعلِ " تَنْقُضوا " ، وأما من فاعلِ المصدرِ ، وإن كان محذوفاً .
(1/2894)

وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
قوله تعالى : { أَنكَاثاً } : يجوز فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه حالٌ مِنْ " غَزْلها " . والأَنْكاث : جمعُ نِكْث بمعنى مَنْكوث ، أي : منقوضٌ . والثاني : أنه مفعولٌ ثانٍ لتضمين " نَقَضَتْ " معنى " صَيَّرَتْ " . وجَوَّز الزجاجُ فيه وجهاً ثالثاً وهو : النصبُ على المصدرية؛ لأنَّ معنى نَقَضَتْ : نَكَثَتْ ، فهو مُلاقٍ لعاملِه في المعنى .
قوله : " تَتَّخذون " يجوز أن تكونَ الجملةُ حالاً من واو " تكونوا " أو من الضمير المستتر في الجارِّ ، إذ المعنى : لا تكونوا مُشْبهين كذا حالَ كونِكم متَّخذين .
قوله : { دَخَلاً بَيْنَكُمْ } هو المفعولُ الثاني ل " تَتَّخذون " . والدَّخَل : الفسادُ والدَّغَلُ . وقيل : " دَخَلاً " : مفعولٌ من أجله . وقيل : الدَّخَل : الداخلُ في الشيءِ ليس منه .
قوله : { أَن تَكُونَ } ، أي : بسبب أَنْ تكونَ ، أو مخافةَ أَنْ تكونَ . و " تكون " يجوزُ أَنْ تكونَ تامةً ، فتكون " أمَّةٌ " فاعلَها ، وأن تكونَ ناقصةً ، فتكون " أمَّةٌ " اسمَها ، و " هي " مبتدأ ، وأَرْبَى " خبرُه . والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال ، على الوجه الأول ، وفي موضعِ الخبرِ على الثاني . وجوَّز الموفيون أن تكونَ " أُمَّةٌ " اسمَها ، و " هي " عمادٌ ، أي : ضميرُ فَصْلٍ ، و " أربَى " خبرُ " تكون " ، والبصريون لا يُجيزون ذلك لأجل تنكيرِ الاسمِ ، فلو كان الاسمُ معرفةً لجاز ذلك عندهم .
قوله : " به " يجوز أن يعودَ الضميرُ على المصدر المنسبك مِنْ { أَن تَكُونَ } تقديره : إنما يَبْلُوكم الله بكونِ أُمَّة ، أي : يختبركم بذلك . وقيل : يعودُ على " الربا " المدلولِ عليه بقولِه { هِيَ أَرْبَى } وقيل : على الكثرة ، لأنها في معنى الكثير . قال ابن الأنباري : " لَمَّا كان تأنيثُها غيرَ حقيقي حُمِلَتْ على معنى التذكير ، كما حُمِلت الصيحةُ على الصِّياح " ولم يتقدمْ للكثرةِ لفظٌ ، وإنما هي مدلولٌ عليها بالمعنى مِنْ قوله { هِيَ أَرْبَى } .
(1/2895)

وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)
قوله تعالى : { فَتَزِلَّ } : منصوبٌ بإضمار " أَنْ " على جوابِ النهي .
قوله : { بِمَا صَدَدتُّمْ } : " ما " مصدريةٌ ، و " صَدَدْتُمْ " يجوز أن يكونَ من الصُّدود ، وأن يكونَ مِن الصَدِّ ، ومفعولُه محذوفٌ . ونُكِّرت " قَدَمٌ " : قال الزمخشري : " فإن قلت : لِمَ وُحِّدَتِ القَدَمُ ونُكِّرَتْ؟ قلت : لاستعظامِ أن تَزِلَّ قدمٌ واحدةٌ عن طريقِ الحق بعد أن ثَبَتَتْ عليه فكيف بأقدامٍ كثيرة "؟ .
قال الشيخ : " الجمع تارةً يُلْحَظُ فيه المجموعُ من حيث هو مجموعٌ ، وتارةً يُلحظ فيه كلُّ فردٍ فردٍ . فإذا لُوْحظ فيه المجموعُ كان الإِسنادُ معتبراً فيه الجمعيَّةُ ، وإذا لُوْحظ فيه كلُّ فردٍ فردٍ كان الإِسناد مطابقاً للفظِ الجمع كثيراً ، فيُجْمع ما أُسند إليه ، ومطابقاً لكلِّ فردٍ فردٍ فيُفْرد ، كقوله تعالى : { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ } لمَّا كان لُوْحِظ في قوله " لهنَّ " معنى لكلِّ واحدة ، ولو جاء مُراداً به الجمعيةُ أو الكثيرُ في الوجهِ الثاني لجُمِع المتكأ ، وعلى هذا المعنى يُحمل قول الشاعر :
3015- فإني وَجَدْتُ الضَّامِرينَ متاعُهمْ ... يَمُوْتُ ويَفْنَى فارْضِخِي مِنْ وعائيا
أي : رأيتُ كلَّ ضامرٍ؛ ولذلك أَفْرَدَ الضميرَ في " يموتُ ويَفْنى " ولمَّا كان المعنى : لا يَتَّخِذُ كلُّ واحدٍ منكم جاء " فَتَزِلَّ قَدَمٌ " ، مراعاةً لهذا المعنى ، ثم قال : وتَذُوقْوا ، مراعاةً للمجموع [ أو ] لِلَفْظِ الجمع على الوجهِ الكثيرِ إذا قلنا : إن الإِسنادَ لكل فردٍ فرد ، فتكون الآية قد تعرَّضتْ للنهي عن اتخاذ الأَيْمَانِ دَخَلاً باعتبار المجموعِ ، وباعتبارِ كل فردٍ فرد ، ودَلَّ على ذلك بإفراد " قَدَم " وبجَمْعِ الضمير في " وتَذُوْقوا " .
قلت : وبهذا التقديرِ الذي ذكره الشيخ يفوتُ المعنى الجَزْلُ الذي اقتنصَه أبو القاسم مِنْ تنكير " قَدَم " وإفرادها . وأمَّا البيتُ المذكورُ فإنَّ النَّحْويين خَرَّجوه على أن المعنى : يموت مَنْ ثُمَّ ، ومَنْ ذُكِرَ ، فأفرد الضميرَ لذلك لما لا لِما ذكر .
(1/2896)

مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
قوله تعالى : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ } : مبتدأ وخبر . والنَّفَادُ : الفناءُ والذِّهابُ يقال : نَفِذ بكسر العين يَنْفَذُ بفتحها نَفَاذاً ونُفُوذاً . وأمَّا " نَفَذَ " بالذالِ المعجمة فَفِعْلُه نَفذَ بالفتح يَنْفُذُ بالضم ، وسيأتي . ويُقال : أَنْفَد القومُ . فَنِي زادُهم ، وخَصْمٌ مُنافِدٌ ، لِيَنْفِد حجةَ صاحبِه ، يقال : نافَدْتُه فَنَفِدْتُه .
وقوله " باقٍ " قد تقدَّم الكلامُ في الوقف عليه في الرعد .
قوله : { وَلَنَجْزِيَنَّ الذين } قرأ ابن كثير وعاصم وابن ذكوان { وَلَنَجْزِيَنَّ } بنونِ العظمة ، التفاتاً من الغَيْبة إلى التكلم . وتقدَّم تقريرُ الالتفاتِ . والباقون بياء الغَيْبة رجوعاً إلى الهِ لتقدُّم ذكرِه العزيز في قولِه تعالى / { وَمَا عِندَ الله بَاقٍ } .
وقوله : { بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ } يجوز أن تكونَ أَفْعَل على بابِها من التفضيل ، وإذا جازاهم بالأحسنِ فَلأَنْ يُجازِيَهم بالحَسَن من باب الأَوْلَى . وقيل : ليسَتْ للتفضيلِ ، وكأنهم فَرُّوا مِنْ مفهومِ أفْعل؛ إذ لا يلزم من المجازاةِ بالأحسنِ المجازاةُ بالحَسَن . وهو وَهْمٌ لما تقدَّم مِنْ أنه مِنْ مفهوم الموافقة بطريق الأَوْلى .
(1/2897)

مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
قوله تعالى : { مِّن ذَكَرٍ } : " مِنْ " للبيان فتتعلقُ بمحذوفٍ ، أي : أَعْنِي مِنْ ذَكَر . ويجوزُ أن يكونَ حالاً مِنْ فاعل " عَمِل " .
قوله : { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } جملةٌ حاليةٌ أيضاً .
قوله : { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ } راعى معنى " مَنْ " فَجَمع الضميرَ بعد أن راعَى لفظَهَا فَأَفْرَدَ في " فَلَنُحْيِيَنَّهُ " وما قبله ، وقرأ العامَّةُ " وَلَجْزِيَنَّهم " بنونِ العظمةِ مراعاةً لِما قبله . وقرأ ابنُ عامر في روايةٍ بياء الغيبة ، وهذا ينبغي أن يكونَ على إضمارِ قَسَمٍ ثانٍ ، فيكونَ من عطفِ جملةٍ قَسَميةٍ على قَسَمِيةٍ مثلِها ، حُذفتا وبقي جواباها .
ولا جائزٌ أن يكونَ مِنْ عطفِ جوابٍ على جواب لإِفضائِه إلى أخبارِ المتكلم عن نفسِه بإخبار الغائب ، وهو لا يجوزُ . لو قلت : " زيد قال : واللهِ لأَضْرِبَنَّ هنداً ولَينفينَّها " تريد : ولَينفينَّها زيدٌ ، لم يَجُزْ . فإن أَضْمَرْت قسماً آخرَ جاز ، أي : وقال : واللهِ لينفينَّها؛ لأنَّ لك في مثلِ هذا التركيبِ أن تحكيَ لفظه ، ومنه { وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى } [ التوبة : 107 ] وأن تحكيَ معناه ، ومنه { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ } [ التوبة : 74 ] ولو جاء على اللفظ لقيل : ما قلنا .
(1/2898)

فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)
قوله تعالى : { فَإِذَا قَرَأْتَ } أي : فإذا أَرَدْتَ ، فأضمرتَ الإِرادةَ . قال الزمخشري : " لأنَّ الفعلَ يوجد عند القصدِ والإِرادةِ من غير فاصلٍ وعلى حسبِه ، فكان منه بسببٍ قوي وملابسةٍ ظاهرة " . وقال ابن عطية : " ف " إذا " وَصْلةٌ بين الكلامين ، والعربُ تستعملها في مثل هذا ، وتقدير الآية : فإذا أَخَذْتَ في قراءةِ القرآن فاسْتَعِذْ " . قلت : وهذا هو مذهبُ الجمهورِ من القُرَّاء والعلماء ، وقد أخذ بظاهرِ الآية ، فاستعاذ بعد أن قرأ ، من الصحابة أبو هريرة ، ومن الأئمة مالك وابن سيرين ، ومن القرَّاء حمزة .
(1/2899)

إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
قوله تعالى : { بِهِ مُشْرِكُونَ } : يجوز أن يعودَ الضميرُ على الشيطانِ ، وهو الظاهرُ؛ لتتحدَ الضمائرُ . والمعنى : والذين هم مشركون بسببه . وقيل : والذين هم بإشراكهم إبليس مشركون باللهِ . ويجوز أن يعودَ على " ربهم " .
(1/2900)

وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
قوله تعالى : { والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ } : في هذه الجملةِ وجهان ، أظهرهما : أنها اعتراضيةٌ بين الشرطِ وجوابه . والثاني : أنها حاليةٌ ، وليس بظاهرٍ . وقوله : { إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ } نسبوا إليه صلى الله عليه وسلم الافتراءَ بأنواعٍ من المبالغات : الحصرِ والخطابِ واسمِ الفاعل الدالِّ على الثبوتِ والاستقرار . ومفعول " لا يَعْلمون " محذوفٌ للعلمِ به ، أي : لا يعلمون أنَّ في نَسْخِ الشرائعِ وبعضِ القرآنِ حِكَماً بالغة .
(1/2901)

قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
قوله تعالى : { لِيُثَبِّتَ } : متعلقٌ ب " نَزَّله " . و " هدى وبشرى " يجوز أَنْ يكونا عطفاً على محلِّ " ليُثَبِّتَ " فيُنْصبان ، أو على لفظِه باعتبارِ المصدرِ المُؤَوَّل فَيُجَرَّان . وقد تقدَّم كلامُ الزمخشريِّ في نظيرِهما ، وما رَدَّ به الشيخُ ، وما رُدَّ به عليه . وجوَّز أبو البقاء ارتفاعَهما خَبَرَيْ مبتدأ محذوفٍ ، أي : وهو هُدَىً ، والجملةُ حالٌ .
وقرئ " لِيُثْبِتَ " مخففاً مِنْ أَثْبتَ .
(1/2902)

وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
قوله تعالى : { لِّسَانُ الذي } : العامَّة على إضافة " لسان " إلى ما بعدَه . واللِّسانُ : اللغة . وقرأ الحسن " اللسان " معرَّفاً بأل ، و " الذي " نعتٌ له . وفي هذه الجملة وجهان ، أحدُهما : لا محلَّ لها لاستئنافِها ، قاله الزمخشري . والثاني : أنها حالٌ مِنْ فاعل " يقولون " ، أي : يقولون ذلك والحالُ هذه ، أي : عِلْمُهم بأعجميةِ هذا البشرِ وإبانةِ عربيَّةِ هذا القرآنِ كان ينبغي أَنْ يمنَعهم من تلك المقالةِ ، كقولِك : " تَشْتُمُ فلاناً وهو قد أحسنَ إليك " ، أي : وعِلْمُك بإحسانِه إليك كان يمنعُك مِنْ شَتْمِهِ ، قاله الشيخ . ثم قال : " وإنما ذهب إلى الاستئنافِ لا إلى الحالِ؛ لأنَّ مِنْ مذهبِه أنَّ مجيءَ الحالِ اسميةً من غيرٍ واوٍ شاذٌ ، وهو مذهبٌ مرجوحٌ تَبِع فيه الفراءَ " .
و " أعجميٌّ " خبرٌ على كلتا القراءتين . والأعجميُّ : مَنْ لم يتكلَّمْ بالعربية . وقال الراغب : " العَجَمُ خلافُ العرب ، والعجميُّ منسوبٌ إليهم ، والأَعْجَم مَنْ في لسانِه عُجْمَةٌ عربياً كان أو غيرَ عربي؛ اعتباراً بقلة فَهْمِه من العُجْمة . والأعجميُّ منسوبٌ إليه ، ومنه قيل للبهيمة " عَجْماءُ " من حيث إنها لا تُبِيْنُ ، و " صلاةُ النهارِ عَجْماء " ، أي : لا يُجْهَرُ فيها . والعَجَمُ : النَّوَى لاختفائِه . وحروف المعجم ، قال الخليل : " الحروفُ المقطَّعة لأنها أعجمية " قال بعضهم : معناه أنَّ الحروفَ المجردة لا تَدُلُّ على ما تَدُلُّ عليه الموصولةُ . وأَعْجمتُ الكتاب ضِدُّ أَعْرَبْتُه ، وأَعْجَمْتُه : أَزَلْتُ عُجْمَتَه كَأَشْكَيْتُه ، أي : أَزَلْتُ شِكايتَه ، وسيأتي لهذا أيضاً مزيدُ بيانٍ إنْ شاء الله في الشعراء ، وحم السجدة . وتقدَّم خلافُ القرَّاءِ في " يُلْحِدُون " في الأعراف .
(1/2903)

مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)
قوله تعالى : { مَن كَفَرَ بالله } : يجوز فيه أوجهُ ، أحدُها : أن يكونَ بدلاً من { الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } ، أي : إنما يفترى الكذبَ مَنْ كفر . الثاني : أنه بدلٌ مِنَ " الكاذبون " . والثالث : / مِنْ " أولئك " قاله الزمخشريُّ ، فعلى الأولِ يكون قولُه { وأولئك هُمُ الكاذبون } جملةً معترضةً بين البدلِ والمُبْدلِ منه .
واستضعف الشيخُ الأوجهَ الثلاثةَ فقال : " لأنَّ الأولَ يقتضي أنه لا يَفْتري الكذبَ إلا مَنْ كفر بالله من بعدِ إيمانِه ، والوجودُ يَقْضي أنَّ المفتريَ مَنْ لا يؤمن ، سواءً كفر بالله من بعدِ إيمانِه ، أم لا ، بل الأكثرُ الثاني وهو المفتري " قال : " وأمَّا الثاني فَيَؤُوْل المعنى إلى ذلك؛ إذ التقديرُ : وأولئك : أي : الذين لا يؤمنون هم مَنْ كفر بالله من بعدِ إيمانِه ، والذين لا يؤمنون هم المُفْترون . وأمَّا الثالثُ فكذلك؛ إذ التقديرُ : إنَّ المشارَ إليهم هم مَنْ كفرَ بالله من بعد إيمانه ، مُخْبراً عنهم بأنهم الكاذبون " .
الوجه الرابع : أن ينتصبَ على الذمِّ ، قاله الزمخشري . الخامس : أن يرتفعَ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ على الذمِّ أيضاً . السادس : أن يرتفعَ على الابتداء ، والخبرُ محذوفٌ ، تقديره : فعليهم غضبٌ لدلالةِ ما بعد " مَنْ " الثانيةِ عليه .
السابع : أنها مبتدأٌ أيضاً ، وخبرُها وخبرُ " مَنْ " الثانيةِ أيضاً قولُه { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } ، قاله ابن عطية ، قال : " إذ هو واحدٌ بالمعنى؛ لأنَّ الإِخبارَ في قولِه { مَن كَفَرَ بالله } إنما قَصَدَ به الصنفَ الشارحَ بالكفر " . قال الشيخ : " وهذا وإنْ كان كما ذكر ، إلا أنهما جملتان شرطيتان ، وقد فُصِل بينهما بأداةِ الاستدراك ، فلا بد لكلِّ واحدةٍ منهما على انفرادِها مِنْ جوابٍ لا يشتركان فيه ، فتقديرُ الحَذْفِ أَجْرَى على صناعةِ الإِعرابِ ، وقد ضَعَّفوا مذهبَ الأخفشِ في ادِّعائه أنَّ قولَه { فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين } [ الواقعة : 91 ] ، وقولُه { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } [ الواقعة : 89 ] جوابُ " أمَّا " ، و " إنْ " هذا ، وهما أداتا شرط وَلِيَتْ إحداهما الأخرى " .
الثامن : أن تكونَ " مَنْ " شرطيةً وجوابُها مقدرٌ تقديره : فعليهم غضبٌ؛ لدلالةِ ما بعد " مَنْ " الثانيةِ عليه . وقد تقدَّم أن ابنَ عطية جَعَلَ الجزاءَ لهما معاً ، وتقدَّم الكلامُ معه فيه .
قولِه : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مستثنى مقدَّمٌ مِنْ قولِه { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله } ، وهذا يكونُ فيه منقطعاً؛ لأنَّ المُكْرَه لم يَشْرَحْ بالكفرِ صدراً . وقال أبو البقاء : " وقيل : ليس بمقدَّمٍ فهو كقول لبيد :
3016- ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فظاهرُ كلامِه يَدُلُّ على أنَّ بيتَ لبيدٍ لا تقديمَ فيه ، وليس كذلك فإنه ظاهرٌ في التقديمِ جداً .
الثاني : أنه مستثنى مِنْ جوابِ الشرط ، أو مِنْ خبر المبتدأ المقدر ، تقديرُه : فعليهمْ غضبٌ من الله إلا مَنْ أُكْرِه ، ولذلك قَدَّر الزمخشري جزاءَ الشرط قبل الاستثناء ، وهو استثناءٌ متصلٌ؛ لأنَّ الكفرَ يكون بالقولِ مِنْ غير اعتقادٍ كالمُكْرَه ، وقد يكون - والعياذُ بالله - باعتقادٍ ، فاستثنى الصِّنفَ الأول .
(1/2904)

قوله : { وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ } جملةٌ حاليةٌ ، أي : إلا مَنْ أُكْرِهَ في هذه الحالةِ .
قوله : { ولكن مَّن شَرَحَ } الاستدراكُ واضحٌ؛ لأنَّ قوله : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } قد يَسْبق الوهمُ إلى الاستثناء مطلقاً فاستدرك هذا . وقولُه { وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ } لا ينفي ذلك الوهم . و " مَنْ " : إمَّا شرطيةٌ أو موصولةٌ ، ولكن متى جُعِلَتْ شرطيةً فلا بدُّ من إضمارِ مبتدأ قبلها؛ لأنه لا يليها الجملُ الشرطيةُ ، قاله الشيخ ثم قال : " ومثلُه :
3017- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولكن متى يَسْتَرْفِدِ القومُ أَرْفِدِ
أي : ولكن أنا متى يَسْتَرْفد " وإنما لم تقعِ الشرطيةُ بعد " لكن " لأنَّ الاستدراكَ لا يقع في الشُّروط . هكذا قيل ، وهو ممنوع .
(1/2905)

ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)
قوله تعالى : { ذلك بِأَنَّهُمُ } : مبتدأ وخبر ، كنظائرَ مَرَّتْ ، والإِشارةُ ب " ذلك " إلى ما ذُكِرَ من الغضبِ والعذاب؛ ولذلك وُحِّد كقوله : { بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] و [ قولِه ]
3018- كأنه في الجِلْدِ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وقد مَرَّ ذلك .
(1/2906)

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
قوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ } : في خبر " إنَّ " هذه ثلاثةُ أوجهٍ ، إنه قولُه { لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، و { إِنَّ رَبَّكَ } الثانيةُ واسمُها تأكيدٌ للأولى واسمِها ، فكأنه قيل : ثم إنَّ ربَّك إنَّ ربَّك لغفورٌ رحيم ، وحينئذٍ يجوز في قولِه " للذين " وجهان : أن يتعلَّقَ بالخبرين على سبيل التنازعِ ، أو بمحذوفٍ على سبيلِ البيان كأنه قيل : الغُفرانُ والرحمةُ للذين هاجرُوا . الثاني : أن الخبرَ هو نفسُ الجارِّ بعدها كما تقول : إنَّ زيداً لك ، أي : هُوَ لك لا عليك بمعنى هو ناصرُهم لا خاذِلُهم ، قال معناه الزمخشريُّ [ ثم قال " كما يكون المَلِكُ للرجل لا عليه ، فيكون مَحْمِيَّاً مَنْفُوْعاً ] .
الثالث : أن خبرَ الأولى مستغنى عنه بخبر الثانية ، / يعني أنه محذوفٌ لفظاً لدلالةِ ما بعده عليه ، وهذا معنى قولِ أبي البقاء : " وقيل : لا خبرَ ل " إنَّ " الأولى في اللفظ؛ لأنَّ خبرَ الثانيةِ أغنى عنه " وحينئذٍ لا يَحْسُنُ رَدُّ الشيخِ عليه بقوله : " وهذا ليس بجيدٍ أنه أَلْغَى حكمَ الأولى ، وجَعَلَ الحكمَ للثانيةِ ، وهو عكسُ ما تقدَّمَ ولا يجوز " .
قولِه : { مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } قرأ ابنُ عامر " فَتَنوا " مبنياً للفاعل ، أي : فَتَنُوا أَنْفُسَهم ، فإن عاد الضميرُ على المؤمنين فالمعنى : فَتَنُوا انفسَهم بما أَعْطَوا المشركين من القولِ ظاهراً ، أو أنهم لَمَّا صبروا على عذابِ المشركين فكأنهم فَتَنُوا أنفسَهم ، وإنْ عاد على المشركين فهو واضحٌ ، أي : فتنُوا المؤمنين .
والباقون " فُتِنُوا " مبنياً للمفعول . والضميرُ في " بعدها " للمصادرِ المفهومةِ من الأفعالِ المتقدمةِ ، أي : مِنْ بعد الفتنةِ والهجرةِ والجهادِ والصبرِ . وقال ابن عطية : " عائدٌ على الفتنةِ أو الفَعْلة أو الهجرة أو التوبة " .
(1/2907)

يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
قوله تعالى : { يَوْمَ تَأْتِي } : يجوز أَنْ ينتصبَ ب " رحيم " ، ولا يلزمُ مِنْ ذلك تقييدُ رحمته بالظرف؛ لأنه إذا رَحِم في هذا اليوم فرحمتُه في غيرِه أَوْلَى وأحْرَى ، وأن ينتصِبَ ب " اذكر " مقدرةً ، وراعى معنى " كل " فأنَّثَ الضمائر في قوله " تجادل " إلى آخره ، ومثلُه :
3019- جادَتْ عليه كلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فتركْنَ كلَّ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إلا أنَّه زاد في البيت الجمعَ على المعنى ، وقد تقدَّم ذلك أولَ هذا الموضوع . وقوله { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } حَمَلَ على المعنى فلذلك جَمَعَ .
(1/2908)

وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)
قوله تعالى : { والخوف } : العامَّةُ على جَرِّ " الخوف " نسقاً على " الرجوع " ، ورُوي عن أبي عمرو نصبُه ، وفيه أوجه ، أحدها : أن يُعطف على " لباس " . الثاني : أن يُعْطَفَ على موضعِ " الجوع "؛ لأنه مفعولٌ في المعنى للمصدرِ . التقدير : " أَنْ أَلْبَسَهم الجوعَ والخوفَ " ، قاله أبو البقاء ، وهو بعيدٌ؛ لأنَّ اللباسَ اسمُ ما يُلْبَسُ ، وهو استعارةٌ بليغةٌ كما سأنبِّهك عليه . الثالث : أن ينتصِبَ بإضمارِ فعلٍ قاله أبو الفضل الرازي . [ الرابع : أن يكونَ حَذْفِ مضافٍ ، أي : ] ولباس الخوف ، ثم حُذِف وأقيم [ المضافُ إليه ] مُقامَه قاله الزمخشري .
ووجه الاستعارةِ ما قاله الزمخشري ، فإنه قال : " فإن قُلْتَ ، الإِذاقةُ واللباسُ استعارتان فما وجهُ صحتِهما؟ والإِذاقةُ المستعارةُ مُوَقَّعَةٌ على اللباس المستعار فما وجهُ صحةِ إيقاعِها عليه؟ قلت : الإِذاقَةُ جَرَتْ عندهم مَجْرَى الحقيقةِ لشيوعِها في البلايا والشدائد وما يَمَسُّ الناسَ منها ، فيقولون ، ذاقَ فلانٌ البؤْسَ والضُّرَّ ، وإذاقة العذابُ ، شَبَّه ما يُدْرِكُ مِنْ أثرِ الضررِ والألمِ بما يُدْرِكُ مِنْ طَعْمِ المُرِّ والبَشِع ، وأمَّا اللباسُ فقد شبَّه به لاشتمالِه على اللابسِ ما غَشِيَ الإِنسانَ والتبس به من بعض الحوادث . وأمَّا إيقاعُ الإِذاقةِ على لباسِ الجوعِ والخوفِ فلأنه لمَّا وقع عبارةً عَمَّا يُغْشَى منهما ويُلابَسُ ، فكأنه قيل : فأذاقهم ما غَشِيهم من الجوعِ والخوفِ . ولهم في هذا طريقان ، أحدهما : أن ينظروا فيه إلى المستعار له كما نَظَرَ إليه ههنا ، ونحوُه قول كثيِّر :
3020- غَمْرُ الرِّداءِ إذا تَبَسَّم ضاحكاً ... غَلِقَتْ لضَحْكَتِهِ رِقابُ المالِ
استعار الرداءَ للمعروفِ لأنه يَصُون عِرْضَ صاحبِه صَوْتَ الرداءِ لِما يُلْقى عليه ، ووصفَه بالغَمْرِ الذي هو وصفُ المعروفِ والنَّوال ، لا وصفُ الرداء ، نظراً إلى المستعار له . والثاني : أن ينظروا فيه المستعار كقوله :
3021- يُنازعني رِدائي عَبْدُ عَمْرٍو ... رُوَيْدَك يا أخا عمرِو بن بكر
ليَ الشَّطْرُ الذي ملكَتْ يميني ... ودونَك فاعْتَجِر منه بِشَطْرِ
أراد بردائِه سيفَه ثم قال : " فاعتجِرْ منه بِشَطْر " فنظر إلى المستعارِ في لفظِ الاعتجار ، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقال : " فكساهُمْ لباسَ الجوعِ والخوف " ، ولقال كثِّير : " ضافي الرداءِ إذا تبسَّم " . انتهى . وهذا نهايةُ ما يُقال في الاستعارة .
وقال ابن عطية : " لمَّا باشرهم ذلك صار كاللباس ، وهذا كقول الأعشى :
3022- إذا ما الضَّجِيْعُ ثنى جِيْدَها ... تَثَنَّتْ عليه فكانَتْ لباسا
ومثلُه قولُه تعالى : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ/ لَّهُنَّ } [ البقرة : 187 ] ، ومثلُه قولُ الشاعر :
3022- وقد لَبِسَتْ بعد الزبيرِ مُجاشِعٌ ... لباسَ التي حاضَتْ ولن تَغْسِل الدَّما
كأنَّ العارَ لمَّا باشرهم ولصِقَ بهم كأنهم لَبِسُوه " .
وقوله : " فأذاقهم " نظيرُ قولِه تعالى : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] ، ونظيرُ قولِ الشاعر :
(1/2909)

3023- دونَكَ ما جَنَيْتَه فاحْسُ وذُقْ ... وفي قراءةِ عبد الله " فأذاقها اللهُ الخوفَ والجوعَ " ، وفي مصحف أُبَيّ " لباسَ الخوفِ والجوعِ " .
وقوله : { بِأَنْعُمِ الله } أتى بجمعِ القلَّةِ ، ولم يَقُلْ " بِنِعَمِ الله " جمعَ كثرةٍ تنبيهاً بالأدْنى على الأَعْلى؛ لأنَّ العذابَ إذا كان على كُفْرانِ الشيءِ القليلِ فكونُه على النِّعَم الكثيرةِ أَوْلَى .
و " أنْعُم " فيها قولان ، أحدُهما : أنها جمعُ " نِعْمةٍ " نحو : شِدَّة : أَشُدّ . قال الزمخشري : " جمعُ " نِعمة " على تَرْكِ الاعتداد بالتاء كَدِرْع وأَدْرُع " . وقال قطرب : " هي جمع نُعْم ، والنُّعْمُ : النَّعيم ، يقال : " هذه أيامُ طُعْم ونُعْم " . وفي الحديث : " نادى مُنادي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالمَوْسِم بمنى : " إنها أيام طُعْمٍ ونُعْمٍ فلا تَصُوموا " .
قوله : { بِمَا كَانُواْ } يجوز أَنْ تكونَ مصدريةً ، أو بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ ، أي : بسبب صُنْعهم أو بسببِ الذي كانوا يصنعونه . والواو في " يَصْنعون " عائدةٌ على أهل المعذَّب . قيل : قرية ، وهي نظيرةُ قولِه { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } [ الأعراف : 4 ] بعد قولِه { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } .
(1/2910)

فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)
قوله تعالى : { واشكروا نِعْمَةَ الله } : صَرَّح هنا بالنعمة لتقدُّمِ ذِكْرها مع مَنْ كفر بها ، ولم يَجِئْ ذلك في البقرة ، بل قال : { واشكروا للَّهِ } [ البقرة : 172 ] لمَّا لم يتقدمْ ذلك ، وتقدَّم نظائرُها هنا .
(1/2911)

وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116)
قوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب } : العامَّةُ على فتحِ الكافِ وكسرِ الذالِ ونصب الباءِ . وفيه أربعةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه منصوبٌ على المفعولِ به وناصبُه " تَصِفُ " و " ما " مصدريةٌ ، ويكونُ معمولُ القولِ الجملةَ مِنْ قوله { هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ } و { لِمَا تَصِفُ } علةٌ للنهي عن القول ذلك ، أي : ولا تقولوا : هذا حَلالٌ وهذا حَرامٌ لأجل وَصْفِ ألسنتِكم الكذبَ ، وإلى هذا نحا الزجَّاجُ والكسائيُّ ، والمعنى : لا تُحَلِّلوا ولا تُحَرِّمُوا لأجلِ قولٍ تَنْطِقُ به ألسنتُكم من غير حُجَّةٍ .
الثاني : أن ينتصِب مفعولاً به للقولِ ، ويكون قوله : { هذا حَلاَلٌ } بدلاً مِنَ " الكذب " لأنه عينُه ، أو يكون مفعولاً بمضمرٍ ، أي : فيقولوا : هذا حَلالٌ وهذا حَرامٌ ، و { لِمَا تَصِفُ } علةٌ أيضاً ، والتقديرُ : ولا تقولوا الكذب لوصفِ ألسنتِكم . وهل يجوزُ أن تكونَ المسألةُ من التنازعِ على هذا الوجهِ ، وذلك : أن القولَ يَطْلُبُ " الكذب " و " تَصِفُ " أيضاً يطلبه ، أي : ولا تَقُولْوا الكذب لما تصفه ألسنتُكم؟ فيه نظرٌ .
الثالث : أن ينتصِبَ على البدلِ من العائدِ المحذوف على " ما " إذا قلنا : إنها بمعنى الذي؛ التقدير : لِما تصفُه ، ذكر ذلك الحوفيُّ وأبو البقاء . الرابع : أن ينتصبَ بإضمار أعني ، ذكره أبو البقاء ، ولا حاجةَ إليه ، ولا معنى عليه .
وقرأ الحسن وابن يعمر وطلحةُ " الكذبِ " بالخفضِ وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه بدلٌ من الموصولِ ، أي : ولا تقولوا لوصفِ ألسنتِكم الكذبِ ، أو للذي تصفه ألسنتكم الكذبِ ، جعله نفسَ الكذبِ لأنه هو . والثاني : ذكره الزمخشري أن يكون نعتاً ل " ما " المصدرية . ورَدَّه الشيخُ : بأنَّ النحاةَ نصُّوا على أن المصدرَ المنسبكَ مِنْ أنْ والفعلِ لا يُنْعَتُ ، لا يُقال " يعجبني أن تخرجَ السريعُ " ولا فرقَ بين هذا وبين باقي الحروفِ المصدرية .
وقرأ ابن أبي عبلة ومعاذ بن جبل بضمِّ الكاف والذال ، ورفعِ الباءِ صفةً للألسنة كصَبُور وصُبُر ، أو جمع كاذِب كشارِف وشُرُف ، أو جمع " كِذاب " نحو : كِتاب وكُتُب .
وقرأ مَسْلَمَةُ بنُ محارِبٍ فيما نقله ابن عطية كذلك ، إلا أنَّه نصب الباءَ ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، ذكرها الزمخشري . أحدُها : أن تكونَ منصوبةً على الشتم ، يعني وهي في الأصل نعتٌ للألسنة كما في القراءة قبلها . الثاني : أن تكون بمعنى الكَلِمِ الكواذب ، يعني أنها مفعولٌ بها ، والعامل فيها : إمَّا " تَصِفُ " ، وإمَّ القولُ / على ما مرَّ ، أي : لا تقولوا الكَلِمَ الكواذبَ ، أو لِمَا تَصِفُ ألسنتُكم الكلمَ الكواذبَ . الثالث : أن يكونَ جمع الكِذاب مِنْ قولِك " كَذِب كِذاباً " يعني فيكون منصوباً على المصدر؛ لأنه مِنْ معنى وَصْفِ الألسنةِ فيكون نحو : كُتُب في جمع كِتاب ، وقد قرأ الكسائيُّ : { وَلاَ كِذَاباً } بالتخفيف كما سيأتي في النبأ .
(1/2912)

قوله : " لِتَفْتَرُوا " في اللامِ ثلاثةُ أوجه ، أحدها : قال الواحدي : " إنه بدلٌ مِنْ { لِمَا تَصِفُ } لأنَّ وصفَهم الكذبَ هو افتراءٌ على الله " . قال الشيخ : " فهو على تقدير جَعْلِ " ما " مصدريةً ، أمَّا إذا كانت بمعنى الذي فاللامُ فيها ليست للتعليل فَيُبْدل منها ما يُفْهِمُ التعليلَ ، وإنما اللامُ في " لِما " متعلقةٌ ب " لا تقولوا " على حَدِّ تَعَلُّقِها في قولك : لا تقولوا لِما أَحَلَّ اللهُ : هذا حرامٌ ، أي : لا تُسَمُّوا الحَلالَ حراماً وكما تقول : لا تقلْ لزيدٍ عمراً ، أي : لا تُطْلِقْ عليه هذا الاسمَ " . قلت : وهذا وإن كان ظاهراً ، إلاَّ أنه لا يمنع من إرادةِ التعليل ، وإنْ كانت بمعنى الذي .
الثاني : أنها للصيرورة إذ لم يَفْعلوه لذلك الغرضِ .
الثالث : أنها للتعليلِ الصريحِ ، ولا يَبْعُدُ أن يَصْدُرَ مثلُ ذلك .
(1/2913)

مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
قوله تعالى : { مَتَاعٌ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مبتدأٌ ، و " قليل " خبره ، وفيه نظرٌ للابتداءِ بنكرةٍ مِنْ غيرِ مُسَوِّغ . فإن ادُّعِي إضافتُه نحو : متاعُهم قليل ، فهو بعيدٌ جداً . الثاني : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : بَقاؤهم أو عيشُهم أو منفعتُهم فيما هم عليه .
(1/2914)

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)
قوله تعالى : { مِن قَبْلُ } : متعلِّقٌ ب " حَرَّمْنَا " أو ب " قَصَصْنَا " والمضافُ إليه " قبلُ " تقديرُه : ومِنْ قبلِ تحريمِنا على أهلِ مِلَّتِك .
(1/2915)

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
قوله تعالى : { مِن بَعْدِهَا } : أي : مِنْ بعدِ عَمَلِ السوءِ والتوبةِ والإِصلاح ، وقيل : على الجهالةِ . وقيل : على السوءِ؛ لأنه في معنى المعصيةِ .
و " بجهالة " حالٌ مِنْ فاعل " عَمِلوا " .
(1/2916)

إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120)
قوله تعالى : { أُمَّةً } : تُطْلَقُ الأُمَّة على الرجل الجامع لخصالٍ محمودة . وقيل : فًعْلَةُ تدل على المبالغةِ ، وإلى المعنى الأولِ نَظَر ابنُ هانئٍ في قوله :
3024- وليس الله بمُسْتَنْكَرٍ ... أن يَجْمَعَ العالمَ في واحِدِ
(1/2917)

شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)
قوله تعالى : { شَاكِراً } : يجوز أن يكونَ خبراً ثالثاً ، او حالاً مِنْ أحدِ الضميرين في " قانِتاً " أو " حنيفاً " .
قوله : " لأَنْعُمِهِ " يجوز تعلُّقه ب " شاكراً " أو ب " اجتباه " ، و " اجتباه " : إمَّا حالٌ ، وإمَّا خبرٌ آخرُ ل كان . و { إلى صِرَاطٍ } يجوز تعلُّقُه ب " اجتباه " و ب " هداه " على قاعدةِ التنازع .
(1/2918)

ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ } : قال الزمخشري : " في " ثم " هذه ما فيها مِنْ تعظيم منزلتِهِ وأجلالِ مَحَلَّه ، والإِيذانُ بأنَّ أَشْرَفَ ما أُوتي خليلُ الرحمنِ من الكرامةِ وأَجَلَّ ما أُولِيَ من النعمة اتِّباعُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم من قِبَلِ أنها دَلَّتْ على تباعُدِ هذا النعتِ في الرتبةِ منْ بينِ سائرِ النُّعوت التي أثنى اللهُ عليه بها " .
قوله : { أَنِ اتبع } يجوز أن تكونَ المفسِّرةَ ، وأن تكونَ المصدريةَ فتكونَ مع منصوبِها مفعولَ الإِيحاء .
قوله : " حنيفاً " حالٌ ، وتقدَّم تحقيقُه في البقرة . وقال ابن عطية : " قال مكي : ولا يكون - يعني حنيفاً - حالاً من " إبراهيم " لأنه مضافٌ إليه ، وليس كما قال؛ لأن الحالَ قد تعمل فيها حروفُ الجرِّ إذا عَمِلَتْ في ذي الحال كقولِك " مررتُ بزيدٍ قائماً " . قلت : ما ذكره مكيٌّ من امتناعِ الحال من المضاف إليه فليس على إطلاقه لِما تقدَّم تفصيلُه في البقرة . وأمَّا قولُ ابن عطية : إن العاملَ الخافضُ فليس كذلك ، إنما العاملُ ما تعلَّق به الخافضُ ، ولذلك إذا حُذِفَ الخافضُ ، نُصِبَ مخفوضُه .
(1/2919)

إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
قوله تعالى : { إِنَّمَا جُعِلَ } : العامَّةُ على بنائِه للمفعول ، وأبو حَيْوةَ على بنائِه للفاعلِ ، " السَّبْتَ " مفعول به .
(1/2920)

ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
قوله تعالى : { ادع } : يجوز أن يكونَ مفعولُه مراداً ، أي : ادعُ الناسَ ، وأن لا يكونَ ، أي : افعلِ الدعاءَ . و " بالحكمة " حالٌ ، أي : ملتبساً بها .
(1/2921)

وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)
قوله تعالى : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ } : العامَّةُ على المُفاعلة ، وهي بمعنى فَعَلَ كسافَر ، وابنُ سيرين " عَقَّبْتم " بالتشديد بمعنى : قَفَّيْتُمْ فَقَفُّوا بمثلِ ما فُعِلَ بكم . وقيل : تتبَّعْتُم . والباءُ مُعَدِّيَةٌ ، وفي قراءةِ ابنِ سيرين : إمَّا للسببيةِ ، وإمَّا مزيدةٌ .
قوله : { لِّلصَّابِرينَ } يجوز أن يكونَ عامَّاً ، أي : الصبرُ خيرٌ لجنسِ الصابرين ، وأن يكونَ مِنْ وقوعِ الظاهر موقعَ المضمر ، أي : صَبْرُكم خيرٌ لكم .
(1/2922)

وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)
قوله تعالى : { إِلاَّ بالله } : أي بمعونتِهِ فهي للاستعانة .
قوله : { فِي ضَيْقٍ } ابن كثير هنا ، وفي النمل؛ بكسر الصاد ، والباقون بالفتح . فقيل : لغتان بمعنىً في هذا المصدر ، كالقَوْل والقِيْل . وقيل : المفتوحُ مخفَّفٌ من " ضَيِّق " كَمَيْت في " مَيِّت " ، أي : في أمرٍ ضَيِّق . ورَدَّه الفارسيُّ : بأنَّ الصفةَ غيرُ خاصةٍ بالموصوف فلا يجوز ادِّعاءُ الحذفِ ، ولذلك جاز : " مررت بكاتبٍ " وامتنع " بآكلٍ " .
قوله : { مِّمَّا يَمْكُرُونَ } متعلقٌ ب " ضَيْق " . و " ما " مصدريةٌ أو بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ .
(1/2923)

سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
قوله تعالى : { سُبْحَانَ } : قد تقدَّم الكلامُ عليه مستوفى أول البقرة . و " أَسْرى " و " سَرَى " لغتان ، وقد تقدَّم الكلام عليهما في سورة هود ، وأن بعضَهم خَصَّ " أَسْرى " بالليل . قال الزمخشري هنا : " فإن قلتَ : الإِسراءُ لا يكون إلا ليلاً فما معنى ذِكْرِ الليلِ؟ قلت : أراد بقوله " ليلاً " بلفظ التنكيرِ تقليلَ مدةِ الإِسراءِ ، وأنه أُسْرِي به في بعضِ الليلِ من مكةَ إلى الشام مسيرةََ أربعين ليلةً؛ وذلك : أنَّ التنكيرَ دلَّ على البعضية ، ويَشْهد لذلك قراءةُ عبدِ الله وحذيفة " من الليل " ، أي : بعضه كقوله : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ } [ الإِسراء : 79 ] . انتهى . فيكون " سَرى " و " أسْرى " ك " سَقَى " و " أَسْقى " والهمزةُ ليست للتعديةِ ، وإنما المُعَدَّى الباءُ في " بعبده " ، وقد تقدَّم أنها لا تَقْتضي مصاحبةَ الفاعلِ للمفعول عند الجمهور ، في البقرة خلافاً للمبرد .
وزعم ابنُ عطية أنَّ مفعولَ " أَسْرى " محذوف ، وأنَّ التعديةَ بالهمزة فقال : " ويَظْهر أنَّ " أَسْرى " مُعَدَّاةٌ بالهمزةِ إلى مفعولٍ محذوف ، أي : أَسْرى الملائكةُ بعبدِه ، لأنه يَقْلَقُ أَنْ يُسْنَد " أسرى " وهو بمعنى " سرى " إلى الله تعالى؛ إذ هو فعلٌ يقتضي النَّقْلة كمشى وجرى وأحضر وانتقل ، فلا يَحْسُنُ إسنادُ شيءٍ من هذا مع وجودِ مَنْدوحةٍ عنه ، فإذا وقع في الشريعة شيءٌُ من ذلك تَأَوَّلْناه نحو : أَتَيْتُه هَرْوَلة " .
قلت : وهذا كلُّه إنما بناه اعتقاداً على أن التعديةَ بالباء تَقتضي مصاحبةَ الفاعلِ للمفعول في ذلك ، وقد تقدَّم الردُّ على هذا المذهبِ في أول البقرة في قوله { وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ } [ الآية : 20 ] . ثم جَوزَّ أن يكونَ " أَسْرى " بمعنى " سَرَى " على حَذْفِ مضافٍ كقولِه : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } [ البقرة : 17 ] ، يعني فيكون التقدير : الذي أَسْرَى ملائكتُه بعبدِه ، والحاملُ له على ذلك ما تقدَّم من اعتقاد المصاحبة .
قوله : " لَيْلاً " منصوب على الظرف . وقد تقدَّم فائدةُ تنكيرِه . و " من المسجد " لابتداء الغاية .
قوله : حولَه " فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه منصوبٌ على الظرف ، وقد تقدَّم تحقيقُ القولِ فيه أولَ البقرة . والثاني : انه مفعولٌ . قال أبو البقاء : " أي : طَيَّبْنا ونَمَّيْنا " . يعني ضَمَّنه معنى ما يتعدَّى بنفسه ، وفيه نظرٌ لأنه لا يَتَصَرَّف .
قوله : " لِنُرِيَه " قرأ العامَّة بنونِ العظمة جَرْياً على " بارَكْنا " . وفيهما التفاتان : مِنَ الغَيْبة في قوله { الذي أسرى بِعَبْدِهِ } إلى التكلُّم في " بارَكْنا " و " لِنُرِيَه " ، ثم التفتَ إلى الغَيْبَة في قولِه " إنه هو " إن أَعَدْنا الضميرَ على اللهِ تعالى وهو الصحيحُ ، ففي الكلام التفاتان .
(1/2924)

وقرأ الحسن " لِيُرِيَه " بالياء مِنْ تحتُ أي الله تعالى ، وعلى هذه القراءةِ يكون في هذه الآية أربعةُ التفاتات : وذلك أنَّه التفت أولاً من الغَيْبة في قوله { الذي أسرى بِعَبْدِهِ } إلى التكلم في قوله " بارَكْنا " ، ثم التفت ثانياً من التكلمِ في " بارَكْنا " إلى الغيبة في " لِيُرِيَه " على هذه القراءة ، ثم التفت بالياء من هذه الغَيْبة إلى التكلم في " آياتنا " ، ثم التفت رابعاً من هذا التكلمِ إلى الغيبة في قوله " إنه هو " على الصحيح في الضميرِ أنَّه لله ، وأمَّا على قولٍ نقله أبو البقاء أن الضمير في " إنه هو " للنبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فلا يجيءُ ذلك ، ويكون في قراءة العامَّةِ التفاتٌ واحدٌ ، وفي قراءة الحسنِ ثلاثةٌ . وهذا موضعٌ غريبٌ ، وأكثرُ ما وَرَدَ الالتفاتُ [ فيه ] ثلاثُ مرات على ما قال الزمخشري في قولِ امرئ القيس :
3025- تطاوَلَ ليلُكَ بالإِثْمِدِ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الأبيات . وقد تقدَّم النزاعُ معه في ذلك ، وبعضُ ما يُجاب به عنه أولَ الفاتحة .
ولو ادَّعى مُدَّعٍ أنَّ فيها خمسةَ التفاتات لاحتاج في دَفْعِه إلى دليلٍ واضحٍ ، والخامس : الالتفاتُ مِنْ " إنَّه هو " إلى التكلم في قوله { وَآتَيْنَآ مُوسَى } الآية .
والرؤيةُ هنا بَصَريةٌ . وقيل : قلبية وإليه نحا ابن عطية ، فإنه قال : " ويُحْتمل أَنْ يريد : لِنُرِيَ محمداً للناس آيةً ، أي : يكون النبي صلى الله عليه وسلم آيةً في أَنْ يصنعَ اللهُ ببشرٍ هذا الصنعَ " فتكونُ الرؤيةُ قلبيةً على هذا .
(1/2925)

وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2)
قوله تعالى : { وَآتَيْنَآ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن تُعْطَفَ هذه الجملةُ على الجملةِ السابقة من/ تنزيهِ الربِّ تبارك وتعالى ولا يَلْزَمُ في عَطْفِ الجملِ مشاركةٌ في خبرٍ ولا غيرِه . الثاني : قال العسكري : إنه معطوف على " أسرى " . واستبعده الشيخُ . ووجهُ الاستبعادِ : أن المعطوفَ على الصلةِ صلةٌ ، فيؤدِّي التقديرُ إلى ضرورةِ التركيبِ : سُبْحان الذي أسرى وآتينا ، وهو في قوة : الذي آتينا موسى ، فيعود الضميرُ على الموصولِ ضميرَ تكلمٍ مِنْ غيرِ مسوِّغ لذلك .
والثالث : أنه معطوفٌ على ما في قوله " أسرى " من تقدير الخبر كأنه قال : أَسْرَيْنا بعبدِنا ، وأًرَيْناه آياتِنا وآتَيْنا ، وهو قريبٌ مِنْ تفسيرِ المعنى لا الإِعراب .
قوله : " وجَعْلَناه " يجوز أن يعودَ ضميرُ النصبِ للكتاب ، وهو الظاهرُ ، وأَنْ يعودَ لموسى عليه السلام .
قوله : { لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } يجوز تعلُّقُه بنفس " هدى " كقوله : { يَهْدِي لِلْحَقِّ } [ يونس : 35 ] ، وأَنْ يتعلَّقَ بالجَعْل ، أي : جعلناه لأجلِهِم ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ نعتاً ل " هُدى " .
قوله : { أَلاَّ تَتَّخِذُواْ } يجوز أَنْ تكون " أَنْ " ناصبةً على حَذْفِ حرفِ العلة ، أي : لئلا تتَّخذوا . وقيل : " لا " مزيدةٌ ، والتقدير : كراهةَ أَنْ تتخذوا ، وأنْ تكونَ المفسرةَ و " لا " ناهيةٌ ، فالفعلُ منصوبٌ على الأول مجزومٌ على الثاني ، وأَنْ تكونَ مزيدةً عند بعضِهم ، والجملةُ التي بعدها معمولةٌ لقولٍ مضمر ، أي : مقولاً لهم : لا تتخذوا ، أو قلنا لهم : لا تتخذوا ، وهذا ظاهرٌ في قراءةِ الخطاب . وهذا مردودٌ بأنه ليس من مواضعِ زيادةِ " أَنْ " .
وقرأ أبو عمروٍ { أَنْ لا يتَّخذوا } بياء الغَيْبة جَرْياً على قوله { لبني إسرائيل } والباقون بالخطاب التفاتاً .
(1/2926)

ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
قوله تعالى : { ذُرِّيَّةَ } : العامَّةُ على نصبها وفيها أوجهٌ ، أحدُها : أنها منصوبةٌ على الاختصاصِ ، وبه بدأ الزمخشري . الثاني : أنَّها منصوبَةً على البدلِ من " وَكِيلاً " ، أي : أن لا تتخذوا من دونِه ذريةَ مَنْ حَمَلْنا . الثالث : أنها منصوبةٌ على البدلِ مِنْ " موسى " ، ذكره أبو البقاء وفيه بُعْدٌ بعيد . الرابع : أنها منصوبةٌ على المفعولِ الأولِ ل " تتخذوا " ، والثاني هو " وكيلاً " فقُدِّم ، ويكون " وكيلاً " ممَّا وقع مفردَ اللفظ والمَعْنِيُّ به جمعٌ ، أي : لا تتخذوا ذريةَ مَنْ حَمَلْنا مع نوح وُكَلاءَ كقوله : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَاباً } [ آل عمران : 80 ] .
الخامس : أنها منصوبةٌ على النداء ، أي : يا ذريةَ مَنْ حَمَلْنا ، وخَصُّوا هذا الوجهَ بقراءة الخطاب في " تتَّخذوا " وهو واضحٌ عليها ، إلا أنه لا يَلْزَمُ ، وإن كان مكيٌّ قد منع منه فإنه قال : " فأمَّا مَنْ قرأ " يتَّخذوا " بالياء فذريَّةَ مفعولٌ لا غيرَ ، ويَبْعُدُ النداءُ؛ لأن الياءَ للغَيْبة والنداءَ للخطابِ ، فلا يجتمعان إلا على بُعْدٍ " . وليس كما زعم ، إذ يجوزُ أن يُناديَ الإِنسانَ شخصاً ويُخْبِرَ عن آخرَ فيقول : " يا زيدُ ينطلقٌ بكرٌ وفعلتَ كذا " و " يا زيدُ ليفعلْ عمروٌ كيتَ وكيت " .
وقرأت فرقةٌ " ذُرِّيَّةُ " بالرفع ، وفيها وجهان ، أحدهما : أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه : هو ذريَّةُ ، ذكره [ أبو ] البقاء وليس بواضحٍ . والثاني : أنه بدلٌ من واوِ " تتَّخذوا " قال ابن عطية : " ولا يجوز ذلك في القراءةِ بالتاءِ ، لأنك لا تُبْدِلُ من ضميرٍ مخاطب ، لو قلت : " ضربْتُك زيداً " على البدل لم يَجُزْ " .
وَرَدَّ عليه الشيخ هذا الإِطلاقَ وقال : " ينبغي التفصيلُ ، وهو إن كان بدلَ بعضٍ أو اشتمالٍ جاز ، وإن كان كلاًّ مِنْ كل ، وأفاد الإِحاطةَ نحو " جئتُمْ كبيرُكم وصغيركم " جَوَّزه الأخفش والكوفيون . قال : " وهو الصحيحُ " . قلت : وتمثيلُ ابنِ عطيةَ بقولِه " ضَرَبْتُكَ زيداً " قد يَدْفع عنه هذا الردَّ .
وقال مكي : " ويجوز الرفعُ في الكلامِ على قراءةِ مَنْ قرأ بالياء على البدلِ من المضمرِ في " يتَّخذوا " ولا يَحْسُنُ ذلك في قراءة التاء؛ لأنَّ المخاطبَ لا يُبْدَلُ منه الغائبُ ، ويجوز الخفضُ على البدل من بني إسرائيل " . قلت : أمَّا الرفعُ فقد تقدَّم أنه قرئ به وكأنه ام يَطَّلِعْ عليه ، وأمَّا الجرُّ فلم يُقْرَأْ به فيما عَلِمْتُ ويَرِد عليه في قوله " لأنَّ المخاطب لا يُبْدَلُ منه الغائبُ " ما وَرَدَ على ابن عطية ، بل أَوْلَى لأنه لم يذكر مثالاً يبيِّن مرادَه كما فعل ابنُ عطية/ .
قوله تعالى : { مَنْ حَمَلْنَا } : يجوز أن تكونَ موصولةً أو موصوفةً .
(1/2927)

وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
قوله : { وَقَضَيْنَآ } " قَضَى " يتعدَّى بنفسِه : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً } [ الأحزاب : 37 ] { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل } [ القصص : 29 ] ، وإنما تَعَدَّى هنا ب " إلى " لتضمُّنه معنى : أَنْفَذْنَا وأَوْحَيْنا ، أي : وأَنْفَذْنا إليهم بالقضاءِ المحتومِ . ومتعلِّقُ القضاءِ محذوفٌ ، أي : بفسادِهم . وقوله : " لَتُفْسِدُنَّ " جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه : والله لتفسِدُنَّ ، وهذا القسمُ مؤكدٌ لمتعلَّق القضاء . ويجوز أن يكونَ " لَتُفْسِدُنَّ " جواباً لقوله : " وقَضَيْنا " لأنه ضُمِّن معنى القسمِ ، ومنه قولُهم : " قضاء الله لأفعلنَّ " فيُجْرُون القضاء والنَّذْرَ مُجْرى القسم فَيُتَلَقَّيان بما يُتَلَقَّى به القسمُ .
والعامَّةُ على توحيد " الكتاب " مُراداً به الجنسُ . وابنُ جبير وأبو العالية " في الكُتُب " على الجمع ، جاؤوا به نَصَّاً في الجمع .
وقرأ العامَّةُ بضمِّ التاءِ وكسرِ السينِ مضارعَ " أفسدَ " ، ومفعولُه محذوفٌ تقديره : لَتُفْسِدُنَّ الأديانَ . ويجوزُ أْنْ لا يُقَدَّر مفعولٌ ، أي : لتُوقِعُنَّ الفساد . وقرأ ابنُ عباسٍ ونصرُ بن علي وجابر بن زيد " لَتُفْسَدُن " ببنائه للمفعولِ ، أي : لَيُفْسِدَنَّكم غيرُكم : إمَّا من الإِضلال أو من الغلبة . وقرأ عيسى بن عمر بفتحِ التاء وضمِّ السين ، أي : فَسَدْتُم بأنفسِكم .
قوله " مَرَّتَيْنِ " منصوبٌ على المصدر ، والعاملُ فيه " لتُفْسِدُنَّ " لأنَّ التقديرَ : مرتين من الفساد .
قوله : " عُلُوَّاً " العامَّةُ على ضمِّ العين مصدرَ علا يَعْلُو . وقرأ زيد بن عليٍّ " عِلِيَّاً " بكسرِهما والياءُ ، والأصلُ الواو ، وإنما اعتلَّ على اللغة القليلة؛ وذلك أن فُعُولاً المصدرَ الأكثرُ فيه التصحيحُ نحو : عَتا عُتُوَّاً ، والإِعلالُ قليلٌ نحو { أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً } [ مريم : 69 ] على أحدِ الوجهين كما سيأتي ، وإنْ كان جمعاً فالكثيرُ الإِعلالُ . نحو : " جِثِيَّاً " وشَذَّ : بَهْوٌ وبُهُوُّ ، ونَجْوٌ ونَجَوٌّ ، وقاسه الفراء .
(1/2928)

فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
قوله تعالى : { وَعْد } : أي : مَوْْعُود ، فهو مصدرٌ واقعٌ موقعَ مفعول ، وتركه الزمخشري على حالِه ، لكن بحذف مضاف ، أي : وَعْدُ عقابِ أُوْلاهما . وقيل : الوَعْدُ بمعنى الوعيد . وقيل : بمعنى المَوْعِد الذي يُراد به الوقتَ . فهذه أربعةُ أوجهٍ . والضميرُ عائدٌ على المرتين .
قوله : " عِباداً " العامَّةُ على " عِباد " بزنة فِعال ، وزيدُ بن علي والحسنُ " عبيداً " على فَعِيْل ، وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك .
قوله : " فجاسُوا " عطفٌ على " بَعَثْنا " ، أي : تَرَتَّب على بعثنا إياهم هذا . والجَوْسُ والجُوْس بفتحِ الجيمِ وضمِّها مصدرَ جاسَ يَجُوسُ ، أي : فَتَّشَ ونقَّبَ ، قاله أبو عبيد . وقال الفراء : " قَتَلُوا " قال حسان :
3026- ومِنَّا الذي لاقى بسيفِ محمدٍ ... فجاسَ به الأعداءُ عَرْضَ العساكرِ
وقال أبو زيد : " الجُوسُ والجَوْسُ والحَوْسُ والهَوْسُ طَلَبُ الطَّوْف بالليل " . وقارب قطرب : " جاسُوا : نزلوا " . وأنشد :
3027- فَجُسْنا ديارَهُمُ عَنْوَةً ... وأُبْنا بساداتِهم مُوْثَقِيْنا
وقيل : " جاسُوا بمعنى داسوا " ، وأنشد :
3028- إليك جُسْنا الفِيلَ بالمَطِيِّ ... وقيل : الجَوْسُ : التردُّد . وقيل : طَلَبُ الشيءِ باستقصاء . ويقال : " حاسُوا " بالحاءِ المهملة ، وبها قرأ طلحة وأبو السَِّمَّال ، وقرئ " فَجَوَّسُوا " بالجيم بزنة نُكِّسُوا .
قوله : " خلالَ " العامَّةُ على " خِلال " وهو محتملٌ لوجهين ، أحدهما : أنه جمعُ خَلَل كجِبال في جَبَل ، وجِمال في جَمَل . والثاني : أنه اسمٌٌ مفردٌ بمعنى وَسْط ، ويدلُّ له قراءةُ الحسن " خَلَلَ الدِّيار " . وقوله : " وكان وَعْداً " ، أي : وكان الجَوْسُ ، أو وكان وَعْدُ أُوْلاهما ، أو وكان وَعْدُ عقابِهم .
(1/2929)

ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
قوله تعالى : { الكرة } : مفعولُ " رَدَدْنا " وهي في الأصلِ مصدرُ كَرَّ يَكُرُّ ، أي : رَجَعَ ، ثم يُعَبَّر بها عن الدَّوْلَةِ والقَهْر .
قوله " عليهم " يجوز تعلُّقه ب " رَدَدْنا " ، أو بنفس/ الكَرَّة ، لأنه يُقال : كَرَّ عليه فتتعدَّى ب " على " ويجوز أن تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من " الكَرَّة " .
قوله : " نَفِيراً " منصوبٌ على التمييز ، وفيه أوجهٌ ، أحدها : أَنَّه فَعِيْل بمعنى فاعِل ، أي : أكثر نافراً ، أي : مَنْ يَنْفِرُ معكم . الثاني : أنه جمع نَفْرٍ نحو : عَبْد وعَبيد ، قاله الزجاج ، وهم الجماعة الصَّائِرون إلى الأعداء . الثالث : أنه مصدرٌ ، أي : أكثرُ خروجاً إلى الغَزْو . قال الشاعر :
3029- فَأَكْرِمْ بقَحْطانَ مِنْ والدٍ ... وحِمْيَرَ أكرِمْ بقومٍ نَفيرا
والمفضَّلُ عليه محذوفٌ ، فقدَّره بعضُهم : أكثر نفيراً من أعدئكم ، وقدَّره الزمخشري : أكثر نفيراً مِمَّا كنتم .
(1/2930)

إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
قوله تعالى : { فَلَهَا } : في اللامِ أوجهٌ : أحدُها : أنها بمعنى " على " ، أي فعليها كقوله :
3030- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فَخَرَّ صريعاً لليدينِ وللفمِ
أي : على اليدين . والثاني : أنها بمعنى إلى . قال الطبري : " أي/ فإليها تَرْجِعُ الإِساءةُ " . الثالث : أنها على بابها ، وإنما أتى بها دونه " على " للمقابلة في قوله : " لأنفسِكم " فأتى بها ازْدِواجاً . وهذه اللامُ يجوز أن تتعلَّقَ بفعلٍ مقدرٍ كما تقدَّم في قولِ الطبريِّ ، وإمَّا بمحذوفٍ على أنها خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ تقديرُه : فلها الإِساءةُ لا لغيرِها .
قوله : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة } ، أي : المرة الآخرة فَحُذِفَت " المرَّة " للدَّلالة عليها ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ تقديرُه : بَعَثْناهم .
وقوله : { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } متعلقٌ بهذا الجوابِ المقدرِ . وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر " لِيَسُوْءَ " بالياءِ المفتوحةِ وهمزةٍ مفتوحةٍ آخرَ الفعل . والفاعلُ : إمَّا اللهُ تعالى ، وإمَّا الوعدُ ، وإمَّا البعثُ ، وإمَّا النفيرُ . والكسائيُّ " لِنَسُوءَ " بنونِ العظمة ، أي : لِنَسُوءَ نحن ، وهو موافِقٌ لِما قبلَه مِنْ قولِه " بَعَثْنا عباداً لنا " و " رَدَدْنا " و " أَمْدَدْنا " ، وما بعده من قوله : " عُدْنا " و " جَعَلْنا " .
وقرأ الباقون : " لِيَسُوْءُوا " مسنداً إلى ضميرِ الجمع العائد على العِباد ، أو على النفير؛ لأنه اسمُ جمعٍ ، وهو موافِقٌ لِما بعدَه من قوله { وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ } . وفي عَوْدِ الضمير على النفير نظرٌ؛ لأنَّ النفيرَ المذكورَ من المخاطبين ، فكيف يُوصف ذلك النفيرُ بأنه يَسُوْء وجوهَهم؟ اللهم إلا أنْ يريدَ هذا القائلَ أنه عائدٌ على لفظِه دون معناه ، من بابِ " عندي درهمٌ ونصفُه " .
وقرأ أُبَيٌّ " لِنَسُوْءَنْ " بلامِ الأمرِ ونونِ التوكيدِ الخفيفة ونونِ العظمة ، وهذا جوابٌ ل " إذا " ، ولكن على حَذْفِ الفاء ، أي " فَلِنَسُوْءَنْ ، ودخلت لامُ الأمرِ على فعلِ المتكلمِ كقولِه تعالى : { وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } [ العنكبوت : 12 ] .
وقرأ عليُّ بنُ أبي طالب " لَيَسُوْءَنَّ " و " وَلَنَسوْءَنَّ " بالياء أو النون التي للعظمةِ ، ونونِ التوكيدِ الشديدة ، واللامِ التي للقسَمِ . وفي مصحف اُبَيّ " لِيَسُوْءُ " بضمِّ الهمزة من غيرِ واوٍ ، وهذه القراءةُ تشبه أَنْ تكونَ على لغةِ مَنْ يَجْتَزِئُ عن الواوِ بالضمة ، كقوله :
3031- فلوْ أنَّ الأطبَّا كانُ حولي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يريد : " كانوا " . وقولِ الآخر :
3032- إذا ما الناسُ جاعُ وأَجْدَبُوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يريد " جاعُوا " ، فكذا هذه القراءةُ ، أي : لِيَسُوْءُوا ، كما في القراءةِ الشهيرة ، فَحَذَفَ الوَاو .
وقرئ " لِيَسْيء " بضمِّ الياءِ وكسرِ السينِ وياءٍ بعدها ، أي : ليُقَبِّحَ اللهُ وجوهكم ، أو ليقبِّح الوعدُ ، أو البعثُ . وفي مصحفِ أنس " وَجْهَكم " بالإِفرادِ كقوله :
(1/2931)

3033- كُلوا في بعضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[ وكقوله : ]
3034- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شَجِيْنا
[ وكقوله : ]
3035- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيْبُ
قوله : " ولِيَدْخُلُوا " مَنْ جَعَلَ الأولى لامَ " كي " كانت هذه أيضاً لامَ " كي " معطوفةً عليها ، عَطْفَ علةٍ على أخرى ، ومَنْ جَعَلَها لامَ أمرٍ كأُبَيِّ ، أو لامَ قسمٍ كعليّ بن أبي طالب فاللامُ في " لِيَدْخُلوا " تحتمل وجهين : الأمرَ والتعليل ، و { كَمَا دَخَلُوهُ } نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو حالٌ من ضميره ، كما يقول سيبويه ، أي : دخولاً كما دخلوه . و { أَوَّلَ مَرَّةٍ } ظرفُ زمانٍ ، وتقدَّم/ الكلامُ عليها في براءة .
[ قوله : ] { مَا عَلَوْاْ } يجوز في " ما " أن تكونَ مفعولاً بها ، أي : ليُهْلِكُوا الذي عَلَوه ، وقيل : ليَهْدِمُوه كقوله :
3036- وما الناسُ إلا عاملان فعامِلٌ ... يُُتَبِّرُ ما يَبْني وآخرُ رافِعُ
ويجوز فيها أَنْ تكونَ ظرفيةً ، أي : مدةَ استعلائِهم وهذا مُحْوجٌ إلى حذفِ مفعولٍ ، اللهم إلا أَنْ يكونَ القصدُ مجردَ ذِكْرِ الفعلِ نحو : هو يعطي ويمنع .
(1/2932)

عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
قوله تعالى : { حَصِيراً } : يجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى فاعِل ، اي : حاصرةً لهم ، مُحيطةً بهم ، وعلى هذا فكان ينبغي أن يؤنَّثَ بالتاء كخبيرة . وأُجيب : بأنَّها على النسَب ، أي ذات حَصْرٍ كقولِه : { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } [ المزمل : 18 ] ، أي ذاتُ انفطارٍ . وقيل : الحَصِيْرُ : الحَبْسُ ، قال لبيد :
3037- ومَقامَةٍ غُلْبِ الرجالِ كأنَّهمْ ... جِنٌّ لدى بابِ الحصيرِ قيامُ
وقال أبو البقاء : " لم يؤنِّثْه لأنَّ فعيلاً بمعنى فاعِل " وهذا منه سهوٌ؛ لأنه يؤدِّ إلى أن تكونَ الصفةُ التي على فعيل إذا كانَتْ بمعنى فاعِل جاز حَذْفُ التاءِ منها ، وليس كذلك لِما تقدَّم مِنْ أنَّ فعيلاً بمعنى فاعِل يَلْزَمُ تأنيثه ، وبمعنى مَفْعول يجب تذكيرُه ، وما جاء شاذَّاً مِنَ النوعين يُؤَوَّل . وقيل : إنما لم يُؤَنَّثْ لأنَّ تأنيث " جهنَّم " مجازيٌّ ، وقيل : لأنها في معنى السِّجْن والمَحْبَس ، وقيل : لأنها بمعنى فِرَاش .
(1/2933)

إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)
قوله تعالى : { لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } : أي : للحالةِ أو للمِلَّة أو للطريقة . قال الزمخشري : " وأَيَّتَما قدَّرْتَ لم تَجِدْ مع الإِثباتِ ذَوْقَ البلاغةِ الذي تجده مع الحذف؛ لِما في إبهام الموصوفِ بحذفِه مِنْ فخامةٍ تُفْقَدُ مع إيضاحِه " .
(1/2934)

وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
قوله تعالى : { وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ عطفاً على " أنَّ " الأولى ، أي : يُبَشِّرُ المؤمنين بشيئين : بأجرٍ كبيرٍ وبتعذيبِ أعدائهم ، ولا شكَّ أنَّ ما يُصيبُ عَدُوَّك سُرورٌ لك . وقال الزمخشري : " ويُحتمل أن يكونَ المرادُ : ويُخبر بأنَّ الذين " .
قال الشيخ : " فلا يكونُ إذ ذاك داخلاً تحت البشارةِ " . قلتُ : قولُ الزمخشريِّ يَحْتمل أمرين ، أحدُهما : أن يكونَ قولُه " ويُحتمل أن يكونَ المرادُ : ويُخْبِرُ بأنَّ " أنه من باب الحذف ، أي : حَذَف " ويُخْبِرُ " وأبقى معموله ، وعلى هذا فيكون " أنَّ الذين " غيرَ داخلٍ في حَيِّز البِشارة بلا شك ، ويحتمل أن يكونَ قصدَه : أنه أُريد بالبِشارة مجرَّدُ الإِخبار سواءً كان بخيرٍ أم بِشَرّ ، وهل هو فيهما حقيقةٌ أو في أحدِهما ، وحينئذٍ يكون جمعاً بين الحقيقةِ والمجاز ، أو استعمالاً للمشترك في معنييه ، وفي المسألتين خلافٌ مشهور ، وعلى هذا فلا يكون قولُه { وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } غيرَ داخلٍ في حَيِّز البِشارة ، إلا أنَّ الظاهرَ مِنْ حالِ الزمخشري أنه لا يُجيز الجمعَ بين الحقيقةِ والمجازِ ولا استعمالَ المشتركِ في مَعْنَيَيْه .
(1/2935)

وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
قوله تعالى : { وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير } : في الباءين ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنهما متعلِّقتان بالدعاءِ على بابهما نحو : " دَعَوْتُ بكذا " والمعنى : أنَّ الإِنسانَ في حالِ ضَجَرِه قد يَدْعُو بالشرِّ ويُلِحُّ فيه ، كما يَدْعُو ويُلِحُّ فيه .
والثاني : أنهما بمعنى " في " بمعنى أنَّ الإِنسانَ إذا أصابه ضرٌّ دعا وألَحَّ في الدعاءِ واستعجل الفرجَ ، مثلَ الدعاءِ الذي كان يحبُّ أَنْ يدعوَه في حالة الخير ، وعلى هذا فالمَدْعُوُّ به ليس الشرَّ ولا الخيرَ . وهو بعيدٌ . الثالث : أن تكونَ للسببِ ، ذكره أبو البقاء ، والمعنى لا يُساعده ، والمصدرُ مضافٌ لفاعِلِه .
(1/2936)

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
قوله تعالى : { آيَتَيْنِ } : يجوز أن يكونَ هو المفعولَ الأولَ ، و { الليل والنهار } ظرفان في موضع الثاني قُدِّما على الأول ، والتقدير : وجَعَلْنا آيتين في الليلِ والنهار ، والمرادُ بالآيتين : إمَّا الشمسُ والقمرُ ، وإمَّا تكويرُ هذا على هذا ، وهذا على هذا ، ويجوز أنْ يكونَ " آيَتَيْن " هو الثاني ، و { الليل والنهار } هما الأول . ثم فيه احتمالان ، أحدُهما : أنه على حَذْفِ مضافٍ : / إمَّا من الأولِ ، أي : نَيَّرَي الليل والنهار ، وهما القمرُ والشمسُ ، وإمَّا من الثاني ، أي : ذَوِي آيتين . والثاني : أنه لا حَذْفَ ، وأنهما علامتان في أنفسِهما ، لهما دلالةٌ على شيءٍ آخرَ . قال أبو البقاء : " فلذلك أضافَ في موضعٍ ، وَوَصف في آخر " يعني أنه أضافَ الآيةَ إليهما في قولِه { آيَةَ الليل } و { الليل والنهار } ووصفَهما في موضعٍ آخرَ بأنهما اثنان لقولِه : " وجَعَلْنا الليلَ والنهارَ آيتين " . هذا كلُّه إذا جَعَلْنَا الجَعْلَ تصييراً متعدِّياً لاثنين ، فإن جَعَلْناه بمعنى " خَلَقْنا " كان " آيتين " حالاً ، وتكونُ حالاً مقدرة .
واستشكل بعضُهم أَنْ يكونَ " جَعَلَ " بمعنى صَيَّر قال : " لأنه يَسْتَدْعِيْ أن يكونَ الليلُ والنهارُ موجودَيْن على حالةٍ ، ثم انتقل عنها إلى أخرى " .
قوله : " مُبْصِرَةً " فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مِنْ الإِسنادِ المجازيِّ ، لأنَّ الإِبصارَ فيها لأهلِها ، كقولِه : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً } [ الإِسراء : 59 ] لمَّا كانت سبباً للإِبْصار . وقيل : " مُبْصِرة " : مضيئةً ، وقيل : هي من بابِ اَفْعَل ، والمرادُ به غيرُ مَنْ أُسْنِد الفعلُ إليه كقولهم : " أَضْعَفَ الرجلُ " ، أي : ضَعُفَتْ ماشِيتُه ، و " أَجْبن " إذا كان أهلُه جبناء ، فالمعنى أنَّ أهلَها بُصراء .
وقرأ عليُّ بن الحسين وقتادةُ " مَبْصَرة " بفتح الميم والصاد ، وهو مصدرٌ أقيم مُقام الاسمِ ، وكَثُر هذا في صفاتِ الأمكنة نحو : " مَذْأَبَة " .
قوله : { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ } فيه وجهان ، أحدهما : أنَّه منصوبٌ على الاشتغال ، ورُجِّح نصبُه لتقدُّمِ جملةٍ فعلية . وكذلك { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ } [ الإِسراء : 13 ] . والثاني : - وهو بعيد - أنه منصوبٌ نَسَقاً على " الحِسابَ " ، أي : لتعلموا كلَّ شيءٍ أيضاً ، ويكون " فَصَّلْناه " على هذا صفةً .
وقرئ " في عُنْقِه " وهو تخفيفٌ شائعٌ .
(1/2937)

وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13)
قوله تعالى : { وَنُخْرِجُ } : العامَّةُ على " نُخْرِجُ " بنونِ العظمة مضارع " اَخْرَجَ " ، و " كتاباً " فيه وجهان ، أحدهما : أنه مفعولٌ به والثاني : أنه منصوبٌ على الحالِ من المفعول المحذوف ، إذ التقديرُ : ونُخْرِجُه إليه كتاباً ، ونُخْرِجُ الطائرَ .
ورُوِي عن أبي جعفر : " ويُخْرَجُ " مبنيَّاً للمفعول ، " كتاباً " نصبٌ على الحال ، والقائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ الطائرِ ، وعنه أنَّه رَفَع " كتاباً " . وخُرِّج على أنَّه مرفوعٌ بالفعلِ المبنيِّ للمفعول ، والأولى قراءة قلقةٌ .
وقرأ الحسن : " ويَخْرُجُ " بفتحِ الياءِ وضمِّ الراءِ مضارعَ " خَرَجَ " ، " كتابٌ " فاعلٌ به ، وابن محيصن ومجاهد كذلك ، إلا أنهما نَصَبا " كتاباً " على الحال ، والفاعلُ ضميرُ الطائرِ ، أي : ويَخْرُجُ له طائرُه في هذه الحالِ . وقرئ " ويُخْرِجُ " بضمِّ الياء وكسرِ الراء مضارعَ " اَخْرَجَ " ، والفاعلُ ضميرُ الباري تعالى ، " كتاباً " مفعولٌ .
قوله : " يَلْقَاْه " صفةٌ ل " كتاباً " ، و " مَنْشُوراً " حالٌ من هاء " يَلْقاه " . وجوَّز الزمخشري والشيخ وأبو البقاء أن يكونَ نعتاً لكتاب . وفيه نظرٌ : من حيث إنه يَلْزَمُ تقدُّم الصفةِ غير الصريحة على الصريحةِ ، وقد تقدَّم ما فيه .
وقرأ ابنُ عامر " يُلَقَّاه " بضمِّ الياء وفتح اللام وتشديد القاف ، مضارعَ " لَقَّى " بالتشديد ، والباقون : بالفتح والسكونِ والتخفيف مضارع لَقِي .
(1/2938)

اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
قوله تعالى : { اقرأ } : على إضمارِ القولِ ، أي : يُقال له : اقرأْ ، وهذا القولُ : إمَّا صفةٌ أو حالٌ كما في الجملةِ قبله .
قوله/ { كفى بِنَفْسِكَ } فيه ثلاثةُ أوجهٍٍ ، المشهورُ عند المُعْرِبين : أنَّ " كفى " فعلٌ ماضٍ ، والفاعلُ هو المجرورُ بالباء ، وهي فيه مزيدةٌ ، ويَدُلُّ عليه أنها حُذِفت ارتفع ، كقوله :
3038- ويُخْبرني عن غائبٍ المَرْءِ هَدْيُه ... كَفَى الهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ المَرْءُ مُخْبِرا
وقولِ الآخر :
3039- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كَفَى الشيبُ والإِسلامُ للمرءِ ناهيا
وعلى هذا فكان ينبغي أن يُؤَنَّثَ الفعلُ لتأنيث فاعلِه ، وإن كان مجروراً كقوله : { مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ } [ الأنبياء : 6 ] و { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ } [ الأنعام : 4 ] . وقد يقال : إنه جاء على أحد الجائزين فإن التأنيثَ مجازيٌّ . والثاني : أنَّ الفاعلَ/ ضميرُ المخاطبِ ، و " كفى " على هذا اسمُ فعلٍ أمرٍ ، أي : اكْتَفِ ، وهو ضعيفٌ لقَبولِ " كَفَى " علاماتِ الأفعالِ . الثالث : أنَّ فاعلَ " كَفَى " ضميرٌ يعودُ على الاكتفاء ، وقد تقدَّم الكلامُ على هذا مستوفى . و " اليومَ " نصبٌ ب " كفى " .
قوله : " حَسِيْبا " فيه وجهان ، أحدُهما : أنه تمييزٌ . قال الزمخشري : " وهو بمعنى حاسِب ، كضَرِيْب القِداح بمعنى ضاربها ، وصَرِيْم بمعنى صارِم ، ذكرهما سيبويه ، و " على " متعلقةٌ به مِنْ قولك : حَسِب عيله كذا ، ويجوز أن يكونَ بمعنى الكافي ووُضِع موضعَ الشهيد ، فعُدِّي ب " على " لأنَّ الشاهدَ يكفي المُدَّعي ما أهمَّه . فإن قلت : لِمَ ذَكَرَ " حسيباً "؟ قلت : لأنَّه بمنزلةِ الشاهدِ والقاضي والأمين ، وهذه الأمور يَتَوَلاَّها الرجالُ فكأنَّه قيل : كفى بنفسِك رجلاً حسيباً ، ويجوز أًنْ تُتَأَوَّلَ النفسُ بمعنى الشخصِ ، كما يقال : ثلاثة أنفس " . قلت : ومنه قولُ الشاعر :
3040- ثلاثةُ أنفسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ ... لقد جارَ الزمانُ على عيالي
والثاني : أنه منصوبٌ على الحالِ ، وذُكِرَ لِما تقدَّم . وقيل : حَسِيب بمعنى مُحاسِب كخَلِيط وجَلِيس بمعنى : مُخالِط ومُجالس .
(1/2939)

وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
قوله تعالى : { أَمَرْنَا } : قرأ العامَّةُ بالقصرِ والتخفيفِ وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه من الأمرِ الذي هو ضِدُّ النهيِ . ثم اختلف القائلون بذلك في متعلَّق هذا الأمرِ : فعن ابن عباس في آخرين : أنه أَمَرْناهم بالطاعةِ فَفَسَقُوا ، وقد ردَّ هذا الزمخشريُّ رداً شديداً وأنكره إنكاراً بليغاً في كلامٍ طويلٍ ، حاصلُه : أنه حَذْفُ ما لا دليلَ عليه ، وقدَّر هو متعلِّق الأمرِ : الفسق ، أي : أَمَرْناهم بالفسق قال : " أي : أَمَرْناهم بالفِسْق ، فعملوا ، والأمرُ مجازٌ؛ لأنَّ حقيقةَ أمرِهم بالفسقِ أَنْ يقول لهم : افْسُقوا ، وهذا لا يكونُ ، فبقي أن يكونَ مجازاً . ووجهُ المجازِ : أنه صَبَّ عليهم النعمة صَبَّاً ، فجعلوها ذريعةً إلى المعاصي واتِّباع الشهوات ، فكأنهم مَأمورون بذلك لِتَسَبُّبِ إيلاءِ النِّعْمَةِ فيه ، وإنما خَوَّلهم فيها ليشكروا " .
ثم قال : " فإنْ قلت : فهلاَّ زَعَمْتَ أنَّ معناه : أَمَرْناهم بالطاعةِ ففسَقُوا . قلت : لأنَّ حَذْفَ ما لا دليلَ عليه غيرُ جائزٍ ، فكيف حَذْفُ ما الدليلُ قائمٌ على نَقِيضِه؟ وذلك أنَّ المأمورَ به إنما حُذِفَ لأنَّ " فَفَسَقُوا " يدلُّ عليه ، وهو كلامٌ مستفيضٌ يقال : " أَمَرْتُه فَقام " ، و " أَمَرْتُه فَقَرأ " ، لا يُفهم منه إلا أنَّ المأمورَ به قيامُ أو قراءةُ ، ولو ذَهَبْتَ تُقَدِّر غيرَه رُمْتَ مِنْ مخاطَبِك عِلْمَ الغيبِ ، ولا يَلْزَمُ [ على ] هذا قولُهم : و " أَمَرْتُه فعصاني " أو " فلم يمتثلْ " لأنَّ ذلك منافٍ للأمرِ مناقِضٌ له ، ولا يكونُ ما يناقض الأمرَ مأموراً به ، فكان محالاً أن يُقْصَدَ أصلاً حتى يُجْعَلَ دالاًّ على المأمورِ به ، فكان المأمورُ به في هذا الكلامِ غيرَ مَنْوِيٍّ ولا مُرادٍ؛ لأن مَنْ يتكلمُ بهذا الكلامِ لا يَنْوي لآمرهِ مأموراً به ، فكأنه يقول : كان مني أَمْرٌ فكان منه طاعةٌ ، كما أنَّ مَنْ يقول : [ " فلان ] يبأمرُ ويَنْهى ويعطي ويمنع " لا يَقْصِدُ مفعولاً . فإن قلت : هلاَّ كان ثبوتُ العلمِ بأنَّ اللهَ لا يأمرُ بالفحشاء دليلاً على أنَّ المراد : أَمَرْناهم بالخيرِ ، قلت : لأنَّ قوله " فَفَسَقوا " يدافعه ، فكأنَّك أظهَرْتَ شيئاً وأنت تُضْمِرُ خلافَه ، ونظيرُ " أمر " : " شاء " في أنَّ مفعولَه استفاضَ حَذْفُ مفعولِه لدلالةِ ما بعدَه عليه . تقول : لو شاءَ لأحسنَ إليك ، ولو شاءَ لأساءَ إليك ، تريد : لو شاء الإِحسانَ ، ولو شاء الإِساءةَ ، ولو ذَهَبْتَ تُضْمِرُ خلافَ ما أظهرْتَ ، وقلت : قد دَلَّتْ حالُ مَنْ أُسْنِدَتْ إليه المشيئةُ أنه من أهلِ الإِحسان أو من أهلِ الإِساءةِ فاتركِ الظاهرَ المنطوقَ وأَضْمِرْ ما دَلَّتْ عليه حالُ المسندِ إليه المشيئةُ ، لم تكنْ على سَدادٍ " .
وتَتَبَّعه الشيخُ في هذا فقال : " أمَّا ما ارتكبه من المجاز فبعيدٌ جداً ، وأمَّا قولُه : " لأنَّ حَذْفَ ما لا دليلَ عليه غيرُ جائزٍ " فتعليلٌ لا يَصِحُّ فيما نحن بسبيلِه ، بل ثَمَّ ما يَدُلُّ على حَذْفِه .
(1/2940)

وقوله : " فكيف يُحْذَفُ ما الدليلُ على نقيضِه قائمٌ " إلى " عِلْم/ الغيب " فنقول : حَذْفُ الشيءِ تارةً يكونُ لدلالةِ موافِقِه عليه ، ومنه ما مَثَّل به في قولِه " أَمَرْتُه فقامَ " ، وتارة يكونُ لدلالةِ خِلافِه أو ضدِّه أو نقيضِه كقولِه تعالى : { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اليل والنهار } [ الأنعام : 13 ] ، أي : ما سَكَنَ وتحرَّك ، وقوله : { سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } [ النحل : 81 ] ، أي : والبردَ ، وقول الشاعر :
3041- وما أَدْرِيْ إذا يَمَّمْتُ أرْضاً ... أريدُ الخيرَ ايُّهما يَلِينْي
أالخيرُ الذي أنا أَبْتَغِيْهِ ... أم الشرُّ الذي هو يَبْتَغيني
أي : وأَجْتَنِبُ الشرَّ ، وتقول : " أَمَرْتُه فلم يُحْسِنْ " فليس المعنى : أمرتُه بعدم الإِحسانِ ، بل المعنى : أَمَرْتُه بالإِحسانِ فلم يُحْسِنْ ، والآيةُ من هذا القبيل ، يُستدلُّ على حذف النقيض بنقيضه كما يُسْتَدَلُ على حَذْفِ النظير بنظيره ، وكذلك " أَمَرْتُه فأساء إليَّ " ليس المعنى : أَمَرْتُه بالإِساءة بل أَمَرْتُه بالإِحسان . وقوله : " ولا يَلْزم هذا قولَهم : " أَمَرْتُه فعصاني " . نقول : بل يَلْزَمُ . وقوله : " لأنَّ ذلك منافٍ " ، أي : لأنَّ العِصْيانَ منافٍ . وهو كلامٌ صحيح . وقوله : " فكان المأمورُ به غيرَ مدلولٍ عليه ولا مَنْويٌّ " لا يُسَلَّم بل مَدْلُولٌ عليه ومنوِيٌّ لا دلالةُ الموافقِ بل دلالةُ المناقِض ، كما بَيَّنَّا . وقوله : " لا يَنْوِي مأموراً به " لا يُسَلَّم . وقوله : " لأنَّ فَفَسَقُوا يدافعُه ، إلى آخره " قلنا : نعم نَوَى شيئاً ويُظهِرُ خلافَه ، " لأنَّ نقيضَه يَدُلُّ عليه . وقولُه : " ونظيرُ " أمر " " شاء " ليس نظيرَه؛ لأنَّ مفعولَ " أمر " كَثُر التصريحُ به . قال الله [ تعالى ] : { إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء } [ الأعراف : 28 ] { أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } [ يوسف : 40 ] { يَأْمُرُ بالعدل } [ النحل : 67 ] { أَمَرَ رَبِّي بالقسط } [ الأعراف : 29 ] { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ } [ الطور : 32 ] وقال الشاعر :
3042- أَمَرْتُك الخيرَ فافْعَلْ ما أُمِرْتَ به ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قلت : والشيخُ رَدَّ عليه رَدَّ مُسْتَريحٍ من النظرِ ، ولولا خَوفُ السآمةِ على الناظرِ لكان للنظرِ في كلامهما مجالٌ .
والوجه الثاني : أنَّ " أَمَرْنا " بمعنى كَثَّرْنا ، ولم يَرْتَضِ الزمخشريُّ في ظاهرِ عبارتِه فإنَّه قال : " وفسَّرَ بعضُهم " أَمَرْنا " ب " كَثَّرْنا " ، وجَعَلَه من بابِ : فَعَّلْتُه فَفَعَلَ ، كَثَبَّرْتُه فَثَبَر . وفي الحديثِ : " خَيْرُ المالِ سِكَّةٌ مأْبُوْرة ومُهْرَةٌ مَأْمورة " ، أي : كثيرةُ النِّتاج " . قلت : وقد حكى أبو حاتم هذه اللغةَ ، يقال : أَمِر القومُ ، وأَمَرهم اللهُ ، ونقله الواحديُّ أيضاً عن أهل اللغة ، وقال أبو علي : " الجيِّد في " أَمَرْنا " أن يكونَ بمعنى كَثَّرْنا " .
واستدل أبو عبيدة بما جاء في الحديثِ فذكره . يقال : أَمَرَ اللهُ المُهْرَة ، أي : كَثَّر ولدَها . قال " ومَن أنكر " أمرَ اللهُ القومَ " أي : كَثَّرهم لم يُلتفَتْ إليه لثبوتِ ذلك لغةً " .
(1/2941)

ويكون ممَّا لَزِمَ وتعدَّى بالحركةِ المختلفةِ؛ إذ يُقال : أَمِر القومُ كَثُروا ، وأَمَرَهم الله كثَّرهم ، وهو من بابِ المطاوعة : أَمَرهم الله فَأْتَمَروا كقولِك : شَتَرَ اللهُ عَيْنَه فَشَتِرَتْ ، وجَدَعَ اَنْفَه فَجَدِع ، وثَلَمَ سِنَّه فَثَلِمَتْ .
وقرأ الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمةُ : " أَمِرْنا " بكسر الميم بمعنى " أَمَرْنا " بالفتح . حكى أبو حاتم عن أبي زيد أنه يُقال : " أَمَرَ اللهُ مالَه ، وأَمِرَه " بفتح الميم وكسرِها ، وقد رَدَّ الفراء هذه القراءةَ ، ولا يُلْتَفَتُ لِرَدِّه لثبوتِها لغةً بنَقْلِ العُدولِ ، وقد نَقَلها قراءةً عن ابن عباس أبو جعفر وأبو الفضل الرازي في " لوامِحه " فكيف تُرَدُّ؟
وقرأ عليُّ بن أبي طالب وابنُ أبي إسحاق وأبو رجاء في آخرين " آمَرْنا " بالمَدِّ ، ورُوِيَتْ هذه قراءةً عن ابنِ كثير وأبي عمرو وعاصم ونافعٍ ، واختارها يعقوبُ ، والهمزةُ فيه للتعديةِ؟
وقرأ عليٌّ أيضاً وابنُ عباس وأبو عثمان النهدي : " أمَّرْنا " بالتشديد . وفيه وجهان ، أحدهما : أنَّ التضعيفَ للتعديةِ ، عدَّاه تارةً بالهمزة وأخرى بتضعيفِ العين ، كأَخْرَجْته وخَرَّجته . والثاني : أنه بمعنى جعلناهم أُمَراءَ ، واللازمُ من ذلك " أُمِّر " . قال الفارسيُّ ، " لا وجهَ لكون " أَمَّرْنا " / من الإِمارة؛ لأنَّ رئاستَهم لا تكونُ إلاَّ لواحدٍ بَعْدَ واحدٍ ، والإِهلاكُ إنما يكون في مُدَّة واحدة " . وقد رُدَّ على الفارسي : بأنَّا لا نُسَلِّم أن الأميرَ هوالمَلِك حتى يَلْزَمَ ما قلتُ ، لأنَّ الأميرُ عند العرب مَنْ يَأْمُرُ ويُؤْتَمَرُ به . ولَئِنْ سُلِّم ذلك لا يلزم ما قال؛ لأنَّ المُتْرَفَ إذا مَلَكَ فَفَسَق ثم آخرَ بعده فَفَسَق ، ثم كذلك كَثُر الفسادُ ، ونزل بهم على الآخِر مِنْ ملوكهم .
(1/2942)

وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
قوله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا } : " كم " نصبٌ بأَهْلكنا ، و { مِنَ القرون } تمييزٌ ل " كم " ، و { مِن بَعْدِ نُوحٍ } : " مِنْ " لابتداء الغاية ، والأُوْلى للبيان فلذلك اتَّحد متعلَّقُها . وقال الحوفي : " الثانية بدلٌ مِن الأولى ، وليس كذلك لاختلاف معنييهما . والباءُ بعد " كَفَى " تقدَّم الكلامُ عليها . وقال ابن عطية : " إنما يُجاءُ بهذه الباءِ في موضعِ مَدْحٍ أو ذم " . والباء في " بذنوب " متعلقةٌ ب " خبيراً " ، وعَلَّقها الحوفيُّ ب " كَفَى " . قال الشيخ : " وهو وهمٌ " . قلت : إنما جَعَلَه وهماً لأنه لا يَتَعَدَّى بالباء ، ولا يليق به المعنى .
(1/2943)

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)
قوله تعالى : { مَّن كَانَ } : " مَنْ " شرطيةٌ ، و " عَجََّلْنا " جوابُه ، و " ما يشاء " مفعولُه ، و " لِمَنْ نريدُ " بدلُ بعضٍ من كل ، من الضمير في " له " بإعادةِ العاملِ ، و " لِمَنْ نريد " تقديرُه : لمَنْ نريدُ تعجيلَه له .
قوله : { ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ } " جَعَلَ " هنا تصييريةٌ .
قوله : " يَصْلاها " الجملةُ حالٌ : إمَّا من الضمير في " له " وإمَّا مِنْ " جهنَّم " ، و " مَذْمُوماً " حالٌ مِنْ فاعلِ " يَصْلاها " . قيل : وفي الكلامِ حَذْفٌ ، وهو حَذْفُ المقابِل؛ إذ الأصل : مَنْ كان يريد العاجلةَ وسَعَى لها سَعْيَها وهو كافرٌ لدلالةِ ما بعده عليه . وقيل : بل الأصل : مَنْ كان يريد العاجلة بعمله للآخرةِ كالمنافِق .
(1/2944)

وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
قوله تعالى : { سَعْيَهَا } : فيه وجهان ، أحدُهُما : أنه مفعولٌ به لأنَّ المعنى : وعَمِل لها عملَها . والثاني : أنه مصدرٌ ، و " لها " ، أي : مِنْ أجلِها .
قوله { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } هذه الجملةُ حالٌ مِنْ فاعل " سعى " .
(1/2945)

كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)
قوله تعالى : { كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء } : " كُلاًّ " منصوب ب " نُمِدُّ " و " هؤلاء " بدلٌ ، " وهؤلاء " عطفٌ عليه ، أي : كلَّ فريق نُمِدُّ هؤلاء الساعين بالعاجلة ، وهؤلاء الساعين للآخرة ، وهذا تقديرٌ جيد . وقال الزمخشري في تقديرِه : " كلَّ واحد من الفريقين نُمِدُّ " . قال الشيخ : " كذا قَدَّره الزمخشريُّ ، وأعربوا " هؤلاء " بدلاً مِنْ " كُلاًّ " ولا يَصِحُّ أن يكونَ بدلاً مِنْ " كل " على تقدير : كلَّ واحد ، لأنه إذ ذاك بدلُ من بعض ، فينبغي أن يكونَ التقدير : كلَّ الفريقين .
و { مِنْ عَطَآءِ } متعلقٌ ب " نُمِدُّ " . والعطاءُ اسمُ مصدرٍ واقعٌ موقعَ اسم المفعول .
والمَحْظور : الممنوعُ ، وأصله مِن الحَظْر وهو : جَمْعُ الشيءِ في حَظيرة ، والحَظيرة : ما يُعْمل مِنْ شجرٍ ونحوِه لتَأْوِي الغنم ، والمُحْتَظِر : مَنْ يعمل الحظيرة .
(1/2946)

انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
قوله تعالى : { كَيْفَ فَضَّلْنَا } : " كيف " نصبٌ : إمَّا على التشبيه بالظرف ، وإمَّا على الحال ، وهي معلِّقَةٌ " انظرْ " بمعنى فَكِّرْ ، أو بمعنى أبصرْ .
قوله : " وأكثر تَفْصيلاً " ، أي : من درجاتِ الدنيا ، ومِنْ تفضيلِ الدنيا .
(1/2947)

لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
قوله تعالى : { فَتَقْعُدَ } : يجوز أن تكونَ على بابها ، فينتصِبَ ما بعدها على الحال ، ويجوزُ أَنْ تكونَ بمعنى " صار " فينتصبَ على الخبرية ، وإليه ذهب الفراء والزمخشري ، وأنشدوا في ذلك :
3043- لا يُقْنِعُ الجاريةَ الخِضابُ ... ولا الوِشاحان ولا الجِلْبابُ
من دون أن تلتقي الأَرْكابُ ... ويَقْعُدَ الأَيْرُ له لُعابُ
أي : ويَصير . والبصريون لا يَقيسون هذا ، بل يَقْتَصِرون به على المَثَل في قولهم : " شَحَذَ شفرتَه حتى قَعَدَتْ كأنها حَرْبَةٌ " .
(1/2948)

وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23)
قوله تعالى : { أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } : يجوز أَنْ تكونَ " أنْ " مفسِّرةً؛ لأنها بعد ما هو بمعنى القول ، و " لا " ناهيةٌ . ويجوز أَنْ تكونَ الناصبةَ ، و " لا " نافيةٌ ، أي : بأنْ لا ، ويجوزُ أن تكونَ المخففةَ ، واسمُها ضميرُ الشأن ، و " لا " ناهيةٌ أيضاً ، والجملةُ في مثل هذا إشكالُ : من حيث وقوعُ الطلبِ خبراً لهذا الباب . ومثلُه في هذا الإشكالِ قولُه : { أَن بُورِكَ مَن فِي النار } [ النمل : 8 ] ، وقوله : { أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ } [ النور : 9 ] لكونِه دعاءً وهو طَلَبٌ أيضاً ، ويجوز أَنْ تكونَ الناصبةَ و " لا " زائدة . قال أبو البقاء : ويجوز أَنْ يكونَ في موضع نصبٍ ، [ أي : ] أَلْزَمَ ربُّك عبادَته و " لا " زائدةٌ " . قال الشيخ : " وهذا وهمٌ لدخولِ " إلا " على مفعولِ " تَعْبدوا " فَلَزِم أن يكونَ نَفْياًً أو نهياً " .
وقرأ الجمهور " قَضَى " فعلاً ماضياً ، فقيل : هي على موضوعِها الأصلي : قال ابنُ عطية : " ويكون الضمير في " تَعْبُدوا " للمؤمنين من الناسِ إلى يومِ القيامةِ " وقيل : هي بمعنى أَمَر . وقيل : بمعنى أَوْحَى ، وقيل : بمعنى حَكَم ، وقيل : بمعنى أَوْجَبَ أو ألزم .
وقرأ بعضُ وَلَد معاذِ بن جَبَل " وقضاء " / اسماً مصدراً مرفوعاً بالابتداء ، و { أَلاَّ تعبدوا } خبرُه .
قوله : { وبالوالدين إِحْسَاناً } قد تقدَّم نظيرُه في البقرة . وقال الحوفي : الباءُ متعلقةٌ ب " قضى " ، ويجوز أن تكونَ متعلقةً بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه : واَوْصى بالوالدين إحساناً ، وإحساناً مصدر ، أي : يُحْسِنون بالوالدين إحساناً " .
وقال الواحديُّ : " الباءُ مِنْ صلة الإِحسانِ فَقُدِّمَتْ عليه كما تقول : بزيدٍ فانْزِلْ " . وقد مَنَعَ الزمخشريُّ هذا الوجهَ قال : " لأنَّ المصدرَ لا يتقدَّم عليه معمولُه " . قلت : والذي ينبغي أن يُقال : إن هذا المصدرَ إنْ عَنَى به أنه يَنْحَلُّ لحرفٍ مصدريٍّ وفِعْلٍ فالأمرُ على ما ذَكَرَ الزمخشريُّ ، وإن كان بدلاً مِنَ اللفظ بالفعلِ فالأمرُ على ما قال الواحديُّ ، فالجوازُ والمنعُ بهذين الاعتبارين .
وقال ابنُ عطية : " قوله وبالوالدَيْن إحساناً عطف على " أنْ " الأولى ، أي : أَمَر اللهُ أَنْ لا تعبدوا إلا إياه ، وأن تُحْسِنوا بالوالدَيْن إحساناً " . واختار الشيخُ أَنْ يكون " إحساناً " مصدراً واقعاً موقعَ الفعلِ ، وأنَّ " أنْ " مفسرةٌ ، و " لا " ناهيةٌ . قال : فيكون قد عَطَفَ ما هو بمعنى الأمرِ على نَهْيٍ كقولِه :
3044- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يقولون : لا تَهْلِكْ أَسَىً وتَجَمَّلِ
قلت : وأَحْسَنَ " و " أساء " يتعدِّيان ب إلى وبالباء . قال تعالى : { وَقَدْ أَحْسَنَ بي } [ يوسف : 100 ] وقال كثِّير عَزِّة :
3045- أسِيْئي بنا أو أَحْسِنِي لا مَلومةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1/2949)

وكأنه ضُمِّن " أَحْسَن " لمعنى " لَطُف " فتعدَّى تعديتَه .
قوله : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ } قرأ الأخَوان " يَبْلُغانِّ " بألفِ التثنيةِ قبل نونِ التوكيدِ المشدَّدةِ المكسورةِ ، والباقون دونَ ألفٍ وبفتحِ النون . فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها أوجهٌ ، أحدها : أن الألفَ ضميرُ الوالدين لتقدُّم ذكرهما ، و " أَحَدُهما " بدلٌ منه ، و " أو كِلاهما " عطفٌ عليه . وإليه نحا الزمخشريُّ وغيرُه . واستشكله بعضُهم بأنَّ قولَه " أحدُهما " بدلُ بعضٍ مِنْ كل ، لا كلٍّ من كل ، لأنه غيرُ وافٍ بمعنى الأول ، وقوله بعد ذلك " أو كِلاهما " عطفٌ على البدلِ ، فيكونُ بدلاً ، وهو مِنْ بدل الكلِّ من الكل؛ لأنه مرادفٌ لألف التثنية . لكنه لا يجوز أن يكونَ بدلاً لعُرُوِّه عن الفائدة؛ إذ المستفادُ من ألفِ التثنيةِ هو المستفادُ مِنْ " كِلاهما " فلم يُفِدِ البدلُ زيادةً على المبدلِ منه .
قلت : هذا معنى قولِ الشيخِ . وفيه نظرٌ؛ إذ لقائلٍ أن يقول : مُسَلَّمٌ أنه لم يُفِدِ البدلُ زيادةً على المبدلِ منه ، لكنه لا يَضُرُّ لأنه شانُ التأكيد ، ولو أفاد زيادةً أخرى غيرَ مفهومةٍ من الأولِ كان تأسيساً لا تأكيداً . وعلى تقدير تسليمِ ذلك فقد يُجابُ عنه بما قال ابنُ عطية فإنه قال بعد ذِكْره هذا الوجهَ " وهو بدلٌ مُقَسَّمٌ كقولِ الشاعرِ :
3045- وكنت كذي رِجْلَيْنِ رجلٍ صحيحةٍ ... ورِجْلٍ رَمَى فيها الزمانُ فَشَلَّتِ
إلا أنَّ الشيخ تعقَّب كلامَه فقال : " أمَّا قولُه بدلٌ مُقَسِّمٌ كقوله : " وكنتُ . . . . " فليس كذلك؛ لأنَّ شرطََه العطفُ بالواو ، وأيضاً فشرطُه : ان لا يَصْدُقَ المُبْدَلُ منه على أحدِ قِسْميه ، لكنْ هنا يَصْدُقُ على أحدِ قسمَيْه ، ألا ترى أنَّ الألفَ وهي المبدلُ منه يَصْدُقُ على أحدِ قِسْمَيْها وهو " كلاهما " فليس من البدلِ المقسِّم " . ومتى سُلِّم له الشرطان لزم ما قاله .
الثاني : أن الألفَ ليست ضميراً بل علامةُ تثنيةٍ و " أحدُهما " فاعلٌ بالفعلِ قبلَه ، و " أو كلاهما " عطفٌ عليه . وقد رُدَّ هذا الوجهُ : بأن شرطَ الفعلِ المُلْحَقِ به علامة تثنيةٍ أن يكون مسنداً لمثنَّى نحو : قاما أخواك ، أو إلى مُفَرَّق بالعطف بالواو خاصةً على خلاف فيه نحو : " قاما زيد وعمرو " ، لكنَّ الصحيحَ جوازُه لورودِه سماعاً كقوله :
3046- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وقد أَسْلماه مُبْعَدٌ وحميم
والفعلُ هنا مسندٌ إلى " أحدُهما " وليس مثنى ولا مفرَّقاً بالعطف بالواوِ .
الثالث : نُقِل عن الفارسيِّ أنَّ/ " كلاهما " توكيدٌ ، وهذا لا بدَّ من إصلاحِه بزيادةٍ ، وهو أن يُجْعَلَ " أحدُهما " بدلَ بعضٍ من كل ، ويُضْمَرَ بعدَه فعلٌ رافعٌ لضمير تثنية ، ويقع " كلاهما " توكيداً لذلك الضميرِ تقديرُه : أو يَبْلُغا كلاهما ، إلا أنَّ فيه حَذْفَ المؤكَّد وإبقاءَ التوكيد ، وفيها خلافٌ ، أجازها الخليل وسيبويه نحو : " مررت بزيدٍ ورأيت أخاك أنفسهما " بالرفع والنصب ، فالرفعُ على تقديرِ : هما أنفسُهما ، والنصبُ على تقدير أَعْنِيهما أنفسَهما ، ولكنْ في هذا نظرٌ : من حيث إن المنقولَ عن الفارسيِّ مَنَعَ حَذْفَ المؤكَّد وإبقاءَ توكيدِه ، فكيف يُخَرَّجُ قولُه على أصلٍ لا يُجيزُه؟
وقد نصَّ الزمخشريُّ على مَنْعِ التوكيدِ فقال : فإنْ قلت : لو قيل : " إمَّا يَبْلُغانِّ كلاهما " كان " كلاهما " توكيداً لا بدلاً ، فما لكَ زَعَمْتَ أنه بدلٌ؟ قلت : لأنَّه معطوفٌ على ما لا يَصِحُّ أن يكون توكيداً للاثنين ، فانتظم في حكمِه ، فوجَبَ أن يكونَ مثلَه " .
(1/2950)

قلت : يعني أنَّ " أحدُهما : لا يَصْلُحُ أن يقعَ توكيداً للمثنى ولا لغيرِهما ، فكذا ما عُطِفَ عليه لأنه شريكُه .
ثم قال : " فإنْ قلتَ : ما ضَرَّك لو جَعَلْتُه توكيداً مع كونِ المعطوفِ عليه بدلاً ، وعَطَفْتَ التوكيدَ على البدل؟ قلت : لو أريد توكيدُ التثنيةِ لقيل : " كلاهما " فحسبُ ، فلمَّا قيل : " أحدهما أو كلاهما " عُلِمَ أنَّ التوكيدَ غيرُ مرادٍ فكان بدلاً مثلَ الأول " .
الرابع : أَنْ يرتفعَ " كلاهما " بفعلٍ مقدَّر تقديرُه : أو يبلغُ كلاهما ، ويكون " إحداهما " بدلاً من ألفِ الضمير بدلَ بعضٍ من كل . والمعنى : إمَّا يَبْلُغَنَّ عندك أحدُ الوالدَيْن أو يبلُغُ كلاهما .
وأمَّا القراءةُ الثانية فواضحةٌ ، و " إن ما " : هي " إنْ " الشرطية زِيْدَتْ عليها " ما " توكيداً ، فَأُدْغِم أحدُ المتقاربين في الآخر بعد ان قُلب إليه ، وهو إدغامٌ واجب . قال الزمخشري : " هي إنْ الشرطيةُ زِيْدَتْ عليها " ما " توكيداً لها ولذلك دَخَلَتْ النون ، ولو أُفْرِدَتْ " إنْ " لم يَصِحُّ دخولُها ، لا تقول : إن تُكْرِمَنَّ زيداً يُكْرِمْكَ ، ولكن : إمَّا تُكْرِمنَّه .
وهذا الذي قاله أبو القاسم نصَّ سيبويهِ على خلافِه ، قال سيبويه : " وإن شِئْتَ لم تُقْحِمِ النونَ ، كما أنك إن شِئْتَ لم تَجِيءْ ب " ما " . قال الشيخ : " يعني مع النون وعَدَمِها " . وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ سيبويه إنما نصَّ على أن نونَ التوكيد لا يجبُ الإِتيانُ بها بعد " أمَّا " ، وإن كان أبو إسحاقَ قال بوجوبِ ذلك . وقوله بعد ذلك " كما أنَّك إنْ شِئْتَ لم تجيءْ ب " ما " ، ليس فيه دليلٌ على جوازِ توكيدِ الشرط مع إنْ وحدها .
و " عندك " ظرفٌ ل " يَبْلُغَنَّ " و " كِلا " مثنَّاةٌ معنىً من غيرِ خلافٍ ، وإنما اختلفوا في تثنيتِها لفظاً : فمذهبُ البصريين أنها مفردةٌ لفظاً ، ووزنُها على فِعَل ك " مِعَى " وألفُها منقلبةٌ عن واوٍ بدليل قلبِها تاءً في " كِلْتا " مؤنثَ " كِلا " هذا هو المشهور .
(1/2951)

وقيل : ألفُها عن ياء وليس بشيءٍ . وقال الكوفيون - وتبعهم السهيليُّ مستدلِّين على ذلك بقوله :
3047- في كلتِ رِجْلَيْها سُلامى واحدَه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَنَطَق بمفرِدها- : هي مثنَّاة لفظاً ، ولذلك تُعْرَبُ بالألفِ رفعاً والياء نصباً وجراً ، فألفُها زائدةٌ على ماهية الكلمة كألف " الزيدان " ، ولامُها محذوفةٌ عند السهيليِّ ، ولم يأتِ عن الكوفيين نَصٌّ في ذلك ، فاحتمل أن يكونَ الأمرُ كما قال السهيليُّ ، وأن تكونَ موضوعةً على حرفَيْن فقط ، لأنَّ مِنْ مذهبِهم جوازَ ذلك في الأسماءِ المعربة .
وحكمها أنها متى أُضيفت إلى مضمرٍ أعْرِبت إعرابَ المثنى ، أو إلى ظاهرٍ اُعْرِبَتْ إعرابَ المقصورِ عند جمهورِ العربِ ، وبنو كنانةَ يُعْربونها إعرابَ المثنى مطلقاً فيقولون : رأيت كِلَيْ اَخَوَيْك ، وكونُها جَرَتْ مَجْرى المثنى مع المضمرِ دونَ الظاهر يضيق الوقتُ عن ذكره فإنِّي حَقَّقْتُه في " شرح التسهيل " .
ومن أحكامِها : أنها لا تُضاف إلا إلى مثنى لفظاً ومعنى نحو : " كِلا الرجلين " ، أو معنىً لا لفظاً نحو : ، " كِلانا " ، ولا تُضاف إلى مُفَرِّقَيْنِ بالعطفِ نحو : " كِلا زيد وعمرو " إلا في ضرورةٍ كقوله :
3048- كِلا السيفِ والسَّاقِ الذي ذهبَتْ به ... على مَهَلٍ باثنين ألقاه صاحبُهْ
وكذا لا تُضافُ إلى مفردٍ مرادٍ به التثنيةُ إلا في ضرورةٍ كقوله :
3049- إنَّ للخير والشرِّ مَدَى ... وكِلا ذلك وَجْهٌ وقَبَلْ
والأكثرُ مطابَقَتُها فَيُفْرَدُ خبرُها وضميرُها نحو : كلاهما قائمٌ ، وكلاهما ضربتُه ، ويجوزُ في قليل : قائمان ، وضربتُهما ، اعتباراً بمعناها ، وقد جَمَعَ الشاعرُ بينهما في قوله :
3050- كلاهما حينَ جَدَّ الجَرْيُ بينهما ... قد أقلعا وكِلا أَنْفَيْهما رابي
وقد يَتَعَيَّنُ اعتبارُ اللفظِ نحو : كِلانا كفيلُ صاحبِهِ ، وقد يتعيَّنُ اعتبارُ المعنى ، ويُستعمل تابعاً توكيداً ، وقد لا يَتْبَعُ فيقع مبتدأً ومفعولاً به ومجروراً . و " كلتا " في جميعِ ما ذُكِرَ ك " كِلا " ، وتاؤُها بدلُ عن واو ، وألفُها للتأنيث ، ووزنُها فِعْلى كذكرى . وقال يونس : ألفُها أصلٌ تأؤُها مزيدةٌ ، ووزنُها فِعْتَل . وقد رَدَّ عليه الناس ، وله موضعٌ غيرُ هذا . والنسب إليها عند سيبويه : كِلْوِيّ كمذكَّرِها ، وعند يونس : كِلْتَوِيّ لئلا تَلْتَبِسَ ، وهذا القَدْرُ كافٍ في هاتين اللفظتين .
قوله : " أُفٍّ " " أُفّ " اسمُ فعلٍ مضارعٍ بمعنى أتضجَّر ، وهو قليلٌ؛ فإنَّ أكثرَ بابِ أسماء الأفعال أوامرُ ، وأقلُّ منه اسمُ الماضي ، وأقلُّ منه اسمُ المضارع ك " أُفّ " وأَوَّه ، أي : أتوجَّع ، ووَيْ ، أي : أَعْجَبُ . وكان مِنْ حقِّها أَنْ تُعْرَبَ لوقوعِها موقعَ مُعْرَبٍ ، وفيها لغاتٌ كثيرة وصلها الرُّمَّاني إلى تسع وثلاثين ، وذكر ابنُ عطية لفظةً ، بها تمت الأربعون ، وهي اثنان وعشرون مع الهمزةِ المضمومةِ : أُفُّ ، أُفَّ ، أُفِّ ، بالتشديدِ مع التنوين وَعَدَمِه ، أُفُ ، أُفَ ، أُفِ ، بالتخفيف مع التنوين وعدمه ، أُفْ بالسكون والتخفيف؛ أُفّْ بالسكون والتشديد ، أُفُّه أَفَّه أُفِّه ، أفَّا من غير إمالة ، وبالإِمالة المحضة ، وبالإِمالة بين بين ، أُفُّو أُفِّي : بالواو والياء وإحدى عشرة مع كسرِ الهمزةِ إفَّ إفِّ : بالتشديد مع التنوينِ وعدِمه ، إفُ إفَ إفِ بالتخفيفِ مع التنوينِ وعدمِه ، إفَّا بالإِمالة .
(1/2952)

