أحكام القرآن
الجصاص ج 2

[ 1 ]
أحكام القرآن تأليف الامام حجة الاسلام أبي بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص المتوفى سنة 370 ه‍ ضبط نصه وخرج آياته عبد السلام محمد علي شاهين الجزء الثاني دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
[ 2 ]
جميع الحقوق محفوظة لدار الكتب العلمية بيروت - لبنان الطبعة الاولى 1415 ه‍ - 1994 م دار الكتب العلمية بيروت - لبنان ص. ب: 9424 / 11 - تلكس: - 41245 le nashwer هاتف: 366135 - 602133 - 868015 - 815573 فاكس: 478173 / 1212 /.. - 602133 / 9611 /..
[ 3 ]
(سورة آل عمران) بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب منه أيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات إلى آخر القصة قال الشيخ أبو بكر قد بينا في صدر الكتاب معنى المحكم والمتشابه وأن كل واحد منهما ينقسم إلى معنيين أحدهما يصح وصف القرآن بجميعه والآخر إنما يختص به بعض القرآن دون بعض قال الله تعالى الر كتاب أحكمت آياته وقال تعالى الر تلك آيات الكتاب الحكيم [ يونس: 1 ] فوصف جميع القرآن في هذه المواضع بالأحكام وقال تعالى الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني فوصف جميعه بالمتشابه ثم قال في موضع آخر (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات عن أم الكتاب وأخر متشابهات) فوصف ههنا بعضه بأنه محكم وبعضه متشابه والأحكام الذي عم به الجميع هو الصواب والإتقان اللذان يفضل بهما القرآن كل قول وأما موضع الخصوص في قوله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب فإن المراد به اللفظ الذي لا اشتراك فيه ولا يحتمل عند سامعه إلا معنى واحدا وقد ذكرنا اختلاف الناس فيه إلا أن هذا المعنى لا محالة قد انتظمه لفظ الأحكام المذكور في هذه الآية وهو الذي جعل إما للمتشابه الذي يرد إليه ويحمل معناه عليه وإما المتشابه الذي عم به جميع القرآن في قوله تعالى (كتابا متشابها فهو التماثل ونفي الاختلاف والتضاد عنه وأما المتشابه الخصوص به بعض القرآن فقد ذكرنا أقاويل السلف فيه وما روي عن ابن عباس أن المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ فهذا عندنا هو أحد أقسام المحكم والمتشابه لأنه لم ينف أن يكون للمحكم والمتشابه وجوه غيرهما وجاجز وكان أن يسمى الناسخ محكما لأنه ثابت الحكم والعرب تسمي البناء الوثيق محكما ويقولون في العقد الوثيق روى الذي لا يمكن حله محكما فجائز أن يسمى الناسخ محكما إذ كانت صفته الثبات والبقاء ويسمى المنسوخ متشابها من حيث أشبه في التلاوة المحكم وخالفه في
[ 4 ]
ثبوت الحكم فيشتبه على التالي حكمه في ثبوته ونسخه فمن هذا الوجه جائز أن يسمى المنسوخ متشابها وأما قول من قال إن المحكم هو الذي لم تتكرر ألفاظه والمتشابه هو الذي تتكرر ألفاظه فإن اشتباه هذا من جهة اشتباه وجه الحكمة فيه على السامع وهذا سائغ عام في جميع ما يشتبه فيه وجه الحكمة فيه على السامع إلى أن يتبينه ويتضح له وجهه فهذا مما يجوز فيه إطلاق اسم المتشابه ومالا يشتبه فيه وجه الحكمة على السامع فهو المحكم الذي لا تشابه فيه على قول هذا القائل فهذا أيضا أحد وجوه المحكم والمتشابه وإطلاق الاسم فيه سائغ جائز وأما ما روي عن جابر بن عبد الله أن المحكم ما يعلم تعيين تأويله والمتشابه مالا يعلم تأويله كقوله تعالى (يسألونك عن الساعة أيان مرسيها وما جرى مجرى ذلك فإن إطلاق اسم المحكم والمتشابه سائغ فيه لأن ما علم وقته ومعناه فلا تشابه فيه وقد أحكم بيانه ومالا يعلم تأويله ومعناه ووقته فهو مشتبه على سامعه فجائز أن يسمى بهذا الاسم فجميع هذه الوجوه يحتمله اللفظ على ما روي فيه ولولا احتمال اللفظ لما ذكروا لما تأولوه عليه وما ذكرناه من قول من قال إن المحكم هو مالا يحتمل إلا معنى واحدا والمتشابه ما يحتمل معنيين فهو أحد الوجوه الذي ينتظمها هذا الاسم لأن المحكم من هذا القسم سمي محكما لأحكام دلالته وإيضاح معناه وإبانته والمتشابه منه سمي بذلك لأنه أشبه المحكم من وجه واحتمل معناه وأشبه غيره مما يخالف معناه معنى المحكم فسمي متشابها من هذا الوجه فلما كان المحكم والمتشابه يعتورهما ولم ما ذكرنا من المعاني احتجنا إلى معرفة المراد منها بقوله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله مع علمنا بما في مضمون هذه الآية وفحواها من وجوب رد المتشابه إلى المحكم وحمله على معناه دون حمله على ما يخالفه لقوله تعالى في صفة المحكمات (هن أم الكتاب والأم هي التي منها ابتداؤه وإليها مرجعه فسماها أما فاقتضى ذلك بناء المتشابه عليها ورده إليها ثم أكد ذلك بقوله فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فوصف متبع المتشابه من غير حمله له على معنى المحكم بالزيغ في قلبه وأعلمنا أنه مبتغ للفتنة وهي الكفر والضلال في هذا الموضع كما قال تعالى والفتنة أشد من القتل يعني والله أعلم الكفر فأخبر أن متبع المتشابه وحامله على مخالفة المحكم في قلبه زيغ يعني الميل عن الحق يستدعي غيره بالمتشابه إلى الضلال والكفر فثبت بذلك أن المراد بالمتشابه المذكور في هذه الآية هو اللفظ المحتمل للمعاني الذي يجب رده إلى المحكم وحمله على معناه ثم نظرنا بعد ذلك في المعاني التي تعتور هذا اللفظ وتتعاقب بين عليه مما قدمنا ذكره في أقسام
[ 5 ]
المتشابه عن القائلين بها على اختلافها مع احتمال للفظ فوجدنا قول من قال بأنه الناسخ والمنسوخ فإنه إن كان تاريخهما معلوما فلا اشتباه فيهما على من حصل له العلم بتاريخهما وعلم يقينا أن المنسوخ متروك الحكم وأن الناسخ ثابت الحكم فليس فيهما ما يقع فيه اشتباه على السامع العالم بتاريخ الحكمين اللذين لا احتمال فيهما لغير الناسخ وإن اشتبه على السامع من حيث أنه لم يعلم التاريخ فهذا ليس أحد اللفظين أولى بكونه محكما من الآخر ولا يكونا متشابها منه إذ كل واحد منهما يحتمل أن يكون ناسخا ويحتمل أن يكون منسوخا فهذا لا مدخل له في قوله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات وأما قول من قال إن المحكم ما لم يتكرر لفظه والمتشابه ما تكرر لفظه فهذا أيضا لا مدخل له في هذه الآية لأنه لا يحتاج إلى رده إلى المحكم وإنما يحتاج إلى تدبيره بعقله وحمله على ما في اللغة من تجويزه وأما قول من قال إن المحكم ما علم وقته وتعيينه والمتشابه مالا يعلم تعيين تأويله كأمر الساعة وصغائر الذنوب التي آيسنا الله من وقوع علمنا بها في الدنيا وإن هذا الضرب أيضا منها خارج عن حكم هذه الآية لأنا لا نصل إلى علم معنى المتشابه برده إلى المحكم فلم يبق من الوجوه التي ذكرنا من أقسام المحكم والمتشابه مما يجب بناء أحدهما على الآخر وحمله على معناه إلا الوجه الأخير الذي قلنا وهو أن يكون المتشابه اللفظ المحتمل للمعاني فيجب حمله على المحكم الذي لا احتمال فيه ولا اشتراك في لفظه من نظائر ما قدمنا في صدر الكتاب وبينا أنه ينقسم إلى وجهين من العقليات والسمعيات وليس يمتنع أن تكون الوجوه التي ذكرناها عن السلف على اختلافها بتناولها الاسم على ما روي عنهم فيه لما بينا من وجوهها ويكون الوجه الذي يجب حمله على المحكم هو هذا الوجه الأخير لامتناع إمكان حمل سائر وجوه المتشابه على المحكم على ما تقدم من بيانه ثم يكون قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله معناه تأويل جميع المتشابه حتى لا يستوعب غيره علمها فنفى إحاطة علمنا بجميع معاني المتشابهات من الآيات ولم ينف بذلك أن نعلم نحن بعضها بإقامته لنا الدلالة عليه كما قال تعالى ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء لأن في فحوى الآية ما قد دل على أنا نعلم بعض المتشابه برده إلى المحكم وحمله على معناه على ما بينا من ذلك ويستحيل أن تدل الآية على وجوب رده إلى المحكم وتدل أيضا على أنا لا نصل إلى علمه ومعرفته فإذا ينبغي أن يكون قوله تعالى وما يعلم تأويله إلا الله غير ناف لوقوع العلم ببعض المتشابه فمما لا يجوز وقوع العلم لنا به وقت الساعة والذنوب الصغائر ومن الناس من يجوز ورود لفظ مجمل في حكم يقتضي البيان ولا يبينه أبدا فيكون في حيز المتشابه الذي لا نصل إلى العلم به
[ 6 ]
وقد اختلف أهل العلم في معنى قوله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم فمنهم من جعل تمام الكلام عند قوله تعالى والراسخون في العلم وجعل الواو التي في قوله والراسخون في العلم للجمع كقول القائل لقيت زيدا وعمرا وما جرى مجراه ومنهم من جعل تمام الكلام عند قوله وما يعلم تأويله إلا الله وجعل الواو للإستقبال وابتداء خطاب غير متعلق بالأول فمن قال بالقول الأول وجعل الراسخين في العلم عالمين ببعض المتشابه وغير عالمين بجميعه وقد روي نحوه عن عائشة والحسن وقال مجاهد فيما رواه ابن أبي نجيح في قوله تعالى فأما الذين في قلوبهم زيع يعني شكا ابتغاء الفتنة الشبهات بما هلكوا لكن الراسخون في العلم يعلمون تأويله يقولون آمنا به وروي عن ابن عباس ويقولون الراسخون في العلم وكذلك روي عن عمر بن عبد العزيز وقد روي عن ابن عباس أيضا وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا به وعن الربيع بن أنس مثله والذي يقتضيه اللفظ على ما فيه من الاحتمال أن يكون تقديره وما يعلم تأويله إلا الله يعني تأويل جميع المتشابه على ما بينا والراسخون في العلم يعلمون بعضه قائلين آمنا به كل من عند ربنا يعني ما نصب لهم من الدلالة عليه في بنائه على المحكم ورده إليه وما لم يجعل لهم سبيل إلى علمه من نحو ما وصفنا فإذا علموا تأويل بعضه ولم يعلموا البعض قالوا آمنا بالجميع كل من عند ربنا وما أخفى عنا علم ما غاب عنا علمه إلا لعلمه تعالى بما فيه من المصلحة لنا وما هو خير لنا في ديننا ودنيانا وما أعلمنا وما يعلمناه إلا لمصلحتنا ونفعنا فيعترفون بصحة الجميع والتصديق بما علموا منه وما لم يعلموه ومن الناس من يظن أنه لا يجوز إلا أن يكون منتهى الكلام وتمامه عند قوله تعالى (وما يعلم تأويله إلا الله وأن الواو للإستقبال دون الجمع لأنها لو كانت للجمع لقال ويقولون آمنا به ويستأنف ذكر الواو لاستئناف الخبر وقال من ذهب إلى القول الأول هذا سائغ في اللغة وقد وجد مثله في القرآن وهو قوله تعالى في بيان قسم الفئ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول إلى قوله تعالى شديد العقاب ثم تلاه بالتفصيل وتسمية من يستحق هذا الفئ فقال للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا إلى قوله تعالى والذين جاؤا من بعدهم وهم لا محالة داخلون في استحقاق الفئ كالأولين والواو فيه للجمع ثم قال تعالى يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان معناه قائلين ربنا اغفر لنا ولإخواننا كذلك قوله تعالى والراسخون في العلم يقولون معناه والراسخون في
[ 7 ]
العلم يعلمون تأويل ما نصب لهم الدلالة عليه من المتشابه قائلين ربنا آمنا به فصاروا معطوفين على ما قبله داخلين في حيزه وقد وجد مثله في الشعر قال يزيد بن مفرغ الحميري * وشريت بردا ليتني * من بعد برد كنت هامه % * فالريح أهل تبكي شجوه * والبرق يلمع في الغمامه * والمعنى والبرق يبكي شجوه لامعا في الغمامة وإذا كان ذلك سائغا في اللغة وجب حمله على موافقة دلالة الآية في وجوب رد المتشابه إلى المحكم فيعلم الراسخون في العلم تأويله إذا استدلوا بالمحكم على معناه ومن جهة أخرى أن الواو لما كانت حقيقتها الجمع فالواجب حملها على حقيقتها ومقتضاها ولا يجوز حملها على الابتداء إلا بدلالة ولا دلالة معنا توجب صرفها عن الحقيقة فوجب استعمالها على الجمع فإن قيل إذا كان استعمال المحكم مقيدا بما في العقل وقد يمكن كل مبطل أن يدعي ذلك لنفسه فيبطل فائدة الاحتجاج بالمحكم قيل له إنما هو مقيد بما هو في تعارف العقول فيكون اللفظ مطابقا لما تعارفه العقلاء من أهل اللغة ولا يحتاج في استعمال حكم العقل فيه إلى مقدمات بل يوقع العلم لسامعه بمعنى مراده على الوجه الذي هو ثابت في عقول العقلاء دون عادات فاسدة قد جروا عليها فما كان كذلك فهو المحكم مالذي لا يحتمل معناه إلا مقتضى لفظه وحقيقته فأما العادات الفاسدة فلا اعتبار بها فإن قيل كيف وجه اتباع من في قلبه زيغ ما تشابه منه دون ما أحكم قيل له نحو ما روى الربيع بن أنس أن هذه الآية نزلت في وفد نجران لما حاجوا النبي صلى الله عليه وسلم في المسيح فقالوا أليس هو كلمة الله وروح منه فقال بلى فقالوا حسبنا فأنزل الله فأما الذين في قلبوهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ثم أنزل الله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون فصرفوا قوله كلمة الله إلى ما يقولونه في قدمه مع الله وروحه صرفوه إلى أنه جزء منه قديم معه كروح الإنسان وإنما أراد الله تعالى بقوله كلمة أنه بشر به في كتاب الأنبياء المتقدمين فسماه كلمة من حيث قدم البشارة به وسماه روحه لأن الله تعالى خلقه من غير ذكر بل أمر جبريل عليه السلام فنفخ في جيب مريم عليها السلام وأضافه إلى نفسه تعالى تشريفا له كبيت الله وسماء الله وأرضه ونحو ذلك وقيل إنه سماه روحا كما سمى القرآن روحا بقوله تعالى وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا [ الشورى: 52 ]،
[ 8 ]
وإنما سماه روحا من حيث كان فيه حياة الناس في أمور دينهم فصرف أهل الزيغ ذلك إلى مذاهبهم الفاسدة وإلى ما يعتقدونه من الكفر والضلال وقال قتادة أهل الزيغ المتبعون للمتشابه منه هم الحرورية والسبائية قوله تعالى قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم روي عن ابن عباس وقتادة وابن إسحاق أنه لما هلكت قريش يوم بدر جمع النبي صلى الله عليه وسلم اليهود بسوق قينقاع فدعاهم إلى الإسلام وحذرهم مثل ما نزل بقريش من الإنتقام فأبوا وقالوا ألسنا كقريش الأغمار الذين لا يعرفون القتال لئن حاربتنا لتعرفن أنا الناس فأنزل الله تعالى (قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد وفي هذه الآية دلالة على صحة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فيها من الأخبار عن غلبة المؤمنين المشركين فكان على ما أخبر به ولا يكون ذلك على الاتفاق مع كثرة ما أخبر به عن الغيوب في الأمور المستقبلة فوجد مخبره على ما أخبر به من غير خلف وذلك لا يكون إلا من عند الله تعالى العالم بالغيوب إذ ليس في وسع أحد من الخلق الإخبار بالأمور المستقبلة ثم يتفق مخبر أخباره على ما أخبر به من غير خلف لشئ منه وقوله تعالى قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله الآية روي عن ابن مسعود والحسن أن ذلك خطاب للمؤمنين وإن المؤمنين هي الفئة الرائية للمشركين مثليهم رأي العين فرأوهم مثلي عدتهم وقد كانوا ثلاثة أمثالهم لأن المشركين كانوا نحو ألف رجل والمسلمون ثلاثمائة وبضعة عشر فقللهم الله تعالى في أعين المسلمين لتقوية قلوبهم وقال آخرون قوله قد كان لكم آية مخاطبة للكفار الذين ابتدأ بذكرهم في قوله قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وقوله (قد كان لكم أية معطوف عليه وتمام له والمعنى فيه إن الكافرين رأوا المؤمنين مثليهم وأراهم الله تعالى كذلك في رأي العين ليجبن قلوبهم ويرهبهم فيكون أقوى للمؤمنين عليهم وذلك أحد أبواب النصر للمسلمين والخذلان للكافرين وفي هذه الآية الدلالة من وجهين على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم أحدهما غلبة الفئة القليلة العدد والعدة للكثيرة العدد والعدة وذلك على خلاف مجرى العادة لما أمدهم الله به من الملائكة والثاني أن الله تعالى قد كان وعدهم إحدى الطائفتين وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين قبل اللقاء بالظفر والغلبة وقال هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان وكان كما وعد الله وأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى زين للناس حب الشهوات قال الحسن زينها الشيطان لأنه لا
[ 9 ]
أحد أشد ذما لها من خالقها وقال بعضهم زينها الله بما جعل في الطباع من المنازعة إليها كما قال تعالى إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها وقال آخرون زين الله ما يحسن منه وزين الشيطان ما يقبح منه وقوله تعالى إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس الآية روي عن أبي عبيدة بن الجراح أنه قال قلت يا رسول الله أي الناس أشد عذابا يوم القيامة قال رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بمعروف ونهى عن منكر ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم ثم قال يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل وإثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم وهو الذي ذكر الله تعالى وفي هذه الآية جواز إنكار المنكر مع خوف القتل وأنه منزلة شريفة يستحق بها الثواب الجزيل لأن الله مدح هؤلاء الذين قتلوا حين أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وروى أبو سعيد الخدري وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر وفي بعض الروايات يقتل عليه وروى أبو حنيفة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتل قال عمرو بن عبيد لا نعلم عملا من أعمال البر أفضل من القيام بالقسط يقتل عليه وإنما قال الله تعالى فبشرهم بعذاب أليم وإن كان الإخبار عن أسلافهم من قبل أن المخاطبين من الكفار كانوا راضين بأفعالهم فأجملوا معهم في الأخبار بالوعيد لهم وهذا كقوله تعالى قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل وقوله تعالى الذين قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين آل ] عمران: 183 ] فنسب القتل إلى المخاطبين لأنهم رضوا بأفعال أسلافهم وتولوهم عليها فكانوا مشاركين لهم في استحقاق العذاب كما شاركوهم في الرضا بقتل الأنبياء عليهم السلام قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله) الآية روي عن ابن عباس أنه أراد اليهود حين دعوا إلى التوراة وهي كتاب الله وسائر
[ 10 ]
الكتب التي فيها البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى الموافقة على ما في هذه الكتب من صحة نبوته كما قال تعالى في آية أخرى قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين) [ آل فتولى فريق من أهل الكتاب عن ذلك لعلمهم بما فيه من ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته ولولا أنهم علموا ذلك لما أعرضوا عند الدعاء إلى ما في كتبهم وفريق منهم آمنوا وصدقوا لعلمهم بصحة نبوته ولما عرفوه من التوراة وكتب الله من نعته وصفته وفي هذه الآية دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم لولا أنهم كانوا عالمين بما ادعاه مما في كتبهم من نعته وصفته وصحة نبوته لما أعرضوا عن ذلك بل كانوا يسارعون إلى الموافقة على ما في كتبهم حتى يتبينوا بطلان دعواه فلما أعرضوا ولم يجيبوا إلى ما دعاهم إليه دل ذلك على أنهم كانوا عالمين بما في كتبهم من ذلك وهو نظير ما تحدى الله تعالى به العرب من الإتيان بمثل سورة من القرآن فأعرضوا عن ذلك وعدلوا إلى القتال والمحاربة لعلمهم بالعجز عن الإتيان بمثلها وكما دعاهم إلى المباهلة في قوله تعالى فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم إلى قوله تعالى (ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين وقال النبي صلى الله عليه وسلم لو حضروا وباهلوا لأنه لأضرم الله تعالى عليهم الوادي نارا ولم يرجعوا إلى أهل ولا ولد وهذه الأمور كلها من دلائل النبوة وصحة الرسالة وروي عن الحسن وقتادة إنما أراد بقوله تعالى (يدعون إلى كتاب الله إلى القرآن لأن ما فيه يوافق ما في التوراة في أصول الدين والشرع والصفات التي قد قدمت بها البشارة في الكتب المتقدمة والدعاء إلى كتاب الله تعالى في هذه الآية يحتمل معاني جائز أن يكون نبوة النبي صلى الله عليه وسلم على ما بينا ويحتمل أن يكون أمر إبراهيم عليه السلام وأن دينه الإسلام ويحتمل أن يريد به بعض أحكام الشرع من حد أو غيره كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذهب إلى بعض مدارسهم فسألهم عن حد الزاني فذكروا الجلد والتحميم وكتموا الرجم حتى وقفهم النبي صلى الله عليه وسلم على آية الرجم بحضرة عبد الله بن سلام وإذا كانت هذه الوجوه محتملة لم يمتنع أن يكون الدعاء قد وقع إلى جميع ذلك وفيه الدلالة على أن من دعا خصمه إلى الحكم لزمته إجابته لأنه دعاه إلى كتاب الله تعالى ونظيره أيضا قوله تعالى وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون النور: 48 ]. قوله تعالى قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء قيل في قوله تعالى مالك الملك أنه صفة لا يستحقها إلا الله تعالى ومن أنه مالك كل ملك وقيل مالك أمر الدنيا والآخرة وقيل مالك العباد وما ملكوا وقال
[ 11 ]
مجاهد أراد بالملك ههنا النبوة وقوله تؤتي الملك من تشاء يحتمل وجهين أحمدهما ملك الأموال والعبيد وذلك مما يجوز أن يؤتيه الله للمسلم والكافر والآخر أمر التدبير وسياسة الأمة فهذا مخصوص به المسلم العدل دون الكافر ودون الفاسق وسياسة الأمة وتدبيرها متعلقة بأوامر ا لله تعالى ونواهيه وذلك لا يؤتمن الكافر عليه ولا الفاسق لا يجوز أن تجعل إلى من هذه صفته سياسة المؤمنين لقوله تعالى (لا ينال عهدي الظالمين البقرد 124 ] فإن قيل قال الله تعالى ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك فأخبر أنه آتى الكافر الملك قيل له يحتمل أن يريد به المال إن كان المراد إيتاء الكافر الملك وقد قيل إنه أراد به آتى إبراهيم الملك يعني النبوة وجواز الأمر والنهي في طريق الحكمة وقوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين الآية فيه نهي عن اتخاذ الكافرين أولياء لأنه جزم الفعل فهو إذا نهي وليس بخبر قال ابن عباس نهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآية أن يلاطفوا ونظيرها من الآي قوله تعالى لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا وقال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد اللل ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم الآية وقال تعالى فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وقال تعالى فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم وقال تعالى ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وقال تعالى فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا وقال تعالى وأعرض عن الجاهلين) [ الاعراف: 199 ] وقال تعالى يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم [ التوبة: وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض وقال تعالى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه فنهى بعد النهي عن مجالستهم وملاطفتهم عن النظر إلى أموالهم وأحوالهم في الدنيا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بإبل لبني المصطلق وقد عبست بأبوالها من السمن فتقنع بثوبه ومضى لقوله تعالى ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا
[ 12 ]
عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أنا برئ من كل مسلم مع مشرك فقيل لم يا رسول الله فقال لا تراءى ناراهما وقال أنا برئ من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين فهذه الآي والآثار دالة على أنه ينبغي أن يعامل الكفار بالغلظة والجفوة دون الملاطفة والملاينة ما لم تكن حال يخاف فيها على تلف نفسه أو تلف بعض أعضائه أو ضررا كبيرا يلحقه في نفسه فإنه إذا خاف ذلك جاز له إظهار الملاطفة والموالاة من غير صحة اعتقاد والولاء ينصرف على وجهين أحدهما من يلي أمور من يرتضي فعله بالنصرة والمعونة والحياطة وقد يسمى بذلك المعان المنصور قال الله تعالى الله ولي الذين آمنوا يعني أنه يتولى نصرهم ومعونتهم والمؤمنون أولياء الله بمعنى أنهم معانون بنصرة الله قال الله تعالى ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) [ يونس: 62 ]. مطلب: بيان معنى التقية وحكمها وقوله تعالى إلا أن تتقوا منهم تقية يعني إن تخافوا تلف النفس أو بعض الأعضاء فتتقوهم أخبرنا بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ وعليه الجمهور من أهل العلم وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين قال لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافرا وليا في دينه وقوله تعالى إلا أن تتقوا منهم تقية إلا أن تكون بينه وبينه قرابة فيصله لذلك فجعل التقية صلة لقرابة الكافر وقد اقتضت الآية جواز إظهار الكفر عند التقية وهو نظير قوله تعالى من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان وإعطاء التقية في مثل ذلك إنما هو رخصة من الله تعالى وليس بواجب بل ترك التقية أفضل قال أصحابنا فيمن أكره على الكفر فلم يفعل حتى قتل أنه أفضل ممن أظهر وقد أخذ المشركون خبيب بن عدي فلم يعط التقية حتى قتل فكان عند المسلمين أفضل من عمار بن ياسر حين أعطى التقية وأظهر
[ 13 ]
الكفر فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال كيف وجدت قلبك قال مطمئنا بالإيمان فقال صلى الله عليه وسلم وإن عادوا فعد وكان ذلك على وجه الترخيص وروي أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال لأحدهما أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم قال أتشهد أني رسول الله قال نعم فخلاه ثم دعا بالآخر وقال أتشهد أن محمدا رسول الله قال نعم قال أتشهد أني رسول الله قال إني أصم قالها ثلاثا فضرب عنقه فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أما هذا المقتول فمضى على صدقه ويقينه وأخذ بفضيلة فهنيئا له وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه وفي هذا دليل على أن إعطاء التقية رخصة وأن الأفضل ترك إظهارها وكذلك قالوا أصحابنا في كل أمر كان فيه إعزاز الدين فالإقدام عليه حتى يقتل أفضل من الأخذ بالرخصة في العدول عنه ألا ترى أن من بذل نفسه فجهاد العدو فقتل كان أفضل ممن انحاز وقد وصف الله أحوال الشهداء بعد القتل وجعلهم أحياء مرزوقين فكذلك بذل النفس في إظهار دين الله تعالى وترك إظهار الكفر أفضل من إعطاء التقية فيه وفي هذه الآية ونظائرها دلالة على أن لا ولاية للكافر على المسلم في شئ وإنه إذا كان له ابن صغير مسلم بإسلام أمه فلا ولاية له عليه في تصرف ولا تزويج ولا غيره ويدل على أن الذمي لا يعقل جناية المسلم وكذلك المسلم لا يعقل جنايته لأن ذلك من الولاية والنصرة والمعونة. قوله تعالى وآل إبراهيم وآل عمران روي عن ابن عباس والحسن إن آل إبراهيم هم المؤمنون الذين على دينه وقال الحسن وآل عمران المسيح عليه السلام لأنه ابن مريم بنت عمران وقيل آل عمران هم آل إبراهيم كما قال ذرية بعضها من بعض وهم موسى وهارون ابنا عمران وجعل أصحابنا الآل وأهل البيت واحدا فيمن يوصي لآل فلان إنه بمنزلة قوله لأهل بيت فلان فيكون لمن يجمعه وإياه الجد الذي ينسبون إليه من قبل الآباء نحو قولهم آل النبي صلى الله عليه وسلم وأهل بيته هما عبارتان عن معنى واحد قالوا إلا أن يكون من نسب إليه الآل هو بيت ينسب إليه مثل قولنا آل العباس وآل علي والمعنى فيه أولاد العباس وأولاد علي الذين ينسبون إليهما بالآباء وهذا محمول على المتعارف المعتاد وقوله عز وجل ذرية بعضها من بعض روي عن الحسن وقتادة بعضها من بعض في التناصر في الدين كما قال تعالى المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض [ التوبة: 67 ] يعني في الإجتماع على الضلال والمؤمنون بعضهم أولياء بعض في الاجتماع على الهدى وقال بعضهم ذرية بعضها من بعض)
[ 14 ]
في التناسل لأن جميعهم ذرية آدم ثم ذرية نوح ثم ذرية إبراهيم عليهم السلام مطلب: فيمن نذر أن ينشئ ابنه الصغير في عبادة الله وأن يعلمه القرآن وعلوم الدين قوله عز وجل إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرارا) روي عن الشعبي أنه قال مخلصا للعبادة وقال مجاهد خادما للبيعة وقال محمد بن جعفر بن الزبير عتيقا من أمر الدنيا لطاعة الله تعالى والتحرير ينصرف على وجهين أحدهما العتق من الحرية والآخر تحرير الكتاب وهو إخلاصه من الفساد والإضطراب وقولها إني نذرت لك ما في بطني محررا إذا أرادت مخلصا للعبادة أنها تنشئه على ذلك وتشغله بها دون غيرها وإذا أرادت به أنها تجعله خادما للبيعة أو عتيقا لطاعة الله تعالى فإن معاني جميع ذلك متقاربة كان نذرا من قبلها نذرته لله تعالى بقولها نذرت ثم قالت فتقبل مني إنك أنت السميع العليم والنذر في مثل ذلك صحيح في شريعتنا أيضا بأن ينذر الإنسان أن ينشئ ابنه الصغير على عبادة الله وطاعته وأن لا يشغله بغيرهما وأن يعلمه القرآن والفقه وعلوم الدين وجميع ذلك نذور صحيحة لأن في ذلك قربة إلى الله تعالى وقولها نذرت لك يدل على أنه يقتضي الإيجاب وأن من نذر لله تعالى قربة يلزمه الوفاء بها ويدل على أن النذور تتعلق على الأخطار وعلى أوقات مستقبلة لأنه معلوم أن قولها نذرت لك ما في بطني محررا) أرادت به بعد الولادة وبلوغ الوقت الذي يجوز في مثله أن يخلص لعبادة الله تعالى ويدل أيضا على جواز النذر بالمجهول لأنها نذرته وهي لا تدري ذكرا أم أنثى مطلب: للام ضرب من الولاية على الولد في تعليمه وتأديبه إلى آخره ويدل على أن للأم ضربا من الولاية على الولد في تأديبه وتعليمه وإمساكه وتربيته لولا أنها تملك ذلك لما نذرته في ولدها ويدل أيضا على أن للأم تسمية ولدها وتكون تسمية صحيحة وإن لم يسمه الأب لأنها قالت وإني سميتها مريم وأثبت الله تعالى لولدها هذا الاسم وقوله تعالى فتقبلها ربها بقبول حسن المراد به والله أعلم رضيها للعبادة في النذر الذي نذرته بالإخلاص للعبادة في بيت المقدس ولم يقبل قبلها أنثى في هذا المعنى قوله تعالى وكفلها زكريا إذا قرئ بالتخفيف كان معناه أنه تضمن مؤنتها كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وأشار بأصبعيه يعني به من
[ 15 ]
يضمن مؤنة اليتيم وإذا قرئ بالتثقيل كان معناه أن الله تعالى كفله إياها وضمنه مؤنتها وأمره بالقيام بها والقراءتان صحيحتان بأن يكون الله تعالى كفله إياها فتكفل بها قوله تعالى قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة الهبة تمليك الشئ من غير ثمن ويقولون قد تواهبوا يا لأمر بينهم وسمى الله تعالى ذلك هبة على وجه المجاز لأنه لم تكن هناك هبة على الحقيقة إذ لم يكن تمليك شئ وقد كان الولد حرا لا يقع فيه تمليك ولكنه لما أراد أن يخلص له الولد على ما أراد من عبادة الله تعالى ووراثته النبوة والعلم أطلق عليه لفظ الهبة كما سمى الله تعالى بذل النفس للجهاد في الله شراء بقوله إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة [ التوبة: 111 ] هو تعالى مالك الجميع من الأنفس والأموال قبل أن جاهدوا وبعده وسمى ذلك شراء لما وعدهم عليه من الثواب الجزيل وقد يقول القائل لي جناية فلان ولا تمليك فيه وإنما أراد إسقاط حكمها وقوله تعالى وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين يدل على أن غير الله تعالى يجوز أن يسمى بهذا الاسم لأن الله تعالى سمى بمحي سيدا والسيد هو الذي تجب طاعته وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للأنصار حين أقبل سعد بن معاذ للحكم بينه وبين بني قريظة قوموا إلى سيدكم وقال صلى الله عليه وسلم للحسن إن ابني هذا سيد وقال لبني سلمة من سيدكم يا بني سلمة قالوا الحر بن قيس على بخل فيه قال وأي داء أدوى من البخل ولكن سيدكم الجعد الأبيض عمرو بن الجموح فهذا كله يدل على أن من تجب طاعته يجوز أن يسمى سيدا وليس السيد هو المالك فحسب لأنه لو كان كذلك لجاز أن يقال سيد الدابة وسيد الثوب كما يقال سيد العبد وقد روي أن وفد بني عامر قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا أنت سيدنا وذو الطول علينا فقال النبي صلى الله عليه وسلم السيد هو الله تكلموا بكلامكم ولا يستهوينكم الشيطان وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل السادة من بني آدم ولكنه رآهم متكلفين لهذا القول فأنكره عليهم كما قال أن أبغضكم إلي الثرثارون المتشدقون المتفيقون لو فكره لهم تكلف الكلام على وجه التصنع وقد روي عن النبي أنه قال لا تقولوا للمنافق سيدا فإنه إن يك سيدا فقد هلكتم فنهى أن يسمى المنافق سيدا لأنه لا تجب طاعته فإن قيل قال الله تعالى ربنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا [ الاحزاب فسموهم سادات وهم ضلال قيل له لأنهم أنزلوهم منزلة من تجب طاعته وإن لم يكن مستحقا لها فكانوا عندهم وفي اعتقادهم ساداتهم كما قال تعالى
[ 16 ]
(فما أغنت عنهم آلهتهم ولم يكونوا آلهة ولكنهم سموهم آلهة فأجرى الكلام على ما كان في زعمهم واعتقادهم قوله تعالى قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) يقال إنه طلب آية لوقت الحمل ليعجل السرور به فأمسك على لسانه فلم يقدر أن يكلم الناس إلا بالإيماء يروى ذلك عن الحسن والربيع بن أنس وقتادة وقال في هذه الآية (ثلاثة أيام وفي موضع آخر في سورة مريم في هذه القصة بعينها ثلاث ليال سويا) عبر تارة بذكر الأيام وتارة بذكر الليالي وفي هذا دليل على أن أحد العددين من الجميع عند الإطلاق يعقل به مقداره من الوقت الآخر فيعقل من ثلاثة أيام ثلاث ليال معها ومن ثلاث ليال ثلاثة أيام ألا ترى أنه لما أراد التفرقة بينهما أفرد كل واحد منهما بالذكر فقال سبع ليال وثمانية أيام حسوما لأنه لو اقتصر على العدد الأول عقل مثله من الوقت الآخر قوله تعالى وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين قيل في قوله اصطفاك اختارك بالتفضيل على نساء العالمين في زمانهم يروى ذلك عن الحسن وابن جريج وقال غيرهما معناه أنه اختارك على نساء العالمين بحال جليلة من ولادة المسيح وقال الحسن ومجاهد وطهرك من الكفر بالإيمان قال أبو بكر هذا سائغ كما جاز إطلاق اسم النجاسة على الكافر لأجل الكفر في قوله تعالى إنما المشركون نجس والمراد نجاسة الكفر فكذلك يكون وطهرك بطهارة الإيمان وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمن ليس بنجس يعني به نجاسة الكفر وهو كقوله تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا والمراد طهارة الإيمان والطاعات وقيل إن المراد وطهرك من سائر الأجناس من الحيض والنفاس وغيرهما مطلب: في أن إضلال الغمامة عليه صلى الله عليه وسلم كان قبل البعثة إرهاصا له وقد اختلف في وجه تطهير الملائكة لمريم وإن لم تكن نبية لأن الله تعالى قال (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فقال قائل كان ذلك معجزة لزكريا عليه السلام وقال آخرون على وجه إرهاص نبوة المسيح كحال الشهب وإظلال الغمامة ونحو ذلك مما كان لنبينا صلى الله عليه وسلم قبل المبعث قوله تعالى يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين قال سعيد أخلصي لربك وقال قتادة أديمي الطاعة وقال مجاهد أطيلي القيام في
[ 17 ]
الصلاة وأصل القنوت الدوام على الشئ وأشبه هذه الوجوه بالحال الأمر بإطالة القيام في الصلاة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أفضل الصلاة طول القنوت يعني طول القيام ويدل عليه قوله عطفا على ذلك واسجدي واركعي فأمرت بالقيام والركوع والسجود وهي أركان الصلاة ولذلك لم يكن هذا موضع سجدة عند سائر أهل العلم كسائر مواضع السجود لأجل ذكر السجود فيها لأنه قد ذكر مع السجود القيام والركوع فكان أمرا بالصلاة وفي هذا دلالة على أن الواو لا توجب الترتيب لأن الركوع مقدم على السجود في المعنى وقدم السجود ههنا في اللفظ قوله تعالى وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم قال أبو بكر حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى إذ يلقون أقلامهم) قال تساهموا على مريم أيهم يكفلها فقرعهم زكريا ويقال إن الأقلام ههنا القداح التي يتساهم يكون عليها وأنهم ألقوها في جرية الماء فاستقبل قلم زكريا عليه السلام جرية الماء مصعدا وانحدرت أقلام الآخرين معجزة لزكريا عليه السلام فقرعهم يروى ذلك عن الربيع بن أنس ففي هذا التأويل أنهم تساهموا عليها حرصا على كفالتها ومن الناس من يقول إنهم تدافعوا كفالتها لشدة الأزمة والقحط في زمانها حتى وفق لها زكريا خير الكفلاء والتأويل الأول أصح لأن الله تعالى قد أخبر أنه كفلها زكريا وهذا يدل على أنه كان حريصا على كفالتها ومن الناس من يحتج بذلك على جواز القرعة في العبيد يعتقهم في مرضه ثم يموت ولا مال له غيرهم وليس هذا من عتق العبيد في شئ لأن الرضا بكفالة الواحد منهم بعينه جائز في مثله ولا يجوز التراضي على استرقاق من حصلت له لحرية وقد كان عتق الميت نافذا في الجميع فلا يجوز نقله بالقرعة عن أحد منهم إلى غيره كما لا يجوز التراضي على نقل الحرية عمن وقعت عليه وإلقاء الأقلام يشبه القرعة في القسمة وفي تقديم الخصوم إلى الحاكم وهو نظير ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه وذلك لأن التراضي على ما خرجت به القرعة جائز من غير قرعة وكذلك حكم كفالة مريم عليها السلام وغير جائز وقوع التراضي على نقل الحرية عمن وقعت عليه مطلب: في تحقيق معنى البشارة قوله تعالى إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح)
[ 18 ]
البشارة هي خبر على وصف وهو في الأصل لما يسر لظهور السرور في بشرة وجهه إذا بشر والبشرة هي ظاهر الجلد فأضافت الملائكة البشارة إلى الله تعالى وكان الله هو مبشرها مع وإن كانت الملائكة خاطبوها وكذلك قال أصحابنا فيمن قال إن بشرت فلانا بقدوم فلان فعبدي حر فقدم وأرسل إليه رسولا يخبره بقدومه فقال له الرسول إن فلانا يقول لك قد قدم فلان أنه يحنث في يمينه لأن المرسل هو المبشر دون الرسول ولأجل ما ذكرنا من تضمن البشارة إحداث السرور قال أصحابنا إن المبشر هو المخبر الأول وأن الثاني ليس بمبشر لأنه لا يحدث بخبره سرور وقد تطلق البشارة ويراد بها الخبر فحسب كقوله تعالى فبشرهم بعذاب أليم [ آل عمران 21 ] قوله تعالى بكلمة منه قد قيل فيه ثلاثة أوجه أحدها أنه لما خلقه الله تعالى من غير والد كما قال الله تعالى خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون فلما كان خلقه على هذا الوجه من غير والد أطلق عليه اسم الكلمة مجازا كما قال وكلمته ألقاها إلى مريم والوجه الثاني أنه لما بشر به في الكتب القديمة أطلق عليه الاسم والوجه الثالث إن الله يهدي به كما يهدي بكلمته مطلب في المباهلة وما رواه أصحاب السير في شأنها قوله تعالى فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم الاحتجاج المتقدم لهذه الآية على النصارى في قولهم إن المسيح هو ابن الله وهم وفد نجران وفيهم السيد والعاقب قالا للنبي صلى الله عليه وسلم هل رأيت ولدا من غير ذكر فأنزل الله تعالى إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم روي ذلك عن ابن عباس والحسن وقتادة وقال قبل ذلك فيما حكي عن المسيح ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) إلى قوله تعالى إن الله ربي وربكم فاعبدوه وهذا موجود في الإنجيل لأن فيه إني ذاهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم والأب السيد في تلك اللغة ألا تراه قال وأبي وأبيكم فعلمت أنه لم يرد به الأبوة المقتضية للبنوة فلما قامت الحجة عليهم بما عرفوه واعترفوا به وأبطل شبهتهم في قولهم أنه ولد من غير ذكر بأمر آدم عليه السلام دعاهم حينئذ إلى المباهلة فقال تعالى فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم الآية فنقل رواة السير ونقلة الأثر لم يختلفوا فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد الحسن والحسين وعلي وفاطمة رضي الله عنهم ثم دعا النصارى الذين حاجوه إلى المباهلة فأحجموا عنها وقال بعضهم لبعض إن باهلتموه سعيد اضطرم الوادي عليكم نارا ولم يبق نصراني ولا نصرانية إلى يوم القيامة وفي هذه الآيات دحض شبه النصارى في أنه إله أو ابن الإله وفيه دلالة على
[ 19 ]
صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لولا أنهم عرفوا يقينا أنه نبي ما الذي كان يمنعهم من المباهلة فلما أحجموا وامتنعوا عنها دل أنهم قد كانوا عرفوا صحة نبوته بالدلائل المعجزات وبما وجدوا من نعته في كتب الأنبياء المتقدمين وفيه الدلالة على أن الحسن والحسين ابنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه أخذ بيد الحسن والحسين حين أراد حضور المباهلة وقال تعالوا ندع أبناءها وأبناءكم ولم يكن هناك للنبي صلى الله عليه وسلم بنون غيرهما وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للحسن رضي الله عنه إن ابني هذا سيد وقال حين بال عليه أحدهما وهو صغير لا تزرموا ابني وهما من ذريته أيضا كما جعل الله تعالى عيسى من ذرية إبراهيم عليهما السلام بقوله تعالى ومن ذريته داود وسليمان إلى قوله تعالى وزكريا ويحيى وعيسى وإنما نسبته إليه من جهة أمه لأنه لا أب له مطلب: في أن ولد البنت ينسب إلى قوم أبيه أو قوم أمه ومن الناس من يقول أن هذا مخصوص في الحسن والحسين رضي الله عنهما أن يسميا ابني النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهما وقد روي في ذلك خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على خصوص بكر إطلاق اسم ذلك فيهما دون غيرهما من الناس لأنه روي عنه أنه قال كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي وقال محمد فيمن أوصى لولد فلان ولم يكن له ولد لصلبه وله ولد ابن وولد ابنة أن الوصية لولد الإبن دون ولد الإبنة وقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة إن ولد الإبنة يدخلون فيه وهذا يدل على أن قوله تعالى وقول النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك مخصوص به الحسن والحسين في جواز نسبتهما على الإطلاق إلى النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من الناس لما ورد فيه من الأثر وأن غيرهما من الناس إنما ينسبون إلى الآباء وقومهم دون قوم الأم ألا ترى أن الهاشمي إذا استولد جارية رومية أو حبشية أن ابنه يكون هاشميا منسوبا إلى قوم أبيه دون أمه وكذلك قال الشاعر * بنونا بنوا أبنائنا وبناتنا * قد بنوهن أبناء الرجال الأباعد * فنسبة الحسن والحسين رضي الله عنهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالبنوة على الإطلاق مخصوص بهما لا يدخل فيه غيرهما هذا هو الظاهر المتعالم من كلام الناس فيمن سواهما لأنهم ينسبون إلى ا لأب وقومه دون قوم الأم قوله تعالى قل يا أيه الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله الآية قوله تعالى كلمة سواء يعني والله أعلم كلمة عدل بيننا وبينكم نتساوى جميعا فيها إذ كنا جميعا عباد الله ثم فسرها بقوله تعالى ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله وهذه هي الكلمة التي تشهد العقول
[ 20 ]
بصحتها إذ كان الناس كلهم عبيد الله لا يستحق بعضهم على بعض العبادة ولا يجب على أحد منهم طاعة غيره إلا فيما كان طاعة لله تعالى وقد شرط الله تعالى في طاعة نبيه صلى الله عليه وسلم ما كان منها معروفا وإن كان الله تعالى قد علم أنه لا يأمر إلا بالمعروف لئلا يترخص أحد في إلزام غيره طاعة نفسه إلا بأمر الله تعالى كما قال الله تعالى مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وسلم في قصة المبايعات ولا يعصينك في معروف فبايعهن فشرط عليهن ترك عصيان النبي صلى الله عليه وسلم في المعروف الذي يأمرهن به تأكيدا لئلا يلزم أحدا طاعة غيره إلا بأمر الله وما كان منه طاعة لله تعالى وقوله تعالى ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله أي لا يتبعه في تحليل شئ ولا تحريمه إلا فيما حلله الله أو حرمه وهو نظير قوله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وقد روى عبد السلام بن حرب عن عطيف بن أعين عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال ألق هذا الوثن عنك ثم قرأ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قلت يا رسول ما كنا نعبدهم قال أليس كانوا يحلون لهم ما حرم الله عليهم فيحلونه ويحرمون عليهم ما أحل الله لهم فيحرمونه قال فتلك عبادتهم وإنما وصفهم الله تعالى بأنهم اتخذوهم أربابا لأنهم أنزلوهم منزلة ربهم وخالقهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه ا لله ولم يحلله ولا يستحق أحد أن يطاع بمثله إلا الله تعالى الذي هو خالقهم والمكلفون كلهم متساوون في لزوم عبادة الله واتباع أمره وتوجيه العبادة إليه دون غيره مطلب: في الجواب عن إشكال من قال: إن القرآن نزل بعد إبراهيم عليه السلام فكيف يكون مسلما قوله تعالى يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم إلى قوله تعالى أفلا تعقلون روي عن ابن عباس والحسن والسدي أن أحبار اليهود ونصارى نجران اجتمعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم فتنازعوا في إبراهيم عليه السلام فقالت اليهود ما كان إلا يهوديا وقالت النصارى ما كان إلا نصرانيا فأبطل الله دعواهم بقوله تعالى يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده فلا تعقلون فاليهودية والنصرانية حادثتان بعد إبراهيم فكيف يكون يهوديا أو نصرانيا وقد قيل إنهم سموا بذلك لأنهم من ولد يهودا والنصارى سموا بذلك لأن أصلهم من ناصرة قرية بالشام ومع ذلك فإن اليهودية ملة محرفة عن ملة موسى عليه السلام والنصرانية ملة محرفة عن شريعة عيسى عليه السلام فلذلك قال تعالى وما أنزلت التوراة والإنجيل
[ 21 ]
إلا من بعده فكيف يكون إبراهيم منسوبا إلى ملة حادثة بعده فإن قيل فينبغي أن لا يكون حنيفا مسلما لأن القرآن نزل بعده قيل له ما كان معنى الحنيف الدين المستقيم لأن الحنف في اللغة هو الإستقامة والإسلام ههنا هو الطاعة لله تعالى والانقياد لأمره وكل واحد من أهل الحق يصح وصفه بذلك فقد علمنا بأن الأنبياء المتقدمين إبراهيم ومن قبله قد كانوا بهذه الصفة فلذلك جاز أن يسمى إبراهيم حنيفا مسلما وإن كان القرآن نزل بعده لأن هذا الاسم ليس بمختص بنزول القرآن دون غيره بل يصح صفة جميع المؤمنين به واليهودية والنصرانية صفة حادثة لمن ان على ملة حرفها منتحلوها من شريعة التوراة والإنجيل فغير جائز أن ينسب إليها من كان قبلها مطلب: في وجوب المحاجة في الدين وفي هذه الآيات دليل على وجوب المحاجة في الدين وإقامة الحجة على المبطلين كما احتج الله تعالى على أهل الكتاب من اليهود والنصارى في أمر المسيح عليه السلام وأبطل بها شبهتهم وشغبهم وقوله تعالى ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم أوضح دليل على صحة الاحتجاج للحق لأنه لو كان الحجاج كله محظورا لما فرق بين المحاجة بالعلم وبينها إذا كانت بغير علم وقيل في قوله تعالى حاججتم فيما لكم به علم فيما وجدوه في كتبهم وأما ما ليس لهم به علم فهو شأن إبراهيم في قولهم إنه كان يهوديا أو نصرانيا قوله تعالى ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك معناه تأمنه على قنطار لأن الباء وعلى تتعاقبان في هذا الموضع كقولك مررت بفلان ومررت عليه وقال الحسن في القنطار هو ألف مثقال ومائتا مثقال وقال أبو نضرة مل ء مسك ثور ذهبا وقال مجاهد سبعون ألفا وقال أبو صالح مائة رطل فوصف الله تعالى بعض أهل الكتاب بأداء الأمانة في هذا الموضع ويقال إنه أراد به النصارى ومن الناس من يحتج بذلك في قبول شهادة بعضهم على بعض لأن الشهادة ضرب من الأمانة كما أن بعض المسلمين لما كان مأمونا جازت شهادته فكذلك الكتابي من حيث كان منهم موصوفا بالأمانة دل على جواز قبول شهادته على الكفار فإن قيل فهذا يوجب جواز قبول شهادتهم على المسلمين لأنه وصفه بأداء الأمانة إلى المسلمين إذا ائتمنوه عليها قيل له كذلك يقتضي ظاهر الآية إلا أنا خصصناه
[ 22 ]
بالاتفاق وأيضا فإنما دلت على جواز شهادتهم للمسلمين لأن أداء أمانتهم حق لهم فأما جوازه عليهم فلا دلالة في الآية عليه وقوله تعالى ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما قال مجاهد وقتادة إلا ما دمت عليه قائما بالتقاضي وقال السدي إلا ما دمت قائما على رأسه بالملازمة له واللفظ محتمل للأمرين من التقاضي ومن الملازمة وهو عليهما جميعا وقوله تعالى إلا ما دمت عليه قائما بالملازمة أولى منه بالتقاضي من غير ملازمة وقد دلت الاية على أن للطالب ملازمة المطلوب بالدين وقوله تعالى ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل روي عن قتادة والسدي أن اليهود قالت ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل لأنهم مشركون وزعموا أنهم وجدوا ذلك في كتبهم وقيل انهم قالوا ذلك في سائر من يخالفهم في دينهم ويستحلون أموالهم لأنهم يزعمون أن على الناس جميعا اتباعهم وادعوا ذلك على الله أنه أنزل عليهم فأخبر الله تعالى عن كذبهم في ذلك بقوله تعالى ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون أنه كذب قوله تعالى إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا وروى الأعمش عن سفيان عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم وهو فاجر فيها لقي الله وهو عليه غضبان وقال الأشعث بن قيس في نزلت كان بيني وبين رجل خصومة فخاصمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ألك بينة قلت لا قال فيمينه قلت إذا يحلف فذكر مثل قول عبد الله فنزلت إن الذين يشترون بعهد الله الآية وروى مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن معبد بن كعب عن أخيه عبد الله بن كعب بن مالك عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من اقتطع حق مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار قالوا وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله قال وإن كان قضيبا من أراك وروى الشعبي عن علقمة عن عبد الله قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال أخيه لقي الله وهو عليه غضبان وظاهر الآية وهذه الآثار تدل على أنه لا يستحق أحد بيمينه مالا هو في الظاهر لغيره وكل من في يده شئ يدعيه لنفسه فالظاهر أنه له حتى يستحقه غيره وقد منع
[ 23 ]
ظاهر الآية والآثار التي ذكرنا أن يستحق بيمينه مالا هو لغيره في الظاهر ولولا يمينه لم يستحقه لأنه معلوم أنه لم يرد به مالا هو له عند الله دون ما هو عندنا في الظاهر إذ كانت الأملاك لا تثبت عندنا إلا من طريق الظاهر دون الحقيقة وفي ذلك دليل على بطلان قول القائلين برد اليمين لأنه يستحق بيمينه ما كان ملكا لغيره في الظاهر وفيه الدلالة على أن الأيمان ليست موضوعة للإستحقاق وإنما موضوعها لإسقاط الخصومة وروى العوام بن حوشب قال حدثنا إبراهيم بن إسماعيل أنه سمع ابن أبي أوفى يقول أقام رجل سلعة فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد أعطيت بها ثمنا لم يعط بها ليوقع فيها مسلما فنزلت إن الذين يشترون بعهد الله الآية وروي عن الحسن وعكرمة أنها نزلت في قوم من أحبار اليهود كتبوا كتابا بأيديهم ثم حلفوا أنه من عند الله ممن ادعوا أنه ليس علينا في الأميين سبيل قوله تعالى وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب إلى قوله تعالى وما هو من عند الله يدل على أن المعاصي ليست من عند الله ولا من فعله لأنها لو كانت من فعله لكانت من عنده وقد نفى الله نفيا عاما كون المعاصي من عنده ولو كانت من فعله لكانت من عنده من آكد الوجوه فكان لا يجوز إطلاق النفي بأنه ليس من عنده فإن قيل فقد يقال إن الإيمان من عند الله ولا يقال إنه من عنده من كل الوجوه كذلك الكفر والمعاصي قيل له لأن إطلاق النفي يوجب العموم وليس كذلك إطلاق الإثبات ألا ترى أنك لو قلت ما عند زيد طعام كان نفيا لقليله وكثيره ولو قلت عنده طعام ما كان عموما في كون جميع الطعام عنده قوله تعالى لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون قيل في معنى البر ههنا وجهان أحدهما الجنة وروي ذلك عن عمرو بن ميمون والسدي وقيل فيه البر بفعل الخير الذي يستحقون به الأجر والنفقة ههنا أخراج ما يحبه في سبيل الله من صدقة أو غيرها وروى يزيد بن هارون عن حميد عن أنس قال لما نزلت لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ومن ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا قال أبو طلحة يا رسول الله حائطي الذي بمكان كذا وكذا لله تعالى ولو استطعت أن أسره ما أعلنته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعله في قرابتك أو في أقربائك وروى يزيد بن هارون عن محمد بن عمرو عن أبي عمرو بن حماس عن حمزة بن عبد الله عن عبد الله بن عمر قال خطرت هذه الآية لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون فتذكرت ما أعطاني الله فلم أجد شيئا أحب إلي من جاريتي أميمة فقلت هي حرة لوجه الله فلولا أن أعود في شئ فعلته لله لنكحتها فأنكحتها نافعا وهي أم ولده حدثنا عبد الله بن
[ 24 ]
محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب وغيره أنها حين نزلت لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون جاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها فقال يا رسول الله هذه في سبيل الله فحمل النبي صلى الله عليه وسلم عليها أسامة بن زيد فكان زيد أوجد في نفسه فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك منه قال أما الله تعالى فقد قبلها وروي عن الحسن أنه قال هو الزكاة الواجبة وما فرض الله تعالى في الأموال قال أبو بكر عتق ابن عمر للجارية على تأويل الآية على أنه رأى كل ما أخرج على وجه القربة إلى الله فهو من النفقة المراد بالآية ويدل على أن ذلك كان عنده عاما في الفروض والنوافل وكذلك فعل أبي طلحة وزيد بن حارثة يدل على أنهم لم يروا ذلك مقصورا على الفرض دون النفل ويكون حينئذ معنى قوله تعالى لن تنالوا البر) على أنكم لن تنالوا البر الذي هو في أعلى منازل القرب حتى تنفقوا مما تحبون على وجه المبالغة في الترغيب فيه لأن الإنفاق مما يحب يدل على صدق نيته كما قال تعالى لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم وقد يجوز إطلاق مثله في اللغة وإن لم يرد به نفي الأصل وإنما يريد به نفي الكمال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد ما ينفق ولا يفطن له فيتصدق عليه فأطلق ذلك على وجه المبالغة في الوصف له بالمسكنة لا على نفي المسكنة عن غيره على الحقيقة قوله تعالى كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) قال أبو بكر هذا يوجب أن يكون جميع المأكولات قد كان مباحا لبني إسرائيل إلى أن حرم إسرائيل ما حرمه على نفسه وروي عن ابن عباس والحسن أنه أخذه وجع عرق النسا فحرم أحب الطعام إليه إن شفاه الله على وجه النذر وهو لحوم الإبل وقال قتادة حرم العروق وروي أن إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام نذر إن برئ من عرق النسا أن يحرم أحب الطعام والشراب إليه وهو لحوم الإبل وألبانها وكان سبب نزول هذه الآية أن اليهود أنكروا تحليل النبي صلى الله عليه وسلم لحوم الإبل لأنهم لا يرون النسخ جائزا فأنزل الله هذه الآية وبين أنها كانت مباحة لإبراهيم وولده إلى أن حرمها إسرائيل على نفسه وحاجهم بالتوراة فلم يجسروا على إحضارها لعلمهم بصدق ما أخبر أنه فيها وبين بذلك بطلان قولهم في إباء النسخ إذ ما جاز أن يكون مباحا في وقت ثم حظر جازت إباحته بعد حظره وفيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم
[ 25 ]
كان أميا لا يقرأ الكتاب ولم يجالس أهل الكتاب فلم يعرف سرائر كتب الأنبياء المتقدمين إلا بإعلام الله إياه وهذا الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه صار محظورا عليه وعلى بني إسرائيل يدل عليه قوله تعالى كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه فاستثنى ذلك مما أحله تعالى لبني إسرائيل ثم حظره إسرائيل على نفسه فدل على أنه صار محظورا عليه وعليهم فإن قيل كيف يجوز للإنسان أن يحرم على نفسه شيئا وهو لا يعلم موقع المصلحة في الحظر والإباحة إذ كان علم المصالح في العبادات لله تعالى وحده قيل هذا جائز بأن يأذن الله له فيه كما يجوز الاجتهاد في الأحكام بإذن الله تعالى فيكون ما يؤدي ليه الاجتهاد حكما لله تعالى وأيضا فجائز للإنسان أن يحرم امرأته على نفسه بالطلاق ويحرم جاريته بالعتق فكذلك جائز أن يأذن الله له في تحريم الطعام إما من جهة النص أو الاجتهاد وما حرمه إسرائيل على نفسه لا يخلو من أن يكون تحريمه صدر عن اجتهاد منه في ذلك أو توقيفا من الله له في إباحة التحريم له إن شاء وظاهر الآية يدل على أن تحريمه صدر عن اجتهاد منه في ذلك لإضافة الله تعالى التحريم إليه ولو كان ذلك عن توقيف لقال إلا ما حرم الله على بني إسرائيل فلما أضاف التحريم إليه دل ذلك على أنه كان جعل إليه إيجاب التحريم من طريق الاجتهاد وهذا يدل على أنه جائز أن يجعل للنبي صلى الله عليه وسلم الاجتهاد في الأحكام كما جاز لغيره والنبي صلى الله عليه وسلم أولى بذلك لفضل رأيه وعلمه بوجوه المقاييس واجتهاد الرأي وقد بينا ذلك في أصول الفقه قال أبو بكر قد دلت الآية على أن تحريم إسرائيل لما حرمه من الطعام على نفسه قد كان واقعا ولم يكن موجب لفظه شيئا غير التحريم وهذا المعنى هو منسوخ بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم مارية على نفسه وقيل أنه حرم العسل فلم يحرمهما الله تعالى عليه وجعل موجب لفظه كفارة يمين بقوله تعالى يا أيها النبي * لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك إلى قوله تعالى قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم فجعل في التحريم كفارة يمين إذا استباح ما حرم بمنزلة الحلف أن لا يستبيحه وكذلك قال أصحابنا فيمن حرم على نفسه جارية أو شيئا من ملكه أنه لا يحرم عليه وله أن يستبيحه بعد التحريم وتلزمه كفارة يمين بمنزلة من حلف أن لا يأكل هذا الطعام إلا أنهم خالفوا بينه وبين اليمين من وجه وهو أن القائل والله لا أكلت هذا الطعام لا يحنث إلا بأكل جميعه ولو قال قد حرمت هذا الطعام على نفسي حنث بأكل جزء منه لأن الحالف لما حلف عليه بلفظ التحريم فقد قصد إلى
[ 26 ]
الحنث بأكل الجزء منه بمنزلة قوله والله لا آكل شيئا منه لأن ما حرمه الله تعالى من الأشياء فتحريمه شامل لقليله وكثيره وكذلك المحرم له على نفسه عاقد لليمين على كل جزء منه أن لا يأكل قوله عز وجل إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين قال مجاهد وقتادة لم يوضع قبله بيت على الأرض وروي عن علي والحسن أنهما قالا هو أول بيت وضع للعبادة وقد اختلف في بكة فقال الزهري بكة المسجد ومكة الحرم كله وقال مجاهد بكة هي مكة ومن قال هذا القول يقول قد تبدل الباء من الميم كقوله سبد رأسه وسمده إذا حلقه وقال أبو عبيدة بكة هي بطن مكة وقيل إن البك الزحم من قولك بكه يبكه بكا إذا زاحمه وتباك الناس بالموضع إذا ازدحموا فيجوز أن يسمى بها البيت لازدحام الناس فيه للتبرك بالصلاة ويجوز أن يسمى به ما حول البيت من المسجد لازدحام الناس فيه للطواف قوله تعالى وهدى للعالمين يعني بيانا ودلالة على الله لما أظهر فيه من الآيات التي لا يقدر عليها غيره وهو أمن الوحش فيه حتى يجتمع الكلب والظبي في الحرم فلا الكلب يهيج الظبي ولا الظبي يتوحش منه وفي ذلك دلالة على توحيد الله وقدرته وهذا يدل على أن المراد بالبيت ههنا البيت وما حوله من الحرم لأن ذلك موجود في جميع الحرم وقوله مباركا يعني أنه ثابت الخير والبركة لأن البركة هي ثبوت الخير ونموه وتزيده والبرك هو الثبوت يقال برك بركا وبروكا فلا إذا ثيت على حاله هذه في الآية ترغيب في الحج إلى البيت الحرام بما أخبر عنه من المصلحة فيه والبركة ونمو الخير وزيادته مع اللطف في الهداية إلى التوحيد والديانة قوله تعالى فيه آيات بينات مقام إبراهيم قال أبو بكر الآية في مقام إبراهيم عليه السلام أن قدميه دخلتا في حجر صلد بقدرة الله تعالى ليكون ذلك دلالة وآية على توحيد الله وعلى صحة نبوة إبراهيم عليه السلام ومن الآيات فيه ما ذكرنا من أمن الوحش وأنسه فيه مع السباع الضارية المتعادية منه وأمن الخائف في الجاهلية فيه ويتخطف الناس من حولهم وإمحاق الجمار على كثرة الرمي من لدن إبراهيم عليه السلام إلى يومنا هذا مع أن حصى الجمار إنما تنقل إلى موضع الرمي من غيره وامتناع الطير من العلو عليه وإنما يطير حوله لا فوقه واستشفاء المريض منها به وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته وقد كانت العادة بذلك جارية ومن إهلاك أصحاب الفيل لما قصدوا لإخرابة: بالطير الأبابيل فهذه كلها من آيات الحرم سوى ما لا نحصيه منها وفي جميع ذلك دليل على أن المراد بالبيت هنا الحرم كله لأن هذه الآيات موجودة في الحرم ومقام إبراهيم ليس في البيت إنما هو خارج البيت والله أعلم
[ 27 ]
باب الجاني يلجأ إلى الحرم أو يجني فيه قال الله تعالى ومن دخله كان آمنا قال أبو بكر لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله إن أول بيت وضع للناس موجودة في جميع الحرم ثم قال ومن دخله كان آمنا وجب أن يكون مراده جميع الحرم وقوله ومن دخله كان آمنا) يقتضي أمنه على نفسه سواء كان جانيا قبل دخوله أو جنى بعد دخوله إلا أن الفقهاء متفقون على أنه مأخوذ بجنايته في الحرم في النفس وما دونها ومعلوم أن قوله ومن دخله كان آمنا هو أمر وإن كان في صورة الخبر كأنه قال هو آمن في حكم الله تعالى وفيما أمر به كما نقول هذا مباح وهذا محظور والمراد به كذلك في حكم الله وما أمر به عباده وليس المراد أن مبيحا يستبيحه ولا أن معتقدا للحظر يحظره وإنما هو بمنزلة قوله في المباح افعله على أن لا تبعة عليك فيه ولا ثواب وفي المحظور لا تفعله فإنك تستحق العقاب به وكذلك قوله تعالى ومن دخله كان آمنا هو أمر لنا بإيمانه وحظر دمه ألا ترى إلى قوله تعالى ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم فأخبر بجواز وقوع القتل فيه وأمرنا بقتل المشركين فيه إذ قاتلونا ولو كان قوله تعالى ومن دخله كان آمنا خبرا لما جاز أن لا يوجد مخبره فثبت بذلك أن قوله تعالى ومن دخله كان آمنا هو أمر لنا بإيمانه ونهي لنا عن قتله ثم لا يخلو ذلك من أن يكون أمرا لنا بأن نؤمنه من الظلم والقتل الذي لا يستحق أو أن تؤمنه من قتل قد استحقه بجنايته فلما كان حمله على الإيمان من قتل غير مستحق عليه بل على وجه الظلم تسقط فائدة تخصيص الحرم به لأن الحرم وغيره في ذلك سواء إذا كان علينا إيمان كل أحد من ظلم يقع به من قبلنا أو من قبل غيرنا إذا أمكننا ذلك علمنا أن المراد الأمر بالإيمان من قبل مستحق فظاهره يقتضي أن نؤمنه من المستحق من ذلك بجنايته في الحرم وفي غيره إلا أن الدلالة قد قامت من اتفاق أهل العلم على أنه إذا قتل في الحرم قتل قال الله تعالى ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ففرق بين الجاني في الحرم وبين الجاني في غيره إذا لجأ إليه مطلب: في حكم الجاني في غير الحرم إذا التجأ إليه وقد اختلف الفقهاء فيمن جنى في غير الحرم ثم لاذ إليه فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر الحسن بن زياد إذا قتل في غير الحرم ثم دخل الحرم لم يقتص منه ما دام فيه ولكنه لا يبايع ولا يؤاكل إلى أن يخرج من الحرم فيقتص منه وإن قتل
[ 28 ]
في الحرم قتل وإن كانت جنايته فيما دون النفس في غير الحرم ثم دخل الحرم اقتص منه وقال مالك والشافعي يقتص منه في الحرم ذلك كله قال أبو بكر روي عن ابن عباس وابن عمر وعبيدالله بن عمير وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس والشعبي فيمن قتل ثم لجأ إلى الحرم أنه لا يقتل قال ابن عباس ولكنه لا يجالس ولا يؤوى ولا يبايع حتى يخرج من الحرم فيقتل وإن فعل ذلك في الحرم أقيم عليه وروى قتادة عن الحسن أنه قال لا يمنع الحرم من أصاب فيه أو في غيره أن يقام عليه قال وكان الحسن يقول ومن دخله كان آمنا كان هذا في الجاهلية لو أن رجلا جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتعرض له حتى يخرج من الحرم فأما الإسلام فلم يزده إلا شدة من أصاب الحد في غيره ثم لجأ إليه أقيم عليه الحد وروى هشام عن الحسن وعطاء قالا إذا أصاب حدا في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم أخرج عن الحرم حتى يقام عليه وعن مجاهد مثله وهذا يحتمل أن يريد به أن يضطر إلى الخروج بترك مجالسته وإيوائه ومبايعته ومشاراته غير وقد روي ذلك عن عطاء مفسرا فجائز أن يكون ما روي عنه وعن الحسن في إخراجه من الحرم على هذا الوجه وقد ذكرنا دلالة قوله تعالى ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه على مثل ما دل عليه قوله تعالى ومن دخله كان آمنا في موضعه وبينا وجه دلالة ذلك على أن دخول الحرم يحظر قتل من لجأ إليه إذا لم تكن جنايته في الحرم وأما ما ذكرنا من قول السلف فيه يدل على أنه اتفاق منهم على حظر قتل من قتل في غير الحرم ثم لجأ إليه لأن الحسن روي عنه فيه قولان متضادان أحدهما رواية قتادة عنه أنه يقتل والآخر رواية هشام بن حسان في أنه لا يقتل في الحرم ولكنه يخرج منه فيقتل وقد بينا أنه يحتمل قوله يخرج فيقتل أنه يضيق عليه في ترك المبايعة والمشاراة والأكل والشرب حتى يضطر إلى الخروج فلم يحصل للحسن في هذا قول لتضاد الروايتين وبقي قول الآخرين من الصحابة والتابعين في منع القصاص في الحرم بجناية كانت منه في غير الحرم ولم يختلف السلف ومن بعدهم من الفقهاء أنه إذا جنى في الحرم وكان مأخوذا بجنايته يقام عليه ما يستحقه من قتل أو غيره فإن قيل قوله تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى [ البقرة: 178 ]، وقوله النفس بالنفس وقوله ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا يوجب عمومه القصاص في الحرم على من جنى فيه أو في غيره قيل له قد دللنا على أن قوله ومن دخله كان آمنا قد اقتضى وقوع الأمن من القتل بجناية كانت منه في غيره وقوله كتب عليكم القصاص وسائر
[ 29 ]
الآي الموجبة للقصاص مرتب على ما ذكرنا من الأمن بدخول الحرم ويكون ذلك مخصوصا من آي القصاص وأيضا فإن قوله تعالى كتب عليكم القصاص وارد في إيجاب القصاص [ البقرة: 178 ] لا في حكم الحرم وقوله ومن دخله كان آمنا وارد في حكم الحرم ووقوع الأمن لمن لجأ إليه فيجري كل واحد منهما على بابه ويستعمل فيما ورد فيه ولا يعترض بآي القصاص على حكم الحرم ومن جهة أخرى أن إيجاب القصاص لا محالة متقدم لإيجاب أمانه بالحرم لأنه لو لم يكن القصاص واجبا قبل ذلك استحال أن يقال هو آمن مما لم يجن ولم يستحق عليه فدل ذلك على أن الحكم بأمنه بدخول الحرم متأخر عن إيجاب القصاص ومن جهة الأثر حديث ابن عباس وأبي شريح الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله حرم مكة ولم تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار فظاهر ذلك يقتضي حظر قتل اللاجئ إليه والجاني فيه إلا أن الجاني فيه لا خلاف فيه أنه يؤخذ بجنايته فبقي حكم اللفظ في الجاني إذا لجأ إليه وروى حماد بن سلمة عن حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن أعتى الناس على الله عز وجل رجل قتل غير قاتله أو قتل في الحرم أو قتل بذحل الجاهلية وهذا أيضا يحظر عمومه قتل كل من كان فيه فلا يخص منه شئ إلا بدلالة وأما ما دون النفس فإنه يؤخذ به لأنه لو كان عليه دين فلجأ إلى الحرم حبس به لقوله صلى الله عليه وسلم لي الواجد يحل عرضه وعقوبته والحبس في الدين عقوبة فجعل الحبس عقوبة وهو فيما دون النفس فكل حق وجب فيما دون النفس أخذ به وإن لجأ إلى الحرم قياسا على الحبس في الدين وأيضا لا خلاف بين الفقهاء أنه مأخوذ بما ايجب عليه فيما دون النفس وكذلك لا خلاف أن الجاني في الحرم مأخوذ بجنايته في النفس وما دونها ولا خلاف أيضا أنه إذا جنى في غير الحرم ثم دخل الحرم أنه إذا لم يجب قتله في الحرم أنه لا يبايع ولا يشارى ولا يؤوى حتى يخرج ولما ثبت عندنا أنه لا يقتل وجب استعمال الحكم الآخر فيه في ترك مشاراته أحمد ومبايعته وإيوائه فهذه الوجوه كلها لا خلاف فيها وإنما الخلاف فيمن جنى في غير الحرم ثم لجأ إلى الحرم وقد دللنا عليه وما عدا ذلك فهو محمول على ما حصل عليه الاتفاق وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل قال حدثنا يعقوب بن حميد قال حدثنا عبد الله بن الوليد عن سفيان الثوري عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسكن مكة سافك دم ولا آكل ربا ولا مشاء بنميمة وهذا يدل على أن القاتل إذا دخل الحرم لم يؤو ولم يجالس ولم يبايع ولم يشار
[ 30 ]
ولم يطعم ولم يسق حتى يخرج لقوله صلى الله عليه وسلم لا يسكنها سافك دم وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار قال حدثنا داود بن عمرو قال حدثنا محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس قال إذا دخل القاتل الحرم لم يجالس ولم يبايع ولم يؤو واتبعه طالبه يقول له اتق الله في دم فلان واخرج من الحرم ونظير قوله تعالى ومن دخله كان آمنا قوله عز وجل أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم وقوله أو لو نمكن لهم حرما آمنا وقوله وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا [ البقرة: 125 ] فهذه الآي متقاربة المعاني في الدلالة على حظر قتل من لجأ إليه وإن كان مستحقا للقتل قبل دخوله وما عبر تارة بذكر البيت وتارة بذكر الحرم دل على أن الحرم في حكم البيت في باب الأمن ومنع قتل من لجأ إليه ولما لم يختلفوا أنه لا يقتل من لجأ إلى البيت لأن الله تعالى وصفه بالأمن فيه وجب مثله في الحرم فيمن لجأ إليه فإن قيل من قتل في البيت لم يقتل فيه ومن قتل في الحرم قتل فيه فليس الحرم كالبيت قيل له لما جعل الله حكم الحرم حكم البيت فيما عظم من حرمته وعبر تارة بذكر البيت وتارة بذكر الحرم اقتضى ذلك التسوية بينهما إلا فيما قام دليل تخصيصه وقد قامت الدلالة في حظر القتل في البيت فخصصناه وبقي حكم الحرم على ما اقتضاه ظاهر القرآن من إيجاب التسوية بينهما والله تعالى أعلم باب فرض الحج قال الله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال أبو بكر هذا ظاهر في إيجاب فرض الحج على شريطة وجود السبيل إليه والذي يقتضيه من حكم السبيل إن كل من أمكنه الوصول إلى الحج لزمه ذلك إذ كانت استطاعة السبيل إليه هي إمكان الوصول إليه كقوله تعالى فهل إلى خروج من سبيل [ غافر: 11 ] يعني من وصول وهل إلى مرد من سبيل يعني من وصول وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم من شرط استطاعة السبيل إليه وجود الزاد والراحلة وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من ملك زادا وراحلة يبلغه بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا وذلك أن الله تعالى يقول في كتابه ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا وروى إبراهيم بن يزيد الجوزي عن محمد بن عباد عن ابن عمر قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله عز وجل ولله على