وستٌ مع فتح الهمزة : أَفَّ أَفِّ ، بالتشديد مع التنوينِ وعدِمه ، أَفْ بالسكون ، أفا بالألف . فهذه تسعٌ وثلاثون لغةً ، وتمامُ الأربعين " أَفاهْ " بهاء السكت . وفي استخراجها بغيرِ هذا الضابطِ الذي ذكرتُه عُسْرٌ ونَصَبٌ يَحتاج في استخراجِه من كتب اللغة ، ومن كلامِ أهلِها ، إلى تتبُّع كثيرٍ ، والشيخ لم يَزِدْ على أنْ قالَ : " ونحن نَسْردُها مضبوطةً كما رأيناها " فذكرها ، والنسَّاخُ خالفوه في ضبطِه ، فمِنْ ثَمَّ جاء فيه الخَلَلُ ، فَعَدَلْتُ إلى هذا الضابطِ المذكورِ ولله الحمدُ .
وقد قُرِئ من هذه اللغاتِ بسبعٍ : ثلاثٍ في المتواتر ، وأربعٍ في الشاذ ، فقرأ نافعٌ وحفصٌ بالكسر والتنوين ، وابنُ كثير وابنُ عامر بالفتحِ دون تنوين ، والباقون بالكسر دون تنوين ، ولا خلافَ بينهم في تشديدِ الفاء . وقرأ نافعٌ في روايةٍ : أُفٌ بالرفع والتنوين ، وأبو السَّمَّال بالضمِّ مِنْ غير تنوين ، وزيد بن علي بالنصبِ والتنوين ، وابنُ عباس : " أفْ " بالسكون .
وقوله : { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } ، أي : لا تَزْجُرْهما ، والنَّهْرُ : الزَّجْرُ بِصياحٍ وغِلْظة/ وأصلُه الظهورُ ، ومنه " النَّهْر " لظهوره . وقال الزمخشري : " النَّهْيُ والنَّهْرُ والنَّهْمُ اَخَواتٌ " .
(1/2953)

وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
قوله تعالى : { جَنَاحَ الذل } : هذه استِعارةٌ بليغة ، قيل : وذلك أنَّ الطائرَ إذا أراد الطيرانَ نَشَرَ جناحَيْه ورَفَعَهما ليرتفعَ ، وإذا أراد تَرْكَ الطيران خَفَضَ جناحيه ، فجعلَ خَفْضَ الجناحِ كنايةً عن التواضعِ واللِّين . قال الزمخشري : " فإنْ قلتَ : ما معنى جَناح الذُّل؟ قلت : فيه وجهان ، أحدُهما : أن يكونَ المعنى : واخفِضْ لهما جناحَك كما قال : " واخفِضْ جناحَك للمؤمنين " فأضافه إلى الذُّل أو الذِّل كما أَضيف حاتمٌ إلى الجودِ على معنى : واخفِضْ لهما جناحَك الذليلَ أو الذَّلولَ . والثاني : أن تَجعلَ لذُلِّه أو لذِلِّه جناحاً خفيضاً ، كما جعل لبيد للشَمال يداً وللقَرَّةِ زِماماً- في قوله :
3051- وغداةِ ريحٍ قد كَشَفْتُ وقَرَّةٍ ... إذ أصبحَتْ بيدِ الشَمال؟ِ زِمامُها
مبالَغةً في التذلُّل والتواضع لهما " انتهى . يعني أنه عبَّر عن اللينِ بالذُّلِ ، ثم استعار له جناحاً ، ثم رشَّح هذه الاستعارةَ بأَنْ أمرَه بخفضِ الجَناح .
ومِنْ طريفِ ما يُحكى : أن أبا تمام لَمَّا نظَم قوله :
3052- لا تَسْقِني ماءَ المَلام فإنني ... صَبٌّ قد اسْتَعْذَبْتَ ماء بكائي
جاءه رجلٌ بقَصْعةٍ وقال له : أَعْطني شيئاً من ماء المَلام . فقال : حتى تأتيَني بريشةٍ مِنْ جَناح الذُّلِّ " يريد أن هذا مجازُ استعارةٍ كذاك . وقال بعضهم :
3053- أراشُوا جَناحِيْ ثم بَلُّوه بالنَّدى ... فلم أَسْتَطِعْ مِنْ أَرْضِهم طَيَرانا
وقرأ العامَّةُ " الذُّلِّ " بضم الذَّال ، وابن عباس في آخرين بكسرها ، وهي استعارةٌ؛ لأنَّ الذِّلَّ في الدوابِّ لأنه ضدُّ الصعوبة ، فاستعير للأناسيِّ ، كما أن الذُّلَّ بالضمَّ ضدُّ العِزِّ .
قوله : { مِنَ الرحمة } فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها للتعليل فتتعلق ب " اخفِضْ " ، أي : اخفِضْ مِن أجل الرحمة . والثاني : أنها لبيانِ الجنس . قال ابنُ عطية : " أي : إنَّ هذا الخفضَ يكون من الرحمة المستكنَّة في النفس " . الثالث : أن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ " جَناح " . الرابع : أنها لابتداءِ الغاية . قوله : { كَمَا رَبَّيَانِي } في هذه الكافِ قولان ، أحدهما : أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوف ، فقدَّره الحوفيُّ : " ارْحَمْهما رحمةً مثلَ تربيتِهما لي " . وقدَّره أبو البقاء : " رحمةً مثلَ رحمتِهما " ، كأنه جعل التربيةَ رحمةً . الثاني : أنها للتعليل ، أي : ارْحَمْهما لأجلِ تربيتِهما كقولِه : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } [ البقرة : 198 ] .
(1/2954)

وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26)
قوله تعالى : { وَلاَ تُبَذِّرْ } : التَّبْذِيرُ : التفريق ومنه : البَذْرُ " لأنه يُفَرِّق في الأرض للزراعة . قال :
3054- ترائبُ يَسْتَضِيءُ الحَلْيُ فيها ... كجَمْر النارِ بُذِّرَ بالظَّلامِ
ثم غَلَبَ في الإِسرافِ في النفقةِ .
(1/2955)

وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)
قوله تعالى : { ابتغآء رَحْمَةٍ } : يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً من أجله ، ناصبُه " تُعْرِضَنَّ " وهو مِنْ وَضْعِ المُسَبَّب موضعَ السببِ ، وذلك أن الأصل : وإمَّا تُعْرِضَنَّ عنهم لإِعسارِك . وجعله الزمخشريُّ منصوباً بجوابِ الشرطِ ، أي : فقل لهم قولاً سهلاً ابتغاء رحمةٍ . وردَّ عليه الشيخ : بأنَّ ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها نحو : " إن يَقُمْ زيدٌ عمراً فاضرِبْ " فإنْ حَذَفْتَ الفاءَ جاز عند سيبويهِ والكسائي نحو : " إنْ يَقُمْ زيدٌ عمراً يَضْرِبْ " . فإن كان الاسمُ مرفوعاً نحو " إن تَقُمْ زيدٌ يَقُمْ " جاز ذلك عند سيبويهِ على أنَّه مرفوعٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره الظاهرُ بعده ، أي : إنْ تَقُمْ يَقُمْ زيدٌ يقمْ . ومنع مِنْ ذلك الفراءُ وشيخُه .
وفي الردِّ نظرٌ؛ لأنه قد ثبت ذلك ، لقولِه تعالى : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ } [ الضحى : 9 ] الآية . لأنَّ " اليتيمَ " وما بعده منصوبان بما بعدَ فاءِ الجوابِ .
الثاني : أنه موضعِ الحالِ مِنْ فاعلِ " تُعْرِضَنَّ " .
قوله : " من ربِّك " يجوز أن يكونَ/ صفة ل " رحمةٍ " ، وأَنْ يكونَ متعلِّقاً ب " تَرْجُوها " ، أي : تَرْجُوها مِنْ جهةِ ربِّك ، على المجاز .
قوله : " تَرْجُوها " يجوز أن يكونَ حالاً مِنْ فاعلِ " تُعْرِضَنَّ " ، وأَنْ يكونَ صفةً ل " رحمةٍ " .
(1/2956)

وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29)
قوله تعالى : { كُلَّ البسط } : نصبٌ على المصدرِ لإِضافتِها إليه . و " فَتَقْعُدَ " نصبُه على جواب النهي . و " مَلُوماً " : إمَّا حالٌ ، وإمَّا خبرٌ ، كما تقدَّم .
(1/2957)

وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
قوله تعالى : { خِطْئاً } : قرأ ابن ذكوان : " خَطَّأً " بفتح الخاءِ والطاءِ مِنْ غيرِ مَدّ ، وابنُ كثير بكسرِ الخاء والمدّ ، ويلزمُ منه فتحُ الطاء ، والباقون بالكسرِ وسكونِ الطاء .
فأمَّا قراءةُ ابنِ ذكوان فَخَرَّجها الزجَّاج على وجهين : أحدهما : أن يكونَ مصدرٍ مِنْ أَخطأ يُخْطِىء خَطَأً ، أي : إخطاءً ، إذا لم يُصِبْ . والثاني : أن يكونَ مصدرَ خَطِئَ يَخْطَأُ خَطَأً ، إذا لم يُصِبْ أيضاً ، وأنشد :
3055- والناسُ يَلْحَوْن الأميرَ إذا هُمُ ... خَطِئوا الصوابَ ولا يُلام المُرْشِدُ
والمعنى على هذين الوجهين : أنَّ قَتْلهم كان غيرَ صواب . واستبعد قومٌ هذه القراءةَ قالوا : لأن الخطأ ما لم يُتَعَمَّدْ فلا يَصِحُّ معناه ههنا .
قلت : وخفي عنهم أن يكونَ بمعنى أخطأ ، أو أنه يقال : " خَطِئ " إذا لَمْ يُصِبْ .
وأمَّا قراءةُ ابنِ كثير فهي مصدرٌ خاطَأَ يُخاطِئ خِطاءً مثل : قاتَلَ يُقاتِل قِتالاً . قال أبو علي : " هي مصدرُ خاطَأَ يُخاطِئ ، وإنْ كنَّا لم نجدْ " خاطَأَ " ولكنْ وَجَدْنا تخاطَأَ وهو مطاوِعُ " خاطَأَ " فَدَلَّنا عليه ، ومنه قولُ الشاعر :
3056- تخاطَأَتِ النَّبْلُ أَحْشاءَه ... وأخَّر يَوْمِي فلم يَعْجَلِ
وقال الآخر :
3057- تخاطأَه القَنَّاصُ حتى وَجَدْتُه ... وخُرْطُوْمُه في مَنْقَعِ الماءِ راسِبُ
فكأنَّ هؤلاء الذين يَقْتُلون أولادَهم يُخاطِئُون الحقَّ والعَدل .
وقد طَعَنَ قومٌ على هذه القراءةِ حتى قال أبو جعفر : " لا أَعْرِفُ لهذه القراءةِ وجهاً " ، ولذلك جعلها أبو حاتم غَلَطاً . قلت : قد عَرَفه غيرُهما ولله الحمدُ .
وأمَّا قراءةُ الباقين فخي جيدةٌ واضحةٌ لأنها مِنْ قولهم : خَطِئ يَخْطَأُ خِطْئاً ، كأَثِمَ يَأثَمُ إثْماً ، إذا تَعَمَّد الكذبَ .
وقرأ الحسن : " خَطاء " بفتح الخاء والمدّ وهو اسمُ مصدر " أَخْطَأَ " كالعَطاء اسمٌ للإِعطاء .
وقرأ أيضاً " خَطا " بالقصرِ ، وأصلُه " خَطَأ " كقراءةِ ابن ذَكْوان ، إلا أنه سَهَّل الهمزةَ بإبدالها ألفاً فَحُذِفت كعَصا .
وأبو رجاءٍ والزُّهْريُّ كذلك ، إلا أنهما كسرا الخاء ك " زِنَى " وكلاهما مِنْ خَطِئ في الدِّين ، وأَخْطأ في الرأي ، وقد يُقام كلٌّ منهما مقامَ الآخرَ .
وقرأ ابنُ عامرٍ في روايةٍ " خَطْئَاً " بالفتح والسكون والهمزِ ، مصدرُ " خَطِئ " بالكسرِ .
وقرأ ابنُ وثاب والأعمشُ " تُقَتِّلوا " ، و " خِشْية " بكسرِ الخاء .
(1/2958)

وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
قوله تعالى : { الزنى } : العامَّةُ على قصرِه وهي اللغة الفاشية ، وقُرِئ بالمدِّ وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه لغةٌ في المقصور . والثاني : أنه مصدر زاني يُزاني ، كقاتل يُقاتل قِتالاً؛ لأنَّه يكونُ بين اثنتين ، وعلى المدِّ قولُ الفرزدق :
3058- أبا خالدٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفْ زِناؤُه ... ومن يَشْرَبِ الخُرْطومَ يُصْبِحْ مُسَكَّراً
وقول الآخر :
3059- كانت فريضةُ ما تقولُ كما ... كان الزِّناءُ فريضةَ الرَّجْمِ
وليس ذلك من بابِ الضرورةِ لثبوتِه قراءةً في الجملة .
قوله : { وَسَآءَ سَبِيلاً } تقدَّم نظيره . قال ابنُ عطيةَ : " وسبيلاً : نصبٌ على التمييز ، أي : وساء سبيلاً سبيلُه " . ورَدَّ الشيخ : هذا : بأنَّ قولَه " منصوبٌ على التمييز " ينبغي أن يكونَ الفاعلُ ضميراً مُفَسَّراً بما بعده من التمييز فلا يصحُّ تقديرُه : ساء سبيلُه سبيلاً؛ لأنه ليس بمضمرٍ لاسم جنس .
(1/2959)

وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
قوله تعالى : { إِلاَّ بالحق } : أي : إلا بسببِ الحق ، فيتعلَّقُ ب { لاَ تَقْتُلُواْ } ويجوز أن يكونَ حالاً مِنْ فاعل { لاَ تَقْتُلُواْ } أو مِنْ مفعولِه ، أو : لا تَقْتُلُوا إلا ملتبسين بالحق أو إلا ملتبسةً بالحقِّ ، ويجوز أن يكونَ نعتاً/ لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : إلا قَتْلاً ملتبساً بالحق .
قوله : " مَظْلُوماً " حالٌ مِنْ مرفوع " قُتِل " .
قوله : { فَلاَ يُسْرِف } [ قرأ ] الأخَوان بالخطاب ، على إرادةِ الوليِّ ، وكان الوليُّ [ يَقْتُل ] الجماعةَ بالواحد ، أو السلطانِ رَجَع لمخاطبته بعد أن اتى به غائباً .
والباقون بالغَيْبة ، وهي تحتمل ما تقدَّم في قراءةِ الخطاب .
وقرأ أبو مسلم برفعِ الفاءِ على أنه خبرٌ في معنى النهيِ كقولِه : { فَلاَ رَفَثَ } [ البقرة : 197 ] . وقيل : " في " بمعنى الباء ، أي : بسبب القتلِ .
قوله : { إِنَّهُ كَانَ } ، أي : إنَّ الوليَّ ، أو إنَّ السلطان ، أو إنَّ القاتل ، أي : أنه إذا عُوقِب في الدنيا نُصِر في الآخرة ، أو إلى المقتولِ ، أو إلى الدمِ أو إلى الحق .
(1/2960)

وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34)
قوله تعالى : { إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ الأصلَ على حَذْفِ مضافٍ ، أي : إن ذا العهدِ كان مسؤولاً عن الوفاءِ بعهده . والثاني : أن الضميرَ يعود على العهدِ ، ونَسَبَ السؤالَ إليه مجازاً كقولِه : { وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ } [ التكوير : 8 ] .
(1/2961)

وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
قوله تعالى : { بالقسطاس } : قرأ الأخوانِ وحفصٌ بكسر القافِ هنا وفي سورة الشعراء بكسر القاف ، والباقون بضمِّها فيهما ، وهما لغتان مشهورتان ، وهو القَرَسْطُون . وقيل : هو كل ميزان . قال ابن عطية : " واللفظةُ للمبالغة من القِسْط " . ورَدَّه الشيخ باختلافِ المادتين ، ثم قال : " إلا أَنْ يَدَّعيَ زيادةَ السين آخراً كقُدْْموس ، وليس من مواضع زيادتها " . ويقال بالسين والصاد . قال بعضُهم : هو روميٌّ معرَّبٌ .
والمَحْسُور : المنقطعُ السيرِ ، حَسَرْتُ الدابة : قَطَعْتُ سيرَها ، وحَسير : أي : كليل تعبانُ بمعنى مَحْسُور ، والجمع " حَسْرى قال :
3060- بها جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظَامُها ... فبِيْضٌ وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيْبُ
وحَسَر عن كذا : كشف عنه ، كقوله :
3061- . . . . . . . . . . . يَحْسِرُ الماءُ تارةً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قوله : " تأويلاً " منصوب على التفسير . والتأويلُ : المَرْجِعُ مِنْ آلَ يؤولُ ، أي : أحسن عاقبةً .
(1/2962)

وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
قوله تعالى : { وَلاَ تَقْفُ } : العامَّةُ على هذه القراءةِ ، أي : لا تَتَّبِعْ ، مِنْ قفاه يقْفوه إذا تتبَّع أثرَه ، قال النابغة :
3062- ومثلُ الدُّمى شُمُّ العَرانينِ ساكنٌ ... بهنَّ الحياءُ لا يُشِعْنَ التَّقافيا
وقال الكميت :
3063- فلا أَرْمي البريْءَ بغيرِ ذنبٍ ... ولا أَقْفو الحواصِنَ إن قُفِيْنا
وقرأ زيدُ بن عليّ : " ولا تَقْفُو " بإثباتِ الواو ، وقد تقدَّم أن إثباتَ حرفِ العلةِ جزماً لغةُ قوم ، وضرورةٌ عندهم غيرهم كقوله :
3064- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... مِنْ هَجْوِ زبَّانَ لم تَهْجُو ولم تَدَعِ
وقرأ معاذ القارئ " ولا تَقُفْ " بزنةِ تَقُلْ ، مِنْ قاف يَقُوف ، أي : تَتَبَّع أيضاً ، وفيه قولان : أحدُهما : أنه مقلوبٌ مِنْ قفا يَقْفُو ، والثاني - وهو الأظهرُ- أنه لغةٌ مستقلةٌ جيدة كجَبَذَ وجَذَب ، لكثرة الاستعمالين ، ومثله : قَعا الفحلُ الناقةَ وقاعَها .
قوله : " والفُؤادَ " قرأ الجَرَّاح العقيلي بفتح الفاء وواوٍ خالصة . وتوجيهُها : أنه أبدل الهمزةَ واواً بعد الضمة في القراءةِ المشهورة ، ثم فتح فاءَ الكلمة بعد البدلِ لأنها لغةٌ في الفؤاد ، يقال : فُؤَاد وفَآد ، وأنكرها أبو حاتمٍ ، أعني القراءةَ ، وهو معذورٌ .
والباء في " به " متعلقةٌ بما تَعَلَّق به " لك " ولا تتعلَّق ب " عِلْم " لأنه مصدر ، إلا عند مَنْ يتوسَّع في الجارِّ .
قوله : " أولئك " إشارة إلى ما تقدَّم من السمعِ والبصر والفؤادِ كقوله :
3065- ذُمَّ المنازلَ بعد منزلةِ اللَّوَى ... والعيشَ بعد أولئك الأيامِ
ف " أولئك " يُشار به إلى العقلاءِ وغيرِهم من الجموع . واعتذر ابنُ عطيةَ عن الإِشارةِ به لغير العقلاءِ فقال : " وعَبَّر عن السمعِ والبصَرِ والفؤاد ب " أولئك " لأنها حواسُّ لها إدراكٌ ، وجعلها في هذه الآيةِ مسؤولةً فهي حالةُ مَنْ يَعْقِلُ ، ولذلك عَبَّر عنها بكنايةِ مَنْ يَعْقِلُ ، وقد قال سيبويه - رحمه الله - في قوله { رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] إنما قال " رأيتُهم " في نحوم؛ لأنه لَمَّا وصفها بالسجود - وهو فِعْل مَنْ يَعْقِل - عَبَّر عنها بكنايةِ مَنْ يَعْقِلُ . وحكى الزجاج أنَّ العرب تُعَبِّر عَمَّن يَعْقِلُ وعَمَّن لا يَعْقِل ب " أولئك " ، وأنشد هو والطبري :
- ذمَّ المنازلَ بعد منزلة اللَّوى ... والعيشَ بعد أولئكَ الأيامِ
وأمَّا حكايةُ أبي إسحاقَ عن اللغةِ فأمرٌ يُوْقَفُ عنده ، وأمَّا البيتُ فالروايةُ فيه " الأقوامِ " . ولا حاجةَ إلى هذا الاعتذارِ لِما عرفْتَ . وأمَّا قولُه : إنَّ الروايةَ : " الأقوامِ " فغيرُ معروفةٍ والمعروفُ إنما هو " الأيَّام " .
قوله : { كُلُّ أولئك } مبتدأٌ ، والجملةُ مِنْ " كان " خبرُه ، وفي اسمِ " كان " وجهان ، أحدُهما : أنه عائدٌ على " كل " باعتبارِ لفظِها ، وكذا الضميرُ في " عنه " ، و " عنه " متعلقٌ ب " مَسْؤولاً " ، و " مسؤولاً " خبرُها .
(1/2963)

والثاني : أنَّ اسمَها ضميرٌ يعود على القافي ، وفي " عنه " يعودُ على " كل " وهو من الالتفاتِ؛ إذ لو جَرَى على ما تقدَّم لقيل : كنتَ عنه مسؤولاً . وقال الزمخشريُّ : و " عنه " في موضع الرفع بالفاعلية/ ، أي : كلُّ واحدٍ كان مسؤولاً عنه ، فمسؤول مسندٌ إلى الجارِّ والمجرور كالمغضوبِ في قوله : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } [ الفاتحة : 7 ] . انتهى . وفي تسميته مفعولَ ما لم يُسَمَّ فاعلُه فاعلاً خلافُ الاصطلاح .
وقد رَدَّ الشيخ عليه قولَه : بأنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ حكمُه حكمُه ، فلا يتقدَّم على رافعِه كأصلِه . وليس لقائلٍ أَنْ يقولَ : يجوزُ على رأيِ الكوفيين فإنَّهم يُجيزون تقديمَ الفاعلِ؛ لأنَّ النحاس حكى الإِجماعَ على عدمِ جوازِ تقديمِ القائمِ مقامَ الفاعل إذا كان جارَّاً ومجروراً ، فليس هو نظيرَ قولِه { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } فحينئذٍ يكون القائمُ مقامَ الفاعلِ الضميرَ المستكنَّ العائدَ على " كل " أو على القافي .
(1/2964)

وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37)
قوله تعالى : { مَرَحاً } : العامَّةُ على فتحِ الراء وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ ، أي : مَرِحاً بكسر الراء ، ويدلُّ عليه قراءةُ بعضِهم فيما حكاه يعقوبُ " مَرِحاً " بالكسر . الثاني : أنَّه حَذْفِ مضافٍ ، أي : ذا مَرَحٍ ، الثالث : أنه مفعولٌ مِنْ أجله .
والمَرَحُ : شِدَّةُ السرورِ والفرحِ . مَرِح يَمْرَح مَرَحاً فهو مَرِحٌ كفَرِح يَفْرَح فَرَحاً فهو فَرِحٌ .
قوله : " طُوْلاً " يجوز أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل " تَبْلُغ " أو مِنْ مفعولِه ، أو مصدراً مِنْ معنى " تَبْلُغ " أو تمييزاً أو مفعولاً له . وهذان ضعيفان جداً لعدمِ المعنى .
وقرأ أبو الجرَّاح : " لن تَخْرُق " بضمِّ الراءِ ، وأنكرها أبو حاتمٍ ، وقال " لا نَعْرِفُها لغةً البتةَ " .
(1/2965)

كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
قوله تعالى : { كَانَ سَيِّئُهُ } : قرأ ابنُ عامرٍ والكوفيون بضمِّ الهمزةِ والهاء ، والتذكيرِ ، وتَرْكِ التنوين . والباقون بفتح الهمزة وتاءِ التأنيث منصوبةً منونةً . فالقراءةُ الأُولى أشير فيها بذلك إلى جميعِ ما تقدَّم ، ومنه السَّيِّىءُ والحَسَنُ ، فأضاف السَّيِّىءَ إلى ضميرِ ما تقدَّم ، ويؤيِّدها ما قرأ به عبدُ الله : " كلُّ ذلك كان سَيِّآته " بالجمعِ مضافاً للضمير ، وقراءةُ اُبَيّ " خبيثُهُ " والمعنى : كلُّ ما تقدَّم ذِكْرُه ممَّا أُمِرْتُمْ به ونُهِيْتُمْ [ عنه ] كان سَيِّئُه - وهو ما نُهِيْتُمْ عنه خاصةً - أمراً مكروهاً . هذا أحسنُ ما يُقَدَّر في هذا المكان .
وأمَّا ما استشكله بعضُهم من أنَّه يصير المعنى : كلُّ ما ذُكِرَ كان سَيِّئةً ، ومِنْ جملةِ كلِّ ما ذُكِر : المأمورُ به ، فَيَلْزَمُ أن يكونَ فيه سيِّءٌ ، فهو استشكالٌ واهٍ؛ لِما ذكرْتُ من تقدير معناه .
و " مكروهاً " خبر " كان " ، وحُمِل الكلامُ كلُّه على لفظِ " كل " فلذلك ذكَّر الضميرَ في " سَيِّئُهُ " ، والخبرُ وهو : مكروه .
وأمَّا قراءةُ الباقين : فتحتمل أن تقعَ الإِشارةُ فيها ب " ذلك " إلى مصدري النَّهْيَيْنِ المتقدِّمَيْن قريباً وهما : قَفْوُ ما ليس به عِلْمٌ ، والمَشْيُ في الأرض مَرَحاً . والثاني : أنه أُشيرَ به إلى جميعِ ما تقدَّم مِنَ المناهي . و " سَيِّئَةً " خبرُ كان ، وأُنِّثَ حَمْلاً على معنى " كُل " ، ثم قال " مَكْروهاً " حَمْلاً على لفظها .
وقال الزمخشريُّ كلاماً حسناً وهو : أنَّ " السيئة في حكمِ الأسماءِ بمنزلةِ الذَّنْبِ والإِثمِ زال عنه حكمُ الصفاتِ ، فلا اعتبارَ بتأنيثِه ، ولا فرقَ بين مَنْ قرأ " سَيِّئة " ومَنْ قرأ " سَيِّئاً " ألا ترى أنَّك تقولُ : الزِّنَى سيئة ، كما تقول : السرقةُ سيئةٌ ، فلا تُفَرِّقُ بين إسنادِها إلى مذكر ومؤنث " .
وفي نَصْبِ " مكروهاً " أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه خبرٌ ثانٍ ل " كان " ، وتعدادُ خبرِها جائزٌ على الصحيح . الثاني : أنه بدلٌ مِنْ " سيئة " . وضعِّف هذا : بأنَّ البدلَ بالمشتقِ قليلٌ . الثالث : أنه حالٌ من الضمير المستتر في { عِنْدَ رَبِّكَ } لوقوعِه صفةً ل " سَيِّئة " . الرابع : أنه نعتٌ ل " سيئةٍ " ، وإنما ذكِّر لأن تأنيثَ موصوفِه مجازيٌّ . وقد رُدَّ هذا : بأن ذلك إنَّما يجوزُ حيث اُسْنِد إلى المؤنثِ المجازيِّ ، أمَّا إذا أُسْنِدَ إلى ضميرِهِ فلا ، نحو : " الشمسُ طالعةٌ " ، لا يجوز : " طالعٌ " إلا في ضرورةٍ كقوله :
3066- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا أرض أبقلَ إبقالها
وهذا عند غيرِ ابنِ كَيْسان ، وأمَّا ابنُ كَيْسان فيُجيز في الكلام : " الشمسُ طَلَع ، وطالعٌ " .
وأمَّا قراءةُ عبدِ الله فهي ممَّا أُخْبر فيها عن الجمعِ إخبارَ الواحدِ لسَدِّ الواحدِ مَسَدَّه كقوله :
3067- فإمَّا تَرَيْني ولِيْ لِمَّةٌ ... فإنَّ الحوادثَ أَوْدَى بها
لو قال : فإنَّ الحَدَثان/ لصَحَّ من حيث المعنى ، فَعَدَلَ عنه لِيَصِحَّ الوزنُُ .
وقرأ عبدُ اللهِ أيضاً " كان سَيِّئاتٍ " بالجمعِ من غير إضافةٍ وهو خبرُ " كان " ، وهي تؤيد قراءةَ الحَرَميِّين وأبي عمرو .
(1/2966)

ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
قوله تعالى : { ذَلِكَ مِمَّآ أوحى } : مبتدأ أو خبر ، و " ذلك " إشارةٌ إلى جميعِ ما تقدَّم من التكاليفِ وهي أربعةٌ وعشرون نوعاً ، أولُها قولُه : { لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ } [ الإِسراء : 22 ] ، وآخرُها : { وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً } [ الإِسراء : 37 ] . { مِمَّآ أوحى } " مِنْ " للتبعيضِ؛ لأنَّ هذه بعضُ ما أوحاه اللهُ تعالى إلى نبيِّه .
قوله : { مِنَ الحكمة } يحوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن يكونَ حالاً مِنْ عائدِ الموصولِ المحذوف تقديرُهُ : مِن الذي أوحاه حالَ كونِهِ من الحكمة ، أو حالٌ من نفسِ الموصولِ . الثاني : أنه متعلق بأَوْحى ، و " مِنْ " إمَّا تبعيضيةٌ؛ لأنَّ ذلك بعضُ الحكمةِ وإمَّا للابتداءِ ، وإمَّا للبيان . وحينئذٍ تتعلَّق بمحذوفٍ . الثالث : أنها مع مجرورِها بدلٌ مِنْ { مِمَّآ أوحى } .
(1/2967)

أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
قوله تعالى : { أَفَأَصْفَاكُمْ } ألفُ " أَصْفى " عن واوٍ ، لأنَّه من صفا يَصْفو ، وهو استفهامُ إنكارٍ وتوبيخٍ .
قوله : " واتَّخَذَ " يجوز أن يكونَ معطوفاً على " أَصْفاكم " فيكونَ داخلاً في حَيِّز الإِنكار ، ويجوز أن تكونَ الواوُ للحالِ ، و " قد " مقدرةٌ عند قومٍ . و " اتَّخذ " يجوز أَنْ تكونَ المتعديةَ لاثنين ، فقال أبو البقاء : " إنَّ ثانيَهما محذوفٌ ، أي : أولاداً ، والمفعولُ الأولُ هو " إناثاً " . وهذا ليس بشيءٍ ، بل المفعولُ الثاني هو { مِنَ الملائكة } قُدِّم على الأولِ ، ولولا ذلك لَزِمَ أن يُبتدأ بالنكرةِ من غير مسوِّغ ، لأنَّ ما صَلُح أن يكونَ مبتدأً صَلُح أن يكونَ مفعولاً أول في هذا الباب ، وما لا فلا . ويجوز أن تكونَ متعدِّيةً لواحدٍ كقولِه : { وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً } [ البقرة : 116 ] ، و { مِنَ الملائكة } متعلِّقٌ ب " اتَّخذ " أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من النكرةِ بعده .
(1/2968)

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } : العامَّةُ على تشديد الراء ، وفي مفعول " صَرَّفْنا " وجهان ، أحدُهما : أنه مذكورٌ ، و " في " مزيدةٌ فيه ، أي : ولقد صَرَّفْنا هذا القرآنَ ، كقولِه : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ } [ الفرقان : 50 ] ، ومثله :
3068- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . يَجْرَحْ في عَراقيبِها نَصْلِيْ
وقوله تعالى : { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي } [ الأحقاف : 15 ] ، أي : يَجْرَحْ عراقيبَها ، وأَصْلح لي ذريتي . ورُدَّ هذا بأنَّ " في " لا تُزاد ، وما ذُكِرَ متأول ، وسيأتي إنْ شاءَ الله تعالى في الأحقاف .
الثاني : أنَّه محذوفٌ تقديرُه : ولقد صَرَّفْنا أمثالَه ومواعظَه وقصصَه وأخبارَه وأوامره .
وقال الزمخشري في تقدير ذلك : " ويجوز أن يُراد ب " هذا القرآن " إبطالُ إضافتِهم إلى الله البناتِ؛ لأنه ممَّا صرَّفه وكرَّر ذِكْرَه ، والمعنى : ولقد صَرَّفْنا القولَ في هذا المعنى ، وأوقَعْنا التصريفَ فيه ، وجَعَلْناه مكاناً للتكرير ، ويجوز أن يريد ب { هذا القرآن } التنزيلَ ، ويريد : ولقد صَرَّفناه ، يعني هذا المعنى في مواضعَ من التنزيل ، فترك الضميرَ لنه معلومٌ " . قلت : وهذا التقديرُ الذي قدَّره الزمخشريُّ أحسنُ؛ لأنه مناسِبٌ لما دَلَّتْ عليه الآيةُ وسِيْقَتْ لأجلِه ، فقدَّرَ المفعولَ خاصَّاً ، وهو : إمَّا القولُ ، وإمَّا المعنى ، وهو الضميرُ الذي قدَّره في " صَرَّفْناه " بخلافِ تقديرِ غيرِه ، فإنَّ جَعَلَه عامَّاً .
وقيل : المعنى : لم نُنَزِّلْه مرةً واحدة بل نجوماً ، والمعنى : أَكْثَرْنا صَرْفَ جبريلَ إليك ، فالمفعولُ جبريل عليه السلام .
وقرأ الحسن بتخفيفِ الراء فقيل : هي بمعنى القراءةِ الأولى ، وفَعَل وفَعَّل قد يَشْتركان . وقال ابنُ عطية : " أي : صَرَفْنا الناسَ فيه إلى الهدى " .
قوله : " لِيَتَذَّكَّروا " متعلقٌ ب " صَرَّفْنا " . وقرأ الأخَوان هنا وفي الفرقان بسكون الذال وضمِّ الكاف مخففةً مضارع " ذكر " من الذِّكر أو الذُّكر ، والباقون بفتح الذال والكافُ مشددةٌ ، والأصلُ : يتذكَّروا ، فأدغم التاءَ في الذال ، وهو من الاعتبار والتدبُّر .
قوله : { وَمَا يَزِيدُهُمْ } ، أي : التصريفُ ، و " نُفوراً " مفعولٌ ثانٍ .
(1/2969)

قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42)
قوله تعالى : { كَمَا يَقُولُونَ } : الكافُ في موضعِ نصبٍ ، وفيهما وجهان : أحدُهما : أنها متعلقةٌ بما تعلَّقَتْ به " مع " من الاستقرار ، قاله الحوفي . والثاني : أنها/ نعتٌ لمصدر محذوف ، أي : كوناً كقولكم قاله أبو البقاء .
وقرأ ابنُ كثيرٍ وحفصٌ " يقولون " بالياءِ مِنْ تحت ، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ ، وكذا قولُه بعد هذا { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ } [ الإِسراء : 43 ] ، قرأه بالخطابِ الأخَوان ، والباقون بالغيب ، فتحصَّل من مجموع الأمر أنَّ ابنَ كثير وحفصاً يَقْرآنهما بالغيب ، وأن الأخوين قرآ بالخطاب فيهما ، وأن الباقين قرؤوا بالغيب في الأول ، وبالخطاب في الثاني .
فالوجهُ في قراءةِ الغيبِ فيهما أنه : حَمَل الأولَ على قولِهِ : { وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } [ الإِسراء : 41 ] ، وحَمَل الثاني عليه . وفي الخطاب فيهما أنه حمل الأولَ على معنى : قل لهم يا محمد لو كان معه آلهةٌ كما تقولون ، وحَمَل الثاني عليه . وفي قراءة الغيبِ في الأولِ أنَّه حَمَله على قوله " وما يزيدهم " والثاني التفت فيه إلى خطابهم .
قوله : " إذَنْ " حرفُ جوابٍ وجزاءٍ . قال الزمخشري : " وإذن دالَّةٌ على أنَّ ما بعدها وهو " لابتَغَوا " جوابٌ لمقالةِ المشركين وجزاءٌ ل " لو " . وأدغم أبو عمروٍ الشينَ في السين ، واستضعفها النحاةُ لقوةِ الشين .
(1/2970)

سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)
قوله تعالى : { وتعالى } : عطفٌ على ما تضمَّنه المصدرُ ، تقديرُه : تنزَّه وتعالى . و " عن " متعلقة به . أو ب " سبحان " على الإِعمال لأنَّ " عن " تعلَّقت به في قوله { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ } [ الصافات : 180 ] و " عُلُوّاً " مصدرٌ واقع موقعَ التعالي ، كقولِه : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] في كونِه على غيرِ الصدرِ .
(1/2971)

تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
قوله تعالى : { تُسَبِّحُ } : قرأ أبو عمروٍ والأخَوان وحفصٌ بالتاء ، والباقون بالياء مِنْ تحت ، وهما واضحتان؛ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ ولوجودِ الفصلِ أيضاً .
وقال ابن عطية : " ثم أعاد على السماواتِ والأرض ضميرَ مَنْ يَعْقِلُ لَمَّا أَسْنَدَ إليها فعلَ العاقلِ وهو التسبيحُ " ، وهذا بناءً منه على أنَّ " هُنَّ " مختصٌّ بالعاقلات ، وليس كما زَعَمَ ، وهذا نظيرُ اعتذارِه عن الإِشارة ب " أولئك " في قوله { كُلُّ أولئك } وقد تقدَّم . وقرأ عبدُ الله والأعمشُ " سبَّحَتْ " ماضياً بتاء التأنيث .
(1/2972)

وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45)
قوله تعالى : { مَّسْتُوراً } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه على بابه بمعنى : مستور عن أعينِ الكفار فلا يَرَوْنه . وقيل : هو على النسب ، أي : ذو سِتْرٍ كقولِهم : مكان مَهُول وجاريةٌ مَغْنُوجة ، أي : ذو هَوْل وذات غُنْجٍ ، ولا يُقال فيهما : هُلْتُ المكانَ ولا غَنَجْتُ الجارية . وقيل : هو وصفٌ على جهة المبالغة كقولهم : " شِعْرٌ شاعِر " . ورُدَّ هذا : بأنَّ ذلك إنما يكون في اسمِ الفاعلِ ومِنْ لفظِ الأولِ .
والثاني : أنَّه بمعنى فاعِل كقولهم : مَشْؤُوم ومَيْمون بمعنى : شائِم ويامِن ، وهذا كما جاء اسمُ الفاعلِ بمعنى مفعول كماء دافِق ، وهذا قولُ الأخفش في آخرين .
(1/2973)

وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
قوله تعالى : { وَحْدَهُ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنَّه منصوبٌ على الحال ، وإن كان معرفةً لفظاً ، لأنه في قوةِ النكرة؛ إذ هو في معنى " منفرداً " ، وهل هو مصدرٌ أو اسمٌ موضوعٌ موضعَ المصدرِ الموضوعِ موضعَ الحال ، ف " وَحْدَه " وُضِعَ موضعَ " إيحاد " و " إيحاد " وُضع موضعَ " مَوْحَد " وهو مذهب سيبويه ، أو هو مصدرٌ على حَذْف الزوائد ، إذ يقال : أَوْحَدَه يُوْحِدُه إيحاداً ، أو هو مصدرٌ بنفسِه ل " وَحَد " ثلاثياً . قال الزمخشري : " وَحَدَ يَحِدُ وَحْداً وحِدَة نحو : وَعَد يَعِد وَعْداً وعِدَة ، و " وَحْدَه " من باب : " رَجَع عَوْدَه على بَدْئه ، و " افعَلْه جهدَك وطاقتَك " في أنه مصدرٌ سادٌّ مَسَدَّ الحال ، أصلُه يَحِدُ وَحْدَه ، بمعنى واحداً " . قلت : وقد عرفْتُ أن هذا ليس مذهبَ سيبويه .
والثاني : أنه منصوبٌ على الظرفِ ، وهو قولُ يونس . واعلمْ أنَّ هذه الحالَ بخصوصِها -أعني لفظة " وحده " - إذا وَقَعَتْ بعد فاعلٍ ومفعولٍ نحو : ضَرَبَ زيدٌ عمراً وَحْده " فمذهبُ سيبويه : أنه حالٌ من الفاعل ، أي : مُوَحِّداً له بالضرب . ومذهبُ المبردِ : أنه يجوز أن يكونَ حالاً من المفعول . قال الشيخ : " فعلى مذهب سيبويه يكون التقدير : وإذا ذكرْتَ ربَّك مُوَحِّداً لله ، وعلى مذهب المبرد يجوز أن يكونَ التقديرُ : مُوَحَّداً بالذِّكْر " .
قوله : نُفوراً " فيه وجهان : أحدُهما : أنه مصدرٌ على غيرِ الصَّدْر؛ لأنَّ التولِّيَ والنفور بمعنى . والثاني : أنه حال مِنْ فاعل " وَلَّوا " وهو حينئذ جمع نافرٍ ، كقاعِد وقُعود وجالس وجلوس . والضميرُ في " وَلَّوا " الظاهر/ عودُه على الكفارِ . وقيل : يعود على الشياطين ، وإن لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ .
(1/2974)

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47)
قوله تعالى : { بِمَا يَسْتَمِعُونَ } : متعلقٌ ب " أَعْلَمُ " . وما كان من باب العلمِ والجهلِ في أَفْعَلِ التفضيلِ وأفعلَ في التعجب تعدَّى بالباء نحو : أنت أعلمُ به ، وما أعلمك به!! وهو أجهلُ به ، وما أجهلَه به!! ومن غيرِهما يتعدَّى في البابين باللام نحو : أنت أَكْسَى للفقراء . و " ما " بمعنى الذي ، وهي عبارةٌ عن الاستخفاف والإِعراض فكأنه قال : نحن أعلمُ بالاستخفافِ والاستهزاءِ الذي يستمعون به . قاله ابنُ عطية .
قوله : " به " فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه حالٌ ، فيتعلق بمحذوف . قال الزمخشري : " وبه في موضع الحالِ كما [ تقول : ] يستمعون بالهُزْء ، أي : هازئين " . الثاني : أنها بمعنى اللامِ ، أي : بما يستمعون له . الثالث : أنَّهما على بابها ، أي : يستمعون بقلوبهم أو بظاهرِ أسماعهم ، قالهما أبو البقاء . الرابع : قال الحوفيُّ : " لم يَقُلْ يَسْتعونه ولا يستمعونك؛ لَمَّا كان الغرضُ ليس الإِخبارَ عن الاستماعِ فقط ، وكان مُضَمَّناً أنَّ الاستماعَ كان على طريق الهُزْء بأن يقولوا : مجنون أو مسحور جاء الاستماع به وإلى ، لِيُعْلَمَ أنَّ الاستماعَ ليس المرادُ به تَفَهُّمَ المسموعِ دون هذا المقصد " ، فعلى هذا أيضاً تتعلق الباء ب " يستمعون " .
قوله : " إذ يستمعون " فيه وجهان : أحدُهما : أنه معمولٌ ل " أَعْلَمُ " . قال الزمخشريُّ : " إذ يستمعون نصبٌ ب " أَعْلَمُ " ، أي : اَعْلَمُ وقتَ استماعِهم بما به يستمعون ، وبما يتناجَوْن به ، إذ هم ذَوُو نجوى " . والثاني : أنه منصوبٌ ب " يَستمعون " الأولى . قال ابن عطية : " والعاملُ في " إذ " الأولى وفي المعطوف " يستمعون " الأول . وقال الحوفي : " ف إذ الأولى تتعلق ب " يستمعون " وكذا { وَإِذْ هُمْ نجوى } لأنَّ المعنى : نحن أعلمُ بالذي يستمعون إليك وإلى قراءتِك وكلامِك ، إنما يستمعون لسَقْطِك ، وتتبُّعِ عيبِك ، والتماسِ ما يَطْعنون به عليك ، يعني في زعمهم؛ ولهذا ذكر تعديتَه بالباء و " إلى " .
قوله : " نَجْوى " يجوز أن يكونَ مصدراً فيكونَ من إطلاقِ المصدرِ على العينِ مبالغةً ، أو على حَذْفِ مضاف ، أي : ذوو نجوى ، كما قاله الزمخشريُّ . ويجوز أَنْ يكونَ جمعَ نَجِيّ كقتيل وقَتْلَى . قاله أبو البقاء .
قوله : { إِذْ يَقُولُ } بدلٌ مِنْ " إذ " الأولى في أحَد القولين ، والقولُ الآخر : أنها معمولةٌ ل " اذكُر " مقدراً .
قوله : " مَسْحوراً " الظاهرُ أنه اسمُ مفعولٌ من " السِّحْر " بكسرِ السين ، أي : مَخْبولَ العقلِ أو مخدوعَه . وقال أبو عبيدة : " معناه أن له سَحْراً " أي : رِئة بمعنى أنه لا يَستَغني عن الطعام والشرابِ ، فهو بشرٌ مثلُكم .
(1/2975)

وتقول العرب للجبان : " قد انتفخ سَحْره " بفتح السين ، ولكلِّ مَنْ أكل وشرب : مَسْحُور ، ومُسْحَر . فمِنْ الأولِ قولُ امرئ القيس :
3069- أرانا مُوْضَعِيْنَ لأمرِ غَيْبٍ ... ونُسْحَرُ بالطعامِ وبالشرَّابِ
أي : نُغَذَّى ونُعَلَّلُ . ومِن الثاني قول لبيد :
3070- فإنْ تَسْأَلِينا فيمَ نحنُ فإنَّنا ... عصافيرُ مِنْ هذا الأَنامِ المُسَحَّرِ
ورَدَّ الناسُ على أبي عبيدة قولَه لبُعْدِه لفظاً ومعنى . قال ابن قتيبة : " لا أَدْري ما الذي حَمَل أبا عبيدةَ على هذا التفسيرِ المستكرَهِ مع ما فسَّره السلفُ بالوجوهِ الواضحةِ " . قلت : وأيضاً فإن " السَّحْر " الذي هو الرِّئَة لم يُضْرَبْ له فيه مَثَلٌ بخلاف " السَّحْر " ، فإنهم ضربوا له فيه المَثَلَ ، فما بعد الآيةِ مِنْ قولِه " انظر كيف ضَرَبُوا لك الأمثالَ " لا يناسِبُ إلا " السِّحْر " بالكسرِ .
(1/2976)

وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)
قوله تعالى : { أَإِذَا كُنَّا } : قد تقدَّم خلافُ القراء في الاستفهامين كهذه الايةِ في سورة الرعد ، وتحقيقُ ذلك . والعاملُ في " إذا " محذوفٌ تقديرُه : أنُبْعَثُ أو أنُحْشَرُ إذا كنَّا ، دلَّ عليه " لمَبْعوثون " ، ولا يعملُ فيها " مَبْعوثون " هذا؛ لأنَّ ما بعد " إنَّ " لا يعملُ فيما قبلها ، وكذا ما بعدَ الاستفهامِ لا يعملُ فيما قبله ، وقد اجتمعا هنا ، وعلى هذا التقديرِ الذي ذَكرْتُه تكون " إذا " متمحِّضةً للظرفيةِ ، ويجوز أَنْ تكونَ شرطيةً فَيُقَدَّرُ العاملُ فيها جوابَها ، تقديرُه : أإذا كنا عظاماً ورُفاتاً نُبْعَثُ أو نُعادُ ، ونحو ذلك ، فهذا المحذوفُ جوابُ الشرطِ عند سيبويه والذي انصبَّ عليه/ الاستفهامُ عند يونس .
قوله : " ورُفاتاً " الرُّفات : ما بُوْلِغَ في دَقِّه وتَفْتِيتِه وهو اسمٌ لأجزاءِ ذلك الشيءِ المُفَتَّتِ . وقال الفراء : " هو التراب " . ويؤيِّده أنه قد تكرَّر في القرآن " تُرابا وعظاماً " . ويقال رََفَتَ الشيءَ يَرْفِت بالكسرِ ، أي : كَسرَه . والفُعال يغلب في التفريق كالحُطام والدُّقاق والفُتات .
قوله : " خَلْقاً " يجوز فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مصدرٌ من معنى الفعلِ لا مِنْ لفظِه ، أي : نُبْعَثُ بَعْثاً جديداً . والثاني : أنه في موضع الحالِ ، أي : مَخْلوقين .
(1/2977)

أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51)
قوله تعالى : { الذي فَطَرَكُمْ } : فيه ثلاثة أوجه ، أحدُها : أنه مبتدأٌ وخبرُه محذوف ، أي : الذي فطركم يعيدُكم . وهذا التقديرُ فيه مطابقةٌ بين السؤالِ والجوابِ . والثاني : أنه خبرُ مبتدأ محذوف ، أي : مُعِيْدُكم . الذي فطركم . الثالث : أنه فاعلٌ بفعلٍ مقدر ، أي : يعيدُكم الذي فطركم ، ولهذا صُرِّح بالفعل في نظيره عند قولِه : { لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم } [ الزخرف : 9 ] .
و { أَوَّلَ مَرَّةٍ } ظرفُ زمان ناصبُه " فَطَركم " .
قوله : " فسَيُنْغِضُون " ، أي : يُحَرِّكونها استهزاءً . يقال : أَنْغَضَ رأسَه يُنْغِضها ، أي : حَرَّكها إلى فوقُ ، وإلى أسفلَ إنغاضاً ، فهو مُنْغِضٌ ، قال :
3071- أَنَغَضَ نحوي رأسَه وأَقْنَعا ... كأنه يطلُبُ شيئاً أَطْمعا
وقال آخر :
3072- لَمَّا رَأَتْنِي أَنْغَضَتْ لِي الرَّأْسا ... وقال أبو الهيثم : " إذا أُخْبِرَ بشيءٍ فَحَرَّك رأسَه إنكاراً له فقد أَنْغَضَ " . قال ذو الرمة :
3073- ظَعائِنُ لم يَسْكُنَّ أَكْنافَ قريةٍ ... بِسِيْفٍ ولم تَنْغُضْ بهنَّ القَنَاطِرُ
أي : لم تُحَرَّك ، وأمَّا نَغَضَ ثلاثياً ، يَنْغَضُ ويَنْغُضُ بالفتح والضم ، فبمعنى تَحَرَّك ، لا يتعدَّى يقال : نَغَضَتْ سِنَّه ، أي : تَحَرَّكت ، تَنْغُضُ نَغْضاً ونُغوضاً . قال :
3074- ونَغَضَتْ مِنْ هَرَمٍ أسنانُها ... قوله : { عسى أَن يَكُونَ } يجوز أن تكونَ الناقصة ، واسمُها مستترٌ فيها يعودُ على البعثِ والحشرِ المدلولِ عليهما بقوة الكلام ، أو لتضمُّنِه في قوله " مَبْعوثون " ، و " أن يكونَ " خبرُها ، ويجوز أن تكونَ التامَّةَ مسندةً إلى " أنَّ " وما في حيِّزها ، واسمُ " يكونَ " ضميرُ البعثِ كما تقدَّم .
وفي " قريباً " وجهان ، أحدُهما : أنه خبر " كان " وهو وصفٌ على بابِه . والثاني : أنه ظرفٌ ، أي : زماناً قريباً ، وأن يكونَ " على هذا تامةٌ ، أي : عسى أن يقع العَوْد في زمانٍ قريب .
(1/2978)

يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
قوله تعالى : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } : فيه أوجهٌ : أحدُها : أنه بدلٌ من " قريباً " ، إذا اَعْرَبْنا " قريباً " ظرفَ زمان كما تقدم . الثاني : أنه منصوبٌ ب " يَكونَ " قاله أبو البقاء ، وهذا مَنْ يُجيز إعمالَ الناقصةِ في الظرفِ ، وإذا جَعَلْناها تامَّةً فهو معمولٌ لها عند الجميع . الثالث : أنه منصوبٌ بضميرِ المصدرِ الذي هو اسمُ " يكون " أي : عسى أن يكونَ العَوْدُ يوم يَدْعوكم . وقد منعه أبو البقاء قال : " لأنَّ الضميرَ لا يعمل " يعني عند البصريين ، وأمَّا الكوفيون فيُعملون ضميرَ المصدرِ كمُظْهِرِه فيقولون : مروري بزيدٍ حَسَنٌ ، وهو بعمروٍ قبيحٌ " وعندهم متعلِّق ب " هو " لأنَّه ضمير المرور ، وأنشدوا قول زهير على ذلك :
3075- وما الحربُ إلا ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُمْ ... وما هو عنها بالحديثِ المُرَجَّمِ
ف " هو " ضميرُ المصدرِ ، وقد تَعَلَّق به الجارُّ بعده ، والبصريون يُؤَوِّلونه . الرابع : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر ، أي : اذكُرْ يومَ يَدْعوكم . الخامس : أنه منصوبٌ بالبعثِ المقدَّر ، قالهما أبو البقاء .
قوله : بحَمْدِه " فيه قولان ، أحدُهما : أنها حالٌ ، أي : تستجيبون حامِدِين ، أي : منقادين طائعين . والثاني : أنها متعلقةٌ ب " يَدْعوكم " قاله أبو البقاء وفيه قَلَقٌ .
قوله : { إِن لَّبِثْتُمْ } " إنْ " نافيةٌ ، وهي معلِّقَةٌ للظنِّ عن العمل ، وقلَّ مَنْ يذكرُ " إنْ " النافيةَ ، في أدواتِ تعليق هذا الباب . و " قليلاً " يجوز أن يكونَ نعتَ زمانٍ أو مصدرٌ محذوفٌ ، أي : إلا زماناً قليلاً ، أو إلا لُبْثاً قليلاً .
(1/2979)

وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
قوله تعالى : { وَقُل لِّعِبَادِي } : تقدَّم نظيرُه في إبراهيم .
قوله : { إِنَّ الشيطان يَنزَغُ } يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ اعتراضاً بين المفسَّر والمفسِّر ، وذلك أنَّ قولَه : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ } وَقَعَ تفسيراً لقوله { التي هِيَ أَحْسَنُ } وبياناً لها ، ويجوز أن لا تكونَ معترِضَةً بل مستأنفةٌ .
وقرأ طلحة " يَنْزِغ " بكسر الزاي وعما لغتان ، كيَعرِشون ويَعْرُشون ، قاله الزمخشري . قال الشيخ : " ولو مَثَّل ب " يَنْطَح " و " يَنْطِح " / كأنه يعني من حيث إن لامَ كلٍ منهما حرفُ حَلْقٍ ، وليس بطائلٍ .
(1/2980)

وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
قوله تعالى : { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السماوات } : في هذه الباءِ قولان ، أظهرُهما : أنها تتعلَّقُ ب " أَعْلَمُ " كما تَعَلَّقَتْ الباءُ ب " أَعْلَمُ " قبلها ، ولا يلزمُ مِنْ ذلك تخصيصُ علمِه بمَنْ في السماوات والأرض فقط . والثاني : أنها متعلِّقَةٌ ب " يَعْلَمُ " مقدراً . قاله الفارسي محتجاً بأنه يَلْزَمُ مِنْ ذلك تخصيصُ عِلْمِه بمَنْ في السماوات والأرض ، وهو وَهْمٌ ، لأنه لا يَلْزَمُ من ذِكْرِ الشيءِ نَفْيُ الحكمِ عَمَّا عداه . وهذا هو الذي يقول الأصوليون : إنه مفهومُ اللقَب ، ولم يَقُلْ به إلا أبو بكر الدقاق في طائفةٍ قليلة .
قوله : " زَبُورا " قد تقدَّم خلافُ القراءِ فيه ، ونكَّره هنا دلالةً على التبعيضِ ، أي : زَبُوراً من الزُّبُر ، أو زَبُوراً فيه ذِكْرُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فأُطْلِقَ على القطعةِ منه زَبورٌ ، كما يُطْلَقُ على بعضِ القرآن ، ويجوزُ أَنْ يكونَ " زَبُور " عَلَماً ، فإذا دَخَلَتْ عليه أل كقولِه : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور } [ الأنبياء : 105 ] كانت لِلَمْحِ الأصلِ كعبَّاس والعبَّاس ، وفَضْل والفضل .
(1/2981)

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56)
قوله تعالى : { الذين زَعَمْتُم } : مفعولا الزُّعم محذوفان لفَهْمِ المعنى ، أي : زَعَمْتوهم آلهةً ، وحَذْفُهما اختصاراً جائزٌ ، واقتصاراً فيه خلافٌ .
(1/2982)

أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
قوله تعالى : { أولئك الذين يَدْعُونَ } : " أولئك " مبتدأٌ ، وفي خبره وجهان ، أظهرُهما : أنه الجملةُ مِنْ " يبتغون " ويكون الموصولُ نعتاً أو بياناً أو بدلاً ، والمرادُ باسم الإِشارة الأنبياءُ الذين عُبِدوا مِنْ دون الله . والمرادُ بالواوِ العبَّادُ لهم ، ويكون العائدُ على " الذين " محذوفاً ، والمعنى : أولئك الأنبياءُ الذين يَدْعُونهم المشركون لكَشْفِ ضُرِّهم - أو يَدْعُونهم آلهةً ، فمفعولها أو مفعولاها محذوفان - يَبْتَغون .
ويجوز أن يكونَ المرادُ بالواوِ ما أُريد بأولئك ، أي : أولئك الأنبياءُ الذين يَدْعُون ربَّهم أو الناسَ إلى الهدى يَبْتغون ، فمفعولُ " يَدْعُون " محذوف .
والثاني : أن الخبرَ نفسُ الموصولِ ، و " يَبْتَغُون " على هذا حالٌ مِنْ فاعل " يَدْعُون " أو بدلٌ منه . وقرأ العامَّةُ " يَدْعُون " بالغيبِ ، وقد تقدَّم الخلافُ في الواو : هل تعودُ على الأنبياء أو على عابِدِيْهم . وزيد بن علي بالغَيْبة أيضاً ، إلا أنه بناه للمفعول . وقتادةُ وابنُ مسعودٍ بتاء الخطاب . وهاتان القراءتان تقويَّان أن الواوَ للمشركين لا للأنبياءِ في قراءة العامَّة .
قوله : { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } في " أيُّ " هذه وجهان ، أحدُهما : أنها استفهاميةٌ .
والثاني : أنها موصولةٌ بمعنى الذي ، وإنما كَثُرَ كلامُ المُعْرِبين فيها من حيث التقديرُ . فقال الزمخشري : " وأيُّهم بدلٌ مِنْ واو " يَبْتغون " و " أيُّ " موصولةٌ ، أي : يبتغي مَنْ هو أقربُ منهم وأَزْلَفُ ، أو ضُمِّن [ يَبْتَغُون ] الوسيلةَ معنَى يَحْرِصُون ، فكأنه قيل : يَحْرِصُون أيُّهم يكون أقربَ " . قلت : فَجَعَلَها في الوجهِ الأولِ موصولةً ، وصلتُها جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبر ، حُذِف المبتدأ وهو عائدُها ، و " أَقْرَبُ " خبرُ " هو " واحتملت " أيُّ " حينئذٍ أن تكونَ مبنيةً ، وهو الأكثرُ فيها ، وأن تكونَ مُعْرَبةً ، ولهذا موضعٌ هو أليقُ به في مريم . وفي الثاني جَعَلَها استفهاميةً بدليل أنه ضَمَّن الابتغاءَ معنى شيء يُعَلَّقُ وهو " يَحْرُصون " ، فيكون " أيُّهم " مبتدأً و " أقربُ " خبرَه ، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على إسقاطِ الخافض؛ لأنَّ " يَحْرِص " يتعدَّى ب " على " قال تعالى : { إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ } [ النحل : 37 ] { أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ } [ البقرة : 96 ] .
وقال أبو البقاء : " أيُّهم " مبتدأ ، و " أقربُ " خبرُه وهو استفهامٌ في موضع نصب ب " يدْعُونَ " ، ويجوز أن يكونَ " أيُّهم " بمعنى الذي ، وهو بدلٌ مِنَ الضميرِ في " يَدْعُوْن " .
قال الشيخ : " علًّق " يَدْعُون " وهو ليس فعلاً قلبياً ، وفي الثاني فَصَلَ بين الصلةِ ومعمولِها بالجملةِ الحاليةِ ، ولا يَضُرُّ ذلك لأنها معمولةٌ للصِّلة " . قلت : أمَّا كونُ " يَدْعُون " لا يُعَلِّق هو مذهبَ الجمهور .
(1/2983)

وقال يونس : يجوز تعليقُ الأفعالِ مطلقاً ، القلبيةِ وغيرِها . وأمَّا قولُه " فَصَل بالجملة الحالية " يعني بها " يَبْتَغُون " فَصَل بها بين " يَدْعون " الذي هو صلةُ " الذين " وبين معمولِه وهو { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } لأنه مُعَلَّقٌ عنه كما عَرَفْتَه ، إلا أنَّ الشيخَ لم يتقدَّم في كلامِه أعرابُ " يبتغون " حالاً ، بل لم يُعْرِبْها إلا خبراً للموصول ، وهذا قريب .
وجعل أبو البقاء أيَّاً الموصولة بدلاً من واو " يَدْعُون " ولم أرَ أحداً وافقه على ذلك ، بل كلُّهم يجعلونها مِنْ واو " يَبْتَغون " وهو الظاهر .
وقال الحوفي : " أَيُّهُمْ أَقْرَبُ " ابتداءٌ وخبر ، والمعنى : ينظرون أيُّهم أقربُ فيتوسَّلون به ، ويجوز أن يكونَ " أَيُّهُمْ أَقْرَبُ " / بدلاً من واو " يَبْتغون " . قلت : فقد أضمر فعلاً معلَّقاً وهو " ينظرون " ، فإن كان مِنْ نَظَرِ البصَرِ تَعَدَّى ب " إلى " ، وإن كان مِنْ نظَرِ الفِكْرِ تعدَّى ب " في " ، فعلى التقديرين الجملةُ الاستفهامية في موضعِ نصبٍ بإسقاطِ الخافضِ ، وهذا إضمارُ ما لا حاجةَ إليه .
وقال ابن عطية : " وأيُّهم ابتداءٌ ، و " أقربُ " خبرُه ، والتقدير : نَظَرُهم ووَكْدُهم أيُّهم أقربُ ، ومنه قولُ عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه : " فبات الناس يَدُوكون أيُّهم يُعطاها " ، أي : يتبارَوْن في القُرْبِ " . قال الشيخ : " فَجَعَل المحذوفَ " نَظَرُهم ووَكْدُهم " وهذا مبتدأ ، فإن جعلْتَ { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } في موضعِ نصبٍ ب " نَظَرُهم " بقي المبتدأ بلا خبر ، فَيَحْتاج إلى إضمار خبر ، وإن جعلت { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } [ هو ] الخبر لم يَصِحَّ؛ لأنَّ نظرَهم ليس هو أيهم أقرب ، وإنْ جَعَلْتَ التقدير : نَظَرُهم في أيهم أقربُ ، أي : كائنٌ أو حاصلٌ ، لم يَصِحَّ ذلك؛ لأنَّ كائناً وحاصلاً ليس ممَّا يُعَلِّق " .
قلت : فقد تحصَّل في الآيةِ الكريمةِ ستةُ أوجهٍ ، أربعةٌ حالَ جَعْلِ " أيّ " استفهاماً . الأولُ أنها مُعَلِّقةٌ للوسيلة كما قرَّره الزمخشري . الثاني : أنها مُعَلَّقَةٌ ل " يَدْعُون " كما قاله أبو البقاء . الثالث : أنها مُعَلِّقَةٌ ل " يَنْظرون " مقدَّراً ، كما قاله الحوفيُّ . الرابع : أنها مُعَلَّقةٌ ل " نَظَرُهُمْ " كما قدَّره ابن عطية . واثنان حالَ جَعْلِها موصولةً ، الأول : البدلُ مِنْ واو " يَدْعُون " كما قاله أبو البقاء . الثاني : أنها بدلٌ مِنْ واو " يَبْتَغون " كما قاله الجمهور .
(1/2984)

وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
قوله تعالى : { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ } : " إن " نافيةٌ و " مِنْ " مزيدةٌ في المبتدأ لاستغراقِ الجنس . وقال ابنُ عطية : " هي لبيانِ الجنسِ ، وفيه نظرٌ مِنْ وجهين ، أحدهما قال الشيخ : " لأنَّ التي للبيان لا بُدَّ أَنْ يتقدَّمَها مبهمٌ ما ، تُفَسّره كقوله : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } [ فاطر : 2 ] ، وهنا لم يتقدَّم شيءٌ مبهمٌ " . ثم قال " ولعلَّ قولَه لبيانِ الجنسِ من الناسخِ ، ويكون هو قد قال : لاستغراقِ الجنس ، ألا ترى أنه قال بعد ذلك : " وقيل : المرادُ الخصوصُ " .
وخبرُ المبتدأ الجملةُ المحصورةُ مِنْ قولِه : { إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا } .
والثاني : أنَّ شَرْطَ ذلك أَنْ يَسْبِقَها مُحَلَّى بأل الجنسية ، وأن يَقَعَ موقعَها " الذي " كقولِه : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] .
(1/2985)

وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
قوله تعالى : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ } : " أنْ " الأولى وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ أو جرٍ على اختلاف القولين؛ لأنها على حَذْفِ الجارِّ ، أي : مِنْ أَنْ نُرسل ، والثانية وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ بالفاعلية ، أي : وما مَنَعَنا مِنْ إرسال الرسلِ بالآياتِ إلا تكذيبُ الأوَّلين ، أي : لو أَرْسلنا الآياتِ المقترحةَ لقريش لأُهْلِكوا عند تذكيبِهم كعادةِ مَنْ قبلَهم ، لكنْ عَلِمَ الله أنه يُؤْمِنُ بعضُهم ، ويكذِّبُ بعضُهم مَنْ يومن ، فلذلك لم يُرْسِلِ الآياتِ لهذه المصلحةِ .
وقَدَّر أبو البقاء مضافاً قبل الفاعلِ فقال : " تقديرُه : إلا إهلاكُ التكذيب ، كأنه يعني أنَّ التكذيبَ نفسَه لم يمنعْ من ذلك ، وإنما مَنَعَ منه ما يترتَّبُ على التكذيبِ وهو الإِهلاك ، ولا حاجةَ إلى ذلك لاستقلالِ المعنى بدونه .
قوله : " مُبْصِرَة " حالٌ ، وزيدُ بن علي يرفعُها على إضمارِ مبتدأ ، اي : هي ، وهو إسنادٌ مجازيٌّ ، إذ المرادُ إبصارُ أهلِها ، ولكنها لمَّا كانت سبباً في الإِبصار نُسِب إليها . وقرأ قومٌ بفتحٍ الصاد ، مفعولٌ على الإِسناد الحقيقي . وقتادة بفتح الميم والصاد ، أي : مَحَلُّ إبصارٍ كقوله عليه السلام : " الولدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَة " وكقوله :
3076- . . . . . . . . . ... والكفرُ مَخْبَثَةٌ لنفسِ المُنْعِمِ
أجرى هذه الأشياءَ مُجْرى الأمكنةِ نحو : أرضٌ مَسْبَعَة ومَذْأبَة .
قوله : { إِلاَّ تَخْوِيفاً } يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً له ، وأن يكونَ مصدراً في موضع الحال : إمَّا من الفاعل ، أي : مُخَوِّفين أو من المفعولِ ، أي : مُخَوِّفاً بها .
(1/2986)

وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
قوله تعالى : { والشجرة } : العامَّة على نصبِها نَسَقاً على " الرؤيا " ، و " الملعونةَ " نعت ، قيل : هو مجازٌ؛ إذ المُراد : الملعونُ طاعِموها؛ لأنَّ الشجرةَ لا ذَنْبَ لها وهي شجرةُ الزقُّوم . وقيل : بل على الحقيقة ، ولَعْنُها : إبعادُها مِنْ رحمة الله ، لأنها تخرجُ في أصلِ الجحيم . وزيد بن علي برفعِها على الابتداء . وفي الخبر احتمالان ، أحدُهما : هو محذوفٌ ، أي : فتنة . والثاني : - قاله أبو البقاء- أنه قولُه { فِي القرآن } وليس بذاك .
قوله : " ونُخَوِّفُهم " قراءةُ العامَّةِ بنون العظمة . والأعمش بياء الغيبة .
(1/2987)

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61)
قوله تعالى : { طِيناً } : فيه أوجهُ ، أحدُها : أنه حالٌ من " لِمَنْ " فالعاملُ فيها " أَاَسْجُدُ " ، أو مِنْ عائد هذا الموصولِ ، أي : خلقَته طِيْناً ، فالعاملُ فيها " خَلَقْتَ " ، وجاز وقوعُ طين حالاً ، وإن كان جامداً ، لدلالتِه على الأصالةِ كأنه قال : متأصِّلاً من طين . الثاني : أنه منصوبٌ على إسقاطِ الخافضِ ، أي : مِنْ طين ، كما صَرَّح به في الآية الأخرى : / { وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ ص : 76 ] . الثالث : أن منتصبٌ على التمييز ، قاله الزجاج ، وتبعه ابنُ عطية ، ولا يظهرُ ذلك إذ لم يتقدَّم إيهامُ ذاتٍ ولا نسبةٍ .
(1/2988)

قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
قوله تعالى : { أَرَأَيْتَكَ } : قد ذُكِرَتْ مستوفاةً في الأنعام . وقال الزمخشري : " الكافُ ُللخطاب ، و " هذا " مفعول به ، والمعنى : أَخْبِرْني عن هذا الذي كَرَّمْتَه علي ، أي : فَضَّلْتَه لِمَ كَرَّمْتَه وأن خيرٌ منه؟ فاختصر الكلامَ " . وهذا قريبٌ من كلام الحوفي .
وقال ابنُ عطية : " والكافُ في " أَرَأَيْتُكَ " حرفُ خطابٍ لا موضعَ لها من الإِعراب ، ومعنى " أَرَأَيْتَ " أتأمَّلْتَ ونحوه ، كأنَّ المخاطِبَ يُنَبِّه المخاطَب ليستجمعَ لما يَنُصُّ عليه [ بعدُ ] . وقال سيبويه : " وهي بمعنى أَخْبِرْني ، ومَثَّل بقوله : " أَرَأَيْتك زيداً أبو من هو؟ " وقولُ سيبويهِ صحيحٌ ، حيث يكون بعدها استفهامٌ كمثالِه ، وأمَّا في الآية فهي كما قلتُ ، وليست التي ذكر سيبويهِ " . قلت : وهذا الذي ذكره ليس بمُسَلَّمٍ ، بل الآيةُ كمثالِه ، غايةُ ما في البابِ أنَّ المفعولَ الثاني محذوفٌ وهو الجملةُ الاستفهاميةُ المقدَّرةُ ، لانعقادِ الكلام مِنْ مبتدأ وخبر ، لو قلت : هذا الذي كَرَّمْتَه عليَّ لِمَ كرَّمته؟
وقال الفراء : " الكافُ في محلِّ نصب ، أي " أَرَأَيْتَ نفسَك كقولك : أَتَدَبَّرْتَ أخرَ أمرِك فإني صانعٌ فيه كذا ثم ابتدأ : هذا الذي كرَّمْتَ عليَّ " .
وقال أبو البقاء : " والمفعولُ الثاني محذوفٌ ، تقديرُه : تفضيلَه أو تكريمه " . قلت . وهذا لا يجوز لأنَّ المفعول الثاني في هذا البابِ لا يكونَ إلا جملةً مشتملةً على استفهام " .
قال الشيخ : " ولو ذهبَ ذاهبٌ إلى أنَّ الجملة القسمية هي المفعولُ الثاني لكانَ حَسَناً " . قلت : يَرُدُّ ذلك التزامُ كونِ المفعولِ الثاني جملةً مشتملةً على استفهامٍ وقد تقرَّر جميعُ ذلك في الأنعام فعليك باعتباره هنا .
قوله : { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ } قرأ ابن كثير بإثباتِ ياءِ المتكلمِ وصلاً ووقفاً ، ونافع وأبو عمرو بإثباتِها وَصْلاً وحَذْفِها وقفاً ، وهذه قاعدةُ مَنْ ذُكِرَ في الياءاتِ الزائدةِ على الرسم ، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً ، هذا كلُّه في حرفِ هذه السورةِ ، أمَّا الذي في المنافقين في قولِه { لولا أخرتني } [ الآية : 10 ] فأثبتَه الكلُّ لثبوتِها في الرسمِ الكريم .
قوله : " لأحْتَنِكَنَّ " جوابُ القسمِ المُوَطَّأ له باللام . ومعنى " لأحْتَنِكَنَّ " لأَسْتَوْلِيَنَّ عليهم استيلاءَ مَنْ جَعَلَ في حَنَكِ الدابَّةِ حَبْلاً يقودُها به فلا تأبى ولا تَشْمُسُ عليه . يقال : حَنَك فلانٌ الدابةَ واحْتَنَكها ، أي : فَعَل بها ذلك ، واحْتَنَكَ الجرادُ الأرض : أكلَ نباتها قال :
3077- نَشْكُو إليك سَنَةً قد أَجْحَفَتْ ... جَهْداً إلى جَهْدٍ بنا فأضعفَتْ
واحتنكَتْ أموالَنا وجَلَّفَتْ ... وحكى سيبويه : " أحْنَكُ الشاتَيْن ، أي : آكَلُهما ، أي : أكثرُهما أَكْلاً .
(1/2989)

قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)
قوله تعالى : { اذهب فَمَن } : تقدَّم أنَّ الباءَ تُدْغَمُ في الفاءِ في ألفاظٍ منها هذه ، عند أبي عمروٍ والكسائيِّ وحمزةَ في رواية خلاَّدٍ عنه بخلافٍ في قوله : { وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك } [ الحجرات : 11 ] .
قوله : " جزاؤُكم " يجوز أن يكونَ الخطابُ التغليبَ لأنه تقدَّم غائبٌ ومخاطبٌ في قولِه : { فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ } فغلَّب المخاطَب ، ويجوز أن يكونَ الخطابُ مراداً به " مَنْ " خاصةً ويكونُ ذلك على سبيل الالتفات .
قوله : " جَزاءً " في نصبِه أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوبٌ على المصدرِ ، الناصبُ له المصدرُ قبله ، وهو مصدرٌ مبيِّن لنوعِ المصدرِ الأول . الثاني : أنه منصوبٌ على المصدرِ أيضاً لكن بمضمرٍ ، أي : يُجازَوْن جزاءً . الثالث : أنه حالٌ موطِّئة كجاء زيد رجلاً صالحاً . الرابع : أنه تمييزٌ وهو غيرُ مُتَعَقَّل .
و " مَوْفُوراً " اسمُ مفعولٍ مِنْ وَفَرْتُه ، ووفَرَ يُستعمل متعدِّياً ، ومنه قولُ زهير :
3078- ومن يَجْعَلِ المعروفَ مِنْ دُوْنِ عِرْضِهِ ... يَفِرْه ومَنْ لا يَتَّقِ الشتم يُشْتَمِ
والآيةُ الكريمةُ من هذا ، ويُستعمل لازماً يقال : وَفَرَ المالُ .
(1/2990)

وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64)
قوله تعالى : { واستفزز } : جملةٌ أمريةٌ عُطِفَتْ على مِثلِها من قولِه " اذهَبْ " . و { مَنِ استطعت } يجوز فيه وجهان ، أحدُهما : أنها موصولةُ في محلِّ نصب مفعولاً للاستفزاز ، أي : استفزِزْ الذي استطعْتَ استفزازَه منهم . والثاني : أنها استفهاميةٌ منصوبةُ المحلِّ ب " استطعْتَ " قاله أبو البقاء ، وليس بظاهرٍ لأنَّ " اسْتَفْزِزْ " يطلبه مفعولاً به ، فلا يُطقع عنه ، ولو جَعَلْناه استفهاماً لكان مُعَلَّقاً له ، وليس هو بفعلٍ قلبي/ فيعلَّق .
والاسْتِفْزاز : الاستخفاف ، واستفزَّني فلانٌ : استخفَّني حتى خَدَعني لمِا يريده . قال :
3079- يُطيع سَفيهَ القوم إذ يستفزُّه ... ويَعْصي حليماً شَيَّبَتْه الهزاهِزُ
ومنه سُمِّي ولدُ البقرة " فزَّاً " . قال الشاعر :
3080- كما استغاثَ بسَيْءٍ فَزُّ غَيْطَلَةٍ ... خافَ العيونَ ولم يُنْظَرْ به الحَشَكُ
وأصلُ الفَزِّ : القَطْعُ ، يقال : تَفَزَّز الثوبُ ، أي : تقطَّع .
قوله : " وأَجْلِبْ " ، أي : اجْمَعْ عليهم الجموعَ مِنْ جُنْدِك يقال : أَجْلَبَ عليه وجَلَبَ ، أي : جَمَعَ عليه الجموعَ . وقيل : أَجْلَبَ عليه : توعَّده بشرٍّ . وقيل : أَجْلَبَ عليه : أعان ، وأجلب ، أي : صاح صِياحاً شديداً ، ومنه الجَلَبَة ، أي : الصِّياح .
قوله : " وَرَجِلِك " قرأ حفصٌ بكسرِ الجيمِ ، والباقون بسكونها ، فقراءة حفصٍ " رَجِل " فيها بمعنى رَجُل بالضم بمعنى راجل يُقال : رَجِلَ يَرْجَلُ إذا صار راجِلاً ، فيكون مثل : حَذِر وحَذُر ، ونَدِس ونَدُس ، وهو مفردٌ أريد به الجمعُ . وقال ابن عطية : هي صفةٌ يقال : فلان يمشي رَجِلاً إذا كان غيرَ راكبٍ ، ومنه قولُ الشاعر :
3081- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . رَجِلاً إلا بأصحابي
قلت : يشير إلى البيتِ المشهور وهو :
فما أُقاتلُ عن ديني على فَرَسي ... إلا كذا رَجِلاً إلا بأصحابي
أراد : فارساً ولا راجلاً .
وقال الزمخشريُّ : " على أن فَعِلاً بمعنى فاعِل نحو : تَعِب وتاعب ، ومعناه : وجَمْعك الرَّجِلُ ، وتُضَمُّ جيمُه أيضاً فيكون مثلَ : حَذُر وحَذِر ، ونَدُس ونَدِس ، وأخواتٍ لهما " .
وأما قراءةُ الباقين فتحتملُ أَنْ تكون تخفيفاً مِنْ " رَجِل " بكسر الجيم أو ضمِّها ، والمشهورُ : أنه اسمُ جمع لراجِل كرَكْب وصَحْب في راكِب وصاحِب . والأخفش يجعل هذا النحوَ جمعاً صريحاً .
وقرأ عكرمةُ " ورِجالك " جمع رَجِل بمعنى راجِل ، أو جمع راجِل كقائم وقيام . وقُرِئ " ورُجَّالك " بضمِّ الراء وتشديد الجيم ، وهو جمع راجِل كضارِب وضُرَّاب .
والباء في " بخَيْلِك " يجوز أن تكونَ الحالية ، أي : مصاحَباً بخيلك ، وأن تكون مزيدةً كقوله :
3082- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَر
وقد تقدَّم في البقرة .
قوله : { وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان } من بابِ الالتفاتِ وإقامةِ الظاهر مُقامَ المضمرِ؛ إذ لو جَرَى على سَنَنِ الكلامِ الأول لقال : وما تَعِدُهم ، بالتاء من فوق .
قوله : { إِلاَّ غُرُوراً } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ وهو نفسُه مصدرٌ ، الأصل : إلا وَعْداً غروراً ، فيجيء فيه ما في " رجلٌ عَدْلٌ " ، أي : إلا وَعْداً ذا غرور ، أو على المبالغة أو على : وعداً غارَّاً ، ونسب الغرورَ إليه مجازاً . الثاني : أنه مفعولٌ مِنْ أجلِه ، أي : ما يَعِدُهم ممَّا يَعِدُهم من الأماني الكاذبة إلا لأجل الغُرور . الثالث : أنه مفعولٌ به على الاتِّساع ، أي : ما يَعِدُهم إلا الغرورَ نفسَه .
(1/2991)

وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)
قوله تعالى : { إِلاَّ إِيَّاهُ } : فيه وجهان ، أحدهما : أنه استثناءٌ منقطعٌ لأنه لم يَنْدَرِجْ فيما ذُكِر ، إذ المرادُ به آلهتُهم من دون الله . والثاني : أنه متصلٌ؛ لأنهم كانوا يَلْجَؤون إلى آلهتِهم وإلى اللهِ تعالى .
(1/2992)

أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)
قوله تعالى : { أَفَأَمِنْتُمْ } : استفهامُ توبيخٍ وتقريعٍ . وقدَّر الزمخشري على قاعدتِه معطوفاً عليه ، أي : أَنَجَوْتم فَأَمِنْتُمْ .
قوله : { جَانِبَ البر } فيه وجهان أظهرهما : أنه مفعولٌ به كقوله : { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض } [ القصص : 81 ] . والثاني : أنه منصوبٌ على الظرف . و " بكم " يجوز أن تكونَ حاليةً ، أي : مصحوباً بكم ، وأَنْ تكونَ للسببية . قيل : ولا يَلْزَمُ مِنْ خَسْفِه بسببهم أن يَهْلَكوا . وأُجيب بأنَّ المعنى : جانبَ البر الذي أنتم فيه فيلزم بخَسْفِه هلاكُهم ، ولولا هذا التقديرُ لم يكنْ في التوعُّدِ به فائدةٌ .
قوله : { أَن يَخْسِفَ } " أو يُرْسِلَ " " أن يُعِيْدَكم " فَيُرْسِلَ " " فَيُغرْقكم " قرأ هذه [ جميعَها ] بنون العظمة ابنُ كثير وأبو عمروٍ ، والباقون بالياءِ فيها على الغيبة . فالقراءةُ الأولى على سبيل الالتفاتِ مِن الغائبِ في قولِه { رَّبُّكُمُ } [ الإِسراء : 66 ] إلى آخر ، والقراءةُ الثانيةُ على سَنَنِ ما تقدَّم من الغَيْبَةِ المذكورة .
قوله : " حاصِباً " ، أي : ريحاً حاصِباً ، ولم يؤنِّثْه : إمَّا لأنه مجازيٌّ ، أو على النسَبِ ، أي : ذاتَ حَصْبٍ . والحَصْبُ : الرميُ بالحَصَى وهي الحجارةُ الصغار . قال الفرزدق :
3083- مُسْتَقْبِلين شَمالَ الشامِ تَضْرِبُهم ... حَصْباءُ مثلُ نَدِيْفِ القُطْنِ مَنْثُورِ
والحاصِبُ أيضاً : العارِضُ الذي يَرْمِي البَرَد .
(1/2993)

أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
قوله تعالى : { أَمْ أَمِنْتُمْ } / : يجوز أَنْ تكونَ المتصلة ، أي : أيُّ الأمرين كائن؟ ويجوز أَنْ تكونَ المنقطعةَ ، و { أَن يُعِيدَكُمْ } مفعولٌ به ك { أَن يَخْسِفَ } .
قوله " تارةً " بمعنى مرةً وكَرَّة ، فهي مصدرٌ ، ويُجمع على تِيَرٍ وتاراتٍ . قال الشاعر :
3084- وإنسانُ عيني يَحْسِرُ الماءُ تارةً ... فَيَبْدُ وتارات يَجُمُّ فَيَغْرَقُ
وألفُها تحتمل أن تكونَ عن واوٍ أو ياء . وقال الراغب : وهو فيما قيل : مِنْ تارَ الجُرْحُ : التأَمَ " .
قوله : " قاصِفاً " القاصِفُ يحتمل أن يكون مِنْ قَصَفَ متعدياً ، يقال : قَصَفَتِ الريحُ الشجرَ تَقْصِفها قَصْفاً . قال أبو تمام :
3085- إنَّ الرياحَ إذا ما أَعْصَفتْ قَصَفَتْ ... عَيْدانَ نَجْدٍ ولم يَعْبَأْنَ بالرَّتَمِ
فالمعنى : أنها لا تُلْفِي شيئاً إلا قَصَفَتْه وكَسَرَتْه . والثاني : أن يكون مِنْ قَصِفَ قاصراً ، أي : صار له قَصِيف يقال : قَصِفَتِ الريحُ تَقْصَفُ ، أي : صَوَّتَتْ . و { مِّنَ الريح } نعت .
قوله : { بِمَا كَفَرْتُمْ } يجوز أن تكونَ مصدريةً ، وأن تكونَ بمعنى الذي ، والباءُ للسببية ، أي : بسببِ كفرِكم ، أو بسبب الذي كفَرْتم به ، ثم اتُّسِع فيه فَحَذِفت الباءُ فوصل الفعلُ إلى الضميرِ ، وإنما احتيج إلى ذلك لاختلافِ المتعلق .
وقرأ أبو جعفرٍ ومجاهد " فَتُغْرِقَكم " بالتاء من فوقُ أُسْند الفعلُ لضمير الريح . وفي كتاب الشيخ " " فتُغْرِقَكم بتاء الخطاب مسنداً إلى " الريح " . والحسنُ وأبو رجاء بياء الغيبة وفتح الغين وشدِّ الراء ، عَدَّاه بالتضعيف والمقرئ لأبي جعفر كذلك إلا أنه بتاء الخطاب " . قلت : وهذا : إمَّا سهوٌ ، وإمَّا تصحيفٌ من النسَّاخ عليه؛ كيف يَسْتقيم أن يقولَ بتاءِ الخطاب وهو مسندٌ إلى ضمير الريح ، وكأنه أراد بتاء التأنيث فسبقه قلمُه أو صَحَّف عليه غيرُه .
وقرأ العامَّة " الريحِ " بالإِفراد ، وأبو جعفر : " الرياح " بالجمع .
قوله : { بِهِ تَبِيعاً } يجوز في " به " أن يَتَعَلَّق ب " تَجِدوا " ، وأن يتعلَّقَ بتبيع ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه حالٌ مِنْ تبيع . والتَّبِيْع : المطالِبُ بحقّ ، المُلازِمُ ، قال الشمَّاخ :
3086- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما لاذَ الغَريمُ من التَّبيعِ
وقال آخر :
3087- غَدَوْا وغَدَتْ غِزْلانُهم فكأنَّها ... ضوامِنُ مِنْ غُرْمٍ لهنَّ تَبيعُ
(1/2994)

وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
قوله تعالى : { كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ } : عَدَّاه بالتضعيفِ ، وهو مِنْ كَرُم بالضمِّ كشَرُف ، وليس المرادُ من الكرمِ في المال .
(1/2995)

يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71)
قوله تعالى : { يَوْمَ نَدْعُواْ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوبٌ على الظرف ، والعاملُ " فَضَّلْناهم " ، أي : فَضَّلْناهم بالثوابِ يوم نَدْعُو . قال ابن عطية في تقريره : " وذلك أنَّ فَضْلَ البشرِ على سائرِ الحيوان يوم القيامةِ بيِّنٌ؛ إذ هم المُكَلَّفون المُنَعَّمون المحاسَبون الذين لهم القَدْرُ . إلا أنَّ هذا يَرُدُّه أن الكفار [ يومئذٍ ] أَخْسَرُ مِنْ كلِّ حيوان ، لقولِهم : { ياليتني كُنتُ تُرَاباً } [ النبأ : 40 ] .
الثاني : أنه منصوبٌ على الظرف ، والعاملُ فيه اذكر ، قاله الحوفيُّ وابنُ عطية . قلت : وهذا سهوٌ؛ كيف يعمل فيه ظرفاً؟ بل هو مفعولٌ .
الثالث : أنه مرفوعُ المحلِّ على الابتداء ، وإنما بُنِيَ لإِضافتِهِ إلى الجملةِ الفعلية ، والخبرُ الجملةُ بعده . قال ابنُ عطية في تقريره : " ويَصِحُّ أَنْ يكونَ " يوم " منصوباً على البناء لَمَّا أُضيف إلى غيرِ متمكِّن ، ويكون موضعُه رفعاً بالابتداء ، وخبرُه في التقسيم الذي أتى بعدَه في قوله { فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ } إلى قوله { وَمَن كَانَ } . قال الشيخ : " قوله منصوبٌ على البناء " كان ينبغي أن يقول : مبنيَّاً على الفتح ، وقوله " لَمَّا أُضيف إلى غيرِ متمكن " ليس بجيدٍ؛ لأنَّ المتمكِّنَ وغيرَ المتمكِّنِ إنما يكون في الأسماءِ لا في الأفعالِ ، وهذا أُضيفَ إلى فعلٍ مضارع ، ومذهبُ البصريين فيه أنه معربٌ ، والكوفيون يُجيزون بناءَه . وقوله : " والخبر في التقسيم " إلى آخره ، التقسيم عارٍ من رابطٍ يربط جملةَ التقسيم بالابتداء " . قلت : الرابطُ محذوفٌ للعلمِ به ، أي : فَمَنْ أُوتي كتابَه فيه .
الرابع : أنه منصوبٌ بقولِه " ثم لا تجدوا " قاله الزجَّاج . الخامس : أنه منصوبٌ ب " يُعيدكم " مضمرةً ، أي : يُعيدكم يومَ نَدْعو . السادس : أنه منصوبٌ بما دَلَّ عليه { وَلاَ يُظْلَمُونَ } بعده ، أي : ولا يُظْلَمون يوم ندعو ، قاله ابن عطية وأبو البقاء . السابع : أنه منصوبٌ بما دَلَّ عليه { متى هُوَ } [ الإِسراء : 51 ] . الثامن : أنه منصوبٌ بما تقدَّمه مِنْ قولِه تعالى : { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } [ الإِسراء : 52 ] . التاسع : أنه بدلٌ مِنْ { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } [ الإِسراء : 52 ] . وهذان القولان ضعيفان جداً لكثرة الفواصل . العاشر : أنه مفعولٌ به بإضمار " اذكر " ، وهذا -وإن كان أسهلَ التقاديرِ- أظهرُ ممَّا تقدم؛ إذ لا بُعْدَ فيه ولا إضمارَ كثيرٌ .
وقرأ العامَّة " نَدْعو " بنون العظمة ، ومجاهدٌ " يَدْعُو " بياء الغيبة ، أي : الله تعالى أو المَلَك . و " كلَّ " نصبٌ مفعولاً به على القراءتين .
وقرأ الحسن فيما نقله الدانيُّ عنه " يُدْعَى " مبنياً للمفعول ، " كلُّ " مرفوعٌ لقيامِه الفاعلِ ، وفيما نقله عنه غيرُه " يُدْعَو " بضمِّ الياء وفتح العين ، بعدها واوٌ . وخُرِّجَتْ على وجهين ، أحدُهما : أن الأصلَ : يُدْعَوْن فَحُذِفت نونُ الرفعِ كما حُذِفَتْ في قولِه عليه السلام : " لا تَدْخُلوا الجنة حتى تُؤْمنوا ، ولا تُؤْمنوا حتى تحابُّوا "
(1/2996)

وقوله :
3088- أَبَيْتُ أَسْرِيْ وتَبِْيْتي تَدْلُكِيْ ... وَجْهَكِ بالعَنْبَرِ والمِسْكِ الذَّكي
و " كلٌّ " مرفوعٌ بالبدلِ من الواوِ التي هي ضميرٌ ، أو بالفاعليةِ والواوُ علامةٌ على لغةِ " يتعاقبون فيكمْ ملائكةٌ " .
والتخريجُ الثاني : أنَّ الأصلَ " يُدْعَى " كما نَقَله عنه الدانيُّ ، إلا أنه قَلَبَ الألفَ واواً وَقْفاً ، وهي لغةٌ لقومٍ ، يقولون : هذه أفْعَوْ وعَصَوْ ، يريدون : أَفْعى وعَصا ، ثم أجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ . و " كلُّ " مرفوعٌ لقيامِه مقامَ الفاعلِ على هذا ليس إلا .
قوله : " بإمامِهم " يجوزُ أَنْ تكونَ الباءُ متعلقةٌ بالدعاء ، أي : باسمِ إمامهم ، وأن تكونَ للحالِ فيتعلَّقَ بمحذوف ، أي : نَدْعُوهم مصاحبين لكتابهم . والإِمام : مَنْ يُقْتَدَى به . وقال الزمخشري " " ومن بِدَع التفاسير : أن الإِمامَ جمع " أُمّ " وأنَّ الناسَ يُدْعَوْنَ يومَ القيامة بأمهاتهم دونَ آبائهم ، وأن الحكمةَ فيه رِعايةُ حقِّ عيسى ، وإظهارِ شرفِ الحسن والحسين ، وأن لا يُفْضَحَ أولادُ الزِّنى " قال : " وليت شعري أيهما أَبْدَعُ : أصحةُ لفظِه أم بَهاءُ معناه؟ " .
قلت : وهو معذورٌ لأن " أُمّ " لا يُجْمع على " إمام " ، وهذا قولُ مَنْ لا يَعْرف الصناعةَ ولا لغةَ العربِ ، وأمَّا ما ذكروه من المعنى فإنَّ الله تعالى نادى عيسى باسمِه مضافاً لأمِّه في عدةِ مواضعَ من قوله { ياعيسى ابن مَرْيَمَ } [ المائدة : 110 ] ، وأَخْبرعنه كذلك نحو : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ } [ الصف : 6 ] ، وفي ذلك غَضاضةٌ من أميرِالمؤمنين عليّ رضي الله عنه وكرَّم وجهَه .
قوله : { فَمَنْ أُوتِيَ } يجوز أن تكونَ شرطيةً ، وأن تكونَ موصولةً ، والفاءُ لشَبَهه بالشرط . وحُمِل على اللفظِ أولاً في قوله { أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } فَأُفْرِد ، وعلى المعنى ثانياً في قولِه : " فأولئك " فَجُمِع .
(1/2997)

وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
قوله تعالى : { وَمَن كَانَ فِي هذه } : يجوز في " مَنْ " ما جاز في " مَنْ " قبلها . وأمال الأخَوان وأبو بكر " أعمى " في الموضعين من هذه السورة ، وأبو عمروٍ أمال الأولَ دون الثاني ، والباقون فتحوهما ، فالإِمالةُ لكونِهما من ذوات الياء ، والتفخيمُ لأنه الأصل . وأمَّا أبو عمروٍ فإنه أمال الأولَ لأنه ليس أفعلَ تفضيلٍ فألفُه متطرفةٌ لفظاً وتقديراً ، والأطرافُ محلُّ التغيير غالباً ، وأمَّا الثاني فإنه للتفضيلِ ولذلك عَطَف عليه " وأَضَلَّ " فألفُه في حكم المتوسطة؛ لأنَّ " مِنْ " الجارَّةَ للمفضول كالملفوظ بها ، وهي شديدةُ الاتصالِ بأَفْعَلِ التفضيلِ فكأنَّ وقعت حَشْواً فتحصَّنَتْ عن التغيير .
قلت : كذا قرَّره الفارسيُّ والزمخشري ، وقد رُدَّ هذا بأنهم أمالوا { وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ } [ المجادلة : 7 ] مع التصريح ب " مِنْ " فَلأَنْ يُميلوا " أَعْمى " مقدَّراً معه " مِن " أَوْلَى وأَحْرَى .
وأمَّا " أَعْمى " في طه فأماله الأخَوان وأبو عمرو ، ولم يُمِلْه أبو بكر ، وإن كان يُمليه هنا ، وكأنه جَمَعَ بين الأمرين وهو مقيَّدٌ باتِّباع الأثر . وقد فَرَّق بعضُهم : بأنَّ " أعمى " فيه طه مِنْ عَمَى البصرِ ، وفي الإِسراء مِنْ عَمَى البصيرة؛ ولذلك فسَّروه هنا بالجَهْل فأُمِيلَ هنا ، ولم يُمَلْ هناك للفرقِ بين المعنيين . قلت : والسؤال باقٍ؛/ إذ لقائلٍ أن يقولَ : فَلِمَ خُصِّصَتْ هذه بالإِمالةِ ، ولو عُكِسَ الأمرُ كان الفارقُ قائماً .
(1/2998)

وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73)
قوله تعالى : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } : " إنْ " هذه فيها المذهبان المشهوران : مذهبُ البصريين : أنها مخففةٌ ، واللامُ فارقةٌ بينها وبين " إنْ " النافية ، ولهذا دَخَلَتْ على فعلٍ ناسخٍ ، ومذهبُ الكوفيين أنها بمعنى " ما " النافيةِ ، واللامُ بمعنى " إلا " . وضُمِّنَ " يَفْتِنُونَك " معنى يَصْرِفُونك " فلهذا عُدِّي ب " عن " تقديرُه : لَيَصْرِفُونَكَ بفتنتِهم . و " لتفترِيَ " متعلِّقٌ بالفتنةِ .
قوله : { وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ } " إذن " حرفُ جوابٍ وجزاءٍ؛ ولهذا تقع أداةُ الشرطِ موقعَها ، و " لاتَّخذوك " جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه : إذن واللهِ لاتَّخذوك ، وهو مستقبلٌ في المعنى ، لأنَّ " إذَنْ " تقتضي الاستقبالَ؛ إذ معناها المجازاةُ . وهذا كقولِه : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ } [ الروم : 51 ] ، أي : ليَظَلُّنَّ . وقولُ الزمخشري : " أي : ولو اتَّبَعْتَ مرادَهم لاتَّخذُوك " تفسيرُ معنى لا إعرابٍ ، لا يريد بذلك أنَّ " لاتَّخَذُوك " جوابٌ ل " لو " محذوفةُ إذ لا حاجةَ إليه .
(1/2999)

وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)
قوله تعالى : { تَرْكَنُ } : العامَّة على فتح الكاف مضارع رَكِنَ بالكسر ، وقتادة وابنُ مُصَرِّف وابنُ أبي إسحاق " تَرْكُن " بالضمِّ مضارعَ رَكَنَ بالفتح ، وهذا من التداخل ، وقد تقدَّم تحقيقه في أواخر هود .
وقوله : " شيئاً " : منصوبٌ على المصدر ، وصفتُه محذوفة ، أي : شيئاً قليلاً من الرُّكون .
(1/3000)

إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
قوله تعالى : { ضِعْفَ الحياة } : قال الزمخشري : فإن قلت " كيف حقيقةُ هذا الكلام؟ قلت : أصلُه : لأَذَقْناك عذابَ الحياةِ وعذابَ المماتِ؛ لأنَّ العذابَ عذابان ، عذابٌ في المماتِ وهو عذابُ القبرِ ، وعذابٌ في حياةِ الآخرةِ وهو عذاب النار ، والضِّعْفُ يُوصَفَ به ، نحوَ قولِه تعالى : { فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار } [ الأعراف : 38 ] يعني عذاباً مُضاعَفاً ، فكأنَّ أصلَ الكلامِ : لأَذَقْناك عذاباً ضِعْفاً في الحياة ، وعذاباً ضِعْفاً في المَمَات ، ثم حُذِف الموصوفُ ، وأُقيمت الصفةُ مُقامه وهو الضَّعْف ، ثم أُضِيْفَتِ الصفة إضافةَ الموصوف فقيل : ضِعْفَ الحياة ، وضِعْفَ المماتِ ، كما لو قيل : أليمَ الحياةِ ، وأليم الممات " . والكلامُ في " إذن " و " لأَذَقْناك " كما تقدَّم في نظيره .
(1/3001)

وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)
قوله تعالى : { وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ } : قرأ العامَّةُ برفع الفعل بعد " إذَنْ " ثابتَ النون ، وهي مرسومةٌ في مصاحف العامَّة . ورفعُهُ وعدمُ إعمالِ " إذن " فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أنها توسَّطَتْ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه . قال الزمخشري : " فإن قلت " ما وجهُ القراءتين؟ قلت : أمَّا الشائعةُ -يعني برفعِ الفعلِ - فقد عُطِف فيها الفعلُ على الفعلِ ، وهو مرفوعٌ لوقوعِه خبرَ كاد ، وخبرُ " كاد " واقعٌ موقعَ الاسم " . قلت : فيكون " لا يَلْبِثُون " عطفاً على قولِه " لِيَسْتَفِزُّونك " .
الثاني : أنها متوسطةٌ بين قسمٍ محذوفٍ وجوابِه ، فأُلْغِيَتْ لذلك ، والتقدير : ووالله إذن لا يلبثون .
الثالث : أنها متوسطةٌ بين مبتدأ محذوفٍ وخبرِه ، فأُلْغِيَتْ لذلك ، والتقدير : وهم إذن لا يلبثون .
وقرأ اُبَيٌّ بحذفِ النون ، فَنَصْبُه بإذن عند الجمهور ، وب " أَنْ " مضمرةً بعدها من غيرِهم ، وفي مصحف عبد الله " لا يَلْبَثُوا " بحذفِها . ووجهُ النصبِ أنه لم يُجعل الفعلُ معطوفاً على ما تقدَّم ولا جواباً ولا خبراً . قال الزمخشري : " وأمَّا قراءةُ اُبَيّ ففيها الجملةُ برأسها التي هي : إذاً لا يَلْبثوا ، عَطَفَ على جملة قوله { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ } .
وقرأ عطاء { لاَّ يَلَبَثُونَ } بضمِّ الياء وفتحِ اللام والباء ، مشددةً مبنياً للمفعول ، مِنْ لَبَّثَه بالتشديد . وقرأها يعقوب كذلك إلا أنه كسرَ الباءَ ، جَعَلَه مبنياً للفاعل .
قوله : " خِلافَك " قرأ الأخَوان وابنُ عامر وحفصٌ : " خِلافَك " بكسر الخاء وألفٍ بعد اللام ، والباقون بفتح الخاء وسكونِ اللام . والقراءتان بمعنى واحدٍ . وأنشدوا في ذلك :
3089- عَفَتِ الديارُ خِلافَهم فكأنما ... بَسَطَ الشَّواطِبُ بينهنَّ حََصِيْراً
وقال تعالى : { خِلاَفَ رَسُولِ الله } [ التوبة : 81 ] والمعنى : بعد خروجك . وكثُر إضافةُ قبل وبعد ونحوِهما إلى أسماءِ الأعيان على حَذْفِ مضافٍ ، فيُقَدَّر من قولك : جاء زيدٌ قبل عمروٍ : أي : قبل مجيئِه .
قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } يجوز أن تكونَ صفةً لمصدرٍ أو لزمانٍ محذوف ، أي : لُبْثاً قليلاً ، أو إلا زماناً قليلاً .
(1/3002)

سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
قوله تعالى : { سُنَّةَ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أن ينتصِبَ على المصدرِ المؤكَّد ، أي : سَنَّ الله ذلك سُنَّةَ ، أو سَنَنَّا ذلك سُنَّةَ . الثاني : - قاله الفراء - أنه على إسقاطِ الخافضِ ، أي : كسُنَّةِ اللهِ ، وعلى هذا لا يُوقف على قولِه " إلا قليلاً " . الثالث : أن ينتصبَ على المفعول به ، أي : اتبعْ سُنَّةَ .
(1/3003)

أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)
قوله تعالى : { لِدُلُوكِ } : في هذه اللامِ وجهان ، أحدُهما : أنها بمعنى " بَعْد " ، أي : بَعْدَ دُلوكِ الشمسِ ، ومثلُه قول متمم بن نويرة :
3090- فلمَّا تَفَرَّقْنا كأني ومالِكاً ... لطولِ اجتماعٍ لم نَبِتْ ليلةً معاً
ومثلُه قولُهم : " كَتَبَتْه لثلاثٍ خَلَوْنَ " . والثاني : أنها على بابها ، أي : لأجلِ دُلُوك . قال الواحدي : " لأنها إنما تَجِبُ بزوالِ الشمس " .
والدُّلوك : مصدرُ دَلَكت الشمسُ ، وفيه ثلاثةُ أقوالٍ ، أشهرُها : أنه الزوالُ ، وهو نِصْفُ النهار . والثاني : أنه من الزوال إلى الغروب . قال الزمخشري : " واشتقاقُه من الدَّلْكِ؛ لأنَّ الإِنسانَ يَدْلُكُ عينَه عند النظرِ إليها " . قلت : وهذا يُفْهِم أنه ليس بمصدرٍ؛ لأنه جعله مشتقاً من المصدرِ . والثالث : أنه الغروبُ ، وأنشد الفراءُ عليه قولَه :
3091- هذا مُقامُ قَدَمَيْ رَباحِ ... ذَبَّبَ حتى دَلَكَتْ بَِرَاحِ
أي : غَرَبَتْ بَراحِ ، وهي الشمسُ . وأنشد ابن قتيبة على ذلك قولَ ذي الرمة :
3092- مصابيحُ ليسَتْ باللواتي تقودها ... نُجومٌ ولا بالآفلاتِ الدوالِكِ
أي : الغارِبات : وقال الراغب : دُلُوْكٌ الشمسِ مَيْلُها للغُروب ، وهو مِنْ قولِهم : دَلَكْتُ الشمسَ : دفعتُها بالرَّاح ، ومنه : دَلَكْتُ الشيءَ في الراحةِ ، ودَلَكْتُ الرجلَ : ماطَلْتُه ، والدَّلُوك : ما دَلَكْتَه مِنْ طِيبٍ ، والدَّلِيْكُ : طعامٌ يُتَّخذ مِنْ زُبْدٍ وتَمْر " .
قوله : { إلى غَسَقِ اليل } في هذا الجارِّ وجهان ، أحدٌهما : أنه متعلِّقٌ ب أَقِمْ " فهي لانتهاءِ غايةِ الإِقامةِ ، وكذلك اللامُ في " لِدُلوك " متعلقةٌ به أيضاً . والثاني : أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " الصلاة " ، أي : أَقِمْها مَمْدودةً إلى غَسَق الليل ، قاله أبو البقاء . وفيه نظرٌ : من حيث إنه قَدَّر المتعلِّق كوناً مقيداً ، إلا أَنْ يريدَ تفسيرَ المعنى لا الإِعرابِ .
والغَسَقُ : دخولُ أولِ الليل ، قاله ابنُ شميل . وأنشد :
3093- إنَّ هذا الليلَ قد غَسَقا ... واشتكيْتُ الهَمَّ والأرقا
وقيل : هو سَوادُ الليلِ وظُلْمَتُه ، وأصلُه من السَّيَلان : غَسَقَتِ العين ، أي : سالَ دَمْعُها فكأن الظُّلْمَةَ تَنْصَبُّ على العالَم وتَسِيْل عليهم قال :
3094- ظلَّتْ تجودُ يداها وهي لاهِيَةٌ ... حتى إذا هَجَمَ الإِظْلامُ والغَسَقُ
ويُقال : غَسَقَتِ العينُ : امتلأَتْ دَمْعاً ، وغَسَقَ الجرحُ : امتلأَ دَماً ، فكأنَّ الظُّلْمَةَ مَلأَتْ الوجودَ . والغاسِقُ في قوله : { وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ } [ الفلق : 3 ] قيل : المرادُ به القمرُ إذا كَسَف واسْوَدَّ . وقيل : الليل . والغَساقُ بالتخفيف والتشديدِ ما يَسِيل مِنْ صَديدِ أهل النار . ويُقال : غَسَق الليلُ وأَغْسَقَ ، وظَلَمَ وَأَظْلَمَ ، ودَجَى وأَدْجَى ، وغَبَشَ وأَغْبَشَ ، نقله الفرَّاء .
قوله : { قُرْآنَ الفجر } فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه عطفٌ على " الصلاة " ، أي : وأَقِمْ قرآنَ الفجرِ ، والمرادُ به صلاةُ الصبحِ ، عَبَّر عنها ببعضِ أركانِها . والثاني : أنه منصوبٌ على الإِغراء ، أي : وعليك قرآنَ الفجر ، كذا قدَّره الأخفشُ وتَبِعه أبو البقاء ، وأصولُ البصريين تَأْبَى هذا؛ لأنَّ أسماءَ الأفعالِ لا تعملُ مضمرةً . الثالث : أنه منصوبٌ بإضمار فعلٍ ، أي : كَثِّر قرآنَ أو الزَمْ قرآنَ الفجرِ .
(1/3004)

وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
قوله تعالى : { وَمِنَ اليل } : في " منْ " هذه وجهان ، أحدُهما : أنها متعلقةٌ ب " تَهَجَّدْ " ، أي : تَهَجَّدْ بالقرآنِ بعضَ الليل ، والثاني : أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ تقديرُه : وقُمْ قَوْمةً من الليل ، أو واسهرْ من الليل ، ذَكَرهما الحوفيُّ . وقال الزمخشري : " وعليك بعضَ الليل فتهَجَّدْ به " فإنْ كان أراد تفسيرَ المعنى فقريبٌ ، وإن أراد تفسيرَ الإِعراب فلا يَصِحُّ لأنَّ المُغْرَى به لا يكون حرفاً ، وجَعْلُه " مِنْ " بمعنى بعض لا يَقْتضي اسميَّتَها ، بدليل أنَّ واوَ " مع " ليسَتْ اسماً بإجماعٍ ، وإن كانت بمعنى اسمٍ صريحٍ وهو " مع " . /
والضميرُ في " به " الظاهرُ عَوْدُه على القرآنِ من حيث هو ، لا بقيد إضافتِه إلى الفجر . والثاني : أنها تعودُ على الوقت المقدَّرِ ، أي : وقُمْ وقتاً من الليل فتهَجَّدْ بذلك الوقتِ ، فتكونُ الباءُ بمعنى " في " .
قوله " نافِلَةً " فيها أوجهٌ ، أحدُها : أنها مصدرٌ ، أي : تَتَنَفَّلُ نافلةً لك على الصلواتِ المفروضةِ . والثاني : أنها منصوبةٌ ب " تَهَجَّدْ " لأنَّه في معنى تَنَفَّلْ ، فكأنه قيل : تنفَّل نافلة . والنَّافِلَةُ ، مصدرٌ كالعاقِبة والعافِية . الثالث : أنها منصوبةٌ على الحالِ ، أي : صلاةَ نافِلَةٍ ، قاله أبو البقاء وتكون حالاً من الهاء في " به " إذا جَعَلْتَها عائدةً على القرآن لا على وقتٍ مقدر . الرابع : أنها منصوبةٌ على المفعولِ بها ، وهو ظاهرُ قولِ الحوفيِّ فإنه قال : " ويجوز أن ينتصِبَ " نافلةً " بتهجَّدْ ، إذا ذَهَبْتَ بذلك على معنى : صَلِّ به نافلةً ، أي : صَلِّ نافِلَةً لك " .
والتهَجُّدُ : تَرْكُ الهُجُودِ وهو النَّوْمُ ، وتَفَعَّل يأتي للسَّلْب نحو : تَحَرَّجَ وتَأَثَّمَ ، وفي الحديث : " كان يَتَحَنَّثُ بغارِ حراءٍ " وفي الهُجود خلافٌ بين أهل اللغةِ فقيل : هو النوم . قال :
3095- وبَرْكُ هُجودٍ قد أثارَتْ مَخافتي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال آخر :
3096- ألا طَرَقَتْنا والرِّفاقُ هُجودُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقال آخر :
3097- ألا زارَتْ وأهلُ مِنَىً هُجودُ ... وليت خيالَها بمِنَىً يعودُ
فَهُجُودٌ : نيامٌ ، جمعُ " هاجِد " كساجِد وسُجود . وقيل : الهُجود : مشتركٌ بين النائِمِ والمُصَلِّي . قال ابن الأعرابي : " تَهَجَّدَ : صلَّى من الليل ، وتَهَجَّدَ : نامَ " ، وهو قول أبي عبيدةَ واللَّيْث .
قوله : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً } في نصب " مَقاماً " أربعةُ أوجه ، أحدها : أنه منصوبٌ على الظرف ، أي : يبعثُك في مَقام . الثاني : أن ينتصِبَ بمعنى " يَبْعَثُك " لأنه في معنى يُقيمك ، يقال : أُقِيم مِنْ قبرِه وبُعِث منه ، بمعنىً فهو نحو : قعد جلوساً . الثالث : أنه منصوبٌ على الحال ، أي : يَبْعَثُك ذا مقامٍ محمودٍ . الرابع : أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ ، وناصبُه مقدَّرٌ ، أي : فيقوم مقاماً .
و " عَسَى " على الأوجهِ الثلاثةِ دونَ الرابع يتعيَّن فيها أن تكونَ التامَّةَ ، فتكونَ مسندةً إلى " أنْ " وما في حَيِّزها إذ لو كانت ناقصةً على أَنْ يكونَ { أَن يَبْعَثَكَ } خبراً مقدماً ، و " ربُّك " اسماً مؤخراً ، لَزِمَ من ذلك محذورٌ : وهو الفصلُ بأجنبي بين صلة الموصول ومعمولِها ، فإنَّ " مَقاماً " على الأوجه الثلاثةِ الأُوَلِ منصوبٌ ب " يَبْعَثُكَ " وهو صلةٌ ل " أَنْ " فإذا جَعَلْتَ " رَبُّك " اسمَها كان أجنبياً من الصلة فلا يُفْصَلُ به ، وإذا جَعَلْتَه فاعِلاً لم يكن أجنبياً فلا يُبالَى بالفصلِ به .
(1/3005)

وأمَّا على الوجه الرابع فيجوز أن تكونَ التامَّةَ والناقصةَ بالتقديم والتأخير لعدم المحذورِ؛ لأنَّ " مقاماً " معمولٌ لغير الصلة ، وهذا من محاسِنِ صناعة النحو ، وتقدَّم لك قريبٌ مِنْ هذا في سورةِ إبراهيم عليه السلام في قولِه تعالى : { أَفِي الله شَكٌّ فَاطِرِ } [ إبراهيم : 10 ] .
(1/3006)

وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)
قوله تعالى : { مُدْخَلَ صِدْقٍ } : يحتمل أن يكونَ مصدراً ، وأن يكونَ ظرفَ مكان وهو الظاهر . والعامَّةُ على ضم الميم فيهما لسَبْقهما فعلٌ رباعي . وقرأ قتادة وأبو حيوة وإبراهيم بن أبي عبلة وحميد بفتحِ الميمِ فيهما : إمَّا لأنهما مصدران على حَذْفِ الزوائد ك { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] ، وإمَّا لأنهما منصوبان بمقدَّرٍ موافقٍ لهما تقديره : فادْخُلْ مَدْخَلَ واخرُجْ مَخْرَج . وقد تقدَّم هذا مستوفى في قراءةِ نافع في سورة النساء ، وأنه قَرَأ كذلك في سورة الحج .
ومُدْخَلُ صِدْقٍ ومُخْرَجُ صِدْقٍ من إضافة التبيين ، وعند الكوفيين من إضافةِ الموصوف لصفته ، لأنه يُوصف به مبالغةً .
قوله : " سُلْطاناً " هو المفعولُ الأول للجَعْلِ ، والثاني أحدُ الجارَّيْن المتقدَّمين ، والآخرُ متعلِّقٌ باستقراره . و " نصيراً " يجوز أن يكون مُحَوَّلاً مِنْ فاعِل للمبالغةِ ، وأن يكونَ بمعنى مفعول .
(1/3007)

وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
والزُّهُوق : الذَّهابُ والاضمحلال قال :
3098- ولقد شَفَى نَفْسي وأبرَأَ سُقْمَها ... إقدامُه بمَزَالَةٍ لم يَزْهَقِ
يقال : زَهَقَتْ نَفْسي تَزْهَقُ زُهوقاً بالضم . وأمَّا الزَّهوق بالفتح فمثالُ مبالَغَةٍ كقوله :
3099- ضَرُوْبٌ بنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمانِها ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(1/3008)

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
قوله تعالى : { مِنَ القرآن } : في " مِنْ " هذه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنها لبيانِ الجنسِ ، قاله الزمخشري ، وابنُ عطية وأبو البقاء . ورَدَّ الشيخُ عليهم : بأنَّ التي للبيان لا بد أن يتقدَّمَها ما تُبَيِّنُه ، لا أَنْ تتقدَّمَ هي عليه ، وهنا قد وُجِدَ تقديمُها عليه .
الثاني : أنها للتبعيض ، وأنكره الحوفي قال : " لأنه يَلْزَمُ أن لا يكونَ بعضُه شفاءً " . وأُجيب عنه : بأنَّ إنزالَه إنما هو مُبَعَّضٌ . وهذا الجوابُ ليس بظاهرٍ . وأجاب أبو البقاء بأنَّ منه ما يَشْفي من المرضِ . قلت : وهذا قد وُجِد بدليل رُقْيَةِ بعضِ الصحابةِ سَيِّدَ الحيِّ الذي لُدِغ ، بالفاتحةِ فشُفي .
الثالث : أنها لابتداءِ الغاية وهو واضح .
والجمهور على رفع " شِفاءٌ/ ورحمةٌ " خبرين ل " هو " ، والجملةُ صلةٌ ل " ما " وزيدُ بن علي بنصبهما ، وخُرِّجَتْ قراءتُه على نصبِهما على الحال ، والصلةُ حينئذٍ " للمؤمنين " وقُدِّمَتْ الحالُ على عاملها المعنويِّ كقولِه { والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] في قراءةِ مَنْ نصب " مَطْوِيَّاتٍ " . وقولِ النابغة :
3100- رَهْطُ ابنِ كُوْزٍ مُحْقِبي أَدراعَهم ... فيهم ورَهْطُ ربيعةَ بنِ حُذارِ
وقيل : منصوبان بإضمارِ فعلٍ ، وهذا [ عند ] مَنْ يمنع تقديمَها على عاملِها المعنوي . وقال أبو البقاء : " وأجاز الكسائيُّ : " ورحمةً " بالنصب عطفاً على " ما " . فظاهرُ هذا أن الكسائيَّ بَقَّى " شفاء " على رفعِه ، ونَصَبَ " رحمة " فقط عطفاً على " ما " الموصولة كأنه قيل : ونُنَزِّل من القرآن رحمةً ، وليس في نَقْله ما يؤذن بأنه تلاها قرآناً . وتقدَّم الخلاف [ في ] " وننزل " تخفيفاً وتشديداً . والعامَّة على نونِ العظمة . ومجاهد " ويُنْزِل " بياء الغيبة ، أي : الله .
(1/3009)

وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83)
قوله تعالى : { وَنَأَى } : قرأ العامَّةُ بتقديمِ الهمزةِ على حرف العلة مِن النَّأْي وهو البُعْدُ . وابن ذكوان - ونقلها الشيخ عن ابن عامر بكمالِه- : " ناءَ " بتقديم الألف على الهمزة . وفيها تخريجان أحدُهما : أنها مِنْ ناء يَنُوْءُ أي نهض . قال الشاعر :
3101- حتى إذا ما التأَمَتْ مَفاصِلُهْ ... وناءَ في شِقِّ الشِّمالِ كاهلُهْ
والثاني : أنه مقلوبٌ مِنْ نأى ، ووزنُه فَلَع كقولهم في " رأى " راءَ ، إلى غيرِ ذلك ، ولكن متى أمكن عدمُ القلبِ فهو أَوْلَى . وهذا الخلافُ جارٍ أيضاً في سورة حم السجدة .
وأمال الألفَ إمالةً محضةً الأخَوان وأبو بكر عن عاصم ، وبينَ بينَ بخلافٍ عنه السوسيُّ ، وكذلك في فُصِّلت ، إلا أبا بكرٍ فإنه لم يُمِلْه .
وأمال فتحةَ النونِ في السورتين خَلَف ، وأبو الحارث والدُّوري عن الكسائي .
(1/3010)

قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
قوله تعالى : { على شَاكِلَتِهِ } : متعلِّقٌ ب " يَعْمل " . والشَّاكِلَةُ : أحسنُ ما قيل فيها ما قاله الزمخشريُّ : أنها مذهبه الذي يُِشاكل حالَه في الهدى والضلالة مِنْ قولهم : " طريقٌ ذو شواكل " وهي الطرقُ التي تَشَعَّبَتْ منه ، والدليلُ عليه قولُه { فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً } . وقيل : على دينه . وقيل : خُلُقه . وقال ابن عباس : " جانبه " . وقال الفراء : " هي الطريقةُ والمذهب الذي جُبِلَ عليه " .
وهو من " الشَّكْلِ " وهو المِثْل ، يقال : لستَ على شَكْلي ولا شاكلتي . وأمَّا " الشَّكْلُ " بالكسر فهو الهيئة . يقال : جاريةٌ حسنةُ الشَّكْل . وقال امرؤ القيس :
3102- حَيِّ الحُمولَ بجانب العَزْلِ ... إذ لا يُلائم شَكلُها شَكْلي
أي : لا يلائمُ مثلُها مثلي .
قوله : " أَهْدى " يجوز أن يكونَ مِنْ " اهْتَدى " ، على حذفِ الزوائد ، وأن يكونَ مِنْ " هَدَى " المتعدِّي . وأن يكونَ مِنْ " هدى " القاصر بمعنى اهتدى . و " سبيلاً " تمييز .
(1/3011)

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
قوله تعالى : { مِّن العلم } : متعلِّقٌ ب " أُوْتِيْتُم " ، ولا يجوز تعلُّقُه بمحذوفٍ على أنه حال مِنْ " قليلاً "؛ لأنه لو تأخَّر لكان صفةً؛ لأنَّ ما في حَيِّز " إلاَّ " لا يتقدم عليها .
وقرأ عبد الله والأعمش " وما أُوْتُوا " بضمير الغيبة .
(1/3012)

إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87)
قوله تعالى : { إِلاَّ رَحْمَةً } : فيها قولان ، أحدُهما : أنها استثناء متصلٌ لأنها تَنْدَرِجُ في قولِه " وكيلا " . والثاني : أنها استثناء منقطعٌ فتتقدر ب " لكن " عند البصريين ، و " بل " عند الكوفيين . و " مِنْ ربِّك " : يجوز أن يتعلَّقَ ب " رحمة " وأن يتعلَّقَ بمحذوف ، صفةً لها .
(1/3013)

قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)
قوله تعالى : { لاَ يَأْتُونَ } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه جوابٌ للقسمِ الموطَّأ له باللام . والثاني : أنه جواب الشرط ، واعتذروا به عن رفعِه بأنَّ الشرطَ ماضٍ فهو كقوله :
3103- وإنْ أتاه خليلٌ يومَ مسألةٍ ... يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حِرِمُ
واستشهدوا عليه بقولِ الأعشى :
3104- لئِنْ مُنِيْتَ بنا عن غِبِّ معركةٍ ... لا تُلْفِنا مِنْ دماءِ القومِ نَنْتَفِلُ
فأجاب الشرطَ مع تقدُّمِ لامِ التوطئة ، وهو دليلٌ للفراء ومَنْ تبعه على ذلك . وفيه رَدٌّ على البصريين ، حيث يُحَتِّمون جوابَ القسمِ عند عدمِ تقدُّم ذي خبرٍ .
وأجاب بعضهم بأنَّ اللامَ في البيت ليست للتوطِئةِ بل مزيدةٌ ، وهذا ليس/ بشيء لأنه لا دليلَ عليه . وقال الزمخشري : " ولولا اللامُ الموطِّئة لجاز أن يكونَ جواباً للشرط كقولِه :
3105- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يقولُ لا غائبٌ . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لأنَّ الشرطَ وقع ماضياً . وناقشه الشيخُ : بأنَّ هذا ليس مذهبَ سيبويه ولا الكوفيين والمبرد؛ لأنَّ مذهب سيبويه في مثلِه أن النيةَ به التقديمُ ، ومذهبَ الكوفيين والمبرد أنه على حذف الفاء ، وهذا مذهبٌ ثالثٌ قال بعضُ الناس .
قوله : { وَلَوْ كَانَ } جملةٌ حاليةٌ ، وقد تقدَّم تحقيق هذا ، وأنه كقولِه عليه السلام " أَعطُوا السائل ولو جاء على فرس " و " لبعضٍ " متعلِّقٌ ب " ظَهير " .
(1/3014)

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا } : مفعولُه محذوف . وقيل : " مِنْ " زائدة في { مِن كُلِّ مَثَلٍ } وهو المفعولُ ، قاله ابن عطية وهو مذهبُ الكوفيين والأخفش .
وقرأ الحسن " صَرَفْنا " بتخفيفِ الراء ، وقد تقدَّم نظيرُه .
قوله : { إِلاَّ كُفُوراً } مفعولٌ به ، وهو استثناءٌ مفرغ لأنه في قوة : لم يَفْعلوا إلا الكُفور .
(1/3015)

وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90)
قوله تعالى : { حتى تَفْجُرَ } : قرأ الكوفيون " تَفْجُرَ " بفتح التاء وسكونِ الفاء وضمِّ الجيم خفيفةً ، مضارعَ " فَجَر " . والباقون بضمِّ التاءِ وفتحِ الفاء وكسرِ الجيم شديدةً ، مضارع فَجَّر للتكثير . ولم يختلفوا في الثانية أنها بالتثقيلِ للتصريحِ بمصدرِها . وقرأ الأعمش " تُفْجِرَ " بضمِّ التاءِ وسكونِ الفاء وكسر الجيم خفيفةً ، مضارعَ أَفْجر بمعنى فَجَرَ ، فليس التضعيفُ ولا الهمزةُ مُعَدِّيَيْنِ .
و " يَنْبوعاً " مفعولٌ به ، ووزنُه يَفْعُول لأنَّه مِنْ النَّبْعِ ، واليَنْبُوعُ : العَيْنُ تفورُ من الأرض .
(1/3016)

أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91)
قوله تعالى : { خِلالَهَا } نصبٌ على الظرفِ ، وتقدَّم تحقيقُه أول السورة .
(1/3017)

أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92)
قوله تعالى : { أَوْ تُسْقِطَ } : العامَّةُ على إسناد الفعل للمخاطب . و " السماءَ " مفعولٌ بها . ومجاهد على إسنادِه إلى " السماء " فَرَفْعُها به .
قوله : " كِسْفاً " قرأ نافعٌ وابنُ عامرٍ وعاصمٌ هنا بفتح السين ، وفَعَل ذلك حفصٌ في الشعراء وفي سبأ . والباقون بسكونها في المواضعِ الثلاثةِ . وقرأ ابن ذكوان بسكونها في الروم بلا خلافٍ ، وهشامٌ عنه الوجهان ، والباقون بفتحها .
فمَنْ فتح السينَ جعله جمعَ كِسْفة نحو : قِطْعَة وقِطَع ، وكِسْرة وكِسَر ، ومَنْ سَكَّن جعله جمع كِسْفَة أيضاً على حَدِّ سِدْرة وسِدْر ، وقَمْحة وقَمْح .
وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين آخرين ، أحدُهما : أنه جمعٌ على فَعَل بفتح العينِ ، وإنما سُكِّن تخفيفاً ، وهذا لا يجوز لأنَّ الفتحةَ خفيفةٌ يحتملُها حرفُ العلة ، حيث يُقَدَّر فيه غيرُها فكيف بالحرف الصحيح؟ . قال : " والثاني : أنه فَعْل بمعنى مَفْعول " كالطَّحْن بمعنى مَطْحون ، فصار في السكون ثلاثةُ أوجهٍ .
وأصل الكَسْفِ القَطْع . يقال : كَسَفْتُ الثوبَ قطعتُه . وفي الحديثِ في قصة سليمان مع الصافنات الجياد : أنه " كَسَفَ عراقيبَها " أي : قطعها . وقال الزجاج " كَسَفَ الشيء بمعنى غَطَّاه " . وقيل : ولا يُعرفُ هذا لغيرِه .
وانتصابُه على الحالِ ، فإنْ جَعَلْناه جمعاً كان على حَذْفِ مضافٍ ، أي : ذات كِسَفٍ ، وإنْ جعلناه فِعْلاً بمعنى مَفْعول لم يَحْتَج إلى تقدير ، وحينئذ فيقال : لِمَ لَمْ يؤنَّث؟ ويجاب : بأنَّ تأنيثَ السماء غيرُ حقيقي ، أو بأنها في معنى السقف .
قوله : " كما زَعَمْتَ " نعتٌ لمصدرٍ محذوف ، أي : إسقاطاً مثلَ مَزْعُومِك ، كذا قدَّره أبو البقاء .
قوله : " قَبِيْلاً " حالٌ من " الله والملائكة " أو مِنْ أحدِهما ، والآخرُ محذوفةٌ حالُه ، أي : بالله قبيلاً والملائكةِ قبيلاً . كقوله :
3106- . . . . . . . . . . . . . . كنتُ منه ووالدي ... بريئاً . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
[ وكقولِهِ ]
3107- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فإنِّي وقَيَّارٌ بها لغريبُ
ذكرَه الزمخشريُ ، هذا إذا جَعَلْنا " قبيلاً " بمعنى كفيلاً ، أي : ضامِناً ، أو بمعنى معايَنة كما قاله الفارسيُّ . وإنْ جعلناه بمعنى جماعةً كان حالاً من " الملائكة " .
وقرأ الأعرج " قِبَلاً " من المقابلة .
(1/3018)

أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
قوله تعالى : { أَوْ ترقى } : فعل مضارعٌ منصوبٌ تقديراً ، لأنه معطوفٌ على " تَفَجُّرَ " ، أي : أو حتى تَرْقَى في السماء ، أي : في معارجِها ، والرُّقِيُّ : الصُّعودُ . يقال : رَقِي بالكسرِ يَرْقى بالفتح رُقَيَّاً على فُعول ، والأصل رُقُوْي ، فَأُدْغم بعد قلبِ الواو ياءً ، ورَقْياً بزنة ضَرْب . قال الراجز :
3108- أنتَ الذي كلَّفْتني رَقْيَ الدَّرجْ ... على الكَلالِ والمَشِيْبِ والعَرَجْ
قوله : " نَقْرَؤُه " يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون نعتاً ل " كتاباً " . والثاني : أن يكونَ [ حالاً ] مِنْ " ن " في " علينا " قاله أبو البقاء ، وهي حالٌ مقدرةٌ ، لأنهم إنما يقرؤونه بعد إنزالِه لا في حالِ إنزالِه .
قوله : { قُلْ سُبْحَانَ } قرأ ابنُ كثير وابنُ عامر " قال " فعلاً ماضياً إخباراً عن الرسولِ عليه السلام بذلك ، والباقون " قُلْ " على الأمر/ أمراً منه تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم بذلك ، وهي مرسومةٌ في مصاحف المكيين والشاميين : " قال " بألف ، وفي مصاحِفِ غيرِهم " قُلْ " بدونها ، فكلٌ وافق مصحفَه .
قوله : { إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } يجوزُ أَنْ يكونَ " بشراً " خبرَ " كنتُ " و " رسولاً " صفتُه ، ويجوز أن يكون " رسولاً " هو الخبر ، و " بَشَراً " حالٌ مقدمةٌ عليه .
(1/3019)

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94)
قوله تعالى : { أَن يؤمنوا } : " أَنْ يُؤْمِنُوا " مفعولٌ ثانٍ ل " مَنَع " ، أي/ ما مَنَعَهم إيمانَهم أو مِنْ إيمانهم ، و " أنْ قالوا " هو الفاعلُ ، و " إذ " ظرفٌ ل " مَنَعَ " ، والتقدير : وما مَنَعَ الناسَ من الإِيمانِ وقتَ مجيءِ الهُدى إياهم إلا قولُهم " أَبَعَثَ الله .
وهذه الجملةُ المنفيَّةُ يُحتمل أَنْ تكونَ مِنْ كلام الله ، فتكونَ مستأنفةً ، وأن تكونَ مِنْ كلامِ الرسولِ فتكونَ منصوبةَ المحلِّ لاندراجِها تحت القولِ في كلتا القراءتين .
قوله : { بَشَراً رَّسُولاً } كما تقدَّم مِنَ الوجهين في نظيره ، وكذلك قولُه { لَنَزَّلْنَا [ عَلَيْهِم ] مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً } .
(1/3020)

قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)
قوله تعالى : { لَوْ كَانَ فِي الأرض } : يجوز في " كان " هذه التمامُ ، أي : لو وُجِد وحَصَل ، و " يمشون " صفةٌ ل " ملائكةٌ " و { فِي الأرض } متعلقٌ به ، و " مطمئنين " حالٌ من فاعل " يَمْشُون " . ويجوز أن تكونَ الناقصةَ ، وفي خبرها أوجهٌ ، أظهرُها : أنه الجارُّ ، و " يَمْشُون " و " مطمئنين " على ما تقدَّم . وقيل : الخبر " يَمْشُون " و { فِي الأرض } متعلِّق به . وقيل : الخبرُ " مطمئنين " و " يَمْشُون " صفةٌ . وهذان الوجهان ضعيفان لأنَّ المعنى على الأول .
(1/3021)

وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
قوله تعالى : { وَمَن يَهْدِ الله } : يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ مندرجةً تحت المَقُولِ ، فيكون محلُّها نصباً ، وأن تكونَ مِنْ كلامِ اللهِ ، فلا مَحَلَّ لها لاستئنافِها ، ويكون في الكلامِ التفاتٌ؛ إذ فيه خروجٌ مِنْ غَيْبَةٍ إلى تكلُّم في قوله " ونَحْشُرهم " .
وحُمِل على لفظِ " مَنْ " في قولِه " فهو المهتدِ " فَأُفْرِد ، وحُمِل على معنى " مَنْ " الثانيةِ في قولِه { وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ } . فجُمعَ . ووجهُ المناسبةِ في ذلك -والله أعلم - : أنه لمَّا كان الهَدْي شيئاً واحداً غيرَ متشعبِ السبلِ ناسَبَه التوحيدُ ، ولمَّا كان الضلالُ له طرقٌ نحو : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] ناسب الجمعُ الجمعَ ، وهذا الحملُ الثاني مِمَّا حُمِل فيه على المعنى ، وإن لم يتقدَّمْه حَمْلٌ على اللفظ . قال الشيخُ : " وهو قليلٌ في القرآن " . يعني بالنسبةِ إلى غيرِه . ومثلُه قوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } [ يونس : 42 ] ويمكن أن يكونَ المُحَسِّنَ لهذا كونُه تقدَّمَه حَمْلٌ على اللفظِ وإنْ كان في جملةٍ أخرى غيرِ جملتِه .
وقرأ نافعٌ وأبو عمروٍ بإثباتِ ياء " المُهْتدي " وصلاً وحَذْفْها وقفاً ، وكذلك في التي تحت هذه السورة ، وحَذَفها الباقون في الحالين .
قوله : { على وُجُوهِهِمْ } يجوز أَنْ يتعلَّقَ بالحشر ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعول ، أي : كائنين ومَسْحوبين على وجوههم .
قوله : " عُمْياً " يجوز أن تكونَ حالاً ثانية ، أو بدلاً من الأولى ، وفيه نظرٌ؛ لأنه تَظْهَرُ أنواعُ البدلِ وهي : كلٌّ من كل ، ولا بعضٌ من كل ، ولا اشتمالٌ ، وأن تكونَ حالاً من الضمير المرفوع في الجارِّ لوقوعِهِ حالاً ، وأن تكونَ حالاً من الضميرِ المجرورِ في " وجوهِهم " .
قوله : { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } يجوزُ في هذه الجملةِ الاستئنافُ والحاليةُ : إمَّا من الضميرِ المنصوبِ أو المجرورِ .
قوله : { كُلَّمَا خَبَتْ } يجوز فيها الاستئنافُ والحاليةُ مِنْ " جهنم " ، والعاملُ فيها معنى المَأْوَى .
وخَبَتِ النار تَخْبُو : إذا سكن لهَبُها ، فإذا ضَعُفَ جَمْرُها قيل : خَمَدَتْ ، فإذا طُفِئَتْ بالجملةِ قيل : هَمَدَت . قال :
3019- وَسْطُه كاليَراعِ أو سُرُجِ المِجْ ... دَلِ حِيْناً يَخْبُو وحِيناً ينيرُ
وقال آخر :
3100- لِمَنْ نارٌ قبيل الصُّبْ ... حِ عند البيتِ ما تَخْبُو
إذا ما أُخْمِدَتْ اُلْقِيْ ... عليها المَنْدَلُ الرَّطْبُ
وأَدْغَم التاءَ في زاي " زِدْناهم " وأبو عمروٍ والأخَوان وورشٌ ، وأظهرها الباقون .
(1/3022)

ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98)
قوله تعالى : { ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ } : يجوز أَنْ يكونَ مبتدأً وخبراً ، و " بأنَّهم " متعلِّقٌ بالجزاء ، أي : ذلك العذابُ المتقدَّمُ جزاؤهم بسببِ أنهم ، ويجوز أَنْ يكونَ " جزاؤهم " مبتدأ ثانياً ، والجارُّ خبرُه ، والجملةُ خبرُ " ذلك " ، ويجوز أن يكونَ " جزاؤهم " بدلاً أو بياناً ، و " بأنَّهم " الخبرُ .
(1/3023)

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
قوله تعالى : { وَجَعَلَ لَهُمْ } : معطوفٌ على قوله { أَوَلَمْ يَرَوْاْ } لأنه في قوة : قد رَأَوْا ، فليس داخلاً في حَيَّز الإِنكار ، بل معطوفاً على جملته برأسها .
قوله : { لاَّ رَيْبَ فِيهِ } صفةٌ ل " أجَلاً " ، أي : أجلاً غيرَ مرتابٍ فيه . فإن أريد به يومُ القيامة فالإِفرادُ واضحٌ ، وإن أريد به الموتُ فهو اسم جنسٍ/ إذ لكلِّ إنسان أجلٌ يَخُصه .
قوله : { إَلاَّ كُفُوراً } قد تقدَّم قريباً .
(1/3024)

قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
قوله تعالى : { لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : - وإليه ذهب الزمخشري والحوفي وابن عطية وأبو البقاء ومكي - أن المسألة من بابِ الاشتغال ، ف " أنتم " مرفوعٌ بفعلٍ مقدرٍ يُفَسِّره هذا الظاهرُ ، لأنَّ " لو " لا يليها إلا الفعلُ ظاهراً أو مضمراً ، فهي ك " إنْ " في قولِه تعالى : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين } [ التوبة : 6 ] وفي قوله :
3111- وإن هو لم يَحْمِلْ على النفس ضَيْمَها ... فليس إلى حُسْنِ الثَّناء سبيلُ
والأصل : لو تملكون ، فحذف الفعلَ لدلالةِ ما بعده عليه فانفصل الضميرُ وهو الواوُ؛ إذ لا يمكن بقاؤُه متصلاً بعد حَذْف رافِعِه . ومثلُه : " وإن هو لم يَحْمِلْ " الأصلُ : وإن لم يَحْمل ، فلمَّا حُذِف الفعلُ انفصل ذلك الضميرُ المستتر وبَرَزَ ، ومثلُه فيما نحن فيه قولُ الشاعر : لو ذاتُ سِوارٍ لَطَمَتْني " ، وقولُ المتلمس :
3112- ولو غيرُ أَخْوالي أرادُوا نَقِيْصَتي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ف " ذاتُ سوار " مرفوعةٌ بفعلٍ مفسَّرٍ بالظاهرِ بعده .
الثاني : أنه مرفوعٌ ب " كان " وقد كَثُر حَذْفُها بعد " لو " والتقدير : لو كنتم تملكون ، فَحُذِفَتْ " كان " فانفصل الضمير ، و " تملكون " في محلِّ نصبٍ ب " كان " وهو قولُ ابنِ الصائغِ . وقريبٌ منه قولُه :
3113- أبا خُراشَةَ أمَّا أنتَ ذا نَفَرٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فإنَّ الأصلَ : لأَنْ كنتَ ، فحُذِفَتْ " كان " فانفصل الضمير إلا أنَّ هنا عُوِّض مِنْ " كان " " ما " ، وفي " لو " لم يُعَوَّض منها .
الثالث : أنَّ " أنتم " توكيدٌ لاسمِ " كان " المقدرِ معها ، والأصلُ " لو كنتم أنتم تملِكُون " فَحُذِفَتْ " كان " واسمها وبقي المؤكِّد ، وهو قولُ ابن فضَّال المجاشعي . وفيه نظرٌ من حيث إنَّا نحذِفُ ما في التوكيد ، وإن كان سيبويه يُجيزه .
وإنما أحوجَ هذين القائلَيْن إلى ذلك : كونُ مذهب البصريين في " لو " أنَّه لا يليها إلا الفعلُ ظاهراً ، ولا يجوز عندهم أَنْ يليَها مضمراً مفسِّراً إلى في ضرورةٍ أو ندورٍ كقوله : " لو ذاتَ سِوَارٍ لطمَتْني " . فإن قيل : هذان الوجهان : أيضاً فيهما إضمار فعلٍ . قيل : ليس هو الإِضمارَ المَعْنِيَّ؛ فإنَّ الإِضمارَ الذي أَبَوْه على شريطةِ التفسير في غير " كان " ، وأمَّا " كان " فقد كَثُر حَذْفُها بعد " لو " في مواضعَ كثيرةٍ . وقد وقع الاسمُ الصريحُ بعد " لو " غيرَ مذكورٍ بعده فعلٌ ، أنشد الفارسي :
3114- لو بغيرِ الماءِ حَلْقي شَرِقٌ ... كنت كالغصَّانِ بالماءِ اعتصاري
إلا أنه خرَّجه على أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدر يُفَسِّره الوصفُ مِنْ قولِه " شَرِقٌ " . وقد تقدَّم تحقيق القول في " لو " فلنقتصِرْ على هذا .
قوله : { لأمْسَكْتُمْ } يجوز أن يكونَ لازماً لتضمُّنِه معنى بَخَلْتُمْ ، وأن يكونَ متعدِّياً ، ومفعولُه محذوفٌ ، لأَمْسَكْتُم المال ، ويجوز أن يكونَ كقولِه { يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] .
قوله : { خَشْيَةَ الإنفاق } فيه وجهان ، أظهرهما : أنه مفعولٌ مِنْ أجله .
والثاني : أنه مصدرٌ في موضع الحال ، قاله أبو البقاء ، أي : خاشِين الإِنفاقَ . وفيه نظرٌ؛ إذ لا يقع المصدرُ المعرَّفُ موقعَ الحالِ إلا سماعاً نحو : " جَهْدَك " و " طاقتَك " و [ كقوله : ]
3115- وأرسلها العِراك . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولا يُقاسُ عليه . والإِنفاقُ مصدرُ أنفق ، أي : أَخْرَجَ المالَ . وقال أبو عبيدة : " وهو بمعنى الافتقار والإِقتار " .
(1/3025)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101)
قوله تعالى : { تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } : يجوز في " بيِّنات " النصبُ صفةً للعددِ ، والجرُّ صفةً للمعدود .
قوله : { إِذْ جَآءَهُمْ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أن يكونَ معمولاً ل " آتَيْنا " ، ويكون قولُه { فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ } اعتراضاً . والثاني : أنَّه منصوبٌ بإضمار اذكُرْ . والثالث : أنه منصوبٌ ب يُخْبرونك مقدَّراً . الرابع : أنه منصوبٌ بقولٍ مضمرٍ ، إذ التقديرُ : فَقُلْنا له : سَلْ بني إسرائيل حين جاءهم . وقد ذكر هذه الأوجهَ الزمخشريُّ مرتبةً على مقدمةٍ ذكرها قبل ذلك فلنذكُرْها . قال : { فَسْئَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ } ، أي : فقلنا له : سَلْ بني [ إسرائيل ] ، أي : سَلْهُمْ عن فرعونَ ، وقل/ له : أرسلْ معي بني إسرائيل ، أو سَلْهُم عن إيمانهم وحالِ دينهم ، أو سَلْهُمْ أن يُعاضِدوك ، وتَدُلُّ عليه قراءةُ رسول الله " فسال " على لفظ الماضي بغير همزٍ وهي لغةُ قريش .
وقيل : فَسَلْ يا رسول اللهِ المُؤْمِنَ من بني إسرائيل كعبدِ الله بن سلام وأصحابِه عن الآيات ليزدادوا يقيناً وطُمَأنينة كقوله : { وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] . ثم قال : " فإن قلتَ بمَ تعلَّق " إذ جاءهم "؟ قلت : أمَّا على الوجهِ الأولِ فبالقولِ المحذوفِ ، أي : فقلنا له : سَلْهُمْ حين جاءهم ، أو ب " سال " في القراءة الثانية . وأمَّا على الأخير فب " آتَيْنا " أو بإضمار اذْكُرْ ، أو بيُخْبرونك . ومعنى إذ جاءهم : إذ جاء آباءهم " . انتهى .
قال الشيخ : " ولا يتأتَّى تَعَلُّقه ب " اذكر " ولا ب يُخبرونك لأنه ظرفٌ ماضٍ " . قلت : إذا جعله معمولاً ل " اذكُرْ " ، أو ل يُخْبرونك لم يَجْعَلْه ظرفاً بل مفعولاً به ، كما تقرَّر ذلك غيرَ مرة .
الخامس : أنه مفعولٌ به والعاملُ فيه " فَسَلْ " . قال أبو البقاء : " فيه وجهان ، أحدُهما : هو مفعولٌ به باسْأَلْ على المعنى لأنَّ المعنى : اذْكرْ لبني إسرائيل [ إذ جاءهم ] وقيل : التقديرُ اذكر إذ جاءهم وهي غيرُ " اذكر " الذي قَدَّرْتَ به اسْأَلْ " . يعني أن اذكرْ المقدرةَ غيرُ " اذكر " الذي فَسَّرْتَ " اسأَلْ " بها ، وهذا يؤيد ما ذكرْتُه لك مِنْ أنَّهم إذا قدَّروا " اذكر " جعلوا " إذ " مفعولاً به لا ظرفاً .
إلا أنَّ أبا البقاء ذكر حالَ كونِه ظرفاً ما يقتضي أنْ يعملَ فيه فعلٌ مستقبلٌ فقال : " والثاني : أن يكونَ ظرفاً . وفي العامل فيه أوجهٌ ، أحدُها : " آتَيْنا " . والثاني : " قلنا " مضمرة . والثالث : " قُلْ " ، تقديرُه قل لخصمِك : سَلْ . والمرادُ به فرعونُ ، أي : قُلْ يا موسى ، وكان الوجهُ أن يُقال : إذ جئتهم بالفتح ، فرجع من الخطاب إلى الغيبة " .
قلت : فظاهرُ الوجهِ الثالثِ أنَّ العاملَ فيه " قُلْ " وهو ظرفٌ ماضٍ ، على أنَّ هذا المعنى الذي نحا إليه ليس بشيءٍ؛ إذ يرجع إلى : يا موسى قُلْ لفرعونَ : سَلْ بني إسرائيل ، فيعودُ فرعون هو السائلَ لبني إسرائيل ، وليس المرادُ ذلك قطعاً ، وعلى التقدير الذي قَدَّمْتُه عن الزمخشريِّ - وهو أنَّ المعنى : يا موسى سَلْ بني إسرائيل ، أي : اطْلُبْهم من فرعونَ - يكون المفعولُ الأول للسؤال محذوفاً ، والثاني هو " بني إسرائيل " ، والتقدير : سَلْ فرعونَ بني إسرائيل ، وعلى هذا فيجوز أن تكونَ المسألةُ من التنازع ، وأعمل الثانيَ ، إذ التقديرُ : سَلْ فرعونَ فقال فرعونُ ، فأعمل الثانيَ فَرَفَع به الفاعلَ ، وحَذَفَ المفعولَ مِنَ الأول وهو المختار من المذهبين .
(1/3026)

والظاهرُ غيرُ ذلك كلِّه ، وأنَّ المأمورَ بالسؤال إنما هو سيدُنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه ، وبنو إسرائيل كانوا معاصِرِيه .
والضميرُ في { إِذْ جَآءَهُمْ } : إمَّا للآباء ، وإمَّا لهم على حَذْفِ مضافٍ ، أي : جاء آباءهم .
قوله : " مَسْحُوراً " فيه وجهان ، أظهرُهما : أنه بمعناه الأصلي ، أي : إنك سُحِرْتَ ، فمِنْ ثَمَّ اختلَّ كلامُك ، قال ذلك حين جاءَه بما لا تَهْوَى نفسُه الخبيثةُ . الثاني : أنه بمعنى فاعِل كمَيْمون ومَشْؤوم ، أي : أنت ساحرٌ؛ فلذلك تأتي بالأعاجيبِ ، يشير لانقلابِ عصاه حيةً وغيرِ ذلك .
(1/3027)

قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)
قوله تعالى : { لَقَدْ عَلِمْتَ } : قرأ الكسائيُّ بضم التاء أَسْند الفعلَ لضمير موسى عليه السلام ، أي : إني متحققٌ أني ما جئت به هو مُنَزَّلٌ مِنْ عندِ الله . والباقون بالفتح على إسناده لضميرِ فرعونَ ، أي : أنت متحقِّقٌ أنَّ ما جئتُ به هو مُنَزَّل من عند الله وإنما كفرُك عِنادٌ ، وعن عليٍّ رضي الله عنه أنه أنكر الفتحَ ، وقال : " ما عَلِم عدوُّ اللهِ قط ، وإنما عَلِم موسى " ، والجملةُ المنفيَّةُ في محلِّ نصبٍ لأنها معلِّقةٌ للعِلْم قبلها .
قوله : " بَصائر " حالٌ وفي عاملها قولان ، أحدُهما : أنه " أَنْزَلَ " هذا الملفوظُ به ، وصاحبُ الحال هؤلاء ، وإليه ذهب الحوفيُّ وابنُ عطيةَ وأبو البقاء ، وهؤلاء يُجيزون أن يَعْمل ما قبلَ " إلا " فيما بعدها ، وإنْ لم يكنْ مستثنى ، ولا مستثنى منه ، ولا تابعاً له . والثاني : وهو مذهب الجمهور أنَّ ما بعد " إلا " لا يكون معمولاً لما قبله ، فيُقدَّر لها عاملٌ تقديرُه : أَنْزَلها بصائِرَ ، وقد تقدَّم نظيرُ هذه في " هود " عند قولِه { إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي } [ هود : 27 ] .
قوله : " مَثْبورا " " مَثْبوراً " مفعولٌ ثانٍ ، واعترض بين المفعولين بالنداء . والمَثْبُور : المُهْلَكُ . يقال : ثَبَره اللهُ ، أي : أَهْلكه ، قال ابن الزَّبْعَرى :
3116- إذ أُجاريْ الشيطانَ في سَنَنِ الغَيْ ... يِ ومَنْ مالَ مَيْلَه مَثْبورُ
والثُّبُور : الهَلاكُ قال تعالى : { لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً } [ الفرقان : 14 ] .
(1/3028)

وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
قوله تعالى : { لَفِيفاً } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه حالٌ ، وأن أصلَه مصدرُ لفَّ يَلُفُّ لفيفاً نحو : النَّذير والنكير ، أي : جِئْنا بكم منضمَّاً بعضُكم إلى بعض ، مِنْ لفَّ الشيءَ يَلُفُّه لَفَّاً ، والأَلَفُّ : المتداني الفَخْذَيْنِ ، وقيل : العظيمُ البطن . والثاني : أنه اسمُ جمعٍ لا واحدَ له من لفظِه ، والمعنى : جئنا بكم جميعاً فهو في قوةِ التأكيدِ .
(1/3029)

وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105)
قوله تعالى : { وبالحق أَنْزَلْنَاهُ } : في الجارِّ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه متعلق بأَنْزَلْناه ، والباء سببية ، أي : أنزلناه بسبب الحق . والثاني : أنه حالٌ من مفعول " أنزلناه " ، أي : ومعه الحق . والثالث : أنه حالٌ من فاعِله ، أي : ملتبسين بالحقِّ . وعلى هذين الوجهين يتعلَّقُ بمحذوفٍ .
والضمير في " أَنْزَلْناه " الظاهرُ عَوْدُه للقرآن : إمَّا الملفوظِ به في قولِه قبل ذلك { على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن } [ الإِسراء : 88 ] ، ويكون ذلك جَرْياً على قاعدةِ أساليب كلامِهِم ، وهو أَنْ يستطردَ المتكلمُ في ذِكْر شيءٍ لم يَسْبِقْ له كلامُه أولاً ، ثم يعودُ إلى كلامِه الأولِ ، وإمَّا للقرآنِ غيرِ الملفوظ أولاً؛ لدلالة الحالِ عليه كقولِه تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] وقيل : يعودُ على موسى كقوله : { وَأَنزْلْنَا الحديد } [ الحديد : 25 ] . وقيل : على الوعد . وقيل : على الآيات التسعِ ، وذكَّر الضميرَ وأفرده حملاً على معنى الدليل والبرهان .
قوله : { وبالحق نَزَلَ } فيه الوجهان الأوَّلان دونَ الثالث لعدمِ ضميرٍ آخرَ غيرِ ضمير القرآن . وفي هذه الجملةِ وجهان ، أحدُهما : أنها للتأكيد ، وذلك أنه يُقال : أنزلْتُه فَنَزَل ، وأنزلْتُه فلا يَنْزِلْ ، فجيْءَ بقولِه { وبالحق نَزَلَ } دَفْعاً لهذا الوهم . وقيل : ليست للتأكيد ، والمغايرةُ تَحْصُل بالتغاير بين الحقِّيْنِ ، فالحقُّ الأول التوحيد ، والثاني الوعدُ والوعيدُ والأمر والنهي . وقال الزمخشري : " وما أَنْزَلْنَا القرآنَ إلا بالحكمةِ المقتضية لإنزاله ، وما نَزَلَ إلا ملتبساً بالحق والحكمةِ لاشتماله على الهداية إلى كلِّ خير ، أو ما أَنْزَلْنَاه من السماء إلا بالحقِّ محفوظاً بالرَّصْدِ من الملائكةِ ، وما نَزَلَ على الرسول إلا محفوظاً بهم مِنْ تخليط الشياطين " . و " مبشِّراً ونذيراً حالان من مفعول أَرْسَلْنَاك " .
(1/3030)

وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
قوله تعالى : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ } : في نصبه أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ ، أي : وآتَيْناك قرآناً " يدلُّ عليه قوله { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى } [ الإِسراء : 101 ] . الثاني : أنه منصوبٌ عطفاً على الكافِ في " أَرْسَلْناك " . قال ابنُ عطية : " من حيث كان إرسالُ هذا وإنزال هذا معنى واحداً " .
الثالث : أنه منصوبٌ عطفاً على { مُبَشِّراً وَنَذِيراً } قال الفراء : هو منصوبٌ ب " أَرْسَلْناك " ، أي : ما أرسلناك إلا مبشِّراً ونذيراً وقرآناً ، كما تقول : ورحمة لأنَّ القرآنَ رحمةً " . قلت : يعني أنه جُعِل نفسُ القرآن مُراداً به الرحمةُ مبالغةً ، ولو ادَّعى ذلك على حَذْفِ مضافٍ كان أقربَ ، أي : وذا قرآنٍ . وهذان الوجهان متكلِّفان .
الرابع : أن ينتصِبَ على الاشتغال ، أي : وفَرَقْنا قرآناً فرقناه . واعتذر الشيخُ عن ذلك ، أي : عن كونِه لا يَصِحُّ الابتداءُ به لو جَعَلْناه مبتدأً لعدم مُسَوِّغٍ؛ لأنه لا يجوزُ الاشتغال إلا حيث يجوز في ذلك الاسمِ الابتداءُ ، بأنَّ ثمَّ محذوفةً ، تقديرُه : وقرآناً أيَّ قرآنٍ ، بمعنى عظيم . و " فَرَقْناه " على هذا لا محلَّ له بخلاف الأوجهِ المتقدمةِ؛ فإن محلِّه النصبُ لأنَّه نعتٌ ل " قرآناً " .
والعامَّةُ " فَرَقْناه " بالتخفيف ، أي : بَيَّنَا حلالَه وحرامَه ، أو فَرَقْنا فيه بين الحق والباطل . وقرأ علي بن أبي طالب - كرَّم اللهُ وجهَه - واُبَيّ وعبدُ الله وابنُ عباس والشعبي وقتادة وحميد في آخرين بالتشديد . وفيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ التضعيفَ فيه للتكثير ، أي : فَرَّقْنا آياتِه بين أمرٍ ونهي وحِكَمٍ وأحكامٍ ومواعظ وأمثال وقصص وأخبار ماضيةٍ ومستقبلةٍ . والثاني : أنه دالٌّ على التفريق والتنجيم .
قال الزمخشري : " وعن ابن عباس أنه قرأ مشدَّداً ، وقال : لم يَنْزِلْ في يومين ولا في ثلاثةٍ ، بل كان بين أولِه وآخره عشرون سنةً ، يعني أنَّ " فَرَقَ " بالتخفيف يدلُّ على فصلٍ متقاربٍ " .
قال الشيخ : " وقال بعضُ من اختار ذلك - يعني التنجيمَ - لم يَنْزِلْ في يومٍ ولا يومين ولا شهرٍ ولا شَهْرَيْن ، ولا سنةٍ ولا سنتين . قال ابنُ عباس : كان بين أوله وآخره عشرون سنة ، كذا قال الزمخشريُّ عن ابن عباس " . قلت : وظاهرُ/ هذا أنَّ القولَ بالتنجيم ليس مرويَّاً عن ابن عباس ولا سيما وقد فَصَل قولَه " قال ابن عباس " مِنْ قولِه " وقال بعضُ مَنْ اختار ذلك " ، ومقصودُه أنه لم يُسْنِده لابن عباس لِيَتِمَّ له الردُّ على الزمخشري في أنَّ فَعَّل بالتشديد لا يَدُلُّ على التفريق ، وقد تقدَّم له معه هذا المبحثُ أولَ هذا الموضوع .
قوله : " لتقرأَه " متعلقٌ ب " فَرَقْناه " . و " على مُكْثٍ " فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه متعلِّق بمحذوفٍ ، على أنه حالٌ من الفاعل أو المفعول في " لتقرأه " ، أي : متمهِّلاً مترسِّلاً .
(1/3031)

والثاني : أنه بدلٌ مِنْ " على الناس " قاله الحوفيُّ ، وهو وهمٌ ، لأنَّ قوله " على مُكْثٍ " من صفاتِ القارئ أو المقروء من جهةِ المعنى ، لا من صفاتِ الناس حتى يكون بدلاً منهم . الثالث : أنه متعلِّقٌ ب " فَرَقْناه " .
وقال الشيخ : " والظاهرُ تَعَلُّق " على مُكْث " بقوله " لتقرأه " ، ولا يُبالَى بكونِ الفعلِ يتعلَّق به حرفا جرٍّ من جنسٍ واحدٍ لأنه اختلف معنى الحرفين؛ لأنَّ الأولَ في موضعِ المفعول به ، والثاني في موضعِ الحالِ ، أي : متمهِّلاً مترسِّلاً " .
قلت : قولُه أولاً إنه متعلقٌ بقوله " لتقرأَه " ينافي قولَه في موضع الحال؛ لأنه متى كان حالاً تعلَّق بمحذوف . لا يُقال : أراد التعلق المعنوي لا الصناعي لأنه قال : ولا يُبالَى بكون الفعل يتعلق به حرفا جرّ من جنسِ [ واحد " ] ، وهذا تفسيرُ إعرابٍ لا تفسيرُ معنى .
والمُكْثُ : التطاولُ في المدة وفيه ثلاثةُ لغاتٍ : الضمُّ والفتحُ - ونقل القراءةَ بهما الحوفي وأبو البقاء - والكسرُ ، ولم يُقرأ به فيما علمتُ . وفي فعله الفتحُ والضم وسيأتيان إن شاء الله تعالى في النمل .
(1/3032)

قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107)
قوله تعالى : { لِلأَذْقَانِ } في هذه اللامِ ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنها بمعنى " على " ، أي : على الأذقان كقولِهم : خرَّ على وجهِه . والثاني : أنها للاختصاص ، قال الزمخشري : " فإن قُلْتَ : حرفُ الاستعلاءِ ظاهرُ المعنى إذا قلت : خَرَّ على وجهه وعلى ذَقَنه فما معنى اللام في " خِرَّ لذَقْنَه ولوجهه "؟ قال :
3117- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فخرَّ صريعاً لليدين وللفمِ
قلت : معناه : جَعَلَ ذقَنَه ووجهَه للخُرور ، واختصَّ به؛ لأنَّ اللامَ للاختصاص . وقال أبو البقاء : " والثاني هي متعلقةٌ ب " يَخِرُّون " واللامُ على بابها ، أي : مُذِلُّون للأذقان " .
والأَذْقان : جمعُ ذَقَنٍ وهو مُجْتَمَعُ اللَّحْيَيْن . قال الشاعر :
3118- فَخَرُّوا لأَذْقانِ الوجوه تنوشُهُمْ ... سِباعٌ من الطير العوادِي وتَنْتِفُ
و " سُجَّداً " حال . وجوَّز أبو البقاء في " للأَذقان " أن يكونَ حالاً . قال : " أي : ساجدين للأذقان " وكأنه يعني به " للأذقان " الثانية؛ لأنه يصير المعنى : ساجدين للأذقان سُجَّداً ، ولذلك قال : " والثالث : أنها - يعني اللامَ - بمعنى " على " ، فعلى هذا تكون حالاً مِنْ " يَبْكُون " و " يَبْكُون " حال " .
(1/3033)

وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
قوله تعالى : { وَيَزِيدُهُمْ } : فاعلُ " يزيد " : إمَّا القرآنُ ، أو البكاءُ أو السجودُ أو المتلوُّ ، لدلالةِ قوله : " إذ يتْلى " . وتكرَّر الخُرور لاختلافِ حالتِه بالبكاء والسجود ، وجاءتِ الحالُ الأولى اسماً لدلالتِه على الاستقرار ، والثانية فعلاً لدلالتِه على التجدُّدِ والحدوث .
(1/3034)

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)
قوله تعالى : { أَيّاً مَّا تَدْعُواْ } : " أيَّاً " منصوب ب " تَدْعُوا " على المفعول به ، والمضافُ إليه محذوفٌ ، أي : أيَّ الاسمين . و " تَدْعوا " مجزوم بها فهي عاملةٌ معمولةٌ ، وكذلك الفعلُ ، والجوابُ الجملةُ الاسمية مِنْ قوله { فَلَهُ الأسمآء الحسنى } . وقيل : هو محذوفٌ تقديرُه : جاز ، ثم استأنفَ فقال : فله الأسماءُ الحسنى " . وليس بشيءٍ .
والتنوين في " أَيَّاً " عوضٌ من المضافِ إليه . وفي " ما " قولان ، أحدهما : أنها مزيدةٌ للتاكيد . والثاني : أنها شرطيةٌ جُمِعَ بينهما تأكيداً كما جُمِع بين حَرْفَيْ الجرِّ للتاكيد ، وحَسَّنه اختلافُ اللفظ كقوله :
3119- فَأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلْنني عن بما به ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويؤَيِّد هذا ما قرأ به طلحة بن مصرف " أياً مَنْ تَدْعُوا " فقيل : " مَنْ " تحتمل الزيادة على رأيِ الكسائي كقوله في قوله :
310- يا شاةَ مَنْ قنَصَ لِمَنْ حَلَّتْ له ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
واحتُمِل أن تكونَ شرطيةً ، وجُمِع بينهما تأكيداً لِما تقدم . و " تَدْعُوا " هنا يحتمل أن يَكونَ من الدعاء وهو النداء فيتعدَّى لواحدٍ ، وأن يَكونَ بمعنى التسمية فيتعدَّى لاثنين ، إلى الأولِ بنفسه ، وإلى الثاني بحرفِ الجر ، ثم يُتَّسَعُ في الجارِّ فيُحذف كقوله :
3121- دَعَتْني أخاها أمُّ عمروٍ . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والتقدير : قل : ادعُوا معبودَكم بالله أو بالرحمن/ بأيِّ الاسمين سَمَّيتموه . وممَّن ذهب إلى كونها بمعنى " سَمَّى " الزمخشري .
ووقف الأخوان على " أيّا " بإبدال التنوين ألفاً ، ولم يقفا على " ما " تبييناً لانفصالِ ، " أيَّ " مِنْ " ما " . ووقف غيرُهما على " ما " لامتزاجها ب " أيّ " ، ولهذا فُصِل بها بين " أيّ " وبين ما أُضيفت إليه في قوله تعالى { أَيَّمَا الأجلين } [ القصص : 28 ] . وقيل : " ما " شرطيةٌ عند مَنْ وقف على " أياً " وجعل المعنى : أيَّ الاسمينِ دَعَوْتموه به جاز ثم استأنف { مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى } يعني أنَّ " ما " شرطٌ ثانٍ ، و " فله الأسماءُ " جوابُه ، وجوابُ الأول مقدِّرٌ . وهذا مردودٌ بأنَّ " ما " لا تُطْلق على آحاد أولي العلم ، وبأنَّ الشرطَ يقتضي عموماً ، ولا يَصِحُّ هنا ، وبأن فيه حَذْفَ الشرط والجزاء معاً .
(1/3035)

وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
قوله تعالى : { مَّنَ الذل } فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنها صفةٌ ل " وليّ " ، والتقدير : وليّ من أهلِ الذل ، والمرادُ بهم : اليهودُ والنصارى؛ لأنهم أذلُّ الناسِ . والثاني : أنها تبعيضية . الثالث : أنها للتعليل ، أي : مِنْ أجل الذُّلِّ . وإلى هذين المعنيين نحا الزمخشريُّ فإنه قال : " وليٌّ من الذل : ناصرٌ من الذل ، ومانعٌ له منه ، لاعتزازه به ، أو لم يُوالِ أحداً لأَجْلِ مَذَلَّةٍ به ليدفعَها بموالاتِه " .
وقد تقدَّم الفرقُ بين الذُّل والذِّل في أولِ هذه السورة .
والمخافَتَةُ : المُسَارَّةُُ بحيث لا يُسْمَعُ الكلامُ . وضَرَبْتُه حتى خَفَتَ ، أي : لم يُسْمَعْ له حِسٌّ .
(1/3036)

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)
قوله : { وَلَمْ يَجْعَل } : في هذه الجملةِ أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها معطوفةٌ على الصلةِ قبلَها . والثاني : أنها اعتراضيةٌ بين الحالِ وهي " قَيِّماً " وبين صاحبِها وهو " الكتابَ " والثالث : أنَّها حالٌ من " الكتابَ " ، ويترتَّبُ على الأوجهِ القولُ في " قَيِّماً " .
(1/3037)

قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)
قوله : { قَيِّماً } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّه حالٌ من " الكتاب " . والجملةُ مِنْ قولِه " ولم يَجْعَلْ " اعتراضٌ بينهما . وقد مَنَع الزمخشريُّ ذلك فقال : " فإنْ قُلْتَ : بم انتصَبَ " قَيِّماً "؟ قلت : الأحسنُ أن ينتصِبَ بمضمرٍ ، ولم يُجْعَلْ حالاً من " الكتابَ " لأنَّ قولَه " ولم يَجْعَلْ " معطوفٌ على " أَنْزَلَ " فهو داخلٌ في حَيِّزِ الصلةِ ، فجاعِلُه حالاً فاصِلٌ بين الحالِ وذي الحالِ ببعضِ الصلةِ " . وكذلك قال أبو البقاء . وجوابُ هذا ما تقدَّمَ مِنْ أَنَّ الجملةَ اعتراضٌ لا معطوفةٌ على الصلةِِ .
الثاني : أنَّه حالٌ مِنَ الهاءِ في " له " . قال أبو البقاء : " والحالُ موكِّدةٌ . وقيل : منتقلةٌ " . قلت : القولُ بالانتقالِ لا يَصِحُّ .
الثالث : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ ، تقديرُه : جَعَلَهُ قيِّماً . قال الزمخشريُّ : " تقديرُه : ولم يَجْعَلْ له عِوَجاً ، جعله قيماً ، لأنه إذا نفى عنه العِوَج فقد أثبتَ له الاستقامةَ " . قال : " فإنْ قلتَ : ما فائدة الجمعِ بين نَفْيِ العِوَجِ وإثباتِ الاستقامةِ وفي أحدِهما غِنَىً عن الآخر؟ . قلت : فائدتُه التأكيدُ فَرُبَّ مستقيمٍ مشهودٌ له بالاستقامةِ ، ولا يَخْلو مِنْ أدنى عِوَجٍ عند السَّبْرِ والتصفُّح " .
الرابع : أنَّه حالٌ ثانيةٌ ، والجملةُ المنفيَّةُ قبلَه حالٌ أيضاًً ، وتعدُّدُ الحالِ لذي حالٍ واحدٍ جائزٌ . والتقديرُ : أنزلَه غيرَ جاعلٍ له عِوجاً قيِّماً .
الخامس : أنه حالٌ أيضاً ، ولكنه بدلٌ من الجملةِ قبلَه لأنَّها حال ، وإبدالُ المفردِ من الجملةِ إذا كانت بتقدير مفردٍ جائزٌ . والتقديرُ : وهذا كنا أُبْدِلَتِ الجملةُ من المفردِ في قولهم : " عَرَفْتُ زيداً أبو مَنْ هو " .
والضميرُ في " له " فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه للكتاب ، وعليه التخاريجُ المتقدمةُ . والثاني : أنَّه يعود على " عبدِه " ، وليس بواضحٍ .
وقرأ العامَّةُ بتشديد الياء . وأبانُ بنُ تَغْلبَ بفتحِها خفيفةً . وقد تَقَدَّم القولُ فيها .
ووقف حفصٌ على تنوينِ " عِوَجاً " يُبْدله ألفاً ، [ ويسكت ] سكتةً لطيفةً من غير قَطْع نَفَسٍ ، إشْعاراً بأنَّ " قَيِّماً " ليس متصلاً ب " عِوَجاً " ، وإنما هو مِنْ صفةِ الكتاب . وغيرُه لم يَعْبَأْ بهذا الوهمِ فلم يسكتْ اتِّكالاً على فَهْمِ المعنى .
قلت : قد يتأيَّد ما فعله حفصٌ بما في بعضِ مصاحفِ الصحابةِ : " ولم يَجْعَلْ له عِوَجاً ، لكنْ جَعَلَه قيَّماً " . وبعض القراء يُطْلِقُ فيقول : يَقِف على " عِوَجا " ، ولم يقولوا : يُبدل التنوين ألفاً ، فيُحْتمل ذلك ، وهو أقربُ لغرضِه فيما ذكرْتُ .
ورَأيْتُ الشيْخَ شهابَ الدين أبا شامة قد نقل هذا عن ابنِ غلبون وأبي علي الأهوازيِّ ، أعني الإِطلاقَ . ثم قال : " وفي ذلك نَظَرٌ - أي على إبدالِ التنوين ألفاً - فإنه لو وَقَفَ على التنوين لكان أَدَلَّ على غرضِه ، وهو أنه واقفٌ بنيَّةِ الوصلِ " .
(1/3038)

انتهى .
وقال الأهوازيُّ : " ليس هو وَقْفاً مختاراً ، لأنَّ في الكلامِ تقديماً وتأخيراً ، معناه : أَنْزَلَ على عبدِه الكتاب قيِّماً ولم يَجْعَلْ له عِوَجاً " . قلت : دَعْوى التقديمِ والتأخيرِ وإنْ كان قاله به غيرُه ، إلا أنها مَرْدودةٌ بأنَّها على خلافِ الأصل ، وقد تقدَّم تحقيقُه .
وفَعَلَ حفص في مواضعَ من القرآن مثلَ فِعْلِهِ هنا مِنْ سكتةٍ لطيفةٍ نافيةٍ لوَهْمٍ مُخِلٍّ . فمنها : أَنَّه كان يقفُ على " مَرْقَدِنا " ، ويَبْتدئ : { هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن } [ يس : 52 ] . قال : " لئلا يُتَوَهَّمَ أنَّ " هذا " صفةٌ ل " مَرْقَدِنا " فالوقفُ يبيَِّن أنَّ كلامَ الكفارِ انقَضى ، ثم ابتُدِئ بكلامِ/ غيرِهم . قيل : هم الملائكةُ . وقيل : هم المؤمنون . وسيأتي في يس ما يَقْتضي أنْ يكونَ " هذا " صفةً ل " مَرْقَدِنا " فيفوتُ ذلك .
ومنها : { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } [ القيامة : 27 ] . كان يقف على نونِ " مَنْ " ويَبْتَدِئ " راقٍ " قال : لئلا يُتَوَهَّمَ أنَّها كلمةٌ واحدةٌ على فَعَّال اسمَ فاعلٍ للمبالغة مِنْ مَرَق يَمْرُق فهو مَرَّاق .
ومنها : { بَلْ رَانَ } [ المطففين : 14 ] كان يقفُ على لام بل ، ويَبْتدئ " رانَ " لِما تقدَّم .
قال المهدويُّ : " وكان يَلْزَمُ حفصاً مثلُ ذلك ، فيما شاكَلَ هذه المواضِعَ ، وهو لا يَفعلُه ، فلم يكن لقراءتِه وَجْهٌ من الاحتجاجِ إلا اتباعُ الأثَرِ في الرواية " . قال أبو شامة : " أَوْلَى من هذه المواضعِ بمراعاةِ الوقفِ عليها : " ولا يَحْزُنْكَ قولُهم . { إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } [ يونس : 65 ] ، الوقفُ على " قَوْلُهم " لئلا يُتَوَهَّم أنَّ ما بعده هو المقولُ " ، وكذا { أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار * الذين يَحْمِلُونَ العرش } [ غافر : 67 ] ينبغي أن يُعْتَنَى بالوقفِ على " النار " لئلا تُتَوَهَّم الصفةُ " .
قلت : وَتَوَهُّمُ هذه الأشياءِ مِنْ أبعدِ البعيدِ . وقال أبو شامةَ أيضاً : " ولو لَزِم الوقفُ على اللامِ والنونِ ليَظْهرا لَلَزِمَ ذلك في كلِّ مُدْغَمٍ " . قلت : يعني في " بَلْ رَان " وفي " مَنْ راقٍ " .
قوله : " لِيُنْذِرَ " في هذه اللامِ وجهان ، أحدُهما : أنَّها متعلقةٌ ب " قَيِّماً " قاله الحوفيُّ . والثاني : -وهو الظاهرُ- أنها تتعلَّق ب " أَنْزَلَ " . وفاعلُ " لِيُنْذِرَ " يجوز أن يكونَ " الكتابَ " وأن يكونَ الله ، وأن يكون الرسول .
و " أَنْذَرَ " يتعدَّى لاثنين : { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً } [ النبأ : 40 ] { فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً } [ فصلت : 13 ] . ومفعولُه الأولُ محذوفٌ ، فقدَّره الزمخشريُّ : " ليُنْذِرَ الذين كفروا ، وغيره : " ليُنْذِرَ العبادَ " ، أو " لِيُنْذِرَكم " ، أو لِيُنْذِرَ العالَم . وتقديرُه أحسنُ لأنه مقابلٌ لقولِه { وَيُبَشِّرَ المؤمنين } ، وهو ضِدَّهم .
وكما حَذَفَ المُنْذِرُ وأَتَى بالمُنْذَرِ به هنا ، حَذَفَ المُنْذَرَ به وأتى بالمُنْذَر في قوله
(1/3039)

{ وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ } [ الكهف : 4 ] فَحَذَفَ الأولَ مِنَ الأولِ لدَلالةِ ما في الثاني عليه ، وحذَفَ الثاني مِنَ الثاني لدلالةِ ما في الأوَّلِ عليه ، وهو في غايةِ البلاغةِ ، ولمَّا تتكررِ البِشارةُ ذَكَرَ مفعوليها فقال : { وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً } .
قوله : { مِّن لَّدُنْهُ } قرأ أبو بكر عن عاصم بسكون الدالِ مُشَمَّةً الضمَّ وكسرِ النونِ والهاءِ موصلةً بياءٍ ، فيقرأ " مِنْ لَدْنِهِيْ " والباقون يَضُمون الدالَ ، ويسكِّنون [ النونَ ] ويَضُمُّون الهاءَ ، وهم على قواعِدهم فيها : فابنُ كثيرٍ يَصِلها بواوٍ نحو : مِنْهو وعَنْهو ، وغيرُه لا يَصِلُها بشيء .
ووَجهُ أبي بكرٍ : أنه سَكَّن الدالَ تخفيفاً كتسكين عين " عَضُد " والنونُ ساكنةٌ ، فالتقى ساكنانِ فكسَرَ النونَ لالتقاءِ الساكنين ، وكان حقُّه أن يكسِرَ الأولَ على القاعدةِ المعروفةِ إلا أنَّه يَلْزَمُ منه العَوْدُ إلى ما فَرَّ منه ، وسيأتي لتحقيق هذا بيانٌ في قولِه { وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ } [ الآية : 52 ] في سورة النور ، فهناك نتكلَّم فيه ، ولمَّا كَسَر النونَ لِما ذكرْتُه لك كَسَرَ الهاءَ إتْباعاً على قاعدته ووَصَلَها بياء . وأَشَمَّ الدالَ إشارةً إلى أصلِها في الحركة .
والإِشمامُ هنا عبارةٌ عن ضَمِّ الشفتين مِنْ غير نطق ، ولهذا يختصُّ به البصيرُ دونَ الأَعمى ، هكذا قرَّره القراءُ وفيه نَظَرٌ ، لأنَّ الإِشمامَ المشارَ إليه إنما يتحقَِّقُ عند الوقفِ على آخرِ الكلمةِ فلا يليق إلا بأنْ يكونَ إشارةً إلى حركةِ الحرفِ الأخيرِ المرفوعِ إذا وُقف عليه نحو : " جاء الرجل " ، وهكذا ذكره النحويون . وأمَّا كونُه يُؤْتى به في وَسَط الكلمةِ فلا يُتَصَوَّرُ إلا أَنْ يقفَ المتكلمُ على ذلك الساكنِ ثم يَنْطِقَ بباقي الكلمة . وإذا جَرَّبْتَ نُطْقَك في هذا الحرفِ الكريم وَجَدْتَ الأمرَ كذلك ، لا تَنْطِقُ بالدالِ ساكنةً مشيراً إلى ضمِّها إلا حتى تقفَ عليها ، ثم تأتي بباقي الكلمةِ .
فإن قلتَ : إنما اتي بالإِشارةِ إلى الضمةِ بعد فراغي من الكلمة بأَسْرِها . قيل لك : فاتَتِ الدلالةُ على تعيينِ ذلك الحرفِ المشارِ إلى حركتِه . ويمكن أَنْ يُجابَ عن هذا بأنه ليس في الكلمة ما يَصْلُح اَنْ يُشارَ إلى حركتِه إلا الدالُ . وقد تقدَّم في " يوسف " أن الإِشمامَ في { لاَ تَأْمَنَّا } [ الآية : 11 ] إذا فسَّرْناه بالإِشارةِ إلى الضمة : منهم مَنْ يفعلُه قبل كمالِ الإِدغام ، ومنهم مَنْ يفعلُه بعده ، وهذا نظيرُه . وتقدَّم أنَّ الإِشمامَ يقع بإزاء معانٍ أربعةٍ تقدَّم تحقيقُها .
و { مِّن لَّدُنْهُ } متعلق ب " لِيُنْذِرَ " / . ويجوز تعلُّقُه بمحذوفٍ نعتاً ل " بَأْساً " ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في " شديداً " .
وقُرِئ " ويُبَشِّرُ " بالرفعِ على الاستئنافِ .
(1/3040)

مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3)
قوله : { مَّاكِثِينَ } : حالٌ : إمَّا من الضميرِ المجرورِ في " لهم " ، أو المرفوعِ المستترِ فيه ، أو مِنْ " أجراً " لتخصُّصِه بالصفةِ ، إلا أنَّ هذا لا يجيءُ إلا على رَأيِ الكوفيين : فإنهم لا يشترطون بروزَ الضميرِ في الصفةِ الجاريةِ على غير مَنْ هي له إذا أُمِنَ اللَّبْسُ ، ولو كان حالاً منه عند البصريين لقال : ماكثين هم فيه . ويجوز على رَأْيِ الكوفيين أن يكونَ صفةً ثانيةً ل " أَجْراً " . قال أبو البقاء : " وقيل : هو صفةٌ ل " أَجْراً " ، والعائدُ : الهاءُ مِنْ " فيه " . ولم يَتَعَرَّضْ لبروزِ الضميرِ ولا لعدمِه بالنسبة إلى المذهبين .
و " أبداً " منصوبٌ على الظرفِ ب " ماكثين " .
(1/3041)

مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
قوله : { مَّا لَهُمْ بِهِ } : أي : بالولدِ ، أو باتخاذه ، أو بالقولِ المدلولِ عليه ب " اتَّخذ " وب " قالوا " ، أو بالله .
وهذه الجملةُ المنفيةُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنها مستأنفةٌ سِيقَتْ للإِخبارِ بذلك . والثاني : أنها صفةٌ للولدِ ، قال المهدويُّ . وردَّه ابنُ عطيةَ : بأنه لا يَصِفُه بذلك إلا القائلون ، وهم لم يَقْصِدوا وَصْفَه بذلك . الثالث : أنها حالٌ مِنْ فاعلِ " قالوا " ، أي : قالوه جاهلين .
و { مِنْ عِلْمٍ } يجوز أَنْ يكونَ فاعلاً ، وأن يكون مبتدأ . والجارُّ هو الرافع ، أو الخبر . و " مِنْ " مزيدةٌ على كِلا القولين .
قوله : { كَبُرَتْ كَلِمَةً } في فاعلِ " كَبُرَتْ " وجهان ، أحدُهما : أنه مضمرٌ عائدٌ على مقالتِهم المفهومة مِنْ قولِه : " قالوا : اتَّخذ الله " ، أي : كَبُرَ مقالُهم ، و " كلمةً " نصبٌ على التمييز ، ومعنى الكلامِ على التعجب ، أي : ما أكبرَها كلمةً . و " تَخْرُجُ " الجملةُ صفةٌ ل " كلمة " . ودَلَّ استعظامُها لأنَّ بعضَ ما يَهْجِسُ بالخاطرِ لا يَجْسُر الإِنسانُ على إظهاره باللفظ .
والثاني : أن الفاعلَ مضمرٌ مفسِّرٌ بالنكرةِ بعد المنصوبةِ على التمييزِ ، ومعناها الذمُّ ك " بِئس رجلاً " ، فعلى هذا : المخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ تقديرُه : كَبُرَتْ هي الكلمةُ كلمةً خارجةً مِنْ أفواهِهم تلك المقالةُ الشَّنعاءُ .
وقرأ العامَّةُ " كلمةً " بالنصبِ ، وفيها وجهان : النصبُ على التمييز ، وقد تقدَّم تحقيقُه في الوجهين السابقين . والثاني : النصبُ على الحالِ . وليس بظاهر .
وقوله : " تَخْرُجُ " في الجملة وجهان ، أحدُهما : هي صفةٌ لكلمة . والثاني : أنها صفةٌ للمخصوصِ بالذمِّ المقدَّرِ تقديرُه : كَبُرَت كلمةٌ خارجةٌ كلمةً .
وقرأ الحسنُ وابنُ محيصن وابنُ يعمرَ وابن كثير - في رواية القَوَّاس عنه - كلمةٌ " بالرفع على الفاعلية ، " وتَخْرُج " صفةٌ لها أيضاً . وقُرِئَ " كَبْرَتْ " بسكون الباء وهي لغةُ تميم .
قوله : " كَذِباً " فيه وجهان ، أحدُهما : هو مفعول به لأنه يتضمَّنُ معنى جملة . والثاني : هو نعتٌ مصدرٍ محذوفٍ ، أي : قولاً كذباً .
(1/3042)

فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6)
قوله : { إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ } : العامَّةُ على كسرِ " إنْ " على أنها شرطيةٌ ، والجوابُ محذوفٌ عند الجمهور لدلالةِ قولِه : " فَلَعَلَّكَ " ، وعند غيرِهم هو جوابٌ متقدمٌ . وقُرِئ : " أَنْ لم " بالفتح على حَذْفِ الجارِّ ، أي : لأَِنْ لم يؤمنوا " .
وقُرئ " باخِعُ نَفْسِكَ " بالإِضافة ، والأصل النصبُ . وقال الزمخشري : " وقُرئ " باخع نفسك " على الأصل ، وعلى الإِضافة . أي : قاتلها ومهلكها ، وهو للاستقبال فيمَنْ قرأ " إنْ لم يُؤمنوا " ، وللمضيِّ فيمن قرأ " أن لم تُؤْمنوا " بمعنى : لأَِنْ لم يؤمنوا " . قلت : يعني أنَّ باخِعاً للاستقبالِ في قراءةِ كسرِ " إنْ " فإنها شرطيةٌ ، وللمضيِّ في قراءةِ فتحها ، وذلك لا يجئُ إلا في قراءةِ الإِضافةِ إذ لا يُتَصَوَّر المُضِيُّ مع النصبِ عند البصريين . وعلى هذا يَلْزم أن لا يَقرأ بالفتح إلا مَنْ قرأ بإضافةِ " باخع " ، ويُحتاج في ذلك إلى نَقْلٍ وتوقيف .
ولعلَّك " قيل : للإِشفاق على بابها . وقيل : للاستفهام ، وهو رأي الكوفيين . وقيل : للنهي أي : لا تَبْخَعْ .
والبَخْعُ : الإِهلاك . يقال : بَخَع الرجُل نفسَه يَبْخَعُها بَخْعاً وبُخُوعاً ، أهلكها وَجْداً . قال ذو الرمة :
3122- ألا أيُّهذا الباخعُ الوجدُ نفسَه ... لِشَيْءٍ نَحَتْه عن يديه المَقادِرُ
يريد : نَحَّته بالتشديد ، فخفَّف . / قال الأصمعي : " كان يُنْشِده : " الوجدَ " بالنصب على المفعولِ له ، وأبو عبيدةَ رواه بالرفع على الفاعلية ب " الباخع " .
وقيل : البَخْعُ : أن تُضْعِفَ الأرضَ بالزراعة . قاله الكسائي : وقيل : هو جَهْدُ الأرضِ ، وفي حديثِ عائشةَ رضي الله عنها ، عن عمر : " بَخَعَ جَهْدُ الأرضِ " تعني جَهَدَها حتى أَخَذَ ما فيها من أموالِ ملوكِها ، وهذا استعارةٌ ، ولم يُفَسِّرْه الزمخشري : هنا بغير القَتْلِ والإِهلاك . وقال في سورة الشعراء : " والبَخْعُ " . أن يَبْلُغَ بالذَّبْحِ البِخاه بالباء ، وهو عِرْقٌ مستبطنُ الفقار ، وذلك أقصى حَدَّ الذابحِ " . انتهى . وسمعت شيخنا علاء الدين القُوْنِيِّ يقول : " تتَّبْعتُ كتبَ الطِّبِّ والتشريحِ فلم أجدْ لها أصلاً " . قلت : يُحتمل أنهم لمَّا ذكروه سَمَّوْه باسمٍ آخرَ لكونِه أشهرَ فيما بينهم .
وقال الراغب : " البَخْعُ : قَتْلُ النفسِ غَمَّاً " . ثم قال : " وبَخَعَ فلانٌ بالطاعةِ ، وبما عليه من الحقِّ : إذا أَقَرَّ به وأَذْعَنَ مع كراهةٍ شديدةٍ ، تجري مَجْرَى بَخْعِ نفسِه في شِدَّتِه " .
وقوله : " على آثارِهم " متعلقٌ ب " باخعٌ " ، أي : مِنْ بعد هلاكِهم .
قوله : أَسَفَاً " يجوز أن يكونَ مفعولاً من أجله والعامل فيه " باخعٌ " ، وأن يكونَ مصدراً في موضعِ الحال من الضميرِ في " باخعٌ " .
(1/3043)

إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)
قوله تعالى : { زِينَةً } : يجوز أَنْ ينتصِبَ على المفعولِ له ، وأن يتنصِبَ على الحالِ إنْ جَعَلْتَ " جَعَلْنا " بمعنى خَلَقْنا ، ويجوز ان يكونَ مفعولاً ثانياً إنْ كانَتْ " جَعَلَ " تصييريةً و " لها " متعلقٌ ب " زِيْنةً " على العلةِ ، ويجوز أَنْ تكونَ اللامُ زائدةً في المفعول ، ويجوز أنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً ل " زينة " .
قوله : " لِنَبْلُوَهُمْ " متعلقٌ ب " جَعَلْنا " بمعنييه .
قوله : " أيُّهم أحسنُ " يجوز في " أيُّهم " وجهان ، أحدهما : أن تكونَ استفهاميةً مرفوعةً بالابتداء ، و " أحسنُ " خبرُها . والجملةُ في محلِّ نصبٍ معلَّقَةٌ ل " نَبْلُوَهم " لأنه سببُ العلم كالسؤال والنظر . والثاني : أنها موصولةٌ بمعنى الذي " وأحسنُ " خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، والجملةُ صلةٌ ل " أيُّهم " ، ويكون هذا الموصولُ في محلِّ نصبٍ بدلاً مِنْ مفعول " لنبلوَهم " تقديرُه : لِنَبْلُوَ الذي هو أحسنُ . وحينئذٍ تحتمِل الضمةُ في " أيُّهم " ، ان تكونَ للبناء كهي في قولِه تعالى : { لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ } [ مريم : 69 ] على أحدِ الأقوالِ ، وفي قوله :
3123- إذا ما أَتَيْتَ بني مالكٍ ... فَسَلِّمْ على أَيُّهم أَفْضَلُ
وشرطُ البناءِ موجودٌ ، وهو الإِضافةُ لفظاً ، وحَذْفُ صدرِ الصلةِ ، وهذا مذهبُ سيبويه ، وأن تكونَ للإِعراب لأنَّ البناءَ جائزٌ لا واجبٌ . ومن الإِعراب ما قُرِئ به شاذاً { أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن } [ مريم : 69 ] وسيأتي إنْ شاء الله تحقيقُ هذا في مريم .
والضمير في " لِنَبْلُوَهم " و " أيُّهم " عائدٌ على ما يُفْهَمُ من السِّياق ، وهم سكانُ الأرض . وقيل : يعودُ على ما على الأرضِ إذا أُريد بها العقلاء . وفي التفسير : المرادُ بذلك الرُّعاة : وقيل : العلماءُ والصُّلحاءُ والخُلفاء .
(1/3044)

وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
قوله تعالى : { صَعِيداً } : مفعولٌ ثانٍ ، لأنَّ الجَعْلَ هنا تصييرٌ ليس إلا ، والصَّعِيْدُ . الترابُ : والجُرُزُ : الذي لا نباتَ به . يقال : سَنَةٌ جُزُر ، وسِنونَ أَجْرازٌ : لا مطَر فيها . وأرض جُزُرٌ وأَرَضُونَ أَجْرازٌ : لا نبات بها . وجَرَزَتِ الأرضُ : إذا ذَهَبَ نباتُها بقَحْطٍ أو جرادٍ وَجَرَز الأرضَ الجرادُ : أكلَ ما فيها . والجَرُوْزُ : المَرْأةُ الأكولةُ : قال :
3124- إنَّ العَجوزَ خَبَّةً جَرُوزا ... تأكلُ كلَّ ليلةٍ قَفيزا
(1/3045)

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9)
قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتَ } : " أم " هذه منقطعةٌ فَتُقَدَّرُ ب " بل " التي للانتقال لا للإِبطال ، وبهمزة الاستفهام عند جمهورِ النحاة ، و " بل " وحدَها ، أو بالهمزةِ وحدَها عند غيرِهم . وتقدَّم تحقيقٌ القولِ فيها .
و " انَّ " وما في حَيِّزها سادَّةٌ [ مَسَدَّ ] المفعولَيْنِ أو أحدِهما على الخلافِ المشهور .
والكَهْفُ : قيل : مُطْلق الغار . وقيل : هو ما اتَّسع في الجبل ، فإن لم يَتَّسِعْ فهو غارٌ . والجمعٌ " كُهوفٍ " في الكثرة ، و " أَكْهَف " في القِلَّةِ .
والرَّقيم : قيل : بمعنى مَرْقُوم . وقيل : بمعنى راقم . وقيل : هو اسمٌ للكلبِ الذي لأصحاب الكهفِ . وأنشدوا لأميةَ بنِ أبي الصلت :
3125- وليسَ بها إلا الرَّقيمُ مُجاوِراً ... وصِيدَهُمُ ، والقومُ بالكهفِ هُمَّدُ
/قوله : " عَجَبا " يجوز أن تكونَ خبراً ، و { مِنْ آيَاتِنَا } حالٌ منه ، وأَنْ يكونَ خبراً ثانياً ، و { مِنْ آيَاتِنَا } خبراً أول ، وأن يكونَ " عجباً " حالاً من الضميرِ المستتر في { مِنْ آيَاتِنَا } لوقوعه خبراً . ووُحِّدَ وإن كان صفةً في المعنى لجماعة لأنَّ أصلَه المصدرُ . وقيل : " عَجَباً " في الأصلِ صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه : آيةً عجبا . وقيل : على حذفِ مضاف ، أي : آيةً ذاتَ عَجَبٍ .
(1/3046)

إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10)
قوله تعالى : { إِذْ أَوَى } : يجوز أن ينتصِبَ ب " عَجَباً " وأَنْ ينتصِبَ ب " اذْكُر " .
قوله : " وهَيِّئْ " العامَّةُ على همزةِ بعد الياء المشددة ، وأبو جعفر وشيبة والزهري بياءين : الثانيةُ خفيفةٌ ، وكأنه أبدل الهمزةَ ياءً ، وإن كان سكونُها عارضاً . ورُوي عن عاصم " وَهَيَّ " بياءٍ مشددةٍ فقط . فيحتمل أَنْ يكونَ حَذَفَ الهمزةَ مِنْ أولِ وَهْلَةٍ تخفيفاً ، وأن يكونَ أبدلها كما فعل أبو جعفر ، ثم أجرى الياءَ مُجْرى حرفِ العلةِ الأصلي فحذفه ، وإن كان الكثيرُ خلافَه ، ومنه :
3126- جَرِيْءٍ متى يُظْلَمْ يعاقِبْ بظُلْمِه ... سريعاً وإلاَّ يُبْدَ بالظلمِ يَظْلمِ
وقرأ أبو رجاء " رُشْدا " بضمِ الراء وسكونِ الشين ، وتقدم تحقيقُ ذلك في الأعراف . وقراءةُ العامَّةِ هنا أليقُ لتوافِقَ الفواصلَ .
(1/3047)

فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11)
قوله : { فَضَرَبْنَا } : مفعولُه محذوفٌ ، أي : ضَرَبْنا الحجابَ المانعَ . و { على آذَانِهِمْ } استعارةٌ للزومِ النوم . كقول الأسود :
3127- ومن الحوادِث لا أبالَكِ أنني ... ضُرِبَتْ عَلَيَّ الأرضُ بالأَسْدادِ
وقال الفرزدق :
3128- ضَرَبَتْ عليكَ العَنْكَبوتَ بنَسْجِها ... وقَضَى عليك به الكتاب المُنَزَّلُ
ونصَّ على الآذان لأنَّ بالضرب عليها خصوصاً يَحْصُلُ النومُ .
وأمال " آذانهم " . . . .
و " سنينَ " ظرفٌ ل " ضَرَبْنا " . و " عَدَداً " يجوزُ فيه أن يكونَ مصدراً ، وأن يكون فَعَلاً بمعنى مَفْعول كالقَبْض والنَّقَص . فعلى الأولِ يجوز نصبُه مِنْ وجهين : النعتِ ل " سنين " على حَذْفٍ ، أي : ذوات عدد ، أو على المبالغةِ ، والنصبُ بفعلٍ مقدرٍ ، أي : تُعَدُّ عدداً . وعلى الثاني : نعت ليس إلا ، اي : معدودة .
(1/3048)

ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
قوله تعالى : { لِنَعْلَمَ } : متعلقٌ بالبعث . والعامَّةُ على نون العظمة جرياً على ما تقدم . وقرأ الزُّهْري " لِيَعْلم " بياء الغَيْبَةِ ، والفاعلُ اللهُ تعالى . وفيه التفاتٌ من التكلم إلى الغَيْبَة . ويجوزُ أن يكونَ الفاعلُ { أَيُّ الحِزْبَيْنِ } إذا جَعَلْناها موصولةً كما سيأتي .
وقرئ " ليُعْلَمَ " مبنياً للمفعول ، والقائمُ مَقامُ الفاعلِ : قال الزمخشري : " مضمونُ الجملة ، كما أنه مفعولُ العلمِ " . ورَدَّه الشيخ بأنه ليس مذهبَ البصريين . وتقدَّم تحقيقُ هذه أولَ البقرة .
وللكوفيين في قيامِ الجملة مَقامَ الفاعلِ أو المفعولِ الذي لم يُسَمَّ فاعلُه : الجوازُ مطلقاً ، والتفصيلُ بين ما يُعلَّق كهذه الآيةِ فيجوزُ ، فالزمخشري نحا نحوَهم على قَوْلَيْهم . وإذا جَعَلْنا { أَيُّ الحِزْبَيْنِ } موصولةً جاز أَنْ يكونَ الفعلُ مسنداً إليه في هذه القراءةِ أيضاً كما جاز إسناده إليه في القراءةِ قبلها .
وقُرِئ " ليُعْلِمَ " بضمِّ الياء ، والفاعلُ الله تعالى ، والمفعولُ الأولُ محذوفٌ ، تقديرُه : ليُعْلِمَ اللهُ الناسَ . و { أَيُّ الحِزْبَيْنِ } في موضعِ الثاني فقط ، إنْ كانت عِرْفانيةً ، وفي موضعِ المفعولين إن كانَتْ يقينية .
قوله : " أَحْصَى " يجوز فيه وجهان ، أحدهما : أنه أفعلُ تفضيلٍ . وهو خبرٌ ل " أيُّهم " ، و " أيُّهم " ، استفهاميةٌ . وهذه الجملةُ معلَّقَةٌ للعلمِ قبلَها . و " لِما لَبِثُوا " حال مِنْ " أَمَداً " ، لأنه لو تأخَّر عنه لكان نعتاً له . ويجوز أَنْ تكونَ اللامُ على بابِها من العلَّة ، أي : لأجل أبو البقاء . ويجوز أن تكونَ زائدةً ، و " ما " مفعولةٌ : إمَّا ب " أَحْصى " على رأيِ مَنْ يُعْمِلُ أفعلَ التفضيل في المفعولِ به ، وإمَّا بإضمارِ فعلٍ . و " أمداً " مفعولُ " لَبِثُوا " أو منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ يَدُلُ عليه أَفْعَلُ عند الجمهور ، أو منصوبٌ بنفسِ أفْعَلَ عند مَنْ يَرى ذلك .
والوجه الثاني : أن يكون " أَحْصَى " فعلاً ماضياً . و " أمَداً " مفعولُه ، و " لِمَا لَبثوا " متعلقٌ به ، أو حالٌ مِنْ " أَمَداً " أو اللامُ فيه مزيدةٌ ، وعلى هذا : فَأَمَداً منصوبٌ ب لَبِثوا . و " ما " مصدريةٌ أو بمعنى الذي . واختار الأولَ -أعني كونَ " أَحْصى " للتفضيل -/ الزجاجُ والتبريزي ، واختار الثاني أبو علي والزمخشري وابن عطية . قال الزمخشري : " فإن قلتَ : فما تقول فيمَنْ جعله مِنْ أفعلِ التفضيلِ؟ قلت : ليس بالوجهِ السديدِ ، وذلك أنَّ بناءَه مِنْ غيرِ الثلاثي ليس بقياسٍ ، ونحو " أَعْدَى من الجَرَب " و " أفلس من ابن المُذَلَّق " شاذٌّ ، والقياسُ على الشاذِّ في غيرِ القرآن ممتنعٌ فكيف به؟ ولأنَّ " أَمَداً " : إمَّا أَنْ ينتصِبَ بأفعلَ وأفعلُ لا يعملُ ، وإمَّا أَنْ ينتصِبَ ب " لبثوا " فلا يَسُدُّ عليه المعنى : فإنْ زعمتَ أني أنصِبُه بفعلٍ مضمرٍ كما أَضْمَرَ في قوله :
(1/3049)

3129 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وأَضْرَبَ منا بالسيوفِ القَوانِسا
فقد أبعدْتَ المتناوَلَ ، حيث أَبَيْتَ أَنْ يكونَ [ " أحصى " ] فعلاً ثم رجعتَ مضطراً إليه " .
وناقشه الشيخ قال : " أمَّا دعواه أنه شاذٌّ فمذهبُ سيبويهِ خِلافُه ، وذلك أنَّ أفعلَ فيه ثلاثةُ مذاهبَ : الجوازُ مطلقاً ، ويُعْزى لسيبويه ، والمنعُ مطلقاً ، وهو مذهب الفارسي ، والتفصيلُ : بين أن تكونَ همزتُه للتعديةِ فيمتنعَ ، وبين أَنْ لا تكونَ فيجوزَ ، وهذا ليسَتِ الهمزةُ فيه للتعدية . وأمَّا قولُه : " أَفْعَلُ لا يعمل " فليس بصحيح لأنه يعملُ في التمييز ، و " أَمَداً " تمييزُ لا مفعولٌ به ، كما تقول : زيدٌ أقطعُ الناسِ سيفاً ، وزيد أقطعُ لِلْهامِ سيفاً " .
قلت : الذي أحوجَ الزمخشريَّ إلى عَدَمِ جَعْلِه تمييزاً مع ظهوره في بادئ الرأي عدمُ صحةِ معناه . وذلك أنَّ التمييزَ شرطُه في هذا الباب أن تَصِحَّ نسبةُ ذلك الوصفِ الذي قبله إليه ويتصفَ به ، ألا ترى إلى مثاله في قوله : " زيد أقطعُ الناس سيفاً " كيف يَصِحُّ أن يُسْنَدَ إليه فيقال : زيد قَطَعَ سيفُه ، وسيفه قاطع ، إلى غيرِ ذلك . وهنا ليس الإِحصاءُ من صفةِ الأمَد ، ولا تَصِحُّ نسبتُه إليه ، وإنما هو صفات الحزبين ، وهو دقيق .
وكان الشيخُ نقل عن أبي البقاء نصبَه على التمييز ، وأبو البقاء لم يذكر نصبَه على التمييز حالَ جَعْلِه " أَحْصَى " أفعلَ تفصيلٍ ، وإنما ذكر ذلك حين ذكر أنه فعلٌ ماضٍ . قال أبو البقاء : " في أحصى وجهان ، أحدُهما : هو فعلٌ ماضٍ ، " وأَمَداً " مفعوله ، و " لِما لَبِثوا " نعتٌ له ، قُدِّم فصار حالاً أو مفعولاً له ، أي : لأجل لُبْثهم . وقيل : اللامُ زائدةٌ و " ما " بمعنى الذي ، و " أَمَداً " مفعولُ " لبثوا " وهو خطأٌ ، وإنما الوجهُ أن يكونَ تمييزاً والتقدير : لما لبثوه . والوجه الثاني : هو اسمٌ و " أَمَداً " منصوبٌ بفعلٍ دَلَّ عليه الاسمُ " انتهى . فهذا تصريحٌ بأنَّ " أَمَداً " حالَ جَعْلِه " أحصى " اسماً ليس تمييزاً بل مفعولاً به بفعلٍ مقدرٍ ، وأنه جعله تمييزاً عن " لبثوا " كما رأيت .
ثم قال الشيخ : " وأمَّا قولُه " وأمَّا قولُه " وإمَّا أَنْ يُنْصَب ب " لبثوا " فلا يَسُدُّ عليه المعنى ، أي : لا يكون معناه سديداً ، فقد ذهب الطبري إلى أنه منصوبٌ ب " لَبِثوا " . قال ابن عطية : " وهو غيرُ متجهٍ " انتهى . وقد يتجه : وذلك أنَّ الأمدَ هو الغاية ، ويكون عبارةً عن المدةِ من حيث إنَّ المدَّةَ غايةٌ هي أَمَدُ المدة على الحقيقة ، و " ما " بمعنى الذي ، و " أمَداً " منصوبٌ على إسقاط الحرفِ ، وتقديره : لِما لبثوا مِنْ أمدٍ ، مِنْ مدةٍ ، ويصيرُ " مِنْ أمدٍ " تفسيراً لما أُبْهِمَ من لفظ " ما " كقوله :
(1/3050)

{ مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } [ البقرة : 106 ] { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ } [ فاطر : 2 ] ولمَّا سقط الحرفُ وصل إليه الفعل " .
قلت : يكفيه أنَّ مِثْلَ ابنِ عطية جعله غيرَ متجهٍ ، وعلى تقديرِ ذلك فلا نُسَلِّم أنَّ الطبريَّ عنى نصبَه بلبثوا مفعولاً به بل يجوز أَنْ يكونَ على نصبَه تمييزاً كما قاله أبو البقاء .
ثم قال : " وأمَّا قولُه : " فإن زعمت إلى آخره فتقول : لا يُحتاج إلى ذلك ، لأنَّ لقائلِ ذلك أَنْ يذهب مذهبَ الكوفيين في أنه ينصِبُ " القوانسَ " بنفس " أَضْرَبُ " ولذلك جعل بعضُ النحاة أنَّ " أعلم " ناصبٌ ل " مَنْ " في قوله : " أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ " ، وذلك لأنَّ أَفْعَلَ مضمَّنٌ لمعنى المصدر إذ التقدير : يزيد ضربُنا القوانسَ على ضَرْبِ غيرنا " .
قلت : هذا مذهبٌ مرجوحٌ ، وأفعلُ التفصيلِ ضعيفٌ ولذلك قَصُرَ عن الصفةِ المشبهةِ باسمِ الفاعلِ ، حيث لم يؤنَّثْ ولم يُثنَّ ولم يُجْمع .
وإذا جعلنا " أَحْصَى " اسماً فجوَّز الشيخ في " أيّ " أن تكونَ الموصولةَ ، و " أَحْصَى " خبرٌ لمبتدأ محذوف هو عائدُها ، وأنَّ الضمةَ للبناء على مذهبِ سيبويهِ لوجودِ / شرطِ البناءِ وهو أضافتُها لفظاً ، وحَذْفُ صدرِ صلتِها ، وهذا إنما يكون على جَعْلِ العِلْم بمعنى العرفان ، لأنه ليس في الكلام إلا مفعولٌ واحدٌ ، وتقديرُ آخرُ لا حاجةَ إليه . إلا أنَّ في إسنادِ " عَلِمَ " بمعنى عَرَف إلى الله تعالى إشكالاً تقدَّم تحريرُه في الأنفال وغيرِها . وإذا جَعَلْناه فعلاً امتنع أن تكونَ موصولةً إذ لا وجهَ لبنائها حينئذٍ وهو حسن .
(1/3051)

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13)
قوله تعالى : { آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ } : فيه التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة إذ لو جاء على نَسَقِ الكلامِ لقيل : إنهم فتيةٌ آمنوا بنا . وقوله : " وزِدْناهُم " " وَرَبَطْنا " التفاتٌ من هذه الغَيْبَة إلى التكلم أيضاً .
(1/3052)

وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14)
قوله تعالى : { إِذْ قَامُواْ } : منصوبٌ ب " رَبَطْنا " والرَّبْطُ استعارةٌ لتقويةِ قلوبهم في ذلك المكانِ الدَّحْضِ .
قوله : " إذن " جوابٌ وجزاءٌ ، أي : لقد قُلنا قولاً شَطَطاً إنْ دَعَوْنا مِنْ دونِه إلهاً . وشَطَطاً في الأصل مصدرٌ ، يقال : شَطَّ شَطَطاً وشُطُوطاً ، أي : جارَ وتجاوزَ حَدَّه ، ومنه : شطَّ في السَّوْمِ ، وأَشَطَّ ، أي : جاوَزَ القَدْرَ . وشَطَّ المنزلُ : بَعُدَ ، من ذلك . وشَطَّتِ الجاريةُ شِطاطاًً ، طالَتْ ، من ذلك . وفي انتصابِه ثلاثةُ أوجهٍ ، مذهبُ سيبويهِ النصبُ على الحال من ضميرِ مصدر " قُلْنا " . الثاني : نعتٌ لمصدرٍ ، أي : قولاً ذا شَطَطٍ ، أو هو الشَّطَطُ نفسُهُ مبالغةً . الثالث : أنه مفعولٌ ب " قُلْنا " لتضمُّنِه معنى الجملة .
(1/3053)

هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15)
قوله تعالى : { هؤلاء قَوْمُنَا اتخذوا } : يجوز في " قومُنا " أن يكونَ بدلاً أو بياناً ، و " اتَّخذوا " هو خبرُ " هؤلاء " ، ويجوز أن يكونَ " قومُنا " هو الخبرَ ، و " اتَّخذوا : حالاً . و " اتَّخذ " يجوزُ أَنْ يتعدَّى لواحدٍ بمعنى عَمِلوا؛ لأنهم نَحَتوها بأيديهم ، ويجوز أَنْ تكونَ متعدِّيةً لاثنين بمعنى صَيَّروا ، و " مِنْ دونِه " هو الثاني قُدِّمَ ، و " آلهةً " هو الأولُ . وعلى الوجهِ الأولِ يجوز في " مِنْ دونِه " أن يتعلَّقَ ب " اتَّخذوا " ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ حالاً مِنْ " آلهة " إذ لو تأخَّر لجاز أن يكونَ صفوً ل " آلهةً " .
قوله : { لَّوْلاَ يَأْتُونَ } تخصيصٌ فيه معنى الإِنكار . و " عليهم " ، أي : على عبادتِهم أو على اتَّخاذهم ، فَحُذِفَ المضافُ للعِلْمِ به . ولا يجوز أن تكونَ هذه الجملةُ التخضيضية صفةً ل " آلهةً " لفساده معنى وصناعةً ، لأنها جملةٌ طلبيةٌ . فإنْ قلت : أُضْمِرُ قولاً كقوله :
3130- جاؤُوا بِمَذْقٍ هل رَأَيْتَ الذئبَ قطّْ ... لم يساعِدْك المعنى لفسادِه عليه .
(1/3054)

وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
قوله تعالى : { وَإِذِ اعتزلتموهم } : " إذا " منصوبٌ بمحذوف ، أي : وقال بعضُهم لبعضٍ وقتَ اعتزالِهم . وجَوَّز بعضُهم أَنْ تكونَ " إذ " للتعليل ، أي : فَأْووا إلى الكهفِ لاعتزاِلكم إياهم ، وهو قولٌ مَقُولٌ لكنَّه لا يَصِحُّ .
قوله : { وَمَا يَعْبُدُونَ } يجوز في " ما " ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ تكونَ بمعنى الذي ، والعائدُ مقدرٌ ، أي : واعْتَزَلْتُم الذي يعبدونه . و " إلا الله " يجوز فيه أن يكونَ استثناءً متصلاً ، فقد رُوي أنهم كانوا يعبدون اللهَ ويُشْرِكون به غيرَه ، ومنقطعاً ، فقد رُوي أنهم كانوا يعبدون الأصنام فقط . والمستثنى منه يجوز أن يكونَ الموصولَ ، وأن يكون عائدَه ، والمعنى واحد .
والثاني : أنها مصدريةٌ ، أي : واعتزلتُمْ عبادَتهم ، أي : تركتموها . و " إلا اللهَ " على حَذْفِ مضاف ، أي : إلا عبادةَ اللهِ . وفي الاستثناء الوجهان المتقدمان .
الثالث : أنها نافيةٌ ، وأنَّه مِنْ كلامِ الله تعالى ، وعلى هذا فهذه الجملةُ معترضةٌ بين أثناءِ القصةِ وإليه ذهب الزمخشري . و { إِلاَّ الله } استثناءٌ مفرغٌ أخبر الله عن الفتنةِ أنَّهم لا يعبدون غيرَه . وقال أبو البقاء : " والثالث : أنها حرفُ نفيٍ فيخرج في الاستثناء وجهان ، أحدهما : هو منقطعٌ ، والثاني : هو متصلٌ ، والمعنى : وإذ اعتزلتموهم إلا الله وما يعبدون إلا اللهََ " قلت : فظاهرُ هذا الكلامِ : أن الانقطاعَ والاتصالَ في الاستثناءِ مترتبان على القولِ بكون " ما " نافيةً ، وليس الأمرُ كذلك .
قوله : " مِرْفَقا " قرأ بكسرِ الميمِ وفتحِ الفاءِ الجمهورُ . ونافع وابنُ عامر بالعكس ، وفيهما اختلافٌ بين أهلِ اللغة ، فقيل : هما بمعنى واحد وهو ما يَرْتَفَقُ به ، وليس بمصدرٍ . وقيل : هو بالكسر في الميم لليد ، وبالفتح للأمر ، وقد يُسْتَعْمل كلُّ واحدٍ منهما موضعَ الآخر ، حكاه الأزهري عن ثعلبٍ . وأنشد الفراءُ جمعاً بين الغتين في الجارِحَة :
3131- بِتُّ أُجافي مِرْفقاً عن مَرْفقِ ... /وقيل : يُسْتعملان معاً في الأمرِ وفي الجارحة ، حكاه الزجاج .
وحكى مكي ، عن الفراء أنه قال : " لا أعرِفُ في الأمر ولا في اليد ولا في كل شيءٍ إلا كسرَ الميمِ " .
قلت : وتواترُ قراءةِ نافعٍ والشاميين يَرُدُّ عليه . وأنكر الكسائيُّ كسرَ الميم في الجارحة ، وقال : لا أعرفُ فيه إلا الفتحَ وهو عكسُ قولِ تلميذِه ، ولكن خالفه أبو حاتم ، وقال : " هو بفتح الميم : الموضعُ كالمسجد . وقال أبو زيد : هو بفتح الميم مصدرٌ جاء على مَفْعَل " وقال بعضهم : هما لغتان فيما يُرْتَفَقُ به ، فأمَّا الجارِحَةُ فبكسرِ الميمِ فقط . وحُكي عن الفرَّاء أنَّه قال : " أهلُ الحجاز يقولون : " مَرْفقا " بفتح الميم وكسرِ الفاءِ فيما ارتفقْتَ به ، ويكسِرون مِرْفَق الإِنسان ، والعربُ بعدُ يَكْسِرون الميمَ منهما جميعاً " . وأجاز معاذ فتحَ الميم والفاءِ ، وهو مصدرٌ كالمَضْرَبِ والمَقْتَلِ .
و { مِّنْ أَمْرِكُمْ } متعلَّقُ بالفعلِ قبلَه ، و " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ أو للتعيض . وقيل : هي بمعنى بَدَلَ ، قاله ابن الأنباريِّ وأنشد :
3132- فليت لنا مِنْ ماءِ زمزمِ شَرْبَةً ... مُبَرَّدَةً باتَتْ على طَهَيانِ
أي : بَدَلاً . ويجوز أن يكونَ حالاً من " مِرْفَقاً " فيتعلَّقَ بمحذوفٍ .
(1/3055)

وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
قوله تعالى : { تَّزَاوَرُ } : قرأ ابن عامر " تَزْوَرُّ " بزنةِ تَحْمَرُّ ، والكوفيون " تَزَاوَرُ " بتخفيفِ الزايِ ، والباقون بتثقِيلها . ف " تَزْوَرُّ " بمعنى تميل من الزَّوَر وهو المَيَلُ ، وزاره بمعنى مال إليه ، وقول الزُّور : مَيّلٌ عن الحق ، ومنه الأَزْوَرُ وهو المائلُ بعينه وبغيرها . قال عمر بن أبي ربيعة :
3133- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . وجَنْبي خِيفة القوم أَزْوَرُ
وقيل : تَزْوَرُّ بمعنى تَنْقَبِضُ مِنْ ازْوَرَّ ، أي : انقبضَ . ومنه قولُ عنترة :
3134- فازْوَرَّ مَنْ وَقَعَ القَنا بلَبانِه ... وشكا إليَّ بعَبْرَةٍ وتَحَمْحُمِ
وقيل : مال . ومثلُه قولُ بِشْر بن أبي خازم :
3135- يَؤُمُ بها الحداةُ مياهَ نَخْلٍ ... وفيها عن أبانَيْنِ ازْوِرارُ
أي : مَيْلٌ .
وأما " تزاوَرُ " و " تَّوازَرُ " فأصلهما تَتَزاوَرُ بتاءين ، فالكوفيون حذفوا إحدى التائين ، وغيرُهم أَدْغم ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في " تَظَاهَرون " و " تَساءلون " ونحوِهما . ومعنى ذلك الميل أيضاً .
وقرأ أبو رجاء والجحدري وابن أبي عبلة وأيُّوب السُّختياني " تَزْوَارُّ " بزنة تَحْمارُّ . وعبد الله وأبو المتوكل " تَزْوَئِرُّ " بهمزةٍ مكسورةٍ قبل راءٍ مشددة ، وأصلُها " تَزْوارُّ " كقراءة أبي رجاء ومَنْ معه ، وإنما كَرِهَ الجمعَ بين الساكنين ، فأبدل الألفَ همزةً على حدِّ إبدالها في " جَأَنّ " و " الضَّأَلِّين " . وقد تقدَّم تحقيقُه أولَ هذا التصنيف أخرَ الفاتحة .
و { إِذَا طَلَعَت } معمولٌ ل " تَرَى " أو ل " تَزَاوَرُ " ، وكذا { إِذَا غَرَبَت } معمولٌ للأولِ أو للثاني وهو " تَقْرضهم " . والظاهرُ تمحُّضُه للظرفيةِ ، ويجوزُ أَنْ تكونَ شرطيةً .
ومعنى " تَقْرِضُهم " تَقْطَعهُم لا تُقَرِّبهم ، لأنَّ القَرْضَ القَطْعُ ، من القَطِيعةِ والصَّرْم . قال ذو الرمة :
3136- إلى ظُعُنٍ يَقْرِضْنَ أقْواز مُشْرِفٍ ... شِمالاً ، وعن أَيْمَانِهِنَّ الفوارِسُ
والقَرْضُ : القَطْعُ . وتقدَّم تحقيقُه في البقرة . وقال الفارسي : " معنى تَقْرِضُهم : تُعْطيهم مِنْ ضوئِها شيئاً ثم تزولُ سريعاً كالقَرْضِ يُسْتَرَدُّ " . وقد ضُعِّف قولُه بأنه كان ينبغي أن يُقْرأ " تُقْرِضُهم " بضم التاء لأنه مِنْ أَقْرض .
وقرئ " يَقْرِضهم " بالياء مِنْ تحتُ ، أي : الكهف ، وفيه مخالَفَةٌ بين الفعلين وفاعلِهما ، فالأَوْلى أن يعودَ على الشمس ويكون كقوله :
3137- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا أرضَ أَبْقَلَ إبْقالَها
وهو قولُ ابنِ كَيْسان .
و " ذات اليمين " و " ذات الشِّمال " ظرفا مكانٍ بمعنى جهةِ اليمين وجهةِ الشِّمال .
قوله : { وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ } جملةٌ حاليةٌ ، أي : نفعلُ هذا مع اتساع مكانِهم ، وهو أعجبُ لحالِهم ، إذ كان ينبغي أَنْ تصيبَهم الشمسُ لاتِّساعِه . والفَجْوَةُ : المُتَّسَعُ ، من الفَجا ، وهو تباعدُ ما بين الفَخْذَين . يقال : رجلٌ أَفْجَى وامرأة فَجْواء ، وجمع الفَجْوَة فِجاءٌ كقَصْعَة وقِصاع .
قوله : " ذلك " مبتدأٌ مُشار به إلى جميعِ ما تقدم مِنْ حديثهم . و " من " آياتِ الله " الخبرُ . ويجوز أن يكونَ " ذلك " خبرَ مبتدأ محذوفٍ ، أي : الأمرُ ذلك . و { مِنْ آيَاتِ الله } حالٌ .
(1/3056)

وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
قوله تعالى : { أَيْقَاظاً } : جمعٌ " يَقُظ " بضم القاف ، ويُجمع على يِقاظ . ويَقْظ وأيقاظ كعَضُد وأَعْضاد ، ويَقُظ ويِقاظ كرَجُل ورِجال . وظاهر كلام الزمخشري أنه يقال : " يَقِظ " بالكسر ، لأنه قال : " وأيقاظ جمع " يَقِظ " كأَنْكادِ في " نَكِد " . واليَقَظَةُ : الانتباهُ ضدُّ النوم .
والرُّقود : جمع راقِد كقاعِد وقُعود ، ولا حاجةَ إلى إضمارِ شيءٍ كما قال بعضهم : إنَّ التقديرَ : لو رَأَيْتَهم لَحَسِبْتَهُم أيقاظاً .
قوله : " ونُقِلَّبهم " قرأ العامَّةُ " نُقَلِّبهم " مضارعاً مسنداً للمعظِّمِ نفسَه . وقرئ كذلك بالياء مِنْ تحتُ ، أي : الله أو المَلَك . وقرأ الحسن : " يُقَلِبُهم " بالياءِ من تحتُ ساكنَ القافِ مخففَ اللامِ ، وفاعلُه كما تقدَّم : إمَّا اللهُ أو المَلَكُ . وقرأ أيضاً " وتَقَلُّبَهم " بفتح التاءِ وضمِّ اللامِ مشددةً مصدرَ تَقَلَّبَ " ، كقولِه : { وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين } [ الشعراء : 219 ] ونصبِ الباء . وخرَّجه أبو الفتحِ على إضمارِ فعلٍ ، أي : ونَرَى تقَلُّبَهم أو نشاهِدُ . ورُوِيَ عنه أيضاً رفعُ الباءِ على الابتداءِ ، والخبرُ الظرفُ بعدَه . ويجوز أن يكونَ محذوفاً ، أي : آيةٌ عظيمة . / وقرأ عكرمةُ " وتَقْلِبُهم " بتاءِ التأنيثِ مضارعَ " قَلَب " مخففاً ، وفاعلُه ضميرُ الملائكةِ المدلولِ عليهم بالسِّياقِ .
قوله : " وكَلْبُهم " العامَّةُ على ذلك . وقرأ جعفر الصادق " كالِبُهم " ، أي : صاحبُ كلبِهم ، كلابِن وتامِر . ونقل أبو عمر الزاهدُ غلامُ ثعلب " وكالِئُهم " بهمزةٍ مضمومةٍ اسمَ فاعلٍ مِنْ كَلأَ يكلأُ : أي : حَفِظَ يَحْفَظُ .
و " باسِط " اسمُ فاعلٍ ماضٍ ، وإنما عَمِلَ على حكاية الحال . والكسائيُّ يُعْمِله ويَسْتشهد بالاية .
والوَصْيدُ : الباب . وقيل : العَتَبة . وقيل : الصَّعيد والتراب . وقيل : الفِناء . وأنشد :
3138- بأرضِ فضاءٍ لا يُسَدُّ وَصِيْدُها ... عليَّ ومعروفي بها غيرُ مُنكَرِ
والعامَّةُ على كسرِ الواوِ مِنْ { لَوِ اطلعت } على أصلِ التقاءِ الساكنين . وقرأها مضمومةً أبو جعفر وشيبةُ ونافعٌ وابنُ وثاب والأعمش تشبيهاً بواوِ الضمير ، وتقدَّم تحقيقُه .
قوله : فِرارا " يجوز أَنْ يكونَ منصوباً على المصدرِ مِنْ معنى الفعل قبلَه ، لأنَّ التوليَّ والفِرار مِنْ وادٍ واحدٍ . ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً في موضعِ الحال ، أي : فارَّاً ، وتكونُ حالاً مؤكدة ، ويجوز أن يكونَ مفعولاً له .
قوله : " رُعْباً " مفعولٌ ثانٍ . وقيل : تمييز . وقرأ ابنُ كثير ونافعٌ " لَمُلِئْتَ " بالتشديد على التكثيرِ . وأبو جعفر وشيبةُ كذلك إلا أنه بإبدال الهمزةِ ياءً . والزُّهْري بتخفيف اللام والإِبدال ، وهو إبدالٌ قياسيٌّ . وتقدَّم الخلافُ الرعب في آل عمران .
(1/3057)

وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19)
قوله : { وكذلك بَعَثْنَاهُمْ } : الكافُ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : كما أَنَمْناهم تلك النَّوْمَةَ كذلك بَعَثْناهم ادِّكاراً بقُدرتِه . والإِشارةُ ب " ذلك " إلى المصدرِ المفهومِ مِنْ قوله " فَضَرَبْنا " ، أي : مثلَ جَعْلِنا إنامتَهم هذه المدة المتطاولةَ آيةً جَعَلْنا بَعْثَهم آيةً . قاله الزجاج والزمخشري .
قوله : " ليتساءَلُوا " اللامُ متعلقةٌ بالبعث ، فقيل : هي للصَّيْرورة ، لأنَّ البَعْثَ لم يكنْ للتساؤلِ . قاله ابنُ عطيةَ . والصحيحُ أنَّها على بابِها مِن السببية .
قوله : { كَم لَبِثْتُمْ } " كم " منصوبةٌ على الظرف ، والمُمَيِّزُ محذوفٌ ، تقديرُه : كم يوماً ، لدلالةِ الجواب عليه . و " أَوْ " في قولِه : " أو بعضَ يوم " للشكِّ فيهم ، وقيل : للتفصيل ، أي : قال بعضُهم كذا وبعضُهم كذا .
قوله : " بِوَرِقِكم " حال ِمنْ " أحدَكم " ، أي : مصاحباً لها ، وملتبساً بها . وقرأ أبو عمروٍ وحمزةُ وأبو بكر بفتحِ الواوِ وسكونِ الراءِ والفَكِّ . وباقي السبعة بكسر الراء ، والكسرُ هو الأصلُ ، والتسكينُ تحفيفٌ ك " نَبْق " في نَبِق . وحكى الزجاج كسرَ الواوِ وسكونِ الراء وهو نَقْلٌ ، وهذا كما يقال : كَبِدْ وكَبْد وكِبْد .
وقرأ أبو رجاء وابن محيصن كذلك ، إلا أنه بإدغام القاف . واستضعفوها مِنْ حيث الجمعُ بين ساكنين على غير حَدِّيهما وقد تقدَّم لك في المتواترِ ما يُشبه هذه مِنْ نحوِ { فَنِعِمَّا } { لاَ تَعْدُّواْ فِي السبت } [ النساء : 154 ] . . . ورُوِيَ عن ابنِ محيصن أنَّه أَدْغَمَ كسرَ الراءَ فِراراً مِمَّا ذَكَرْتَ .
وقرأ أميرُ المؤمنين " بوارِقِكم " اسمَ فاعلٍ ، أي : صاحب وَرِقٍ ك " لابِن " . وقيل : هو اسمُ جمعٍ كجاملٍ وباقر .
والوَرِقُ : الفِضَّةُ المضروبةُ . وقيل : الفضةُ مطلقاً . ويقال لها : " الرِّقَةُ " بحذفِ الفاء . وفي الحديث : " في الرِّقَةِ رُبْع العُشْر " وجُمعت شذوذاً جَمْعَ المذكرِ السالم ، قالوا : " حُبُّ الرِّقَيْنِ يغطِّي أَفْن الأَفِين " .
قوله : أيُّها أَزْكَى : يجوز في " أيّ " أن تكونَ استفهاميةً ، وأن تكونَ موصولةً . وقد عَرَفْتَ ذلك ممَّا تقدَّم لك في قوله : { أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الكهف : 7 ] فالعملُ واحدٌ . ولا بد مِنْ حذفٍ : " أيُّ أهْلِها أزْكَى " . وطعاماً : تمييز . وقيل : لا حَذْفَ ، والضميرُ على الأطعمة المدلول عليها من السياق .
قوله : " ولِيَتَلَطَّفْ " قرأ العامَّةُ بسكونِ لامِ الأمر ، والحسنُ بكسرِها على الأصل . وقتيبة المَيَّال " ولِيَتَلَطَّفْ " مبنياً للمفعول . وأبو جعفر وأبو صالحٍ وقتيبة " ولا يَشْعُرَن " بفتحِ الياءِ وضمِّ العين ، " أحدٌ " فاعلٌ به .
(1/3058)

إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
قوله : { إِنَّهُمْ } هذا الضميرُ يجوز أن يعودَ على " أحد " لأنه في معنى الجمع ، وأنْ يكونَ عائداً على " أهل " المضاف لضمير المدينة ، قاله الزمخشري . ويجوز أَنْ يعودَ على قومِهم لدلالةِ السِّياقِ عليهم . وقرأ زيدُ بن علي " يُظْهِروا " مبنيّاً للمفعول و " إذن " جوابٌ وجزاءٌ ، أي : إنْ ظَهَروا فلن تُفْلِحوا .
(1/3059)

وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
قوله : { وكذلك أَعْثَرْنَا } : أي : وكما أَنَمْناهم وبَعَثْناهم أَعْثَرْنا ، أي : أَطْلَعْنا . وقد تقدَّم الكلامُ على مادة " عثر " في المائدة و " لِيَعْلَموا " متعلقٌ بأَعْثَرْنا . والضمير : قيل : يعود على مفعول " أَعْثَرْنا " المحذوفِ تقديرُه : أَعْثَرْنا الناسَ . وقيل : يعود على أهل الكهف .
قوله : { إِذْ يَتَنَازَعُونَ } يجوز أَنْ يعملَ فيه " أَعْثَرنا " أو " لِيَعْلَموا " أو لمعنى " حَقٌّ " أو ل " وَعْدَ " عند مَنْ " يَتَّسع في الظرف . وأمَّا مَنْ لا يَتَّسعُ ، فلا يجوز الإِخبارُ عن الموصولِ قبل تمامِ صِلَتِه .
قوله : " بُنْياناً " يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً به ، جمعَ يُنْيَانَه ، وأن يكونَ مصدراً .
قوله : { رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ } يجوز أن يكونَ مِنْ كلام الباري تعالى ، وأن يكونَ من كلامِ المتنازِعَيْنِ فيهم .
قوله : " غَلَبوا " قرأ عيسى الثقفي والحسن بضم الغين وكسرِ اللام .
(1/3060)

سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
قوله : { سَيَقُولُونَ } : قيل : إنما أُتي بالسِّينِ في هذا لأنَّ في الكلامِ طَيَّاً وإدْماجاً تقديرُه : فإذا أَجَبْتَهم عن سؤالِهم عن قصةِ أهلِ الكهفِ فَسَلْهُمْ عددِهم فإنهم سيقولون . ولم يأتِ بها في باقيةِ الأفعالِ لأنها معطوفةٌ على ما فيه السينُ فأُعْطِيَتْ حُكْمَه من الاستقبَال .
وقرأ ابنُ محيصن " ثَلاثٌّ " بإدغامِ الثاءِ المثلثةِ في تاء التأنيث لقربِ مَخْرَجَيْهما ، ولأنهما مهموسان ، ولأنهما بعد ساكنٍ معتلٍّ .
قوله : { رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } الجملةُ في محلِّ رفعٍ صفةً ل " ثلاثة " .
قوله : " خَمْسَةٌ " قرأ ابن كثير في روايةٍ بفتحِ الميم ، وهي لغةٌ كعشَرَة . وقرأ ابن محيصن بكسرِ الخاءِ والميمِ ، وبإدغامِ التاءِ في السين ، يعني تاءَ " خمسة " في سين " سادسهم " وعي قراءةٌ ثقيلةٌ جداً ، تتوالى كسرتان وثلاثُ سيناتٍ ، ولا أظنُّ مثلَ هذا إلا غلطاً على مثلِه . ورُوِيَ عنه إدغامُ التنوينِ في السين مِنْ غيرِ غُنَّة .
و " ثلاثةٌ " و " خمسةٌ " و " سبعةٌ " إخبارٌ لمبتدأ مضمرٍ ، أي : هم ثلاثةٌ ، وهم خمسةٌ ، وهم سبعةٌ . وما بعد " ثلاثة " و " خمسة " من الجملةِ صفةٌ لهما ، كما تقدَّم . ولا يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ حالاً لعدم عاملٍ فيها ، ولا يجوزُ أن يكونَ التقديرُ : هؤلاء ثلاثةٌ ، وهؤلاء خمسةٌ ، ويكون العاملُ اسمَ الإِشارة أو التنبيه . قال أبو البقاء : " لأنَّها إشارةٌ إلى حاضرٍ ، ولم يُشيروا إلى حاضر " .
قوله : { رَجْماً بالغيب } فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه مفعولٌ مِنْ أجله؛ يقولون ذلك لأجل الرمي بالغَيْب . والثاني : أنه في موضعِ الحال ، أي : ظانِّين . والثالث : أنَّه منصوبٌ ب " يقولون " لأنه بمعناه . والرابع : أنه منصوبٌ بمقدَّرٍ مِنْ لفظه ، أي : يَرْجُمون بذلك رَجْماً .
والرَّجْمُ في الأصلِ : الرَّمْيُ بالرِّجامِ وهي الحجارةُ الصِّغارُ ، ثم عُبِّر به عن الظنِّ . قال زهير :
3139- وما الحربُ إلا ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُمُ ... وما هو عنها بالحديثِ المُرَجَّمِ
أي : المَظْنُون .
قوله : " وثامِنُهُم " في هذه الواوِ أوجهٌ ، أحدُها : أنها عاطفةٌ ، عَطَفَتْ هذه الجملةَ على جملةِ قولِه " هم سبعة " فيكونون قد أَخبَرو بخبرين ، أحدُهما : أنهم سبعةُ رجالٍ على البَتِّ . والثاني أنَّ ثامنَهم كلبُهم ، وهذا يُؤْذِنُ بأنَّ جملةَ قولِه { وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } مِنْ كلام المتنازِعِيْنَ فيهم . الثاني : أنَّ الواوَ للاستئنافِ ، وأنَّه مِنْ كلامِ الله تعالى أخبر عنهم بذلك . قال هذا القائلُ : وجيءَ بالواوِ لتعطي انقطاعَ هذا ممَّا قبله . الثالث : أنها الواوُ الداخلةُ على الصفةِ تأكيداً ، ودلالةً على لَصْقِ الصفةِ بالموصوفِ . وإليه ذهب الزمخشري ، ونَظَّره بقولِه : { مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ } [ الحجر : 4 ] .
ورَدَّ الشيخ عليه : بأنَّ أحداً من النحاة لم يَقُلْه ، وقد تقدَّم القولُ في ذلك .
(1/3061)

الرابع : أنَّ هذه تُسَمَّى واوَ الثمانية ، وأنَّ لغةَ قريش إذا عَدُّوا يقولون : خمسة ستة سبعة وثمانية تسعة ، فيُدْخلون الواوَ على عَقْدِ الثمانيةِ خاصة . ذكر ذلك ابن خالويه وأبو بكر راوي عاصم . قلت : وقد قال ذلك بعضُهم في قولِه تعالى : { وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [ الآية : 73 ] في الزمر فقال : دخلَتْ في أبوابِ الجنة لأنها ثمانيةٌ ، ولذلك لم يُجَأْ بها في أبوابِ جهنم لأنها سبعةٌ وسيأتي هذا إن شاء الله .
وقُرِئ : " كالبُهم " ، أي : صاحبُ كلبِهم . ولهذه القراءةِ قدَّرَ بعضُهم في قراءةِ العامة : وثامنُهم صاحبُ كلبِهم .
وثلاثة وخمسة وسبعة مضافةٌ لمعدودٍ محذوفٍ فقدَّره الشيخ : ثلاثة أشخاص ، قال : " وإنما قدَّرْنا أشخاصاً لأنَّ رابعَهم اسمُ فاعلٍ أُضيف إلى الضمير ، والمعنى : أنه رَبَعَهم ، أي : جَعَلَهم أربعةً ، وصَيَّرهم إلى هذا العددِ ، فلو قدَّرْناه رجالاً استحال أن يُصَيِّر ثلاثةَ رجالٍ أربعةً لاختلافِ الجنسين " . وهو كلامٌ حسنٌ .
وقال أبو البقاء : " ولا يَعْمل اسمُ الفاعلِ هنا لأنه ماضٍ " . قلت : يعني أن رابعَهم فيما مضى ، فلا يعمل النصبَ تقديراً ، والإِضافة محضة . وليس كما زعم فإنَّ المعنى على : يَصير الكلبُ لهم أربعةً ، فهو ناصبٌ تقديراً ، وإنما عَمِلَ وهو ماضٍ لحكاية الحالِ كباسِط .
(1/3062)

إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } : قاله أبو البقاء : " في المستثنى منه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : هو مِنَ النَّهْيِ . والمعنى : لا تقولَنَّ : أفعل غداً ، إلا أَنْ يُؤْذَنَ لك في القول . الثاني : هو من " فاعلٌ " ، أي : لا تقولَنَّ إني فاعلٌ غداً حتى تَقْرِنَ به قولَ " إن شاء الله " . والثالث : أنه منقطعٌ . وموضعُ " أَنْ يشاء اللهُ " نصبٌ على وجهين ، أحدُهما على الاستثناءِ ، والتقدير : لا تقولَنَّ ذلك في وقتٍ إلا وقتَ أنْ يشاء الله ، أي : يَأْذَنَ ، فحذف الوقتَ وهو مُرادٌ . والثاني : هو حالٌ والتقدير : لا تقولَنَّ أفعل غداً إلا قائلاً : إن شاء الله ، وحَذْفُ القولِ كثيرٌ ، وجَعَل قولَه إلا أن يشاء في معنى : إن شاء وهو ممَّا حُمِلَ على المعنى . وقيل : التقدير إلا بأَنْ يشاءَ اللهُ ، أي : ملتبساً بقولِ : " إن شاء الله " .
قلت : قد رَدَّ الزمخشريُّ الوجهَ الثاني ، فقال : " إلا أَنْ يشاء " متعلقٌ بالنهي لا بقولِه " إنِّي فاعلٌ " لأنَّه لو قال : إني فاعلٌ كذا إلا أَنْ يشاء اللهُ كان معناه : إلا أن تَعْتَرِضَ مشيئةُ اللهِ دونَ فِعْلِه ، وذلك ممَّا لا مَدْخَلَ فيه للنهي " . قلت : يعني أنَّ النهي عن مثلِ هذا المعنى لا يَحْسُن .
ثم قال : " وتعلُّقُه بالنهي مِنْ وجهين ، أحدهما : ولا تقولنَّ ذلك القولَ إلا أَنْ يشاءَ الله أَنْ تقولَه بأَنْ يَأْذَنَ لك فيه . والثاني : ولا تقولَنَّه إلا بأَنْ يشاءَ الله أَي : إلا بمشيئته ، وهو في موضعِ الحال ، أي : ملتبساً بمشيئةِ الله قائلاً إنْ شاء الله . وفيه وجهٌ ثالث : وهو أَنْ يكونَ " إلا أَنْ يشاء " في معنى كلمةِ تأبيد كأنَّه قيل : ولا تقولَنَّه أبداً ، ونحوُه : { وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا } [ الأعراف : 89 ] لأنَّ عَوْدَهم في ملَّتِهم ممَّا لم يَشَأ الله " .
وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ قد رَدَّه ابنُ عطية بعد أنْ حكاه عن الطبري وغيرِه ولم يوضِّح وجهَ الفسادِ .
وقال الشيخ : " وإلا أَنْ يشاءَ اللهُ استثناءٌ لا يمكن حَمْلُه على ظاهرِه ، لأنه يكونُ داخلاً تحت القول فيكونُ من المقول ، ولا ينهاه اللهُ أَنْ يقول : إني فاعل ذلك غداً إلا أَنْ يشاءَ اللهُ ، لأنه كلامٌ صحيحٌ في نفسِه لا يمكنُ أَنْ يَنْهى عنه ، فاحتيج في تأويلِ هذا الظاهرِ إلى تقديرٍ . فقال ابن عطية : " في الكلامِ حَذْفٌ يَقْتضيه الظاهرُ ، ويُحَسِّنه الإيجازُ ، تقديرُه : إلا أَنْ تقولَ : إلا أَنْ يشاءَ الله ، أو إلا أَنْ تقولَ : إنْ شاء الله . والمعنى : إلا أَنْ تذكُرَ مشيئةَ الله ، فليس " إلا أن يشاءَ اللهُ " من القولِ الذي نَهَى عنه " .
(1/3063)

وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)
قوله : { ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ } : قرأ الأخَوان بإضافة " مِئَةِ " إلى سنين . والباقون بتنوين " مِئَةٍ " . فأمَّا الأولى فأوقع فيها الجمعَ موقعَ المفردِ كقولِه : { بالأخسرين أَعْمَالاً } [ الكهف : 103 ] . قاله الزمخشري يعني أنه أوقع " أَعْمالاً " موقعَ " عَمَلاً " . وقد أنحى أبو حاتم على هذه القراءةِ ولا يُلْتَفَتُ إليه . وفي مصحفِ عبد الله " سَنَة " بالإِفراد . وبها قرأ أُبَيّ . وقرأ الضحاك " سِنُون " بالواو على أنها خبرٌ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هي سنُون .
وأمَّا الباقون : فلمَّا لم يَرَوا إضافةَ " مِئَة " إلى جمعٍ نَوَّنُوا ، وجعلوا " سِنين " بدلاً مِنْ " ثلثمئة " أو عطفَ بيان . ونَقَل أبو البقاء أنَّه بدلٌ مِنْ " مِئَة " لأنها في معنى الجمع . ولا جائزٌ أَنْ يكونَ " سنين " في هذه القراءةِ مميِّزاً ، لأنَّ ذلك إنما يجيءُ في ضرورةٍ مع إفرادِ التمييز ، كقوله :
3140- إذا عاش الفَتَى مِئَتين عاماً ... [ فقد ] ذَهَب اللَّذاذَةُ والفَتاءُ
قوله : " تِسْعاً " ، أي : تسعَ سنين ، حَذَفَ المُمَيَّزَ لدلالةِ ما تقدَّمَ عليه ، إذ لا يُقال : عندي ثلثمئة درهم وتسعة ، إلا وأنت تعني : تسعة دراهم ، ولو أَرَدْتَ ثياباً ونحوَها لم يَجُزْ لأنه إلغازٌ . و " تِسْعاً " مفعولٌ به . وازداد : افتَعَلَ ، أُبْدِلَتِ التاءُ دالاً بعد الزاي ، وكان متعدِّياً لاثنين نحو : { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [ الكهف : 13 ] ، فلمَّا بُنِي على الافتعال نَقَص واحداً .
وقرأ الحسن وأبو عمروٍ في وراية " تَسْعا " بفتح التاء كعَشْر .
(1/3064)

قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
قوله : { أَبْصِرْ بِهِ } : صيغةُ تعجبٍ بمعنى ما أبصرَه ، على سبيل المجاز ، والهاءُ للهِ تعالى . وفي مثلِ هذا ثلاثةُ مذاهبَ : الأصحُّ أنه بلفظِ الأمرِ ومعناه الخبرُ ، والباءُ مزيدةٌ في الفاعل إصلاحاً للَّفْظ . والثاني : أنَّ الفاعلَ ضميرُ المصدرِ . والثالث : أنه ضميرُ المخاطبِ ، أي : أَوْقِعْ أيها المخاطبُ . وقيل : هو أمرٌ حقيقةً لا تعجبٌ ، وأن الهاءَ تعودُ على الهُدَى المفهوم من الكلام .
وقرأ عيسى : " أَسْمَعَ " و " أَبْصَرَ " فعلاً ماضياً ، والفاعلُ الله تعالى ، وكذلك الهاءُ في " به " ، أي : أبصرَ عبادَه وأَسْمعهم .
قوله : " مِنْ وليّ " يجوز أَنْ يكونَ فاعلاً ، وأَنْ يكونَ مبتدأً .
قوله : " ولا يُشْرك " ، قرأ ابن عامر بالتاءِ والجزم ، أي : ولا تُشْرِكْ أنت أيها الإِنسانُ . والباقون بالياء من تحتُ ورفعِ الفعلِ ، أي : ولا يُشْرك اللهُ في حكمِه أحداً ، فهو نفيٌ مَحْضٌ .
وقرأ مجاهد : " ولا يُشْرِكْ " بالتاء من تحتُ والجزم .
قال يعقوب : " لا أعرفُ وجهه " . قلت : وجهُه أنَّ الفاعلَ ضميرُ الإِنسانِ ، أُضْمِرَ للعِلْمِ به .
والضميرُ في قولِه/ " مالهم " يعود على معاصري رسولِ الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن عطية : " وتكون الآيةُ اعتراضاً بتهديد " . كأنَّه يعني بالاعتراضِ أنهم ليسوا ممَّن سَبَق الكلامُ لأجلهم ، ولا يريد الاعتراضَ الصناعيِّ .
(1/3065)

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
قوله : { واصبر نَفْسَكَ } : أي : احبِسْها وثَبِّتْها ، قال أبو ذؤيب :
3141- فصبَرْتُ عارفةً لذلك حُرَّة ... تَرْسُو إذا نَفْسُ الجبانِ تَطَلَّعُ
وقوله : " بالغَداة " تقدَّم الكلامُ عليها في الأنعام .
قوله : { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ } فيه وجهان ، أحدهما : أنَّ مفعولَه محذوفٌ ، تقديرُه : ولا تَعْدُ عيناك النظرَ . والثاني : أنه ضُمِّنَ معنى ما يتعدَّى ب " عَنْ " . قال الزمخشري : " وإنما عُدِّيَ ب " عَنْ " لتضمين " عَدا " معنى نبا وعلا في قولِك : نَبَتْ عنه عيْنُه ، وعلَتْ عنه عَيْنُه ، إذا اقتحَمَتْه ولم تَعْلَقْ به . فإن قلت : أيُّ غرضٍ في هذا التضمين؟ وهَلاَّ قيل : ولا تَعْدُهم عيناك ، أو : ولا تَعْلُ عيناك عنهم؟ قلت : الغرضُ فيه إعطاءُ مجموعِ معنيين ، وذلك أقوى من إعطاءِ معنى فَذّ . ألا ترى كيف رَجَعَ المعنى إلى قولك : ولا تَقْتَحِمْهُمْ عيناك متجاوزتَيْنِ إلى غيرهم . ونحوه { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } [ النساء : 2 ] ، أي : ولا تَضُمُّوها إليها آكلين لها " .
ورَدَّه الشيخُ : بأنَّ مذهبَ البصريين أن التضمينَ لا ينقاس ، وإنما يُصار إليه عند الضرورة . فإذا أمكن الخروجُ عنه فلا يُصار إليه .
وقرأ الحسن " ولا تُعْدِ عَيْنَيْكَ " مِنْ أَعْدى رباعياً . وقرأ هو وعيسى والأعمش " ولا تُعَدِّ " بالتشديد من عَدَّى يُعَدَّي مُضَعَّفاً ، عدَّاه في الأولى بالهمزةِ وفي الثانيةِ بالتثقيلِ ، كقولِ النابغة :
3142- فَعَدَّ عَمَّا تَرَى إذ لا ارْتِجاعَ له ... وانْمِ القُتُوْدَ على عَيْرانَةٍ أُجُدِ
كذا قال الزمخشري وأبو الفضلِ . ورَدَّ عليهما الشيخ : بأنه لو كان تعدِّيه في هاتين القراءتين بالهمزةِ أو التضعيفِ لَتَعَدَّى لاثنين ، لأنه قبل ذلك متعدٍّ لواحدٍ بنفسه . وقد أقرَّ الزمخشري بذلك حيث قال : " يقال : عَدَاه إذا جاوزه ، وإنما عُدِّي ب عن لتضمُّنِه معنى علا ونبا ، فحينئذٍ يكون أَفْعَل وفَعَّلَ مِمَّا وافقا المجردَ " وهو اعتراضٌ حسنٌ .
قوله : " تُريد " جملةٌ حالية . ويجوز أن يكونَ فاعلُ " تريد " المخاطبَ ، أي : تريد أنت . ويجوز أن يكون ضمير العينين ، وإنما وُحِّد لأنهما متلازِمان يجوز أَنْ يُخْبِرَ عنهما خبرُ الواحد . ومنه قولُ امرئ القيس :
3143- لِمَنْ زُحْلُوقَةٌ زُلَّ ... بها العَيْنان تَنْهَلُّ
وقولُ الآخر :
3144- وكأنَّ في العينين حَبَّ قَرَنْفُلٍ ... أو سُنْبُلاً كُحِلَتْ به فانهَلَّتِ
وفيه غيرُ ذلك . ونسبةُ الإِرادةِ إلى العينين مجازٌ . وقال الزمخشري : " الجملةُ في موضعِ الحال " . قال الشيخ : " وصاحبُ الحالِ إنْ قُدِّرَ " عَيْناك " فكان يكون التركيبُ : تريدان " . قلت : غَفَل عن القاعدةِ التي ذكرْتُها : من أنَّ الشيئين المتلازمين يجوز أن يُخْبَرَ عنهما إخبارُ الواحدِ . ثم قال : " وإن قَدَّر الكافَ فمجيءُ الحالِ من المجرورِ بالإِضافةِ مثلَ هذا فيه إشكالٌ ، لاختلافِ العامل في الحالِ وذي الحال .
(1/3066)

وقد أجاز ذلك بعضُهم إذا كان المضافُ جزءاً أو كالجزءِ ، وحَسَّن ذلك أنَّ المقصودَ نهيُه هو عليه السلام . وإنما جِيْءَ بقوله : " عيناك " والمقصودُ هو لأنهما بهما تكونُ المراعاةُ للشخصِ والتلفُّتُ له " .
قلت : وقد ظهر لي وَجْهٌ حسنٌ لم أرَ غيري ذَكَرَه : وهو أن يكون " تَعْدُ " مُسنداً لضميرِ المخاطب صلى الله عليه وسلم ، و " عيناك " بدلٌ من الضميرِ بدلُ بعضٍ من كل . و " تُرِيدُ " على وَجهَيْها : مِنْ كونها حالاً مِنْ " عيناك " أو من الضمير في تَعُدْ . إلا أنَّ في جَعْلِها حالاً من الضمير في " ولا تَعْدُ " ضَعفاً : من حيث إنَّ مراعاةَ المبدلِ منه بعد ذِكْرِ البدلِ قليلٌ جداً تقول : " الجارية حسنُها فاتِنٌ " ولا يجوز " فاتنةٌ " إلا قليلاً ، كقولِه :
3145- فكأنَّه لِهقُ السَّراةِ كأنَّه ... ما حاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بسَوادِ
فقال : " مُعَيَّنٌ " مراعاةً للهاء في " كأنه " ، وكان الفصيحُ أن يقولَ : " مُعَيَّنان " مراعاةً لحاجبَيْه الذي هو البدلُ .
قوله : { أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ } العامَّة على إسنادِ الفعل ل " ن " و " قلبَه " مفعول به . وقرأ عمرو بن عبيد بن فائد وموسى الأسواري بفتح اللام ورفع " قلبُه " أَسْندوا الإِغفالَ إلى القلبِ . وفيه أوجهٌ . قال ابن جني : مَنْ ظَنَّنَا غافِلين عنه " . وقال الزمخشري : " مَنْ حَسِبْنا قلبُه غافلين ، مِنْ أَغْفَلْتُه إذا وَجَدْتَهُ غافلاً ، . وقال أبو البقاء : " فيه وجهان ، أحدُهما : وَجَدْنا قلبُه مُعْرِضين عنه . والثاني : أهملَ أَمْرَنا عن تَذَكُّرِنا " .
قوله : " فُرُطاً " يحتمل أَنْ يكون وصفاً/ على فُعُل كقولِهم : " فرسٌ فُرُطُ " ، أي : متقدِّمٌ على الخيل ، وكذلك هذا ، أي : متقدَّماً للحقِّ . وأن يكونَ مصدراً بمعنى التفريط أو الإِفراط . قال ابنُ عطية : " الفُرُطُ : يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتضييع ، أي : أمرَه الذي يجب أن يَلْزَم ، ويُحتمل أَنْ يكونَ بمعنى الإِفراط والإِسراف .
(1/3067)

وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
قوله : { وَقُلِ الحق } : يجوز فيه ثلاثة أوجه ، أحدُها : أنه خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ ، أي : هذا ، أي : القرآن ، أو ما سمعتم الحقُّ . الثاني " أنه فاعلٌ بفعلٍ مقدرٍ دَلَّ عليه السياقُ ، أي : جاء الحقُّ ، كما صَرَّح به في موضعٍ آخرَ ، إلاَّ أنَّ الفعلَ لا يُضمر إلا في مواضعَ تقدَّم التنبيهُ عليها ، منها : أَنْ يُجَابَ به استفهامٌ ، أو يُرَدَّ به نفيٌ ، أو يقعَ فعل مبنيّ للمفعول ، لا يَصْلُح إسنادُه لما بعده كقراءة { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو } كما سيأتي إنْ شاء الله تحقيقُه في موضعِه . الثالث : أنه مبتدأٌ وخبرُه الجارُّ بعده .
وقرأ أبو السَّمَّال قعنب : " وقُلُ الحقَّ " بضمِّ اللامِ حيث وقع ، كأنه إتباعٌ لحركةِ القاف . وقرأ أيضاً بنصب " الحقَّ " . قال صاحب " اللوامح " : " هو على صفةِ المصدرِ المقدَّر؛ لأن الفعلَ يَدُلُّ على مصدره وإن لم يُذْكَرْ ، فتنصِبُه معرفةً كما تنصِبُه نكرةً ، وتقديرُه : وقل القولَ الحقَّ وتُعَلَّقُ " مِنْ " بمضمرٍ على ذلك . أي : جاء مِنْ ربكم " انتهى .
وقرأ الحسن والثقفي بكسرِ لامَيْ الأمرِ في قوله : " فَلْيُؤْمِنْ " ، و " فَلْيَكْفُرْ " وهو الأصل .
قوله : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن } يجوز في " مَنْ " أن تكونَ شرطيةً ، وهو الظاهرُ ، وأَنْ تكونَ موصولةً ، والفاءُ لشَبَهِه بالشرط . وفاعلُ " شاء " الظاهرُ أنه ضميرٌ يعود على " مَنْ " . وقيل : ضميرٌ يعودُ على الله ، وبه فَسَّر ابنُ عباس ، والجمهورُ على خلافِه .
قوله : { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } في محلِّ نصبٍ صفةً ل " ناراً " . والسَّرادِقُ : قيل : ما أحاط بشيءٍ كالمَضْرِب والخِباء . وقيل للحائط المشتمل على شيء : سُرادِق . قاله الهَرَوِيُّ . وقيل : هو الحُجْرَةُ تكونُ حول الفُسْطاط . وقيل : هو ما يُمَدُّ على صحنِ الدار . وقيل : كلُّ بيتٍ من كُرْسُفِ فهو سُرادِق ، قال رؤبة :
3146- يا حَكَمُ بنَ المنذرِ بن الجارُوْدْ ... سُرادِقُ المجدِ عليك مَمْدودْ
ويُقال : بيت مُسَرْدَق . قال الشاعر :
3147- هو المُدْخِلُ النُّعْمانَ بيتاً سماؤُه ... صدورُ الفُيولِ بعد بيتٍ مُسَرْدَقِ
وكان أبرويز ملكُ الفرس قد قتل النعمان بن المنذر تحت أَرْجُلِ الفِيلة . والفُيول : جمع فِيل . وقيل : السُّرادق : الدِّهليز . قال الفرزدق :
3148- تَمَنَّيْتَهم حتى إذا ما لَقِيْتَهُمْ ... تركْتَ لهم قبلَ الضِّراب السُّرادقا
والسُّرادق : فارسيٌّ معرَّبٌ أصله : سرادَة ، قاله الجواليقي ، وقال الراغب : " فارسيٌّ معرَّبٌ ، وليس في كلامهم اسمٌ مفردٌ ، ثالثُ حروفِه ألفٌ بعدها حرفان " .
قوله : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ } ، أي : يَطْلُبوا العَوْنَ . والياءُ عن واوٍ ، إذ الأصل : يستَغْوِثوا ، فقُلبت الواو ياءً لتصريفٍ ذُكِر في الفاتحة عند قوله : { نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، وهذا الكلامُ من المشاكلةِ والتجانُسِ ، وإلا فأيُّ إغاثةٍ لهم في ذلك؟ أو من باب التهكُّم كقولِه :
3149- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . فَأُعْتِبُوا بالصَّيْلَمِ
(1/3068)

[ وكقولِه ] :
3150- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَحِيَّةُ بينِهم ضَرْبٌ وَجيعُ
وهو كثير .
و " كالمُهْلِ " صفةٌ ل " ماء " . والمُهْلُ : دُرْدِيُّ الزيت ، وقيل : ما أُذِيْب من الجواهر كالنُّحاس والرصاص . والمَهَل بفتحتين : التُّؤَدَة والوَقار . قال : { فَمَهِّلِ الكافرين } [ الطارق : 17 ] .
قوله : { يَشْوِي الوجوه } يجوزُ أَنْ تكونَ الجملةُ صفةً ثانيةً ، أن تكونَ حالاً مِنْ " ماء " لأنه تخصَّصَ بالوصف ، ويجوز أَنْ تكونَ حالاً من الجارِّ وهو الكاف .
والشَّيُّ : الإِنضاجُ بالنارِ من غيرِ مَرَقَةٍ تكون مع ذلك الشيءِ المَشْوِيَّ .
قوله : { بِئْسَ الشراب } المخصوصُ محذوفٌ تقديره : هو ، أي : ذلك الماءُ المستغاثُ به .
قوله : { وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } " ساءَتْ " هنا متصرفةٌ على بابها . وفاعلُها ضميرُ النار . ومُرْتَفَقَا تمييز منقولٌ من الفاعلية ، أي : ساء وقَبُحَ مُرْتَفَقُها . والمُرْتَفَقُ : المُتَّكأ . وقيل : المنزل ، وقيل : هو مصدرٌ بمعنى الارتفاق ، وهو من بابِ المقابلة أيضاً كقوله في وصفِ الجنة بعدُ : { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } [ الكهف : 31 ] ، وإلاَّ فأيُّ ارتفاقٍ في النار؟ قال الزمخشري : إلا أَنْ يكون من قوله :
3151- إني أَرِقْتُ فَبِتُّ الليلَ مُرْتَفِقا ... كأنَّ عَيْنِيَ فيها الصابُ مَذْبوحُ
يعني من باب التهكُّم .
(1/3069)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)
قوله : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ { إِنَّ الذين } والرابطُ : إمَّا تَكَرُّرُ الظاهرِ بمعناه ، وهو قولُ الأخفش . ومثلُه في الصلة / جائزٌ . ويجوز ان يكونَ الرابطُ محذوفاً ، أي : منهم ، ويجوز أن يكونَ الرابطُ العمومَ ، ويجوز أن يكونَ الخبرُ قولَه : { أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ } ، ويكونَ قولُه : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } اعتراضاً . قال ابن عطية : ونحوُه في الاعتراض قولُه :
3152- إنَّ الخليفةَ إنَّ اللهَ أَلْبَسَه ... سِرْبالَ مُلْكٍ به تُزْجى الخواتِيمُ
قال الشيخ : " ولا يتعيَّنُ أن يكونَ " إنَّ اللهَ ألبسَه " اعتراضاً لجوازِ أَنْ يكونَ خبراً عن " إنَّ الخليفة " . قلت : وابن عطيةَ لم يَجْعَلْ ذلك متعيِّناً بذلك هو نحوه في أحد الجائزين فيه . ويجوز أن تكون الجملتان - أعني قولَه { إِنَّا لاَ نُضِيعُ } وقولَه { أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ } - خَبَريْن ل " إنَّ " عند مَنْ يرى جوازَ ذلك ، أعني تعدُّدَ الخبر ، وإنْ لم يكونا في معنى خبرٍ واحد .
وقرأ الثقفيُّ " لا نُضَيِّع " بالتشديدِ ، عَدَّاه بالتشديد كما عَدَّاه الجمهورُ بالهمزة .
(1/3070)

أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
قوله : { مِنْ أَسَاوِرَ } : في " مِنْ " هذه أربعةُ أوجه ، أحدُها : أنَّها للابتداءِ . والثاني : أنها للتعيض . والثالث : أنها لبيان الجنسِ ، لأي : شيئاً مِنْ أساور . والرابع : أنها زائدةٌ عند الأخفش ، ويَدُلُّ عليه قولُه : { وحلوا أَسَاوِرَ } [ الإِنسان : 21 ] . ذكر هذه الثلاثةَ الأخيرةَ أبو البقاء .
وأساوِر جمع أَسْوِرة ، وأَسْوِرة جمعُ سِوار ، كحِمار وأَحْمِرة ، فهو جمعُ الجمع . جمع إسْوار . وأنشد :
3153- واللهِ لولا صِبْيَةٌ صِغارُ ... كأنَّما وجوهُهمْ أَقْمارُ
- أخافُ أَنْ يُصِيبهم إقتارُ ... أو لاطِمٌ ليسَ له إسْوارُ
- لمَّا رآني مَلِكٌ جَبَّارُ ... ببابِه ما طَلَعَ النَّهارُ
وقال أبو عبيدة : " هو جمعُ " إسوار " على حذف الزيادة ، وأصله أساوِيرْ .
وقرأ أبان بن عاصم " أَسْوِرة " جمعَ سِوار وستأتي إنْ شاء الله تعالى في الزخرف هاتان القراءتان في المتواتر ، وهناك أذكُر إن شاء الله تعالى الفرقَ .
والسَّوارُ يُجمع في القِلَّة على " أَسْوِرة " وفي الكثرة على " سُور " بسكون الواو ، وأصلُها كقُذُل وحُمُر ، وإنما سُكِّنَتْ لأجلِ حرفِ العلة . وقد يُضَمُّ في الضرورة ، وقال :
3154- عن مُبْرِقاتٍ بالبُرِيْنَ وتَبْ ... دُو في الأكفِّ اللامعاتِ سُوُرْ
وقال أهل اللغة : السَّوار ما جُعِلَ في الذِّراعِ مِنْ ذهبٍ أو فضة أو نُحاس ، فإن كان مِنْ عاج فهو قُلْبٌ .
قوله : { مِن ذَهَبٍ } يجوز أن تكونَ للبيان ، وأَنْ تكونَ للتبعيض . ويجوز أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ صفةً لأساوِر فموضعُه جر ، وأن تتعلَّقَ بنفس " يُحَلُّوْنَ " فموضعها نصب .
قوله : { وَيَلْبَسُونَ } عطفٌ على " يُحَلَّوْن " . وبُني الفعل في التحلية للمفعول إيذاناً بكرامتِهم ، وأنَّ غيرَهم يَفعل لهم ذلك ويُزَيِّنُهم به ، كقولِ امرئِ القيس .
3155- غرائرُ في كِنٍّ وصَوْنٍ ونَعْمةٍ ... يُحَلِّيْنَ ياقُوتاً وشَذْراً مُفَقَّراً
بخلافِ اللَّبس فإنَّ الإِنسان يتعاطاه بنفسه . وقُدِّم التحلِّي على الِّلباس لأنه أَشْهَى للنفسِ .
وقرأ أبان بن عاصم " وَيَلْبِسُونَ " بكسر الباء .
قوله : { مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } " مِنْ " لبيانِ الجنس وهي نعتٌ لثياب .
والسُّنْدُسُ : ما رَقَّ من الدِّيباج . والإِستبرق : ما غَلُظَ منه وهما جمعُ سُنْدُسة واسْتَبْرَقَة . وقيل : ليسا جمعَيْنِ . وهل " اسْتَبْرق " عربيُّ الأصلِ مشتق من البريق ، أو معرِّبٌ أصلُه استبره؟ خلافٌ بين اللغويين . وقيل : الإِستبرق اسم للحرير . وأنشد للمرقش :
3156- تراهُنَّ يَلْبِسْنَ المشاعِرَ مَرَّةً ... وإستبرقُ الديباجُ طَوْراً لِباسُها
وهو صالحٌ لِما تقدَّم . وقال ابنُ بحر : " الإِستبرق : ما نُسج بالذهب " .
ووَزْنُ سُنْدُس : فُعْلُل ونونُه أصلية .
وقرأ ابن محيصن " واسْتَبرقَ " بوصلِ الهمزة وفتح القافِ غيرَ منونة . فقال ابن جني : هذا سهوٌ أو كالسهوِ " . قلت : كأنه زعم أنَّه مَنَعه الصرفَ ولا وجهَ لمنعِه ، لأنَّ شرطَ مَنْعِ الاسمِ الأعجمي أَنْ يكونَ عَلَماً وهذا اسمُ جنسٍ . وقد وجَّهها غيرُه على أنه جَعَلَه فعلاً ماضياً من البريق ، واستَفْعَلَ بمعنى فَعَلَ المجرد نحو : قَرَّ واستقرَّ .
(1/3071)

وقال الأهوازيُّ في " الإِقناع " : " واستبرق بالوصلِ وفتحِ/ القاف حيث كان لا يَصْرِفُه " فظاهرُ هذا أنه اسمٌ ، وليس بفعلٍ وليس لمنعِه وجهٌ ، كما تقدَّم عن ابن جني ، وصاحب " اللوامح " لمَّا ذكر وَصْلَ الهمزةِ لم يَزِد على ذلك ، بل نَصَّ على بقائِه منصرفاً ولم يذكر فتح القاف أيضاً فقال : " ابن محيصن " واستبرق " يوصلِ الهمزة في جميع القرآن ، فيجوز أنه حذف الهمزةَ تخفيفاً على غيرِ قياسٍ ، ويجوز أنَّه جعله عربياً مِنْ بَرِق يَبْرُقُ بَرْيقاً ، ووزنُه استفعل ، فلمَّا سُمِّي به عامَلَه معاملَةَ الفعل في وَصْلِ الهمزةِ ، ومعاملةَ الممتكنةِ من الأسماء في الصرف والتنوين ، وأكثرُ التفاسيرِ على أنَّه عربية وليس بمستعربٍ ، دَخَل في كلامِهم فاعربوه " .
قوله : " مُتَّكئين " حال والأرائِكُ : جمعُ أَرِيْكَة وهي الأَسِرَّة بشرط أن تكونَ في الحِجالِ فإن لم تكنْ لم تُسَمَّ أَرْيْكَة . وقيل : الأرائِكُ : الفُرُش في الحَجال أيضاً . وقال الارغب : " الأَرِيْكة : حَجَلَةٌ على سريرٍ ، وتسميتها بذلك : إمَّا لكونِها في الأرض مُتَّخَذَةً مِنْ أَراك ، أو مِنْ كونها مكاناً للإِقامة من قولهم : أَرَك بالمكان أُرُوكاً ، وأصل الأُروك الإِقامةُ على رَعْيِ الأَراكِ ، ثم تُجُوِّز به في غيره من الإِقامات " .
وقرأ ابن محيصن : " عَلَّرَائك " وذلك : أنَّه نَقَل حركةَ الهمزةِ إلى لامِ التعريف فالتقى مِثْلان : لامُ " على " - فإنَّ ألفها حُذفَتْ لالتقاءِ الساكنين- ولامُ التعريف ، واعتدَّ بحركة النقل فأدغم اللامَ في اللامِ ، فصار اللفظُ كما ترى ، ومثلُه قولُ الشاعر :
3157- فما أصبحَتْ عَلَّرْضِ نَفْسٌ بريئةٌ ... ولا غيرُها إلا سليمانُ نالها
يريد " على الأرض " . وقد تقدَّم قراءةٌ قريبةٌ مِنْ هذه أولَ البقرة : بما أُنْزِلَّيْكَ " ، أي : أُنْزِلَ إليك .
(1/3072)

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)
قوله : { رَّجُلَيْنِ } : قد تقدَّم أنَّ " ضَرَبَ " مع المَثَلِ ، يجوز أن يتعدَّى لاثنين في سورةِ البقرة . وقال أبو البقاء : التقدير : مثلاً مَثَل رجلين ، و " جَعَلْنَا " تفسيرٌ ل " مَثَل " فلا موضعَ له ، ويجوز أن يكونَ موضعُه نصباً نعتاً ل " رَجُلِيْن " كقولك : مررت برجلين جُعِلَ لأحدِهما جنةٌ " .
قوله : { وَحَفَفْنَاهُمَا } يقال : حَفَّ بالشيءِ : طاف به من جميع جوانبِه ، قال النابغة :
3158- يَحُفُّه جانِباً نِيْقٍ وتُتْبِعُهُ ... مِثلَ الزجاجة لم تُكْحَلْ مِن الرَّمَدِ
وحَفَّ به القومُ : صاروا طائفين بجوانبِه وحافَّته ، وحَفَفْتُه به ، أي : جَعَلْتُه مُطِيْفاً به .
(1/3073)

كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33)
قوله : { كِلْتَا } : قد تقدَّم في السورة قبلها حكمُ " كلتا " وهي مبتدأ ، و " آتَتْ " خبرُها . وجاء هنا على الكثير : وهو مراعاةُ لفظِها دونَ معناها .
وقرأ عبد الله - وكذلك هي في مصحفِه - " كلا الجَنَّتين " بالتذكير لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ . ثم قرأ " آتَتْ " بالتأنيث اعتباراً بلفظ " الجنتين " فهو نظيرُ " طَلَعَ الشمسُ وأشرقَتْ " وروى الفراء عنه قراءةً أخرى : " كلُّ الجنتين آتى أُكُلَه " أعادَ الضميرَ على لفظِه .
قوله : " وفجَّرْنا " العامَّةُ على التشديد وإنما كان كذلك ، وهو نهر واحد مبالغةٌ فيه . وقرأ يعقوب وعيسى بن عمر بالتخفيفِ وهي قراءةُ الأعمش في سورة القمر ، والتشديدُ هناك أظهرُ لقولِه " عيوناً " .
والعامَّةُ على فتحِ هاء " نَهَر " وأبو السَّمال والفياض بسكونها .
(1/3074)

وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)
قوله : { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } : قد تقدَّم الكلامُ فيه في الأنعام مستوفى ، وتقدَّم أنَّ " الثُّمُرَ " بالضم المالُ . فقال ابنُ عباس : جميع المال مِنْ ذهبٍ وفِضَّةٍ وحيوانٍ وغير ذلك . قال النابغة :
3159- مَهْلاً فداءً لك الأقوامُ كلُّهمُ ... وما أُثَمِّرُ مِنْ مالٍ ومِنْ وَلَدِ
وقيل : هو الذهب والفضة خاصةٍ .
وقرأ أبو رجاء " بِثَمْرِه " بفتحة وسكون .
قوله : " وهو يحاوِرُه " جملةٌ حالية مُبَيِّنة إذ لا يَلْزَمُ مِنَ القولِ المحاوَرَةُ؛ إذ المحاوَرَةُ مراجعةُ الكلام مِنْ حار ، أي : رَجَعَ ، قال تعالى : { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } [ الانشقاق : 14 ] . وقال امرؤ القيس :
3160- وما المرءُ إلا كالشِّهابِ وضَوئِه ... يَحُوْرُ رَماداً بعد إذ هُوَ ساطِعُ
ويجوز أَنْ تكونَ حالاً مِنَ الفاعل أو من المفعول .
(1/3075)

وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35)
قوله : { جَنَّتَهُ } : / إنما أفرد بعد ذِكْرِ التثنية اكتفاءً بالواحدِ للعِلْمِ بالحال . قال أبو البقاء : " كما اكْتُفِيَ بالواحدِ عن الجمعِ في قولِ الهُذَليّ :
3161- فالعينُ بعدَهُمُ كأنَّ حِداقَها ... سُمِلَتْ بشَوْكٍ فَهْيَ عُورٌ تَدْمَعُ
ولقائلٍ أن يقول : إنما جاز ذلك لأنَّ جمعَ التكسيرِ يجري مَجْرى المؤنثة ، فالضمير في " سُمِلَتْ " وفي " فهي " يعود على الحِداق لا على حَدَقة واحدة كما تَوَهَّم .
وقال الزمخشري : " فإن قلت : لِمَ أَفْرَدَ الجنَّة بعد التثنية؟ قلت : معناه : ودخل ما هو جنتُه ، ماله جنةٌ غيرُها ، بمعنى : أنَّه ليس له نصيبٌ في الجنة التي وُعِدَ المتقون . فما ملكه في الدنيا هو جَنَّته لا غير ، ولم يَقْصِدْ الجنتين ولا واحدةً منهما " .
قال الشيخ : " ولا يُتَصَوَّر ما قال؛ لأنَّ قوله : " ودخل جَنَّته " إخبارٌ من الله تعالى بأنَّ هذا الكافرَ دَخَلَ جَنَّته فلا بُدَّ أَنْ قَصَدَ في الإِخبار أنَّه دَخَلَ إحدى جنتيه إذ لا يمكن أَنْ يَدْخُلَهما معاً في وقتٍ واحد : " . قلت : ومتى أدَّعَى دخولهما في وقتٍ واحدٍ يُلْزِمَه بهذا المستحيل في البداية . وأمَّا قوله " ولم يَقْصِدِ الجنتين ولا واحدةً " معناه لم يَقْصِدْ تعيينَ مفردٍ ولا مثنى لا أنه لم يَقْصِدْ الإِخبارَ بالدخول " .
وقال أبو البقاء : " إنما أفْرَدَ لأنهما جميعاً مِلْكُه فصارا كالشيء الواحد " .
قوله : " وهو ظالمٌ " حالٌ مِنْ فاعل " دَخَلَ " ، و " لنفسِه " مفعولُ " ظالمٌ " واللام مزيدةٌ فيه لكونِ العامل فرعاً .
" قال له صاحبُه " يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في " ظالم " ، أي : وهو ظالمٌ في حالِ كونِه قائلاً ، ويجوز أن يكونَ مستأنفاً بياناً لسبب الظلمِ ، وهو الأحسن .
قوله : " أَنْ تبيد " ، أي : تَهْلَكَ ، قال :
3162- فَلَئِنْ باد أهلُه ... لبِما كان يُوْهَلُ
ويقال : باد يبيدُ بُيُوداً وبَيْدٌودة ، مثل " كَيْنُونة " والعملُ فيها معروفٌ وهو أنه حُذِفَت إحدى الياءين ، ووزنُها فَيْعَلُولة .
(1/3076)

وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)
قوله : { خَيْراً مِّنْهَا } : قرأ أبو عمروٍ والكوفيون " منها " بالإِفراد نظراً إلى أقربِ مذكورٍ ، وهو قولُه : " جَنَّته " وهي في مصاحفِ العراق دونَ ميمٍ . والباقون " منهما " بالتثنية نظراً إلى الأصل في قوله : " جَنَّتَيْن " و " كِلْتَا الجنتين " ورُسِمَتْ في مصاحف الحرمين والشام بالميم ، فكلُّ قد وافق رَسْمَ مصحفِه " .
(1/3077)

قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)
قوله : { مِن نُّطْفَةٍ } : النُّطْفَةُ في الأصل : القطرةُ من الماء الصافي يقال : نَطَف يَنْطِف ، أي : قَطَر يَقْطُر . وفي الحديث : " فخرجَ ورأسُه يَنْطِفُ " وفي رواية : يَقْطُر ، وهي مفسِّرةٌ ، وأُطْلِق على المَنِّيِّ " نُطْفَةٌ " تشبيهاً بذلك .
قوله : " رَجُلاً " فيه وجهان ، أحدهما : أنه حال ، وجاز ذلك وإنْ [ كان ] غير منتقلٍ ولا مشتقٍ لأنه جاء بعد " سَوَّاك " إذ كان مِنَ الجائز أَنْ يُسَوِّيَه غيرَ رجلٍ وهو كقولِهم : " خَلَقَ اللهُ الزَّرافةَ يَدَيْها أطولَ من رجليها " وقول الآخر :
3163- فجائت به سَبْطَ العظام كأنما ... عِمامتُه بين الرِّجالِ لواءُ
والثاني : أنه مفعولٌ ثانٍ ل " سَوَّاك " لتضمُّنِه معنى صَيَّرك وجعلك ، وهو ظاهرُ قول الحوفي .
(1/3078)

لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38)
قوله : { لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي } : قرأ ابنُ عامر بإثباتِ الألفِ وَصْلاً ووَقْفاً ، والباقون بحذفِها وصلاً وبإثباتها وقفاً . فالوَقْفُ وِفاقٌ .
والأصلُ في هذه الكلمةِ " " لكنْ أنا " فَنَقَلَ حركةَ همزةِ " أنا " إلى نون " لكن " وحَذَفَ الهمزةَ ، فالتقى مِثْلان فأدغم . وهذا أحسنُ الوجهين في تخريجِ هذا . وقيل : حَذَفَ همزةَ " أنا " اعتباطاً فالتقى المِثْلان فَأَدْغَمَ ، وليس بشيءٍ لجَرْيِ الأولِ على القواعدِ ، فالجماعةُ جَرَوْا على مُقْتَضَى قواعدِهم في حَذْفِ اَلِفِ " أنا " وَصْلاً وإثباتِها وَقْفاً ، وكان تقدَّم لك : أنَّ نافعاً يُثْبت ألفَه وَصْلاً قبلَ همزةٍ مضمومةٍ أو مكسورة أو مفتوحة بتفصيلٍ مذكورٍ في البقرة ، وهنا لم يُصادِفْ همزةً ، فهو علىأصلِه أيضاً ، ولو أثبتَ الألفَ هنا لكان أقربَ مِنْ إثباتِ غيرِه لأنه أثبتها في الوصلِ في الجملةِ .
وأمَّا ابنُ عامرٍ ، فإنه خَرَجَ عن أصلِه في الجملة؛ إذ ليس من مذهبهِ إثباتُ/ هذه الألفِ وَصْلاً في موضعٍ ما ، وإنما اتُّبَعَ الرسمَ . وقد تقدَّم أنها لغةُ تميمٍِ أيضاً .
وإعرابُ ذلك : أن يكونَ " أنا " مبتدأ و " هو " مبتدأ ثانٍ ، و " هو " ضمير الشأن ، و " اللهُ " مبتدأ ثالث . و " ربي " خبر الثالث ، والثالث وخبره خبرُ الثاني ، والثاني وخبرُه خبر الأول . والرابطُ بين الأولِ وبين خبرِه الياءُ في " ربي " . ويجوز أَنْ تكونَ الجلالةُ بدلاً مِنْ " هو " أو نعتاً أو بياناً إذا جُعِلَ " هو " عائداً على ما تقدَّمَ مِنْ قولِه { بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ } لا على أنَّه ضميرُ الشأنِ ، وإن كان أبو البقاء أطلق ذلك ، وليس بالبيِّن . ويجوز أَنْ يكونَ " هو " مبتدأً ، ومابعده خبرُه ، وهو خبرُه خبرُ " لكنَّ " . ويجوز أَنْ يكونَ تأكيداً للاسم ، وأَنْ يكونَ فصلاً . ولا يجوزُ أَنْ يكونَ ضميرَ شأنٍ ، لأنه حينئذٍ لا عائدَ على اسمِ " لكنَّ " من هذه الجملةِ الواقعةِ خبراً .
وقرأ أبو عمروٍ " لكنَّهْ " بهاءِ السكت وقفاً؛ لأن القَصْدَ بيانُ حركةِ نون " أنا " ، قتارةً تُبَيِّنُ بالألفِ وتارةً بهاءِ السكتِ . وعن حاتم الطائي : " هكذا فَرْدِي أَنَهْ " .
وقال ابنُ عطية عن أبي عمرو : " رَوَى عنه هارون " لكنَّه هو الله " بضمير لَحِقَ " لكن " . قلت : فظاهر هذا أنه ليس بهاءِ السكتِ ، بل تكون الهاءُ ضميراً اسماً ل " لكن " وما بعدها الخبرُ . وخَرَّجه الفارسيُّ على وجهٍ غريبٍ : وهو أَنْ تكونَ " لكنَّا " لكنَّ واسمَها وهو " ن " ، والأصل : " لكنَّنا " فحذف إحدى النونات نحو : { إِنَّا نَحْنُ } وكان حقُّ التركيبِ أن يكون " ربنا " ، " ولا نُشرك بربِّنا " قال : " ولكنه اعتبر المعنى فأفرد " .
(1/3079)

وهو غريب جداً .
وأمَّا في قراءةِ العامَّة : فلا يجوزُ أَنْ تكونَ " لكنَّ " مشددةً عاملةً لوقوعِ الضمير بعدها بصيغةِ المرفوع .
وقرأ عبدُ الله " لكنْ أنا هو " على الأصلِ من غير نَقْلٍ ولا إدغامٍ . ورَوَى عنه ابن خالويه " لكنْ هو الله " بغير " أنا " . وقرئ أيضاً " لكنَنَا " .
وقال الزمخشري : وحَسَّن ذلك -يعني إثباتَ الأفِ في الوصلِ- وقوعُ الألفِ عوضاً مِنْ حَذْفِ الهمزةِ " . [ وقال : ] " ونحوُه -يعني إدغامَ نون " لكن " في نون " ن " بعد حَذْفِ الهمزةِ - قولُ القائل :
3164- وتَرْمِيْنَنِيْ بالطَّرْفِ أَيْ أنت مُذْنِبٌ ... وتَقْلِيْنني لكنَّ إياكِ لا أَقْلِيْ
الأصل : لكنَّ أنا ، فَنَقَلَ وحَذَفَ وأَدْغم . قال الشيخ : " ولا يتعيَّنُ ما قاله في البيت لجوازِ أَنْ يكونَ حَذَفَ اسمَ " لكنَّ " ، وحَذْفُه لدليلٍ كثيرٌ ، وعليه :
3165- فلو كنتَ ضَبِّيّاً عَرَفْتَ قَرابتي ... ولكنَّ زَنْجِيُّ عظيمُ المَشافِرِ
أي : ولكنَّك ، وكذا هنا : ولكنَني إياك " . قلت : لم يَدَّعِ الزمخشريُّ تعيُّنَ ذلك في البيت حتى يَرُدَّ عليه بما ذكره .
ويَقْرُبُ مِنْ هذا ما خَرَّجه البصريون في بيتٍ استدل به الكوفيون عليهم في جوازِ دخولِ لامِ الابتداء في خبر " لكنَّ " وهو :
3166- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولكنَّني مِنْ حُبِّها لَعَمِيْدُ
فأدخل اللامَ في خبر " لكنَّ " . وَخَرَّجه البصريون على أن الأصل : ولكنْ إني مِنْ حُبِّها ، ثم نَقَلَ حركةَ همزةِ " إنِّي " إلى نون " لكن " بعد حذف الهمزة ، وأَدْغَمَ على ما تقدَّم ، فلم تدخلِ اللامُ إلا في خبر " إنَّ " ، هذا على تقديرِ تسليمِ صحةِ الروايةِ ، وإلا فقالوا : إنَّ البيتَ مصنوعٌ ، ولا يُعرف له قائلٌ .
والاستدراكُ مِنْ قوله " أكفرْتَ " ، كأنَّه قال لأخيه : أنت كافرٌ؛ لأنه استفهامُ تقريرٍ ، لكنني أنا مؤمنٌ نحو قولِك : " زيدٌ غائبٌ لكنَّ عمراً حاضرٌ " لأنه قد يُتَوَهَّمُ غَيْبَةُ عمروٍ أيضاً .
(1/3080)

وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39)
قوله : { ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ } : " لولا " تحضيضة داخلةٌ على " قلتَ " و " إذا دَخَلْتَ " منصوبٌ ب " قلتَ " فُصِلَ به بين " لولا " وما دَخَلَتْ عليه ، ولم يُبالَ بذلك لأنه ليس بأجنبي ، وقد عَرَفْتَ أنَّ حرف التحضيض إذا دخل على الماضي كان للتوبيخ .
قوله : { مَا شَآءَ الله } يجوزُ في " ما " وجهان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ شرطيةً ، فتكونَ في محلِّ نصبٍ مفعولاً مقدماً وجوباً ب " شاء " أي : أيَّ شيءٍ شاء اللهُ . والجواب محذوف ، أي : ما شاء الله كان ووقَعَ . والثاني : أنها موصولةٌ بمعنى الذي ، وفيها حينئذٍ وجهان ، أحدهما : أن تكونَ مبتدأةً ، وخبرُها محذوفٌ ، أي : الذي شاءه اللهُ كائنٌ وواقعٌ . والثاني : أنها خبرُ مبتدأ مضمرٍ تقديرُه : الأمرُ الذي شاءه الله . وعلى كلِّ تقديرٍ : فهذه الجملة في محلِّ نصب بالقول .
قوله : { إِلاَّ بالله } خبرُ " لا " التبرئةِ ، والجملةُ أيضاً منصوبةٌ بالقولِ ، أي : لولا قُلْتَ هاتين الجملتين .
قوله : { إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ } يجوز في " أنا " وجهان . أحدُهما : أنْ يكونَ مؤكِّداً لياء المتكلم . والثاني : أنه ضميرُ الفصلِ بين المفعولين . و " أَقَلَّ " مفعولٌ ثانٍ أو حالٌ بحسبِ الوجهين في الرؤية : هل هي بَصَريةٌ أو عِلْمِيةٌ؟ إلا أنَّك إذا جعلتَها بَصَريةً تعيَّن في " أنا " أَنْ تكونَ توكيداً لا فصلاً؛ لأنَّ شرطَه أَنْ يقع بين مبتدأ وخبرٍ ، أو ما أصلُه المبتدأُ والخبرُ .
وقرأ عيسى بن عمرَ " أَقَلَّ " بالرفع ، ويَتَعَيَّن أن يكونَ " أنا " مبتدأ ، و " أقلُّ " خبرُه . والجملةُ : إمَّا في موضعِ المفعولِ الثاني ، وإمَّا في موضع الحال على ما تقدَّم في الرؤية .
و { مَالاً وَوَلَداً } تمييز . وجوابُ الشرطِ قولُه { فعسى رَبِّي } .
(1/3081)

فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)
قوله : { حُسْبَاناً } : الحُسْبانُ/ مصدرُ حَسَب الشيءَ يَحْسُبه ، أي : أَحْصاه . قال الزجاج : " أي عذابَ حُسْبان ، أي : حسابَ ما كسبت يداك " . وهو حسن . وقال الراغب : " قيل : معناه ناراً وعذاباً ، وإنما هو في الحقيقة ما يُحاسَبُ عليه فيُجَازَى بحَسَبِه " وهذا موافقٌ لِما قاله أبو إسحاق ، والزمخشري نحا إليه أيضاً ، فقال : " والحُسْبانُ مصدرٌ كالغُفْرانِ والبُطْلانِ بمعنى الحِساب ، أي : مقداراً حَسَبه الله وقَدَّرَه ، وهو الحُكْمُ بتخريبِها " . وقيل : هو جمع حُسْبانة وهي السَّهْمُ . وفي التفسير : أنها قِطَعٌ مِنْ نارٍ . وفيه : هي الصواعِقُ .
(1/3082)

أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
قوله : { أَوْ يُصْبِحَ } : عطفٌ على " يُرْسِلَ " قال الشيخ : " و " أو يُصْبِحَ " عطفٌ على قوله : " ويُرْسِلَ " لأنَّ غُؤُوْرَ الماءِ لا يَتَسَبَّبُ عن الآفةِ السماويةِ ، إلا إنْ عَنَى بالحُسْبانِ القضاءَ الإِلهيَّ ، فحينئذٍ يتسَبَّبُ عنه إصباحُ الجنة صعيداً زَلَقاً ، أو إصباحُ مائِها غَوْراً .
والزَّلَقُ والغَوْرُ في الأصلِ : مصدران وُصِف بهما مبالغةً .
والعامَّة على فتحِ الغين . غار الماءُ يغورُ غَوْراً ، غاض وذهب في الأرض . وقرأ البرجميُّ بضمِّ الغين لغةً في المصدر . وقرأتْ طائفةٌ " غُؤْوراً " بضمِّ الغينِ والهمزةِ وواوٍ ساكنة . وهو مصدرٌ أيضاً يُقال : غار الماءُ غُؤْوراً مثل : جَلَسَ جُلوساً .
(1/3083)

وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42)
قوله : { يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } : قُرئ " تَقَلَّبُ كَفَّاه " ، أي : تتقلَّب كفَّاه . و " أصبح " : يجوزُ أَنْ تكونَ على بابِها ، وأَنْ تكونَ بمعنى صار ، وهذا كنايةٌ عن الندمِ لأنَّ النادمَ يَفْعل ذلك .
قوله : { عَلَى مَآ أَنْفَقَ } يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب " يُقَلِّب " ، وإنما عُدِّيَ ب " على " لأنَّه ضُمِّن معنى يَنْدَمُ .
وقوله : " فيها " ، أي : في عِمارتها . ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ فاعلِ " يُقَلَّبُ " ، أي : مُتَحَسِّراً . كذا قَدَّره أبو البقاء . وهو تفسيرُ معنى . والتقديرُ الصناعيُّ إنما هو كونٌ مطلقٌ .
قوله : " ويقولُ " يجوز أَنْ يكونَ معطوفاً على " يُقَلَّبُ " ، ويجوز أَنْ يكونَ حالاً .
(1/3084)

وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43)
قوله : { وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ } : قرأ الأخَوان " يَكُنْ " بالياء مِنْ تحتُ . والباقون مِنْ فوقُ ، وهما واضحتان؛ إذ التأنيثُ مجازيٌّ ، وحَسَّن التذكيرَ الفصلُ .
قوله : " يَنْصُرُونه " يجوزُ أَنْ تكونَ هذه الجملةُ خبراً وهو الظاهرُ ، وأَنْ تكونَ حالية ، والخبرُ الجارُّ المتقدِّمُ ، وسوَّغ مجيءَ الحالِ من النكرة تقدُّمُ النفيِ . ويجوز أَنْ تكونَ صفةً ل " فئة " إذا جَعَلْنا الخبرَ الجارَّ .
وقال : " يَنْصُرونه " حَمْلاً على معنى " فِئَة " لأنهم في قوةِ القوم والناس ، ولو حُمِل على لفظِها لأُفْرِد كقولِه تعالى : { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ } [ آل عمران : 13 ] .
وقرأ ابن أبي عبلة : " تَنْصُرُه " على اللفظ . قال أبو البقاء : " ولو كان " تَنْصُره " لكان على اللفظ " . قلت : قد قرئ بذلك كما عَرَفْتَ .
(1/3085)

هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
قوله : { هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ } : يجوز أَنْ يكونَ الكلامُ تَمَّ على قوله " منتصراً " وهذه جملةٌ منقطعةٌ عمَّا قبلَها ، وعلى هذا فيجوز في الكلامِ أوجهٌ ، أحدُها : أَنْ يكونَ " هنالك الوَلايةُ " مقدَّراً بجملةٍ فعليةٍ ، فالولايةُ فاعلٌ بالظرف قبلها ، أي : استقرَّتِ الولايةُ لله ، و " لله " متعلقٌ بالاستقرار ، أو بنفسِ الظرفِ لقيامِه مَقامَ العاملِ أو بنفسِ الوَلاية ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " الولاية " ، وهذا إنما يتأتَّى على رَأْيِ الأخفش من حيث إنَّ الظرفَ يرفعُ الفاعلَ مِنْ غيرِ اعتماد .
والثاني : أَنْ يكونَ " هنالك " منصوباً على الظرف متعلقاً بخبر " الولاية " وهو " لله " أو بما تعلَّق به " لله " أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ منها ، والعاملُ الاستقرار في " لله " عند مَنْ يُجيز تقدُّمَ الحالِ على عاملِها المعنويِّ ، أو يتعلَّق بنفس " الولاية " .
والثالث : أَنْ يُجْعَلَ " هنالك " هو الخبر ، و " لله " فَضْلةٌ ، والعاملُ فيه ما تقدَّم في الوجه الأول .
ويجوز أن يكونَ " هنالك " مِنْ تتمة ما قبلها فلم يَتِمَّ الكلامُ دونَه ، وهو معمولٌ ل " منتصِراً " ، أي : وما كان منتصراً في الدار الآخرة ، و " هنالك " إشارةٌ إليها . وإليه نحا أبو إسحاق . وعلى هذا فيكون الوقفُ على " هنالِك " تامَّاً ، والابتداءُ بقولِه " الوَلايةُ لله " فتكونُ جملةً مِنْ مبتدأ وخبر .
والظاهرُ في " هنالك " : أنَّه على موضوعِه مِنْ ظرفيةِ المكان كما تقدَّم معناه . وتقدَّم أنَّ الأَخَوين يَقْرآن " الوِلاية " بالكسرِ ، والفرقُ بينها وبين قراءةِ الباقين بالفتح في سورة الأنفال فلا معنى لإِعادتِه .
وحُكي عن أبي عمروٍ والأصمعيِّ أنَّ كسرَ الواوِ هنا لحنٌ . قالا : لأنَّ فِعالة إنما تجيءُ فيما كان صنعةً أو معنى متقلداً ، وليس هناك تَوَلِّي أمورٍ .
قوله : " الحق " قرأ أبو عمروٍ والكسائيُّ برفع " الحقُّ " والباقون بجرِّه ، والرفعُ ، من ثلاثةِ أوجهٍ ، أحدُها : أنه صفةٌ للوَلاية . الثاني : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هو ، أي : ما أَوْحيناه إليك . الثالث : أنه مبتدأٌ ، وخبرُه مضمرٌ ، أي : الحقُّ ذلك . وهو ما قُلْناه .
والجرُّ على أنه صفةٌ للجلالةِ الكريمة .
وقرأ زيدُ بن علي وأبو حيوة وعمرو بن عبيد ويعقوب " الحقَّ " نصباً على المصدرِ المؤكِّد لمضمونِ الجملة كقولك : هذا عبدُ اللهِ الحقَّ لا الباطلَ " .
قوله : " عُقباً " عاصمٌ وحمزةُ بسكونِ القافِ ، والباقون بضمها . فقيل : لغتان كالقُدُس والقُدْس . وقيل : الأصل الضمُّ ، والسكونُ تخفيفٌ . وقيل : بالعكس كالعُسْر واليُسْر ، وهو عكسُ معهودِ اللغةِ . ونصبُها ونصبُ " ثواباً " و " أملاً " على التمييز لأفعل التفضيل قبلها . ونقل الزمخشري أنه قُرئ " عُقْبى " بالألف وهي مصدرٌ أيضاً كبُشْرى ، وتُروى عن عاصم .
(1/3086)

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)
قوله : { كَمَآءٍ } : فيه ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أن تكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ ، فقدَّره ابنُ عطية هي : أي : الحياة الدنيا . والثاني : أنه متعلقٌ بمعنى المصدر ، أي : ضرباً كماء . قاله الحوفي . وهذا بناءً منهما على أن " ضَرَب " هذه متعديةٌ لواحدٍ فقط . والثالث : أنه في موضعِ المفعول الثاني ل " اضْرِبْ " لأنها بمعنى صَيَّرَ . وقد تقدَّم .
قال الشيخ بعدما نقل قولَيْ ابن عطية والحوفي : " وأقولُ : إنَّ " كماء " في موضعِ المفعولِ الثاني لقولِه " واضربْ " ، أي : وصَيِّرْ لهم مَثَلَ الحياة ، أي : صفتَها شبهَ ماء " . قلت : وهذا قد سبقه إليه أبو البقاء .
و " أَنْزَلَناه " صفةٌ ل " ماء " .
قوله : { فاختلط بِهِ } يجوز في هذه الباءِ وجهان أحدهما : أن تكونَ سببيةً . الثاني : أَنْ تكونَ معدِّية . قاله الزمخشري : " فالتفَّ بسببِه وتكاثف حتى خالط بعضُه بعضاً . وقيل : نَجَعَ الماءُ في النبات حتى رَوِيَ ورَفَّ رَفِيْفاً . وكان حقُّ اللفظِ على هذا التفسيرِ : فاختلط بنباتِ الأرضِ . ووجه صحتِه : أنَّ كلَّ مختلطَيْنِ موصوفٌ كلُّ واحدٍ منهما بصفةِ الآخرَ " .
قوله : { فَأَصْبَحَ هَشِيماً } " أصبح " يجوزُ أَنْ تكونَ على بابِها؛ فإنَّ أكثرَ ما يَطْرُقُ مِن الآفاتِ صباحاً ، كقولِه : { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ } [ الكهف : 42 ] ويجوز أَنْ تكونَ بمعنى صار مِنْ غير تقيُّدٍ بصَباحٍ كقوله :
3167- أَصْبَحْتُ لا أَحْمِلُ السلاحَ ولا ... اَمْلِكُ رَأْسَ البعيرِ إنْ نَفَرا
والهَشِيمُ : واحدُه هَشِيْمَة وهو اليابس . وقال الزجاج وابن قتيبة : كل ما كان رطباً فَيَبِسَ . ومنه { كَهَشِيمِ المحتظر } [ القمر : 31 ] . ومنه : هَشَمْتُ الفتَّ . ويقال : هَشَمَ الثَّريدَ : إذا فَتَّه .
قوله : " تَذْرُوْه " صفةٌ ل " هَشيماً " والذَّرْوُ : التفريقُ ، وقيل : الرفْعُ .
قوله : " تَذَرُوْه " بالواو . وقرأ عبد الله " تَذْرِيه " من الذَّرْي ، ففي لامه لغتان : الواوُ والياءُ . وقرأ ابنُ عباس " تُذْرِيه " بضم التاء من الإِذْراء . وهذه تحتمل أَنْ تكونَ من الذَّروِ وأَنْ تكونَ من الذَّرْيِ . والعامَّةُ على " الرياح " جمعاً . وزيد بن علي والحسن والنخعي في آخرين " الرِّيحُ " بالإِفراد .
(1/3087)

الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
قوله : { زِينَةُ الحياة } : إنما افرد " زينة " وإن كانت خبراً عن بَنِين لأنَّها مصدرٌ ، فالتقدير : ذوا زِيْنة ، إذ جُعلا نفسَ المصدر مبالغةً؛ إذ بهما تَحْصُلُ الزينة ، أو بمعنى مُزَيِّنَتَيْنِ . وقرئ شاذاً " زينتا الحياة " على التثنية ، وسقطت ألفها لفظاً لالتقاء الساكنين فَيُتَوَهَّمُ أنه قرئ بنصب " زينة الحياة " .
(1/3088)

وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47)
قوله : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ } : " يومَ " منصوبٌ بقولٍ مضمرٍ بعده تقديرُه : نقول لهم نُسَيِّر الجبال : لقد جِئْتمونا . وقيل : بإضمار اذكر . وقيل : هو معطوفٌ على " عند ربك " فيكونُ معمولاً لقولِه " خيرٌ " .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضمِّ التاء وفتح الياء مبنياً للمفعول . " الجبالُ " بالرفع لقيامِه مَقامَ الفاعل ، وحَذَفَ الفاعلَ للعِلْمِ به وهو الله ، أو مَنْ يأمرُه من الملائكة . وهذه القراءةُ موافقةٌ لِما اتُّفق عليه في قوله { وَسُيِّرَتِ الجبال } [ النبأ : 20 ] ، ويؤيِّدها قراءةُ عبدِ الله هنا { وَسُيِّرَتِ الجبال } فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول .
والباقون " نُسَيِّر " بنون العظمة ، والياءُ مكسورةٌ مِنْ " سَيَّر " بالتشديد؛ " الجبالَ " بالنصب على المفعول به ، وهذه القراءةُ مناسِبةٌ لِما بعدها مِنْ قولِه { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ } .
وقأ الحسنُ كقراءةِ/ ابنِ كثير ومَنْ ذُكِرَ معه إلا أنه بالياءِ مِنْ تحتُ لأنَّ التأنيثَ مجازيٌّ . وقرأ ابن محيصن ، ورواها محبوبٌ عن أبي عمرو : " تَسِيْر " بفتحِ التاءِ من فوقُ ساكن الياء مِنْ سارَتْ تسيرُ ، و " الجبالُ " بالرفع على الفاعليةِ .
قوله : { وَتَرَى الأرض بَارِزَةً } " بارزةً " حالٌ؛ إذ الرؤيةُ بَصَريةٌ . وقرأ عيسى " وتُرى الأرضُ " مبنياً للمفعول ، و " الأرضُ " قائمةٌ مقامَ الفاعل .
قوله : " وحَشَرْناهم " فيه ثلاثة أوجه ، أحدها : أنه ماضٍ مُرادٌ به ، المستقبلُ ، أي : ونَحْشُرهم ، وكذلك { وَعُرِضُواْ } [ الكهف : 48 ] { وَوُضِعَ الكتاب } [ الكهف : 49 ] . والثاني : أن تكونَ الواوُ للحالِ ، والجملةُ في محلِّ النصب ، أي : نفعل التسييرَ في حال حَشْرِهم ليشاهدوا تلك الأهوالَ . والثالث : قال الزمخشري : " فإن قلتَ : لِمَ جِيْءَ ب " حَشَرْناهم " ماضياً بعد " نُسَيِّر " و " تَرَى "؟ قلت : للدلالة على أنَّ حَشْرَهم قبل التَّسْييرِ وقبل البروزِ ليعاينوا تلك الأهوالَ العِظامَ ، كأنه قيل : وحَشَرناهم قبل ذلك " .
قال الشيخ : " والأَوْلَى أَنْ تكونَ الواوُ للحال " فَذَكَرَ نحواً ممَّا قدَّمْتُه .
قوله : " فلم نغادِر " عطفٌ على " حَشَرْناهم " فإنه ماضٍ معنى . والمغادَرَةُ هنا : بمعن الغَذْر وهو الترك ، أي : فلم نتركْ . والمفاعلةُ هنا ليس فيها مشاركةٌ . وسُمِّيَ الغَدْرُ غَدْراً لأنَّ به تُرِكَ الوفاءُ . وغَديرُ الماء مِنْ ذلك لأنَّ السيلَ غادَرَه ، أي : تَرَكَه فلم يَجِئْهُ أو ترك فيه الماءَ ، ويُجْمع على " غُدُر " و " غُدْران " كَرغِيف ورُغْفان ، واسْتَغْدَرَ الغَدِيرَ : صار فيه الماء . والغَدِيْرة : الشَّعْرُ الذي تُرِكَ حتى طالَ . والجمع غَدائِر . قال امرؤ القيس :
3168- غَدائِرُه مُسْتَشْزِراتٌ إلى العُلا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقرأ قتادة " فلم تُغادِرْ " بالتاءِ من فوقُ ، والفاعلُ ضميرُ الأرض ، ِ أو الغَدْرَةِ المفهومةِ من السياق . وأبان " يُغادَرْ " مبنياً للمفعول ، " أحدٌ " بالرفع . والضحاك : " نُغْدِرْ " بضم النونِ وسكونِ العينِ وكسرِ الدالِ مِنْ " أَغْدَرَ بمعنى غَدَرَ .
(1/3089)

وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48)
قوله : { صَفَّاً } : حالٌ من مرفوعِ " عُرِضوا " وأصلُه المصدرية . يُقال منه : صَفَّ يَصِفُّ صَفًّاً ، ثم يُطْلَقُ على الجماعة المُصطَفِّين . واخْتُلَِف هنا في " صَفَّاً " : هل هو مفردٌ وقع مَوْقع الجمعِ ، إذ المرادُ صفوفاًَ ، ويَدُلُّ عليه الحديث الصحيح : " يَجْمَع اللهُ الأوَّلين والآخرين في صَعيدٍ واحدٍ صُفوفاً " وفي حديث آخر : " أهل الجنةِ مئةٌ وعشرون صَفَّاً ، أنتم منهم ثمانون " وقيل : ثَمَّ حَذْفٌ ، أي : صَفَّاً صَفَّاً . ومثلُه قولُه في موضع : { وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً } [ الفجر : 22 ] . وقال في آخرَ : { يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً } [ النبأ : 38 ] يريد : صفاً صفاً ، بدليل الآيةِ الأخرى فكذلك هنا . وقيل : بل كلُّ الخلائقِ يكونون صفاً واحداً ، وهو أبلغُ في القُدرة . وأمَّا الحديثان فيُحملان على اختلافِ أحوال ، لأنه يومٌ طويلٌ كما شهد له بقولِه { كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] فتارةً يكونون فيه صَفَّاً واحداً وتارةً صفوفاً .
قوله : { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا } على إضمارِ قولٍ ، أي : وقُلْنا لهم : كيت وكيت . وتقدَّم أنَّ هذا القولَ هو العاملُ في { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال } [ الكهف : 47 ] . ويجوز ان يُضمر هذا القولُ حالاً من مرفوعِ " عُرِضُوا " ، أي : عُرِضُوا مَقُولاً لهم كذا .
قوله : { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ } ، أي : مجيئاً مُشْبِهاً لخلقِكم الأول حفاةً عُراة غُرْلاً ، لا مالَ ولا ولدَ معكم . وقال الزمخشري : " لقد بَعَثْناكم كما أَنْشَأْناكم أولَ مرة " فعلى هذين التقديرين ، يكونُ نعتاً للمصدرِ المحذوفِ ، وعلى رأي سيبويه يكون حالاً مِنْ ضميرِه .
قوله : { أَلَّن نَّجْعَلَ } " أَنْ " هي المخففةُ ، وفُصِل بينها وبين خبرِها لكونِه جملةً متصرفةً غيرَ دعاءٍ بحرفِ النفي . و " لكم " يجوز أن يكونَ مفعولاً ثانياً للجعل بمعنى التصيير . و " مَوْعِداً " هو الأول . ويجوز أَنْ يكونَ مُعَلَّقاً بالجَعْل ، أو يكونَ حالاً مِنْ " مَوْعداً " إذا لم يُجعل الجَعْلُ تصييراً ، بل بمعنى لمجردِ الإِيجاد .
و " بل " في قولِه : " بل زَعَمْتُمْ " لمجردِ الانتقال من غيرِ إبطالٍ .
(1/3090)

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
قوله : { وَوُضِعَ الكتاب } : العامَّةُ على بنائه للمفعول . وزيد بن علي على بنائِه للفاعل ، وهو الله أو المَلَك . و " الكتابَ " منصوبٌ مفعولاً به . و " الكتابُ " جنسٌ للكتب؛ إذ من المعلوم أنَّ لكلِّ إنسانٍ كتاباً يَخُصُّه . وقد تقدَّم الوقفُ على { مَالِ هذا الكتاب } وكيف فُصِلَتْ لامُ الجرِّ مِنْ مجرورِها خطاً في سورة النساء عند { فَمَا لهؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ } [ النساء : 78 ] .
و " لا يغادِرُ " جملةٌ/ حالية من " الكتاب " . والعاملُ الجارُّ والمجرورُ لقيامِه مَقامَ الفعلِ ، أو الاستقرارُ الذي تعلَّق به الحالُ .
قوله : " إلا أحْصاها " في محلِّ نصب نعتاً لصغيرة وكبيرة . ويجوز أن تكونَ الجملةُ في موضعِ المفعول الثاني؛ لأنَّ يُغَادِرُ بمعنى يترك ، و " يترك " قد يتعدَّى لاثنين كقوله :
3169- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فقد تَرَكْتُكَ ذا مالٍ وذا نَشبِ
في أحدِ الوجهين .
(1/3091)

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
قوله : { وَإِذَا قُلْنَا } : أي : اذْكُرْ .
قوله : { كَانَ مِنَ الجن } فيه وجهان ، أظهرهما : أنه استئنافٌ يفيد التعليلَ جواباً لسؤالٍ مقدَّر . والثاني : أنَّ الجملةَ حاليةٌ ، و " قد " معها مرادةٌ . قاله أبو البقاء وليس بالجليِّ .
قوله : " فَفَسَقَ " السببيةُ في الفاءِ ظاهرةٌ ، تَسَبَّبَ عن كونِه من الجنِّ الفِسْقُ . وقال أبو البقاء : إنما أدخل الفاءَ هنا لأنَّ المعنى : " إلا إبليس امتنع فَفَسَق " . قلت : إنْ عَنَى أنَّ قولَه { كَانَ مِنَ الجن } وُضِعَ موضعَ قولِه " امتنع " فيُحتمل مع بُعْدِه ، وإنْ عنَى أنه حُذِفَ فِعْلٌ عُطِفَ عليه هذا فليس بصحيحٍ للاستغناءِ عنه .
قوله : " عَنْ أمر " " عن " على بابها من المجاوزة ، وهي متعلِّقَةٌ ب " فَسَق " ، أي : خرج مجاوزاً أمرَ ربِّه . وقيل : هي بمعنى الباء ، أي : بسببِ أمرِه ، فإنه فَعَّالٌ لِما يريدُ .
قوله : " وذُرِّيَّتَه " يجوز في الواو أَنْ تكونَ عاطفةً وهو الظاهرُ ، وأنْ تكونَ بمعنى مع . و " مِنْ دوني " يجوز تعلُّقُه بالاتخاذ ، وبمحذوفٍ على أنه صفةٌ لأَوْلِياء .
قوله : { وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ } جملةٌ حاليةٌ مِنْ مفعولِ الاتخاذِ أو فاعلِه؛ لأنَّ فيها مصحِّحاً لكلٍ من الوجهين وهو الرابطُ .
قوله : " بِئْسَ " فاعُلها مضمرٌ مفسَّرٌ بتمييزه . والمخصوص بالذمِّ محذوفٌ تقديرُه : بِئْسَ البَدَلُ إبليسُ وذريتُه و " للظالمين " متعلِّقٌ بمحذوفٍ حالاً مِنْ " بَدَلاً " . وقيل : متعلِّقٌ بفعل الذَّمِّ .
(1/3092)

مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
قوله : { مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ } : أي : إبليسَ وذريتَه ، أو ما أشهدْتُ الملائكةَ فكيف تعبدونهم؟ أو ما أشهدْتُ الكفارَ فكيف تَنْسُبون إليَّ ما لا يليق بجلالي؟ أو ما أشهدْتُ جميعَ الخَلْقِ .
وقرأ أبو جعفر وشيبةُ والسختياني في آخرين : " أشهَدْناهم " على التعظيم .
قوله : { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين } وُضع الظاهرُ موضعَ المضمر؛ إذ المراد بالمُضِلِّين مَنْ نفى عنهم إشهادَ خَلْقِ السماواتِ ، وإنما نبَّه بذلك على وَصْفِهم القبيحِ .
وقرأ العامَّةُ " كُنْتُ " بضمِّ التاء إخباراً عنه تعالى . وقرأ الحسن والجحدري وأبو جعفر بفتحها خطاباً لنبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم . وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه { مُتَّخِذَ المضلين } نوَّن اسمَ الفاعلِ ونَصَبَ به ، إذ المرادُ به الحالُ أو الاستقبالُ .
وقرأ عيسى " عَضْداً " بفتح العين وسكون الضاد ، وهو تخفيفٌ شائعٌ كقولِ تميم : سَبْع ورَجْل في : سَبْع ورَجْل . وقرأ الحسن " عُضْداً " بالضم والسكون : وذلك أنه نَقَل حركةَ الضادِ إلى العينِ بعد سَلْبِ العينِ حركتَها . وعنه أيضاً " عَضَداً " بفتحتين و " عُضُداً " بضمتين . والضحاك " عِضَداً " بكسر العين وفتحِ الضاد . وهذه لغاتٌ في هذا الحرفِ .
والعَضُدُ من الإِنسانِ وغيرِه معروفٌ . ويُعَبَّر به عن العونِ والنصير فيقال : فلان عَضُدي . ومنه { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } [ القصص : 35 ] أي : سنُقَوِّي نُصْرَتَك ومعونَتك .
(1/3093)

وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52)
قوله : { وَيَوْمَ يَقُولُ } : معمولٌ ل " اذكر " أي : ويوم نقولُ يجري كيت وكيت . وقرأ حمزة " نقولُ " بنون العظمة مراعاةً للتكلم في قوله : " ما أَشْهَدْتُهم " إلى أخره . والباقون بياءِ الغَيْبَةِ لتقدُّمِ اسمِ الشريفِ الظاهر .
قوله : " مَوْبِقاً " مفعولٌ أولُ للجَعْلِ ، والثاني الظرفُ المُقَدَّم . ويجوز أن تكونَ متعدِّيةً لواحدٍ ، فيتعلَّق الظرفُ بالجَعْلِ أو بمحذوفٍ على الحال مِنْ " مَوْبَقا " .
والمَوْبِقُ : المَهْلَكُ ، يقال : وَبِقَ يَوْبِق وَبَقاً ، أي : هَلَكَ ووَبَقَ يَبِقُ وُبُوقاً أيضاً : هَلَكَ وأَوْبَقه ذنبُه . وعن الفراء : " جَعَلَ اللهُ تواصُلَهم هَلاكاً " فجعل البَيْنَ بمعنى الوَصْلِ ، وليس بظرفٍ كقولِه : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } [ الأنعام : 94 ] في وجهٍ . وعلى هذا فيكون " بينَهم " مفعولاً أولَ ومَوْبِقاً " مفعولاً ثانياً . والمَوْبِقُ هنا : يجوز أَنْ يكونَ مصدراً وهو الظاهر . ويجوزُ أَنْ يكونَ مكاناً/ .
(1/3094)

وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
قوله : { مَصْرِفاً } : المَصْرِفُ : المَعْدِل . قال الهذلي :
3170- أزهيرُ هل عَنْ شَيْبَةٍ مِنْ مَصْرِفِ ... أم لا خُلُوْدَ لباذِلٍ متكلِّفِ
ويجوز أَنْ يكونَ اسمَ مكانٍ أو زمانٍ . وقال أبو البقاء : " مَصْرِفاً : أي انْصِرافاً ، ويجوز أَنْ يكونَ مكاناً " . قلت : وهذا سَهْوٌ فإنه جَعَلَ المَفْعِل بكسرِ العينِ مصدراً لِما مضارعُه يَفْعِل بالكسرِ من الصحيح ، وقد نصُّوا على أنَّ اسمَ مصدر هذا النوعِ مفتوحُ العين ، واسمَ زمانِه ومكانِه مكسوراها نحو : المَضْرَب والمَضْرِب .
وقرأ زيدُ بن عليّ رضي الله عنه " مَصْرِفاً " بفتح الراء جعله مصدراً؛ لأنَّه مكسور العين في المضارع فهو كالمَضْرَب بمعنى الضَّرْب ، وليت أبا البقاءِ ذكر هذه القراءةَ وَوَجَّهَها بما ذكره قبلُ .
(1/3095)

وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
قوله : { مِن كُلِّ مَثَلٍ } : يجوز أَنْ يكونَ " مِنْ كلِّ " صفةً لموصوفٍ محذوفٍ ، وهو مفعولٌ " صَرَّفنا " ، أي : صَرَّفنا مَثَلاً مِنْ كلِّ مَثَل . ويجوز أَنْ تكونَ " مِنْ " مزيدةً على رَأْيِ الأخفش والكوفيين .
قوله : " جَدَلاً " منصوبٌ على التمييز . وقوله : " أكثرَ شيءٍ " ، أي : أكثر الأشياء التي يتاتَّى منها الجِدال إنْ فَصَّلْتها واحداً واحداً ، يعني أنَّ الإِنسانَ أكثرُ جدلاً مِنْ كلِّ شيءٍ يُجادل ، فَوَضَعَ " شيءٍ " مَوْضِعَ الأشياء . وهل يجوزُ أَنْ يكونَ جَدَلاً منقولاً مِنْ اسم كان إذ الأصل : وكان جَدَلُ الإِنسانِ أكثرَ شيء؟ فيه نظرٌ . وكلامُ أبي البقاء مُشْعِرٌ بجوازِهِ فإنه قال : " فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ شيئاً هنا في معنى مُجادِل؛ لأنَّ أَفْعل يُضافٌ إلى ما هو بعضٌ له ، وتمييزُه ب " جَدَلاً " يَقْتَضي أَنْ يكونَ الأكثرَ مُجادلاً . وهذا مِنْ وَضْعِ العامِّ موضعَ الخاصِّ . والثاني : أنَّ في الكلام محذوفاً تقديره : وكان جَدَلُ الإِنسانِ أكثرَ شيءٍ ، ثم مَيَّزه " . فقوله : " تقديرُه : وكان جَدَلُ الإِنسانِ " يفيد أنَّ إسنادَ " كان " إلى الجَدَلِ جائزٌ إلى الجملة ، إلا أنه لا بُدَّ من تتميمٍ لذلك : وهو أَنْ تَتَجَوَّزَ فتجعَلَ للجَدَلِ جَدَلاً كقولِهِم : " شِعْرٌ شاعرٌ " يعني أنَّ لجدل الإِنسانِ جَدَلاً وهو أكثرُ من جَدَلَِ سائرِ الأشياءِ .
(1/3096)

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)
قوله : { وَمَا مَنَعَ } : وقد تقدَّم في آخرِ السورة قبلها . وقوله : " قُبُلاً " قد تقدَّم خلافُ القراء فيه وتوجيهُ ذلك .
(1/3097)

وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
قوله : { لِيُدْحِضُواْ } : متعلِّقٌ ب " يُجَادِل " والإِدْحاض : الإِزْلاق يقال : أَدْحَضَ قدمَه ، أي : أَزْلَقَها وأَزَلَّها عن موضعِها ، والحجة الداحضة التي لا ثباتَ لها لزلزلةِ قَدَمِها . والدَّحْضُ : الطينُ لأنه يَزْلِقُ فيه . قال :
3171- أبا مُنْذِرٍ رُمْتَ الوفاءَ وهِبْتَه ... وحِدْتَ كما حادَ البعيرُ الدَّحْضِ
وقال آخر :
3172- وَرَدْتُ ونَجَّى اليَشْكرِيِّ حِذارُه ... وحادَ كما حادَ البَعيرُ عن الدَّحْضِ
و " مكانٌ دَحْضٌ " مِنْ هذا .
قوله : { وَمَا أُنْذِرُواْ } يجوزُ في " ما " هذه أَنْ تكونَ مصدريةً ، وأَنْ تكونَ بمعنى الذي والعائد محذوف . وعلى التقديرين فهي عطفٌ على " آياتي " . و " هُزُوا " مفعولٌ ثانٍ أو حالٌ . وتقدَّم الخلافُ في " هُزُوا " . وتقدَّم إعرابُ ما بعد هذه الآية في الأنعام .
(1/3098)

وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58)
قوله : { بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ } : يجوز في " المَوْعِد " أَنْ يكونَ مصدراً أو زماناً أو مكاناً .
والمَوْئِلُ : المَرْجِعُ مِنْ وَأَلَ يَئِلُ ، أي : رَجَعَ ، وهو من التأويل . وقال الفراء : " المَوْئِلُ : المَنْجى ، وَأَلَتْ نَفْسُه ، أي : نَجَتْ " . قال الأعشى :
3137- وقد أٌخَالِسُ رَبَّ البيتِ غَفْلَتَهُ ... وقد يُحاذِرُ مِنِّي ثم ما يَئِلُ
أي : ما يَنْجُو . وقال ابن قتيبة : " المَوْئل : المَلْجَأ " . يقال : وَأَلَ فلان إلى فلان يَئِل وأَلاً ، ووُؤُوْلاً ، إذا لَجَأ إليه وهو هنا مصدرٌ .
و " مِنْ دونِه " متعلِّقٌ بالوِجْدان لأنه متعدٍّ لواحدٍ ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ " مَوْئِلاً " .
وقرأ أبو جعفر " مَوِلا " بواوٍ مسكورةٍ فقط . والزُّهْري : بواوٍ مشددة فقط . والأُوْلَى أقيسُ تخفيفاً .
(1/3099)

وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
قوله : { وَتِلْكَ القرى } : يجوزُ أَنْ يكونا مبتدأ وخبراً ، و " أهلكناهم " حينئذ : إمَّا خبرٌ ثانٍ أو حالٌ . ويجوز أن تكونَ " تلك " مبتدأ ، و " القرى " صفتها أو بيان لها أو بدل منها و " أَهْلكناها " الخبرُ . ويجوز أن يكون " تلك " منصوبَ المحل بفعلٍ مقدر على الاشتغال .
والضميرُ في " أَهْلَكْناهم " عائدٌ على " أهل " المضافِ إلى القرى ، إذ التقديرُ : وأهل تلك القُرى ، فراعى المحذوفَ فأعاد عليه الضميرَ . وتقدَّم ذلك في أول الأعراف .
و { لَمَّا ظَلَمُواْ } يجوُ أَنْ يكونَ حرفاً ، وأن يكونَ ظرفاً وقد عُرِف ما فيها .
قوله : " لِمَهْلِكِهِمْ " قرأ عاصم " مَهْلَك " بفتح الميم ، والباقون بضمها ، وحفصٌ بكسر اللام . والباقون بفتحها . فتحصَّل مِنْ ذلك ثلاثُ قراءاتٍ ، لعاصم قراءتان : فتحُ الميم/ مع فتحِ اللامِ ، وهي روايةُ أبي بكرٍ عنه . والثانية فتح الميم مع كسر اللام وهي روايةُ حفصٍ عنه . والثالثةُ : ضمُّ الميمِ وفتحُ اللام ، وهي قراءةُ الباقين .
فأمَّا قراءةُ أبي بكر ف " مَهْلَك " فيها مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه . وجوَّز أبو عليّ أن يكونَ مضافاً لمفعوله . وقال : " إنَّ " هَلَك " يتعدَّى دون همز وأنشد :
3174- ومَهْمَهٍ هالكٍ مَنْ تعرَّجا ... ف " مَنْ " معمولٌ ل " هالكٍ " وقد مَنَع الناسُ ذلك وقالوا : لا دليلَ في البيتِ لجواز أن يكونَ مِنْ بابِ الصفةِ المشبهةِ . والأصل : هالك مَنْ تعرَِّجا . ف " مَنْ تعرَّج " فاعلٌ بهالك ، ثم أَضْمر في " هالِك " ضميرَ " مَهْمه " ونَصَبَ " مَنْ تعرَّج " نَصْبَ " الوجهَ " في قولِك : " مَرَرْتُ برجلٍ حَسَنِ الوجهَ " ثم أضاف الصفة وهي " هالك " إلى معمولها ، فالإِضافةُ مِنْ نصبٍ ، والنصبُ مِنْ رفعٍ . فهو كقولك : " زيدٌ منطلقُ اللسان ومنبسط الكفِّ " ، ولولا تقديرُ النصبِ لامتنعَتِ الإِضافةُ؛ إذ اسمُ الفَاعلِ لا يُضاف إلى مرفوعِه . وقد يُقال : لا حاجةَ إلى تقديرِ النصب ، إذ هذا جارٍ مَجْرَى الصفةِ المشبهة ، والصفةُ المشبهةُ تُضافُ إلى مرفوعها ، إلا أنَّ هذا مبنيٌّ على خلافٍ آخر وهو : هل يقعُ الموصولُ في بابِ الصفة أم لا؟ والصحيح جوازه . قال الشاعر :
3175- فَعُجْتُها قِبََلَ الأخيار منزلةً ... والطيِّبي كلِّ ما التاثَتْ به الأُزُرُ
وقال الهذلي :
3176- أَسِيْلاتُ أبدانٍ دِقاقٌ خُصورُها ... وَثِيراتُ ما التفَّتْ عليها الملاحِفُ
وقال الشيخ في قراءة أبي بكر هذه : " إنه زمانٌ " ولم يذكرْ غيرَه . وجوَّز غيرُه فيه الزمانَ والمصدرَ . وهو عجيبٌ؛ فإنَّ الفعلَ متى كُسِرَتْ عينُ مضارعِهِ فُتِحَتْ في المَفْعَل مراداً به المصدرُ ، وكسِرَتْ فيه مراداً به الزمانُ والمكانُ ، وكأنه اشتبهَتْ عليه بقراءةِ حفصٍ فإنَّه بكسرِ اللام كما تقدَّم ، فالمَفْعِلُ منه للزمانِ والمكان .
وجوَّز أبو البقاء في قراءته أَنْ يكونَ المَفْعِل فيها مصدراً . قال : " وشَذَّ فيه الكسرُ كالمَرْجِعِ " . وإذا قلنا إنه مصدرٌ فهل هو مضافٌ لفاعِله أو مفعولِه؟ يجيءُ ما تقدَّم في قراءةِ رفيقِه . وتخريجُ أبي عليّ واستشهادُه بالبيت والردُّ عليه ، كلُّ ذلك عائدٌ هنا .
وأمَّا قراءةُ الباقين فواضحةٌ . و " مُهْلَك " فيها يجوز أن يكونَ مصدراً مضافاً لمفعولِه ، وأَنْ يكون زماناً ، ويَبْعُدُ أن يُرادَ به المفعولُ ، أي : وجَعَلْنا للشخصِ أو الفريقِ المُهْلِكِ منهم .
والمَوْعِدُ : مصدرٌ أو زمان .
(1/3100)

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)
قوله : { وَإِذْ قَالَ موسى } : " إذ " منصوبٌ ب اذكر ، أو وقتَ قال لفتاه جرى ما قَصَصْنا عليك مِنْ خبرِه .
قوله : " لا أَبْرَحُ " يجوز فيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ تكونَ ناقصةً فتحتاجَ إلى خبر . والثاني : أن تكونَ تامةً فلا تحتاج إليه . فإن كانَتِ الناقصةَ ففيها تخريجان ، أحدُهما : أن يكونَ الخبرُ محذوفاً للدلالةِ عليه تقديرُه : لا أبرحُ أسيرُ حتى أبلغَ ، إلا انَّ حَذْفَ الخبرِ في هذا البابِ نَصَّ بعضُ النَّحْويين على أنه لا يجوزُ ولو بدليلٍ ، إلا في ضرورة كقوله :
3177- لَهَفي عليكَ للِهْفَةٍ مِنْ خائفٍ ... يَبْغي جوارَك حينَ ليس مُجِيْرُ
أي : حين ليس في الدنيا مُجير . والثاني : أنَّ في الكلام حَذْفَ مضافٍ تقديرُه : لا يَبْرَحُ مسيري حتى أبلغَ ، ثم حذف " مسير " وأقيمت الياء مُقامَه ، فانقلبَتْ مرفوعةً مستترة بعد أن كانت مخفوضةَ المحلِّ بارزةً ، وبقي " حتى أَبْلُغَ " على حالِه هو الخبر .
وقد خَلَطَ الزمخشريُّ هذين الوجهين فجَعَلَهما وجهاً واحداً ، ولكنْ في عبارةٍ حسنةٍ جداً ، فقال : " فإن قلت " " لا أبرح " إن كان بمعنى " لا أَزُوْل " مِنْ بَرِح المكانَ فقد دلَّ على الإِقامة لا على السفر . وإن كان بمعنى " لا أزال " فلا بُدَّ من خبر . قلت : هي بمعنى لا أزال ، وقد حُذِفَ الخبرُ لأنَّ الحالَ والكلامَ معاً يَدُلاَّن عليه : أمَّا الحالُ فلأنها كانت حالَ سَفَرٍ ، وأمَّا الكلامُ فإنَّ قولَه " حتى أَبْلُغَ " غايةٌ مضروبةٌ تَسْتدعي ما هي غايةٌ له ، فلا بد أن يكون المعنى : [ لا أبرح أسير حتى أبلغَ . ووجهٌ آخرُ وهو أَنْ يكونَ المعنى : ] لا يبرح مسيري حتى أبلغَ على أنَّ " حتى أبلغَ " هو الخبرُ ، فلمَّا حُذِفَ المضافُ أُقيم المضافُ إليه مُقامه وهو ضميرُ المتكلم ، فانقلب الفعلُ مِنْ ضمير الغائبِ إلى لفظِ المتكلم وهو وجهٌ لطيفٌ " .
قلت : وهذا على حُسْنِه فيه نظرٌ لا يخفى وهو : خلوُّ الجملةِ الواقعةِ خبراً عن " مسيري " في الأصل مِنْ رابط يَرْبِطُها به . ألا ترى أنه ليس في قوله " حتى أبلغ " ضميرٌ يعودُ على " مَسيري " إنما يعودُ على المضافِ إليه المستتر ، ومِثْلُ ذلك لا/ يُكتفى به .
ويمكن أَنْ يُجابَ عنه : بانَّ العائدَ محذوفٌ ، تقديرُه حتى أبلغَ به ، أي : بمسيري .
وإن كانت التامةَ كان المعنى : لا أبرح ما أنا عليه ، بمعنى ألزمُ المسيرَ والطَّلَبَ ، ولا أفارقه ولا أتركه ، حتى أبلغَ ، كما تقول : لا أبرحُ المكانَ . قلت : فعلى هذا يُحتاجُ أيضاً إلى حَذْفِ مفعولٍ به كما تقدَّمَ تقريرُه ، فالحذفُ لا بُدَّ منه على تقديرَيْ التمامِ والنقصانِ في أحدِ وجهَيْ النقصان .
(1/3101)

وقرأ العامَّة " مَجْمَعَ " بفتح الميمِ وهو مكانُ الاجتماع ، وقيل : مصدر . وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسار بكسرها ، وهو شاذ ، لفتحِ عينِ مضارعِه .
قوله : " حُقُبا " منصوبٌ على الظرفِ وهو بمعنى الدهر . وقيل : ثمانون سنة . وقيل : سنةٌ واحدة بلغة قريش . وقيل : سبعون . وقرأ الحسن . " حُقْباً " بإسكان القاف فيجوزُ أَنْ يكونَ تخفيفاً ، وأن يكونَ لغةً مستقلة . ويُجمع على " أَحْقاب " كعُنُق وأَعْناق . وفي معناه الحِقْبَةُ بالكسر . قال امرؤ القيس :
3178- فإنْ تَنْأَ عنها حَقْبَةً لا تُلاقِها ... فإنَّك ممَّا أَحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ
والحُقْبَة بالضمِّ أيضاً . وتُجمع الأُولى على حِقَب بكسر الحاء كقِرَب ، والثانيةُ على حُقَب بضمِّها كقُرَب .
وقوله : " أو أَمْضِيَ " فيه وجهان ، أظهرُهما : أنَّه منسوقٌ على " أَبْلُغَ " يعني بأحد أمرين : إمَّا ببلوغِه المَجْمَعَ ، أو بمضيِّه حُقُباً . والثاني : انه تَغْيِيَةٌ لقوله لا أَبْرَحُ ، فيكون منصوباً بإضمارِ ، " أَنْ " بعد " أو " بمعنى " إلى " نحو " لأَلْزَمَنَّكَ أو تقضيَني حقي " .
قال الشيخ : " فالمعنى : لا أبرحُ حتى أبلغَ مَجْمَعَ البحرَيْنِ ، إلى أن اَمْضِيَ زماناً أتيقَّنُ معه فواتَ مجمعِ البحرَيْن " قلت : فيكونُ الفعلُ المنفيُّ قد غُيِّيَ بغايَتْين مكاناً وزماناً ، فلا بُدَّ من حصولهِما معاً نحو : " لأسيرَنَّ إلى بيتِك إلى الظهر " فلا بُدَّ من حصولِ الغايتين . والمعنى الذي ذكره الشيخُ يقتضي أنه يمضي زماناً يتيقَّنُ فيه فواتَ مجمعِ البحرين .
وجَعَلَ أبو البقاء " أو " هنا بمعنى " إلاَّ " في أحدِ الوجهين ، قال : " والثاني : أنَّها بمعنى : إلا أَنْ اَمْضِيَ زماناً أتيقَّنُ معه فواَ مجمعِ البحرين " . وهذا الذي ذكره أبو البقاء معنىً صحيحٌ ، فأخذ الشيخ هذا المعنى ، رَكَّبه مع القولِ بأنها بمعنى " إلى " المقتضيةِ للغايةِ ، فمِنْ ثَمَّ جاء الإِشكالُ .
(1/3102)

فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61)
قوله : { نَسِيَا } الظاهرُ نسبةُ النِّسْيانِ إلى موسى وفتاه ، يعني نَسِيا تفقُّدَ أَمْرِه ، فإنه كان علامةً لهما على ما يَطْلبانه . وقيل : نَسِي موسى ان يأمرَه بالإِتيانِ به ونسيَ يوشع أَنْ يفكِّرَه بأمرِه . وقيل : الناس يوشع فقط ، وهو على حذفِ مضافٍ ، أي : نَسِيَ أحدُهما كقولِه : " يَخْرُجُ منهما اللؤلؤُ والمَرْجان " .
قوله : { فِي البحر سَرَباً } " سَرَبا " مفعولٌ ثانٍ ل " اتَّخذ " . و " في البحر " يجوز أن يتعلَّق ب " اتَّخَذَ " ، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعولِ الأولِ أو الثاني .
والهاءُ في " سبيلَه " تعودُ على الحُوْت . وكذا المرفوع في " اتَّخَذَ " .
(1/3103)

فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62)
قوله : { جَاوَزَا } : مفعولُه محذوفٌ ، أي : جاوزا الموعدَ . وقيل : جاوزا مجمعَ البحرَيْن .
قوله : " هذا " إشارةٌ إلى السَّفََر الذي وقع بعد مجاوزتِهما المَوْعِدَ ، أو مجمعَ البحرين . و " نَصَبا " هو المفعول ب " لَقِيْنا " . والعامَّةُ على فتح النون والصاد . وعبد الله بن عبيد بن عمير بضمِّهما . وهما لغتان من لغاتٍ أربعٍ في هذه اللفظة . كذا قال أبو الفضلِ الرازي في " لوامحه " .
(1/3104)

قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63)
قوله : { أَرَأَيْتَ } : قد تقدَّم الكلامُ فيها مُشْبعاً في الأنعام . وقال أبو الحسن الأخفش هنا فيها كلاماً حسناً رأيت نَقْلَه وهو " أنَّ العربَ اَخْرَجَتْها عن معناها بالكلية ، فقالوا : أَرَأَيْتَك وأَرَيْتَكَ بحذفِ الهمزة إذا كانت بمعنى اَخْبِرْني ، وإذا كانت بمعنى اَبْصَرْتَ لم تُحْذَفْ همزتُها . وشَذَّت أيضاً فألزَمْتَها الخطابَ على هذا المعنى ، ولا تقولُ فيها أبداً : " أراني زيداً عمراً ما صَنَعَ " وتقولُ هذا على معنى " اعلَمْ " . وشذَّتْ أيضاً فَأَخْرَجْتَها عن موضعِها بالكلية بدليلِ دخولِ الفاءِ ألا ترى قولَه : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي } فما دخلتِ الفاءُ إلا وقد اُخْرِجَتْ إلى معنى : أمَّا أو تنبَّهْ . والمعنى : أمَّا إذا أَوَيْنا إلى الصخرة فإنِّي نَسِيْتُ الحوتَ . وقد أَخْرَجْتَها أيضاً إلى معنى أخبرني كما قدَّمْنا . وإذا كانت/ بمعنى أخبِرْني فلا بُدَّ بعدها من الاسمِ المستخبَرِ عنه ، وتلزَمُ الجملةُ التي بعدها الاستفهامَ ، وقد تَخْرُجُ لمعنى " أمَّا " ، ويكون أبداً بعدها الشرطُ وظروفُ الزمان ، فقوله : " فإنِّي نَسِيْتُ " معناه : أمَّا إذ أَوَيْنا فإنِّي ، أو تَنَبَّه إذ أوينا ، وليستِ الفاءُ إلا جواباً لأَرَأَيْتَ لأنَّ " إذْ " لا يَصِحُّ أَنْ يُجازي بها إلا مقرونةً ب " ما " بلا خلافٍ " .
وقال الزمخشري : " أرأيتَ بمعنى أخبِرْني . فإن قلتَ : ما وجهُ التئامِ هذا الكلامِ ، فإنَّ كلَّ واحدٍ مِنْ " أرأيت " ومِنْ " إذ أَوَيْنا " ، ومِنْ " فإنِّي نَسِيْتُ الحوتَ " [ لا متعلِّقَ له ] ؟ قلت : لَمَّا طَلَب موسى الحوتَ ذكر يوشع ما رأى منه وما اعتراه مِنْ نِسيانه إلى تلك الغايةِ ، ودُهِش فَطَفِقَ يسأل موسى عن سبب ذلك كأنَّه قال : أرأيتَ ما دهاني إذ أَوَيْنا إلى الصخرة فإنِّي نسيتُ الحوت . فحذف ذلك " .
قال الشيخ : " وهذان مَفْقودانِ في تقديرِ الزمخشري " أرأيتَ بمعنى أخبرني " . يعني بهذين ما تقدَّم في كلام الأخفش مِنْ أنَّه لا بُدَّ بعدها من الاسم المستخبَرِ عنه ولزومِ الاستفهامِ الجملةَ التي بعدها .
قوله : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ } قرأ حفص بضمِّ الهاء . وكذا في قوله : { عَلَيْهُ الله } [ الآية : 10 ] في سورة الفتح . قيل : لأنَّ الياءَ هنا أصلُها الفتح ، والهاءُ بعد الفتحةِ مضمومةٌ فنظر هنا إلى الأصل . وأمَّا في سورة الفتح فلأنَّ الياءَ عارضةٌ إذ اصلُها الألفُ ، والهاءُ بعد الألف مضمومةٌ فنظر إلى الأصلِ أيضاً؟
والباقون بالكسر نظراً إلى اللفظِ ، فإنها بعد ياءٍ ساكنة . وقد جمع حفص في قراءتِه بين اللغات في هاء الكناية : فإنه ضمَّ الهاء في " أنسانِيْه " في غيرِ صلةٍ ، ووصَلَها بياءٍ في قوله : { فِيهِ مُهَاناً } [ الفرقان : 69 ] على ما سيأتي إنْ شاء الله تعالى . وقرأ كأكثرِ القراء فيما سوى ذلك .
(1/3105)

قوله : { أَنْ أَذْكُرَهُ } في محلِّ نصبٍ على البدلِ مِنْ هاء " أنسانِيْه " بدلِ اشتمال ، أي : أَنْساني ذكرَه .
قوله : " عَجَباً " فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مفعولٌ ثانٍ ل " اتَّخذ " . و " في البحرِ " يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالاتخاذِ ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعولِ الأولِ أو الثاني .
وفي فاعل " اتَّخذ " وجهان ، أحدُهما : هو الحوت ، كما تقدَّم في " اتَّخذ " الأولى . والثاني : هو موسى .
الوجهُ الثاني مِنْ وجهَيْ " عَجَباً " أنه مفعولٌ به ، والعاملُ فيه محذوفٌ ، فقال الزمخشري : " أو قال : عَجَباً في آخرِ كلامِه تَعَجُّباً مِنْ حاله . وقوله : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان } اعتراضٌ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه " . فظاهرُ هذا أنَّه مفعولٌ ب " قال " ، أي : قال هذا اللفظَ .
الثالث : أنه مصدر ، فالعاملُ فيه مقدَّرٌ تقديرُه : فتعجَّب مِنْ ذلك عَجَباً .
الرابع : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، ناصبُه " اتَّخذ " ، أي : اتخذ سبيلَه في البحر اتِّخاذاً عَجَباً . وعلى هذه الأقوالِ الثلاثةِ يكون " في البحر " مفعولاً ثانياً ل " اتَّخَذَ " إن عَدَّيْناها لمفعولين .
(1/3106)

قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64)
قوله : { نَبْغِ } : حذفَ نافع وأبو عمرو والكسائي ياء " نَبْغي " وقفاً ، وأثبتوها وصلاً . وابن كثير أثبتها في الحالين . والباقون حَذَفوها في الحالين اتِّباعاً للرسم . وكان مِنْ حَقِّها الثبوتُ ، وإنما حُذِفت تشبيهاً بالفواصلِ ، أو لأنَّ الحَذْفَ يُؤْنِسُ بالحذفِ فإنَّ " ما " موصولةٌ حُذِفَ عائدُها ، وهذه بخلافِ التي في يوسف فإنها ثابتةٌ عند الجميعِ ، وقد تقدَّم ذلك في مَوْضِعِه .
قوله : " قَصَصاً " فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّه مصدرٌ في موضعِ الحالِ ، أي : قاصِّيْن . الثاني : أنه مصدرٌ منصوبٌ بفعلٍ مِنْ لفظِه مقدَّرٍ ، أي : يَقُصَّان قَصَصاً . الثالث : أنه منصوبٌ ب " ارتَدَّا " لأنه في معنى فَقَصَّا .
وقرأ الكسائيُّ " أنسانِيْهِ " بالإِمالة .
وعبد الله " أَنْ أذكرَكَه " . وأبو حيوة " واتخاذَ سبيلِه " عَطَفَ هذا المصدرَ على مفعول " اذكره " .
(1/3107)

فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
قوله : { عِلْماً } : مفعولٌ ثان ل " عَلَّمْناه " ، قال أبو البقاء : " ولو كان مصدراً لكان تعليماً " يعني لأنَّ فعلَه على فَعَّل بالتشديد ، وقياسُ مصدرِه التفعيلُ .
و { مِن لَّدُنَّا } يجوز أن يتعلَّقَ بالفعلِ قبلَه ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ " عِلْماً " .
(1/3108)

قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66)
قوله : { على أَن تُعَلِّمَنِ } : في موضعِ / الحال من الكاف في " أَتَّبِعُك " ، أي : أَتَّبِعُك باذلاً لي علمَك .
قوله : " رُشْداً " مفعولٌ ثانٍ ل " تُعَلِّمَني " ، لا لِقوله : " ممَّا عُلِّمْتَ " . قال أبو البقاء : " لأنَّه لا عائد إذن على الذي " يعني أنه إذا تعدَّى لمفعولٍ ثانٍ غيرِ ضميرِ الموصولِ لم يَجُزْ أَنْ يتعدَّى لضميرِ الموصولِ؛ لئلاَّ يتعدَّى إلى ثلاثةٍ ، ولكن لا بُدَّ مِنْ عائدٍ على الموصول .
وقد تقدَّم خلافُ القرَّاء في " رُشْدا " في سورة الأعراف . وهل هما بمعنى واحدٍ أم لا؟
(1/3109)

وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)
قوله : { خُبْراً } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه تمييزٌ لقولِه " تُحِطْ " وهو منقولٌ مِنَ الفاعليةِ ، إذ الأصل : مما لم يُحِطْ به خَبَرُك . والثاني : أنه مصدرٌ لمعنى لم تُحِط ، إذ هو في قوة : لم يُخْبِرْه خُبْراً . وقرأ الحسن " خُبُراً " بضمتين .
(1/3110)

قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69)
قوله : { وَلاَ أَعْصِي } : فيه أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنََّها لا محلَّ لها من الإِعراب لاستئنافِها . وفيه بُعْدٌ . الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ عطفاً على " سَتَجِدُني " لأنَّها منصوبةُ المحلِّ بالقول . وقال الشيخ : " ويجوزُ أَنْ يكونَ معطوفاً على " سَتَجِدُني " فلا يكونُ له محلٌّ من الإِعراب؟ وهذا سَهْوٌ؛ فإنَّ " ستجِدُني " منصوبُ المحلِّ لأنه منصوبٌ بالقول ، فكذلك ما عُطِفَ عليه ، ولكن الذي غَرَّ الشيخَ أنَّه رأى كلامَ الزمخشري كذلك ، ولم يتأمَّلْه فتبعه في ذلك ، فمن ثَمَّ جاء السهو . قال الزمخشري : ولا أَعْصِي : في محلِّ النصبِ عطفاً على " صابراً " ، أي : ستجدني صابراً وغيرَ عاصٍ . أو " لا " في محلِّ عطفاً على " سَتَجِدُني " .
الرابع : أنَّه في محلِّ نصبٍ عطفاً على " صابراً " كما تقدَّم تقريرُه .
(1/3111)

قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
قوله : { فَلاَ تَسْأَلْني } : قد تقدَّم خلافُ القُرَّاء في هذا الحرفِ في سورة هود : وقرأ أبو جعفر هنا بفتحِ السينِ واللامِ وتشديدِ النونِ من غيرِ همزٍ .
(1/3112)

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71)
قوله : { لِتُغْرِقَ } : في اللام وجهان ، أحدُهما : هي لامُ العلة . والثاني : هي لامُ الصَّيْرورة . وقرأ الأخَوان : " ليَغْرَقَ " بفتح الياء مِنْ تحتُ وسكونِ الغين وفتحِ الراء ، " أهلُها " بالرفع فاعلاً . والباقون بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الراء ، أي : لتُغْرِق أنت أهلَها بالنصب مفعولاً به . والحسن وأبو رجاء كذلك ، إلا أنَّهما شَدَّدا الراءَ .
والسفينة معروفةٌ ، وتُجمع على سُفُن وسَفائن نحو : صحيفة وصُحُف وصحائف . وتُحذف منها التاءُ مراداً بها الجمعُ ، فتكونُ اسمَ جنسٍ نحو : ثَمَرَ وبَلَح . إلا أنه هذا المصنوع قليلٌ جداً نحو : جَرَّة وجَرَّ ، وعِمامة وعِمام . قال الشاعر :
3179- متى تَأْتيه تأتي لُجَ بَحْرٍ ... تقاذَفُ في غوارِبِه السَّفينُ
واشتقاقها مِن السَّفْنِ وهو القَشْر؛ لأنها تقشُر الماءَ . كما سُمِّيَتْ " بِنْتَ مَخْرٍ " لأنها تَمْخُر الماء ، أي : تَشُقُّه .
قوله : " إمْراً " شيئاً عظيماً ، يقال : أَمِرَ الأَمْرُ ، أي : عَظُم وتفاقَمَ . قال :
3180- داهِيَةً دَهْياءَ إمْراً ...
(1/3113)

قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
قوله : { عُسْراً } : كفعولٌ ثانٍ ل " تُرْهِقْني " مِنْ أَرْهَقَه كذا إذا حَمَّله إياه وغشَّاه به . و " ما " في " بما نَسِيْتَ " مصدريةٌ أو بمعنى الذي ، والعائدُ محذوفٌ .
(1/3114)

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74)
قوله : { زاكِيَةً } : قرأ " زاكية " بألفٍ وتخفيفِ الياءِ نافعٌ وابنُ كثير وابو عمرو . وبدون الألف وتشديد الياء الباقون . فَمَنْ قَرَأ " زاكية " فهو أسمُ فاعلٍ على أصلِه . ومَنْ قرأ " زَكِيَّة " فقد أخرجه إلى فَعِيلة للمبالغة .
والغُلام : مَنْ لم يَبْلُغْ . وقد يُطْلق على البالغِ الكبيرِ . فقيل : مجازاً باعتبارِ ما كان . ومنه قولُ ليلى :
3181- شَفاها مِنَ الدَّاءِ الذي قد أصابها ... غُلامٌ إذا هَزَّ القناةَ شَفاها
وقال آخر :
3182- تَلَقَّ ذُبابَ السَّيْفِ عني فإنني ... غلامٌ إذا هُوجِيْتُ لَسْتُ بشاعرِ
وقيل : بل هو حقيقةٌ لأنه مِن الإِغلام وهو السَّبْق ، وذلك إنما يكونُ في الإِنسانِ المحتلِمِ . وقد تقدَّم ترتيبُ أسماءِ الآدمي مِنْ لَدُن هو جنينٌ إلى أن يضير شيخاً ولله الحمد/ .
قال الزمخشري : " فإن قلت : لِمَ قيل : " حتى إذا رَكِبا في السفينةِ خَرَقَها " بغير فاءٍ ، و " حتى إذا لَقِيا غلاماً فَقَتَله " بالفاء؟ قلت " جَعَل " خَرَقَها " جزاءً للشرطِ ، وجَعَل " قَتَله " من جملةِ الشرط معطوفاً عليه ، والجزاءُ " قال : أَقْتَلْتَ " . فإنْ قلت : لِمَ خُولف بينهما؟ قلت : لأنَّ الخَرْقَ لم يتعقَّبِ الركوبَ ، وقد تعقَّبَ القتلُ لقاءَ الغلامِ " .
قوله : { بِغَيْرِ نَفْسٍ } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : انها متعلقةٌ ب " قَتَلْتَ " . الثاني : أنها متعلقةٌ بمحذوفٍ على أنها حالٌ مِنَ الفاعلِ أو من المفعولِ ، أي : قَتَلْتَه ظالماً أو مظلوماً ، كذا قَدَّرَه أبو البقاء . وهو بعيدٌ جداً . الثالث : أنها صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أي : قَتْلاً بغيرِ نفسٍ .
قوله : " نُكْراً " قرأ نافع وأبو بكر وابن ذكوان بضمتين ، والباقون بضمة وسكون . وهما لغتان ، أو أحدهما أصل . و " شيئاً " : يجوز أن يُراد به المصدرُ ، أي : مَجيئاً نُكْرا ، وأن يُراد به المفعولُ به ، أي : جِئْتَ أمراً مُنْكَراً . وهل النُّكْرُ أَبْلَغُ من الإِمر أو بالعكس . فقيل : الإِمْرُ أبلغُ؛ لأنَّ قَتْلَ أَنْفُسٍ بسبب الخَرْقِ أعظمُ مِنْ قَتْل نفسٍ واحدة . وقيل : بل النُّكْر أبلغُ لأن معه القَتْلَ الحَتْمَ ، بخلاف خَرْقِ السفينة فإنه يمكن تدارُكُه ، ولذلك قال : " ألم أَقُلْ لك " ولم يأتِ ب " لك " مع " إمراً " .
(1/3115)

قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)
قوله : { فَلاَ تُصَاحِبْنِي } : العامَّةُ على " تصاحِبْني " من المفاعلة . وعيسى ويعقوب : " فلا تَصْحَبَنِّي " مِنْ صَحِبَه يَصْحَبُه . وأبو عمروٍ في روايةٍ وأُبَيٌّ بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ وكسرِ الحاء ، مِنْ أصحب يُصْحِب ، ومفعولُه محذوفٌ تقديره : فلا تُصْحِبْني نفسك . وقرأ أُبَيٌّ " فلا تُصْحِبْني عِلْمَك " فأظهر المفعول .
قوله : { مِن لَّدُنِّي } العامَّةُ على ضَمِّ الدالِ وتشديد النون . وذلك أنَّهم اَدْخلوا نونَ الوقايةِ على " لَدُن " لِتَقِيَها من الكسرِ محافَظَةً على سكونِها ، كما حُوْفِظَ على سكونِ نون " مِنْ " و " عَنْ " فأُلْحِقَتْ بهما نونُ الوقايةِ فيقولون : مِنِّي وعَنِّي بالتشديد .
ونافعٌ بتخفيف النون . والوجهُ فيه : أنه لم يُلْحِقْ نونَ الوقاية ل " لَدُن " . إلا أنَّ سيبويه منع مِنْ ذلك وقال : " لا يجوزُ أَنْ تأتيَ ب " لَدُنْ " مع ياء المتكلم دون نونِ وقاية " . وهذه القراءةُ حجةٌ عليه . فإنْ قيل : لِمَ لا يُقال : إن هذه النونَ نونُ الوقايةِ ، وإنما اتصلَتْ ب " لَدُ " لغةً في " لَدُن " حتى يتوافَقَ قولُ سيبويه مع هذه القراءة؟ قيل : لا يَصِحُّ ذلك من وجهين ، أحدهما : أَنَّ نونَ الوقايةِ إنما جِيءَ بها لتقيَ الكلمةَ الكسرَ محافظةً على سكونها . ودون النون لا يُسَكِّنون؛ لأنَّ الدالَ مضمومةٌُ ، فلا حاجةَ إلى النون .
والثاني : أنَّ سيبويهِ يمنع أَنْ يُقال : " لَدُني " بالتخفيف .
وقد حُذِفَتِ النونُ مِنْ " عَنْ " و " مِنْ " في قوله :
3183- أيُّها السَّائِلُ عنهم وعِنِيْ ... لستُ من قيسٍ ولا قيسٌ مِنِيْ
ولكن تَحْتمل هذه القراءةُ أن تكون النونُ فيها أصليةً ، وأن تكونَ للوقاية على أنها دخلَتْ على " لَدْ " الساكنة الدال ، لغةً في " لدن " فالتقى ساكنان فكُسِرَتْ نونُ الوقاية على أصلها . وإذا قلنا بأنَّ النونَ أصليةٌ فالسكونُ تخفيفٌ كتسكين ضاد " عَضْد " وبابِه .
وقرأ أبو بكرٍ بسكونِ الدال وتخفيفِ النون أيضاً ، ولكنه أَشَمَّ الدالَ الضَّمَّ مَنْبَهة على الأصل . واختلف القرَّاء في هذا الإِشمامِ ، فقائلٌ : هو إشارةٌ بالعضوِ مِنْ غيرِ صوتٍ كالإِشمام الذي في الوقف ، وهذا هو المعروف . وقائلٌ : هو إشارةٌ للحركةِ المُدْرَكةِ بالحسِّ فهو كالرَّوْم في المعنى ، يعني : أنه إتيانٌ ببعض الحركةِ . وقد تقدَّم هذا محرَّراً في يوسف عند قولِه { لاَ تَأْمَنَّا } [ الآية : 11 ] ، وفي قوله في هذه السورةِ " مِنْ لدنه " في قراءة شعبة أيضاً ، وتقدَّم لك بحثٌ يعودُ مثلُه هنا .
وقرأ عيسى وأبو عمروٍ في روايةٍ " عُذُراً " بضمتين . وعن أبي عمرو أيضاً " عُذْرِي " مضافاً لياءِ المتكلم .
و { مِن لَّدُنِّي } متعلقٌ ب " بَلَغْتَ " ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ " عُذْرا " .
(1/3116)

فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77)
قوله : { استطعمآ أَهْلَهَا } : جواب " إذا " ، أي : سألاهم الطعامَ . وفي تكريرِ " أهلَها " وجهان ، أحدهما : أنه توكيدٌ من بابِ إقامةِ الظاهر مُقامِ المضمر كقوله :
3184- لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ ... نغَّصَ الموتُ ذا الغِنى والفقيرا
والثاني : أنَّه للتأسيسِ؛ وذلك أنَّ الأهلَ المَأْتِيِّين ليسوا جميعَ الأهل ، إنما هم البعضُ ، إذ لا يمكن أَنْ يأتيا جميعَ الأهلِ في العادة في وقتٍ واحد ، فلمَّا ذَكَرَ الاستطعامَ ذكره بالنسبة إلى جميع الأهل كأنهما تَتَبَّعا الأهلَ واحداً واحداً ، فلو قيل : استطعماهم لاحتمل أنَّ الضميرَ/ يعودُ على ذلك البعضِ المأتِيِّ دونَ غيرِه ، فكرَّر الأهلَ لذلك .
قوله : { أَن يُضَيِّفُوهُمَا } مفعولٌ به لقولِه " أبَوْا " . والعامَّة على التشديد مِنْ ضَيَّفَه يُضَيِّفه . والحسن وأبو رجاء وأبو رزين بالتخفيف مِنْ : أضافَه يُضيفه وهما مثل : مَيَّله وأماله .
قوله : { أَن يَنقَضَّ } مفعولُ الإِرادة . و " انقَضَّ " يُحتمل أن يكونَ وزنُه انْفَعَلَ ، من انقِضاضِ الطائرِ أو مِنْ القِضَّة وهي الحَصَى الصِّغار . والمعنى : يريدُ اَنْ يتفتَّتَ كالحصى ، ومنه طعامٌ قَضَضٌ إذا كان فيه حَصَى صِغارٌ . وأن يكونَ وزنُه افْعَلَّ كاحْمَرَّ مِن النَّقْضِ يقال : نَقَضَ البناءَ يَنْقُضُه إذا هَدَمه . ويؤيِّد هذا ما في حرفِ عبدِ الله وقراءةِ الأعمش " يريد ليُنْقَضَ " مبنياً للمفعول واللامِ ، كهي في قولِه { يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ } [ النساء : 26 ] . وما قرأ به اُبَيٌّ كذلك إلا أنَّه { يُرِيدُ أَن يُنقَضَ } بغير لام كي .
وقرأ الزُّهْري " أنْ يَنْقَاضَ " بألفٍ بعد القاف . قال الفارسيُّ : " هو مِنْ قولهم قِضْتُه فانقاضَ " أي : هَدَمْتُه فانهدم " . قلت : فعلى هذا يكونُ وزنُه يَنْفَعِل . والأصل انْقَيَض فَأُبْدِلَت الياءُ ألفاً . ولمَّا نَقَل أبو البقاء هذه القراءةَ قال : " مثل : يَحْمارّ " ومقتضى هذا التشبيه أن يكونَ وزنُه يَفْعالَّ . ونقل أبو البقاء أنه قُرِئ كذلك بتخفيفِ الضاد قال : " وهو مِنْ قولِك : انقاضَ البناءُ إذا تهدَّم " .
وقرأ عليٌّ أميرُ المؤمنين رضي الله عنه وعكرمة في آخرين " يَنْقاص " بالصاد مهملةً ، وهو مِنْ قاصَه يَقِيْصُه ، أي : كسره . قال ابنُ خالويه : " وتقول العرب " انقاصَتِ السِّنُّ : إذا انشقَّتْ طولاً " . وأُنْشِدُ لذي الرُّمَّة :
3185- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . مُنْقاصٌ ومُنْكِثبُ
وقيل : إذا تَصَدَّعَتْ كيف كان . وأُنْشِد لأبي ذؤيب :
3186 فِراقٌ كقَيْصِ السِّنِّ ، فالصَّبْرَ إنَّه ... لكلِّ أُناسٍ عَثْرَةٌ وجُبورُ
ونسبةُ الإِرادةِ إلى الجدارِ مجازٌ وهو شائعٌ جداً . ومِنْ أنكر المجازَ مطلقاً أو في القرآنِ خاصةً تَأَوَّلَ ذلك على أنه خُلِقَ للجِدار حياةٌ وإرادة كالحيوانات . أو أنَّ الإِرادةَ صدرت من الخَضِرِ ليَحْصُلَ له ولموسى من العَجَبِ . وهو تَعَسُّفٌ كبيرٌ . وقد أنحى الزمخشريُّ على هذا القائِل إنحاءً بليغاً .
قوله : " لاتَّحّذْتَ " قرأ ابن كثير وأبو عمرو " لتَخِذْتَ " بفتح التاءِ وكسرِ الخاءِ مِنْ تَخِذَ يَتْخَذُ كتَعِبَ ويتعَبُ . والباقون : : لاتَّخَذْتَ " بهمزةِ الوصلِ وتشديدِ التاءِ وفتحِ الخاءِ مِنَ الاتِّخاذ . واختُلِفَ : هل هما مِن الأَخْذ ، والتاءُ بدلٌ من الهمزة ، ثم تُحْذَفُ التاءُ الأولى فيُقال : تَخِذَ ، كتَقِيَ مِنْ اتَّقَى نحو :
3187- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَقِ اللهَ فينا والكتابَ الذي تَتْلُوْ
أم هما مِنْ تَخِذَ والتاءُ أصيلةٌ ، ووزنُهما فَعِل وافْتَعَل؟ قولان تقدَّم تحقيقُهما في هذا الموضوع . والفِعْلُ هنا على القراءتين متعدٍّ لواحدٍ لأنَّه بمعنى الكسب .
(1/3117)

قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
قوله : { فِرَاقُ بَيْنِي } : العامَّةُ على الإِضافةِ اتِّساعاً في الظرف . وقيل : هو بمعنى الوَصْلِ . ومِثلُه قولُه :
3188- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وجِلْدَةُ بين العَيْنِ والأَنْفِ سالِمُ
وقرأ ابنُ أبي عبلة " فِراقٌ " بالتنوين على الأصل . وتكريرُ المضافِ إليه عطفاً بالواو هو الذي سَوَّغ إضافةَ " بَيْنَ " إلى غيرِ متعدِّدٍ ، ألا ترى أنَّك لو اقتصَرْتَ على قولك : " المالُ بيني " لم يكن كلاماً حتى تقولَ : بيننا ، أو بيني وبين فلان . وقرأ ابن وثاب " سَأُنْبِيْكَ " بإخلاص الياء بدلَ الهمزة .
(1/3118)

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
قوله : { لِمَسَاكِينَ } : العامَّةُ على تخفيفِ السِّين ، جمعَ " مِسْكين " . وقرأ عليَّ أميرُ المؤمنين - كرَّم الله وجهَه - بتشديدِها جمع " مَسَّاك " . وفيه قولان ، أحدُهما : أنه الذي يُمْسِك سكان السفينة . وفيه بعضُ مناسبة . والثاني : أنه الذي يَدْبَغُ المُسُوك جمعَ " مَسْك " بفتح الميم وهي الجُلود . وهذا بعيدٌ ، لقولِه { يَعْمَلُونَ فِي البحر } . ولا أظنُّها إلا تحريفاً على أمير المؤمنين . و " يَعْملون " صفةٌ لمساكين .
قوله : { وَرَآءَهُم مَّلِكٌ } " وراء " هنا قيل : يُراد بها المكانُ . وقيلَ : الزمانُ . واخْتُلِف/ أيضاً فيها : هل هي على حقيقتِها أو بمعنى أمام؟ وأنشدوا على هذا الثاني :
3189- اليس ورائي أَنْ أَدِبَّ على العَصا ... فَيَأْمَنَ أعدائي ويَسْأَمَني أَهْلي
وقولَ لبيد :
3190- أليس ورائي إنْ تراخَتْ مَنِيَّتي ... لُزومُ العَصا تُحْنَى عليها الأصابعُ
وقول سَوَّار بن المُضَرِّبِ السَّعْدي :
3191- أَيَرْجُو بنو مروانَ سَمْعي وطاعتي ... وقومي تميمٌ والفلاةُ ورائيا
ومثله قولُه تعالى : { مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ } [ إبراهيم : 16 ] ، أي : بين يديه .
قوله : " غَصْباً " فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مصدرٌ في موضعِ الحال ، أو منصوبٌ على المصدرِ المبيِّنِ لنوعِ الأَخْذِ ، أو منصوبٌ على المفعولِ له . وهو بعيدٌ في المعنى . وادَّعى الزمخشري أنَّ في الكلامِ تقديماً وتأخيراً فقال : " فإنْ قلتَ : قولُه " " فَأَرَدْتُ أَنْ أعيبَها " مُسَبَّبٌ عن خوفِ الغَصْبِ عليها فكان حقُّه أن يتأخرَ عن السبب فلِمَ قُدِّم عليه؟ قلت : النيةُ به التأخيرُ ، وإنما قُدِّمَ للعنايةِ به ، ولأنَّ خَوْفَ الغَصبِ ليس هو السببَ وحدَه ، ولكن مع كونِها للمساكينِ ، فكان بمنزلةِ قولِك : زيدٌ ظنَِّي مقيمٌ " .
(1/3119)

وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80)
قوله : { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ } : التثنيةُ للتغليبِ ، يريد : أباه وأمه ، فغلَّب المذكرَ ، وهو شائعٌ . ومثلُه : القمران والعُمَران . وقد تقدَّم في يوسف : أنَّ الأبوين يُراد بهما الأبُ والخالَةُ فهذا أقربُ .
والعامَّةُ على " مُؤْمِنَيْنِ " بالياء . وأبو سعيد الخُدريُّ والجحدري " مؤمنان " بالألف . وفيه ثلاثةُ أوجهٍ . أحدُها : أنه على لغة بين الحارث وغيرهم . الثاني : أنَّ في " كان " ضميرَ الشأنِ ، و " أبواه مؤمنان " مبتدأ وخبرٌ في محلِّ النصبِ كقوله :
3192-إذا مِتُّ كان الناسُ صِنْفانِ شامِتٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فهذا أيضاً محتمِلٌ للوجهين . الثالث : أن في " كان " ضميرَ الغلامِ ، أي : فكان الغلامُ والجملةُ بعده الخبرُ . وهو أحسنُ الوجوهِ .
(1/3120)

فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
قوله : { أَن يُبْدِلَهُمَا } : قرأ نافع وأبو عمرو بفتح الباء وتشديد الدال مِنْ " بَدَّلَ " هنا ، وفي التحريم { أَن يُبْدِلَهُ } وفي القلم { أَنْ يُبْدِلَنا } والباقون بسكونِ الباءِ وتخفيفِ الدالِ مِنْ " أَبْدَلَ " في المواضعِ الثلاثة . فقيل : هما لغتان بمعنىً واحد . وقال ثعلب : الإِبدالُ تَنْحِيَةُ جوهرَةٍ ، واستئنافُ أخرى . وأنشد :
3193- عَزْلَ الأميرِ للأميرِ المُبْدَلِ ... قال : ألا تراه نَحَّى جسماً ، وجعل مكانَه آخرَ . والتبديلُ : تغييرُ الصورةِ إلى غيرِها ، والجوهرةُ باقيةٌ بعينِها . واحتجَّ الفراء بقولِه تعالى : { يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] قال : " والذي قال ثعلبٌ حسنٌ ، إلا أنَّهم يجعلون اَبْدَلْتُ بمعنى بَدَّلْتُ " . قلت : ومِنْ ثَمَّ اختلف الناسُ في قولِه تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض } [ إبراهيم : 48 ] : هل يتغير الجسمُ والصفةُ ، أو الصفةُ دونَ الجسمِ؟
قوله : " رُحْماً " قرأ ابن عامر " رُحُماً " بضمتين . والباقون بضمةٍ وسكونٍ وهما بمعنى الرحمة . قال رؤبة :
3192- يا مُنْزِلَ الرُّحْمِ على إدْريسا ... ومُنْزِلَ اللَّعْنِ على إِبْليسا
وقيل : الرُّحْم بمعنى الرَّحِم . وهو لائقٌ هنا مِنْ أجلِ القَرابةِ بالولادة . ويؤيِّده قراءةُ ابنِ عباس " رَحِماً " بفتحِ الراءِ وكسرِ الحاءِ . و " زكاة ورُحْماً " منصوبان على التمييز .
(1/3121)

وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
قوله : { رَحْمَةً } : فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أوضحُها : أنَّه مفعولٌ له . الثاني : أَنْ يكونَ في موضعِ الحالِ من الفاعل ، أي : أراد ذلك راحماً ، وهي حالٌ لازمةٌ . الثالث : أَنْ ينتصِبَ انتصابَ المصدرِ لأنَّ معنى { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ } معنى " فَرَحِمَهما " .
قوله : تَسْطِعْ " ، قيل : أصلُه استطاع ، فَحُذِفَتْ تاءُ الافتعالِ . وقيل : المحذوفُ : الطاءُ الأصلية ثم أُبْدِلت تاءُ الافتعال طاءً بعد السِّين . وهذا تكلُّفشٌ بعيدٌ . وقيل : السينُ مزيدةٌ عوضاً من قلبِ الواوِ ألفاً ، والأصلُ : أطاع . ولتحقيقِ القولِ فيه موضعٌ غيرُ هذا .
ويقال : " استتاعَ " بتاءين ، و " اسْتاعَ " بتاء واحدة ، فهذه أربعُ لغاتٍ ، حكاها ابن السكيت .
(1/3122)

وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83)
قوله : { مِّنْهُ ذِكْراً } : أي : مِنْ أخبارِهِ وقَصَصِه .
(1/3123)

إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
قوله : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ } : مفعولُه محذوفٌ ، أي : أمره وما يريد .
(1/3124)

فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)
قوله : { فَأَتْبَعَ } : قرأ نافعٌ وابن كثير وأبو عمرو " فَأَتْبَعَ " و " ثم أَتْبَعَ " في المواضعِ الثلاثة بهمزةِ وصلٍ وتشديدِ التاء . والباقون بهمزةِ القطع وسكونِ التاء . فقيل : هما بمعنى واحدٍ فيتعدَّيان لمفعولٍ واحدٍ . وقيل : " أتبع " بالقطعِ متعدٍ لاثنين حُذِف أحدُهما تقديرُه : فأتبع سبباً سبباً آخرَ ، أو فأتبع أمرَه سبباً . ومنه { وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً } [ القصص : 42 ] فعدَّاه لاثنين/ ومِنْ حَذْفِ أحدِ المفعولين : قولُه تعالى : { فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ } [ الشعراء : 60 ] ، أي : أَتْبعوهم جنودَهم . واختار أبو عبيد " اتَّبع " بالوصل ، قال : " لأنه من المسيرِ " قال " تقول " تَبِعْتُ القومَ واتَّبَعْتُهم . فأما الإِتباعُ بالقَطْع فمعناه اللَّحاق ، كقولِه تعالى : { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [ الصافات : 10 ] . وقال يونس وأبو زيد : " أَتْبَعَ " بالقطع عبارةٌ عن المُجِدِّ المُسْرِعِ الحثيثِ الطلبِ . وبالوصل إنما يتضمَّن الاقتفاءَ دونَ هذه الصفات .
(1/3125)

حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)
قوله : { حامِيَةٍ } : قرأ ابن عامر وأبو بكر والأخَوان بالألف وياءٍ ضريحة بعد الميم . والباقون دون ألفٍ وهمزة بعد الميم . فأمَّا القراءةُ الأولى فإنها اسمُ فاعلٍ مِنْ حَمِي يَحْمِي ، والمعنى : في عينٍ حارَّة . واختارها أبو عبيدٍ ، قال : " لأنَّ عليها جماعةً من الصحابة " وسمَّاهم . وأمَّا الثانيةُ فهي مِنَ الحَمْأةِ وهي الطينُ .
وكان ابنُ عباس عند معاويةَ . فقرأ معاويةُ " حاميةٍ " فقال ابن عباس : " حَمِئَةٍ " . فسأل معاويةُ ابنَ عمرَ كيف تقرأ؟ فقال : كقراءةِ أمير المؤمنين . فبعث معاويةُ ، فسأل كعباً فقال : " أَجِدُها تغرُب في ماءٍ وطين " . فوافق ابن عباس . وكان رجلٌ حاضرٌ هناك فأنشد قولَ تُبَّع :
3195- فرأى مغيبَ الشمسِ عند مآبِها ... في عينِ ذي خُلُبٍ وثَأْطٍ حَرْمِدِ
ولا تناقضَ بين القراءتينِ؛ لأنَّ العينَ جامعةٌ بين الوصفين : الحرارةِ وكونِها مِنْ طين .
قوله : { إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ } يجوز في { أَن تُعَذِّبَ } الرفعُ على الابتداءِ ، والخبرُ محذوفٌ ، أي : إمَّا تعذيبُك واقعٌ ، أو الرفعُ على خبرٍ مبتدأ مضمرٍ ، أي : هو تعذيبُك . والنصبُ ، أي : إمَّا أَنْ تَفْعَلَ أَنْ تُعَذَّبَ .
(1/3126)

وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
قوله : { جَزَآءً الحسنى } : قرأ الأخوان وحفصٌ بنصب " جزاءً " وتنوينِه . والباقون برفعِه مضافاً . فالنصبُ على المصدر المؤكِّد لمضمونِ الجملة ، فتُنْصَبُ بمضمرٍ أو مؤكِّدٍ لعاملٍ مِنْ لفظِه مقدرٍٍ ، أي : يَجْزِي جزاء . وتكونُ الجملةُ معترضةً بين المبتدأ وخبرِه المقدَّمِ عليه . وقد يُعْترض على الأولِ : بأنَّ المصدرَ المؤكِّدَ لمضمونِ جملةٍ لا يتقدَّمُ عليها ، فكذا لا يَتَوسَّط . وفيه نظرٌ يحتمل الجوازَ والمنعَ ، وهو إلى الجوازِ أقربُ .
الثالث : أنه في موضع الحالِ . والقراءةُ الثانية رفعُه فيها على الابتداء ، والخبرُ الجارُّ قبلَه . و " الحُسْنى " مضاف إليها . والمرادُ بالحُسْنى الجنَّةُ . وقيل : الفَعْلَة الحسنى .
الرابع : نصبُه على التفسيرِ . قاله الفراء . يعني التمييزَ . وهو بعيدٌ .
وقرأ ابن عباس ومسروقٌ بالنصبِ والإِضافةِ . وفيها تخريجان ، أحدُهما : أنَّ المبتدأَ محذوفٌ ، وهو العاملُ في " جزاءَ الحسنى " التقديرُ : فله الجزاءُ جزاءَ الحسنى . والثاني : أنه حَذَفَ التنوينَ لالتقاءِ الساكنين كقوله :
3196- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللهَ إلاَّ قليلا
ذكره المهدويُّ .
وقرأ عبد الله وابن أبي إسحاق " جزاءً " مرفوعاً منوناً على الابتداء . و " الحُسْنى " بدلٌ أو بيان ، أو منصوبةٌ بإضمار " أَعْني " ، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ .
و " يُسْراً " نعتُ مصدرٍ محذوفٍ ، أي : قولاً ذا يُسْرٍ . وقرأ أبو جعفر بضمِّ " اليُسْر " حيث وَرَدَ .
(1/3127)

حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90)
قوله : { مَطْلِعَ } : العامَّةُ على كسر اللام ، والمضارعُ يَطْلُع بالضم ، فكان القياسُ فتحَ اللامِ في المَفْعَل مطلقاً ، ولكنها مع أخواتٍ لها سُمع فيها الكسر ، وقياسُها الفتح . وقد قرأ ابن الحسن وعيسى وابن محيصن ، ورُوِيَتْ عن ابن كثير وأهلِ مكة . قال الكسائي : " هذه اللغةُ قد ماتَتْ " يعني : أي : بكسر اللام من المضارع والمفْعِل . وهذا يُشْعِرُ أنَّ مِن العرب مَنْ كان يقول : طَلَع يَطْلِعُ بالكسرِ في المضارع .
(1/3128)

كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)
قوله : { كَذَلِكَ } : الكافُ : إمَّا مرفوعةُ المحلِّ ، أي : الأمر كذلك . أو منصوبتُه ، أي : فَعَلْنا مثلَ ذلك .
قوله : { بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } " بين " هنا يجوز أن يكونَ طرفاً ، والمفعولُ محذوفٌ ، أي : بلغ غَرَضَه ومقصودَه ، وأَنْ يكونَ مفعولاً به على الاتِّساع ، أي : بلغ المكانَ الحاجزَ بينهما .
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح سين " السَّدَّين " و " سَدَّا " في هذه السورةِ ، وحفص فتح الجميع ، أعني موضعَيْ هذه السورة وموضعَيْ سورةِ يس . وقرأ الأخَوان بالفتح في " سَدَّاً " في سورتيه وبالضمِّ في " السُّدَّيْن " . والباقون بالضم في الجميع . فقيل : هما بمعنى واحد . / وقيل : المضمومُ ما كان من فِعْلِ اللهِ تعالى ، والمفتوحُ ما كان مِنْ فِعْلِ الناس . وهذا مرويٌ عن عكرمةَ والكسائي وأبي عبيد . وهو مردودٌ : بأن السَّدَّيْن في هذه السورة جَبَلان ، سَدَّ ذو القرنين بينهما بسَدّ ، فهما مِنْ فِعْلِ اللهِ ، والسَّدُُّ الذي فعله ذو القرنين مِنْ فِعْل المخلوق . و " سَدّاً " في يس مِنْ فِعْلِ الله تعالى لقولِه : " وجَعَلْنا " ، ومع ذلك قُرِئ في الجميع بالفتح والضمِّ . فَعُلِم أنهما لغتان كالضَّعْف والضُّعف والفَقْر والفُقْر . وقال الخليل : المضمومُ اسمٌ ، والمفتوحُ مصدرٌ . وهذا هو الاختيارُ .
(1/3129)

حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93)
قوله : { يَفْقَهُونَ } : قرأ الأخَوان بضمِّ الياء وكسرِ القافِ مِنْ أَقْفَهَ غيرَه ، فالمفعولُ محذوفٌ ، أي : لا يُفْقهون غيرهم قولاً . والباقون بفتحها ، أي : لا يَفْهمون كلامَ غيرِهم ، وهو بمعنى الأول . وقيل : ليس بمتلازِمٍ؛ إذ قد يَفْقَهُ الإِنسانُ قولَ غيرِه ولا يَفْقَه غيرُه قولَه . وبالعكس .
(1/3130)

قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)
قوله : { يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ } : قرأ عاصمٌ بالهمزة الساكنة ، والباقون بألفٍ صريحة . واخْتُلِف في ذلك فقيل : هما أعجميان . لا اشتقاقَ لهما ومُنعا من الصرف للعلَميَّة والعُجْمة . ويحتمل أَنْ تكونَ الهمزةُ أصلاً والألفُ بدلٌ عنها ، أو بالعكسِ؛ لأنَّ العربَ تتلاعب بالأسماءِ الأعجمية . وقيل : بل هما عربيَّان واختلفوا في اشتقاقِهما : فقيل : اشتقاقُهما مِنْ أَجيج النار وهو التهابُها وشِدَّةُ تَوَقُّدِها . وقيل : مِنَ الأَجَّة . وهو الاختلاطُ أو شدةُ الحَرِّ . وقيل : من الأجِّ ، وهو سُرْعةُ العَدْوِ . ومنه قوله :
3197- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تؤجُّ كما أجَّ الظَّليمُ المُنَفَّرُ
وقيل : من الأُجاجِ ، وهو الماءُ المِلْحُ الزُّعاق . ووزنهما يَفْعُوْل ومَفْعُول . وهذا ظاهرٌ على قراءةِ عاصمٍ . وأمَّا قراءةُ الباقين فيُحتمل أن تكونَ الألفُ بدلاً من الهمزة الساكنة ، إلا أنَّ فيه أنَّ مِنْ هؤلاءِ مَنْ ليس أصلُه قَلْبَ الهمزةِ الساكنةِ وهم الأكثرُ . ولا ضَيْرَ في ذلك . ويُحتمل أَنْ تكونَ ألفُهما زائدتين ، ووزنُهما فاعول مِنْ يَجَّ ومَجَّ .
ويُحتمل أَنْ يكونَ ماجوج مِنْ ماج يموج ، أي : اضطرب ومنه المَوْجُ فوزنُه مَفْعول والأصل : مَوْجُوج . قاله أبو حاتم . وفيه نظرٌ من حيث ادِّعاءُ قَلْبِ حَرْفِ العلة وهو ساكنٌ . وشذوذُه كشذوذِ " طائيّ " في النسب إلى طيِّئ . وعلى القولِ بكونِهما عربيين مشتقين فَمَنْعُ صرفِهما للعَلَميَّةِ والتأنيثِ بمعنى القبيلة ، كما تقدَّم لك تحقيقهُ في سورة هود . ومثلُ هذا الخلافِ والتعليلِ جارٍ في سورة الأنبياء عليهم السلام . والهمزةُ في يَأْجوج ومَأْجوج لغةُ بني أسد . وقرأ رؤبة وأبوه العجاج " آجوج " .
قوله : " خَراجاً " قرأ ابن عامر " خَرْجاً " هنا وفي المؤمنين بسكون الراء ، والأخَوان " خراجاً " " فَخَراج " في السورتين بالألف ، والباقون كقراءةِ ابن عامر في هذه السورة ، والأول في المؤمنين وفي الثاني وهو " فَخَراج " كقراءة الأخوين . فقيل : هما بمعنى واحد كالنَّوْل والنَوال . وقيل : الخراجُ بالألف ما صُرِفَ على الأرضِ من الإِتاوة كلَّ عام ، وبغير ألف بمعنى الجُعْل ، أي : نُعْطيك مِنْ أموالِنا مرةً واحدة ما تَسْتعين به على ذلك .
قال مكي رحمه الله : " والاختيارُ تَرْكُ الألف؛ لأنهم إنما عَرَضوا عليه أن يُعطوه عَطِيَّة واحدة على بناءه ، لا أَنْ يُضْرَبَ ذلك عليهم كلَّ عام . وقيل : الخَرْج ما كان على الرؤوس ، والخراج ما كان على الأرض ، يقال : أَدَّ خَرْجَ رأسِكَ ، وخراجَ أرضِك . قاله ابن الأعرابي . وقيل : الخَرْجُ أخصُّ ، والخَراجُ أعَمُّ . قاله ثعلب . وقيل : الخَرْجُ مصدرٌ ، والخَراج اسمٌ لِما يُعطى ، ثم قد يُطلق على المفعول المصدرُ كالخَلْق بمعنى المخلوق .
(1/3131)

قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)
قوله : { مَا مَكَّنِّي } : " ما " بمعنى الذي . وقرأ ابن كثير " مكَّنني " بإظهار النون . والباقون بإدغامِها في نون الوقاية للتخفيف .
(1/3132)

آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
قوله : { آتُونِي } : قرأ أبو بكر " ايتوني " بهمزةِ وصل مِنْ أتى يَأتي في الموضعين من هذه السورة بخلافٍ عنه في الثاني . وافقه حمزةُ على الثاني من غيرِ خلافٍ عنه . والباقون بهمزةِ القطعِ فيهما . ف " زُبُرَ " على قراءةِ همزةِ الوصل منصوبةٌ على إسقاط الخافض ، أي : جيئوني بزُبُرِ الحديد . وفي قراءة قَطْعِها على المفعول الثاني لأنه يتعدَّى/ بالهمزة إلى اثنين . وعلى قراءة أبي بكر يُحتاج إلى كسر التنوين من " رَدْماً " لالتقاءِ الساكنين؛ لأنَّ همزةَ الوصلِ تسقط دَرْجاً فيُقْرأ له بكسر التنوين ، وبعده همزةٌ ساكنة هي فاءُ الكلمة . وإذا ابتدأت بكلمتي " ائتوني " في قراءتِه وقراءةِ حمزة تبدأ بهمزةٍ مكسورةٍ للوصل ثم ياءٍ صريحة ، هي بدلٌ من همزةِ فاء الكلمة ، وفي الدَّرْجِ تسقط همزةُ الوصل ، فتعود الهمزةُ لزوالِ موجِبِ إبدالها .
والباقون يَبْتَدِئون ويَصِلُون بهمزةٍ مفتوحة لأنها همزة قطع ، ويتركون تنوين " رَدْماً " على حاله من السكون ، وهذا كلُّه ظاهرٌ لأهلِ النحو ، خَفِيٌّ على القُرَّاء .
والزُّبَرُ جمع زُبْرَة كغُرْفَة وغُرَف . وقرأ الحسن بضم الباء .
قوله : " ساوَى " هذه قراءةُ الجمهور ، وقتادة " سوَّى " بالتضعيف . وعاصمٌ في رواية " سُوِّيَ " مبنياً للمفعول .
قوله : " الصَّدَفَيْن " قرأ أبو بكر بضم الصاد وسكون الدال . وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بضمِّهما ، والباقون بفتحهما . وهذه لغاتٌ قُرِئ بها في السبع . وأبو جعفر وشيبة وحميد بالفتح والإِسكان ، والماجِشون بالفتح والضم ، وعاصم في روايةٍ بالعكس .
والصَّدَفان : ناحيتا الجبلين . وقيل : أَنْ يتقابلَ جبلان وبينهما طريق ، فالناحيتان صَدَفان لتقابُلِهما وتصادُفِهما ، مِنْ صادَفْتُ الرجلَ ، أي : لاقَيْتُه وقابَلْته . وقال أبو عبيد : " الصَّدَفُ : كل بناءٍ مرتفع وليس بمعروفٍ ، والفتح لغة تميم ، والضمُّ لغة حِمْير " .
قوله : " قِطْراً " هو المتنازَعُ فيه . وهذه الآيةُ أشهر أمثلةِ النحاةِ في باب التنازع ، وهي من إعمالِ الثاني للحذف من الأول . والقِطْر : النُّحاس أو الرَّصاصُ المُذاب .
(1/3133)

فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)
قوله : { فَمَا اسطاعوا } : قرأ حمزة بتشديد الطاء ، والباقون بتخفيفها . والوجهُ في الإِدغام كما قال أبو علي : " لمَّا لم يمكن إلقاءُ حركةِ التاءِ على السين لئلا يُحَرَّكَ ما لا يتحرك " - يعني أنَّ سين استفعل لا تتحرك - أُدْغم مع الساكن ، وإن لم يكن حرف لين . وقد قرأت القراءُ غيرَ حرفٍ من هذا النحو . وقد أنشد سيبويه " ومَسْحِيِ " يعني في قول الشاعر :
3198- كأنَّه بعد كَلالِ الزَّاجِرِ ... ومَسْحِي مَرُّ عُقُابٍ كاسِرِ
يريد " ومَسْحِه " فأدغم الحاء في الهاء بعد أَنْ قَلَبَ الهاءَ حاءً ، وهو عكسُ قاعدةِ الإِدغام في المتقاربين . وهذه القراءةُ قد لحنَّها بعضُ النحاة . قال الزجاج : " مَنْ قرأ بذلك فهو لاحِنٌ مخطئٌ " وقال أبو علي : " هي غيرُ جائزة " .
وقرأ الأعشى ، عن أبي بكر " اصْطاعوا " بإبدال السين صاداً . والأعمش " استطاعوا " كالثانية .
(1/3134)

قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)
قوله : { جَعَلَهُ دَكَّآءَ } : الظاهرُ ان الجَعْلَ هنا بمعنى التصيير فتكون " دَكَّاء " مفعولاً ثانياً . وجوَّز ابنُ عطية أن يكونَ حالاً ، و " جعل " بمعنى خلق ، وفيه بُعدٌ؛ لأنه إذ ذاك موجودٌ . وقد تقدَّم خلافٌ القراء في " دَكَّاء " في الأعراف .
قوله : { وَعْدُ رَبِّي } الوَعْدُ هنا مصدرٌ بمعنى الموعود أو على بابه .
(1/3135)

وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
قوله : { يَمُوجُ } : مفعولٌ ثانٍ ل " تَرَكْنا " والضمير في " بعضَهم " يعودُ على " يَأْجُوج ومَأْجوج " أو على سائر الخلق .
قوله : " يومئذ " التنوينُ عوضٌ من جملةٍ محذوفة . تقديرُها : يوم إذ جاء وَعْدُ ربي ، أو إذ حَجَرَ السَّدُّ بينهم .
(1/3136)

الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)
قوله : { الذين كَانَتْ } : يجوزُ أَنْ يكونَ مجروراً بدلاً من " للكافرين " أو بياناً أو نعتاً ، وأن يكونَ منصوباً بإضمار أَذُمُّ ، وأن يكونَ مرفوعاً خبرَ ابتداءٍ مضمر .
(1/3137)

أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
قوله : { أَفَحَسِبَ } : العامَّةُ على كسرِ السين وفتح الباء فعلاً ماضياً . و { أَن يَتَّخِذُواْ } سادٌّ مَسَدَّ المفعولين . وقرأ أمير المؤمنين على بن أبي طالب وزيد علي وابن كثير ويحيى بن يعمر في آخرين ، بسكون السينِ ورفعِ الباءِ على الابتداء ، والخبر " أَنْ " وما في حَيَّزها .
وقال الزمخشري : " أو على الفعلِ والفاعلِ لأن اسمَ الفاعلِ إذا اعتمد على الهمزةِ ساوى الفعلَ كقولك : " أقائمٌ الزيدان " وهي قراءةٌ مُحْكَمةٌ جيدةٌ " .
قال الشيخ : والذي يظهرُ أنَّ هذا الإِعرابَ لا يجوزُ لأنَّ حَسْباً ليس باسمِ فاعل فيعمل ، ولا يلزم مِنْ تفسير شيءٍ بشيء أن تجريَ عليه / أحكامُه . وقد ذكر سيبويه أشياءَ مِنَ الصفات التي تجري مَجْرى الأسماءِ ، وأنَّ الوجهَ فيها الرفعُ . ثم قال : وذلك نحو : مررتُ برجلٍ خيرٌ [ منه ] أبوه ، ومررتُ برجلٍ سواءٌ عليه الخيرُ والشرُّ ، ومررت برجلٍ أبٌ له صاحبُه ، ومررت برجلٍ حَسْبُك مِنْ رجلٍ هو ، ومررت برجلٍ أيُّما رجلٍ هو . ثم قال الشيخ : " ولا يَبْعُدُ أَنْ يُرْفَعَ به الظاهرُ ، فقد أجازوا في " مررت برجلٍ أبي عشرةٍ أبوه " ان يرتفعَ " أبوه " بأبي عشرة لأنه في معنى والدِ عشرة " .
قوله : " نزلاً " فيه أوجهٌ ، أحدها : أنه منصوبٌ على الحالِ جمعَ " نازِل " نحوشارِف وشُرُف . الثاني : أنه اسمُ موضعِ النزول . الثالث : أنَّه اسمُ ما يُعَدُّ للنازلين من الضيوفِ ، ويكونُ على سبيلِ التهكُّم بهم ، كقولِه تعالى : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] ، وقوله :
3199- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تحيَّةُ بينِهم ضَرْبٌ وجميعُ
ونصبُه على هذين الوجهين مفعولاً به : أي : صَيَّرنا .
وأبو حيوة " نُزلاً " بسكونِ الزاي ، وهو تخفيفُ الشهيرةِ .
(1/3138)

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103)
قوله : { أَعْمَالاً } : تمييزٌ للأَخْسَرين ، وجُمِعَ لاختلافِ الأنواع .
(1/3139)

الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)
قوله : { الذين ضَلَّ } : يجوز فيه الجرُّ نعتاً وبدلاً وبياناً ، والنصبُ على الذمِّ ، والرفعُ على خبر ابتداء مضمر .
قوله : { يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ } يُسَمَّى في البديع " تجنيسَ التصحيف " وتجنيس الخَطِّ ، وهذا مِنْ أحسنِه . وقال البحتري :
3200- ولم يكن المُغْتَرُّ بالله إذ شَرَى ... لِيُعْجِزَ والمُعْتَزُّ بالله طالبُهْ
فالأولُ من الغُرور ، والثاني مِن العِزِّ . ومِنْ أحسنِ ما جاء في تجنيس التصحيف قوله :
3201- سَقَيْنَني رِيِّيْ وغَنِّيْنَنِيْ ... يُحْتُ بحبِّي حين بِنَّ الخُرُدْ
يصحف بنحو :
3202- شَقَيْتَني ربي وعَنَّيْتِنيْ ... بحُبِّ يحيى خَتَنِ ابن الجُرُدْ
وفي بعضِ رسائلِ الفصحاء : " قَبَّلَ قبلَ يَدِكَ ثَراك ، عبدٌ عند رَخاك رجاك ، آمِلٌ أَمَّك " .
(1/3140)

أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)
وقرأ ابن عباس " فَحَبِطَتْ " بفتح الباء . والعامَّة على " نُقيم " بنون العظمة مِنْ " أقام " . ومجاهد وعبيد بن عمير . " فلا يُقيم " بياءِ الغَيبة لتقدُّم قولِه : { بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } ، فالضميرُ يعود عليه . ومجاهدٌ أيضاً " فلا يقومُ لهم " مضارع قام ، " وزنٌ " بالرفع . وعن عبيد بن عمير أيضاً " فلا يقومُ وزناً " بالنصبِ كأنه تَوَهَّم أنَّ " قام " متعدٍّ . كذا قال الشيخ . والأحسنُ مِنْ هذا أنْ تُعْرَبَ هذه القراءةُ على ما قاله أبو البقاء أَنْ يُجْعَلَ فاعلُ " يقومُ " صنيعُهم أو سَعْيهُم ، وينتصِبُ حينئذٍ " وَزْناً " على أحد وجهين : إمَّا على الحال ، وإمَّا على التمييز .
(1/3141)

ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
قوله : { ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ } : فيه أوجهُ كثيرةٌ أحدُها : أَنْ يكونَ " ذلك " خبرَ مبتدأ محذوف ، أي : الأمر ذلك ، و " جزاؤُهم جهنَّم " جملةٌ برأسها . الثاني : أن يكون " ذلك " مبتدأ اولَ ، و " جزاؤهم " مبتدأٌ ثانٍ و " جهنُم " خبرُه ، وهو وخبرُه خبرُ الأول . والعائدُ محذوف ، أي : جزاؤهم به ، كذا قال أبو البقاء ، فالهاء في " به " تعود على " ذلك " ، و " ذلك " مُشارٌ به إلى عدم إقامة الوزن .
قال الشيخ : " ويحتاج هذا التوجيهُ إلى نظر " . قلت : إنْ عَنَى النظرَ من حيث الصناعةُ فَمُسَلَّمٌ . ووجهُ النظر : أنَّ العائدَ حُذِفَ مِنْ غيرِ مُسَوِّغٍ إلا بتكليفٍ ، فإنَّ العائدَ على المبتدأ إذا كان مجروراً لا يُحْذَفُ إلا إذا جُرَّ بحرفِ تبعيضٍ أو ظرفية ، أو يَجُرُّ عائداً جُرَّ قبله بحرفٍ ، جُرَّ به المحذوفُ كقولِه :
3202- أَصِخْ فالذي تُدْعَى به أنت مُفْلِحٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي : مفلحٌ به . وإنْ عَنَى من حيث المعنى فهو معنى جيدٌ .
الثالث : أن يكون " ذلك " مبتدأً ، و " جزاؤهم " بدلٌ أو بيان ، و " جهنم " خبره . الرابع : أن يكون " ذلك " مبتدأ أيضاً ، و " جزاؤهم " خبره و " جهنمُ " بدلٌ أو بيانٌ أو خبر ابتداء مضمر . الخامس : أن يُجعل " ذلك " مبتدأ و " جزاؤهم " بدلٌ أو بيان و " جهنم " خبر ابتداءٍ مضمرٍ ، و " بما كفروا " خبر الأول ، والجملة اعتراضٌ . السادس : أن يكون " ذلك " مبتدأً ، والجارُّ الخبر ، و " جزاؤهم جهنمُ " جملةٌ معترضةٌ وفيه بُعْدٌ . السابع : أن يكون " ذلك " إشارةً إلى جماعة / وهم مذكورون في قوله : " بالأخسرين " ، وأُشير إلى الجمع كإشارة الواحد كأنه قيل : أولئك جزاؤهم جهنَّمُ ، والإِعرابُ المتقدمُ يعودُ إلى هذا التقدير .
قوله : " واتَّخذوا " فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّه عطفٌ على " كفروا " ، فيكونُ محلُّه الرفعَ لعطفِه على خبر " إنَّ " . الثاني : أنه متسأنفٌ فلا مَحَلَّ له .
والباء في قوله : " بما كفروا " لا يجوزُ تعلُّقُها ب " جزاؤهم " للفَصْلِ بين المصدرِ ومعمولِه .
(1/3142)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)
قوله : { نُزُلاً } : فيه ما تقدَّم : من كونِه اسمَ مكانِ النزولِ ، او ما يُعَدُّ للضيفِ . وفي نصبه وجهان ، أحدهما : أنه خبر " كانت " ، و " لهم " متعلقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حال مِنْ " نُزُلا " ، أو على البيان ، أو ب " كانت " عند مَنْ يرى ذلك . والثاني : أنه حالٌ من " جنات " ، أي : ذوات نُزُلٍ ، والخبرُ الجارُّ .
(1/3143)

خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
قوله : { لاَ يَبْغُونَ } : الجملةُ حالٌ : إمَّا مِنْ صاحب " خالدين " ، وإمَّا من الضمير في " خالدين " ، فتكونُ حالاً متداخلة .
والحِوَل : قيل : مصدرٌ بمعنى التحوُّل : يُقال : حال عن مكانه حِوَلاً ، فهو مصدرٌ كالعِوَج والعِوَد والصِّغَر قال :
3204- لكلِّ دولةٍ أجلُ ... ثم يُتاحُ لها حِوَل
وقال الزجاج : " هو عند قومٍ بمعنى الحِيلة في التنقُّل " . وقال ابن عطية : " والحِوَلُ : بمعنى التحوُّل " قال مجاهد : " مُتَحَوَّلاً " وأنشد الرجز المتقدم ثم قال : " وكأنه اسم جمع ، وكأنَّ واحدَة حوالة " قلت : وهذا غريب والمشهورُ الأولُ . والتصحيح في فِعَل هو الكثير إن كان مفرداً نحو : الحِوَل وإن كان جمعاً فالعكسُ نحو : " ثِيَرة " و . . . .
(1/3144)

قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
قوله : { تَنفَدَ } : قرأ الأَخوان " يَنْفَذَ " بالياء من تحتُ؛ لأنَّ التأنيثَ مجازي . والباقون بالتاء من فوقُ لتأنيثِ اللفظ . وقرأ السُّلمي - ورُويت عن أبي عمرو وعاصم - تَنَفَّدَ - بتشديدِ الفاءِ ، وهو مُطاوَعُ نَفَّدَ بالتشديد نحو : كسَّرته فتكسَّر . وقراءةُ الباقين مطاوعُ أَنْفَدْته .
قوله : " ولو جِئنا " جوابُها محذوف لِفَهْمِ المعنى تقديره : لنفِدَ . والعامَّةُ على " مَدَداً " بفتح الميم . والأعمشُ قرأ بكسرها ، ونصبُه على التمييز كقوله :
3205- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فإنَّ الهوى يَكْفِيْكه مثلُه صَبْرا
وقرأ ابن مسعود وابنُ عباس " مِداداً " كالأول . ونصبُه على التمييز أيضاً عند أبي البقاء . وقال غيرُه - كأبي الفضل الرازي - : إنه منصوب على المصدرِ بمعنى الإِمداد نحو : { أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } [ نوح : 17 ] قال : والمعنى : ولو أَمْدَدْناه بمثلِه إمداداً .
(1/3145)

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
قوله : { أَنَّمَآ إلهكم } : " أنَّ " هذه مصدرية وإنْ كانت مكفوفةً ب " ما " . وهذا المصدر قائمٌ مقامَ الفاعلِ كأنه قيل : إنما يُوْحَى إليَّ التوحيدُ .
قوله : { وَلاَ يُشْرِكْ } العامَّةُ على الياءِ مِنْ تحتُ ، عُطِفَ بها على أمرٍ . ورُوي عن أبي عمروٍ { وَلاَ تُشْرِكْ } بالتاءِ مِنْ فوقُ خطاباً على الالتفات من الغَيْبة إلى الخطاب ثم التُفِتَ في قولِه { بِعِبَادَةِ رَبِّهِ } إلى الأول . ولو جيْءَ على الالتفات الثاني : لقيل : ربك . والباءُ سببية ، أي : بسبب . وقيل : بمعنى في .
والفِرْدوس : الجَنَّةُ مِن الكَرْم خاصة . وقيل : بل ما كان غالبُها كَرْماً . وقيل : كل ما حُوِطَ فهو فِرْدوسٌ والجمع فراديس . وقال المبرد : " الفِرْدوس فيما سمعتُ من العرب : الشجرُ الملتفُّ ، والأغلبُ عليه أن يكون من العِنَب " . وحكى الزجاج أنها الأَوْدِيَة التي تُنْبِتُ ضُروباً من النَّبْت . واختُلف فيه : فقيل : هو عربيٌّ وقيل : أعجمي . وهل هو روميٌّ أو فارسيٌّ أو سُرْيانيٌّ؟ قيل : ولم يُسْمع في كلام العرب إلا في بيت حَسَّان :
3206- وإنَّ ثوابَ اللهِ كلَّ مُوحِّدِ ... جِنانٌ من الفردوسِ فيها يُخْلَّدُ
وهذا ليس بصحيح ، لأنه سُمع في شعرِ أميةَ بنِ أبي الصلت :
3207- كانت منازلُهمْ إذ ذاك ظاهرةً ... فيها الفَراديسُ ثم الثومُ والبَصَلُ
ويقال : كَرْمٌ مُفَرْدَسٌ ، أي : مُعَرَّشٌ ، ولهذا سُمِّيَتِ الروضةُ التي دونَ اليَمامة فِرْدَوساً .
وإضافةُ " جنَّات " إلى الفِرْدوس إضافةٌ تبيينٍ .
(1/3146)

ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)
قوله : { ذِكْرُ } : فيه ثلاثةُ أوجهٍِ . أحدُها : أنه مبتدأٌ محذوفُ الخبر ، تقديرُه : فيما يُتْلَى عليكم ذِكْرُ . الثاني : أنه خبرٌ محذوفٌ المبتدأ ، تقديرُه : المَتْلُوُّ ذِكْرُ ، أو هذا ذِكْرُ . الثالث : أنه خبرُ الحروفِ المتقطعةِ ، وهو قولُ يحيى بن زياد . قال أبو البقاء : " وفيه بُعْدٌ؛ لأن الخبرَ هو المبتدأُ في المعنى ، وليس في الحروفِ المقطَّعةِ ذِكْرُ الرحمةِ ، ولا في ذكرِ الرحمة معناها " .
والعامَّةُ على تسكينِ أواخرِ هذه الأحرفِ المقطَّعةِ ، وكذلك كان بعضُ القُرِّاءِ يقفُ على كلِّ حرفٍ منها وَقْفَةً يسيرةً مبالغَةً في تمييزِ بعضِها مِنْ بعضٍ .
وقرأ الحسنُ " كافُ " بالضم ، كأنه جَعَلها معربةً ، ومَنَعها من الصَّرْف للعَلَميَّةِ والتأنيث . وللقُرَّاء خلافٌ في إمالة " يا " و " ها " وتفخيمِهما . وبعضُهم يُعَبِّر عن التفخيم بالضمِّ ، كما يُعَبِّر عن الإِمالةِ بالكسرِ ، وإنما ذكَرْتُه لأنَّ عبارتَهم في ذلك مُوْهِمَةٌ .
وأظهر دالَ صاد قبل ذال " ذَكْرُ " نافعٌ وابنُ كثير وعاصم لأنه الأصل ، وأدغمها فيها الباقون .
والمشهورُ إخفاءُ نونِ " عَيْن " قبل الصاد؛ لأنها تُقاربها ، ويشتركان في الفم ، وبعضُهم يُظْهِرُها لأنها حروف مقطعة يُقْصَدُ تمييزُ بعضِها [ من بعض ] .
و " ذِكْرُ " مصدرٌ مضافٌ . قيل : إلى مفعولِه وهو الرحمةُ ، والرحمةُ في نفسها مصدرٌ أيضاً مضافٌ إلى فاعلِه ، و " عبدَه " مفعولٌ به . والناصبُ له نفسُ الرحمةِ ، ويكونُ فاعلُ الذِّكْرِ غيرَ مذكورٍ لفظاً ، والتقدير : أَنْ ذَكَرَ اللهُ رحمتَه عبدَه . وقيل : بل " ذِكْرُ " مضافٌ إلى فاعلِه على الاتِّساعِ ويكون " عبدَه " منصوباً بنفسِ الذِّكْر ، والتقديرُ : أَنْ ذَكَرَتِ الرحمةُ عبدَه ، فَجَعَلَ الرحمةَ ذاكرةً له مجازاً .
و " زكريَّا " بدلٌ أو عطفٌ بيانٍ ، أو مصنوبٌ بإضمار " أَعْني " .
وقرأ يحيى بن يعمر - ونقلها الزمخشريُّ عن الحسنِ - " ذَكَّرَ " فعلاً ماضياً مشدِّدا ، و " رحمةَ " بالنصبِ على أنها مفعولٌ ثانٍ قُدِّمَتْ على الأولِ ، وهو " عبدَه " والفاعلُ : إمَّا ضميرُ القرآنِ ، أو ضميرُ الباري تعالى . والتقدير : أَنْ ذكَّر القرآنُ المتلُوُّ - أو ذَكَّر اللهُ - عَبْدَه رحمتَه ، أي : جَعَلَ العبدَ يَذْكرُ رحمتَه . ويجوز على المجازِ المتقدِّمِ أن تكون " رحمةَ ربك " هو المفعولَ الأولَ ، والمعنى : أنَّ اللهَ جَعَلَ الرحمةَ ذاكرةً للعبدِ . وقيل : الأصلُ : ذكَّرَ برحمةٍ ، فلمَّا انْتُزِعَ الجارُّ نُصِب مجرورُه ، ولا حاجةَ إليه .
وقرأ الكلبيُّ " ذَكَرَ " بالتخفيفِ ماضياً ، " رحمةَ " بالنصبِ على المفعول به ، " عبدُه " بالرفع فاعلاً بالفعلِ قبلَه ، " زكريَّا " بالرفعِ على البيانِ او البدلِ او على إضمارِ مبتدأ ، وهو نظيرُ إضمار الناصب في القراءة الأولى .
وقرأ يحيى بن يعمر - فيما نقله عنه الدانيُّ - " ذَكَّرْ " فعلَ أمرٍ ، " رحمةَ " و " عبدةَ " بالنصب فيهما على أنهما مفعولان ، وهما على ما تقدَّم مِنْ كونِ كلِّ واحدٍ يجوز أَنْ يكونَ المفعولَ الأولَ أو الثاني ، بالتأويلِ المتقدِّم في جَعْلِ الرحمة ذاكرةً مجازاً .
(1/3147)

إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)
قوله : { إِذْ نادى } : في ناصبه ثلاثةُ أوجهٍٍ ، أحدُها : أنَّه " ذِكْرُ " ولم يذكر الحوفيُّ غيرَه . والثاني : أنَّه " رحمة " ، وقد ذكر الوجهين أبو البقاء . والثالث : أنَّه بدلٌ مِنْ " زكريَّا " بدلُ اشتمالٍ لأنَّ الوقتَ مُشْتملٌ عليه وسيأتي مِثْلُ هذا عند قولِه { واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ } [ مريم : 16 ] ونحوِه .
(1/3148)

قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)
قوله : { قَالَ رَبِّ } : لا مَحَلَّ لهذهِ الجملةِ لأنها تفسيرٌ لقولِه " نادى ربَّه " وبيانٌ ، ولذلك تُرِكَ العاطفُ بينهما لشدَّة الوَصْلِ .
قوله : " وَهَنَ " العامَّةُ على فتحِ الهاء . وقرأ الأعمشُ بكسرِها . وقُرِئ بضمِّها ، وهذه لغاتٌ في هذه اللفظةِ . ووَحَّد العظمَ لإِرادةِ الجنسِ ، يعني أنَّ هذا الجنسَ الذي هو عَمُوْدُ البدنِ ، وأشدُّ ما فيه وأَصْلَبُه ، قد أصابه الوَهْنُ ، ولو جُمع لكان قصداً أخرَ : وهو أنه لم يَهِنْ منه بعضُ عظامه ولكن كلُّها ، قاله الزمخشري : وقيل : أُطْلِقَ المفردُ ، والمرادُ به الجمعُ كقولِه :
3208- بها جِيَفُ الحَسْرى فأمَّا عِظامُها ... فبِيضٌ وأمَّا جِلْدُها فَصَلِيْبُ
أي : جلودُها ، ومثلُه :
3209- كُلوا في بعضِ بطنِكُم تَعِفُّوا ... فإنَّ زمانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
أي : بطونكم .
و " مَنَّي " حالٌ من " العَظْمِ " . وفيه رَدُّ على مَنْ يقول : إن الألفَ واللامَ تكونُ عِوَضاً من الضميرِ المضافِ إليه؛ لأنه قد جُمع بينهما هنا وإن كان الأصلُ : وَهَنَ عَظْمِي . ومثلُه في الدَّلالةِ على ذلك ما أنشدوه شاهداً على ما ذَكَرْتُ :
3210- رَحِيبٌ قِطابُ الجَيْبِ منها رَفْيقَةٌ ... بجَسِّ النَّدامى بَضَّةُ المُتَجَرِّدِ
قوله : " شَيْباً " في نصبه ثلاثةُ اوجهٍ ، احدُها : - وهو المشهورُ- أنه تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية؛ إذ الأصلُ : اشتعلَ شيبُ الرأسِ . قال الزمخشري : " شبَّه الشيبَ بشُواظِ في بياضِه وانتشارِه في الشعر وفُشُوِّه فيه ، وأَخْذِه منه كلَّ مَأْخَذٍ باشتعال النار ، ثم أخرجه مُخْرَجَ الاستعارةِ ، ثم أَسْنَدَ الاشتعالَ إلى مكانِ الشِّعْر ومَنْبَتِه وهو الرأسُ ، وأخرج الشَّيْبَ مميَِزاً ، ولم يُضِفِ الرأسَ اكتفاءً بعِلْم المخاطب أنه رأسُ زكريا ، فمِنْ ثَمَّ / فَصُحَتْ هذه الجملةُ وشُهِد لها بالبلاغةِ " . انتهى . وهذا مِنْ استعارةِ محسوسٍ لمحسوسٍ ، ووجهُ الجمع : الانبساطُ والانتشارُ .
والثاني : أنه مصدرٌ على غيرِ الصَّدْرِ ، فإنَّ معنى " اشتعلَ الرأسُ " شابَ .
الثالث : أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ ، اي : شائباً أو ذا شيبٍ .
قوله : " بدُعائِك " فيه وجهان ، أظهرُهما : أنَّ المصدرَ مضافٌ لمفعولِه ، أي : بدعائي إياك . والثاني : أنه مضافُ لفاعلِه ، أي : لم أكنْ بدعائِك لي إلى الإِيمانِ شَقِيَّا .
(1/3149)

وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)
قوله : { خِفْتُ الموالي } : العامَّةُ على " خَفْتُ " بكسر الحاء وسكونِ الفاء ، وهو ماضٍ مسندٌ لتاءِ المتكلم . و " المَوالي " مفعولٌ به بمعنى : أنَّ مَوالِيه كانوا شِرارَ بني إسرائيل ، فخافَهم على الدِّين . قاله الزمخشري .
قال أبو البقاء : " لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ ، أي : عَدَمَ المَوالي أو جَوْرَ المَوالي " .
وقرأ الزُّهري كذلك ، إلا أنه سَكَّن ياءَ " المَواليْ " وقد تَقَدَّم أنَّه قد تُقَدَّر الفتحةُ في الياء والواو ، وعليه قراءةُ زيدِ بنِ عليّ { تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } [ المائدة : 89 ] . وتقدَّم إيضاحُ هذا .
وقرأ عثمان بن عفان وزيد بن ثابت وابن عباس وسعيد بن جبير وسعيد بن العاص ويحيى بن يعمر وعلي بن الحسين في آخرين : " خَفَّتِ " بفتحِ الخاءِ والفاءِ مشددةً وتاءِ تأنيثٍ ، كُسِرَتْ لالتقاءِ السَّاكنين . و " المَوالِيْ " فاعلٌ به ، بمعنى دَرَجُوا وانقرضُوا بالموت .
قوله : { مِن وَرَآئِي } هذا متعلِّقٌ في قراءةِ الجُمهورِ بما تضمنَّه المَوالي مِنْ معنى الفِعْلِ ، أي : الذين يَلُوْن الأمرَ بعدي . ولا يتعلق ب " خَفْتُ " لفسادِ المعنى ، وهذا على أَنْ يُرادَ ب " ورائي " معنى خلفي وبعدي . وأمَّا في قراءةِ " خَفَّتْ " بالتشديد فيتعلَّق الظرفُ بنفسِ الفعل ، ويكونُ " ورائي " بمعنى قُدَّامي . والمرادُ : أنهم خفُّوا قدَّامَه ودَرَجُوا ، ولم يَبْقَ منهم مَنْ به تَقَوٍّ واعْتِضادٌ . ذكر هذين المعنيين الزمخشري .
والمَوالي : بنو العمِّ يدلُّ على ذلك تفسيرُ الشاعرِ لهم بذلك في قوله :
3211- مَهْلاً بني عَمَّنا مَهْلاً مَواليَنا ... لا تَنْبُشوا بَيْنَنا ما كان مَدْفُوْنا
وقال آخر :
3212- ومَوْلَىً قد دَفَعْتُ الضَّيْمَ عنهُ ... وقد أمْسَى بمنزلةِ المَضِيْمِ
والجمهورُ على " ورائي " بالمدِّ . وقرأ ابنُ كثير - في روايةٍ عنه - " وَرايَ " بالقصر ، ولا يَبْعُدُ ذلك عنه فإنه قَصَرَ " شُرَكاي " في النحل كما تقدَّم ، وسيأتي أنَّه قَرَأ { أَنْ رَاْه اسْتَغْنى } في العَلَق ، كأنه كان يُؤْثِرُ القَصْر على المدِّ لخفَّتِهن ولكنه عند البصريين لا يجوزُ سَعَةً .
و { مِن لَّدُنْكَ } يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب " هَبْ " . ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ مِنْ " وَليَّاً " لأنه في الأصل صفةٌ للنكرةِ فقُدِّمَ عليها .
(1/3150)

يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
قوله : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ } : قرأ أبو عمروٍ والكسائي بجزمِ الفعلين على أنَّهما جوابٌ للأمر إذ تقديرُه : إن يَهَبْ يَرِثْ . والباقون برفِعهما على أنَّهما صفةٌ ل " وليَّاً " .
وقرأ عليٌّ أميرُ المؤمنين - رضي الله عنه - وابن عباس والحسن ويحيى بن يعمر والجحدري وقتادة في آخرين : " يَرِثُني " بياء الغيبة والرفع ، وأَرثُ " مُسْنداً لضمير المتكلم . قال صاحب " اللوامح " : في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ . والتقديرُ : يَرِثُ نبوَّتي إن مِتُّ قبلَه وأَرِثُه مالَه إنْ مات قبلي " . ونُقِل هذا عن الحسن .
وقرأ عليٌّ أيضاً وابن عباس والجحدري " يَرِثُني وارثٌ " جعلوه اسمَ فاعلٍ ، أي : يَرِثُني به وارِثٌ ، ويُسَمى هذا " التجريدَ " في علم البيان .
وقرأ مجاهد " أُوَيْرِثٌ " وهو تصغيرُ " وارِث " ، والأصلُ وُوَيْرِث بواوين . وَجَبَ قَلْبُ أولاهما همزةً لاجتماعهما متحركتين أولَ كلمةٍ ، ونحو " أُوُيْصِل " تصغيرَ " واصل " . والواو الثانية بدلٌ عن ألفِ فاعِل . وأُوَيْرِث مصروفٌ . لا يُقال : ينبغي أن يكونَ غيرَ مصروفٍ لأنَّ فيه علتين الوصفيةَ ووزنَ الفعل ، فإنه بزنة أُبَيْطِر مضارع بَيْطَر ، وهذا مِمَّا يكون الاسم فيه منصرفاً في التكبير ممتنعاً في التصغير . لا يُقال ذلك لأنه غَلَطٌ بَيِّنٌ؛ لأنَّ " أُوَيْرِثاً " وزنُه فُوَيْعِل لا أُفَيْعِل بخلافِ " أُحَيْمِر " تصعير " أَحْمَر " .
وقرأ الزُّهْري " وارِث " بكسرِ الواو ، ويَعْنون بها الإِمالةَ .
قوله : " رَضِيَّا " مفعولٌ ثانٍ ، وهو فَعِيْل بمعنى فاعِل ، وأصلُه رَضِيْوٌ لأنه مِنَ الرِّضْوان .
(1/3151)

يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
قوله : { يحيى } : فيه قولان : أحدُهما : أنه سامٌ أعجميٌّ لا اشتقاقَ له ، وهذا هو الظاهرُ ، ومَنْعُه من الصَّرْفِ للعَلَمِيَّةِ والعُجْمة . وقيل : بل هو منقولٌ من الفعلِ المضارعِ كما سَمَّوْا بيَعْمُرَ ويَعيشَ ويَموتَ ، وهو يموتُ بنُ المُزَرَّع .
والجملةُ مِنْ قولِه : { اسمه يحيى } في محلِّ جَرٍّ صفةً ل " غُلام " وكذلك { لَمْ نَجْعَل } . و " سَمِيَّا " كقوله : " رَضِيَّا " إعراباً وتصريفاً لأنَّه من السُّمُوِّ ، وفيه دلالةٌ لقول البصريين : أنَّ الاسمَ من السُّمُوِّ ، ولو كان من الوَسْم لقيل : وَسِيما .
(1/3152)

قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)
قوله : { عِتِيّاً } : فيه أربعةُ أوجهٍ ، أظهرُها : أنه مفعولٌ به ، أي : بَلَغْتُ عِتِيَّاً من الكِبَرِ ، فعلى هذا { مِنَ الكبر } يجوز أَنْ يتعلَّقَ ب " بَلَغْتُ " ، ويجوز أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ " عِتِيَّا " لأنه في الأصلِ صفةٌ له كما قَدَّرْتُه لك . الثاني : أن يكونَ مصدراً مؤكِّداً مِنْ الفعل ، لأنَّ / بلوغَ الكِبرَ في معناه . الثالث : أنَّه مصدرٌ واقعٌ موقعَ الحالِ من فاعل " بَلَغْتُ " ، أي : عاتياً أو ذاعِتِيّ . الرابع : أنه تمييزٌ . وعلى هذه الأوجهِ الثلاثةِ ف " مِنْ " مزيدةٌ ، ذكره أبو البقاء ، والأولُ هو الوجهُ .
والعُتُوُّ : بزنة فُعُوْل ، وهو مصدرُ عَتا يَعْتُو ، أي : يَبِس وصَلُب . قال الزمخشري : " وهو اليُبْس والجَسَاوَةُ في المفاصِلِ والعظام كالعُوْدِ القاحِل يُقال : عَتا العُوْدُ وجَسا ، أو بَلَغْتُ مِنْ مدارجِ الكِبَر ومراتبِه ما يُسَمَّى عِتِيَّا " يريد بقوله : " أو بَلَغْتُ " أنه يجوزُ أَنْ يكونَ مِنْ عتا يَعْتُو ، أي : فَسَدَ .
والأصل : عُتُوْوٌ بواوين فاسْتُثْقِل واوان بعد ضمتين ، فَكُسِرَتِ التاءُ تخفيفاً فانقلبت الواوُ الأولى ياءً لسكونها وانكسارِ ما قبلها ، فاجتمع ياءٌ وواوٌ ، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون ، فَقُلبت الواوُ ياءً وأُدْغِمت فيها الياءُ الأُولى . وهذا الإِعلالُ جارٍ في المفرد كهذا ، والجمعِ نحو : " عِصِيّ " إلا أنَّ الكثيرَ في المفردِ التصحيحُ كقولِه : " وعَتَوْا عُتُوَّاً كبيراً " وقد يُعَلُّ كهذه الآية ، والكثيرُ في الجمع والإِعلالُ ، وقد يُصَحَّحُ نحو : " إنكم لتنظرون في نُحُوّ كثيرة " وقالوا : فُتِيَ وفُتُوّ .
وقرا الأخَوان " عِتِيَّا " و " صِلِيَّا " و " بِكِيَّا " و " جِثِيَّا " بكسر الفاء للإِتباع ، والباقون بالضمِّ على الأصل .
وقرأ عبدُ الله بن مسعود بفتح الأول مِنْ " عَتِيَّا " و " صَلِيَّا " جَعَلَهما مصدَرَيْن على زنة فَعيل كالعَجيج والرَّحيل .
وقرأ عبد الله ومجاهد " عُسِيَّا " بضم العين وكسر السينِ المهملة . وتقدَّم اشتقاقُ هذه اللفظة في الأعراف وتصريفُها .
(1/3153)

قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)
قوله : { كذلك } : في محلِّ هذه الكاف وجهان ، أحدهما : أنه رفعٌ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ ، أي : الأمرُ كذلك ، ويكون الوقف على : " كذلك " ثم يُبْتَدَأ بجملة أخرى . والثاني : أنها منصوبةُ المحلِّ ، فَقَدَّره أبو البقاء ب " أَفْعَلُ مثلَ ما طلبْتَ ، وهو كنايةٌ عن مطلوبِه ، فَجَعَلَ ناصبَه مقدَّراً ، وظاهرُه أنَّه مفعولٌ به .
وقال الزمخشري : " أو نصبٌ ب " قال " و " ذلك " إشارةٌ إلى مُبْهم يُفَسِّره { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } ، ونحوُه : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } [ الحجر : 66 ] . وقرأ الحسن { وهُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } ولا يُخَرَّجُ هذا إلا على الوجه الأول ، أي : الأمرُ كما قلت ، وهو على ذلك يَهُون عليَّ . ووجهٌ آخرُ : وهو أَنْ يُشارَ ب " ذلك " إلى ما تقدَّم من وَعْدِ الله ، لا إلى قولِ زكريَّا . و " قال " محذوفٌ في كلتا القراءتين . - في كلتا القراءتين : يعني قراءةَ العامة وقراءةَ الحسنِ - أي : قال هو عليَّ هيِّن ، قال : وهو عَلَيَّ هَيِّن ، وإن شئتَ لم تَنْوِه ، لأنَّ اللهَ هو المخاطَبَ ، والمعنى أنه قال ذلك ، ووَعْدُه وقولُه الحق " .
وفي هذا الكلامِ قَلَقٌ؛ وحاصلُه يَرْجع إلى أنَّ " قال " الثانيةَ هي الناصبةُ للكاف . وقوله : " وقال محذوفٌ " يعني تفريغاً على أنَّ الكلامَ قد تَمَّ عند " قال ربك " ويُبْتَدأ بقولِه : { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } . وقوله : " وإنْ شِئْتَ لم تَنْوِه " أي : لم تَنْوِ القولَ المقدَّرَ ، لأنَّ اللهَ هو المتكلَّمُ بذلك .
وظاهرُ كلامِ بعضهِم : أنَّ " قال " الأولى مُسْنَدةٌ إلى ضميرِ المَلَكِ ، وقد صَرَّح بذلك ابنُ جريرٍ ، وتبعه ابن عطية . قال الطبري : " ومعنى قولِه " قال كذلك " ، أي : الأمران اللذان ذكرْتَ مِنَ المرأةِ العاقرِ والكِبَرِ هو كذلك ، ولكم قال ربُّكِ ، والمعنى عندي : قال المَلَكُ : كذلك ، أي : على هذه الحال ، قال ربك : هو عليَّ هَيِّنٌ " انتهى .
وقرأ الحسن البصري " عَلَيِّ " بكسر ياء المتكلم كقوله :
3213- عَلَيَّ لعمروٍ نِعْمَةٌ بعد نِعْمةٍ ... لوالدِه ليسَتْ بذاتِ عَقَارِبِ
أنشدوه بالكسر . وقد أَمْنَعْتُ الكلامَ في هذه المسألة في قراءةِ حمزةَ { بِمُصْرِخِيِّ } .
قوله : { وَقَدْ خَلَقْتُكَ } هذه جملة مستأنفة . وقرأ الأخَوان " خَلَقْناك " أسنده إلى الواحدِ المعظِّمِ نفسَه . والباقون " خَلَقْتُكَ " بتاءِ المتكلم .
وقوله : { وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } جملةٌ حاليةٌ ، ومعنى نَفْيِ كونِه شيئاً ، أي : شيئاً يُعْتَدُّ به كقوله :
3214- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... إذا رَأَى غيرَ شَيْءٍ ظَنَّه رَجُلاً
وقالوا : عَجِبْتُ مِنْ لا شيء . ويجوز أن يكونَ قال ذلك؛ لأنَّ المعدومَ ليس بشيءٍ .
(1/3154)

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10)
قوله : { سَوِيّاً } : حالٌ مِنْ فاعل " تُكَلِّمَ " . وعن ابن عباس : أنَّ " سَوِيَّاً " من صفةِ الليالي بمعنى كاملات ، فيكونُ نصبُه على النعتِ للظرف . والجمهورُ على نصب ميم " تُكَلَّم " جعلوها الناصبةَ .
وابن أبي عبلة بالرفعِ ، جَعَلها المخففةَ من الثقيلة ، واسمُها ضميرُ شانٍ محذوف ، و " لا " فاصلةٌ . وتقدَّم تحقيقُه .
(1/3155)

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
قوله : { أَن سَبِّحُواْ } : يجوز في " أَنْ " أَنْ تكونَ مفسِّرةً لأَوْحى ، وأَنْ تكونَ مصدريةًَ مفعولةً بالإِيحاء . و { بُكْرَةً وَعَشِيّاً } ظرفا زمانٍ للتسبيح . وانصرفَتْ " بُكْرَة " لأنه لم يُقْصَد بها العَلَمِيَّةُ ، فلو قُصِد بها العَلَميةُ امتنعت عن الصرف . وسواءً قُصد بها وقتٌ بعينه نحو : لأسيرنَّ الليلةَ إلى بكرةَ ، أم لم يُقصد نحو : بكرةُ وقتٌ نشاط [ لأنَّ عَلَمِيَّتها جنسيَّة كأُسامة ] ، ومثلُها في ذلك كله " غدوة " .
وقرأ طلحة " سَبَّحوه " بهاءِ الكناية . وعنه أيضاً : " سَبِّحُنَّ " بإسناد الفعل إلى ضمير الجماعة مؤكَّداً بالثقيلة وهو كقولِه : { لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ } [ هود : 8 ] وقد تقدَّم تصريفه .
(1/3156)

يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)
قوله : { بِقُوَّةٍ } : حالٌ من الفاعل أو المفعول ، أي : ملتبساً أنت ، أو ملتبساً هو بقوة . و " صَبِيَّا " حال من هاء " آتيناه " .
(1/3157)

وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)
{ وَحَنَاناً } : يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً به نَسَقاً على " الحُكْمَ " ، أي : وآتيناهُ تَحَنُّناً . والحنانُ : الرحمةُ واللِّيْن ، وأنشد أبو / عبيدة :
3215- تحنَّنْ عليَّ هداك المليكُ ... فإنَّ لكلِّ مقامٍ مَقالا
قال : " وأكثر استعمالِه مثنَّى كقولِهم : حَنَانَيْكَ ، وقولِه :
3216- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... حَنَانَيْكَ بعضُ الشرِّ أهونُ مِنْ بعضِ
وجوَّز فيه أبو البقاء أَنْ يكونَ مصدراً ، كأنَّه يريد به المصدرَ الواقعَ في الدعاء نحو : سَقْياً ورَعْياً ، فنصبُه بإضمارِ فِعْلٍ كأخواتِه . ويجوز أَنْ يرتفعَ على خبر ابتداءٍ مضمرٍ نحو : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } [ يوسف : 18 ] و { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } [ الاعراف : 46 ، الرعد : 24 ، الزمر : 73 ] في أحد الوجهين : وأنشد سيبويه :
3217- وقالَتْ حَنانٌ ما أَتَى بك هَهنا ... أذو نَسَبٍ أَمْ أنتَ بالحَيِّ عارِفُ
وقيل لله تعالى : حَنان ، كما يقال له " رَحيم " قال الزمخشري : " وذلك على سبيل الاستعارة " .
و { مِّن لَّدُنَّا } صفةٌ له .
(1/3158)

وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)
قوله : { وَبَرّاً } : يجوز أن يكون نَسَقاً على خبر " كان " ، أي : كان تقيَّاً بَرَّاً . ويجوز أَنْ يكون منصوباً بفعلٍ مقدر ، أي : وجَعَلْناه بَرَّاً . وقرأ الحسن " بِرَّاً " بكسر الباء في الموضعين . وتأويلُه واضح كقوله : { ولكن البر مَنْ آمَنَ } [ البقرة : 177 ] وتقدَّم تأويلُه . و " بِوالِدَيْهِ " متعلِّقٌ ب " بَرَّاً " .
و " عَصِيَّا " يجوز أَنْ يكونَ وزنُه فَعُولاً ، والأصل : عَصُوْيٌ فَفُعِل فيه ما يُفْعَل في نظائره ، وفَعُول للمبالغة كصَبُوْر . ويجوز أَنْ يكونَ وزنُه فَعِيلاً ، وهو للمبالغة أيضاً .
(1/3159)

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)
قوله : { إِذِ انتبذت } : في " إذ " أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها منصوبةٌ ب " اذكُرْ " على أنها خَرَجَتْ عن الظرفية ، إذ يستحيل أنْ تكونَ باقيةً على مُضِيِّها . والعاملُ فيها ما هو نَصٌّ في الاستقبال . الثاني : أنَّه منصوبٌ بمحذوفٍ مضافٍ لمريم تقديره : واذكر خبرَ مريم ، أو نَبَأَها ، إذ انْتَبَذَتْ ، ف " إذ " منصوبٌ بذلك الخبر أو النبأ . والثالث : أنه منصوبٌ بفعلٍ محذوف تقديره : وبَيَّنَ ، أي : اللهُ تعالى ، فهو كلامُ آخرُ . وهذا كما قال سيبويه في قوله : { انتهوا خَيْراً لَّكُمْ } [ النساء : 171 ] وهو في الظرف أقوى وإنْ كان مفعولاً به . والرابع : أن يكونَ منصوباً على الحال مِنْ ذلك المضافِ المقدَّر ، أي : خبر مريم أو نبأ مريم . وفيه بُعْدٌ . قاله أبو البقاء . والخامس : أنه بدلٌ مِنْ " مريمَ " بدلُ اشتمال . قال الزمخشري : " لأنَّ الأحيانَ مشتملةٌ على ما فيها ، وفيه : أنَّ المقصودَ بِذِكْر مريم ذِكْرُ وقتها هذا لوقوع هذه القصةِ العجيبةِ فيه " .
قال أبو البقاء : - بعد أن حكى عن الزمخشريِّ هذا الوجهَ - " وهو بعيدٌ؛ لأنَّ الزمانَ إذا لم يكنْ حالاً من الجثة ولا خبراً عنها ولا صفةً لها لم يكن بَدَلاً منها " . وفيه نظرٌ لأنَّه لا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ صحةِ ما ذَكَرَ عَدَمُ صحةِ البدلية ، ألا ترى نحو : " سُلِبَ زيدٌ ثوبُه " ف " ثوبُه " لا يَصِحُّ جَعْلُه خبراً عن " زيد " ولا حالاً منه ولا وصفاً له ، ومع ذلك فهو بدلٌ اشتمالٍ .
السادس : أنَّ " إذ " بمعنى " أَنْ " المصدرية كقولك : " لا أُكْرِمُك إذ لم تكرِمْني " ، أي : لأنَّك لا تُكْرِمُني ، فعلى هذا يَحْسُن بدلُ الاشتمال ، أي : واذكر مريمَ انتباذَها . ذكره أبو البقاء .
والانْتِباذُ : افتعالٌ من النَّبْذِ وهو الطَّرْحُ ، وقد تقدَّم بيانُه .
(1/3160)

فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)
والجمهورُ على ضَمِّ الراء مِنْ " رُوْحِنا " وهو ما يَحْيَوْن به . وقرأ أبو حيوة وسهلٌ بفتحها ، أي : ما فيه راحةٌ للعباد كقوله : { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } [ الواقعة : 89 ] . وحكى النقاش أنه قد قُرِئ " رُوْحَنَّا " بتشديدِ النون ، وقال : هو اسم مَلَكٍ من الملائكة .
قوله : { بَشَراً سَوِيّاً } حالٌ مِنْ فاعل " تَمَثَّلَ " . وسَوَّغ وقوعَ الحالِ جامدة وَصْفُها ، فلمَّا وُصِفَتِ النكرةُ وقعت حالاً .
(1/3161)

قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19)
قوله : { لأَهَبَ } : قرأ نافع وأبو عمرو " لِيَهَبَ " بالياء والباقون " لأَِهَبَ " بالهمزة . فالأُوْلَى : الظاهرُ فيها أنَّ الضميرَ للربِّ ، أي : ليَهَبَ الرَّبُّ . وقيل : الأصلُ : لأَهَبَ بالهمز ، وإنما قُلِبَتِ الهمزةُ ياءً تخفيفاً؛ لأنها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ فتتَّفِقُ القراءتان وفيه بُعْدٌ . وأمَّا الثانيةُ فالضميرُ للمتكلم ، والمرادُ به المَلَكُ وأسنده لنفسِه لأنه سببٌ فيه . ويجوز أَنْ يكونَ الضمير لله تعالى ويكون على الحكاية بقولٍ محذوف . ويُقَوِّي الذي قبله أنَّ في بعض المصاحف : أَمَرَني أَنْ أَهَبَ لك .
وقوله : { إِن كُنتَ تَقِيّاً } [ مريم : 18 ] جوابُه محذوفٌ أو متقدم .
(1/3162)

قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)
قوله : { بَغِيّاً } : في وزنِه قولان ، أحدُهما - وهو قولُ المبردِ - أنَّ وزنَه فُعول ، والأصل بَغُوْيٌ فاجتمعت الياء والواو فَفُعِل فيه ما هو معروفٌ . قال أبو البقاء : " ولذلك لم تَلْحَقْ تاءُ التأنيث كما لم تَلْحَقْ في صبور وشكور " . ونَقَل الزمخشري عن أبي الفتح أنها فَعِيْل ، قال : " ولو كانَتْ فَعُولاً لقيل : بَغُوٌ ، كما يقال : فلان نَهُوٌ عن المنكر " ولم يُعْقِبْه بنكير . ومَنْ قال : إنها فَعِيْل فهل هي بمعنى فاعِل او بمعنى مَفعول؟ فإنْ كانَتْ بمعنى فاعِل فينبغي أَنْ تكونَ بتاء التأنيث نحو : امراةٌ قديرةٌ وبَصيرة . وقد أُجيب عن ذلك : بأنها بمعنى النسب كحائِض وطالِق ، أي ذات بَغْي . وقال أبو البقاء حين جَعَلَها بمعنى فاعِل : " ولم تَلْحَقِ التاءُ أيضاً لأنها للمبالغة " فجعل العلةَ في عدم اللِّحاق كونَه للمبالغة . وليس بشيءٍ . وإن قيل بأنها بمعنى مَفْعول فَعَدَمُ الياءِ واضحٌ .
(1/3163)

قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
قوله : { كذلك } : تقدَّم نظيرُه .
قوله : " وَلِنَجْعَلَه " يجوز أن يكونَ علةً ، ومُعَلَّلُه محذوفٌ تقديره : لنجعلَه آيةً للناسِ فَعَلْنا ذلك . ويجوز أَنْ يكونَ نَسَقاً على علةٍ محذوفةٍ تقديره : لِنُبَيِّنَ به قُدْرَتَنا ولنجعَله آيةً . والضميرُ عائدٌ على الغلام ، واسم " كان " مضمرٌ فيها ، أي : وكان الغلامُ ، أي : خَلْقُه وإيجادُه أمراً لا بُدَّ منه/ .
(1/3164)

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)
قوله : { فانتبذت بِهِ } : الجارُّ والمجرورُ في محل نصب على الحال ، أي : انتبذَتْ وهو مصاحبٌ لها ، كقولِه :
3218- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... تَدْوْسُ بنا الجَماجِمَ والتَّرِيْبا
(1/3165)

فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
قوله : { فَأَجَآءَهَا } : الأصلُ في " جاء " أَنْ يتعدَّى لواحدٍ بنفسه ، فإذا دَخَلَتْ عليه الهمزةُ كان القياسُ يقتضي تَعَدِّيَه لاثنين . قال الزمخشري : " إلا أنَّ استعمالَه قد تغيَّر بعد النقلِ إلى معنى الإِلْجاء ، ألا تراكَ لا تقول : جِئْتُ المكانَ وأَجَاْءَنْيهِ زيدٌ ، كما تقول : بَلَغْتُه وأَبْلَغَنِيْه ، ونظيرُه " آتى " حيث لم يُستعمل إلا في الإِعطاء ولم تَقُلْ : أتيت المكانَ وآتانِيه فلان " . وقال أبو البقاء : الأصلُ " جاءها " ثم عُدِّيَ بالهمزة إلى مفعولٍ ثانٍ ، واسْتُعمل بمعنى أَلْجَأَها " .
قال الشيخ : " قوله وقولُ [ غيرِه ] : إنَّ " أجاءها " بمعنى أَلْجَأَها يحتاج إلى نَقْلِ أئمةِ اللغة المستقرئين لذلك مِنْ لسانِ العرب . والإِجاءةُ تدلُّ على المُطلق ، فَتَصْلُح لِما هو بمعنى الإِلجاءِ ولِما هو بمعنى الاختيار ، كما تقول : " أَقَمْتُ زيداً " فإنه يَصْلُحُ أَنْ تكونَ إقامتُك له قَسْراً أو اختياراً . وأمَّا قوله : " ألا ترك لا تقول " إلى آخره فَمَنْ رَأَى أنَّ التعديةَ بالهمزة قياسٌ أجاز ذلك وإنْ لم يُسْمَعْ ، ومَنْ منع فقد سُمِع ذلك في " جاء " فيُجيز ذلك . وأمَّا تنظيرُه ذلك ب " آتى " فليس تنظيراً صحيحاً؛ لأنَّه بناه على أنَّ همزتَه للتعديةِ ، وأنَّ أصلَه " أتى " ، بل " آتى " ممَّا بُني على أَفْعَل ، ولو كان منقولاً مِنْ " آتى " المتعدِّي لواحد لكان ذلك الواحدُ هو المفعولَ الثاني ، والفاعلُ هو الأولُ ، إذا عَدَّيْتَه بالهمزةِ تقولُ : " أتى المالُ زيداً " و " آتى عمروٌ زيداً المالَ " فيختلف التركيب بالتعدية لأنَّ " زيداً " عند النحويين هو المفعولُ الأول ، و " المالُ " هو المفعولُ الثاني ، وعلى ما ذكره الزمخشري كان يكون العكس ، فَدَلَّ على أنَّه ليس على ما قاله ، وأيضاً فآتى مُرادِفٌ لأَعْطَى ، فهو مخالِفٌ من حيث الدَّلالةُ في المعنى . وقوله : " ولم تَقُلْ : أتيت المكانَ وآتانِيْه " هذا غيرُ مُسَلَّمٍ بل تقول : " أتيتُ المكانَ " كما تقول : " جئت المكان " . وقال الشاعر :
3219- أَتَوْا ناري فقلتُ مَنُوَّنَ أنتُمْ ... فقالوا : الجنُّ قلتُ عِمُوا ظَلاما
ومَنْ رأى التعديةَ بالهمزةِ قياساً ، قال : " آتانيه " وهذه الأبحاثُ التي ذكرها الشيخُ معه ظاهرُه الأجوبة ، فلا نُطَوِّلُ بذِكْرِها .
وقرأ الجمهورُ " فَأَجَاْءَها " ، أي : أَلْجأها وساقَها ، ومنه قولُه :
3220- وجارٍ سارَ مُعْتَمِداً إليكم ... أَجَاْءَتْهُ المَخافةُ والرَّجاءُ
وقرأ حَمَّاد بن سَلَمة " فاجَأَها " بألفٍ بعد الفاء وهمزةٍ بعد الجيم ، من المفاجأة ، بزنة قابَلَها . ويقرأ بألفين صريحتين كأنهم خفَّفوا الهمزةَ بعد الجيمِ ، وكذلك رُوِيَت بينَ بينَ .
والجمهور على فتحِ الميم من " المَخاض " وهو وَجَعُ الوِلادةِ .
(1/3166)

ورُوي عن ابن كثير بكسرِ الميمِ ، فقيل : هما بمعنى . وقيل : المفتوح اسمُ مصدرٍ كالعَطاء والسَّلام ، والمكسورُ مصدرٌ كالقتال واللِّقاء ، والفِعال قد جاء مِنْ واحد كالعِقاب والطَّراق . قاله أبو البقاء . والميمُ أصليةٌ لأنه مِنْ تَمَخَّضَتِ الحامِلُ تتمخَّضُ .
و { إلى جِذْعِ } يتعلقُ في قراءة العامَّة ب " أَجاءها " ، أي : ساقَها إليه .
وفي قراءةِ حَمَّاد بمحذوفٍ لأنه حالٌ من المفعولِ ، أي : فاجَأَها مستندةً إلى جِذْعِ النخلةِ .
قوله : " نَسْيَاً " الجمهورُ على كسرِ النون وسكون السين وبصريح الياء بعدها . وقرأ حمزةُ وحفص وجماعة بفتح النون ، فالمكسورُ فِعْلُ بمعنى مَفْعول كالذَّبْح والطَّحْن ، ومعناه الشيءُ الحقيرُ الذي مِنْ شأنه أن يُنْسَى كالوَتِدِ والحَبْلِ وخِرْقةِ الطَّمْثِ ونحوِها .
قال ابن الأنباري : " مَنْ كسر فهو اسمٌ لما يُنْسَى كالنَّقْصُ اسمٌ لما يَنْقص ، والمفتوحُ مصدرٌ يَسُدُّ مَسَدَّ الوصفِ " . وقال الفراء : " هما لغتان كالوَتْر والوِتْر ، الكسرُ أحَبُّ إليَّ " .
وقرأ محمدُ بن كعب القَرَظيُّ " نِسْئاً " بكسر النون ، والهمزةُ بدلُ الياء . ورُوي عنه أيضاً وعن بكر بن حبيب السَّهْمي فتحٌ مع الهمز . قالوا : وهو مِنْ نَسَأْتُ اللَّبَنَ إذا صَبَبْتَ فيه ماءً فاستُهْلِك فيه ، فالمكسورُ أيضاً كذلك الشيءُ المُسْتَهْلَكُ ، والمفتوحُ مصدر كما كان ذلك من النِّسْيان
ونَقَل ابن عطية عن بكر بن حبيب " نَسَا " بفتح النون والسين والقصرِ كعَصَا ، كأنه جَعَل فَعَلاً بمعنى مَفْعول كالقَبَض بمعنى المَقْبُوض .
و " مَنْسِيَّاً " نعتٌ على البمالغةِ ، وأصلُه مَنْسُوْي فَأُدْغم . وقرأ أبو جعفر والأعمش " مِنْسِيَّاً " بكسر الميم للإِتباع لكسرةِ السين ، ولم يَعْتَدُّوا بالساكن لأنه حاجزٌ غيرُ حصينٍ كقولهم : " مِنْتِن " و " مِنْخِر " .
(1/3167)

فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)
قوله : { مِن تَحْتِهَآ } : قرأ الأخَوَان ونافع وحفص بكسر ميم " مِنْ " ، وجَرَّ " تحتِها " على الجار والمجرور . والباقون بفتحها ونصب " تحتَها " . فالقراءةُ الأولى تقتضي أن يكونَ الفاعلُ في " نادَى " مضمراً وفيه تأويلان ، أحدهما : هو جبريل ومعنى كونِه { مِن تَحْتِهَآ } أنه في مكانٍ أسفلَ منها . ويَدُل على ذلك قراءةُ ابنِ عباس " فناداها مَلَكٌ مِنْ تحتها : فَصَرَّح به . و { مِن تَحْتِهَآ } على هذا فيه وجهان أحدهما : أنه متعلقٌ بالنداء ، أي : جاء النداء مِنْ هذه الجهةِ . والثاني : أنه حالٌ من الفاعل ، أي : فناداها وهو تحتَها .
وثاني التأويلين : أنَّ الضمير لعيسى ، لأي : فناداها المولودُ مِنْ تحت ذَيْلها . والجارُّ فيه الوجهان : مِنْ كونِه متعلِّقاً بالنداء ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ . والثاني أوضح .
والقراءةُ الثانية : تكون فيها " مَنْ " موصولةً ، والظرفُ صلتُها ، والمرادُ بالموصولِ : إمَّا جبريلُ ، وإمَّا عيسى .
قوله : { أَلاَّ تَحْزَنِي } يجوزُ في " أَنْ " أَنْ تكونَ مفسرةً لتقدُّمِها ما هو بمعنى القول ، و " لا " على هذا ناهيةٌ ، وحَذْفُ النونِ للجزم؛ وأَنْ تكونَ الناصبةَ و " لا " حينئذٍ نافيةٌ ، وحَذْفُ النونِ للنصبِ . ومَحَلُّ " أنْ " : إمَّا نصب أو جرٌّ لأنها على حَذْفِ حرفِ الجر ، أي : فناداها بكذا . والضمير في " تحتها " : إمَّا لمريمَ عليها السلام ، وإمَّا للنخلةِ ، والأولُ أَوْلَى لتوافُقِ الضميرين .
قوله : " سَرِيَّا " يجوز أَنْ يكونَ مفعولاً أولَ ، و " تحتك " مفعولٌ ثان لأنها بمعنى صَيَّر . ويجوز أن تكون بمعنى خَلَق ، فتكون " تحتك " لغواً .
والسَّرِيُّ فيه قولان ، أحدهما : أنه الرجلُ المرتفعُ القَدْرِ ، مِنْ سَرُوَ يَسْرُو كشَرُف يَشْرُف ، فهو سَرِيٌّ . وأصله سَرِيْوٌ ، فأُعِلَّ إعلالَ سَيِّد ، فلامُه واوٌ . والمرادُ به في الآية عيسى بن مريم عليه السلام ، ويُجْمع " سَرِيُّ " على " سَراة " بفتح السين ، وسُرَواء كظُرَفاء ، وهما جمعان شاذَّان ، بل قياسُ جَمْعِه " أَسْرِياء " ، كغنِيِّ وأَغْنِياء . وقيل : السَّرِيُّ : مِنْ سَرَوْتُ الثوبَ ، أي : نَزَعْتُه ، وسَرَوْتُ الجُلَّ عن الفَرَس ، أي : نَزَعْتُه . كأنَّ السَّرِيَّ سَرَى ثوبَه ، بخلاف المُدَّثِّر والمُتَزَمِّل . قاله الراغب .
والثاني : أنه النهرُ الصغير ، ويناسِبُه " فكُلي واشربي " واشتقاقه مِنْ سَرَى يَسْرِي ، لأن الماءَ يَسْري فيه ، فلامُه على هذا ياء ، وأنشدوا للبيد :
3221- فتوسَّطا عُرْضَ السَّرِيِّ فَصَدَّعا ... مَسْجورةً مُتَجاوِزاً قُلاَّمُها
(1/3168)

وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)
قوله : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ } : يجوز أَنْ تكونَ الباءُ في " بِجَذْعِ " زائدةً كهي في قولِه تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] [ وقولِه : ]
3222- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . لا يَقْرَأْن بالسُّوَر
وأنشد الطبري :
3223- بوادٍ يَمانٍ يُنْبِتُ السِّدْرَ صَدْرَه ... وأَسْفَلُه بالمَرْخِ واشَّبَهانِ
أي : هُزِّي جِذْعَ النخلةِ . ويجوز أَنْ يكونَ المفعولُ محذوفاً ، والجارُّ حالٌ من ذلك المحذوفِ تقديرُه : وهُزِّي إليك رُطَباً كائناً بجذع النخلة . ويجوز أن يكونَ هذا محمولاً على المعنى؛ إذِ التقدير : هُزِّي الثمرةَ بسبب هَزِّ الجِذْع ، أي : انفُضِي الجِذْع . وإليه نحا الزمخشري فإنه قال : " أو افْعَلي الهَزَّ كقولِه :
3224- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . يَجْرَحْ في عراقيبِها نَصْلي
قال الشيخ : " وفي هذه الآيةِ وفي قولِه تعالى : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ } [ القصص : 32 ] ما يَرُدُّ على القاعدةِ المقررةِ في علم النحو : من أنَّه لا يتعدَّى فعلُ المضمرِ المتصل إلى ضميره المتصلِ إلا في باب ظنٍّ ، وفي لفظَتَيْ فَقَد وعَدِمَ ، لا يُقالُ : ضَرَبْتَكَ ولاَ ضَرَبْتُني ، أي : ضربْتَ أنت نفسَك وضربْتُ أنا نفسي ، وإنما يُؤْتى في هذا بالنفس ، وحكمُ المجرورِ بالحرفِ حكمُ المنصوبِ فلا يقال : هَزَزْتَ إليك ، ولا زيدٌ هَزَّ إليه ، ولذلك جَعَلَ النحويون " عن " و " على " اسْمَيْن في قولِ امرِئ القيس :
3225- دَعْ عنك نَهْباً صِيْحَ في حُجُراتِه ... ولكنْ حَديثاً ما حديثُ الرواحلِ
وقول الآخر :
3226- هَوَّنْ عليكَ فإنَّ الأمورَ ... بِكَفِّ الإِلهِ مقادِيْرُها
وقد ثبت بذلك كونُهما اسمين لدخولِ حرفِ الجر عليهما في قوله :
3227- غَدَتْ مِنْ عليهِ بعدما تَمَّ ظِمْؤُها ... تَصِلُّ وعن قَيْضٍ ببَيْداءَ مَجْهَلِ
وقولِ الآخر :
3228- فقُلْتُ للرَّكْبِ لَمَّا أَنْ عَلا بِهِمْ ... مِنْ عَنْ يمينِ الحُبيَّا نظرةٌ قَبْلُ
وإمَّا " إلى " فحرفٌ بلا خلافٍ ، فلا يمكنُ فيها أَنْ تكونَ اسماً ك " عَنْ " و " على " . ثم أجاب : بأنَّ " إليك " في الآيتين لا تتعلَّقُ بالفعلِ قبله ، إنما تتعلَّقُ بمحذوفٍ على جهةِ البيان تقديرُه : أَعْني إليك " . قال : " كما تَأَوَّلوا ذلك في قولِه : { لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } [ الأعراف : 21 ] في أحد الأوجه " .
قلت : وفي ذلك جوابان آخران ، أحدهما : أن الفعلَ الممنوعَ إلى الضمير المتصل إنما هو حيث يكون الفعلُ واقعاً بذلك الضمير ، والضميرُ مَحَلٌّ له نحو : " دَعْ عنك " " وهَوِّنْ عليك " وأمَّا الهَزُّ والضَّمُّ فليسا واقعين بالكاف فلا محذورَ . والثاني : أنَّ الكلامَ على حذفِ مضافٍ تقديره : هُزِّي إلى جهتِكِ ونحوك ، واضمُمْ إلى جهتِك ونحوك .
قوله : " تُساقِطْ " قرأ حمزة " تَسَاقَطْ " بفتح التاء وتخفيفِ السين وفتح القاف . والباقون - غيرَ حفصٍ - كذلك إلا أنَّهم شَدَّدوا السين ، وحفص بضم التاء وتخفيفِ السين وكسر القاف .
فأصلُ قراءةِ غيرِ حفص " تَتَساقط " بتاءين ، مضارعَ " تساقَطَ " فحذف حمزةُ إحدى التاءين تخفيفاً نحو : " تَنَزَّلٌ " و " تَذَكَّرون " ، والباقون أدغموا التاءَ في السِّيْن .
(1/3169)

وقراءةُ حفص مضارع " ساقَطَ " .
وقرأ الأعمش والبراء بن عازب " يَسَّاقَطْ " كالجماعة إلا أنه بالياء مِنْ تحتُ ، أدغم التاء في السين ، إذ الأصلُ : يتساقط فهو مضارع " اسَّاقط " وأصلُه يَتَساقط ، فأُدْغم واجِتُلِبَتْ همزةُ الوصل ك " ادَّارَأ " في تَدَارَأَ .
ونُقل عن أبي حيوة ثلاثُ قراءاتٍ : / وافقه مسروقٌ في الأولى ، وهي " تُسْقِط " بضم التاء وسكون السين وكسر القاف مِنْ أَسْقَط . والثانية كذلك إلا أنه بالياء مِنْ تحت . الثالثة كذلك إلا أنه رفع " رُطَباً جَنِيَّاً " بالفاعلية .
وقُرِئَ " تَتَساقط " بتاءين مِنْ فوقُ ، وهو أصلُ قراءةِ الجماعة . وتَسْقُط ويَسْقُط بفتح التاء والياء وسكون السين وضَمَّ القاف . فَرَفْعُ الرُّطَبِ بالفاعلية ، وتعطي من الأفعال ما يوافقه في القراءات المتقدمة . ومَنْ قرأ بالتاءِ مِنْ فوقُ الفعلُ مسندٌ : إمَّا للنخلة ، وإمَّا للثمرةِ المفعومة من السِّياق ، وإمَّا للجِذْع . وجاز تأنيثُ فِعْلِه لإِضافتِه إلى مؤنث ، فهو كقوله :
3229- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كما شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدَّم
وكقراءة " تَلْتَقِطْه بعض السيارة " . ومَنْ قرأ بالياء مِنْ تحتُ فالضميرُ للجِذْع وقيل : للثمر المدلولِ عليه بالسياق .
وأمَّا نَصْبُ " رُطَباً " فلا يَخْرُجُ عن كونِه تمييزاً أو حالاً موطِّئة إنْ كان الفعل قبلَه لازماً ، أو مفعولاً به إن كان الفعل متعدَّياً ، والذكيُّ يَرُدُّ كلَّ شيء إلى ما يليق به من القراءات . وجَوَّز المبردُ في نصبه وجهاً غريباً : وهو أَنْ يكونَ مفعولاً به ب " هُزِّيْ " وعلى هذا فتكون المسألة من باب التنازع في بعض القراءات : وهي أَنْ يكونَ الفعلُ فيها متعدِّياً ، وتكونَ المسألةُ من إعمالِ الثاني للحذف من الأول .
وقرأ طلحة بن سليمان " جَنِيَّاً " بكسرِ الجيم إتباعاً لكسرةِ النون .
والرُّطَبُ : اسمُ جنسٍ لرُطَبَة بخلافِ " تُخَم " فإنَّع لتُخَمة ، والفرق : أنهم لَزِموا تذكيرَه فقالوا : هو الرُّطَبُ ، وتأنيثَ ذاك فقالوا : هي التُّخَم ، فذكَّروا " الرطب " باعتبار الجنس ، وأنَّثوا " التُّخَم " باعتبار الجمعية ، وهو فرقٌ لطيفٌ . ويُجْمَعُ على " أَرْطاب " شذوذاً كرُبَع وأَرْباع . والرُّطَب : ما قُطِع قبل يُبْسِه وجَفافِه ، وخُصَّ الرُّطَبُ بالرُّطَبِ من التَّمْرِ . وأَرْطَبَ النخلُ نحو : أَتْمَرَ وأَجْنَى .
والجَنِيُّ : ما كابَ وصَلُحَ للاجْتِناء . وهو فَعيل بمعنى مفعول وقيل : بمعنى فاعِل : أي : طَرِيَّاً ، والجَنَى والجَنِيُّ أيضاً : المُجَتَنَى من العَسَلِ ، وأَجْنَى الشجرُ : أَدْرَك ثَمَرُه ، وأَجْنَتِ الأرضُ كَثُرَ جَناها . واسْتُعير من ذلك " جَنَى فلانٌ جنايةً " كما استعير " اجْتَرَم جريمةً " .
(1/3170)

فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
قوله : { وَقَرِّي عَيْناً } : " عَيْناً " نصبٌ على التمييز منقولٌ من الفاعل ، إذ الأصلُ : لِتَقَرَّ عينُك . والعامَّة على فتحِ القاف مِنْ " قَرِّيْ " أمراً مِنْ قَرَّتْ عَيْنُه تَقَرُّ ، بكسر العين في الماضي ، وفتحِها في المضارع .
وقُرِئ بكسرِ القاف ، وهي لغةُ نجدٍ يقولون : قَرَّتْ عينُه تَقِرُّ بفتح العين في الماضي وكسرِها في المضارع ، والمشهورُ أن مكسورَ العين في الماضي للعين ، والمفتوحَها في المكان . يقال : قَرَرْتُ بالمكانِ أَقِرُّ به ، وقد يُقال : قَرِرْتُ بالمكانِ بالكسر . وسيأتي ذلك في قولِه تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [ الأحزاب : 33 ] .
وفي وَصْفِ العين بذلك تأويلان ، أحدُهما : أنَّه مأخوذٌ مِنَ " القُرّ " وهو البَرْدُ : وذلك أنَّ العينَ إذا فَرِح صاحبُها كان دَمْعُها قارَّاً أي بارداً ، وإذا حَزِن كان حَرَّاً ولذلك قالوا في الدعاء عليه : " أَسْخَنَ اللهُ عينَه " ، وفي الدعاء له : " أقرَّ اللهُ عينَه . وما أَحْلى قولَ أبي تمام :
3230- فأمَّا عيونُ العاشِقينَ فَأُسْخِنَتْ ... وأمَّا عيونُ الشامتينَ فَقَرَّتِ
والثاني : أنه مأخوذٌ من الاستقرار ، والمعنى : أعطاه الله ما يُسَكِّنُ عينَه فلا تطمحُ إلى غيره .
قوله : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ } دخلت " إنْ " الشرطية على " ما " الزائدة للتوكيد ، فَأُدْغِمت فيها ، وكُتِبَتْ متصلةً . و " تَرَيْنَ " تقدَّم تصريفُه . والعامَّةُ على صريح الياء المكسورة وقرأ أبو عمروٍ في رواية " تَرَئِنَّ " بهمزة مكسورةٍ بدلَ الياء ، وكذلك رُوي عنه " لَتَرَؤُنَّ " بإبدالِ الواوِ همزةُ . قال الزمخشري : " هذا مِنْ لغةِ مَنْ يقول : لَبَأْتُ بالحَجِّ وحَلأْتُ السَّوِيْقَ " - يعني بالهمز - وذلك لتآخٍ بين الهمز وحروف اللين " . وتجرَّأ ابن خالَوَيْة على أبي عمرو فقال : " هو لحنٌ عند أكثر النحويين " .
وقرأ أبو جعفر قارئُ المدينةِ وشيبة وطلحة " تَرَيْنَ " بياءٍ ساكنة ونونٍ خفيفة . قال ابن جني : " وهي شاذَّةٌ " . قلت : لأنه كان ينبغي أَنْ يُؤَثِّر الجازمُ ، وتُحذفَ نونُ الرفع . كقول الأَفْوه :
3231- إمَّا تَرَيْ رَأْسِيَ أَزْرَى به ... ماسُ زمانٍ ذيٍ انتكاثٍ مَؤُؤْسِ
ولم يؤثِّرْ هنا شُذوذاً . وهذا نظيرُ قولِ الآخر :
3232- لولا فَوارسُ مِنْ نُعْمٍ وأُسْرَتِهِمْ ... يومَ الصُّلَيْفاءِ لم يُوفُوْنَ بالجارِ
فلم يُعْمِلْ " لم " ، وأبقى نونَ الرفعِ .
و " من البشر " حالٌ من " أحداً " لأنه لو تأخَّر لكان وصفاً . وقال أبو البقاء : " أو مفعول " يعني أنه متلِّعق بنفسِ الفعل قبله .
قوله : فَقُولِيْ " بين هذا الجوابِ وشرطِه جملةٌ محذوفةٌ ، تقديرُه : فإمَّا تَرَيْنَّ من البشر أحداً فسألكِ الكلامَ فَقُولي . وبهذا المقدَّر نَخْلُصُ من إشكالٍ : وهو أنَّ قولَها { فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً } / كلامٌ ، فيكون ذلك تناقضاً؛ لأنها قد كَلَّمَتْ إنْسِيَّاً بهذا الكلامِ . وجوابُه ما تَقَدَّم : وقيل : المرادُ بقوله " فقُولي " إلى آخره ، أنه بالإِشارة . وليس بشيء . بل المعنى : فلن أكلِّمَ اليومَ إنْسِيَّاً بعد هذا الكلامِ .
وقرأ زيد بن علي " صِياماً " بدل " صوم " ، وهما مصدران .
(1/3171)

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)
قوله : { فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ } : " به " في محلَِّ نصبٍ على الحالِ مِنْ فاعل " أَتَتْ " ، أي : أتَتْ مصاحِبَةً له نحو : جاء بثيابِه ، أي : ملتبساً بها . ويجوز أَنْ تكونَ الباءُ متعلِّقةً بالإِتيان . وأمَّا تَحَمُّلُه فيجوز أن يكونَ حالاً ثانية مِنْ فاعل " أَتَتْ " . ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الهاء في " به " . وظاهرُ كلام أبي البقاء أنها حالٌ من ضمير مريم وعيسى معاً وفيه نظرٌ .
قوله : " شيئاً " مفعولٌ به ، أي : فَعَلْتِ . أو مصدرٌ ، أي : نوعاً من المجيء فَرِيَّاً . والفَرِيُّ : العظيم من الأمر ، يقالُ في الخير والشرِّ . وقيل : الفَرِيُّ : العجيب . وقيل المُفْتَعَلُ . ومن الأول : الحديثُ في وصفِ عمرَ رضي الله عنه : فلم أرَ عبقَرِيَّاً يَفْرِيْ فَرْيَّة " . والفَرْيُ : قَطْعُ الجِلْدِ للخَرْزِ والإِصلاح . والإِفراء : إفسادُه . وفي المثل : جاء يَفْري الفَرِيَّ ، أي : يعمل العملَ العظيم . وقال :
3233- فَلأَنْتَ تَفْرِيْ ما خَلَقْتَ وبَعْ ... ضُ القومِ يَخْلُقُ ثم لا يَفْري
وقرأ أبو حيوة فيما نَقَل عنه ابن خالويه " فَرِيْئاً " بالهمز . وفيما نقل ابن عطية " فَرْياً " بسكون الراء .
(1/3172)

يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)
وقرأ عُمَرُ بن لجأ { مَا كَانَ أَباكِ امرؤ سَوْءٍ } جَعَلَ النكرةَ الاسمَ ، والمعرفةَ الخبرَ ، كقوله :
3234- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... يكونُ مِزاجُها عَسَلٌ وماءُ
[ وكقوله : ]
3235 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا يَكُ مَوْقِفٌ مِنْكِ الوَدَاْعا
وهنا أحسنُ بوجودِ الإِضافةِ في الاسم .
(1/3173)

فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)
قوله تعالى : { فَأَشَارَتْ } : الإِشارةُ معروفةٌ تكونُ باليد والعين وغير ذلك وألفُها عن ياءٍ . وأنشدوا لكثيِّر :
3230- فقلتُ وفي الأحشاءِ داءٌ مُخامِرٌ ... ألا حَبَّذا يا عَزُّ ذاك التَّشايُرُ
قوله : { مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً } في " كان " هذه أقوالٌ . أحدُها : أنها زائدةٌ وهو قولُ أبي عبيد ، أي : كيف نُكَلِّمُ مَنْ في المهد . و " صَبِيَّا " على هذا نصبٌ على الحالِ من الضمير المستتر في الجارِّ والمجرورِ الواقع صلةً . وقد رَدَّ أبو بكرٍ هذا القولَ - أعني كونَها زائدةً - بأنها لو كانَتْ زائدةً لَما نَصَبَتِ الخبرَ ، وهذه قد نصَبتْ " صَبيَّا " . وهذا الردُّ مردودٌ بما ذكرتُه مِنْ نصبِه على الحال لا الخبرِ .
الثاني : أنها تامةٌ بمعنى حَدَث ووُجد . والتقدير : كيف نكلِّم مَنْ وُجْد صبيَّا ، و " صَبِيَّاً " حال من الضمير في " كان " .
الثالث : أنها بمعنى صار ، أي : كيف نُكَلِّم مَنْ صار في المهد صَبِيَّا ، و " صَبِيَّا " على هذا خبرُها ، فهو كقوله :
3237- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... قَطا الحَزْن قد كانَتْ فِراخاً بُيُوضُها
الرابع : أنها الناقصةُ على بابها مِنْ دلالتِها على اقتران مضمونِ الجملة بالزمان الماضي مِنْ غيرِ تَعَرُّضٍ للانقطاع كقوله تعالى : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 96 ] ، ولذلك يُعَبِّر عنها بأنها ترادِف " لم تَزَلْ " . قال الزمخشري : " كان " لإِيقاع مضمون الجملة في زمانٍ ماضٍ مبهمٍ صالحٍ للقريبِ والبعيد . وهو هنا لقريبِه خاصةً ، والدالُّ عليه معنى الكلام ، وأنه مسوقٌ للتعجب . ووجه آخر : وهو أَنْ يكونَ " نُكَلِّمُ " حكاية حالٍ ماضيةٍ ، أي : كيف عُهِد قبل عيسى أَنْ يُكَلِّمَ الناسَ صبيَّا في المهد حتى نُكَلِّمَه نحن "؟
وأمَّا " مَنْ " فالظاهرُ أنَّها موصولةٌ بمعنى الذي . ويَضْعُفُ جَعْلُها نكرةً موصوفة ، أي : كيف نُكَلِّم شخصاً أو مولوداً . وجَوَّز الفراء والزجاج فيها أَنْ تكون شرطيةً . و " كان " بمعنى " يكنْ " ، وجوابُ الشرطِ : إمَّا متقدِّمٌ وهو " كيف نُكَلِّم " ، أو محذوفٌ لدلالةِ هذا عليه ، اي : مَنْ يكنْ في المهدِ صبياً فكيف نُكَلِّمه؟ فهي على هذا مرفوعةُ المحلِّ بالابتداءِ ، وعلى ما قبله منصوبتُه ب " نكلِّم " . وإذا قيل بأنَّ " كان " زائدةٌ . هل تتحمَّل ضميراً أم لا؟ فيه خلاف ، ومَنْ جَوَّز استدلَّ بقوله :
3238- فكيف إذا مَرَرْتَ بدارِ قومٍ ... وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ
فرفع بها الواوَ . ومَنْ منع تأوَّل البيتَ بأنها غيرُ زائدةٍ ، وأنَّ خبرَها هو " لنا " قُدِّم عليها ، وفُصِل بالجملة بين الصفة والموصوف .
وأبو عمروٍ يُدغم الدالَ في الصاد . والأكثرون على أنه إخفاءٌ .
(1/3174)

وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)
قوله تعالى : { أَيْنَ مَا كُنتُ } : هذه شرطيةٌ . وجوابُها : إمَّا محذوفٌ مَدْلولٌ عليه بما تقدَّمَ ، أي : أينما كنتُ جَعَلني مباركاً ، وإمَّا متقدِّمٌ عند مَنْ يرى ذلك . ولا جائزٌ أن تكونَ استفهاميةً؛ لأنه يلزمُ أَنْ يعملَ فيها ما قبلها ، وأسماءُ الاستفهامِ لها صدرُ الكلامِ ، فيتعيَّنُ أن تكونَ شرطيةً لأنها منحصرةٌ في هذين المعنيين .
قوله : " ما دُمْتُ " " ما " مصدريةٌ ظرفيةٌ وتقدُّمُ [ ما ] على " دام " شرطٌ في إعمالها . والتقدير : مدةَ دوامي حياً . ونقل ابن عطية عن عاصمٍ وجماعة أنهم قرؤوا " دُمْتُ " بضم الدال ، وعن ابن كثير وأبي عمرو وأهلِ المدينة " دِمت " بكسرها ، وهذا لم نَرَه لغيره وليس هو موجوداً في كتب القراءات المتواترة والشاذة التي بين أيدينا ، فيجوز أن يكون اطَّلَعَ عليه في مصحفٍ غريب . ولا شك أنَّ في " دام " لغتين ، يقال : دُمْتَ تَدُوْم ، وهي اللغةُ العالية ، ودِمْتَ تَدام كخِفْتَ تَخاف ، وهذا كما تقدم لك/ في مات يموت وماتَ يَمات .
(1/3175)

وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)
قوله تعالى : { وَبَرّاً } : العامَّةُ بفتحِ الباء ، وفيه تأويلان ، أحدُهما : أنه منصوبٌ نَسَقاً على " مباركاً " ، أي : وجَعَلَنِي بَرَّاً . والثاني : أنَّه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ . واخْتِير هذا على الأولِ لأنَّ فيه فَصْلاً كثيراً بجملةِ الوصيَّةِ ومتعلِّقِها .
وقُرئ " بِرَّاً " بكسرِ الباءِ : إمَّا على حَذْفِ مضاف ، وإمَّا على المبالغة في جَعْلِه نفسَ المصدر . وقد تقدَّم في البقرة أنه يجوز أن يكونَ وصفاً على فِعْل . وحكى الزهراويُّ وأبو البقاء أنه قُرئ بكسر الباء والراء . وتوجيهُه : أنه نَسَقٌ على " الصلاة " ، أي : وأوصاني بالصلاةِ وبالزكاةِ وبالبِرِّ . و " بوالَديَّ " متعلقٌ بالبَرّ أو البِرّ .
(1/3176)

وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
قوله : { والسلام } : الألفُ واللامُ فيه للعهدِ؛ لأنه قد تقدَّمَ لفظُه في قولِه : { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ } [ مريم : 15 ] ، فهو كقولِه { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول } [ المزمل : 1516 ] ، أي : ذلك السلامُ الموجَّه إلى يحيى مُوَجَّهٌ إليَّ . وقال الزمخشري- بعد ذِكْرِه ما قدَّمْتُه - : " والصحيحُ أن يكونَ هذا التعريفُ تعريضاً باللعنةِ على متهمي مريمَ عليها السَّلامِ وأعدائِها من اليهود . وتحقيقُه : أنَّ اللامَ للجنسِ ، فإذا قال وجنسُ السَّلامِ عليَّ خاصة فقد عَرَّضَ بأنَّ ضِدَّه عليكم . وتنظيرُه : { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } [ طه : 47 ] .
قوله : { يَوْمَ وُلِدْتُّ } منصوبٌ بما تضمنَّه " عليَّ " من الاستقرار . ولا يجوزُ نَصْبُه ب " السَّلام " للفَصْلِ بين المصدرِ ومعمولِه . وقرأ زيد بن على " وَلَدَتْ " جعله فعلاً ماضياً مسنداً لضميرِ مريمَ ، والتاءُ للتأنيث . و " حَيَّاً " حالٌ مؤكِّدَةٌ .
(1/3177)

ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)
قوله تعالى : { ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق } : يجوز أَنْ يكونَ " عيسى " خبراً ل " ذلك " ، ويجوز أَنْ يكونَ بدلاً أو عطفَ بيانٍ . و " قولُ الحق " خبره . ويجوز أَنْ يكونَ " قولُ الحق " خبرَ مبتدأ مضمر ، أي : هو قولُ : و " ابن مريم " يجوز أَنْ يكونَ نعتاً أو بدلاً أو بياناً أو خبراً ثانياً .
وقرأ عاصم وحمزة وابن عامر " قولَ الحق " بالنصبِ والباقون بالرفع . فالرفعُ على ما تقدَّم . قال الزمخشري : " وارتفاعُه على أنَّه خبرٌ بعد خبرٍ ، أو بدلٌ " قال الشيخ : " وهذا الذي ذكرَه لا يكونُ إلا على المجازِ في قولٍ : وهو أن يُراد به كلمةُ اللهِ؛ لأنَّ اللفظَ لا يكون الذاتَ " .
والنصب : يجوز فيه أَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً لمضمون الجملة كقولِك : " هو عبدُ الله الحقَّ لا الباطِلَ ، أي : أقولُ قولَ الحق ، فالحقُّ الصدقُ وهو مِنْ إضافةِ الموصوف إلى صفتِه ، أي : القول الحق ، كقولِه : { وَعْدَ الصدق } [ الاحقاف : 16 ] ، أي : الوعدَ الصدقَ . ويجوز أن يكونَ منصوباً على المدح ، أي : أُريد بالحقِّ البارِيْ تعالى ، و " الذي " نعتٌ للقول إنْ أُرِيْدَ به عيسى ، وسُمِّي قولاً كما سُمِّي كلمةً لأنه عنها نشأ . وقيل : هو منصوبٌ بإضمار أعني . وقيل : هو منصوبٌ على الحالِ من " عيسى " . ويؤيِّد هذا ما نُقِل عن الكسائي في توجيهِ الرفعِ : أنه صفةٌ لعيسى .
وقرأ الأعمشُ " قالُ " برفع اللام ، وهي قراءةُ ابن مسعودٍ أيضاً . وقرأ الحسن " قُوْلُ " بضم القاف ورفع اللام ، وهي مصادر لقال . يقال : قال يَقُولُ قَوْلاً وقالاً وقُوْلاً ، كالرَّهْبِ والرَّهَبِ والرُّهْب . وقال أبو البقاء : " والقال : اسمٌ [ للمصدرِ ] مثل : القيل ، وحُكي " قُولُ الحق " بضمِّ القاف مثل " الرُّوْح " وهي لغةٌ فيه " . قلت : الظاهرُ أنَّ هذه مصادرٌ كلُّها ، ليس بعضُها اسماً للمصدرِ ، كما تقدَّم تقريرُه في الرَّهْب والرَّهَب والرُّهْب .
وقرأ طلحةُ والأعمش " قالَ الحقُّ " جعل " قال " فعلاً ماضياً ، و " الحقُّ " فاعلٌ به ، والمرادُ به الباري تعالى . أي : قال اللهُ الحقُّ : إنَّ عيسى هو كلمةُ الله ، ويكونُ قولُه { الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ } خبراً لمبتدأ محذوف .
وقرأ علي بن أبي طالب والسُّلَمي وداود بن أبي هند ونافع والكسائي في رواية عنهما " تَمْتَرون " بتاء الخطاب . والباقون بياءِ الغَيْبة . وتَمْتَرُون تَفْتَعِلُون : إمَّا مِنْ المِرْية وهي الشكُّ ، وإمَّا من المِراء وهو الجِدالُ .
(1/3178)

مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)
وتقدَّم الكلامُ على نصبِ " فيكونَ " وما قيل فيه .
(1/3179)

وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)
قوله تعالى : { وَإِنَّ الله } : قرأ ابن عامرٍ والكوفيون " وإنَّ " بكسر " إنَّ " على الاستئناف ، ويؤيِّدها قراءةُ أُبَيّ { إِنَّ الله } بالكسر دون واو .
وقرأ الباقون بفتحها ، وفيها أوجهٌ ، أحدُها : أنها على حَذْفِ حرفِ الجرِّ متعلِّقاً بما بعده ، والتقدير : ولأنَّ اللهَ ربي وربُّكم فاعبُدوه ، كقوله تعالى : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } [ الجن : 18 ] والمعنى لوَحْدانيَّته أَطِيْعوه . وإليه ذهب الزمخشري تابعاً للخليل وسيبويه .
الثاني : أنها عطفٌ على " الصلاةِ " والتقدير : وأوصاني بالصلاةِ وبأنَّ اللهَ . وإليه ذهب الفراء ، ولم يذكر مكيٌّ غيرَه . ويؤيِّده ما في مصحف أُبَيّ " وبأنَّ اللهَ ربي " بإظهار الباءِ الجارَّة . وقد استُبْعِد هذا القولُ لكثرةِ الفواصلِ بين المتعاطفَيْن . وأمَّا ظهورُ الباءِ في مصحفِ أَُبَيّ فلا يُرَجِّحُ هذا لأنها باءُ السببيةِ ، والمعنى : بسبب أنَّ الله ربي وربُّكم فاعبُدوه فهي كاللام .
الثالث : أَنْ تكونَ " أنَّ " وما بعدها نَسَقاً على " أمراً " المنصوبِ ب " قَضَى " والتقدير : وإذا قضى أمراً ، وقضى أنَّ اللهَ ربي وربُّكم . ذكر ذلك أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء . واستبعد الناسُ صحةَ هذا النقلِ عن أبي عمرو؛ لأنَّه من الجلالةِ في العِلْم والمعرفة بمنزلٍ يمنعُه من هذا القولِ؛ وذلك لأنَّه إذا عَطَفَ على " أمراً " لزم أن يكونَ داخلاً في حَيِّز الشرطِ ب " إذا " ، وكونُه تبارك وتعالى ربُّنا لا يتقيَّد بشرطٍ البتةَ ، بل هو ربُّنا على الإِطلاق . ونسبوا هذا الوهمَ لأبي عبيدةَ كان ضعيفاً في النحو ، وعَدُّوا له غَلَطاتٍ ، ولعلَّ ذلك منها .
الرابع : أَنْ يكونَ في محلِّ رفعٍ خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ ، تقديرُه : والأمرُ أنَّ الله ربي وربُّكم . ذُكِر ذلك عن الكسائي ، ولا حاجةَ إلى هذا الإِضمارِ .
الخامس : أَنْ/ يكونَ في محلِّ نصبٍ نَسَقاً على " الكتاب " في قولِه " قال : إني عبد الله آتاني الكتابَ " على أن يكونَ المخاطَبُ بذلك معاصِرِي عيسى عليه السلام ، والقائلُ لهم ذلك عيسى . وعن وَهْب : عَهِدَ إليهم عيسى أنَّ اللهَ ربي وربُّكم . قال هذا القائل : ومَنْ كسرَ الهمزةَ يكون قد عَطَفَ { إِنَّ الله } على قوله " إني عبدُ الله " فهو داخِلٌ في حَيِّز القولِ . وتكون الجملُ من قوله { ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ } إلى آخرها جملَ اعتراض ، وهذا من البُعْدِ بمكانٍ .
(1/3180)

فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
قوله تعالى : { مِن مَّشْهِدِ } : " مَشْهد " مَفْعَل : إمَّا من الشهادة ، وإمَّا من الشهود وهو الحضورُ . و " مَشْهد : هنا يجوز أن يُراد به الزمانُ أو المكان أو المصدر : فإذا كان من الشهادة ، والمراد به الزمان ، فتقديره : مِنْ وقتِ شهادة . وإن أريد به المكانُ فتقديره : من مكانِ شهادة يوم . وأنْ أريد به المصدرُ فتقديرُه : من شهادةِ ذلك اليومَ ، وأَنْ تشهدَ عليهم ألسنتُهم وأيديهم وأرجلُهم والملائكةُ والأنبياءُ . وإذا كان من الشهود وهو الحضورُ فتقديرُه : مِنْ شهود الحساب والجزاء يوم القيامة ، أو من مكانِ الشهود فيه وهو الموقفُ أو من وقتِ الشهود؟ وإذا كان مصدراً بحالتيه المتقدمتين فتكون إضافتُه إلى الظرف من بابِ الاتساعِ ، كقوله { مالك يَوْمِ الدين } [ الفاتحة : 4 ] . ويجوز أَنْ يكونَ المصدرُ مضافاً لفاعلِه على أن يُجْعَلَ اليومُ شاهداً عليهم : إمَّا حقيقة وإمَّا مجازاً .
(1/3181)

أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)
قوله تعالى : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } : هذا لفظُه أمرٌ ومعناه التعجبُ ، وأصَحُّ الأعاريبِ فيه كما تقرَّر في علم النحو : أنَّ فاعلَه هو المجرورِ بالباءِ ، والباءُ زائدةٌ ، وزيادتُها لازمةٌ إصلاحاً للَّفظِ ، لأنَّ أَفْعِلْ أمراً لا يكون فاعلُه إلا ضميراً مستتراً ، ولا يجوزُ حَذْفُ هذه الباءِ إلا مع أَنْ وأنَّ كقوله :
3239- تَرَدَّدَ فيعا ضَوْءَها وشُعاعُها ... فَاَحْصِنْ وأَزْيِنْ لامرِئٍ أن تَسَرْبَلا
أي : بأَنْ تَسَرْبَلَ ، فالمجرور مرفوعُ المحلِّ ، ولا ضميرِ في أَفْعَلِ . ولنا قولُ ثانٍ : إن الفاعلَ مضمرٌ ، والمرادُ به المتكلمُ كأنَّ المتكلمَ يأمر نفسَه بذلك والمجرورُ بعده في محلِّ نصب ، ويُعزَى هذا للزجاج .
ولنا قول ثالث : أن الفاعلَ ضميرُ المصدرِ ، والمجرورَ منصوبُ المحلِّ أيضاً ، والتقديرُ : أحسِنْ يا حُسْنُ بزيدٍ . ولشَبَهِ هذه الفاعلِ عند الجمهور بالفَضْلَة لفظاً جاز حَذْفُه للدلالةِ عليه كهذه الآيةِ فإنَّ تقديرَه : وأَبْصِرْ بهم . وفيه أبحاثٌ موضوعُها كتبُ النحو .
وقوله { يَوْمَ يَأْتُونَنَا } معمولٌ ل " أَبْصِرْ " . ولا يجوز أن يكونَ معمولاً ل " أَسْمِعْ " لأنه لا يُفْصَلُ بين فعلِ التعجبِ ومعمولِه ، ولذلك كان الصحيحُ أنه لا يجوزُ أن تكونَ المسألة من التنازع . وقد جَوَّزه بعضُهم ملتزِماً إعمالَ الثاني ، وهو خلافُ قاعدةِ الإِعمال . وقيل بل هو أمرٌ حقيقةً ، والمأمورُ به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، والمعنى : أَسْمِعِ الناسَ وأَبْصِرْهم بهم وبحديثهم : ماذا يُصنع بهم من العذاب؟ وهو منقولٌ عن أبي العالية .
وقوله " اليوم " منصوبٌ بما تضمنَّه الجارُّ مِنْ قولِه " في ضلال مبين " ، أي : لكن الظالمون استقروا في ضلال مبين اليوم . ولا يجوز أن يكون هذا الظرفُ هو الخبرَ ، والجارُّ لغوٌ؛ لئلا يُخْبَر عن الجثةِ بالزمان بخلافِ قولك : القتال اليوم في دارِ زيدٍ ، فإنه يجوز الاعتباران .
(1/3182)

وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39)
قوله تعالى : { إِذْ قُضِيَ الأمر } : يجوز أن يكونَ منصوباً بالحَسْرَةِ ، والمصدرُ المعرَّفُ بأل يعملُ في المفعولِ الصريح عند بعضِهم فكيف بالظرف؟ ويجوز أَنْ يكونَ بدلاً مِنْ " يوم " فيكون معمولاً ل " أَنْذر " كذا قال أبو البقاء والزمخشري وتبعهما الشيخُ ، ولم يَذْكر غيرَ البدل .
وهذا لا يجوزُ أن كان الظرف باقياً على حقيقته؛ إذ يستحيلُ أَنْ يعملَ المستقبل في الماضي ، فإن جَعَلْتَ " اليوم " مفعولاً به ، أي : خَوِّفْهم نفسَ اليومِ ، أي : إنهم يخافون اليومَ نفسَه ، صَحَّ ذلك لخروجِ الظرفِ إلى حَيِّزِ المفاعيل الصريحة .
وقوله : { لكن الظالمون } من إيقاعِ الظاهرِ موقعَ المضمرِ .
قوله : { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } جملتان حاليتان وفيهما قولان ، أحدهما : أنهما حالان من الضميرِ المستترِ في قولِه { فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ، أي : استقرُّوا في ضلالٍ مبين على هاتين الحالتين السَّيئتين . والثاني : أنهما حالان مِنْ مفعولِ " أَنْذِرْهُم " أي : أَنْذِرهم على هذه الحالِ وما بعدَها ، وعلى الاولِ يكون قولًُه { وَأَنْذِرْهُم } اعتراضاً .
(1/3183)

إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
وقرأ العامَّةُ " يُرْجَعون " بالياء من تحت مبنياً للمفعول . والسلمي وابن أبي إسحاق وعيسى مبنياً للفاعل ، والأعرج بالتاء مِنْ فوقُ مبنياً للمفعول على الخطاب ، ويجوز أن يكونَ التفاتاً وأن لا يكونَ .
(1/3184)

إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)
قوله تعالى : { إِذْ قَالَ لأًبِيهِ } : يجوز أَنْ يكونَ بدلاً من " إبراهيم " بدلَ اشتمال كما تقدَّم في { إِذِ انتبذت } [ مريم : 16 ] وعلى هذا فقد فَصَل بين البدلِ والمبدلِ منه بقولِه : { إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً } نحو : رأيت زيداً - ونِعْم الرجلُ - أخاك " . وقال الزمخشري : " ويجوز أن يتعلَّقَ " إذ " ب " كان " أو ب " صِدِّيقاً نبيَّاً " ، أي : كان جامعاً لخصائص الصِّدِّيقين والأنبياء حين طلب خاطب أباه تلك المخاطباتِ " . ولذلك جَوَّز أبو البقاء أن يعمل فيه { صِدِّيقاً نبيَّاً } أو معناه .
قال الشيخ : " الإِعرابُ الأولُ - يعني البدليةَ - يقتضي تصرُّفَ " إذ " وهي لا تتصرَّفُ ، والثاني فيه إعمالُ " كان " في الظرف وفيه خلافٌ ، والثالث لا يكون العاملُ مركباً من مجموع لفظَيْنِ بل يكون العملُ منسوباً للفظٍ واحدٍ . ولا جائز أن يكونَ معمولاً ل " صِدِّيقاً " لأنه قد وُصِفَ ، إلا عند الكوفيين . ويَبْعُدُ أن يكونَ معمولاً ل " نبيَّاً " لأنه يقتضي أنَّ التَّنْبِئَةَ كانت في وقتِ هذه المقالة " .
قلت : العاملُ فيه ما لخَّصه أبو القاسم ونَضَّده بحسنِ صناعتِه من مجموع اللفظين كما رأيتَ في قوله " أي : كان جامعاً / لخصائصِ الصِّدِّيقين والأنبياء حين خاطب أباه " .
(1/3185)

يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)
وقد تَقَدَّمت قراءةُ ابن عامر " يا أبَتِ " وفي مصحف عبد الله " وا أبتِ " ب " وا " التي للنُّدْبة .
(1/3186)

قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)
قوله تعالى : { أَرَاغِبٌ أَنتَ } : يجوز فيه وجهان ، أحدُهما : أَنْ يكون " راغبٌ " مبتدأً لاعتمادِه على همزةِ الاستفهام ، و " أنت " فاعلٌ سَدَّ مَسَدَّ الخبر . والثاني : أنه خبر مقدمٌ ، و " أنت " مبتدأ مؤخر ورُجِّح الأولُ بوجهين ، أحدهما : أنه ليس فيه تقديمٌ ولا تأخير؛ إذ رتبهُ الفاعلِ التأخيرُ عن رافعِه . والثاني أنه لا يلزم فيه الفصلُ بين العاملِ ومعمولِه بما ليس معمولاً للعامل؛ وذلك لأنَّ { عَنْ آلِهَتِي } متعلقٌ ب " راغِبٌ " ، فإذا جُعل " أنت " فاعلاً فقد فُصِل بما هو كالجزءِ من العامل ، بخلافِ جَعْلِه خبراً فإنه أجنبي إذ ليس معمولاً ل " راغبٌ " .
قوله : " مَلِيَّاً " في نصبه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه منصوبٌ على الظرفِ الزماني ، أي : زمناً طويلاً ، ومنه " المَلَوان " للَّيلِ والنهارِ ، وَمَُِلاوةُ الدَّهْر بتثليث الميم قال :
3240- فَعُسْنا بها من الشَّبابِ مَلاوةً ... فالحجُّ آيات الرسولِ المحبِّبِ
وأنشد السدِّي على ذلك لمهلهل :
3241- فتصَدَّعَتْ صُمُّ الجِبالِ لمَوْتِه ... وبَكَتْ عليه المُرْمِلاتُ مَلِيَّا
والثاني : أنه منصوبٌ على الحال معناه : سالماً سَويَّاً . كذا فسَّره ابن عباس : فهو حالٌ مِنْ فاعلِ " اهْجُرْني " ، وكذلك فَسَّره ابنُ عطيةَ قال : " معناه : مُسْتَبداً ، أي : غنيَّاً من قولهم هو مَلِيٌّ بكذا وكذا " . قال الزمخشري : " أي : مُطيقاً " والثالث : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : هَجْراً مَلِيَّاً يعني : واسعاً متطاولاً كتطاول الزمان الممتد .
(1/3187)

قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)
وقرأ أبو البرهسم " سَلاماً " بالنصب ، وتوجيهُها واضحٌ ممَّا تقدَّم .
(1/3188)

فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)
قوله تعالى : { وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً } : " وكُلاًّ " مفعولٌ مقدم هو الأول ، و " نبيَّا " هو الثاني .
(1/3189)

وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)
قوله تعالى : { نَجِيّاً } : حالٌ مِنْ مفعولِ " قَرَّبْناه " وأصلُه نَجِيْوا ، لأنه مِنْ نجا يَنْجو ، والأَيْمَن : الظاهر أنه صفةٌ لجانب بدليل أنه تبعه في قوله تعالى : { وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن } [ طه : 80 ] . وقيل : إنه صفةٌ للطور؛ إذ اشتقاقُه من اليُمْن والبركة .
(1/3190)

وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
قوله تعالى : { مِن رَّحْمَتِنَآ } : في " مِنْ " هذه وجهان ، أحدهما : أنها تعليليةٌ ، أي : مِنْ أَجْل رحمتِنا . و " أخاه " على هذا مفعولٌ به ، و " هرون " بدلٌ أو عطف بيان ، أو منصوبٌ بإضمار أَعْني ، و " نَبِيَّاً " حالٌ . والثاني : أنها تبعيضيةٌ ، أي : بعض رحمتِنا . قال الزمخشري : " وأخاه على هذا بدلٌ ، وهرونَ عطف بيان " . قال الشيخ : " الظاهرُ أنَّ " أخاه " مفعولُ " وَهَبْنَا " ، ولا تُرادِفُ " مِنْ " بعضً فَتُبْدِلُ " أخاه " منها " .
(1/3191)

وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
قوله تعالى : { مَرْضِيّاً } : العامَّةُ على قراءته كذلك معتلاًّ وأصلُه مَرْضُوْوٌ ، بواوين : الأولى زائدةٌ كهي في مَضْروب ، والثانية لام الكلمة لأنه من الرِّضْوان ، فأُعِلَّ بقلب الواو ياءً وأُدْغِمَتْ الأخيرة ياءً ، واجتمعت الياءُ والواو فَقُلبت الواوُ ياءً وأُدْغمت ويجوز النطقُ بالأصلِ . وقد تقدَّم تحريرُ هذا . وقرأ ابن أبي عبلة بهذا الأصلِ وهو الأكثرُ ، ومن الإِعلالِ قولُه :
3242- لقد عَلِمَتْ عِرْسِي مُلَيْكَةُ أنني ... أنا المَرْءُ مَعْدِيَّاً عليه وعادِيا
وقالوا : أَرْضٌ مَسْنِيَّةٌ ومَسْنُوَّة ، أي : مُسْقاة بالسَّانية .
(1/3192)

أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
قوله : { مِّنَ النبيين مِن ذُرِّيَّةِ } : " مِن " الأولى للبيان؛ لأنَّ كلَّ الأنبياء مُنَعَّمٌ عليهم ، فالتبعيضُ مُحالٌ ، والثانيةُ للتبعيض ، فمجرورُها بدلٌ مما قبلَه بإعادة العاملِ ، بدلُ بعضٍ من كل .
قوله : " وإسرائيلَ " عطفٌ على " إبراهيمَ " .
قوله : { وَمِمَّنْ هَدَيْنَا } يحتمل أَنْ يكونَ عطفاً على { مِّنَ النبيين } ، وأن يكونَ عطفاً على { مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ } .
قوله : { إِذَا تتلى } جملةٌ شرطيةٌ فيها قولان ، أظهرهما : أنها لا مَحَلَّ لها لاستئنافِها . والثاني : أنها خبرُ " أولئك " ، والموصولُ قبلها صفةٌ لاسم الإِشارة ، وعلى الأول يكون الموصولُ نفسَ الخبر . وقرأ العامَّةُ " تُتلى " بتاءين مِنْ فوقُ . وقرأ عبد الله وشيبةُ وأبو جعفر وابن كثير وابن عامر وورشٌ عن نافع في رواياتٍ شاذة بالياء أولاً مِنْ تحتُ ، والتأنيثُ مجازيٌّ فلذلك جاء في الفعلِ الوجهان .
قوله : " سُجَّدا " حالٌ مقدرة . قال الزجاج : " لأنهم وقتَ الخُرورِ ليسوا سُجَّداً " .
و " بُكِيَّا " فيه وجهان ، أظهرهما : أنه جمع باكٍ ، وليس بقياسِه ، بل قياسُ جَمْعِه على فُعَلة ، كقاضٍ وقُضاة ، ولم يُسمع فيه هذا الأصلُ . وقد تقدَّم أنَّ الأخوين يكسِران فاءَه على الإِتباع . والثاني : أنه مصدرٌ على فُعُوْل نحو : جَلَسَ جُلُوْساً ، وقَعَدَ قُعوداً . والأصلُ فيه على كِلا القولين بُكُوْي بواوٍ وياء ، فأُعِلَّ الإِعلالَ المشهور في مثله . وقال ابن عطية : " وبكيَّا بكسر [ الباء ] وهو مصدرٌ لا يحتمل غيرَ ذلك " . قال الشيخ : " وليس بسديدٍ بل الإِتباعُ جائزٌ فيه " . وهو جمعٌ كقولِهم عُصِيّ ودُليّ ، جمع عَصا ودَلْو ، وعلى هذا فيكون " بكيَّاً " : إمَّا مصدراً مؤكداً لفعلٍ محذوف ، أي : وبَكَوْا بُكِيَّاً ، أي : بكاءً ، وإمَّا مصدراً واقعاً موقع الحال ، أي : باكين أو ذوي بكاءً ، أو جُعِلوا [ نفس ] البكاءِ مبالغةً .
(1/3193)

إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
قوله تعالى : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ } : فيه وجهان ، أظهرهما : أنه استثناءٌ متصلٌ . وقال الزجاج : " هو منقطعٌ " وهذا بناءً منه على أنَّ المُضَيِّعَ للصلاة من الكفار .
وقرأ عبد الله والحسن والضحاك وجماعةٌ " الصلوات " جمعاً . والغَيُّ تقدم .
وقرأ الحسنُ هنا وجميعَ ما في القرآن " يُدْخَلون " مبنياً للمفعول . ونقل الأخفش أنه قُرِئ " يُلَقَّوْن " بضم الياء وفتح اللام وتشديدِ القاف ، مِنْ لقَّاه مضعفاً . وستأتي هذه القراءة لبعض السبعة في آخر الفرقان . و " شيئاً " ، إمَّا / مصدرٌ ، أي : شيئاً من الظلم ، وإمَّا مفعولٌ به .
(1/3194)

جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)
قوله تعالى : { جَنَّاتِ عَدْنٍ } : العامَّةُ على كسر التاء نصباً على أنها بدل مِن " الجنةَ " ، وعلى هذه القراءةِ يكون قولُه { وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } فيه وجهان ، أحدهما : أنه اعتراضٌ بين البدلِ والمبدلِ منه . الثاني : أنه حالٌ ، كذا قال الشيخ . وفيه نظرٌ : من حيث إن المضارع المنفيِّ ب " لا " كالمُثْبَتِ في أنه لا تباشِرُه واوُ الحالِ .
وقرأ أبو حيوة والحسن وعيسى بن عمر والأعمش " جناتُ " بالرفع وفيه وجهان ، أحدُهما : أنه خبرُ مبتد مضمرٍ تقديرُه : تلك ، أو هي جناتُ عدنٍ . الثاني : - وبه قال الزمخشري - أنها مبتدأ ، يعني ويكون خبرُها { التي وَعَدَ } .
وقرأ الحسن بن حيّ وعلي بن صالح والأعمشُ في روايةٍ " جَنَّةَ عَدْنٍ " نصباً مفرداً . واليماني والحسنُ والأزرقُ عن حمزةَ " جنةُ " رفعاً مفرداً ، وتخريجُها واضحٌ ممَّا تقدَّم . قال الزمخشري : " لَمَّا كانت مشتملةٌ على جناتِ عدنٍ أبْدِلَتْ منها كقولِك : " أَبْصَرْتُ دارَكَ القاعةَ والعلاليَّ " ، و " عَدْنٍ " معرفةٌ علمٌ بمعنى العَدْنِ وهو الإِقامةُ كما جعلوا فينةَ وسحَر وأمسَ - فيمن لم يَصْرِفْه - أعلاماً لمعاني الفنية والسَّحَر والأمس ، فجرى مَجْرى العَدْن لذلك ، أو هو عَلَمٌ لأرضِ الجنةِ لكونِها دارَ إقامة ، ولولا ذلك لَما ساغَ الإِبدالُ لأنَّ النكرةَ لا تُبْدَلُ من المعرفةِ إلاَّ موصوفةً ، ولَما ساغ وصفُها بالتي " .
قال الشيخ : " وما ذكره متعقِّبٌ : أمَّا دعواه أنَّ عَدْناً ، عَلَمٌ لمعنى العَدْنِ فيحتاج إلى تَوْقيفٍ وسَماعٍ من العرب ، وكذا دعوى العَلَميةِ الشخصيةِ فيه . وأمَّا قولُه " ولولا ذلك " إلى قوله " موصوفة " فليس مذهبَ البصريين؛ لأنَّ مذهبَهم جوازُ إبدالِ النكرةِ من المعرفةِ وإن لم تكون موصوفةً ، وإنما ذلك شيءٌ قاله البغداديون ، وهم مَحْجُوْجون بالسَّماعِ على ما بيَّناه ، وملازمتُه فاسدةٌ . وأمَّا قولُه " ولَما ساغَ وصفُها ب " التي " فلا يتعيَّن كون " التي " صفةً ، وقد ذَكَرْنا أنه يجوزُ إعرابُه بدلاً " .
قلت : الظاهر أنَّ " التي " صفةٌ ، والتمسُّكُ بهذا الظاهرِ كافٍ ، وأيضاً فإنَّ الموصولَ في قوةِ المشتقات ، وقد نَصُّوا على أنَّ البدلَ بالمشتقِّ ضعيفٌ فكذا ما في معناه .
قوله : " بالغيبِ " فيه وجهان : أحدهما : أن الباءَ حاليةٌ . وفي صاحب الحالِ احتمالان ، أحدُهما : ضميرُ الجنَّة وهو عائدٌ الموصولِ ، أي : وعَدَعا ، وهي غائبةٌ عنهم لا يُشاهدونها . والثاني : أن يكونَ مِنْ " عبادَة " ، أي : وهم غائبون عنها لا يَرَوْنها ، إنما آمنوا بمجردِ الإِخبار منه .
والوجه الثاني : أن الباءَ سببيةٌ ، أي : بسببِ تصديقِ الغيب ، وبسببِ الإِيمان به .
قوله : " إنه كان " يجوز في هذا الضميرِ وجهان ، أحدُهما : أنه ضميرُ الباري تعالى يعودُ على الرحمن ، أي : إنَّ الرحمن كان موعدُه مَأْتِيَّا .
(1/3195)

والثاني : أنه ضميرُ الأمرِ والشأن؛ لأنه مَقامُ تعظيمٍ وتفخيمٍ ، وعلى الأول يجوز أَنْ يكونَ في " كان " ضميرٌ هو اسمُها يعودُ على اللهِ تعالى ، و " وعدُه " بدلٌ من ذلك الضميرِ بدلُ اشتمال ، و " مَأْتِيَّاً " خبرُها . ويجوز أَنْ لا يكون فيها ضميرُ ، بل هي رافعةٌ ل " وَعِدُه " و " مَأْتِيَّاً " ، الخبرُ أيضاً ، وهو نظير : " إنَّ زيداً كان أبوه منطلقاً " .
ومَأْتِيَّاً فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مفعولٌ على بابِهِ ، والمرادُ بالوعدِ الجنةُ ، أُطْلِقَ عليها المصدرُ أي موعوده نحو : دِرْهَمٌ ضَرْبُ الأميرِ . وقيل : الوَعْدُ مصدرٌ على بابه ومَأْتِيَّاً مفعولٌ بمعنى فاعِل ولم يَرْتِضِه الزمخشريُّ فإنه قال : " قيل في " مَأْتِيَّاً " مفعولٌ بمعنى فاعِل . والوجهُ : أنَّ الوعدَ هو الجنة ، وهم يَأْتونَها ، أو هو مِنْ قولِك : أتى إليه إحساناً ، أي : كان وعدُه مفعولاً مُنْجِزاً " .
(1/3196)

لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
قوله : { إِلاَّ سَلاَماً } : أبدى الزمخشريُّ فيه ثلاثةَ أوجهٍ أحدُها : أَنْ يكونَ معناه : إنْ كان تَسْلِيمُ بعضِهم على بعض - أو تسليمُ الملائكة عليهم - لغواً ، فلا يسمعون لغواً إلى ذلك فهو مِنْ وادي قولِه :
3234- ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم ... بهنَّ فُلولٌ من قراعِ الكتائبِ
الثاني : أنهم لا يَسْمعون فيها إلا قولاً يَسْلَمون فيه من العيبِ والنقيصةِ ، على الاستثناء المنقطع . الثالث : أنَّ معنى السلامِ هو الدعاءُ بالسلامةِ ، ودارُ السلام هي دارُ السلامةِ ، وأهلُها عن الدعاءِ بالسلامةِ أغنياءُ ، فكان ظاهرُه من باب اللَّغْوِ وفُضولِ الحديث ، لولا ما فيه من فائِدةِ الإكرامِ .
قلت : ظاهرُ هذا أنَّ الاستثناء على الأول وأخر متصلٌ؛ فإنه صَرَّح بالمنقطع في الثاني . أمَّا اتصالُ الثالثِ فواضحٌ ، لأنه أَطْلَقَ اللغوَ على السلامِ بالاعتبارِ الذي ذكره ، وأمَّا الاتصالُ في الأولِ فَعَسِرٌ؛ إذ لا يُعَدُّ ذلك عيباً ، فليس من جنس الأول ، وسيأتي تحقيقُ هذا إنْ شاء الله تعالى عند قولِه تعالى { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى } [ الدخان : 56 ] .
(1/3197)

تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
قوله : { نُورِثُ } : قرأ الأعمش " نُورِثها " بإبراز عائدِ الموصول . وقرأ الحسن والأعرج وقتادة " نُوَرِّثُ " بفتحِ الواوِ وتشديد الراء مِنْ " وَرَّثَ " مضعِّفاً .
(1/3198)

وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)
قوله : { وَمَا نَتَنَزَّلُ } : قال ابن عطية : " الواو عاطفةٌ جملةَ كلامٍ على أخرى ، واصلةٌ بين القولين وإن لم يكن / معناهما واحداً " . وقد أغربَ النقاشُ في حكايتِه لقولٍ : وهو أنَّ قولَه { وَمَا نَتَنَزَّلُ } ، متصلٌ بقولِه { قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ } [ مريم : 19 ] . وقال أبو البقاء : " وما نَتَنَزَّل ، أي : وتقول الملائكةُ " فَجَعَلَه معمولاً لقولٍ مضمر . وقيل : هو من كلامِ أهل الجنة وهو أقربُ ممَّا قبله .
ونَتَنَزَّل مطاوعُ نَزَّل بالتشديدِ ويقتضي العملَ في مُهْلة وقد لا يقتضيها . قال الزمخشري : " التَنَزُّلُ على معنيين : معنى النزولِ على مَهْلٍ ، ومعنى النزولِ على الإِطلاق كقوله :
3244- فَلَسْتُ لإِنسيٍّ ولكنْ لِمَلأَكٍ ... تَنَزَّلَ مِنْ جوِّ السَّماءِ يصوبُ
لأنه مطاوع نَزَّل ، ونزَّل يكون بمعنى أَنْزَلَ ، ويكون بمعنى التدريج ، واللائقُ بهذا الموضعِ هو النزولُ على مَهْلٍ ، والمراد : أنَّ نزولَنا في الأحايين وقتاً غِبَّ وقتٍ " . قلت : وقد تقدم أنه يُفَرِّق بين نزَّل وأنزل في أول هذا الموضع .
وقرأ العامَّةُ " نَتَنَزَّل " بنون الجمع . وقرأ الأعرج " يَتَنزَّل " بياء الغيبة . وفي الفاعل حينئذ قولان ، أحدهما : أنه ضميرُ جبريل . قال ابن عطية : " ويَرُدُّه قولُه " له لما بين أيدينا وما خَلْفَنَا " لأنه يَطَّرِدُ معه ، وإنما يتجه أن يكون خبراً عن جبريل أنَّ القرآن لا يَتَنَزَّل إلا بأمر الله في الأوقات التي يُقَدَّرها " . وقد يُجاب عما قال ابن عطية : بأنَّه على إضمار القول : أي : قائلاً : " له ما بين أيديدنا " .
الثاني : أنه يعود على الوَحْي ، وكذا قال الزمخشري على الحكاية عن جبريل ، والضميرُ للوحي ، ولا بد من إضمار هذا القولِ الذي ذكرتُه أيضاً .
قوله : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } استدلَّ بعضُ النحاة على أنَّ الأزمنةَ ثلاثةُ : ماضٍ وحاضرٌ ومستقبلٌ بهذه الآية ، وهو كقولِ زهير :
3245- وأعلمُ عِلْمَ اليومِ والأمسِ قبلَه ... ولكنني عن عِلْمِ ما في غَدٍ عَمِ
(1/3199)

رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
قوله : { رَّبُّ السماوات } : فيه ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدها : كونُه بدلاً مِنْ " ربُّك " . الثاني : كونُه خبرَ مبتدأ ، أي : هو ربُّ . الثالث : كونُه مبتدأً ، والخبرُ الجملةُ الأمريةُ بعده وهذا ماشٍ على رَأْي الأخفش : أنه يُجَوِّزُ زيادةَ الفاء في خبر المبتدأ مطلقاً .
قوله : لعبادتِه " متعلَّقٌ ب " اصْطَبِرْ " وكان مِنْ حَقِّه تعديتُه ب " على " لأنها صلتُه كقولِه : { واصطبر عَلَيْهَا } [ طه : 132 ] ولكنه ضُمِّن معنى الثبات ، لأنَّ العبادةَ ذاتُ تكاليفَ قَلَّ مَنْ يَثْبُتُ لها فكأنه قيل : واثْبُتْ لها مُصْطَبراً .
قوله : " هل تعلم " أدغم الأخَوان وهشام وجماعة لام " هل " في التاء ، وأنشدوا على ذلك بيت مزاحم العقيلي .
3246- فدَعْ ذا ولكن هَتُّعِيْنُ مُتَيَّماً ... على ضوءِ بَرْقٍ آخرَ الليلِ ناصِبِ
(1/3200)

وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)
قوله : { أَإِذَا مَا مِتُّ } : " إذا " منصوبةٌ بفعلٍ مقدرٍ مدلولٍ عليه بقوله تعالى { لَسَوْفَ أُخْرَجُ } تقديرُه : إذا مِتُّ أُبْعَثُ أو أُحيا . ولا يجوز أن يكونَ العاملُ فيه " أُخْرِج " لأنَّ ما بعد لام الابتداء لا يعمل فيما قبلها . قال أبو البقاء : " لأنَّ ما بعد اللامِ وسوف لا يَعْمل فيما قبلها كإنَّ " قلت : قد جَعَلَ المانعَ مجموعَ الحرفين : أمَّا اللامُ فمُسَلَّمٌ ، وأمَّا حرفُ التنفيسِ فلا مَدْخَلَ له في المنع؛ لأنَّ حرفَ التنفيسِ يَعْمَلُ ما بعده فيما قبله . تقول : زيداً سأضرب ، وسوف أضرب ، ولكنْ فيه خلافٌ ضعيفٌ ، والصحيحُ الجوازُ ، وأنشدوا عليه :
3247- فلمَّا رَأَتْع أمُّنا هانَ وَجْدُها ... وقالت : أبونا هكذا سوف يَفْعَلُ
ف " هكذا " منصوب ب " يَفْعَل " بعد حرف التنفيس .
وقال ابن عطية : واللامُ في قوله : " لَسَوْف " مجلوبةٌ على الحكاية لكلامٍ تقدَّم بهذا المعنى ، كأنَّ قائلاً قال للكافر : إذا مِتَّ يا فلان لسوف تُخْرَجُ حَيَّاً ، فقرَّر الكلامَ على الكلام على جهةِ الاستبعادِ ، وكرَّر اللامَ حكايةً للقول الأول " .
قال الشيخ : " ولا يُحتاج إلى هذا التقدير ، ولا أن هذا حكايةُ لقولٍ تقدَّمَ ، بل هو من كلامِ الكافرِ ، وهو استفعامٌ فيه معنى الجحدِ والاستبعادِ " .
وقال الزمخشري : " لامُ الابتداءِ الداخلةُ على المضارع تعطي معنى الحالِ فكيف جامَعَتْ حرفَ الاستقبال؟ قلت : لم تجامِعْها إلا مُخْلِّصَةً للتوكيد كما أَخْلَصَت الهمزةُ في " يا الله " للتعويض ، واضمحلَّ عنها معنى التعريف " . قال الشيخ : " وما ذَكَرَ مِنْ أنَّ اللامَ تعطي الحالَ مخالَفٌ فيه ، فعلى مذهبِ مَنْ لا يرى ذلك يُسْقط السؤال . وأمَّا قولُه : " كما أَخْلَصَت الهمزة " فليس ذلك إلا على مذهبِ مَنْ يزعم أنَّ أصلَه إلاه ، وأمَّا مِنْ يزعم أنَّ أصله : لاه ، فلا تكون الهمزةُ فيه للتعويضِ؛ إذ لم يُحْذَفْ منه شيءٌ ، ولو قلنا : إن أصلَه إلاه ، وحُذِفَتْ فاءُ الكلمة ، لم يتعيَّنْ أنَّ الهمزةَ فيه في النداء للتعويض ، إذ لو كانَتْ عوضاً من المحذوف لَثَبَتَتْ دائماً في النداء وغيرِه ، ولَمَات جاز حذفُها في النداء ، قالوا : " يا الله " بحَذْفِها ، وقد نَصُّوا على أن [ قطعَ ] همزةِ الوصل في النداء شاذ " .
وقرأ الجمهور " أإذا " بالاستفهامِ وهو استبعادٌ كما تقدَّم . وقرأ ابن ذكوان بخلافٍ عنه وجماعةٌ " إذا " بهمزةٍ واحدة على الخبر ، أو للاستفهامِ وحذَف أداتَه للعلمِ بها ، ولدلالةِ القراءةِ الأخرى عليها .
وقرأ طلحة بن مصرف " لَسَأَخْرَجُ " بالسين دون سوف ، هذا نَقْلُ الزمخشريِّ عنه ، وغيرُه نَقَل عنه " سَأَخْرُج " دونَ لامِ ابتداء ، وعلى هذه القراءةِ يكونُ العاملُ في الظرف نفسَ " أُخْرَج " ، ولا يمنع حرفُ التنفيسِ على الصحيح .
وقرأ العامَّةُ " أُخْرَجُ " مبنياً للمفعول . والحسن وأبو حيوة " أَخْرِجُ " مبنياً للفاعل . و " حَيَّاً " حالٌ مؤكِّدة لأنَّ مِنْ لازمِ خروجِه أن يكونَ " حَيَّاً " وهو كقولِه : { أُبْعَثُ حَيّاً } [ مريم : 33 ] .
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وجماعة " يَذْكُرُ " مخففاً مضارعَ " ذكر " ، والباقون بالتشديد مضارعَ تَذَكَّر ، والأصل " يتذكَّر " فأُدْغِمَتْ التاءُ في الذال . وقد قرأ بهذا الأصلِ وهو يَتَذَكَّر : أُبَيُّ .
(1/3201)

أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)
والهمزةُ في قوله { أَوَلاَ يَذْكُرُ } مؤخرةٌ عن حرف العطف تقديراً كما هو قول الجمهور . وقد رَجَع الزمخشري إلى رأي الجمهورِ هنا فقال : " الواوُ عَطَفَتْ { لاَ يَذْكُرُ } على " يقول " / ووُسِّطَتْ همزةُ الإِنكار بين المعطوف وحرفِ العطف " ومذهبُه أَنْ يُقَدِّرَ بين حرفِ العطفِ وهمزة الاستفهام جملةً يُعْطَف عليها ما بعدها ، وقد فعل هذا - أعني الرجوعَ إلى قولِ الجمهور - في سورة الأعراف كما نبَّهت عليه في موضعِه .
قوله : { مِن قَبْلُ } ، أي : مِنْ قبلِ بَعْثه . وقَدَّره الزمخشري " من قبلِ الحالةِ التي هو فيها وهي حالةُ بقائه " .
(1/3202)

فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)
قوله : { جِثِيّاً } : حالٌ مقدرةٌ مِنْ مفعولِ " لَنُحْضِرَنَّهُمْ " و " جِثِيّاً " جمعُ جاثٍ جمعٌ على فُعُوْل نحو : قاعِد وقُعود وجالِس وجُلوس . وفي لامِه لغتان ، إحداهما الواو ، والأخرى الياء يُقال : جثا يَجْثُو جُثُوَّاً ، وجَثِيَ يَجْثِي جِثايةً ، فعلى التقدير الأول يكون أصلَه " جُثُوْوٌ " بواوين : الأُوْلى زائدةٌ علامةً للجمع ، والثانيةُ لامُ الكلمةِ ، ثم أُعِلَّتْ إعلالَ عِصِيّ ودُلِيّ ، وتقدَّم تحقيقُه في " عِتِيَّاً " . وعلى الثاني يكون الأصلُ جُثُوْياً ، فَأُعِلَّ إعلالَ هَيِّن ومَيِّت . وعن ابن عباس : أنه بمعنى جماعاتٍ جماعاتٍ جمعَ جُثْوَة ، وهو : المجموعُ من التراب والحجارة . وفي صحتِه عنه نظرٌ من حيث إنَّ فُِعْلَة لا يُجمع على فُعُوْل . ويجوز في " جِثِيَّا " أن يكون مصدراً على فُعول ، وأصلُه كما تقدَّم في حالِ كونِه جمعاً : إمَّا جُثُوٌّ ، وإمَّا جُثُوْيٌ .
وقد تقدَّم " أنَّ الأخوين يكسران فاءَه ، والباقون يَضُمونها .
والجُثُوُّ : القُعُودُ على الرُّكَب .
(1/3203)

ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)
قوله : { أَيُّهُمْ أَشَدُّ } : في هذه الآيةِ أقوالٌ كثيرةٌ ، أظهرُها عند الجمهور من المعربين ، وهو مذهب سيبويه : أن " أيُّهم " موصولةٌ بمعنى الذي ، وأنَّ حركتَها بناءٍ بُنِيَتْ عند سيبويه ، لخروجِها عن النظائر ، و " أَشَدُّ " خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، والجملةُ صلةٌ ل " أيُّهم " ، و " أيُّهم " وصلتُها في محل نصب مفعولاً بها بقوله " لَنَنْزِعَنَّ " .
ول " ايّ " أحوالٌ أربعةٌ ، أحدُها : تُبْنى فيها وهي - كما في الآيةِ - أَنْ تضافَ ويُحْذَفَ صدرُ صلتِها ، ومثلُه قولُ الشاعر :
3248- إذا ما أَتَيْتَ بني مالكٍ ... فَسَلِّمْ على أيُّهم أَفْضَلُ
بضم " أيُّهم " وتفاصيلُها مقررةٌ في موضوعات النحو .
وزعم الخليل رحمه الله أنَّ " أيُّهم " هنا مبتدأٌ ، و " أشدُّ " خبرُه ، وهي استفهاميةٌ والجملةُ محكيةٌ بقولٍ مقدر والتقدير : لننزِعَنَّ من كل شيعةٍ المقولِ فيهم : أيُّهم أشدُّ . وقوَّى الخليلُ تخريجَه بقول الشاعر :
3249- ولقد أَبَيْتُ من الفتاةِ بمنزلٍ ... فَأَبَيْتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرُوْمُ
وقال تقديره : فَأَبِيْتُ يُقال فيَّ : لا حَرِجٌ ولا محرومُ .
وذهب يونسُ إلى أنَّها استفهاميةٌ مبتدأةٌ ، ما بعدها خبرُها كقولِ الخليلِ ، إلا أنه زعم أنها مُعَلَّقَةٌ ل " نَنْزِعَنَّ " فهي في محلِّ نصب ، لأنَّه يُجَوِّز التعليقَ في سائر الأفعال ، ولا يحضُّه بأفعالِ القلوب ، كما يَخُصُّه بها الجمهور .
وقال الزمخشري : " ويجوز أَنْ يكونَ النَّزْعُ واقعاً على { مِن كُلِّ شِيعَةٍ } كقوله : { وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا } [ مريم : 50 ] ، أي : لَنَنْزِعَنَّ بعضَ كلِّ شيعةٍ فكأنَّ قائلاً قال : مَنْ هم؟ فقيل : أيُّهم أشدُّ عِتِيَّا " . فجعل " أيُّهم " موصولةً أيضاً ، ولكن هي في قوله خبرُ مبتدأ محذوفٍ ، أي : هم الذين هم أشدُّ " .
قال الشيخ : وهذا تكلُّفُ ما لا حاجةَ إليه ، وادَّعاءُ إضمارٍ غيرِ مُحْتاجٍ إليه ، وجَعْلُ ما ظاهرُه أنه جملةٌ واحدةٌ جملتين " .
وحكى أبو البقاء عن الأخفش والكسائي أنَّ مفعولَ لَنَنْزِعَنَّ { كُلِّ شِيعَةٍ } و " مِنْ " مزيدةٌ ، قال : وهما يجيزان زيادةَ " مِنْ " ، و " أيُّ " استفهامٍ " ، أي : للنزِعَنَّ كلَّ شيعة . وهذا يُخالِفُ في المعنى تخريجَ الجمهورِ؛ فإنَّ تخريجَهم يُؤَدِّي إلى التبعيضِ ، وهذا يؤدي إلى العمومِ ، إلا أَنْ تجعلَ " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ لا للتغيض فيتفق التخريجان .
وذهب الكسائي إلى أنَّ معنى " لننزِعَنَّ " لننادِيَنَّ ، فعوملَ معامَلَته ، فلم يعمل في " أيّ " . قال المهدوي : " ونادى يُعَلَّق إذا كان بعده جملةُ نصبٍ ، فيعملُ في المعنى ، ولا يعملُ في اللفظِ " .
وقال المبرد : " أيُّهم " متعلِّقٌ ب " شيعةٍ " فلذلك ارتفع ، والمعنى : من الذين تشايَعُوا أيُّهم أشدُّ ، كأنهم يتبارَوْن إلى هذا " .
(1/3204)

ويَلْزَمُه على هذا أَنْ يُقَدِّر مفعولاً ل " نَنْزِعَنَّ " محذوفاً . وقَدَّر بعضُهم في قولِ المبرد : من الذين تعاونوا فنظروا أيُّهم . قال النحاس : " وهذا قولٌ حسنٌ ، وقد حكى الكسائي تَشايَعُوا بمعنى تعاونوا " . قلت : وفي هذه العبارة المنسوبةِِ للمبرد قلقٌ ، ولا بَيَّنَ الناقلُ عنه وجهَ الرفع على ماذا يكون ، وبيَّنه أبو البقاء ، لكنْ جَعَلَ " أيُّهم " فاعلاً لِما تَضَمَّنَتَهْ " شيعة " من معنى الفعلِ ، قال : " التقدير : لننزِعَنَّ من كلِّ فريقٍ يُشَيَّع أيُّهُم ، وهي على هذا بمعنى الذي " .
ونُقِل عن الكوفيين أنَّ " أيُّهم " في الآية بمعنى الشرط . والتقدير : إنْ اشتدَّ عُتُوُّهم ، أو لم يَشْتَدَّ ، كما تقول : ضربْتُ القومَ أيُّهم غَضِبَ ، المعنى : إنْ غضبوا أو لم يَغْضبوا .
وقرأ طلحة بن مصرِّف ومعاذ بن مسلم العراء أستاذُ الفراءِ وزائدةُ عن الأعمش " أيُّهم " نصباً . قلت : فعلى هذه القراءة والتي قبلَها : ينبغي أَنْ يكونَ مذهبُ سيبويهِ جوازَ إعرابِها وبنائِها ، وهو المشهورُ عند النَّقَلَةِ عنه ، وقد نُقِل عنه أنَّه يحتَّم بناءَها . قال النحاس : " ما علمتُ أحداً من النحويين إلا وقد خطَّأ سيبويه " قال : " وسمعت أبا إسحاق الزجاج يقول : " ما تبيَّن لي أن سيبويه غَلِط في كتابه إلا في موضعين ، هذا أحدُهما " قال " وقد أعرب سيبويه " أيَّاً " وهي مفردةٌ لأنها مُضافةٌ ، فكيف يبنيها مضافةً "؟ وقال الجرميُّ : " خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارَقْتُ الخندقَ إلى مكة أحداً يقول : " لأَضْرِبَنَّ أيُّهم قائمٌ " بالضمِّ بل يَنْصِبُ " .
و { عَلَى الرحمن } متعلقٌ ب " أشدُّ " ، و " عِتِيَّاً " منصوبٌ على / التمييز ، وهو مُحَوَّلٌ عن المبتدأ ، إذ التقديرُ : أيُّهم هو عتوُّه أشدُّ ، ولا بدَّ مِنْ محذوفٍ يَتِمُّ به الكلامُ ، التقدير : فَنُلْقِيهِ في العذابِ ، أو فنبدأ بعذابه . قال الزمخشري : " فإن قلتَ : بِمَ تتعلَّقُ على والباء؟ فإنَّ تعلُّقَهما بالمَصْدَرَيْن لا سبيلَ إليه " . قلت : هما للبيان لا للصلةِ ، أو يتعلَّقان ب " أَفْعَل " ، أي : عُتُوُّهم أشدُّ على الرحمنِ ، وصَلْيُهم أَوْلَى بالنار كقولهم : " هو أَشَدُّ على خَصْمه ، وهو أَوْلَى بكذا " .
قلت : يعني ب " على " قولَه " على الرحمن " ، وبالباء قولَه " بالذين هم " . وقوله " بالمصدر " يعني بهما " عِتيَّا " و " صِلِيَّاً " وأمَّا كونُه لا سبيلَ إليه فلأنَّ المصدرَ في نيةِ الموصولِ ، ولا يتقدَّم معمولُ الموصولِ عليه .
وجَوَّزَ بعضهم أَنْ يكونَ " عِتِيَّاً " و " صِلِيَّاً " في هذه الآيةِ مصدرين كما تَقَدَّمَ ، وجَوَّزَ أَنْ يكونا جمعَ عاتٍ وصالٍ فانتصابُهما على هذا الحال . وعلى هذا يجوزُ أَنْ تتعلقَ على والباء بهما لزوالِ المحذورِ المذكورِ .
(1/3205)

وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)
قوله : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ } : في هذه الواوِ وجهان ، أحدهما : أنها عاطفةٌ هذه الجملةَ على ما قبلَها . وقال ابن عطية " { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } قَسَمٌ والواو تَقْتَضيه ، ويُفَسِّره قولُ النبي صلى الله عليه وسلم : " مَنْ ماتَ له ثلاثٌ من الولد لم تَمَسَّه النار إلا تَحِلَّة القسمِ " قال الشيخ : " وذَهِلَ عن قولِ النحويين إنه لا يُستغنى عن القسمِ بالجواب لدلالةِ المعنى ، إلا إذا كان الجوابُ باللامِ أو ب " إنْ " والجوابُ هنا على زَعْمه ب " إنْ " النافيةِ فلا يجوز حَذْفُ القسم على ما نَصُّوا . وقوله : " والواو تَقْتَضِيه " يدلُّ على أنها عنده واوُ القسم ، ولا يذهبُ نحويٌ إلى أنَّ مِثْلَ هذه الواوِ واوُ قسمٍ لأنه يلزمُ مِنْ ذلك حَذْفُ المجرورِ وإبقاءُ الجارِّ ، ولا يجوز ذلك إلا إنْ وَقَعَ في شعرٍ أو نادرِ كلامٍ بشرط أن تقومَ صفةُ المحذوف مَقامَه ، كما أوَّلوا في قولهم : " نِعْمَ السيرُ على بئسَ العَيْرُ " ، أي : على عَيْرٍ بئسَ العَيْرُ ، وقولِ الشاعر :
3250- واللهِ ما ليلى بنامِ صاحِبُهْ ... أي : برجلٍ نام صاحبُهْ ، وهذه الآيةُ ليست من هذا الضَّرْبِ؛ إذ لم يُحْذَفِ المُقْسَمُ به وقامَتْ صفتُه مَقامَه " .
و " إنْ " حرفُ نفيٍ ، و " منكم " صفةٌ لمحذوفٍ تقديرُه : وإنْ أحدٌ منكم . ويجوز أن يكونَ التقديرُ : وإن منكم إلا مَنْ هو وارِدُها . وقد تقدَّم لذلك نظائرُ .
والخطابُ في قولِه " منكمْ " يَحْتمل الالتفاتَ وعدمَه . قال الزمخشري : " التفاتٌ إلى الإِنسان ، ويَعْضُدُه قراءةُ ابن عباس وعكرمةَ " وإنْ منهم " أو خطابٌ للناس مِنْ غير التفاتٍ إلى المذكور " .
والحَتْمُ : القضاءُ والوجوبُ . حَتَمَ ، أي : أوجب [ وحَتَمَه ] حتماً ، ثم يُطلق الحتم على الأمر المحتوم مقوله تعالى : " هذا خَلْقُ الله " و " هذا دِرْهَمٌ ضَرْبُ الأميرِ " . و " على ربِّك " متعلِّقٌ ب " حَتْم " لأنه في معنى اسمِ المفعول ، ولذلك وصَفَه ب " مَقْضِيَّاً " .
(1/3206)

ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
وقرأ العامَّةُ { ثُمَّ نُنَجِّيْ } بضمِّ " ثمَّ " على أنَّها العاطفةُ وقرأ عليٌّ بن أبي طالب وابن مسعود وابن عباسٍ وأُبيُّ والجحدريُّ ويعقوبُ " ثَمَّ " بفتحها على أنها الظرفيةُ ، ويكون منصوباً بما بعده ، أي : هناك نُنَجِّي الذين اتَّقَوا .
وقرأ الجمهور " نُنَجِّيْ " بضم النونِ الأولى وفتحِ الثانية وتشديدِ الجيم ، مِنْ " نجَّى " مضعفاً . وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن " نُنْجِي " مِنْ أَنْجى . والفعلُ على هاتين مضارعٌ .
وقرأَتْ فِرقةٌ " نُجِّيْ " بنونٍ واحدةٍ مضمومةٍ وجيمٍ مشددة . وهو على هذه القراءةِ ماضٍ مبني للمفعول ، وكان مِنْ حق قارئها أن يفتحَ الياءَ ، ولكنه سكَّنه تخفيفاً . وتحتمل هذه القراءةُ توجيهاً آخرَ سيأتي في قراءة متواترةٍ آخرَ سورةِ الأنبياء . وقرأ عليُّ بن أبي طالب أيضاً " نُنَجِّي " بحاءٍ مهملة ، من التَّنْحِيَة .
ومفعول " اتَّقوا " إمَّا محذوفٌ مرادٌ للعلمِ به ، أي : اتَّقُوا الشركَ والظلمَ .
قوله : جِثِيَّا " إمَّا مفعولٌ ثانٍ إنْ كان " نَذَرُ " يتعدَّى لاثنين بمعنى نترك ونُصَيِّر ، وإمَّا حالٌ إنْ جَعَلْتَ " نَذَرُ " بمعنى نُخَلِّيْهم . و " جِثِيَّاً " على ما تقدَّم .
و " فيها " يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب " نَذَرُ " ، وأَنْ يتعلَّقَ ب " جِثِيَّاً " إنْ كان حالاً ، ولا يجوزُ ذلك فيه إنْ كان مصدراً . ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ " جِثِيَّاً " لأنه في الأصلِ صفةٌ لنكرةٍ قُدِّم عليها فَنُصِبَ حالاً .
(1/3207)

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)
قوله : { مَّقَاماً } : قرأ ابن كثير " مُقاماً " بالضم ، ورُوِيَتْ عن أبي عمرو ، وهي قراءةُ ابن محيصن . والباقون بالفتح . وفي كلتا القراءتين يحتمل أَنْ يكونَ اسمَ مكانٍ أو اسمَ مصدر ، إمَّا من " قام " ثلاثياً ، أو مِنْ " أقام " ، أي : خير مكانِ قيامِ أو إقامةٍ .
والنَّدِيُّ : فَعِيل ، أصلُه نَدِيْوٌ لأنَّ لامَه واوا ، يقال : نَدَوْتُهم أَنْدَوْهم ، أي : أَتَيْتُ ناديَهم ، والنادي مثلُه . ومنه { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } [ العلق : 17 ] ، أي : أهل نادية . والنَّدِيُّ والنادي : مجلسُ القومِ ومُتَحَدِّثُهم . وقيل : هو مشتقٌ من النَّدى وهو الكَرَمُ؛ لأن الكرماء يجتمعون فيه ، وانْتَدَيْتُ المكانَ والمُنْتدى كذلك . وقال حاتم :
3251- ودُعِيْتُ في أَوْلَى النَّدِيَّ ولم ... يُنْظَرْ إليَّ بأَعْيُنٍ خُزْرِ
والمصدرُ : النَّدْوُ . و " مَقاماً " و " نَدِيَّا " منصوبان على التمييز من أفْعل .
وقرأ أبو حيوةَ والأعرجُ وابن محيصن " يُتْلَى " بالياء مِنْ تحتُ ، والباقون/ بالتاءِ من فوقُ واللامُ في " للذين " يحتمل أَنْ تكونَ للتبليغِ ، وهو الظاهر ، وأن تكونَ للتعليلِ .
(1/3208)

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
قوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا } : " كم " مفعولٌ مقدمٌ واجبُ التقديم؛ لأنَّ له صدرَ الكلامِ لأنها إمَّا : استفهاميةٌ أو خبريةٌ ، وهي محمولةٌ على الاستفهاميةِ ، و " أَهلَكْنا " مُتَسَلِّطٌ على " كم " أي : كثيراً من القرون أَهْلَكْنا . و " مِنْ قَرنٍ " تمييزٌ ل " كَمْ " مُبَيِّنٌ لها .
قوله : { هُمْ أَحْسَنُ } في هذه الجملةِ وجهان ، أحدهما : - وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء - أنَّها في محلِّ نصب ، صفةً ل " كم " . قال الزمخشري : " ألا ترى أنَّك لو أَسْقَطْتَ " هم " لم يكن لك بَدٌّ مِنْ نصبِ " أحسنُ " على الوصفية " . وفي هذا نظرٌ لأنَّ النَّحْويين نَصُّوا : على أنَّ " كم " استفهاميةٌ كانت أو خبريةً لا تُوْصَفُ ولا يُوْصَفُ بها . الثاني : أنها في محلِّ جرٍّ صفةً ل " قَرْن " ولا محذورَ في هذا ، وإنما جُمِعَ في قوله : " هم " لأنَّ قَرْناً وإن كان لفظُه مفرداً فمعناه جمعٌ ، ف " قَرْن " كلفظِ " جميع " و " جميع " يجوز مراعاةُ لفظِه تارةً فيُفْرَدُ كقولِه تعالى : { نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } [ القمر : 44 ] ومراعاةُ معناه أخرى فيُجمع مالَه كقوله تعالى : { لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ يس : 32 ] .
قوله : " ورِئْياً " الجمهورُ على " رِئْياً " الجمهورُ على " رِئْيا " بهمزةٍ ساكنةٍ بعدَها ياءٌ صريحةٌ وَصْلاً ووفقاً ، وحمزةُ إذا وَقَفَ يُبْدِلُ هذه الهمزةَ ياءً على أصلِه في تخفيفِ الهمز ، ثم له بعد ذلك وجهان : الإِظهارُ اعتباراً بالأصل ، والإِدغامُ اعتباراً باللفظ ، وفي الإِظهار صعوبةٌ لا تَخْفَى ، وفي الإِدغامِ إبهامُ أنها مادةٌ أخرى : وهو الرَّيُّ الذي بمعنى الامتلاء والنَّضارة ، ولذلك تَرَكَ أبو عمروٍ أصلَه في تخفيفِ همزِه .
وقرأ قالون عن نافع ، وابن ذكوان عن ابن عامر " ورِيَّا " بياءٍ مشددةٍ بعد الراءِ ، فقيل : هي مهموزةُ الأصلِ ، ثم أُبْدِلَتِ الهمزةُ ياءً وأُدْغِمَتْ . والرَّأْيُ بالهمز ، قيل : مِنْ رُؤْية العَيْن ، وفِعْل فيه بمعنى مَفْعول ، أي : مَرْئِيٌّ . وقيل من الرُّواء وحُسْنِ المنظر . وقيل : بل هو مِنَ الرَّيّ ضد العطش وليس مهموزَ الأصلِ ، والمعنى : أحسنُ منظراً لأنَّ الرِّيَّ والامتلاءَ أحسنُ مِنْ ضِدَّيْهما .
وقرأ حميد وأبو بكر بن عاصم في روايةِ الأعشى " وَرِيْئاً " بياءٍ ساكنةٍ بعدَها همزةٌ وهو مقلوبٌ مِنْ " رِئْياً " في قراءةِ العامَّةِ ، ووزنه فِلْعٌ ، وهو مِنْ راءه يَرْآه كقولِ الشاعر :
3252- وكلُّ خليلٍ راءَني فهو قائلٌ ... مِنَ أجلِكَ : هذا هامةُ اليومِ أوغدِ
وفي القلب من القلبِ ما فيه .
ورَوَى اليزيديُّ قراءةَ " ورِياء " بياءٍ بعدها ألف ، بعدها همزة ، وهي من المُراءاة ، أي : يُرِيْ بعضُهم حُسْنَ بعضٍ ، ثم خَفَّف الهمزةَ الأولى بقلبِها ياءً ، وهو تخفيفٌ قياسيٌّ .
(1/3209)

وقرأ ابنُ عباس أيضاً في رواية طلحة " وَرِيَاً " بياء فقط مخففةٍ . ولها وجهان ، أحدهما : أَنْ يكونَ أصلُها كقراءةِ قالون ، ثم خَفَّفَ الكلمةَ بحذفِ إحدى الياءَيْن ، وهي الثانيةُ لأنَّ بها حَصَلَ الثِّقَلُ ، ولأنَّها لامُ الكلمةِ ، والأواخرُ أَحْرَى بالتغيير . والثاني : أن يكونَ أصلُها كقراءةِ حميد " وَرِيْئا " بالقلب ، ثم نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الياءِ قبلها ، وحَذَفَ الهمزةَ على قاعدةِ تخفيفِ الهمزةِ بالنقل ، فصار " وَرِيا " كما ترى . وتجاسَرَ بعضُ الناسِ فجعل هذه القراءة لَحْناً ، وليس اللاحنُ غيرَه ، لخَفَاءِ توجيهِها عليه .
وقرأ ابن عباس أيضاً وابنُ جُبَيْر وجماعةٌ " وزِيَّا " بزايٍ وياءٍ مشددة ، والزَّيُّ : البِزَّة الحسنة والآلاتُ المجتمعة ، لأنه مِنْ زَوَى كذا يَزْوِيه ، أي : يَجْمعه ، والمُتَزَيِّنُ يَجْمع الأشياء التي تُزَيِّنه وتُظْهِرُ زِيَّه .
(1/3210)

قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)
قوله : { مَن كَانَ فِي الضلالة } : " مَنْ " يجوز ان تكونَ شرطيةً ، وهو الظاهر ، وأن تكونَ موصولةً ، ودخلت الفاءُ في الخبرِ لِما تَضَمَّنه الموصولُ مِنْ معنى الشرط . وقولُه : " فَلْيَمْدُدْ " فيه وجهان ، أحدُهما : أنه طَلَبٌ على بابه ، ومعناه الدُّعاءُ . والثاني : لفظُه لفظُ الأمرِ ، ومعناه الخبر . قال الزمخشري : أي : مَدَّ له الرحمنُ ، بمعنى أَمْعَلَه فأُخْرِجَ على لفظِ الأمرِ إيذاناً بوجوبِ ذلك . أو فَمُدَّ له في معنى الدعاء بأن يُمْهِلَه الله ويُنَفِّسَ في مدةِ حياتِه " .
قوله : " حتى إذا " في " حتى " هذه ما تقدَّمَ في نظائرِها مِنْ كونِها : حرفَ جرٍّ أو حرفَ ابتداءٍ ، وإنما الشأنُ فيما هي غايةٌ له على كلا القولين . فقال الزمخشري : " وفي هذه الآيةِ وجهان : أن تكونَ موصولةً ، بالآيةِ التي هي رابِعَتُها ، والآيتان اعتراضٌ بينهما ، أي : قالوا : أيُّ الفريقينِ خيرٌ مقاماً وأَحْسَنُ نَدِيَّاً ، حتى إذا رَأَوْا ما يُوْعَدون ، أي : لا يَبْرَحون يقولون هذا القولَ ويَتَوَلَّعُون [ به ] لا يَتَكَافَوْن عنه إلى أن يُشاهدون الموعودَ رأيَ العينِ " وذكر كلاماً حسناً .
ثم قال : " والثاني : أن تتصلَ بما يليها ، والمعنى أنَّ الذينَ في الضلالةِ ممدودٌ لهم " وذكر كلاماً طويلاً . ثم قال : " إلى أَنْ يُعايِنوا نُصْرَةَ / اللهِ للمؤمنين ، أو يشاهدوا السَّاعة ومُقَدِّماتها . فإنْ قلت : " حتى " هذه ما هي؟ قلت : هي التي تُحْكى بعدها الجملُ ، ألا ترى الجملةَ الشرطيةَ واقعةً بعدها ، وهي { إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ . . . فَسَيَعْلَمُونَ } .
قال الشيخ : - مُسْتبعداً للوجه الأول- " وهو في غاية البُعْدِ لطولِ الفَصْلِ بين قولِه : " قالوا أيُّ الفريقينِ " وبين الغايةِ ، وفيه الفصلُ بجملتيْ اعتراَس ولا يُجيزه أبو علي " . وهذا الاستبعادُ قريبٌ . وقال أبو البقاء : " حتى " يُحْكَى ما بعدها ههنا ، وليست متعلقةً بفعلٍ " .
قوله : { إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة } قد عَرَفْتَ [ ما ] في " إمَّا " : من كونِها حرفَ عطفٍ أولا ، ولا خلاف أن أحدَ معانيها التفصيل كما في الآية الكريمة . و " العذابَ " و " الساعةَ " بدلانِ مِنْ قوله : { مَا يُوعَدُونَ } المنصوبةِ ب " رَأَوْا " و " فَسَيَعْلمون " جوابُ الشرط .
و { مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً } يجوز أَنْ تكونَ " مَنْ " موصولةً بمعنى الذي ، وتكونَ مفعولاً ل " يَعْلَمون " . ويجوزُ أَنْ تكونَ استفهاميةً في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، و " هو " مبتدأُ ثانٍ ، و " شَرٌّ " خبرُه ، والمبتدأُ والخبرُ خبرُ الأول . ويجوز أَنْ تكونَ الجملةُ مُعَلَّقةً لفعل الرؤيةِ فالجملةُ في محلِّ نصبٍ على التعليق .
(1/3211)

وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
قوله : { وَيَزِيدُ الله } : في هذه الجملةِ وجهان ، أحدهما : أنها لا مَحَلَّ لها لاستئنافِها ، فإنها سِيْقَتْ للإِخبار بذلك . وقال الزمخشري : " إنها معطوفةٌ على موضعِ " فَلْيَمْدُدْ " لأنه واقعٌ موقعَ الخبر ، تقديرُه : " مَنْ كان في الضلالة مَدَّ - أو يَمُدُّ - له الرحمنُ ويَزيدُ " . قال الشيخ : ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ " ويَزيدُ " معطوفاً على " فَلْيَمْدُدْ " سواءً كان دعاءً أم خبراً بصورةِ الأمر؛ لأنه في موضع الخبرِ إنْ كانت " مَنْ " موصولةً ، أو في موضعِ الجوابِ إن كانت " مَنْ " شرطيةً ، وعلى كلا التقديرين فالجملةُ مِنْ قولِه : " ويزيدُ اللهُ الذين اهتدَوا هدىً عاريةٌ من ضميرٍ يعود على " مَنْ " يَرْبِطُ جملةَ الخبرِ بالمبتدأ ، أو جملةَ الشرطِ بالجزاء الذي هو " فَلْيَمْدُدْ " وما عُطِفَ عليه؛ لأنَّ المعطوفَ على الخبر خبرٌ ، والمعطوفَ على جملةِ الجزاءِ جزاءٌ . وإذا كانت اداةُ الشرطِ اسماً لا ظرفاً تَعَيَّنَ أَنْ يكونَ في جملة الجزاءِ ضميرُه أو ما يقوم مَقامه ، وكذا في الجملةِ المعطوفةِ عليها " .
قلت : وقد ذكر أبو البقاء أيضاً كما ذكر الزمخشري . وقد يُجاب عمَّا قالاه : بأنَّا نختار على هذا التقدير أَنْ تكونَ " مَنْ " شرطيةً . قوله : " لا بُدَّ من ضميرٍ يعود على اسمِ الشرطِ غيرِ الظرف " ممنوعٌ لأنَّ فيه خلافاً قدَّمْتُ تحقيقَه وما يُسْتَدَلُّ به عليه في سورة البقرة . فقد يكون الزمخشريُّ وأبو البقاء من القائلين بأنه لا يُشْتَرَطُ .
(1/3212)

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77)
قوله : { أَفَرَأَيْتَ } : عطفٌ بالفاء إيذاناً بإفادةِ التعقيبِ كأنه قيل : أَخْبَرَ أيضاً بقصة هذا الكافر عَقِيْبَ قصةِ أولئك . و " أَرَأَيْتَ " بمعنى أَخْبَرَني كما قد عَرَفْتَه . والموصولُ هو المفعول الأول ، والثاني هو الجملةُ الاستفهاميةُ مِنْ قولِه { أَطَّلَعَ الغيب } و " لأُوْتَيَنَّ " جوابُ قسمٍ مضمرٍ ، والجملةُ القسميةُ كلُّها في محلِّ نصبٍ بالقول .
وقوله هنا : " وَوَلداً " وفيها { قَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً } [ مريم : 88 ، 91 ] . موضعان . وفي الزخرف { إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ } [ الآية : 81 ] وفي نوح { مَالُهُ وَوَلَدُهُ } [ الآية : 21 ] . قرأ الأربعةَ الأخَوان بضم الواو وسكونِ اللام . وافقهما ابن كثير وأبو عمرو . . . على الذي في نوحٍ دون السورتين ، والباقون وهم نافعٌ وابن عامر وعاصمٌ قرؤوا ذلك كلَّه بفتح الواو واللام .
فأمَّا القراءةُ بفتحتين فواضحةٌ وهو اسمٌ مفردٌ قائمٌ مقامَ الجمع . وأمَّا قراءةُ الضمِّ والإِسكانِ ، فقيل : هي كالتي قبلها في المعنى ، يقال : وَلَدَ ووُلْد ، كما يقال : عَرَب وعُرْب ، وعَدَمَ وعُدْم . وقيل : بل هي جمع لوَلَد نحو : أَسَد وأُسْد ، وأَنْشَدوا على ذلك :
3253- ولقد رَأَيْتُ معاشراً ... قد ثَمَّروا مالاً وَوُلْدا
وأنشدوا شاهداً على أنَّ الوَلَدَ والوُلْد مترادِفان الآخر :
3254- فَلَيْتَ فلاناً كان في بَطْنِ أمِّه ... وليت فلاناً كان وُلْدَ حمارِ
وقرأ عبد الله ويحيى بن يعمر " ووِلْدا " بكسر الواو ، وهي لغةٌ في الوَلَد ، ولا يَبْعُدُ أَنْ يكون هذا من باب الذَّبْح والرَّعْي ، فيكون وِلْدٌ بمعنى مَوْلود ، وكذلك في الذي بفتحتين نحو : القَبَض بمعنى المَقْبوض .
(1/3213)

أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)
قوله : { أَطَّلَعَ } : هذه همزةُ استفهامٍ سَقَطَ من أجلها همزةُ الوصل . وقد قُرِئ بسقوطِها دَرْجاً وكَسْرِها ابتداءً على أنَّ همزةَ الاستفهام قد حُذِفَتْ لدلالةِ " أم " عليها كقوله :
3255- لَعَمْرُكَ ما أَدْري وإن كنتُ دارِيا ... بسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أم بثمانِ
واطَّلع مِنْ قولِهم : اطَّلَعَ فلانٌ الجبلَ ، أي : ارتقى أَعْلاه . قال جرير :
3256- . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... لا قَيْتُ مُطَّلَعَ الجِبالِ وُعُوْرا
ف " الغيبَ " ، مفعول به ، لا على إسقاط حرف الجر ، أي : على الغيبِ ، كما زعمه بعضُهم .
(1/3214)

كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)
قوله : { كَلاَّ } : للنحويين في هذه اللفظةِ ستةُ مذاهبَ . أحدها : - وهو مذهبُ جمهور البصريين كالخليل وسيبويه وأبي الحسن الأخفش وأبي العباس - أنها حرفُ رَدْعٍ وزَجْر ، وهذا معنىً لائقٌ بها حيث وَقَعَتْ في القرآن ، وما أحسنَ ما جاءَتْ في هذه الآيةِ حيث زَجَرَتْ وَرَدَعَتْ ذلك القائلَ/ . والثاني : - وهو مذهبُ النَّضْر بن شميل أنها حرفُ تصديقٍ بمعنى نعم ، فتكون جواباً ، ولا بُدَّ حينئذٍ مِنْ أَنْ يتقدَّمَها شيءٌ لفظاً أو تقديراً . وقد تُسْتعمل في القسم . والثالث : - وهو مذهب الكسائي وأبي بكر بن الأنباري ونصير بن يوسف وابن واصل - أنها بمعنى حقاً . والرابع - وهو مذهبُ أبي عبد الله محمد بن الباهلي- أنها رَدٌّ لما قبلها وهذا قريبٌ من معنى الرَّدْع . الخامس : أنها صلةٌ في الكلام بمعنى " إي " كذا قيل . وفيه نظرٌ فإنَّ " إي " حرفُ جوابٍ ولكنه مختصٌّ بالقسم . السادس : أنها حرفُ استفتاحٍ وهو قولُ أبي حاتم . ولتقريرِ هذه المواضعِ موضوعٌ هو أليقُ بها قد حققتُها بحمدِ الله تعالى فيه .
وقد قُرِئ هنا بالفتح والتنوين في " كَلاَّ " هذه ، وتُرْوى عن أبي نُهَيْك . وسيأتي لك ان الزمخشريَّ يحكي هذه القراءةَ ويَعْزِيْها لابن نُهَيْك في قوله : { كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ } [ مريم : 82 ] ويحكي أيضاً قراءةً بضم الكاف والتنوين ، ويَعْزِيْها لابن نهيك أيضاً . فأمَّا قولُه : " ابن نهيك " فليس لهم ابنُ نهيك ، إنما لهم ابو نُهَيْك بالكُنْية .
وفي قراءةِ الفتحِ والتنوينِ أربعةُ اوجهٍ ، أحدُها : أنه منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مقدرٍ مِنْ لفظها تقديرُه : كَلُّوا كَلاًّ ، أي : أَعْيَوْا عن الحق إعْياءً ، أو كَلُّوا عن عبادةِ الله لتهاونِهم بها ، من قولِ العرب : " كَلَّ السيفُ " إذا نَبا عن الضَّرْب ، وكَلَّ زيد ، أي : تَعِبَ . وقيل : المعنى : كَلُّوا في دَعْواهم وانقطعوا . والثاني : أنَّه مفعولٌ به بفعلٍ مقدرٍ من معنى الكلام تقديره : حَمَلُوا كَلاَّ ، والكَلُّ أيضاً : الثَّقْل . تقول : فلان كَلٌّ على الناس ، ومنه قوله تعالى : { وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ } [ النحل : 76 ] والثالث : أنَّ التنوينَ بدلٌ مِنْ ألف " كَلاَّ " وهي التي يُراد بها الرَّدْعُ والزَّجْر ، فيكونُ صَرْفاً أيضاً .
قال الزمخشري : " ولقائلٍ أَنْ يقول : إنْ صَحَّتْ هذه الروايةُ فهي " كَلاَّ " التي للردع ، قَلَبَ الواقفُ عليها ألفَها نوناً كما في قوله : { قَوَارِيرَاْ } [ الإِنسان : 15 ] . قال الشيخ : " وهذا ليس بجيد لأنه قال : " التي للرَّدْع " والتي للرَّدْعِ حرفٌ ولا وجهَ لقَلْبِ ألفِها نوناً ، وتشبيهُه ب " قواريراً " ليس بجيدٍ لأن " قواريراً " اسمٌ رُجِعَ به إلى أصلِه ، فالتنوينُ ليس بدلاً مِنْ ألف بل هو تنوينُ الصَّرْف ، وهذا الجمعُ مختلفٌ فيه : أيتحتَّم مَنْعُ صَرْفِه أم يجوز؟ قولان ومنقول أيضاً أنَّ لغةَ بعضِ العرب يصرفون ما لا يَنْصَرِفُ فهذا القولُ : إمَّا على قولِ مَنْ لا يَرَى بالتحتُّم ، أو على تلك اللغة " .
والرابع : أنه نعتٌ ل " آلهة " قاله ابن عطية . وفيه نظرٌ ، إذ ليس المعنى على ذلك . وقد يظهر له وجهٌ : أن يكونَ قد وَصَفَ الآلهة بالكَلِّ الذي هو المصدرُ بمعنى الإِعياءُ والعَجْز ، كأنه قيل : آلهةً كالَّيْنَ ، أي : عاجِزين منقطعين ، ولمَّا وَصَفهم بالمصدر وَحَّده .
(1/3215)

كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)
وروى ابن عطية والدانيُّ وغيرُه عن أبي نهيك أنه قرأ " كُلاَّ " بضم الكافِ والتنوين . وفيها تأويلان ، أحدهما : أن ينتصِبَ على الحالِ ، أي : سيكفرون جميعاً . كذا قَدَّره أبو البقاء واستبعدَه . والثاني : أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ ، أي : يَرْفُضون أو يَجْحَدون أو يُتْرَكُون كُلاًّ ، قاله ابن عطية .
وحكى ابن جرير أنَّ أبا نهيك قرأ " كُلٌّ " بضم الكاف ورفع اللام منونةً على أنَّه مبتدأ ، والجملةُ الفعليةُ بعد خبرُه . وظاهرُ عبارةِ هؤلاء أنه لم يُقرأ بذلك إلا في " كُلاَّ " الثانية .
وقرأ عليٌّ بن أبي طالب " ونُمِدُّ " مِنْ أمَدَّ . وقد تقدَّم القولُ في مَدَّه وأمدَّه :
قوله : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } [ مريم : 80 ] يجوز في " ما " وجهان؛ أحدهما : أَنْ تكونَ مفعولاً بها . والضميرُ في " نَرِثُه " منصوبٌ على إسقاط الخافضِ تقديرُه : ونَرِثُ منه ما يقولُه . الثاني : أن تكونَ بدلاً من الضمير في " نَرِثُه " بدلَ الاشتمال . وقدَّر بعضُهم مضافاً قبل الموصولِ ، أي : نَرِثُه معنى ما يقول ، أو مُسَمَّى ما يقول ، وهو المال والولد؛ لأنَّ نفس القول لا يُورَّث .
و " فَرْداً : حال : إمَّا مقدَّرةٌ نحو : { فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] أو مقارنةِ ، وذلك مبنيٌّ على اختلافٍ في معنى الآية مذكور في الكشاف .
والضمير في { سَيَكْفُرُونَ } يجوز أن يعودَ على الآلهةِ لأنه أقربُ مذكورٍ ، ولأنَّ الضميرَ في " يكونون " أيضاً عائدٌ عليهم فقط . ومثلُه : { وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ } [ النحل : 86 ] ثم قال : { فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ } . وقيل : يعود على المشركين " . ومثلُه قولُه : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] . إلا أنَّ فيه عَدَمَ توافقِ الضمائرِ إذ الضميرُ في " يكونون " عائدٌ على الآلهة ، و " بعبادتهم " مصدرٌ مضافٌ إلى فاعِلِه إنْ عاد الضميرُ في " عبادتهم " على المشركين العابدين ، وإلى المفعولِ إنْ عاد إلى الآلهة .
وقوله : " ضِدَّاً " إنما وَحَّده ، وإن كان خبراً عن جَمْع ، لأحدِ وجهين : إمَّا لأنَّه مصدرٌ في الأصلِ ، والمصادرُ مُوَحَّدةٌ مُذَكَّرَةٌ ، وإمَّا لأنه مفردٌ في معنى الجمع . قال الزمخشري : " والضِّدُّ : العَوْنُ ، وُحِّدَ توحيدَ " وهم يَدٌ على مَنْ سواهم " لاتفاق كلمتِهم ، وأنَّهم كشيءٍ واحدٍ لفَرْطِ تَضَامَّهم وتوافُقِهم والضِّدُّ : العَوْن والمُعاوَنَة . ويقال : مِنْ أضدادكم ، أي : أَعْوانكم " . قيل : وسُمِّي العَوْنُ ضِدَّاً لأنه يُضادُّ مَنْ يُعاديك ويُنافيه بإعانتِك له عليه . وفي التفسير : أنَّ الضدَّ هنا الأعداءُ . وقيل : القِرْن . وقيل : البلاءُ وهذه تناسِبُ معنى الآية .
(1/3216)

أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)
قوله : { أَزّاً } : مصدر مؤكِّدٌ والأَزُّ والأَزيز والهَزُّ والاستفزاز . قال الزمخشري : " أَخَواتٌ ، وهو التَّهِييجُ وشِدَّةُ الإِزعاج " . والأزُّ أيضاً : شِدَّة الصوتِ ، ومنه " أَزَّ المِرْجَلُ أَزَّاً " وأَزِيْزاً : أي : غلا واشتد غَلَيانُه حتى سُمع له صوتٌ . وفي الحديث : " فكان له أَزِيز " ، أي : للجِذْع حين فارقه النبيُّ [ صلى الله ] عليه وسلم .
(1/3217)

يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)
قوله : { يَوْمَ نَحْشُرُ } : منصوبٌ ب " سَيَكْفرون " أو ب " يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } أو ب " نَعُدُّ " تَضَمَّن معنى المجازاة ، أو بقوله : " لا يَمْلكون " الذي بعده ، أو بمضمرٍ وهو " اذْكُرْ " أو احْذَرْ . وقيل : هو معمولٌ لجوابِ سؤالٍ مقدرٍ ، كأنه قيل : متى يكون ذلك؟ فقيل : يكون يوم يُحْشَرُ . وقيل : / تقديرُه : يوم نَحْشُر ونَسُوق نَفْعَلُ بالفريقين ما لا يٌحيط به الوصفُ .
قوله : " وَفْداً " نصبٌ على الحال ، وكذلك " وِرْداً " . والوَفْدُ : الجماعة الوافِدُون . يُقال : وَفَدَ يَفِدُ وَفْداً وَوُفُوداً ووِفادَةً ، أي : قَدِمَ على سبيل التَّكرِمة ، فهو في الأصل مصدرٌ ثم أُطْلِق على الأشخاصِ كالصَّفِّ . وقال أبو البقاء : " وَفْدُ جُمعُ وافِد مثلَ راكِب ورَكْب وصاحِب وصَحْب " وهذا الذي قاله ليس مَذهبَ سيبويه لأنَّ فاعِلاً لا يُجْمَعُ على فَعْل عند سيبويه . وأجازه الأخفش . فأمَّا رَكْبٌ وصَحْبٌ فأسماءُ جمعٍ لا جَمْعٌ بدليلِ تصغيرها على ألفاظها ، قال :
3257- أَخْشَى رُجَيْلاً ورُكَيْباً غادِيا ... فإن قلت : لعلَّ أبا البقاء أراد الجمعَ اللغويَّ . فالجواب : أنَّه قال بعد قوله : " والوِرْدُ اسمٌ لجمعِ وارِد " فَدَلَّ على أنه قصد الجمعَ صناعةً المقابلَ لاسمِ الجمع .
(1/3218)

وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)
والوِرْدُ : اسمٌ للجماعةِ العِطاشِ الوارِدينَ للماءِ ، وهو في الأصلِ أيضاً مصدرٌ أطْلِقَ على الأشخاص يقال : وَرَدَ الماءَ يَرِدُه وِرْداً ووُرُوْداً . قال الشاعر :
3258- رِدِي رِدي وِرْدَ قَطاةٍ صَمَّا ... كُدْرِيَّةٍ أَعٍجَبَها بَرْدُ المَا
وقال أبو البقاء : " هو اسمٌ لجمعِ وارِد . وقيل : هو بمعنى وارِد . وقيل هو محذوفٌ مِنْ " وارِد " وهو بعيدٌ " يعني أنه يجوز أَنْ يكونَ صفةً على فِعْل .
وقرأ الحسن والجحدريُّ " يُحْشَر المتقون ، ويُساق المجرمون " على ما لم يُسَمَّ فاعلُه .
(1/3219)

لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
قوله : { لاَّ يَمْلِكُونَ } : في هذه الجملةِ وجهان ، أحدهما : أنها مستأنفةٌ سِيْقت للإِخبارِ بذلك . والثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال ممَّا تقدَّم . وفي هذه الواوِ قولان ، أحدهما : أنها علامةٌ للجمع ليسَتْ ضميراً البتَة ، وإنما هي علامةٌ كهي في لغةِ " أكلوني البراغيث " والفاعلُ " مِنْ اتَّخَذَ " لأنه في معنى الجمع . قاله الزمخشري . وفيه بُعْدٌ ، وكأنه قيل : لا يملك الشفاعةَ إلا المتخذون عَهْداً . قال الشيخ : " ولا ينبغي حَمْلُ القرآنِ على هذه اللغةِ القليلةِ مع وضوحِ جَعْلِ الواوِ ضميراً . وقد قال الأستاذ أبو الحسن ابنُ عصفور : إنها لغة ضعيفة " .
قلت : قد قالوا ذلك في قوله تعالى : { عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ } [ المائدة : 71 ] { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } [ الأنبياء : 3 ] فلهذا الموضعِ بهما أُسْوَةٌ .
ثم قال الشيخ : " وأيضاً فالألفُ والواوُ والنونُ التي تكون علاماتٍ لا ضمائرَ لا يُحْفَظُ ما يجيءُ بعدها فاعلاً إلا بصريح الجمع وصريحِ التثنية أو العطفِ ، أمَّا أنْ يأتيَ بلفظٍ مفردٍ ، ويُطلَقَ على جمع أو مثنى ، فيُحتاج في إثباتِ مثلِ ذلك إلى نَقْلِ . وأمَّا عُوْدُ الضمائرِ مثناةً أو مجموعةً على مفردٍ في اللفظِ يُراد به المثنى والمجموعُ فمسموعٌ معروفٌ في لسانِ العرب ، على أنه يمكنُ قياسُ هذه العلاماتِ على تلك الضمائرِ ، ولكن الأَحْوَطَ أن لا يُقال إلا بسماعٍ " .
والثاني : أن الواوَ ضميرٌ . وفيما تعود عليه حينئذٍ أربعةُ أوجهٍ ، أحدُها : انها تعودُ على الخَلْق جميعِهم لدلالة ذِكْر الفريقين - المُتَّقين والمجرمين - عليهم ، إذ هما قِسْماه . والثاني : أنه يعودُ على المتقين والمجرمين ، وهذا لا تظهر مخالفتُه للأولِ أصلاً لأنَّ هذين القسمين هما الخَلْقُ كله . والثالث : أنه يعودُ على المُتَّقين فقط أو المجرمين فقط ، وهو تَحَكُّمٌ . قوله : { إِلاَّ مَنِ اتخذ } هذا الاستثناءُ يترتيب على عَوْدِ الواو على ماذا؟ فإنْ قيل بأنَّها تعودُ على الخَلْقِ أو على الفريقَيْن المذكورَيْن أو على المتَّقين فقط فالاستثناءُ حينئذٍ متصلٍ .
وفي محلِّ المستثنى الوجهان المشهوران : إمَّا على الرفعُ على البدلِ ، وإمَّا النصبُ على أصلِ الاستثناء . وإنْ قيل : إنه يعودُ على المجرمينَ فقط كان استثناءً منقطعاً ، وفيه حينئذٍ اللغتان المشهورتان : لغةُ الحجازِ التزامُ النصبِ ، ولغةُ تميمٍ جوازُه مع جوازِ البدلِ كالمتصل .
وجَعَلَ الزمخشريُّ هذا الاستثناء من " الشفاعة " على حَذْفِ مضافٍ تقديرُه : لا يملكونَ الشفاعةَ إلا شفاعةَ مَنِ اتَّخذ ، فيكون نصبُه على وَجْهَي البدلِ وأصلِ الاستثناء ، نحو : " ما رأيت أحداً إلا زيداً " . وقال بعضُهم : إن المستثنى منه محذوفٌ والتقديرُ : لا يملكون الشفاعةَ لأحدٍ لِمَن اتَّخَذَ عند الرحمن عَهْداً ، فَحُذِفَ المستثنى منه للعلم به فهو كقول الآخر :
3259- نجا سالمٌ والنفسُ منه بِشِدْقِهِ ... ولم يَنْجُ إلا جَفْنَ سَيْفٍ ومِئْزَرا
أي : ولم يَنْجُ شيءٌ .
وجَعَلَ ابنُ عطية الاستثناءَ متصلاً وإن عاد الضميرُ في { لاَّ يَمْلِكُونَ } على المجرمين فقط على أَنْ يُراد بالمجرمين الكفرةُ والعُصاةُ من المسلمين . قال الشيخ : " وحَمْلُ المجرمين على الكفارِ والعُصاة بعيدٌ " . قلت : ولا بُعْدَ فيه ، وكما اسْتَبْعَدَ إطلاقَ المجرمين على العصاة كذلك يَسْتَبعد غيرُه إطلاقَ المُتَّقين على العُصاة ، بل إطلاقُ المجرمِ على العاصي أشهرُ مِنْ إطلاقِ المتَّقي عليه .
(1/3220)

لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)
قوله : { شَيْئاً إِدَّاً } : العامَّةُ على كسر الهمزة مِنْ " إدَّاً " وهو الأمرُ العظيمُ المنكَرُ المتعجَّبُ منه . وقرأ أمير المؤمنين والسلمي بفتحها . وخَرَّجوه على حَذْفِ مضاف ، أي : شيئاً أدَّاً ، لأنَّ الأدَّ بالفتحِ مصدرٌ يُقال : أدَّه الأمرُ ، وأدَّني يَؤُدُّني أدَّاً ، أي : أَثْقَلني . وكان الشيخ ذكر أنَّ الأَدَّ والإِدَّ بفتح الهمزةِ وكسرِها هو العَجَبُ . وقيل : هو العظيم المُنْكَر ، والإِدَّة : الشِّدَّة/ . وعلى قوله : " وإن الإِدَّ والأدَّ بمعنى واحد " ينبغي أَنْ لا يُحتاج إلى حَذْفِ مضاف ، إلا أَنْ يريدَ أنه أراد بكونِهما بمعنى العَجَب في المعنى لا في المصدرية وعَدَمِها .
(1/3221)

تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90)
قوله : { تَكَادُ } : قرأ نافع والكسائي بالياءِ من تحتُ ، والباقون بالتاء مِنْ فوقُ ، وهما واضحتان إذ التأنيثُ مجازِيٌّ ، وكذلك في سورة الشورى .
وقرأ أبو عمروٍ وابنُ عامرٍ وأبو بكرٍ عن عاصمٍ وحمزةَ " يَنفَطِرْنَ " مضارع انْفَطَرَ . والباقون " يتفطَّرْن " مضارعَ تَفَطَّرَ بالتشديدِ في هذه السورة . وأمَّا التي في الشورى فقرأها حمزة وابنُ عامرٍ بالتاء والياء وتشديد الطاء والباقون على أصولِهم في هذه السورة . فتلَخَّصَ من ذلك أن أبا عمروٍ وأبا بكر يقرآن بالتاء والنون في السورتين ، وأن نافعاً وابن كثير والكسائيَّ وحفصاً عن عاصم يقرؤون بالتاء والياء وتشديد الطاء فيهما ، وانَّ حمزة وابن عامر في هذه السورةِ بالتاء والنون ، وفي الشورى بالتاء والياء وتشديد الطاء .
فالانفِطارُ مِنْ " فَطَرَه " إذا شَقَّه ، والتفطُّر مِنْ " فطَّره " إذا شَقَّقَه ، وكَرَّر فيه الفعلَ . قال أبو البقاء : " وهو هنا أَشْبَهُ بالمعنى " . أي : التشديد . و " يَتَفَطَّرْنَ " في محلِّ نصب خبراً ل " تكادُ " وزعم الأخفش أنها هنا بمعنى الإِرادة وأنشد :
3260- كادَتْ وكِدْتُ وتلك خيرُ إرادةٍ ... لو عادَ مِنْ زمنِ الصَّبابةِ ما مَضَى
قوله : " هَدَّاً " فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنه مصدرٌ في موضعِ الحال ، أي : مَهْدُودَةً وذلك على أن يكونَ هذا المصدرُ مِنْ هدَّ زيدٌ الحائطَ يَهُدُّه هَدَّاً ، أي : هَدَمه . والثاني : وهو قولُ أبي جعفر أنه مصدرٌ على غيرِ الصَّدْرِ لمَّا كان في معناه لأنَّ الخُرورَ السُّقوطُ والهَدْمُ ، وهذا على أن يكون مِنْ هَدَّ الحائطُ يَهِدُّ ، أي : انهدمَ ، فيكون لازماً . والثالث : أن يكونَ مفعولاً مِنْ أجله . قال الزمخشريُّ : " أي : لأنَّها تُهَدُّ " .
(1/3222)

أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91)
قوله : { أَن دَعَوْا } : في محلِّه خمسةُ اوجه ، أحدها : أنه في محلِّ نصبٍ على المفعولِ مِنْ أجله . قاله أبو البقاء والحوفي ، ولم يُبَيِّنا : ما العاملُ فيه؟ ويجوز أَنْ يكونَ العاملُ " تكاد " أو " تَحِزُّ " أو " هَدَّاً " أي : تَهِدُّ لأَنْ دَعَوْا ، ولكنَّ شَرْطَ النصبِ فيها مفقودٌ وهو اتِّحادُ الفاعلِ في المفعولِ له والعاملِ فيه ، فإن عَنَيَا أنه على إسقاطِ اللامِ - وسقوطُ اللامِ يَطَّرِدُ مع أنْ - فقريبٌ . وقال الزمخشري : " وأَنْ يكونَ منصوباً بتقديرِ سقوطِ اللام وأفضاءِ الفعلِ ، أي : هدَّاً لأَنْ دَعَوْا ، عَلَّلَ الخرورَ بالهدِّ ، والهدِّ بدعاءِ الوَلَدِ للرحمن " . فهذا تصريحٌ منه بأنَّه على إسقاطِ الخافضِ ، وليس مفعولاً له صريحاً .
الوجه الثاني : أَنْ يكونَ مجروراً بعد إسقاطِ الخافض ، كما هو مذهبُ الخليلِ والكسائي .
والثالث : أنه بدلٌ من الضمير في " مِنْه " كقولِه :
3261- على حالةٍ لو أنَّ في القومِ حاتماً ... على جودِهِ لضَنَّ بالماءِ حاتِمِ
بجر " حاتم " الأخير بدلاً من الهاء في " جودِه " . قال الشيخ : " وهو بعيدٌ لكثرةِ الفصلِ بين البدلِ والمبدلِ منه بجملتين " .
الوجه الرابع : أَنْ يكونَ مرفوعاً ب " هَدَّاً " . قال الزمخشري أي : هَدَّها دعاءُ الولدِ للرحمن " . قال الشيخ : " وفيه بُعْدٌ لأنَّ الظاهرَ في " هَدَّاً " أن يكونَ مصدراً توكيدياً ، والمصدرُ التوكيديُّ لا يعملُ ، ولو فَرَضْناه غيرَ توكيديّ لم يَعْمَلْ بقياسٍ إلا إنْ كان أمراً أو مستفهماً عنه نحو : " ضَرْباً زيداً " و " أضَرْباً زيداً " على خلافٍ فيه . وأمَّا إنْ كان خبراً ، كما قدَّره الزمخشري " أي : هَدَّها دعاءُ الوَلَدِ للرحمن " فلا يَنْقاس ، بل ما جاءَ من ذلك هو نادرٌ كقولِ امرِئ القيس :
3262- وُقوفاً بها صَحْبِيْ عليَّ مطيَّهم ... يقولون : لا تَهْلَِكَ أَسَىً وتجمَّلِ
أي : وقف صحبي .
الخامس : أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه : المٌوْجِبُ لذلك دعاؤهم ، كذا قَدَّره أبو البقاء .
و " دَعا " يجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى سَمَّى فيتعدَّى لاثنين ، ويجوز جَرُّ ثانيهما بالباءِ . قال الشاعر :
3263- دَعَتْنِي أخاها أمُّ عمروٍ ولم أكنْ ... أخاها ولم أَرْضَعْ بلَبانِ
دَعَتْني أخاها بعد ما كان بينَنا ... من الفعلِ ما لا يَفْعَلُ الأَخَوانِ
وقول الآخر :
3264- ألا رُبَّ من يُدْعَى نَصيحاً وإنْ يَغِبْ ... تَجِدْه بغَيْبٍ منكَ غيرَ نَصِيْحِ
وأوَّلُهما في الآية محذوفٌ . قال الزمخشري : " طلباً للعموم والإِحاطة بكلِّ ما يُدْعَى له ولداً . ويجوز أن يكونَ مِنْ " دعا " بمعنى نَسَبَ الذي مُطاوِعُه ما في قولِه عليه السلام " مَنِ ادَّعَى إلى غير مَوالِيه " وقول الشاعر :
3265- إنَّا بني نَهْشَلٍ لا نَدَّعِيْ لأَبٍ ... عنه ولا هو بالأَبْناءِ يَشْرِيْنا
أي : لا نَنْتَسِبُ إليه .
(1/3223)

وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)
و { يَنبَغِي } : مضارع انْبَغَى . وانْبَغَى مطاوعٌ لبَغَى ، أي : طَلَبَ ، و { أَن يَتَّخِذَ } فاعلُه . وقد عَدَّ ابن مالك " يَنْبَغي " في الأفعالِ التي لا تَتَصَرَّف . وهو مردودٌ عليه ، فإنه قد سُمِعَ فيه في الماضي قالوا : انْبَغَى .
(1/3224)

إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)
قوله : { مَن فِي السماوات } : يجوز في " مَنْ " أن تكونَ نكرةً موصوفة ، وصفتُها الجارُّ بعدها . ولم يذكر أبو البقاء غيرَ ذلك ، وكذلك الزمخشري . إلا أنَّ ظاهرَ عبارتِه يقتضي أنه لا يجوز / غيرُ ذلك ، فإنه قال : " مَنْ موصوفةٌ؛ فإنها وقعَتْ بعد كل نكرةٍ وقوعَها بعد " رُبَّ " في قولِه :
3266- رُبَّ مَنْ أنضجْتُ غيظاً صدرَه ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
انتهى . ويجوز أن تكونَ موصولةً . قال الشيخ : " أي : ما كلُّ الذي في السماوات ، و " كُلٌّ " تدخلُ على " الذي " لأنها تأتي للجنسِ كقولِه تعالى : { والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ } [ الزمر : 33 ] ونحوه :
3267- وكلُّ الذي حَمَّلْتني أَتَحَمَّلُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يعني أنَّه لا بدَّ مِنْ تأويلِ الموصول بالعموم حتى تَصِحَّ إضافةُ " كل " إليه ، ومتى أُريد به معهودٌ بعينِه شَخَص واستحال إضافةُ " كل " إليه .
و { آتِي الرحمن } خبرُ " كلُّ " جُعِل مفرداً حَمْلاً على لفظِها ولو جُمع لجاز وقد تقدَّم أولَ هذا الموضوعِ أنها متى أُضيفت لمعرفةٍ جاز الوجهان . وقد تكلَّم السهيليُّ في ذلك فقال : " كُلٌّ " إذا ابْتُدِئَتْ ، وكانتْ مضافةً لفظاً - يعني لمعرفةٍ - فلا يَحْسُنُ إلا إفرادُ الخبرِ حَمْلاً على المعنى . تقول : كلُّكم ذاهبٌ ، أي : كلُّ واحدٍ منكم ذاهبٌ ، هكذا هذه المسألةُ في القرآنِ والحديثِ والكلامِ الفصيح . فإنْ قلت : في قولِه : { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ } [ مريم : 95 ] إنما هو حَمْلٌ على اللفظ لأنه اسمٌ مفردٌ . قلنا : بل هو اسم للجمع ، واسمُ الجمع لا يُخْبَرُ عنه بإفراد . تقول : " القومُ ذاهبون " ولا تقولُ : ذاهبٌ ، وإن كان لفظُ " القوم " لفظَ المفردِ . وإنما حَسُن " كلُّكم ذاهب " لأنهم يقولون : كلُّ واحدٍ منكم ذاهبٌ ، فكان الإِفرادُ مراعاةً لهذا المعنى " .
قال الشيخ : " ويَحتاج " كلُّكم ذاهبون " ونحوُه إلى سَماعٍ ونَقْلٍ عن العرب " . يُقَرِّر ما قاله السهيليُّ . قلت : وتسميةُ الإِفرادِ حَمْلاً على المعنى غيرُ الاصطلاحِ ، بل ذلك حَمْلٌ على اللفظ ، الجمعُ هو الحَمْلُ على المعنى .
وقال أبو البقاء : " وَوُحِّدَ " آتِيْ " حَمْلاً على لفظ " كل " وقد جُمِعَ في موضعٍ آخرَ حَمْلاً على معناها " . قلت : قوله في موضعٍ آخرَ إنْ عَنَى في القرآن فلم يأتِ الجمعُ إلا " وكلٌّ " مقطوعةٌ عن الإِضافة نحو : { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [ النمل : 87 ] وإنْ عَنَى في غيرِه فيَحْتاج إلى سماعٍ عن العرب كما تقدَّم .
والجمهورُ على إضافة " آتِي " إلى " الرحمن " . وقرأ عبد الله بن الزبير وأبو حيوة وطلحة وجماعة بتنوينه ونصبِ " الرحمن " .
وانتصبَ " عَبْداً " و " فَرْداً " على الحال .
(1/3225)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)
قوله : { وُدّاً } : العامَّةُ على ضمِّ الواوِ . وقرأ أبو الحارث الحنفي بفتحها ، وجناح بن حبيش بكسرِها ، فَيُحتمل أَنْ يكونَ المفتوحُ مصدراً ، والمضمومُ والمكسورُ اسمين .
(1/3226)

فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)
قوله : { بِلِسَانِكَ } : يجوز أن يكونَ متعلِّقاًَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ . واللِّسان هنا : اللغةُ ، أي : نَزَّلناه كائِناً بلسانِكَ . وقيل : هي بمعنى على ، وهذا لا حاجةَ إليه بل لا يظهرُ له معنى .
و " لُدَّاً " جمع أَلَدّ " وهو الشديدُ الخصومةِ كالحُمْر جمعَ أَحْمر .
(1/3227)

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
وقرأ الناسُ " تُحِسُّ " بضمِّ التاء وكسرِ الحاء مِنْ أَحَسَّ . وقرأ أبو حيوةَ وأبو جعفرٍ وابن أبي عبلة " تَحُسُّ " بفتح التاء وضم الحاء . وقرأ بعضُهم " تَحِسُّ " بالفتح والكسر ، من حَسَّه ، أي : شَعَرَ به ، ومنه " الحواسُّ الخَمس " .
و " منهم " حالٌ مِنْ " أحد " إذ هو في الأصلِ صفةٌ له ، و " مِنْ أحدٍ " مفعولٌ زِيْدَتْ فيه " مِنْ " .
وقرأ حنظلةُ " تُسْمَعُ " مضمومَ التاء ، مفتوحَ الميمِ مبنياً للمفعولِ ، و " رِكْزاً " مفعولٌ على كلتا القراءتين إلا أنه مفعولٌ ثانٍ في القراءة الشاذة . والرِّكْزُ الصوت الخفي دونَ نطقٍ بحروفٍ ولا فمٍ ، ومنه " رَكَزَ الرمحَ " ، أي : غَيَّبَ طَرَفَه في الأرضِ وأَخفاه ، ومنه الرِّكازُ ، وهو المال المدفونُ لخفائِه واستتارِه . وأنشدوا :
3268- فَتَوَجَّسَتْ رِكْزَ الأنيسِ فَرَاعَها ... عن ظهر غَيْبٍ ، والأَنِيْسُ سَقامُها
(1/3228)

طه (1)
قد تقدَّم الكلامُ في الحروفِ المُقَطَّعةِ أولَ هذا الموضوعِ ، و " طه " مِنْ ذاك ، هذا هو الصحيح . وقيل : إنَّ معنى " طه " يا رجلُ في لغةِ عَك ، وقيل : عُكْل ، وقيل : هي لغة يمانية . وحكى الكلبي أنك لو قلتَ في عَكّ : يا رجلُ ، لم يُجِبْ حتى تقولَ : طه .
وقال الطبري : " طه في عَكّ بمعنى : يا رجلُ " ، وأنشدَ قولَ شاعرهم :
3269 دَعَوْتُ بِطهَ في القتالِ فلم يُجِبْ ... فَخِفْتُ عليهِ أَنْ يكونَ مُوائِلا
وقول آخر :
3270 إنَّ السَّفاهةَ طه في خلائِقِكمْ ... لا قَدَّسَ اللهُ أرواحَ المَلاعينِ
قال الزمخشري : " وأثرُ الصَّنْعَةِ ظاهرٌ في البيت المستشهدِ به " فذكره ، وقال السدي : " معناه : يا فلانُ " . وقال الزمخشري أيضاً : " ولعل عَكَّاً تَصَرَّفوا في " يا هذا " ، كأنهم في لغتهم قالبون الياءَ طاءً ، فقالوا : في يا : طا ، واختصروا " هذا " فاقتصورا على " ها " . يعني فكأنه قيل في الآية الكريمة : يا هذا . وفيه بُعدٌ كبيرٌ .
قال الشيخ : " ثم تَخَرَّص وحَزَرَ على عَك ما لم يَقُلْه نحويٌّ : وهو أنهم يقلبون يا التي للنداء طاءً ، ويحذفون اسم الإِشارة ويقتصرون منه على " ها " التي للتنبيه " . قلت : وهذا وإن كان قريباً مما قاله عنه إلاَّ أنه أنحى عليه في عبارته بقوله " تَخَرَّص " .
وقيل : " طه " أصلُه طَأْها بهمزة " طَأْ " أمراً مِنْ وَطِىء يَطَأُ ، و " ها " ضميرُ مفعولٍ يعودُ على الأرض ، ثم أبدل الهمزَة لسكونها ألفاً ، ولم يَحْذِفْها في الأمرِ نظراً إلى أصلها أي : طَأ الأرضَ بقدمَيْكَ . وقد جاء في التفسير : " أنه قام حتى تَوَرَّمَتْ قدماه " .
وقرأ الحسنُ وعكرمةُ وأبو حنيفةَ وورشٌ في اختياره/ بإسقاطِ الألفِ بعد الطاء ، وهاءٍ ساكنة . وفيها وجهان ، أحدهما : أنَّ الأصلَ " طَأْ " بالهمز أمراً أيضاً مِنْ وَطِىء يَطَأُ ، ثم أبدلَ الهمزةَ هاءً كإبدالهم لها في " هَرَقْتُ " و " هَرَحْتُ " و " هَبَرْتُ " . والأصلُ : أَرَقْتُ وأَرَحْتُ وأَبَرْت . والثاني : أنه أبدل الهمزةَ ألفاً ، كأنه أَخَذه مِنْ وَطِي يَطا بالبدل كقوله :
3271 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . لا هَنَاكِ المَرْتَعُ
ثم حَذَفَ الألفَ حَمْلاً للأمرِ على المجزومِ وتناسِياً لأصل الهمز ثم ألحق هاءَ السكتِ ، وأجرى الوصلَ مُجْرى الوقفِ . وقد تقدَّم في أولِ يونس الكلامُ على إمالةِ طا وها فأغنى عن أعادتِه هنا .
(1/3229)

مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2)
قوله : { أَنَزَلْنَا } : هذه قراءةُ العامَّةِ . وقرأ طلحةُ " ما نُزِّلَ " مبنياً للمفعول ، " القرآنُ " رُفِعَ لقيامه مَقامَ فاعلِه .
وهذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً إِنْ جُعِلت " طه " تعديداً لأسماءِ الحروفِ ، ويجوز أن تكونَ خبراً ل طه إنْ جَعَلْتَها اسماً للسورة ويكون القرآنُ ظاهراً واقعاً موقعَ المضمرِ؛ لأنَّ طه قرآنٌ أيضاً ، ويجوز أن تكونَ جوابَ قسمٍ ، إنْ جَعَلْتَ طه مُقْسَماً به ، وقد تقدَّم تفصيلُ القول في هذا .
(1/3230)

إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)
قوله : { إِلاَّ تَذْكِرَةً } : في نصبه أوجهٌ ، أحدها : أن تكونَ مفعولاً من أجله . والعاملُ فيه فِعْلُ الإِنزال ، وكذلك " تَشْقَى " علةٌ له أيضاً ، ووجبَ مجيءُ الأولِ مع اللام لأنه ليس لفاعلِ الفعلِ المُعَلَّل ، ففاتَتْه شريطةُ الانتصابِ على المفعولية ، والثاني جاز قطع اللام عنه ونصبه لاستجماعه الشرائط . هذا كلام الزمخشري ، ثم قال : " فإن قلتَ : " هل يجوزُ أن تقولَ : ما أَنْزَلْنا ، أن تَشقى كقوله { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ } [ الحجرات : 2 ] ؟ قلت : بلى ولكنها نصبةٌ طارئة كالنصبةِ في { واختار موسى قَوْمَهُ } [ الأعراف : 155 ] وأما النصبةُ في " تَذْكِرةً " فهي كالتي في " ضَرَبْت زيداً " لأنه أحدُ المفاعيلِ الخمسةِ التي هي أصولٌ وقوانينُ لغيرِها " .
قلت : قد منع أبو البقاء أن تكونَ " تَذْكرةً " مفعولاً له لأَنْزَلْنا المذكورةِ ، لأنها قد تعدَّتْ إلى مفعولٍ له وهو " لتشقى " فلا تتعدى إلى آخرَ مِنْ جنسِه . وهذا المنعُ ليس بشيءٍ؛ لأنه يجوزُ أَنْ يُعَلَّلَ الفعلُ بعلتين فأكثرَ ، وإنما هذا بناءً منه على أنه لا يُفضِي العاملُ من هذه الفَضَلاتِ إلاَّ شيئاً واحداً ، إلاَّ بالبدلية أو العطف .
الثاني : أن تكونَ " تذكرة " بدلاً مِنْ محلِّ " لتَشْقَى " وهو رأيُ الزجاج ، وتبعه ابنُ عطية ، واستبعده أبو جعفر ، ورَدَّه الفارسيُّ بأنَّ التذكرةَ ليسَتْ بشقاءٍ . وهو ردٌّ واضحٌ . وقد أوضح الزمخشريُّ هذا فقال : " فإنْ قلتَ : هل يجوزُ أن تكونَ " تذكرةً " بدلاً مِنْ محلِّ " لِتشْقى "؟ قلت : لا؛ لاختلافِ الجنسينِ ولكنها نُصِبَتْ على الاستثناءِ المنقطع الذي " إلاَّ " فيه بمعنى " لكن " .
قال الشيخُ : " يعني باختلافِ الجنسَيْنِ أن نَصْبَةَ " تذكرةً " نصبةٌ صحيحةٌ ليست بعارضةٍ ، والنصبةُ التي تكون في " لِتشقى " بعد نَزْعِ الخافضِ نصبةُ عارضةٌ . والذي نقول : إنه ليس له محلٌّ البتَةَ فيتوهمُ البدلُ منه " . قلت : ليس مُرادُ الزمخشري باختلافِ الجنسين إلاَّ ما ذكرتُه عن الفارسيِّ ردَّاً على الزجاج ، وأيُّ أثرٍ لاختلاف النصبين في ذلك؟
الثالث : أن يكونَ منصوباً على الاستثناء المنقطع أي : لكنْ أَنْزَلْناه تذكرةً . الرابع : أنه مصدرٌ مؤكدٌ لفعلٍ مقدرٍ ، أي : لكنْ ذَكَّرْنا ، أو تذكَّرْ به أنت تَذْكِرة . الخامس : أنه مصدرٌ في موضع الحال أي : إلاَّ مُذَكِّراً . السادس : أنه بدلٌ من " القرآن " ، ويكون القرآنُ هو التذكرةَ ، قاله الحوفي . السابع : أنه مفعولٌ له أيضاً ، ولكن العاملَ فيه " لِتَشْقَى " ويكون المعنى كما قال الزمخشريُّ : " إنا أَنْزَلْنا عليك القرآنَ لتحتمل متاعبَ التبليغِ ومقاولةَ العُتاةِ من أعداءِ الإِسلام ومقاتلتَهم ، وغيرَ ذلك من أنواعِ المشاقِّ وتكاليفِ النبوة ، وما أنزلنا عليك هذا المَتْعَبَ الشاقَّ إلاَّ ليكونَ تذكرةً .
(1/3231)