[ 31 ]
الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا قال السبيل إلى الحج الزاد والراحلة وروى يونس عن الحسن لما نزلت هذه الآية ولله على الناس حج البيت الآية قال رجل يا رسول الله ما السبيل قال زاد وراحلة وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس قال السبيل الزاد والراحلة ولم يحل بينه وبينه أحد وقال سعيد بن جبير هو الزاد والراحلة قال أبو بكر فوجود الزاد والراحلة من السبيل الذي ذكره الله تعالى ومن شرائط وجوب الحج وليست الإستطاعة مقصورة على ذلك لأن المريض الخائف والشيخ الذي لا يثبت على الراحلة والزمنى وكل من تعذر عليه الوصول إليه فهو غير مستطيع السبيل إلى الحج وإن كان واجدا للزاد والراحلة فدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد بقوله الإستطاعة الزاد والراحلة إن ذلك جميع شرائط الإستطاعة وإنما أفاد ذلك بطلان قول من يقول إن من أمكنه المشي إلى بيت الله ولم يجد زادا وراحلة فعليه الحج فبين صلى الله عليه وسلم أن لزوم فرض الحج مخصوص بالركوب دون المشي وأن من لا يمكنه الوصول إليه إلا بالمشي الذي يشق ويعسر فلا حج عليه فإن قيل فينبغي أن لا يلزم فرض الحج إلا من كان بينه وبين مكة مسافة ساعة إذا لم يجد زادا وراحلة وأمكنه المشي قيل له إذا لم يلحقه في المشي مشقة شديدة فهذا أيسر أمر من الواجد للزاد والراحلة إذا بعد وطنه من مكة ومعلوم أن شرط الزاد والراحلة إنما هو لأن لا يشق عليه ويناله ما يضره من المشي فإذا كان من أهل مكة وما قرب منها ممن لا يشق عليه المشي في ساعة من نهار فهذا مستطيع للسبيل بلا مشقة وإذا كان لا يصل إلى البيت إلا بالمشقة الشديدة فهو الذي خفف الله عنه ولم يلزمه الفرض إلا على الشرط المذكور ببيان النبي صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى وما جعل عليكم في الدين من حرج يعني من ضيق وعندنا أن وجود المحرم للمرأة من شرائط الحج لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم أو زوج وروى عمرو بن دينار عن أبي معبد عن ابن عباس قال خطب النبي صلى الله عليه وسلم فقال لا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم فقال رجل يا رسول الله إني قد اكتتبت في غزوة كذا وقد أرادت امرأتي أن تحج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم احجج مع امرأتك وهذا يدل على أن قوله لا تسافر امرأة إلا ومعها ذو محرم قد انتظم المرأة إذا أرادت الحج من ثلاثة أوجه أحدها أن السائل عقل منه ذلك ولذلك سأله عن امرأته وهي تريد الحج ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عليه فدل على أن مراده صلى الله عليه وسلم عام في الحج وغيره من الأسفار والثاني قوله حج مع امرأتك وفي
[ 32 ]
ذلك إخبار منه بإرادة سفر الحج في قوله لا تسافر المرأة إلا ومعها ذو محرم والثالث أمره إياه بترك الغزو للحج مع امرأته ولو جاز لها الحج بغير محرم أو زوج لما أمره بترك الغزو وهو فرض للتطوع وفي هذا دليل أيضا على أن حج المرأة كان فرضا ولم يكن تطوعا لأنه لو كان تطوعا لما أمره بترك الغزو الذي هو فرض لتطوع المرأة ومن وجه آخر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسئله عن حج المرأة أفرض هو أم نفل وفي ذلك دليل على تساوي حكمهما في امتناع خروجها بغير محرم فثبت بذلك أن وجود المحرم للمرأة من شرائط الإستطاعة ولا خلاف أن من شرط استطاعتها أن لا تكون معتدة لقوله تعالى لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة) [ الطلق: 1 ] فلما كان ذلك معتبرا في الإستطاعة وجب أن يكون نهيه للمرأة أن تسافر بغير محرم معتبرا فيها ومن شرائطه ما ذكرنا من إمكان ثبوته على الراحلة وذلك لما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا موسى بن الحسن بن أبي عبادة قال حدثنا محمد بن مصعب قال حدثنا الأوزاعي عن الزهري عن سليمان بن يسار عن ابن عباس أن امرأة من خثعم سألت النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقالت يا رسول الله إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة أفأحج عنه قال نعم حجي عن أبيك فأجاز صلى الله عليه وسلم للمرأة أن تحج عن أبيها ولم يلزم الرجل الحج بنفسه فثبت بذلك أن من شرط الإستطاعة إمكان الوصول إلى الحج وهؤلاء وإن لم يلزمهم الحج بأنفسهم إذا كانوا واجدين للزاد والراحلة فإن عليهم أن يحجوا غيرهم عنهم أعني المريض والزمن والمرأة إذا حضرتهم الوفاة فعليهم أن يوصوا بالحج وذلك أن وجود ما يمكن به الوصول إلى الحج في ملكهم يلزمهم فرض الحج في أموالهم إذا لم يمكنهم فعله بأنفسهم لأن فرض الحج يتعلق بمعنيين أحدهما بوجود الزاد والراحلة وإمكان فعله بنفسه فعلى من كانت هذه صفته الخروج والمعنى الآخر أن يتعذر فعله بنفسه لمرض أو كبر سن أو زمانة أو لأنها امرأة لا محرم لها ولا زوج يخرج معها فهؤلاء يلزمهم الحج بأموالهم عند الأياس والعجز عن فعله بأنفسهم فإذا أحج المريض أو المرأة عن أنفسهما ثم لم يبرأ المريض ولم تجد المرأة محرما حتى ماتا أجزأهما وإن برئ المريض ووجدت المرأة محرما لم يجزهما وقول الخثعمية للنبي صلى الله عليه وسلم إن أبي أدركته فريضة الله في الحج وهو شيخ كبير لا يستمسك على الراحلة وأمر النبي صلى الله عليه وسلم إياها بالحج عنه يدل على أن فرض الحج قد لزمه في ماله وإن لم يثبت على الراحلة لأنها أخبرته أن فريضة الله تعالى أدركته وهو شيخ كبير فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم قولها ذلك فهذا
[ 33 ]
يدل على أن فرض الحج قد لزمه في ماله وأمر النبي صلى الله عليه وسلم إياها بفعل الحج الذي أخبرت أنه قد لزمه يدل على لزومه أيضا وقد اختلف في حج الفقير فقال أصحابنا والشافعي لا حج عليه وإن حج أجزأه من حجة الإسلام وحكي عن مالك أن عليه الحج إذا أمكنه المشي وروي عن ابن الزبير والحسن أن الاستطاعة ما تبلغه كائنا ما كان وقول النبي صلى الله عليه وسلم أن الإستطاعة الزاد والراحلة يدل على أن لا حج عليه فإن هو وصل إلى البيت مشيا فقد صار بحصوله هناك مستطيعا بمنزلة أهل مكة لأنه معلوم أن شرط الزاد والراحلة إنما هو لمن بعد من مكة فإذا حصل هناك فقد استغنى عن الزاد والراحلة للوصول إليه فيلزمه الحج حينئذ فإذا فعله كان فاعلا فرضا واختلف في العبد إذا حج هل يجزيه من حجة الإسلام فقال أصحابنا لا يجزيه وقال الشافعي يجزيه والدليل على صحة قولنا ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا هلال بن عبد الله مولى ربيعة بن سليم قال حدثنا أبو إسحاق عن الحارث عن علي قال قال رسول ا لله صلى الله عليه وسلم من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ثم لم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا وذلك أن الله تعالى يقول ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن شرط لزوم الحج ملك الزاد والراحلة والعبد لا يملك شيئا فليس هو إذا من أهل الخطاب بالحج وسائر الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في الإستطاعة أنها الزاد والراحلة هي على ملكهما على ما بين في حديث علي رضي الله عنه وأيضا فمعلوم من مراد النبي صلى الله عليه وسلم في شرطه الزاد والراحلة أن يكون ملكا للمستطيع وأنه لم يرد به زادا وراحلة في ملك غيره وإذا كان العبد لا يملك بحال لم يكن من أهل الخطاب بالحج فلم يجزه حجه فإن قيل ليس الفقير من أهل الخطاب بالحج لعدم ملك الزاد والراحلة ولو حج جاز حجه كذلك العبد قيل له إن الفقير من أهل الخطاب لأنه ممن يملك والعبد ممن لا يملك وإنما سقط الفرض عن الفقير لأنه غير واجد لا لأنه ليس ممن يملك فإذا وصل إلى مكة فقد استغنى عن الزاد والراحلة وصار بمنزلة سائر الواجدين الواصلين إليها بالزاد والراحلة والعبد إنما سقط عنه الخطاب به لا لأنه لا يجد لكن لأنه لا يملك وإن ملك فلم يدخل في خطاب الحج فلذلك لم يجزه وصار من هذا الوجه بمنزلة الصغير الذي لم يخاطب بالحج لا لأنه لا يجد ولكنه ليس من أهل الخطاب بالحج لأن من شرط الخطاب به أن يكون ممن يملك كما أن من شرطه أن يكون ممن يصح خطابه
[ 34 ]
به وأيضا فإن العبد لا يملك منافعه وللمولى منعه من الحج بالإتفاق ومنافع العبد هي ملك للمولى فإذا فعل بها الحج صار كحج فعله المولى فلا يجزيه من حجة الإسلام ويدل عليه أن العبد لا يملك منافعه أن المولى هو المستحق لإبدالها إذا صارت مالا وأن له أن يستخدمه ويمنعه من الحج فإذا أذن له فيه صار معيرا له ملك المنافع فهي متلفة على ملك المولى فلا يجزئ العبد وليس كذلك الفقير لأنه يملك منافع نفسه وإذا فعل بها الحج أجزأه لأنه قد صار من أهل الإستطاعة فإن قيل للمولى منع العبد من الجمعة وليس العبد من أهل الخطاب بها وليس عليه فرضها ولو حضرها وصلاها أجزأته فهلا كان الحج كذلك قيل له إن فرض الظهر قائم على العبد ليس للمولى منعه منها فمتى فعل الجمعة فقد أسقط بها فرض الظهر الذي كان العبد يملك فعله من غير إذن المولى فصار كفاعل الظهر فلذلك أجزأه ولم يكن على العبد فرض آخر يملك فعله فأسقط بفعل الحج حتى نحكم بجوازه ونجعله في حكم ما هو مالكه فلذلك اختلفا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حج العبد ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا يحيى بن إسحاق قال حدثنا يحيى بن أيوب عن حرام بن عثمان عن ابني جابر عن أبيهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أن صبيا حج عشر حجج ثم بلغ لكانت عليه حجة إن استطاع إليها سبيلا ولو أن أعرابيا حج عشر ثم هاجر لكانت عليه حجة إن استطاع إليها سبيلا ولو أن مملوكا حج عشر حجج ثم أعتق لكانت عليه حجة إن استطاع إليها سبيلا وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا موسى بن الحسن بن أبي عباد قال حدثنا محمد بن المنهال قال حدثنا يزيد بن ذريع قال حدثنا شعبة عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما صبي حج ثم أدرك الحلم فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم على العبد أن يحج حجة أخرى ولم يعتد له بالحجة التي فعلها في حال الرق وجعله بمنزلة الصبي فإن قيل فقد قال مثله في الأعرابي وهو مع ذلك يجزيه الحجة المفعولة قبل الهجرة قيل له كذلك كان حكم الأعرابي في حال ما كانت الهجرة فرضا لأنه يمتنع أن يقول ذلك بعد نسخ فرض الهجرة فلما قال صلى الله عليه وسلم لا هجرة بعد الفتح نسخ الحكم المتعلق به من وجوب إعادة الحج بعد الهجرة إذ لا هجرة هناك واجبة وقد روي نحو قولنا في حج العبد عن ابن عباس والحسن وعطاء قال أبو بكر والذي يقتضيه ظاهر قوله تعالى ولله على الناس حج البيت حجة
[ 35 ]
واحدة إذ ليس فيه ما يوجب تكرارا فمتى فعل الحج فقد قضى عهدة الآية وقد أكد ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا زهير بن حرب وعثمان بن أبي شيبة قالا حدثنا يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي سنان قال أبو داود هو الدؤلي عن ابن عباس أن الأقرع بن حابس سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة فقال بل مرة واحدة فمن زاد فتطوع قوله تعالى ومن كفر فإن الله غني عن العالمين روى وكيع عن فطر بن خليفة عن نفيع أبي داود قال سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ومن كفر قال هو أن حج لا يرجو ثوابه وإن حبس لا يخاف عقابه وروى مجاهد من قوله مثله وقال الحسن من كفر بالحج وقد دلت هذه الآية على بطلان مذهب أهل الجبر لأن الله تعالى جعل من وجد زادا وراحلة مستطيعا للحج قبل فعله ومن مذهب هؤلاء أن من لم يفعل الحج لم يكن مستطيعا له قط فواجب على مذهبهم أن يكون معذورا غير ملزم إذا لم يحج إذ كان الله تعالى إنما ألزم الحج من استطاع وهو لم يكن مستطيعا قط إذ لم يحج ففي نص التنزيل واتفاق الأمة على لزوم فرض الحج لمن كان وصفه ما ذكرنا من صحة البدن ووجود الزاد والراحلة ما يوجب بطلان قولهم قوله تعالى قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء قال زيد بن أسلم نزلت في قوم من اليهود كانوا يغرون الأوس والخزرج يذكرهم الحروب التي كانت بينهم حتى ينسلخوا من الدين بالعصبية وحمية الجاهلية وعن الحسن أنها نزلت في اليهود والنصارى جميعا في كتمانهم صفته في كتبهم فإن قيل قد سمى الله الكفار شهداء وليسوا حجة على غيرهم فلا يصح لكم الإحتجاج بقوله لتكونوا شهداء على الناس في صحة إجماع الأمة وثبوت حجته قيل له أنه جل وعلا لم يقل في أهل الكتاب وأنتم شهداء على غيركم وقال هناك لتكونوا شهداء على الناس كما قال ويكون الرسول عليكم شهيدا فأوجب ذلك تصديقهم وصحة إجماعهم وقال في هذه الآية وأنتم شهداء ومعناه غير معنى قوله شهداء على الناس وقد قيل في معناه وجهان أحدهما وأنتم شهداء إنكم عالمون ببطلان قولكم في صدكم عن دين الله تعالى وذلك في أهل الكتاب منهم والثاني أن يريد بقوله شهداء) عقلاء كما قال الله تعالى أو ألقى السمع وهو شهيد يعني وهو عاقل
[ 36 ]
لأنه يشهد الدليل الذي يميز به الحق من الباطل قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته روي عن عبد الله والحسن وقتادة في قوله حق تقاته هو أن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى وقيل أن معناه اتقاء جميع معاصيه وقد اختلف في نسخه فروي عن ابن عباس وطاوس أنها محكمة غير منسوخة وعن قتادة والربيع بن أنس والسدي أنها منسوخة بقوله تعالى فاتقوا الله ما استطعتم فقال بعض أهل العلم لا يجوز أن تكون منسوخة لأن معناه اتقاء جميع معاصيه وعلى جميع المكلفين اتقاء جميع المعاصي ولو كان منسوخا لكان فيه إباحة بعض المعاصي وذلك لا يجوز وقيل إنه جائز أن يكون منسوخا بأن يكون معنى قوله حق تقاته القيام بحقوق الله تعالى في حال الخوف والأمن وترك التقية فيها ثم نسخ ذلك في حال التقية والإكراه ويكون قوله تعالى ما استطعتم فيما لا تخافون فيه على أنفسكم يريد فيما لا يكون فيه احتمال الضرب والقتل لأنه قد يطلق نفي الإستطاعة فيما يشق على الإنسان فعله كما قال تعالى وكانوا لا يستطعون سمعا ومراده مشقة ذلك عليهم قوله تعالى واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في معنى الحبل ههنا أنه القرآن وكذلك روي عن عبد الله وقتادة والسدي وقيل أن المراد به دين الله وقيل بعهد الله لأنه سبب النجاة كالحبل الذي يتمسك به للنجاة من غرق أو نحوه ويسمى الأمان الحبل لأنه سبب النجاة وذلك في قوله تعالى إلا بحبل من الله وحبل من الناس يعني به الأمان إلا أن قوله واعتصموا بحبل الله جميعا هو أمرا بالاجتماع ونهي عن الفرقة وأكده بقوله ولا تفرقوا معناه التفرق عن دين الله الذي أمروا جميعا بلزومه والإجتماع عليه وروي نحو ذلك عن عبد الله وقتادة وقال الحسن ولا تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد يحتج به فريقان من الناس أحدهما نفاة القياس والاجتهاد في أحكام الحوادث مثل النظام وأمثاله من الرافضة والآخر من يقول بالقياس والاجتهاد يقول مع ذلك أن الحق واحد من أقاويل المختلفين في مسائل الاجتهاد ويخطئ من لم يصب الحق عنده لقوله تعالى ولا تفرقوا فغير جائز أن يكون التفرق والاختلاف دينا لله تعالى مع نهي الله تعالى عنه وليس هذا عندنا كما قالوا لأن أحكام الشرع في الأصل على أنحاء منها مالا يجوز الخلاف فيه وهو الذي دلت العقول على حظره في كل حال أو على إيجابه في كل حال فأما ما جاز أن يكون تارة واجبا وتارة محظورا وتارة مباحا فإن الاختلاف في
[ 37 ]
ذلك سائغ يجوز ورود العبادة به كاختلاف حكم الطاهر والحائض في الصوم والصلاة واختلاف حكم المقيم والمسافر في القصر والإتمام وما جرى مجرى ذلك فمن حيث جاز ورود النص باختلاف أحكام الناس فيه فيكون بعضهم متعبدا بخلاف ما تعبد به الآخر لم يمتنع تسويغ الاجتهاد فيما يؤدي إلى الخلاف الذي يجوز ورود النص بمثله ولو كان جميع الاختلاف مذموما لوجب أن لا يجوز ورود الاختلاف في أحكام الشرع من طريق النص والتوقيف فما جاز مثله في النص جاز في الاجتهاد قد يختلف المجتهدان في نفقات الزوجات وقيم المختلفات وأروش كثير من الجنايات فلا يلحق واحدا منهما لوم ولا تعنيف وهذا حكم مسائل الاجتهاد ولو كان هذا الضرب من الاختلاف مذموما لكان للصحابة في ذلك الحظ الأوفر ولما وجدناهم مختلفين في أحكام الحوادث وهم مع ذلك متواصلون يسوغ كل واحد منهم لصاحبه مخالفته من غير لوم ولا تعنيف فقد حصل منهم الإتفاق على تسويغ هذا الضرب من الاختلاف وقد حكم الله تعالى بصحة إجماعهم وثبوت حجته في مواضع كثيرة من كتابه وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اختلاف أمتي رحمة وقال لا تجتمع أمتي على ضلال فثبت بذلك أن الله تعالى لم ينهنا بقوله ولا تفرقوا عن هذا الضرب من الاختلاف وأن النهي منصرف إلى أحد وجهين إما في النصوص أو فيما قد أقيم عليه دليل عقلي أو سمعي لا يحتمل إلا معنى واحدا وفي فحوى الآية ما يدل على أن المراد هو الاختلاف والتفرق في أصول الدين لا في فروعه وما يجوز ورود العبارة بالاختلاف فيه وهو قوله تعالى واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم يعني بالإسلام وفي ذلك دليل على أن التفرق المذموم المنهي عنه في الآية هو في أصول الدين والإسلام لا في فروعه والله أعلم باب فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلب: في أن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية قال الله تعالى ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر قال أبو بكر قد حوت هذه الآية معنيين أحدهما وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والآخر أنه فرض على الكفاية ليس بفرض على كل أحد في نفسه إذا قام به غيره لقوله تعالى ولتكن منكم أمة وحقيقته تقتضي البعض دون البعض فدل على أنه فرض على الكفاية إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين ومن الناس من يقول هو فرض على كل أحد في نفسه ويجعل مخرج الكلام مخرج الخصوص في قوله
[ 38 ]
(ولتكن منكم أمة مجازا كقوله تعالى يغفر لكم من ذنوبكم [ الاحقاف: 31 ] ومعناه ذنوبكم والذي يدل على صحة هذا القول أنه إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين كالجهاد وغسل الموتى وتكفينهم والصلاة عليهم ودفنهم ولولا أنه فرض على الكفاية لما سقط عن الآخرين بقيام بعضهم به وقد ذكر الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواضع أخر من كتابه فقال عز وجل كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وقال فيما حكى عن لقمان (يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور وقال تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى يقول فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله) [ الحجرات: 9 ] وقال عز وجل لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون فهذه الآي ونظائرها مقتضية لإيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي على منازل أولها تغييره باليد إذا أمكن فإن لم يمكن وكان في نفيه خائفا على نفسه إذا أنكره بيده فعليه إنكاره بلسانه فإن تعذر ذلك لما وصفنا فعليه إنكاره بقلبه كما حدثنا عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس قال حدثنا يونس بن حبيب قال حدثنا أبو داود الطيالسي قال حدثنا شعبة قال أخبرني قيس بن مسلم قال سمعت طارق بن شهاب قال قدم مروان الخطبة قبل الصلاة فقام رجل فقال خالفت السنة كانت الخطبة بعد الصلاة قال ترك ذلك يا أبو فلان قال شعبة وكان لحانا فقام أبو سعيد الخدري فقال من هذا المتكلم فقد قضى ما عليه قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكرا فلينكره بيده فإن لم يستطع فلينكره بلسانه فإن لم يستطع فلينكره بقلبه وذاك أضعف الإيمان وحدثنا محمد بن بكر البصري قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن العلاء قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من رأى منكم منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذاك أضعف الإيمان فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن إنكار المنكر على هذه الوجوه الثلاثة على حسب الإمكان ودل على أنه إذا لم يستطع تغييره بديه فعليه تغييره بلسانه ثم إذا لم يمكنه ذلك فليس عليه أكثر من إنكاره بقلبه وحدثنا عبد الله بن جعفر قال حدثنا يونس بن حبيب قال حدثنا أبو داود قال حدثنا شعبة عن أبي إصحاق الذي عن عبد الله بن جرير البجلي عن أبيه
[ 39 ]
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما من قوم يعمل بينهم بالمعاصي هم أكثر وأعز ممن يعمله ثم لم يغيروا إلا عمهم الله منه بعقاب وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي قال حدثنا يونس بن راشد عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض ثم قال لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون إلى قوله فاسقون) [ المائدة: 80 ] ثم قلتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم ولتأطرنه على الحق أطر وتقصرنه لأن على الحق قصرا قال أبو داود حدثنا خلف بن هشام قال حدثنا أبو شهاب الحناط عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة عن سالم عن أبي عبيدة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه وزاد فيه أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من شرط النهي عن المنكر أن ينكره ثم لا يجالس المقيم على المعصية ولا يؤاكله ولا يشاربه وكان ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك بيانا لقوله تعالى ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا [ المائدة: 79 ] فكانوا بمؤاكلتهم وقد إياهم ومجالستهم لهم تاركين للنهي عن المنكر لقوله تعالى كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه مع ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم من إنكاره بلسانه إلا أن ذلك لم ينفعه مع مجالسته ومؤاكلته ومشاربته إياه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أيضا ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا وهب بن بقية قال أخبرنا خالد عن إسماعيل عن قيس قال قال أبو بكر بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه يا أيها الناس إنكم تقرؤن هذه الآية وتضعونها في غير موضعها عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وأنا سمعنا النبي صلى الله عليه وسلم يقول إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقاب وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود العتكي قال حدثنا ابن المبارك عن عتبة بن أبي حكيم قال حدثني عمرو بن جارية اللخمي قال حدثني أبو أمية الشعباني قال سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية عليكم أنفسكم فقال أما والله لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك يعني بنفسك ودع
[ 40 ]
عنك العوام فإن من ورائكم أيام الصبر الصبر فيه كقبض على الجمر للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله قال وزادني غيره قال يا رسول الله أجر خمسين منهم قال أجر خمسين منكم وفي هذه الأخبار دلالة على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لهما حالان حال يمكن فيها تغيير المنكر وإزالته ففرض على من أمكنه إزالة ذلك بيده أن يزيله وإزالته باليد تكون على وجوه منها أن لا يمكنه إزالته إلا بالسيف وأن يأتي على نفس فاعل المنكر فعليه أن يفعل ذلك كمن رأى رجلا قصده أو قصد غيره بقتله أو بأخذ ماله أو قصد الزنا بامرأة أو نحو ذلك وعلم أنه لا ينتهي إن أنكره بالقول أو قاتله بما دون السلاح فعليه أن يقتله لقوله صلى الله عليه وسلم من رأى منكرا فليغيره بيده فإذا لم يمكنه تغييره بيده إلا بقتل المقيم على هذا المنكر فعليه أن يقتله فرضا عليه وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بيده ودفعه عنه بغير سلاح انتهى عنه لم يجز له الإقدام على قتله وإن غلب في ظنه أنه إن أنكره بالدفع بيده أو بالقول امتنع عليه ولم يمكنه بعد ذلك دفعه عنه ولم يمكنه إزالة هذا المنكر إلا بأن يقدم عليه بالقتل من غير إنذار منه له فعليه أن يقتله مطلب: فيمن غصب متاع رجل يسعه قتله حتى يستنقذ المتاع منه وقد ذكر ابن رستم عن محمد في رجل غصب متاع رجل وسعك قتله حتى تستنقذ المتاع وترده إلى صاحبه وكذلك قال أبو حنيفة في السارق إذا أخذ المتاع وسعك أن تتبه علي حتى تقتله إن لم يرد المتاع قال محمد وقال أبو حنيفة في اللص الذي ينقب البيوت يسعك قتله وقال في رجل يريد قلع سنك قال فلك أن تقتله إذا كنت في موضع لا يعينك الناس عليه وهذا الذي ذكرناه يدل عليه قوله تعالى (فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فأمر بقتالهم ولم يرفعه عنهم إلا بعد الفئ إلى أمر الله تعالى وترك ما هم عليه من البغي والمنكر وقول النبي صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكرا فليغيره بيده يوجب ذلك أيضا لأنه قد أمر بتغييره بيده على أي وجه أمكن ذلك فإذا لم يمكنه تغييره إلا بالقتل فعليه قتله حتى يزيله وكذلك قلنا في أصحاب الضرائب والمكوس التي يأخذونها من أمتعة الناس أن دماءهم مباحة وواجب على المسلمين قتلهم ولكل واحد من الناس أن يقتل من قدر عليه منهم من غير إنذار منه له ولا التقدم إليهم بالقول لأنه معلوم من حالهم أنهم غير قابلين إذا كانوا مقدمين على ذلك مع العلم بحظره ومتى أنذرهم من يريد الإنكار عليهم امتنعوا منه
[ 41 ]
حتى لا يمكن تغيير ما هم عليه من المنكر فجائز قتل من كان منهم مقيما على ذلك وجائز مع ذلك تركهم لمن خاف إن أقدم عليهم بالقتل أن يقتل إلا أن عليه اجتنابهم والغلظة عليهم بما أمكن وهجرانهم وكذلك حكم سائر من كان مقيما على شئ من المعاصي الموبقات مصرا عليها مجاهرا بها فحكمه حكم من ذكرنا في وجوب النكير عليهم بما أمكن وتغيير ما هم عليه بيده وإن لم يستطع فلينكره بلسانه وذلك إذا رجا أنه إن أنكر عليهم بالقول أن يزولوا عنه ويتركوه فإن لم يرج ذلك وقد غلب في ظنه أنهم غير قابلين منه مع علمهم بأنه منكر عليهم وسعه السكوت عنهم يعد أن يجانبهم ويظهر هجرانهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فليغيره بلسانه فإن لم يستطع فليغيره بقلبه وقوله صلى الله عليه وسلم فإن لم يستطع قد فهم منه أنهم إذا لم يزولوا عن المنكر فعليه إنكاره بقلبه سواء كان في تقية أو لم يكن لأن قوله إن لم يستطع معناه أنه لا يمكنه إزالته بالقول فأباح له السكوت في هذه الحال وقد روي عن ابن مسعود في قوله تعالى عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم مر بالمعروف وانه عن المنكر ما قبل منك فإذا لم يقبل منك فعليك نفسك وحديث أبي ثعلبة الخشني أيضا الذي قدمناه يدل على ذلك لأنه قال صلى الله عليه وسلم ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع عنك العوام يعني والله أعلم إذا لم يقبلوا ذلك واتبعوا أهواءهم وآراءهم فأنت في سعة من تركهم وعليك نفسك ودع أمر العوام وأباح ترك النكير بالقول فيمن هذه حاله وروي عن عكرمة أن ابن عباس قال له قد أعياني أن أعلم ما فعل بمن أمسك عن الوعظ من أصحاب السبت فقلت له أنا أعرفك ذلك إقرأ الآية الثانية قوله تعالى أنجينا الذين ينهون عن السوء قال فقال لي أصبت وكساني حلة فاستدل ابن عباس بذلك على أن الله أهلك من عمل السوء ومن لم ينه عنه فجعل الممسكين عن إنكار المنكر بمنزلة فاعليه في العذاب وهذا عندنا على أنهم كانوا راضين بأعمالهم غير منكرين لها بقلوبهم وقد نسب الله تعالى قتل الأنبياء المتقدمين إلى من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود الذين كانوا متوالين لأسلافهم القاتلين لأنبيائهم بقوله قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم وبقوله فلم) تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين فأضاف القتل إليهم وإن لم يباشروه ولم يقتلوه إذ كانوا راضين بأفعال القاتلين فكذلك ألحق الله تعالى من لم ينه عن السوء من أصحاب السبت بفاعليه إذ كانوا به راضين ولهم عليه متوالين فإذا كان منكرا للمنكر بقلبه ولا يستطيع تغييره على غيره فهو غير داخل في وعيد فاعليه بل هو
[ 42 ]
ممن قال الله تعالى عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم [ المائدة: 105 ] وحدثنا مكرم بن أحمد القاضي قال حدثنا أحمد بن عطية الكوفي وقال حدثنا الحماني قال سمعت ابن المبارك يقول لما بلغ أبا حنيفة قتل إبراهيم الصائغ بكى حتى ظننا أنه سيموت فخلوت به فقال كان والله رجلا عاقلا ولقد كنت أخاف عليه هذا الأمر قلت وكيف كان سببه قال كان يقدم ويسألني وكان شديد البذل لنفسه في طاعة الله وكان شديد الورع وكنت ربما قدمت إليه الشئ فيسألني عنه ولا يرضاه ولا يذوقه وربما رضيه فأكله فسألني عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أن اتفقنا على أنه فريضة من الله تعالى فقال لي مد يدك حتى أبايعك فاظلمت الدنيا بيني وبينه فقلت ولم قال دعاني إلى حق من حقوق الله فامتنعت عليه وقلت له إن قام به رجل وحده قتل ولم يصلح للناس أمر ولكن إن وجد عليه أعوانا صالحين ورجلا يرأس عليهم مأمونا على دين الله لا يحول قال وكان يقتضي ذلك كلما قدم على تقاضي الغريم الملح كلما قدم علي تقاضاني فأقول له هذا أمر لا يصلح بواحد ما أطاقته الأنبياء حتى عقدت عليه من السماء وهذه فريضة ليست كسائر الفرائض لأن سائر الفرائض يقوم بها الرجل وحده وهذا متى أمر به الرجل وحده أشاط بدمه وعرض نفسه للقتل فأخاف عليه أن يعين على قتل نفسه وإذا قتل الرجل لم يجترئ غيره أن يعرض نفسه ولكنه ينتظر فقد قالت الملائكة فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم مالا تعلمون ثم خرج إلى مرو حيث كان أبو مسلم فكلمه بكلام غليظ فأخذه فاجتمع عليه فقهاء أهل خراسان وعبادهم حتى أطلقوه ثم عاوده فزجره ثم عاوده ثم قال ما أجد شيئا أقوم به لله تعالى أفضل من جهادك ولأجاهدنك حتى بلساني ليس لي قوة بيدي ولكن يراني الله وأنا أبغضك فيه فقتله قال أبو بكر لما ثبت بما قدمنا ذكره من القرآن والآثار الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وجوب فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبينا أنه فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين وجب أن لا يختلف في لزوم فرضه البر والفاجر لأن ترك الإنسان لبعض الفروض لا يسقط عنه فروضا غيره ألا ترى أن تركه للصلاة لا يسقط عنه فرض الصوم وسائر العبادات فكذلك من لم يفعل سائر المعروف ولم ينته عن سائر المناكير فإن فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير ساقط عنه وقد روى طلحة بن عمرو عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة قال اجتمع نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله أرأيت إن عملنا بالمعروف حتى لا يبقى من المعروف شئ
[ 43 ]
إلا عملناه وانتهينا عن المنكر حتى لم يبق شيئا من المنكر إلا انتهينا عنه أيسعنا أن لا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر قال مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله وانهو عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله فأجرى النبي صلى الله عليه وسلم فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجرى سائر الفروض في لزوم القيام به مع التقصير في بعض الواجبات ولم يدفع أحد من علماء الأمة وفقهائها سلفهم وخلفهم وجوب ذلك إلا قوم من الحشو وجهال أصحاب الحديث فإنهم أنكروا قتال الفئة الباغية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسلاح وسموا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتنة إذا احتيج فيه إلى حمل السلاح وقتال الفئة الباغية مع ما قد سمعوا فيه من قول الله تعالى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله وما يقتضيه اللفظ من وجوب قتالها بالسيف وغيره وزعموا مع ذلك أن السلطان لا ينكر عليه الظلم والجور وقتل النفس التي حرم الله وإنما ينكر على غير السلطان بالقول أو باليد بغير سلاح فصاروا شرا على الأمة من أعدائها المخالفين لها لأنهم أقعدوا الناس عن قتال الفئة الباغية وعن الإنكار على السلطان الظلم والجور حتى أدى ذلك إلى تغلب الفجار بل المجوس واعداء الإسلام حتى ذهبت الثغور وشاع الظلم وخربت البلاد وذهب الدين والدنيا وظهرت الزندقة والغلو ومذهب الثنوية والخرمية والمزدكية والذي جلب ذلك كله عليهم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنكار على السلطان الجائر والله المستعان وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عباد الواسطي قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا إسرائيل قال حدثنا محمد بن جحادة عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر أو أمير جائر وحدثنا محمد بن عمر قال أخبرني أحمد بن محمد بن عمرو بن مصعب المروزي قال سمعت أبا عمارة قال سمعت الحسن بن رشيد يقول سمعت أبا حنيفة يقول أنا حدثت إبراهيم الصائغ عن عكرمة عن ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله قوله تعالى وما الله يريد ظلما للعباد قد اقتضى ذلك نفي إرادة الظلم من كل وجه فلا يريد هو أن يظلمهم ولا يريد أيضا ظلم بعضهم لبعض لأنهما سواء في منزلة القبح ولو جاز أن ييد ظلم بعضهم لجاز أن يريد ظلمه لهم ألا ترى أنه لا فرق في
[ 44 ]
العقول بين من أراد ظلم نفسه لغيره وبين من أراد ظلم إنسان لغيره وأنهما سواء في القبح فكذلك ينبغي أن تكون إرادته للظلم منتفية منه ومن غيره قوله عز وجل كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر قيل في معنى قوله كنتم وجوه روي عن الحسن أنه يعني فيما تقدمت البشارة والخبر به من ذكر الأمم في الكتب المتقدمة قال الحسن نحن آخرها وأكرمها على الله وحدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس قال أنتم تتمنون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى فكان معناه كنتم خير أمة أخبر الله بها أنبياءه فيما أنزل إليهم من كتبه وقيل إن دخول كان وخروجها بمنزلة إلا بمقدار دخولها لتأكيد وقوع الأمر لا محالة إذ هو بمنزلة ما قد كان في الحقيقة كما قال تعالى وكان الله غفورا رحيما وكان الله عليما حكيما والمعنى الحقيقي وقوع ذلك وقيل كنتم خير أمة بمعنى حدثتم خير أمة فيكون خير أمة بمعنى الحال وقيل كنتم خير أمة في اللوح المحفوظ وقيل كنتم منذ أنتم ليدل أنهم كذلك من أول أمرهم وفي هذه الآية دلالة على صحة إجماع الأمة من وجوه أحدها كنتم خير أمة ولا يستحقون من الله صفة مدح إلا وهم قائمون بحق الله تعالى غير ضالين والثاني إخباره بأنهم يأمرون بالمعروف فيما أمروا به فهو أمر الله تعالى لأن المعروف هو أمر الله والثالث أنهم ينكرون المنكر والمنكر هو ما نهى الله عنه ولا يستحقون هذه الصفة إلا وهم لله رضى فثبت بذلك أن ما أنكرته الأمة فهو منكر وما أمرت به فهو معروف وهو حكم الله تعالى وفي ذلك ما يمنع وقوع إجماعهم على ضلال ويوجب أن ما يحصل عليه إجماعهم هو حكم الله تعالى قوله تعالى لن يضروكم إلا أذى الآية فيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر عن اليهود الذين كانوا أعداء المؤمنين وهم حوالي المدينة بنو النضير وقريظة وبنو قينقاع ويهود خيبر فأخبر الله تعالى أنهم لا يضرونهم تعالى إلا أذى من جهة القول وأنهم متى قاتلوهم ولوا الأدبار فكان كما أخبر وذلك من علم الغيب قوله تعالى ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وهو يعني به اليهود المتقدم ذكرهم فيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأن هؤلاء
[ 45 ]
اليهود صاروا كذلك من الذلة والمسكنة إلا أن يجعل المسلمون لهم عهد الله وذمته لأن الحبل في هذا الموضع هو العهد والأمان قوله تعالى ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون قال ابن عباس وقتادة وابن جريج لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة معه قالت اليهود ما آمن بمحمد إلا شرارنا فأنزل الله تعالى هذه الآية قال الحسن قوله قائمة يعني عادلة وقال ابن عباس وقتادة والربيع بن أنس ثابتة على أمر الله تعالى وقال السدي قائمة بطاعة الله تعالى وقوله وهم يسجدون قيل فيه أنه السجود المعروف في الصلاة وقال بعضهم معناه يصلون لأن القراءة لا تكون في السجود ولا في الركوع فجعلوا الواو حالا وهو قول الفراء وقال الأولون الواو ههنا للعطف كأنه قال يتلون آيات الله آناء الليل وهم مع ذلك يسجدون قوله تعالى يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) صفة لهؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب لأنهم آمنوا بالله ورسوله ودعوا الناس إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم والإنكار على من خالفه فكانوا ممن قال الله تعالى كنتم خير أمة أخرجت للناس في الآية المتقدمة وقد بينا ما دل عليه القرآن من وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن قيل فهل تجب إزالة المنكر من طريق اعتقاد المذاهب الفاسدة على وجه التأويل كما وجب في سائر المناكير من الأفعال قيل له هذا على وجهين فمن كان منهم داعيا إلى مقالته فيضل الناس بشبهته فإنه تجب إزالته عن ذلك بما أمكن ومن كان منهم معتقدا ذلك في نفسه غير داع إليها فإنما يدعى إلى الحق بإقامة الدلالة على صحة قول الحق وتبين فساد شبهته ما لم يخرج على أهل الحق بسفيه ويكون له أصحاب يمتنع بهم عن الإمام فإن خرج داعيا إلى مقالته مقاتلا عليها فهذا الباغي الذي أمر الله تعالى بقتاله حتى يفئ إلى أمر الله تعالى وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه كان قائما على المنبر بالكوفة يخطب فقال الخوارج من ناحية المسجد لا حكم إلا لله فقطع خطبته وقال كلمة حق يراد بها باطل أما أن لهم عندنا ثلاثا أن لا نمنعهم حقهم من الفئ ما كانت أيديهم مع أيدينا ولا بمنعهم مساجد الله أن يذكروا فيها اسمه ولا نقاتلهم حتى يقاتلونا فأخبر أنه لا يجب قتالهم حتى يقاتلونا وكان ابتدأهم علي كرم الله وجهه بالدعاء حين نزلوا حروراء وحاجهم حتى رجع بعضهم وذلك اصل في سائر المتأول من أهل المذاهب الفاسدة أنهم ما لم يخرجوا داعين إلى مذاهبهم لم يقاتلوا وأقروا على ما هم عليه ما لم يكن ذلك المذهب كفرا فإنه غير جائز إقرار أحد من الكفار على كفره إلا بجزية وليس يجوز
[ 46 ]
إقرار من كفر بالتأويل على الجزية لأنه بمنزلة المرتد لإعطائه بديا جملة التوحيد والإيمان بالرسول فمتى نقض ذلك بالتفصيل صار مرتدا ومن الناس من يجعلهم بمنزلة أهل الكتاب كذلك كان يقول أبو الحسن فتجوز عنده مناكحتهم ولا يجوز للمسلمين أن يزوجوهم فإن وتؤكل ذبائحهم لأنهم منتحلون عمر بحكم القرآن وإن لم يكونوا مستمسكين به كما أن من انتحل النصرانية أو اليهودية فحكمه حكمهم وإن لم يكن مستمسكا بسائر شرائعهم وقال تعالى ومن يتولهم منكم فإنه منهم وقال محمد في الزيادات لو أن رجلا دخل في بعض الأهواء التي يكفر أهلها كان في وصاياه بمنزلة المسلمين يجوز منها ما يجوز من وصايا المسلمين ويبطل منها ما يبطل من وصاياهم وهذا يدل على موافقة المذهب الذي يذهب إليه أبو الحسن في بعض الوجوه ومن الناس من يجعلهم بمنزلة المنافقين الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فأقروا على نفاقهم مع علم الله تعالى بكفرهم ونفاقهم ومن الناس من يجعلهم كأهل الذمة ومن أبى ذلك ففرق بينهما بأن المنافقين لو وقفنا على نفاقهم لم نقرهم عليه ولم نقبل منهم إلا الإسلام أو السيف وأهل الذمة إنما أقروا بالجزية وغير جائز أخذ الجزية من الكفار المتأولين المنتحلين للإسلام ولا يجوز أن يقروا بغير جزية فحكمهم في ذلك متى وقفنا على مذهب واحد منهم اعتقاد الكفر لم يجز إقراره عليه وأجري عليه أحكام المرتدين ولا يقتصر في إجرائه حكم الكفار على إطلاق لفظ عسى أن يكون غلطه فيه دون الاعتقاد دون أن يبين عن ضميره فيعرب لنا عن اعتقاده بما يوجب تكفيره فحينئذ يجوز عليه أحكام المرتدين من الاستتابة فإن تاب وإلا قتل والله أعلم باب الاستعانة بأهل الذمة قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم الآية قال أبو بكر بطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره ويثق بهم في أمره فنهى الله تعالى المؤمنين أن يتخذوا أهل الكفر بطانة من دون المؤمنين وأن يستعينوا بهم في خوص أمورهم وأخبر عن ضمائر هؤلاء الكفار للمؤمنين فقال لا يألونكم خبالا يعني لا يقصرون فيما يجدون السبيل إليه من إفساد أموركم لأن الخبال هو الفساد ثم قال (ودوا ما عنتم قال السدي ودوا ضلالكم عن دينكم وقال ابن جريج ودوا أن تعنتوا في دينكم فتحملوا على المشقة فيه لأن أصل العنت المشقة فكأنه أخبر عن
[ 47 ]
محبتهم لما يشق عليكم وقال الله تعالى ولو شاء الله لأعنتكم وفي هذه الآية دلالة على أنه لا تجوز الاستعانة بأهل الذمة في أمور المسلمين من العمالات والكتبة وقد روي عن عمر أنه بلغه أن أبا موسى استكتب رجلا من أهل الذمة فكتب إليه يعنفه وتلا يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم أي لا تردوهم إلى العز بعد أن أذلهم الله تعالى وروى أبو حيان التيمي عن فرقد بن صالح عن أبي دهقانة قال قلت لعمر بن الخطاب أن ههنا رجلا من أهل الحيرة لم نر رجلا أحفظ منه ولا أخط منه بقلم فإن رأيت أن نتخذه كاتبا قال قد اتخذت إذا بطانة من دون المؤمنين وروى هلال الطائي عن وسق الرومي قال كنت مملوكا لعمر فكان يقول لي أسلم فإنك إن أسلمت استعنت بك على أمانة المسلمين فإنه لا ينبغي أن أستعين على أمانتهم من ليس منهم فأبيت فقال لا إكراه في الدين فلما حضرته الوفاة أعتقني فقال اذهب حيث شئت مطلب: في قوله تعالى: (لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) وأن المخصوص بالذكر لا يدل على نفي ما عداه وقوله تعالى لا تأكلوا الربوا أضعافا مضاعفة قيل في معنى أضعافا مضاعفة وجهان أحدهما المضاعفة بالتأجيل أجلا بعد أجل ولكل أجل قسط من الزيادة على المال والثاني ما يضاعفون النبي به أموالهم وفي هذا دلالة على أن المخصوص بالذكر لا يدل على أن ما عداه بخلافه لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون ذكر تحريم الربا أضعافا مضاعفة دلالة على إباحته إذا لم يكن أضعافا مضاعفة فلما كان الربا محظورا بهذه الصفة وبعدمها دل ذلك على فساد قولهم في ذلك ويلزمهم في ذلك أن تكون هذه الدلالة منسوخة بقوله تعالى وحرم الربا إذا لم يبق لها حكم في الاستعمال وقوله تعالى وجنة عرضها السماء والأرض قيل كعرض السموات والأرض وقال في آية أخرى وجنة عرضها السماء والأرض [ الحديد: 21 ] وكما قال ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة أي إلا كبعث نفس واحدة ويقال إنما خص العرض بالذكر دون الطول لأنه يدل على أن الطول أعظم ولو ذكر الطول لم يقم مقامه في الدلالة على العظم وهذا يحتج به في قول النبي صلى الله عليه وسلم ذكاة الجنين ذكاة أمه معناه كذكاة أمه مطلب في قول عمر رضي الله عنه من خاف الله لم يشف غيظه وقوله تعالى والذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن
[ 48 ]
الناس قال ابن عباس في السراء والضراء في العسر واليسر يعني في قلته وكثرته وقيل في حال السرور والغم لا يقطعه شئ من ذلك عن إنفاقه في وجوه البر فمدح المنفقين في هاتين الحالتين ثم عطف عليه الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس فمدح من كظم غيظه وعفا عمن اجترم إليه وقال عمر بن الخطاب من خاف الله لم يشف غيظه ومن اتقى الله لم يصنع ما يريد ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون وكظم الغيظ والعفو مندوب إليهما موعود بالثواب عليهما من الله تعالى قوله تعالى وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا فيه حض على الجهاد من حيث لا يموت أحد فيه إلا بإذن الله تعالى وفي التسلية عما يلحق النفس بموت النبي صلى الله عليه وسلم لأنه بإذن الله تعالى لأنه قد تقدم ذكر موت النبي صلى الله عليه وسلم في قوله وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل الآية وقوله تعالى ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها قيل فيه من عمل للدنيا وفر حظه المقسوم له فيها من غير أن يكون له حظ في الآخرة روي ذلك عن ابن إسحاق وقيل إن معناه من أراد بجهاده ثواب الدنيا لم يحرم حظه من الغنيمة وقيل من تقرب إلى الله بعمل النوافل وليس هو ممن يستحق الجنة بكفره أو بما يحبط عمله جوزي بها في الدنيا من غير أن يكون له حظ في الآخرة وهو نظير قوله تعالى من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا) [ الاسراء: 18 ] قوله تعالى وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير قال ابن عباس والحسن علماء وفقهاء وقال مجاهد وقتادة جموع كثيرة وقوله تعالى فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا) فإنه قيل في الوهن بأنه انكسار الجسد ونحوه والضعف نقصان القوة وقيل في الإستكانة أنها إظهار الضعف وقيل فيه أنه الخضوع فبين تعالى أنهم لم يهنوا بالخوف ولا ضعفوا لنقصان القوة ولا استكانوا بالخضوع وقال ابن إسحاق فما وهنوا بقتل نبيهم ولا ضعفوا عن عدوهم ولا استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن دينهم وفي هذه الآية الترغيب في الجهاد في سبيل الله والحض على سلوك طريق العلماء من صحابة الأنبياء والأمر بالاقتداء بهم في الصبر على الجهاد وقوله تعالى وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا الآية فيه حكاية دعاء الربيين من أتباع الأنبياء المتقدمين وتعليم لنا لأن نقول مثل قولهم عند حضور القتال فنيبغي للمسلمين أن يدعوا بمثله عند معاينة العدو لأن الله تعالى حكى ذلك
[ 49 ]
عنهم على وجه المدح لهم والرضا بقولهم لنفعل مثل فعلهم ونستحق من المدح كاستحقاقهم وإن قوله تعالى فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة قال قتادة والربيع بن أنس وابن جريج ثواب الدنيا الذي أوتوه هو النصر على عدوهم حتى قهروهم وظفروا بهم وثواب الآخرة الجنة وهذا دليل على أنه يجوز اجتماع الدنيا والآخرة لواحد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال من عمل لدنياه أضر بآخرته ومن عمل لآخرته أضر بدنياه وقد يجمعهما الله تعالى لأقوام قوله تعالى سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا فيه دليل على بطلان التقليد لأن الله تعالى حكم ببطلان قولهم إذ لم يكن معهم برهان عليه والسلطان ههنا هو البرهان ويقال إن أصل السلطان القوة فسلطان الملك قوته والسلطان الحجة لقوتها على قمع الباطل وقهر المبطل به والتسليط على الشئ التقوية عليه مع الإغراء به وفيه الدلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر به من إلقاء الرعب في قلوب المشركين فكان كما أخبر به وقال النبي صلى الله عليه وسلم نصرت بالرعب حتى أن العدو ليرعب مني وهو على مسيرة شهر قوله تعالى ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه فيه إخبار بتقدم وعد الله تعالى لهم بالنصر على عدوهم ما لم يتنازعوا ويختلفوا فكان كما أخبر به يوم أحد ظهروا على عدوهم وهزموهم وقتلوا منهم وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرماة بالمقام في موضع وأن لا يرجوا فعصوا وخلوا مواضعهم حين رأوا هزيمة المشركين وظنوا أنه لم يبق لهم باقية واختلفوا وتنازعوا فحمل عليهم خالد بن الوليد من ورائهم فقتلوا من المسلمين من قتلوا بتركهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصيانهم وفي ذلك دليل على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم وجدوا موعود الله كما وعد قبل العصيان فلما عصوا وكلوا إلى أنفسهم وفيه دليل على أن النصر من الله في جهاد العدو مضمون باتباع أمره والاجتهاد في طاعته وعلى هذا جرت عادة الله تعالى للمسلمين في نصرهم على أعدائهم وقد كان المسلمون من الصدر الأول إنما يقاتلون المشركين بالدين ويرجون النصر عليهم وغلبتهم به لا بكثرة العدد ولذلك قال الله تعالى إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا فأخبر أن هزيمتهم إنما كانت لتركهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإخلال بمراكزهم التي رتبوا فيها وقال تعالى منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة وإنما أتوا من قبل من كان يريد الدنيا منهم قال عبد الله بن مسعود ما ظننت أن أحدا ممن قاتل مع
[ 50 ]
النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى أنزل الله تعالى منكم من يريد الدنيا وعلى هذا المعنى كان الله قد فرض على العشرين أن لا يفروا من مائتين بقوله تعالى إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين لأنه في ابتداء الإسلام كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم مخلصين لنية الجهاد لله تعالى ولم يكن فيهم من يريد الدنيا وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا رجالة قليلي العدة والسلاح وعدوهم ألف فرسان ورجالة بالسلاح الشاك فمنحهم الله أكتافهم ونصرهم عليهم حتى قتلوا كيف شاؤا وأسروا كيف شاؤا ثم لما خالطهم بعد ذلك من لم يكن له مثل بصائرهم وخلوص ضمائرهم خفف الله تعالى عن الجميع فقال الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله [ الانفال: 66 ] ومعلوم أنه لم يرد ضعف قوى الأبدان ولا عدم السلاح لأن قوى أبدانهم كانت باقية وعددهم أكثر وسلاحهم أوفر وإنما أراد به أنه خالطهم من ليس له قوة البصيرة مثل ما للأولين فالمراد بالضعف ههنا ضعف النية وأجرى الجميع مجرى واحدا في التخفيف إذا لم يكن من المصلحة تمييز ذوي البصائر منهم بأعيانهم وأسمائهم من أهل ضعف اليقين وقلة البصيرة ولذلك قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في يوم اليمامة حين انهزم الناس أخلصونا أخلصونا يعنون المهاجرين والأنصار مطلب: في قوله تعالى: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة) الاية، وذكر ما فيها من دلائل النبوة قوله تعالى ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم قال طلحة وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وقتادة والربيع بن أنس كان ذلك يوم أحد بعد هزيمة من انهزم من المسلمين وتوعدهم المشركون بالرجوع فكان من ثبت من المسلمين تحت الحجف متأهبين للقتال فأنزل الله تعالى الأمنة على المؤمنين فناموا دون المنافقين الذين أرعبهم الخوف لسوء الظن قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنمنا حتى اصطفقت الحجف من النعاس ولم يصب المنافقين ذلك بل أهمتهن كما أنفسهم فقال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم سمعت وأنا بين النائم واليقظان معتب بن قشير وناسا من المنافقين يقولون هل لنا من الأمر من شئ وهذا من لطف الله تعالى للمؤمنين وإظهار أعلام النبوة في مثل تلك الحال التي العدو فيها مطل عليهم وقد انهزم عنهم كثير من أعوانهم وقد قتلوا من قتلوا من المسلمين فينامون وهم مواجهون العدو في الوقت الذي يطير فيه النعاس عمن شاهده ممن لا يقاتل فكيف بمن حضر القتال والعدو قد أشرعوا فيهم الأسنة وشهروا سيوفهم لقتلهم واستيصالهم هو وفي ذلك أعظم الدلائل وأكبر الحجج
[ 51 ]
في صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه أحدها وقوع الأمنة مع استعلاء العدو من غير مدد أتاهم ولا نكاية في العدو ولا انصرافهم عنهم ولا قلة عددهم فينزل الله تعالى على قلوبهم الأمنة وذلك في أهل الإيمان واليقين خاصة والثاني وقوع النعاس عليهم في مثل تلك الحال التي يطير في مثلها النعاس عمن شاهدها بعد الإنصراف والرجوع فكيف في حال المشاهدة وقصد العدو نحوهم لاستيصالهم وسلم وقتلهم والثالث تمييز المؤمنين من المنافقين حتى خص المؤمنين بتلك الأمنة والنعاس دون المنافقين فكان المؤمنون في غاية الأمن والطمأنينة والمنافقون في غاية الهلع والخوف والقلق والاضطراب فسبحان الله العزيز العليم الذي لا يضيع أجر المحسنين قوله تعالى فبما رحمة من الله لنت لهم قيل إن ما ههنا صلة معناه فبرحمة من الله روي ذلك عن قتادة كما قال عما قليل ليصبحن نادمين) [ المؤمنون: 18 ] وقوله تعالى فبما نقضهم ميثاقهم واتفق أهل اللغة على ذلك وقالوا معناها التأكيد وحسن النظم كما قال الأعشى * أذهبي عنه ما إليك أدركني الحلم * إن عداني عن هيجكم إلا أشفاقي * وفي ذلك دليل على بطلان قول من نفى أن يكون في القرآن مجاز لأن ذكر ما ههنا مجاز وإسقاطها لا يغير المعنى قوله تعالى ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك يدل على وجوب استعمال اللين والرفق وترك الفظاظة والغلظة في الدعاء إلى الله تعالى كما قال تعالى أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن [ النحل: 125 ] وقوله تعالى لموسى وهارون فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى [ طه: 44 ] قوله تعالى وشاورهم في الأمر اختلف الناس في معنى أمر الله تعالى إياه بالمشاورة مع استغنائه بالوحي عن تعرف صواب الرأي من الصحابة فقال قتادة والربيع بن أنس ومحمد بن إسحاق إنما أمره بها تطييبا لنفوسهم ورفعا من أقدارهم إذ كانوا ممن يوثق بقوله ويرجع إلى رأيه قال سفيان بن عيينة أمره بالمشاورة لتقتدي به أمته فيها ولا تراها منقصة كما مدحهم الله تعالى بأن أمرهم شورى بينهم وقال الحسن والضحاك جمع لهم بذلك الأمرين جميعا في المشاورة ليكون لإجلال
[ 52 ]
الصحابة ولتقتدي الأمة به في المشاورة وقال بعض أهل العلم إنما أمره بالمشاورة فيما لم ينص له فيه على شئ بعينه فمن القائلين بذلك من يقول إنما هو في أمور الدنيا خاصة وهم الذين يأبون أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يقول شيئا من أمور الدين من طريق الاجتهاد وإنما هو في أمور الدنيا خاصة فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم يستعين بآرائهم في ذلك ويتنبه بها على أشياء من وجوه التدبير ما جائز أن يفعلها لولا المشاورة واستشارة آراء الصحابة وقد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول على الماء فقبل وأشار منه عليه السعدان سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة فينصرفوا فقبل منهم وخرق الصحيفة في أشياء من نحو هذا من أمور الدنيا وقال آخرون كان مأمورا بمشاورتهم في أمور الدين والحوادث التي لا توقيف فيها عن الله تعالى وفي أمور الدنيا أيضا مما طريقه الرأي وغالب الظن وقد شاورهم يوم بدر في الأسارى وكان ذلك من أمور الدين وكان صلى الله عليه وسلم إذا شاورهم فأظهروا آراءهم ارتأى معهم وعمل بما أداه إليه اجتهاده وكان في ذلك ضروب من الفوائد أحدها إعلام الناس أن ما لا نص فيه من الحوادث فسبيل استدراك حكمه الاجتهاد وغالب الظن والثاني إشعارهم صلى بمنزلة الصحابة رضي الله عنهم وأنهم أهل الاجتهاد وجائز اتباع آرائهم إذ رفعهم الله إلى المنزلة التي يشاورهم النبي صلى الله عليه وسلم ويرضى اجتهادهم ويحريهم لموافقة النصوص من أحكام الله تعالى والثالث أن باطن ضمائرهم مرضي عند الله تعالى لولا ذلك لم يأمره بمشاورتهم فدل ذلك على يقينهم وصحة إيمانهم وعلى منزلتهم مع ذلك من العلم وعلى تسويغ الاجتهاد في أحكام الحوادث التي لا نصوص فيها لتقتدي به الأمة بعده صلى الله عليه وسلم في مثله وغير جائز أن يكون الأمر بالمشاورة على جهة تطييب نفوسهم ورفع أقدارهم ولتقتدي الأمة به في مثله لأنه لو كان معلوما عندهم أنهم إذا استفرغوا مجهودهم في استنباط ما شاوروا فيه وصواب الرأي فيما سئلوا عنه ثم لم يكن ذلك معمولا عليه ولا متلقى منه بالقبول بوجه لم يكن في ذلك تطييب نفوسهم ولا رفع لأقدارهم بل فيه إيحاشهم وإعلامهم بأن آراءهم غير مقبولة ولا معمول عليها فهذا تأويل ساقط لا معنى له فكيف يسوغ تأويل من تأوله لتقتدي به الأمة مع علم الأمة عند هذا القائل بأن هذه المشورة لم تفد شيئا ولم يعمل بشئ أشاروا به فإن كان على الأمة الاقتداء به فيها فواجب على الأمة أيضا أن يكون تشاورهم فيما بينهم على هذا السبيل وأن لا تنتج المشورة رأيا صحيحا ولا قولا معمولا لأن مشاورتهم عند القائلين بهذه المقالة كانت على هذا الوجه فإن كانت مشورة الأمة فيما بينها تنتج رأيا صحيحا وقولا معمولا عليه فليس في ذلك اقتداء بالصحابة عند مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم وإذ قد
[ 53 ]
بطل هذا فلا بد من أن تكون لمشاورته إياهم فائدة تستفاد بها وأن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم معهم ضرب من الارتشاء والاجتهاد فجائز حينئذ أن توافق آراؤهم رأي النبي صلى الله عليه وسلم وجائز أن يوافق رأي بعضهم رأيه وجائز أن يخالف رأي جميعهم فيعمل صلى الله عليه وسلم حينئذ برأيه ويكون فيه دلالة على أنهم لم يكونوا معنقين أنه في اجتهادهم بل كانوا مأجورين فيه لفعلهم ما أمروا به ويكون عليهم حينئذ ترك آرائهم واتباع رأي النبي صلى الله عليه وسلم ولا بد من أن تكون مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم فيما لا نص فيه إذ غير جائز أن يشاورهم في المنصوصات ولا يقول لهم ما رأيكم في الظهر والعصر والزكاة وصيام رمضان ولما لم يخص الله تعالى أمر الدين من أمور الدنيا في أمره صلى الله عليه وسلم بالمشاورة وجب أن يكون ذلك فيهما جميعا ولأنه معلوم أن مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الدنيا إنما كانت تكون في محاربة الكفار ومكايدة العدو وإن لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم تدبيره في أمر دنياه ومعاشه يحتاج فيه إلى مشاورة غيره لاقتصاره صلى الله عليه وسلم من الدنيا على القوت والكفاف الذي لا فضل فيه وإذا كانت مشاورته لهم في محاربة العدو ومكايدة الحروب فإن ذلك من أمر الدين ولا فرق بين اجتهاد الرأي فيه وبينه في أحكام سائر الحوادث التي لا نصوص فيها وفي ذلك دليل على صحة القول باجتهاد الرأي في أحكام الحوادث وعلى أن كل مجتهد مصيب وعلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يجتهد رأيه فيما لا نص فيه ويدل على أنه قد كان يجتهد رأيه معهم ويعمل بما يغلب في رأيه فيما لا نص فيه قوله تعالى في نسق ذكر المشاورة فإذا عزمت فتوكل على ا لله ولو كان فيما شاور فيه شئ منصوص قد ورد التوقيف به من الله لكانت العزيمة فيه متقدمة للمشاورة إذ كان ورود النص موجبا لصحة العزيمة قبل المشاورة وفي ذكر العزيمة عقيب المشاورة دلالة على أنها صدرت عن المشورة وأنه لم يكن فيها نص قبلها قوله تعالى وما كان لنبي أن يغل قرئ يغل برفع الياء ومعناه يخان وخص النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وإن كانت خيانة سائر الناس محظورة تعظيما لأمر خيانته على خيانة غيره كما قال تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور [ الحج: 30 ] وإن كان الرجس كله محظورا ونحن مأمورون باجتنابه وروي هذا التأويل عن الحسن وقال ابن عباس وسعيد بن جبير في قوله تعالى يغل برفع الياء أن معناه يخون فنسبا إلى الخيانة وقال نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض الناس لعل النبي صلى الله عليه وسلم أخذها فأنزل الله هذه الآية ومن قرأ يغل بنصب الياء معناه يخون والغلول الخيانة في الجملة إلا أنه قد صار الإطلاق فيها يفيد الخيانة في المغنم
[ 54 ]
وقد عظم النبي صلى الله عليه وسلم أمر الغلول حتى أجراه مجرى الكبائر وروى قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول من فارق الروح جسده وهو برئ من ثلاث دخل الجنة الكبر والغلول والدين وروى عبد الله بن عمر أن رجلا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له كركرة فمات فقال النبي صلى الله عليه وسلم هو في النار فذهبوا ينظرون فوجدوا عليه كساء أو عباءة قد غلها وقال النبي صلى الله عليه وسلم أدوا الخيط والمخيط فإنه عار ونار وشنار يوم القيامة والأخبار في أمر تغليظ الغلول كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي في إباحة أكل الطعام وأخذ علف الدواب عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين أخبار مستفيضة قال عبد الله بن أبي أوفى أصبنا طعاما يوم خيبر فكان الرجل منا يأتي فيأخذ منه ما يكفيه ثم ينصرف وعن سلمان أنه أصاب يوم المداين أرغفة حواري وجبنا وسكينا فجعل يقطع من الجبنة ويقول كلوا بسم الله وقد روى رويفع بن ثابت الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يركب دابة من فئ المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يلبس ثوبا من فئ المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه وهذا محمول على الحال التي يكون فيها مستغنيا عنه فأما إذا احتاج إليه فلا بأس به عند الفقهاء وقد روي عن البراء بن مالك أنه ضرب رجلا من المشركين يوم اليمامة فوقع على قفاه فأخذ سيفه وقتله به قوله تعالى وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قال السدي وابن جريج في قوله أو ادفعوا إن معناه بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا وقال أبو عون الأنصاري معناه ورابطوا بالقيام على الخيل إن لم تقاتلوا قال أبو بكر وفي هذا دلالة على أن فرض الحضور لازم لمن كان في حضوره نفع في تكثير السواد والدفع وفي القيام على الخيل إذا احتيج إليهم وقوله تعالى يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم قيل فيه وجهان أحدهما تأكيد لكون القول منهم إذ قد يضاف الفعل إلى غير فاعله إذا كان راضيا به على وجه المجاز كما قال تعالى وإذا قتلتم نفسا فادارأتم فيها وإنما قتل غيرهم ورضوا به وقوله تعالى فلم تقتلون أنبياء الله من قبل ونحو ذلك والثاني أنه فرق بذكر الأفواه بين قول اللسان وقول الكتاب وقوله تعالى ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون زعم قوم أن المراد أنهم يكونون أحياء في الجنة قالوا لأنه لو جاز أن ترد
[ 55 ]
عليهم أرواحهم بعد الموت لجاز القول بالرجعة ومذهب أهل التناسخ قال أبو بكر وقال الجمهور إن الله تعالى يحييهم بعد الموت فينيلهم من النعيم بقدر استحقاقهم إلى أن يفنيهم الله تعالى عند فناء الخلق ثم يعيدهم في الآخرة ويدخلهم الجنة لأنه أخبر أنهم أحياء وذلك يقتضي أنهم أحياء في هذا الوقت ولأن تأويل من تأوله على أنهم أحياء في الجنة يؤدي إلى إبطال فائدته لأن أحدا من المسلمين لا يشك أنهم سيكونون أحياء مع سائر أهل الجنة إذ الجنة لا يكون فيها ميت ويدل عليه أيضا وصفه تعالى لهم بأنهم فرحون على الحال بقوله تعالى فرحين بما آتاهم الله من فضله ويدل عليه قوله تعالى ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وهم في الآخرة قد لحقوا بهم وروى ابن عباس وابن مسعود وجابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في حواصل طيور خضر تحت العرش ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش وهو مذهب الحسن وعمرو بن عبيد وأبي حذيفة وواصل بن عطاء وليس ذلك من مذهب أصحاب التناسخ في شئ لأن المنكر في ذلك رجوعهم إلى دار الدنيا في خلق مختلفة وقد أخبر الله تعالى عن قوم أنه أماتهم ثم أحياهم في قوله ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهو ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم وأخبر أن إحياء الموتى معجزة لعيسى عليه السلام فكذلك يحييهم بعد الموت ويجعلهم حيث يشاء وقوله تعالى عند ربهم يرزقون معناه حيث لا يقدر لهم أحد على ضر ولا نفع إلا ربهم عز وجل وليس يعني به قرب المسافة لأن الله تعالى لا يجوز عليه القرب والبعد بالمسافة إذ هو من صفة الأجسام وقيل عند ربهم من حيث يعلمهم هو دون الناس تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم الآية روي عن ابن عباس وقتادة وابن إسحاق إن الذين قالوا كانوا ركبا وبينهم أبو سفيان ليحبسوهم وهو عند منصرفهم من أحد لما أرادوا الرجوع إليهم وقال السدي هو أعرابي ضمن له جعلا على ذلك فأطلق الله تعالى اسم الناس على ا لواحد على قول من تأوله على أنه كان رجلا واحدا فهذا على أنه أطلق لفظ العموم وأراد به الخصوص قال أبو بكر لما كان الناس اسما للجنس وكان من المعلوم أن الناس كلهم لم يقولوا ذلك تناول ذلك أقلهم وهو الواحد منهم لأنه لفظ الجنس وعلى هذا قال أصحابنا فيمن قال إن كلمت الناس فعبدي حر أنه على كلام الواحد منهم لأنه لفظ الجنس ومعلوم أنه لم يرد به استغراق الجنس فيتناول الواحد منهم
[ 56 ]
وقوله تعالى فاخشوهم فزادهم إيمانا فيه إخبار بزيادة يقينهم عند زيادة الخوف والمحنة إذ لم يبقوا على الحال الأولى بل ازدادوا عند ذلك يقينا وبصيرة في دينهم وهو كما قال تعالى في الأحزاب ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما [ الاحزاب: 22 ] فازدادوا عند معاينة العدو إيمانا وتسليما لأمر الله تعالى والصبر على جهادهم وفي ذلك أتم ثناء على الصحابة رضي الله عنهم وأكمل فضيلة وفيه تعليم لنا أن نقتدي بهم ونرجع إلى أمر الله والصبر عليه والاتكال عليه وأن نقول حسبنا الله ونعم الوكيل وأنا متى فعلنا ذلك أعقبنا صلى الله عليه وسلم ذلك من الله النصر والتأييد وصرف كيد العدو وشرهم مع حيازة رضوان الله وثوابه بقوله تعالى فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله) وقوله تعالى ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله إلى قوله (سيطوقون ما بخلو به قال السدي بخلوا أن ينفقوا في سبيل الله وأن يؤدوا الزكاة وقال ابن عباس هو في أهل الكتاب بخلوا أن يبينوه للناس وهو بالزكاة أولى كقوله والذين يكنزون الذهب والفضة إلى قوله يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وقوله تعالى (سيطوقون ما بخلوا به يدل على ذلك أيضا وروى سهل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاة كنزه إلا جئ به يوم القيامة وبكنزه فيحمى بها جبينه وجبهته حتى يحكم الله بين عباده وقال مسروق يجعل الحق الذي منعه حية فيطوقها فيقول مالي ومالك فتقول الحية أنا مالك وقال عبد الله يطوق ثعبانا في عنقه له أسنان فيقول أنا ملك الذي بخلت به قوله تعالى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس قد تقدم نظيرها في سورة البقرة وقد روي في ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي أن المراد به اليهود وقال غيرهم المراد به اليهود والنصارى وقال الحسن وقتادة المراد به كل من أوتي علما فكتمه قال أبو هريرة لولا آية من كتاب الله تعالى ما حدثتكم به ثم تلا قوله وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب فيعود الضمير في قوله لتبيننه في قول الأولين على النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم كتموا صفته وأمره وفي قوله الآخرين على الكتاب فيدخل فيه بيان أمر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر ما في كتب الله عزوجل تعالى إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي
[ 57 ]
الألباب الآيات التي فيها من جهات أحدها تعاقب الأعراض المتضادة عليها مع استحالة وجودها عارية منها والأعراض محدثة وما لم يسبق المحدث فهو محدث وقد دلت أيضا على أن خالق الأجسام لا يشبهها لأن الفاعل لا يشبه فعله وفيها الدلالة على أن خالقها قادر لا يعجزه شئ إذ كان خالقها وخالق الأعراض المضمنة بها وهو قادر على أضدادها إذ ليس بقادر يستحيل منه الفعل ويدل على أن فاعلها قديم لم يزل لأن صحة وجودها متعلقة بصانع قديم لولا ذلك لاحتاج الفاعل إلى فاعل آخر إلى مالا نهاية له ويدل على أن صانعها عالم من حيث استحال وجود الفعل المتقن المحكم إلا من عالم به قبل أن يفعله ويدل على أنه حكيم عدل لأنه مستغن عن فعل القبيح عالم بقبحه فلا تكون أفعاله إلا عدلا وصوابا ويدل على أنه لا يشبهها لأنه لو أشبهها لم يخل من أن يشبهها من جميع الوجوه أو من بعضها فإن أشبهها من جميع الوجوه فهو محدث مثلها وإن أشبهها من بعض الوجوه فواجب أن يكون محدثا من ذلك الوجه لأن حكم المشبهين واحد من حيث اشتبها فوجب أن يتساويا في حكم الحدوث من ذلك الوجه ويدل وقوف السموات والأرض من غير عمد أن ممسكها لا يشبهها لاستحالة وقوفها من غير عمد من جسم مثلها إلى غير ذلك من الدلائل المضمنة بها ودلالة الليل والنهار على الله تعالى أن الليل والنهار محدثان لوجود كل واحد منهما بعد أن لم يكن موجودا ومعلوم أن الأجسام لا تقدر على إيجادها ولا على الزيادة والنقصان فيها وقد اقتضيا محدثا من حيث كانا محدثين لاستحالة وجود حادث لا محدث له فوجب أن محدثهما ليس بجسم ولا مشبه للأجسام لوجهين أحدهما أن الأجسام لا تقدر على إحداث مثلها والثاني المشبه للجسم يجري عليه ما يجري عليه من حكم الحدوث فلو كان فاعلها حادثا لاحتاج إلى محدث ثم كذلك يحتاج الثاني إلى الثالث إلى مالا نهاية له وذلك محال فلا بد من إثبات صانع قديم لا يشبه الأجسام والله أعلم باب فضل الرباط في سبيل الله تعالى قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا قال الحسن وقتادة وابن جريج والضحاك اصبروا على طاعة الله وصابروا على دينكم وصابروا أعداء الله ورابطوا في سبيل الله وقال محمد بن كعب القرظي اصبروا على الجهاد وصابروا وعدي إياكم ورابطوا أعداءكم وقال زيد بن أسلم اصبروا على الجهاد وصابروا العدو ورابطوا الخيل عليه وقال أبو مسلمة بن عبد الرحمن ورابطوا بانتظار الصلاة
[ 58 ]
بعد الصلاة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط وقال تعالى ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم [ الانفال: 60 ] وروى سليمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال رباط يوم في سبيل الله أفضل من صيام شهر ومن قيامه ومن مات فيه وقي فتنة القبر ونما له عمله إلى يوم القيامة وروى عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة قيام ليلها وصيام نهارها والله الموفق
[ 59 ]
سورة النساء بسم الله الرحمن الرحيم قال الله تعالى واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام قال الحسن ومجاهد وإبراهيم هو قول القائل أسألك بالله وبالرحم وقال ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك اتقوا الأرحام أن تقطعوها وفي الآية دلالة على جواز المسألة بالله تعالى وقد روى ليث عن مجاهد عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سأل بالله فأعطوه وروى معاوية بن سويد بن مقرن عن البراء بن عازب قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع منها إبرار القسم وهذا يدل على مثل ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم من سألكم بالله فأعطوه وأما قوله والأرحام ففيه تعظيم لحق الرحم وتأكيد للنهي عن قطعها قال الله تعالى في موضع آخر فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم فقرن قطع الرحم إلى الفساد في الأرض وقال تعالى لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة قيل في الآل أنه القربى وقال تعالى (وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى [ النساء: 36 ] وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تعظيم حرمة الرحم ما يواطئ ما ورد به التنزيل روى سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن عوف قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله أنا الرحمن وهي الرحم شققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا خالي حيان بن بشر قال حدثنا محمد بن الحسن عن أبي حنيفة قال حدثني ناصح عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من شئ أطيع الله فيه أعجل ثوابا من صلة الرحم وما من عمل عصي الله به أعجل عقوبة من البغي واليمين الفاجرة وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا خالد بن خداش قال حدثنا صالح المري قال حدثنا يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر
[ 60 ]
ويدفع بهما ميتة السوء ويدفع الله بهما المحذور والمكروه وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم بنت عقبة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح قال الحميدي الكاشح العدو ورواه أيضا سفيان عن الزهري عن أيوب بن بشير عن حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح وروت حفصة بنت سيرين عن الرباب عن سليمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الصدقة على المسلمين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان لأنها صدقة وصلة قال أبو بكر فثبت بدلالة الكتاب والسنة وجوب صلة الرحم واستحقاق الثواب بها جعل النبي صلى الله عليه وسلم الصدقة على ذي الرحم اثنتين صدقة وصلة وأخبر باستحقاق الثواب لأجل الرحم سوى ما يستحقه بالصدقة فدل على أن الهبة لذي الرحم المحرم لا يصح الرجوع فيها ولا فسخها أيا كان الواهب أو غيره لأنها قد جرت مجرى الصدقة في أن موضوعها القربة واستحقاق الثواب بها كالصدقة لما كان موضوعها القربة وطلب الثواب لم يصح الرجوع فيها كذلك الهبة لذي الرحم المحرم ولا يصح للأب بهذه الدلالة الرجوع فيما وهبه للإبن كما لا يجوز لغيره من ذوي الرحم المحرم إذ كانت بمنزلة الصدقة إلا أن يكون الأب محتاجا فيجوز له أخذه كسائر أموال الإبن فإن قيل لم يفرق الكتاب والسنة فيما أوجبه من صلة الرحم بين ذي الرحم المحرم وغيره فالواجب أن لا يرجع فيما وهبه لسائر ذوي أرحامه وإن لم يكن ذا رحم محرم كإبن العم والأباعد من أرحامه قيل له لو اعتبرنا كل من بينه وبينه نسب لوجب أن يشترك فيه بنو آدم عليه السلام كلهم لأنهم ذووا أنسابه ويجمعهم نوح النبي عليه السلام وقبله آدم عليه السلام وهذا فاسد فوجب أن يكون الرحم الذي يتعلق به هذا الحكم هو ما يمنع عقد النكاح بينهما إذا كان أحدهما رجلا والآخر امرأة لأن ما عدا ذلك لا يتعلق به حكم وهو بمنزلة ا لأجنبيين وقد روى زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بمنى وهو يقول أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك فذكر ذوي الرحم المحرم في ذلك فدل على صحة ما ذكرنا وهو مأمور مع ذلك بمن بعد رحمه أن يصله وليس في تأكيد من قرب كما يأمر بالإحسان إلى الجار ولا يتعلق بذلك حكم في التحريم ولا في منع الرجوع في الهبة فكذلك ذوو رحمه الذين ليسوا بمحرم فهو مندوب إلى الإحسان إليهم ولكنه لما لم يتعلق به حكم التحريم كانوا بمنزلة الأجنبيين والله أعلم بالصواب
[ 61 ]
باب دفع أموال الأيتام إليهم بأعيانها ومنع الوصي من استهلاكها قال الله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب روي عن الحسن أنه قال لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وجعل ولي اليتيم يعزل مال اليتيم عن ماله فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم قال أبو بكر وأظن ذلك غلطا من الراوي لأن المراد بهذه الآية إيتاءهم أموالهم بعد البلوغ إذ لا خلاف بين أهل العلم أن اليتيم لا يجب إعطاؤه ماله قبل البلوغ وإنما غلط الراوي بآية أخرى وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا جرير عن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما أنزل الله تعالى ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن وإن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى ويسئلونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم فهذا هو الصحيح في ذلك وأما قوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم فليس من هذا في شئ لأنه معلوم أنه لم يرد به إيتاءهم أموالهم في حال اليتم وإنما يجب الدفع إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد وأطلق اسم الأيتام عليهم لقرب عهدهم باليتم كما سمى مقارنة انقضاء العدة بلوغ الأجل في قوله تعالى فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف والمعنى مقاربة البلوغ ويدل على ذلك قوله تعالى في نسق الآية فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم والإشهاد عليه لا يصح قبل البلوغ فعلم أنه أراد بعد البلوغ وسماهم يتامى لأحد معنيين إما لقرب عهدهم بالبلوغ أو لانفرادهم عن آبائهم مع أن العادة في أمثالهم ضعفهم عن التصرف لأنفسهم والقيام بتدبير أمورهم على الكمال حسب تصرف المتحنكين فقال الذين قد جربوا الأمور واستحكمت آراؤهم وقد روى يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسئله عن اليتيم متى ينقطع يتمه فكتب إليه إذا أونس منه الرشد انقطع عنه يتمه وفي بعض الألفاظ إن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعد فأخبر ابن عباس أن اسم اليتيم قد يلزمه بعد البلوغ إذا لم يستحكم رأيه ولم يؤنس منه رشده فجعل بقاء ضعف الرأي موجبا لبقاء اسم اليتيم عليه واسم اليتيم قد يقع على المنفرد عن أبيه وعلى المرأة المنفردة عن زوجها قال
[ 62 ]
النبي صلى الله عليه وسلم تستأمر اليتيمة في نفسها وهي لا تستأمر إلا وهي بالغة وقال الشاعر * إن القبور تنكح الأيامى * النسوة الأرامل اليتامى * إلا أنه معلوم أنه إذا صار شيخا أو كهلا لا يسمى يتيما وإن كان ضعيف العقل ناقص الرأي فلا بد من اعتبار قرب العهد بالصغر والمرأة الكبيرة المسنة تسمى يتيمة من جهة انفرادها عن زوج والرجل الكبير المسن لا يسمى يتيما من جهة انفراده عن أبيه وإنما كان كذلك لأن الأب يلي على الصغير ويدبر أمره ويحوطه فيكنفه أي فسمي الصغير يتما لانفراده عن أبيه الذي هذه حاله فما دام على حال الضعف ونقصان الرأي يسمى يتيما بعد البلوغ وأما المرأة فإنما سميت يتيمة لانفرادها عن الزوج الذي هي في حباله وكنفه فهي وإن كبرت فهذا الاسم لازم لها لأن وجود الزوج لها في هذه الحال بمنزلة الأب للصغير في أنه هو الذي يلي حفظها وحياطتها فإذا انفردت عمن هذه حاله معها سميت يتيمة كما سمي الصغير يتيما لانفراده عمن يدبر أمره ويكنفه ويحفظه ألا ترى إلى قوله تعالى الرجال قوامون على النساء كما قال وأن تقوموا لليتامى بالقسط فجعل الرجل قيما على امرأته كما جعل ولي اليتيم قيما عليه وقد روى علي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يتم بعد حلم وهذا هو الحقيقة في اليتيم وبعد البلوغ يسمى يتيما مجازا لما وصفنا وما ذكرنا من دلالة اسم اليتيم على الضعيف على ما روي عن ابن عباس يدل على صحة قول أصحابنا فيمن أوصى ليتامى بني فلان وهم لا يحصون أنها جائزة للفقراء من اليتامى لأن اسم اليتيم يدل على ذلك ويدل عليه ما حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن الحسن في قوله عز وجل ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما قال السفهاء إبنك السفيه وامرأتك السفيهة قال وقوله قياما قيام عيشك وقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال اتقوا الله في الضعيفين اليتيم والمرأة فسمي اليتيم ضعيفا ولم يشرط في هذه الآية إيناس الرشد في دفع المال إليهم وظاهره يقتضي وجوب دفعه إليهم بعد البلوغ أونس منه الرشد أو لم يؤنس إلا أنه قد شرطه في قوله تعالى (حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم فكان ذلك مستعملا عند أبي حنيفة ما بينه وبين خمس وعشرين سنة فإذا بلغها ولم يؤنس منه رشد وجب دفع المال إليه لقوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم فيستعمله بعد خمس وعشرين سنة على مقتضاه وظاهره وفيما قبل ذلك لا يدفعه إلا مع إيناس الرشد لاتفاق
[ 63 ]
أهل العلم أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذه السن شرط وجوب دفع المال إليه وهذا وجه شائع من قبل أن فيه استعمال كل واحدة من الآيتين على مقتضى ظواهرهما على فائدتهما ولو اعتبرنا إيناس الرشد على سائر الأحوال كان فيه إسقاط حكم الآية الأخرى رأسا وهو قوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم من غير شرط لإيناس الرشد فيه لأن الله تعالى أطلق إيجاب دفع المال من غير قرينة ومتى وردت آيتان إحداهما خاصة مضمنة بقرينة فيما تقتضيه من إيجاب الحكم والأخرى عامة غير مضمنة بقرينة وأمكننا استعمالهما على فائدتهما ولم يجز لنا الاقتصار بها على فائدة إحداهما وإسقاط فائدة الأخرى ولما ثبت بما ذكرنا وجوب دفع المال إليه لقوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم وقال في نسق التلاوة فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم دل ذلك على أنه جائز الإقرار بالقبض إذ كان قوله فأشهدوا عليهم قد تضمن جواز الإشهاد على إقرارهم بقبضها وفي ذلك دلالة على نفي الحجر وجواز التصرف لأن المحجور عليه لا يجوز إقراره ومن وجب الإشهاد عليه فهو جائز الإقرار وأما قوله تعالى ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب فإنه روي عن مجاهد وأبي صالح الحرام بالحلال أي لا تجعل بدل رزقك الحلال حراما تتعجل بأن تستهلك مال اليتيم فتنفقه أو تتجر فيه لنفسك أو تحبسه وتعطيه غيره فيكون ما تأخذه من مال اليتيم خبيثا حراما وتعطيه مالك الحلال الذي رزقك الله تعالى ولكن آتوهم أموالهم بأعيانها وهذا يدل على أن ولي اليتيم لا يجوز له أن يستقرض مال اليتيم من نفسه ولا يستبدله فيحبسه لنفسه ويعطيه غيره وليس فيه دلالة على أنه لا يجوز له التصرف فيه بالبيع والشرى لليتيم لأنه إنما حظر عليه أن يأخذه لنفسه ويعطي اليتيم غيره وفيه الدلالة على أنه ليس له أن يشتري من مال اليتيم لنفسه بمثل قيمته سواء لأنه قد حظر عليه استبدال مال اليتيم لنفسه فهو عام في سائر وجوه الاستبدال إلا ما قام دليله هو أن يكون ما يعطي اليتيم أكثر قيمة مما يأخذه على قول أبي حنيفة لقوله تعالى ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن وقال سعيد بن المسيب والزهري والضحاك والسدي في قوله ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب قال لا تجعلوا الزائف بدل الجيد والمهزول بدن السمين وأما قوله ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم فإنه روي عن مجاهد والسدي لا تأكلوا أموالهم مع أموالكم مضيفين لها إلى أموالكم فنهوا عن خلطها بأموالهم على وجه الاستقراض لتصيردينا في ذمته فيجوز لهم أكلها وأكل أرباحها قوله تعالى إنه كان حوبا كبيرا قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة
[ 64 ]
إثما كبيرا وفي هذه الآية دلالة على وجوب تسليم أموال اليتامى بعد البلوغ وإيناس الرشد إليهم وإن لم يطالبوا بأدائها لأن الأمر بدفعها مطلق متوعد على تركه غير مشروط فيه مطالبة الأيتام بأدائها ويدل على أن من له عند غيره مال فأراد دفعه إليه أنه مندوب على الإشهاد عليه لقوله تعالى فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم والله الموفق باب تزويج الصغار قال الله تعالى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع روى الزهري عن عروة قال قلت لعائشة قوله تعالى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى الآية فقالت يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن ينكها بأدنى من صداقها فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن وأمروا أن ينكحوا سواهن من النساء قالت عائشة ثم أن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب إلى قوله تعالى وترغبون أن تنكحوهن) [ النساء: 127 ] قالت والذي ذكر الله تعالى أنه يتلى عليكم في الكتاب الآية الأولى التي قال فيها وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى وقوله في الآية الأخرى وترغبون أن تنكحوهن رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حتى تكون قليلة المال والجمال فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن قال أبو بكر وروي عن ابن عباس نحو تأويل عائشة في قوله تعالى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى وروي عن سعيد بن جبير والضحاك والربيع تأويل غير هذا وهو ما حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا عبد الرازق قال أخبرنا معمر عن أيوب عن سعيد بن جبير في قوله تعالى وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء يقول ما أحل لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع وخافوا في النساء مثل الذي خفتم في اليتامى ألا تقسطوا فيهن وروي عن مجاهد وإن خفتم ألا تقسطوا فحرجتم ثنا من أكل أموالهم وكذلك فتحرجوا من الزنا فانكحوا النساء نكاحا طيبا مثنى وثلاث ورباع وروي فيه قول ثالث وهو ما روى شعبة عن سماك عن عكرمة قال كان الرجل من قريش تكون عنده النسوة ويكون عنده الأيتام فيذهب ماله فيميل على مال الأيتام فنزلت وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى الآية وقد اختلف الفقهاء في تزويج غير الأب والجد الصغيرين فقال أبو حنيفة لكل
[ 65 ]
من كان من أهل الميراث من القربات أن يزوج الأقرب فالأقرب فإن كان المزوج الأب أو الجد فلا خيار لهم بعد البلوغ وإن كان غيرهما فلهم الخيار بعد البلوغ وقال أبو يوسف ومحمد لا يزوج الصغيرين إلا العصبات الأقرب فالأقرب قال أبو يوسف ولا خيار لهما بعد البلوغ وقال محمد لهما الخيار إذا زوجهما غير الأب والجد وذكر ابن وهب عن مالك في تزويج الرجل يتيمه إذا رأى له الفضل والصلاح والنظر أن ذلك جائز له عليه وقال ابن القاسم عن مالك في الرجل يزوج أخته وهي صغيرة أنه لا يجوز ويزوج الوصي وإن كره الأولياء والوصي أولى من الولي غير أنه لا يزوج الثيب إلا برضاها ولا ينبغي أن يقطع عنها الخيار الذي جعل لها في نفسها ويزوج الوصي بنيه الصغار وبناته الصغار ولا يزوج البنات الكبار إلا برضاهن وقول الليث في ذلك كقول مالك وكذلك قال يحيى بن سعيد وربيعة أن الوصي أولى وقال الثوري لا يزوج العم ولا الأخ الصغيرة ولا أموال إلى الأوصياء والنكاح إلى الأولياء وقال الأوزاعي لا يزوج الصغيرة إلا الأب وقال الحسن بن صالح لا يزوج الوصي إلا أن يكون وليا وقال الشافعي لا يزوج الصغار من الرجال والنساء إلا الأب أو الجد إذا لم يكن أب ولا ولاية للوصي على الصغيرة قال أبو بكر روى جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال قال عمر من كان في حجره تركة لها عوار فليضمها إليه فإن كانت رغبة فليزوجها غيره وروي عن علي وابن مسعود وابن عمر وزيد بن ثابت وأم سلمة والحسن وطاوس وعطاء في آخرين جواز تزويج غير الأب والجد الصغيرة وروي عن ابن عباس وعائشة في تأويل الآية ما ذكرنا وأنها في اليتيمة فتكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ولا يقسط لها في صداقها فنهوا أن ينكحوهن أو يبلغوا بهن أعلى سننهن في الصداق ولما كان ذلك عندهما تأويل الآية دل على أن جواز ذلك من مذهبهما أيضا ولا نعلم أحدا من السلف منع ذلك والآية يدل على ما تأولها عليه ابن عباس وعائشة لأنهما ذكرا أنها في اليتيمة تكون في حجر له وليها فيرغب في مالها وجمالها ولا يقسط لها في الصداق فنهوا أن ينكحوهن أو يقسطوا لهن في الصداق وأقرب الأولياء الذي تكون اليتيمة في حجره ويجوز له تزوجها هو ابن العم فقد تضمنت الآية جواز تزوج ابن العم اليتيمة التي في حجره
[ 66 ]
فإن قيل لم جعلت هذا التأويل أولى من تأويل سعيد بن جبير وغيره الذي ذكرت مع احتمال الآية للتأويلات كلها قيل له ليس يمتنع أن يكون المراد المعنيين جميعا لاحتمال اللفظ لهما وليسا متنافيين فهو عليهما جميعا ومع ذلك فإن ابن عباس وعائشة قد قالا إن الآية نزلت في ذلك وذلك لا يقال بالرأي وإنما يقال توقيفا فهو أولى لأنهما ذكرا سبب نزولها والقصة التي نزلت فيها فهو أولى فإن قيل يجوز أن يكون المراد الجد قيل له إنما ذكرا أنها نزلت في اليتيمة التي في حجره ويرغب في نكاحها والجد لا يجوز له نكاحها فعلمنا أن المراد ابن العم ومن هو أبعد منه من سائر الأولياء فإن قيل إن الآية إنما هي في الكبيرة لأن عائشة قالت أن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء به يعني قوله وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى قال فلما قال في يتامى النساء دل على أن المراد الكبار منهن دون الصغار لأن الصغار لا يسمين نساء قيل له هذا غلط من وجهين أحدهما أن قوله وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى حقيقته تقتضي اللاتي لم يبلغن لقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يتم بعد بلوغ الحلم ولا يجوز صرف الكلام عن حقيقته إلى المجاز إلا بدلالة والكبيرة تسمى يتيمة على وجه المجاز وقوله تعالى (في يتامى النساء لا دلالة فيه على ما ذكرت لأنهن إذا كن من جنس النساء جازت إضافتهن هذا إليهن وقد قال الله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء والصغار والكبار داخلات فيهن وقال ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) [ النساء: 22 الصغار والكبار مرادات به وقال وأمهات نسائكم [ النساء: 23 ]، ولو تزوج صغيرة حرمت عليه أمها تحريما مؤ بدا فليس إذا في إضافة اليتامى إلى النساء دلالة على أنهن الكبار دون الصغار والوجه الآخر أن هذا التأويل الذي ذكره ابن عباس وعائشة لا يصح في الكبار لأن الكبيرة إذا رضيت بأن يتزوجها بأقل من مهر مثلها جاز النكاح وليس لأحد أن يعترض عليها فعلمنا أن المراد الصغار اللاتي يتصرف عليهن في التزويج من هن في حجره ويدل عليه ما روى محمد بن إسحاق قال أخبرني عبد الله بن أبي بكر بن حزم وعبد الله بن الحارث ومن لا أتهم عن عبد الله بن شداد قال كان زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم سلمة ابنها سلمة فزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت حمزة وهما صبيان صغيران فلم يجتمعا حتى ماتا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل جزيت سلمة بتزويجه إياي أمه وفيه الدلالة على ما ذكرنا من وجهين أحدهما أنه زوجهما وليس بأب ولا
[ 67 ]
جد فدل على أن تزويج غير الأب والجد جائز للصغيرين والثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فعل ذلك وقد قال الله تعالى فاتبعوه فعلينا اتباعه فيدل على أن للقاضي تزويج الصغيرين وإذا جاز ذلك للقاضي جاز لسائر الأولياء لأن أحدا لم يفرق بينهما ويدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم لا نكاح إلا بولي فأثبت النكاح إذا كان بولي والأخ وابن العم أولياء والدليل عليه أنها لو كانت كبيرة كانوا أولياء في النكاح ويدل عليه من طريق النظر اتفاق الجميع على أن الأب والجد إذا لم يكونا من أهل الميراث إن كانا كافرين أو عبدين لم يزوجا فدل على أن هذه الآية مستحقة بالميراث فكل من كان أهل الميراث فله أن يزوج الأقرب فالأقرب ولذلك قال أبو حنيفة أن للأم ومولى الموالاة أن يزوجوا إذا لم يكن أقرب منهم لأنهم من أهل الميراث فإن قيل لما كان في النكاح مال وجب أن لا يجوز عقد من لا يجوز تصرفه في المال قيل له إن المال يثبت في النكاح من غير تسمية فلا اعتبار فيه بالولاية في المال ألا ترى أن عند من لا يجيز النكاح بغير ولي فللأولياء حق في التزويج وليست لهم ولاية في المال على الكبيرة ويلزم مالكا والشافعي أن لا يجيز تزويج الأب لابنته البكر الكبيرة إذ لا ولاية له عليها في المال فلما جاز عند مالك والشافعي لأب البكر الكبيرة تزويجها بغير رضاها مع عدم ولايته عليها في المال دل ذلك على أنه لا اعتبار في استحقاق الولاية في عقد النكاح بجواز التصرف في المال ولما ثبت بما ذكرنا من دلالة الآية جواز تزويج ولي الصغيرة إياها من نفسه دل على أن لولي الكبيرة أن يزوجها من نفسه برضاها ويدل أيضا على أن العاقد للزوج والمرأة يجوز أن يكون واحدا بأن يكون وكيلا لهما كما جاز لولي الصغيرة أن يزوجها من نفسه فيكون الموجب للنكاح والقابل له واحدا ويدل أيضا على أنه إذا كان وليا لصغيرين ثم جاز له أن يزوج أحدهما من صاحبه فالآية دالة من هذه الوجوه على بطلان مذهب الشافعي في قوله إن الصغيرة لا يزوجها غير الأب والجد وفي قوله إنه لا يجوز لولي الكبيرة أن يتزوجها برضاها بغير محضر منها ويدل على بطلان قوله في أنه لا يجوز أن يكون رجل واحد وكيلا لهما جميعا في عقد النكاح عليهما وإنما قال أصحابنا إنه لا يجوز للوصي تزويج الصغيرة من قبل قول النبي صلى الله عليه وسلم لا نكاح إلا بولي والوصي ليس بولي لها ألا ترى أن قوله ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلو وجب لها قود لم يكن الوصي لها وليا في ذلك ولم يستحق الولاية فيه فثبت أن الوصي لا يقع عليه اسم الولي فواجب أن لا يجوز تزويجه إياها إذ ليس بولي لها فإن قيل فواجب على هذا أن لا يكون الأخ أو العم وليا للصغيرة لأنهما لا
[ 68 ]
يستحقان الولاية في القصاص قيل له لم نجعل عدم الولاية في القصاص علة في ذلك حتى يلزمنا عليها وإنما بينا أن ذلك الاسم لا يتناوله ولا يقع عليه من جهة ما يستحق من التصرف في المال وأما الأخ والعم فهما وليان لأنهما من العصبات واحد لا يمتنع من إطلاق اسم الولي على العصبات قال الله تعالى وإني خفت الموالي من ورائي) [ مريم: 5 ] قيل إنه أراد به بني أعمامه وعصباته فاسم الولي يقع على العصبات ولا يقع على الوصي فلما قال صلى الله عليه وسلم لا نكاح إلا بولي انتفى بذلك جواز تزويج الوصي للصغيرة إذ ليس بولي وقال صلى الله عليه وسلم أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها وفي لفظ آخر بغير إذن مواليها فنكاحها باطل فقد اقتضى بطلان نكاح المجنونة والبكر الكبيرة إذا زوجها الوصي أو تزوجت بإذن الوصي دون إذن الولي لحكم النبي صلى الله عليه وسلم ببطلان نكاحها إذ كانت متزوجة بغير إذن وليها وأيضا فإن هذه الولاية في النكاح مستحقة بالميراث لما دللنا عليه وليس الوصي من أهل الميراث فلا ولاية له وأيضا فإن السبب الذي به يستحق الولاية في النكاح هو النسب وذلك لا يصح النقل فيه ولا يستحقه الوصي لعدم السبب الذي به يستحق الولاية وليس التصرف في المال بعد الموت كالتصرف في النكاح لأن المال يصح النقل فيه والنكاح لا يصح النقل فيه إلى غير الزوجين فلم يجز أن يكون للوصي ولاية فيه وليس الوصي كالوكيل في حال حياة الأب لأن الوكيل يتصرف بأمر الموكل وأمره باق لجواز تصرفه وامر الميت منقطع فيما لا يصح فيه النقل وهو النكاح فلذلك اختلفا فإن قيل فإن الحاكم يزوج عندكم الصغيرين مع عدم الميراث والولاية من طريق النسب قيل له إن الحاكم قائم مقام جماعة المسلمين فيما يتصرف فيه من ذلك وجماعة المسلمين هم من أهل ميراث الصغيرين وهم باقون فاستحق الولاية من حيث هو كالوكيل لهم وهم من أهل ميراثه لأنه لو مات ولا وارث له من ذوي أنسابه ورثه المسلمون وفي هذه الآية دلالة أيضا على أن للأب تزويج ابنته الصغيرة من حيث دلت على جواز تزويج سائر الأولياء إذ كان هو أقرب الأولياء ولا نعلم في جواز ذلك خلافا بين السلف والخلف من فقهاء الأمصار إلا شيئا رواه بشر بن الوليد عن ابن شبرمة أن تزويج الآباء على الصغار لا يجوز وهو مذهب الأصم ويدل على بطلان هذا المذهب سوى ما ذكرنا من دلالة هذه الآية قوله تعالى واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن فحكم بصحة طلاق الصغيرة التي لم تحض والطلاق لا يقع إلا في نكاح صحيح فتضمنت الآية جواز تزويج الصغيرة
[ 69 ]
ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة وهي بنت ست سنين زوجها إياه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقد حوى هذا الخبر معنيين أحدهما جواز تزويج الأب الصغيرة والآخر أن لا خيار لها بعد البلوغ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخيرها بعد البلوغ وأما قوله تعالى ما طاب لكم من النساء فإن مجاهدا قال معناه أنكحوا نكاحا طيبا وعن عائشة والحسن وأبي مالك ما أحل لكم وقال الفراء أراد بقوله تعالى ما طاب المصدر كأنه قال فانكحوا من النساء الطيب أي الحلال قال ولذلك جاز أن يقول ما ولم يقل من واما قوله تعالى مثنى وثلاث ورباع فإنه إباحة للثنتين إن شاء وللثلاث إن شاء وللرباع رسول إن شاء على أنه مخير في أن يجمع في هذه الأعداد من شاء قال فإن خاف أن لا يعدل اقتصر من الأربع على الثلاث فإن خاف أن لا يعدل اقتصر من الثلاث على الإثنتين فإن خاف أن لا يعدل بينهما اقتصر على الواحدة وقيل إن الواو ههنا بمعنى أو كأنه قال مثنى أو ثلاث أو رباع وقيل أيضا فيه أن الواو على حقيقتها ولكنه على وجه البدل كأنه قال وثلاث بدلا من مثنى ورباع بدلا من ثلاث لا على الجمع بين الأعداد ومن قال هذا قال أنه لو قيل بأو لجاز أن لا يكون الثلاث لصاحب المثنى ولا الرباع لصاحب الثلاث فأفاد ذكر الواو إباحة الأربع لكل أحد ممن دخل في الخطاب وأيضا فإن المثنى داخل في الثلاث والثلاث في الرباع إذ لم يثبت أن كل واحد من الأعداد مراد مع الأعداد الأخر عن وجه الجمع فتكون تسعا وهذا كقوله تعالى قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها إلى قوله وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام والمعنى في أربعة أيام باليومين المذكورين بديا ثم قال فقضاهن سبع سموات في يومين ولولا أن ذلك كذلك لصارت الأيام كلها ثمانية وقد علم أن ذلك ليس كذلك لقوله تعالى خلق السموات والأرض في ستة أيام فكذلك المثنى داخل في الثلاث والثلاث في الرباع فجميع ما أباحته الآية من العدد أربع لا زيادة عليها وهذا العدد إنما هو للأحرار دون العبيد في قول أصحابنا والثوري والليث والشافعي وقال مالك للعبد أن يتزوج أربعا والدليل على أن الآية في الأحرار دون العبيد قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم إنما هو مختص بالأحرار لأن العبد لا يملك عقد النكاح لاتفاق الفقهاء أنه لا يجوز له أن يتزوج إلا بإذن المولى وأن ولا المولى أملك بالعقد عليه منه بنفسه لأن المولى لو زوجه وهو كاره لجاز عليه ولو تزوج هو
[ 70 ]
بغير إذن المولى لم يجز نكاحه وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر وقال الله تعالى ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ [ النحل: 75 ] فلما كان العبد لا يملك عقد النكاح لم يكن من أهل الخطاب بالآية فوجب أن تكون الآية في الأحرار وأيضا لا يختلفون أن للرق تأثيرا في نقصان حقوق النكاح المقدرة كالطلاق والعدة فلما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يكون للعبد النصف مما للحر وقد روي عن ستة من الصحابة أن العبد لا يتزوج إلا اثنتين ولا يروى عن أحد من نظرائهم خلافه فيما نعلمه وقد روى سليمان بن يسار عن عبد الله بن عتبة قال قال عمر بن الخطاب ينكح العبد اثنتين ويطلق اثنتين وتعتد الأمة حيضتين فإن لم تحض فشهر ونصف وروى الحسن وابن سيرين عن عمر وعبد الرحمن بن عوف أن العبد لا يحل له أكثر من امرأتين وروى جعفر بن محمد عن أبيه أن عليا قال لا يجوز للعبد أن ينكح فوق اثنتين وروى حماد عن إبراهيم أن عمر وعبد الله قالا لا ينكح العبد أكثر من اثنتين وشعبة عن الحكم عن الفضل بن العباس قال يتزوج العبد اثنتين وابن سيرين قال قال عمر أيكم يعلم ما يحل للعبد من النساء فقال رجل من الأنصار أنا فقال عمر كم قال اثنتين فسكت ومن يشاوره عمر ويرضى بقوله فالظاهر أنه صحابي وروى ليث عن الحكم قال اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن العبد لا يجمع من النساء فوق اثنتين فقد ثبت بإجماع أئمة الصحابة ما ذكرناه ولا نعلم أحدا من نظرائهم قال أنه يتزوج أربعا فمن خالف ذلك كان محجوجا بإجماع الصحابة وقد روي نحو قولنا عن الحسن وإبراهيم وابن سيرين وعطاء والشعبي فإن قيل روى يحيى بن حمزة عن أبي وهب عن أبي الدرداء قال يتزوج العبد أربعا وهو قول مجاهد والقاسم وسالم وربيعة الرأي قيل له إسناد حديث أبي الدرداء فيه رجل مجهول وهو أبو وهب ولو ثبت لم يجز الإعتراض به على قول الأئمة الذين ذكرنا أقاويلهم واستفاض ذلك عنهم وقد ذكر الحكم وهو من جلة فقهاء التابعين إجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العبد لا يتزوج أكثر من اثنتين وأما قوله تعالى فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة فإن معناه والله أعلم العدل في القسم بينهن لما قال تعالى في آية أخرى ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل والمراد ميل القلب والعدل الذي يمكنه فعله ويخاف أن لا يفعل إظهار الميل بالفعل فأمره الله تعالى بالإقتصار على الواحدة إذا خاف إظهار الميل والجور ومجانبة العدل وقوله عطفا على ما تقدم من إباحة العدد المذكور بعقد النكاح أو ما ملكت
[ 71 ]
أيمانكم يقتضي حقيقته وظاهره إيجاب التخيير بين أربع حرائر وأربع إماء بعقد النكاح فيوجب ذلك تخييره بين تزويج الحرة والأمة وذلك لأن قوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم كلام مستقل بنفسه بل هو مضمن بما قبله وفيه ضمير لا يستغنى عنه وضميره ما تقدم ذكره مظهرا في الخطاب وغير جائز لنا إضمار معنى لم يتقدم له ذكر إلا بدلالة من غيره فلم يجز لنا أن نجعل الضمير في قوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم الوطء فيكون تقديره قد أبحت لك وطء ملك اليمين لأنه ليس في الآية ذكر الوطء وإنما الذي في أول الآية ذكر العقد لأن قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم لا خلاف أن المراد به العقد فوجب أن يكون قوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم ضميره أو فانكحوا ما ملكت أيمانكم وذلك النكاح هو العقد فالضمير الراجع إليه أيضا هو العقد دون الوطء فإن قيل لما صلح أن يكون النكاح اسما للوطء ثم عطف عليه قوله أو ما ملكت أيمانكم صار كقوله فانكحوا ما ملكت أيمانكم فيكون معناه الوطء في هذا الموضع وإن كان معناه العقد في أول الخطاب قيل له لا يجوز هذا لأنه إذا كان ضميره ما تقدم ذكره بديا في أول الخطاب فوجب أن يكون بعينه ومعناه المراد به ضميرا فيه فإذا كان النكاح المذكور هو العقد فكأنه قيل فاعقدوا عقدة النكاح فيما طاب لكم فإذا أضمره في ملك اليمين كان الضمير هو العقد إذ لم يجز للوطء ذكر من جهة المعنى ولا من طريق اللفظ فامتنع من أجل ذلك إضمار الوطء فيه وإن كان اسم النكاح قد يتناوله ومن جهة أخرى أنه لما لم يكن في الآية ذكر النكاح إلا ما تقدم في أولها وثبت أن المراد به العقد لم يجز أن يكون ضمير ذلك اللفظ بعينه وطء لامتناع أن يكون لفظ واحد مجازا حقيقة لأن أحد المعنيين يتناوله اللفظ مجازا والآخر حقيقة ولا يجوز أن ينتظمهما لفظ واحد فوجب أن يكون ضميره عقد النكاح المذكور بديا في الآية فإن قيل الذي يدل على أن ضميره هو الوطء دون العقد إضافته لملك اليمين إلى المخاطبين ومعلوم استحالة تزوجه بملك يمينه ويجوز له وطء ملك يمينه فعلمنا أن المراد الوطء دون العقد قيل له لما أضاف ملك اليمين إلى الجماعة كان المراد نكاح ملك يمين الغير كقوله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات فأضاف عقد النكاح على ملك أيمانهم إليهم والخطاب متوجه إلى كل واحد في إباحة تزويج ملك غيره كذلك قوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم محمول على هذا المعنى فليس إذا فيما ذكرت دليل على وجوب إضمار لا ذكر له في الخطاب فوجب أن يكون ضميره ما تقدم ذكره مظهرا وهو عقد النكاح
[ 72 ]
وفيما وصفنا دليل على اقتضاء الآية التخيير بين تزوج الأمة والحرة لمن يستطيع أن يتزوج حرة لأن التخيير لا يصح إلا فيما يمكنه فعل كل واحد منهما على حاله فقد حوت هذه الآية الدلالة من وجهين على جواز تزويج الأمة مع وجود الطول إلى الحرة أحدهما عموم قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء وذلك شامل للحرائر والإماء لوقوع اسم النساء عليهن والثاني قوله تعالى أو ما ملكت أيمانكم وذلك يقتضي التخيير بينهن وبين الحرائر في التزويج وقد قدمنا دلالة قوله تعالى ولأمة مؤمنة خير من مشركة على ذلك في سورة البقرة ويدل عليه أيضا قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم وذلك عموم شامل للحرائر والإماء وغير جائز تخصيصه إلا بدلالة وأما قوله تعالى ذلك أدنى ألا تعولوا لم فإن ابن عباس والحسن ومجاهد وأبا رزين والشعبي وأبا مالك وإسماعيل وعكرمة وقتادة قالوا يعني لا تميلوا عن الحق وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي مالك الغفاري ذلك أدنى ألا تعولوا أن لا تميلوا وأنشد عكرمة شعرا لأبي طالب * بميزان صدق لا يخس شعيرة * حدثنا ووزان قسط وزنه غير عائل * ابن قال غير مائل قال أهل اللغة أصل العول المجاوزة للحد فالعول في الفريضة مجاوزة حد السهام المسماة والعول الميل الذي هو خلاف العدل لخروجه عن حد العدل وعال يعول إذا جار وعال يعيل إذا تبختر وعال يعيل إذا افتقر حكى لنا ذلك أبو عمر غلام ثعلب وقال الشافعي في قوله تعالى ذلك أدنى ألا تعولوا معناه أن لا يكثر من تعولون قال وهذا يدل على أن على الرجل نفقة امرأته وقد خطأه الناس في ذلك من ثلاثة أوجه أحدها أنه لا خلاف بين السلف وكل من روي عنه تفسير هذه الآية أن معناه أن لا تميلوا وأن لا تجوروا وإن هذا الميل هو خلاف العدل الذي أمر الله به من القسم بين النساء والثاني خطاؤه في اللغة لأن أهل اللغة لا يختلفون في أنه لا يقال في كثرة العيال عال يعول ذكره المبرد وغيره من أئمة اللغة وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى أن لا تعولوا قال أن لا تجوروا يقال علت على أي جرت والثالث أن في الآية ذكر الواحدة أو ملك اليمين والإماء في العيال بمنزلة النساء ولا خلاف أن له أن يجمع من العدد من شاء بملك اليمين فعلمنا أنه لم يرد كثرة العيال وأن المراد نفي الجور والميل بتزوج امرأة واحدة إذ ليس معها من يلزمها القسم بينه وبينها لا قسم للإماء بملك اليمين والله أعلم
[ 73 ]
باب هبة المرأة المهر لزوجها قال الله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا روي عن قتادة وابن جريج في قوله تعالى وأتوا النساء صدقاتهن نحلة قالا فريضة كأنهما ذهبا إلى نحلة الدين وإن ذلك فرض فيه وروي عن أبي صالح في قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة قال كان الرجل إذا زوج موليته أخذ صداقها فنهوا عن ذلك فجعله خطابا للأولياء أن لا يحبسوا عنهن المهور إذا قبضوها إلا أن معنى النحلة يرجع إلى ما ذكره قتادة في أنها فريضة وهذا على معنى ما ذكره الله عقيب ذكر المواريث فريضة من الله قال بعض أهل العلم إنما سمي المهر نحلة والنحلة في الأصل العطية والهبة في بعض الوجوه لأن الزوج لا يملك بدله شيئا لأن البضع في ملك المرأة بعد النكاح كهو قبله ألا ترى أنها قوله لو وطئت بشبهة كان المهر لها دون الزوج فإنما سمي المهر نحلة لأنه لم يعتض من قبلها عوضا يملكه فكان في معنى النحلة التي ليس بإزائها بدل وإنما الذي يستحقه الزوج منها بعقد النكاح هو الإستباحة لا الملك وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى في قوله تعالى نحلة يعني بطيبة أنفسكم يقول لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون ولكن آتوهم ذلك وأنفسكم به طيبة وإن كان المهر لهن دونكم قال أبو بكر فجائز على هذا المعنى أن يكون إنما سماه نحلة لأن النحلة هي العطية وليس يكاد يفعلها الناحل إلا متبرعا بها طيبة بها نفسه فأمروا بإيتاء النساء مهورهن بطيبة من أنفسهم كالعطية التي يفعلها المعطي بطيبة من نفسه ويحتج بقوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة في إيجاب كمال المهر للمخلو له بها لاقتضاء الظاهر له وأما قوله تعالى فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا فإنه يعني عن المهر لما أمرهم بإيتائهن صدقاتهن عقبه بذكر جواز قبول إبرائها وهبتها له لئلا يظن أن عليه إيتاءها مهرها وإن طابت نفسها بتركه قال قتادة في هذه الآية ما طابت به نفسها من غيره كره فهو حلال وقال علقمة لامرأته أطعميني من الهنئ والمرئ فتضمنت الآية معاني منها أن المهر لها وهي المستحقة له لا حق للولي فيه ومنها أن على الزوج أن يعطيها بطيبة من نفسه ومنها جواز هبتها المهر للزوج والإباحة للزوج في أخذه بقوله تعالى فكلوه هنيئا مريئا ومنها تساوي قال قبضها للمهر وترك قبضها في جواز هبتها للمهر لأن قوله تعالى فكلوه هنيئا مريئا يدل على العنيين ذلك ويدل أيضا على جواز هبتها للمهر قبل القبض لأن الله تعالى لم يفرق بينهما
[ 74 ]
فإن قيل قوله تعالى فكلوه هنيئا مريئا يدل على أن المراد فيما تعين من المهر إما أن يكون عرضا بعينه فقبضته أو لم تقبضه أو دراهم محمد قد قبضتها فإما دين في الذمة فلا دلالة في الآية على جواز هبتها له إذ لا يقال لما في الذمة كله هنيئا مريئا قيل له ليس المراد في ذلك مقصورا على ما يتأتى فيه الأكل دون مالا يتأتى لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون خاصا في المهر إذا كان شيئا مأكولا وقد عقل من مفهوم الخطاب أنه غير مقصور على المأكول منه دون غيره لأن قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة عام في المهور كلها سواء كانت من جنس المأكول أو من غيره وقوله تعالى فكلوه هنيئا مريئا شامل لجميع الصدقات المأمور بإيتائها فدل أنه لا اعتبار بلفظ الأكل في ذلك وإن المقصد فيه جواز استباحته بطيبة من نفسها وقال الله تعالى (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما وقال تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وهو عموم النهي عن سائر وجوه التصرف في مال اليتيم من الديون والأعيان المأكول وغير المأكول وشامل للنهي في أخذ أموال الناس إلا على وجه التجارة عن تراض وليس المأكول بأولى بمعنى الآية من غيره وإنما خص الأكل بالذكر لأنه معظم ما يبتغى له الأموال إذ به قوام بدن الإنسان وفي ذكره للأكل دلالة على ما دونه وهذا كقوله تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع فخص البيع بالذكر وإن كان ما عداه من سائر ما يشغله عن الصلاة بمثابته في النهي لأن الاشتغال بالبيع من أعظم أمورهم في السعي في طلب معايشهم فعقل من ذلك إرادة ما هو دونه وأنه أولى بالنهي إذ قد نهاهم عما هم إليه أحوج والحاجة إليه أشد وكما قال تعالى حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير فخص اللحم بذكر التحريم وسائر أجزائه مثله دونه لأنه معظم ما يراد منه وينتفع به فكان في تحريمه أعظم منافعه دلالة على ما دونه فكذلك قوله تعالى (فكلوه هنيئا مريئا قد اقتضى جواز هبتها للمهر من أي جنس كان عينا أو دينا قبضته أو لم تقبضه ومن جهة أخرى أنه إذا جازت هبتها للمهر إذا كان مقبوضا معينا فكذلك حكمه إذا كان دينا لأنه قد ثبت جواز تصرفها في مالها فلا يختلف حكم العين والدين فيه ولأن أحدا لم يفرق بينهما وقد دلت هذه الآية على جواز هبة الدين والبراءة منه كما جازت هبة المرأة للمهر وهو دين ويدل أيضا على أن من وهب لإنسان دينا له عليه أن البراءة قد وقعت بنفس الهبة لأن الله تعالى قد حكم بصحته وأسقطه عن ذمته ويدل على أن من وهب لإنسان مالا فقبضه وتصرف فيه أنه جائز له ذلك وإن لم يقل بلسانه قد قبلت لأن الله تعالى قد أباح له أكل ما وهبته من غير شرط القبول بل يكون التصرف فيه
[ 75 ]
بحضرته حين وهبه قبولا ويدل على أنها لو قالت قد طبت لك نفسا عن مهري وأرادت الهبة والبراءة أن ذلك جائز لقوله تعالى فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) وقد اختلف الفقهاء في هبة المرأة مهرها لزوجها فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والشافعي إذا بلغت المرأة واجتمع لها عقلها جاز لها التصرف في مالها بالهبة أو غيرها بكرا كانت أو ثيبا وقال مالك لا يجوز أمر البكر في مالها ولا ما وضعت عن زوجها من الصداق وإنما ذلك إلى أبيها في العفو عن زوجها ولا يجوز لغير الأب من أوليائها ذلك قال وبيع المرأة ذات الزوج دارها وخادمها جائز وإن كره الزوج إذا أصابت وجه البيع فإن كانت محاباة كان من ثلث مالها وإن تصدقت أو وهبت أكثر من الثلث لم يجز من ذلك قليل ولا كثير قال مالك والمرأة الأيم إذا لم يكن لها زوج في مالها كالرجل في ماله سواء وقال الأوزاعي لا تجوز عطية المرأة حتى تلد وتكون في بيت زوجها سنة وقال الليث لا يجوز عتق المرأة ذات الزوج ولا صدقتها إلا في الشئ اليسير الذي لا بد لها منه لصلة رحم أو غيره ذلك مما يتقرب به إلى الله تعالى قال أبو بكر الآية قاضية بفساد هذه الأقوال شاهدة بصحة قول أصحابنا الذي قدمنا لقوله عز وجل فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا ولم يفرق فيه بين البكر والثيب ولا بين من أقامت في بيت زوجها سنة أو لم تقم وغير جائز الفرق بين البكر والثيب في ذلك إلا بدلالة تدل على خصوص حكم الآية في الثيب دون البكر وأجاز مالك هبة الأب والله تعالى أمرنا بإعطائها جميع الصداق إلا أن تهب هي شيئا منه له فالآية قاضية ببطلان هبة الأب لأنه مأمور بإيتاء جميع الصداق إلا أن تطيب نفسها بتركه ولم يشرط الله تعالى طيبة نفس الأب فمنع ما أباحه الله له بطيبة نفسها من مهرها وأجاز ما حظره الله تعالى من منع شئ من مهرها إلا بطيبة نفسها بهبة الأب وهذا الإعتراض على الآية من وجهين بغير دلالة أحدهما منعها الهبة مع اقتضاء ظاهر الآية لجوازها والثاني جواز هبة الأب مع أمر الله الزوج بإعطائها الجميع إلا أن تطيب نفسا بتركه ويدل على ذلك قوله تعالى ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) [ البقرة: 229 ] فمنع أن يأخذ منها شيئا مما أعطاها إلا برضاها بالفدية فقد شرط رضا المرأة ولم يفرق مع ذلك بين البكر والثيب ويدل عليه حديث زينب امرأة عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء تصدقن ولو من حليكن وفي حديث ابن عباس
[ 76 ]
أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر فصلى ثم خطب ثم أتى النساء فأمرهن أن يتصدقن ولم يفرق في شئ منه بين البكر والثيب ولأن هذا حجر ولا يصح الحجر على من هذه صفته والله أعلم باب دفع المال إلى السفهاء قال الله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما قال أبو بكر قد اختلف أهل العلم في تأويل هذه الآية فقال ابن عباس لا يقسم الرجل ماله على أولاده فيصير عيالا عليهم بعد إذ هم عيال له والمرأة من أسفه السفهاء فتأول ابن عباس الآية على ظاهرها ومقتضى حقيقتها لأن قوله تعالى أموالكم يقتضي خطاب كل واحد منهم بالنهي عن دفع ماله إلى السفهاء لما في ذلك من تضييعه لعجز هؤلاء عن القيام بحفظه وتثميره وهو يعني به الصبيان والنساء الذين لا يكملون لحفظ المال ويدل ذلك أيضا على أنه لا ينبغي له أن يوكل في حياته بمال ويجعله في يد من هذه صفته وأن لا يوصي به إلى أمثالهم ويدل أيضا على ورثته إذا كانوا صغارا أنه لا ينبغي أن يوصي بماله إلا إلى أمين مضطلع بحفظه عليهم وفيه الدلالة على النهي عن تضييع المال ووجوب حفظه وتدبيره والقيام به لقوله تعالى التي جعل الله لكم قياما فأخبر أنه جعل قوام أجسادنا بالمال فمن رزقه الله منه شيئا فعليه إخراج حق الله تعالى منه ثم حفظ ما بقي وتجنب تضييعه وفي ذلك ترغيب من الله تعالى لعباده في إصلاح المعاش وحسن التدبير وقد ذكر الله تعالى ذلك في مواضع من كتابه العزيز منه قوله تعالى ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين [ الاسراء: 26 و 27 ] وقوله تعالى ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا وقوله تعالى والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وما أمر الله به من حفظ الأموال وتحصين الديون بالشهادات والكتاب والرهن على ما بينا فيما سلف وقد قيل في قوله تعالى التي جعل الله لكم قياما يعني أنه جعلكم قواما عليها فلا تجعلوها في يد من يضيعها والوجه الثاني من التأويل ما روى سعيد بن جبير أنه أراد لا تؤتوا السفهاء أموالهم وإنما أضافها إليهم كما قال الله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم [ النساء: 29 ] يعني لا يقتل بعضكم بعضا وقوله تعالى فاقتلوا أنفسكم وقوله تعالى فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم يريد من يكون فيها وعلى هذا التأويل يكون السفهاء محجورا عليهم فيكونون ممنوعين من أموالهم إلى أن يزول السفه
[ 77 ]
وقد اختلف في معنى السفهاء ههنا فقال ابن عباس السفيه من ولدك وعيالك وقال المرأة من أسفه السفهاء وقال سعيد بن جبير والحسن والسدي والضحاك وقتادة النساء والصبيان وقال بعض أهل العلم كل من يستحق صفة سفيه في المال من محجور عليه وغيره وروى الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري قال ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم رجل كانت له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ورجل أعطى ماله سفيها وقد قال الله تعالى ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ورجل داين رجلا فلم يشهد عليه وروي عن مجاهد أن السفهاء النساء وقيل إن أصل السفه خفة الحلم ولذلك سمي الفاسق سفيها لأنه لا وزن له عند أهل الدين والعلم ويسمى الناقص العقل سفيها لخفة عقله وليس السفه في هؤلاء صفة ذم ولا يفيد معنى العصيان لله تعالى وإنما سموا سفهاء لخفة عقولهم ونقصان تميزهم عن القيام بحفظ المال فإن قيل لا خلاف أنه جائز أن نهب النساء والصبيان المال وقد أراد بشير أن يهب لابنه النعمان فلم يمنعه النبي صلى الله عليه وسلم منه إلا لأنه لم يعط سائر بنيه مثله فكيف يجوز حمل الآية على منع إعطاء السفهاء أموالنا قيل له ليس المعنى فيه التمليك وهبة المال وإنما المعنى فيه أن نجعل الأموال في أيديهم وهم غير مضطلعين كان بحفظها وجائز للإنسان أن يهب الصغير والمرأة كما يهب الكبير العاقل ولكنه يقبضه له من يلي عليه ويحفظ ماله ولا يضيعه وإنما منعنا الله تعالى بالآية أن نجعل أموالنا في أيدي الصغار والنساء اللاتي لا يكملن بحفظها وتدبيرها وقوله عز وجل وارزقوهم فيها واكسوهم يعني وارزقوهم من هذه الأموال لأن في ههنا بمعنى من إذ كانت حروف الصفات تتعاقب فيقام بعضها مقام بعض كما قال تعالى ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم وهو بمعنى مع فنهانا الله عن دفع الأموال إلى السفهاء الذين لا يقومون بحفظها وأمرنا بأن نرزقهم منها ونكسوهم فإن كان مراد الآية النهي عن إعطائهم مالنا على ما اقتضى ظاهرها ففي ذلك دليل على وجوب نفقة الأولاد السفهاء والزوجات لأمره إيانا بالإنقاق أبو عليهم من أموالنا وإن كان تأويلها ما ذهب إليه القائلون بأن مرادها أن لا نعطيهم أموالهم وهم سفهاء فإنما فيه الأمر بالإنفاق عليهم من أموالهم وهذا يدل على الحجر من وجهين أحدهما منعهم من أموالهم والثاني إجازته تصرفنا عليهم في الإنفاق عليهم وشرى أقواتهم وكسوتهم وقوله تعالى وقولوا لهم قولا معروفا قال مجاهد وابن جريج قولا معروفا عدة جميلة بالبر والصلة على الوجه الذي يجوز ويحسن ويحتمل أن يريد به إجمال المخاطبة لهم وإلانة القول فيما يخاطبون به كقوله تعالى فأما اليتيم فلا
[ 78 ]
تقهر وكقوله وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا وقد قيل إنه جائز أن يكون القول المعروف ههنا التأديب والتنبيه على الرشد والصلاح والهداية للأخلاق الحسنة ويحتمل أن يريد به إذا أعطيتموهم أو الرزق والكسوة من أموالكم أن تجعلوا لهم القول ولا تؤذوهم بالتذمر) عليهم والاستخفاف بهم كما قال تعالى وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا يعني والله أعلم إجمال اللفظ وترك التذمر والامتنان وكما قال تعالى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى [ البقرة: 264 ] وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة بقوله تعالى وقولوا لهم قولا معروفا والله أعلم باب دفع المال إلى اليتيم قال الله تعالى وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم قال الحسن ومجاهد وقتادة والسدي يعني اختبروهم في عقولهم ودينهم قال أبو بكر أمرنا باختبارهم قبل البلوغ لأنه قال وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فأمر بابتلائهم عبد في حال كونهم يتامى ثم قال حتى إذا بلغوا النكاح فأخبر أن بلوغ النكاح بعد الإبتلاء لأن حتى غاية مذكورة بعد الإبتلاء فدلت الآية من وجهين على أن هذا الإبتلاء قبل البلوغ وفي ذلك دليل على جواز الإذن للصغير الذي يعقل في التجارة لأن ابتلاءه لا يكون إلا باستبراء حاله في العلم بالتصرف وحفظ المال ومتى أمر بذلك كان مأذونا في التجارة وقد اختلف الفقهاء في إذن الصبي في التجارة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والحسن بن صالح جائز للأب أن يأذن لابنه الصغير في التجارة إذا كان يعقل الشرى والبيع وكذلك وصي الأب أو الجد إذا لم يكن وصي أب ويكون بمنزلة العبد المأذون له وقال ابن القاسم عن مالك لا أرى إذن الأب والوصي للصبي في التجارة جائزا وإن لحقه في ذلك دين لم يلزم الصبي منه شئ وقال الربيع عن الشافعي في كتابه في الإقرار وما أقر به الصبي من حق الله تعالى أو الآدمي أو حق في مال أو غيره فإقراره ساقط عنه سواء كان الصبي مأذونا له في التجارة أذن له أبوه أو وليه من كان أو حاكم ولا يجوز للحاكم أن يأذن له فإن فعل فإقراره ساقط عنه وكذلك شراؤه وبيعه مفسوخ قال أبو بكر ظاهر الآية يدل على جواز الإذن له في التجارة لقوله تعالى وابتلوا اليتامى والإبتلاء هو اختبارهم في عقولهم ومذاهبهم وحرمهم فيما يتصرفون فيه فهو
[ 79 ]
عام في سائر هذه الوجوه وليس لأحد أن يقتصر بالإختبار على وجه دون وجه فيما يحتمله اللفظ والإختبار في استبراء حاله في المعرفة بالبيع والشرى وضبط أموره وحظ ماله ولا يكون إلا بإذن له في التجارة ومن قصر الإبتلاء على اختبار عقله بالكلام دون التصرف في التجارة وحفظ المال فقد خص عموم اللفظ بغير دلالة فإن قيل الذي يدل على أنه لم يرد الإذن له في التصرف في حال الصغر قوله تعالى في نسق التلاوة فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم وإنما أمر بدفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد ولو جاز الإذن له في التجارة في صغره لجاز دفع المال إليه في حال الصغر والله تعالى إنما أمر بدفع المال إليه بعد البلوغ وإيناس الرشد قيل له ليس الإذن له في التجارة من دفع المال إليه في شئ لأن الإذن هو أن يأمره بالبيع والشرى وذلك ممكن بغير مال في يده كما يأذن للعبد في التجارة من غير مال يدفعه إليه فنقول إن الآية اقتضت الأمر بابتلائه ومن الإبتلاء الإذن له في التجارة وإن لم يدفع إليه مالا ثم إذا بلغ وقد أونس منه رشده دفع المال إليه ولو كان الإبتلاء لا يقتضي اختباره بالإذن له في التصرف في الشرى والبيع وإنما هو اختبار عقله من غير استبراء حاله في ضبطه وعلمه بالتصرف لما كان للإبتلاء وجه قبل البلوغ فلما أمر بذلك قبل البلوغ علمنا أن المراد اختبار أمره بالتصرف ولأن اختبار صحة عقله لا ينبئ عن ضبطه لأموره وحفظه لماله وعلمه بالبيع والشرى ومعلوم أن الله تعالى أمر بالإحتياط له في استبراء أمره في حفظ المال والعلم بالتصرف فوجب أن يكون الإبتلاء المأمور به قبل البلوغ مأمورا بذلك لا لاختبار صحة عقله فحسب وأيضا فإن لم يجز الإذن له في التجارة قبل البلوغ لأنه محجور عليه فالإبتلاء إذا ساقط من هذا الوجه فلا يخلو بعد البلوغ متى أردنا التوصل إلى إيناس رشده من أن نختبره بالإذن له في التجارة أو لا نختبره بذلك فإن وجب اختباره فقد أجزت له التصرف وهو عندك محجور عليه بعد البلوغ إلى إيناس الرشد فإن جاز الإذن له في التجارة وهو محجور عليه بعد البلوغ فقد أخرجته من الحجر وإن لم يخرج من الحجر وهو ممنوع من ماله بعد البلوغ وهو مأذون له فهلا أذنت له قبل البلوغ في التجارة لاستبراء حاله كما يستبرأ بها بالإذن بعد البلوغ مع بقاء الحجر إلى إيناس الرشد وإن لم يستبرأ حاله بعد البلوغ بالإذن فكيف يعلم إيناس الرشد منه فقول المخالف لا يخلو من ترك الإبتلاء أو دفع المال قبل إيناس الرشد ويدل على جواز الإذن للصغير في التجارة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن أبي سلمة وهو صغير بتزويج أم سلمة إياه وروى عبد الله بن شداد أنه أمر سلمة بن أبي سلمة بذلك وهو صغير وفي ذلك دليل على جواز الإذن له في التصرف الذي يملكه
[ 80 ]
عليه غيره من بيع أو شرى ألا ترى أنه يقتضي جواز توكيل الأب إياه بشرى عبد للصغير أو بيع عبد له هذا هو معنى الإذن له في التجارة وأما تأويل من تأول قوله تعالى (وابتلوا اليتامى على اختبارهم في عقولهم ودينهم فإن اعتبار الدين في دفع المال غير واجب باتفاق الفقهاء لأنه لو كان رجلا فاسقا ضابطا لأموره عالما بالتصرف في وجوه التجارات لم يجز أن يمنع ماله لأجل فسقه فعلمنا أن اعتبار الدين في ذلك غير واجب وإن كان رجلا ذا دين وصلاح إلا أنه غير ضابط لماله بغبن في تصرفه كان ممنوعا من ماله عند القائلين بالحجر لقلة الضبط وضعف العقل فعلمنا أن اعتبار الدين في ذلك لا معنى له وأما قوله تعالى حتى إذا بلغوا النكاح فإن ابن عباس ومجاهد والسدي قالوا هو الحلم وهو بلوغ حال النكاح من الإحتلام مطلب في تفسير الرشد وأما قوله تعالى فإن آنستم منهم رشدا فإن ابن عباس قال فإن علمتم منهم ذلك وقيل أن أصل الإيناس هو الإحساس حكي عن الخليل وقال الله تعالى إني آنست نارا يعني أحسستها وأبصرتها وقد اختلف في معنى الرشد ههنا فقال ابن عباس والسدي الصلاح في العقل وحفظ المال وقال الحسن وقتادة الصلاح في العقل والدين وقال إبراهيم النخعي ومجاهد العقل وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى فإن آنستم منهم رشدا قال إذا أدرك بحلم وعقل ووقار قال أبو بكر إذا كان اسم الرشد يقع على العقل لتأويل من تأوله عليه ومعلوم أن الله تعالى شرط رشدا منكورا ولم يشرط سائر ضروب الرشد اقتضى ظاهر ذلك أن حصول هذه الصفة له بوجود العقل موجبا لدفع المال إليه ومانعا من الحجر عليه فهذا يحتج به من هذا الوجه في إبطال الحجر على الحر العاقل البالغ وهو مذهب إبراهيم ومحمد بن سيرين وأبي حنيفة وقد بينا هذه المسألة في سورة البقرة وقوله تعالى فادفعوا إليهم أموالهم يقتضي وجوب دفع المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد على ما بينا وهو نظير قوله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم وهذه الشريطة معتبرة فيها أيضا وتقديره وآتوا اليتامى أموالهم إذا بلغوا وآنستم منهم رشدا
[ 81 ]
مطلب: في أن السرف مجاورة حد المباح إلى المحظور من إفراط أو تقصير وأما قوله تعالى ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا فإن السرف مجاوزة حد المباح إلى المحظور فتارة يكون السرف في التقصير وتارة في الإفراط لمجاوزة حد الجائز في الحالين وقوله تعالى وبدارا قال ابن عباس وقتادة والحسن والسدي مبادرة والمبادرة الإسراع في الشئ فتقديره النهي عن أكل أموالهم مبادرة أن يكبروا فيطالبوا بأموالهم وفيها دلالة على أنه إذا صار في حد الكبر استحق المال إذا كان عاقلا من غير شرط إيناس الرشد لأنه إنما شرط إيناس الرشد بعد البلوغ وأفاد بقوله تعالى ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا أنه لا يجوز له إمساك ماله بعد ما يصير في حد الكبر ولولا ذلك لما كان لذكر الكبر ههنا معنى إذ كان الوالي عليه هو المستحق لماله قبل الكبر وبعده فهذا يدل على أنه إذا صار في حد الكبر استحق دفع المال إليه وجعل أبو حنيفة حد الكبر في ذلك خمسا وعشرين سنة لأن مثله يكون جدا ومحال أن يكون جدا ولا يكون في حد الكبر والله أعلم باب أكل ولي اليتيم من ماله قال الله تعالى ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف قال أبو بكر قد اختلف السلف في تأويله فروى معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال إن في حجري أيتاما لهم أموال وهو يستأذنه أن يصيب منها فقال ابن عباس ألست تهنأ جرباءها (قال بلى قال ألست تبغى ضالتها قال بلى قال ألست تلوط حياضها قال بلى قال ألست تفرط عليها يوم ورودها قال بلى قال فاشرب من لبنها غير ناهك في الحلب ولا مضر بنسل وروى الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس قال الوصي إذا احتاج وضع يده مع أيديهم ولا يكتسي عمامة فشرط في الحديث الأول عمله في مال اليتيم في إباحة الأكل ولم يشرط في حديث عكرمة وروى ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قال حدثني أبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني أنه سأل أناسا من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فقالوا فينا نزلت أن الوصي كان إذا عمل في نخل اليتيم كانت يده مع أيديهم وقد طعن في هذا الحديث من جهة سنده ويفسد أيضا من جهة أنه لو أبيح لهم الأكل لأجل عملهم لما
[ 82 ]
اختلف فيه الغني والفقير فعلمنا أن هذا التأويل ساقط وأيضا في حديث ابن عباس إباحة الأكل دون أن يكتسي منه عمامة ولو كان ذلك مستحقا لعمله لما اختلف فيه حكم المأكول والملبوس فهذا أحد الوجوه التي تأولت عليه الآية وهو أن يقتصر على الأكل فحسب إذا عمل لليتيم وقال آخرون يأخذه فرضا ثم يقضيه وروى شريك عن ابى إسحاق عن حارثة بن مضرب عن عمر قال إني أنزلت مال الله تعالى بمنزلة مال اليتيم إن استغنيت استعففت وإن افتقرت أكلت بالمعروف وقضيت وروي عن عبيدة السلماني وسعيد بن جبير وأبي العالية وأبي وائل ومجاهد مثل ذلك وهو أن يأخذ قرضا ثم يقضيه إذا وجد وقول ثالث قال الحسن وإبراهيم وعطاء بن أبي رباح ومكحول أنه يأخذ منه ما يسد الجوعة ويواري العورة ولا يقضي إذا وجد وقول رابع وهو ما روي عن الشعبي أنه بمنزلة الميتة يتناوله عند الضرورة فإذا أيسر قضاه وإذا لم يوسر فهو في حل وقول خامس وهو ما روى مقسم عن ابن عباس فليستعفف قال بغناه ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف قال فلينفق على نفسه من ماله حتى لا يصيب من مال اليتيم شيئا حدثنا عبد الباقي بن قانع حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا منجاب بن الحارث قال حدثنا أبو عامر الأسدي قالا حدثنا سفيان عن الأعمش عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس بمعنى ذلك وقد روى عكرمة عنه أنه يقضي وروي عن ابن عباس أنه منسوخ وقال مجاهد في رواية أخرى فليأكل بالمعروف من مال نفسه ولا رخصة له في مال اليتيم وهو قول الحكم قال أبو بكر فحصل الاختلاف بين السلف على هذه الوجوه وروي عن ابن عباس أربع روايات على ما ذكرنا أحدها أنه إذا عمل لليتيم في إبله شرب من لبنها والثانية أنه يقضي والثالثة لا ينفق من مال اليتيم شيئا ولكنه يقوت على نفسه من ماله حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم والرابعة أنه منسوخ والذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذه قرضا ولا غيره غنيا كان أو فقيرا ولا يقرضه غيره أيضا وقد روى إسماعيل بن سالم عن محمد قال أما نحن فلا نحب للوصي أن يأكل من مال اليتيم شيئا قرضا ولا غيره وهو قول أبي حنيفة وذكر الطحاوي أن مذهب أبي حنيفة رجل عن ابن مسعود قال لا يأكل الوصي من مال اليتيم قرضا ولاه وهو قول أبى حنيفة وذكر الطحاوي أن مذهب أبي حنيفة أنه يأخذ قرضا إذا احتاج ثم يقضيه كما روي عن عمر ومن تابعه وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف أنه لا يأكل من مال اليتيم إذا كان مقيما فإن خرج لتقاضي دين لهم أو إلى ضياع لهم فله أن ينفق ويكتسي ويركب فإذا رجع رد الثياب والدابة إلى اليتيم قال وقال أبو يوسف وقوله تعالى
[ 83 ]
(فليأكل بالمعروف يجوز أن يكون منسوخا بقوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم قال أبو بكر جعل أبو يوسف الوصي في هذه الحال كالمضارب في جواز النفقة من ماله في السفر وقال ابن عبد الحكم عن مالك ومن كان له يتيم فخلط نفقته بماله فإن كان الذي يصيب اليتيم أكثر مما يصيب وليه من نفقته فلا بأس وإن كان الفضل لليتيم فلا يخلطه ولم يفرق بين الغني والفقير وقال المعافى عن الثوري يجوز لولي اليتيم أن يأكل طعام اليتيم ويكافئه عليه وهذا يدل على أنه إذا كان يجيز له أن يستقرض من ماله وقال الثوري لا يعجبني أن ينتفع من ماله بشئ وإن لم يكن على اليتيم فيه ضرر نحو اللوح يكتب فيه وقال الحسن بن حي يستقرض الوصي من مال اليتيم إذا احتاج إليه ثم يقضيه ويأكل الوصي من مال اليتيم بقدر عمله فيه إذا لم يضر بالصبي قال الله تعالى وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا وقال تعالى فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوا إسرافا وبدارا أن يكبروا وقال تعالى ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وقال تعالى إن الذين يأكلون أموال ا ليتامى ظلما وقال تعالى وأن تقوموا لليتامى بالقسط وقال تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وهذه الآي محكمة حاظرة لمال اليتيم على وليه في حال الغنى والفقر وقوله تعالى ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف متشابه محتمل للوجوه التي ذكرنا فأولى الأشياء بها حملها على موافقة الآي المحكمة وهو من يأكل من مال نفسه بالمعروف لئلا يحتاج إلى مال اليتيم لأن الله تعالى قد أمرنا برد المتشابه إلى المحكم ونهانا عن اتباع المتشابه من غير رد له إلى المحكم قال الله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وتأويل من تأوله على جواز أخذ مال اليتيم قرضا أو غير قرض مخالف لمعنى المحكم ومن تأوله على غير ذلك فقد رده إلى المحكم وحمله على معناه فهو أولى وقد روي أن قوله تعالى فليأكل بالمعروف منسوخ رواه الحسن بن أبي لحسن بن عطية عن عطية أبيه عن ابن عباس ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف نسختها الآية التي تليها إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما وروى عثمان بن عطاء عن أبيه عن ابن عباس مثله وروى عيسى بن عبيد الكندي عن عبيدالله بن عمر بن مسلم عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى
[ 84 ]
ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف منسوخ بقوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما) فإن قيل روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال ليس لي مال ولي يتيم فقال كل من مال يتيمك غير مسرف ولا متأثل مالك بماله وروى عمرو بن دينار عن الحسن العوفي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يأكل ولي اليتيم من ماله بالمعروف غير متأثل منه مالا قيل له غير جائز الإعتراض بهذين الخبرين على ما ذكرنا من الآي المقتضية لحظر مال اليتيم فإن صح ذلك فهو محمول على الوجه الذي يجوز وهو أن يعمل في مال اليتيم مضاربة فيأخذ منه مقدار ربحه وهذا جائز عندنا وقد روي عن جماعة من السلف نحو ذلك فإن قيل فإذا جاز أن يأخذ ربح مال اليتيم إذا عمل به مضاربة فلم لا يجوز أن يأكل من ماله إذا عمل فيه كما روي عن ابن عباس في إحدى الروايات عنه أنه إذا كان يهنأ جرباء الإبل ويبغي ضالتها ويلوط حياضها جاز له أن يشرب من لبنها غير مضر بنسل ولا ناهك حلبا وكما روي عن الحسن أن الوصي كان إذا عمل في نخل اليتيم كانت يده مع أيديهم قيل له لأنه لا يخلو الوصي إذا أعان في الإبل وعمل في النخل من أحد وجهين إما أن يأخذه على وجه الأجرة لعمله أو على غير الأجرة والعوض من العمل فإن كان يأخذه على وجه الأجرة فذلك يفسد من أربعة أوجه أحدها أن الذين أباحوا ذلك له إنما أباحوه في حال الفقر إذ لا خلاف أن الغني لا يجوز له أخذه وهو نص الكتاب في قوله تعالى ومن كان غنيا فليستعفف واستحقاق الأجرة لا يختلف فيه الغني والفقير فبطل أن يكون أجرة من هذا الوجه والوجه الثاني أن الوصي لا يجوز له أن يستأجر نفسه لليتيم والوجه الثالث أن الذين اباحوا ذلك لم يشرطوا له شيئا معلوما والإجارة لا تصح إلا بأجرة معلومة والوجه الرابع أن من أباح ذلك له لم يجعله أجرة فبطل أن يكون ذلك أجرة وليس هو بمنزلة ربح المضاربة إذا عمل به الوصي لأن الربح الذي يستحقه من المال لم يكن قط مالا لليتيم ألا ترى أن ما يشرطه رب المال للمضارب من الربح لم يكن قط ملكا لرب المال ولو كان ملكا لرب المال مشروطا للمضارب بدلا من عمله لوجب أن يكون مضمونا عليه كالأجرة التي هي مستحقة من مال المستأجر بدلا من عمل الأجير هي مضمونة على المستأجر فلما لم يكن الربح المشروط للمضارب مضمونا على رب المال ثبت أنه لم يكن قط ملكا لرب المال وأنه إنما حدث على ملك المضارب ويدل على ذلك أن مريضا لو دفع مالا مضاربة وشرط للمضارب تسعة أعشار الربح وهو أكثر من ربح مثله أن ذلك جائز ولم
[ 85 ]
يحتسب بالمشروط للمضارب من ذلك من مال المريض إن مات من مرضه وإن ذلك ليس بمنزلة ما لو استأجره بأكثر من أجرة مثله فيكون ذلك من الثلث فليس إذا في أخذه ربح المضاربة أخذ شئ من مال اليتيم فإن قيل هلا كان الوصي في ذلك كسائر العمال والقضاة الذين يعملون ويأخذون أرزاقهم لأجل عملهم للمسلمين فكذلك الوصي إذا عمل لليتيم جاز له أخذ رزقه بقدر عمله قيل له لا خلاف بين الفقهاء أن الوصي لا يجوز له أخذ شئ من مال اليتيم لأجل عمله إذا كان غنيا وقد حظر ذلك عليه نص التنزيل في قوله تعالى ومن كان غنيا فليستعفف ولا خلاف مع ذلك أن القضاة والعمال جائز لهم أخذ أرزاقهم مع الغني ولو كان ما أخذه ولي اليتيم من ماله يجري مجرى رزق القضاة والعمال جاز له أن يأخذه في حال الغنى فدل ذلك على أن ولي اليتيم لا يستحق رزقا من ماله ولا خلاف أيضا أن القاضي لا يجوز له أن يأخذ من مال اليتيم شيئا وإليه القيام بأمر الأيتام فثبت بذلك أن سائر الناس ممن لهم الولاية على الأيتام لا يجوز لهم أخذ شئ من أموالهم لا قرضا ولا غيره كما لا يأخذه القاضي فقيرا كان أو غنيا فإن قيل فما الفرق بين رزق القاضي والعامل وبين أخذ ولي اليتيم من ماله مقدار الكفاية وبين أخذ الأجرة قيل له إن الرزق ليس بأجرة لشئ وإنما هو شئ جعله الله له ولكل من قام بشئ من أمور المسلمين ألا ترى أن الفقهاء لهم أخذ الأرزاق ولم يعملوا شيئا يجوز أخذ الأجرة عليه لأن اشتغالهم بالفتيا وتفقيه ما الناس فرض ولا جائز لأحد أخذ الأجرة على الفروض والمقاتلة وذريتها يأخذون الأرزاق وليست بأجرة وكذلك الخلفاء وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم سهم من الخمس والفئ وسهم من الغنيمة إذا حضر القتال وغير جائز لأحد أن يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يأخذ الأجر على شئ مما يقوم به من أمور الدين وكيف يجوز ذلك مع قول الله تعالى قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين وقل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى [ الشورى: 23 ] فثبت بذلك أن الرزق ليس بأجرة ويدلك على هذا أنه قد تجب للفقراء والمساكين والأيتام في بيت المال الحقوق ولا يأخذونها بدلا من شئ فأخذ الأجرة للقاضي ولمن قام بشئ من أمور الدين غير جائز وقد منع القاضي أن يقبل الهدية وسئل عبد الله بن مسعود عن قوله تعالى أكالون للسحت أهو الرشا قال لا ذاك كفر إنما هو هدايا العمال وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال هدايا الأمراء غلول فالقاضي ممنوع من أخذ الأجرة على شئ من أمر القضاء ومحظور عليه قبول الهدايا وتأولها السلف على أنها السحت المذكور في كتاب الله تعالى وولي اليتيم لا يخلو فيما