وعلى هذا الوجهِ يجوزُ أن يكونَ " تذكرةً " حالاً ومفعولاً له " انتهى .
فإنْ قلتَ : مِنْ أين أَخَذْتَ أنه لمَّا جعله حالاً ومفعولاً له أنَّ العاملَ فيه " لِتَشْقَى "؟ وما المانعُ أن يريدَ بالعاملِ فيه فعلَ الإِنزال؟ فالجوابُ أنَّ هذا الوجهَ قد تقدَّم له في قولِه : " وكلُّ واحدٍ مِنْ " لتشقى " و " تذكرةً " علةٌ للفعل " . وأيضاً فإنَّ تفسيرَه للمعنى المذكور منصبٌّ على تسلُّطِ " لِتَشْقَى " على " تذكرةً " . إلاَّ أنَّ أبا البقاء لمَّا لم يظهرْ له هذا المعنى الذي ظهر للزمخشري مَنَعَ مِنْ عملِ " لِتَشْقَى " في " تذكرةً " فقال : " ولا يَصِحُّ أن يعملَ فيها " لِتَشْقى " لفساد المعنى " وجوابُه ما تقدَّم . ولا غَرْوَ في تسميةِ التعبِ شقاءً . قال الزمخشري : " والشقاءُ يجيء في معنى التعب . ومنه المثل : " أتعبُ مِنْ رائضِ مُهْر " و " أشقى مِنْ رائض مُهْر " .
و { لِّمَن يخشى } متصلٌ ب " تذكرةً " . وزيدت اللام في المفعولِ تقويةً للعاملِ لكونِه فَرْعاً ، ويجوز أن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل " تذكرةً " .
(1/3232)

تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4)
قوله : { تَنزِيلاً } : في نصبِه أوجهٌ ، أحدها : أن يكونَ بدلاً مِنْ " تذكرةً " إذا جُعِل حالاً لا إذا كان مفعولاً [ له ] لأنَّ الشيءَ لا يعَلَّلُ بنفسِه . قلت : لأنه يصيرُ التقديرُ : ما أنزَلْنا القرآنَ إلاَّ للتنزيل . الثاني : أن ينتصبَ ب نزَّل مضمراً . الثالث : أن ينتصبَ ب " أَنْزَلْنا " لأنَّ معنى ما أنزلناه إلاَّ تذكرةً : أنزَلْناه تذكرةً . الرابع : أن ينتصبَ على المدحِ والاختصاصِ .
الخامس : أن ينتصبَ ب " يخشى " مفعولاً به أي : أنزله للتذكرةِ لمَنْ يخشى تنزيلَ الله ، وهو معنى حسنٌ وإعرابٌ بيِّن .
قال الشيخُ : ولم يُنْصِفْه " والأحسنُ ما قدَّمناه أولاً من أنه منصوبٌ ب " نَزَّل " مضمرةً . وما ذكره الزمخشري مِنْ نصبه على غيره فمتكلَّفٌ : أمَّا الأولُ ففيه جَعْلُ تذكرةً وتنزيلاً حالين ، وهما مصدران . وجَعْلُ المصدرِ/ حالاً لا ينقاسُ .
وأيضاً فمدلولُ " تذكرةً " ليس مدلولَ " تنزيلَ " ، ولا " تنزيلاً " بعضُ تذكرة . فإن كان بدلاً فيكونُ بدلَ اشتمالٍ على مذهبِ مَنْ يرى أن الثاني مشتملٌ على الأولِ؛ لأنَّ التنزيلَ مشتملٌ على التذكرة وغيرِها . وأمَّا قولُه : " لأنَّ معنى ما أنزلناه إلاَّ تذكرة : أَنْزَلْناه تذكرةً " فليس كذلك لأنَّ معنى الحصرِ يَفُوت في قولِه أنزلناه تذكرةً . وأمَّا نصبُه على المدحِ فبعيدٌ . وأمَّا نصبُه ب " يخشى " ففي غاية البُعْدِ لأنَّ " يخشى " رأسُ آيةٍ وفاصلٌ ، فلا يناسبُ أن يكونَ " تنزيلاً " منصوباً ب " يخشى " ، وقوله فيه " وهو حسنٌ وإعرابٌ بيِّنٌ " عُجمةٌ وبُعْدٌ عن إدراك الفصاحة " .
قلت : ويَكْفيه ردُّه الشيءَ الواضحَ مِنْ غير دليل ، ونسبةُ هذا الرجلِ إلى عدمِ الفصاحةِ ووجودِ العُجْمة .
قوله : { مِّمَّنْ خَلَق } يجوز في " مِنْ " أن تتعلق ب " تنزيلاً " ، وأن تتعلقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل " تنزيلاً " . وفي " خَلَق " التفاتٌ مِنْ تَكَلُّمٍ في قوله " أَنْزَلْنا " إلى الغَيْبة . وجوَّز الزمخشري أن يكونَ " ما أنزَلْنا " حكايةً لكلامِ جبريل وبعضِ الملائكة فلا التفاتَ على هذا .
وقوله : { العلى } جمع عُلْيا نحو : دنيا ودُنا . ونظيرُه في الصحيح كُبْرى وكُبَر ، وفُضْلى وفُضَل .
(1/3233)

الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)
قوله : { الرحمن } : العامَّةُ على رفعهِ ، وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه بدلٌ من الضميرِ المستكنِّ في " خَلَق " . ذكره ابنُ عطية . وردَّه الشيخُ بأن البدلَ يَحُلُّ مَحَلَّ المبدلِ منه ، ولو حَلَّ هنا مَحَلَّه لم يَجُزْ لخلوِّ الجملةِ الموصولِ بها مِنْ رابطٍ يربطُها به . الثاني : أن يرتفعَ على خبرِ مبتدأ مضمرٍ ، تقديرُه : هو الرحمن . الثالث : أن يرتفعَ على الابتداءِ مشاراً بلامِه إلى مَنْ خَلَقَ ، والجملةُ بعده خبرُه .
وقرأ جناح بن حبيش " الرحمنِ " مجروراً . وفيه وجهان ، أحدهما : أنه بدلٌ من الموصولِ . لا يقال إنه يؤدي إلى البدلِ بالمشتق وهو قليلٌ؛ لأنَّ الرحمنَ جرى مَجْرى الجوامدِ لكثرة إيلائِه العواملَ . والثاني : أن يكونَ صفةً للموصول أيضاً .
قال الشيخ : " ومذهبُ الكوفيين أنَّ الأسماءَ النواقصَ ك " مَنْ " و " ما " لا يُوصَف منها إلاَّ " الذي " وحدَه ، فعلى مذهبِهم لا يجوز أن يكونَ صفةً " . قال ذلك كالرادِّ على الزمخشري .
والجملةُ مِنْ قولِه { عَلَى العرش استوى } خبرٌ لقولِه " الرحمنُ " على القول بأنه مبتدأٌ ، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ إنْ قيل : إنه مرفوعٌ على خبر مبتدأ مضمر ، وكذلك في قراءةِ مَنْ جَرَّه .
وفاعلُ " استوى " ضميرٌ يعودُ على الرحمنِ ، وقيل : بل فاعلُه " ما " الموصولةُ " بعده أي : استوى الذي له في السماوات ، قال أبو البقاء : " ويقال بعضُ الغلاةِ : " ما " فاعلُ " استوى " . وهذا بعيدٌ ، ثم هو غيرُ نافعٍ له في التأويل ، إذ يبقى قولُه { الرحمن عَلَى العرش } كلاماً تاماً ومنه هرب " . قلت : هذا يُروى عن ابنِ عباس ، وأنه كان يقف على لفظ " العرش " ، ثم يبتدِىءُ " استوى له ما في السماوات " وهذا لا يَصِحُّ عنه .
(1/3234)

لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6)
قوله : { الثرى } : هو الترابُ النديُّ ، ولامُه ياءٌ بدليل تثنية على ثَرَيَيْن ، وقولهم ثَرِيَتْ الأرَضُ تَثْرَى ثَرَىً . والثرى يستعمل في انقطاعِ المودة . قال جرير :
3272 فلا تَنْبُشُوا بيني وبينَكُمُ الثرى ... فإنَّ الذي بيني وبينَكُمُ مُثْرِي
والثَّراءُ بالمدِّ : كثرةُ المالِ قال :
3273 أَماوِيَّ ما يُغْني الثراءُ عن الفتى ... إذا حَشَرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصدرُ
وما أحسنَ قولَ ابنِ دريد :
3274 يوماً تصيرُ إلى الثَّرى ... ويفوزُ غيرُك بالثَّراءِ
فجمع في هذه القصيدةِ بين الممدودِ والمقصورِ باختلاف معنىً .
(1/3235)

وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7)
قوله : { وأخفى } : جَوَّزوا فيه وجهين ، أحدهما : أنه أفعلُ تفضيل ، أي : وأخْفَى من السِّر . والثاني : أنه فعلٌ ماضٍ أي : وأَخْفى اللهُ عن عبادهِ غيبَه كقولِه : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ طه : 110 ] .
(1/3236)

اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
والجلالةُ : إمَّا مبتدأٌ ، والجملةُ المنفيةُ خبرُها ، وإمَّا خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ أي : هو الله . و " الحُسْنى " تأنيثُ الأحسن . وقد تقدَّم غيرَ مرة أنَّ جمعَ التكسيرِ في غير العقلاء يُعامَلُ معاملةَ المؤنثة الواحدة .
(1/3237)

إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
قوله : { إِذْ رأى } : يجوز أَنْ يكونَ منصوباً بالحديث وهو الظاهرُ . ويجوز أن ينتصِبَ ب " اذكر " مقدَّراً ، كما قاله أبو البقاء ، أو بمحذوفٍ بعدَه أي : إذ رأى ناراً كان كيتَ وكيتَ ، كما قاله الزمخشريُّ .
و " هل " على بابها مِنْ كونِها استفهامَ تقريرٍ ، وقيل : بمعنى قد ، وقيل : بمعنى النفي . وقرأ " لأهلِهُ امكثُوا " بضم الهاء حمزة وقد تقدم أنه الأصلُ وهو لغةُ الحجاز ، وقال أبو البقاء : " إن الضمَّ للإِتباع " .
قوله : { آنَسْتُ } أي : أبصرْتُ . والإِيناسُ : الإِبصارُ البيِّنُ ، ومنه إنسانُ العينِ؛ لأنه يُبْصَر به الأشياءُ ، وقيل : هو الوِجْدان ، وقيل : الإِحساسُ فهو أعمُّ من الإِبصار ، وأنشدوا للحارث بن حِلِّزة :
3275 آنسَتْ نَبْأَةً وأَفْزَعَها القُنْ ... ناصُ عَصْراً وقد دنا الإِمْساءُ
والقَبَسُ : الجَذْوَةُ من النار ، وهي الشُّعْلةُ في رأسِ عُوْدٍ أو قَصَبةٍ ونحوِهما . وهو فَعَلٌ بمعنى مَفْعول كالقَبَض والنَّقَضِ بمعنى المَقْبوض والمَنْقوض . ويقال : أَقْبَسْتُ الرجلَ علماً وقَبَسْتُه ناراً ، ففرقوا بينهما ، هذا قولُ المبردِ . وقال الكسائيُّ : إن فَعَلَ وأَفْعَلَ يُقالان في المعنيين ، فيقال : قَبَسْتُه ناراً وعلماً ، وأَقْبَسْته أيضاً عِلْماً وناراً .
وقوله { مِّنْهَا } يجوز أَنْ يتعلق/ ب " آتِيكم " أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ قَبَس . وأمال بعضُهم ألفَ " هدى " وقفاً . والجيدُ أَنْ لا تُمالَ لأنَّ الأشهر أنها بدلٌ من التنوين .
(1/3238)

فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11)
قوله : { نُودِيَ } : القائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرُ موسى وقيل : ضميرُ المصدرِ أي : نُودي النداء . وهو ضعيفٌ ، ومنعوا أن يكونَ القائمُ مَقامه الجملةَ مِنْ " يا موسى "؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونَ فاعلاً .
(1/3239)

إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)
قوله : { إني } : قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالفتح ، على تقديرِ الباءِ بأني؛ لأنَّ النداءَ يُوْصَلُ بها تقول : نادَيْتُه بكذا . قال الشاعر : أنشده الفارسيُّ
3276 نادَيْتُ باسمِ ربيعةَ بنِ مُكَدَّمٍ ... إنَّ المُنَوَّهَ باسمِه المَوْثُوْقُ
وجَوَّز ابنُ عطية أن يكون بمعنى لأجْلِ . وليس بظاهر . والباقون بالكسرِ : إمَّا على إضمارِ القولِ كما هو رأيُ البصريين ، وإمَّا لأنَّ النداءَ في معنى القولِ عند الكوفيين .
وقوله : { أَنَاْ } يجوزُ أن يكونَ مبتدأ ، وما بعده خبرُه ، والجملةُ خبرُ " إنَّ " . ويجوزُ أن يكونَ توكيداً للضميرِ المنصوب ، ويجوزُ أَنْ يكونَ فَصْلاً .
قوله : " طوى " قرأ الكوفيون وابنُ عامر " طُوىً " بضمِّ الطاءِ والتنوين . والباقون بضمِّها من غيرِ تنوين . وقرأ الحسنُ والأعمش وأبو حيوةَ وابن محيصن بكسرٍ الطاءِ منوَّناً . وابو زيدٍ عن أبي عمروٍ بكسرِها غيرَ منونٍ .
فمَنْ ضَمَّ ونَوَّنَ فإنه صَرَفَه لأنَّه أَوَّله بالمكان . ومَنء مَنَعه فيحتمل أوجهاً ، أحدها : أنه مَنَعه للتأنيث باعتبار البُقْعَةِ والعَلَمِيَّة . الثاني : أنه مَنَعه للعَدْل إلى فُعَل ، وإن لم يُعْرَفِ اللفظُ المعدولُ عنه ، وجعله كعُمَر وزُفَر . والثالث : أنه اسمٌ أعجمي فَمَنْعُه للعَلَمِيَّة والعُجْمة .
ومَنْ كَسَر ولم يُنَوِّن فباعتبارِ البُقْعة أيضاً . فإن كان اسماً فهو نظيرُ عِنَب ، وإن كان صفةً فهو نظير عِدَى وسِوَى . ومَنْ نَوَّنَه فباعتبار المكان . وعن الحسنِ البَصْريِّ أنه بمعنى الثنى بالكسرِ والقَصْر ، والثنى : المكررُ مرتين ، فيكون معنى هذه القراءة أنه ظهر مرتين ، فيكون مصدراً منصوباً بلفظ " المقدَّس " لأنه بمعناه كأنه قيل : المقدَّس مرتين ، من التقديس .
وقرأ عيسى بن عمر والضحَّاك " طاوِيْ اذهَبْ " .
و " طوى " : إمَّا بدلٌ من الوادي ، أو عطفُ بيانٍ له ، أو مرفوعٌ على إضمارِ مبتدأ ، أو منصوبٌ على إضمار أعني .
(1/3240)

وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)
قوله : { وَأَنَا اخترتك } : قرأ حمزةُ في آخرين " وأنَّا اخترناك " بفتحِ الهمزة بضمير المتكلمِ المعظمِ نفسَه . وقرأ السلميُّ والأعمش وابن هرمز كذلك ، إلاَّ أنهم كسروا الهمزةَ . والباقون " وأنا اخْتَرْتُك " بضميرِ المتكلم وحدَه . وقرأ أُبَيٌّ " وأني اخترتك " بفتح الهمزة .
فأمَّا قراءةُ حمزة فعطفٌ على قوله { إني أَنَاْ رَبُّكَ } ، وذلك أنه بفتح الهمزة هناك ، ففعل ذلك لَمَّا عطف غيرَها عليها . ومَنْ كسرها فلأنه يقرأ " إنِّي أنا ربك " بالكسر . وقراءة أُبَيّ كقراءةِ حمزة بالنسبة للعطف . وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ الفتحُ على تقديرِ : ولأنَّا اخترناك فاستمع ، فعلَّقه باستمع . والأولُ أَوْلَى . ومفعولُ " اخترتك " الثاني محذوف أي : اخترتك مِنْ قومك .
قوله { لِمَا يوحى } الظاهرُ تعلُّقه ب " استمِعْ " . ويجوزُ أن تكونَ اللامُ مزيدةً في المفعول على حَدِّ قولِه تعالى : { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] . وجَوَّز الزمخشريُّ وغيرُه أن تكونَ المسألة من باب التنازع بين " اخْتَرْتُك " وبين " استمع " كأنه قيل : اخترتُك لِما يوحى فاستمع لِما يوحى . قال الزمخشري : " فَعَلَّق اللامَ ب " استمعْ " أو ب " اخترتُك " .
وقد رَدَّ الشيخُ هذا بأنْ قال : " ولا يجوزُ التعليقُ ب " اخترتك " لأنَّه مِنْ بابِ الإِعمال ، يجب أو يُختار إعادةُ الضميرِ مع الثاني فكان يكونُ : فاستمعْ له لِما يوحى ، فَدَلَّ على أنه من باب إعمال الثاني " . قلت : الزمخشريُّ عنى التعليقَ المعنويَّ من حيث الصلاحيةُ ، وأما تقديرُ الصناعةِ فلم يَعْنِه .
و " ما " يجوزُ أَنْ تكونَ مصدريةً ، وبمعنى الذي أي : فاستمعْ للوحيِ أو للذي يوحى .
(1/3241)

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)
قوله : { لذكري } : يجوزُ أَنْ يكونَ المصدرُ مضافاً لفاعلِه ِأي : لأنِّي ذكرتُها في الكتب ، أو لأنِّي أذكرُك . ويجوز أن يكونَ مضافاً لمفعولِه أي : لأِنْ تذكرَني . وقيل : معناه ذِكْرُ الصلاةِ بعد نِسْيانِها كقولِه عليه السلام : " مَنْ نام عن صلاةٍ أو نَسِيها فَلْيُصَلِّها إذا ذكرها " قال الزمخشري : " وكان حقٌّ العبارة : " لذكرها " . ثم قال : " ومَنْ يَتَمَحَّلْ له أن يقول : إذا ذَكَر الصلاة فقد ذكر [ اللهَ ] ، أو على حذفِ مضاف أي : لذكر صلاتي ، أو لأنَّ الذِّكْرَ والنيسانَ من الله تعالى في الحقيقة " .
وقرأ أبو رجاء والسُّلمي " للذكرى " بلام التعريف وألفِ التأنيث . وبعضهم " لذكرى " منكرةً ، وبعضهم " للذكر " بالتعريف والتذكير .
قوله : { أَكَادُ أُخْفِيهَا } العامةُ على ضمِّ الهمزةِ مِنْ " أُخْفيها " . وفيها تأويلاتٌ ، أحدُها : أن الهمزةَ في " أُخْفيها " للسَّلْبِ والإِزالةِ أي : أُزيل خفاءَها نحو : أعجمتُ الكتابَ أي : أزلْتُ عُجْمَتَه . ثم في ذلك معنيان ، أحدهما : أنَّ الخفاءَ بمعنى السَّتْر ، ومتى أزال سَتْرَها فقد أظهرَها . والمعنى : أنها لتحقُّق وقوعِها وقُرْبِها أكادُ أُظْهِرُها لولا ما تَقْتضيه الحكمةُ من التأخير . والثاني : أنَّ الخفاءَ هو الظهورُ كما سيأتي . والمعنى : أزيلُ ظهورَها ، وإذا أزالَ ظهورَها فقد استترَتْ . والمعنى : أني لِشدَّةِ أبهامها أكاد أُخْفيها فلا أُظْهِرُها/ البتةَ ، وإن كان لا بد من إظهارِها؛ ولذلك يوجدُ في بعض المصاحف كمصحف أُبَيّ : أكاد أُخْفيها مِنْ نفسي فكيف أُظْهِرُكُمْ عليها؟ وهو على عادةِ العرب في المبالغة في الإِخفاء قال :
3277 أيامَ تَصْحَبُني هندٌ وأُخْبِرُها ... ما كِدْت أكتُمُه عني من الخبرِ
وكيف يُتَصَوَّرُ كِتْمانُه مِنْ نفسه؟
والتأويلُ الثاني : أنَّ " كاد " زائدةٌ . قاله ابنُ جُبَيْر . وأنشدَ غيرُه شاهداً عليه قولَ زيدِ الخيل :
3278 سريعٌ إلى الهَيْجاء شاكٍ سلاحُه ... فما إنْ يكادُ قِرْنُه يتنفَّسُ
وقال آخر :
3279 وألاَّ ألومَ النفسَ فيما أصابني ... وألا أكادَ بالذي نِلْتُ أَبْجَحُ
ولا حُجَّةَ في شيءٍ منه .
والتأويل الثالث : أنَّ الكَيْدُوْدَةَ بمعنى الإِرادة ونُسِبت للأخفش وجماعةٍ ، ولا ينفعُ فيما قصدوه .
والتأويل الرابع : أنَّ خبرَها محذوفٌ تقديره : أكاد آتي به لقُرْبها . وأنشدوا قول ضابىء البرجمي :
3280 هَمَمْتُ ولم أفْعَلْ وكِدْتُ وليتني ... تَرَكْتُ على عثمانَ تَبْكي حلائِلُهْ
أي : وكِدْتُ أفعلُ ، فالوقفُ على " أكادُ " ، والابتداء ب " أُخْفيها " ، واستحسنه أبو جعفر .
وقرأ أبو الدرداء وابنُ جبير والحسنُ ومجاهدٌ وحميدٌ " أَخْفيها " بفتح الهمزة . والمعنى : أُظْهرها ، بالتأويل المتقدم يقال : خَفَيْتُ الشيءَ : أظهَرْتُه ، وأَخْفَيْتُه : سترته ، هذا هو المشهور . وقد نُقِل عن أبي الخطاب أنَّ خَفَيْتُ وأَخْفَيْتُ بمعنىً . وحُكي عن أبي عبيد أنَّ " أَخْفى " من الأضدادِ يكون بمعنى أظهر وبمعنى سَتَر ، وعلى هذا تَتَّحد القراءتان . ومِنْ مجيءِ خَفَيْتُ بمعنى أظهَرْت قولُ امرىء القيس :
(1/3242)

3281 خَفَاهُنَّ مِنْ أَنْفاقِهِنَّ كأنما ... خفاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عَشِيٍّ مُجَلِّبِ
وقول الآخر :
3282 فإنْ تَدْفِنوا الداءَ لا نَخْفِهِ ... وإنْ تُوْقِدُوْا الحربَ لا نَقْعُدِ
قوله : { لتجزى } هذه لامُ كي ، وليسَتْ بمعنى القسمِ أي : لَتُجْزَيَنَّ كما نقله أبو البقاء عَنْ بعضهم . وتتعلَّق هذه اللامُ ب " اُخْفيها " . وجعلها بعضُهم متعلقةً ب " آتيةٌ " وهذا لا يَتِمُّ إلاَّ إذا قَدَّرْتَ أنَّ " أكاد أُخْفيها " معترضةٌ بين المتعلَّقِ والمتعلَّقِ به ، أمَّا إذا جعلتَها صفةً لآتِيَةٌ فلا يتجه على مذهب البصريين؛ لأن اسمَ الفاعلِ متى وُصِفَ لم يعملْ ، فإنْ عَمِل ثم وُصِف جاز .
وقال أبو البقاء : " وقيل ب " آتِيَةٌ " ، ولذلك وَقَفَ بعضُهم عليه وَقْفَةً يسيرةً إيذاناً بانفصالِها عن أخفيها " .
قوله : { بِمَا تسعى } متعلقٌ ب " تجزى " . و " ما " يجوز أَنْ تكونَ مصدريةً أو موصولةً اسميةً ، ولا بدَّ من مضاف أي : تُجْزى بعقابِ سَعْيها أو بعقابِ ما سَعَتْه .
(1/3243)

فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
قوله : { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا } : { مَن لاَّ يُؤْمِنُ } هو المَنْهيٌّ صورةً ، والمرادُ غيرُه ، فهو من بابِ " لا أُرَيَنَّك هَهنا " . وقيل : إنَّ صَدَّ الكافر عن التصديقِ بها سببٌ للتكذيب ، فذكر السببَ ليدُلَّ على المسبَّب . والضميران في " عنها " و " بها " للساعة . وقيل : للصلاة . وقيل في " عنها " للصلاة ، وفي " بها " للساعة .
قوله : { فتردى } يجوزُ فيه أَنْ ينتصبَ في جوابِ النهيِ بإضمارِ " أنْ " ، وأن يرتفعَ على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ تقديرُه : فأنت تردى . وقرأ يحيى " تردى " بكسر التاء . وقد تقدم أنها لغةٌ . والردى : الهلاك يقال : رَدِيَ يردى رَدى .
قال دُرَيْدُ بن الصِّمَّة :
3283 تنادَوْا فقالوا أَرْدَتِ الخيلُ فارساً ... فقلتُ أَعَبْدُ اللهِ ذلكُمُ الرَّدِي
(1/3244)

وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17)
قوله : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ } : " ما " مبتدأةٌ استفهامية . و " تلك " خبره . و " بيمنيك " متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه حال كقوله : { وهذا بَعْلِي شَيْخاً } [ هود : 72 ] . والعاملُ في الحال المقدرة معنى الإِشارة . وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ تكونَ " تلك " موصولةً بمعنى التي ، و " بيمينك " صلتُها . ولم يذكر ابنُ عطية غيره ، وهذا ليس مذهبَ البصريين ، لأنهم لم يجعلوا من أسماءِ الإِشارة موصولاً إلاَّ " ذا " بشروطٍ ذكرْتُها أولَ هذا الكتابِ . وأمَّا الكوفيون فيُجيزون ذلك في جميعها ، ومنه هذه الآيةُ عندهم أي : " وما التي بيمينك " وأنشدوا أيضاً :
3284 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَجَوْتِ وهذا تحملينَ طَليقُ
أي : والذي تحملين .
(1/3245)

قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18)
قوله : { هِيَ عَصَايَ } : " هي " تعود على المُسْتَفْهَمِ عنه . وقرأ العامَّةُ " عصايَ " بفتح الياء ، والجحدري وابن أبي إسحاق " عَصَيَّ " بالقلب والإِدغام . وقد تقدم في أول البقرة توجيهُ ذلك ، ولمَنْ تُنْسَبُ هذه اللغةُ ، والشعرُ المَرْوِيُّ في ذلك . ورُوي عن أبي عمرو وابن أبي إسحاق أيضاً " عَصَاْيْ " بسكونها وصلاً . وقد فَعَلَ نافعٌ مثلَ ذلك في " مَحْيَاْيْ " فجمع بين ساكنين وصلاً ، وتقدَّم الكلام هناك .
قوله : { أَتَوَكَّأُ } يجوز أن يكونَ خبراً ثانياً ل " هي " ، ويجوز أن يكونَ حالاً : إمَّا مِنْ " عصايَ " ، وإمَّا من الياء . وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ مجيءَ الحالِ من المضاف/ إليه قليلٌ ، وله مع ذلك شروطٌ ليس فيه شيءٌ منها هنا . ويجوز أن تكون جملةً مستأنفةً . وجَوزَّ أبو البقاء نقلاً عن غيره أن تكونَ " عصايَ " منصوبةً بفعل مقدَّر ، و " أتوكَّأُ " هو الخبر ، ولا ينبغي أَنْ يقال ذلك .
والتوَكُّؤ : التحامُلُ على الشيءِ ، وهو بمعنى الاتكاء . وقد تقدَّم تفسيرُه في يوسف فهما من مادةٍ واحدة ، وذكَرْتُه هنا لاختلاف وَزْنَيْهما .
والهَشُّ بالمعجمةِ الخَبْطُ . يقال : هَشَشْتُ الوَرَقَ أَهُشُّه أي : خَبَطْتُه ليسقطَ ، وأمَّا هَشَّ يَهِش بكسر العين في المضارع فبمعنى البَشاشة ، وقد قرأ النخعي بذلك فقيل : هو بمعنى أهُشُّ بالضمِّ ، والمفعولُ محذوفٌ في القراءتين أي : أهشُّ الورقَ أو الشجرَ . وقيل : هو في هذه القراءةِ مِنْ هَشَّ هَشاشةً إذا مال . وقرأ الحسن وعكرمة " وأَهُسُّ " بضم الهاءِ والسينِ المهملة وهو السَّوْقُ ، ومنه الهَسُّ والهَساس ، وعلى هذا فكان ينبغي أن يتعدى بنفسه ، ولكنه ضُمِّنَ معنى ما يتعدَّى ب " على " وهو أَقوم . ونقل ابن خالويه عن النخعي أنه قرأ " وأُهِشُّ " بضم الهمزة وكسر الهاء مِنْ " أَهَشَّ " رباعياً وبالمهملة ، ونقلها عنه الزمخشري بالمعجمة فيكون عنه قراءات .
ونقل صاحب " اللوامح " عن مجاهد وعكرمة " وأَهُشُ " بضم الهاء وتخفيف الشين قال : " ولا أعرف لها وجهاً " إلاَّ أَنْ يكونَ قد استثقل التضعيف مع تفشِّي الشين فخفف ، وهو بمعنى قراءة العامة .
وقرأ بعضهم " غَنْمي " بسكون النون ولا ينقاس . والمآرب : جمع مَأْرَبة وهي الحاجة وكذلك الإِرْبة أيضاً . وفي راء " المأربة " الحركاتُ الثلاثُ . و " أخرى " كقوله : { الأسمآء الحسنى } [ الإسراء : 110 ] وقد تقدم قريباً . قال أبو البقاء : " ولو قيل " أُخَر " لكانَ على اللفظ " يعني : " أُخَر " بضمِّ الهمزة وفتح الخاء ، وباللفظ لفظ الجمع . ونقل الأهوازي عن شيبة والزهري " مارب " قال " بغيرِ همزٍ " كذا أَطْلق . والمرادُ بغير همز محقق بل مُسَهَّلٌ بين بين ، وإلاَّ فالحذفُ بالكليَّةِ شاذٌّ .
(1/3246)

فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20)
قوله : { تسعى } : يجوز أن يكون خبراً ثانياً عند مَنْ يُجَوِّز ذلك . ويجوز أن يكونَ صفةً ل " حيَّة " .
(1/3247)

قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
قوله : { سِيَرتَهَا } : في نصبها أوجه ، أحدها : أن تكونَ منصوبةً على الظرف أي : في سيرتها أي : طريقتها . الثاني : أنها منصوبةٌ على أنها بدلٌ من ها " سنعيدها " بدلُ اشتمال؛ لأن السيرةَ الصفة أي : سنعيدها صفتها وشكلها . الثالث : أنها منصوبة على إسقاط الخافض أي : إلى سيرتها . قال الزمخشري : " ويجوز أن يكون مفعولاً ، مِنْ عاده أي : عاد إليه ، فيتعدى لمفعولَيْنِ ، ومنه بيتُ زهير :
3285 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... وعادَكَ أَنْ تُلاَقِيَها العَداءُ
وهذا هو معنى قولِ مَنْ قال : إنه على إسقاط إلى ، وكان قد جَوَّز أن يكونَ ظرفاً كما تقدَّم . إلاَّ أن الشيخ ردَّه بأنه ظرفٌ مختص ، ولا يَصِلُ إليه الفعلُ إلاَّ بوساطة " في " إلاَّ فيما شَذَّ .
والسِّيرة : فِعْلَة تدل على الهيئة من السَيْر كالرِّكْبَة من الركوب ، ثم اتُّسِع فعُبِّر بها عن المذهب والطريقة . قال خالد الهُذَلي :
3286 فلا تغْضَبَنْ مِنْ سِيرَةٍ أنت سِرْتَها ... فأولُ راضٍ سيرةً مَنْ يَسِيرُها
وجَوَّز أيضاً أن ينتصبَ بفعلٍ مضمرٍ أي : يسير سيرتَها الأولى ، وتكون هذه الجملةُ المقدرةُ في محلِّ نصبٍ على الحال أي : سنعيدها سائرةً سيرتَها .
(1/3248)

وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22)
قوله : { واضمم } : لا بدَّ هنا مِنْ حَذْف ، والتقدير : واضمُمْ يَدك تنضمَّ ، وأَخْرِجْها تَخْرُجْ ، فحذف من الأول والثاني ، وأبقى مقابلَيْهما ليدلا على ذلك إيجازاً واختصاراً ، وإنما احتيج إلى هذا لأنه لا يترتَّبُ على مجردِ الضمِّ الخروجُ .
قوله : { بَيْضَآءَ } حالٌ مِنْ فاعل " تَخْرُجْ " .
قوله : { مِنْ غَيْرِ سواء } يجوز أن يكونَ متعلِّقاً ب " تخرجْ " ، وأن تكونَ متعلقةً ب " بيضاءَ " لِما فيها من معنى الفعل نحو : ابيضَّتْ من غيرِ سوءٍ . ويجوز أن تكونَ متعلقةً بمحذوفٍ على أنها حال من الضمير في " بيضاء " . وقوله : { مِنْ غَيْرِ سواء } يُسَمَّى عند أهل البيان " الاحتراس " وهو : أن يؤتى بشيءٍ يرفعُ تَوَهُّمَ مَنْ يتوهَّمُ غيرَ المراد؛ وذلك أن البياضَ قد يُرادُ به البَرَصُ والبَهَقُ ، فأتى بقوله : { مِنْ غَيْرِ سواء } نفياً لذلك .
قوله : { آيَةً } فيها أوجهٌ ، أحدها : أن تكونَ حالاً أعنى أنها بدلٌ مِنْ " بيضاءَ " الواقعةِ حالاً . الثاني : أنها حالٌ من الضمير في " بيضاءَ " . الثالث : أنها حالٌ من الضمير في الجارِّ والمجرور . الرابع : أنها منصوبةٌ بفعلٍ محذوفٍ . فقدَّره أبو البقاء : جَعَلْناها آيةً ، أو آتَيْناك آيةً . وقَدَّره الزمخشري : خُذْ آيةً ، وقدَّر أيضاً : دنوكَ آية . وردَّ الشيخُ هذا : بأن من باب الإِغراء . ولا يجوز إضمارُ الظروفِ في الإِغراء . قال : لأنَّ العاملَ حُذِفَ ، وناب هذا مَنابَه فلا يجوز أن يُحْذَفَ النائبُ أيضاً . وأيضاً فإنَّ أحكامَها تخالفُ العاملَ الصريحَ ، فلا يجوز إضمارُها ، وإنْ جاز إضمارُ الأفعال .
(1/3249)

لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)
قوله : { لِنُرِيَكَ } : متعلقٌ بما دَلَّتْ عليه " آية " أي : دَلَلْنا بها لِنُرِيَكَ ، أو بجعلناها ، أو بآتيناك المقدَّرِ . وقدَّره الزمخشريُّ " لِنريك فَعَلْنا ذلك " . وَجوَّز الحوفيُّ أن يتعلقَ ب " اضْمُمْ " . وجَوَّزَ غيرُه أَنْ يتعلَّقَ ب " تَخْرُجْ " . ولا يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بلفظ " آية " لأنها قد وُصِفَتْ وقدَّره الزمخشريُّ أيضاً : " لِنُرِيَكَ خُذْ هذه الآية أيضاً " .
قوله : { مِنْ آيَاتِنَا الكبرى } يجوزُ أَنْ يتعلقَ " مِنْ آياتنا " بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِن " الكبرى " ويكون " الكبرى " على هذا مفعولاً ثانياً ل " نُرِيَكَ " . والتقديرُ : لِنُرِيَك الكبرى حالَ كونِها مِنْ آياتنا ، أي : بعض آياتِنا . ويجوز أَنْ يكونَ المفعولُ الثاني نفسَ " مِنْ آياتنا " ، فتتعلقَ بمحذوفٍ أيضاً ، وتكون " الكبرى " على هذا صفةً ل " آياتنا " وصفاً لجمع المؤنثِ غيرِ العاقل وصفَ الواحدةِ على حَدِّ { مَآرِبُ أخرى } [ طه : 18 ] و { الأسمآء الحسنى } [ الإسراء : 110 ] .
وهذان الوجهان قد نقلهما الزمخشري والحوفي وأبو البقاء وابنُ عطية . واختار الشيخُ الثاني قال : " لأنه يلزمُ من ذلك أَنْ تكونَ آياتُه كلُّها هي الكُبَرَ؛ لأنَّ ما كان بعضَ [ الآيات ] الكبر صَدَقَ عليه أنه الكبرى ، وإذا جَعَلْتَ " الكبرى " مفعولاً ثانياً لم تتصِفْ الآياتُ بالكُبَرِ؛ لأنها هي المتصفةُ بأفعل التفضيل . وأيضاً إذا جَعَلْتَ " الكبرى " مفعولاً فلا يمكنُ أَنْ تكونَ صفةً للعصا واليد معاً ، إذ كان يلزم التثنية . ولا جائزٌ أَنْ يَخُصَّ إحداهما بالوصف دونَ الأخرى ، لأنَّ التفضيلَ في كلٍ منهما . ويَبْعُدُ ما قاله الحسنُ : من أنَّ اليدَ أعظمُ في الإِعجاز من العصا؛ فإنه جعل " الكبرى " مفعولاً ثانياً لِنُرِيَك ، وجعل ذلك راجعاً للآية القريبة ، وقد ضَعُفَ قولُه بأنَّ منافعَ العصا أكبرُ . وهو غيرُ خفيّ " . انتهى ملخصاً .
(1/3250)

قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)
قوله : { لِي صَدْرِي } : " لي " متعلق ب " اشرح " . قال الزمخشريُّ : " فإنْ قلت : " لي " في قوله : { اشرح لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لي أَمْرِي } ما جدواه والأمرُ مستتبٌّ بدونه؟ قلت : قد أبهم الكلامَ أولاً فقال : اشرح لي ويَسِّر لي ، فَعُلِمَ أنَّ ثَمًَّ مشروحاً ومُيَسَّراً ، ثم بَيَّن ورفع الإِبهامَ بذكرِهما فكان آكدَ لطلبِ الشرحِ لصدرِه والتيسير لأمره " .
(1/3251)

وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)
ويقال : يَسَّرْتُه لكذا ، ومنه { فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى } [ الليل : 7 ] ويَسَّرْتُ له كذا ، ومنه هذه الآيةُ .
(1/3252)

وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27)
قوله : { مِّن لِّسَانِي } : يجوز أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل " عُقْدَةً " أي : مِنْ عُقَدِ لساني . ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه . ويجوز أن يتعلَّقَ بنفسِ " احلُلْ " والأولُ أحسنُ .
(1/3253)

وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30)
قوله : { واجعل لِّي وَزِيراً } : يجوز أَنْ يكونَ " لي " مفعولاً ثانياً مقدماً ، و " وزيراً " هو المفعولُ الأول . و " مِنْ أهلي " على هذا يجوز أَنْ يكونَ صفةً ل " وزيراً " . ويجوز أن يكونَ متعلِّقاً بالجَعْلِ .
و " هارونَ " بدلٌ مِنْ " وزيراً " . وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ " هارونَ " عطفَ بيانٍ ل " وزيراً " . ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه . ولَمَّا حكى الشيخُ هذا لم يُعْقِبْه بنَكير ، وهو عجيبٌ منه؛ فإنَّ عطفَ البيان يُشترط فيه التوافقُ تعريفاً وتنكيراً ، وقد عَرَفْتَ أنَّ " وزيراً " نكرةٌ و " هارونَ " معرفة ، والزمخشري قد تقدَّم له مثلُ ذلك في قوله تعالى : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } [ آل عمران : 97 ] وقد تقدم الكلام معه هناك وهو عائد هنا .
ويجوز أَنْ يكونَ " هارونَ " منصوباً بفعلٍ محذوف كأنه قال : أخصُّ من بينهِم هارون أي : مِنْ بينِ أهلي . ويجوز أَنْ يكونَ " وزيراً " مفعولاً ثانياً ، و " هارونَ " هو الأول ، وقَدَّم الثاني عليه اعتناءً بأَمْرِ الوِزارة . وعلى هذا فقولُه " لي " يجوز أن يتعلَّق بنفسِ الجَعْل ، وأَنْ يتعلقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ " وزيراً "؛ إذ هو في الأصل صفةُ له . و " مِنْ أهلي " على ما تقدَّم من وَجْهَيْه . ويجوز أن يكون " وزيراً " مفعولاً أولَ ، و " مِنْ أهلي " هو الثاني . وقوله " لي " مثلُ قولِه { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] يَعْنُون أنه به يتمُّ المعنى ، ذكر ذلك أبو البقاء . ولَمَّا حكاه الشيخ لم يتعقبه بنكير ، وهو عجيب؛ لأنَّ شرطَ المفعولَيْن في باب النواسخ صحةٌ انعقادِ الجملة الاسمية ، وأنت لو ابتَدَأْتَ ب " وزير " وأخبرْتَ عنه ب " من أهلي " لم يَجُزْ إذ لا مُسَوِّغ للابتداءِ به .
و " أخي " بدلٌ أو عطفُ بيانٍ ل " هارونَ " . وقال الزمخشري : " وإنْ جُعِل عطفَ بيانٍ آخرَ جاز وحَسُنَ . قال الشيخ : " ويَبْعُدُ فيه عطفُ البيان؛ لأنَّ عطفَ البيان الأكثرُ فيه أن يكونَ الأولُ دونَه في الشُّهرة وهذا بالعكس " . قلت : لم يُرِدْ الزمخشري أنَّ " أخي " عطفُ بيانٍ ل " هارون " حتى يقول الشيخ إن الأولَ وهو " هارون " أشهرُ من الثاني وهو " أخي " ، إنما عَنَى الزمخشريُّ أنه عطفُ بيان أيضاً ل " وزيراً " ولذلك قال : " آخَر " . ولا بُدَّ من الإِتيان بلفظِه ليُعْرَفَ أنه لم يُرِدْ إلاَّ ما ذكرتُه قال : " وزيراً وهارونَ مفعولا قولِه " اجعَلْ " ، أو " لي وزيراً " مفعولاه ، و " هارونَ " عطفُ بيان للوزير ، و " أخي " في الوجهين بدلٌ من " هارون " ، وإن جُعل عطفَ بيانٍ أخرَ جاز وحَسُن " .
(1/3254)

فقوله " آخر " تعيَّنَ أن يكونَ عطفَ بيانٍ لما جعله عنه عطف بيان قبل ذلك .
وجَوَّز الزمخشري في " أخي " أن يرتفعَ بالابتداء ، ويكونَ خبرُه الجملةَ مِنْ قوله : " اشْدُدْ به " ، وذلك على قراءةِ الجمهور له بصيغة الدعاء ، وعلى هذا فالوقفُ على " هارونَ " .
وقرأ ابن عامر " أَشْدُدْ " بفتح الهمزة للمضارعة وجزمِ الفعلِ جواباً للأمر ، " وأُشْرِكْهُ " بضم الهمزة للمضارعة وجزمِ الفعلِ نَسَقاً على ما قبلَه . وقرأ الباقون بحذف همزة الوصل من الأول ، وفتحِ همزة القطع في الثاني ، على أنهما دعاءٌ من موسى لربِّه بذلك . وعلى هذه القراءة تكون هذه الجملةُ قد تُرِكَ فيها العطفُ خاصةً دونَ ما تقدَّمَها مِنْ جمل الدعاء .
وقرأ الحسنُ " أُشَدِّدُ " مضارعَ شَدَّد بالتشديد .
والوَزير : قيل : مشتقٌّ من الوِزْر وهو الثِّقَل . وسُمِّي بذلك لأنه يَحْمل أعباءَ المُلْكِ ومُؤَنَهُ فهو مُعِيْنٌ على أمر/ الملك ويأتَمُّ بأمره . وقيل : بل هو من الوَزَرِ وهو الملجأُ ، كقوله تعالى : { لاَ وَزَرَ } [ القيامة : 11 ] وقال :
3287 من السِّباع الضَّواري دونَه وَزَرٌ ... والناسُ شَرُّهُمُ ما دونَه وَزَرُ
كم مَعْشرٍ سَلِموا لم يُؤْذِهِمْ سَبُعٌ ... وما نرى بَشَراً لم يُؤْذِهِمْ بَشَرُ
وقيل : من المُؤَازَرَة وهي المعاونةُ . نقله الزمخشري عن الأصمعي قال : " وكان القياسُ أَزِيراً " يعني بالهمزةِ؛ لأنَّ المادةَ كذلك . قال الزمخشريُّ : " فَقُلِبَت الهمزةُ إلى الواو ووجهُ قَلْبِها إليها أنَّ فَعيلاً جاء بمعنى مُفاعِل مجيئاً صالحاً كقولهم : عَشِير وجَلِيس وخليط وصديق وخليل ونديم ، فلمَّا قُلِبت في أخيه قُلِبَتْ فيه ، وحَمْلُ الشيءِ على نظيره ليس بعزيزٍ ، ونظراً إلى يُوازِرُ وأخواتِه وإلى المُوَازَرة " .
قلت : يعني أنَّ وزيراً بمعنى مُوازِر ، ومُوازر تقلب فيه الهمزةُ واواً قلباً قياسياً؛ لأنها همزةُ مفتوحةٌ بعد ضمه فهو نظيرُ " مُوَجَّل " و " يُوَاخذكم " وشبهِه ، فحُمِل " أزير " عليه في القلب ، وإن لم يكنْ فيه سببُ القلبِ .
(1/3255)

كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33)
قوله : { كَثِيراً } : نعتٌ لمصدر محذوف أو حالٌ من ضمير المصدر ، كما هو رأيُ سيبويه . وجَوَّز أبو البقاء أن يكون نعتاً لزمانٍ محذوفٍ أي : زماناً كثيراً .
(1/3256)

قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)
قوله : { سُؤْلَكَ } : فعل هنا بمعنى مَفْعول نحو : أُكْل بمعنى مَأْكول ، وخُبْر بمعنى مَخْبور . ولا ينقاس .
(1/3257)

وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37)
و " مرة " مصدرٌ . و " أخرى " تأنيث أخَر بمعنى غير . وزعم بعضُهم أنها بمعنى آخِرَة ، فتكونُ مقابِلةً للأولى ، وتحيَّل لذلك بأن قال : " سَمَّاها أخرى وهي أولى لأنها أخرى في الذِّكْرِ " .
(1/3258)

إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38)
قوله : { إِذْ أَوْحَيْنَآ } : العاملُ في " إذ " " مَنَنَّا " أي : مَنَنَّا عليك في وقتِ إلجائنا إلى أمِّك ، وأُبْهِم في قوله { مَا يوحى } للتعظيم كقوله تعالى : { فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ } [ طه : 78 ] .
(1/3259)

أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)
قوله : { أَنِ اقذفيه } : يجوز أن تكون " أنْ " مفسرةً؛ لأنَّ الوَحْيَ بمعنى القول ، ولم يذكر الزمخشريُّ غيرَه ، وجوَّز غيرُه أن تكونَ مصدريةً . ومحلُّها حينئذٍ النصبُ بدلاً مِنْ " ما يوحى " والضمائرُ في قوله { أَنِ اقذفيه } إلى آخرها عائدةٌ على موسى عليه السلام لأنه المُحَدَّثُ عنه . وجَوَّز بعضُهم أن يعودَ الضمير في قوله { فاقذفيه فِي اليم } للتابوت ، وما بعده وما قبله لموسى عليه السلام . وعابَه الزمخشريّ وجعله تنافراً أو مُخْرِجاً للقرآن عن إعجازه فإنه قال : " والضمائر كلُّها راجعة إلى موسى ، ورجوعُ بعضها إليه وبعضِها إلى التابوت فيه هُجْنَةٌ لِما يُؤَدِّي إليه من تنافُرِ النَّظْم . فإنْ قلت : المقذوفُ في البحر هو التابوتُ وكذلك المُلْقى إلى الساحل . قلت : ما ضرَّك لو جَعَلْتَ المقذوفَ والمُلْقى به إلى الساحل هو موسى في جوفِ التابوت حتى لا تُفَرَّقَ الضمائرُ فيتنافرَ عليك النظمُ الذي هو أمُّ إعجاز القرآن والقانونُ الذي وقع عليه التحدِّي ، ومراعاتُه أهمُّ ما يجب على المفسِّر " .
قال الشيخ : " ولقائلٍ أن يقولَ : إن الضمير إذا كان صالحاً لأَنْ يعودَ على الأقربِ وعلى الأبعدِ كان عودُه على الأقربِ راجحاً وقد نَصَّ النحويون على هذا فَعَوْدُه على التابوتِ في قولِه { فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم } راجحٌ . والجواب : أنَّ أحدَهما إذا كان مُحَدَّثاً عنه والآخرُ فضلةً ، كان عودُه على المحدَّثِ عنه أرجحَ . ولا يُلْتَفَتُ إلى القُرْبِ؛ ولهذا رَدَدْنا على أبي محمد ابن حزم في دَعْواه : أنَّ الضميرَ في قولِه تعالى : { فَإِنَّهُ رِجْسٌ } [ الأنعام : 145 ] عائدٌ على " خنزير " لا على " لحم " لكونه أقربَ مذكورٍ ، فَيَحْرُمُ بذلك شحمُه وغُضْرُوْفُه وعظمُه وجِلْدُه ، فإن المحدَّث عنه هو " لحمَ خنزيرٍ " لا خنزير " . قلت : قد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ في الأنعام وما تكلَّم الناسُ فيها .
قوله : { فَلْيُلْقِهِ اليم } هذا أمرٌ معناه الخبرُ ، ولكنه أمراً لفظاً جُزِم جوابُه في قوله : { يَأْخُذْهُ } . وإنما خَرَجَ بصيغة الأمر مبالغةً؛ إذ الأمرُ أقطعُ الأفعالِ وآكدُها . وقال الزمخشري : " لَمَّا كانَتْ مشيئةُ اللهِ وإرادتُه أَنْ لا تُخْطِىءَ جَرْيَةُ ماءِ اليَمِّ الوصولَ به إلى الساحل ، وألقاه إليه ، سلك في ذلك سبيلَ المجاز ، وجعل اليَمَّ كأنه ذو تمييزٍ ، أمر بذلك ليطيع الأمرَ ويَمْتَثِلَ رسمَه " .
و " بالساحل " يحتمل أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أن الباءَ للحالِ أي : ملتبساً بالساحل ، وأَنْ يتعلَّقَ بنفسِ الفعل على أنَّ الباءَ ظرفيةٌ بمعنى " في " .
قوله : { مِّنِّي } فيه وجهان . قال الزمخشري : " لا يَخْلُو : إمَّا أَنْ يتعلقَ ب " أَلْقَيْتُ " فيكون المعنى : على أني أَحْبَبْتُك ، ومَنْ أحبَّه اللهُ أحبَّتْه القلوبُ ، وإمَّا أن يتعلقَ بمحذوفٍ هو صفةٌ ل " محبةً " أي : محبةً حاصلةً ، أو واقعةً مني ، قد رَكَزْتُها أنا في القلوب وزَرَعْتُها فيها " .
(1/3260)

قوله : { وَلِتُصْنَعَ } قرأ العامَّةُ بكسر اللام وضم التاء وفتحِ النون على البناءِ للمفعول ، ونصبِ الفعلِ بإضمار أَنْ بعد لام . وفيه وجهان ، أحدهما : أن هذه العلةَ معطوفةٌ على علةٍ مقدرة قبلها . والتقديرُ : ليتلطَّفَ بك ولتُصْنَعَ ، أو ليعطفَ عليك وتُرامَ ولتصنعَ . وتلك العلةٌ المقدرةُ متعلقةٌ بقوله : " وألقيتُ " أي : ألقيتُ عليكم المحبة ليَعْطفَ عليك ولتُصْنَعَ . ففي الحقيقة هو متعلقٌ بما قبله من إلقاءِ المحبة .
والثاني : أن هذه اللامَ تتعلقُ بمضمرٍ/ بعدها تقديرُه : ولتُصْنَعَ على عيني فعلتُ ذلك ، أو كان كيت وكيت . ومعنى لتُصْنَعَ أي : لتربى ويُحْسَنَ إليك ، وأنا مراعِيْكَ ومراقُبكَ كما يراعي الإِنسانُ الشيءَ بعينِه إذا اعتنى به . قاله الزمخشري .
وقرأ الحسن وأبو نهيك " ولِتَصْنَعَ " بفتح التاء . قال ثعلب : " معناه لتكون حركتُك وتصرُّفُك على عينٍ مني . وقال قريباً منه الزمخشري . وقال أبو البقاء : " أي لتفعلَ ما آمُرك بمرأى مني " .
وقرأ أبو جعفر وشَيْبَةُ " ولْتُصْنَعْ " بسكون اللام والعين وضم التاء وهو أمرٌ معناه : ليُرَبَّ وليُحْسَن إليك . وروي عن أبي جعفر في هذه القراءةِ كسرُ لامِ الأمر . قلت : ويحتمل مع كسرِ اللام أو سكونِها حالةً تسكينِ العين أن تكونَ لامَ كي ، وإنم سُكِّنَتْ تشبيهاً بكَتْف وكَبْد ، والفعل منصوب . والتسكينُ في العين لأجل الإِدغام لا يُقْرأ في الوصل إلاَّ بالإِدغام فقط .
(1/3261)

إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
قوله : { إِذْ تمشي } : في عاملِ هذا الظرفِ أوجهٌ ، أحدها : أن العامل فيه " ألقيتُ " أي : ألقيتُ عليك محبةً مني في وقتِ مَشْيِ أختِك .
الثاني : أنه منصوبٌ بقولِه " ولتُصْنَعَ " أي : لتربى ويُحْسَنَ إليك في هذا الوقتِ . قال الزمخشري : " والعاملُ في " إذ تشمي " " ألقيتُ " أو " لتُصْنع " . وقال أبو البقاء : " إذ تمشي " يجوز أَنْ يتعلَّقَ بأحد الفعلين " . قلت : يعني بالفعلينِ ما تقدَّم مِنْ ألقيتُ أو لتُصْنَعَ . وعلى هذا فيجوز أن تكونَ المسألةُ من بابِ التنازع؛ لأنَّ كلاً من هذين العاملين يطلب هذا الظرفَ من حيث المعنى ، ويكونُ من إعمال الثاني للحذف من الأول . وهذا إنما يتجه كلَّ الاتجاه إذا جعلْتَ " ولِتُصْنَعَ " معطوفاً على علةٍ محذوفةٍ متعلقةٍ ب " أَلْقَيْتُ " ، أمَّا إذا جعلته متعلقاً بفعلٍ مضمرٍ بعده فيبعدُ ذلك أو يمتنع ، لكونِ الثاني صار من جملةٍ أخرى .
الثالث : أن تكونَ " إذ تمشي " بدلاً من " إذ أَوْحَيْنا " . قال الزمخشري : " فإن قلت : كيف يَصِحُّ البدل والوقتان مختلفان متباعدان؟ قلت : كما يصحُّ وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل : لَقِيْت فلاناً سنةَ كذا فتقول : وأنا لقيته إذ ذاك ، وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها " . قال الشيخ : " وليس كما ذكر لأن السنةَ تقبل الاتساع ، فإذاً وقع لُقِيُّهما فيها ، بخلاف هذين الظَّرفين فإنَّ كل واحدٍ منهما ضيقٌ ليس بمتسعٍ لتخصصهما بما أضيفا إليه ، فلا يمكن أن يقعَ الثاني في الظرف الذي وقع فيه الأول؛ إذ الأول ليس متسعاً لوقوع الوحيِ فيه ووقوعِ مَشْي الأخت ، فليس وقتُ وقوعِ الفعل مشتملاً على أجزاءٍ وقع في بعضها المشي بخلاف السنة " . قلت : وهذا تحمُّلٌ منه عليه فإنَّ زمنَ اللُّقِيِّ أيضاً ضيقٌ لا يَسَعُ فِعْلَيْهما ، وإنما ذلك مبنيٌّ على التساهل؛ إذ المراد أن الزمانَ مشتملٌ على فعليهما .
وقال أبو البقاء : " ويجوز أن يكونَ بدلاً من " إذ " الأولى ، لأنَّ مَشْيَ أختِه كان مِنَّةً عليه " يعني أن قولَه " إذ أَوْحَيْنا " منصوبٌ بقوله : " مَنَنَّا " فإذا جُعِل " إذ تمشي " بدلاً منه كان أيضاً مُمْتَنَّاً به عليه .
الرابع : أن يكونَ العاملُ فيه مضمراً تقديره : اذكر إذ تمشي . وهو على هذا مفعولٌ به لفساد المعنى على الظرفية .
وقرأ العامَّةُ " كي تَقَرَّ " بفتح التاء والقاف . وقرأَتْ فرقة " تَقِرَّ " بكسر القاف ، وقد تقدم أنهما لغتان في سورة مريم . وقرأ جناح بن حبيش " تُقَرُّ " بضمِّ التاءِ وفتحِ القاف على البناء للمفعول .
(1/3262)

" عينُها " رفعاً لِما لَم يُسَمَّ فاعلُه .
قوله : { فُتُوناً } فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مصدرٌ على فُعُوْل كالقُعود والجُلُوس ، إلاَّ أنَّ فُعُولاً قليلٌ في المتعدِّي . ومنه الشُّكُوْر والكُفور والثُّبور واللُّزوم . قال تعالى : { لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [ الفرقان : 62 ] . والثاني : أنه جمعُ فَتْنٍ أو فِتْنَة على تَرْك الاعتداد بتاء التأنيث ك " حُجُور " و " بُدُوْر " في حَجْرة وبَدْرة أي : فَتَنَّاك ضُروباً من الفتن . عن ابن عباس : أنه وُلِد في عامٍ يُقتل فيه الوِلْدَان ، وألقَتْه أمُّه في البحر ، وقتل القبطيَّ وأَجَر نفسَه عشرَ سنين ، وضَلَّ عن الطريق ، وتفرَّقَتْ غنمُه في ليلةٍ مظلمة . ولمَّا سأل سعيدُ بن جبير عن ذلك أجابه بما ذكرْتُه ، وصار يقول عند كل واحدة : فهذه فتنةٌ يا ابن جبير . قال معناه الزمخشري . وقال غيره : بفُتُوْنٍ من الفِتَنِ أي المِحَنِ تُخْتبر بها .
قوله : { على قَدَرٍ } متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من فاعل " جئت " أي : جئتَ موافقاً لِما قُدِّر لك . كذا قدَّره أبو البقاء ، وهو تفسيرُ معنىً . والتفسير الصناعي : ثم جئت مستقراً أو كائناً على مقدار معين . كقول الآخر :
3288 نال الخلافةَ أو جاءَتْ على قَدَرٍ ... كما أتى رَبَّه موسى على قَدَرِ
(1/3263)

وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)
ومعنى " اصْطَنَعْتُكَ " أي : أَخْلَصْتُك . واصْطَفَيْتُكَ افتعال من الصُّنْع ، فأُبْدِلَتْ التاءُ طاءً لأجل حرف الاستعلاء ، وهذا مجازٌ عن قُرْبِ منزلتِه ودُنُوِّه مِنْ ربه؛ لأنَّ أحداً لا يَصْطَنع إلاَّ مَنْ يختاره .
(1/3264)

اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42)
قوله : { وَلاَ تَنِيَا } : يقال : ونى يَني وَنْياً كوَعَدَ/ يَعِد وَعْداً إذا فَتَرو . . . والوَنْيُ الفُتور . ومنه امرأةٌ أَناة ، وصفوها بفُتور القيام كناية عن ضَخامتها قال :
3289 مِنَّا الأَناةُ وبعضُ القومِ يَحْسَبُنا ... أَنَّا بِطاءٌ وفي إبطائِنا سَرَعُ
والأصل وَناة . فأبدلوا الهمزة من الواو كأَحَد في وَحَد . وليس بالقياس ، وفي الحديث : " إن فيك لخَصْلتين يحبهما الله : الحِلْمُ والأناة " .
والواني : المقصِّرُ في أمره . قال الشاعر :
3290 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... فما أنا بالواني ولا الضِّرَعِ الغُمْرِ
وونى فعلٌ لازمٌ لا يتعدى ، وزعم بعضهم أنه يكون مِنْ أخواتِ زَال وانفك فيعمل بشرط النفيِ أو شبهِه عَمَلَ كان فيقال : " ما وَنى زيدٌ قائماً " أي : مازال قائماً . وأنشد الشيخُ جمالُ الدين بنُ مالكٍ شاهداً على ذلك قول الشاعر :
3291 لا يَنِيْ الحُبُّ شِيْمةَ الحِبِّ ما دا ... مَ فلا تَحْسَبَنَّه ذا ارْعِواءِ
أي لا يزال الحُبُّ أي بضم الحاء شيمةَ الحِبِّ أي بكسرِها وهو المُحِبُّ . ومَنْ منع ذلك يتأوَّلُ البيتَ على حَذْفِ حرفِ الجرِّ؛ فإنَّ هذا الفعلَ يتعدى تارةً ب عَنْ وتارة ب في . يُقال : ما وَنَيْتُ عن حاجتك أو في حاجتك . فالتقدير : لا يَفْتُرُ الحُبُّ في شِيمة المُحِبِّ وفيه مجازٌ بليغ . وقد عُدِّيَ في الآيةِ الكريمة ب في .
وقرأ يحيى بنُ وثَّاب " ولا تِنِيا " بكسر التاء إتباعاً لحركةِ النون . وسَكَّن الياءَ مِنْ " ذِكْرِيْ " . . . . . . .
(1/3265)

اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)
وذَكرَ المذهوبَ إليه في قوله : { اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ } وحَذَفه في الأولِ في قوله : { اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ } اختصاراً في الكلام . وقيل : أُمِرا أولاً بالذهابِ لعمومِ الناسِ ثم ثانياً لفرعونَ بخصوصه ، وفيه بُعد؛ بل الذهابان متوجِّهان لشيءٍ واحدٍ وهو فرعونَ بخصوصه ، وفيه بُعد؛ بل الذهابان متوجِّهان لشيءٍ واحدٍ وهو فرعونُ ، وقد حَذَفَ من كلٍ من الذهابين ما أثبته في الآخر : وذلك أنه حذف المذهوبَ إليه من الأول وأثبته في الثاني ، وحَذَفَ المذهوبَ به وهو " بآياتي " من الثاني وأثبته في الأول .
(1/3266)

فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)
وقرأ أبو معاذٍ " قولاً لَيْناً " وهو تخفيف مِنْ لَيِّن كمَيْت في مَيِّت .
وقوله : { لَّعَلَّهُ } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنَّ " لعلَّ " على بابها من التَّرَجِّي : وذلك بالنسبة إلى المُرْسَل ، وهو موسى وهارون أي : اذهبا على رجائِكما وطَمَعِكما في إيمانه ، اذهبا مُتَرَجِّيَيْنِ طامِعَيْن ، وهذا معنى قولِ الزمخشري ، ولا يَسْتقيمُ أن يَرِدَ ذلك في حق الله تعالى إذ هو عالمٌ بعواقب الأمور ، وعن سيبويه : " كلُّ ما وَرَدَ في القرآن مِنْ لعلَّ وعسى فهو من الله واجبٌ " ، يعني أنه مستحيلٌ بقاءُ معناه في حق الله تعالى . والثاني : أنَّ لعلَّ بمعنى كي فتفيد العلةَ . وهذا قول الفراء ، قال : " كما تقول : اعمل لعلك تأخذُ أَجْرَك أي : كي تأخذ " . والثالث : أنها استفهاميةٌ أي : هل يتذكَّر أو يخشى؟ وهذا قولٌ ساقط؛ وذلك أنه يَسْتحيل الاستفهامُ في حق الله تعالى كما يستحيل الترجِّي . فإذا كان لا بُدَّ من التأويل فَجَعْلُ اللفظِ على مدلولِه باقياً أولى مِنْ إخراجِه عنه .
(1/3267)

قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45)
قوله : { أَن يَفْرُطَ } : " أَنْ يَفْرُطَ " مفعولُ " نخاف " . ويقال : فَرَطَ يَفْرُط : سَبَقَ وَتَقَدَّم ، ومنه الفارِطُ . وهو الذي يتقدَّم الورادةَ إلى الماء وفَرَسٌ فَرَطٌ : يسبقُ الخيلَ ، أي : نخافُ أَنْ يُعَجِّلَ علينا بالعقوبةِ ويبادِرَنا بها ، قاله الزمخشري ، ومِنْ وُرودِ الفارط بمعنى المتقدِّم على الواردة قولُ الشاعر :
3292 واسْتعجلونا وكانوا مِنْ صحابَتنا ... كما تَقَدَّم فُرَّاطُ لوُرَّادِ
وفي الحديث : " أنا فَرَطُكم على الحَوْضِ " أي : سابقُكم ومتقدِّمُكم .
وقرأ يحيى بن وثاب وابنُ محيصن وأبو نَوْفلٍ " يُفْرَط " بضمِّ حرف المضارعة وفتح الراء على البناء للمفعول ، والمعنى : خافا أن يُسْبَقَ في العقوبةِ . أي : يحملُه حامِلٌ عليها وعلى المعاجلة بها : إمَّا قومُه وإمَّا حُبُ الرئاسةِ ، وإمَّا ادِّعاؤه الإِلَهيةَ .
وقرأ ابن محيصن في روايةٍ والزعفراني " أَن يُفَرِّطَ " بضمِّ حرفِ المضارَعَةِ وكسر الراء مِنْ أفرط . قال الزمخشري : " مِنْ أَفْرَطَه غيرُه إذا حمله على العَجَلة ، خافا أَنْ يَحْمِلَه حاملٌ على المُعاجلة بالعقاب " . قال كعب ابن زهير .
3293 تَنْفِي الرياحُ القذى عنه وأَفْرَطَه ... مِنْ صَوْبِ ساريةٍ بِيْضٌ يَعالِيْلُ
أي : سَبَقَتْ إليه هذه البِيْضُ لتملأَه . وفاعلُ " يَفْرُطَ " ضميرُ فرعون . وهذا هو الظاهر الذي ينبغي أَنْ لا يُعْدَلَ عنه . وجعله أبو البقاء مضمراً لدلالة الكلامِ عليه فقال " فيجوز أن يكون التقدير : أن يَفْرط علينا منه قولٌ ، فأضمر القولَ لدلالة الحالِ عليه كما تقول : فَرَطَ مني قول ، وأن يكونَ الفاعلُ ضميرَ فرعون كما كان في " يطغى " .
(1/3268)

قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)
ومفعولُ { أَسْمَعُ وأرى } محذوفٌ فقيل : تقديره : أسمع أقوالكما وأرى أفعالَكما ، وعن ابن عباس : أسمعُ جوابَه لكما وأرى ما يَفْعل بكما ، أو يكون مِنْ حَذْفِ الاقتصار نحو : { يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ آل عمران : 156 ] .
(1/3269)

فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47)
قوله : { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ } : قال الزمخشري : هذه الجملةُ جاريةٌ من الجملة الأولى وهي : { إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ } مَجْرى البيانِ والتفسير؛ لأنَّ دعوى الرسالةِ لا تَثْبُتُ إلاَّ بِبَيِّنَتِها التي هي مجيءُ الآيةِ . وإنما وَحَّدَ ب " آية " ولم تُثَنَّ ومعه آيتان؛ لأنَّ المرادَ في هذا الموضعِ تثبيتُ الدعوى ببرهانها ، فكأنه قيل : قد جِئْناك بمعجزةٍ وبرهانٍ وحجة على ما ادَّعَيْناه/ من الرسالة ، وكذلك قال : { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ الأعراف : 105 ] { فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } [ الشعراء : 154 ] { أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ } [ الشعراء : 30 ] .
و { على مَنِ اتبع الهدى } يحتمل أَنْ يكونَ مأموراً بقوله : فيكونَ منصوبَ المَحَلِّ كأنه قيل : فَقُولا أيضاً : والسلامُ على مَنْ اتَّبع الهدى ، ويحتمل أَنْ يكونَ تسليما منهما لم يُؤْمَرا بقوله ، فتكون الجملةُ مستأنفةً لا محل لها من الإِعراب . وزعم بعضُهم أن " على " بمعنى اللام أي : والسلام لمَنْ اتَّبع الهدى . وهذا لا حاجةَ إليه .
(1/3270)

إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
قوله : { أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ } : " أنَّ " وما في حَيِّزها في محل الرفع لقيامِها مَقامَ الفاعل الذي حُذِف في { أُوحِيَ إِلَيْنَآ } . وسببُ بنائِه للمفعول خوفاً أن يَبْدُرَ مِنْ فرعونَ بادرةٌ لمَنْ أوحى لو سَمَّياه ، فَطَوَيا ذِكْرَه تَعظيماً له واستهانَةً بالمخاطب .
(1/3271)

قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49)
قوله : { ياموسى } : نادى موسى وحدَه بعد مخاطبته لهما معاً : إمَّا لأنَّ موسى هو الأصلُ في الرسالة ، وهارونُ تَبَعٌ ورِدْءٌ ووزيرٌ ، وإمَّا لأنَّ فرعونَ كان لخُبْثِه يعلمُ الرُّتَّة التي في لسان موسى ، ويعلم فصاحةَ أخيه بدليلِ قوله { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } [ القصص : 34 ] وقوله : { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } [ الزخرف : 52 ] فأراد استنطاقَه دون أخيه ، وإمَّا لأنه حَذَفَ المعطوفَ للعلمِ به أي : يا موسى وهارون . قاله أبو البقاء ، وبدأ به ، ولا حاجةَ إليه ، وقد يُقال : حَسَّنَ الحذفَ كونَ موسى فاصلةً ، لا يُقال : كان يُغني في ذلك أَنْ تُقَدِّمَ هارون وتؤخِّرَ موسى فيقال : يا هارونُ وموسى فتحصُلُ مجانسةٌ الفواصلِ مِنْ غيرِ حَذْفٍ لأنَّ البَدْءَ بموسى أهمُّ فهو المبدوءُ به .
(1/3272)

قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50)
قوله : { أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ } : في هذه الآية وجهان : أحدهما : أن يكونَ " كلَّ شيءٍ " مفعولاً أولَ ، و " خَلْقَه " مفعولاً ثانياً على معنى : أعطى كلَّ شيءٍ شكلَه وصورَته ، الذي يطابقُ المنفعةَ المنوطةَ به ، كما أعطى العينَ الهيئةَ التي تطابق الإِبصارَ ، والأذنَ الشكلَ الذي يطابقُ الاستماعَ ويوافقه ، وكذلك اليدُ والرِّجلُ واللسانُ ، أو أعطى كلَّ حيوانٍ نظيرَه في الخَلْق والصورةِ حيث جعل الحصانَ والحِجْر زوجين ، والناقةَ والبعيرَ ، والرجلَ والمرأةَ ، ولم يزاوِجْ شيءٌ منها غيرَ جنسِه ، ولا ما هو مخالفٌ لخَلْقِه . وقيل : المعنى : أعطى كلَّ شيءٍ مخلوقٍ خَلْقَه أي : هو الذي ابتدعه . وقيل : المعنى : أعطى كلَّ شيءٍ ممَّا خَلَق خِلْقَتَه وصورتَه على ما يناسبه من الإِتقانِ . لم يجعل خَلْقَ الإِنسانِ في خَلْقِ البهائم ، ولا بالعكس ، بل خَلَق كلَّ شيءٍ فَقدَّره تقديراً .
والثاني : أن يكونَ " كلَّ شيءٍ " مفعولاً ثانياً ، و " خَلْقَه " هو الأول ، فَقَدَّم الثاني عليه ، والمعنى : أعطى خليقته كلَّ شيءٍ يحتاجون إليه ويَرْتفقون به .
وقرأ عبدُ الله والحسنُ والأعمشُ وأبو نهيكٍ وابنُ أبي إسحاق ونصير عن الكسائي وناسٌ من أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم " خَلَقَه " بفتح اللام فِعْلاً ماضياً . وهذه الجملةُ في هذه القراءةِ تحتمل أَنْ تكونَ منصوبةً المحلِّ صفةً ل " كل " أو في محلِّ جَرِّ صفةً ل " شيء " ، وهذا معنى قولِ الزمخشري : " صفةٌ للمضاف يعني " كل " أو للمضافِ إليه " يعني " شيءٍ " . والمفعولُ الثاني على هذه القراءةِ محذوفٌ ، فيُحتملُ أَنْ يكونَ حَذْفُه حَذْفَ اختصارٍ للدلالةِ عليه أي : أعطى كلَّ شيءٍ خَلَقَه ما يحتاج إليه ويُصْلحه أو كمالَه ، ويحتمل أن يكونَ حذفُه حَذْفَ اقتصارٍ ، والمعنى : أن كلَّ شيءٍ خَلَقه الله لم يُخْلِه من إنعامِه وعطائِه .
(1/3273)

قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51)
والبالُ : الفِكْرُ . يقال : خَطَر ببالِه كذا ، ولا يثنى ولا يُجْمَعُ ، وشَذَّ جمعُه على " بالات " . ويقال للحال المُكْتَرَثِ بها ، ولذلك يُقال : ما بالَيْتُ بالةً ، والأصل . . . . . . فحذف لامه تخفيفاً .
(1/3274)

قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)
قوله : { قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } في خبر هذا المبتدأ أوجهٌ ، أحدها : أنه " عند ربي " وعلى هذا فقولُه " في كتاب " متعلقٌ بما تعلق به الظرفُ من الاستقرار ، أو متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الضمير المستتر في الظرف ، أو خبرٌ ثان .
الثاني : أنَّ الخبرَ قولُه " في كتاب " فعلى هذا قولُه " عند ربي " معمولٌ للاستقرار الذي تعلَّق به " في كتاب " كا تقدَّم في عكسه ، أو يكون حالاً من الضمير المستتر في الجارِّ الواقعِ خبراً . وفيه خلاف أعني تقديمَ الحالِ على عاملها المعنوي . والأخفش يجيزه ويستدلُّ بقراءة { والسماوات مَطْوِيَّاتٍ بِيَمِينِهِ } [ الزمر : 67 ] وقوله :
3294 رَهْطُ ابنِ كوزٍ مُحقِبيْ أَدْراعِهمْ ... فيهم ورَهْطُ رَبيعةَ بنِ حُذارِ
وقال بعَضُ النحويين : إنه إذا كان العاملُ معنوياً ، والحالُ ظرفٌ أو عديلُه ، حَسُن التقديمُ عند الأخفشِ وغيرِه ، وهذا منه . أو يكونُ ظرفاً للعلم نفسه ، أو يكونُ حالاً من المضاف إليه وهو الضمير في " عليها " . ولا يجوزُ أن يكونَ " في كتاب " متعلِّقاً ب " عِلْمها " على قولِنا إنَّ " عند ربي " الخبر كما جاز تعلُّقُ " عند " به لئلا يلزمَ الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبي ، وقد تقدم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصول إلاَّ بعد تمامِ صلته .
الثالث : أن يكونَ الظرفُ وحرفُ الجرِّ معاً خبراً واحداً في المعنى ، فيكونَ بمنزلةِ " هذا حُلْوٌ حامِض " قاله أبو البقاء ، وفيه نظرٌ؛ إذ كلُّ منها يستقلُّ بفائدةِ الخبريةِ ، بخلاف " هذا حلو حامِضٌ " .
والضمير في " عِلْمُها " فيه وجهان ، أظهرُهما : عَوْدُه على القرون . والثاني : عَوْدُه على القيامةِ للدلالةِ ذِكْرِ القرون على ذلك؛ لأنه سأله عن بَعْثِ الأممِ ، والبعثُ يدلُّ على القيامة .
قوله : { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي } في هذه الجملة وجهان ، أحدهما : أنها في محلِّ جرٍّ صفةً ل " كتاب " ، والعائدُ محذوفٌ ، تقديرُه : في كتاب لا يَضِلُّه ربي ، أو لا يَضِلُّ حِفْظَه ربي ، ف " ربي " فاعل " يَضِلُّ " على هذا التقدير ، وقيل : تقديرُه : الكتابَ ربي . فيكون في " يَضِلُّ " ضميرٌ يعود على " كتاب " ، وربي منصوبٌ على التعظيمِ . وكان الأصلُ : عن ربي ، فحُذِفَ الحرفُ اتِّساعاً ، يُقال : ضَلَلْتُ كذا وضَلَلْتُه بفتح اللام وكسرها ، لغتان مشهورتان وشُهراهما الفتحُ . الثاني : أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإِعراب ساقها تبارك وتعالى لمجرد الإِخبارِ بذلك حكايةً عن موسى .
وقرأ الحسنُ وقتادة والجحدريُّ وعيسى الثقفي وابن محيصن وحَمَّاد بن سلمة " لا يُضِلُّ " بضم الياء أي : لا يُضِلُّ ربي الكتابَ أي : لا يُضَيِّعه يقال : أَضْلَلْتُ الشيءَ أي : أضعتُه .
(1/3275)

ف " ربي " فاعلٌ على هذا التقدير . وقيل : تقديرُه : لا يُضِلُّ أحدٌ ربي عن علمه أي : عن علم الكتاب ، فيكون الربُّ منصوباً على التعظيم .
وفرَّق بعضُهم بين ضَلَلْتُ وأَضْلَلْت فقال : " ضَلَلْتُ منزلي " ، بغيرِ ألفٍ ، و " أَضْلَلْت بعيري " ونحوَه من الحيوان بالألفِ . نقل ذلك الرمانيُّ عن العرب ، وقال الفراء : " يقال : ضَلَلْتُ الشيءَ إذا أَخطأْتَ في مكانه وضَلِلْتُ لغتان ، فلم تهتدِ له ، كقولك : ضَلَلْتُ الطريقَ والمنزلَ ولا يُقال : أَضْلَلْتُه إلاَّ إذا ضاع منك كالدَّابة انفلَتَتْ ، وشبهِها .
قوله : { وَلاَ ينسى } في فاعل " ينسى " قولان ، أحدهما : أنه عائدٌ على " ربي " أي : ولا ينسى ربي ما أَثْبَتَه في الكتاب . والثاني : أنَّ الفاعلَ ضميرٌ عائدٌ على الكتاب على سبيل المجاز ، كما أُسند إليه الإِحصاءُ مجازاً في قوله { إِلاَّ أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] لمَّا كان مَحَلاًّ للإِحصاء .
(1/3276)

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53)
قوله : { الذي جَعَلَ لَكُمُ } : في هذا الموصولِ وجهان ، أحدُهما : أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ ، أو منصوبٌ بإضمار " أمدح " ، وهو على هذين التقديرين مِنْ كلامِ الله تعالى لا مِنْ كلامِ موسى ، وإنما احْتجنا إلى ذلك لأنَّ قولَه { فَأَخْرَجْنَا بِهِ } ، وقوله : { كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ } وقولَه { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ } إلى قوله { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ } لا يَتَأتَّى أن يكونَ مِنْ كلام موسى؛ فلذلك جَعَلْناه من كلامِ الباري تعالى . ويكون فيه التفاتٌ من ضمير الغَيْبةِ إلى ضمير المتكلِّم المعظمِ نفسَه ، فإن قلتَ : أجعلهُ مِنْ كلامِ موسى ، يعني أنه وَصَفَ ربَّه تعالى بذلك ثم التفتَ إلى الإِخبار عن الله بلفظِ المتكلِّمِ . قيل : إنما جَعَلناه التفاتاً في الوجهِ الأول؛ لأنَّ المتكلمَ واحدٌ بخلاف هذا ، فإنه لا يتأتى فيه الالتفاتُ المذكورُ وأخواتُه من كلام الله .
والثاني : أنَّ " الذي " صفةٌ ل " ربي " فيكونُ في محلِّ رفعٍ أو نصبٍ على حَسَبِ ما تقدَّم من إعراب " ربي " . وفيه ما تقدَّم من الإِشكال في نظمِ الكلام مِنْ قوله " فأَخْرَجْنا " وأخواتِه من عدم جوازٍ الالتفاتِ ، وإن كان قد قال بذلك الزمخشري والحوفي . وقال ابن عطية : " إن كلامَ موسى تَمَّ عند قوله { وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } وإنَّ قولَه " فأخرَجْنا " إلى آخره مِنْ كلام الله تعالى " وفيه بُعْدٌ .
وقرأ الكوفيون " مَهْداً " بفتح الميم وسكونِ الهاء من غير ألفٍ . والباقون " مِهاداً " بكسرِ الميم وفتح الهاء وألفٍ بعدها . وفيه وجهان : أحدهما : أنهما مصدران بمعنى واحد يقال : مَهَدْتُه مَهْداً ومِهاداً ، والثاني : أنهما مختلفان ، فالمِهادُ هو الاسمُ والمَهْد هو الفعل ، أو أنَّ مِهاداً جمعُ مَهْد نحو : فَرْخ وفِراخ وكَعْب وكِعاب . ووَصْفُ الأرضِ بالمَهْدِ : إمَّا مبالغةً ، وإمَّا على حذف مضاف أي : ذات مَهْدٍ .
قوله { شتى } : " شَتَّى " فَعْلَى . وألفُه للتأنيث ، وهو جمعٌ لشَتِيْت نحو : مَرْضى في جمع مريض ، وجرحى في جمع جريح ، وقتلى في جمع قتيل . يقال : شَتَّ الأمر يَشِتُّ شَتَّاً وشَتاتاً فهو شَتٌّ أي تفرَّق . وشَتَّان اسمُ فعلٍ ماضٍ بمعنى افترق ، ولذلك لا يُكتفى بواحد .
وفي " شَتَّى " أوجهٌ ، أحدُها : أنَّها منصوبةٌ نعتاً ل " أَزْواجاً " أي : أزواجاً متفرقةً بمعنى : مختلفة الألوانِ والطُّعوم . والثاني : أنها منصوبةٌ على الحال مِنْ " أزواجاً " وجاز مجيءُ الحالِ من النكرة لتخصُّصِها بالصفةِ وهي " مِنْ نبات " . الثالث : أَنْ تنتصِبَ على الحال أيضاً مِنْ فاعل الجارِّ؛ لأنه لَمَّا وقع وصفاً رفع ضميراً فاعِلاً . الرابع : أنَّه في محلِّ جر نعتاً ل " نبات " ، قال الزمخشري : " يجوز أن يكونَ صفةً لنبات ، ونبات مصدرٌ سُمِّيَ به النابت كما سُمِّي بالنَّبْت ، فاستوى فيه الواحدُ والجمع ، يعني أنها شَتَّى مخلتفةُ النفعِ والطعمِ واللونِ والرائحةِ والشكلِ ، بعضُها يَصْلُح للناس ، وبعضُها للبهائم " ووافقه أبو البقاء أيضاً . ولكنَ الظاهرَ الأولُ .
(1/3277)

كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54)
قوله : { كُلُواْ } : منصوبٌ بقولٍ محذوف ، وذلك القولُ منصوبٌ على الحال مِنْ فاعل " أَخْرَجْنا " تقديره : فأخرَجْنا كذا قائلين : كُلوا . وتَرَكَ مفعولَ الأكل على حَدِّ تَرْكِه في قولِه تعالى : { كُلُواْ واشربوا } [ البقرة : 60 ] .
" وارْعَوْا " رعى يكون لازماً ومتعدِّياً يقال : رعى دابَّته/ رَعْياً فهو راعِيها . ورَعَتِ الدابَّةُ ترعى رَعْياً فيه راعيةٌ ، وجاء في الآيةِ متعدِّياً .
والنهى فيه قولان ، أحدهما : أنه جَمْعُ نُهْيَة كغُرَف جمع غُرْفَة . والثاني : أنها اسمٌ مفردٌ وهو مصدرٌ كالهدى والسرى . قاله أبو عليّ . وكنت قد قدَّمْتُ أولَ هذا الموضوع أنهم قالوا : لم يأتِ مصدرٌ على فُعَل من المعتل اللام إلاَّ سرى وهدى وبكى ، وأنَّ بعضهم زادَ " لقى " وأنشدْتُ عليه بيتاً ثَمَّة ، وهذا لفظٌ آخرُ فيكون خامساً . والنهى : العَقْلُ . قالوا : سُمِّي بذلك لأنه يَنْهى صاحبَه عن ارتكابِ القبائح .
(1/3278)

وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
قوله : { أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا } : هي مِنْ " رأى " البصَريةِ فَلَمَّا دخلَتْ همزةُ النقل تَعَدتْ بها إلى اثنين أولُهما الهاء ، والثاني " آياتِنا " ، والمعنى : أَبْصَرْناه . والإِضافةُ هنا قائمةٌ مقامَ التعريفِ العَهْدي أي : الآياتِ المعروفةَ كالعصا واليد ونحوهما ، وإلاَّ فلم يُرِ اللهُ تعالى فرعونَ جميعَ ِآياتِه . وجَوَّز الزمخشري أن يُرادَ بها الآياتُ على العموم بمعنى : أنَّ موسى عليه السلام أراه الآياتِ التي بُعِث بها وعَدَّد عليه الآياتِ التي جاءَتْ بها الرسلُ قبله عليهم السلام ، وهو نبيٌّ صادقٌ ، لا فرقَ بين ما يُخْبِرُ عنه وبين ما يُشاهَدُ به " .
قال الشيخ : " وفيه بُعْدٌ؛ لأنَّ الإِخبارَ بالشيءِ لا يُسَمَّى رؤيةً له إلاَّ بمجازٍ بعيد . وقيل : بل الرؤيةُ هنا رؤيةٌ قلبيةٌ ، فالمعنى : أَعْلَمْناه " وأيَّد ذلك : بأنه لم يكن أراه إلاَّ اليدَ والعصا فقط . ومَنْ جَوَّز استعمالَ اللفظِ في حقيقتِه ومجازِه أو إعمالَ المشتركِ في معنَيَيْه يجيزُ يُرادَ المعنيان جميعاً . وتأكيدُه للآيات ب " كلَّها " يدلُّ على إرادةِ العمومِ لأنَّهم قالوا : فائدةٌ التوكيدِ ب " كل " وأخواتِها رَفْعُ تَوَهُّمِ وَضْعِ الأخَصِّ مَوْضعَ الأعمِّ ، فلا يُدَّعَى أنه أراد بالآياتِ آياتٍ مخصوصةً ، وهذا يتمشى على أن الرؤيةَ قلبيةٌ ، ويُراد بالآيات ما يَدُلُّ على وَحْدانيةِ الله وصِدْقِ المبلِّغ . ولم يذكر معفولَ التكذيب والإِباءِ تعظيماً له ، وهو معلومٌ .
(1/3279)

فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58)
قوله : { فَلَنَأْتِيَنَّكَ } : جوابُ قسمٍ محذوفٍ تقديرُه : واللهِ لَنَأْتِيَنَّك . وقوله : " بسِحْرٍ " يجوز أن يتعلَّقَ بالإِتيان ، وهذا هو الظاهرُ ، ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ فاعلِ الإِتيان أي : ملتبسين بسِحْرٍ .
قوله : { مَوْعِداً } يجوز أن يكونَ زماناً . ويُرَجِّحه قولُه : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } والمعنى : عَيَّن لنا وقتَ اجتماع؛ ولذلك أجابهم بقوله : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } . وضَعَّفوا هذا : بأنه يَنْبُوا عنه قوله : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ } ، وبقوله : { لاَّ نُخْلِفُهُ } . وأجاب عن قوله : { لاَّ نُخْلِفُهُ } بأنَّ المعنى : لا نُخْلِفُ الوقتَ في الاجتماع . ويجوز أن يكون مكاناً . والمعنى : بَيِّنْ لنا مكاناً معلوماً نعرفه نحن وأنت . . . ويُؤَيَّدُ بقوله : { مَكَاناً سُوًى } قال : فهذا يَدُلُّ على أنه مكانٌ ، وهذا يَنْبُوْ عه قوله : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } .
ويجوز أَنْ يكونَ مصدراً ، ويؤيِّد هذا قولُه : { لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ } لأنَّ المواعدَة تُوْصَفُ بالخُلْفِ وعدمِه . وإلى هذا نحا جماعةٌ مختارين له . ورُدَّ عليهم بقولِه : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } فإنه لا يطابقه .
وقال الزمخشري : " إنْ جَعَلْتَه زماناً نظراً في أن قولَه : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } مطابقٌ له لَزِمك شيئان : أن تجعلَ الزمان مُخْلَفاً ، وأن يَعْضُلَ عليك ناصبٌ " مكاناً " ، وإن جَعَلْتَه مكاناً لقوله : { مَكَاناً سُوى } لَزِمك أيضاً أَنْ تُوْقِعَ الإِخلاف على المكان ، وأن لا يطابِقَ قولَه موعدُكم يومُ الزينة ، وقرءةُ الحسن غيرُ مطابقةٍ له زماناً ومكاناً جميعاً لأنَّه قرأ " يومَ الزينة " بالنصب ، فبقي أن يُجْعل مصدراً بمعنى الوَعْدِ ، ويقدَّرَ مضافٌ محذوفٌ أي : مكان الوعد ، ويُجْعلَ ضميرُ في " نُخلِفُه " للموعِد ، و " مكاناً " ، بدل من المكان المحذوف . فإن قلت : فكيف طابقه قولُه : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } ، ولا بُدَّ من أن تجعلَه زماناً ، والسؤالُ واقعٌ عن المكان لا عن الزمان؟ قلت : هو مطابقٌ معنىً ، وإن لم يطابقْه لفظاً؛ لأنهم لا بُدَّ لهم أن يجتمعوا يومَ الزينة في مكانٍ بعينه مُشْتَهِرٍ باجتماعِهم فيه في ذلك الزمان . فبذِكْر الزمانِ عُلِمَ المكانُ . وأما قراءةُ الحسنِ فالموعدُ فيها مصدرٌ لا غيرَ . والمعنى : إنجازُ وعدِكم يومَ الزينة ، وطابقَ هذا أيضاً من طريق المعنى . ويجوز أن لا يُقَدَّرَ مضافٌ محذوف ، ويكون المعنى : اجعل بيننا وبينك وعداً لا نُخْلفه " .
وقال أبو البقاء : " هو هنا مصدر لقوله : { لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ } .
والجَعْل هنا بمعنى التصيير . ومَوْعِداً مفعولٌ أولُ والظرفُ هو الثاني . والجملةُ مِنْ قوله : " لا نُخْلِفُه " صفةٌ لموعداً . و " نحن " توكيدٌ مُصَحِّحٌ للعطفِ على الضميرِ المرفوعِ المستترِ في " نُخْلفه " و " مكاناً " بدلٌ من المكان المحذوف كما قرره الزمخشري . وجَوَّز أبو علي الفارسي وأبو البقاء أن ينتصِبَ " مكاناً " على المفعول الثاني ل " اجعَلْ " قال : " ومَوْعداً على هذا مكانٌ أيضاً ، ولا ينتصِبُ ب مَوْعد لأنه/ مصدرٌ قد وُصِف " يعني أنه يَصِحُّ نصبُه مفعولاً ثانياً ، ولكنْ بشرطِ أن يكونَ المَوْعِدُ بمعنى المكان؛ ليتطابقَ المبتدأُ أو الخبرُ في الأصل .
(1/3280)

وقوله : " ولا ينتصِبُ بالمصدر " يعني أنه لا يجوزُ أن يُدَّعَى انتصابُ " مكاناً " ب مَوْعد . والمرادُ بالموعد المصدرُ وإنْ كان جائزاً مِنْ جهة المعنى؛ لأنَّ الصناعةَ تَأباه وهو وصفُ المصدرِ ، والمصدرُ شرطُ إعمالِه عَدَمُ وصفِه قبل العملِ عند الجمهور .
وهذا الذي منعه الفارسيُّ وأبو البقاء ، جَوَّزه الزمخشريُّ وبدأ به فقال : " فإن قلتَ : فبمَ ينتَصِبُ مكاناً؟ قلت : بالمصدرِ ، أو بما يَدُلُّ عليه المصدر . فإنْ قلت : كيف يطابقُه الجوابُ؟ قلت : أمَّا على قراءةِ الحسن فظاهرٌ ، وأمَّا على قراءةِ العامَّةِ فعلى تقدير : وَعْدُكم وَعْدُ يومِ الزينة " .
قال الشيخ : " وقوله : إنَّ مكاناً ينتصب بالمصدر ليس بجائزٍ؛ لأنه قد وُصِف قبل العملِ بقوله : " لا نُخْلِفُه " وهو موصولٌ ، والمصدر إذا وُصِفَ قبل العملِ لم يَجُزْ أَنْ يعملَ عندهم " . قلت : الظروفَ والمجروراتُ يُتَّسعُ فيها ما لم يُتَّسَعْ في غيرِها . وفي المسألة خلافٌ مشهورٌ وأبو القاسم نحا إلى جواز ذلك .
وجعل الحوفيُّ انتصابَ " مكاناً " على الظرف ، وانتصابَه ب " اجعل " . فتحصَّل في نصبِ " مكاناً " خمسةُ أوجهٍ ، أحدها : أنه بدلٌ مِنْ " مكاناً " المحذوفِ . الثاني : أنه مفعولٌ ثانٍ للجَعْل . الثالث : أنه نُصِب بإضمار فعل . الرابع : أنه منصوبٌ بنفس المصدر . الخامس : أنه منصوبٌ على الظرف بنفس " اجْعَلْ " .
وقرأ أبو جعفرٍ وشيبةُ " لا نُخْلِفْه " بالجزم على جوابِ الأمر ، والعامَّةُ بالرفع على الصفةِ لِمَوْعِد ، كما تقدَّم .
وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم والحسن " سُوَىً " بضم السينِ منوناً وصلاً . والباقون بكسرِها . فالكسرُ والضمُّ على أنها صفةٌ بمعنى مكانٍ عَدْلٍ ، إلا أنَّ الصفةَ على فُعَلٍ كثيرةٌ نحو : لُبَد وحُطَم ، وقليلةٌ على فِعَل . وحكى سيبويه " لحم زِيَم " ولم يُنَوَّن الحسنُ " سوى " أجرى الوصلَ مُجْرى الوقف . ولا جائزٌ أَنْ يكونَ مَنَعَ صَرْفَه للعَدْل على فُعَلٍ كعُمَر لأن ذلك في الأعلام . وأمَّا فُعَل في الصفاتِ فمصروفَةٌ نحو : حُطَم ولُبَد .
وقرأ عيسى بن عمر " سِوى " بالكسر من غيرِ تنوين . وهي كقراءة الحسنِ في التأويل .
وسوى معناه " عَدْلاً ونَصَفَة " . قال الفارسي : " كأنه قال : قُرْبُه منكم قُرْبُه مِنَّا " . قال الأخفش : " سوى " مقصورٌ إنْ كَسَرْتَ سينَه أو ضَمَمْتَ ، وممدودٌ إنْ فَتَحْتَها ، ثلاثُ لغات ، ويكون فيها جميعها بمعنى غير ، وبمعنى عَدْل ووسط بين الفريقين . قال الشاعر :
3295 وإنَّ أبانا كان حَلَّ ببلدةٍ ... سِوَىً بين قَيْسٍ قيسِ عَيْلانَ والفِزْرِ
قال : " وتقول : مررتُ برجلٍ سِواك وسُواك وسَوائِك أي : غيرِك ويكون للجميع " وأعلى هذه اللغاتِ الكسرُ ، قاله النحاس . وزعم بعضُ أهلِ اللغة والتفسير أنَّ معنى مكاناً سوى : مستوٍ من الأرض ، لا وَعْرَ فيه ولا حُزُوْنَة .
(1/3281)

قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
قوله : { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } : العامَّةُ على رفع " يومُ الزينة " خبراً ل " موعدُكم " . فإنْ جَعَلْتَ " موعدكم " زماناً لم تَحتجْ إلى حَذْفِ مضاف؛ إذ التقديرُ : زمانُ الوعدِ يومُ الزينة ، وإن جعلتَه مصدراً احتجْتَ إلى حَذْفِ مضافِ تقديرُه : وَعْدُكم وَعْدُ يومِ الزينة .
وقرأ الحسن والأعمش وعيسى وعاصم في بعض طُرُقِه وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقتادة والجحدري وهبيرة " يومَ " بالنصب . وفيه أوجهُ ، أحدها : أن يكونَ خبراً ل " موعدكم " على أنَّ المرادَ بالموعد المصدرُ أي : وعْدُكم كائن في يوم الزينة كقولِك : القتالُ يومَ كذا والسفر غداً .
الثاني : أن يكونَ " موعدُكم " مبتدأً ، والمرادُ به الزمان ، و " ضُحَى " خبرُه على نيةِ التعريفِ فيه؛ لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه ، قاله الزمخشري ، ولم يُبَيِّنْ ما الناصبُ ل " يومَ الزينة "؟ ولا يجوز أن يكونَ منصوباً ، ب " موعدُكم " على هذا التقديرِ؛ لأنَّ مَفْعِلاً مراداً به الزمانُ أو المكانُ لا يعملُ وإنْ كان مشتقاً ، فيكونُ الناصبُ له فعلاً مقدَّراً . وواخذه الشيخ في قوله " على نيةِ التعريف " قال : " لأنَّه وإن كان ضُحى ذلك اليومِ بعينه فليس على نية التعريفِ ، بل هو نكرةٌ ، وإن كان من يومٍ بعينه؛ لأنه ليس معدولاً عن الألفِ واللام كسَحَر ولا هو معرَّفٌ بالإِضافةِ ولو قلت : " جئت يوم الجمعة بَكَراً " لم نَدَّعِ أن بَكَراً معرفةٌ وإن كنت تعلمُ أنه من يومٍ بعينه " .
الثالث : أن يكونَ " موعدُكم " مبتدأً ، والمرادُ به المصدرُ و " يومَ الزينةِ " ظرفٌ له . " وضحى " منصوبٌ على الظرفِ خبراً للموعد ، كما أخبر عنه في الوجهِ الأول بيوم الزينة نحو : القتالُ يومَ كذا " .
قوله : { وَأَن يُحْشَرَ } في محلِّه وجهان ، أحدُهما : الجرُّ نَسَقاً على الزينة أي : موعدُكم يومُ الزينة ويومُ أن يُحْشر . أي : ويومُ حَشْرِ الناس . والثاني : الرفعُ : نَسَقاً على " يومُ " التقديرُ : موعدُكم يومُ كذا ، وموعدكم أَنْ يُحْشَرَ الناسُ أي : حَشْرُهم .
وقرأ ابن مسعود والجحدري وأبو نهيك وعمرو بن فائد " وأن تَحْشُرَ الناسَ " بتاء الخطاب في " تَحْشُرَ " ، ورُوي/ عنهم " يَحْشُرَ " بياء الغَيْبة . و " الناسَ " نصبٌ في كلتا القراءتين على المفعوليَّة . والضميرُ في القراءتين لفرعونَ أي : وأَنْ تَحْشُرَ أنت يا فرعونُ ، أو وأن يَحْشُرَ فرعونُ . وجوَّز بعضُهم أَنْ يكونَ الفاعلُ ضميرَ اليوم في قراءة الغَيْبة؛ وذلك مجازٌ لمَّا كان الحشرُ واقعاً فيه نُسِبَ إليه نحو : نهارُه صائمٌ وليلُه قائمٌ .
و " ضُحَىً " نصبٌ على الظرف ، العاملُ فيه " يُحْشَر " وتُذَكَّر وتؤنَّث . والضَّحاء بالمد وفتح الضاد فوق الضحى؛ لأن الضُّحى ارتفاعُ النهارِ ، والضَّحاء بعد ذلك ، وهو مذكَّرٌ لا غير .
(1/3282)

فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60)
قوله : { كَيْدَهُ } : فيه حَذْفُ مضافٍ أي : ذوي كيدِه .
(1/3283)

قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61)
قوله : { فَيُسْحِتَكُم } : قرأ الأخَوان وحفص عن عصام " فيُسْحِتَكم " بضم الياء وكسر الحاء . والباقون بفتحهما . فقراءة الأخوين مِنْ أسْحَتَ رباعياً وهي لغةُ نجدٍ وتميم . قال الفرزدق التميمي :
3296 وعَضُّ زمانٍ يا بنَ مروانَ لم يَدَعْ ... من المالِ إلاَّ مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ
وقراءةُ الباقين مِنْ سَحَتَه ثلاثياً وهي لغةُ الحجاز . وأصلُ هذه المادةِ الدلالةُ على الاستقصاءِ والنَّفاد . ومنه سَحَتَ الحالقُ الشَّعْرَ أي : استقصاه فلم يتركْ منه شيئاً ، ويستعملُ في الإِهلاك والإِذهاب . ونصبُه بإضمار " أَنْ " في جواب النهي . ولَمَّا أنشد الزمخشريُّ قولَ الفرزدق " إلاَّ مُسْحَتاً أو مُجْلَّفُ " قال بعد ذلك : " في بيتٍ لم تَزَلِ الرُّكَبُ تَصْطَكُّ في تسويةِ إعرابه " .
قلت : يعني أن هذا البيتَ صعبُ الإِعرابِ ، وإذ قد ذَكَر فَلأَذْكُرْ ما ورد في هذا البيتِ من الروايات ، وما قال الناس في ذلك على حسبِ ما يليق بهذا الموضوعِ ، فأقولُ وبالله الحَوْلُ : رُوي هذا البيتُ بثلاثِ روايات ، كل واحدة لا تَخْلو من ضرورةٍ : الأُولى " لم يَدَعْ " بفتح الياءِ والدال ونصب " مُسْحَت " . وفي هذه خمسةُ أوجه :
الأول : أنَّ معنى لم يَدَعْ من المال إلاَّ مُسْحتاً : لم يَبْقَ إلاَّ مُسْحَت ، فلما كان هذا في قوة الفاعل عَطَفَ عليه قولَه : " أو مُجَلَّفُ " بالرفع . وبهذا البيتِ استشهد الزمخشريُّ على قراءة أُبَيّ والأعمش " فَشربوا منه إلاَّ قليلٌ " برفع " قليل " وقد تقدَّم ذلك . الثاني : أنه مرفوعٌ بفعلٍ مقدرٍ دَلَّ عليه لم يَدَعْ ، والتقدير : أو بقي مُجَلَّفٌ . الثالث : " أن " مُجَلَّفُ " مبتدأ ، وخبرُه مضمرٌ تقديره : أو مُجَلَّف كذلك وهو تخريج الفراء . الرابع : أنه معطوفٌ على الضميرِ المستتر في " مُسْحتاً " ، وكان مِنْ حقِّ هذا أن يَفْصِل بينهما بتأكيدٍ أو فاصلٍ ما . إلاَّ أنَّ القائلَ بذلك لا يَشْترط وهو الكسائيُّ . وأيضاً فهو جائزٌ في الضرورة عند الكل . الخامس : أن يكونَ " مُجَلَّف " مصدراً بزنة اسم المفعول كقولِه تعالى : { كُلَّ مُمَزَّقٍ } [ سبأ : 19 ] أي : تَجْليف وتمزيق ، وعلى هذا فهو نَسَقٌ علت " عَضُّ زمانٍ " إذ التقدير : رَمَتْ بنا همومٌ المُنَى وعَضُّ زمانٍ أو تجليف ، فهو فاعلٌ لعطفِه على الفاعل ، وهو قولُ الفارسيِّ . وهو عندي أحسنُها .
الروايةُ الثانية : فتحُ الياءِ وكسرُ الدال ورفعُ مُسْحت . وتخريجُها واضحٌ : وهو أن تكون مِنْ وَدَع في بيته يَدِع فهو وادع ، بمعنى : بقي يبقى فهو باقٍ ، فيرتفعُ مُسْحَتٌ بالفاعلية ، ويُرْفَعُ " مُجَلَّفُ " بالعطفِ عليه . ولا بُدَّ حينئذٍ من ضميرٍ محذوفٍ وتقديرُه : مِنْ أجله أو بسببه . . . . الكلام .
الرواية الثالثة : " يُدَعْ " بضمِّ الياء وفتح الدال على ما لم يُسَمَّ فاعلُه ، و " مُسْحَت " بالرفع لقيامِه مَقام الفاعلِ ، و " مُجَلَّف " عطفٌ عليه . وكان مِنْ حَقِّ الواو أن لا تُحْذف ، بل تَثْبُتُ لأنها لم تقع بين ياءٍ وكسرة ، وإنما حُذِفَتْ حملاً للمبني للمفعول على المبني للفاعل . وفي البيت كلامٌ أطولُ من هذا تركتُه اختصاراً وهذا لُبُّه . وقد ذكرته في البقرة وفَسَّرْت معناه ولغَته ، ووَصَلْتُه بما قبله فعليك بالالتفاتِ إليه .
(1/3284)

قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63)
قوله : { إِنْ هذان } : اختلف القُرَّاءُ في هذه الآيةِ الكريمة : فقرأ ابن كثيرٍ وحدَه " إنْ هذانِّ " بتخفيف إنْ ، والألفِ ، وتشديدِ النون . وحفصٌ كذلك إلاَّ أنه خَفَّف نونَ " هذانٍ " . وقرأ أبو عمرو " إنَّ " بالتشديد " هذين " بالياء وتخفيفِ النون . والباقون كذلك إلاَّ أنهم قَرَؤوا/ " هذان " بالألف .
فأَمَّا القراءةُ الأولى وهي قراءةُ ابنِ كثير وحفص فأوضحُ القراءاتِ معنىً ولفظاً وخَطَّاً؛ وذلك أنهما جعلا " إنْ " المخففةَ من الثقيلة فَأُهْمِلَتْ ، ولَمَّا أُهْمِلَتْ كما هو الأفصحُ مِنْ وجهيها خِيْفَ التباسُها بالنافية فجيء باللامِ فارقةً في الخبر . ف " هذان " مبتدأٌ ، و " لَساحران " خبرُه ، ووافَقَتْ خَطَّ المصحفِ؛ فإن الرسم " هذن " بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ وسيأتي بيانُ ذلك .
وأمَّا تشديدُ نونِ " هذان " فعلى ما تقدَّم في سورةِ النساءِ ، وقد أَتْقَنتُ ذلك هناك .
وأمَّا الكوفيون فيزعمون أنَّ " إنْ " نافيةٌ بمعنى ما ، واللامُ بمعنى إلاَّ ، وهو خلافٌ مشهورٌ وقد وافقَ تخريجُهم هنا قراءةَ بعضِهم " ما هذانِ إلاَّ ساحران " .
وأمَّا قراءةُ أبي عمروٍ فواضحةٌ من حيث الإِعرابُ والمعنى . أمَّا الإِعرابُ ف " هذَيْن " اسمُ " إنَّ " وعلامةُ نصبِه الياءُ . و " لَساحِران " خبرُها ، ودخَلَتِ اللام توكيداً . وأمَّا مِنْ حيث المعنى : فإنَّهم أَثْبتوا لهما السحرَ بطريق تأكيديٍّ من طرفيه ، ولكنهم استشكلُوها من حيث خَطُّ المصحفِ؛ وذلك أنَّ رَسْمَه " هذن " بدونِ ألفٍ ولا ياءٍ ، فإثباتُه بالياءِ زيادةٌ على خطِّ المصحفِ . قال أبو إسحاق : " لا أُجيز قراءةَ أبي عمرو لأنَّها خلافُ المصحفِ " . وقال أبو عبيد : " رأيتُهما في الإِمام مصحفِ عثمان " هذن " ليس فيها ألفٌ ، وهكذا رأيتُ رفعَ الاثنين في ذلك المصحفِ بإسقاط الألفِ ، وإذا كتبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء ، ولا يُسْقِطونها " .
قلت : وهذا لا ينبغي أَنْ يُرَدَّ به على أبي عمرو ، وكم جاء في الرسم أشياءُ خارجةٌ عن القياسِ ، وقد نَصُّوا هم أنه لا يجوزُ القراءةُ بها فليكنْ هذا منها ، أعني ممَّا خَرَجَ عن القياس . فإن قلتَ : ما نَقَلْتَه عن أبي عبيد مشتركُ الإِلزامِ بين أبي عمروٍ وغيرِه ، فإنهم كما اعترضوا عليه بزيادةِ الياء يُعْترض عليهم بزيادةِ الألفِ : فإنَّ الألفَ ثابتةٌ في قراءتِهم ، ساقطةٌ من خَطِّ المصحفِ . فالجواب ما تقدَّم مِنْ قولِ أبي عبيدٍ أنهم رآهم يُسْقِطون الألفَ مِنْ رفع الاثنين ، فإذا كتُبوا النصبَ والخفضَ كتبُوه بالياء .
وذهب جماعةٌ منهم عائشةُ رضي الله عنها وأبو عمروٍ إلى أن هذا ممّا لَحَنَ فيه الكاتبُ وأُقيم بالصواب .
(1/3285)

يَعْنُون أنه كان مِنْ حقه أن يكتبَه بالياءِ فلم يفعلْ ، فلم يقرَأْه الناسُ إلاَّ بالياءِ على الصوابِ .
وأمَّا قراءةُ الباقين ففيها أوجه ، أحدُها : أن " إنَّ " بمعنى نَعَمْ ، و " هذان " مبتدأٌ ، و " لَساحران " خبرُه ، وكَثُرَ ورودُ " إنَّ " بمعنى نعم وأنشدوا :
3297 بَكَرَ العَواذِلُ في المَشِيْ ... بِ يَلُمْنَني وأَلوْمُهُنَّهْ
ويَقلْن شَيْبٌ قد عَلا ... كَ وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ
أي : فقلت : نَعَمْ . والهاءُ للسَّكْتِ . وقال رجلٌ لابن الزبير : لَعَن اللهُ ناقةً حَمَلَتْني إليكَ . فقال : " إنَّ وصاحبَها " أي : نعم . ولَعَنَ صاحبَها . وهذا رأيُ المبردِ وعلي بن سليمان في آخرين . وهو مردودٌ من وجهين ، أحدهما : عدمُ ثبوتِ " إنَّ " بمعنى نعم ، وما أوردُه مُؤَوَّلٌ : أمَّا البيتُ فإنّ الهاءَ اسمُها ، والخبرَ محذوفٌ لفهمِ المعنى تقديرُه : إنه كذلك . وأمَّا قولُ ابنِ الزبير فذلك مِنْ حَذْفِ المعطوفِ عليه وإبقاءِ المعطوف وحَذْفِ خبر " إنَّ " للدلالةِ عليه ، تقديره : إنَّها وصاحَبها ملعونان ، وفيه تكلُّفٌ لا يَخْفَى والثاني : دخولُ اللامِ على خبرِ المبتدأ غيرِ المؤكَّد ب " إنَّ " المكسورةِ ، لأَنَّ مثلَه لا يقعُ إلاَّ ضرورةً كقولِه :
3298 أمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوْزٌ شَهْرَبَهْ ... تَرْضَى من اللحمِ بعظمِ الرَّقَبَهْ
وقد يُجاب عنه : بأنَّ " لَساحِران " يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ دَخَلَتْ عليه هذه اللامُ تقديرُه : لهما ساحران . وقد فعل ذلك الزجاج كما ستأتي حكايتُه عنه .
الثاني : أنَّ اسمَها ضميرُ القصةِ وهو " ها " التي قبل " ذان " وليست ب " ها " التي للتنبيهِ الداخلةِ على أسماءِ الإِشارةِ ، والتقدير : إنَّ القصةَ ذانِ لساحران . وقد رَدُّوا هذا من وجهين ، أحدهما : من جهةِ الخَطِّ ، وهو أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن تُكتبَ " إنها " فيصِلوا الضميرَ بالحرفِ قبلَه كقوله تعالى : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار } [ الحج : 46 ] فكَتْبُهم إياها مفصولةً من " إنَّ " متصلةً باسمِ الإِشارة يمنع كونَها ضميراً ، وهو واضح . الثاني : أنَّه يؤدِّي إلى دخولِ لامِ الابتداءِ في الخبرِ غيرِ المنسوخِ . وقد يُجاب عنه بما تقدَّم .
الثالث : أنَّ اسمَها ضميرُ الشأنِ محذوفٌ ، والجملةُ من المبتدأ والخبرِ بعدَه في محلِّ رفعٍ خبراً ل " إنَّ " ، التقديرُ : إنَّه ، أي : الأمرُ والشأنُ . وقد ضُعِّفَ هذا بوجهين ، أحدهما : حَذْفُ اسمِ " إن " ، وهو غيرُ جائزٍ إلاَّ في شعرٍ ، بشرطِ أَنْ لا تباشرَ " إنَّ " فعلاً كقولِه :
3299 إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الكنيسةَ يوماً ... يَلْقَ فيها جَآذراً وظِباءَ
/ والثاني : دخولُ اللام في الخبرِ .
وقد أجابَ الزجَّاج بأنها داخلةٌ على مبتدأ محذوفٍ تقديرُه : لهما ساحران . وهذا قد استحسنه شيخُه المبردُ ، أعني جوابَه بذلك .
الرابع : أنَّ " هذان " اسمُها ، و " لَساحران " خبرُها . وقد رُدَّ هذا بأنه كان ينبغي أَنْ يكونَ " هذين " بالياءِ كقراءةِ أبي عمرو .
(1/3286)

وقد أُجيب عن ذلك : بأنه على لغةِ بني الحارثِ وبين الهُجَيْم وبني العَنْبر وزُبَيْد وعُذْرَة ومُراد وخَثْعَم . وحكى هذه اللغةَ الأئمةُ الكبارُ كأبي الخَطَّاب وأبي زيد الأنصاري والكسائي . قال أبو زيد : " سمعتُ من العربِ مَنْ يَقْلِبُ كلَّ ياءٍ ينفتح ما قبلها ألفاً " ، يجعلون المثنى كالمقصورِ فيُثْبِتون ألفاً في جميع أحواله ، ويُقَدِّرون إعرابَه بالحركاتِ ، وأنشدوا قولَه :
3300 فأَطْرَق إطْراقَ الشُّجاعِ ولو يرى ... مَسَاغاً لِناباه الشُّجاعُ لصَمَّما
أي : لنابَيْه . وقولَه :
3301 إنَّ أباها وأبا أباها ... قد بَلَغا في المجدِ غايتاها
أي : غايتيهما ، إلى غير ذلك من الشواهد .
وقرأ ابن مسعود : " أنْ هذان ساحِران " بفتح " أَنْ " وإسقاط اللامِ : على أنها وما في حَيِّزها بدلٌ من " النجوى " كذا قاله الزمخشري ، وتبعه الشيخ ولم ينكره . وفيه نظرٌ : لأنَّ الاعتراضَ بالجملة القولية بين البدلِ والمبدلِ منه لا يَصِحُّ . وأيضاً فإنَّ الجملةَ القوليةَ مفسرةٌ للنجوى في قراءةِ العامَّة ، وكذا قاله الزمخشريُّ أولاً فكيف يَصحُّ أَنْ يُجْعَلَ " أنْ هذان ساحران " بدلاً من " النجوى "؟ .
قوله : { بِطَرِيقَتِكُمُ } الباءُ في " بطريقتكم " مُعَدِّيَةٌ كالهمزة . والمعنى : بأهلِ طريقتكم . وقيل : الطريقةُ عبارةُ عن السَّادة فلا حَذْفَ .
(1/3287)

فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
قوله : { فَأَجْمِعُواْ } : قرأ أبو عمرو " فاجْمَعُوا " بوصل الألِف وفتحِ الميمِ . والباقون بقطعِها مفتوحةً وكسرِ الميمِ . وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في سورة يونس ، وما قاله الناسُ في الفرقِ بين الثلاثي والرباعي .
و " كيدَكم " مفعولٌ به . وقيل : هو على إسقاطِ الخافض أي : على كَيْدكم . وليس بشيءٍ .
قوله : { صَفّاً } يجوز أَنْ يكونَ حالاً مِنْ فاعل " ائتُوا " أي : ائتُوا مُصْطَفِّين أي : ذوي صفٍّ فهو مصدرٌ في الأصل . وقيل : هو مفعولٌ به أي : ائتوا قوماً صَفاً ، وفيه التسميةُ بالمصدر ، أو هو على حذفِ المضاف أي : ذوي صف .
قوله : { وَقَدْ أَفْلَحَ } قال الزمخشري : " اعتراضٌ يعني : وقد فاز مَنْ غلب " . قلت : يعني بالاعتراض أنه جِيء بهذه الجملة أجنبيةً بين كلامِهم ومقولهم ، لأنَّ من جملة قولهم " قالوا يا موسى : إمَّا أَنْ تُلْقي " وهذه الجملةُ أعني قولَه وقد أفلَح مِنْ كلامِ الله تعالى فهي اعتراضٌ . بهذا الاعتبارِ . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الظاهرَ أنها مِنْ مقولاتِهم ، قالوا ذلك تحريضاً لقومِهم على القتالِ ، وحينئذٍ فلا اعتراضَ .
(1/3288)

قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65)
قوله : { إِمَّآ أَن تُلْقِيَ } : فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ تقديرُه : اخْتَرْ أحدَ الأمرين ، كذا قدَّره الزمخشري قال الشيخ : " وهذا تفسيرُ معنىً لا تفسيرُ إعرابٍ ، وتفسيرُ الإِعرابِ : " إمَّا تختارُ الإِلقاءَ " . والثاني : أنَّه مرفوعٌ على خبرِ مبتدأ محذوفٍ تقديرُه : الأمرُ إمَّا إلقاؤُك إو إلقاؤُنا ، كذا قدَّره الزمخشريُّ . الثالث : أن يكونَ مبتدأً ، وخبرُه محذوفٌ تقديرُه : إلقاؤُك أولٌ . ويَدُلُّ عليه قولُه : وإمَّا أَنْ نكونَ أولَ مَنْ أَلْقى " . واختار هذا الشيخُ ، وقال : " فَتَحْسُنُ المقابلةُ من حيث المعنى ، وإنْ لم تَحْصُلْ مقابلةٌ من حيث التركيبُ اللفظيُّ " . ثم قال : " وفي تقديرِ الزمخشريِّ " الأمرُ إلقاؤُك " لا مقابلةَ فيه " وهذا تَقَدَّم نظيرُه في الأعراف .
(1/3289)

قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66)
قوله : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ } : هذه الفاءُ عاطفةٌ على جملةٍ محذوفةٍ دَلَّ عليها السياقُ . والتقدير : فَأَلْقَوْا فإذا . و " إذا " هذه التي للمفاجَأة . وفيها ثلاثة أقوال تقدَّمت . أحدُها : أنها باقيةٌ على ظرفيةِ الزمان . الثاني : أنها ظرفُ مكانٍ . الثالث : أنها حرفٌ .
قال الزمخشري : " والتحقيق فيها أنها الكائنةُ بمعنى الوقتِ الطالبةُ ناصباً لها ، وجملةً تُضاف إليها خُصَّتْ في بعضِ المواضع بأن يكونَ الناصبُ لها فعلاً مخصوصاً ، وهو فِعْلُ المفاجأةِ ، والجملةٌ ابتدائيةٌ لا غير . فتقديرُ قولِه تعالى { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ } : ففاجأ موسى وقتَ تخييلِ سَعْيِ حبالِهم وعِصيِّهم ، [ وهذا تمثيل . والمعنى : على مفاجأته حبالُهم وعصيُهم مُخَيِّلَةً إليه السَّعْيَ " انتهى ] .
قال الشيخ : " قوله " إنَّها زمانية " مرجوحٌ ، وهو مذهب الرِّياشي . وقوله " الطالبةُ ناصباً " صحيحٌ . وقوله : " وجملةٌ تضاف إليها " ليس صحيحاً عند بعض أصحابنا لأنها : إمَّا أَنْ تكونَ هي خبراً لمبتدأ ، وإمَّا أَنْ تكونَ معمولةً لخبر المبتدأ . وإذا كان كذلك استحال أَنْ تُضافَ إلى الجملةِ؛ لأنها : إمَّا أَنْ تكونَ بعضَ الجملةِ ، أو معمولةً لبعضِها فلا يمكن الإِضافةُ . وقوله : " خُصَّتْ في بعض المواضع إلى آخره " قد بَيَّنَّا الناصبَ لها . وقولُه : " والجملةُ بعدها ابتدائيةٌ لا غير " هذا الحَصْرُ ليس بصحيحٍ بل قد جَوَّز الأخفشُ ، ونصَّ على أن الجملةَ الفعليةَ المقترنةَ ب " قد " تقع بعدَها نحو " خرجْتُ فإذا زيدٌ قد ضربه عمروٌ " برفعِ " زيد " ونصبِه على الاشتغال . وقوله : " والمعنى : على مفاجأته حبالُهم وعِصِيُّهم مخيِّلةً إليه السَّعْيَ " فهذا عكسُ ما قُدِّر بل المعنى : على مفاجأةِ حبالِهم وعصيِّهم إياه . فإذا قتل : " خَرَجْتُ فِإذا السَّبُعُ " فالمعنى : أنه فاجأني السَّبُعُ وهجم ظهورُه " انتهى ما رَدَّ به .
قوله وما رَدَّ به عليه غيرُ لازمٍ له ، لأنه يَرُدُّ عليه بقولِ بعض النحاةِ ، وهو لا يلتزم ذلك القولَ حتى يَرُدَّ عليه لا سيما إذا كان المشهورُ غيرَه ، ومقصودُه تفسيرُ المعنى .
وقال أبو البقاء : الفاءُ جوابُ ما حُذِف ، تقديرُه " فَأَلْقَوْا فإذا " ، ف " إذا " في هذا ظرفُ مكانٍ ، العاملُ فيه " أَلْقَوْ " . وفي هذا نظر؛ لأنَّ " أَلْقَوْا " هذا المقدَّرَ لا يَطْلُبُ جواباً حتى يقول : الفاءُ جوابُه ، بل كان ينبغي أَنْ يقولَ : الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ الفجائية على جملةٍ أخرى مقدرةٍ . وقولُه " ظرف مكانٍ " ، هذا مذهبُ المبردِ ، وظاهرُ قولِ سيبويه أيضاً ، وإن كان المشهورَ بقاؤها على الزمان . وقوله : " إن العامل فيها " فأَلْقَوا " لا يجوز لأنَّ الفاءَ تمنع من ذلك .
هذا كلامُ الشيخ ثم قال بعده : " ولأنَّ " إذا " هذه إنما هي معمولةٌ لخبرِ المبتدأ الذي هو " حبالُهم وعِصٍيُّهم " إن لم يجَعلْها هي في موضع الخبر؛ لأنه يجوزُ أن/ يكونَ الخبرُ " يُخَيَّل " ، ويجوز أَنْ تكونَ " إذا " و " يُخَيَّل " في موضعِ الحال .
(1/3290)

وهذا نظير : " خرجْتُ فإذا الأسدُ رابضٌ ورابضاً " فإذا رَفَعْتَ " رابضاً " كانت " إذا " معمولةً له ، والتقدير : فالبحضرة الأسدُ رابضٌ ، أو في المكان . وإذا نَصَبْتَ كانت " إذا " خبراً . ولذلك يُكْتفى بها وبالمرفوع بعدها كلاماً ، نحو : " خَرَجْتُ فإذا الأسدُ " .
قوله : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ } قرأ العامَّة " يُخَيَّل " بضمِّ الياء الأولى وفتحِ الثانية مبنياً للمفعول . و " أنَّها تَسْعى " مرفوعٌ بالفعلِ قبلَه لقيامِه مقامَ الفاعلِ تقديرُه : يُخَيَّل إليه سَعْيُها . وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين آخرين : أحدهما : أَنْ يكونَ القائمُ مَقامَ الفاعلِ ضميرَ الحبالِ والعِصِيِّ ، وإنما ذُكِّرَ ولم يَقُلْ ِ " تُخَيَّل " بالتاء مِنْ فوقُ؛ لأنَّ تأنيثَ الحبالِ غيرُ حقيقي . الثاني : أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ ضميرٌ يعودُ على المُلْقى ، ولذلك ذُكِّرَ . وعلى الوجهين ففي قولِه " أنها تسعى " وجهان ، أحدُهما : أنَّه بدلُ اشتمالٍ من ذلك الضمير المستترِ في " يُخَيَّل " . والثاني : أنه مصدرٌ في موضع نصبٍ على الحالِ من الضميرِ المستتر أيضاً . والمعنى : يُخَيَّل إليه هي أنها ذاتُ سَعْيٍ . ولا حاجةَ إلى هذا ، وأيضاً فقد نَصُّوا على أنَّ المصدرَ المؤول لا يقع موقعَ الحالِ . لو قلت : " جاء زيدٌ أَنْ يركضَ " تريد ركضاً ، بمعنى ذا ركض ، لم يَجُزْ .
وقرأ ابن ذكوان " تُخَيَّلُ " بالتاء من فوق . وفيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُها : أنَّ الفعلَ مُسْنَدٌ لضميرِ الحبالِ والعِصِيِّ أي : تُخَيَّلُ الحبالُ والعِصِيُّ ، و " أنَّها تَسْعَى " بدلُ اشتمال من ذلك الضميرِ . الثاني : كذلك إلاَّ أنَّ " أنَّها تَسْعى " حالٌ أي : ذات سعي كما تقدَّم تقريرُه قبل ذلك . الثالث : أن الفعلَ مسندٌ لقولِه " أنَّها تَسْعى " كقراءةِ العامَّةِ في أحدِ الأوجهِ ، وإنما أَنَّثَ الفعلَ لاكتسابِ المرفوعِ التأنيثَ بالإِضافة؛ إذا التقديرُ : تُخَيَّلُ إليه سعيُها فهو كقوله :
3302 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدمِ
[ وقوله تعالى : ] { فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] .
وقرأ أبو السَّمَّال " تَخَيَّلُ " بفتح التاءِ والياء مبنياً للفاعلِ ، والأصلُ : تَتَخَيَّلُ فَحَذَفَ إحدى التاءَيْن نحو : { تَنَزَّلُ الملائكة } [ القدر : 4 ] ، و " أنَّها تسعى " بدلُ اشتمالٍ أيضاً من ذلك الضمير . وجَوَّز ابنُ عطيةَ أيضاً أنه مفعولٌ مِنْ أجله . ونقل ابنُ جُبارة الهُذَليُّ قراءة أبي السمَّال " تُخَيِّل " بضمِّ التاء مِنْ فوقُ وكسر الياء ، فالفعلُ مسندٌ لضميرِ الحِبال ، و " أنها تسعى " مفعولٌ أي : تُخَيِّلُ الحبالُ سَعْيَها . ونَسَبَ ابنُ عطيةَ هذه القراءةَ للحسنِ وعيسى الثقفيِّ .
(1/3291)

وقرأ أبو حيوةَ " نُخَيِّل " بنونِ العظمة ، و " أنها تسعى " مفعولٌ به أيضاً على هذه القراءةِ .
وقرأ الحسنُ والثقفيُّ " عُصِيُّهم " بضم العين حيث وقع ، وهو الأصلُ . وإنما كُسِرَت العينُ إتباعاً للصادِ وكُسِرت الصادُ إتباعاً للياء . والأصلُ عُصُوْوٌ بواوين فَأُعِلَّ كما ترى بقَلْب الواوين ياءَيْن استثقالاً لهما ، فكُسِرَت الصادُ لتصِحَّ ، وكُسِرَتِ العينُ إتباعاً . ونقل صاحبُ " اللوامح " أنَّ قراءةَ الحسنِ " عُصْيهُم " بضم العين وسكون الصاد وتخفيف الياء مع الرفع ، وهو أيضاً جمع كالعامَّة ، إلاَّ أنه على فُعْلٍ كحُمْرٍ ، والأولُ على فُعُوْل كفُلُوس .
والجملةُ من " يُخَيَّل " يُحتمل أَنْ تكونَ في محلِّ رفع خبراً ل " هي " على أن " إذا الفجائية " فَضْلَةٌ ، وأن تكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ ، على أنَّ " إذا " الفجائية هي الخبر . والضميرُ في " إليه " الظاهرُ عَوْدُه على موسى . وقيل : يعود على فرعون ، ويَدُلُّ للأولِ قولُه تعالى : { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى } .
(1/3292)

وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)
قوله : { تَلْقَفْ } : قرأ العَامَّةُ بفتح اللام وتشديد القافِ وجزمِ الفاءِ على جواب الأمر . وقد تقدم أنَّ حَفْصاً يقرأ " تَلْقَفْ " بسكون اللامِ وتخفيفِ القاف . وقرأ ابن ذكوان هنا " تَلْقَفُ " بالرفع : إمَّا على الحالِ ، وإمَّا على الاستئناف . وأَنَّثَ الفعلَ في " تَلْقَف " حَمْلاً على معنى " ما " لأنَّ معناها العصا ، ولو ذُكِّر ذهاباً إلى لفظِها لجاز ، ولم يُقرأ به .
[ وقال أبو البقاء : " يجوز أَنْ يكونَ فاعلُ " تَلْقَف " ضميرَ موسى " فعلى هذا يجوز أَنْ يكونَ " تلقفُ " في قراءة الرفع حالاً من " موسى " . وفيه بُعْدٌ ] .
قوله : { كَيْدُ سَاحِرٍ } العامَّةُ على رَفْع " كَيْدُ " على أنه خبرُ " إنَّ " و " ما " موصولةٌ . و " صَنَعُوا " صلَتُها ، والعائدُ محذوفٌ ، والموصولُ هو الاسمُ ، والتقدير : إنَّ الذي صنعوه كيدُ ساحرٍ . ويجوز أَنْ تكونَ " ما " مصدريةً فلا حاجةَ إلى العائد ، والإِعرابُ بحالِه . والتقدير : إنَّ صُنْعَهم كيدُ ساحرٍ .
وقرأ مجاهد وحميد وزيد بن على " كَيْدَ " بالنصب على أنه مفعولٌ به ، و " ما " مزيدة مُهَيِّئَةٌ .
وقرأ الأخَوان " كيدُ سِحْر " على أنَّ المعنى : كيدُ ذوي سِحْرٍ ، أو جُعِلوا نفسَ السحر مبالغةً ، أو تبيينٌ للكيد؛ لأنه يكون سِحْراً وغيرَ سحرٍ ، كما تُمَيَّزُ سائرُ الأعدادِ بما يُفَسِّرها نحو " مئة درهمٍ ، وألف دينار " . ومثلُه : علمُ فقه ، وعلمُ نحو . وقال أبو البقاء : " كيدُ ساحر " إضافةُ المصدر إلى الفاعلِ و " كيدُ سِحْر " إضافةُ الجنسِ إلى النوع " .
والباقون " ساحر " . وأفرد/ ساحراً ، وإنْ كان المرادُ به جماعةً . قال الزمخشري : " لأن القَصْدَ في هذا الكلامِ إلى معنى الجنسية ، لا إلى معنى العددِ ، فلو جمِع لخُيِّل أنَّ المقصودَ هو العددُ " .
(1/3293)

قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71)
قوله : { فَلأُقَطِّعَنَّ } : قد تقدَّم نحوُ ذلك . و " مِنْ خِلافٍ " حالٌ أي : مختلفة . و " مِنْ " لابتداءِ الغاية ، وقد تقدَّم أيضاً تحريرُ هذا وما قُرِىء به هناك .
قوله : { فِي جُذُوعِ النخل } يُحتمل أن يكونَ حقيقةً ، وفي التفسير : أنه نَقَرَ جذوعَ النخلِ حتى جَوَّفَها ، ووضعهم فيها ، فماتوا جوعاً وَعَطَشاً ، وأن يكونَ مجازاً ، وله وجهان ، أحدهما : أنه وضعَ حرفاً مكانَ آخر . والأصلُ : على جذُوع النخل كقول الآخر :
3303 بَطَلٌ كأنَّ ثيابَه في سَرْحَةٍ ... يحذى نِعالَ السَّبْتِ ليس بتوءَمِ
والثاني : أنه شَبَّه تمكُّنَهم بتمكُّنِ مَنْ حواه الجِذْعُ واشتمل عليه . ومِنْ تَعَدِّي " صَلَب " ب " في " قولُه :
3304 وقد صَلَبُوا العَبْدِيَّ في جِذْعِ نَخْلَةٍ ... فلا عَطَسَتْ شَيْبانُ إلاَّ بأَجْدَعا
قوله : { أَيُّنَآ أَشَدُّ } مبتدأٌ وخبرٌ . وهذه الجملةٌ سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْنِ إنْ كانت " عَلِمَ " على بابها ، ومَسَدَّ واحدٍ إنْ كانَتْ عِرْفانيةً . ويجوز على جَعْلِها عِرفانيةً أن تكونَ " أيُّنا " موصولةً بمعنى الذي ، وبُنِيَتْ لأنه قد أُضِيفَتْ ، وحُذِفَ صدرُ صلتِها ، و " أشَدُّ " خبرُ مبتدأ محذوفٍ . والجملةُ من ذلك المبتدأ وهذا الخبرِ صلةٌ ل " أيّ " و " أيّ " وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ مفعولاً بها ، كقوله تعالى : { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن } [ مريم : 69 ] في أحدِ أوجهِه كما تقدم .
(1/3294)

قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)
قوله : { والذي فَطَرَنَا } : فيه وجهان ، أحدهما : أن الواوَ عاطفةٌ ، عَطَفَتْ هذا الموصولَ على " ما جاءنا " أي : لن نؤثرَك على الذي جاءنا ، ولا على الذي فطرنا . وإنما أخَّروا ذِكْرَ البارِيْ تعالى لأنه من باب الترقِّي من الأدنى إلى الأعلى . والثاني : أنها واوُ قسمٍ ، والموصولُ مقسمٌ به . وجوابُ القسمِ محذوفٌ أي : وحَقِّ الذي فطرنا لا نؤثرك على الحق . ولا يجوز أن يكونَ الجوابُ " لن نُؤْثرك " عند مَنْ يَجَوِّزُ تقديمَ الجواب؛ لأنه لا يُجاب القسمُ ب " لن " إلاَّ في شذوذٍ من الكلام .
قوله : { مَآ أَنتَ قَاضٍ } يجوز في " ما " وجهان ، أظهرُهما : أنها موصولةٌ بمعنى الذي ، و " أنت قاضٍ " صلتُها والعائدُ محذوفٌ ، اي : قاضِيه . وجاز حَذْفُه ، وإنْ كان مخفوضاً ، لأنه منصوب المحل . أي : فاقضِ الذي أنت قاضِيْه . والثاني : أنها مصدريةٌ ظرفيةٌ ، والتقدير : فاقضِ أمرك مدةَ ما أنتَ قاضٍ . ذكر ذلك أبو البقاء . وقد منع بعضُهم ذلك أعني جَعْلَها مصدريةً قال : لأنَّ : " ما " المصدريةَ لا تُوْصَلُ بالجملة الاسمية . وهذا المَنْعُ ليس مجمعاً عليه ، بل جَوَّز ذلك جماعةٌ كثيرة . ونقل ابنُ مالك أنَّ ذلك يَكْثُر إذا دَلَّتْ " ما " على الظرفية . وأنشد :
3305 واصِلْ خليلَك ما التواصُلُ مُمْكِنٌ ... فَلأَنْتَ أَوْ هُوَ عن قليلٍ ذاهِبُ
وَيِقلُّ إنْ كانت غيرَ ظرفية . وأنشد :
3306 أحْلامُكُمْ لِسَقَامِ الجَهْلِ شافيةٌ ... كما دِماؤُكُمُ تَشْفي مِن الكَلَبِ
قوله : { إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة } يجوز في " ما " هذه وجهان ، أحدهما : أن تكونَ المهيئةَ لدخول " إنَّ " على الفعل و " الحياةَ الدنيا " ظرفٌ ل " تَقضي " ، ومفعولُه محذوفٌ أي : تقضي غرضَك وأمرَك . ويجوز أن تكونَ " الحياةَ " مفعولاً به على الاتساع ، ويدلُّ لذلك قراءةُ أبي حيوة " تقضى هذه الحياةُ " ببناء الفعلِ للمفعول ورَفْعِ " الحياة " لقيامها مقام الفاعلِ؛ وذلك أنه اتُّسِع فيه فقام مقامَ الفاعلِ فرُفِعَ .
والثاني : أن تكونَ " ما " مصدريةً هي اسمُ " إنَّ " ، والخبرُ الظرفُ . والتقدير : إنَّ قضاءَكَ في هذه الحياةِ الدنيا ، يعني : إن لك الدنيا فقط ، ولنا الآخرةَ .
وقال أبو البقاء : " فإنْ كان قد قُرِيء بالرفع فهو خبرُ إنَّ " . يعني لو قرىء برفعِ " الحياة " لكان خبراً ل " إنَّ " ويكون اسمُها حينئذٍ " ما " ، وهي موصولةٌ بمعنى الذي ، وعائدُها محذوفٌ تقديره : إنَّ تَقْضِيه هذه الحياةُ لا غيرُها .
(1/3295)

إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
قوله : { وَمَآ أَكْرَهْتَنَا } : يجوز في " ما " هذه وجهان ، أحدهما : أنها موصولةٌ بمعنى الذي . وفي محلها احتمالان ، أحدهما : أنها منصوبةُ المحلِّ نَسَقاً على " خطايانا " اي : ليغفر لنا أيضاً الذي أكرهتنا . والثاني من الاحتمالين : أنها مرفوعةُ المحلِّ على الابتداء والخبرُ محذوفٌ تقديرُه : والذي أكرَهْتَنا عليه مِنَ السحر محطوطٌ عنا ، أو لا نؤاخَذُ به ونحوُه .
والوجه الثاني : أنها نافيةٌ . قال أبو البقاء : " وفي الكلامِ تقديمٌ ، تقديرُه : ليغفر لنا خطايانا من/ السِّحرِ ، ولم تُكْرِهْنا عليه " وهذا بعيدٌ عن المعنى . والظاهرُ هو الأولُ .
و " من السحرِ " يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من الهاءِ في " عليه " أو من الموصولِ . ويجوزُ أن تكونَ لبيانِ الجنسِ .
(1/3296)

إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74)
قوله : { إِنَّهُ مَن يَأْتِ } : الهاءُ ضميرُ الشأنِ . والجملةُ الشرطيةُ خبرُها . و " مُجْرِماً " حالٌ مِنْ فاعلِ " يأْتِ " . وقولُه : { لاَ يَمُوتُ } يجوز أن يكونَ حالاً مِنَ الهاءِ في " له " وأَنْ يكونَ حالاً من " جهنَّم "؛ لأنَّ في الجملة ضميرَ كلٍ منهما .
(1/3297)

جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
[ قوله : { جَنَّاتُ } : بدلٌ من " الدرجات " أو بيانٌ ] . قال أبو البقاء : " ولا يجوزُ أن يكونَ التقديرُ : هي جناتُ؛ لأن " خالدين " حالٌ . وعلى هذا التقديرِ لا يكونُ في الكلام ما يعملُ في الثاني ، وعلى الأولِ يكونُ العاملُ في الحال الاستقرارَ أو معنى الإِشارة " .
(1/3298)

وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77)
قوله : { طَرِيقاً } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنه مفعولٌ به؛ وذلك على سبيلِ المجاز : وهو أنَّ الطريقَ مُتَسَبِّبٌ عن ضَرْب البحرِ ، إذ المعنى : اضربْ البحرَ لينغلقَ لهم فيصيرَ طريقاً ، فبهذا صَحَّ نسبةُ الضربِ إلى الطريق . وقيل : " ضرب " هنا بمعنى جَعَلَ أي : اجعل لهم طريقاً وأَشْرِعْه فيه . والثاني : أنه منصوبٌ على الظرفِ . قال أبو البقاء : " التقدير : موضعَ طريقٍ ، فهو مفعولٌ به على الظاهر . ونظيرُه قولُه { أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر } [ الشعراء : 63 ] وهو مثلُ " ضربْتُ زيداً " . وقيل : " ضرب " هنا بمعنى " جعل " و " شرع " مثلَ قولهم : ضربْتُ له بسَهْم " انتهى . فقولُه على الظاهر يعني أنه لولا التأويلُ لكان ظرفاً .
قوله : { يَبَساً } صفةٌ ل " طريقاً " وصَفَه به لِما يَؤُول إليه؛ لأنه لم يكنْ يَبَساً بعدُ ، إنما مرَّت عليه الصَّبا فجفَّفَتْه ، كما يروى في التفسيرِ . وهل في الأصل مصدرٌ وُصِفَ به مبالغةً ، أو على حذفِ مضافٍ أو جمع يابس كخادم وخَدَم ، وُصِف به الواحدُ مبالغةً كقولِه :
3307 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . ومِعَىً جِياعاً
أي : كجماعةٍ جِياع ، وَصَفَ به لفَرْط جوعه؟
وقرأ الحسنُ " يَبْساً " بالسكونِ . وهو مصدرٌ أيضاً . وقيل : المفتوحُ اسمٌ ، والساكنُ مصدرٌ . وقرأ أبو حيوة " يابساً " اسمُ فاعل .
قوله : { لاَّ تَخَافُ } العامَّةُ على " لا تَخاف " مرفوعاً ، وفيه أوجهٌ ، أحدها : أنه مستأنفٌ فلا محلَّ له من الإِعراب . الثاني : أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل " اضرِبْ " أي : اضرب غيرَ خائفٍ . والثالث : أنه صفةٌ ل " طريقاً " ، والعائدُ محذوفٌ أي لا تخافُ فيه .
[ وقرأ ] حمزةُ وحدَه من السبعة " لا تَخَفْ " بالجزم على النهي . وفيه أوجهٌ ، أحدُها : أن يكونَ نَهْياً مستأنِفاً . الثاني : أنه نهيٌ أيضاً في محلِّ نصب على الحال من فاعل " اضرِبْ " أو صفةٌ لطريقاً ، كما تقدَّم في قراءةِ العامَّةِ ، إلاَّ أن ذلك يحتاج إلى إضمار قول أي : مقولاً لك ، أو طريقاً مقولاً فيها : لا تخف . كقوله :
3308 جاؤوا بمَذْقٍ هل رَأَيْتَ الذئبَ قَطّ ... الثالث : مجزومٌ على جوابِ الأمر أي : إن تضربْ طريقاً يَبَساً لا تَخَفْ .
قوله : { وَلاَ تخشى } لم يُقْرأ إلاَّ ثابتَ الألفِ . وكان مِنْ حَقِّ مَنْ قرأ " لا تَخَفْ " جزماً أن يَقْرأ " لا تَخْشَ " بحذفِها ، كذا قال بعضُهم . وليس بشيءٍ لأنَّ القراءةَ سُنَّةٌ . وفيها أوجه أحدها : أن تكونَ حالاً . وفيه إشكالٌ : وهو أنَّ المضارعَ المنفيَّ ب " لا " كالمُثْبَتِ في عدمِ مباشرةِ الواو له . وتأويلُه على حذف مبتدأ أي : وأنت لا تخشى كقولِه :
3309 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... نَجَوْتُ وأَرْهَنُهم مالِكا
والثاني : أنه مستأنفٌ . أخبره تعالى أنه لا يَحْصُل له خوفٌ .
(1/3299)

والثالث : أنه مجزومٌ بحذفِ الحركةِ تقديراً كقولِه :
3310 إذا العَجوْزُ غَضِبَتْ فَطَلِّقِ ... ولا تَرَضَّاها ولا تَمَلَّقِ
وقولِ الآخر :
3311 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... كَأَنْ لم تَرَى قبلي أسيراً يمانيا
ومنه { فَلاَ تنسى } [ الأعلى : 6 ] في أحد القولين ، إجراءً لحرفِ العلة مُجْرى الحرفِ الصحيح . وقد تقدَّم لك من هذا جملةٌ صالحة في سورةِ يوسف عند { مَن يَتَّقِ } [ الآية : 90 ] . والرابع : أنه مجزومٌ أيضاً بحذفِ حرفِ العلةِ . وهذه الألفُ ليسَتْ تلك ، أعني لامَ الكلمة ، إنما هي ألفُ إشباع أُتِيَ بها موافقةً للفواصلِ ورؤوسِ الآي ، فهي كالألفِ في قولِه : { الرسولا } [ الأحزاب : 66 ] و { السبيلا } [ الأحزاب : 67 ] و { الظنونا } [ الأحزاب : 10 ] وهذه الأوجهُ إنما يحتاجُ إليها في قراءةِ جزمِ " لا تَخَفْ " . وأمَّا من قرأه مرفوعاً فهذا معطوفٌ عليه .
وقرأ أبو حيوة " دَرْكاً " بسكون الراء . والدَّرَك والدَّرْك [ اسمان ] من الإِدراك أي : لا يُدركك فرعونُ وجنوده . وقد تقدَّم الكلامُ عليهما في سورة النساء ، وإنَّ الكوفيين قرؤوه بالسكونِ كأبي حيوةَ هنا .
(1/3300)

فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)
قوله : { بِجُنُودِهِ } : فيه أوجهٌ : أحدها : أن تكونَ الباءُ للحالِ : وذلك على أنَّ " أَتْبَعَ " متعدٍّ لاثنين حُذف ثانيهما . والتقدير : فَأَتْبَعهم فرعونُ عقابهُ . وقدَّره الشيخ : " رُؤَساءه وحَشَمه " والأول أحسن . والثاني : أنَّ الباءَ زائدةٌ في المفعولِ الثاني . والتقدير : فَأَتْبَعهم فرعونُ جنودَه فهو كقوله تعالى : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] [ وقولِ الشاعر ] :
3312 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . لا يَقْرَأْن بالسُّوَرِ
وأتبع قد جاء متعدِّياً لاثنين مُصَرَّحٍ بهما قال : " وَأَتْبَعْنَاهُم . . . . " . والثالث : أنها مُعَدِّيَةٌ على أنَّ " أَتْبَعَ " قد يتعدَّى لواحدٍ بمعنى مع ، ويجوزُ على هذا الوجه أن تكونَ الباءُ للحالِ أيضاً ، بل هو الأظهرُ .
وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ والحسنُ " فاتَّبَعَهُمْ " بالتشديد ، وكذلك قراءة الحسن في جميع القرآن/ إلاَّ في قولِه : { فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [ الصافات : 10 ] .
قوله : { مَا غَشِيَهُمْ } فاعلُ " غَشِيَهم " ، وهذا من باب الاختصار وجوامعِ الكَلِمِ التي يَقِلُّ لفظُها ويكثُر معناها أي : فغشِيَهم ما لا يَعْلم كُنْهَه إلاَّ اللهُ تعَالى . وقرأ الأعمش : " فَغَشَّاهم " مضعَّفاً . وفي الفاعل حينئذٍ ثلاثةُ أوجه ، أحدها : أنه " ما غَشَّاهم " كالقراءةِ قبله . أي : غَطَّاهم من اليَمِّ ما غَطَّاهم . والثاني : هو ضميرُ الباري تعالى أي : فَغَشَّاهم اللهُ . والثالث : هو ضميرُ فرعونَ لأنه السببُ في إهْلاكهم . وعلى هذين الوجهين ف " ما غَشَّاهم " في محلِّ نصبٍ مفعولاً ثانياً .
(1/3301)

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80)
قوله : { قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ } : قرأ الأخَوان " قد أَنْجَيْتُكم " و " واعَدْتُكم " و { رَزَقْتُكم } بتاءِ المتكلم . والباقون " أَنْجَيْناكم " و " رَزَقْناكم " و " واعَدْناكم " بنونِ العظمة . واتفقوا على " ونَزَّلْنا " . وتقدَّم خلافُ أبي عمرو في " وَعَدْنا " في البقرة . وقرأ حميد " نَجَّيْناكم " بالتشديد .
وقُرِىء " الأَيْمَنِ " بالجرِّ . قال الزمخشري : " خَفْضٌ على الجِوارِ ، كقولِهِم : " جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ " وجعله الشيخ شاذاً ضعيفاً . وخَرَّجه على أنه نعتٌ للطُّور قال : " وُصِفَ بذلك لما فيه من اليُمْن ، أو لكونِه على يمين مَنْ يستقبلُ الجَبَلَ " .
و " جانبَ " مفعولٌ ثانٍ على حَذْفِ مضاف أي : إتيانَ جانبِ . ولا يجوزُ أن يكونَ المفعولُ الثاني محذوفاً . و " جانب " ظرف للوعد . والتقدير : وواعَدْناكم التوراةَ في هذا المكانِ؛ لأنه ظرفُ مكانٍ مختصّ ، لا يَصِلُ إليه الفعلُ بنفسِه ولو قيل : إنه تُوُسِّعَ في هذا الظرفِ فجُعِل مفعولاً به أي : جُعل نفسَ الموعود نحو : " سِيْر عليه فرسخان وبريدان " لجاز .
(1/3302)

كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81)
قوله : { فَيَحِلُّ } : قرأ العامة " فيحِلُّ " بكسر الحاء ، واللام من " يَحْلِلْ " . والكسائيُّ في آخرين بضمِّهما ، وابن عتيبة وافق العامَّةَ في الحاء ، والكسائيَّ في اللام . فقراءةُ العامَّةِ مِنْ حَلَّ عليه كذا أي : وَجَبَ ، مِنْ حَلَّ الدَّيْنُ يَحِلُّ أي : وَجَبَ قضاؤُه . ومنه قولُه : { حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ } [ البقرة : 196 ] ومنه أيضاً { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } [ الزمر : 40 ] . وقراءةُ الكسائي مِنْ حَلَّ يَحُلُّ أي : نَزَل ، ومنه { أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ } [ الرعد : 31 ] .
والمشهورُ أنَّ فاعلَ " يَحلُّ " في القراءتين هو " غضبي " . وقال صاحب " اللوامح " : " إنه مفعولٌ به ، وإنَّ الفاعلَ تُرِك لشُهْرَته ، والتقدير : فيحِلُّ عليكم طُغْيانُكم غضبي ، ودَلَّ عليه " ولا تَطْغَوا " . ولا يجوز أن يُسْند إلى " غضبي " فيصيرَ في موضعِ رفعٍ بفعله " . ثم قال : " وقد يُحْذَفُ المفعولُ للدليلِ عليه ، وهو " العذابَ " ونحوه " . قلت : فعنده أنَّ حَلَّ متعدٍّ بنفسِه لأنه من الإِحلال كما صَرَّح هو به . وإذا كان من الإِحْلال تعدى لواحدٍ ، وذلك المتعدى إليه : إمَّا " غضبي " ، على أنَّ الفاعلَ ضميرٌ عائدٌ على الطغيانِ ، كما قَدَّره ، وإمَّا محذوفٌ ، والفاعل " غضبي " . وفي عبارته قَلَقٌ .
وقرأ طلحة " لا يَحِلَّنَّ عليكم " ب " لا " الناهيةِ وكسرِ الحاء ، وفتحِ اللامِ مِنْ يَحِلَّنَّ ، ونونِ التوكيد المشددة أي : لا تتعرَّضوا للطُغْيان فيحقَّ عليكم غضبي ، وهو من باب " لا أُرَيَنَّك ههنا " .
وقرأ زيدُ بن علي " ولا تَطْغُوا " بضم الغين مِنْ طغا يَطْغُوا ، كغَدا يَغْدو .
وقوله : { فَيَحِلَّ } يجوز أن يكونَ مجزوماً عطفاً على " لا تَطْغَوا " كذا قال أبو البقاء ، وفيه نظر؛ إذ المعنى ليس على نَهْيَ الغضبِ أن يَحِلَّ بهم . والثاني : أنَّه منصوبٌ بإضمارِ ِ " أَنْ " في الجواب . وهو واضحٌ .
(1/3303)

وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83)
قوله : { وَمَآ أَعْجَلَكَ } : مبتدأٌ وخبرٌ و " ما " استفهاميةٌ عن سببِ التقدُّم على قومِه . قال الزمخشري : " فإن قلت : " ما أَعْجلك " سؤالٌ عن سببِ العَجَلة ، فكان الذي ينطبقُ عليه من الجواب أَنْ يُقَالَ : طَلَبُ زيادةِ رضاك والشوقِ إلى كلامِك وتَنَجُّزِ مَوْعِدك . وقوله : { هُمْ أولاء على أَثَرِي } كما ترى غيرُ منطبقٍ عليه . قلت : قد تَضَمَّنَ ما واجَهَه به رَبُّ العزةِ شيئين ، أحدهما : إنكارُ العَجَلة في نفسها . والثاني : السؤالُ عن سببِ المُسْتَنْكَر والحاملِ عليه ، فكان أهمُّ الأمرَيْن إلى موسى بَسْطَ العُذْرِ وتمهيدَ العلةِ في نفس ما أَنْكر عليه ، فاعتَلَّ بأنه لم يوجَدْ مني إلاَّ تقدُّمٌ يسيرٌ ، مثلُه لا يُعْتَدُّ به في العادةِ ولا يُحتفل به ، وليس بيني وبين مَنْ سبقتُه إلاَّ مسافةٌ قريبةٌ ، يتقدَّمُ بمثلِها الوفدَ رأسُهم ومقدمتُهم . ثم عَقَّبه بجوابِ السؤالِ عن السبب فقال : { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى } .
(1/3304)

قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)
قوله : { هُمْ أولاء على أَثَرِي } : كقوله : { ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ } [ البقرة : 85 ] و " على أَثَري " يجوز أن يكونَ خبراً ثانياً ، وأن يكون حالاً .
وقرأ الجمهور " اُوْلاء " بهمزةٍ مكسورة . والحسن وابن معاذ بياء مكسورة ، أبدال الهمزةَ ياءً تخفيفاً . وابن وثاب " أُوْلاَ " بالقصرِ دونَ همزةٍ . وقرأَتْ طائفةٌ " أولايَ " بياءٍ مفتوحةٍ ، وهي قريبةٌ من الغَلَط .
والجمهورُ على أَثَري " بفتح الهمزة ، والياء . وأبو عمروٍ في روايةِ عبد الوارث وزيدُ بن علي " إثْري " بكسر الهمزةِ وسكونِ الياء . وعيسى بضمِّها وسكون الياء ، وحكاها الكسائيُّ لغةً .
(1/3305)

قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85)
قوله : { وَأَضَلَّهُمُ } : العامَّةُ على أنَّه فعلٌ ماضٍ مسندٌ إلى السامريّ . وقرأ أبو معاذ في آخرين " وأَضَلُّهم " مرفوعاً بالابتداءِ ، وهو أفعلُ تفضيلٍ . و " السامريُّ " خبره .
(1/3306)

فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)
قوله : { غَضْبَانَ أَسِفاً } : حالان . وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في سورة الأعراف .
قوله : { وَعْداً حَسَناً } / يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً مؤكداً ، والمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُه : يَعِدُكم بالكتاب وبالهداية ، أو يُترك المفعولُ الثاني ليعُمَّ . ويجوز أن يكونَ الوعدُ بمعنى الموعود فيكونَ هو المفعولَ الثاني .
قوله : { مَّوْعِدِي } مصدرٌ . ويجوز أَنْ يكونَ مضافاً لفاعلِه بمعنى : أَوَجَدْتُموني أخلَفْتُكم ما وعدْتُكم . وأن يكونَ مضافاً لمفعوله ، بمعنى : أنهم وَعَدُوْه أن يتمسَّكوا بدينه وشيعته .
(1/3307)

قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)
قوله : { بِمَلْكِنَا } : قرأ الأخَوان بضم الميم . ونافع وعاصم بفتحها ، والباقون بكسرها : فقيل : لغاتٌ بمعنى واحدٍ كالنَّقْض والنِّقْضِ . ومعناها : القُدْرَةُ والتسلُّطُ . وفرَّق الفارسيُّ وغيرُه بينها فقال : " المضمومُ معناه : لم يكنْ [ لنا ] مُلْكٌ فَنُخْلِفَ موعدَك بسُلْطَانِه ، وإنما فَعَلْناه بنظرٍ واجتهادٍ ، فالمعنى على : أَنْ ليس لهم مُلْكٌ .
كقول ذي الرمة :
3313 لا تُشْتكى سَقْطَةٌ منها وقد رَقَصَتْ ... بها المفاوِزُ حتى ظهرُها حَدِبُ
أي : لا يقع منها سَقْطَةٌ فتشتكى " . وفتحُ الميمِ مصدرٌ مِنْ مَلَكَ أمرَه . والمعنى : ما فعلناه بأنَّا مَلَكْنا الصوابَ ، بل غَلَبَتْنا أنفسُنا . وكسرُ الميمِ كَثُر فيما تَحُوْزه اليدُ وتحويه ، ولكنه يُسْتعمل في الأمورِ التي يُبْرِمُها الإِنسانُ ومعناها كمعنى التي قبلها . والمصدرُ في هذين الوجهين مضافٌ لفاعلِه ، والمفعولُ محذوفٌ أي : بملكِنا الصوابَ .
قوله : { حُمِّلْنَآ } قرأ نافعٌ وابنُ كثير وابنُ عامر وحفصٌ بضم الحاء وكسر الميم مشددة . وأبو جعفرٍ كذلك إلاَّ أنه خَفَّف الميم ، والباقون بفتحِهما خفيفةَ الميمِ . فالقراءةُ الأولى والثانية نَسَبوا فيهما الفعلَ إلى غيرِهم ، وفي الثالثةِ نَسَبُوه إلى أنفسهم .
و { أَوْزَاراً } مفعولٌ ثانٍ على غيرِ القراءة الثالثة . و { مِّن زِينَةِ } يجوز أَنْ يكونَ متعلقاً ب " حُمِّلْنا " ، وأن يكونَ متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل " أَوْزار " .
وقوله : { فَكَذَلِكَ } نعتٌ لمصدرٍ ، أو حالٌ من ضميره عند سيبويه أي : إلقاءً مثلَ إلقائِنا ألقى السامريُّ .
(1/3308)

أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
قوله : { أَلاَّ يَرْجِعُ } : العامَّةُ على " يرجعُ " لأنها المخففةُ من الثقيلة . ويدلُّ على ذلك وقوعُ أصلِها وهو المشدَّدةُ في قوله : { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ } [ الأعراف : 148 ] .
وقرأ أبو حيوةَ والشافعيُّ وأبانُ بنصبه . جعلوها الناصبةَ . والرؤيةُ على الأولى يقينيةُ ، وعلى الثانية بَصَريةٌ . وقد تقدَّم تحقيقُ هذين القولين في سورة المائدة .
والسامريُّ : منسوبٌ لقبيلةٍ يُقال لها : سامرة .
وقرأ الأعمشُ " فنسْي " بسكون السين وهي لغةٌ فصيحةٌ . والضميرُ في " نسي " يجوز أن يعود على السامِرِيِّ ، وعلى هذا فهو مِنْ كلامِ اللهِ تعالى ، ويجوز أن يعودَ على موسى صلَّى الله عليه وسلَّم . وعلى هذا فهو من كلامِ السامريِّ أي : نَسِي إلهَه . والقولان منقولان لأهل التفسير .
(1/3309)

وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90)
وقرأ العامَّةُ : " إنما فُتِنْتُم " و " إنَّ ربَّكم الرحمنُ " بالكسر فيهما ، لأنهما بعد القول لا بمعنى الظن . وقرأت فرقة بفتحِهما وخُرِِّجت على لغة سُلَيْم : وهو أنهم يفتحون " أنَّ " بعد القول مطلقاً . وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ ، والحسن وعيسى بن عمر بفتح " أنَّ ربَّكم " فقط . وخُرِّجَتْ على وجهين ، أحدهما : أنها وما بعدها بتأويل مصدرٍ في محل رفع خبراً لمبتدأ محذوف تقديرُه : والأمرُ أَنْ ربَّكم الرحمنُ فهو مِنْ عطفِ الجملِ لا مِنْ عطفِ المفرداتِ . والثاني : أنها مجرورةٌ بحرفٍ مقدَّرٍ ِأي : لأنَّ ربَّكم الرحمنُ فاتَّبعوني . وقد تقدَّم القولُ في نظيرِ ذلك بالنسبة إلى هذه الفاء .
(1/3310)

قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92)
و " إذْ " منصوبٌ ب " مَنَعَك " أي : أيُّ شيءٍ مَنَعَك وقتَ ضلالِهم؟
(1/3311)

أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93)
و " لا " فيها قولان . أحدُهما : أنها مزيدةٌ . أي ما منعك مِنْ أَنْ تَتَّبِعَني . والثاني : أنها دَخَلَتْ حَمْلاً على المعنى ، إذ المعنى : ما حملك على أن لا تتبعَني ، وما دعاك إلى أَنْ تَتَّبِعَني؟ ذكره علي بن عيسى . وقد تقدَّم تحقيقُ هذين القولين بحمدِ الله في أول الأعراف .
(1/3312)

قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
وتَقَدَّم الكلامُ والقراءةُ في " يا بنَ أُمَّ " .
والجمهورُ على كسرِ اللامِ من اللِّحْيةِ وهي الفصحى . وفيها الفتح . وبه قرأ عيسى بن سليمان الحجازي . والفتحُ لغة الحجاز . ويجمع على لِحَى كقِرَب . ونُقل فيها الضمُّ ، كما قالوا : صِوَر بالكسر ، وحقُّها الضمُّ . والباء في " بلِحْيَتي " ليست زائدةً : إمَّا لأنَّ المعنى : لا يكنْ منك أَخْذٌ ، وإمَّا لأنَّ المفعولَ محذوفٌ أي : لا تَأْخُذْني . ومَنْ زعم زيادتَها كهي في { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ } [ البقرة : 195 ] فقد تَعَسَّف .
قوله : { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } هذه الجملةُ محلُّها النصبُ نَسَقاً [ على ] { فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ } أي : أن تقولَ : فَرَّقْتَ بينهم ، وأَنْ تقولَ : لم تَرْقُبْ قولي أي : لم . . . .
وقرأ أبو جعفر " تُرْقِبْ " بضمِّ حرفِ المضارعةِ مِنْ أَرْقَبَ .
(1/3313)

قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95)
قوله : { فَمَا خَطْبُكَ } مبتدأٌ وخبر . والخَطْبُ تقدَّم الكلامُ عليه في يوسف . وقال ابن عطية هنا : / " إنه يقتضي انتهاراً كأنه قال : ما نَحْسُك وما شؤمك "؟ وردَّ عليه الشيخ بقوله تعالى : { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون } [ الحجر : 57 ] .
(1/3314)

قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
قوله : { بَصُرْتُ } : يقال : بَصُرَ بالشيءِ أي عَلِمه ، وأبصرَه . أي : نظر إليه . كذا قاله الزجاج . وقال غيره : " بَصْرَ به وأبصره بمعنى علم " .
والعامَّةُ على ضم الصاد في الماضي ومضارعِه . وقرأ الأعمش وأبو السَّمَّال " بَصِرْتُ " بالكسر ، يَبْصَروا بالفتح وهي لغة . وعمرُو بن عبيد بالبناء للمفعول في الفعلين أي : أُعْلِمْتُ بما لم يُعْلَموا به .
وقرأ الأخَوان " تَبْصُروا " خطاباً لموسى وقومه أو تعظيماً له كقوله : { إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء } [ الطلاق : 1 ] و [ قوله ] :
3314 . . . . . . . حَرَّمْتُ النساءَ سواكُمُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والباقون بالغَيْبة عن قومه .
والعامَّةُ على فتحِ القافِ من " قَبْضَة " وهي المرَّةُ من قَبَضَ . قال الزمخشري : " وأمَّا القَبْضَةُ فالمَرَّةُ من القَبْض ، وإطلاقُها على المقبوضِ مِنْ تسمية المفعولِ بالمصدر " قلت : والنحاة يقولون : إن المصدرَ الواقعَ كذلك لا يُؤَنَّثُ بالتاء تقول : هذه حُلَّةٌ نَسْجُ اليمن " ولا تقول : نَسْجَةُ اليمن . ويعترضون بهذه الآية ، ثم يُجيبون بأنَّ الممنوعَ إما هو التاءُ الدالةُ على التحديدِ لا على مجرد التأنيث . وهذه التاءُ دالَّةٌ على مجردِ التأنيث ، وكذلك قوله : { والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ } [ الزمر : 67 ] .
وقرأ الحسن " قُبْضَة " بضم القاف وهي كالغُرْفَة والمُضْغة في معنى المَغْروف والمقبوض . ورُوي عنه " قُبْصَة " بالصاد المهملة . والقَبْضُ بالمعجمة بجميع الكفِّ ، وبالمهملة بأطرافِ الأصابع . وله نظائر كالخَضْمِ وهو الأكلُ بجميع الفمِ ، والقَضْمِ بمقدَّمِه . والقَصْمُ : قطعٌ بانفصالٍ ، والفَصْمُ بالفاء باتصالٍ . وقد تقدم شيءٌ من ذلك في البقرة .
وأدغم ابن محيصن الضادَ المعجمة في تاءِ المتكلم مع إبقائه الإِطباقَ ، كما تقدَّم [ في ] " بَسَطْتَ " . وأدغم الأخَوان وأبو عمروٍ الذال في التاء مِنْ " فَنَبَذْتُها " .
(1/3315)

قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97)
قوله : { لاَ مِسَاسَ } : قرأ العامَّةُ بكسرِ الميمِ وفتحِ السين . وهو مصدرٌ ل فاعَل كالقِتال مِنْ قاتَل ، فهو يقتضي المشاركةَ . وفي التفسير : لا تَمَسُّني ولا أَمَسُّك ، وإنَّ مَنْ مَسَّه أصابَتْه الحمى .
وقرأ الحسن وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقعنب بفتح الميم وكسر السين . قلت : هكذا عَبَّر الشيخُ وتَبعَ فيه أبا البقاء . ومتى أَخَذْنا بظاهِر هذه العبارة لَزِم أن يُقرأ " مَسِيس " بقلب الألفِ ياءً لانكسارِ ما قبلها ولكن لم يُرْوَ ذلك ، فينبغي أَنْ يكونوا أرادوا بالكسرِ الإِمالةَ . ويَدُلُّ على ما قُلْتُه ما قاله الزمخشريُّ : " وقُرِىء لا مَساسِ بوزن فَجار . ونحوُه قولهم في الظباء : " إن وَرَدَتِ الماءَ فلا عَباب وإن فَقَدَتْه فلا أَباب " وهي أعلامٌ للمَسَّة والعَبَّة والأَبَّة وهي المرَّة من الأَبِّ وهو الطلَبُ " . فهذا تصريحٌ منه ببقاء الألفِ على حالِها .
ويدلُّ أيضاً قولُ صاحبِ " اللوامح " : " هو على صورة نَزَالِ ونَظارِ من أسماء الأفعال بمعنى انْزِلْ وانْظُرْ " فهذا أيضاً تصريحٌ بإقرار الألِف على حالها . ثم قال صاحب " اللوامح " : " فهذه الأسماء التي بهذه الصيغةِ معارفُ ، ولا تدخُلُ عليها " لا " النافيةُ التي تَنْصِبُ النكراتِ ، نحو " لا مالَ لك " لكنه فيه نَفْيُ الفعلِ فتقديرُه : لا يكون منك مساسٌ ، ومعناه النهيُ أي : لا تَمَسَّني " .
وقال ابنُ عطية : " لا مَساسِ هو معدولٌ عن المصدرِ كفَجارِ ونحوِه . وشبَّهه أبو عبيدة وغيرُه بَنزالِ ودَراكِ ونحوه ، والشَّبَهُ صحيحٌ من حيث هُنَّ معدولاتٌ . وفارقه في أنَّ هذه عُدِلَتْ عن الأمر ، ومَساس وفَجار عُدلت عن المصدر . ومِن هذا قولُ الشاعر :
3315 تميمٌ كرَهْطِ السَّامِرِيِّ وقَوْلِه ... ألا لا يريدُ السَّامِرِيُّ مَساسِ
فكلامُ الزمخشريِّ وابنِ عطيةَ يعطي أنَّ " مَساس " على هذه القراءةِ معدولٌ عن المصدرِ كفجَار عن الفَجَرة ، وكلامُ صاحبِ اللوامحِ يقتضي أنها معدولةٌ عن فعل أمرٍ ، إلا أَنْ يكونَ مرادُه أنها مَعْدُوْلَةٌ ، كما أنَّ اسمَ الفعلِ معدولٌ ، كما تَقَدَّم توجيهُ ابنِ عطية لكلام أبي عبيدة .
قوله : { لَّن تُخْلَفَهُ } قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو بكسرِ اللامِ على البناء للفاعل . والباقون بفتحِها على البناءِ للمفعولِ . وقرأ أبو نهيك فيما حكاه عنه ابن خالويه بفتح التاء من فوقُ ، وضمِّ اللام ، وحكى عنه صاحب " اللوامح " كذلك ، إلاَّ أن بالياء مِنْ تحتُ . وابنُ مسعودٍ والحسن بضمِّ نونِ العظمة وكسرِ اللام .
فأمَّا القراءةُ الأولى فمعناها : لن تجدَه مُخلَّفاً كقولك : أَحْمَدْتُه وأَجْبَنْتُه/ أي : وَجَدْتُه مَحْمُوداً وجَباناً . وقيل : المعنى : سيصلُ إليك ، ولن تستطيعَ الرَّوَغانَ ولا الحَيْدَة عنه . قال الزمخشري : " وهذا مِنْ أَخْلَفْتُ الوعدَ إذا وجدتَه مُخْلَفاً . قال الأعشى :
(1/3316)

3316 أثوى وقَصَّر لَيْلَةً لِيُزَوَّدا ... فمضى وأَخْلَفَ مِنْ قُتَيْلَةَ مَوْعِدا
ومعنى الثانيةِ : لن يُخْلِفَ اللهُ موعدَه الذي وَعَدك . وأمَّا قراءتا أبي نهيك فهما مِنْ خَلَفَه يَخْلُفُه إذا جاء بعدَه أي : الموعدَ الذي لك لا يَدْفع قولَك الذي تقولُه . وهي قراءةٌ مُشْكِلَةٌ . قال أبو حاتم : " لا نعرف لقراءةِ أبي نهيك مذهباً " وأمَّا قراءةُ ابنِ مسعود فأسند الفعلَ فيها إلى الله تعالى . والمفعولُ الأولُ محذوفٌ أي : لن يُخْلِفَكه .
قوله : { ظَلْتَ } العامَّةُ على فتح الظاء ، وبعدها لامٌ ساكنة . وابنُ مسعودٍ وقتادةُ والأعمشُ بخلافٍ عنه وأبو حيوة وابن أبي عبلة ويحيى بن يعمر [ على ] كسرِ الظاء . ورُوي عن ابن يعمر ضمُّها أيضاً . وأُبَيٌّ والأعمش في الرواية الأخرى " ظَلِلْتَ " بلامَيْنِ أولاهما مكسورةٌ " .
فأمَّا قراءةُ العامَّة ففيها : حَذْفُ أحدِ المِثْلين ، وإبقاءُ الظاءِ على حالِها مِنْ حركتها ، وإنما حُذف تخفيفاً . وعدَّه سيبويه في الشاذ . يعني شذوذَ قياسٍ لا شذوذَ استعمالٍ ، وعَدَّ معه ألفاظاً أُخَرَ نحو : مَسْتُ وأَحَسْتُ كقولِه :
3317 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أَحَسْنَ به فهنَّ إليه شُوْسُ
وعَدَّ ابنُ الأنباري " هَمْتُ " في " هَمَمْتُ " ولا يكونُ هذا الحذفُ إلاَّ إذا سُكِّنَتْ لامُ الفعلِ . وذكر بعضُ المتأخرين أن هذا الحذفَ منقاسٌ في كلِّ مضاعفِ العينِ واللامِ سَكَنَتْ لامُه ، وذلك في لغة سُلَيْم .
والذي أقولُه : إنه متى التقى التضعيفُ المذكورُ والكسرُ نحو : ظَلِلْتُ ومَسِسْتُ انقاس الحذفِ . وهل يَجْري الضمُّ مجرى الكسرِ في ذلك؟ فالظاهرُ أنه يجري . بل بطريق الأَوْلى؛ لأن الضمَّ أثقلُ من الكسر نحو : غُضْنَ يا نسوةُ أي : أغْضُضْنَ أبصارَكُنَّ ، ذكره جمال الدين ابن مالك . وأمَّا الفتحُ فالحذفُ فيه ضعيفٌ نحو : " قَرْن يا نسوةُ في المنزل " ومنه في أحدِ توجيهَيْ قراءةِ { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } [ الأحزاب : 33 ] كا سيأتي إنْ شاء الله تعالى .
وأمَّا الكسرُ فوجهُه أنه نَقَل كسرةَ اللامِ إلى الفاءِ بعد سَلْبِها حركتَها لتدُلَّ عليها . وأمَّا الضمُّ فيحتمل أن يكونَ جاء فيه لغةٌ على فَعَل يفعُل بفتحِ العينِ في الماضي وضمِّها في المضارع ، ثم نُقِلَتْ ، كما تقدّم ذلك في الكسر . وأمَّا ظَلِلْت بلامين فهذه هي الأصلُ ، وهي مَنْبَهَةٌ على غيرِها . و " عاكفاً " خبرُ " ظلَّ " .
قوله : { لَّنُحَرِّقَنَّهُ } جوابُ قسمٍ محذوفٍ أي : واللهِ لَنُحَرِّقَنَّهُ . والعامَّة على ضمِّ النونِ وكسرِ الراءِ مشددةً مِنْ حَرَّقه يُحرِّقُه بالشديد . وفيها تأويلان . أظهرُهما : أنها مِنْ حَرَّقه بالنار . والثاني : أنه مِنْ حَرَق نابُ البعير ، إذا وقع عَضُّ ببعضِ أنيابِه على بعضٍ . والصوتُ المسموعُ منه يُقال له الصَّريفُ . والمعنى : لنَبْرُدَنَّه بالمِبْرد بَرْداً نمحقُه به كما يفعل البعيرُ بأنيابِه بعضها على بعض .
وقرأ الحسن وقتادة وأبو جعفر " لَنُحْرِقَنَّه " بضم النون وسكونِ الحاءِ وكسرِ الراء ، مِنْ أحرق رباعياً . وقرأ ابن عباس وحميد وعيسى وأبو جعفر " لَنَحْرُقَنَّه " كذلك إلاَّ أنه ضمَّ الراء . فيجوز أن يكونَ أَحْرق وحرَّق بمعنى كأَنْزَل ونَزَّل . وأمَّا القراءةُ الأخيرة فبمعنى لنَبْرُدَنَّه بالمبرد .
قوله : { لَنَنسِفَنَّهُ } العامَّةُ على فتح النون الأولى وسكونِ الثانية وكسرِ السين خفيفةً . وقرأ عيسى بضم السين . وقرأ ابن مقسم بضمِّ النون الأولى وفتح الثانية وكسر السينِ مشددةً . والنَّسْفُ : التفرقةُ والتَّذْرِيَةُ وقيل : قَلْعُ الشيء مِنْ أصله يقال : نَسَفَه يَنْسُِفه بكسر السين وضمها في المضارع ، وعليه القراءتان . والتشديد للتكثير .
(1/3317)

إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
قوله : { وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } : العامَّةُ على كسر السين خفيفةً . و " عِلْماً " على هذه القراءةِ تمييزٌ منقولٌ من الفاعلِ؛ إذِ الأصلُ : وَسِعٍ كلَّ شيءٍ عِلْمُه . وقرأ مجاهد وقتادة بفتح السين مشددةً . وفي انتصاب " علماً " حينئذ [ وجهان ] ، أحدهما : أنه مفعولٌ به . قال الزمخشري : " وَجْهُه أنَّ وَسِع متعدٍّ إلى مفعولٍ واحد . وأمَّا " عِلْماً " فانتصابُه على التمييز فاعلاً في المعنى . فلما ثُقِّل نُقِل إلى التعديةِ إلى مفعولَيْنِ فنصبُهما معاً على المفعولية؛ لأن المُميِّز فاعلٌ في المعنى ، كما تقول في " خاف زيد عمراً " : " خَوَّفْت زيداً عمراً " فتردُّ بالنقل ما كان فاعلاً مفعولاً " . وقال أبو البقاء : " والمعنى : أعطى كل شيء عِلْماً " فضمَّنه معنى أعطى . وما قاله الزمخشريُّ أولى .
والوجه الثاني : أنه تمييزٌ أيضاً كما هو في قراءةِ التخفيفِ . قال أبو البقاء : " وفيه وجهٌ آخرُ : / وهو أن يكونَ بمعنى : عَظَّم خَلْقَ كلِ شيءٍ كالأرض والسماء ، وهو بمعنى بَسَط ، فيكون عِلْماً تمييزاً " . وقال ابن عطية : " وسَّع خَلْقَ الأشياءِ وكَثَّرها بالاختراع " .
(1/3318)

كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99)
قوله : { كذلك نَقُصُّ } : الكافُ : إمَّا نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، أو حالٌ من ضمير ذلك المصدرِ المقدَّرِ . والتقديرُ : كَقَصِّنا هذا النبأ الغريبَ نَقُصُّ . و " من أنباءِ " صفةٌ لمحذوفٍ هو مفعولُ نَقُصُّ أي : نَقُصُّ نبأً من أنباءِ .
(1/3319)

مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100)
قوله : { مَّنْ أَعْرَضَ } : يجوزُ أَنْ تكونَ " مَنْ " شرطيةً أو موصولة . والجملةُ الشرطيةُ أو الخبريةُ الشبيهةُ بها في محلِّ نصبٍ صفةً ل " ذِكْراً " .
(1/3320)

خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)
قوله : { خَالِدِينَ } : حالٌ مِنْ فاعل " يَحْمِلُ " . فإنْ قيل : كيفَ [ وقع ] الجمعُ حالاً من مفردٍ؟ فالجوابُ أنه حُمِل على لفظ " مَنْ " فَأُفْرِدَ الضميرُ في قولِه " أَعْرَضَ " و " فإنَّه " و " يَحْمِلُ " ، وعلى معناها فَجُمِعَ في " خالدين " و " لهم " . والضميرُ في " فيه " يعود ل " وِزْراً " . والمرادُ في العقاب المتسَبِّبِ عن الوِزْرِ وهو الذنبُ فَأُقيم السببُ مُقامَ المُسَبَّبِ .
وقرأ داود بن رفيع " يُحَمَّلُ " مُضَعَّفاً مبنياً للمفعول والقائمُ مقامَ فاعلِه ضميرُ " مَنْ " . و " وِزْراً " مفعولٌ ثانٍ .
قوله : { وَسَآءَ } هذه " ساء " التي بمعنى بِئْس . وفاعلُها مستترٌ فيها يعودُ على " حِمْلاً " المنصوبِ على التمييز ، لأنَّ هذا البابَ يُفَسَّر الضمير فيه بما بعدَه . والتقديرُ : وساء الحِمْل حِمْلاً . والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ تقديرُه : وساء الحِمْل حِمْلاً وِزْرُهم : ولا يجوز أن يكون الفاعلُ ل " بِئْس " ضميرَ الوِزْرِ ، لأنَّ شَرْطَ الضميرِ في هذا الباب أن يعودَ على نفس التمييز . فإن قلت : ما أنكْرتَ أن يكونَ في " ساء " ضميرُ الوِزْر؟ قلت : لا يَصِحُّ أن يكونَ في " ساء " وحكمُه حكمُ " بئس " ضميرُ شيءٍ بعينه غيرِ مبهمٍ . ولا جائزٌ أن تكونَ " ساء " هنى بمعنى أهمَّ وأحزنَ ، فتكونَ متصرفةً كسائر الأفعال . قال الزمخشري : " كفاك صادَّاً عنه أَنْ يَؤُول كلامُ الله تعالى إلى [ قولِك ] : وأحزن الوِزرُ لهم يومَ القيامة حِمْلاً . وذلك بعد أن تَخْرَجَ عن عُهْدةِ هذه اللامِ وعُهْدَةِ هذا المنصوب " انتهى .
واللامُ في " لهم " متعلقةٌ بمحذوفٍ على سبيلِ البيان ، كهي في { هَيْتَ لَكَ } [ يوسف : 23 ] .
(1/3321)

يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102)
قوله : { يَوْمَ يُنفَخُ } : " يومَ " بدل من " يومَ القيامة " أو بيانٌ له ، أو منصوبٌ بإضمار فعل ، أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ . وبُني على الفتحِ على رأي الكوفيين كقراءةِ { هذا يَوْمَ يَنفَعُ } [ المائدة : 119 ] وقد تقدم .
وقرأ أبو عمروٍ " نَنْفُخُ " مبنياً للفاعل بنونِ العظمة ، أُسْنِدَ الفعلُ إلى الآمِر به تعظيماً للمأمورِ ، وهو المَلَكُ إسرافيل . والباقون بالياءِ مضمومةً مفتوحَ الفاءِ على البناءِ للمفعول . والقائمُ مقامَ الفاعل الجارُّ والمجرورُ بعدَه . والعامَّةُ على إسكانِ الواو . وقرأ الحسنُ وابنُ عامرٍ في روايةٍ بفتحها جمعَ " صُوْرَة " كغُرَف جمع غُرْفَة . وقد تقدَّم القولُ في " الصور " في الأنعام .
وقرىء " يَنْفُخُ " و " يَحْشُر " بالياءِ مفتوحةً مبنياً للفاعل ، وهو الله تعالى أو المَلَكُ . وقرأ الحسنُ وطلحةُ وحميدٌ " يُنْفَخ " كالجمهور و " يَحْشر " بالياءِ مفتوحةً مبنياً للفاعل . والفاعلُ كما تقدَّم ضمير الباري أو ضميرُ المَلَك . ورُوي عن الحسن أيضاً و " يُحْشَر " مبنياً للمفعول " المجرمون " رفعٌ به . و " زُرْقاً " حال من المجرمين . والمرادُ زُرْقَةُ العيونِ . وجاءَتِ الحالُ هنا بصفةٍ تشبه اللازمةَ؛ لأنَّ أصلَها على عَدَمِ اللزومِ ، ولو قلتَ في الكلامِ : " جاءني زيدٌ أزرقَ العينِ " لم يَجُزْ إلاَّ بتأويلٍ .
(1/3322)

يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103)
قوله : { يَتَخَافَتُونَ } : يجوز أَنْ يكونَ مستأنفاً ، وأن يكونَ حالاً ثانية من " المجرمين " ، وأن يكونَ حالاً من الضميرِ المستتر في " زرقاً " فتكونَ حالاً متداخلةً إذ هي حالٌ من حال . ومعنى " يَتَخافَتُون : " أي : يتساْرُّوْن فيما بينهم .
وقوله : { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ } هو مفعولٌ المَسارَّة . وقوله : { إِلاَّ عَشْراً } يجوز أن يُرادَ الليالي ، فَحَذْفُ التاءِ من العددِ قياسٌ ، وأن يرادَ الأيامُ فيُسألَ : لم حُذِفت التاء؟ فقيل : إنْ لم يُذْكَرِ المميِّز في عددِ المذكرِ جازت التاءُ وعدمُها . سُمع من كلامهم " صُمْنا من الشهر خمساً " والمَصُوْمُ إنما هو الأيامُ دون الليالي . وفي الحديث : " مَنْ صامَ رمضانَ وأتبعه بسِتٍّ من شوال " وحَسُن الحذف هنا لكونِه رأسَ آيةٍ وفاصلة .
(1/3323)

نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
قوله : { إِذْ يَقُولُ } : منصوبٌ ب " أعلمُ " وطريقةً " نصبٌ على التمييز .
(1/3324)

فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106)
قوله : { فَيَذَرُهَا } : في هذا الضميرِ قولان ، أحدهما : أنه ضميرُ الأرضَ أُضْمِرَتْ للدلالةِ عليها؟ والثاني : ضمير الجبال ، وذلك على حَذْفِ مضاف أي : فَيَذَرُ مراكزَها ومَقارَّها . و " نَذَرُ " يجوز أن يكونَ بمعنى يُخَلِّيها ، فيكونَ " قاعاً " حالاً ، وأن يكونَ بمعنى يترك التصييريةِ فيتعدَّى لاثنين ف " قاعاً " ثانيهما .
وفي " القاع " أقوالٌ فقيل : هو مستنقعُ الماء/ ولا يليقُ معناه هنا . والثاني : أنه المنكشِفُ من الأرض . قاله مكي . الثالث : أنَّه المكانُ المستوي ومنه قول ضرار بن الخطاب :
3318 لَتَكُوْنَنَّ بالبطاحِ قُرَيْشٌ ... فَقْعَةَ القاع في أَكُفِّ الإِماءِ
الرابع : أنه الأرضُ التي لا نباتَ فيها ولا بناءَ .
والصَّفْصَفُ : الأرض المَلْساء . وقيل : المستوية ، فهما قريبان من المترادِفِ . وجمعُ القاعِ : أقْوع وأَقْواع وقِيْعان .
(1/3325)

لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107)
قوله : { لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً } : يجوز في هذه الجملةِ أن تكونَ مستأنفةً ، وأن تكونَ حالاً من الجبال ، ويجوزُ أن تكونَ صفةً للحال المتقدمةِ وهي " قاعاً " على أحدِ التأويلين ، أو صفة للمفعولِ الثاني على التأويل الآخر .
والعِوَج : تقدم الكلامُ عليه . قال الزمخشري هنا : " فإنْ قلتَ : قد فَرَّقوا بين العَوَج والعِوَج . قالوا : العِوَج بالكسر في المعاني ، وبالفتح في الأَعْيان ، والأرضُ عينٌ ، فكيف صَحَّ فيها كَسْرُ العينِ؟ قلت : اختيارُ هذا اللفظِ له موقعٌ حَسَنٌ بديعٌ في وصفِ الأرضِ بالاستواءِ والمَلاسة ونفيِ الاعوجاج عنها ، على أبلغِ ما يكونُ : وذلك أنك لو عَمَدْتَ إلى قطعةِ أرضٍ فَسَوَّيْتَها ، وبالَغْتَ في التسوية على عينِك وعيونِ البُصَراء ، واتَّفَقْتُمْ على أنَّه لم يَبْقَ فيها اعوجاجٌ قطٌ ، وثم استَطْلَعْتَ رأي المهندس فيها وأمرته أن يَعْرِضَ استواءَها على المقاييسِ الهندسيةِ لَعَثَر فيها على عِوَجٍ في غير موضعٍ ، لا يُدْرَكُ ذلك بحاسَّةِ البصرِ ، ولكن بالقياسِ الهندسِيِّ ، فنفى اللهُ تعالى ذلك العِوَجَ الذي دَقَّ ولَطُفَ عن الإِدراك ، اللهم إلاَّ بالقياس الذي يَعْرِفُه صاحبُ التقديرِ الهندسيِّ . وذلك الاعوجاجُ كمَّا لم يُدْرَكْ إلاَّ بالقياسِ دون الإِحساسِ لَحِقَ بالمعاني فقيل فيه " عِوج " بالكسر " .
والأمْتُ : النُّبُوُّ اليسيرُ . يقال : مَدَّ حبلَه حتى ما فيه أَمْتٌ . وقيل : الأمْتُ : التَلُّ ، وهو قريبٌ من الأولِ . وقيل : الشُّقوقُ في الأرضِ . وقيل : الأكامُ .
(1/3326)

يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
قوله : { يَوْمَئِذٍ } : منصوبٌ ب " يَتَّبِعُون " . وقيل : بدلٌ من { يَوْمَ القيامة } . قاله الزمخشري . وفيه نظرٌ للفصل الكثير . وأيضاً فإنه يبقى " يَتَّبِعُون " غيرَ مرتبطٍ بما قبلَه ، وبه يفوتُ المعنى . والتقدير : يومَ إذ نُسِفت الجبال .
قوله : { لاَ عِوَجَ لَهُ } يجوز أَنْ تكونَ الجملةُ مُستأنفةً ، وأن تكونَ حالاً من " الداعي " . ويجوز أن تكونَ الجملةُ نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ تقديرُه : يَتَّبِعُونه اتِّباعاً لا عِوَجَ له . والضميرُ في " له " فيه أوجهٌ ، أظهرُها : أنه يعودُ على الداعي أي : لا عِوَجَ لدعائِه بل يَسْمع جميعَهم ، فلا يميلُ إلى ناسِ دونَ ناسٍ . وقيل : هو عائدٌ على ذلك المصدرِ المحذوفِ أي لا عِوَج لذلك الاتِّباع . الثالث : أنَّ في الكلام قلباً . تقديرُه لا عِوَجَ لهم عنه .
قوله : { إِلاَّ هَمْساً } مفعولٌ به وهو استثناءٌ مفرغٌ . والهَمْسُ : الصوتُ الخفيُّ . قيل : هو تحريكُ الشفتين دون نطقٍ . قال الزمخشري : " هو الرِّكْزُ الخفيُّ . ومنه الحروفُ المهموسةُ " . وقيل : هو ما يُسْمع مِنْ وَقْعِ الأقدامِ على الأرض . ومنه هَمَسَتِ الإِبلُ : إذا سُمع ذلك مِنْ وَقْعِ أخفافِها على الأرض قال :
3319 وهُنَّ يَمْشِيْنَ بنا هَمِيْسا ...
(1/3327)

يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109)
قوله : { يَوْمَئِذٍ } : بدلٌ ممَّا تقدم أو منصوب بما بعد " لا " عند مَنْ يُجيز ذلك . والتقديرُ : يومَ إذ يَتَّبِعُون لا تنفعُ الشفاعةُ .
قوله : { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ } فيه أوجه . أحدُها : أنه منصوبٌ على المفعولِ به . والناصبُ له " تَنْفَعُ " . و " مَنْ " حينئذٍ واقعةٌ على المشفوعِ له . الثاني : أنه في محلِّ رفعٍ بدلاً من الشفاعةِ ، ولا بدَّ مِنْ حذفِ مضافٍ تقديرُه : إلاَّ شفاعةَ مَنْ أَذِن له . الثالث : أنه منصوبٌ على الاستثناءِ من الشفاعةِ بتقدير المضاف المحذوف ، وهو استثناءٌ متصلٌ على هذا . ويجوزُ أَنْ يكونَ استثناءً منقطعاً إذا لم تقدِّرْ شيئاً ، وحينئذٍ يجوزُ أن يكونَ منصوباً وهي لغةُ الحجازِ ، أو مرفوعاً وهو لغة تميم . وكلُّ هذه الأوجهِ واضحةٌ ممَّا تقدم فلا أُطيل بتقريرها . و " له " في الموضعين للتعليل كقوله : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } [ الأحقاف : 11 ] أي : لأجله ولأجلهم .
(1/3328)

وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111)
قوله : { وَعَنَتِ الوجوه } : يُقال : عَنا يَعْنُو إذا ذَلَّ وخَضَع . وأَعْناه غيرُه أي : أذلَّه . ومنه العُنَاة جمع عانٍ . وهو الأسيرُ قال :
3320 فيا رُبَّ مَكْروبٍ كرَرْتُ وراءَه ... وعانٍ فَكَكْتُ الغُلَّ عنه فَفَدَّاني
وقال أمية بن أبي الصلت :
3321 مَلِيكٌ على عَرْشِ السماء مُهَيْمِنٌ ... لِعِزَّته تَعْنُوا الوجوهُ وتَسْجُد
وفي الحديث : " فإنَّهنَّ عَوانٍ " .
قوله : { وَقَدْ خَابَ } يجوز أَنْ تكونَ هذه الجملةُ مستأنفةً ، وأن تكونَ حالاً ، ويجوز أن تكونَ اعتراضاً . قال الزمخشري : " وقد خابَ وما بعده اعتراضٌ كقولك : خابوا وخَسِروا ، وكلُّ مَنْ ظَلَم فهو خائبٌ خاسِرٌ " ، ومرادُه بالاعتراضِ هنا أنَّه خَصَّ الوجوهَ بوجوهِ العصاةِ حتى تكونَ الجملةُ قد دَخَلَتْ بين العُصاةِ وبين { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات } فهذا/ عنده قسيمُ " وعَنَتِ الوجوهُ " فلهذا كان اعتراضاً . وأمَّا ابنُ عطية فجعل الوجوهَ عامة ، فلذلك جعل " وقد خابَ مَنْ حَمَل ظلماً " معادَلاً بقولِه : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات } إلى آخره .
(1/3329)

وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
قوله : { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } : جملةٌ حاليةٌ . وقوله : { فَلاَ يَخَافُ } . قرأ ابنُ كثيرٍ بجزمِه على النهي . والباقون برفعِه على النفي والاستئنافِ أي : فهو لا يَخافُ .
والهَضْمُ : النَّقْصُ . تقول العرب : " هَضَمْتُ لزيدٍ مِنْ حقي " أي : نَقَصْتُ منه ، ومنه " هَضِيم الكَشْحَيْن " أي ضامِرُهما . ومِنْ ذلك أيضاً { طَلْعُهَا هَضِيمٌ } [ الشعراء : 148 ] أي : دقيقٌ متراكِبٌ ، كأنَّ بعضَه يظلم بعضاً فيُنْقِصُه حقَّه . ورجل هضيم ومُهْتَضَم أي : مظلومٌ . وهَضَمْتُه واهْتَضَمْتُه وتَهَضَّمْتُه ، كلٌ بمعنىً . اقل المتوكل الليثي :
3322 إنَّ الأذِلَّةَ واللِّئامَ لَمَعْشَرٌ ... مَوْلاهُمُ المُتَهَضِّمُ المظلومُ
قيل : والظلمُ والهَضْمُ متقاربان . وفَرَّق القاضي الماوردي بينهما فقال : " الظلمُ مَنْعُ جميعِ الحقِّ ، والهضمُ مَنْعُ بعضِه " .
(1/3330)

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)
قوله : { وكذلك أَنزَلْنَاهُ } : نسقٌ على { كذلك نَقُصُّ } . قال الزمخشري : " ومِثْلُ ذلك الإِنزالِ ، وكما أنزَلْنا عليك هؤلاء الآيات أَنْزَلْنا القرآنَ كلَّه على هذه الوتيرةِ " . وقال غيرُه : " والمعنى : كما قَدَّرْنا هذه الأمورَ وجَعَلْناها حقيقةً بالمرصادِ للعبادِ ، كذلك حَذَّرْنا هؤلاءِ أمرَها وأنزَلْناه قرآناً " .
قوله : { مِنَ الوعيد } صفةٌ لمفعولٍ محذوفٍ أي : صَرَّفْنا في القرآنِ وعيداً مِن الوعيد ، والمرادُ به الجنسُ . ويجوزُ أَنْ تكونَ " مِنْ " مزيدةً على رأيِ الأخفشِ في المفعولِ به . والتقديرُ : وصَرَّفْنا فيه الوعيدَ .
وقرأ الحسن " أو يُحْدِثْ " كالجماعة ، إلاَّ أنه سَكَّن لامَ الفعل . وعبد الله والحسنُ أيضاً في روايةٍ ومجاهدٌ وأبو حيوة : " نُحْدِثْ " بالنون وتسكينِ اللام أيضاً . وخُرِّجَ على إجراء الوصل مُجْرى الوقفِ ، أو على تسكينِ الفعل استثقالاً للحركة ، كقول امرىء القيس :
3323 فاليومَ أشرَبْ غيرَ مُسْتَحْقِبٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقول جرير :
3324 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... أو نهرُ تيرى فلا تَعْرِفْكُمُ النَّفَرُ
وقد فعلَه كما تقدَّم أبو عمروٍ في الراءِ خاصةً نحو { يَنصُرُكُم } [ آل عمران : 160 ] .
وقُرِىء " تُحْدِثُ " بتاء الخطاب أي : تُحْدِثُ أنت .
(1/3331)

فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
قوله : { يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } : العامَّةُ على بناء " يقضى " للمفعولِ ورفع " وَحْيُه " لقيامه مقامَ الفاعلِ . والجحدري وأبو حيوةَ والحسنُ وهي قراءةُ عبد الله " نَقْضي " بنون العظمة مبنياً للفاعلِ ، " وَحْيَه " مفعول به . وقرأ الأعمشُ كذلك ، إلاَّ أنه سَكَّن لامَ الفعلِ . استثقلَ الحركةَ وإن كانَتْ خفيفةً على حرفِ العلةِ . وقد تقدَّم لك منه شواهدُ عند قراءةِ { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْالِيكُمْ } [ المائدة : 89 ] .
(1/3332)

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
وقرأ اليماني " فَنُسِي " بضم النون وتشديد السين بمعنى : نَسَّاه الشيطانُ .
قوله : { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } يجوزُ أن تكونَ " وجد " علميةً فتتعدى لاثنين ، وهما " له عَزْما " ، وأنْ تكونَ بمعنى الإِصابة فتتعدى لواحدٍ ، وهو " عَزْما " . و " له " متعلقٌ بالوجدانِ ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ " عَزْما " إذ هو في الأصل صفةٌ له قُدِّمَتْ عليه .
(1/3333)

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116)
قوله : { أبى } : جملة مستأنفةٌ لأنها جوابُ سؤالٍ مقدرٍ . أي : ما منعه منِ السجود؟ فأُجيب بأنه أبى واستكبر . ومفعولُ الإِباءِ يجوز أن يكونَ مُراداً . وقد صَرَّح به في الآيةِ الأخرى في قولِه { أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين } [ الحجر : 31 ] . وحَسَّن حَذْفَه هنا كونُ العاملِ رأسَ فاصلةٍ ، ويجوز أَنْ لا يُرادَ البتةَ ، وأنَّ المعنى : إنه مِنْ أهلِ الإِباءِ والعصيانِ ، من غيرِ نظرٍ إلى متعلَّقِ الإِباء ما هو؟
(1/3334)

فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)
قوله : { فتشقى } : منصوبٌ بإضمار " أَنْ " في جواب النهي . والنهيُ في الصورةِ لإِبليس ، والمرادُ به هما أي : لا تتعاطيا أسبابَ الخروجِ فيحصُلَ لكما الشقاءُ ، وهو الكَدُّ والتعبُ الدنيوي خاصة . ويجوزُ أَنْ يكونَ مرفوعاً على الاستئنافِ أي : فأنت تَشْقَى . كذا قَدَّره الشيخ . وهو بعيدٌ أو ممتنع؛ إذ ليس المقصودُ الإِخبارَ بأنه يشْقَى ، بل إنْ وَقَع الإِخراجُ لهما من إبليسَ حَصَلَ ما ذكر . وأسند الشقاوةَ إليه دونَها؛ لأنَّ الأمورَ معصوبةٌ برؤوس الرجال . وحسَّن ذلك كونُه رأسَ فاصلةٍ .
(1/3335)

إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)
قوله : { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ } في محلِّ نصب اسماً ل " إنَّ " . والخبرُ " لك " . والتقديرُ : إنَّ لك عَدَمَ الجوع والعريِ . ف " تعرى " منصوبٌ تقديراً نَسَقاً على " تجوعَ " . والعُرْيُ : تجرُّدُ الجِلْدِ عن شيءٍ يَقيه . يُقال منه : عَرِي يعرى عُرِيَّاً قال الشاعر :
3325 وإنْ يَعْرَيْنَ إن كُسِيَ الجَواري ... فَتَنْبُو العينُ عن كَرَمٍ عِجافِ
(1/3336)

وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119)
قوله : { وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ } : قرأ نافع وأبو بكر و " إنك " بكسرِ الهمزةِ . والباقون بفتحها . فَمَنْ كَسَرَ فيجوز أن يكونَ ذلك استئنافاً ، وأن يكونَ نَسَقاً على " إنَّ " الأولى . ومَنْ فتح فلأنَّه عَطَفَ مصدراً مؤولاً على اسمِ " إنَّ " الأولى . والخبرُ " لك " المتقدمُ . والتقديرُ : إنَّ لك عَدَمَ الجوعِ وعدمَ العُرِيِّ وعَدَمَ الظمأ والضُّحا . وجاز أن تكون " أنَّ " بالفتح أسماً ل " إنَّ " بالكسر للفصل بينهما ، ولولا ذلك لم يَجُزْ . لو قلت : " إن إنَّ زيداً قائم/ حَقٌّ " لم يَجُزْ فلمَّا فُصِل بينهما جاز . وتقول : " إنَّ عندي أن زيداً قائم " ف " عندي " هو الخبرُ قُدِّم على الاسمِ وهو " أنَّ " وما في تأويلِها لكونِه ظرفاً ، والآيةُ من هذا القبيل؛ إذ التقديرُ : وإنَّ لك أنَّك لا تظمأ . وقال الزمخشري : " فإنْ قلت : " إنَّ " لا تدخل على " أنَّ " فلا يُقال : " إنَّ أنَّ زيداً منطلق " ، والواوُ نائبةٌ عن " أنَّ " ، وقائمةٌ مقامَها فِلمَ دَخَلَتْ عليها؟ قلت : الواوُ لم تُوْضَعْ لتكون أبداً نائبةً عن " أنَّ " إنما هي نائبةٌ عن كلِّ عاملٍ ، فلمَّا لم تكنْ حرفاً موضوعاً للتحقيق خاصة ك " إنَّ " لم يمتنعْ اجتماعُهما كما [ امتنع اجتماع ] إنَّ وأنَّ " .
وضحى يَضْحَى أي : برز للشمسِ . قال عمر بن أبي ربيعة :
3326 رَأَتْ رجلاً أَيْما إذا الشمسُ عارَضَتْ ... فيضحى وأيْما بالعَشِيِّ فَيَخْصَرُ
وذكر الزمخشريُّ هنا معنًى حسناً في كونِه تعالى ذكر هذه الأشياءَ بلفظ النفي ، دونَ أَنْ يذكرَ أضدادَها بلفظِ الإِثباتِ . فيقول : إنَّ لك الشِّبَعَ والكِسْوةَ والرِّيَّ والاكتنانَ في الظلِّ فقال : " وَذَكَرها بلفظِ النفيِ لنقائضِها التي هي الجوعُ والعُرِيُّ والظمأُ والضَّحْوُ ليطرُقَ سمعَه بأسامي أصنافِ الشِّقْوَةِ التي حَذَّره منها حتى يَتحامى السببَ الموقعَ فيها كراهةً لها .
(1/3337)

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)
قوله : { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ } : وَسْوَسَ إليه أي : أنهى إليه الوسوسةَ . وأمَّا وَسْوس له فمعناه لأجلِه . الزمخشري : " فإنْ قلتَ : كيف عدى " وَسْوس " تارة باللامِ في قوله : { فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان } [ الأعراف : 20 ] وأخرى ب إلى؟ قلت : وَسْوَسَةُ الشيطانِ كوَلْوَلَةِ الثَّكْلى ووَقْوَقَةِ الدجاجة في أنها حكاياتٌ للأصواتِ ، فحكمُها حكمُ صوتٍ أو جَرْسٍ . ومنه وَسْوَسة المُبَرْسَم ، وهو مُوَسْوِس بالكسر . والفتحُ لحنٌ . وأنشد ابن الأعرابي :
3327 وَسْوَسَ يَدْعو مُخْلِصاً رَبَّ الفَلَقْ ... فإذا قلت : وَسْوَسَ له فمعناه لأجلِه كقوله :
3328 أجْرِسْ لها يا ابنَ أبي كِباشِ ... ومعنى وَسْوس إليه : أنهى إليه الوَسْوَسة لكونِه بمعنى ذكر له . ويكون بمعنى لأجله .
(1/3338)

فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)
قوله : { فغوى } : الجمهورُ على فتحِ الواوِ وبعدها ألفٌ . وتفسيرُها واضحٌ . وقيل : معناه بَشِمَ . من قولهم : " غَوِي البعير " بكسر الواو ، والياء ، إذا أصابه ذلك . وقد حكى أبو البقاء هذه قراءةً وفسَّروها بهذا المعنى . قال الزمخشريُّ : " وعن بعضِهم : فَغَوى فبشِم من كثرةِ الأكل . وهذا وإن صَحَّ على لغةِ مَنْ يَقْلِبُ الياءَ المكسورَ ما قبلَها ألفاً فيقولُ في فَنِي وبَقِي : فَنا وبَقا وهم بنو طيِّىء تفسيرٌ خبيثٌ " . قلت : كأنه لم يَطَّلِعْ على أنه قُرِىء بكسر الواو ، ولو اطَّلع عليها لَرَدَّها . وقد فَرَّ القائلُ بهذه المقالةِ مِنْ نسبةِ آدمَ عليه السلام إلى الغَيِّ .
(1/3339)

وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)
قوله : { ضَنكاً } : صفةٌ ل " معيشة " ، وأصلُه المصدرُ فلذلك لم يُؤَنَّثْ . ويقع للمفردِ والمثنى والمجموعِ بلفظٍ واحدٍ .
وقرأ الجمهورُ " ضَنْكاً " بالتنوينَ وَصْلاً وإبدالِه ألفاً وقفاً كسائِرِ المعربات . وقرأتْ فرقةٌ قوله : " ضنكى " بألفٍ كسكرى . وفي هذه الألف احتمالان ، أحدهما : أنها بدلٌ من التنوين ، وإنما أجرى الوصلَ مجرى الوقف كنظائرَ له مَرَّتْ . وسيأتي منها بقيةٌ إن شاء الله تعالى . والثاني : أن تكونَ ألفَ التأنيث ، بُني المصدرُ على فَعْلى نحو دعوى .
والضَّنْكُ : الضِّيقُ والشِّدة . يُقال منه : ضَنُكَ عيشُه يَضْنُك ضَنَاكة وضَنْكاً . وامرأة ضِناك كثيرةُ لحمِ البدنِ ، كأنهم تخيَّلوا ضِيْقَ جِلْدِها به .
وقرأ العامَّةُ " ونَحْشُرُه " بالنونِ ورَفْعِ الفعلِ على الاستئناف . وقرأ أبانُ ابن تغلب في آخرين بتسكينِ الراءِ . وهي محتملةٌ لوجهين ، أحدُهما : أن يكونَ الفعلُ مجزوماً نَسَقاً على مَحَلِّ جزاء الشرط ، وهو الجملةُ مِنْ قولِه { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً } فإنَّ محلَّها الجزمُ ، فه كقراءةِ ِ { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرْهُمْ } [ الأعراف : 186 ] بتسكين الراء . والثاني : أَنْ يكونَ السكونُ سكونَ تخفيفٍ نحو { يَأْمُرْكُمْ } [ البقرة : 67 ] وبابِه .
وقرأ فرقةٌ بياءِ الغَيْبة وهو اللهُ تعالى أو المَلَك . وأبان بن تغلب في رواية " ونَحْشُرهْ " بسكونِ الهاء وصلاً . وتخريجُها : إمَّا على لغةِ بني عقيل وبني كلاب ، وإمَّا على إجراء الوصل مُجرى الوقف . و " أعمى " نصب على الحال .
(1/3340)

قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)
قوله : { وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } : جملةٌ حالية من مفعولِ " حَشَرْتني " . وفَتَحَ الياءَ مِنْ " حَشَرْتني " قبل الهمزةِ نافعٌ وابن كثير .
(1/3341)

قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)
قوله : { كذلك أَتَتْكَ } : قال أبو البقاء : / " كذلك " في موضعِ نصبٍ أي : حَشْراً مثلَ ذلك ، أو فَعَلْنا مثلَ ذلك ، أو إتياناً مثلَ ذلك ، أو جزاءً مثلَ إعراضِك أو نِسْياناً " . وهذه الأوجهُ التي قالها تكون الكافُ في بعضها نصباً على المصدر ، وفي بعضها نَصْباً على المفعول به . ولم يذكر الزمخشريُّ فيه غيرَ المفعولِ به فقال : " أي : مثلَ ذلك فَعَلْتَ أنت ، ثم فُسِّر بأنَّ آياتِنا أَتَتْك واضحةً مستنيرةً فلم تنظر إليها بعينِ المُعْتَبِرِ " .
(1/3342)

وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
قوله تعالى : { وكذلك نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ } : أي : ومثلَ ذلك الجزاءِ نَجْزي مَنْ أسرف .
(1/3343)

أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)
قوله : { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } : في فاعل " يَهْدِ " أوجهٌ ، أحدها : أنه ضميرُ الباري تعالى . ومعنى يَهْدي : يُبَيِّن . ومفعولُ يهدي محذوفٌ تقديرُه : أفلم يُبَيِّنِ اللهُ لهم العبرَ وفِعْلَه بالأمم المكذبة . قال أبو البقاء : " وفي فاعلِه وجهان ، أحدهما : ضميرُ اسم الله تعالى ، وعَلَّق " بَيَّن " هنا إذا كانَتْ بمعنى اعلمْ ، كما عَلَّقه في قولِه تعالى : { وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ } [ إبراهيم : 45 ] . قال الشيخ : و " كم " هنا خبريةٌ ل تعَُلِّق العاملَ عنها " . وقال الزمخشري : " ويجوز أَنْ يكونَ فيه ضميرُ اللهِ أو الرسولِ . ويدلُّ عليه القراءةُ بالنونِ .
الوجه الثاني : أنَّ الفاعلَ مضمرٌ يُفَسِّره ما دَلَّ عليه من الكلام بعدَه . قال الحوفي : " كم أَهْلكنا " قد دَلَّ على هلاك القرونِ . التقدير : أفلم يَتَبَيَّن لهم هلاكُ مَنْ أَهْلكنا من القرن ومَحْوُ آثارِهم فيتَّعِظوا بذلك . وقال أبو البقاء : " الفاعلُ ما دَلَّ عليه قوله : { أَهْلَكْنَا } أي إهلاكنا والجملةُ مفسِّرةٌ له " .
الوجه الثالث : أنَّ الفاعلَ نفسُ الجملة بعده . قال الزمخشري : " فاعلُ " لم يَهْدِ " الجملةُ بعده . يريدُ : ألم يَهْدِ لهم هذا بمعناه ومضمونِه . ونظيرُه قولُه تعالى : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين } [ الصافات : 79 ] أي تَرَكْنا عليه هذا الكلامَ " . قال الشيخ : " وكَوْنَ الجملةِ فاعلَ " يَهْدِ " هو مذهبٌ كوفي . وأمَّا تشبيهُه وتنظيرُه بقولِه : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين } فإنَّ " تركْنا " معناه معنى القول ، فحُكِيَتْ به الجملةُ كأنه قيل : وقُلْنا عليه وأَطْلقنا عليه هذا اللفظ ، والجملةُ تحكى بمعنى القولِ كما تُحْكَى بالقولِ " .
الوجهُ الرابعُ : أنه ضميرُ الرسولِ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنه هو المُبَيِّن لهم بما يوحى إليه من أخبار الأممِ السالفةِ والقرونِ الماضية . وهذا الوجهُ تقدَّم نَقْلُه عن أبي القاسم الزمخشري .
الوجهُ الخامسُ : أنَّ الفاعلَ محذوفٌ ، قال ابنُ عطية نقلاً عن غيره : " إن الفاعلَ مقدرٌ تقديرُه : الهدى أو الأمرُ أو النظرُ والاعتبار " قال ابن عطية : " وهذا عندي أحسنُ التقادير " .
قال الشيخ : " وهو قولُ المبردِ ، وليس بجيدٍ؛ إذ فيه حَذْفُ الفاعلِ وهو لا يجوز عند البصريين ، وتحسينُه أَنْ يقالَ : الفاعل مضمر تقديره : يهد هو أي الهدى " ، قلت : ليس في هذا القولِ أنَّ الفاعلَ محذوفٌ ، بل فيه أنه مقدرٌ ، ولفظٌ " مقدرٌ " كثيراً ما يُستعمل في المضمر . وأما مفعولُ " يَهْدِ " ففيه وجهان أحدهما : أنه محذوف . والثاني : أن يكونَ الجملةَ من " كم " وما في حَيِّزها؛ لأنها معلِّقَةٌ له فهي سادَّة مَسَدَّ مفعولِه .
الوجه السادس : أنَّ الفاعلَ " كم " ، قاله الحوفي وأنكره على قائله؛ لأنَّ " كم " استفهامٌ لا يَعْمل فيها ما قبلها .
(1/3344)

قال الشيخ : " وليست هنا استفهاماً بل هي خبرية " . واختار الشيخ أن يكون الفاعلُ ضميرَ الله تعالى فقال : " وأحسنُ التخاريجِ أن يكونَ الفاعلُ ضميراً عائداً على الله تعالى فكأنه قال : أفلم يبيِّنِ الله . ومفعول " يُبَيِّن " محذوفٌ أي : العبر بإهلاك القرونِ السابقة . ثم قال : { كَمْ أَهْلَكْنَا } أي : كثيراً أَهْلَكْنا ف " كم " مفعولةٌ بأهلكنا ، والجملةُ كأنها مفسِّرةٌ للمفعولِ المحذوف ل " يَهْدِ " .
قوله : { مِّنَ القرون } في محلِّ نصبٍ نعتاً ل " كم " لأنها نكرة . ويَضْعُفُ جَعْلُه حالاً من النكرة . ولا يجوزُ أن يكونَ تمييزاً على قواعد البصريين ، و " مِنْ " داخلةٌ عليه على حَدِّ دخولِها على غيرِه من التمييزات لتعريفِه .
وقرأ العامَّةُ " يَهْدِ " بياءِ الغَيْبة . وتقدَّم الكلامُ في فاعِله . وقرأ ابن عباس وأبو عبد الرحمن بالنونِ المُؤْذِنَةِ بالتعظيم ، وهي مؤيدةٌ لكونِ الفاعلِ في قراءةِ العامَّةِ ضميرَ الله تعالى .
قوله : { يَمْشُونَ } حالٌ من القرون أو مِنْ مفعولِ " أهلَكْنا " . والضميرُ على هذين عائدٌ على القرونِ المُهْلَكَة . ومعناه : إنَّا أهلكناكم وهم في حالِ أَمْنٍ ومَشْيٍ وتَقَلُّبٍ في حاجاتهم كقوله : { أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً } [ الأنعام : 44 ] ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الضمير في " لهم " . والضميرُ في " يَمْشُون " على هذا عائدٌ على مَنْ عاد عليه الضمير في " لهم " ، وهم المشركون المعاصرون لرسول الله صلَّى الله عليه وسلِّم . والعاملُ فيها " يَهْدِ " . / و [ المعنى ] : أنكم تَمْشُون في مساكن الأمم السالفةِ ، وتتصرَّفون في بلادهم ، فينبغي أَنْ تعتبروا لئلاَّ يَحُلَّ بكم ما حلَّ بهم . وقرأ ابن السميفع " يُمَشَّوْن " مبنياً للمفعول مضعَّفاً؛ لأنه لَمَّا تعدى بالتضعيف جاز بناؤه للمفعول .
(1/3345)

وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
قوله : { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } : في رفعِه وجهان ، أظهرُهما : عطفُه على " كلمةٌ " أي : ولولا أجلٌ مُسَمَّى لكان العذابُ لازماً لهم .
الثاني : جَوَّزه الزمخشريُّ وهو أَنْ يكونَ مرفوعاً عطفاً على الضمير المستتر . والضميرُ عائدٌ على الأخذِ العاجلِ المدلولِ عليه بالسياقِ . وقام الفصلُ بالجرِّ مَقامَ التأكيدِ . والتقدير : ولولا كلمةٌ سَبَقَتْ مِنْ ربك لكان الأخذُ العاجل وأجلٌ مُسَمَّى لازِمَيْن لهم ، كما كانا لازِمَيْنِ لعادٍ وثمودَ ، ولم ينفردِ الأجلُ المسمى دون الأخذِ العاجل .
قلت : فقد جعل اسمَ " كان " عائداً على ما دَلَّ عليه السياقُ ، إلاَّ أنه قد تُشْكِلُ عليه مسألةٌ : وهو أنه قد جَوَّز في " لزام " وجهين ، أحدهما : أَنْ يكونَ مصدرَ لازَمَ كالخِصام ، ولا إشكال على هذا .
والثاني : أن يكون وصفاً على فِعال بمعنى مُفْعِل أي : مُلْزِم ، كأنه آلةُ اللُّزوم لفَرْطِ لُزومه كما قالوا : لِزازُ خَصْمٍ ، وعلى هذا فيُقال : كان ينبغي أَنْ يطابق في التثنية فيقال : لِزَامَيْنِ بخلاف كونه مصدراً فإنه يُفْرَدُ على كل حال .
وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ " لزاماً " جمعَ لازم كقِيام جمعَ قائِم .
(1/3346)

فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
قوله : { بِحَمْدِ رَبِّكَ } : حالٌ أي : وأنت حامدٌ له .
قوله : { وَمِنْ آنَآءِ الليل } متعلِّقٌ ب " سَبِّحْ " الثانيةِ ، وقد تقدَّم ما في هذه الفاء .
قوله : { وَأَطْرَافَ } العامَّةُ علت نصبِه . وفيه وجهان أحدُهما : أنه عطفٌ على محلِّ { وَمِنْ آنَآءِ الليل } . والثاني : أنه عطفٌ على " قبلَ " . وقرأ الحسنُ وعيسى بنُ عمر " وأطرافِ " بالجرِّ عَطْفاً على " آناءِ الليل " . وقوله هنا " أطرافَ " وفي هود { طَرَفَيِ النهار } [ الآية : 114 ] فقيل : هو مِنْ وَضْعِ الجمعِ موضعَ التثنيةِ كقوله :
3329 ظَرْاهما مثلُ ظُهورِ التُّرْسَيْنْ ... وقيل : هو على حقيقتِه . والمرادُ بالأَطْراف : الساعات .
قوله : { ترضى } قرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم تُرْضَى " مبنياً للمفعول . والباقون مبنياً للفاعلِ ، وعليه { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } [ الضحى : 5 ] .
(1/3347)

وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)
قوله : { أَزْوَاجاً } : في نصبِه وجهان ، أحدهما : أنه منصوبٌ على المفعولِ به وهو واضح . والثاني : أنه منصوبٌ على الحالِ من الهاء في " به " . راعى لفظَ " ما " مرةً ، ومعناها أخرى ، فلذلك جَمَع . قال الزمخشري : " ويكون الفعلُ واقعاً على " منهم " . قال الزمخشري : " كأنه قيل : إلى الذي مَتَّعْنا به وهو أصنافُ بعضِهم وناساً منهم " .
قوله : { زَهْرَةَ } في نصبه تسعة أوجه ، أحدُها : أنه مفعولٌ ثانٍ لأنه ضَمَّن مَتَّعْنا معنى أَعْطَيْنا . ف " أزواجاً " مفعولٌ أولُ ، و " زهرةَ " هو الثاني . الثاني : أن يكونَ بدلاً من " أَزْواجاً " ، وذلك : إمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي : ذوي زهرة ، وإمَّا على المبالغةِ جُعِلوا نفسَ الزهرة . الثالث : أن يكونَ منصوباً بفعلٍ مضمرٍ دَلَّ عليه " مَتَّعْنا " تقديرُه : جَعَلْنا لهم زهرةً . الثالث : نَصْبُه على الذَّمِّ ، قال الزمخشري : " وهو النصبُ على الاختصاص " . الرابع : أن يكونَ بدلاً من موضعِ الموصولِ . قال أبو البقاء : " واختاره بعضُهم . وقال آخرون : لا يجوزُ لأنَّ قولَه { لِنَفْتِنَهُمْ } مِنْ صلة " مَتَّعْنا " فيلزمُ الفصلُ بين الصلةِ والموصولِ بالأجنبي " . وهو اعتراضٌ حسنٌ .
الخامس : أن ينتصبَ على البدلِ من محلِّ " به " . السادس : أن ينتصِبَ على الحال مِنْ " ما " الموصولةِ . السابع : أنه حالٌ من الهاء في " به " وهو ضميرُ الموصولِ فهو كالذي قبله في المعنى ، فإنْ قيل : كيف تقع الحالُ معرفةً؟ فالجوابُ أن تجعلَ " زهرةَ " منونةً نكرة ، وأنما حُذِفَ التنوينُ لالتقاء الساكنين نحو :
3330 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ولا ذاكرَ اللَّهَ إلاَّ قليلا
وعلى هذا : فيم جُرَّتِ الحياة؟ فقيل : على البدل مِنْ " ما " الموصولة . الثامن : أنه تمييزٌ ل " ما " أو للهاءِ في " به " قاله الفراء . وقد رَدُّوه عليه بأنه معرفةٌ ، والمميِّزُ لا يكون معرفة . وهذا غيرُ لازمٍ له؛ لأنه يجوزُ تعريفُ التمييز على أصول الكوفيين .
التاسع : أنه صفةٌ ل " أَزْواجاً " بالتأويلين المذكورَيْن في نصبِه حالاً . وقد منع أبو البقاء من هذا الوجهِ بكونِ الموصوفِ نكرةً ، والوصفِ معرفةً ، وهذا يُجابُ عنه بما أُجيب في تسويغِ نصبهِ حالاً ، أعني حذفَ التنوينِ لالتقاءِ الساكنين .
والعامَّةُ على تسكينِ الهاء . وقرأ الحسن وأبو البرهسم وأبو حيوةَ بفتحِها ، فقيل : بمعنى ، ك جَهْرَة وجَهَرَة . وأجاز الزمخشري أَنْ يكونَ جمعَ زاهر كفاجِر وفَجَرة وبارّ وبَرَرَة ، وروى الأصمعي عن نافع " لنُفْتِنَهم " بضمِّ النون مِنْ أَفْتَنَه إذا أوقعه في الفتنةِ .
والزَّهْرَةُ : بفتحِ الهاء وسكونِها كنَهْر ونَهَر ، ما يَرُوْقُ من النَّوْر . وسِراجٌ زاهِرٌ لبريقِه ، ورجلٌ أزهرُ وأمرأةٌ زهراءُ من ذلك . والأنجمُ الزهرُ هي المضيئةُ .
(1/3348)

وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
قوله : { للتقوى } : أي : لأهلِ التقوى . ويؤيد هذا قولُه في موضعٍ أخرَ { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] ، وقرأ ابن وثاب " نَرْزقُك " بإدغام القاف في الكاف . / والمشهورُ عنه أنه لا يدُغِمُ إلاَّ إذا كانَتِ الكافُ متصلةً بميمٍ جمعٍ نحو { خَلَقَكُمْ } [ البقرة : 21 ] وقد تقدم .
(1/3349)

وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)
قوله : { أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ } : قرأ نافع وأبو عمرو وحفص " تأتهم " بالتأنيثِ والباقون بالياء مِنْ تحت؛ لأنَّ التأنيثَ مجازي . وقرأ العامَّةُ " بَيِّنَةُ ما " بإضافة " بَيِّنَة " إلَى " ما " مرفوعةً وهي واضحةٌ . وقرأ أبو عمروٍ فيما رواه أبو زيدٍ بتنوينِ " بَيِّنَةٌ " مرفوعةً . وعلى هذه القراءةِ ففي " ما " أوجهٌ ، أحدُها : أنها بدلٌ من " بَيِّنَةٌ " بدل كل من كل . والثاني : أن تكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي : هي ما في الصحف الأولى . والثالث أَنْ تكونَ " ما " نافيةً . قال صاحب : اللوامح " : " وأُريدَ بذلك ما في القرآن من الناسخ والفصلِ ممَّا لم يكنْ في غيرِه من الكتب " .
وقرأَتْ جماعةٌ " بَيِّنَةً " بالتنوين والنصب . ووجهُها أَنْ تكونَ " ما " فاعلةً ، و " بَيِّنَةً " نصب على الحال ، وأنَّث على معنى " ما " . ومَنْ قرأ بتاء التأنيث فحملاً على معنى " ما " ، ومَنْ قرأ بياءِ الغَيْبة فعلى لفظِها .
وقرأ ابنُ عباس بسكونِ الحاء .
(1/3350)

وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134)
والهاءُ في " قَبْلِهِ " يجوزُ أَنْ تعودَ للرسول بدليلِ قولِه : { لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } . وجَوَّز الزمخشري وغيرُه أَنْ تعودَ على " بَيِّنَةٍ " باعتبارِ أنها في معنى البرهان والدليل .
قوله : { فَنَتَّبِعَ } نصبٌ بإضمار " أَنْ " في جوابِ التخصيص . وفي إعراب أبي البقاء : " في جوابِ الاستفهام " وهو سهوٌ .
وقرأ ابنُ عباس وابنُ الحنفية والحسن وجماعةٌ كثيرة " نُذَلَّ ونخزى " . مبنيين للمفعول .
(1/3351)

قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
و " مُتَرَبِّصٌ " خبرُ " كل " ، أَفرَدَ حملاً على لفظ " كل " .
قوله : { مَنْ أَصْحَابُ } يجوز في " مَنْ " هذه وجهان ، أظهرهما : أَنْ تكونَ استفهاميةً مبتدأةً ، و " أصحابُ " خبره . والجملةُ في محلِّ نصبٍ سادَّة مَسَدَّ المفعولَيْن . والثاني ويعزى للفراء أن تكونَ موصولةً بمعنى الذين . و " أصحابُ " خبر مبتدأ مضمر أي : هم أصحاب ، وهذا على مقتضى مذهبِهم ، يحذفون مثلَ هذا العائدِ وإن لم تَطُلِ الصلةُ . ثم " عَلِمَ " يجوز أَنْ تكونَ عرفانيةً فتكتفيَ بهذا المفعولِ ، وأن تكون على بابها فلا بُدَّ مِنْ تقديرِ ثانيهما .
وقرأ العامَّةُ : " السَّوِيِّ " على وزن فَعيل بمعنى المُسْتَوي . وقرأ أبو مجلز وعمران بن حدير " السَّواء " بفتحِ السينِ والمدِّ ، بمعنى الوسط الجيِّد . وقرأ يحيى بن يعمر والجحدري " السوءى " على فعلى باعتبار أن الصراط يُذَكَّرُ ويؤنث . وقرأ ابن عباس " السَّوْء " بفتح السين بمعنى الشرِّ .
ورُوي عنهما " السوى " بضم السين وتشديد الواو . ويحتمل ذلك وجهين ، أحدُهما : أَنْ يكونَ قَلَبَ الهمزةَ واواً ، وأدغم الواوَ في الواو ، وأَنْ يكونَ فُعْلَى من السَّواء . وأصلُه السُّوْيا فقُلِبَتِ الياءُ واواً وأُدْغم أيضاً . وكان قياسُ هذه السُّيَّا؛ لأنه متى اجتمع ياءٌ وواوٌ وسَبَقت إحداهما بالسكون قُلبت الواوُ ياءً وهنا فُعِل بالعكس .
وقُرِىء " السُّوَيِّ " بضم السين وفتح الواو وتشديد الياءِ تصغيرَ " سُوْء " قاله الزمخشري . قال الشيخ : " وليس بجيدٍ إذ لو كانَ كذلك لثَبَتَتْ همزةُ " سوء " . والأجودُ أَنْ يكونَ تصغيرَ " سواء " ، كقولِهم عُطَيّ في عَطاء " . قلت : وقد جعله أبو البقاء أيضاً تصغيرَ السَّوْء يعني بفتح السين . ويَرِدُ عليه ما تقدَّم إيرادُه على الزمخشريِّ ، وإبدالُ مثلِ هذه الهمزةِ جائزٌ فلا إيرادَ .
قوله : { وَمَنِ اهتدى } فيه ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدها : أَنْ تكونَ استفهاميةً ، وحكمُها كالتي قبلها إلاَّ في حَذْفِ العائِد . الثاني : أنها في محلِّ رفعٍ على ما تقدَّم في الاستفهاميةِ . الثالث : أنها في محلِّ جرٍّ نَسَقاً على " الصراطِ " أي : وأصحابُ مَنِ اهتدى . وعلى هذين الوجهين تكونُ موصولةً ، قال أبو البقاء في الوجه الثاني : " وفيه عَطْفُ الخبرِ على الاستفهام ، وفيه تقويةٌ قولِ الفرَّاءِ " يعني أنه إذا جَعَلَها موصولةً كانت خبريةً .
(1/3352)

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1)
قوله : { اقترب لِلنَّاسِ } : اللامُ متعلقٌ ب " اقترب " . قال الزمخشري : " هذه اللامُ لا تخلُو : إمَّا أَنْ تكونَ صلةً لاقترب ، أو تأكيداً لإِضافةِ الحسابِ إليهم كقولك : أَزِفَ للحَيِّ رحيلُهم الأصل : أَزِفَ رحيلُ الحيِّ ، ثم أَزِفَ للحيِّ الرحيلُ ، ثم أزف للحيِّ رحيلُهم ، ونحوه ما أوردَه سيبويه في باب " ما يثنى فيه المستقِرُّ توكيداً " نحو : " عليك زيدٌ حريصٌ عليك " ، و " فيك زيد راغب فيك " ، ومنه قولهم : " لا أبا لك " لأنَّ اللاَم مؤكدةٌ لمعنى الإِضافة . وهذا الوجهُ أغربُ من الأول . قال الشيخ : / " يعني بقولِه صلةً لاقتربَ أي : متعلقةً به . وأمَّا جَعْلُه اللامَ تأكيداً لإِضافة الحسابِ إليهم مع تقدُّمِ اللامِ ودخولِها على الاسمِ الظاهرِ ، فلا نعلم أحداً يقول ذلك ، وأيضاً فتحتاج إلى ما تتعلَّقُ به . ولا يمكن تعلُّقها ب " حسابُهم "؛ لأنه مصدرٌ موصولٌ ، لأن قُدِّم معمولُه عليه . وأيضاً فإنَّ التوكيدَ يكونُ متأخراً عن المُؤَكَّد ، وأيضاً فلو أُخِّر في هذا التركيبِ لم يَصِحَّ . وأمَّا تشبيهُه بما أورد سيبويهِ فالفرقُ واضحٌ فإنَّ " عليك " معمولٌ ل " حريصٌ " ، و " عليك " المتأخرةُ تأكيدٌ ، وكذلك " فيك زيدٌ راغبٌ فيك " يتعلَّقُ " فيك " ب " راغبٌ " ، و " فيك " الثانيةُ توكيدٌ . وإنما غَرَّه في ذلك صحةُ تركيبِ حسابِ الناس ، وكذلك " أَزِفَ رحيلُ الحيِّ " فاعتقدَ إذا تقدَّم الظاهرُ مجروراً باللامِ وأُضيف المصدرُ لضميرِه أنَّه من بابِ " فيك زيد راغب فيك " ، فليس مثلَه . وأمَّا " لا أبا لك " فهي مسألةٌ مشكلةٌ ، وفيها خلاف ، ويمكن أن يقال فيها ذلك؛ لأنَّ اللامَ فيها جاوَرَتِ الإِضافةَ ، ولا يُقاس عليها لشذوذِها وخروجها عن الأقيسةِ " .
قلت : مسألةُ الزمخشري أشبهُ شيءٍ بمسألةِ " لا أبا لَك " ، والمعنى الذي أَوْرده صحيحٌ . وأمَّا كونُها مشكلةً فهو إنما بناها على قولِ الجمهورِ ، والمُشْكِلُ مقررٌ في بابِه ، فلا يَضُرُّنا القياسُ عليه لتقريرِه في مكانِه .
قوله : { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } يجوز أَنْ يكونَ الجارُّ متعلقاً بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الضميرِ في " مُعْرِضُون " ، وأن يكون خبراً للضمير ، و " مُعْرِضون " خبر ثانٍ . وقولُ أبي البقاء في هذا الجارِّ " إنه خبرٌ ثانٍ " يعني في العددِ ، وإلاَّ فهو أولٌ في الحقيقة . وقد يقال : لَمَّا كان في تأويلِ المفرد جُعِل المفردُ الصريحُ مقدَّماً في الرتبةِ فهو ثانٍ بهذا الاعتبارِ . وهذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من " للناس " .
(1/3353)

مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)
قوله : { مُّحْدَثٍ } : العامَّةُ على جَرِّ " من " مُحْدَثٍ " نعتاً ل " ذِكْرٍ " على اللفظِ . وقوله : { مِّن رَّبِّهِمْ } فيه أوجهٌ ، أجودُها : أن يتعلَّقَ ب " يَِأْتيهم " وتكونُ " مِنْ " لابتداءِ الغايةِ مجازاً . والثاني : أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الضمير المستترِ في " مُحْدَثٍ " . الثالث : أن يكونَ حالاً مِنْ نفسِ " ذِكْرٍ " وإنْ كان نكرةً لأنَّه قد تَخَصَّصَ بالوصفِ ب " مُحْدَثٍ " ، وهو نظيرُ " ما جاءني رجلٌ قائماً منطلقٌ " فَفَصَل بالحالِ بين الصفةِ والموصوفِ . وأيضاً فإنَّ الكلامَ نفيٌ وهو مُسَوِّغٌ لمجيء الحالِ من النكرةِ . الرابع : أَنْ يكونَ نعتاً ل " ذِكْر " فيجوزُ في محلِّه الوجهان : الجرُّ باعتبارِ اللفظِ ، والرفعُ باعتبارِ المحلِّ لأنه مرفوعُ المحل إذ " مِنْ " مزيدةٌ فيه ، وسيأتي . وفي جَعْلِه نعتاً ل " ذِكْرٍ " إشكالٌ من حيث إنه قد تقدَّم غيرُ الصريحِ على الصريحِ . وتقدَّم تحريرُه في المائدة . الخامس : أَنْ يتعلَّقَ بمَحذوفٍ على سبيلِ البيان .
وقرِأ ابنُ أبي [ عَبْلة ] " مُحْدَثٌ " رفعاً نعتاً ل " ذِكْرٍ " على المحلِّ لأنَّ " مِنْ " مزيدةٌ فيه لاستكمالِ الشرطين . وقال أبو البقاء : " ولو رُفِع على موضع " مِنْ ذكْر " جاز " . كأنه لم يَطَّلِعْ عليه قراءةً . وزيدُ بنُ علي " مُحْدَثاً " نصباً على الحال مِنْ " ذِكْر " ، وسَوَّغ ذلك وصفُه ب " مِنْ ربِّهم " إنْ جَعَلْناه صفةً ، أو اعتمادُه على النفي . ويجوز أن يكونَ من الضمير المستتر في " مِنْ ربهم " إذا جَعَلْناه صفةً .
قوله : { إِلاَّ استمعوه } هذه الجملةُ حالٌ من مفعول " يأتيهم " ، وهو استثناءٌ مفرغٌ ، و " قد " معه مضمرةٌ عند قوم .
قوله : { وَهُمْ يَلْعَبُونَ } حالٌ مِنْ فاعل " استمعوه " .
(1/3354)