[ 86 ]
يأخذه من مال اليتيم من أن يأخذه أجرة أو على سبيل رزق القاضي والعامل ومعلوم أن الأجرة إنما تكون على عمل معلوم ومدة معلومة أجر معلوم وينبغي أن يتقدم له عقد إجارة ويستوي فيها الغني والفقير ومن يجيز له أخذ شئ من مال اليتيم على وجه القرض أو على جهة غير القرض فإنه لا يجعله أجرة لما ذكرنا ولاختلاف حكم الغني والفقير عندهم فيه فثبت أنه ليس بأجرة ولا يجوز له أن يأخذه على حسب ما يأخذه القضاة من الأرزاق لاستواء حال الغني والفقير من القضاة فيما يأخذونه من الأرزاق واختلاف الغني والفقير عند مجيزي أخذ ذلك من مال اليتيم ولأن الرزق إنما يجب في بيت مال المسلمين لا في مال أحد بعينه من الناس فالمشبه لولي اليتيم فيما يجيز له أخذ شئ من ماله بالقاضي والأجير فيما يأخذانه مغفل للواجب عليه ويدل على أن ولي اليتيم لا يحل له أخذ شيئ من ماله قول النبي صلى الله عليه وسلم في غنائم خيبر لا يحل لي مما أفاء الله عليكم مثل هذه يعني وبرة أخذها من بعيره إلا الخمس والخمس مردود فيكم فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتولاه من مال المسلمين كما ذكرنا فالوصي فيما يتولاه من مال اليتيم أحرى أن يكون كذلك وأيضا لما كان دخول الوصي في الوصية على وجه التبرع من غير شرط أجرة كان بمنزلة المستبضع فلا أجرة له ولا يحل له أخذ شئ منه قرضا ولا غيره كما لا يجوز ذلك للمستبضع وقوله تعالى فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم قال أبو بكر الآي التي تقدم ذكرها في أمر الأيتام تدل على أن سبيل الأيتام أن يلي عليهم غيرهم في حفظ أموالهم والتصرف عليهم فيما يعود نفعه عليهم وهم وصي الأب أو الجد إن لم يكن وصي أب أو وصي الجد إن لم يكن أحد من هؤلاء أو أمين حاكم عدل بعد أن يكون الأمين أيضا عدلا وكذلك شرط الأوصياء والجد والأب وكل من يتصرف على الصغير لا يستحق الولاية عليه إلا أن يكون عدلا مأمونا فأما الفاسق والمتهم من الآباء والمرتشي من الحكام والأوصياء والأمناء غير المأمونين فإن واحدا من هؤلاء غير جائز له التصرف على الصغير ولا خلاف في ذلك نعلمه ألا ترى أنه لا خلاف بين المسلمين في أن القاضي إذا فسق بأخذ الرشا أو ميل إلى هوى وترك الحكم أنه معزول غير جائز الحكم فكذلك حكم الله فيمن ائتمنه على أموال الأيتام من قاض أو وصي أو أمين لا أو حاكم فغير جائز ثبوت ولايته في ذلك إلا على شرط العدالة وصحة الأمانة وقد أمر الله تعالى أولياء الأيتام بالإشهاد عليهم بعد البلوغ بما يدفعون إليهم من أموالهم وفي ذلك ضروب من الأحكام أحدها الاحتياط لكل واحد من اليتيم ووالي ماله فأما اليتيم فلأنه إذا قامت عليه البينة بقبض المال كان أبعد من أن يدعي ما ليس له وأما الوصي فلأن يبطل دعوى
[ 87 ]
اليتيم بأنه لم يدفعه إليه كما أمر الله تعالى بالإشهاد على البيوع احتياطا للمتبايعين ووجه آخر في الإشهاد وهو أنه يظهر أداء أمانته وبراءة ساحته كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الملتقط بالإشهاد على اللقطة في حديث عياض بن حماد المجاشعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب فأمره بالإشهاد لتظهر أمانته وتزول عنه التهمة والله الموفق ذكر اختلاف الفقهاء في تصديق الوصي على دفع المال إلى اليتيم قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد في الوصي إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع المال إليه أنه يصدق وكذلك لو قال أنفقت عليه في صغره صدق في نفقة مثله وكذلك لو قال هلك المال وهو قول سفيان الثوري وقال مالك لا يصدق الوصي أنه دفع المال إلى اليتيم وهو قول الشافعي قال لأن الذي زعم أنه دفعه إليه غير الذي ائتمنه كالوكيل بدفع المال إلى غيره لا يصدق إلا ببينة وقال الله تعالى فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم) قال أبو بكر وليس في الأمر بالإشهاد دليل على أنه غير أمين ولا مصدق فيه لأن الإشهاد مندوب إليه في الأمانات كهو في المضمونات ألا ترى أنه يصح الإشهاد على رد الأمانات من الودائع كما يصح في أداء المضمونات من الديون فإذا ليس في الأمر بالإشهاد دلالة على أنه غير مصدق فيه إذا لم يشهد فإن قيل إذا كان مصدقا في الرد فما معنى الإشهاد مع قبول قوله بغير بينة قيل له فيه ما قدمنا ذكره من ظهور أمانته والاحتياط له في زوال التهمة عنه في أن لا يدعى عليه بعد ما قد ظهر رده وفيه الاحتياط لليتيم في أن لا يدعي ما يظهر كذبه فيه وفيه ايضا سقوط اليمين عن الوصي إذا كانت له بينة في دفعه إليه ولو لم يشهد وادعى اليتيم أنه لم يدفعه كان القول قول الوصي مع يمينه وإذا أشهد فلا يمين عليه فهذه المعاني كلها مضمنة بالإشهاد وإن كان أمانة في يده ويدل على أنه مصدق فيه بغير إشهاد اتفاق الجميع على أنه مأمور بحفظه وإمساكه على وجه الأمانة حتى يوصله إلى اليتيم في وقت استحقاقه فهو بمنزلة الودائع والمضاربات وما جرى مجراها من الأمانات فوجب أن يكون مصدقا على الرد كما يصدق على رد الوديعة والدليل على أنه أمانة أن اليتيم لو صدقه على الهلاك لم يضمنه كما أن المودع إذا صدق المودع في هلاك الوديعة لم يضمنه وأما قول الشافعي أنه لم يأتمنهم الأيتام لم يصدقوا فقول ظاهر الإختلال بعيد من معاني الفقه منتقض
[ 88 ]
فاسد لأنه لو كان ما ذكره علة لنفي التصديق لوجب أن لا يصدق القاضي إذا قال لليتيم قد دفعته إليك لأنه لم يأتمنه وكذلك يلزمه أن يقول في الأب إذا قال بعد بلوغ الصغير قد دفعت إليك مالك ان لا يصدقه لأنه لم يأتمنه ويلزمه أيضا أن يوجب عليهم الضمان إذا تصادقوا بعد البلوغ أنه قد هلك لأنه أمسك ماله من غير ائتمان له عليه وأما تشبيهه إياه بالوكيل بدفع المال إلى غيره فتشبيه بعيد ومع ذلك فلا فرق بينهما من الوجه الذي صدقنا فيه الوصي لأن الوكيل مصدق أيضا في براءة نفسه غير مصدق في إيجاب الضمان ودفعه إلى غيره وإنما لم يقبل قوله على المأمور بالدفع إليه فأما في براءة نفسه فهو مصدق كما صدقنا الوصي على الرد بعد البلوغ وأيضا فإن الوصي في معنى من يتصرف على اليتيم بإذنه ألا ترى أنه يجوز تصرفه عليه في البيع والشرى كجواز تصرف أبيه فإذا كان إمساك الوصي المال بائتمان الأب له عليه وإذن الأب جائز على الصغير صار كأنه ممسك له بعد البلوغ بإذنه فلا فرق بينه وبين المودع وقوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون الآية قال أبو بكر قد انتظمت هذه الجملة عموما ومجملا فأما العموم فقوله للرجال وللنساء وقوله تعالى مما ترك الوالدان والأقربون فلذلك عموم في إيجاب الميراث للرجال وللنساء من الوالدين والأقربين فدل من هذه الجهة على إثبات مواريث ذوي الأرحام لأن أحدا لا يمتنع أن يقول إن العمات والخالات والأخوال وأولاد البنات من الأقربين فوجب بظاهر الآية إثبات ميراثهم إلا أنه لما كان قوله نصيب مجملا غير مذكور المقدار في الآية امتنع استعمال حكمه إلا بورود بيان من غيره إلا أن الاحتجاج بظاهر الآية في إثبات ميراث ما لذوي الأرحام سائغ وهذا مثل قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة) وقوله تعالى أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض وقوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده [ الانعام: 141 ] عطفا على ما قدم ذكره من الزرع والثمرة فهذه ألفاظ قد اشتملت على العموم والمجمل فلا يمنع ما فيها من الإجمال من الإحتجاج بعمومها متى اختلفنا فيما انتظمه لفظ العموم وهو أصناف الأموال الموجب فيها وإن لم يصح الاحتجاج بما فيها من المجمل عند اختلافنا في المقدار الواجب كذلك متى اختلفنا في الورثة المستحقين للميراث ساغ الاحتجاج بعموم قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون الآية ومتى اختلفنا في المقدار الواجب لكل واحد منهم احتجنا في إثباته إلى بيان من غيره فإن قيل لما قال نصيبا مفروضا ولم يكن لذوي الأرحام نصيب مفروض
[ 89 ]
علمنا أنهم لم يدخلوا في مراد الآية قيل له ما ذكرت لا يخرجهم من حكمها وكونهم مرادين بها لأن الذي يجب لذوي الأرحام عند موجبي مواريثهم هو نصيب مفروض لكل واحد منهم وهو معلوم مقدر كأنصباء ذوي السهام لا فرق بينهما من هذا الوجه وإنما أبان الله تعالى أن لكل واحد من الرجال والنساء نصيبا مفروضا غير مذكور المقدار في الآية لأنه مؤذن ببيان وتقدير معلوم له يرد في التالي فكما ورد البيان في نصيب الوالدين والأولاد وذوي السهام بعضها بنص التنزيل وبعضها بنص السنة وبعضها بإجماع الأمة وبعضها بالقياس والنظر كذلك قد روي بيان أنصباء ذوي الأرحام بعضها بالسنة وبعضها بدليل الكتاب وبعضها باتفاق الأمة من حيث أوجبت الآية لذوي الأرحام أنصباء فلم يجز إسقاط عمومها فيهم ووجب توريثهم بها ثم إذا استحقوا الميراث بها كان المستحق من النصيب المفروض على ما ذهب إليه القائلون بتوريث ذوي الأرحام فيهم فهم وإن كانوا مختلفين في بعضها فقد اتفقوا في البعض وما اختلفوا فيه لم يخل من دليل لله تعالى يدل على حكم فيه فإن قيل قد روي عن قتادة وابن جريج أن الآية نزلت على سبب وهو أن أهل الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث فنزلت الآية وقال غيرهما أن العرب كانت لا تورث إلا من طاعن بالرمح وزاد عن الحريم والمال فأنزل الله تعالى هذه الآية إبطالا لحكمهم فلا يصح اعتبار عمومها في غير ما وردت فيه قيل له هذا غلط من وجوه أحدها أن السبب الذي ذكرت غير مقصور على الأولاد وذوي السهام من القرابات الذين بين الله حكمهم في غيرها وإنما السبب أنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث وجائز أن يكونوا قد كانوا يورثون ذوي الأرحام من الرجال دون الإناث فليس فيما ذكرت إذا دليل على أن السبب كان توريث الأولاد ومن ذكرهم الله تعالى من ذوي السهام في آية المواريث ومن جهة أخرى أنها لو نزلت على سبب خاص لم يوجب ذلك تخصيص عموم اللفظ بل الحكم للعموم دون السبب عندنا فنزولها على سبب ونزولها مبتدأة من غير سبب سواء وأيضا فإن الله قد ذكر مع الأولاد غيرهم من الأقربين في قوله تعالى مما ترك الوالدان والأقربون فعلمنا أنه لم يرد به ميراث الأولاد دون سائر الأقربين ويحتج بهذه الآية في توريث الأخوة والأخوات مع الجد كنحو احتجاجنا بها في توريث ذوي الأرحام وقوله تعالى نصيبا مفروضا يعني والله أعلم معلوما مقدرا ويقال إن أصل الفرض الحز في القداح علامة لها يميز بينها والفرضة العلامة في قسم الماء يعرف بها كل ذوي حق نصيبه من ا لشرب فإذا كان أصل الفرض هذا ثم نقل إلى المقادير المعلومة
[ 90 ]
في الشرع أو إلى الأمور الثابتة اللازمة وقد قيل إن أصل الفرض الثبوت ولذلك سمي الحز الذي في سية القوس فرضا لثبوته والفرض في الشرع ينقسم إلى هذين المعنيين فمتى أريد به الوجوب كان المفروض في أعلى مراتب الإيجاب وقد اختلف في معنى الفرض والواجب في الشرع من بعض الوجوه وإن كان كل مفروض واجبا من حيث كان الفرض يقتضي فارضا وموجبا له وليس كذلك الواجب لأنه قد يجب من غير إيجاب موجب له ألا ترى أنه جائز أن يقال أن ثواب المطيعين واجب على الله في حكمته ولا يجوز أن يقال إنه فرض عليه إذ كان الفرض يقتضي فارضا وقد يكون واجبا في الحكمة غير مقتض موجبا وأصل الوجوب في اللغة هو ا لسقوط يقال وجبت الشمس إذا سقطت ووجب الحائط إذ 1 سقط وسمعت وجبة يعني سقطة وقال الله تعالى فإذا وجبت جنوبها يعني سقطت فالفرض في أصل اللغة أشد تأثيرا من الواجب وكذلك حكمهما في الشرع إذ كان الحز الواقع ثابت الأثر وليس كذلك الوجوب قوله تعالى وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى الآية قال سعيد بن المسيب وأبو مالك وأبو صالح هي منسوخة بالميراث وقال ابن عباس وعطاء والحسن والشعبي وإبراهيم ومجاهد والزهري أنها محكمة ليست بمنسوخة وروى عطية عن ابن عباس يعني عند قسمة الميراث وذلك قبل أن ينزل القرآن فأنزل الله تعالى بعد ذلك الفرائض فأعطى كل ذي حق حقه فجعلت الصدقة فيما سمى المتوفى ففي هذه الرواية عن ابن عباس أنها كانت واجبة عند قسمة الميراث ثم نسخت بالميراث وجعل ذلك في وصية الميت لهم وروى عكرمة عنه أنها ليست بمنسوخة وهي في قسمة الميراث ترضخ لهم فإن كان في المال تقصيرا اعتذر إليهم وهو قوله تعالى (وقولوا لهم قولا معروفا وروى الحجاج عن أبي إسحاق أن أبا موسى الأشعري وعبد الرحمن بن بكر كانا يعطيان من حضر من هؤلاء وقال قتادة عن الحسن قال قال أبو موسى هي محكمة وروى أشعث عن ابن سيرين عن حميد بن عبد الرحمن قال ولي أبي ميراثا فأمر بشاة فذبحت ثم صنعت ولما قسم ذلك الميراث أطعمهم ثم تلا وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى الآية وروى محمد بن سيرين عن عبيدة مثله وقال لولا هذه الآية لكانت هذه الشاة من مالي وذكر أنه كان من مال
[ 91 ]
يتيم قد وليه وروى هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال هذه الآية يتهاون بها الناس وقال هما وليان أحدهما يرث والآخر لا يرث والذي يرث هو الذي أمر أن يرزقهم ويعطيهم والذي لا يرث هو الذي أمر أن يقول لهم قولا معروفا ويقول هذا المال لقوم غيب أو لأيتام صغار ولكم فيه حق ولسنا نملك أن نعطي منه شيئا فهذا القول المعرف قال هي محكمة وليست بمنسوخة فحمل سعيد بن جبير قوله فارزقوهم على أنهم يعطون أنصباءهم من الميراث والقول المعرف للآخرين فكانت فائدة الآية عنده أن حضر بعض الورثة وفيهم غائب أو صغير أنه يعطى الحاضر نصيبه من الميراث ويمسك نصيب الغائب والصغير فإن صح هذا التأويل فهو حجة لقول من يقول في الوديعة إذا كانت بين رجلين وغاب أحدهما أن للحاضر أن يأخذ نصيبه ويمسك المودع نصيب الغائب وهو قول أبي يوسف ومحمد وأبو حنيفة يقول لا يعطي أحد المودعين شيئا إذا كانا شريكين فيه حتى يحضر الآخر وروى عطاء عن سعيد بن جبير وقولوا لهم قولا معروفا قال يقول عدة جميلة إن كان الورثة صغارا يقول أولياء الورثة لهؤلاء الذين لا يرثون من قرابة الميت واليتامى والمساكين أن هؤلاء الورثة صغار فإذا بلغوا أمرناهم أن يعرفوا حكم ويتبعوا فيه وصية ربهم فحصل اختلاف السلف في ذلك على أربعة أوجه قال سعيد بن المسيب وأبو مالك وابو صالح أنها منسوخة بالميراث والثاني رواية عكرمة عن ابن عباس وقول عطاء والحسن والشعبي وإبراهيم ومجاهد أنها ثابتة الحكم غير منسوخة وهي في الميراث والثالث وهو قول ثالث عن ابن عباس أنها في وصية الميت لهؤلاء منسوخة عن الميراث وروي نحوه عن زيد بن أسلم قال زيد بن أسلم هذا شئ أمر به الموصي في الوقت الذي يوصي فيه واستدل بقوله تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا قال يقول له من حضره اتق الله وصلهم وبرهم وأعطهم والرابع قول سعيد بن جبير في رواية أبي بشر عنه أن قوله فارزقوهم منه هو الميراث نفسه وقولوا لهم قولا معروفا لغير أهل الميراث فأما الذين قالوا إنها منسوخة فإنه كان عندهم على الوجوب قبل نزول الميراث فلما نزلت المواريث وجعل لكل وارث نصيب معلوم صار ذلك منسوخا وأما الذين قالوا ثابتة الحكم فإنه محمول عندنا على أنهم رأوها ندبا واستحبابا لا حتما وإيجابا لأنها لو كانت واجبة مع كثرة قسمة المواريث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ومن بعدهم لنقل وجوب ذلك واستحقاقه لهؤلاء كما نقلت المواريث لعموم الحاجة إليه فلما لم يثبت وجوب ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة دل ذلك على أنه استحباب ليس بإيجاب وما روي عن
[ 92 ]
عبد الرحمن وعبيدة وأبي موسى في ذلك فجائر أن يكون الورثة كانوا كبارا فذبح الشاة من جملة المال بإذنهم وما روي في الحديث أن أبي عبيدة قسم ميراث أيتام فذبح شاة فإن هذا على أنهم كانوا يتامى فكبروا لأنهم لو كانوا صغارا لم تصح مقاسمتهم ويدل على أنه ندب ما روى عطاء عن سعيد بن جبير أن الوصي يقول لهؤلاء الحاضرين من أولي القربى وغيرهم أن هؤلاء الورثة صغار ويعتذرون إليهم بمثله ولو كانوا مستحقين له على الإيجاب لوجب إعطاؤهم صغارا كان الورثة أو كبارا وأيضا فإن الله تعالى قد قسم المواريث بين ا لورثة وبين نصيب كل واحد منهم في آية المواريث ولم يجعل فيها لهؤلاء شيئا وما كان ملكا لغيره فغير جائز إزالته إلى غيره إلا بالوجوه التي حكم الله بإزالته بها لقوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم وقال صلى الله عليه وسلم دماؤكم وأموالكم عليكم حرام وقال لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وهذا كله يوجب أن يكون إعطاء هؤلاء الحاضرين عند القسمة استحبابا لا إيجابا وأما قوله تعالى وقولوا لهم قولا معروفا فقد روي عن ابن عباس أنه إذا كان في المال تقصير اعتذر إليهم وعن سعيد بن جبير قال يعطي الميراث أهله وهو معنى قوله تعالى فارزقوهم منه في هذه الرواية ويقول لمن لا يرث إن هذا المال لقوم غيب ولأيتام صغار ولكم فيه حق ولسنا نملك أن نعطي منه شيئا فمعناه عنده ضرب من الاعتذار إليهم وقال بعض أهل العلم إذا أعطوهم عند القسمة شيئا لا يمن عليهم ولا ينتهرهم ولا يسئ اللفظ فيما يخاطبهم به لقوله تعالى قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى وقوله تعالى فأما اليتيم فلا تقهر وأما السائل فلا تنهر [ الضحى: 109 ] وقوله تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم الآية اختلف السلف في تأويله فروي عن ابن عباس رواية وعن سعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك والسدي قالوا هو الرجل يحضره الموت فيقول له من يحضره اتق الله أعطهم صلهم برهم ولو كانوا هم الذين يوصون لأحبوا أن يبقوا لأولادهم قال حبيب بن أبي ثابت فسألت مقسما عن ذلك فقال لا ولكنه الرجل يحضره الموت فيقول له من يحضره اتق الله وأمسك عليك مالك ولو كانوا ذوي قرابته لأحبوا أن يوصي لهم فتأوله الأولون على نهي الحاضرين عن الحض على الوصية وتأوله مقسم على نهي من يأمره بتركها وقال الحسن في رواية أخرى هو الرجل يكون عند الميت فيقول أوص بأكثر من الثلث من مالك وعن ابن عباس رواية أخرى أنه قال
[ 93 ]
في ولاية مال اليتيم وحفظه أن عليهم أن يعملوا فيه ويقولوا بمثل ما يحب أن يعمل ويقال في أموال أيتامهم وضعاف ذريتهم بعد موتهم وجائز أن تكون هذه المعاني التي تأولها السلف عليها الآية مرادة بها إلا أن ما نهى عنه من الأمر بالوصية أن النهي عنها إذا قصد المشير بذلك إلى الإضرار بالورثة أو بالموصى لهم مما لا يرضاه هو لنفسه لو كان مكان هؤلاء وذلك بأن يكون المريض قليل المال له ذرية ضعفاء فيأمره الذي يحضره باستغراق الثلث للوصية ولو كان هو مكانه لم يرض بذلك وصية له لأجل ورثته وهذا يدل على أن المستحب له إذا كان له ورثة ضعفاء وهو قليل المال أن لا يوصي بشئ ويتركه لهم أو يوصي لهم بأقل من الثلث وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لسعد حين قال أوصي بجميع مالي فقال لا إلى أن رده إلى الثلث فقال الثلث والثلث كثير إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الورثة إذا كانوا فقراء فترك الوصية ليستغنوا به أفضل من فعلها وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه كان يقول الأفضل لمن له مال كثير الوصية بما يريد أن يوصي به على وجه القربة من ثلث ماله والأفضل لمن ليس له مال كثير أن لا يوصي منه بشئ وأن يبقيه لورثته والنهي منصرف أيضا إلى من يأمره من الحاضرين بأن يوصي بأكثر من الثلث على ما روي عن الحسن لأن ذلك لا يجوز أن يفعله لقول النبي صلى الله عليه وسلم الثلث كثير ولنهيه سعدا عن الوصية بأكثر من الثلث وجائز أن يكون ما قاله مقسم مرادا بأن يقول الحاضر لا توص بشئ ولو كان من ذوي قرابته لأحب أن يوصي له فيشير عليه بما لا يرضاه لنفسه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى ذلك حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن هاشم قال حدثنا هدبة قال حدثنا همام قال حدثنا قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا الحسن بن العباس الرازي قال حدثنا سهل بن عثمان قال حدثنا زياد بن عبد الله عن ليث عن طلحة عن خيثمة عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من سره أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويحب أن يأتي إلى الناس ما يحب أن يأتي إليه قال أبو بكر فهذا معنى قوله تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا فنهاه عز وجل أن يشير على غيره ويأمره بما لا يرضاه لنفسه ولأهله ولورثته وأمر الله تعالى بأن يقول الحاضرون قولا سديدا وهو العدل والحق الذي لا خلل فيه ولا فساد في إجحاف بوارث أو حرمان لذي قرابة وقوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية روي عن ابن عباس
[ 94 ]
وسعيد بن جبير ومجاهد أنه لما نزلت هذه الآية عزل من كان في حجره يتيم طعامه عن طعامه وشرابه عن شرابه حتى فسد حتى أنزل الله تعالى وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح فرخص لهم في الخلطة على وجه الإصلاح قال أبو بكر قد خص الله تعالى الأكل بالذكر وسائر الأموال غير المأكول منها محظور إتلافه من مال اليتيم كحظر أن المأكول منه ولكنه خص الأكل بالذكر لأنه أعظم ما يبتغى له الأموال وقد بينا ذلك ونظائره فيما قد سلف وقوله تعالى إنما يأكلون في بطونهم نارا روي عن السدي أن لهب النار يخرج من فمه ومسامعه وأنفه وعينيه يوم القيامة يعرفه من رآه أنه أكل مال اليتيم وقيل أنه كالمثل لأنهم يصيرون به إلى جهنم فتمتلئ بالنار أجوافهم ومن جهال الحشو وأصحاب الحديث من يظن أن قوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما منسوخ بقوله تعالى وإن تخالطوهم فإخوانكم [ البقرة: 220 ]، وقد أثبته بعضهم في الناسخ والمنسوخ لما روي أنه لما نزلت هذه الآية عزلوا طعام اليتيم وشرابه حتى نزل قوله تعالى وإن تخالطوهم فإخوانكم وهذا القول من قائله يدل على جهله بمعنى النسخ وبما يجوز نسخه مما لا يجوز ولا خلاف بين المسلمين أن أكل مال اليتيم ظلما محظور وأن الوعيد المذكور في الآية قائم فيه على اختلاف منهم في إلحاق الوعيد به في الآخرة لا محالة أو جواز الغفران فأما النسخ فلا يجيزه عاقل في مثله وجهل هذا الرجل أن الظلم لا تجوز إباحته بحال فلا يجوز نسخ حظره وإنما عزل من كان في حجره يتيم من الصحابة طعامه عن طعامه لأنه خاف أن يأكل من مال اليتيم مالا يستحقه فتلحقه سمة الظلم ويصير من أهل الوعيد في الآية واحتاطوا بذلك فلما نزل قوله تعالى وإن تخالطوهم فإخوانكم [ البقرة: 220 ] زال عنهم الخوف في الخلطة بعد أن يقصدوا الإصلاح بها وليس فيه إباحة لأكل مال اليتيم ظلما حتى يكون ناسخا لقوله تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما والله أعلم باب الفرائض قال أبو بكر قد كان أهل الجاهلية يتوارثون بشيئين أحدهما النسب والآخر السبب فأما ما يستحق بالنسب فلم يكونوا يورثون الصغار ولا الإناث وإنما يورثون من قاتل على الفرس وحاز الغنيمة روى ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير في آخرين منهم إلى أن أنزل الله تعالى يستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهم) [ النساء: 127 ] إلى قوله تعالى والمستضعفين من الولدان وأنزل الله تعالى
[ 95 ]
قوله يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين وقد كانوا مقرين بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم على ما كانوا عليه في الجاهلية في المناكحات والطلاق والميراث إلى أن نقلوا عنه إلى غيره بالشريعة قال ابن جريج قلت لعطاء أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر الناس على ما أدركهم صلى الله عليه وسلم من طلاق أو نكاح أو ميراث قال لم يبلغنا إلا ذلك وروى حماد بن زيد عن ابن عون عن ابن سيرين قال توارث المهاجرين والأنصار بنسبهم الذي كان في الجاهلية وقال ابن جريج عن عمرو بن شعيب قال ما كان من نكاح أو طلاق في الجاهلية فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك إلا الربا فما أدرك الإسلام من ربا لم يقبضرد البائع رأس ماله وطرح الربا وروى حماد بن زيد عن أيوب عن سعيد بن جبير فإن بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم والناس على أمر جاهليتهم إلى أن يؤمروا بشئ أو ينهوا عنه والإ فهم ما كانوا عليه من أمر جاهليتهم وهو على ما روي عن ابن عباس أنه قال الحلال ما أحل الله تعالى والحرام ما حرم الله تعالى وما سكت عنه فهو عفو فقد كانوا مقرين بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فيما لا يحظره العقل على ما كانوا عليه وقد كانت العرب متمسكة ببعض شرائع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وقد كانوا أحدثوا أشياء منها ما يحظره على العقل نحو الشرك وعبادة الأوثان ودفن البنات وكثير من الأشياء المقبحة في العقول وقد كانوا على أشياء من مكارم الأخلاق وكثير من المعاملات التي لا تحظرها الله العقول فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم داعيا إلى توحيد وترك ما تحظره العقول من عبادة الأوثان ودفن البنات والسائبة والوصيلة والحامي وما كانوا يتقربون به إلى أوثانهم وتركهم فيما لم يكن العقل يحظره من المعاملات وعقود البياعات والمناكحات والطلاق والمواريث على ما كانوا عليه فكان ذلك جائزا منهم إذ ليس في العقل حظره ولم تقم حجة السمع عليهم بتحريمه فكان أمر مواريثهم على ما كانوا عليه من توريث الذكور المقاتلة منهم دون الصغار ودون الإناث إلى أن أنزل الله تعالى آي المواريث وكان السبب الذي يتوارثون به شيئين أحدهما الحلف والمعاقدة والآخر التبني ثم جاء الإسلام فتركوا برهة من الدهر على ما كانوا عليه ثم نسخ فمن الناس من يقول إنهم كانوا يتوارثون بالحلف والمعاقدة بنص التنزيل ثم نسخ وقال شيبان عن قتادة في قوله تعالى والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك
[ 96 ]
وتطلب بي وأطلب بك قال فورثوا السدس في الإسلام من جميع الأموال ثم يأخذ أهل الميراث ميراثهم ثم نسخ بعد ذلك فقال الله تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله وروى الحسن بن عطية عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم فأتوهم نصيبهم كان الرجل في الجاهلية يحلف له الرجل فيكون تابعا له فإذا مات صار الميراث لأهله وأقاربه وبقي تابعه ليس له شئ فأنزل الله تعالى (والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم فكان يعطى من ميراثه وقال عطاء عن سعيد بن جبير في قوله تعالى والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) [ النساء: 33 ] وذلك أن الرجل في الجاهلية وفي الإسلام كان يرغب في خلة الرجل فيعاقده فيقول ترثني وأرثك وأيهما مات قبل صاحبه كان للحي ما اشترط من مال الميت فلما نزلت هذه الآية في قسمة الميراث ولم يذكر أهل العقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله نزلت قسمة الميراث ولم يذكر أهل العقد وقد كنت عاقدت رجلا فمات فنزلت والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ شهيدا [ النساء: 33 ] فأخبر هؤلاء السلف ميراث الحليف قد كان حكمه ثابتا في الإسلام من طريق السمع لا من جهة إقرارهم على ما كانوا عليه من أمر الجاهلية وقال بعضهم لم يكن ذلك ثابتا بالسمع من طريق الشرع وإنما كانوا مقرين على ما كانوا عليه من أمر الجاهلية إلى أن نزلت آية المواريث فأزالت ذلك الحكم حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عببيد قال حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) [ النساء: 33 ] قال كان حلفاء في الجاهلية فأمروا أن يعطوهم نصيبهم من المشورة والعقل والنصر ولا ميراث لهم قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا معاذ عن ابن عون عن عيسى بن الحارث عن عبد الله بن الزبير في قوله تعالى واولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض قال نزلت هذه الآية في العصبات كان الرجل يعاقد الرجل يقول ترثني وأرثك فنزلت وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض [ الانفال: 75 ] قال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن إبراهيم عن علي بن طلحة عن ابن عباس والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال كان الرجل يقول ترثني وأرثك فنسختها وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى
[ 97 ]
أوليائكم معروفا قال إلا أن توصوا لأوليائهم الذين عاقدوهم وصية فذكر هؤلاء أن ما كان من ذلك في الجاهلية نسخ بقوله تعالى وأولوا الأرحام) وأن قوله تعالى فآتوهم نصيبهم إنما أريد به الوصية أو المشورة والنصر من غير ميراث وأولي الأشياء بمعنى الآية تثبيت التوارث بالحلف لأن قوله تعالى والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم يقتضي نصيبا ثابتا لهم والعقل والمشورة والوصية ليست بنصيب ثابت وهو مثل قوله تعالى نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب المفهوم من ظاهره إثبات نصيب من الميراث كذلك قوله تعالى والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) [ النساء: 33 ] قد اقتضى ظاهره إثبات نصيب لهم قد استحقوه بالمعاقدة والمشورة يستوي فيها سائر الناس فليست إذا بنصيب فالعقل إنما يجب على حلفائه وليس هو بنصيب له والوصية إن لم تكن مستحقة واجبة فليست بنصيب فتأويل الآية على النصيب المسمى له في عقد المحالفة أولى وأشبه بمفهوم الخطاب مما قال الآخرون وهذا عندنا ليس بمنسوخ وإنما حدث وارث آخر هو أولى منهم كحدوث ابن لمن له أخ لم يخرج الأخ من أن يكون من أهل الميراث إلا أن الإبن أولى منه وكذلك أولوا الأرحام أولى من الحليف فإذا لم يكن رحم ولا عصبة فالميراث لمن حالفه وجعله له وكذلك أجاز أصحابنا الوصية بجميع المال لمن لا وارث له وأما الميراث بالدعوة والتبني فإن الرجل منهم كان يتبنى ابن غيره فينسب إليه دون أبيه من النسب ويرثه وقد كان ذلك حكما ثابتا في الإسلام وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم تبنى زيد بن حارثة وكان يقال له زيد بن محمد حتى أنزل الله تعالى ما كان محمد أبا أحد من رجالكم وقال تعالى فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم وقال تعالى (أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم) [ الاحزاب: 220 ] وقد كان أبو حذيفة بن عتبة تبنى سالما فكان يقال له سالم بن أبي حذيفة إلى أن أنزل الله تعالى إدعوهم قال لآبائهم رواه الزهري عن عروة عن عائشة فنسخ الله تعالى الدعوة بالتبني ونسخ ميراثه حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبد الله بن صالح عن ليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني سعيد بن المسيب في قوله تعالى والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال ابن المسيب
[ 98 ]
إنما أنزل الله تعالى ذلك في الذين كانوا يتبنون رجالا ويورثونهم فأنزل الله تعالى فيهم أن يجعل لهم نصيب من الوصية ورد الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعصبة وأبى الله أن يجعل للمدعين ميراثا ممن ادعاهم ولكن جعل لهم نصيبا من الوصية فكان ما تعاقدوا عليه في الميراث الذي رد عليه أمرهم قال أبو بكر وجائز أن يكون المراد بقوله تعالى والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم منتظما للحلف والتبني جميعا إذ كل واحد منهما يثبت بالعقد فهذا الذي ذكرنا كان من مواريث الجاهلية وبقي في الإسلام بعضها بالإقرار عليه إلى أن نقلوا عنه وبعضه بنص ورد في إثباته إلى أن ورد ما أوجب نقله وأما مواريث الإسلام فإنها معقودة بشيئين أحدهما نسب والآخر سبب ليس بنسب فأما المستحق بالنسب فما نص الله تعالى عليه من كتابه وبين رسوله صلى الله عليه وسلم بعضه وأجمعت الأمة على بعضه وقامت الدلالة على بعض وأما السبب الذي ورث به في الإسلام فبعضه ثابت وبعضه منسوخ الحكم فمن الأسباب التي ورث بها في الإسلام ما ذكرنا في عقد المحالفة وميراث الأدعياء وقد ذكرنا حكمه ونسخ ما روي نسخه وإن ذلك عندنا ليس بنسخ وإنما جعل وارث أولى من وارث وكان من الأسباب التي أوجب الله تعالى به الميراث الهجرة حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا قال كان المهاجر لا يتولى الأعرابي ولا يرثه وهو مؤمن ولا يرث الأعرابي المهاجر فنسختها وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض [ الانفال: 75 ] وقال بعضهم نسخها قوله تعالى ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون وكانوا يتوارثون بالأخوة التي آخى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم وروى هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين الزبير بن العوام وبين كعب بن مالك فارتث كعب يوم أحد فجاء به الزبير يقوده بزمام راحلته ولو مات كعب عن الضح والريح لورثه الزبير حتى أنزل الله تعالى اولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض
[ 99 ]
في كتاب الله إن الله بكل شئ عليم وروى ابن جريج عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فإن كان المهاجرون والأنصار يرث الرجل الرجل الذي آخى بينه وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم دون أخيه فلما نزلت هذه الآية ولكل جعلنا مولى مما ترك الوالدان والأقربون نسخت ثم قال تعالى والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم من النصر والرفادة فذكر ابن عباس في هذا الحديث أن قوله تعالى والذين عاقدت أيمانكم أريد به معاقدة الأخوة التي آخى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى مالكم من ولايتهم من شئ أن المسلمين كانوا يتوارثون بالهجرة والإسلام فكان الرجل يسلم ولا يهاجر فلا يرث أخاه فنسخ الله تعالى ذلك بقوله وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين وروى جعفر بن سليمان عن الحسن قال كان الأعربي المسلم لا يرث من المهاجر شيئا وإن كان ذا قربى ليحثهم بذلك على الهجرة فلما كثر المسلمون أنزل الله تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين فنسخت هذه الآية تلك (عن إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا فرخص الله للمسلم أن يوصي لقرابته من اليهود والنصارى والمجوس من الثلث وما دونه كان ذلك في الكتاب مسطورا قال مكتوبا فجملة ما حصل عليه التوارث بالأسباب في أول الإسلام التبني والحلف والهجرة والمؤاخاة التي آخى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نسخ الميراث بالتبني والهجرة والمؤاخاة وأما الحلف فقد بينا أنه جعلت القرابة أولى منه ولم ينسخ إذا لم تكن قرابة وجائز أن يجعل له جميع ماله أو بعضه ومن الأسباب التي عقد بها التوارث في الإسلام ولاء العتاقة والزوجية وولاء الموالاة وهو عندنا يجري مجرى الحلف وإنما يثبت حكمه إذا لم يكن وارث من ذي رحم أو عصبة فجميع ما انعقدت عليه مواريث الإسلام السبب والنسب والسبب كان على أنحاء مختلفة منها المعاقدة بالحلف والتبني والأخوة التي آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والهجرة والزوجية وولاء العتاقة وولاء الموالاة فأما إيجاب الميراث بالحلف والتبني والأخوة التي آخى بيينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها فمنسوخ مع وجود العصبات وذوي الأرحام وولاء العتاقة والموالاة والزوجية هي أسباب ثابتة يستحق بها الميراث على الترتيب المشروط لذلك وأما النسب الذي يستحق به الميراث فينقسم إلى أنحاء ثلاثة ذوو السهام والعصبات وذوو الأرحام وسنبين ذلك في موضعه فأما الآيات الموجبة لميراث ذوي الأنساب من ذوي السهام والعصبات وذوي
[ 100 ]
الأرحام فقوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وقوله تعالى وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللآتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان [ النساء: 220 ] نسخ بهما في رواية عن ابن عباس وغيره من السلف ما كان عليه الأمر في توريث الرجال المقاتلة دون الذكور الصغار والإناث وقوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم فيه بيان للنصيب المفروض في قوله تعالى للرجال نصيب إلى قوله تعالى نصيبا مفروضا والنصيب المفروض هو الذي بين مقداره في قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم وقد روي عن ابن عباس أنه قرأ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين [ البقرة: 220 ] فقال قد نسخ هذا قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وقال مجاهد كان الميراث للولد وكانت الوصية للوالدين والأقربين فنسخ الله تعالى من ذلك ما أحب فجعل للولد الذكر مثل حظ الأنثيين وجعل لكل واحد من الأبوين السدس مع الولد قال ابن عباس وقد كان الرجل إذا مات وخلف زوجته اعتدت سنة كاملة في بيته ينفق عليها من تركته وهو قوله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج [ البقرة: 240 ] ثم نسخ ذلك بالربع أو الثمن وقوله تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض نسخ به التوارث بالحلف وبالهجرة وبالتبني على النحو الذي بينا وكذلك قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم هي آية محكمة غير منسوخة وهي موجبة لنسخ الميراث بهذه الأسباب التي ذكرنا لأنه جعل الميراث للمسلمين فيها فلا يبقى لأهل هذه الأسباب شئ وذلك موجب لسقوط حقوقهم في هذه الحال وروى محمد بن عبد الله بن عقيل عن جابر ابن عبد الله قال جاءت امرأة من الأنصار ببنتين لها فقالت يا رسول الله هاتان بنتا ثابت ابن قيس قتل معك يوم أحد ولم يدع لهما عمهما مالا إلا أخذه فما ترى يا رسول الله فوالله لا تنكحان أبدا إلا ولهما مال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي الله في ذلك فنزلت سورة النساء يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين الآية فقال صلى الله عليه وسلم ادع إلى المرأة وصاحبها فقال لعمهما أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فلك قال أبو بكر قد حوى هذا الخبر معاني منها أن العم قد كان يستحق الميراث دون البنتين على عادة أهل الجاهلية في توريث المقاتلة دون النساء والصبيان ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حين سألته المرأة بل أقر الأمر على ما كان عليه وقال لها يقضي الله في ذلك ثم لما نزلت الآية أمر العم بدفع
[ 101 ]
نصيب البنتين والمرأة إليهن وهذا يدل على أن العم لم يأخذ الميراث بديا من جهة التوقيف بل على عادة أهل الجاهلية في المواريث لأنه لو كان كذلك لكان إنما يستأنف فيما يحدث بعد نزول الآية وما قد مضى على حكم منصوص متقدم لا يعترض عليه بالنسخ فدل على أنه أخذه على حكم الجاهلية التي لم ينقلوا عنها وروى سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال مرضت فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني من فأتاني وقد أغمى على فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رش علي من وضوئه فأفقت فقلت يا رسول الله كيف تقضي في مالي فلم يجبني بشئ حتى نزلت آية المواريث (في يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) قال أبو بكر ذكر في الحديث الأول قصة المرأة مع بنتيها وذكر في هذا الحديث أن جابرا سأله عن ذلك وجائز أن يكون الأمران جميعا قد كانا سألته المرأة فلم يجبها منتظرا للوحي ثم سأله جابر في حال مرضه فنزلت الآية وهي ثابتة الحكم مثبتة للنصيب المفروض في قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون الآية ولم يختلف أهل العلم في أن المراد بقوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم) أولاد الصلب وإن ولد الولد غير داخل مع ولد الصلب وأنه إذا لم يكن ولد الصلب فالمراد أولاد البنين دون أولاد البنات فقد انتظم اللفظ أولاد الصلب وأولاد الابن إذا لم يكن ولد الصلب وهذا يدل على صحة قول أصحابنا فيمن أوصى لولد فلان أنه لولده لصلبه فإن لم يكن له ولد لصلبه فهو لولد ابنه وقوله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين قد أفاد أنه إن كان ذكرا أو أنثى فللذكر سهمان وللأنثى سهم وأفاد أيضا أنهم إذا كانوا جماعة ذكورا وإناثا أن لكل ذكر سهمين ولكل أنثى سهما وأفاد أيضا أنه إذا كان مع الأولاد ذوو سهام نحو الأبوين والزوج والزوجة أنهم متى أخذوا سهامهم كان الباقي بعد السهام بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين وذلك لأن قوله تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين اسم للجنس يشتمل على القليل والكثير منهم فمتى ما أخذ ذوو السهام سهامهم كان الباقي بينهم على ما كانوا يستحقونه لو لم يكن ذو سهم وقوله عز وجل فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف فنص على نصيب ما فوق الابنتين وعلى الواحدة ولم ينص على فرض الابنتين لأن في فحوى الآية دلالة على بيان فرضهما وذلك لأنه قد أوجب للبنت الواحدة مع الابن الثلث وإذا كان لها مع الذكر الثلث كانت بأخذ الثلث مع الأنثى أولى وقد احتجنا إلى بيان حكم ما فوقهما فلذلك نص على حكمه وأيضا لما قال الله
[ 102 ]
تعالى للذكر مثل حظ الأنثيين فلو ترك ابنا وبنتا كان للابن سهمان ثلثا المال وهو حظ الأنثيين فدل ذلك على أن نصيب الابنتين الثلثان لأن الله تعالى جعل نصيب الابن مثل نصيب البنتين وهو الثلثان ويدل على أن للبنتين الثلثين أن الله تعالى أجرى الأخوة والأخوات مجرى البنات وأجرى الأخت الواحدة مجرى البنت الواحدة فقال تعالى (إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك ثم قال (فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا أخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين فجعل حظ الأختين كحظ ما فوقهما وهو الثلثان كما جعل حظ الأخت كحظ البنت وأوجب لهم إذا كانوا ذكورا وإناثا للذكر مثل حظ الأنثيين وأوجب أن تكون الابنتان كالأختين في استحقاق الثلثين لمساواتهما لهما في إيجاب المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين إذا لم يكن غيرهم كما في مساواة الأخت للبنت إذا لم يكن غيرهم في استحقاق النصف بالتسمية وأيضا البنتان أولى بذلك إذ كانتا أقرب إلى الميت من الأختين وإذا كانت الأخت بمنزلة البنت فكذلك البنتان في استحقاق الثلثين ويدل على ذلك حديث جابر في قصة المرأة التي أعطى النبي صلى الله عليه وسلم فيها البنتين الثلثين والمرأة الثمن والعم ما بقي ولم يخالف في ذلك أحد إلا شيئا روي عن ابن عباس أنه جعل للبنتين النصف كنصيب الواحدة واحتج بقوله تعالى فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وليس في ذلك دليل على أن للابنتين النصف وإنما فيه نص على أن ما فوق الابنتين فلهن الثلثان فإن كان القائل بأن للابنتين الثلثين مخالفا للآية فإن الله تعالى قد جعل للابنة النصف إذا كانت وحدها وأنت جعلت للابنتين النصف وذلك خلاف الآية فإن لم تلزمه مخالفة الآية حين جعل للابنتين النصف وإن كان الله قد جعل للواحدة النصف فكذلك لا تلزم مخالفيه مخالفة الآية في جعلهم للابنتين الثلثين لأن الله تعالى لم ينف بقوله تعالى فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك أن يكون للابنتين الثلثان وإنما نص على حكم ما فوقهما وقد دل على حكمهما في فحوى الآية على النحو الذي بينا وما ذكرناه من دلالة حكم الأختين على حكم الابنتين على ما ذكرنا وقد قيل إن قوله تعالى فإن كن نساء فوق اثنتين أن ذكر فوق ههنا صلة للكلام كقوله تعالى فوق الأعناق [ الانفال: 12 ]. قوله تعالى ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد يوجب ظاهره أن يكون لكل واحد منهما السدس مع الولد ذكرا كان الولد أو أنثى لأن اسم الولد ينتظمهما إلا أنه لا خلاف إذا كان الولد بنتا لا تستحق أكثر من النصف لقوله تعالى وإن كانت واحدة فلها النصف فوجب أن تعطى النصف بحكم النص
[ 103 ]
ويكون للأبوين لكل واحد السدس بنص التنزيل ويبقى السدس يستحقه الأب بالتعصيب فاجتمع ههنا للأب الاستحقاق بالتسمية وبالتعصيب جميعا وإن كان الولد ذكرا فللأبوين السدسان بحكم النص والباقي للإبن لأنه أقرب تعصيبا من الأب وقال تعالى فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فأثبت الميراث للأبوين بعموم اللفظ ثم فصل نصيب الأم وبين مقداره بقوله فلأمه الثلث ولم يذكر نصيب الأب فاقتضى ظاهر اللفظ للأب الثلثين إذ ليس هناك مستحق غيره وقد أثبت الميراث لهما بديا وقد كان ظاهر اللفظ يقتضي المساواة لو اقتصر على قوله تعالى وورثه أبواه) دون تفصيل نصيب الأم فلما قصر نصيب الأم على الثلث علم أن المستحق للأب الثلثان قوله تعالى فإن كان له أخوة فلأمه السدس قال علي وعبد الله بن مسعود وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت وسائر أهل العلم إذا ترك أخوين وأبوين فلأمه السدس وما بقي فلأبيه وحجبوا الأم عن الثلث إلى السدس كحجبهم لها بثلاثة أخوة وقال ابن عباس للأم الثلث وكان لا يحجبها إلا بثلاثة من الأخوة والأخوات وروى معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس إذا ترك أبوين وثلاثة أخوة فللأم السدس وللإخوة السدس الذي حجبوا الأم عنه وما بقي فللأب وروي عنه أنه إن كان الأخوة من قبل الأم فالسدس لهم خاصة وإن كانوا من قبل الأب والأم أو من قبل الأب لم يكن لهم شئ وكان ما بعد السدس للأب والحجة للقول الأول أن اسم الأخوة قد يقع على الإثنين كما قال تعالى تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) [ التحريم: 4 ] وهما قلبان وقال تعالى وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب) [ صلى الله عليه وسلم: 12 ] ثم قال تعالى بغى بعضنا على بعض فأطلق لفظ الجمع على اثنين وقال تعالى كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين فلو كان أخا وأختا كان حكم الآية جاريا فيهما وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال اثنان فما فوقهما جماعة ولأن الاثنين إلى الثلاثة في حكم الجمع أقرب منهما إلى الواحد لأن لفظ الجمع موجود فيهما نحو قولك قاما وقعدا وقاموا وقعدوا كل ذلك جائز في الاثنين والثلاثة ولا يجوز مثله في الواحد فلما كان الاثنان في حكم اللفظ أقرب إلى الثلاثة منهما إلى الواحد وجب إلحاقهما بالثلاثة دون الواحد وقد روى عبد الرحمن بن أبي الزيناد عن أبيه عن خارجة بن زيد عن أبيه أنه كان يحجب الأم
[ 104 ]
بالأخوين فقالوا له يا أبا سعيد إن الله تعالى يقول كان له أخوة وأنت تحجبها بالأخوين فقال إن العرب تسمي الأخوين أخوة فإذا كان زيد بن ثابت قد حكى عن العرب أنها تسمي الأخوين أخوة فقد ثبت أن ذلك اسم لهما فيتناولهما اللفظ وأيضا قد ثبت أن حكم الأختين حكم الثلاث في استحقاق الثلثين بنض التنزيل في قوله تعالى (وإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وكذلك حكم الأختين من الأم حكم الثلاث في استحقاق الثلث دون حكم الواحدة فوجب أن يكون حكمهما حكم الثلاث في حجب الأم عن الثلث إلى السدس إذ كان حكم كل واحد من ذلك حكما متعلقا بالجمع فاستوى فيه حكم الاثنين والثلاث وروي عن قتادة أنه قال إنما يحجب الأخوة الأم من غير أن يرثوا مع الأب لأنه يقوم بنكاحهم بن والنفقة عليهم دون الأم وهذه العلة إنما هي مقصورة على الإخوة من الأب والأم والإخوة من الأب فأما الإخوة من الأم فليس إلى الأب شئ من أمرهم وهم يحجبون أيضا كما يحجب الإخوة من الأب والأم ولا خلاف بين الصحابة في ثلاثة إخوة وأبوين أن للأم السدس وما بقي فللأب إلا شيئا يروى عن ابن عباس وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس ان للأم السدس وللإخوة السدس الذي حجبوا الأم عنه وما بقي فللأب وكان لا يحجب بمن لا يرث فلما حجب الأم بالإخوة ورثهم وهو قول شاذ وظاهر القرآن خلافه لأنه تعالى قال وورثه أبواه فلأمه الثلث ثم قال تعالى فإن كان له إخوة فلأمه السدس على قوله تعالى أبواه تقديره وورثه أبواه وله أخوة وذلك يمنع أن يكون للإخوة شئ قوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين الدين مؤخر في اللفظ وهو مبتدأ به في المعنى على الوصية لأنها أولا توجب الترتيب وإنما هي لأحد شيئين فكأنه قيل من بعد أحد هذين وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال ذكر الله الوصية قبل الدين وهي بعده يعني أنها مقدمة في اللفظ مؤخرة في المعنى قوله تعالى نصف ما ترك ازواجكم هذا نص متفق على تأويله كاتفاقهم تنزيله وأن الولد الذكر والأنثى في ذلك سواء يحجب الزوج عن النصف إلى الربع والزوجة من الربع إلى الثمن إذا كان الولد من أهل الميراث ولم يختلفوا أيضا أن ولد الابن بمنزلة ولد الصلب في حجب الزوج والمرأة عن النصيب الأكثر إلى الأقل إذا لم يكن ولد الصلب قوله تعالى وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله) قيل إن معناه لا تعلمون أيهم أقرب لكم نفعا في الدين والدنيا والله يعلمه فاقسموه على
[ 105 ]
ما بينه إذ هو عالم بالمصالح وقيل إن معناه أباؤكم وأبناؤهم متقاربون في النفع حتى لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا إذ كنتم تنتفعون بآبائكم في حال الصغر وتنتفعون بأبنائكم هذه عند الكبر ففرض ذلك في أموالكم للآباء والأبناء علما منه بمصالح الجميع وقيل لا يدري أحدكم أهو أقرب وفاة فينتفع ولده بماله أم الولد أقرب وفاة فينتفع الأب والأم بماله ففرض في مواريثكم ما فرض علما منه وحكما وقد اختلف السلف في الحجب بمن لا يرث وهو أن يخلف الحر المسلم أبوين حرين مسلمين وأخوين كافرين أو مملوكين أو قاتلين فقال علي وعمر وزيد للأم الثلث وما بقي فللأب وكذلك المسلمة إذا تركت زواجا وابنا كافرا أو مملوكا أو قاتلا أو الرجل ترك امرأة وابنا كذلك أنهم لا يحجبون الزوج ولا المرأة عن نصيبهما الأكثر إلى الأقل وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد ومالك والثوري والشافعي وقال عبد الله بن مسعود يحجيون سنة وإن لم يرثوا وقال الأوزاعي والحسن بن صالح المملوك والكافر لا يرثان ولا يحجبان والقاتل يرث ويحجب قال أبو بكر لا خلاف أن الأب الكافر لا يحجب ابنه من ميراث جده وأنه يمنزلة الميت فكذلك في حكم حجب الأم والزوج والزوجة واحتج من حجب بظاهر قوله تعالى لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد يفرق بين الكافر والمسلم فيقال له فلم حجبت به الأم دون الأب والله تعالى إنما حجبهما جميعا بالولد بقوله تعالى واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن جاز أن لا يحجب الأب وجعلت قوله تعالى إن كان له ولد على ولد يجوز الميراث فكذلك حكمه في الأم قوله تعالى الربع مما تركتم إلى قوله تعالى فلهن الثمن مما تركتم قد دل على أنهن إذا كن أربعا يشتركن في الثمن وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم وقد اختلف السلف في ميراث الأبوين مع الزوج والزوجة فقال على وعمر وعبد الله بن مسعود وعثمان وزيد للزوجة الربع وللأم ثلث ما بقي وما بقي فللأب وللزوج النصف وللأم ثلث ما بقي وما بقي فللأب وقال ابن عباس للزوج والزوجة ميراثهما وللأم الثلث كاملا وما بقي فللأب وقال لا أجد في كتاب الله تعالى ثلث ما بقي وعن ابن سيرين مثل قول ابن عباس وروي انه تابعه في المرأة والأبوين وخالفه في الزوج والأبوين لتفضيله الأم على الأب والصحابة ومن بعدهم من التابعين وفقهاء الأمصار على القول الأول إلا ما حكينا عن ابن عباس وابن سيرين وظاهر القرآن يدل
[ 106 ]
عليه لأنه قال لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فجعل الميراث بينهما أثلاثا كما جعله أثلاثا بين الابن والبنت في قوله تعالى مثل حظ الأنثيين وجعله بين الأخ والأخت أثلاثا بقوله تعالى وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين ثم لما سمى للزوج والزوجة ما سمى لهما وأخذا نصيبهما كان الباقي بين الابن والبنتين على ما كان قبل دخولهما وكذلك بين الأخ والأخت وجب أن يكون أخذ الزوج والزوجة نصيبهما موجبا للباقي بين الأبوين على ما استحقاه أثلاثا قبل دخولهما وأيضا هما كشريكين بينهما مال إذا استحق منه شئ كان الباقي بينهما على ما استحقاه بديا والله أعلم بالصواب باب ميراث أولاد الابن قال أبو بكر رضي الله عنه قد بينا أن قوله تعالى النبي الله في أولادكم قد أريد به أولاد الصلب وأولاد الابن إذا لم يكن ولد الصلب إذ لا خلاف أن من ترك بني ابن وبنات ابن أن المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين بحكم الآية وكذلك لو ترك بنت ابن كان لها النصف وإن كن جماعة كان لهن الثلثان على سهام ميراث ولد الصلب فثبت بذلك أن أولاد الذكور مرادون بالآية واسم الولد يتناول أولاد الابن كما يتناول أولاد الصلب قال الله تعالى يا بني آدم ولا يمتنع أحد أن يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم من ولد هاشم ومن ولد عبد المطلب فثبت بذلك أن اسم الأولاد يقع على ولد الابن وعلى ولد الصلب جميعا إلا أن أولاد الصلب يقع عليهم هذا الاسم حقيقة ويقع على أولاد الابن مجازا ولذلك لم يردوا في حال وجود أولاد الصلب ولم يشاركوهم في سهامهم وإنما يستحقون ذلك في أحد حالين إما أن يعدم ولد الصلب رأسا فيقومون مقامهم وإما أن لا يجوز ولد الصلب الميراث فيستحقون بعض الفضل أو جميعه فإما أن يستحقوا مع أولاد الصلب على وجه الشركة بينهم كما يستحقه ولد الصلب بعضهم مع بعض فليس كذلك فإن قيل لما كان الاسم يتناول ولد الصلب حقيقة وولد الابن مجازا لم يجز أن يرادوا بلفظ واحد لامتناع كون لفظ واحد حقيقة مجازا قيل له إنهم لم يرادوا بلفظ واحد في حال واحدة متى وجد أولاد الصلب فإن ولد الابن لا يستحقون الميراث معهم بالآية وليس يمتنع أن يراد ولد الصلب في حال وجودهم وولد الابن في حال عدم ولد الصلب فيكون الفظ مستعملا في حالين في إحداهما هو حقيقة وفي الأخرى هو مجاز ولو أن رجلا قال قد أوصيت بثلث مالي لولد فلان وفلان وكان لأحدهما
[ 107 ]
أولاد لصلبه ولم يكن للآخر ولد لصلبه وكان له أولاد ابن كانت الوصية لولد فلان لصلبه ولأولاد أولاد فلان ولم يمتنه دخول أولاد بنيه في الوصية مع أولاد الآخر لصلبه وإنما يمتنع دخول ولد فلان لصلبه وولد ولده معه فأما ولد غيره لغير صلبه فغير ممتنع دخوله مع أولا دالآخر عمرو لصلبه فكذلك قوله تعالى النبي الله في أولادكم يقتضي ولد الصلب لكل واحد من المذكورين إذا كان ولا يدخل معه ولد الابن ومن ليس له ولد لصلبه وله ولد ابن دخل في اللفظ ولد ابنه وإنما جاز ذلك لأن قوله تعالى النبي الله في أولادكم خطاب لكل واحد من الناس فكان كل واحد منهم مخاطبا به على حياله فمن له منهم ولد لصلبه تناوله اللفظ على حقيقته ولم يتناول ذلك ولد ابنه ومن ليس له ولد لصلبه وله ولد ابن فهو مخاطب بذلك على حياله فيتناول ولد ابنه فإن قيل إن اسم الولد يقع على كل واحد من ولد الصلب وولد الابن حقيقة لم يبعد إذ كان الجميع منسوبين إليه من جهة ولادته ونسبه متصل به من هذا الوجه فيتناول الجميع كالإخوة لما كان اسما لاتصال النسب بينه وبينه من جهة أحد أبويه شمل الاسم الجميع وكان عموما فيهم جميعا سواء كانوا لأب وأم أو لأب أو لأم ويدل عليه أن قوله تعالى أبنائكم الذين من أصلابكم قد عقل به حليلة ابن الابن كما عقل به حليلة ابن الصلب فإذا ترك بنتا وبنت ابن فللبنت النصف بالتسمية ولبنت الابن السدس وما بقي للعصبة فإن ترك بنتين وبنت ابن وابن ابن فللبنتين الثلثان والباقي لابن الابن وبنت الابن بينهما للذكر مثل حظ الآنيين قبل وكذلك لو كانت بنتين وبنات ابن وابن ابن ابن اسفل منهن كان للبنات الثلثان وما بقي فبين بنات الابن ومن هو أسفل منهن من بني ابن الابن للذكر مثل حظ الأنثيين وهذا قول أهل العلم جميعا من الصحابة والتابعين إلا ما روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يجعل الباقي لابن الابن وإن سفل ولا يعطي بنات الابن شيئا إذا استكمل البنات الثلثين وإنما كان يجعل لبنات الابن تكملة الثلثين مثل أن يترك بنتا وبنات ابن فيكون للبنت النصف ولبنات الابن السدس تكملة الثلثين فإن كان معهن ابن ابن لم يعط بنات الابن أكثر من السدس وكذلك قوله في الأخوات من الأب مع الأخوات من الأب والأم وذهب في ذلك إلى أن إناث ولد الابن لو كن وحدهن لم يأخذن شيئا بعد استيفاء البنات الثلثين فكذلك إذا كان لهن أخ لم يكن لهن شئ ألا ترى أنه لو كان ابن عم مع إحداهن لم يأخذن شيئا وليس هذا عند الجماعة كذلك لأن بنات الابن يأخذن تارة بالفرض وتارة بالتعصيب وأخوهن ومن هو أسفل منهن يعصبهن كبنات الصلب يأخذن تارة بالفرص وتارة
[ 108 ]
بالتعصيب فلو انفرد البنات لم يأخذن أكثر من الثلثين وإن كثرن ولو كان معهن أخ لهن وهن عشر كان لهن خمسة أسداس المال فيأخذن في حال كون الأخ معهن أكثر مما يأخذن في حال الانفراد فكذلك حكم بنات الابن إذا استوفى بنات الصلب الثلثين لم يبق لهن فرض فإن كان معهن أخ صرن عصبة معه ووجبت قسمة الثلث الباقي بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين وكذلك قالوا في بنتين وبنت ابن وأخت أن للبنتين الثلثين والباقي للأخت ولا شئ لبنت الابن لأنها لو أخذت في هذه الحال التي ليس معها ذكر كانت مستحقة بفرض البنات والبنات قد استوعبن يحيى الثلثين فلم يبق من فرض البنات شئ تأخذه فكانت الأخت أولى لأنها عصبة مع البنات فما تأخذه الأخت في هذه الحال فإنما تأخذه بالتعصيب فإذا كان مع بنت الابن اخ لها كان الباقي بعد الثلثين بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ولا شئ للأخت وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن عامر بن زرارة قال حدثنا علي بن مسهر عن الأعمش عن أبي قيس الأودي عن هزيل بن شرحبيل الأودي قال جاء رجل إلى أبي موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة فسألهما عن بنت وبنت ابن وأخت لأب وأم فقالا للبنت النصف وللأخت النصف ولم يورثا بنت الابن شيئا وأت ابن مسعود فإنه سيتابعنا فأتاة الرحمن الرجل فسأله وأخبره بقولهما فقال لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ولكن أقضي فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته النصف ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت من الأب والأم فهذا السدس تأخذه بنت الابن بالفرض لا بالتعضيب وكان لم يختلفوا فيه إلا ما روي عن أبي موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة وهو الآن اتفاق ثم لم يخالفهم عبد الله لو كان معها أخ أن للبنت النصف وما بقي فبين بنت الابن وابن الابن للذكر مثل حظ الأنثيين وأنها لا تعطى السدس في هذه الحال كما أعطيت إذا لم يكن معها أخ ففي هذا دليل على أن بنت الابن تستحق تارة بالفرض وتارة بالتعصيب مع أخواتها كفرائض بنات الصلب ومن قول عبد الله في بنت وبنات ابن وابن ابن أن للبنت النصف وما بقي فبين بنات لابن وابن الابن للذكر مثل حظ الآنثيين ما لم تزد أنصباء بنات الابن على السدس فلا يعطيهن أكثر من السدس فلم يعتبر الفرض على حدة في هذه الحال ولا التعصيب على حدة ولكنه اعتبر التسمية في منع الزيادة على السدس واعتبر المقاسمة في النقصان وهو خلاف القياس والله أعلم بالصواب باب الكلالة قال الله عز وجل كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل
[ 109 ]
واحد منهما السدس أبو بكر الميت نفسه يسمى كلالة وبعض من يرثه يسمى كلالة وقوله تعالى كان رجل يورث كلالة يدل على أن الكلالة ههنا اسم الميت والكلالة حاله وصفته ولذلك انتصب وروي السميط بن عمير أن عمر رضي الله عنه قال أتى علي زمان وما أدري ما الكلالة وإنما الكلالة ما خلا الولد والوالد وروى عاصم الأحول عن الشعبي قال قال أبو بكر رضي الله عنه الكلالة ما خلا الولد والوالد فلما طعن عمر رضي الله عنه قال رأيت أن الكلالة من لا ولد له ولا والد وإني لأستحي الله أن أخالف أبا بكر هو ما عدا الوالد والولد وروى طاوس عن ابن عباس قال كنت آخر الناس عهدا بعمر بن الخطاب فسمعته يقول القول ما قلت قلت وما قلت قال الكلالة من لا ولد له وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن الحسن بن محمد قال سألت ابن عباس عن الكلالة فقال من لا ولد له ولا والد قال قلت فإن الله تعالى يقول في كتابه امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت [ النساء: 176 ] فغضب وانتهرني فظاهر الآية وقول من ذكرناهم من الصحابة يدل على أن الميت نفسه يسمى كلالة لأنهم قالوا الكلالة من لا والد له ولا ولد وقال بعضهم الكلالة من لا ولد له وهذه صفة الموروث الميت لأنه معلوم أنهم لم يريدوا أن الكلالة هو الوارث الذي لا ولد له ولا والد إذ كان وجود الولد والوالد للوارث لا يغير حكم ميراثه من موروثه وإنما يتغير حكم الميراث بوجود هذه الصفة للميت المورث والذي يدل على أن اسم الكلالة فد يقع على بعض الوارثين ما رواه شعبة عن ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال آتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض فقلت يا رسول الله كيف الميراث فإنما يرثني كلالة فنزلت آية الفرائض وهذا الحرف تفرد به شعبة في رواية محمد بن المنكدر فأخبر أن الكلالة ورثته ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم وروى ابن عون عن عمرو بن سعيد عن حميد بن عبد الرحمن قال حدثنا رجل من بني سعد ان سعدا مرض بمكة فقال يا رسول الله ليس لي وارث إلا كلالة فأخبر أيضا أن الكلالة هم الورثة وحديث سعد متقدم لحديث جابر لأن مرضه كان بمكة وليس فيه ذكر الآية فقال قوم كان في حجة الوداع وقال قوم كان في عام الفتح ويقال إن الصحيح أنه كان في عام الفتح وحديث جابر كان بالمدينة في
[ 110 ]
آخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم وروى شعبة عن أبي إسحاق عن البراء قال آخر آية نزلت قل الله يفتيكم في الكلالة وآخر سورة روى نزلت براءة قال يحيى بن آدم وقد بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال للذي سأله عن الكلالة يكفيك آية الصيف وهي قوله تعالى قل الله يفتيكم في الكلالة لأنها نزلت في الصيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى مكة ونزلت عليه آية الحج على الناس حج البيت وهي آخر آية نزلت بالمدينة ثم خرج إلى مكة فنزلت عليه بعرفة يوم عرفة اليوم ولم لكم دينكم الآية ثم نزلت عليه من الغد يوم النحر بين واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله هذه الآية ثم لم ينزل عليه شئ بعدها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها هكذا سمعنا قال يحيى وفي حديث آخر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة فقال من مات وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة قال أبو بكر ولم يذكر تاريخ الأخبار والآي لأن الحكم يتغير فيما ذكرنا بالتاريخ ولكنه لما جرى ذكر الآي والأخبار اتصل ذلك بها وإنما أردنا بذلك أن نبين أن اسم الكلالة يتناول الميت تارة وبعض الورثة تارة أخرى وقد اختلف السلف في الكلالة فروى جرير عن أبي إسحاق الشيباني عن عمرو ابن مرة عن سعيد بن المسيب ان عمر بن الخطاب سال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يورث الكلالة قال أو ليس قد بين الله تعالى ذلك ثم قرأ وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة أهل إلى آخر الآية فأنزل الله تعالى يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة [ النساء: 176 ] إلى آخرها قال فكان عمر لم يفهم فقال لحفصة إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب نفس فسليه عنها فرأت منه طيب نفس فسألته عنها فقال أبوك كتب لك هذا ما أرى أباك يعلمها أبدا قال فكان عمر يقول ما أراني أعلمها أبدا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال مطلب: في قول عمر: " ثلاث لان يكون بينهن لنا أحب إلى من الدنيا وما فيها " وروى سفيان عن عمرو بن مرة عن مرة قال قال عمر ثلاث لا يكون بينهن لنا أحب إلي من الدنيا وما فيها الكلالة والخلافة والربا وروى قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة قال قال عمر ما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شئ أكثر مما سألته عن الكلالة حتى طعن بأصبعه في صدري ثم قال يكفيك آية الصيف
[ 111 ]
وروى عن عمر أنه قال عند موته اعلموا أني لم أقل في الكلالة شيئا فهذه الأخبار التي ذكرنا تدل على أنه لم يقطع فيها بشئ وأن معناها والمراد بها كان ملتبسا عليه قال سعيد بن المسيب كان عمر كتب كتابا في الكلالة فلما حضرته الوفاة محاه وقال ترون فيه رأيكم فهذه إدى الروايات عن عمر وروى عنه أنه قال الكلالة من لا ولد له ولا والد وروي عنه أن الكلالة من لا ولد له وروي عن أبي بكر الصديق وعلي وابن عباس في إحدى الروايتين أن الكلالة ما عدا الوالد والولد وروى محمد بن سالم عن الشعبي عن ابن مسعود أنه قال الكلالة ماخلا الوالد والولد وعن زيد ابن ثابت مثله وروي عن ابن عباس رواية أخرى أن الكلالة ما خلا الوالد قال أبو بكر اتفقت الصحابة على ان الولد ليس من الكلالة واختلفوا في الوالد فقال الجمهور الوالد خارج من الكلالة وقال ابن عباس في إحدى الروايتين مثله وفي رواية أخرى أن الكلالة ما عدا الولد فلما اختلف السلف فيها على هذه الوجوه وسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن معناها فوكله إلى حكم الآية وما في مضمونها وهي قوله تعالى يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة وقد كان عمر رجلا من أهل اللسان لا يخفى عليه ما طريق معرفته اللغة ثبت أن معنى اسم الكلالة غير مفهوم من اللغة وأنه من متشابه الآي التي أمرنا الله تعالى بالاستدلال على معناه بالحكم ورده إليه ولذلك لم يجب النبي صلى الله عليه وسلم عمر عن سؤاله في معنى الكلالة ووكله إلى استنباطه والاستدلال عليه وفي ذلك ضروب من الدلالة على المعاني أحدها أن بمسألته إياه لم يلزمه توقيفه على معناها من طريق النص لأنه لو كان واجبا عليه توقيفه على معناها لما أخلاه النبي صلى الله عليه وسلم من بيانها وذلك أنه لم يكن أمر الكلالة في الحال التي سأل عنها حادثة تلزمه تنفيذ حكمها في الحال ولو كان كذلك لما أخلاه من بيانها وإنما سأله سؤال مستفهم مسترشد لمعنى الآية من طريق النص ولم يكن عن النبي صلى الله عليه وسلم توقيف الناس على جليل الأحكام ودقيقها لأن منها ما هو مذكور باسمه وصفته ومنها ما هو مدلول عليه بدلالة مفضية إلى العلم به لا احتمال فيه ومنها ما هو موكول إلى اجتهاد الرأي فرد النبي صلى الله عليه وسلم عمر إلى اجتهاده وهذا يدل على أنه رآه من أهل الاجتهاد وأنه ممن قال الله تعالى الذين يستنبطونه منهم وفيه الدلالة على تسويغ اجتهاد الرأي في الأحكام وأنه أصل يرجع إليه في أحكام الحوادث والاستدلال على معاني الآي المتشابهة وبنائها على المحكم واتفاق الصحابة أيضا على تسويغ الاجتهاد في استخراج معاني الكلالة يدل على ذلك ألا ترى أن بعضهم قال هو من
[ 112 ]
لا ولد له ولا والد وقال بعضهم من لا ولد له وأجاب عمر بأجوبة مختلفة ووقف فيها في بعض الأحوال ولم ينكر بعضهم على بعض الكلام فيها بما أداه إليه اجتهاده وفي ذلك دليل على اتفاقهم على تسويغ الاجتهاد في الأحكام مطلب: في قوله عليه السلام: (من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ) ويدل على أن ما روى أبو عمران الجوني عن جندب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ إنما هو فيمن قال فيه بما سنح في وهمه وخطر على باله من غير استدلال عليه بالأصول وأن من استدل على حكمه واستنبط معناه فحمله على المحكم المتفق على معناه فهو ممدوح مأجور ممن قال الله تعالى لعلمه ا لذين يستنبطونه منهم [ النساء: 83 ] وقد تكلم أهل اللغة في معنى الكلالة قال أبو عبيدة معمر بن المثنى الكلالة كل من لم يرثه أب ولا ابن فهو عند العرب كلالة مصدر من تكلله النسب أي تعطف النسب عليه قال أبو عبيدة من قرأها يورث بالكسر أراد من ليس بولد ولا والد قال أبو بكر والذي قرأه بالكسر الحسن وأبو رجاء العطاردي قال أبو بكر وقد قيل إن الكلالة في أصل اللغة هو الإحاطة فمنه الإكليل لإحاطته بالرأس ومنه الكل لإحاطته بما يدل عليه فالكلالة في النسب من أحاط بالولد والوالد من الإخوة والأخوات وتكللهما حديث وتعطف عليها والولد والوالد ليسا بكلالة لأن أصل النسب وعموده الذي إليه ينتهى هو الولد والوالد ومن سواهما فهو خارج عنهما وإنما يشتمل عليهما بالانتساب عن غير جهة الولادة ممن نسب إليه كالإكليل المشتمل على الرأس وهذا يدل على صحة قول من تأولها على من عدا الوالد والولد وإن الولد إذا لم يكن من الكلالة فكذلك الولد لأن نسبة كل واحد منهما إلى اللميت عند من طريق الولادة وليس كذلك الإخوة والأخوات لأن نسب كل واحد منهما لا يرجع إلى الميت من طريق ولاد بينهما ويشبه أن يكون من تأوله على من عدا الوالد وأخرج الولد وحده من الكلالة إن الولد من الوالد وكأنه بعضه وليس الوالد من الولد كما ليس الأخ والأخت ممن ينسب إليه بالإخوة فاعتبر من قال ذلك الكلالة بمن لا ينسب إليه بأنه منه وبعضه فأما من كانت نسبته إلى الميت من حيث هو منه فليس بكلالة وقد كان اسم الكلالة مشهورا في الجاهلية قال عامر بن الطفيل * فإن وإن كنت ابن فارس عامر * وفي السر منها والصريح المهذب % * فما سودتني عامر عن كلالة * أبى الله أن أسمو بأم ولا أب *
[ 113 ]
هذا يدل على أنه رأى الجد الذي انتسبوا إليه كلاله وأخبر مع ذلك أن سيادته ليست من طريق النسب والكلالة لكنه بنفسه ساد ورأس وقال بعضهم كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت وحمل فلان على فلان ثم كل عنه إذا تباعد والكلالة هو الإعياء لأنه قد يبعد عليه تناول ما يريده وأنشد الفرزدق * ورثتم قناة الملك غير كلالة * عن ابني مناف عبد شمس وهاشم * يعني ورثتموها بالآباء لا بالأخوة والعمومة وذكر الله تعالى الكلالة في موضعين من كتابه أحدهما قوله تعالى قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك [ النساء: 176 ] إلى آخر الآية فذكر ميراث الأخوة والأخوات عند عدم الولد وسماهم كلالة وعدم الوالد مشروط فيها وإن لم يكن مذكورا لقوله تعالى في أول السورة أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس فلم يجعل للإخوة ميراثا مع الأب فخرج الوالد من الكلالة كما خرج الولد لأنه لم يورثهم مع الأب كما لم يورثهم مع الابن والبنت أيضا ليست بكلالة فإن ترك ابنة أو ابنتين وإخوة وأخوات لأب وأم أو لأب فالبنات لسن بكلالة ومن ورث معهما كلالة وقال تعالى في أول السورة كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث فهذه الكلالة هي الأخ والأخت لأم لا يرثان مع والد ولا ولد ذكرا كان أو أنثى وقد روي أن في قراءة سعد بن أبي وقاص كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت لأم فلا خلاف مع ذلك أن المراد بالأخ والأخت ههنا إذا كانا لأم دونهما إذا كانا لأب وأم أو لأب وقد روي عن طاوس عن ابن عباس أن الكلالة ما عدا الولد وورث الإخوة من الأم مع الأبوين السدس وهو السدس الذي حجبت الأم عنه وهو قول شاذ وقد بينا ما روى عنه أنها ما عدا الوالد والولد ولا خلاف أن الإخوة والأخوات من الأم يشتركون في الثلث ولا يفضل منهم ذكر على أنثى وقد اختلفوا في الجد هل يورث كلالة فقال قائلون لم يورث كلالة وقال آخرون بل هو كلالة وهو قول من يورث الإخوة والأخوات مع الجد والأولى أن يكون خارجا من الكلالة لثلاثة أوجه أحدها أنهم لا يختلفون أن ابن الابن خارج عن الكلالة لأنه منسوب إلى الميت بالولاد فواجب على هذا خروج الجد منها إذا كانت النسبة بينهما من طريق الولاد ومن جهة أخرى أن الجد هو أصل النسب كالأب وليس بخراج عنه فوجب أن يكون خارجا عن الكلالة إذا كانت الكلالة ما تكلل على النسب وتعطف عليه ممن ليس أصل النسب متعلقا به والثالث أنهم لا يختلفون أن قوله
[ 114 ]
تعالى وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت لم يدخل فيه الجد وأنه خارج عنه لا يرث معه الإخوة من الأم كما لا يرثون مع الابن والبنت فدل ذلك على أن الجد بمنزلة الأب في خروجه عن الكلالة وهذا يدل على أن الجد بمنزلة الأب في نفي مشاركة الإخوة والأخوات إياه في الميراث فإن قيل هذا لا يدل على ما ذكرته من قبل أن البنت خارجة عن الكلالة ولا يرث معها الإخوة والأخوات من الأم ويرث معها الإخوة والأخوات من الأب والأم فكذلك الجد قيل له لم نجعل ما ذكرناه علة للمسألة فيلزمنا ما وصفت وإنما قلنا أنه لم يتناوله اسم الكلالة كالأب والابن اقتضى ظاهر الآية أن يكون ميراث الإخوة والأخوات عند عدمه إلا أن تقوم الدلالة على توريثهم معه والبنت وإن كانت خارجة عن الكلالة فقد قامت الدلالة على توريث الإخوة والأخوات من الأب معها فخصصناها من الظاهر وبقي حكم اللفظ فيما سواه ممن يشتمله أخبرنا اسم الكلالة والله أعلم باب العول روى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال أول من أعال الفرائض عمر بن الخطاب لما التوت عليه الفرائض ودافع بعضها بعضا قال والله ما أدري أيكم قدم الله ولا أيكم أخر وكان امرأ ورعا فقال ما أجد شيئا هو أوسع لي أن أقسم المال عليكم بالحصص وأدخل على كل ذي حق ما أدخل عليه من عول الفريضة وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي في بنتين وأبوين وامرأة قال صار ثمنها تسعا وكذلك رواه الحكم بن عتيبة عنه وهو قول عبد الله وزيد بن ثابت وقد روى أن العباس ابن عبد المطلب أول من أشار على عمر بالعول قال عبيد الله بن عبد الله قال ابن عباس أول من أعال الفرائض عمر بن الخطاب وأيم الله لو قدم من قدم الله لما عالت فريضة فقيل له وأيها التي قدم الله وأيها التي أخر قال كل فريضة لم تزل عن فريضة إلا إلى فريضة فهي التي قدم الله وكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي فهي التي أخر الله تعالى فأما التي قدم الله تعالى فالزوج والزوجة والأم لأنهم لا يزولون من فرض إلا إلى فرض والبنات والأخوات نزلن من فرض إلى تعصيب مع البنتين والإخوة فيكون لهن ما بقي مع الذكور فنبدأ بأصحاب السهام ثم يدخل الضرر على الباقين وهم الذين يستحقون ما بقي إذا كانوا عصبة قال عبيد الله بن عبد الله فقلنا له فهلا راجعت فيه عمر فقال إنه كان أمرا مهيبا ورعا قال ابن عباس ولو كلمت فيه عمر لرجع وقال الزهري لولا أنه تقدم ابن عباس إمام عدل فأمضى أمرا
[ 115 ]
فمضى وكان أمرأ ورعا ما اختلف على ابن عباس اثنان من أهل العلم وروى محمد بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن عطاء بن أبي رباح قال سمعت ابن عباس ذكر الفرائض وعولها فقال أترون الذي أحصى رمل عالج عددا جعل في مال قسمه نصفا ونصفا وثلثا فهذا النصف وهذا النصف فأين موضع الثلث قال عطاء فقلت لابن عباس يا أبا عباس إن هذا لا يغني عنك ولا عني شيئا لو مت أو مت قسما ميراثنا على ما عليه القوم من خلاف رأيك ورأيي قال فإن شاؤا فلندع أبناءنا وأبناءهم ونساءنا ونساءهم وأنفسنا وأنفسهم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ما جعل الله في مال نصفا ونصفا وثلثا والحجة للقول الأول أن الله تعالى قد سمى للزوج النصف وللأخت من الأب والأم النصف وللأخوة من الأم الثلث ولم يفرق بين حال اجتماعهم وانفرادهم فوجب استعمال نص الآية في كل موضع على حسب الإمكان فإذا انفرد واتسع المال لسهامهم قسم بينهم عليها وإذا اجتمعوا وجب استعمال حكم الآية في التضارب بها ومن اقتصر على بعض وأسقط بعضا أو نقص نصيب بعض ووفى الآخرين كمال سهامهم فقد أدخل الضيم على بعضهم مع مساواته للآخرين في التسمية فأما ما قاله ابن عباس من تقديم من قدم الله تعالى وتأخير من أخر فإنما قدم بعضا وأخر بعضا وجعل له الباقي في حال التعصيب فأما حال التسمية التي لا تعصيب فيها فليس واحد منهم أولى بالتقديم من الآخر ألا ترى أن الأخت منصوص على فرضها بقوله تعالى أخت فلها نصف ما ترك كنصه على فرض الزوج والأم والإخوة من الأم فمن أين وجب تقديم هؤلاء عليها في هذه الحال وقد نص الله تعالى على فرضها في هذه الحال كما نص على فرض الذين معها وليس يجب لأن الله أزال فرضها إلى غير فرض في موضع أن يزيل فرضها في الحال التي نص عليه فيها فهذا القول أشنع في مخالفة الآي التي فيها سهام المواريث من القول بإثبات نصف ونصف وثلث على وجه المضاربة بها ولذلك نظائر في المواريث من الأصول أيضا قال الله تعالى بعد وصية يوصى بها أو دين فلو ترك الميت ألف درهم وعليه دين لرجل ألف درهم ولآخر خمس مائة ولآخر ألف كانت الألف المتروكة مقسومة بينهم على قدر ديونهم وليس يجوز أن يقال لما لم يمكن استيفاء ألفين وخمسمائة من ألف استحال الضرب بها وكذلك لو أوصى رجل بثلث ماله لرجل وبسدسه لآخر ولم تجز ذلك الورثة تضاربا في الثلث بقدر وصياهم فليضرب أحدهما بالسدس والآخر بالثلث مع استحالة استيفاء النصف من الثلث وكذلك الابن يستحق جميع المال لو انفرد وللبنت النصف لو
[ 116 ]
انفردت فإذا اجتمعا ضرب الابن بجميع المال والبنت بالنصف فيكون المال بينهما أثلاثا وهكذا سبيل العول في الفرائض عند تدافع السهام والله أعلم باب المشركة اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة المشركة وهي أن تخلف المورثة زوجها وأمها وأخوتها لأمها وأخوتها لأبيها وأمها فقال علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري للزوج النصف وللأم السدس وللأخوين من الأم الثلث وسقط الإخوة والأخوات من الأب والأم وروى سفيان الثوري عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال سئل علي عن الإخوة من الأم فقال أرأيتم لو كانوا مائة أكنتم تزيدونهم لو على الثلث قالوا لا قال فأنا لا أنقصهم منه شيئا وجعل الإخوة والأخوات من الأب والأم عصبة في هذه الفريضة وقد حالت السهام دونهم وقال عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت للزوج النصف وللأم السدس وللأخوين من الأم الثلث ثم يرجع الإخوة من الأب والأم على الإخوة من الأم فيشاركونهم فيكون الثلث الذي أخذوه بينهم سواء وروى معمر عن سماك ابن الفضل عن وهب بن منبه عن الحكم بن مسعود الثقفي قال شهدت عمر بن الخطاب أشرك الإخوة من الأب والأم مع الإخوة من الأم في الثلث فقال له رجل قضيت عام أول بخلاف هذا قال كيف قضيت قال جعلته للأخوة من الأم ولم تعط الإخوة من الأب والأم شيئا قال تلك على ما قضينا وهذه على ما قضينا وروى أن عمر كان لا يشرك بينهم حتى احتج الإخوة من الأب والأم فقالوا يا أمير المؤمنين لنا أب وليس لهم أب ولنا أم كما لهم فإن كنتم حرمتونا يكون بأبينا فورثونا بأمنا كما ورثتم هؤلاء بأمهم واحسبوا أن أبانا كان حمارا أليس قد تراكضنا مع في رحم واحدة فقال عمر عند ذلك صدقتم فأشرك بينهم وبين الإخوة من الأم في الثلث وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد إلى قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن تابعه في ترك الشركة بينهم والدليل على صحة القول الأول قوله تعالى كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث فنص على فرض الإخوة من الأم وهو الثلث وبين أيضا حكم الإخوة من الأب والأم في قوله تعالى قل الله يفتيكم في الكلالة إلى قوله تعالى وإن كانوا أخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين فلم يجعل الله لهم فرضا مسمى وإنما جعل لهم المال على وجه التعصيب للذكر مثل حظ الأنثيين ولا خلاف أنها لو تركت زوجا وأما وأخا لأم وإخوة وأخوات لأب وأم أن
[ 117 ]
للزوج النصف وللأم السدس وللأخ من الأم السدس وما بقي وهو السدس بين الإخوة والأخوات من الأب والأم للذكر مثل حظ الأنثيين ولم يدخلوا مع الأخ من الأم في نصيبه فلما كانوا مع ذوي السهام إنما يستحقون باقي المال بالتعصيب لا بالفرض لم يجز لنا إدخالهم مع الإخوة من الأم في فرضهم لأن ظاهر الآية ينفي ذلك إذ كانت الآية إنما أوجبت لهم ما يأخذونه للذكر مثل حظ الأنثيين بالتعصيب لا بالفرض فما أعطاهم بالفرض فهو خارج عن حكم الآية ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم الحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلا ولي عصبة ذكر فجعل للعصبة بقية المال بعد أخذ ذوي السهام سهامهم فمن أشركهم مع ذوي السهام وهم عصبة فقد خالف الأثر فإن قيل لما اشتركوا في نسب الأم وجب أن لا يحرموا بالأب قيل له هذا غلط لأنها لو تركت زوجا وأما وأخا لأم وإخوة وأخوات لأب وأم لأخذ الأخ من أم السدس كاملا وأخذ الإخوة والأخوات من الأب والأم السدس الباقي بينهم وعسى يصيب كل واحد منهم أقل من العشر ولم يكن لواحد منهم أن يقول قد حرمتموني بالأب مع اشتراكنا في الأم بل كان نصيب الأخ من الأم أوفر من نصيب كل واحد منهم فدل ذلك على معنيين أحدهما انتقاض العلة بالاشتراك في الأم والثاني انهم لم يأخذوا بالفرض وإنما أخذوا بالتعصيب ويدل على فساد ذلك أيضا أنها لو تركت زوجا وأختا لأب وأم وأختا وأخا لأب أن للزوج النصف وللأخت من الأب والأم النصف ولا شئ للأخ والأخت من الأم لأنهما عصبة فلا يدخل مع ذوي السهام ولم يجز أن يجعل الأخ من الأب بمنزلة من لم يكن حتى تستحق الأخت من الأب سهمها الذي كانت تأخذه في حال الانفراد عن الأخ وإنما التعصيب أخرجها عن السدس الذي كانت تستحقه كذلك التعصيب يخرج الإخوة من الأب والأم عن الثلث الذي يستحقه الإخوة من الأم والله أعلم ذكر اختلاف السلف في ميراث الأخت مع البنت لم يختلف عن علي وعمر وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل في رجل خلف بنتا وأختا لأب وأم وعصبة أن للبنت النصف وما بقي فللأخت فجعلوها عصبة مع البنات وقال عبد الله بن عباس وابن الزبير للبنت النصف وما بقي فللعصبة وإن بعد نسبه ولا حظ للأخت في الميراث مع البنت وروى أن ابن الزبير رجع عن ذلك بعد أن قضى به وروي أنه قيل لعبد الله بن عباس أن عليا وعبد الله وزيدا كانوا يجعلون الأخوات مع البنات عصبة فيورثونهن سعيد فاضل المال فقال أأنتم أعلم أم الله ؟
[ 118 ]
يقول الله إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك [ النساء: 176 ] تجعلون لها مع الولد النصف قال أبو بكر مما يحتج به للقول الأول قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا فظاهره يقتضي توريث الأخت مع البنت لأن أخاها الميت هو من الأقربين وقد جعل الله ميراث الأقربين للرجال والنساء ويحتج فيه بحديث أبي قيس الأودي عن هزيل بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بنت وبنت ابن وأخت لأب وأم أن للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت فأعطى للأخت بقية المال بعد السهام وجعلها عصبة مع البنت وأما احتجاج من يحتج في ذلك بأن الله تعالى إنما جعل لها النصف إذا لم يكن ولد ولا يجوز أن يجعل لها النصف مع الولد فإنه غير لازم من قبل أن الله تعالى نص على سهمها عند عدم الولد ولم ينف ميراثها مع وجوده وتسميته لها النصف عند عدم الولد لا دلالة فيه على سقوط حقها إذا كان هناك ولد إذ لم يذكر هذه الحال بنفي الميراث ولا بإيجابه فهو موقوف على دليله ومع ذلك فإن معناه إن أمرؤ هلك وليس له ولد ذكر بدلالة قوله تعالى في نسق التلاوة يرثها بكر يعني الأخ يرث الأخت إن لم يكن لها ولد معناه عند الجميع أن لم يكن لها ولد ذكر إذ لا خلاف بين الصحابة أنها إذا تركت ولدا أنثى وأخا أن للبنت النصف والباقي للأخ والولد المذكور ههنا هو المذكور بديا في أول الآية وأيضا قال الله تعالى لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد عند الجميع إن كان له ولد ذكر لأنه لا خلاف بين الصحابة ومن بعدهم من الفقهاء أنه لو ترك ابنة وأبوين أن للبنت النصف وللأبوين السدسان والباقي للأب فيأخذ الأب في هذه الحال مع الولد الأنثى أكثر من السدس وإن قوله تعالى لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد على أنه ولد ذكر وكذلك لو ترك أبا وبنتا كان للبنت النصف وللأب النصف فقد أخذ في هاتين المسألتين أكثر من السدس مع الولد قال أبو بكر وشذت طائفة عن الأمة فزعمت أنه إذا ترك بنتا وأختا كان المال كله للبنت وكذلك البنت والأخ وهذا قول خارج عن ظاهر التنزيل واتفاق الأمة قال الله تعالى يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف فنص على سهم البنت وسهم ما فوق الثنتين وجعل لها إذا انفردت النصف وإذا ضامها غيرها الثلثين لهما جميعا فغير جائز أن تعطى أكثر منه إلا بدلالة
[ 119 ]
فإن قيل إذا كان ذكر النصف والثلثين غير دال على ما ذكرت فليس إذا في الظاهر نفي ما زاد وإنما تحتاج إلى أن تطالب خصمك بإقامة الدلالة على أن الزيادة مستحقة قيل له لما كان قوله تعالى النبي الله في أولادكم أمرا باعتبار السهام المذكورة إذ كانت الوصية أمرا أوجب ذلك اعتبار كل فرض مقدر في الآية على حياله ممنوعا من الزيادة والنقصان فيه فاقتضى ذلك وجوب الاقتصار على المقادير المذكورة لمن سميت له غير زائدة ولا ناقصة ولم يقل بذلك من حيث خصه بالذكر دون ما تقدم من الأمر باعتبارها في ابتداء الخطاب فلذلك منعنا الزيادة عليها إلا بدلالة وقوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون يدل على وجوب توريث الأخ مع البنت ويدل عليه حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت فلا ولى عصبة ذكر فواجب بمجموع الآية والخبر أنا إذا أعطينا البنت النصف أن نعطي الباقي الأخ لأنه أولى عصبة ذكر مطلب: اختلف السلف في ابني عم أحدهما أخ لام واختلف السلف في ابني عم أحدهما أخ لأم فقال علي وزيد للأخ من الأم السدس وما بقي فبينهما نصفان وهو قول فقهاء الأمصار وقال عمر وعبد الله المال للأخ من الأم وقالا ذو السهم أحق ممن لا سهم له وإليه كان يذهب شريح والحسن ولم يختلفوا في أخوين لأم أحدهما ابن عم أن لهما الثلث بنسب الأم وما بقي فلابن العم خاصة ولم يجعلوا ابن العم أحق بجميع الميراث لاجتماع السهم والتسمية له دون الآخر كذلك حكم ابني العم إذا كان أحدهما أخا لأم فغير جائز أن يجعل أولى بالميراث من أجل اختصاصه بالسهم والتعصيب وشبه عمر وعبد الله ذلك بالأخ لأب وأم وأخ لأب أنه أولى بالميراث وليس هذ عند الآخرين مشبها لهذه المسألة من قبل أن نسبهما من جهة واحدة وهي الأخوة فاعتبر فيها أقربهما إليه وهو الذي اجتمع له قرابة الأب والأم ولا يستحق بقرابته من الأم سهم الأخ من الأم بل إنما يؤكد ذلك حكم الأخوة وليس كذلك ابنا العم إذا كان أحدهما أخا لأم لأنك تريد أن تؤكد بالإخوة من جهة الأم ما ليس بأخوة وإنما هو سبب آخر غيرها فلم يجز أن تؤكده بها ويدل لك على هذا أن نسبته من جهة أنه ابن العم لا يسقط سهمه من جهة أنه أخ لأم بل يرث بأنه أخ لأم سهم الأخ من الأم وإن كان ابن عم ألا ترى أن الميتة لو تركت أختين لأب وأم وزوجا وأخا لأم هو ابن عم أن للأختين الثلثين وللزوج النصف وللأخ من الأم السدس ولم يسقط سهمه من جهة أنه ابن عم ولو تركت زوجا وأما وأختا لأم وأخوة لأب وأم كان للزوج النصف وللأم السدس وللأخت من الأم السدس وما بقي فللإخوة من الأب والأم،
[ 120 ]
ولم قد يستحق أخوة من الأب والأم سهم الأخوة من الأم لمشاركتهم للأخ من الأم في نسبها بل إنما استحقوا بالتعصيب فكانت قرابتهم بالأب والأم مؤكدة لتعصيبهم فلا يستحقون بها أن يكونوا من ذوي السهام وقرابة ابن العم بنسبه من جهة الأم لا تخرجه من أن يكون من ذوى السهام فيما يستحقه من سهم الأخ من الأم وليس لهذا تأثير في تأكيد التعصيب لأنه لو كان كذلك لوجب أن لا يستحق أبدا إلا بالتعصيب كما لا يؤخذ الإخوة من الأب والأم إلا بالتعصيب ولا يأخذون بقرابتهم من الأم سهم الأخوة من الأم والله أعلم باب الرجل يموت وعليه دين ويوصي بوصية قال الله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين الحارث عن علي قال تقرأون الوصية قبل الدين وأن محمدا صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية قال أبو بكر وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين وذلك لأن معنى قوله بعد وصية يوصى بها أو دين أن الميراث بعد هذين وليست أو في هذا الموضع لأحدهما بل قد تناولهما جميعا وذلك لأن قوله من بعد وصية يوصى بها أو دين مستثنى عن الجملة المذكورة في قسمة المواريث ومتى دخلت أو على النفي صارت في معنى الواو كقوله تعالى ولا تطع منهم آثما أو كفورا وقال تعالى حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم [ الانعام: 146 ] فكانت أو في هذه المواضع بمنزلة الواو فكذلك قوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين لما كان في معنى الاستثناء كأنه قال إلا أن تكون هناك وصية أو دين فيكون الميراث بعدهما جميعا وتقديم الوصية على الدين في الذكر غير موجب للتبدئة كل بها على الدين لأن أو لا توجب الترتيب وإنما ذكر الله تعالى ذلك بعد ذكر الميراث إعلاما لنا أن سهام المواريث جارية في التركة بعد قضاء الدين وعزل حصة الوصية ألا ترى أنه إذا أوصى بثلث ماله كانت سهام الورثة معتبرة بعد الثلث فيكون للزوجة الربع أو الثمن في الثلثين وكذلك سهام سائر أهل الميراث جارية في الثلثين دون الثلث الذي فيه الوصية فجمع تعالى بين ذكر الدين والوصية ليعلمنا أن سهام الميراث معتبرة بعد الوصية كما هي معتبرة بعد الدين وإن كانت الوصية مخالفة للدين من جهة الاستيفاء لأنه لو هلك من المال شئ لدخل النقصان على أصحاب الوصايا كما يدخل على الورثة وليس كذلك الدين لأنه لو هلك من المال شئ استوفى الدين كله من الباقي وإن استغرقه وبطل حق الموصى له والورثة جميعا فالموصى له شريك الورثة من وجه ويأخذ شبها من الغريم من وجه آخر وهو أن سهام أهل المواريث معتبرة بعد
[ 121 ]
الوصية كاعتبارها بعد الدين وليس المراد بقوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين أن الموصى له يعطى وصيته قبل أن يأخذ الورثة أنصباءهم بل يعطون كلهم معا كأنه أحد الورثة في هذا الوجه وما هلك من المال قبل القسمة فهو ذاهب منهم جميعا باب مقدار الوصية الجائزة قال الله تعالى بعد وصية يوصى بها أو دين ظاهرة يقتضي جواز الوصية بقليل المال وكثيره لأنها منكورة لا تختص ببعض دون بعض إلا أنه قد قامت الدلالة من غير هذه الآية على أن المراد بها الوصية ببعض المال لا بجميعه وهو قوله تعالى (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر فأطلق إيجاب الميراث فيه من غير ذكر الوصية فلو اقتضى قوله تعالى من بعد وصية يوصى بها الوصية بجميع المال لصار قوله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون منسوخا بجواز الوصية بجميع المال فلما كان حكم هذه الآية ثابتا في إيجاب الميراث وجب استعمالها مع آية الوصية فوجب أن تكون الوصية مقصورة على بعض المال والباقي للورثة حتى نكون مستعملين لحكم الآيتين ويدل عليه أيضا قوله تعالى وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا يعني في منع الرجل الوصية بجميع ماله على ما تقدم من بيان تأويله فيدل على جواز الوصية ببعض المال لاحتمال اللفظ للمعنيين وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار تلقتها الأمة بالقبول والاستعمال في الاقتصار بجواز الوصية على الثلث منها ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة وابن أبي خلف قالا حدثنا سفيان عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال مرض أبي مرضا شديدا قال ابن أبي خلف بمكة مرضا شفي منه فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن لي مالا كثيرا وليس يرثني إلا ابنة لي أفأتصدق بالثلثين قال لا قال فبالشطر قال لا قال فبالثلث قال الثلث والثلث كثير وإنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس فإنك لن تنفق نفقة إلا أجرت عليها حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك قلت يا رسول الله أتخلف عن هجرتي قال إنك أن تخلف بعدي فتعمل عملا تريد به وجه الله لا تزداد به إلا رفعة ودرجة لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون ثم قال اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة قال أبو بكر قد حوى هذا الخبر ضروبا من الأحكام والفوائد منها أن الوصية
[ 122 ]
غير جائزة في أكثر من الثلث والثاني أن المستحب النقصان عن الثلث ولذلك قال بعض الفقهاء أستحب النقصان عنه لقوله صلى الله عليه وسلم والثلث كثير والثالث أنه إذا كان قليل المال وورثته فقراء أن الأفضل أن لا يؤصي * بشئ لقوله صلى الله عليه وسلم إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس وفي ذلك أيضا دليل على جواز الوصية بجميع المال إذا لم يكن له وارث لأنه أخبر ان الوصية بأكثر من الثلث ممنوعة لأجل الورثة وفيه الدلالة على أن الصدقة في المرض وصية غير جائزة إلا من الثلث لأن سعد قال أتصدق بجميع مالي فقال لا إلى أن رده إلى الثلث وقد رواه جرير عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن سعد قال عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض فقال أوصيت قلت نعم قال بكم قلت بمالي كله في سبيل الله قال فما تركت لولدك قال هم أغنياء قال أوص بالعشر فما زلت أناقصه ويناقصني حتى قال أوص بالثلث والثلث كثير قال أبو عبد الرحمن فنحن نستحب أن تنقص من الثلث لقوله صلى الله عليه وسلم والثلث كثير فذكر في هذا الحديث أنه قال أوصيت بمالي كله وهذا لا ينفي ما روى في الحديث الأول من الصدقة في المرض لأنه جائز أن يكون لما منعه الوصية بأكثر من الثلث ظن أن الصدقة جائزة في المرض فسأله عنها فأخبر صلى الله عليه وسلم أن حكم الصدقة حكم الوصية في وجوب الاقتصار بها على الثلث وهو نظير حديث عمران بن حصين في الرجل الذي أعتق ستة أعبد له عند موته وفيه أن الرجل مأجور في النفقة على أهله وهذا يدل على أن من وهب لامرأته هبة لم يجز له الرجوع فيها لأنها بمنزلة الصدقة لأنه قد استوجب بها الثواب من الله تعالى وهو نظير ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا أعطى الرجل امرأته عطية فهي له صدقة وقول سعد أتخلف عن هجرتي عنى به أنه يموت بمكة وهي داره التي هاجر منها إلى المدينة وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى المهاجرين أن يقيموا بعد النفر أكثر من ثلاث فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه يتخلف بعده حتى ينفع الله به أقواما ويضر به آخرين وكذلك كان فإنه بقي بعده صلى الله عليه وسلم وفتح الله على يده بلاد العجم وأزال به ملك الأكاسرة وذلك من علوم الغيب الذي لا يعلمه غير الله تعالى حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أبو عبد الله عبيدالله بن حاتم العجلي قال حدثني عبد الأعلى بن واصل قال حدثنا إسماعيل بن صبيح قال حدثنا مبارك بن حسان قال حدثنا نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال حاكيا عن الله تعالى أنه قال يا ابن آدم اثنتان ليست لك واحدة منهما جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك لأطهرك وأزكيك وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء
[ 123 ]
أجلك ففي هذا الحديث أيضا أن له بعض المال عند الموت لا جميعه وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا محمد بن أحمد بن شيبة قال حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال حدثنا عثمان قال سمعت طلحة بن عمرو قال حدثنا عطاء عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله أعطاكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم قال أبو بكر فهذه الأخبار الموجبة للاقتصار بالوصية على الثلث عندنا في حيز التواتر الموجب للعلم لتلقي الناس إياها بالقبول وهي مبينة لمراد الله تعالى في الوصية المذكورة في الكتاب انها مقصورة على الثلث وقوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أبو دين على أن من ليس عليه دين لآدمي ولم يوص بشئ أن جميع ميراثه لورثته وأنه إن كان عليه حج أو زكاة لم يجب إخراجه إلا أن يوصي به وكذلك الكفارات والنذور فإن قيل إن الحج دين وكذلك كل ما يلزمه الله تعالى من القرب في المال لقول النبي صلى الله عليه وسلم للخثعمية حين سألته عن الحج عن أبيها أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أكان يجزئ قالت نعم قال فدين الله أحق بالقضاء قيل له أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما سماه دين الله تعالى ولم يسمه بهذا الاسم إلا مقيدا فلا يتناوله الإطلاق وقول الله تعالى (من بعد وصية يوصى بها أو دين إنما اقتضى التبدئة بما يسمى به على الإطلاق فلا ينطوي تحته ما لا يسمى به إلا مقيدا لأن في اللغة والشرع أسماء مطلقة وأسماء مقيدة فلا يتناول المطلق إلا ما يقع الاسم عليه على الإطلاق فإذا لم تتناول الآية ما كان من حق الله تعالى من الديون لما وصفنا اقتضى قوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين أنه إذا لم يوص ولم يكن عليه دين لآدمي أن يستحق الوارث جميع تركته وحديث سعد يدل على ذلك أيضا لأنه قال أتصدق بمالي وفي لفظ آخر أوصي بمالي فقال النبي صلى الله عليه وسلم الثلث والثلث كثير ولم يستثن النبي صلى الله عليه وسلم الحج ولا الزكاة ونحوها من حقوق الله تعالى ومنع الصدقة والوصية إلا بثلث المال فثبت بذلك أنه إذا أوصى بهذه الحقوق كانت من الثلث مطلب: في أن الوصية بالزكاة والنذور وسائر الحقوق الواجبة لا تجوز إلا من الثلث ويدل عليه أيضا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى جعل لكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم وحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حاكيا عن الله تعالى جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك يدل جميع ذلك على
[ 124 ]
أن وصيته بالزكاة والنذور وسائر القرب وإن كانت واجبة لا تجوز إلا من الثلث والله أعلم باب الوصية للوارث حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الوهاب بن نجدة قال حدثنا ابن عياش عن شرحبيل بن مسلم قال سمعت أبا أمامة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث وروى عمرو بن خارجة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا وصية لوارث إلا أن تجيزها الورثة ونقل أهل السير خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وفيها أن لا وصية لوارث فورد نقل ذلك مستفيضا كاستفاضة وجوب الاقتصار بالوصية على الثلث دون ما زاد لا فرق بينهما من طريق نقل الاستفاضة واستعمال الفقهاء له وتلقيهم إياه بالقبول وهذا عندنا في حيز المتواتر الموجب للعلم والنافي للريب والشك وقوله في حديث عمرو بن خارجة إلا أن تجيزها الورثة يدل على أنها إذا أجازتها فهي جائزة وتكون وصية من قبل الموصي لا تكون هبة من قبل الوارث لأن الهبة من قبل الوارث ليست بإجازة من قبل الموروث وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا عبد الله بن عبد الصمد قال حدثنا محمد بن عمرو قال حدثنا يونس بن راشد عن عطاء الخراساني عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا وصية لوارث إلا أن تشاء الورثة قال أبو بكر وقد اختلف الفقهاء فيمن أوصى بأكثر من الثلث فأجازه الورثة في حياته فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والحسن بن صالح وعبيدالله بن الحسن والشافعي لا يجوز ذلك حتى يجيزها بعد الموت وقال ابن أبي ليلى وعثمان البتي ليس لهم أن يرجعوا فيه بعد الموت وهي جائزة عليهم وقال ابن القاسم عن مالك إذا استأذنهم فكل وارث بائن عن الميت مثل الولد الذي قد بان عن أبيه والأخ وابن العم الذين ليسوا في عياله فإنه ليس لهم أن يرجعوا فأما امرأته وبناته اللاتي لم يبن وكل من في عياله وإن كان قد احتلم فلهم أن يرجعوا وكذلك العم وابن العم ومن خاف منهم أنه إن لم يجز لحقه ضرر منه في قطع النفقة إن صح فلهم أن يرجعوا وقول الليث في هذا كقول مالك قال أبو بكر وإن أجازوها بعد الموت جازت عند جميع الفقهاء قال أبو بكر لما لم يكن لهم فسخها في الحياة كذلك لا تعمل إجازتهم لأنهم لم يستحقوا بعد شيئا والله أعلم
[ 125 ]
باب الوصية بجميع المال إذا لم يكن وارث أبو أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد إذا لم يكن له وارث فأوصى بجميع ماله جاز وهو قول شريك بن عبد الله وقال مالك والأوزاعي والحسن بن صالح لا تجوز وصيته إلا من الثلث قال أبو بكر قد بينا دلالة قوله تعالى والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) [ النساء: 33 ] وأنهم كانوا يتوارثون بالحلف وهو أن يحالفه على أنه إن مات ورثه ما يسمى له من ميراثه من ثلث أو أكثر وقد كان ذلك حكما ثابتا في صدر الإسلام وفرضه الله تعالى بقوله تعالى عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ثم أنزل الله تعالى للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وقوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين وقوله تعالى الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله فجعل ذوي الأرحام أولى من الحلفاء ولم يبطل بذلك ميراث الحلفاء أصلا بل جعل ذوي الأنساب أولى منهم كما جعل الابن أولى من الأخ فإذا لم يكن ذوو الأنساب جاز له أن يجعل ماله على أصل ما كان عليه حكم التوارث في لحلف وأيضا فإن الله تعالى أوجب سهام المواريث بعد الوصية بقوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين وقالي للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وقد بينا أن ظاهر قوله تعالى من بعد وصية يوصى بها أو دين يقتضي جواز الوصية بجميع المال لولا قيام دلالة الإجماع والسنة عى منع ذلك ووجوب الاقتصار بها على الثلث وإيجاب نصيب الرجال والنساء من الأقربين فمتى عدم من وجب به تخصيص الوصية في بعض المال وجب استعمال اللفظ في جواز الوصية بجميع المال على ظاهره ومقتضاه ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس فأخبر أن منع الوصية بأكثر من الثلث إنما هو لحق الورثة ويدل عليه حديث الشعبي وغيره عن عمرو بن شرحبيل قال قال عبد الله بن مسعود ليس من حي من العرب أحرى أن يموت الرجل منهم ولا يعرف له وارث منكم معشر همدان فإذا كان ذلك فليضع ماله حيث أحب ولا يعلم له مخالف من الصحابة وأيضا فإنه لا يخلو من لا وارث له إذا مات من أن يستحق المسلمون ماله من جهة الميراث أو من جهة أنه مال لا مالك له فيضعه الإمام حيث يرى فلما جاز أن يستحقه الرجل مع ابنه ومع أبيه والبعيد مع القريب علمنا أنه غير مستحق لهم على وجه الميراث لأن الأب والجد لا يجتمعان في استحقاق ميراث واحد من جهة الأبوة وأيضا لو كان ميراثا لم يجز حرمان واحد منهم لأن سبيل الميراث أن لا يخص به بعض الورثة دون
[ 126 ]
بعض وأيضا لو كان ميراثا لوجب أن يكون لو كان الميت رجلا من همدان ولا يعرف له وارث أن يستحق ميراثه أهل قبيلته لأنهم أقرب إليه من غيرهم فلما كان إنما يستحقه بيت المال للمسلمين وللإمام أن يصرفه إلى من شاء من الناس ممن يراه أهلا له دل ذلك على أن المسلمين لا يأخذونه ميراثا وإذا لم يأخذوه ميراثا وإنما كان للإمام صرفه إلى حيث يرى لأنه مالك له فمالكه أولى بصرفه إلى من يرى ومن جهة أخرى أنهم إذا لم يأخذوه ميراثا أشبه الثلث الذي يوصي به الميت ولا ميراث فيه فله أن يصرفه إلى من شاء فكذلك بقية المال إذا لم يستحقه الوارث كان له صرفه إلى من شاء ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان قال: حدثنا أيوب قال سمعت نافعا عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حق امرئ مسلم له مال يوصي فيه تمر عليه الليلتان إلا ووصيته عنده مكتوبة فلم يفرق بين الوصية ببعض المال أو بجميعه وظاهره يقتضي جواز الوصية بجميع المال وقد قامت الدلالة على وجوب الاقتصار على بعضه إذا كان له وارث فإذا لم يكن له وارث فهو على ظاهر مقتضاه في جوازها بالجميع والله أعلم باب الضرار في الوصية قال الله تعالى مضار وصية من الله قال أبو بكر الضرار في الوصية على وجوه منها أن يقر في وصيته بماله أو ببعضه لأجنبي أو يقر على نفسه بدين لا حقيقة له زيا للميراث عن وارثه ومستحقه ومنها أن يقر باستيفاء دين له على غيره في مرضه لئلا يصل إلى وارثه ومنها أن يبيع ماله من غيره في مرضه ويقر باستيفاء ثمنه ومنها أن يهب ماله في مرضه أو يتصدق بأكثر من ثلثه في مرضه إضرارا منه بورثته ومنها أن يتعدى فيوصي بأكثر ما تجوز له الوصية به وهو الزيادة على الثلث فهذه الوجوه كلها من المضارة في الوصية وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في فحوى قوله لسعد الثلث والثلث كثير إنك لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن الحسن المصري قال حدثنا عبد الصمد بن حسان قال حدثنا سفيان الثوري عن داود يعني ابن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال الإضرار في الوصية من الكبائر ثم قرأ تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله قال في الوصية ومن يعص الله ورسوله قال في الوصية وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا القاسم بن زكريا ومحمد بن الليث قال حدثنا حميد بن زنجويه قال حدثنا عبد الله بن يوسف قال حدثنا عمر بن المغيرة عن داود بن
[ 127 ]
أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإضرار في الوصية من الكبائر وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا طاهر بن عبد الرحمن بن إسحاق القاضي قال حدثنا يحيى بن معين قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أشعث عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة قال أبو بكر ومصادقه فلا في كتاب الله فيما تأوله ابن عباس في قوله تعالى تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله قال في الوصية ومن يعص الله ورسوله قال في الوصية باب من يحرم الميراث مع وجود النسب قال أبو بكر لا خلاف بين المسلمين أن قوله تعالى يوصيكم الله في أولادكم) وما عطف عليه من قسمة الميراث خاص في بعض المذكورين دون بعض فبعض ذلك متفق عليه وبعضه مختلف فيها فما اتفق عليه أن الكافر لا يرث المسلم وأن العبد لا يرث وأن قاتل العمد لا يرث وقد بينا ميراث هؤلاء في سورة البقرة ما أجمعوا عليه منه وما اختلفوا فيه واختلف في ميراث المسلم الكافر وميراث المرتد فأما ميراث المسلم من الكافر فإن الأمة من الصحابة متفقون على نفي التوارث بينهما وهو قول عامة التابعين وفقهاء الأمصار وروى شعبة عن عمرو بن أبي حكيم عن ابن باباه عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الدؤلي قال كان معاذ بن جبل باليمن فارتفعوا إليه في يهودي مات وترك أخاه مسلما فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الإسلام يزيد ولا ينقص) مطلب: في قول مسروف ما أحدث في الاسلام قضية أعجب من قضية قضاها معاوية وروى ابن شهاب عن داود بن أبي هند قال قال مسروق ما أحدث في الإسلام قضية أعجب من قضية قضاها معاوية قال كان يورث المسلم من اليهودي والنصراني ولا يورث اليهودي والنصراني من المسلم قال فقضى بها أهل الشام قال داود فلما قدم عمر بن عبد العزيز ردهم إلى الأمر الأول وروى هشيم عن مجالد عن الشعبي أن
[ 128 ]
معاوية كتب بذلك إلى زياد يعني توريث المسلم من الكافر فأرسل زياد إلى شريح فأمره بذلك وكان شريح قبل ذلك لا يورث المسلم من الكافر بما أمره قضى بقوله فكان شريح إذا قضى بذلك قال هذا قضاء أمير المؤمنين وقد روى الزهري عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوارث أهل ملتين شتى وفي لفظ لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوارث أهل ملتين بهذه الأخبار تمنع توريث المسلم من الكافر والكافر من المسلم ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه فهو ثابت الحكم في إسقاط التوارث بينهما مطلب: التأويل لا يقضى به على النص وأما حديث معاذ فإنه لم يعن هذه المقالة وإنما تأول فيها قوله الإيمان يزيد ولا ينقص والتأول منه لا يقضي به على النص والتوقيف وإنما يرد التأويل إلى المنصوص عليه يحمل على موافقته دون مخالفته وقول النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان يزيد ولا ينقص يحتمل أن يرد به من أسلم ترك على إسلامه ومن خرج عن الإسلام رد إليه وإذا احتمل ذلك واحتمل ما تأوله معاذ وجب حمله على موافقة خبر أسامة في منع التوارث إذ غير جائز رد النص بالتأويل والاحتمال أيضا لا تثبت به حجة لأنه مشكوك فيه وهو مفتقر في إثبات حكمه إلى دلالة من غيره فسقط الاحتجاج به وأما قول مسروق ما أحدث في الإسلام قضية أعجب من قضية قضى بها معاوية في توريث المسلم من الكافر فإنه يدل على بطلان هذا المذهب لإخباره أنها قضية محدثة في الإسلام وذلك يوجب أن يكون قبل قضية معاوية لم يكن يورث المسلم من الكافر وإذا ثبت أن من قبل قضية معاوية لم يكن يورث المسلم من الكافر وأن معاوية لا يجوز أن يكون خلافا عليهم بل هو ساقط القول معهم ويؤيد ذلك أيضا قول داود بن أبي هند أن عمر بن عبد العزيز ردهم إلى الأمر الأول والله أعلم باب ميراث المرتد اختلف السلف في ميراث المرتد الذي اكتسبه في حال الإسلام قبل الردة على أنحاء ثلاثة فقال علي وعبد الله وزيد بن ثابت والحسن البصري وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وجابر بن زيد وعمر بن عبد العزيز وحماد بن الحكم وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن شبرمة والثوري والأوزاعي وشريك يرثه ورثته من المسلمين إذا مات أو قتل على ردته وقال ربيعة بن عبد العزيز وابن أبي ليلى ومالك والشافعي
[ 129 ]
ميراثه لبيت المال وقال قتادة وسعيد بن أبي عروبة إن كان له ورثة على دينه الذي ارتد إليه فميراثه لهم دون ورثته من المسلمين ورواه قتادة عن عمر بن عبد العزيز والصحيح عن عمر أن ميراثه لورثته من المسلمين ثم اختلفوا فيما اكتسبه بعد الردة إذا قتل أو مات مرتدا فقال أبو حنيفة والثوري ما اكتسبه بعد الردة فهو فئ وقال ابن شبرمة وأبو يوسف ومحمد والأوزاعي في إحدى الروايتين ما اكتسبه بعد الردة أيضا فهو لورثته المسلمين قال أبو بكر ظاهر قوله تعالى النبي الله في أولادكم يقتضي توريث المسلم من المرتد إذ لم يفرق بين الميت المسلم وبين المرتد فإن قيل يخصه حديث أسامة بن زيد لا يرث المسلم الكافر كما خص توريث الكافر من المسلم وهو وإن كان من أخبار الآحاد فقد تلقاه الناس بالقبول واستعملوه في منع توريث الكافر من المسلم فصار في حيز المتواتر ولأن آية الموارث خاصة بالإتفاق وأخبار الآحاد مقبولة في تخصيص مثلها قيل له في بعض ألفاظ حديث أسامة لا يتوارث أهل ملتين لا يرث المسلم الكافر فأخبر أن المراد إسقاط التوارث بين أهل ملتين وليست الردة بملة قائمة لأنه وإن ارتد إلى النصرانية أو اليهودية فغير مقر عليها فليس هو محكوما له بحكم أهل الملة التي انتقل إليها ألا ترى أنه وإن انتقل إلى ملة الكتابي أنه لا تؤكل ذبيحته وإن كانت امرأة لم يجز نكاحها فثبت بذلك أن الردة ليست بملة وحديث أسامة مقصور في منع التوارث بين أهل ملتين وقد بين ذلك في حديث مفسر وهو ما رواه هشيم عن الزهري قال حدثنا علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوارث أهل ملتين شتى لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم فدل ذلك على أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك هو منع التوارث بين أهل ملتين وأيضا فإن أبا حنيفة من أصله أن ملك المرتد يزول بالردة فإذا قتل أو مات انتقل إلى التوارث ومن أجل ذلك لا يجيز تصرف المرتد في ماله الذي اكتسبه في حال الإسلام وإذا كان هذا أصله فهو لم يورث مسلما من كافر لأن ملكه زال عنه في آخر الإسلام وإنما ورث مسلما ممن كان مسلما فإن قيل فإذا يكون قد ورثته منه وهو حي قيل له ليس يمتنع توريث الحي قال الله تعالى أرضهم وديارهم وأموالهم وكانوا أحياء وعلى أنا إنما نقلنا المال إلى الورثة بعد الموت فليس فيه توريث الحي ويقال للسائل عن ذلك وأنت إذا جعلت ماله لبيت المال فقد ورثت منه جماعة المسلمين وهو كافر وورثتهم منه وهو حي إذا لحق بدار الحرب مرتد وأيضا فإن المسلمين إذا كانوا إنما
[ 130 ]
يستحقون ماله بالإسلام فقد اجتمع للورثة القرابة والإسلام وجب أن يكونوا أولى بماله لاجتماع السببين لهم وانفراد المسلمين بأحدهما دون الآخر والسببان اللذان اجتمعا للورثة هو الإسلام وقرب النسب فأشبه سائر الموتى من المسلمين لما كان ماله مستحقا للمسلمين كان من اجتمع له قرب النسب مع الإسلام أولى ممن بعد نسبه منه وإن كان له إسلام فإن قال قائل هذه العلة توجب توريثه من مال الذمي قيل له لا يجب ذلك لأن مال الذمي بعد موته غير مستحق بالإسلام لاتفاق الجميع على أن ورثته من أهل الذمة أولى به من المسلمين واتفاق جميع فقهاء الأمصار على أن مال المرتد مستحق بالإسلام فمن قائل يقول يستحقه جماعة المسلمين وآخرين يقولون يستحقه ورثته من المسلمين فلما كان ماله مستحقا بالإسلام أشبه مال المسلم الميت لما كان مستحقا بالإسلام كان من اجتمع له الإسلام وقرب النسب أولى من جماعة المسلمين فإن قيل فلو مات ذمي وترك مالا ولا وارث له من أهل دينه وله قرابة مسلمون كان ماله لجماعة المسلمين ولم يكن أقاربه من المسلمين أولى به لاجتماع السببين لهم من الإسلام والنسب قيل له إن مال الذمي غير مستحق بالإسلام والدليل عليه أنه لو كانت له ورثة من أهل الذمة لم يستحق المسلمون ماله وما استحق من مال الذمي بالإسلام لا يكون ورثته من أهل الذمة أولى به منهم بل يكونون هم أولى كمواريث المسلمين فدل ذلك على أن مال الذمي وإن جعل لبيت المال إذا لم يكن له وارث فليس هو مستحقا بالإسلام وإنما هو مال لا مالك له وجده الإمام في دار الإسلام كاللقطة التي لا يعرف مستحقها فتصرف في وجوه القرب إلى الله تعالى فإن قيل فقد قال أبو حنيفة فيما اكتسبه المرتد في حال ردته أنه فئ لبيت المال وهذا ينقض الإعتلال ويدل على أصل المسألة للمخالف قيل له لا يلزم ذلك ولا دلالة فيه على قول المخالف وذلك لأن ما اكتسبه في حال الردة هو بمنزلة مال الحربي ولا يملكه ملكا صحيحا ومتى جعلناه في بيت المال بعد موته أو قبله فإنما يصير ذلك المال مغنوما كسائر أموال الحرب إذا ظفرنا بها وما يؤخذ على وجه الغنيمة فليس بمستحق لبيت المال لأجل الإسلام لأن الغنائم ليست بمستحقه لغانميها: بالإسلام والدليل عليه أن الذمي متى شهد القتال استحق أن يرضخ له من الغنيمة فثبت بذلك أن مال الحربي ومال المرتد الذي اكتسبه في الردة مغنوم غير مستحق بالإسلام فلم يعتبر فيه قرب النسب والإسلام كما اعتبرناه في ماله الذي اكتسبه في حال الإسلام لأن ذلك المال كان ملكه فيه صحيحا إلى أن ارتد ثم زال ملكه عنه بالردة فمن يستحقه من الناس
[ 131 ]
فإنما يستحقه بالميراث والمواريث يعتبر فيها الإسلام وقرب النسب إذا كان ملكا لمسلم إلى أن زال عنه بالردة الموجبة لزوال ملكه كما يزول بالموت فلم يلزم عليه حكم ماله المكتسب في حال الردة ولا يجوز أيضا أن يكون أصلا للمال المكتسب في حال الإسلام لأن ملكه فيه كان صحيحا إلى أن زال عنه بالموت والمال المكتسب في حال الردة بمنزلة مال الحربي ملكه فيه غير صحيح لأنه اكتسبه وهو مباح الدم فمتى حصل في يد المسلمين صار مغنوما بمنزلة حربي دخل إلينا بغير أمان فأخذناه مع ماله أن ماله يكون غنيمة فكذلك مال المرتد الذي اكتسبه في حال الردة فإن احتج محتج بحديث البراء بن عازب قال مر بي خالي أبو بردة ومعه الراية فقلت إلى أين تذهب فقال أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل نكح امرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله وهذا يدل على أن مال المرتد فئ قيل له إنما فعل ذلك لأن الرجل كان محاربا مع استحلاله لذلك حربيا فكان ماله مغنوما لأن الراية إنما تعد للمحاربة وقد روى معاوية بن قرة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جد معاوية إلى رجل عرس بامرأة أبيه أن يضرب عنقه ويخمس ماله وهذا يدل على أن مال ذلك الرجل كان مغنوما بالمحاربة ولذلك أخذ منه الخمس فإن قيل ما أنكرت أن يكون مال المرتد مغنوما قيل له أما ما اكتسبه في حال الردة فهو كذلك وأما ما اكتسبه في حال الإسلام فغير جائز أن يكون مغنوما من قبل أن ما كان يغنم من الأموال سبيله أن يكون ملك مالكه غير صحيح فيه قبل الغنيمة كمال الحربي ومال المرتد قبل الردة قد كان ملكه فيه صحيحا فغير جائز أن يغنم كما لا يغنم أموال سائر المسلمين إذ كانت أملاكهم فيه صحيحة وزواله عن المرتد بالردة كزواله بالموت فمتى انقطع حقه عنه بالقتل أو بالموت أو اللحاق بدار الحرب استحقه ورثته دون سائر المسلمين لأن سائر المسلمين إن استحقوه بالإسلام لا على أنه غنيمة كانت ورثته أولى به لاجتماع الإسلام والقرابة لهم وإن استحقوه بأنه غنيمة لم يصح ذلك لما بينا من أن شرط الغنيمة أن يكون مال المغنوم غير صحيح الملك في الأصل واختلف السلف فيمن أسلم قبل قسمة الميراث فقال علي بن أبي طالب في مسلم مات فلم يقسم ميراثه حتى أسلم ابن له كافرا وكان عبدا فأعتق أنه لا شئ له وهو قول عطاء وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والزهري وأبي الزناد وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر ومالك والأوزاعي والشافعي وروي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان أنهما قالا من أسلم على ميراث قبل أن يقسم شارك في الميراث وهو مذهب الحسن وأبي الشعثاء وشبهوا ذلك بالمواريث التي كانت في الجاهلية ما
[ 132 ]
طرأ عليه الإسلام منها قبل القسمة قسم على حكم الإسلام ولم يعتبر وقت الموت وليس هذا عند الأولين كذلك لأن حكم المواريث قد استقر في الشرع على وجوه معلومة وقال الله تعالى ولكم نصف ما ترك أزواجكم امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك لها الميراث بالموت وحكم لها بالنصف وللزوج بالنصف بحدوث الموت من غير شرط القسمة والقسمة إنما تجب فيما قد ملك فلا حظ للقسمة في استحقاق الميراث لأن القسمة تبع للمالك ولما كان ذلك كذلك وجب أن لا يزول ملك الأخت عنه بإسلام الابن كما لا يزول ملكها عنه بعد القسمة وأما مواريث الجاهلية فإنها لم تقع على حكم الشرع فلما طرأ الاسلام حملت على أحكام الشرع إذا لم يكن ما وقع قبل ورود الشرع مستقرا ثابتا فعفى لهم عما قد اقتسموه وحمل ما لم يقسم منها على حكم الشرع كما عفى لهم عن الربا المقبوض وحمل بعد ورود تحريم الربا ما لم يكن مقبوضا على حكم الشرع فأبطل وأوجب عليهم رد رأس المال ومواريث الإسلام قد ثبتت واستقر حكمها ولا يجوز ورود النسخ عليها فلا اعتبار فيها بالقسمة ولا عدمها كما أن عقود الربا لو وقعت في الإسلام بعد تحريم الربا واستقرار حكمه لا يختلف فيه حكم المقبوض منها وغير المقبوض في بطلان الجميع مطلب: في حكم ردة الوارث بعد موت مورثه وأيضا لا خلاف نعلمه بين المسلمين أن من ورث ميراثا فمات قبل القسمة أن نصيبه من الميراث لورثته وكذلك لو ارتد لم يبطل ميراثه الذي استحقه وأنه لا يكون بمنزلة من كان مرتدا وقت الموت فكذلك من أسلم أو أعتق بعد الموت قبل القسمة فلا حظ له في الميراث والله أعلم باب حد الزانيين قال الله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) قال أبو بكر لم يختلف السلف في أن ذلك كان حد الزانية في بدء الإسلام وأنه منسوخ غير ثابت الحكم حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم إلى قوله تعالى سبيلا قال وقال في المطلقات أحمد لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة قال هذه الآيات قبل أن
[ 133 ]
تنزل سورة النور في الجلد نسختها هذه الآية الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة قال والسبيل الذي جعله لهن الجلد والرجم قال فإذا جاءت اليوم بفاحشة مبينة فإنها تخرج وترجم بالحجارة قال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في هذه الآية وفي قوله تعالى واللذان يأتيانها منكم فآذوهما قال كانت المرأة إذا زنت حبست في البيت حتى تموت وكان الرجل إذى زنى أوذي بالتعيير وبالضرب بالنعال قال فنزلت والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ النور: 2 ] مطلب في أن رجم المحصن ثبت بالسنة وإن كانا محصنين رجما بسنة النبي صلى الله عليه وسلم قال فهو سبيلها الذي جعله الله لها يعني قوله تعالى حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا قال أبو بكر فكان حكم الزانية في بدء الإسلام ما أوجب من حدها بالحبس إلى أن يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا ولم يكن عليها في ذلك الوقت شئ غير هذا وليس في الآية فرق بين البكر والثيب فهذا يدل على أنه كان حكما عاما في البكر والثيب وقوله تعالى واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإنه روي عن الحسن وعطاء أن المراد الرجل والمرأة وقال السدي البكرين من الرجال والنساء وروي عن مجاهد أنه أراد الرجلين الزانيين وهذا التأويل الأخير يقال أنه لا يصح لأنه لا معنى للتثنية ههنا إذ كان الوعد والوعيد إنما يجيئان بلفظ الجمع لأنه لكل واحد منهم أو بلفظ الواحد لدلالته على الجنس الشامل لجميعهم وقول الحسن صحيح وتأويل السدي محتمل أيضا فاقتضت الآيتان بمجموعهما أن حد المرأة كان الأذى والحبس جميعا إلى أن تموت وحد الرجل التعيير والضرب بالنعال إذ كانت المرأة مخصوصة في الآية الأولى بالحبس ومذكورة مع الرجل في الآية الثانية بالأذى فاجتمع لها الأمران جميعا ولم يذكر للرجال إلا الأذى فحسب ويحتمل أن تكون الآيتان نزلتا معا فأفردت المرأة بالحبس وجمعا جميعا في الأذى وتكون فائدة إفراد المرأة بالذكر إفرادها بالحبس إلى أن تموت وذلك حكم لا يشاركها فيه الرجل وجمعت مع الرجل في الأذى لاشتراكهما فيه ويحتمل أن يكون إيجاب الحبس للمرأة متقدما للأذى ثم زيد في حدها وأوجب على الرجل الأذى فاجتمع للمرأة الأمران وانفرد الرجل بالأذى دونها فإن كان كذلك فإن الإمساك في البيوت إلى الموت أو السبيل قد كان حدها فإذا ألحق به الأذى صار منسوخا لأن الزيادة في النص بعد استقرار حكمه توجب النسخ إذ كان الحبس في ذلك الوقت جميع حدها ولما وردت الزيادة صار بعض حدها فهذا يوجب أن يكون كون
[ 134 ]
الإمساك حدا منسوخا وجائز أن يكون الأذى حدا لهما جميعا بديا ثم زيد في حد المرأة الحبس إلى الموت أو السبيل الذي يجعله الله لها فيوجب ذلك نسخ الأذى في المرأة أن يكون حدا لأنه صار بعضه بعد نزول الحبس فهذه الوجوه كلها محتملة فإن قيل هل يحتمل أن يكون الحبس منسوخا بإسقاط حكمه والاقتصار على الأذى إذا كان نازل بعده قيل له لا يجوز نسخه على جهة رفع حكمه رأسا إذ ليس في إيجاب الأذى ما ينفي الحبس لجواز اجتماعهما ولكنه يكون نسخه من طريق أنه يصير بعض الحد بعد أن كان جميعه وذلك ضرب من النسخ مطلب: الزيادة في النص بعد استقرار حكمه توجب النسخ وقد قيل في ترتيب الآيتين وجهان أحدهما ما روي عن الحسن أن قوله تعالى يأتيانها منكم فآذوهما نزلت قبل قوله تعالى واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم ثم أمر أن توضع في التلاوة بعده فكأن الأذى حدا لهما جميعا ثم الحبس للمرأة مع الأذى وذلك يبعد من وجه لأن قوله تعالى يأتيانها منكم فآذوهما الهاء التي في قوله تعالى بعد كناية لا بد لها من مظهر متقدم مذكور في الخطاب أو معهود معلوم عند المخاطب وليس في قوله تعالى واللذان يأتيانها منكم يقول من الحال على أن المراد الفاحشة فوجب أن تكون كناية راجعة إلى الفاحشة التي تقدم ذكرها في أول الآية إذا لو لم تكن كناية عنها لم يستقم الكلام بنفسه في إيجاب الفائدة وإعلام المراد وليس ذلك بمنزلة قوله تعالى ما ترك على ظهرها من دابة وقوله تعالى إنا أنزلناه في ليلة القدر لأن من مفهوم ذكر الإنزال أنه القرآن وفي مفهوم قوله تعالى ترك على ظهرها من دابة) [ فاطر: أنها الأرض فاكتفى بدلالة الحال وعلم المخاطب بالمراد المكنى عنه فالذي يقتضيه ظاهر الخطاب أن يكون ترتيب معاني الآيتين على حسب ترتيب اللفظ فإما أن تكونا نزلتا معا وإما أن يكون الأذى نازلا بعد الحبس إن كان المراد بالأذى من أريد بالحبس من النساء والوجه الثاني ما روي عن السدي أن قوله تعالى (واللذان يأتيانها منكم إنما كان حكما في البكرين خاصة والأولى في الثيبات دون الأبكار إلا أن هذا قول يوجب تخصيص اللفظ بغير دلالة وذلك غير سائغ لأحد مع إمكان استعمال اللفظين على حقيقة مقتضاهما وعلى أي وجه تصرفت وجوه الاحتمال في حكم الآيتين وترتيبهما الذي فإن الأمة لم تختلف في نسخ هذين الحكمين عن الزانيين وقد اختلف السلف في معنى السبيل المذكور في هذه الآية فروي عن ابن عباس أن السبيل الذي جعله الجلد لغير المحصن والرجم للمحصن وعن قتادة مثل
[ 135 ]
ذلك وروي عن مجاهد في بعض الروايات لأن أو يجعل الله لهن سبيلا أو يضعن ما في بطونهن وهذا لا معنى له لأن ا لحكم كان عاما في الحامل والحائل فالواجب أن يكون السبيل مذكورا لهن جميعا مطلب: دلالة تكفي عن ذكر مرجع الضمير واختلف أيضا فيما نسخ هذين الحكمين فقال قائلون نسخ بقوله تعالى والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة وقد كان قوله تعالى (واللذان يأتيانها منكم في البكرين فنسخ ذلك عنهما بالجلد المذكور في هذه الآية وبقي حكم الثيب من النساء الحبس فنسخ بالرجم وقال آخرون نسخ بحديث عبادة بن الصامت وهو ما حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا أبو النصر عن شعبة عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر والثيب بالثيب البكر تجلد وتنفى والثيب تجلد وترجم وهذا هو صحيح وذلك لأن قوله خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا يوجب أن يكون بيانا للسبيل المذكور في الآية ومعلوم أنه لم يكن بين قول النبي صلى الله عليه وسلم وبين الحبس والأذى واسطة حكم وأن آية الجلد التي في سورة النور لم تكن نزلت حينئذ لأنها لو كانت نزلت كان السبيل متقدما لقوله خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا ولما صح أن يقول ذلك فثبت بذلك أن الموجب لنسخ الحبس والأذى وقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصمت وأن آية الجلد نزلت بعده وفي ذلك دليل على نسخ القرآن بالسنة إذ نسخ بقوله خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا ما أوجب الله من الحبس والأذى بنص التنزيل فإن قيل فقوله تعالى واللذان يأتيانها منكم وما ذكر في الآيتين من الحبس والأذى كان في البكرين دون الثيبين قيل له لم يختلف السلف في أن حكم المرأة الثيب كان الحبس وإنما قال السدي إن الأذى كان في البكرين خاصة وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن السبيل المذكور في آية الحبس وذلك لا محالة في الثيب فأوجب أن يكون منسوخا بقوله الثيب بالثيب الجلد والرجم فلم يخل الحبس من أن يكون منسوخا في جميع الأحوال بغير القرآن وهي الأخبار التي فيها إيجاب رجم المحصن فمنها حديث عبادة الذي ذكرنا حديث عبد الله وعائشة وعثمان حين كان محصورا فاستشهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير نفس وقصة ماعز والغامدية ورجم النبي صلى الله عليه وسلم إياهما قد نقلته الأمة لا يتمارون فيه
[ 136 ]
مطلب: في إنكار الخوارج الرجم فإن قيل هذه الخوارج بأسرها تنكر الرجم ولو كان ذلك منقولا من جهة الاستفاضة الموجبة للعلم لما جهلته الخوارج قيل له إن سبيل العلم بمخبر هذه الأخبار السماع من ناقليها وتعرفه من جهتهم والخوارج لم تجالس فقهاء المسلمين ونقلة الأخبار منهم وانفردوا عنهم غير قابلين لأخبارهم فلذلك شكوا فيه ولم يثبتوه وليس يمتنع أن يكون كثير من أوائلهم قد عرفوا ذلك من جهة الاستفاضة ثم جحدوه محاملة وقد منهم على ما سبقوا إلى اعتقاده من رد أخبار من ليس على مقالتهم وقلدهم الأتباع ولم يسمعوا من غيرهم فلم يقع لهم العلم به أو الذين عرفوه كانوا عددا يسيرا يجوز على مثلهم كتمان ما عرفوه وجحدوه ولم يكونوا صحابة فيكونوا قد عرفوه من جهة المعاينة أو بكثرة السماع من المعاينين له فلما خلوا من ذلك لم يعرفوه ألا ترى أن فرائض صدقات المواشي منقولة من جهة النقل المستفيض الموجب للعلم ولا يعرفها إلا أحد رجلين إما فقيه قد سمعها فثبت عنده العلم بها من جهة الناقلين لها وإما رجل صاحب مواش تكثر بلواه بوجوبها فيتعرفها ليعلم ما يجب عليه فيها ومثله أيضا إذا كثر سماعه وقع له العلم بها وإن لم يسمعها إلا من جهة الآحاد لم يعلمها وهذا سبيل الخوارج في جحودهم الرجم وتحريم تزويج المرأة على عمتها وخالتها وما جرى مجرى ذلك مما اختص أهل العدل بنقله دون الخوارج والبغاة وقد تضمنت هاتان الآيتان أحكاما منها استشهاد أربعة من الشهداء على الزنا ومنها الحبس للمرأة والأذى للرجل والمرأة جميعا ومنها سقوط الأذى والتعبير عنهما بالتوبة لقوله تعالى فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما وهذه التوبة إنما كانت مؤثرة في إسقاط الأذى دون الحبس وأما الحبس فكان موقوفا على ورود السبيل وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك السبيل وهو الجلد والرجم ونسخ جميع ما ذكر في الآية إلا ما ذكر من استشهاد أربعة شهود فإن اعتبار عدد الشهود باق في الحد الذي نسخ به الحدان الأولان وهو الجلد والرجم وقد بين الله ذلك في قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة [ النور: 4 ]. وقال تعالى جاؤا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون فلم ينسخ اعتبار العدد ولم ينسخ الاستشهاد أيضا وهذا
[ 137 ]
يوجب جواز إحضار الشهود والنظر إلى الزانيين لإقامة الحد عليها لأن الله تعالى أمر بالاستشهاد على الزنا وذلك لا يكون إلا بتعمد النظر فدل ذلك على أن تعمد النظر إلى الزانيين لإقامة الحد عليهما لا يسقط شهادته وكذلك فعل أبو بكر مع شبل بن معبد ونافع بن الحارث وزياد في قصة المغيرة بن شعبة وذلك موافق لظاهر الآية وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن الآية روى الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته من ولي نفسها إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاؤا زوجوها وإن شاؤا لم يزوجوها فنزلت هذه الآية في ذلك وقال الحسن ومجاهد كان الرجل إذا مات وترك امرأته قال وليه ورثت امرأته كما ووثت علي ماله فإن شاء تزوجها بالصداق الأول وإن شاء زوجها وأخذ صداقها قال مجاهد وذلك إذا لم يكن ابنها قال أبو مجلز فكان بالميراث أولى من ولي نفسها وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال كانوا في أول الإسلام إذا مات الرجل يقوم أقرب الناس منه فيلقي على امرأته ثوبا فيرث نكاحها فمات أبو عامر زوج كبشة بنت معن فجاء ابن عامر من غيرهما وألقى عليها ثوبا فلم يقربها ولم ينفق عليها فشكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن تؤتوهن الصداق الأول وقال الزهري كان يحبسها من غير حاجة إليها حتى تموت فيرثها فنهوا عن ذلك وقوله تعالى تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن قال ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك هو أمر للأزواج تخلية سبيلها إذا لم يكن له فيها حاجة ولا يمسكها إضرارا بها حتى تفتدي ببعض مالها وقال الحسن هو نهي لولي الزوج الميت أن يمنعها من التزويج على ما كان عليه أمر الجاهلية وقال مجاهد هو نهي لوليها أن يعضلها قال أبو بكر الأظهر هو التأويل تأويل ابن عباس لأن قوله تعالى لتذهبوا بعض ما آتيتموهن وما ذكر بعده يدل عليه لأن قوله لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن يريد به المهر حتى تفتدي كأنه يعضلها أو يسئ إليها لتفتدي منه ببعض مهرها وقوله تعالى إلا أن يأتين بفاحشة مبينة قال الحسن وأبو قلابة والسدي هو الزنا وإنه إنما تحل له الفدية إذا اطلع منها على ريبة وقال ابن عباس والضحاك وقتادة هي النشوز فإذا نشزت حل له أن يأخذ منها الفدية وقد بينا في سورة البقرة أمر الخلع وأحكامه
[ 138 ]
مطلب: فيما تضمنه قوله تعالى: (وعاشرون بالمعروف) من حقوق المرأة على الزوج وقوله تعالى وعاشروهن بالمعروف أمر للأزواج بعشرة نسائهم بالمعروف ومن المعروف أن يوفيها حقها من المهر والنفقة والقسم وترك أذاها بالكلام الغليظ والإعراض عنها والميل إلى غيرها وترك العبوس والقطوب في وجهها بغير ذنب جرى مجرى ذلك نظير قوله تعالى بمعروف أو تسريح بإحسان البقرة: 129 ]. مطلب: في كراهة الطلاق، وقوله عليه السلام: " أبغض الحلال عند الله تعالى الطلاق " وقوله تعالى فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) يدل على أنه مندوب إلى إمساكها مع كراهته لها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوافق معنى ذلك حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا كثير بن عبيد قال حدثنا محمد بن خالد عن معروف بن واصل عن محارب بن دثار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن خالد بن يزيد النيلي قال حدثنا مهلب بن العلاء قال حدثنا شعيب بن بيان عن عمران القطان عن قتادة عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجوا ولا تطلقوا فإن الله لا يحب الذواقين والذواقات فهذا القول من النبي صلى الله عليه وسلم موافق لما دلت عليه الآية من كراهة الطلاق والندب إلى الإمساك بالمعروف مع كراهته لها وأخبر الله تعالى أن الخيرة ربما كانت لنا في الصبر على ما نكره بقوله تعالى (فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا وهو كقوله تعالى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم [ البقرة: 116 ] وقوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا الآية قد اقتضت هذه الآية إيجاب المهر لها تمليكا صحيحا ومنع الزوج أن يأخذ منها شيئا مما أعطاها وأخبر أن ذلك سالم لها سواء استبدل بها أو أمسكها وأنه محظور عليه أخذ شئ منه إلا بما أباح الله تعالى به أخذ مال الغير في قوله تعالى أن تكون تجارة عن تراض منكم حتى يقتضي حظر أخذ شئ منه بعد الخلوة فيحتج به في إيجاب كمال المهر إذا طلق بعد الخلوة لعموم اللفظ في حظر الأخذ في كل حال إلا ما خصه الدليل وقد خص قوله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إذا طلق قبل الخلوة في سقوط نصف المهر
[ 139 ]
لأنه لا خلاف أن ذلك مراد إذا طلق قبل الخلوة وقد اختلف في الخلوة هل هي المسيس المراد بالآية أو المسيس الجماع واللفظ محتمل للأمرين لأن عليا وعمر وغيرهما من الصحابة قد تأولوه عليها وتأوله عبد الله بن مسعود على الجماع فلا يخص عموم قوله تعالى تأخذوا منه شيئا بالاحتمال ملطب: فيما تضمنه قوله تعالى: (وآتيتم إحداهن قنطارا) من الاحكام وقوله تعالى وآتيتم إحداهم قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا يدل على أن من وهب محله مراته هبة لا يجوز له الرجوع فيها لأنها مما آتاها وعموم اللفظ قد حظر أخذ شئ مما آتاها من غير فرق بين المهر وغيره ويحتج فيمن خلع امرأته على مال وقد أعطاها صداقها أنه لا يرجع عليها بشئ من الصداق الذي أعطاها عينا كان أو عرضا ما قاله أبو حنيفة في ذلك ويحتج به فيمن أسلف امرأته نفقتها لمدة ثم ماتت قبل المدة أنه لا يرجع في ميراثها بشئ مما أعطاها لعموم اللفظ لأنه جائز أن يريد أن يتزوج بأخرى بعد موتها مستبدلا بها مكان الأولى فظاهر اللفظ قد تناول هذه الحال فإن قيل لما عقب ذلك قوله تعالى وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض تعالى على أن المراد بأول الخطاب فيما أعطاها هو المهر دون غيره إذ كان هذا المعنى إنما يختص بالمهر دون ما سواه قيل له ليس يمتنع أن يكون أول الخطاب عموما في جميع ما انتظمه الاسم ويكون المعطوف عليه بحكم خاص فيه ولا يوجب ذلك خصوص اللفظ الأول وقد بينا نظائر ذلك في مواضع وهذه الآية أيضا تدل على أنه إذا دخل بها ثم وقعت الفرقة من قبلها بمعصية أو غير معصية أن مهرها واجب لا يبطله وقوع الفرقة من قبلها وفائدة تخصيص الله تعالى حال الاستبدال بالنهي عن أخذ شئ مما أعطاها مع شمول الحظر لسائر الأحوال إزالة توهم من يظن أن ذلك جائز عند حصول البضع لها وسقوط حق الزوج عنه بطلاقها وأن الثانية قد قامت مقام الأولى فتكون أولى بالمهر الذي أعطاها فنص على حظر الأخذ في هذه الحال ودل به على عمومه في سائر الأحوال إذا لم يبح له أخذ شئ مما أعطاها في الحال التي يسقط حقه عن بضعها فهو أولى أن لا يأخذ منها شيئا مع بقاء حقه في استباحة بضعها وكونه أملك بها من نفسها وأكد الله تعالى حظر أخذ شئ مما أعطى بأن جعله ظلما كالبهتان وهو الكذب الذي يباهت به مخبره ويكابر به من يخاطبه وهذا أقبح ما يكون من الكذب وأفحشه فشبه أخذ ما أعطاها بغير حق بالبهتان في قبحه فسماه بهتانا وإثما قوله عز وجل وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا)
[ 140 ]
مطلب: في قول الفراء أن الافضاء هو الخلوة قال أبو بكر ذكر الفراء أن الإفضاء هو الخلوة وإن لم يقع دخول وقول الفراء حجة فيما يحكيه من اللغة فإذا كان اسم الإفضاء يقع على الخلوة فقد منعت الآية أن يأخذ منها شيئا بعد الخلوة والطلاق لأن قوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج قد أفاد الفرقة والطلاق والإفضاء مأخوذ من الفضاء وهو المكان الذي ليس فيه بناء حاجز عن إدراك ما فيه فسميت الخلوة إفضاء لزوال المانع من الوطء والدخول ومن الناس من يقول أن الفضاء السعة وأفضى إذا صار المتسع مما يقصده وجائز على هذا الوضع أيضا أن تسمى الخلوة إفضاء لوصوله بها إلى مكان الوطء واتساع ذلك بالخلوة وقد كان يضيق عليه الوصول إليها قبل الخلوة فسميت الخلوة إفضاء لهذا المعنى فأخبر تعالى أنه غير جائز له أخذ شئ مما أعطاها مع إفضاء بعضهم إلى بعض وهو الوصول إلى مكان الوطء وبذلها ذلك له وتمكينها إياه من الوصول إليها فظاهر هذه الآية تمنع الزوج أخذ شئ مما أعطاها إذا كان النشوز من قبله لأن قوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج على أن الزوج هو المريد للفرقة دونها ولذلك قال أصحابنا إن النشوز إذا كان من قبله يكره له أن يأخذ شيئا من مهرها وإذا كان من قبلها فجائز له ذلك لقوله تعالى ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة فقيل عن ابن عباس إن الفاحشة هي النشوز وقال غيره هي الزنا ولقوله تعالى خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به [ البقرة: 229 ] ومن الناس من يقول إنها منسوخة بقوله وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وذلك غلط لأن قوله تعالى وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج أفاد حال كون النشوز من قبله وقوله تعالى إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله [ البقرة: 229 ] إنما فيه ذكر حال أخرى غير الأولى وهي الحال التي يكون النشوز منها وافتدت فيها المرأة منه فهذه حال غير تلك وكل واحد من الحالين مخصوصة بحكم دون الأخرى مطلب: في قوله تعالى: (وأخذن منكم ميثاقا غليظا) وقوله تعالى وأخذن منكم ميثاقا غليظا قال الحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي هو قوله بمعروف أو تسريح بإحسان [ البقرة: 299 ]. قال قتادة وكان يقال للناكح في صدر الإسلام الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان وقال مجاهد كلمة النكاح التي يستحل بها الفرج وقال غيره هو قول
[ 141 ]
النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله تعالى والله أعلم بالصواب باب ما يحرم من النساء قال الله تعالى تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء قال أبو بكر أخبرنا أبو عمر غلام ثعلب قال الذي حصلناه عن ثعلب عن الكوفيين والمبرد عن البصريين أن النكاح في أصل اللغة هو اسم للجمع بين الشيئين تقول العرب أنكحنا الفرا فسنرى هو مثل ضربوه للأمر يتشاورون فيه ويجتمعون عليه ثم ينظر عماذا يصدرون فيه معناه جمعنا بين الحمار وأتانه مطلب: في النكاح يطلق على الوطء حقيقة وعلى العقد مجازا قال أبو بكر إذا كان اسم النكاح في حقيقة اللغة موضوعا للجمع بين الشيئين ثم وجدناهم قد سموا الوطء نفسه نكاحا من غير عقد كما قال الأعشى * ومنكوحة فإن غير ممهورة * عمر وأخرى يقال له فادها * يعني المسبية الموطوأه وإن بغير مهر ولا عقد وقال الآخر * ومن أيم قد أنكحتها رماحنا * كما وأخرى على عم وخال تلهف * وهذا يعني المسبية أيضا ومنه قول الآخر أيضا * فنكحن وسلم أبكارا وهن بأمة * عنه أعجلنهن إن مظنة الأعذار * وهز يعني الوطء أيضا ولا يمتنع أحد من إطلاق اسم النكاح على الوطء وقد تناول الاسم العقد أيضا قال الله تعالى إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن والمراد به العقد دون الوطء وقال النبي صلى الله عليه وسلم أنا من نكاح ولست من سفاح فدل بذلك على معنيين أحدهما أن اسم النكاح يقع على العقد والثاني دلالته على أنه قد يتناول الوطء من غير عقد لولا ذلك لاكتفى بقوله أنا من نكاح إذ كان السفاح لا يتناول اسم النكاح بحال فدل قوله ولست من سفاح بعد
[ 142 ]
تقديم ذكر النكاح أن النكاح يتناول له الأمرين فبين صلى الله عليه وسلم أنه من العقد الحلال لا من النكاح الذي هو سفاح ولما ثبت بما ذكرنا أن الاسم ينتظم الأمرين جميعا من العقد والوطء وثبت بما ذكرنا من حكم هذا الاسم في حقيقة اللغة وانه اسم للجمع بين الشيئين والجمع إنما يكون بالوطء دون العقد إذا العقد لا يقع به جمع لأنه قول منهما جميعا لا يقتضي جمعا في الحقيقة ثبت أن اسم النكاح حقيقة للوطء مجاز للعقد وأن العقد إنما سمي نكاحا لأنه سبب يتوصل به إلى الوطء تسمية الشئ باسم غير ه إذا كان منه بسبب أو مجاورا له مثل الشعر الذي يولد الصبي وهو على رأسه يسمى عقيقة ثم سميت الشاة التي تذبح عنه عند حلق ذلك الشعر عقيقة وكالراوية فيه التي هي اسم للجمل الذي يحمل المزادة ثم سميت المزادة راوية لاتصالها به وقربها منه وقال أبو النجم تمشي من الردة مشي الحفل * صلى مشي الروايا بالمزاد الأثقل * ونحوه الغائط هو اسم للمكان المطمئن من الأرض ويسمى به ما يخرج من الإنسان مجازا أنهم كانوا يقصدون الغائط لقضاء الحاجة ونظائر ذلك كثيرة فكذلك النكاح اسم للوطء حقيقة على مقتضى موضوعه في أصل اللغة ويسمى العقد باسمه مجازا لأنه يتوصل به إليه وهو سببه ويدل على أنه سمي باسم العقد مجازا أن سائر العقود من البياعات والهبات لا يسمى منها شئ نكاح وإن كان قد يتوصل به إلى استباحة وطء الجارية إذ لم تختص هذه العقود بإباحة الوطء لأن هذه العقود تصح فيمن يحظر عليه وطؤها كأخته من الرضاعة ومن النسب وأم امرأته ونحوها وسمي العقد المختص بإباحة الوطء نكاحا لأن من لا يحل له وطؤها لا يصح نكاحها فثبت بذلك أن اسم النكاح حقيقة للوطء مجاز في العقد فوجب إذا كان هذا على ما وصفنا أن يحمل قوله تعالى تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء على الوطء فاقتضى ذلك تحريم من وطئها أبوه من النساء عليه لأنه لما ثبت أن النكاح اسم للوطء لم يختص ذلك بالمباح منه دون المحظور كالضرب والقتل والوطء نفسه لا يختص عند الإطلاق بالمباح منه دون المحظور بل هو على الأمرين حتى تقوم الدلالة على تخصيصه وكان أبو الحسن يقول إن قوله تعالى ما نكح أباؤكم وقال مراده الوطء دون العقد من حيث اللفظ حقيقة فيه ولم يرد به العقد لاستحالة كون لفظ واحد مجازا حقيقة في حال واحدة وإنما أوجبنا التحريم بالعقد بغير الآية
[ 143 ]
وقد اختلف أهل العلم في إيجاب تحريم الأم والبنت بوطء الزنا فروى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن عمران بن حصين في رجل زنى بأم امرأته حرمت عليه امرأته وهو قول الحسن وقتادة وكذلك قول سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وسالم بن عبد الله ومجاهد وعطاء وإبراهيم وعامر وحماد وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر والثوري والأوزاعي ولم يفرقوا بين وطء الأم قبل التزوج أو بعده في إيجاب تحريم البنت وروى عكرمة عن ابن عباس في الرجل يزني بأم امرأته بعد ما يدخل بها قال تخطى حر متين ولم تحرم عليه امرأته وروى عنه أنه قال لا يحرم الحرام الحلال وذكر الأوزاعي عن عطاء أنه كان يتأول قول ابن عباس لا يحرم حرام حلالا على أنه الرجل يزني بالمرأة ولا يحرمها عليه زناه وهذا يدل على أن قول ابن عباس الذي رواه عكرمة في أن الزنا بالأم لا يحرم البنت لم يكن عند عطاء كذلك لأنه لو كان ثابتا عنده لما احتاج إلى تأويل قوله لا يحرم الحرام الحلال وقال الزهري وربيعة ومالك والليث والشافعي لا تحرم أمها ولا بنتها بالزنا وقال عثمان البتني وهو في الرجل يزني بأم امرأته قال حرام لا يحرم حلالا ولكنه إن زنى بالأم قبل أن يتزوج البنت أو زنى بالبنت قبل أن يتزوج الأم فقد حرمت ففرق بين الزنا بعد التزويج وقبله واختلف الفقهاء أيضا في الرجل يلوط بالرجل هل تحرم عليه أمه وابنته فقال أصحابنا لا تحرم عليه وقال عبد الله بن الحسين هو مثل وطء المرأة بزنا في تحريم الأم والبنت وقال من حرم بهذا من النساء حرم من الرجال وروى إبراهيم بن إسحاق قال سألت سفيان الثوري عن الرجل يلعب بالغلام أيتزوج أمه قال لا وقال كان الحسن بن صالح يكره أن يتزوج الرجل بامرأة قد لعب بابنها وقال الأوزاعي في غلامين يلوط أحدهما بالآخر فتولد للمفعول به جارية قاللا يتزوجها الفاعل قال أبو بكر قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء قد أوجب تحريم نكاح امرأة قد وطئها أبوه بزنا أو غيره إذ كان الاسم يتناوله حقيقة فوجب حمله عليها وإذا ثبت ذلك في وطء الأب ثبت مثله في وطء ام المرأة أو ابنتها في إيجاب تحريم المرأة لأن أحدا لم يفرق بينها ويدل على ذلك قوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن والدخول بها اسم للوطء وهو عام في جميع ضروب الوطء من مباح أو محظور ونكاح أو سفاح فوجب تحريم البنت بوطء كان منه قبل تزويج الأم لقوله تعالى الذي دخلتم بهن ويدل على أن الدخول بها
[ 144 ]
اسم للوطء وأنه مراد بالآية وأن اسم الدخول لا يختص بوطء نكاح دون غيره أنه لو وطئ الأم بملك اليمين حرمت عليه البنت تحريما مؤبدا بحكم الآية وكذلك لو وطئها بنكاح فاسد فثبت أن الدخول لما كان اسما للوطء لم يختص فيما علق به من الحكم بوطء بنكاح دون ما سواه من سائر ضروب الوطء ويدل عليه من جهة النظر أن الوطء آكد في إيجاب التحريم من العقد لأنا لم نجد وطأ مباحا إلا وهو موجب للتحريم وقد وجدنا عقدا صحيحا لا يوجب التحريم وهو العقد على الأم لا يوجب تحريم البنت ولو وطئها حرمت فعلمنا أن وجود الوطء علة لإيجاب التحريم فكيفما وجد ينبغي أن يحرم مباحا كان الوطء أو محظورا لوجود الوطء لأن التحريم لم يخرجه من أن يكون وطأ صحيحا فلما اشتركا في هذا المعنى وجب ان يقع به تحريم وأيضا لا خلاف أن الوطء بشبهة وبملك اليمين يحرمان مع عدم النكاح وهذا يدل على أن الوطء يوجب التحريم على أي وجه وقع فوجب أن يكون وطء الزنا محرما لوجود الوطء الصحيح فإن قيل إن الوطء بملك اليمين وبشبهة إنما تعلق بهما التحريم لما يتعلق بهما من ثبوت ا لنسب والزنا لا يثبت به النسب فلا يتعلق به حكم التحريم قيل له ليس لثبوت النسب تأثير في ذلك لأن الصغير الذي لا يجامع مثله لو جامع امرأته حرمت عليه أمها وبنتها ولم يتعلق بوطئه ثبوت النسب ومن عقد على امرأة نكاحا تعلق بعقد النكاح ثبوت النسب قبل الوطء حيتى لو جاءت بولد قبل الدخول وبعد العقد بستة أشهر لزمه ولم يتعلق بالعقد تحريم البنت فإذ كنا وجدنا الوطء مع عدم ثبوت النسب به يوجب التحريم والعقد مع تعلق ثبوت النسب به لا يوجب التحريم علمنا أنه لا حظ لثبوت النسب في ذلك وإن الذي يجب اعتباره هو الوطء لا غير وأيضا لا خلاف بييننا وبينهم أنه لو لمس أمته لشهوة حرمت عليه أمها وابنتها وليس للمس حظ في ثبوت النسب فدل على أن حكم التحريم ليس بموقوف على النسب وأنه جائز ثبوته مع ثبوت النسب وجائز ثبوته أيضا مع عدم ثبوت النسب ويدل على صحة قول أصحابنا أنا وجدنا الله تعالى قد غلظ أمر الزنا بإيجاب الرجم تارة وبأيجاب صلى الله عليه وسلم الجلد أخرى وأوعد عليه بالنار ومنع إلحاق النسب به وذلك كله تغليط لحكمه فوجب أن يكون بإيجاب التحريم أولى إذ كان إيجاب التحريم ضربا من التغليظ ألا ترى أن الله تعالى لما حكم ببطلان حج من جامع امرأته قبل الوقوف بعرفة كان الزاني أولى ببطلان الحج لأن بطلان الحج تغليظ لتحريم الجماع فيه كذلك لما حكم الله بإيجاب تحريم الأم والبنت بالوطء الحلال وجب أن يكون الزنا أولى بإيجاب التحريم تغليظا لحكمه
[ 145 ]
وقد زعم الشافعي أن الله تعالى لما أوجب الكفارة على قاتل الخطأ كان قاتل العمد أولى إذا كان حكم العمد أغلظ من حكم الخطأ ألا ترى أن الوطء لم يختلف حكمه أن يكون بزنا أو غيره فيما تعلق به من فساد الحج والصوم ووجوب الغسل فكذلك ينبغي ان يستويا في حكم التحريم فإن قيل الوطء المباح يتعلق به حكم في إيجاب المهر ولا يتعلق ذلك بالزنا قيل له قد تعلق بالزنا من إيجاب الرجم أو الجلد ما هو أغلظ من إيجاب المال وعلى أن المال والحد يتعاقبان على الوطء لأنه متى وجب الحد لم يجب المهر ومتى وجب المهر لم يجب الحد فكل واحد منهما يخلف الآخر فإذا وجب الحد فذلك قائم مقام المال فيما تعلق بالوطء من الحكم فلا فرق بينهما من هذا الوجه فإن احتج محتج بما حدثنا عبد الباقي قال حدثنا محمد بن الليث الجزري قال حدثنا إسحاق بن بهلول قال حدثنا عبد الله بن نافع المدني قال حدثنا المغيرة بن إسماعيل بن أيوب ابن سلمة الزهري عن ابن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يتبع المرأة حراما أينكح أمها أو يتبع الأم حراما أينكح ابنتها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان بنكاح وبما رواه إسحاق بن محمد الفروي عن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يحرم الحرام الحلال وروى عمر بن حفص عن عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفسد الحرام الحلال فإن هذه الأخبار باطلة عند أهل المعرفة ورواتها غير مرضيين أما المغيرة بن إسماعيل فمجهول لا يعرف لا يجوز ثبوت شريعة بروايته لا سيما في اعتراضه على ظاهر القرآن وإسحاق بن محمد الفروي مطعون في روايته وكذلك عمر بن حفص ولو ثبت لم يدل على قول المخالف لأن الحديث الأول إنما ذكر فيه الرجل ويتبع المرأة وليس فيه ذكر الوطء فكان قوله صلى الله عليه وسلم لا يحرم إلا ما كان بنكاح جوابا عما سأله من اتباع المرأة وذلك إنما يكون بأن يتبعها نفسه فيكون منه نظرا إليها مراودتها على الوطء وليس فيه إثبات الوطء فأخبر صلى الله عليه وسلم أن مثل ذلك لا يوجب تحريما وأنه لا يقع بمثله التحريم إلا أن يكون بينهما عقد نكاح وليس فيه للوطء ذكر وقوله لا يحرم الحرام الحلال إنما هو فيما سئل عنه من اتباع المرأة من غير وطء وأما حديث ابن عمر وقوله لا يحرم الحرام الحلال فجائز أن يكون في هذه القصة بعينها إن صحت فكان جوابا لما سئل عنه من النظر والمراودة من غير جماع وتكون فائدته إزالة توهم من يظن أن النظر بانفراده يحرم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال زنا العينين النظر وزنا الرجلين المشي
[ 146 ]
فكان جائز أن يظن ظان أن النظر بانفراده يحرم كما يحرم الوطء لتسمية النبي صلى الله عليه وسلم إياه زنا فأخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك لا يحرم وإن التحريم إذا لم تكن ملامسة إنما يتعلق بالعقد وإن لم يكن مسيس وإذا احتمل هذا الخبر ما وصفنا زال الاعتراض به وعلى أنهم متفقون أن التحريم غير مقصور على النكاح ولا على الوطء المباح لأنه لا خلاف أن من وطئ أمته حائضا أن هذا وطء حرام في غير نكاح وأنه يوجب التحريم فبطل أن يكون حكم التحريم مقصورا على النكاح ولا على وطء مباح وكذلك لو وطئ جارية بينه وبين غيره أو جاريته وهي مجوسية كان واطئا وطأ حراما في غير نكاح موجب للتحريم وهذا يدل على أن الحديث إن ثبت فليس بعموم في نفي إيجاب التحريم بوطء حرام وأيضا قد حرم الله تعالى امرأة المظاهر عليه بالظهار وقد سماه منكرا من القول وزورا ولم يكن هذا القول محرما مانعا من وقوع تحريم الوطء به وأيضا فإن قوله الحرام لا يحرم الحلال لا يصح الاحتجاج به لوروده مطلقا من وجه صحيح غير متعلق بسبب من وجهين أحدهما أن الحرام والحلال إنما هو حكم الله تعالى بالتحريم والتحليل وقد علمنا حقيقة أن حكم الله تعالى بالتحريم في شئ وبالتحليل إذا في غيره ليس يتعلق به حكم آخر في إيجاب تحريم أو تحليل إلا بدلالة فهذا اللفظ إذا حمل على حقيقته لم يكن له تعلق بمسألتنا لأنا كذلك نقول أن حكم الله تعالى بالتحريم لا يوجب تحريم مباح بنفس ورود الحكم إلا أن يقول الدليل على إيجاب تحريم غيره من حيث حرم هو وفائدته حينئذ أن ما قد حكم الله تعالى بتحليله نصا فهو مقر على ما حكم به من تحليله وإذا حكم بتحريم شئ آخر لم يجز الاعتراض على المحكوم بتحليله بديا بتحريم غيره من طريق القياس فمنع تحريم المباح بالقياس ودل ذلك على بطلان قول من يجيز النسخ بالقياس هذا الذي تقتضيه حقيقة اللفظ إن صح فهذا أحد الوجهين اللذين ذكرنا والوجه الآخر أن يكون المراد بقوله الحرام لا يحرم الحلال أن فعل الحرام لا يحرم الحلال فإن كان هذا أراد فلا محالة أن في اللفظ ضميرا يجب اعتباره دون اعتبار حقيقة معنى اللفظ فلا يصح له الاحتجاج به من وجهين أحدهما أن الضمير ليس بمذكور يعتبر عمومه فيسقط الاحتجاج بعمومه إذ الضمير ليس بمذكور حتى يكون لفظ عموم فيما تحته من المسميات فلا يصح لأحد الاحتجاج بعموم ضمير غير مذكور والوجه الآخر أنه لا يصح اعتبار العموم فيه من قبل أنه لا يصح اعتقاد العموم في مثله لاتفاق المسلمين على إيجاب تحريم الحرام الحلال وهو الوطء بنكاح فاسد ووطء الأمة الحائض والطلاق الثلاث في الحيض والظهار والخمر إذا خالطت الماء والردة تبطل النكاح وتحرمها على الزوج وغير ذلك من الأفعال المحرمة للحلال فقوله صلى الله عليه وسلم الحرام لا يحرم الحلال لو ورد بلفظ عموم لما صح اعتقاد العموم فيه وكان مفهوما مع وروده
[ 147 ]
أنه أراد بعض الأفعال المحرمة لا يحرم الحلال فيحتاج إلى دلالة في إثبات حكمه كسائر الألفاظ المجملة وأيضا لو نص النبي صلى الله عليه وسلم على ما ادعيت من ضميره فقال إن فعل الحرام لا يحرم الحلال لما دل على ما ذكرت لأنا كذلك نقول إن فعل الحرام لا يحرم الحلال فيكون ذلك محمولا على حقيقة ولا دلالة فيه أن الله لا يحرم الحلال عند وقوع فعل حرام فإن قيل معناه أن الله لا يحرم الحلال يفعل الحرام قيل له فإذا قوله الحرام لا يحرم الحلال إذا كان المراد به ما ذكرت مجاز ليس بحقيقة فيحتاج إلى دلالة في إثبات حكمه إذ لا يجوز استعمال المجاز إلا عند قيام الدلالة عليه مطلب: في مناظرة جرت بين الامام الشافعي مع بعض الناس في قوله: إن الحرام لا يحرم الحلال وفيما انتقده المصنف من أجوبة الامام الشافعي وذكر الشافعي أن مناظرة جرت بينه وبين بعض الناس فيها أعجوبة لمن تأملها قال الشافعي قال لي قائل لم قلت إن الحرام لا يحرم الحلال قلت قال الله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء أبنائكم الذين من أصلابكم) وقال: (وأمهات نسائكم الى قوله اللاتي دخلتم بهن أفلست تجد التنزيل إنما يحرم ما سمى بالنكاح أو الدخول والنكاح قال بلى قال قلت أفيجوز أن يكون الله حرم بالحلال شيئا وحرمه بالحرام والحرام ضد الحلال والنكاح مندوب إليه مأمور به وحرم الزنا فقال تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [ الاسراء: 32 ] ؟. قال أبو بكر تلا الشافعي آية التحريم بالنكاح والدخول وآية تحريم الزنا وهذان الحكمان غير مختلف فيهما أعني إباحة النكاح والدخول وتحريم الزنا وليس في ذلك دلالة على موضع الخلاف في المسألة لأن إباحة النكاح والدخول وإيجاب التحريم بهما ليس فيه أن التحريم لا يقع بغيرهما كما لم ينف إيجاب التحريم بالوطء بملك اليمين وتحريم الله تعالى للزنا لا يفيد أن التحريم لا يقع إلا به فإذا ليس في ظاهر تلاوة الآيتين نفي لتحريم النكاح بوطء الزنا لأن آية الزنا إنما فيها تحريم الزنا وليس تحريم الزنا عبارة عن نفي إيجابه لتحريم النكاح ولا في إيجاب التحريم بالنكاح والدخول نفي إيجابه بغيرهما فإذا لا دلالة فيما تلاه من الآيتين على موضع الخلاف ولا جوابا للسائل الذي سأله عن الدلالة على صحة قوله ثم قال الحرام ضد الحلال فلما قال له السائل فرق بينهما قال قلت قد فرق الله بينهما لأن الله ندب إلى النكاح وحرم الزنا فجعل فرق الله بينهما في التحليل والتحريم دليلا على السائل والسائل لم يشكل عليه إباحة النكاح وتحريم الزنا وإنما
[ 148 ]
سأله عن وجه الدلالة من الآية على ما ذكر فلم يبين وجهها واشتغل بأن هذا محرم وهذا حلال فإن كان هذا السائل من عمى القلب بالمحل الذي لم يعرف بين النكاح وبين الزنا فرقا من وجه من الوجوه فمثله لا يستحق الجواب لأنه مؤوف العقل إذ العاقل لا ينزل نفسه بهذه المنزلة من التجاهل وإن كان قد عرف الفرق بينهما من جهة أن أحدهما محظور والآخر مباح وإنما سأله أن يفرق بينهما في امتناع جواز اجتماعهما في إيجاب تحريم النكاح فإن الشافعي لم يجبه عن ذلك ولم يزده على تلاوة الآيتين في الإباحة والحظر وإن الحلال ضد الحرام إذ ليس في كون الحلال ضد الحرام ما يمنع اجتماعهما في إيجاب التحريم ألا ترى أن الوطء بالنكاح الفاسد هو حرام ووطء الحائض حرام بنص التنزيل واتفاق المسلمين وهو ضد الوطء الحلال وهما متساويان في إيجاب التحريم والطلاق في الحيض محظور وفي الطهر قبل الجماع مباح وهما متساويان فيما يتيعلق فقال بهما من إيجاب التحريم فإنكان عند الشافعي أن القياس ممتنع في الضدين فواجب أن لا يجتمعا أبدا في حكم واحد ومعلوم أن في الشريعة اجتماع الضدين في حكم واحد وإن كونهما ضدين لا يمنع اجتماعهما في أحكام كثيرة ألا ترى أن ورود النص جائز بمثله وما جاز ورود النص به ساغ فيه القياس عند قيام الدلالة عليه فإذا لم يكن ممتنعا في العقل ولا في الشرع اجتماع الضدين في حكم واحد فقوله إن الحلال ضد الحرام ليس بموجب للفرق بينهما من حيث سأله السائل ويدل على أن ذلك غير ممتنع أن الله تعالى قد نهى المصلي عن المشي في الصلاة وعن الاضطجاع فيها من غير ضرورة والمشي والاضطجاع ضدان وقد اجتمعا في النهي ولا يحتاج في ذلك إلى الإكثار إذ ليس يمتنع أحد من إجازته فلم يحصل من قول الشافعي أنهما ضدان معنى يوجب الفرق بينهما ثم حكى عن السائل أنه قال أجد جماعا وجماعا فأقيس أحدهما بالآخر قال قلت وجدت جماعا حلالا حمدت به ووجدت جماعا حراما رجمت به أفرأيته يشبهه قال ما يشبهه فهل توضحه بأكثر من هذا قال أبو بكر فقد سلم له السائل أنه ما يشبهه فإن كان مراده أنه لا يشبهه من حيث افترقا فهذا ما لا ينازع فيه وإن كان أراد لا يشبهه من حيث رام الجمع بينهما من جهة إيجاب التحريم فإنه لم يأت بدليل ينفي الشبه بينهما من هذه الجهة وليس في الدنيا قياس إلا وهو تشبيه للشئ بغيره من بعض الوجوه دون جميعها فإن كان افتراق الشيئين من وجه يوجب الفرق بينهما من سائر الوجوه فإن في ذلك إبطال القياس أصلا إذ ليس يجوز وجود القياس فيما اشتبها فيه من سائر الوجوه فقد بان أن ما قاله الشافعي وما اسأله السائل كلام فارغ لا معنى تحته في حكم ما سئل عنه
[ 149 ]
ثم قال له السائل هل توضحه بأكثر من هذا قال نعم أفتجعل الحلال الذي هو نعمة قياسا على الحرام الذي هو نقمة وهذا هو تكرار المعنى الأول بزيادة النعمة والنقمة والسؤال قائم عليه لم يجب بما تقتضيه مطالبة السائل ببيان وجه الدلالة في منع هذا القياس وهو قد جعل هذا الحرام الذي هو نقمة وهو وطء الحائض والجارية المجوسية والوطء بالنكاح الفاسد الحلال الذي هو نعمة في إيجاب التحريم فانتقض ما ذكره وادعاه من غير دلالة أقامها عليه وحكى عن السائل أنه قال إن صاحبنا قال يوجدكم أن الحرام يحرم الحلال قال قلت له أفيما اختلفنا فيه من النساء قال لا ولكن في غيره من الصلاة والمشروب والنساء قياس عليه قال قلت أفتجيز لغيرك أن يجعل الصلاة قياسا على النساء قال أي أما في شئ فلا قال أبو بكر فمنع الشافعي بهذا أن يقيس تحريم الحرام الحلال من غير النساء على النساء مع إطلاقه القول بديا أنه إنما لم يجز قياس الزنا على الوطء المباح لأنه حرام وهو ضد الحلال والحلال نعمة والحرام نقمة من غير تقييد لذلك بأن هذه القضية في منع القياس مقصورة على النساء دون غيرهن وإطلاقه الاعتلال بالفرق الذي ذكر يلزمه إجراؤه في سائر ما وجد فيه فإذا لم يفعل ذلك فقد ناقض ثم يقال له فإذا جاز تحريم الحرام الحلال في غير النساء هلا جاز مثله في النساء مع كون أحدهما ضد الآخر وكون أحدهما نعمة والآخر نقمة كما كان الوطء بملك اليمين مثل الوطء بالنكاح في إيجاب التحريم مع كون ملك اليمين ضد للنكاح ألا ترى أن ملك اليمين والنكاح لا يجتمعان لرجل واحد وحكى عن السائل أنه قال له إن الصلاة حلال والكلام فيها حرام فإذا تكلم فيها فسدت عليه صلاته فقد أفسد الحلال بالحرام قال قلت له زعمت أن الصلاة فاسدة الصلاة لا تكون فاسدة ولكن الفاسد فعله لا هي ولكن لا تجزى عنك الصلاة لأنك لم تأت بها كما أمرت قال أبو بكر ما ظننت أن أحدا ممن ينتدب لمناظرة خصم يبلغ به الإفلاس من الحجاج إلى أن يلجأ إلى مثل هذا مع سخافة عقل السائل وغباوته وذلك لأن أحدا لا يمتنع من إطلاق القول بفساد صلاته إذا فعل فيها ما يوجب بطلانها كما لا يمتنع من إطلاق القول بفساد النكاح إذا وجد فيه ما يبطله فإن كان الذي أوجب الفرق بينهما أنه لا يطلق اسم الفساد على الصلاة مع بطلانها مع إطلاق الناس كلهم ذلك فيها فإنه لا يعوز خصمه أن يقول مثل ذلك في النكاح إني لا أقول أن نكاحه يفسد والنكاح لا يكون فاسدا وإنما فعله وهو الزنا هو الفاسد فأما النكاح فلم يفسد ولكن المرأة بانت منه وخرجت من حباله فهما سواء من هذا الوجه ثم يقال له أحسب أنا قد سلمنا لك
[ 150 ]
ما ادعيت من امتناع اسم الفساد على الصلاة التي قد بطلت أليس السؤال قائما عليك في المعنى إذا سلمنا لك الاسم وهو أن يقال لك ما أنكرت أنه لما جاز خروج المتكلم من الصلاة ولم تجز عنه لأجل الكلام المحظور وجب أن يكون كذلك حكم المرأة فلا يبقى نكاحها بعد وطء أمها بزنا كما لم تبق الصلاة بعد الكلام فتبين منه امرأته وتخرج من حباله كما خرج من الصلاة ويلزم الشافعي على هذا أن لا يطلق في شئ من البيوع أنه فاسد وكذلك سائر العقود وإنما يقال فيها أنها غير مجزية ولا موجبة للملك وهذا إنما هو منع للعبارة وإنما الكلام على المعاني لا على العبارات والأسامي وذكر الشافعي عن سائله أنه قال إن صاحبنا قال الماء حلال والخمر حرام فإذ صب الماء في الخمر حرم الماء قال قلت له أرأيت إن صببت الماء في الخمر أما يكون الماء الحلال مستهلكا في الحرام قال بلى قلت أتجد المرأة محرمة على كل أحد كما تجد الخمر محرمة على كل أحد قال لا قلت أتجد المرأة وبنتها مختلطتين كاختلاط الماء والخمر قال لا قلت أفتجد القليل من الخمر إذا صب في كثير الماء نجس قال لا قلت أفتجد قليل الزنا والقبلة واللمس للشهوة لا يحرم ويحرم كثيره ؟ قال لا قال فلا يشبه أمر النساء الخمر والماء قال أبو بكر وهذا إيضا من طريق الفروق والذي ذكر في تحريم الخمر للماء يحكى عن الشافعي أنه احتج به على يحيى بن معين حين قال الحرام لا يحرم الحلال وهو إلزام صحيح على من ينفي التحريم لهذه العلة لوجودها فيه إذ لم تكن العلة في منع تحريم الحرام الحلال أنهما غير مختلطين وإن قيل الزنا يحرم وإنما كانت علته أن الحرام ضد الحلال وإن الحلال نعمة والحرام نقمة ولم نره احتج بغيره في جميع ما ناظر به السائل والفروق التي ذكرها إنما هي فروق من وجوه أخر تزيد علته انتقاضا لوجودها مع عدم الحكم وعلى انه إن كان التحريم مقصورا على الاختلاط وتعذر تمييز المحظور من المباح فينبغي ان لا يحرم الوطء المباح لعدم الاختلاط وكذلك الوطء بالنكاح الفاسد وسائر ضروب الوطء الذي علق به التحريم إذ كانت المرأة متميزة عن أمها فهما غير مختلطتين فإذا جاز أن يقع التحريم بهذه الوجوه مع عدم الاختلاط فما أنكر مثله في الزنا وقد بينا في صدر المسألة دلالة قوله تعالى ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء وقوله تعالى الذي دخلتم بهن على وقوع التحريم بالزنا فلم يحصل من كلام الشافعي دلالة في هذه المسألة ولا شبهة على ما سئل عنه ثم حكى الشافعي عن سائله هذا لما فرق له بين الماء والخمر وبين النساء بما ذكر أنه لا يشبهه أمر النساء الخمر والماء قال الشافعي فقلت له وكيف قبلت هذا منه ؟
[ 151 ]
فقال ما بين لنا أحد بيانك لنا ولو علم صاحبنا به لظننت أنه لا يقيم على قوله ولكن غفل وضعف عن كلامه قال فرجع عن قولهم وقال الحق عندي في قولكم ولم يصنع صاحبنا شيئا ولا ندري من كان هذا السائل ولا من صاحبهم الذي قال لو علم صاحبنا بهذه الفروق لظن أنه لا يقيم على قوله وقد بان عمى قلب هذا السائل بتسليمه للشافعي جميع ما ادعاه من غير مطالبة له بوجه الدلالة على المسألة فيما ذكر وجائز أن يكون رجلا عاميا لم يرتض بشئ يمن الفقه إلا أنه قد انتظم بذلك شيئين أحدهما الجهل والغباوة بما وقفنا عليه من مناظرته وتسليمه ما لا يجوز تسليمه ومطالبته للمسؤول بالفروق التي لا توجب فرقا في معاني العلل والمقايسات ثم انتقاله بمثل ذلك إلى مذهبه على ما زعم وتركه لقول أصحابه والآخر قلة العقل وذلك أنه ظن أن صاحبه لو سمع بمثل ذلك رجع عن قوله فقضى بالظن على غيره فيما لا يعلم حقيقته وسرور الشافعي بمناظرة مثله وانتقاله إلى مذهبه يدل على أنهما كانا متقاربين في المناظرة وإلا فلو كان عنده في معنى المبتدئ والمغفل العامي لما أثبت مناظرته إياه في كتابه ولو كلم بذلك المبتدؤون من أحداث أصحابنا لما خفى عليهم عوار هذا الحجاج وضعف السائل والمسؤول فيه وقد ذكر الشافعي أنه قال لمناظره جعلت الفرقة إلى المرأة بتقبيلها ابن زوجها والله لم يجعل الفرقة إليها قال فقال فأنت تزعم أنها تحرم على زوجها إذا ارتدت قال قلت وأقول إن رجعت وهي في العدة فهما على النكاح أفتزعم أنت في التي تقبل ابن زوجها مثله قال لا قال أبو بكر فأنكر على خصمه وقوع التحريم من قبل المرأة ثم قال هو بها وجعل إليها الرجعة كما جعل إليها التحريم ثم قال الشافعي فأقول إن مضت العدة فرجعت إلى الإسلام كان لزوجها أن ينكحها أفتزعم في التي تقبل ابن زوجها مثله قال والمرتدة تحرم على الناس كلهم حتى تسلم وتقبيل ابن الزوج ليس كذلك قال أبو بكر فناقض على أصله فيما أنكره على خصمه ثم أخذ في ذكر الفروق على النحو الذي مضى من كلامه ولم أذكر ذلك لأن في مثله شبهة على من ارتاض بشئ من النظر ولكن لأبين مقادير علوم مخالفي أصحابنا ومحلهم من النظر وأما ما حكى عثمان البتي في فرقه بين الزنا بأم المرأة بعد التزويج وقبله فلا معنى له لأن ما يوجب تحريما مؤبدا لا يختلف حكمه في إيجابه ذلك بعد التزويج وقبله والدليل عليه أن الرضاع لما كان موجبا للتحريم المؤبد لم يختلف حكمه في إيجابه ذلك قبل التزويج وبعده وإنما قال أصحابنا إن فعل ذلك بالرجل لا يحرم عليه أمه ولا بنته من قبل أن هذه الحرمة إنما هي متعلقة بمن يصح عقد النكاح عليها ويجوز أن تملك به
[ 152 ]
فيكون الوطء المحرم فيها بمنزلة الوطء الحلال في إيجاب التحريم فلما لم يصح وجود ذلك في الرجل على الوجه المباح ولا يجوز أن يملك ذلك بالعقد منه لم يتعلق به حكم التحريم ألا ترى أنه لو لمس الرجل بشهوة لا يتعلق به حكم في إيجاب تحريم الأم والبنت واللمس بمنزلة الوطء في المرأة عند الجميع فيما يتعلق به حكم التحريم فلما اتفق الجميع على أن اللمس لا حكم له في الرجل في حكم تحريم الأم والبنت كان كذلك ما سواه من الوطء وفي ذلك الدلالة من وجهين على صحة ما ذكرنا أحدهما أن لمس الرجل للرجل لشهوة لما لم يكن مما يصح ان يملك بعقد النكاح ولم يتعلق به تحريم كان كذلك حكم الوطء إذ لا يصح أن يملك بعقد النكاح والثاني أن اللمس عند الجميع في المرأة حكمه حكم الوطء ألا ترى أن الجميع متفقون على أن لمس المرأة الزوجة يحرم بنتها كما يحرمها الوطء وكذلك لمس الجارية بملك اليمين يوجب من التحريم ما يوجبه الوطء وكذلك من حرم بوطء الزنا حرم باللمس فلما لم يكن لمس الرجل موجبا للتحريم وجب ان يكون كذلك حكم وطئه لاستوائهما في المرأة قال أبو بكر واتفق أصحابنا والثوري ومالك والأوزاعي والليث والشافعي إن اللمس لشهوة بمنزلة الجماع في تحريم أم المرأة وبنتها فكل من حرم بالوطء الحرام أوجبه باللمس إذا كان لشهوة ومن لو يوجبه بالوطء الحرام لم يوجبه باللمس لشهوة ولا خلاف أن اللمس المباح في الزوجة وملك اليمين يوجب تحريم الأم والبنت إلا شيئا يحكى عن ابن شبرمة أنه قال لا تحرم باللمس وإنما تحرم بالوطء الذي يوجب مثله الحد وهو قول شاذ قد سبقه الإجماع بخلافه واختلف الفقهاء في النظر هل يحرم أم لا فقال أصحابنا جميعا إذا نظر إلى فرجها لشهوة كان ذلك بمنزلة اللمس في إيجاب التحريم ولا يحرم النظر للشهوة إلى غير الفرج وقال الثوري إذا نظر إلى فرجها متعمدا حرمت عليه أمها وابنتها ولم يشرط أن يكون لشهوة وقال مالك إذا نظر إلى شعر جاريته تلذذا أو صدرها أو ساقها أو شئ من محاسنها تلذذا حرمت عليه أمها وابنتها وقال ابن أبي ليلى والشافعي النظر لا يحرم ما لم يلمس قال أبو بكر روى جرير بن عبد الحميد عن حجاج عن أبي هانئ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من نظر إلى فرج امرأة حرمت عليه أمها وابنتها وروى حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال لا ينظر الله إلى رجل نطر إلى فرج امرأة وابنتها وروى الأوزاعي عن محكول إن عمر جرد جارية له فسأله إياها بعض ولده فقال إنها لا تحل لك وروى حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه جرد جارية
[ 153 ]
ثم سأله إياها بعض ولده فقال إنها لا تحل لك وروى المثنى عن عمرو بن شعيب عن عمر أنه قال أيما رجل جرد جارية له فنظر إليه منها يريد ذلك الأمر فإنها لا تحل لابنهوعن الشعبي قال كتب مسروق إلى أهله قال انظروا جاريتي فلانة فبيعوها فإني لم أصب منها إلا ما حرمها على ولدي من الللمس ثنا والنظر وهو قول الحسن والقاسم بن محمد ومجاهد وإبراهيم فاتفق هؤلاء السلف على إيجاب التحريم بالنظر واللمس وإنما خص أصحابنا النظر إلى الفرج في إيجاب التحريم دون النظر إلى سائر البدن لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من نظر إلى فرج امرأة لم تحل له أمها ولا ابنتها فخص النظر إلى الفرج بإيجاب التحريم دون النظر إلى سائر البدن وكذلك روي عن ابن مسعود وابن عمر ولم يرو عن غيرهما من السلف خلافه فثبت بذلك أن النظر إلى الفرج مخصوص بإيجاب التحريم دون غيره وكان القياس أن لا يقع تحريم بالنظر إلى غيره من سائر البدن إلا أنهم تركوا القياس فيه للأثر واتفاق السلف ولم يوجبوه بالنظر إلى غير الفرج وإن كان لشهوة على ما يقتضيه القياس ألا ترى أن النظر لا يتعلق به حكم في سائر الأصول ألا ترى أنه لو نظر وهو محرم أو صائم فأمنى لا يفسد صومه ولو كان الإنزال عن لمس فسد صومه ولزمه دم لإحرامه فعلمت أن النظر من غير لمس لا يتعلق به حكم فلذلك قلنا إن القياس لا يحرم النظر شيئا إلا أنهم تركوا القياس في النظر إلى الفرج خاصة لما ذكرنا يحتج لمذهب ابن شبرمة بظاهر قوله تعالى لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم واللمس ليس بدخول فلا يحرم والجواب عنه أنه ليس بممتنع أن يريد الدخول أو ما يقوم مقامه كما قال تعالى فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا) [ البقرة: 230 ] به فذكر الطلاق ومعناه الطلاق أو ما يقوم مقامه ويكون دلالته ما ذكرنا من قول السلف واتفاقهم من غير مخالف لهم على إيجاب التحريم باللمس ولا خلاف بين أهل العلم أن عقد النكاح على امرأة يوجب تحريمها على الإبن وروى ذلك عن الحسن ومحمد بن سيرين وإبراهيم وعطاء وسعيد بن المسيب وقوله تعالى إلا ما قد سلف فإنه روى عن عطاء إلا ما كان في الجاهلية قال أبو بكر يحتمل أن يريد إلا ما كان في الجاهلية فإنكم لا تؤاخذون به ويحتمل إلا ما قد سلف فإنكم مقرون عليه وتأوله بعضهم على ذلك وهذا خطأ لأنه لم يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أحدا على عقد نكاح امرأة أبيه وإن كان في الجاهلية وقد روى البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بردة بن نيار إلى رجل عرس بامرأة أبيه وفي بعض الألفاظ نكح امرأة أبيه أن يقتله ويأخذ ماله وقد كان نكاح امرأة الأب مستفيضا
[ 154 ]
شائعا في الجاهلية فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم أقر أحدا منهم على ذلك النكاح لنقل واستفاض فلما لم ينقل ذلك دل على أن المراد بقوله إلا ما قد سلف فإنكم غير مؤاخذين به وذلك لأنهم قبل ورود الشرع بخلاف ما هم عليه كانوا مقرين على أحكامهم فأعلمهم الله تعالى أنهم غير مؤاخذين فيما لم تقم عندهم حجة السمع بتركه فلا احتمال في قوله إلا ما قد سلف في هذا الموضع إلا ما ذكرنا وقوله تعالى ما قد سلف عند ذكر الجمع بين الأختين يحتمل غير ما ذكر ههنا وسنذكره إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى ومعنى إلا ما قد سلف ههنا استثناء منقطع كقوله لا تلق فلانا إلا ما لقيت يعني لكن ما لقيت فلا لوم عليك فيه وقوله إنه كان فاحشة هذه الهاء كناية عن النكاح وقد قيل فيه وجهان أحدهما النكاح بعد النهي فاحشة ومعناه هو فاحشة فكان في هذا الموضع ملغاة وهو موجود في كلامهم قال الشاعر * فإنك لو رأيت ديار قوم * وجيران لنا كانوا كرام * فأدخل كان وهي ملغاة غير معتد بها لأن القوافي مجرورة وقال الله تعالى (وكان الله عليما حكيما والله عليم حكيم ويحتمل أن يريد به أن ما كان منه في الجاهلية فهو فاحشة فلا تفعلوا مثله وهذا لا يكون إلا بعد قيام حجة السمع عليهم بتحريمه ومن قال هذا جعل قوله تعالى إلا ما قد سلف فإنه يسلم منه بالإقلاع عنه والتوبة منه قال أبو بكر والأولى حمله على أنه فاحشة بعد نزول التحريم لأن ذلك مراد عند الجميع لا محالة ولم تقم الدلالة على أن حجة السمع قد قامت عليهم بتحريمه من جهة الرسل المتقدمين فيستحقون اللوم عليه ويدل عليه قوله تعالى ما قد سلف وظاهره يقتضي نفي المؤاخذة بما سلف منه فإن قيل هذا يدل على أن من عقد نكاحا على امرأة أبيه ووطئها كان وطؤه زنا موجبا للحد لأنه سماها فاحشة وقال الله تعالى تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا قيل له الفاحشة لفظ مشترك يقع على كثير من المحظورات وقد روي في قوله تعالى إلا أن يأتين بفاحشة مبينة أن خروجها من بيته فاحشة وروي أن الفاحشة في ذلك أن تستطيل بلسانها على أهل زوجها وقيل فيها أنها الزنا فالفاحشة اسم يتناول مواقعة المحظور وليس يختص بالزنا دون غيره حتى إذا أطلق فيه اسم الفاحشة كان زنا وما كان من وطء عن عقد فاسد فإنه لا يسمى
[ 155 ]
زنا لأن المجوس وسائر المشركين المولودين على مناكحاتهم التي هي فاسدة في الإسلام لا يسمون أولاد زنا والزنا اسم لوطء في غير ملك ولا نكاح ولا شبهة عن واحد منهما فأما إذا صدر عن عقد فإن ذلك لا يسمى زنا سواء كان العقد فاسدا أو صحيحا وقوله تعالى ثم وساء سبيلا يعني أنه مما يبغضه الله تعالى ويبغضه المسلمون وذلك تأكيد لتحريمه وتقبيحه وتهجين فاعله وبين أنه طريق سوء لأنه يؤدي إلى جهنم قوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم إلى آخر الآية حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن الفضل بن سلمة قال حدثنا سنيد بن داود قال حدثنا وكيع قال حدثنا علي بن صالح عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال قوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم إلى قوله تعالى الأخت قال حرم الله هذه السبع من النسب ومن الصهر سبع ثم قال الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم ما وراء هذا النسب ثم قال وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة إلى قوله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم يعني السبي قال أبو بكر قوله حرمت عليكم عموم في جميع ما يتناوله الاسم حقيقة ولا خلاف أن الجدات وإن بعدن محرمات واكتفى بذكر الأمهات لأن اسم الأمهات يشملهن كما ان اسم الآباء يتناول الأجداد وإن بعدوا وقد عقل من قوله تعالى (ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء تحريم ما نكح الأجداد وإن كان للجد اسم خاص لا يشاركه فيه الأب الأدنى فإن الاسم العام وهو الأبوة ينتظمهم رسول جميعا وكذلك قوله تعالى ولا قد يتناول بنات الأولاد وإن سفلن لأن الاسم يتناولهن كما يتناول اسم الآباء الأجداد وقوله تعالى وأخواتكم وعماتكم وخالتكم وبنات الأخ وبنات الأخت) فأفرد بنات الأخ وبنات الأخت بالذكر لأن اسم الأخ والأخت لا يتناول اسم البنات بنات الأولاد فهؤلاء السبع المحرمات بنص التنزيل من جهة النسب ثم قال (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف وقال قبل ذلك ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء فهؤلاء السبع المحرمات من جهة الصهر وقد عقل من قوله تعالى وبنات الأخ وبنات الأخت من سفل منهن كما عقل من قوله تعالى لم من علا منهن ومن قوله تعالى وبناتكم من سفل
[ 156 ]
منهن وعقل من قوله تعالى وعماتكم تحريم عمات الأب والأم وكذلك قوله تعالى حدثنا عقل منه تحريم خالات الأب والأم كما عقل تحريم أمهات الأب وإن علون وخص تعالى العمات والخالات بالتحريم دون أولادهن ولا خلاف في جواز نكاح بنت العمة وبنت الخالة وقال تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة ومعلوم أن هذه السمة إنما هي مستحقة بالرضاع أعني سمة الأمومة والأخوة فلما علق هذه السمة بفعل الرضاع اقتضى ذلك استحقاق اسم الأمومة ابن والأخوة بوجود الرضاع وذلك يقتضي التحريم بقليل الرضاع لوقوع الاسم عليه فإن قيل قوله تعالى وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم قوله قول القائل وأمهاتكم اللاتي اعطينكم له وأمهاتكم اللاتي كسونكم فنحتاج إلى أن نثبت أنها أم بهذه الصفة حتى يثبت الرضاع لأنه لم يقل واللاتي أرضعنكم أمهاتكم قيل له هذا غلط من قبل أن الرضاع هو الذي يكسبها سمة الأمومة فلما كان الاسم مستحقا بوجود الرضاع كان الحكم متعلقا به واسم الرضاع في الشرع واللغة يتناول القليل والكثير فوجب أن تصير أما بوجود الرضاع لقوله تعالى اللاتي أرضعنكم وليس كذلك الذي ذكرت من قول القائل وأمهاتكم اللاتي كسونكم لأن اسم الأمومة غير متعلق بوجود الكسوة كتعلقه بوجود الرضاع فلذلك احتجنا إلى حصول الاسم والفعل المتعلق به وكذلك قوله تعالى وأخواتكم من الرضاعة يقتضي ظاهره كونها أختا بوجود الرضاع إذا كان اسم الأخوة مستفادا بوجود الرضاع لا بمعنى آخر سواه ويدل على أن ذلك مفهوم الخطاب ومقتضى القول ما رواه عبد الوهاب بن عطاء عن أبي الربيع عن عمرو بن دينار قال جاء رجل إلى ابن عمر فقال إن ابن الزبير يقول لا بأس بالرضعة والرضعتين فقال ابن عمر قضاء الله خير من قضاء ابن الزبير قال الله تعالى من الرضاعة فعقل ابن عمر من ظاهر اللفظ التحريم بقليل الرضاع مطلب: اختلف السلف في التحريم بقليل الرضاع واختلف السلف ومن بعدهم في التحريم بقليل الرضاع فروى عن عمر وعلي وابن عباس وابن عمر والحسن وسعيد بن المسيب وطاوس وإبراهيم والزهري والشعبي قليل الرضاع وكثيره يحرم في الحولين وهو قول ابي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والأوزاعي والليث قال الليث اجتمع المسلمون على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر الصائم وقال ابن الزبير والمغيرة بن شعبة وزيد بن ثابت لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان وقال الشافعي لا يحرم من الرضاع إلا خمس رضعات متفرقات
[ 157 ]
قاله أبو بكر وقد ذكرنا في سورة البقرة الكلام في مدة الرضاع والاختلاف فيها وقد قدمنا ذكر دلالة الآية على إيجاب التحريم بقليل الرضاع وغير جائز لأحد إثبات تحديد الرضاع الموجب للتحريم إلا بما يوجب العلم من كتاب أو سنة منقولة من طريق التواتر ولا يجوز قبول أخبار الآحاد عندنا في تخصيص حكم الآية الموجبة للتحريم بقليل الرضاع لأنها آية محكمة ظاهرة المعنى بينة المراد لم يثبت خصوصها بالاتفاق وما كان هذا وصفه فغير جائز تخصيصه بخبر الواحد ولا بالقياس ويدل عليه من جهة السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم إنما الرضاعة من المجاعة رواه مسروق عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفرق بين القليل والكثير فهو محمول عليهما جميعها ويدل عليه أيضا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهة التواتر والاستفاضة أنه قال يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب رواه علي وابن عباس وعائشة وحفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتلقاه أهل العلم بالقبول والاستعمال فلما حرم النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاع ما يحرم من النسب وكان معلوما أن النسب متى ثبت من وجه أوجب التحريم وإن لم يثبت من وجه آخر كذلك الرضاع يجب أن يكون هذا حكمه في إيجاب التحريم بالرضعة الواحدة لتسوية النبي صلى الله عليه وسلم بينهما فيما علق بهما حكم التحريم واحتج من اعتبر خمس رضعات بما روت عائشة وابن الزبير وأم الفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تحرم المصة ولا المصتان وبما روي عن عائشة أنها قالت كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات فنسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرأ من القرآن قال أبو بكر وهذه الأخبار لا يجوز الاعتراض بها على ظاهر قوله تعالى (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة لما بينا أن ما لم يثبت خصوصه من ظواهر القرآن وكان ظاهر المعنى بين المراد لم يجز تخصيصه بأخبار الآحاد فهذا أحد الوجوه التي تسقط الاعتراض بهذا الخبر ووجه آخر وهو ما حدث أبو الحسن الكرخي قال حدثنا الحضرمي قال حدثنا عبد الله بن سعيد قال حدثنا أبو خالد عن حجاج عن حبيب بن أبي ثابت عن طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن الرضاع فقال إن الناس يقولون لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان قال قد كان ذاك فأما اليوم فالرضعة الواحدة تحرم وروى محمد بن شجاع قال حدثنا إسحاق بن سليمان عن حنظلة عن طاوس قال اشترطت عشر رضعات ثم قيل الرضعة الواحدة تحرم فقد عرف ابن عباس وطاوس خبر العدد في الرضاع وأنه منسوخ بالتحريم بالرضعة الواحدة وجائز أن يكون التحديد كان مشروطا في رضاع الكبير وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في رضاع الكبير وهو
[ 158 ]
منسوخ عند فقهاء الأمصار فجائز أن يكون تحديد الرضاع كان في رضاع الكبير فلما نسخ سقط التحديد إذ كان مشروطا فيه وأيضا يلزم الشافعي إيجاب التحريم بثلاث رضعات لدلالة قوله لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان على إيجاب التحريم فيما زاد على أصله في المخصوص بالذكر وأما حديث عائشة فغير جائز اعتقاد صحته على ما ورد وذلك لأنها ذكرت أنه كان فيما أنزل من القرآن عشر فنسخن بخمس وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو مما يتلى وليس أحد من المسلمين يجيز نسخ القرآن بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فلو كان ثابتا لوجب أن تكون التلاوة موجودة فإذا لم توجد به التلاوة ولم يجز النسخ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لم يخل ذلك من أحد وجهين إما أن يكون الحديث مدخولا في الأصل غير ثابت الحكم أو يكون إن كان ثابتا فإنما نسخ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان منسوخا فالعمل به ساقط وجائز أن يكون ذلك كان تحديد لرضاع الكبير وقد كانت عائشة تقول به في إيجاب التحريم في رضاع الكبير دون سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقد ثبت عندنا وعند الشافعي نسخ رضاع الكبير فسقط حكم التحديد المذكور في حديث عائشة هذا ومع ذلك لو خلا من هذه المعاني التي ذكرنا من الاستحالة والاحتمال لما جاز الاعتراض به على ظاهر القرآن إذ هو من أخبار الآحاد ومما يدل على ما ذكرنا من سقوط اعتبار التحديد أن الرضاع يوجب تحريما مؤبدا فأشبه الوطء الموجب لتحريم الأم والبنت والعقد الموجب للتحريم كحلائل الأبناء وما نكح الآباء فلما كان القليل من ذلك ككثيره فيما يتعلق به من حكم التحريم وجب أن يكون ذلك حكم الرضاع في إيجاب التحريم بقليله مطلب: اختلف أهل العلم في لبن الفحل ذلك واختلف أهل العلم في لبن الفحل وهو الرجل يتزوج المرأة فتلد منه ولدا وينزل لها لبن بعد ولادتها منه فترضع به صبيا فإن من قال بتحريم لبن الفحل يحرم هذا الصبي على أولاد الرجل وإن كانوا من غيرها ومن لا يعتبره لا يوجب تحريما بينه وبين أولاده من غيرها فممن قال بلبن الفحل ابن عباس وروى الزهري عن عمرو بن الشريد عن ابن عباس أنه سئل عن رجل له امرأتان أرضعت هذه غلاما وهذه الجارية هل يصح الغلام أن يتزوج الجارية فقال لا اللقاح واحد وهو قول القاسم وسالم وعطاء وطاوس وذكر الخفاف عن سعيد عن ابن سيرين قال كرهه قوم ولم ير به قوم بأسا ومن كرهه كان أفقه من الذين لم يروا به بأسا وذكر عباد بن منصور قال قلت للقاسم بن محمد امرأة أبي أرضعت جارية من الناس بلبان أخوتي من أبي أتحل لي فقال لا أبوك أبوها فسألت طاوسا والحسن فقالا مثل ذلك وسألت مجاهدا فقال اختلف فيه
[ 159 ]
الفقهاء فلست أقول فيه شيئا وسألت محمد بن سيرين فقال مثل قول مجاهد وسألت يوسف بن ماهك فذكر حديث أبي قعيس وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي لبن الفحل يحرم وقال سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعطاء ابن يسار وسليمان بن يسار أن لبن الفحل لا يحرم شيئا من قبل الرجال وروى مثله عن رافع بن خديج والدليل على صحة القول الأول حديث الزهري وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة أن أفلح أخا أبي القيس جاء ليستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة بعد ان نزل الحجاب قالت فأبيت أن آذن له فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته قال ليلج عليك فإنه عمك قلت إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل قال ليلج عليك فإنه عمك تربت يمينك وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة ويدل عليه من جهة النظر أن سبب نزول اللبن هو ماء الرجل والمرأة جميعا لأن الحمل منهما جميعا فوجب أن يكون الرضاع منهما كما كان الولد منهما وإن اختلف سببهما فإن قيل قد روى مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنها كانت تدخل عليها من أرضعته أخواتها وبنات أخيها ولا تدخل عليها من أرضعته نساء أخوتها قيل له هذا غير مخالف لما ورد في لبن الفحل إذ كان لها أن تأذن لمن شاءت من محارمها وتحجب من شاءت ويدل عليه أيضا من جهة النظر أن البنت محرمة على الجد وإن لم تكن من مائه لأنه كان سبب حدوث الأب الذي هو من مائه كذلك الرجل لما كان هو سبب نزول اللبن من المرأة وجب أن يتعلق به التحريم وإن لم يكن اللبن منه إذ كان هو سببه كما يتعلق به التحريم من جهة الأم والمنصوص عليه في التنزيل من الرضاع الأمهات والأخوات من الرضاعة إلا أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنقل المستفيض الموجب للعلم أنه قال يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب واتفق الفقهاء على استعماله والله أعلم باب أمهات النساء والربائب قال الله تعالى نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن ولم تختلف الأمة أن الربائب لا يحرمن بالعقد على الأم حتى يدخل بها أو يكون منه ما يوجب التحريم من اللمس والنظر على على ما بيناه فيما سلف هو نص التنزيل في قوله تعالى فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم) واختلف السلف في أمهات النساء هل يحرمن بالعقد دون الدخول فروى
[ 160 ]
حماد بن سلمة عن قتادة عن خلاس أن عليا قال في رجل طلق امرأته قبل الدخول بها فله أن يتزوج أمها وإن تزوج أمها ثم طلقها قبل الدخول يتزوج بنتها تجريان مجرى واحدا وأهل النقل يضعفون حديث خلاس عن علي ويروى عن جابر بن عبد الله مثل ذلك وهو قول مجاهد وابن الزبير وعن ابن عباس روايتان إحداهما ما يرويه ابن جريج عن أبي بكر بن حفص عن عمرو بن مسلم ابن عويمر بن الأجدع عنه أن أم المرأة لا تحرم إلا بالدخول والأخرى ما يرويه عكرمة عنه أنها تحرم بنفس العقد وقال عمر وعبد الله بن مسعود وعمران بن حصين ومسروق وعطاء والحسن وعكرمة تحرم بالعقد دخل بها أو لم يدخل مطلب: أفتى ابن مسعود بحل التزوج بأم المرأة قبل الدخول بها ثم رجع عن ذلك وروى أبو أسامة عن سفيان عن أبي فروة عن أبي عمرو الشيباني عن عبد الله بن مسعود أنه أفتى في امرأة تزوجها رجل فطلقها قبل أن يدخل بها أو ماتت قال لا بأس أن يتزوج أمها فلما أتى المدينة رجع فأفتاهم فنهاهم وقد ولدت أولادا وروى إبراهيم عن شريح أن ابن مسعود كان يقول بقول علي ويفتي به يعني في أمهات النساء فحج فلقي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذاكرهم ذلك فكرهوا أن يتزوجها فلما رجع ابن مسعود نهى من كان أفتاه بذلك وكانوا أحياء من بن فزارة أفتاهم بذلك وقال إني سألت أصحابي فكرهوا ذلك وروى قتادة عن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت قال في رجل طلق امرأته قبل الدخول فأراد أن يتزوج أمها قال إن طلقها قبل الدخول يتزوج أمها وإن ماتت لم يتزوج أمها وأصحاب الحديث يضعفون حديث قتادة هذا عن سعيد بن المسيب عن زيد ويقولون إن أكثر ما يرويه قتادة عن سعيد بن المسيب بينه وبينه رجال وإن رواياته عن سعيد مخالفة لروايات أكثر أصحاب سعيد الثقات وقال عبد الرحمن بن مهدي عن مالك عن سعيد بن المسيب أحب إلى من قتادة عن سعيد وقد روى يحيى بن سعيد الأنصاري عن زيد بن ثابت خلاف رواية قتادة ويقال إن حديث يحيى وإن كان مرسلا فهو أقوى من حديث قتادة عن سعيد قال أبو بكر وهذا الذي ذكرناه طريقة أصحاب الحديث والفقهاء لا يعتبرون ذلك في قبول الأخبار وردها وإنما ذكرنا ذلك ليعرف به مذهب القوم فيه دون اعتباره والعمل عليه ويشبه أن يكون زيد بن ثابت إنما فرق بين الموت والطلاق في التحريم لأن الطلاق قبل الدخول لا يتعلق به شئ من أحكام الدخول ألا ترى أنه يجب فيه نصف المهر ولا يجب عليها العدة وأما الموت
[ 161 ]
فلما كان في حكم الدخول في باب استحقاق كمال المهر ووجوب العدة جعله كذلك في حكم التحريم والدليل على أن أمهات النساء يحرمن بالعقد قوله تعالى (وأمهات نسائكم هي مبهمة عامة كقوله أبنائكم وقوله ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء فغير جائز تخصيصه إلا بدلالة وقوله تعالى اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) حكم مقصور على الربائب دون أمهات النساء وذلك من وجوه أحدها أن كل واحدة من الجملتين مكتفية بنفسها في إيجاب الحكم المذكور فيها أعني قوله تعالى (وأمهات نسائكم وقوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن وكل كلام اكتفى بنفسه من غير تضمين له بغيره ولا حمله عليه وجب إجراؤه على مقتضى لفظه دون تعليقه بغيره فلما كان قوله وأمها نسائكم جملة مكتفية بنفسها يقتضي عمومها تحريم أمهات النساء مع وجود الدخول وعدمه وكان قوله تعالى وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن جملة قائمة بنفسها على ما فيها من شرط الدخول لم يجز لنا بناء إحدى الجملتين على الأخرى بل الواجب إجراء المطلق منهما على إطلاقه والمقيد على تقييدة كان وشرطه إلا أن تقوم الدلالة على أن إحداهما مبنية عن الأخرى محمولة على شرطها وأخرى وهي أن قوله تعالى (وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم يجري هذا الشرط مجرى الاستثناء تقديره وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم إلا اللاتي لم تدخلوا بهن لأن فيه إخراج بعض ما انتطمه أبو العموم فلما كان ذلك في معنى الاستثناء وكان من حكم الاستثناء عوده إلى ما يليه إلا أن تقوم الدلالة على رجوعه إلى ما تقدم وجب أن يكون حكمه مقصورا على الربائب ولم يجز رده إلى ما تقدمه إلا بدلالة وأخرى وهي أن شرط الدخول تخصيص لعموم اللفظ وهو لا محالة مستعمل في الربائب ورجوعه إلى أمهات النساء مشكوك فيه وغير جائز تخصيص العموم بالشك فوجب أن يكون عموم التحريم في أمهات النساء مقرا على بابه وأخرى وهي أن إضمار شرط الدخول لا يصح في أمهات النساء مظهرا لأنه لا يستقيم أن يقال وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن لأن أمهات نسائنا لسن من نسائنا والربائب من نسائنا لأن البنت من الأم وليست الأم من البنت فلما لم يستقم الكلام بإظهار أمهات النساء في الشرط لم يصح إضماره فيه فثبت بذلك أن قوله من نسائكم إنما هو من وصف الربائب دون أمهات النساء وأيضا فلو جعلنا قوله من نسائكم اللاتي دخلتم بهن نعتا لأمهات النساء وجعلنا تقديره وأمهات نسائكم من
[ 162 ]
نسائكم اللاتي دخلتم بهن لخرج الربائب من الحكم وصار حكم الشرط في أمهات النساء دونهن وذلك خلاف نص التنزيل فثبت أن شرط الدخول مقصور على الربائب دون أمهات النساء وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل ابن الفضل قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أيما رجل نكح امرأة فدخل بها فلا يحل له نكاح ابنتها وإن لم يدخل بها فلينكح ابنتها وإيما رجل نكح امرأة فدخل بها أو لم يدخل بها فلا يحل له نكاح أمها وقد حكى عن السلف اختلاف في حكم الربيبة فذكر ابن جريج قال أخبرني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة عن مالك بن أوس عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال في الربيبة إذا لم تكن في حجر الزوج وكانت في بلد آخر ثم فارق الأم بعد الدخول أنه جائز له أن يتزوج الربيبة ونسب عبد الرزاق إبراهيم هذا فقال إبراهيم ابن عبيد في غير هذا الحديث وهو مجهول لا تثبت بمثله مقالة ومع ذلك فإن أهل العلم ردوه ولم يتلقه أحد منهم بالقبول وقد ذكر قتادة عن خلاس عن علي أن الربيبة والأم تجريان مجرى واحدا وهو خلاف هذا الحديث لأن الأم لا محالة تحرم بالدخول بالبنت وقد جعل الربيبة مثلها فاقتضى تحريم البنت بالدخول فالأم سواء كانت في حجره أو لم تكن وذكر في حديث إبراهيم هذا أن عليا احتج في ذلك بأن الله تعالى قال اللاتي في حجوركم لم تكن في حجره لم تحرم وحكاية هذا الحجاج يدل على وهى الحديث وضعفه لأن عليا لا يحتج بمثله وذلك لأنا قد علمنا أن قوله (وربائبكم) لم يقتض أن تكون تربية زوجا لأم لها شرطا في التحريم وأنه متى لم يربها لم تحرم وإنما سميت بنت المرأة ربيبة لأن الأعم الأكثر أن زوج الأم يربيها ثم معلوم أن وقوع الاسم على هذا المعنى لم يوجب كون تربيته إياها شرطا في التحريم كذلك قوله في حجوركم كلام خرج على الأعم الأكثر من كون الربيبة في حجر الزوج وليست هذه الصفة شرطا في التحريم كما أن تربية الزوج إياها ليست شرطا فيه وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض وفي ست وثلاثين بنت لبون وليس كون المخاض أو اللبن بالأم شرطا في المأخوذ وإنما ذكره لأن الأغلب أنها إذا دخلت في السنة الثانية كان بأمها مخاض وإذا دخلت في الثالثة كان بأمها لبن فإنما أجرى الكلام على غالب الحال كذلك قوله تعالى في حجوركم على هذا الوجه قال أبو بكر لا خلاف بين أهل العلم في تحريم من ذكر ممن لا يعتق عليه بملك اليمين وأن الأم والأخت من الرضاعة محرمتان بملك اليمين كما هما بالنكاح وكذلك
[ 163 ]
أم المرأة وابنتها إذا دخل بالأم وأن كل واحدة منهما محرمة عليه تحريما مؤبدا إذا وطئ الأخرى وكذلك لا خلاف أنه لا يجوز له الجمع بين أم وبنت بملك اليمين وروي ذلك عن عمر وابن عباس وابن عمر وعائشة ولا خلاف أيضا أن الوطء بملك اليمين يحرم ما يحرمه الوطء بالنكاح فيما يتعلق به تحريم مؤبد قوله تعالى وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم قال عطاء بن أبي رباح نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم حين تزوج امرأة زيد ونزلت وما جعل أدعياءكم أبناءكم) [ الاحزاب: وكان محمد أبا أحد من رجالكم وكان يقال له زيد بن محمد قال مطلب: الحليلة اسم يختص بالزوجة دون المملوكة بملك اليمين قال أبو بكر حليلة الابن هي زوجته ويقال إنما سميت حليلة لأنها تحل معه في فراش وقيل لأنه يحل له منها الجماع بعد النكاح والأمة وإن استباح فرجها بالملك لا تسمى حليلة ولا تحرم على الأب ما لم يطأها وعقد نكاح الابن عليهما يحرمها على أبيه تحريما مؤبدا وهذا يدل على أن الحليلة اسم يختص بالزوجة دون ملك اليمين ولما علق حكم التحريم بالتسمية دون ذكر الوطء اقتضى ذلك تحريمهن بالعقد دون شرط الوطء لأنا لو شرطنا الوطء لكان فيه زيادة في النص ومثلها يوجب النسخ لأنها تبيح ما حظرته الآية وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين قال أبو بكر وقوله تعالى من أصلابكم قد تناول عند الجميع تحريم حليلة ولد الولد على الجد وهذا يدل على أن ولد الولد يطلق عليه أنه من صلب الجد لأن أو إطلاق الآية قد اقتضاها عند الجميع وفيه دلالة على أن ولد الولد نسوب) إلى الجد بولادة وهذه الآية في تخصيصها حليلة الابن من الصلب في معنى قوله تعالى فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهم وطرا تضمنه من إباحة تزويج حليلة الابن من جهة التبني وقوله في أزواج أدعيائهم يدل على أن حليلة الابن هي زوجته لأنه عبر في هذا الموضوع عنهم باسم الأزواج وفي الآية الأولى بذكر الحلائل قوله تعالى تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف قال أبو بكر قد اقتضى ذلك تحريم الجمع بين الأختين في سائر الوجوه لعموم اللفظ والجمع على وجوه منها أن يعقد عليهما جميعا معا فلا يصح نكاح واحدة منهما لأنه جامع بينهما وليست إحداهما بأولى يجوز نكاحها من الأخرى ولا يجوز تصحيح نكاحهما مع تحريم الله
[ 164 ]
تعالى الجمع بينهما وغير جائز تخيير الزوج في أن يختار أيتهما شاء من قبل أن العقدة وقعت فاسدة مثل النكاح في العدة أو هي تحت زوج فلا يصح أبدا ومن الجمع أن يتزوج أحدهما ثم يتزوج الأخرى بعدها فلا يصح نكاح الثانية لأن الجمع بها حصل وعقدها وقع منهيا عنه وعقد الأولى وقع مباحا فيفرق بينه وبين الثانية ومن الجمع أيضا أن يجمع بين وطئهما بملك اليمين مطلب: سئل علي عن وطء الاختين بملك اليمين فقال أحلتهما آية وحرمتهما آية إلى آخره وروى عن عثمان وابن عباس أنهما أباحا ذلك وقالا أحلتهما آية وحرمتهما آية وقال عمر وعلي وابن مسعود والزبير وابن عمر وعمار وزيد بن ثابت لا يجوز الجمع بينهما بملك اليمين وقال الشعبي سئل علي عن ذلك فقال أحلتهما آية وحرمتهما آية فالحرام أولى وروى عبد الرحمن المقري قال حدثنا موسى بن أيوب الغافقي قال حدثني عمي أياس بن عامر قال سألت علي بن أبي طالب عن الأختين بملك اليمين وقد وطئ إحداهما هل يطأ الأخرى فقال اعتق الموطوءة حتى يطأ الأخرى وقال ما حرم الله من الحرائر شيئا إلا حرم من الإماء مثله إلا عدد الأربع وروي عن عمار مثل ذلك قال أبو بكر أحلتهما آية يعنون به قوله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت إيمانكم حرمتهما آية قوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين فروى عن عثمان الإباحة وروي عنه أنه ذكر التحريم والتحليل وقال لا آمر ولا أنهى عنه وهذا القول منه يدل على أنه كان ناظرا فيه غير قاطع بالتحليل والتحريم فيه فجائز أن يكون قال فيه بالإباحة ثم وقف فيه وقطع علي فيه بالتحريم وهذا يدل على أنه كان من مذهبه أن الحظر والإباحة إذا اجتمعا فالحظر أولى إذا تساوى سبباهما وكذلك يجب أن يكون حكمهما في الأخبار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم ومذهب أصحابنا يدل على أن ذلك قولهم وقد بيناه في أصول الفقه وقد روى أياس بن عامر أنه قال لعلي إنهم يقولون إنك تقول أحلتهما آية وحرمتهما آية فقال كذبوا وهذا يحتمل أن يريد به نفي المساواة في مقتضى الآيتين وإبطال مذهب من يقول بالوقف فيه على ما روى عن عثمان لأنه قال في رواية الشعبي أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحريم أولى وإنكاره أن يكون أحلتهما آية وحرمتهما آية إنما هو على جهة أن آيتي التحليل والتحريم غير متساويتين في مقتضاهما وأن التحريم أولى من التحليل ومن جهة أخرى أن إطلاق القول بأنه أحلتهما آية وحرمتهما آية من غير تقييد هو قول منكر لاقتضاء حقيقته أن يكون شئ واحد مباحا محظورا في حال
[ 165 ]
واحدة فجائز أن يكون على رضي الله عنه أنكر إطلاق القول بأنه أحلتهما آية وحرمتهما آية من هذا الوجه وأنه إذا كان مقيدا بالقطع على أحد الوجهين كان سائغا جائزا على ما روى عنه في الخبر الآخر مطلب: لذا تساوي سببا الحظر والاباحة رجح منهما الحظر ومما يدل على أن التحريم أولى لو تساوت الآيتان في إيجاب حكميهما أن فعل المحظور يستحق به العقاب وترك المباح لا يستحق به العقاب والاحتياط الامتناع مما لا يأمن استحقاق العقاب به فهذه قضية واجبة في حكم العقل وأيضا فإن الآيتين غير متساويتين في إيجاب التحريم والتحليل وغير جائز الاعتراض بإحداهما على الأخرى إذ كل واحدة منهما ورودها في سبب غير سبب الأخرى وذلك لأن قوله تعالى (وأن تجمعوا بين الأختين وارد حكم التحريم كقوله تعالى وحلائل أبنائكم) (وأمهات نسائكم وسائر من ذكر في الآية تحريميها وقوله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم وارد في إباحة المسبية التي لها زوج في دار الحرب وأفاد وقوع الفرقة وقطع العصمة فيما بينهما فهو مستعمل فيما ورد فيه من إيقاع الفرقة بين المسبية وبين زوجها وإباحتها لمالكها فلا يجوز الاعتراض به على تحريم الجمع بين الأختين إذ كل واحدة من الآيتين واردة في سبب غير سبب الأخرى فيستعمل حكم كل واحدة منهما في السبب الذي وردت فيه ويدل على ذلك أنه لا خلاف بين المسلمين في أنها لم تعترض على حلائل الأبناء وأمهات النساء وسائر من ذكر تحريمهن في الآية وأنه لا يجوز وطء حليلة الابن ولا أم المرأة بملك اليمين ولم يكن قوله تعالى إلا ما ملكت أيمانكم لتخصيصهن لوروده في سبب غير سبب الآية الأخرى كذلك ينبغي أن يكون حكمه في اعتراضه على تحريم الجمع وامتناع علي رضي الله عنه ومن تابعه في ذلك من الصحابة من الاعتراض بقوله تعالى إلا ما ملكت أيمانكم على تحريم الجمع بين الأختين يدل على أن حكم الآيتين إذا وردتا في سببين إحداهما في التحليل والأخرى في التحريم أن كل واحدة منهما تجري على حكمها في ذلك السبب ولا يعترض بها على الأخرى وكذلك ينبغي أن يكون حكم الخبرين إذا وردا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك وقد بينا ذلك في أصول الفقه وأيضا لا نعلم خلافا بين المسلمين في حظر الجمع بين الأختين إحداهما بالنكاح والأخرى بملك اليمين نحو أن تكون عنده امرأة بنكاح فيشتري أختها أنه لا يجوز له وطؤهما جميعا وهذا يدل على أن تحريم الجمع قد انتظم ملك اليمين كما انتظم النكاح وعموم قوله تعالى تجمعوا بين الأختين يقتضي تحريم جمعهما على سائر الوجوه وهو موجب لتحريم تزويج المرأة وأختها تعتد منه لما فيه من الجمع بينهما في استحقاق نسب ولديهما وفي إيجاب
[ 166 ]
النفقة المستحقة بالنكاح والسكنى لهما وذلك كله من ضروب الجمع فوجب أن يكون محظورا منتفيا بتحريمه الجمع بينهما فإن قيل قوله تعالى وأن تجمعوا بين الأختين مقصور على النكاح دون غيره قيل له هذا غلط لاتفاق فقهاء الأمصار على تحريم الجمع بينهما بملك اليمين على ما بيناه وليس ملك اليمين بنكاح فعلمنا أن تحريم الجمع غير مقصور على النكاح وأيضا فإن اقتصارك بالتحريم على النكاح دون غيره من سائر ضروب الجمع تخصيص بغير دلالة وذلك غير سائغ لأحد وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار في ذلك فروي عن علي وابن عباس وزيد بن ثابت وعبيدة السلماني وعطاء ومحمد بن سيرين ومجاهد في آخرين من التابعين أنه لا يتزوج المرأة في عدة أختها وكذلك لا يتزوج الخامسة وأحدى الأربع تعتد منه فبعضهم أطلق العدة وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر والثوري والحسن بن صالح وروي عن عروة بن الزبير والقاسم بن محمد وخلاس له أن يتزوج أختها إذا كانت عدتها من طلاق بائن وهو قول مالك والأوزاعي والليث والشافعي واختلف عن سعيد بن المسيب والحسن وعطاء فروي عن كل واحد منهم روايتان إحداهما أنه يتزوجها والأخرى أنه لا يتزوجها وقال قتادة رجع الحسن عن قوله أنه يتزوجها في عدة أختها وما قدمنا من دلالة الآية وعمومها في تحريم الجمع كاف في إيجاب التحريم وما دامت الأخت معتدة منه ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على تحريم الجمع بين وطء الأختين بملك اليمين والمعنى فيه أن إباحة الوطء حكم من أحكام النكاح وإن لم يكن نكاحا ولا عقد فواجب على ذلك تحريم الجمع بينهما في حكم من أحكام النكاح فلما كان استلحاق النسب ووجوب النفقة والسكنى من أحكام النكاح وجب أن يكون ممنوعا من الجمع بينهما فيه فإن قيل كيف يكون جامعا بينهما مع ارتفاع الزوجية وكونها أجنبية منه ولو كان قد طلقها ثلاثا ثم وطئها في العدة وجب عليه الحد وهذا يدل على أنها بمنزلة الأجنبية منه فلا تمنع تزويج أختها قيل له لا يختلفان في وجوب الحد لأنه كما يجب عليه الحد كذلك يجب عليها بوطئه إياها ومع ذلك لا يجوز لها أن تتزوج وتجمع إلى حقوق نكاح الأول زوجا آخر ولم يكن وجوب الحد عليها بمطاوعتها إياه على الوطء مبيحا لها نكاح زوج آخر بل كانت في المنع من زوج ثان بمنزلة من هي في حباله وكذلك الزوج لا يجوز له جمع أختها في هذه الحال مع بقاء حقوق النكاح وإن كان وطؤه إياها موجبا للحد ودليل آخر وهو أنه لما كان تحريم نكاح الأخت من طريق الجمع ووجدنا تحريم نكاح زوج آخر إذا كانت عند زوج من طريق الجمع ثم وجدنا العدة تمنع من
[ 167 ]
الجمع ما تمنع نفس النكاح وجب أن يكون الزوج ممنوعا من تزويج أختها في عدتها كما منع ذلك في حال بقاء نكاحها إذ كانت العدة تمنع من الجمع ما يمنعه نفس النكاح كما جرت العدة مجرى النكاح في باب منعها من نكاح زوج آخر حتى تنقضي عدتها فإن قيل هذا يوجب أن يكون الرجل في العدة إذا منعته من تزويج الأخت حتى تنقضي عدتها قيل له ليس تحريم النكاح مقصورا على العدة حتى إذا منعناه من نكاح أختها فقد جعلناه في العدة ألا ترى أنه ممنوع من تزوج أختها إذا كانت معتدة منه من طلاق رجعي ولم يوجب الرجل في العدة وكذلك قبل طلاق كل واحد منهما ممنوع من عقد نكاح على الأخت أو لزوج آخر وليس واحد منهما في العدة وقوله تعالى إلا ما قد سلف قال أبو بكر قد ذكرنا معنى قوله إلا ما قد سلف عند ذكر قوله تعالى تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) واختلاف المختلفين في تأويله واحتماله لما قيل فيه وقال تعالى عند ذكر تحريم الجمع بين الأختين ما قد سلف وهو في هذا الموضع يحتمل من المعاني ما احتمله الأول وفيه احتمال لمعنى آخر لا يحتمله الأول وهو أن يكون معناه أن العقود المتقدمة على الأختين لا تنفسخ ويكون أن يختار إحداهما ويدل عليه حديث أبي وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه قال أسلمت وعندي أختان فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال طلق إحداهما وفي بعض الألفاظ طلق أيتهما شئت فلم يأمره بمفارقتهما عبد إن كان العقد عليهما معا ولم يأمره بمفارقة الآخرة منهما إن كان تزوجهما في عقدين ولم يسأله عن ذلك فدل ذلك على بقاء نكاحه عليهما بقوله طلق أيتهما شئت ودل ذلك على أن العقد عليهما كان صحيحا قبل نزول التحريم وأنهم كانوا مقرين على ما كانوا عليه من عقودهم قبل قيام حجة السمع ببطلانها واختلاف أهل العلم في الكافر يسلم وتحته أختان أو خمس أجنبيات فقال أبو حنيفة وأبو يوسف والثوري يختار الأوائل منهن إن كن خمسا وإن كانتا أختين اختار الأولى وإن كان تزوجهن في عقدة واحدة فرق بينه وبينهن وقل محمد بن الحسن ومالك والليث والأوزاعي والشافعي يختار من الخمس أربعا أيتهن شاء ومن الأختين أيتهما شاء إلا أن الأوزاعي روى عنه في الأختين أن الأولى امرأته ويفارق الآخرة وقال الحسن بن صالح يختار الأربع الأوائل فإن لم يدر أيتهن الأولى طلق كل واحدة حتى تنقضي عدتها ثم يتزوج أربعا والدليل على صحة القول الأول قوله تعالى (وأن تجمعوا بين الأختين وذلك خطاب لجميع المكلفين فكان عقد الكافر على الأختين بعد نزول التحريم كعقد المسلم في حكم الفساد فوجب التفريق بينه وبين الآخرة لوقوع
[ 168 ]
عقدها على فساد بنص التنزيل كما يفرق بينهما لو نكحها بعد الأسلام لقوله تعالى (أن تجمعوا بين الأختين والجمع واقع بالثانية وإن كان تزوجهما في عقدة واحدة فهي فاسدة فيهما جميعا لوقوعها منهيا عنها بظاهر النص مطلب: النهي عندنا يقتضي الفساد فدل ذلك من وجهين على ما ذكرنا أحدهما وقوع العقدة منهيا عنها والنهي عندنا يقتضي الفساد والثاني أنه منع الجمع بينهما بحال فلو بقينا عقدة عليهما بعد الإسلام كنا مثبتين لما نفاه الله تعالى من الجمع فدل ذلك على بطلان العقد الذي وقع به الجمع ومن جهة النظر أنه لما لم يجز أن يبتدئ المسلم عقدا على أختين ولم يجز أيضا أن يبقى له عقد على أختين وإن لم تكونا أختين في حال العقد كمن تزوج رضيعتين فأرضعتهما امرأة فاستوى حكم الابتداء والبقاء في نفي الجمع بينهما أشبه نكاح ذوات المحارم في استواء حال البقاء والابتداء فيهما فلما لم يختلف العقد على ذوات المحارم في وقوعه في حال الكفر وحال الإسلام ووجب التفريق متى طرأ عليه الإسلام وكان بمنزلة ابتداء العقد بعد الإسلام وجب مثله في نكاح الأختين وأكثر من أربع نسوة وكما لم يختلف حكم البقاء والابتداء فيهما كما لم في ذوات المحارم، وجب الحكم بفساده بعد الاسلام كما قلنا في ذوات المحارم. واحتج من خيره بعد الإسلام بحديث فيروز الديلمي الذي قدمناه وبما روى ابن أبي ليلى عن حميضة بن الشمردل عن الحرث بن قيس قال أسلمت وعندي ثمان نسوة فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أختار منهن أربعا وبما روي معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أن غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خذ منهن أربعا فأما حديث فيروز فإن في لفظه ما يدل على صحة العقد وكان قبل نزول التحريم لأنه قال أيتهما شئت وهذا يدل على بقاء العقد عليهما بعد الإسلام وحديث الحارث بن قيس يحتمل أن يكون العقد كان قبل نزول التحريم فكان صحيحا إلى أن طرأ التحريم فلزمه اختيار الأربع منهن ومفارقة سائرهن كرجل له امرأتان فطلق إحداهما ثلاثا فيقال له اختر أيهما شئت لأن العقد كان صحيحا إلى أن طرأ التحريم فإن قيل لو كان ذلك يختلف لسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن وقت العقد قيل له يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم ذلك فاكتفى بعلمه عن مسألته وأما حديث معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه في قصة غيلان فإنه مما لا يشك أهل النقل فيه أن معمرا أخطأ فيه بالبصرة وأن أصل هذا الحديث مقطوع من حديث
[ 169 ]
الزهري رواه مالك عن الزهري قال بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل من ثقيف أسلم وعنده عشر نسوة اختر منهن أربعا ورواه عنه عقيل ابن خالد عن ابن شهاب قال بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لغيلان بن سلمة وكيف يجوز أن يكون عنده عن سالم عن أبيه فيجعله بلاغا عن عثمان ابن محمد بن أبي سويد ويقال إنه إنما جاء الغلط من قبل أن معمرا كان عنده عن الزهري حديثان في قصة غيلان أحدهما هذا وهو بلاغ عن عثمان بن محمد بن أبي سويد والآخر حديثه عن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة طلق نساءه في زمن عمر وقسم ماله بين ورثته فقال له عمر لئن لم تراجع نساءك ثم مت لأورثهن ثم لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال فأخطأ معمر وجعل إسناد هذا الحديث لحديث إسلامه مع النسوة فصل قال أبو بكر والمنصوص على تحريمه في الكتاب هو الجمع بين الأختين وقد وردت آثار متواتره في النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها رواه علي وابن عباس وجابر وابن عمر وأبو موسى وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وعائشة وعبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على بنت أخيها ولا على بنت أختها وفي بعضها لا الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى على اختلاف بعض الألفاظ مع اتفاق المعنى وقد تلقها الناس بالقبول مع تواترها واستفاضتها وهي من الأخبار الموجبة للعلم والعمل فوجب استعمال حكمها مع الآية مطلب: شذت طائفة من الخوارج بإباحة الجمع بين غير الاختين من المحارم وشذت طائفة من الخوارج بإباحة الجمع بين من عدا الأختين لقوله تعالى (وأحل لكم ما وراء ذلكم وأخطأت في ذلك وضلت عن سواء السبيل لأن الله تعالى كما قال وأحل لكم ما وراء ذلكم قال وما آتاكم الرسول فخذوه [ الحشر: 7 ] وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الجمع بين من ذكرنا فوجب أن يكون مضموما إلى الآية فيكون قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم مستعملا فيمن عدا الأختين وعدا من بين النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الجمع بينهن وليس يخلو قوله تعالى وأحل لكم من وراء ذلكم من أن يكون نزل قبل حكم النبي صلى الله عليه وسلم بتحريم من حرم الجمع بينهن أو معه أو بعده وغير جائز أن يكون قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم بعد الخبر لأن قوله تعالى (وأحل لكم ما وراء ذلكم مرتب على تحريم من ذكر تحريمهن منهن لأن قوله ما وراء ذلكم المراد به ما وراء من تقدم ذكر تحريمهن وقد كان قبل تحريم الجمع بين
[ 170 ]
الأختين جميع ذلك مباحا فعلمنا أن تحريم من ذكر تحريم الجمع بينهن في الخبر لم يكن قبل تحريم الجمع بين الأختين وإذا امتنع أن يكون الخبر قبل الآية لم يخل من أن يكون معها أو بعدها فإن كان معها فلم ترد الآية إلا خاصة فيما عدا ما ذكر في الخبر تحريم جمعهن وعلمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك عقيب تلاوة الآية وبين مراد الله تعالى بها فلم يعقل السامعون للآية حكما إلا خاصا على ما بينا وإن كان حكم الآية استقر على مقتضى عموم لفظها ثم ورد الخبر فإن هذا لا يكون إلا على وجه النسخ ونسخ القرآن جائز بمثله لتواتره واستفاضته وكونه في حيز الأخبار الموجبة للعلم والعمل فإن لم يثبت عندنا تاريخ الآية والخبر مع حصول اليقين بأنه غير منسوخ بالآية لأنه لم يرد قبلها على ما بينا آنفا وجب استعماله مع الآية وأولى الأشياء أن يكون الآية والخبر وردا معا لأنه ليس عندنا علم بتاريخهما وغير جائز لنا الحكم بتأخره عن الآية ونسخ بعض أحكام الآية به لأن ذلك لا يكون إلا بعد استقرار حكم الآية على عمومها ثم ورد النسخ عليها بالخبر فوجب الحكم بورودهما معا ولأن الآية والخبر إذا لم يعلم تاريخهما وجب الحكم بهما معا كالغرقى والقوم الذين يقع عليهم البيت إذا لم يعلم موت أحدهم متقدما على الآخر حكمنا بموتهم جميعا معا والله أعلم باب نكاح ذوات الزوج قال الله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت عليه عطفا على من حرم من النساء من عند قوله تعالى حرمت عليكم أمهاتكم فروى سفيان عن حماد عن إبراهيم عن عبد الله أبي والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم قال ذوات الأزواج من المسلمين والمشركين وقال علي بن أبي طالب ذوات الأزواج من المشركين وقد روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس كل ذات زوج إتيانها زنا إلا ما سبيت قال أبو بكر اتفق هؤلاء على أن المراد بقوله تعالى من النساء) ذوات الأزواج منهن وأن نكاحها حرام ما دامت ذات زوج واختلفوا في قوله تعالى (إلا ما ملكت أيمانكم فتأوله علي وابن عباس في رواية وعمر وعبد الرحمن بن عوف وابن عمر أن الآية إنما وردت في ذوات الأزواح (من السبايا أبيح وطؤهن بملك اليمين ووجب بحدوث السبي عليها دون زوجها وقوع الفرقة بينهما وكانوا يقولون أن بيع الأمة لا يكون طلاقا ولا يبطل نكاحها وتأوله ابن مسعود وأبي بن كعب وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله وابن عباس في رواية عكرمة أنه في جميع ذوات الأزواج من السبايا وغيرهم وكانوا يقولون بيع الأمة طلاقها وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا
[ 171 ]
أبو داود قال حدثنا عبد الله بن عمر بن ميسرة قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد عن قتادة عن أبي الخليل عن أبي علقمة الهاشمي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جيشا إلى أوطاس فلقوا عدوا فقاتلوهم وظهروا عليهم فأصابوا منهم سبايا لهن أزواج من المشركين فكان المسلمون يتحرجون من غشيانهم فأنزل الله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم أي هن لكم حلال إذا انقضت عدتهن وقد ذكر أن أبا علقمة هذا رجل جليل من أهل العلم وقد روي عنه يعلى ابن عطاء وروى هو هذا الحديث عن أبي سعيد وله أحاديث عن أبي هريرة وهذا حديث صحيح السند قد أخبر فيه بسبب نزول الآية وأنها في السبايا وتأولها ابن مسعود ومن وافقه على جميع النساء ذوات الأزواج إذا ملكن حل وطؤهن لمالكهن ما ووقعت الفرقة بينهن وبين أزواجهن فإن قيل أنتم لا تعتبرون السبب وإنما تراعون حكم اللفظ إن كان عاما فهو على عمومه حتى تقوم دلالة الخصوص فهلا اعتبرت ذلك في هذه الآية وجعلتها على العموم في سائر من يطرأ عليه الملك من النساء ذوات الأزواج فينتظم السبايا وغيرهن قيل له الدلالة ظاهرة في الآية على خصوصها في السبايا وذلك لأنه قال المحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم فلو كان حدوث الملك موجبا لإيقاع الفرقة لوجب أن تقع الفرقة بينها وبين زوجها إذا اشترتها امرأة أو أخوها من الرضاعة لحدوث الملك فإن قيل جائز أن يقال ذلك في سائر من طرأ عليهن الملك سواء كان حدوث الملك سببا لإباحة الوطء أو لم يكن بأن تملكها امرأة أو رجل لا يحل له وطؤها قيل له فشأن الآية إنما هو فيمن حدث له ملك اليمين فأباحت له وطأها لأنه استثناء بملك اليمين من حظر وطء المحصنات من النساء فواجب على ذلك أنه إذا لم يستبح المالك وطأها بملك اليمين أن تكون الزوجية قائمة بينها وبين زوجها بحكم الآية وإذا وجب ذلك بحكم الآية وجب أن يكون قوله تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم خاصا في السبايا ويكون السبب الموجب للفرقة اختلاف الدين لا حدوث الملك ويدل على أن حدوث الملك لا يوجب الفرقة ما روى حماد عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة أنها اشترت بريرة فأعتقتها وشرطت لأهلها الولاء فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الولاء لمن أعتق وقال له يا بريرة اختاري فالأمر إليك ورواه سماك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة مثله وروى قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أن زوج بريرة كان عبدا أسود يسمى مغيثا فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أن الولاء لمن أعطى الثمن وخيرها
[ 172 ]
فإن قيل فقد روى ابن عباس في أمر بريرة ما روى ثم قال بعد ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم بيع الأمة طلاقها فينبغي أن يقضي قوله هذا ما رواه لأنه لا يجوز أن يخالف النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه قيل له قد روي عن ابن عباس أن الآية نزلت في السبايا وأن بيع الأمة لا يوقع فرقة بينها وبين زوجها فجائز أن يكون الذي ذكرت عنهمن أن بيع الأمة طلاقها كان يقول قبل أن تثبت عنده قصة بريرة وتخيير النبي صلى الله عليه وسلم إياها بعد الشرى فلما سمع بقصة بريرة رجع عن قوله وأيضا يحتمل أن يريد بقوله بيع الأمة طلاقها) إذا اشتراها الزوج ولا يبقى النكاح مع الملك والنظر يدل على أن بيع الأمة ليس بطلاق ولا يوجب الفرقة وذلك لأن الطلاق لا يملكه الزوج ولا يصح إلا بإيقاعه أو بسبب من قبله فلما لم يكن من الزوج في ذلك سبب وجب أن لا يكون طلاقا ويدل أيضا على ذلك أن ملك اليمين لا ينافي النكاح لأن الملك موجود قبل البيع غير ناف للنكاح فكذلك ملك المشتري لا ينافيه فإن قيل لما طرأ ملك المشتري ولم يكن منه رضى بالنكاح وجب أن ينفسخ قيل له هذا غلط لأنه قد ثبت أن الملك لا ينافي النكاح والمعنى الذي ذكرت إن كان معتبرا فإنما يوجب للمشتري خيارا في فسخ النكاح وليس هذا قول أحد لأن عبد الله بن مسعود ومن تابعه يوجبون فسخ النكاح بحدوث الملك مطلب: في حكم الزوجين الحربيين إذا سبيا معا واختلف الفقهاء في الزوجين إذا سبيا معا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر إذا سبى الحربيان معا وهما زوجان فهما على النكاح وإن سبي أحدهما قبل الآخر وأخرج إلى دار الإسلام فقد وقعت الفرقة وهو قول الثوري وقال الأوزاعي إذا سبيا جميعا فما كانا في المقاسم فهما على النكاح فإذا اشتراهما رجل فإن شاء جمع بينهما وإن شاء فرق بينهما فاتخذها لنفسه أو زوجها غيره بعد ما يستبرئها بحيضة وهو قول الليث بن سعد وقال الحسن بن صالح إذا سبيت ذات زوج استبرئت بحيضتين لأن زوجها أحق بها إذا جاء في عدتها وغير ذات الأزواج بحيضة وقال مالك والشافعي إذا سبيت بانت من زوجها سواء كان معها زوجها أو لم يكن قال أبو بكر قد ثبت أن حدوث الملك غير موجب للفرقة بدلالة الأمة المبيعة والمورثة لا فوجب أن لا تقع الفرقة بالسبي نفسه لأنه ليس فيه أكثر من حدوث الملك ودليل آخر وهو أن حدوث الرق عليها لا يمنع ابتداء العقد فلأن لا يمنع بقاءه أولى لأن البقاء هو آكد في ثبوت النكاح معه من الابتداء ألا ترى أنه قد يمنع الابتداء مالا يمنع البقاء وهو حدوث العدة عليها من وطء بشبهة يمنع ابتداء العقد ولا يمنع بقاء العقد
[ 173 ]
المتقدم فإن احتجوا بحديث أبي سعيد الخدري في قصة سبايا أوطاس وسبب نزول الآية عليها وهو قوله من النساء إلا ما ملكت أيمانكم لم يفرق بين من سبيت مع زوجها أو وحدها قيل له روى حماد قال أخبرنا الحجاج عن سالم المكي عن محمد بن علي قال لما كان يوم أوطاس لحقت الرجال بالجبال وأخذت النساء فقال المسلمون كيف نصنع ولهن أزواج فأنزل الله تعالى من النساء إلا ما ملكت أيمانكم فأخبر أن الرجال لحقوا بالجبال وأن السبايا كن منفردات عن الأزواج والآية فيهن نزلت وأيضا لم يأسر النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة حنين من الرجال أحدا فيما نقل أهل المغازي وإنما كانوا من بين قتيل أو مهزوم وسبى النساء ثم جاءه الرجال بعد ما وضعت الحرب أوزارها فسألوه أن يمن عليهم بإطلاق سباياهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم وقال للناس من رد عليهم فذاك ومن تمسك بشئ منهن فله خمس فرائض في كل رأس وأطلق الناس سباياهم فثبت بذلك أنه لم يكن مع ا لسبايا أن أزواجهن فإن احتجوا بعموم قوله من النساء إلا ما ملكت أيمانكم لم يخصص من معهن أزواجهن والمنفردات على منهن قيل له قد اتفقنا على أنه لم يرد عموم الحكم في إيجاب الفرقة بالملك لأنه لو كان كذلك لوجب أن تقع الفرقة بشرى الأمة وهبتها وبالميراث وغيره من وجوه الأملاك الحادثة فلما لم يكن ذلك كذلك علمنا أن الفرقة لم تتعلق بحدوث الملك وكان ذلك دليلا على مراد الآية وذلك لأنه إذا لم يخل مراد الله تعالى في المعنى الموجب للفرقة في المسبية من أحد وجهين إما اختلاف الدارين بهما أو حدوث الملك ثم قامت دلالة السنة واتفاق الخصم معنا على نفي إيجاب الفرقة بحدوث الملك قضى ذلك على مراد الآية بأنه اختلاف الدارين وأوجب ذلك خصوص الآية في المسبيات دون أزواجهن مطلب: إذا خرجت الحربية إينا مسلمة أو ذمية ولم يحلق بها زوجها وقعت الفرقة بينهما ويدل على أن المعنى فيه ما ذكرنا من اختلاف الدارين أنهما لو خرجا مسلمين أو ذميين لم تقع بينهما فرقة لأنهما لم تختلف بهما الداران فدل ذلك على أن المعنى الموجب للفرقة بين المسبية وزوجها إذا كانت منفردة اختلاف الدارين بهما ويدل عليه أن الحربية إذا خرجت إلينا مسلمة أو ذمية ثم لم يلحق بها زوجها وقعت الفرقة بلا خلاف وقد حكم الله تعالى بذلك في المهاجرات في قوله ولا جناح عليكم أن
[ 174 ]
تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ثم قال ولا تمسكوا بعصم الكوافر [ الممتحنة: 10 ]. قال أبو بكر قوله تعالى ما ملكت أيمانكم يقتضى إباحة الوطء بملك اليمين لوجود الملك إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روى عنه ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عمرو بن عون قال أخبرنا شريك عن قيس بن وهب عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاس لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا أبو معاوية عن محمد بن إسحاق قال حدثني يزيد بن أبي حبيب عن أبي مرزوق عن حنش الصنعاني عن رويفع بن ثابت الأنصاري قال قام فينا خطيبا فقال أما أني لا أقول لكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم حنين لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر ان يسقى ماؤه زرع غيره حتى يستبرئها بحيضة قال أبو داود ذكر الاستبراء ههنا وهم من أبي معاوية وهو صحيح في حديث أبي سعيد وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا النفيلي قال حدثنا مسكين قال حدثنا شعبة عن يزيد بن خمير عن عبد الرحمن ابن جبير بن نفير عن أبيه عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة فرأى امرأة مجحا فقال لعل صاحبها ألم بها قالوا نعم قال لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره كيف يورثه وهو لا يحل له وكيف يستخدمه وهو لا يحل له فهذه الأخبار تمنع من استحدث ملكا في جارية أن يطأها حتى يستبرئها إن كانت حائلا وحتى تضع حملها إن كانت حاملا وليس بين فقهاء الأمصار خلاف في وجوب استبراء المسبية على ما ذكرنا إلا أن الحسن بن صالح قال عليها العدة حيضتين إذا كان لها زوج في دار الحرب وقد ثبت بحديث أبي سعيد الذي ذكرنا الاستبراء بحيضة واحدة وليس هذا الاستبراء بعدة لانها لو كانت عدة لفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين ذوات الأزواج منهن وبين من ليس لها زوج لأن العدة لا تجب إلا عن فراش فلما سوى النبي صلى الله عليه وسلم بين من كان لها فراش وبين من لم يكن لها فراش دل ذلك على أن هذه الحيضة ليست بعدة
[ 175 ]
فإن قيل قد ذكر في حديث أبي سعيد الذي ذكرت إذا انقضت عدتهن فجعل ذلك عدة قيل له يجوز أن تكون هذه اللفظة من كلام الراوي تأويلا منه للاستبراء أنه عدة وجائز أن تكون العدة لما كان أصلها استبراء الرحم أجرى اسم العدة على الاستبراء على وجه المجاز قال أبو بكر وقد روى في قوله تعالى من النساء إلا ما ملكت أيمانكم تأويل آخر وروى زمعة عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال ذوات الأزواج ورجع ذلك إلى قوله حرم الله تعالى الزنا وروى معمر عن ابن طاوس عن أبيه في قوله تعالى من النساء إلا ما ملكت أيمانكم فزوجتك مما ملكت يمينك يقول حرم الله الزنا لا يحل لك أن تطأ امرأة إلا ما ملكت يمينك وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم قال نهى عن الزنا وعن عطاء بن السائب قال كل محصنة عليك حرام إلا امرأة تملكها بنكاح قال أبو بكر وكان تأويلها عند هؤلاء أن ذوات الأزواج حرام إلا على أزواجهن وليس يمتنع أن يكون ذلك من مراد الله تعالى بالآية لاحتمال اللفظ له وذلك لا يمنع إرادة المعاني التي تأولها الصحابة عليها من إباحة وطء السبايا اللاتي لهن أزواج حربيون فيكون محمولا على الأمرين والأظهر أن ملك اليمين هي الأمة دون الزوجات لأن الله قد فرق بينهما فقال الله تعالى هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فجعل ملك اليمين غير الزوجات والإطلاق إنما يتناول الإماء المملوكات دون الزوجات وهي كذلك في الحقيقة لأن الزوج لا يملك من زوجته شيئا وإنما له منها استباحة الوطء ومنافع بضعها في ملكها دونه ألا ترى أنها لو وطئت بشبهة وهي تحت زوج كان المهر لها دونه فدل ذلك على أنه لا يملك من زوجته شيئا فوجب ان يجمل قوله تعالى إلا ما ملكت أيمانكم) على من يملكها في الحقيقة وهي المسبية قوله تعالى الله عليكم روي عن عبيدة قال أربع وإنما نصب كتاب الله لأنهم يقولون أن معنى كتاب الله عليكم أي كتب الله عليكم ذلك وقيل معناه حرم ذلك كتابا من الله عليكم وهذا تأكيد لوجوبه وإخبار منه لنا بفرضه لأن الكتاب هو الفرض قوله تعالى لكم ما وراء ذلكم روى عن عبيدة السلماني والسدي أحل ما دون الخمس أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح وقال عطاء أحل لكم ما وراء ذوات المحارم من أقاربكم وقال قتادة ما وراء ذلكم ما ملكت
[ 176 ]
أيمانكم وقيل ما وراء ذوات المحارم وما وراء الزيادة على الأربع أن تبتغوا بأموالكم نكاحا أو ملك يمين قال أبو بكر هو عام فيما عدا المحرمات في الآية وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم باب المهور قال الله تعالى لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم فعقد الإباحة بشريطة إيجاب بدل البضع وهو مال فدل على معنيين أحدهما أن بدل البضع واجب أن يكون ما يستحق به تسليم مال والثاني أن يكون المهر ما يسمى أموالا وذلك لأن هذا خطاب لكل واحد في إباحة ما وراء ذلك أن يبتغي البضع بما يسمى أموالا كقوله تعالى عليكم أمهاتكم وبناتكم خطاب لكل أحد في تحريم أمهاته وبناته عليه وفي ذلك دليل على أنه لا يجوز أن يكون المهر الشئ التافه الذي لا يسمى أموالا واختلف الفقهاء في مقدار المهر فروي عن علي رضي الله عنه أنه قال لا مهر أقل من عشرة دراهم وهو قول الشعبي وإبراهيم في آخرين من التابعين وقول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد وقال أبو سعيد الخدري والحسن وسعيد بن المسيب وعطاء يجوز النكاح على قليل المهر وكثيره وتزوج عبد الرحمن بن عوف على وزن نواة من ذهب فقال بعض الرواة قيمتها ثلاثة دراهم وثلث وقال آخرون النواة عشرة أو خمسة وقال مالك أقل المهر ربع دينار وقال ابن أبي ليلى والليث والثوري والحسن ابن صالح والشافعي يجوز بقليل المال وكثيره ولو درهم قال أبو بكر قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم يدل على أن ما لا يسمى أموالا لا يكون مهرا وإن شرطه أن يسمى أموالا هذا مقتضى الآية وظاهرها ومن كان له درهم أو درهمان لا يقال عنده أموال فلم يصح أن يكون مهرا بمقتضى الظاهر فإن قيل ومن عنده عشرة دراهم لا يقال عنده أموال وقد أجزئها الله مهرا قيل له كذلك يقتضي الظاهر لكن أجزناها بالاتفاق وجائز تخصيص الآية بالإجماع وأيضا قد روى حرام بن عثمان عن ابن جابر عن أبيهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا مهر أقل من عشرة دراهم وقال علي بن أبي طالب لا مهر أقل من عشرة دراهم ولا سبيل إلى معرفة هذا الضر ب من المقادير التي هي حقوق الله تعالى من طريق بالاجتهاد والرأي وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق وتقديره العشرة مهرا دون ما هو أقل منها يدل على أنه
[ 177 ]
قاله توقيفا وهو نظير ما روي عن أنس في أقل الحيض أنه ثلاثة أيام وأكثره عشرة وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي في أكثر النفاس أنه أربعون يوما أن ذلك توقيف إذ لا يقال في مثله من طريق الرأي وكذلك ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه إذا قعد في آخر صلاته مقدار التشهيد فقد تمت صلاته فدل تقديره للفرض بمقدار التشهيد أنه قاله من طريق التوقيف وقد احتج بعض أصحابنا لاعتبار العشرة أن البضع عضو لا تجوز استباحته إلا بمال فأشبه القطع في السرقة فلما كانت اليد عضوا لا تجوز استباحته إلا بمال وكان المقدار الذي يستباح به عشرة على أصلهم فكذلك المهر يعتبر به وأيضا لما اتفق الجميع على أنه لا يجوز استباحة البضع بغير بدل واختلفوا فيما تجوز استباحته به من المقدار وجب أن يكون باقيا على الحظر في منع استباحته إلا بما قام دليل جوازه وهو العشرة المتفق عليها وما دونها مختلف فيه فالبضع باق على حكم الحظر وأيضا لما لم تجز استباحته إلا ببدل كان الواجب أن يكون البدل الذي به يصح قيمة البضع هو مهر المثل وأن لا يحط عنه شئ إلا بدلالة ألا ترى أنه لو تزوجها على غير مهر لكان الواجب لها مهر مثلها وفي ذلك دليل على أن عقد النكاح يوجب مهر المثل فغير جائز إسقاط شئ من موجبه إلا بدلالة وقد قامت دلالة الإجماع على جواز إسقاط ما زاد على العشرة واختلفوا فيما دونه أن يكون واجبا بإيجاب العقد له إذا لم تقم الدلالة على إسقاطه فإن قيل لما قال الله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم اقتضى ذلك إيجاب نصف الفرض قليلا كان أو كثيرا قيل له لما ثبت بما ذكرنا ان المهر لا يكون أقل من عشرة دراهم كانت تسميته لبعض العشرة تسمية لها كسائر الأشياء التي لا تتبعض تكون تسميته لبعضها تسمية لجميعها كالطلاق والنكاح ونحوهما وإذا كانت العشرة لا تتبعض في العقد صارت تسميته لبعضها تسمية لجميعها فإذا طلقها قبل الدخول وجب لها نصف العشرة لأن العشرة هي الفرض ألا ترى أنه لو طلق امرأته نصف تطليقه كان مطلقا لها تطليقة كاملة ولو طلق نصفها كان مطلقا كذلك لجميعها وكذلك لو عفا عن نصف دم عمد كان عافيا عن جميعه فلما كان ذلك كذلك وجب أن تكون تسميته لخمسة تسمية للعشرة لقيام الدلالة على أن العشرة لا تتبعض في عقد النكاح فمتى أوجبنا بعد الطلاق خمسة كان ذلك نصف الفرض وأيضا فإنا نوجب نصف المفروض فلسنا مخالفين لحكم الآية ونوجب الزيادة إلى تمام الخمسة بدلالة أخرى وإنما كان يكون مذهبنا خلاف الآية لو
[ 178 ]
لم نوجب نصف الفرض فأما إذا أوجبناه وأوجبنا زيادة عليه بدلالة أخرى فليس في ذلك مخالفة للآية واحتج من أجاز أن يكون المهر أقل من عشرة بحديث عامر بن ربيعة أن امرأة جئ بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد تزوجت رجلا على نعلين فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم رضيت من نفسك ومالك بنعلين قالت نعم فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبحديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما أعطى امرأة في نكاح كف دقيق أو سويق أو طعاما فقد استحل وبحديث الحجاج ابن أرطأة عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي عن عبد الرحمن بن السلماني قال خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنكحوا الأيامى منكم فقالوا يارسول الله وما العلائق بينهما قال ما تراضى به الأهلون وبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من استحل بدرهمين فقد استحل وإن عبد الرحمن بن عوف تزوج على وزن نواة من ذهب وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال أولم ولو بشاة ولم ينكر ذلك عليه وبحديث أبي حازم عن سهل بن سعد في قصة المرأة التي قالت لنبي صلى الله عليه وسلم قد وهبت نفسي لك يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم مالي بالنساء من حاجة فقال له رجل زوجنيها فقال هل عندك من شئ تصدقها إياه فقال إزاري هذا فقال إن اعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك إلى أن قال إلتمس ولو خاتما من حديد فأجاز أن يكون المهر خاتما من حديد لا يساوي عشرة والجواب عن إجازته النكاح على نعلين أن النعلين قد يجوز أن تساويا عشرة دراهم أو أكثر فلا دلالة فيه على موضع الخلاف لأنه تزوجها على نعلين ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وجائز أن يكون قيمتها عشرة أو أكثر وليس بعموم لفظ في إباحة التزويج على نعلين أي نعلين كانتا فلا دلالة فيه على قول المخالف وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بجواز النكاح وجواز النكاح لا يدل على أنه هو المهر لا غيره لأنه لو تزوجها على غير مهر لكان النكاح جائزا ولم يدل جواز النكاح على أن لا شئ لها كذلك جواز النكاح على نعلين قيمتهما أقل من عشرة دراهم لا دلالة فيه على أنه لا يجب غيرهما وأما قوله من استحل بدرهمين أو بكف دقيق فقد استحل فإنه أخبار عن ملك البضع ولا دلالة فيه على أنه لا يجب غيره وكذلك حديث عبد الرحمن في تزوجه على وزن نواة من ذهب وعلى أنه قد روى في الخبر أن قيمتها كانت خمسة أو عشرة وأما قوله العلائق ما تراضى به الأهلون فإنه محمول على ما يجوز مثله في الشرع ألا ترى أنهم لو تراضوا بخمر أو خنزير أو شغار لما جاز تراضيهما كذلك في حكم التسمية يكون مرتبا على ما ثبت حكمه في الشرع من تسمية العشرة وأما حديث سهل بن سعد فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره
[ 179 ]
بتعجيل شئ لها وعلى ذلك كان مخرج كلامه لأنه لو أراد ما يصح به العقد من التسمية لاكتفى بإثباته في ذمته ما يجوز به العقد عن السؤال عما يعجل فدل ذلك على أنه لم يرد به ما يصح مهرا ألا ترى أنه لما لم يجد شيئا قال زوجتكها بما معك من القرآن وما معه من القرآن لا يكون مهرا فدل ذلك على صحة ما ذكرنا واختلف الفقهاء فيمن تزوج امرأة على خدمته سنة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف إذا تزوج امرأة على خدمته سنة فإن كان حرا فلها مهر مثلها وإن كان عبدا فلها خدمته سنة وقال محمد لها قيمة خدمته إن كان حرا وقال مالك إذا تزوجها على أن يؤاجرها نفسه سنة أو أكثر أو أقل ويكون ذلك صداقها فإنه يفسخ النكاح إن لم يدخل بها وإن دخل بها ثبت النكاح وقال الأوزاعي إذا تزوجها على أن يحجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها فهو ضامن لنصف حجها من الحملان والكسوة والنفقة وقال الحسن بن صالح والشافعي النكاح جائز على خدمته إذا كان وقتا معلوما وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إذا تزوجها على تعليم سورة من القرآن لم يكن ذلك مهرا ولها مهر مثلها وهو قول مالك والليث وقال الشافعي يكون ذلك مهرا لها فإن طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف أجرة التعليم إن كان قد علمها وهي رواية المزني وحكى الربيع عنه أنه يرجع عليها بصف مهر مثلها قال أبو بكر قوله تعالى لكم ما وراء ذلك أن تبتغوا بأموالكم قد اقتضى أن يكون بدل البضع ما يستحق به تسليم مال لأن قوله أن تبتغوا بأموالكم يحتمل معنيين أحدهما تمليك المال بدلا من البضع والآخر تسليمه لاستيفاء منافعه فدل ذلك على أن المهر الذي يملك به البضع إما أن يكون مالا أو منافع في مال يستحق بها تسليمه إليها إذ كان قوله أن تبتغوا بأموالكم يشتمل عليهما ويقتضيهما مطلب: في أن المنافع لا تكون مهرا ويدل على أن المهر حكمه أن يكون مالا قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وذلك لأن قوله وآتوا النساء صدقاتهن نحلة أمر يقتضي ظاهره الإيجاب ودل بفحواه على أن المهر ينبغي أن يكون مالا من وجهين أحدهما قوله وآتوا عن معناه أعطوا والإعطاء إنما يكون في الأعيان دون المنافع إذ المنافع لا يتأتى فيها الإعطاء على الحقيقة والثاني قوله فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) [ النساء: 4 ] وذلك لا يكون في المنافع وإنما هو في المأكول أو فيما يمكن صرفه بعد
[ 180 ]
الإعطاء إلى المأكول فدلت هذه الآية على أن المنافع لا تكون مهرا فإن قيل فهذا يوجب أن لا تكون خدمة العبد مهرا قيل له كذلك اقتضى ظاهر الآية ولولا قيام الدلالة لما جاز ويدل عليه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح الشغار وهو أن يزوجه أخته على أن يزوجه أخته أو يزوجه أمته على أن يزوجه أمته وليس بينهما مهر وهذا أصل في أن المهر لا يصح إلا أن يستحق به تسليم مال فلما أبطل النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون منافع البضع مهرا لأنها ليست بمال دل ذلك على أن كل ما شرط من بدل البضع مما لا يستحق به تسليم مال لا يكون مهرا وكذلك قال أصحابنا لو تزوجها على عفو من دم عمدا وعلى طلاق فلانة أن ذلك ليس بمهر مثل منافع البضع إذا جعلها مهرا وقد قال الشافعي أنه إذا سمي في الشغار لإحداهما مهرا أن النكاح جائز ولكل واحدة منهما مهر مثلها ولم يجعل البضع مهرا في الحال التي أجاز النكاح فيها ونهى ا لنبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح الشغار فدل ذلك على معنيين أحدهما أنه إذا كان الشغار في الأمتين كان المهر منافع البضع لان المهر إنما يستحقه المولى، فأبطل النبي صلى لله عليه وآله وسلم أن يكون منافع البضع بدلا في النكاح والثاني إذا كان الشغار في الحرتين وهو أن يقول أزوجك أختي على أن تزوجني أختك أو أزوجك بنتي على أن تزوجني بنتك فيكون هذا عقدا عاريا من ذكر المهر لواحدة من المرأتين لأنه شرط المنافع لغير المنكوحة وهو الولي فالشغار من في أحد الوجهين يكون عقد نكاح عاريا عن تسمية بدل للمنكوحة وفي الوجه الآخر يكون بدل البضع بضع آخر فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أن يكون بدلا فصار أصلا في أن بدل البضع شرطه أن يستحق به تسليم مال فإن قيل إن منافع بضع الأمة حق في مال فهلا كانت كالتزويج على خدمة العبد قيل له لأن خدمة العبد يستحق بها تسليم مال وهو رقبة العبد كالمستأجر له يستحق تسليم العبد إليه للخدمة وزوج الأمة لا يستحق تسليمها إليه بعقد النكاح لأن للمولى أن لا يبوئها بيتا وقوله تعالى تبتغوا بأموالكم قد اقتضى أن يستحق عليه بعقد النكاح تسليم مال بدلا من البضع وأما التزويج على تعليم سورة من القرآن فإنه لا يصح مهرا من وجهين أحدهما ما ذكرنا من أنه لا يستحق به تسليم مال كخدمة الحر والوجه الآخر أن تعليم القرآن فرض على الكفاية فكل من علم إنسانا شيئا من القرآن فإنما قام بفرض وقد روى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بلغوا عني ولو آية فكيف يجوز أن يجعل عوضا للبضع ولو جاز ذلك لجاز التزويج على تعليم الإسلام وهذا باطل لأن ما أوجب الله تعالى على الإنسان فعله فهو متى فعله فعله فرضا فلا يستحق أن يأخذ عليه شيئا من
[ 181 ]
أعراض الدنيا ولو جاز ذلك لجاز للحكام أخذ الرشى على الحكم وقد جعل الله ذلك سحتا محرما فإن احتج محتج بحديث سهل بن سعد في قصة المرأة التي قالت للنبي صلى الله عليه وسلم قد وهبت نفسي لك فقال رجل زوجنيها إلى أن قال هل معك من القرآن شئ قال نعم سورة كذا فقال صلى الله عليه وسلم قد زوجتكها بما معك من القرآن وبما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله قال حدثني أبي قال حدثني إبراهيم بن طهمان عن الحجاج الباهلي عن عسل عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة بنحو قصة سهل بن سعد في أمر المرأة وقال فيه ما تحفظ من القرآن قال سورة البقرة أو التي تليها قال قم فعلمها عشرين آية وهي امرأتك قيل له معناه لما معك من القرآن كما قال تعالى بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون ومعناه لما كنتم تفرحون وأيضا كون القرآن معه لا يوجب أن يكون بدلا والتعليم ليس له ذكر في هذا الخبر فعلمنا أن مراده أني زوجتك تعظيما للقرآن ولأجل ما معك من القرآن وهو كما روى عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس قال خطب أبو طلحة أم سليم فقالت إني آمنت بهذا الرجل وشهدت أنه رسول الله فإن تابعتني تزوجتك قال فأنا على ما أنت عليه فتزوجته فكان صداقها الإسلام ومعناه أنها تزوجته لأجل إسلامه لأن الإسلام لا يكون صداقا لأحد في الحقيقة وأما حديث إبراهيم بن طهمان فإنه ضعيف السند وقد روى هذه القصة مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد فلم يذكر أنه قال علمها ولم يعارض بحديث إبراهيم بن طهمان ولو صح هذا الحديث لم يكن فيه دلالة على أنه جعل تعليم القرآن مهرا لأنه جائز أن يكون أمره بتعليمها القرآن ويكون المهر ثابتا في ذمته إذ لم يقل إن تعليم القرآن مهر لها مطلب: في قوله تعالى: (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي) الاية فإن قيل قال الله تعالى إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فجعل منافع الحر بدلا من البضع قيل له لم يشرط المنافع للمرأة وإنما شرطها لشعيب النبي عليه السلام وما شرط للأب لا يكون مهرا فالاحتجاج به باطل في مسألتنا وأيضا لو صح أنها كانت مشروطة لها وأنه إنما أضافها إلى نفسه لأنه هو المتولي للعقد أو لأن مال الولد منسوب إلى الوالد كقوله صلى الله عليه وسلم أنت ومالك لأبيك فهو منسوخ بالنهي عن الشغار قوله تعالى أن تبتغوا بأموالكم يدل على أن عتق الأمة لا يكون صداقا لها إذ
[ 182 ]
كانت الآية مقتضية لكون بدل البضع ما يستحق به تسليم مال إليها وليس في العتق تسليم مال وإنما فيه إسقاط الملك من غير أن استحقتبه تسليم مال إليها ألا ترى أن الرق الذي كان المولى يملكه لا ينتقل إليها وإنما يتلف به ملكه فإذا لم يحصل لها به مال أو لم تستحق به تسليم مال إليها لم يكن مهرا مطلب: في أنه عليه السلام كان له أن يتزوج بغير مهر وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يتزوج بغير مهر وكان مخصوصا به دون الأمة قال الله تعالى مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد أن النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين الاحزاب: 50 ] فكان صلى الله عليه وسلم مخصوصا بجواز ملك البضع بغير بدل كما كان مخصوصا بجواز تزويج التسع دون الأمة قوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا يدل أيضا على أن العتق لا يكون صداقا من وجوه أحدها أنه قال وآتوهن أمر يقتضي الإيجاب وإعطاء العتق لا يصح والثاني قوله تعالى فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا والعتق لا يصح فسخه بطيب نفسها عن شئ منه والثالث قوله تعالى هنيئا مريئا [ النساء: 4 ] وذلك محال في العتق قوله تعالى غير مسافحين قال أبو بكر يحتمل قوله تعالى غير مسافحين وجهين أحدهما الحكم بكونهم محصنين بعقد النكاح والأخبار عن حالهم إذا نكحوا والثاني أني كون الإحصان شرطا في الإباحة المذكورة في قوله تعالى لكم ما وراء ذلكم فإن كان المراد الوجه الأول فإطلاق الإباحة عموم يصح اعتباره فيما انتظمه إلا ما قام دليله وإن أراد الوجه الثاني كان إطلاق الإباحة مجملا لأنه معقود بشريطة حصول الإحصان به والإحصان لفظ مجمل مفتقر إلى البيان فلا يصح حينئذ الاحتجاج به والأولى حمله على الأخبار عن حصول الإحصان بالتزويج لإمكان استعماله وذلك لأنه متى ورد لفظ يحتمل أن يكون عموما يمكننا استعمال ظاهره ويحتمل أن يكون مجملا موقوف الحكم على البيان فالواجب حمله على معنى العموم دون الإجمال لما فيه من استعمال حكمه عند وروده فعلينا المصير إليه وغير جائز حمله على وجه يسقط عنا استعماله إلا بورود بيان من غيره وفي نسق التلاوة وفحوى الآية ما يوجب أن يكون ذكر الإحصان إخبارا عن كونه محصنا بالنكاح وذلك لأنه قال غير مسافحين في هو الزنا فأخبر أن
[ 183 ]
الإحصان المذكور هو ضد الزنا وهو العفة وإذا كان المراد بالإحصان في هذا الموضع العفاف فقد حصل على وجه لا يكون مجملا لأن تقديره وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم عفة غير زنا وهذا لفظ ظاهر المعنى بين المراد فيوجب ذلك معنيين أحدهما إطلاق لفظ الإباحة وكونه عموما والآخر الأخبار بأنهم إذا فعلوا ذلك كانوا محصنين غير مسافحين والإحصان لفظ مشترك متى أطلق لم يكن عموما كسائر الألفاظ المشتركة وذلك لأنه اسم يقع على معان مختلفة وأصله المنع ومنه سمي الحصن لمنعه من صار فيه من أعدائه ومنه الدرع الحصينة أي المنيعة والحصان بالكثر الفحل من الأفراس لمنعه راكبه من الهلاك والحصان بالنصب العفيفة من النساء لمنعها فرجها من الفساد قال حسان في عائشة رضي الله عنهما حصان رزان ما تزن بريبة * وتصبح غرثة بن من لحوم الغوافل وقال الله تعالى الذين يرمون المحصنات الغافلات سنة يعني العفائف والإحصان في الشرع اسم يقع على معان مختلفة غير ما كان لها في اللغة فمنها الإسلام قال الله تعالى فإذا أحصن روى فإذا أسلمن ويقع على التزويج لأنه قد روي في التفسير أيضا أن معناه فإذا تزوجن وقال تعالى (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم ومعناه ذوات الأزواج ويقع على العفة في قوله تعالى والذين يرمون المحصنات ويقع على الوطء بنكاح صحيح في إحصان الرجم والإحصان في الشرع يتعلق به حكمان أحدهما في إيجاب الحد على قاذفه في قوله تعالى يرمون المحصنات فهذا يعتبر فيه العفاف والحرية والإسلام والعقل والبلوغ فما لم يكن على هذه الصفة لم يجب على قاذفه الحد لأنه لا حد على قاذف المجنون والصبي والزاني والكافر والعبد فهذه الوجوه من الإحصان معتبرة في إيجاب الحد على القاذف والحكم الآخر هو الإحصان الذي يتعلق به إيجاب الرجم إذا زنا وهذا الإحصان يشتمل على الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والنكاح الصحيح مع الدخول بها وهما على هذه الصفة فإن عدم شئ من هذه الخلال لم يكن عليه الرجم إذا زنا والسفاح هو الزنا قال النبي صلى الله عليه وسلم أنا من نكاح ولست من سفاح وقال مجاهد والسدي في قوله تعالى مسافحين قالا غير زانين ويقال إن أصله من سفح الماء وهو صبه ويقال سفح دمعه وسفح دم فلان وسفح الجبل أسفله لأنه موضع مصب الماء وسافح الرجل إذا زنا لأنه صب ماءه من غير أن يلحقه حكم مائه في ثبوت النسب ووجوب العدة وسائر أحكام النكاح فسمي مسافحا لأنه لم يكن له من فعله هذا غير صب الماء وقد أفاد ذلك نفي نسب
[ 184 ]
الولد المخلوق من مائه منه وأنه لا يلحق به ولا تجب على المرأة العدة منه ولا تصير فراشا ولا يجب عليه مهر ولا يتعلق بذلك الوطء شئ من أحكام النكاح هذه المعاني كلها في مضمون هذا اللفظ والله أعلم بالصواب باب المتعة قال الله تعالى فما عمرو استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة قال أبو بكر هو عطف على ما تقدم ذكره من إباحة نكاح ما وراء المحرمات في قوله تعالى وأحل لكم ما وراء ذلكم ثم قال فما استمتعتم به منهن يعني دخلتم بهن فآتوهن أجورهن كاملة وهو كقوله تعالى وآتوا النساء صدقاتهن نحلة وقوله تعالى فلا تأخذوا منه شيئا والاستمتاع هو الانتفاع وهو ههنا كناية عن الدخول قال الله تعالى أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) [ الاحقاف: 20 ] يعني تعجلتم الانتفاع بها وقالي فاستمتعتم بخلاقكم [ التوبة: 29 ] يعني بحظكم ونصيبكم من الدنيا فلما حرم الله تعالى من ذكر تحريمه في قوله (حرمت عليكم أمهاتكم وعنى به نكاح الأمهات ومن ذكر معهن ثم عطف عليه قوله (وأحل لكم ما وراء ذلكم اقتضى ذلك إباحة النكاح فيمن عدا المحرمات المذكورة ثم قال أن تبتغوا بأموالكم محصنين يعني والله أعلم نكاحا تكونون به محصنين عفائف غير مسافحين ثم عطف عليه حكم النكاح إذا اتصل به الدخول بقوله فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فأوجب يحيى على الزوج كمال المهر وقد سمى الله المهر أجرا في قوله فأنكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن الرحمن المهر أجرا وكذلك الأجور المذكورة في هذه الآية هي المهور وإنما سمى المهر أجرا لأنه بدل المنافع وليس ببدل عن الأعيان كما سمى بدل منافع الدار والدابة أجرا مطلب: في دليل قول أبي حنيفة من استأجر امرأة فزنى بها لا حد عليه وفي تسمية الله المهر أجرا دليل على صحة قول أبي حنيفة فيمن استأجر امرأة فزنا بها أنه لا حد عليه لأن الله تعالى قد سمى المهر أجرا فهو كمن قال أمهرك كذا وقد روى نحوه عن عمربن الخطاب ومثل هذا يكون نكاحا فاسدا لأنه بغير شهود وقال تعالى في آية أخرى جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن) [ الممتحنة: 20 ] وقد كان ابن عباس يتأول قوله تعالى فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن على متعة النساء وروي عنه فيها أقاويل روي أنه كان يتأول الآية على إباحة
[ 185 ]
المتعة ويروى أن في قراءة أبي بن كعب فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن وروي عنه أنه لما قيل له أنه قد قيل فيها الأشعار قال هي كالمضطر إلى الميتة والدم ولحم الخنزير فأباحها في هذا القول عند الضرورة وروي عن جابر بن زيد أن ابن عباس نزل عن قوله في الصرف وقوله في المتعة وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا ابن بكير عن الليث عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن عمار مولى الشريد قال سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح فقال ابن عباس لا سفاح ولا نكاح قلت فما هي قال المتعة كما قال الله تعالى قلت له هل لها من عدة قال نعم عدتها حيضة قلت هل يتوارثان قال لا وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخرساني عن ابن عباس في قوله تعالى (فما استمتعتم به منهن قال نسختها يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) [ الطلاق: 20 ] وهذا يدل على رجوعه عن القول بالمتعة وقد روي عن جماعة من السلف أنها زنا حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر ابن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث عن عقيل ويونس عن ابن شهاب عن ابن عبد الملك مغيرة بن نوفل عن ابن عمر أنه سئل عن المتعة فقال ذلك السفاح وروي عن هشام بن عروة عن أبيه قال كان نكاح المتعة بمنزلة الزنا فإن قيل لا يجوز أن تكون المتعة زنا لأنه لم يختلف أهل النقل أن المتعة قد كانت مباحة في بعض الأوقات أباحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبح الله تعالى الزنا قط قيل له لم تكن زنا في وقت الإباحة فلما حرمها الله تعالى جاز إطلاق اسم الزنا عليها كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الزانية هي التي تنكح نفسها بغير بينة وأيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر وإنما معناه التحريم لا حقيقة الزنا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم العينان تزنيان والرجلان تزنيان فزنا العين النظر وزنا الرجلين المشي ويصدق ذلك كله الفرج أو كذبه فأطلق اسم الزنا في هذه الوجوه على وجه المجاز إذا كان محرما فكذلك من أطلق اسم الزنا على المتعة فإنما أطلقه على وجه المجاز وتأكيد التحريم وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن شعبة عن قتادة قال سمعت أبا نضرة يقول كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها قال فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله فقال على يدي دار الحديث تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام عمر قال إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء فأتموا الحج والعمرة كما أمر الله وانتهوا عن نكاح هذه النساء لا أوتي برجل
[ 186 ]
نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته فذكر عمر الرجم في المتعة وجائز أن يكون على جهة الوعيد والتهديد لينزجر الناس عنها وقال وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج قال أخبرني عطاء قال سمعت ابن عباس يقول رحم الله عمر ما كانت المتعة إلا رحمة من الله تعالى رحم الله بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولولا نهيه لما احتاج إلى الزنا إلا شفا فالذي حصل من أقاويل ابن عباس القول بإباحة المتعة في بعض الروايات من غير تقييد لها بضرورة ولا غيرها والثاني أنها كالميتة تحل بالضرورة والثالث أنها محرمة وقد قدمنا ذكر سنده وقوله أيضا إنها منسوخة ومما يدل على رجوعه عن إباحتها ما روى عبد الله بن وهب قال اخبرني عمرو بن الحرث أن بكير بن الأشج حدثه أن أبا إسحاق مولى بني هاشم حدثه أن رجلا سأل ابن عباس فقال كنت في سفر ومعي جارية لي ولي أصحاب فأحللت جاريتي لأصحابي يستمتعون منها فقال ذلك السفاح فهذا أيضا يدل على رجوعه وأما احتجاج من احتج فيها بقوله تعالى فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن وأن في قراءة أبي إلى أجل مسمى فإنه لا يجوز إثبات الأجل في التلاوة عند أحد من المسلمين فالأجل إذا غير ثابت في القرآن ولو كان فيه ذكر الأجل لما دل أيضا على متعة النساء لأن الأجل يجوز أن يكون داخلا على المهر فيكون تقديره فما دخلتم به منهن بمهر إلى أجل مسمى فآتوهن مهورهن عند حلول الأجل وفي فحوى الآية من الدلالة على أن المراد النكاح دون المتعة ثلاثة أوجه أحدها أنه عطف على إباحة النكاح في قوله تعالى لكم ما وراء ذلكم وذلك إباحة لنكاح من عدا المحرمات لا محالة لأنهم لا يختلفون أن النكاح مراد بذلك فوجب أن يكون ذكر الاستمتاع بيانا لحكم المدخول بها بالنكاح في استحقاقها لجميع الصداق والثاني قوله تعالى والإحصان لا يكون إلا في نكاح صحيح لأن الوطئ بالمتعة لا يكون محصنا ولا يتناوله هذا الاسم فعلمنا أنه أراد النكاح والثالث قوله تعالى مسافحين فسمى الزنا سفاحا لالتقاء أحكام النكاح عنه من ثبوت النسب ووجوب العدة وبقاء الفراش إلى أن يحدث له قطعا ولما كانت هذه المعاني موجودة في المتعة كانت في معنى الزنا ويشبه أن يكون من سماها سفاحا ذهب
[ 187 ]
إلى هذا المعنى إذا كان الزاني إنما سمي مسافحا لأنه لم يحصل له من وطئها فيما يتعلق بحكمه إلا على سفح الماء باطلا من غير استلحاق نسب به فمن حيث نفى الله تعالى بما أحل من ذلك وأثبت به الإحصان اسم السفاح وجب أن يكون المراد بالاستمتاع هو المتعة إذ كانت في معنى السفاح بل المراد به النكاح وقوله تعالى مسافحين) شرط في الإباحة المذكورة وفي ذلك دليل على النهي عن المتعة إذ كانت المتعة في معنى السفاح من الوجه الذي ذكرنا قال أبو بكر فكان الذي شهر عنه إباحة المتعة من الصحابة عبد الله بن عباس واختلفت الروايات عنه مع ذلك فروى عنه إباحتها بتأويل الآية له قد بينا أنه لا دلالة في الآية على إباحتها بل دلالات الآية ظاهرة في حظرها وتحريمها من الوجوه التي ذكرنا ثم روى عنه أنه جعلها بمنزلة الميتة ولحم الخنزير والدم وأنها لا تحل إلا لمضطر وهذا محال لأن الضرورة المبيحة للمحرمات لا توجد في المتعة وذلك لأن الضرورة المبيحة للميتة والدم هي التي يخاف معها تلف النفس إن لم يأكل وقد علمنا إن الإنسان لا يخاف على نفسه ولا على شئ من أعضائه التلف بترك الجماع وفقده وإذا لم تحل في حال الرفاهية والضرورة لا تقع إليها فقد ثبت حظرها واستحال قول القائل إنها تحل عند الضرورة كالميتة والدم فهذا قول متناقض مستحيل وأخلق بان تكون هذه الرواية عن ابن عباس وهما من رواتها لأنه كان رحمه الله أفقه من أن يخفى عليه مثله فالصحيح إذا ما روي عنه من حظرها وتحريمها وحكاية من حكي عنه الرجوع عنها والدليل على تحريمها قوله تعالى هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون فقصر إباحة الوطء على أحد هذين الوجهين وحظر ما عداهما بقوله تعالى فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون [ المؤمنون: 7 ] والمتعة خارجة عنهما فهي إذا محرمة فإن قيل ما أنكرت أن تكون المرأة المستمتع بها زوجة وأن المتعة غير خارجة عن هذين الوجهين اللذين قصر الإباحة عليهما قيل له هذا غلط لأن اسم الزوجة إنما يقع عليها ويتناولها إذا كانت منكوحة بعقد النكاح وإذا لم تكن المتعة نكاحا لم تكن هذه زوجة فإن قيل ما الدليل على أن المتعة ليست بنكاح قيل له الدليل على ذلك أن النكاح اسم يقع على أحد معنيين وهو الوطء والعقد وقد بينا فيما سلف أنه حقيقة في الوطء مجاز في العقد وإذ كان الاسم مقصورا في إطلاقه على أحد هذين المعنيين وكان إطلاقه في العقد مجازا على ما ذكرنا ووجدناهم أطلقوا الاسم على عقد تزويج مطلق أنه
[ 188 ]
نكاح ولم نجدهم أطلقوا اسم النكاح على المتعة فلا يقولون إن فلانا تزوج فلانة إذا شرط التمتع بها لم يجز لنا إطلاق اسم النكاح على المتعة إذ المجاز لا يجوز إطلاقه إلا أن يكون مسموعا من العرب أو يرد به الشرع فلما عدمنا إطلاق اسم النكاح على المتعة في الشرع واللغة جميعا وجب أن تكون المتعة ما عدا ما أباحه الله وأن يكون فاعلها عاديا ظالما لنفسه مرتكبا لما حرمه الله وأيضا فإن النكاح له شرائط قد اختص بها متى فقدت لم يكن نكاحا منها أن مضي الوقت لا يؤثر في عقد النكاح ولا يوجب رفعه والمتعة عند القائلين بها توجب رفع النكاح بمضي المدة ومنها أن النكاح فراش يثبت به النسب من غير دعوة بل لا ينتفي الولد المولود على فراش النكاح إلا باللعان والقائلون بالمتعة لا يثبتون النسب منه فعلمنا أنها ليست بنكاح ولا فراش ومنها أن الدخول بها على النكاح يوجب العدة عند الفرقة والموت يوجب العدة دخل بها أو لم يدخل قال الله تعالى والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) [ البقرة: 20 ] والمتعة لا توجب عدة الوفاة وقال تعالى ولكم نصف ما ترك أزواجكم ولا توارث عندهم في المتعة فهذه هي أحكام النكاح التي يختص بها إلا أن يكون هناك رق أو كفر يمنع التوارث فلما لم يكن في المتعة مانع من الميراث من أحدهما بكفر أو رق ولا سبب يوجب الفرقة ولا مانع من ثبوت النسب مع كون الرجل ممن يستفرش ويلحقه الأنساب لفراشه ثبت بذلك أنها ليست بنكاح فإذا خرجت عن أن تكون نكاحا أو ملك يمين كانت محرمة بتحريم الله إياها في قوله فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون [ المؤمنون: 7 ] فإن قيل انقضاء المدة الموجبة للبينونة هو الطلاق قيل له إن الطلاق لا يقع إلا بصريح لفظ أو كناية ولم يكن منه واحد منهما فكيف يكون طلاقا ومع ذلك فيجب على أصل هذا القائل أن لا تبين لو انقضت المدة وهي حائض لأن القائلين بإباحة المتعة لا يرون طلاق الحائض جائزا فلو كانت البينونة الواقعة بمضي المدة طلاقا لوجب أن لا يقع في حال الحيض فلما أوقعوا البينونة الواقعة بمضي الوقت وهي حائض دل ذلك على أنه ليس بطلاق وإن كانت تبين بغير طلاق ولا سبب من قبل الزوج يوجب الفرقة ثبت أنها ليست بنكاح فإن قيل على ما ذكرنا من نفي النسب والعدة والميراث ليس انتفاء هذه الأحكام بمانع من أن تكون نكاحا لأن الصغير لا يلحق به نسب ويكون نكاحه صحيحا والعبد لا يرث والمسلم لا يرث الكافر ولم يخرجه انتفاء هذه الأحكام عنه من أن يكون نكاحا قيل له إن نكاح الصغير قد تعلق به ثبوت النسب إذا صار في ممن يستفرش ويتمتع
[ 189 ]
وأنت لا تلحقه نسب ولدها مع الوطء الذي يجوز أن يلحق به النسب في النكاح والعبد والكافر إنما لم يرثا للرق والكفر وهما يمنعان التوارث بينهما وذلك غير موجود في المتعة لأن كل واحد منهما من أهل الميراث من صاحبه فإذا لم يكن بينهما ما يقطع الميراث ثم لم يرث مع وجود المتعة علمنا أن المتعة ليست بنكاح لأنها لو كانت نكاحا لأوجبت الميراث مع وجود سببه من غير مانع له من قبلهما وأيضا قد قال ابن عباس إنها ليست بنكاح ولا سفاح فإذا كان ابن عباس قد نفى عنها اسم النكاح وجب أن لا تكون نكاحا لأن ابن عباس لم يكن ممن يخفى عليه أحكام الأسماء في الشرع واللغة فإذا كان هو القائل بالمتعة من الصحابة ولم يرها نكاحا ونفى عنها الاسم ثبت أنها ليست بنكاح ومما يوجب تحريمها من جهة السنة ما حدثنا عبد الباقي قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا القعنبي قال حدثنا مالك عن ابن شهاب عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي عن أبيهما عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الإنسية وقال فيه غير مالك إن عليا قال لابن عباس إنك امرؤ تياه إنما المتعة إنما كانت رخصة في أول الإسلام نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن خيبر وعن لحوم الإنسية وروى هذا الحديث من طرق عن الزهري رواه سفيان بن عيينة وعبيدالله بن عمر في آخرين وروى عكرمة بن عمار عن سعيد المقبري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في غزوة تبوك إن الله تعالى حرم المتعة بالطلاق والنكاح والعدة والميراث وروى عبد الواحد بن زياد قال حدثنا أبو عميس عن أياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن في متعة النساء عام أوطاس ثم نهى عنها وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل البلخي قال حدثنا محمد بن جعفر بن موسى قال حدثنا محمد بن الحسن قال حدثنا أبو حنيفة عن نافع عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن متعة النساء وما كنا مسافحين قال أبو بكر قوله وما كنا مسافحين يحتمل وجوها أحدها أنهم لم يكونوا مسافحين حين أبيحت لهم المتعة يعني أنها لو لم تبح لم يكونوا ليسافحوا وكان أو نفى بذلك قول من قال إنها أبيحت للضرورة كالميتة والدم ثم نهى عنها بعد والثاني أنهم لم يكونوا ليفعلوا ذلك بعد النهي فيكونوا مسافحين ويحتمل أنهم لم يكونوا في حال الإباحة مسافحين بالتمتع إذ كانت مباحة وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الوارث عن إسماعيل بن أمية عن الزهري قال كنا عند عمر بن عبد العزيز فتذاركنا روى متعة النساء فقال له رجل يقال له ربيع بن سبرة أشهد
[ 190 ]
علي أبي أنه حدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها في حجة الوداع وروى عبد العزيز بن ربيع بن سبرة عن أبيه عن جده أن ذلك كان عام الفتح ورواه إسماعيل بن عياش عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن الربيع بن سبرة عن أبيه مثله وذكر أنه كان عام الفتح ورواه أنس بن عوض الليثي عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن الربيع بن سبرة عن أبيه مثله وقال كان في حجة الوداع فلم تختلف الرواة في التحريم واختلفوا في التاريخ فسقط التاريخ كأنه ورد غير مؤرخ وثبت التحريم لاتفاق الرواة عليه ورواه أبو حنيفة عن الزهري عن محمد بن عبد الله عن سبرة الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم فتح مكة وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا ابن ناحية قال حدثنا محمد بن مسلم الرازي قال حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال حدثنا صدقة عن عبيدالله بن علي عن إسماعيل بن أمية عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال خرج النساء اللاتي استمتعنا بهن معنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هن حرام إلى يوم القيامة فإن قيل هذه الأخبار متضادة لأن في حديث سبرة الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم أباحها لهم في حجة الوداع وقال بعضهم عام الفتح وفي حديث علي وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم حرمها يوم خيبر وخيبر كانت قبل الفتح وقبل حجة الوداع فكيف تكون مباحة عام الفتح أو في حجة الوداع وقد حرمت قبل ذلك عام خيبر قيل له الجواب عن هذا من وجهين أحدهما أن حديث سبرة مختلف في تاريخه فقال بعضهم: عام الفتح، قال بعضهم في حجة الوداع وفي كلا الحديثين أن النبي صلى الله عليه وسلم أباحها في تلك السفرة ثم حرمها فلما اختلفت الرواة في تاريخه سقط التاريخ وحصل الخبر غير مؤرخ فلا يضاد حديث علي وابن عمر الذي اتفقا على تاريخه أنه حرمها يوم خيبر والوجه الآخر أنه جائز أن يكون حرمها يوم خيبر ثم أحلها في حجة الوداع أو في فتح مكة ثم حرمها فيكون التحريم المذكور في حديث علي وابن عمر منسوخا بحديث سبرة الجهني ثم تكون الإباحة بما في حديث سبرة أيضا لأن ذلك غير ممتنع فإن قيل روى إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن ابن مسعود قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا نساء فقلنا يا رسول الله ألا نستخصي فنهانا عن ذلك ورخص لنا أن ننكح بالثوب إلى أجل ثم قال لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم الآية قيل له هذه المتعة هي التي حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سائر الأخبار التي ذكرنا ولم ننكر نحن أنها قد كانت أبيحت في وقت ثم حرمت وليس في حديث ابن مسعود ذكر التاريخ فأخبار الحظر قاضية عليها لأن فيها ذكر الحظر بعد
[ 191 ]
الإباحة وأيضا لو تساويا لكان الحظر أولى لما بيناه في مواضع وأما تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم الآية عند إباحة المتعة وهو قوله تعالى لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم [ المائدة: 87 ] يحتمل أن يريد به النهي عن الاستخصاء ولم وتحريم النكاح المباح ويحتمل المتعة في حال ما كانت مباحة وقد روي عن عبد الله أنها منسوخة بالطلاق والعدة والميراث ويدل عليه أنه قد علم أنها قد كانت مباحة في وقت فلو كانت الإباحة باقية لورد النقل بها مستفيضا متواترا لعموم الحاجة إليه ولعرفتها بين الكافة كما عرفتها بديا ولما اجتمعت الصحابة على تحريمها لو كانت الإباحة باقية فلما وجدنا الصحابة منكرين لإباحتها موجبين لحظرها مع علمهم بديا بإباحتها دل ذلك على حظرها بعد الإباحة ألا ترى أن النكاح لما كان مباحا لم يختلفوا في إباحته ومعلوم أن بلواهم بالمتعة لو كانت مباحة كبلواهم أهل بالنكاح فالواجب إذا أن يكون ورود النقل في بقاء إباحتها من طريق الإستفاضة ولا نعلم أحدا من الصحابة روي عنه تجريد القول في إباحة المتعة غير ابن عباس وقد رجع عنه حين استقر عنده تحريمها بتواتر الأخبار من جهة الصحابة وهذا كقوله في الصرف وإباحته الدرهم بالدرهمين يدا بيد فلما استقر عنده تحريم النبي صلى الله عليه وسلم إياه وتواترت عنده الأخبار فيه من كل ناحية رجع عن قوله وصار إلى قول الجماعة فكذلك كان سبيله في المتعة ويدل على أن الصحابة قد عرفت نسخ إباحة المتعة ما روي عن عمر أنه قال في خطبته متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما وقال في خبر آخر لو تقدمت فيها لرجمت فلم ينكر هذا القول عليه منكر لا سيما في شئ قد علموا إباحته وإخباره بأنهما كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يخلو ذلك من أحد وجهين إما أن يكونوا قد علموا بقاء إباحتها فاتفقوا معه على حظرها وحاشاهم من ذلك لأن ذلك يوجب أن يكونوا مخالفين لأمر النبي صلى الله عليه وسلم عيانا وقد وصفهم الله تعالى بأنهم خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فغير جائز منهم التواطؤ على مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولأن ذلك يؤدي إلى الكفر وإلى الانسلاخ من الإسلام من علم إباحة النبي صلى الله عليه وسلم للمتعة ثم قال هي محظورة من غير نسخ لها فهو خارج من الملة فإذا لم يجز ذلك علمنا أنهم قد علموا حظرها بعد الإباحة ولذلك لم ينكروه ولو كان ما قال عمر منكرا ولم يكن النسخ عندهم ثابتا لما جاز أن يقروه على ترك النكير عليه وفي ذلك دليل على إجماعهم على نسخ المتعة إذ غير جائز حظر ما أباحه النبي صلى الله عليه وسلم إلا من طريق النسخ ومما يدل على تحريم المتعة من طريق النظر أنا قد علمنا أن عقد النكاح وإن كان
[ 192 ]
واقعا على استباحة منافع البضع فإن استحقاق تلك المنافع بعقد النكاح بمنزلة العقود على المملوكات من الأعيان وأنه مخالف لعقود الإجارات الواقعة على منافع الأعيان ألا ترى أن عقد النكاح يصح مطلقا من غير شرط مدة مذكورة له وأن عقود الإجارات لا تصح إلا على مدد معلومة أو على عمل معلوم فلما كان ذلك حكم العقد على منافع البضع أشبه عقود البياعات وما جرى مجراها إذا عقدت على الأعيان فلا يصح وقوعه موقتا كما لا يصح وقوع التمليكات في الأعيان المملوكة موقتة ومتى شرط فيه التوقيت لم يكن نكاحا فلا تصح استباحة البضع به كما لا يصح البيع إذا شرط فيه توقيت الملك وكذلك الهبات والصدقات ولا يملكه بشئ من هذه العقود ملكا موقتا وكذلك منافع البضع لما جرت مجرى الأعيان المملوكة لم يصح فيها التوقيت ومما يحتج به القائلون بإباحة المتعة اتفاق الجميع على أنها كانت مباحة في وقت من الزمان ثم اختلفنا في الحظر فنحن ثابتون على ما حصل الاتفاق عليه ولا نزول عنه بالاختلاف فيقال لهم الأخبار التي بها تثبت الإباحة بها يثبت الحظر ذلك لأن كل خبر ذكر فيه إباحة المتعة ذكر فيه حظرها فمن حيث يثبت الإباحة وجب أن يثبت الحظر وإن لم يثبت الإباحة إذا كانت الجهة التي بها تثبت الإباحة بها ورد الحظر وأيضا فإن قول القائل أنا لما اتفقنا على كذا ثم اختلفنا فيه لم ينزل عن الإجماع بالاختلاف قول فاسد لأن الموضع الذي فيه الخلاف ليس هو موضع الإجماع فإذا لم يكن إجماعا فلا بد من دلالة يقيمها على صحة دعواه وأيضا فإن كون الشئ مباحا في وقت غير موجب بقاء إباحته فيما يجوز فيه النسخ وقد دللنا على ثبوت الحظر بعد الإباحة من ظاهر الكتاب والسنة وإجماع السلف قال أبو بكر قد ذكرنا في المتعة وحكمها في التحريم ما فيه بلاغ لمن نصح نفسه ولا خلاف فيها بين الصدر الأول على ما بينا وقد اتفق فقهاء الأمصار مع ذلك على تحريمها ولا يختلفون فيه واختلف الفقهاء فيمن تزوج امرأة أياما معلومة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ومالك بن أنس والثوري والأوزاعي والشافعي إذا تزوج امرأة عشرة أيام فهو باطل ولا نكاح بينهما وقال زفر النكاح جائز والشرط باطل وقال الأوزاعي إذا تزوج امرأة ومن نيته أن يطلقها وليس ثم شرط فلا خير في هذا هذا متعة قال أبو بكر لا خلاف بينهم وبين زفر أن عقد النكاح لا يصح بلفظ المتعة وأنه لو قال أتمتع بك عشرة أيام أن ذلك ليس بنكاح وإنما الخلاف إذا عقده بلفظ النكاح
[ 193 ]
قال أتزوجك عشرة أيام فجعله زفر نكاحا صحيحا وأبطل الشرط فيه لأن النكاح لا تفسده الشروط الفاسدة كما لو قال أتزوجك على أن أطلقك بعد عشرة أيام كان النكاح جائزا والشرط باطلا وإنما الخلاف بينهم وبين زفر في أن هذا نكاح أو متعة فقال الجمهور هذا متعة وليس بنكاح والدليل على صحة هذا القول أن النكاح إلى أجل هو متعة وإن لم يلفظ بالمتعة ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إسحاق بن الحسن بن ميمون قال حدثنا أبو نعيم قال حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن الربيع بن سبرة الجهني أن أباه أخبره أنهم خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداح حديث حتى نزلوا عسفان وذكر قصة أمر النبي صلى الله عليه وسلم إياهم بالإحلال بالطواف إلا من كان معه هدي قال فلما أحللنا قال استمتعوا من هذه النساء والإستمتاع التزويج عندنا فعرضنا ذلك على النساء فأبين إلا أن نضرب بيننا وبينهن أجلا فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال افعلوا فخرجت أنا وابن عمي وأنا أشب منه ومعي برد ومعه برد فأتينا امرأة فأعجبها برده وأعجبها شبابي فقالت برد كبرد وهذا أشب وكان بيني وبينها عشر فبت عندها ليلة ثم أصبحت فخرجت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الركن والمقام يقول يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من هذه النساء ألا وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة فمن بقي عنده منهن شئ فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا فأخبر سبرة في هذا الحديث أن الاستمتاع كان التزويج وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان رخص لهم في توقيت المدة فيه ثم نهى عنه بعد الإباحة فثبت بذلك أن النكاح إلى أجل هو متعة ويدل على ذلك أيضا حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن عبد الله بن مسعود قال كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا نساء فقلنا يا رسول الله ألا نستخصي فنهانا عن ذلك ورخص لنا أن ننكح بالثوب إلى أجل ثم قرأ تحرموا طيبات ما أحل الله لكم فأخبر عبد الله بن مسعود أن المتعة كانت نكاحا إلى أجل ويدل على ذلك حديث جابر عن عمر بن الخطاب وقد تقدم سنده في باب المتعة أنه قال إن الله كان يحل لرسوله ما شاء فأتموا الحج والعمرة كما أمر الله واتقوا نكاح هذه النساء ألا أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته فأخبر عمر أن النكاح إلى أجل هو متعة وإذا ثبت له هذا الاسم وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المتعة انتظم ذلك تحريم النكاح إلى أجل لدخوله تحت الاسم وأيضا لما كانت المتعة اسما للنفع القليل كما قال تعالى هذه الحياة الدنيا متاع [ غافر: 39 ] يعني نفعا قليلا وسمى الواجب بعد الطلاق متعة بقوله فمتعوهن [ الاحزاب: 49 ] وقالي وللمطلقات متاع بالمعروف لأنه أقل من المهر علمنا أن ما أطلق عليه اسم المتعة أو متاع فقد أريد به التقليل وأنه نزر يسير بالإضافة إلى ما
[ 194 ]
يقتضيه العقد ويوجبه فسمى ما يعطى بعد الطلاق مما لا يوجب بنفس العقد متاعا ومتعة لقلته بالإضافة إلى المهر المستحق بالعقد وسمى النكاح الموقت متعة لقصر مدته وقلة الانتفاع به بالإضافة إلى ما يقتضيه العقد من بقائه مؤبدا إلى أن يفرق بينهما الموت أو سبب حادث يوجب التفريق فوجب أن لا يختلف على ذلك في إطلاق اسم المتعة أن يكون بلفظ المتعة أو بلفظ النكاح بعد أن يكون موقتا لأن اسم ا لمتعة يتناولهما من الوجه الذي ذكرنا وأيضا لا يخلو العاقد عقد النكاح على عشرة أيام من أن يجعله موقتا على ما شرط أو يبطل الشرط ويجعله مؤبدا فإن جعله موقتا كان متعة بلا خلاف، وإن جعله مؤبدا لم يصح ذلك من قبل أن ما بعد الوقت ليس عليه عقد فلا يجوز له أن يستبيح بضعها بلا عقد ألا ترى أن من اشرتى عند صبرة من طعام على أنها عشرة أقفزة أو قال قد اشتريت منك عشرة أقفزة من هذه الصبرة أن العقد واقع على عشرة أقفزة دون ما عداها فكذلك إذا عقد النكاح على عشرة ايام فما بعد العشرة ليس عليه عقد النكاح فغير جائز استباحة بضعها فيه بالعقد ولا يجوز أن يجعله موقتا فيكون صريح المتعة فوجب بذلك إفساد العقد وليس هذا بمنزلة قوله قد تزوجتك على أن أطلقك بعد عشرة ايام فيجوز النكاح ويبطل الشرط لأنه عقد النكاح مؤبدا وشرط فيه قطعه بالطلاق ألا ترى أنه إذا لم يطلق كان النكاح باقيا فعلمت أن النكاح قد وقع على وجه التأبيد وإنما شرط قطعه بالطلاق وذلك شرط فاسد والنكاح لا تفسده الشروط فيبطل الشرط ويجوز العقد وليس كذلك إذا تزوجها عشرة أيام لأن ما بعد العشرة ليس عليه عقد ألا ترى أنه لو استأجر دارا عشرة أيام كان العقد واقعا على عشرة أيام وما بعدها ليس عليها عقد ولو سكنها بعد العشرة كان غاصبا ساكنا لها على غير وجه العقد ولا أجر عليه ولو قال آجرتك هذه الدار على أن أفسخ العقد بعد عشرة أيام كانت إجارة فاسدة مؤبدة ما سكن منها من المدة في العشرة وبعدها يلزمه أجر المثل فكذلك النكاح إذا عقد على عشرة فليس على ما بعد العشرة عقد فإن قيل فلو قال قد تزوجتك على أنك طالق بعد عشرة أيام كان النكاح موقتا لأنه يبطل بعد مضي العشرة قيل له ليس هذا نكاحا موقتا بل هو مؤبدا وإنما قطعه بالطلاق ولا فرق بين ذكر الطلاق مع العقد وإيقاعه بعد المدة لأن النكاح قد وقع بديا مؤبدا وإنما أوقع طلاقا لوقت مستقبل فلا يوجب ذلك توقيت العقد قوله تعالى فآتوهن أجورهن فريضة معناه المهور فسمى المهر أجرا لأنه بدل منافع البضع ويدل على أن المراد المهر أنه ذكره لمن كان محصنا بالنكاح في قوله (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين وكقوله تعالى
[ 195 ]
(فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات فذكر الإحصان عقيب ذكر النكاح لأنه وسمى المهر أجرا وقوله تأكيد لوجوبه وإسقاط للظن وتوهم التأويل فيه إذ كان الفرض ما هو في أعلى مراتب الإيجاب والله أعلم بالصواب باب الزيادة في المهور قال الله تعالى بعد ذكر المهر أخبرنا ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة والفريضة هي التسمية والتقدير كفرائض المواريث والصدقات وقد بينا ذلك فيما سلف وروي عن الحسن في قوله تعالى ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة أنه ما تراضيتم به من حط بعض الصداق أو تأخيره أو هبة جميعه وفي هذه الآية دلالة على جواز الزيادة في المهر لقوله تعالى فيما تراضيتم به من بعد الفريضة وهو عموم في الزيادة والنقصان والتأخير والإبراء وهو بالزيادة أخص منه بغيرها لأنه علقه بتراضيهما والبراءة والحط والتأخير لا يحتاج في وقوعه إلى رضى الرجل والزيادة لا تصح إلا بقبولهما فلما علق ذلك بتراضيهما جميعا دل على أن المراد الزيادة ولا يجوز الاقتصار به على البراءة والحط والتأجيل لأن عموم اللفظ يقتضي جواز الجميع فلا يخص بغير دلالة ولأن الاقتصار به على ما ذكرت يسقط فائدة ذكر تراضيهما جميعا وإضافة ذلك إليهما وغير جائز إسقاط حكم اللفظ والاقتصار به على ما يجعل وجوده وعدمه سواء وقد اختلف الفقهاء في الزيادة في المهر فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد الزيادة في الصداق بعد النكاح جائزة وهي ثابتة إن دخل بها أو مات عنها وإن طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة وكان لها نصف المسمى في العقد وقال زفر بن الهزيل والشافعي الزيادة بمنزلة هبة مستقبلة إذا قبضتها جازت في قولهما جميعا وإن لم تقبضها بطلت وقال مالك بن أنس تصح الزيادة فإن طلقها قبل الدخول رجع نصف ما زادها إليه وهي بمنزلة مال وهبه لها يقوم به عليه وإن مات عنها قبل أن تقبض فلا شئ لها منه لأنها عطية لم تقبض قال أبو بكر قد ذكرنا وجه دلالة الآية على جواز الزيادة ومما يدل على جواز الزيادة أن عقد النكاح في ملكهما والدليل على ذلك أنه جائز له أن يخلعها على البضع فيأخذ منها بدله فهما مالكان للتصرف في البضع فلما كان العقد في ملكهما وجب أن تجوز الزيادة فيه كما جازت في ابتداء عقد النكاح من حيث كانا مالكين للعقد إذا كان الملك هو التصرف وتصرفهما جائز فيه ويدل عليه اتفاق الجميع على أنه إذا قبضها
[ 196 ]
جاز فلا يخلو بعد الإقباض من أن تكون هبة مستقبلة على ما قال زفر والشافعي أو زيادة في المهر لاحقه بالعقد على ما ذكرنا وغير جائز أن تكون هبة مستقبلة لأنهما لم يدخلا فيها على أنها هبة وإنما أوجبناها على أنها بدل من البضع لاحقة بالعقد ولا يجوز لنا أن نلزمهما عقدا لم يعقداه على أنفسهما لقوله تعالى أوفوا بالعقود [ المائدة: 1 ] وقوله صلى الله عليه وسلم المسلمون عند شروطهم فإذا عقدا على أنفسهما عقدا لم يجز لنا إلزامهما عقدا غيره بظاهر الآية والسنة إذ كانت الآية إنما اقتضت إيجاب الوفاء بنفس العقد الذي عقده لا بغيره لأن إلزامه عقدا غيره لا يكون وفاء بالعقد الذي عقده وكذلك قوله المسلمون عند شروطهم يقتضي الوفاء بالشرط وليس في إسقاط الشرط وإلزامهما معنى غيره الوفاء بالشرط فدلت الآية والسنة معا على بطلان قول المخالف من وجهين أحدهما اقتضاء عمومهما لإيجاب الوفاء بالعقد والشرط والآخر ما انتظمتا يا من امتناع إلزام عقد أو شرط غير ما عقداه ولما بطل إلزامهما الهبة بعد القبض وصح التمليك دل على أنها ملكت من جهة الزيادة ويدل على أنه غير جائز أن يجعلها هبة أنها متى كانت زيادة كانت مضمونة على المرأة بالقبض لأنها بدل من البضع وإذا كانت هبة لم تكن مضمومة عليها وإذا كانت زيادة سقطت بالطلاق قبل الدخول وإذا كانت هبة لم يؤثر الطلاق فيها وإذا دخلا فيها على عقد يوجب الضمان لم يجز لنا إلزامهما عقدا لا ضمان فيه ألا ترى أنهما إذا تعاقدا عقد بيع لم يجز إلزامهما عقد هبة ولو تعاقدا عقد إقالة لم يلزمهما عقد بيع مستقبل وفي ذلك دليل على أنه غير جائز إثبات الهبة بعقد الزيادة إذا لم تكن هبة وقد صح التمليك كانت زيادة لاحقة بالعقد بدلا من البضع مع التسمية وأما قول مالك في جعله إياها هبة ثم قوله أنه إذا طلقها قبل الدخول رجع إليه نصف الزيادة فإنه قول غير منتظم لأنها إن كانت هبة فلا تعلق لها بعقد النكاح ولا بالمهر ولا تأثير للطلاق في رجوع شئ منها إليه وإن كانت زيادة في المهر فغير جائز بطلانها بالموت وإنما قال أصحابنا إنه إذا طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة كلها من قبل أن الزيادة لما لم تكن موجودة في العقد وإنما كانت ملحقة به وجب أن يكون بقاؤها موقوفا على سلامة العقد أو الدخول بالمرأة ألا ترى أن الزيادة في البيع إنما تلحق به على شرط بقاء العقد وأنه متى بطل العقد بطلت الزيادة فكذلك الزيادة في المهر مطلب: المهر المسمى يبطل جميعه بالطلاق قبل الدخول وإنما يجب نصف المسمى لها على معنى المتعة فإن قيل التسمية الموجودة في العقد إنما يبطل بعضها بورود الطلاق عليها قبل
[ 197 ]
الدخول فهلا كانت الزيادة كذلك إذ كانت إذا صحت ولحقت به كانت بمنزلة وجودها فيه فلا فرق بينهما وبين المسمى فيه قيل له عندنا أن المسمى في العقد يبطله كله أيضا إذا طلق قبل الدخول لبطلان العقد المسمى فيها كهلاك المبيع قبل القبض وإنما يجب النصف على جهة الاستقبال كالمتعة وقد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال فيمن طلق قبل الدخول وقد سمى لها أن نصف المسمى هو متعتها وكذلك كان يقول أبو الحسن الكرخي وعلى هذا المعنى قالوا في شاهدين شهدا على رجل بطلاق امرأته قبل الدخول وهو يجحد ثم رجعا أنهما يضمنان للزوج نصف المهر الذي غرم لأن الطلاق قبل الدخول يسقط جميع المهر والنصف الذي يلزمه في التقدير كأنه دين مستأنف ألزماه بشهادتهما فعلى هذا لا يختلف حكم الزيادة والتسمية في سقوطهما بالطلاق قبل الدخول فإن قيل هذا التأويل يؤدي إلى مخالفة قوله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم لأنك قلت إن الجميع يسقط ويجب النصف على وجه الاستئناف قيل له ليس في الآية نفي لأن يكون النصف الواجب بعد الطلاق مهرا على وجه الاستيناف وإنما فيه وجوب نصف المفروض غير مقيد بوصف ولا شرط ونحن نوجب النصف أيضا فليس فيما ذكرنا من وجوبه في التقدير على وجه الاستئناف على أنه متعتها مخالفة للآية ويدل على أن الطلاق قبل الدخول يسقط جميع الزيادة إنا قد علمنا أن العقد إذا خلا من التسمية يوجب مهر المثل إذ غير رجائز لو أن يملك البضع بلا بدل ثم إذا رد الطلاق قبل الدخول أسقطه إذ لم يكن مسمى في العقد وكذلك الزيادة لما لم تكن مسماة في العقد وجب أن يسقطها الطلاق قبل الدخول وإن كانت قد وجبت بإلحاقها بالعقد والله أعلم باب نكاح الإماء مطلب: تخصيص الحكم بشئ في اللفظ لا يدل على نفيه عما عداه قال الله تعالى ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات قال أبو بكر الذي اقتضته هذه الآية إباحة نكاح الإماء المؤمنات عند عدم الطول إلى الحرائر المؤمنات لأنه لا خلاف أن المراد بالمحصنات ههنا الحرائر وليس فيها حظر لغيرهن لأن تخصيص هذه الحال بذكر الإباحة فيها لا يدل على حظر ما عداها كقوله تعالى ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق لا دلالة فيه على إباحة القتل عند زوال هذه الحال وقوله
[ 198 ]
تعالى ولا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة لا يدل على إباحته إذا لم يكن أضعافا مضاعفة وقوله تعالى يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به) [ المؤمنون: 117 ] ليس بدلالة على أن أحدنا يجوز أن يقوم له برهان على صحة القول بأن مع الله إلها آخر تعالى الله عن ذلك وقد بينا ذلك في اصول الفقه فإذا ليس في قوله تعالى لم يستطع منكم طولا الآية إلا إباحة نكاح الإماء لمن كانت هذه حاله ولا دلالة فيه على حكم من وجد طولا إلى الحرة لا بحظر ولا إباحة وقد اختلف السلف في معنى الطول فروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والسدي أنهم قالوا هو الغنى وروي عن عطاء وجابر بن زيد وإبراهيم قالوا إذا هوى الأمة فله أن يتزوجها وإن كان موسرا إذا خاف أن يزني بها فكان معنى الطول عند هؤلاء في هذا الموضع أن لا ينصرف قلبه عنها بنكاح الحرة لميله إليها ومحبته لها فأباحوا له في هذه الحال نكاحها والطول يحتمل الغنى والقدرة ويحتمل الفضل قال الله تعالى العقاب ذي الطول قيل فيه ذو الفضل وقيل ذو القدرة والفضل والغنى يتقاربان في المعنى فاحتمل الطول المذكور في الآية الغنى والقدرة واحتمل الفضل والسعة فإذا كان معناه الغنى واحتمل وجهين أحدهما حصول الغنى له بكون الحرة تحته والثاني غنى المال وقدرته على تزوج حرة وإذا كان معناه الفضل احتمل إرادة الغنى لأن الفضل يوجب ذلك والثاني اتساع قلبه لتزوج الحرة والانصراف عن الأمة وإنه إن لم يتسع قلبه لذلك وخشي الإقدام من نفسه على محظور جاز له أن يتزوجها وإن كان موسرا على ما روي عن عطاء وجابر بن زيد وإبراهيم هذه الوجوه كلها تحتملها الآية وقد اختلف السلف في ذلك فروي عن ابن عباس وجابر وسعيد بن جبير والشعبي ومكحول لا يتزوج الأمة إلا أن لا يجد طولا إلى الحرة وروي عن مسروق والشعبي قال نكاح الأمة بمنزلة الميتة والدم ولحم الخنزير لا يحل إلا لمضطر وروي عن علي وأبي جعفر ومجاهد وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب رواية وإبراهيم والحسن رواية والزهري قالوا ينكح الأمة وإن كان موسرا وعن عطاء وجابر بن زيد أنه إن خشي أن يزني بها تزوجها وروي عن عطاء أنه يتزوج الأمة على الحرة وعن عبد الله بن مسعود قال لا يتزوج الأمة على الحرة إلا المملوك وقال عمر وعلي وسعيد بن المسيب ومكحول في آخرين لا يتزوج الأمة على الحرة وقال إبراهيم يتزوج الأمة على الحرة إذا كان له منها ولد وقال إذا تزوج أمة وحرة في عقد واحد بطل نكاحهما جميعا وقال ابن عباس ومسروق إذا تزوج حرة فهو طلاق الأمة
[ 199 ]
وقال إبراهيم رواية يفرق بينه وبين الأمة إلا أن يكون له منها ولد وقال الشعبي إذا وجد الطول إلى الحرة بطل نكاح الأمة وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال لا تنكح الأمة على الحرة إلا أن تشاء الحرة ويقسم للحرة يومين وللأمة يوما قال أبو بكر وهذا يدل على أنه كان لا يرى تزويج الأمة على الحرة جائزا إن لم ترض الحرة واختلفوا فيمن يجوز أن يتزوج من الإماء فروى ابن عباس أنه قال لا يتزوج من الإماء أكثر من واحدة وقال إبراهيم ومجاهد والزهري يجمع أربع إماء أن شاء فاختلف السلف في نكاح الأمة على هذه الوجوه واختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والحسن بن زياد للرجل أن يتزوج أمة إذا لم تكن تحته حرة وإن وجد طولا إلى الحرة ولا يتزوجها إذا كانت تحته حرة وقال سفيان والثوري إذا خشي على نفسه في المملوكة فلا بأس بأن يتزوجها وإن كان موسرا ومالك والليث والأوزاعي والشافعي الطول المال فإذا وجد طولا إلى الحرة لا يتزوج أمة وإن لم يجد طولا لم يتزوجها أيضا حتى يخشى العنت على نفسه واتفق أصحابنا والثوري والأوزاعي والشافعي أنه لا يجوز له أن يتزوج أمة وتحته حرة ولا يفرقون بين إذن الحرة في ذلك وغير إذنها وقال ابن وهب عن مالك لا بأس أن يتزوج الرجل الأمة على الحرة والحرة بالخيار وقال ابن القاسم عنه في الأمة تنكح على الحرة أرى أن يفرق بينهما ثم رجع وقال تخير الحرة إن شاءت أقامت وإن شاءت فارقت قال وسئل مالك عن رجل تزوج أمة وهو ممن يجد طولا إلى الحرة قال أرى أن يفرق بينهما فقيل له إنه يخاف العنت قال السوط يضرب به ثم خففه بعد ذلك قال وقال مالك إذا تزوج العبد أمة على حرة فلا خيار للحرة لأن الأمة من نسائه وقال عثمان البتي لا بأس أن يتزوج الرجل الأمة على الحرة والدليل على جواز نكاح الأمة وإن قدر على تزوج الحرة إذا لم تكن تحته قول الله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم حوت هذه الآية الدلالة من وجهين على جواز تزويج الأمة مع القدرة على نكاح الحرة أحدهما إباحة النكاح على الإطلاق في جميع النساء من العدد المذكور من غير تخصيص لحرة من أمة والثاني قوله تعالى في نسق الخطاب أو ما ملكت أيمانكم ومعلوم أن قوله أو ما ملكت أيمانكم غير مكتف بنفسه في إفادة الحكم وأنه مفتقر إلى ضمير وضميره هو ما تقدم ذكره مظهرا في الخطاب وهو عقد النكاح فكان تقديره فاعقدوا نكاحها على
[ 200 ]
ما طاب لكم من النساء أو ما ملكت أيمانكم وغير جائز إضمار الوطء فيه إذ لم يتقدم له ذكر فثبت بدلالة هذه الآية أنه مخير بين تزويج الأمة أو الحرة فإن قيل قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء إباحة معقودة بشرط وهي أن تكون مما طاب لنا فدل على أنه مما طاب حتى يجوز العقد وهو إذا كان كذلك كان بمنزلة المجمل المفتقر إلى البيان قيل له قوله تعالى (ما طاب لكم يحتمل وجهين أحدهما أن يكون معناه ما استطبتموه فيكون مفيدا للتخيير كقول القائل اجلس ما طاب لك في هذه الدار وكل ما طاب لك من هذا الطعام فيفيد تخييره في فعل ما شاء منه والوجه الآخر ما حل لكم فإن كان المراد الوجه الأول فقد اقتضى تخييره في نكاح من شاء وذلك عموم في الحرائر والإماء وإن كان معناه ما حل لكم فإنه قد عقبه ببيان ما طاب لكم منها وهو قوله تعالى (مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم [ النساء: 3 ]، فقد خرج بذلك عن حيز الإجمال إلى حيز العموم واستعمال العموم واجب كيف تصرفت الحال وعلى أنها لو كانت محتملة للعموم والإجمال جميعا لكان حملها على معنى العموم أولى لإمكان استعماله ومتى أمكننا استعمال حكم اللفظ على وجه فعلينا استعماله ويدل عليه قوله تعالى لكم ما وراء ذلك أن تبتغوا بأموالكم وذلك عموم في الحرائر والإماء ويدل عليه قوله تعالى اليوم أحل الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والإحصان اسم يقع على الإسلام وعلى العقد يدل عليه قوله تعالى فإذا أحصن روي عن بعض السلف فإذا أسلمن وقال بعضهم فإذا تزوجن ومعلوم أنه لم يرد به التزويج في هذا الموضع فثبت أنه أراد العفاف وذلك عموم في الحرائر والإماء وقوله تعالى (المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم هو عموم أيضا في تزويج الإماء الكتابيات ويدل عليه قوله تعالى وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم وذلك عموم يوجب جواز نكاح الإماء كما اقتضى جواز نكاح الحرائر ويدل عليه أيضا قوله تعالى ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم [ البقرة: 221 ] ومحال أن يخاطب بذلك إلا من قدر على نكاح المشركة الحرة ومن وجد طولا إلى الحرة المشركة فهو يجد طولا إلى الحرة المسلمة فاقتضى ذلك جواز نكاح الأمة مع وجود الطول إلى الحرة المسلمة كما اقتضاه مع وجوده إلى الحرة المشركة ويدل عليه من طريق النظر أن القدرة على نكاح امرأة لا تحرم نكاح أخرى
[ 201 ]
كالقدرة على تزويج البنت لا يحرم تزويج الأم والقدرة على نكاح المرأة لا يحرم نكاح أختها فوجب على هذا أن لا تمنع قدرته على نكاح الحرة من تزويج الأمة بل الأمة أيسر أمرا في ذلك من الأختين والأم والبنت والدليل عليه جواز اجتماع الحرة والأمة تحته عند جميع فقهاء الأمصار وامتناع اجتماع الأم والبنت والأختين تحته فلما لم يكن إمكان تزويج البنت الذي هو أغلظ حكما مانعا من الأم الحرة والأمة وجب أن لا يكون لإمكان تزوج الحرة تأثير في منع نكاح الأمة واحتج من خالف في ذلك بقوله تعالى فمن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات إلى قوله تعالى (ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم أباح نكاح الأمة بشرط عدم الطول إلى الحرة وخشية العنت فلا تجوز استباحته إلا بوجود الشرطين جميعا وهذه الآية قاضية على ما تلوت من الآي لما فيها من بيان حكم الأمة في التزويج قيل له ليس في هذه الآية حظر نكاح الأمة في حال وجود الطول إلى الحرة وإنما فيها إباحته في حال عدم الطول إليها وسائر الآي التي تلونا يقتضي إباحة نكاحها في سائر الأحوال فليس في أحدهما ما يوجب تخصيص الأخرى لورودهما جميعا في حكم الإباحة وليس في واحدة منهما حظر فلا يجوز أن يقال إن هذه مخصصة لها والجميع وارد في حكم واحد فإن قيل هذا كقوله تعالى فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا فكان مقتضى جميع ذلك امتناع جوازه مع وجود ما قبله قيل له لأنه جعل الفرق بديا عتق رقبة فاقتضى ذلك أن يكون الفرض هو العتق لا غير فلما نقله عند عدم الرقبة إلى الصيام اقتضى ذلك أن لا يجزي غيره إذا عدم الرقبة فلما قال فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا) [ المجادلة: 4 ] كان حكم الكفارة مقصورا على المذكور في الآية على ما اقتضته من الترتيب وليس معك آية تحظر نكاح الإماء حتى إذا ذكرت إباحتهن بشرط وحال كان عدم الشرط والحال موجبا لحظرهن يكون بل سائر الآي الواردة في إباحة النكاح ليس فيها فرق بين الحرائر والإماء فليس إذا في قوله لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات دلالة على حظرهن عند وجود الطول إلى الحرائر وذكر إسماعيل بن إسحاق هذه الآية وذكر اختلاف السلف فيها ثم ذكر قول أصحابنا في تجويزهم نكاح الأمة مع القدرة على تزويج الحرة فقال وهذا قول تجاوز فساده ولا يحتمل التأويل لأنه محظور في الكتاب إلا من الجهة التي أبيحت قال أبو
[ 202 ]
بكر قوله لا يحتمل التأويل خلاف الإجماع وذلك لأن الصحابة قد اختلفوا فيه وقد حكينا أقاويلهم ولولا خشية الإطالة لذكرنا أسانيدها ولو كان لا يحتمل التأويل لما قال به من قال من السلف إذ غير جائز لأحد تأويل آية على معنى لا تحتمله وقد ظهر هذا الاختلاف في السلف فلم ينكر بعضهم على بعض القول فيها على الوجوه التي اختلفوا فيها ولو كان هذا القول غير محتمل ولا يسوغ التأويل فيه لأنكره من لم يقل به منهم على قائليه فإذا كان هذا القول مستفيضا فيهم من نكير ظهر من أحد منهم على قائليه فقد حصل بإجماعهم تسويغ الاجتهاد فيه واحتمال الآية للتأويل الذي تأولته فقد بان بما وصفنا أن إنكاره لاحتمال التأويل غير صحيح وأما قوله إنه محظور في الكتاب إلا من الجهة التي أبيحت فإنه لا يخلو من أن يريد أنه محظور فيه نصا أو دليلا فإن ادعى نصا طولب بتلاوته وإظهاره ولا سبيل له إلى ذلك وإن ادعى على ذلك دليلا طولب بإيجاده وذلك معدوم فلم يحصل من قوله إلا على هذه الدعوى لنفسه والتعجب من قول خصمه اللهم إلا أن يزعم أن تخصيصه الإباحة بهذه الحال والشرط دليل على حظر ما عداه فإن كان إلى هذا ذهب فإن هذا دليل يحتاج إلى دليل وما نعلم أحدا استدل بمثله قبل الشافعي ولو كان هذا دليلا لكانت الصحابة أولى بالسبق إلى الاستدلال به في هذه المسألة ونظائرها من المسائل مع كثرة ما اختلفوا فيه من احكام الحوادث التي لم يخل كثير منها من إمكان الاستدلال عليها بهذا الضرب كما استدلوا عليها بالقياس والاجتهاد وسائر ضروب الدلالات وفي تركهم الاستدلال بمثله دليل على أن ذلك لم يكن عندهم دليلا على شئ فإذا لم يحصل إسماعيل من قوله هو محظور في الكتاب على حجة ولا شبهة وقد حكى داود الأصبهاني أن إسماعيل سئل عن النص ما هو فقال النص ما اتفقوا عليه فقيل له فكل ما اختلفوا فيه من الكتاب فليس بنص فقال القرآن كله نص فقيل له فلم اختلف أصحاب محمد النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن كله نص فقال داود ظلمه السائل ليس مثله يسئل عن هذه المسألة هو أقل من أن يبلغ علمه هذا الموضع فإن كانت حكاية داود عنه صحيحة فإن ذلك لا يليق بإنكاره على القائلين بإباحة نكاح الأمة مع إمكان تزوج الحرة لأنه حكي عنه أنه قال مرة ما اتفقوا عليه فهو نص وقال مرة القرآن كله نص وليس في القرآن ما يخالف قولنا ولا اتفقت الأمة أيضا على خلافه وفي حكاية داود هذا عن إسماعيل عهدة وهو غير أمين ولا ثقة فيما يحكيه وغير مصدق على إسماعيل خاصة لأنه كان نفاه من بغداد وقذفه بالعظائم وما أظن تعجب إسماعيل من قولنا إلا من جهة أنه كان يعتقد في مثله أنه دلالة
[ 203 ]
على حظر ما عدا المذكور وقد بينا أن ذلك ليس بدليل واستقصينا القول فيه أصول الفقه ومما يدل على صحة قولنا أن خوف العنت وعدم الطول ليسا بضرورة لأن الضرورة ما يخاف فيها تلف النفس وليس في فقد الجماع تلف النفس وقد أبيح له نكاح الأمة فإذا جاز نكاح الأمة في غير ضرورة فلا فرق بين وجود الطول وعدمه إذ عدم الطول ليس بضرورة في التزوج إذ لا تقع لأحد ضرورة إلى التزوج إلا أن يكره عليه بما يوجب تلف النفس أو بعض الأعضاء ويدل على أن الإباحة المذكورة في الآية غير معقودة بضرورة قوله في نسق الخطاب أن تصبروا خير لكم وما اضطر إليه الإنسان من ميتة أو لحم خنزير أو نحوه لا يكون الصبر عليه خيرا له لأنه لو صبر عليه حتى مات كان عاصيا وأيضا فليس النكاح بفرض حتى تعتبر فيه الضرورة وأصله تأديب وندب وإذا كان كذلك وقد جاز في غير الضرورة وجب أن يجوز في حال وجود الطول كما أجاز في حال عدمه وقوله تعالى بعضكم من بعض في نسق التلاوة قيل فيه إن كلكم من آدم وقيل فيه كلكم مؤمنون يدل على أنه أراد المساواة بينهم في النكاح وهذا يدل على وجوب التسوية بين الحرة والأمة إلا فيما تقوم فيه دلالة التفضيل وأما من قال إن نكاح الحرة طلاق للأمة فقوله وانه ضعيف لا مساغ له في النظر لأنه لو كان كما ذكر لوجب أن يكون الطول إلى الحرة فاسخا لنكاح الأمة كما قال الشعبي كالمتيمم إذا وجد الماء ينتقض تيممه توضأ أو لم يتوضأ مطلب: في تأويل أبي يوسف قوله تعالى: (ومن لم يستطع منكن طولا) وقد روي عن أبي يوسف أنه تأول قوله تعالى لم يستطع منكم طولا على عدم الحرة في ملكه وأن وجود الطول هو كون الحرة تحته وهذا التأويل سائغ لأن من ليس عنده حرة فهو غير مستطيع للطول إليها إذ لا يصل إليها ولا يقدر على وطئها فكان وجود الطول عنده هو ملك وطء الحرة وهو أولى بمعنى الآية من تأول من تأوله على القدرة على تزوجها لأن القدرة على المال لا توجب له ملك الوطء إلا بعد النكاح فوجود الطول بحال ملك الوطء أخص منه بوجود المال الذي به يتوصل إلى النكاح ويدل عليه أنا وجدنا لملك وطء الزوجة تأثيرا في منع نكاح أخرى ولم نجد هذه المزية لوجود المال فإذا لا حظ لوجود المال في منع نكاح الأمة فتأويل أبي يوسف الآية على ملك وطء الحرة أصح من تأويل من تأولها على ملك المال
[ 204 ]
فإن قيل وجود ثمن رقبة الظهار كوجود الرقبة في ملكه فهلا كان وجود مهر الحرة كوجود نكاحها قيل له هذا خطأ منتقض من وجوه أحدها أنك لم تعقده بمعنى يوجب الجمع بينهما وبدلالة يدل بها على صحة المعنى وما خلا من ذلك من دعوى الخصم فهو ساقط غير مقبول والثاني أن ذلك يوجب أن يكون وجود مهر امرأة في ملكه كوجود نكاحها في منع تزويج أمها أو أختها فلما لم يكن ذلك بأن به فساد ما ذكرت وعلى أن الرقبة ليست عروضا للنكاح لأن الرقبة فرض عليه عتقها وغير جائز له الانصراف عنها مع وجودها وجائز للرجل أن لا يتزوج مع الإمكان فلما كان كذلك كان وجود ثمن الرقبة في ملكه كوجودها إذ كانت فرضا هو مأمور بعتقها على حسب الإمكان وليس النكاح بفرض فيلزمه التوصل إليه لوجود المهر فليس إذا لوجود المهر في ملكه تأثير في منع نكح الأمة وكان واجده بمنزلة من لم يجد وإنما قال أصحابنا إنه لا يتزوج الأمة على الحرة لما روى الحسن ومجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تنكح الأمة على الحرة ولولا ما ورد من الأثر لم يكن تزويج الأمة على الحرة محظورا إذ ليس في القرآن ما يوجب حظره والقياس يوجب إباحته ولكنهم اتبعوا الأثر في ذلك والله تعالى أعلم باب نكاح الأمة الكتابية قال أبو بكر اختلف أهل العلم فيه فروي عن الحسن ومجاهد وسعيد بن عبد العزيز وأبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم كراهة ذلك وهو قول الثوري وقال أبو ميسرة في آخرين يجوز نكاحها وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر وروي عن أبي يوسف أنه كرهه إذا كان مولاها كافرا والنكاح جائز ويشبه أن يكون ذهب إلى أن ولدها يكون عبدا لمولاها وهو مسلم بإسلام الأب كما يكره بيع العبد المسلم من الكافر وقال مالك والأوزاعي والشافعي والليث بن سعد لا يجوز النكاح والدليل على جوازه جميع ما ذكرنا من عموم الآي في الباب الذي قبله الموجبة لجواز نكاح الأمة مع وجود الطول إلى الحرة ودلالتها على جواز نكاح الأمة الكتابية كهي على إباحة نكاح المسلمة ومما يختص منها بالدلالة على هذه المسألة قوله عز وجل (من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وروى جرير عن ليث عن مجاهد في قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم [ المائدة: 5 ] قال العفائف وروى هشيم عن مطرف عن الشعبي مع والمحصنات من الذين أوتوا
[ 205 ]
الكتاب من قبلكم قال إحصانها أن تغتسل من الجنابة وتحصن فرجها من الزنا فثبت بذلك أن اسم الإحصان قد يتناول الكتابية قال تعالى والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم فاستثنى ملك اليمين من المحصنات فدل على أن الاسم يقع عليهن لولا ذلك لما استثناهن وقال تعالى فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة) فأطلق اسم الإحصان في هذا الموضع على الإماء ولما ثبت أن اسم المحصنات يقع على الكتابيات من الحرائر والإماء وأطلق الله نكاح الكتابيات المحصنات بقوله (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم كان عاما في الحرائر والإماء منهن فإن احتجوا بقوله تنكحوا المشركات حتى يؤمن وكانت هذه مشركة وقال في أية أخرى لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات فكانت إباحة نكاح الإماء مقصورة على المسلمات منهن دون الكتابيات وجب أن يكون نكاح الإماء الكتابيات باقيا في حكم الحظر قيل له إطلاق اسم المشركات لا يتناول الكتابيات وإنما يقع على عبدة الأوثان دون غيرهم لأن الله تعالى قد فرق بينهما في قوله لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين سعيد المشركين على أهل الكتاب وهذا يدل على أن إطلاق الاسم إنما يتناول عبدة الأوثان دون غيرهم فلم يعم الكتابيات فغير جائز الاعتراض به في حظر نكاح الإماء الكتابيات وأيضا فلا خلاف بين فقهاء الأمصار أن قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم [ المائدة: 5 ] قاض على قوله ولا تنكحوا المشركات لأنهم لا يختلفون في جواز نكاح الحرائر الكتابيات فليس يخلو حينئذ قوله تنكحوا المشركات من أن يكون عاما في إطلاقه للكتابيات والوثنيات أو أن يكون إطلاقه مقصورا على الوثنيات دون الكتابيات فإن كان الإطلاق إنما يتناول الوثنيات دون الكتابيات فالسؤال نازلا بعده فيكون مستعملا أيضا أو أن يكون إطلاقه مقصورا على الوثنيات دون الكتابيات، فإن كان الاطلاق إنما يتناول الوثنيات دون الكتابيات فالسؤال عنا ساقط فيه إذ ليس بناف فيه لنكاح الكتابيات وإن كان الإطلاق ينتظم الصنفين جميعا لو حملنا على ظاهره فقد اتفقوا أنه مرتب على قوله (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم لاتفاق الجميع على استعماله معه في الحرائر منهن وإذا كان كذلك لم يخل من أن تكون الآيتا ننزلتا معا أو أن تكون إباحة نكاح الكتابيات متأخرا عن حظر نكاح المشركات أو أن يكون حظر نكاح المشركات متأخرا عن إباحة نكاح الكتابيات فإن كانتا نزلتا معا فهما مستعملتان جميعا على جهة ترتيب حظر نكاح المشركات على إباحة نكاح الكتابيات أو أن يكون
[ 206 ]
نكاح الكتابيات نازلا بعده فيكون مستعملا أيضا، أو أن يكون حظر نكاح المشركات متأخرا عن إباحة نكاح الكتابيات فإن كان كذلك فإنه ورد مرتبا على إباحة نكاح الكتابيات فالإباحة مستعملة في الأحوال كلها كيف تصرف الحال على الحال على أنه ولا خلاف أن قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم نزل بعد تحريمه نكاح المشركات لأن آية تحريم المشركات في سورة البقرة وإباحة نكاح الكتابيات في سورة المائدة وهي نزلت بعدها فهي قاضية على تحريم المشركات إن كان إطلاق اسم المشركات يتناول الكتابيات ثم لما تفرق الآية المبيحة لنكاح الكتابيات بين الحرائر منهن وبين الإماء واقتضى عمومها الفريقين منهن وجب استعمالها فيهما جميعا وأن لا يعترض بتحريم نكاح المشركات عليهن كما لم يجز الاعتراض به على الحرائر منهن وأما تخصيص الله تعالى المؤمنات من الإماء في قوله من فتياتكم المؤمنات فقد بينا في المسألة المتقدمة أن التخصيص بالذكر لا يدل على أن ما عدا المخصوص بكر حكمه بخلافه فإن قيل لا يصح الاحتجاج بقوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم في إباحة النكاح وذلك لأن الإحصان اسم مشترك يتناول معاني مختلفة وليس بعموم فيجري على مقتضى لفظه بل هو مجمل موقوف الحكم على البيان فما ورد به البيان من توقيف أو اتفاق صرنا إليه وكان حكم الآية مقصورا عليه وما لم يرد به بيان فهو على إجماله لا يصح الاحتجاج بعمومه فلما اتفق الجميع على أن الحرائر من الكتابيات مرادات به استعملنا حكم الآية فيهن ولما لم تقم الدلالة على إرادة الإماء الكتابيات احتجنا في إثباتها إلى دليل من غيرها قيل له لما روي عن جماعة من السلف في قوله من الذين أوتوا الكتاب إنهن العفائف منهن إذا كان اسم الإحصان يقع على العفة وجب اعتبار عموم اللفظ في جميع العفائف إذ قد ثبت أن العفة مرادة بهذا الإحصان وما عدا ذلك من ضروب الإحصان لم تقم الدلالة على أنها مرادة وقد اتفقوا على أنه ليس من شرط هذا الإحصان استكمال شرائطه كلها فما وقع عليه الاسم واتفق الجميع أنه مراد أثبتناه وما عداه يحتاج مثبته شرطا في الإباحة إلى دلالة فإن قيل اسم الإحصان يقع على الحرية فما أنكرت أن يكون المراد بقوله (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم الحرائر منهن قيل له لما كان معلوما أنه لم يرد بذكر الإحصان في هذا الموضع استيفاء شرائطه لم يجز لأحد أن يقتصر بمعنى الإحصان فيه على بعض ما يقع عليه الاسم دون بعض بل إذا تناوله
[ 207 ]
الاسم من وجه وجب اعتبار عمومه فيه فلما كانت الأمة قد يتناولها اسم الإحصان على الإطلاق في بعض الوجوه من طريق العفة أو غيرها جاز اعتبار عموم ا للفظ فيه وإذا جاز لك أن تقتصر باسم الإحصان على الحرية دون غيرها فجائز لغيرك أن يقتصر به على العفاف دون غيره وغير جائز لنا إجمال حكم اللفظ مع إمكان استعماله على العموم وقد أطلق الله اسم الإحصان على الأمة فقال تعالى فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب فقال بعضهم أراد فإذا أسلمن وقال بعضهم فإذا تزوجن فكان اعتبار هذا العموم سائغا في إيجاب الحد عليهن وقد قال في الآية والمحصنات من المؤمنات ولم يرد به حصول جميع شرائط الإحصان وإنما أراد به العفائف منهن وحرم ذوات الأزواج بقوله والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم فكان عموما في تحريم الأزواج إلا ما استثناهن فكذلك قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم لا يمنع ذكر الإحصان فيه من اعتبار عمومه فيمن يقع عليه الاسم من جهة العفاف على ما روي عن السلف ومن جهة النظر أنه لا خلاف بين الفقهاء في إباحة وطء الأمة الكتابية بملك اليمين وكل من جاز وطؤها بملك اليمين جاز وطؤها بملك النكاح على الوجه الذي يجوز عليه نكاح الحرة المنفردة ألا ترى أن المسلمة لما جاز وطؤها بملك اليمين جاز وطؤها بالنكاح وأن الأخت من الرضاعة وأم المرأة وحليلة الابن وما نكح الآباء لما لم يجز وطؤهن بملك اليمين حرم وطؤهن بالنكاح فلما اتفق الجميع على جواز وطء الأمة الكتابية بملك اليمين وجب جواز وطئها بالنكاح على الوجه الذي يجوز فيه وطء الحرة المنفردة فإن قيل قد يجوز وطء الأمة الكتابية بملك اليمين ولا يجوز بالنكاح كما إذا كانت تحته حرة قيل له لم نجعل ما ذكرنا علة لجواز نكاحها في سائر الأحوال وإنما جعلناه علة لجواز نكاحها منفردة غير مجموعة إلى غيرها ألا ترى أن الأمة المسلمة يجوز نكاحها منفردة ولو كانت تحته حرة لما جاز نكاحها لأنه لم يجز نكاحها من طريق جمعها إلى الحرة كما لا يجوز نكاحها لو كانت أختها تحته وهي أمة فعلنا صحيحة مستمرة جارية في معلولاتها غير لازم عليها ما ذكرت إذ كانت منصوبة لجواز نكاحها منفردة غير مجموعة إلى غيرها وبالله التوفيق باب نكاح الأمة بغير إذن مولاها قال الله تعالى بإذن أهلهن قال أبو بكر قد اقتضى ذلك بطلان نكاح الأمة إلا أن يأذن سيدها وذلك لأن قوله تعالى فانكحوهن بإذن أهلهن يدل
[ 208 ]
على كون الإذن شرطا في جواز النكاح وإن لم يكن النكاح واجبا وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم أن السلم ليس بواجب ولكنه إذا اختار أن يسلم فعليه استيفاء هذه الشرائط كذلك النكاح وإن لم يكن حتما فعليه إذا أراد أن يتزوج الأمة أن لا يتزوجها إلا بإذن سيدها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في نكاح العبد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن شاذان قال أخبرنا معلى قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا القاسم بن عبد الواحد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تزوج العبد بغير إذن مولاه فهو عاهر حدثنا عبد الباقي قال حدثنا محمد بن الخطابي قال حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال حدثنا الحسن بن صالح عن عبد الله بن محمد بن عقيل قال سمعت جابر بن عبد الله يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما عبد تزوج بغير إذن سيده زنا وروى هشيم عن يونس عن نافع أن مملوكا لابن عمر تزوج بغير إذنه فضربهما وفرق بينهما وأخذ كل شئ أعطاها وقال الحسن وسعيد بن المسيب وإبراهيم والشعبي إذا تزوج العبد بغير إذن مولاه فالأمر إلى المولى إن شاء أجاز وإن شاء رد وقال عطاء نكاح العبد بغير إذن سيده ليس بزنا لكنه أخطأ السنة وروى قتادة عن خلاس أن غلاما لأبي موسى تزوج بغير إذنه فرفع ذلك إلى عثمان ففرق بينهما وأعطاها الخمسين وأخذ ثلاثة أخماس قال أبو بكر واتفق من ذكرنا قوله من السلف أنه لا حد عليهما وإنما روي الحد عن ابن عمر وجائز أن يكون جلدهما تعزيرا لا حدا فظن الراوي أنه حد واتفق علي وعمر في المتزوجة في العدة أنه لا حد عليها ولا نعلم أحدا من الصحابة خالفهما في ذلك والعبد الذي تزوج بغير إذن مولاه أيسر أمرا من المتزوجة في العدة لأن ذلك نكاح تلحقه الإجازة عند عامة التابعين وفقهاء الأمصار ونكاح المعتدة لا تلحقه إجازة عند أحد وتحريم نكاح المعتدة منصوص عليه في الكتاب في قوله تعالى تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله وتحريم نكاح العبد من جهة خبر الواحد والنظر فإن قيل قال النبي صلى الله عليه وسلم في العبد يتزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر وقد قال صلى الله عليه وسلم وللعاهر الحجر قيل له لا خلاف أن العبد غير مراد بقوله وللعاهر الحجر لأنه لا يرجم إذا زنى وإنما سماه عاهرا على المجاز والتشبيه بالزاني لإقدامه على وطء محظور وقال النبي صلى الله عليه وسلم العينان تزنيان والرجلان تزنيان وذلك مجاز فكذلك قوله
[ 209 ]
في العبد وأيضا فقد قال أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر ولم يذكر الوطء ولا خلاف أنه لا يكون عاهرا بالتزوج فدل أن إطلاقه ذلك كان على وجه المجاز تشبيها له بالعاهر وقوله تعالى بإذن أهلهن يدل على أن للمرأة أن تزوج أمتها لأن قوله قد المراد به الموالي لأنه لا خلاف أنه لا يجوز لها أن تتزوج بغير إذن مولاها وأنه لا اعتبار بإذن غير المولى إذا كان المولى بالغا عاقلا جائز التصرف في ماله وقال الشافعي لا يجوز للمرأة أن تزوج أمتها وإنما توكل غيرها بالتزويج وهو قول يرده ظاهر الكتاب لأن الله تعالى لم يفرق بين عقدها التزويج وبين عقد غيرها بإذنها ويدل على أنها إذا أذنت لامرأة أخرى في تزوجيها أنه جائز لأنها تكون منكوحة بإذنها وظاهر الآية مقتض لجواز نكاحها بإذن مولاها فإذا وكل مولاها أو مولاتها امرأة بتزويجها وجب أن يجوز ذلك لأن ظاهر الآية قد أجازه ومن منع ذلك فإنما خص الآية بغير دلالة وأيضا فإن كانت هي لا تملك عقد النكاح عليها فغير جائز توكيلها غيرها به لأن توكيل الإنسان إنما يجوز فيما يملكه فأما مالا يملكه فغير جائز توكيل غيره بن في العقود التي تتعلق أحكامها بالموكل دون الوكيل وقد يصح عندنا توكيل من لا يصح عقده إذا عقد في العقود التي تتعلق أحكامها بالوكيل دون الموكل وهي عقود البياعات والإجارت فأما عقد النكاح إذا وكل به فإنما يتعلق حكمه بالموكل دون الوكيل ألا ترى أن الوكيل بالنكاح لا يلزمه المهر ولا تسليمه البضع فلو لم تكن المرأة مالكة لعقد النكاح لما صح توكيلها به لغيرها إذ كانت أحكام العقود غير متعلقة بالوكيل فلما صح توكيلها به مع تعلق أحكامه بها دون الوكيل دل على أنها تملك العقد وهذا أيضا دليل على أن الحرة تملك عقد النكاح على نفسها كما جاز وتوكيلها على غيرها به وهو وليها وقوله تعالى أجورهن بالمعروف يدل على وجوب مهرها إذا نكحها سمى لها مهرا أو لم يسم لأنه لم يفرق بين من سمى وبين من لم يسم في إيجابه المهر ويدل على أنه قد أريد به مهر المثل قوله تعالى وهذا إنما يطلق فيما كان مبنيا على الاجتهاد وغالب الظن المعتاد والمتعارف كقوله تعالى المولود له رزقهن وكسوتهن بمالعروف [ البقرة: 233 ]. وفي تعالى أجورهن يقتضي ظاهره وجوب دفع المهر إليها والمهر واجب للمولى دونها لأن المولى هو المالك للوطء الذي أباحه للزوج بعقد النكاح فهو المستحق لبدله كما لو آجرها للخدمة كان المولى هو المستحق للأجرة دونها كذلك المهر ومع ذلك فإن الأمة لا تملك شيئا فلا تستحق قبض المهر ومعنى الآية على أحد
[ 210 ]
وجهين إما أن يكون المراد إعطاؤهن المهر بشرط إذن المولى فيه فيكون الإذن المذكور بديا مضمرا في إعطائها المهر كما كان مشروطا في التزويج فيكون تقديره فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بإذنهم فيدل ذلك على أنه غير جائز إعطاؤهن المهر إلا بإذن المولى وهو كقوله تعالى فروجهم والحافظات كل والمعنى والحافظات [ الاحزاب: 35 ] فروجهن وقوله تعالى الله كثيرا والذاكرات ومعناه والذاكرات الله وتكون دلالة هذا الضمير ما في الآية من نفي ملكها لتزويجها نفسها وإن المولى أملك بذلك منها وقوله تعالى (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ فنفي ملكه نفيا عاما وفيه الدلالة على أن الأمة لا تستحق مهرها ولا تملكه والوجه الآخر أن يكون أضاف الإعطاء إليهن والمراد المولى كما لو تزوج صبية صغيرة أو أمة صغيرة بإذن الأب والمولى جاز أن يقال أعطهما مهريهما ويكون المراد إعطاء الأب أو المولى ألا ترى أنه يصح أن يقال لمن عليه دين ليتيم قد مطله به أنه مانع لليتيم حقه وإن كان اليتيم لا يستحق قبضه ويقال أعط اليتيم حقه وقال تعالى ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل [ الاسراء: 35 ] وقد انتظم ذلك الصغار والكبار من أهل هذه الأصناف وإعطاء الصغار إنما يكون بإعطاء أوليائهم فكذلك جائز أن يكون المراد بقوله وآتوهن * إيتاء من يستحق ذلك من مواليهن وزعم بعض أصحاب مالك أن الأمة هي المستحقة لقبض مهرها وأن المولى إذا آجرها للخدمة كان هو المستحق للأجر دونها واحتج للمهر بقوله تعالى وآتوهن أجورهن وقد بينا وجه ذلك ومعناه وعلى أنه إن كان المهر يجب لها لأنه بدل بضعها فكذلك يجب أن تكون الأجرة لها لأنه بدل منافعها ومن حيث كان المولى هو المالك لمنافعها كما كان مالكا لبضعها فمن استحق الأجرة دونها فواجب أن يستحق قبض المهر دونها لأنه بدل ملك المولى لا ملكها لأنها لا تملك منافع بضعها ولا منافع بدنها والمولى هو العاقد في الحالين وبه تمت الإجارة والنكاح فلا فرق بينهما وحكى هذا القائل أن بعض العراقيين أجاز أن يزوج المولى أمته عبده بغير صداق وهذا خلاف الكتاب زعم قال أبو بكر ما أشد إقدام مخالفينا على الدعاوى على الكتاب والسنة ومن راعى كلامه وتفقد ألفاظه قلت دعاويه بما لا سبيل له إلى إثباته فإن كان هذا القائل إنما أراد أنهم أجازوا أن يزوج أمته عبده بغير تسمية مهر فإن كتاب الله تعالى قد حكم بجواز ذلك في قوله لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة فحكم بصحة الطلاق في نكاح لا مهر فيه مسمى فدعواه
[ 211 ]
أن ذلك خلاف الكتاب قد أكذبها الكتاب وإن كان مراده أنهم قالوا إنه لا يثبت مهر ويستبيح بضعها بغير بدل فهذا مالا نعلم أحدا من العراقيين قاله فحصل هذا القائل على معنيين باطلين إحداهما دعواه على الكتاب وقد بينا أن الكتاب بخلاف ما قال والثاني دعواه على بعض العراقيين ولم يقل أحد منهم ذلك بل قولهم في ذلك أنه إذا تزوج أمته من عبده وجب لها المهر بالعقد لامتناع استباحة البضع بغير بدل ثم يسقط في الثاني حين يستحقه المولى لأنها لا تملك والمولى هو الذي يملك مالها ولا يثبت للمولى على عبده دين فههنا حالان إحداهما حال العقد يثبت فيها المهر على العبد والحال الثانية هي حال انتقاله إلى المولى بعد العقد فيسقط كما أن رجلا لو كان له على آخر مال فقضاه كان قبضه حالان إحداهما حال قبضه فيملكه مضمونا بمثله ثم يصير قصاصا بماله عليه وكما نقول في الوكيل في الشري أن المشتري انتقل إليه بالعقد ولا يملكه وينتقل في الثاني ملكه إلى الموكل ولذلك نظائر كثيرة لا يفهمها إلا من ارتاص بالمعاني الفقهية وجالس أهل فقه هذا الشأن وأخذ عنهم قوله تعالى منه غير مسافحات ولا متخذات أخدان يعني والله أعلم فانكحوهن محصنات غير مسافحات وأمر بأن يكون العقد عليها بالنكاح صحيح وأن لا يكون وطؤها على وجه الزنا لأن الإحصان ههنا بالنكاح والسفاح الزنا متخذات أخدان لا يكون وطؤها على حسب ما كانت عليه عادة أهل الجاهلية في اتخاذ الأخدان قال ابن عباس كان قوم منهم يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما خفي منه والخدن هو الصديق للمرأة يزني بها سرا فنهى الله تعالى عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن وزجر عن الوطء إلا عن نكاح صحيح أو ملك يمين مطلب: الفتاة تطلق على الامة ولو عجوزا وسمى الله الإماء الفتيات بقوله من فتياتكم المؤمنات والفتاة اسم للشابة والعجوز الحرة لا تسمى فتاة والأمة الشابة والعجوز كل واحدة منهما تسمى فتاة ويقال إنها سميت فتاة وإن كانت عجوز الأنها إذا كانت أمة لا توقر توقير الكبيرة والفتوة حال الغرة والحداثة والله أعلم بالصواب باب حد الأمة والعبد قال الله تعالى أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب قال أبو بكر قرئ فإذا أحصن بفتح الألف وقرئ بضم الألف فروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة أن بالضم معناه تزوجن وعن
[ 212 ]
عمر وابن مسعود والشعبي وإبراهيم بالفتح قالوا معناه أسلمن وقال الحسن يحصنها الزوج ويحصنها الإسلام واختلف السلف في حد الأمة متى يجب فقال من تأول قوله أحصن) بالضم على التزويج أن الأمة لا يجب عليها الحد وإن أسلمت ما لم تتزوج وهو مذهب ابن عباس والقائلين بقوله ومن تأول قوله أحصن بالفتح على الإسلام جبل عليها الحد إذا أسلمت وزنت وإن لم تتزوج وهو قول ابن مسعود والقائلين بقوله وقال بعضهم تأويل من تأوله على أسلمن بعيد لأن ذكر الإيمان قد تقدم لهن بقوله (من فتياتكم المؤمنات فيبعد أن يقال من فتياتكم المؤمنات فإذا آمن وليس هذا كما ظن لأن قوله فتياتكم المؤمنات هو في شأن النكاح وقد استأنف ذكر حكم آخر غيره وهو الحد فجاز استنيناف: ذكر الإسلام فيكون تقديره فإذا كن مسلمات فأتين بفاحشة فعليهن هذا لا يدفعه أحد ولو كان ذلك غير سائغ لما تأوله عمر وابن مسعود والجماعة الذين ذكرنا قولهم عليه وليس يمتنع أن يكون الأمران جميعا من الإسلام والنكاح مرادين باللفظ لاحتماله لهما وتأويل السلف الآية عليهما وليس الإسلام والتزويج شرطا في إيجاب الحد عليها إذا لم تحصن لم يجب لما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عبيدالله بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير والضفير الحبل وفي حديث سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في كل مرة فليقم عليها كتاب الله تعالى فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب الحد عليها مع عدم الإحصان فإن قيل فما فائدة شرط الله الإحصان في قوله أحصن وهي محدودة في حال الإحصان وعدمه قيل له لما كانت الحرة لا يجب عليها الرجم إلا أن تكون مسلمة متزوجة أخبر الله تعالى أنهن وإن أحصن بالإسلام وبالتزويج فليس عليهم أكثر من نصف حد الحرة ولولا ذلك لكان يجوز أن يتوهم افتراق حالها في حكم وجود الإحصان وعدمه فإذا كانت محصنة يكون عليها الرجم وإذا كانت غير محصنة فنصف الحد فأزال الله تعالى توهم من يظن ذلك وأخبر أنه ليس عليها إلا نصف الحد في جميع الأحوال فهذه فائدة شرط الإحصان عند ذكر حدها ولما أوجب عليها نصف حد الحرة مع الإحصان علمنا أنه أراد الجلد إذ الرجم لا ينتصف وقوله تعالى فعليهن نصف
[ 213 ]
ما على المحصنات من العذاب به الإحصان من جهة الحرية لا الإحصان الموجب للرجم لأنه لو أراد ذلك لم يصح أن يقال عليها نصف الرجم لأنه لا يتبعض مطلب: إذا علقت الاحكام بمعان فحيث وجدت فالحكم ثابت وخص الله الأمة بإيجاب نصف حد الحرة عليها إذا زنت وعقلت الأمة من ذلك أن العبد بمثابتها إذ كان المعنى الموجب لنقصان الحد معقولا من الظاهر وهو الرق وهو موجود في العبد وكذلك قوله تعالى يرمون المحصنات خص المحصنات بالذكر وعقلت الأمة حكم المحصنين أيضا في هذه الآية إذا قذفوا إذ كان المعنى في المحصنة العفة والحرية والإسلام فحكموا للرجل بحكم النساء بالمعنى وهذا يدل على أن الأحكام إذا عقلت بمعان فحيثما وجدت فالحكم ثابت حتى تقوم الدلالة على الاقتصار على بعض المواضع دون بعض فصل قوله تعالى فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن يدل على جواز عطف الواجب على الندب لأن النكاح ندب ليس بفرض وإيتاء المهر واجب ونحوه قوله تعالى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ثم قال وآتوا النساء صدقاتهن نحلة ويصح عطف الندب على الواجب أيضا كقوله تعالى (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى فالعدل واجب والإحسان ندب وقوله تعالى ذلك لمن خشي العنت منكم ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك وعطية العوفي هو الزنا وقال آخرون هو الضرر الشديد في دين أو دنيا من قوله تعالى ودوا ما عنتم وقوله لمن خشي العنت منكم راجع إلى قوله فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات وهذا شرط إلى المندوب إليه من ترك نكاح الأمة والاقتصار على تزوج الحرة لئلا يكون ولده عبدا لغيره فإذا خشي العنت ولم يأمن مواقعة المحظور فهو مباح لا كراهة فيه لا في الفعل ولا في الترك ثم عقب ذلك بقوله تعالى وأن تصبروا خير لكم فأبان عن موضع الندب والاختيار هو ترك نكاح الأمة رأسا فكانت دلالة الآية مقتضية لكراهية نكاح الأمة إذا لم يخش العنت ومتى خشي العنت فالنكاح مباح إذا لم تكن تحته حرة والاختيار أن يتركه رأسا وإن خشي العنت لقوله وأن تصبروا خير لكم ندب الله تعالى إلى ترك نكاح الأمة رأسا مع خوف العنت لأن الولد المولود على فراش النكاح
[ 214 ]
من الأمة يكون عبدا لسيدها ولم يكره استيلاد الأمة بملك اليمين لأن ولده منها يكون حرا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يوافق معنى الآية في كراهة نكاح الأمة حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن الفضل بن جابر السقطي قال حدثنا محمد بن عقبة بن هرم السدوسي قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم انكحوا الأكفاء وانكحوهن واختاروا لنطفكم وإياكم والزنج فإنه خلق مشوه قوله انكحوا الأكفاء يدل على نكاح الأمة لأنها ليست بكفؤ للحر وقوله واختاروا لنطفكم يدل على ذلك أيضا لئلا يصير ولده عبدا مملوكا وماؤه حر فينتقل بتزويجه إلى الرق وروي في خبر آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال تخيروا لنطفكم فإن عرق السوء يدرك ولو بعد حين مطلب: البيان من الله تعالى على وجهين وقوله تعالى الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم) يعني والله أعلم يريد ليبين لنا ما بنا الحاجة إلى معرفته والبيان من الله تعالى على وجهين أحدهما بالنص والآخر بالدلالة ولا تخلو حادثة صغيرة ولا كبيرة إلا ولله فيها حكم إما بنص وإما بدليل وهو نظير قوله إن علينا بيانه وقوله (هذا بيان للناس وقوله وما فرطنا في الكتاب من شئ [ الانعام: 38 ]. وقوله ويهديكم سنن الذين من قبلكم من الناس من يقول إن هذا يدل على أن ما حرمه علينا وبين لنا تحريمه من النساء في الآيتين اللتين قبل هذه الآية كان محرما على الذين كانوا من قبلنا من أمم الأنبياء المتقدمين وقال آخرون لا دلالة فيه على اتفاق الشرائع وإنما معناه له يهديكم سنن الذين من قبلكم في بيان ما لكم فيه من المصلحة كما بينه لهم وإن كانت العبادات والشرائع مختلفة في أنفسها إلا أنها وإن كانت مختلفة في أنفسها فهي متفقة في باب المصالح وقال آخرون يبين لكم سنن الذين من قبلكم من أهل الحق وغيرهم لتجتنبوا الباطل وتحبوا الحق وقوله تعالى عليكم يدل على بطلان مذهب أهل الأخبار لأنه أخبر أنه يريد أن يتوب علينا وزعم هؤلاء أنه يريد من المصرين الإصرار ولا يريد منهم التوبة والإستغفار قوله تعالى يريد الذين يتبعون الشهوات فقال قائلون المراد به كل مبطل لأنه يتبع شهوة نفسه فيما وافق الحق أو خالفه ولا يتبع الحق في مخالفة الشهوة وقال مجاهد أراد به الزنا وقال السدي اليهود والنصارى
[ 215 ]
وقوله تميلوا ميلا عظيماي وفي يعني به العدول عن الاستقامة بالاستكثار من المعصية وتكون إرادتهم للميل على أحد وجهين إما لعداوتهم أو للأنس بهم والسكون إليهم في الإقامة على المعصية فأخبر الله تعالى أن إرادته لنا خلاف إرادة هؤلاء وقد دلت الآية على أن القصد في اتباع الشهوة مذموم إلا أن يوافق الحق فيكون حينئذ غير مذموم في اتباع شهوته إذ كان قصده اتباع الحق ولكن من كان هذا سبيله لا يطلق عليه أنه متبع لشهوته لأن قصده فيه اتباع الحق وافق شهوته أو خالفها قوله تعالى الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا التخفيف هو تسهيل التكليف وهو خلاف التثقيل وهو نظير قوله تعالى عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقوله تعالى جعل عليكم في الدين من حرج [ الحج: 78 ] وقوله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم [ المائدة: 6 ] فنفى الضيق والثقل والحرج عنا في الآيات ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم جئتكم بالحنيفة السمحة وذلك لأنه وإن حرم علينا ما ذكرنا تحريمه من النساء فقد أباح لنا غيرهن من سائر النساء تارة بنكاح وتارة بملك يمين وكذلك سائر المحرمات قد أباح لنا من جنسها أضعاف ما حظر فجعل لنا مندوحة عن الحرام بما أباح من الحلال مطلب: في المعنى المراد من قول ابن مسعود: إن الله لم يجعل شفاء كم فيما حرم عليكم وعلى هذا المعنى ما روي عن عبد الله بن مسعود إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم يعني أنه لم يقتصر بالشفاء على المحرمات بل جعل لنا مندوحة وغنى عن المحرمات بما أباحه لنا من الأغذية والأدوية حتى لا يضرنا فقد ما حرم في أمور دنيانا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما وهذه الآيات يحتج بها في المصير إلى التخفيف فيما اختلف فيه الفقهاء وسوغوا فيه الاجتهاد وفيه الدلالة على بطلان مذهب المجبرة في قولهم إن الله يكلف العباد مالا يطيقون لأخباره بأنه يريد التخفيف عنا وتكليف مالا يطاق غاية التثقيل والله أعلم بمعاني كتابه باب التجارات وخيار البيع قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم قال أبو بكر قد انتظم هذا العموم النهي عن أكل مال الغير
[ 216 ]
ومال نفسه كقوله تعالى ولا تقتلوا أنفسكم قد اقتضى النهي عن قتل غيره وقتل نفسه فكذلك قوله تعالى تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل نهي لكل أحد عن أكل مال نفسه ومال غيره بالباطل وأكل مال نفسه بالباطل إنفاقه في معاصي الله وأكل مال الغير بالباطل قد قيل فيه وجهان أحدهما ما قال السدي وهو أن يأكل بالربا والقمار والبخس والظلم وقال ابن عباس والحسن أن يأكله بغير عوض فلما نزلت هذه الآية كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس إلى أن نسخ ذلك بالآية التي في النور على الأعمى حرج إلى قوله تعالى ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم الآية قال أبو بكر يشبه أن يكون مراد ابن عباس والحسن أن الناس تحرجوا بعد نزول الآية أن يأكلوا عند أحد لا على أن الآية أوجبت ذلك لأن الهبات والصدقات لم تكن محظورة قط بهذه الآية وكذلك الأكل عند غيره اللهم إلا أن يكون المراد الأكل عند غيره بغير إذنه فهذا لعمري قد تناولته الآية وقد روى الشعبي عن علقمة عن عبد الله قال هي محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة وروى الربيع عن الحسن قال ما نسخها شئ من القرآن ونظير ما اقتضته الآية من النهي عن أكل مال الغير قوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام وقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وعلى أن النهي عن أكل مال الغير معقود بصفة وهو أن يأكله بالباطل وقد تضمن ذلك أكل أبدال العقود الفاسدة كأثمان البياعات الفاسدة وكمن اشترى من المأكول فوجده فاسدا لا ينتفع به نحو البيض والجوز فيكون أكل ثمنه أكل مال بالباطل وكذلك ثمن كلا مالا قيمة له ولا ينتفع به كالقرد والخنزير والذباب والزنابير وسائر مالا منفعة فيه فالانتفاع بأثمان جميع ذلك أكل مال بالباطل وكذلك أجرة النائحة والمغنية وكذلك ثمن الميتة والخمر والخنزير وهذا يدل على أن من باع بيعا فاسدا وأخذ ثمنه أنه منهي عن أكل ثمنه وعليه رده إلى مشتريه وكذلك قال أصحابنا أنه إذا تصرف فيه فربح فيه وقد كان عقد عليه بعينة وقبضه أن عليه أن يتصدق به لأنه ربح حصل له من وجه محظور وقوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل منتظم لهذه المعاني كلها ونظائرها من العقود المحرمة فإن قيل هل اقتضى ظاهر الآية تحريم أكل الهبات والصدقات والإباحة للمال من
[ 217 ]
صاحبه قيل له كل ما أباحه الله تعالى من العقود وأطلقه من جواز أكل مال الغير بإباحته إياه فخارج عن حكم الآية لأن الحظر في أكل المال مقيد الشريطة وهي أن يكون أكل مال بالباطل وما أباحه الله تعالى وأحله فليس بباطل بل هو حق فنحتاج أن ننظر إلى السبب الذي يستبيح أكل هذا المال فإن كان مباحا فليس بباطل ولم تتناوله الآية وإن كان محظورا فقد اقتضته الآية وأما قوله تعالى أن تكون تجارة عن تراض منكم اقتضى إباحة سائر التجارات الواقعة عن تراض والتجارة اسم واقع على عقود المعاوضات المقصود بها طلب الأرباح قال الله تعالى هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله فسمى الإيمان تجارة على وجه المجاز تشبيها بالتجارات المقصود بها الأرباح وقال تعالى تجارة لن تبور [ فاطر: 29 ]. كما سمى بذل النفوس لجهاد أعداء الله تعالى شرى قال الله تعالى الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فسمى بذل النفوس شراء على وجه المجاز وقال الله تعالى علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون فسمى ذلك بيعا وشراء على وجه المجاز تشبيها بعقود الأشرية والبياعات التي تحصل بها الأعواض كذلك سمى الإيمان بالله تعالى تجارة لما استحق به من الثواب الجزيل والأبدال الجسيمة فتدخل في قوله تعالى أن تكوت تجارة عن تراض منكم عقود البياعات والإجارت والهبات المشروطة فيها الأعواض لأن المبتغى في جميع ذلك في عادات الناس تحصيل الأعواض لا غير ولا يسمى النكاح تجارة في العرف والعادة إذ ليس المبتغى منه في الأكثر الأعم تحصيل العوض الذي هو مهر وإنما المبتغى فيه أحوال الزوج من الصلاح والعقل والدين والشرف والجاه ونحو ذلك فل يسم تجارة لهذا المعنى وكذلك الخلع والعتق على مال ليس يكاد يمسى شئ من ذلك تجارة ولما ذكرنا من اختصاص اسم التجارة بما وصفنا قال أبو حنيفة ومحمد إن المأذون له في التجارة لا يزوج أمته ولا عبده ولا يكاتب ولا يعتق على مال ولا يتزوج هو أيضا وإن كانت أمة لا تزوج نفسها لأن تصرفه مقصور على التجارة وليست هذه العقود من التجارة وقالوا إنه يؤاجر نفسه وعبيده وما في يده من أموال التجارة إذ كانت الإجارة من التجارة وكذلك قالوا في المضارب وشريك العنان لأن تصرفهما مقصور على التجارة دون غيرها ولم يختلف الناس أن البيوع من التجارات
[ 218 ]
واختلف أهل العلم في لفظ البيع كيف هو وقال أصحابنا إذا قال الرجل بعني عبدك هذا بألف درهم فقال قد بعتك لم يقع البيع حتى يقبل الأول ولا يصح عندهم إيجاب البيع ولا قبوله إلا بلفظ الماضي ولا يقع بلفظ الإستقبال لأن قوله بعني إنما هو سوم وأمر بالبيع وليس بإيقاع للعقد والأمر بالبيع ليس ببيع وكذلك قوله أشتري منك ليس بشرى وإنما هو إخبار بأنه يشتريه لأن الألف للإستقبال وكذلك قول البائع إشتر مني وقوله أبيعك ليس ذلك بلفظ العقد وإنما هو أخبار بأنه سيعقد أو أمر به وقالوا في النكاح القياس أن يكون مثله إلا أنهم استحسنوا فقالوا إذا قال زوجني بنتك فقال قد زوجتك أنه يكون نكاحا ولا يحتاج الزوج بعد ذلك إلى قبول لحديث سهل بن سعد في قصة المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يقبلها فقال له رجل زوجنيها فراجعه النبي صلى الله عليه وسلم فيما يعطيها إلى أن قال له زوجتكها عقدا بما معك من القرآن فجعل النبي صلى الله عليه وسلم قوله زوجنيها مع قوله زوجتكها عقدا واقعا ولأخبار أخر قد رويت في ذلك ولأنه ليس المقصد في النكاح الدخول فيه على وجه المساومة والعادة في مثله أنهم لا يفرقون فيه بين قوله زوجني وبين قوله قد زوجتك فلما جرت العادة في النكاح بما وصفنا كان قوله قد زوجتك وقوله زوجيني نفسك سواء ولما كانت العادة في البيع دخولهم فيه على وجه السوم بديا كان ذلك سوما ولم يكن عقدا فحملوه على القياس وقد قال أصحابنا فيما جرت به العادة بأنهم يريدون به إيجاب التمليك وإيقاع العقد أنه يقع به العقد وهو أن يساومه على شئ ثم يزن له الدراهم ويأخذ للمبيع فجعلوا ذلك عقدا لوقوع تراضيهما به وتسليم كل واحد منهما إلى صاحبه ما طالبه منه وذلك لأن جريان العادة بالشئ كالنطق به إذ كان المقصد من القول الإخبار عن الضمير والاعتقاد فإذا علم ذلك بالعادة مع التسليم للمعقود عليه أجروا ذلك مجرى العقد كما يهدي الإنسان لغيره فيقبضه فيكون للهبة ونحر النبي صلى الله عليه وسلم بدنات ثم قال من شاء فليقتطع فقام الاقتطاع في ذلك مقام القبول للهبة في إيجاب التمليك فهذه الوجوه التي ذكرناها هي طرق التراضي المشروط في قوله أن تكون تجارة عن تراض منكم) وقال مالك بن أنس إذا قال بعني هذا بكذا فقال قد بعتك فقد تم البيع وقال الشافعي لا يصح النكاح حتى يقول قد زوجتكها ويقول الآخر قد قبلت تزويجها أو يقول الخاطب زوجنيها ويقول الولي قد زوجتكها فلا يحتاج في هذا إلى قول الزوج قد قبلت
[ 219 ]
فإن قيل على ما ذكرنا من قول أصحابنا في المتساومين إذا تساوما على السلعة ثم وزن المشتري الثمن وسلمه إليه وسلم البائع السلعة إليه أن ذلك بيع وهو تجارة عن تراض غير جائز أن يكون هذا بيعا لأن لعقد البيع صيغة وهي الإيجاب والقبول بالقول وذلك معدوم فيما وصفت وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن المنابذة والملامسة وبيع الحصاة وما ذكرتموه في معنى هذه البياعات التي أبطلها النبي صلى الله عليه وسلم لوقوعها بغير لفظ البيع قيل له ليس هذا كما ظننت وليس ما أجازه أصحابنا مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وذلك لأن بيع الملامسة هو وقوع العقد باللمس والمنابذة وقوع العقد بنبذه إليه وكذلك بيع الحصاة هو أن يضع عليه حصاة فتكون هذه الأفعال عندهم موجبة لوقوع البيع فهذه بيوع معقودة على المخاطرة ولا تعلق لهذه الأسباب التي علقوا وقوع البيع بها بعقد البيع واما ما جازه أصحابنا فهو أن يتساوما على ثمن يقف البيع عليه ثم يزن له المشتري الثمن ويسلم البائع إليه المبيع وتسليم المبيع والثمن من حقوق البيع وأحكامه فلما فعلا موجب العقد من التسليم صار ذلك رضى منهما بما وقف عليه العقد من السوم ولمس الثوب ووضع الحصاة ونبذه ليس من موجبات العقد ولا من أحكامه فصار العقد معلقا على خطر فلا يجوز وصار ذلك أصلا في امتناع وقوع البياعات على الأخطار وذلك أن يقول بعتكه إذا قدم زيد وإذا جاء غد ونحو ذلك وقوله تعالى إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم عموم في إطلاق سائر التجارات وإباحتها وهو كقوله تعالى الله البيع في اقتضاء عمومه لإباحة سائر البيوع إلا ما خصه التحريم لأن اسم التجارة أعم من اسم البيع لأن اسم التجارة ينتظم عقود الإجارات والهبات الواقعة على الأعواض والبياعات فيضمن قوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل معنيين أحدهما نهي معقود بشريطة محتاجة إلى بيان في إيجاب حكمه وهو قوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل يحتاج إلى أن يثبت أنه أكل مال باطل حتى يتناوله حكم اللفظ والمعنى الثاني إطلاق سائر التجارات وهو عموم في جميعها لا إجمال فيه ولا شريطة فلو خلينا وظاهره لأجزنا غير سائر ما يسمى تجارة إلا أن الله تعالى قد خص منها أشياء بنص الكتاب وأشياء بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فالخمر والميتة والدم ولحم الخنزير وسائر المحرمات في الكتاب لا يجوز بيعها لأن إطلاق لفظ التحريم يقتضي سائر وجوه الانتفاع وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها وقال في الخمر إن الذي حرمها حرم بيعها وأكل ثمنها ولعن بائعها ومشتريها ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيع الغرر وبيع العبد الآبق وبيع ما لم يقبض وبيع ما ليس عند الإنسان
[ 220 ]
ونحوها من البياعات المجهولة والمعقود على غرر جميع ذلك مخصوص من ظاهر قوله تعالى إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم قرئ قوله إلا أن تكون تجارة عن تراض أحمد والرفع فمن قرأها بالنصب كان تقديره إلا أن تكون الأموال تجارة عن تراض فتكون التجارة الواقعة عن تراض مستثناة من النهي عن أكل المال إذ كان أكل المال بالباطل قد يكون من جهة التجارة ومن غير جهة التجارة فاستثنى التجارة من الجملة وبين أنها ليست أكل المال بالباطل ومن قرأها بالرفع كان تقديره إلا أن تقع تجارة كقول الشاعر فدى لنبي شيبان رحلي وناقتي * إذا كان يوم ذو كواكب أشهب يعني إذا حدث يوم كذلك وإذا كان معناه على هذا كان النهي عن أكل المال بالباطل على إطلاقه لم يستثن منه شئ وكان ذلك استثناء منقطعا بمنزلة لكن إن وقعت تجارة عن تراض فهو مباح وقد دلت هذه الآية على بطلان قول القائلين بتحريم المكاسب لإباحة الله التجارة الواقعة عن تراض ونحوه قوله تعالى وأحل الله البيع وقوله تعالى فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ الجمعة: 10 ]، وقوله تعالى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فذكر الضرب في الأرض للتجارة وطلب المعاش مع الجهاد في سبيل الله فدل ذلك على أنه مندوب إليه والله تعالى أعلم وبالله التوفيق باب خيار المتبايعين اختلف أهل العلم في خيار المتبايعين فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد ومالك بن أنس إذا عقد بيع بكلام فلا خيار لهما وإن لم يتفرقا وروي نحوه عن عمر بن الخطاب وقال الثوري والليث وعبيدالله بن الحسن والشافعي إذا عقدا فهما بالخيار ما لم يتفرقا وقال الأوزاعي هما بالخيار ما لم يتفرقا إلا في بيوع ثلاثة بيع مزايدة الغنائم والشركة في الميراث والشركة في التجارة فإذا صافقه فقد وجب وليسا فيه بالخيار ووقت الفرقة أن يتوارى كل واحد منهما عن صاحبه وقال الليث التفرق أن يقوم أحدهما وكل من أوجب الخيار يقول إذا خيره في المجلس فاختار فقد وجب البيع وروى خيار المجلس عن ابن عمر قال أبو بكر قوله تعالى لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن
[ 221 ]
تراض منكم يقتضي جواز الأكل بوقوع البيع عن تراض قبل الافتراق إذ كانت التجارة إنما هي الإيجاب والقبول في عقد البيع وليس التفرق والاجتماع من التجارة في شئ ولا يسمى ذلك تجارة في شرع ولا لغة فإذا كان الله قد أباح أكل ما اشترى بعد وقوع التجارة عن تراض فمانع بذلك بإيجاب الخيار خارج عن ظاهر الآية مخصص لها بغير دلالة ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود [ المائدة: 1 ] فألزم كل عاقد الوفاء بما عقد على نفسه وذلك عقد قد عقده كل واحد منهما على نفسه فيلزمه الوفاء به وفي إثبات الخيار نفي للزوم الوفاء به وذلك خلاف مقتضى الآية ويدل عليه أيضا قوله تعالى تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه [ البقرة: 282 ] إلى قوله تعالى إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ثم أمر عند عدم الشهود بأخذ الرهن وثيقة بالثمن وذلك مأمور به عند عقده البيع قبل التفرق لأنه قال تعالى إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه فأمر بالكتاب عند عقده المداينة وأمر بالكتابة بالعدل وأمر الذي عليه الدين بالإملاء وفي ذلك دليل على أن عقده المداينة قد أثبت الدين عليه بقوله تعالى الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا [ البقرة: 282 ] لم يكن عقد المداينة موجبا للحق عليه قبل الإفتراق لما قال (وليملل الذي عليه الحق ولما وعظه بالبخس وهو لا شئ عليه لأن ثبوت الخيار له يمنع ثبوت الدين للبائع في ذمته وفي إيجاب الله تعالى الحق عليه بعقد المداينة في قوله تعالى وليملل الذي عليه الحق دليل على نفي الخيار وإيجاب البتات ثم قال تعالى شهيدين من رجالكم [ البقرة: 282 ] تحصينا للمال واحتياطا للبائع من جحود المطلوب أو موته قبل أدائه ثم قال تعالى تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا ولو كان لهما الخيار قبل الفرقة لم يكن في الإشهاد احتياط ولا كان أقوم للشهادة إذ لا يمكن للشاهد إقامة الشهادة بثبوت المال ثم قال إذا تبايعتم وإذا هي للوقت فاقتضى ذلك الأمر بالشهادة عند وقوع التبايع من غير ذكر الفرقة ثم أمر برهن مقبوض في السفر بدلا من الإحتياط بالإشهاد في الحضر وفي إثبات الخيار إبطال الرهن إذ غير جائز إعطاء الرهن بدين لم يجب بعد فدلت الآية بما تضمنته من الأمر بالإشهاد على عقد المداينة وعلى التبايع والاحتياط في تحصين المال تارة بالإشهاد وتارة بالرهن إن العقد قد أوجب ملك المبيع للمشتري وملك الثمن للبائع بغير خيار لهما إذ كان إثبات الخيار نافيا لمعاني الإشهاد والرهن ونافيا لصحة الأقرار بالدين
[ 222 ]
فإن قيل الأمر بالإشهاد والرهن ينصرف إلى أحد المعنيين إما أن يكون الشهود حاضرين العقد ويفترقان بحضرتهم فتصح حينئد شهادتهم على صحة البيع ولزوم الثمن وإما أن يتعاقدا فيما بينهما عقد مداينة ثم يفترقان ويقران عند الشهود بعد ذلك فيشهد الشهود على إقرارهما به أو يرهنه بالدين رهنا فيصح قيل له أول ما في ذلك أن الوجهين جميعا خلاف الآية وفيها إبطال ما تضمنته من الإحتياط بالإشهاد والرهن وذلك لأن الله تعالى قال إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه [ البقرة: 282 ] إلى قوله تعالى واستشهدوا شهيدين بالإشهاد على عقد المداينة عند وقوعه بلا تراخ احتياطا لهما وزعمت أنت أنه يشهد بعد الإفتراق وجائز أن تهلك السلعة قبل الإفتراق فيبطل الدين أو يجحده إلى أن يفترقا ويشهد أو جائز أن يموت فلا يصل البائع إلى تحصين ماله بالإشهاد وقال الله تعالى إذا تبايعتم فندب إلى الإشهاد على التبايع عند وقوعه ولم يقل إذا تبايعتم وتفرقتم وموجب الخيار مثبت في الآية من التفرق ما ليس فيها وغير جائز أن يزاد في حكم الآية ما ليس فيها وإن تركا الإشهاد إلى بعد الافتراق كان في ذلك ترك الاحتياط الذي من أجله ندب إلى الإشهاد وعسى أن يموت المشتري قبل الإشهاد أو يجحده فيصير حينئذ إيجاب الخيار مسقطا لمعنى الاحتياط وتحصين المال بالإشهاد وفي ذلك دليل على وقوع البيع بالإيجاب والقبول بتاتا لا خيار فيه لواحد منهما فإن قيل فلو شرطا في البيع ثبوت الخيار لثلاث كان الإشهاد عليه صحيحا مع شرط الخيار ولم يكن ما تلوت من آية الدين وكتب الكتاب والإشهاد والرهن مانعا وقوعه على شرط الخيار وصحة الإشهاد عليه فكذلك إثبات خيار المجلس لا ينفي صحة الشهادة والرهن قيل له الآية بما فيها من الإشهاد لم تتضمن البيع المشروط فيه الخيار وإنما تضمنت بيعا باتا وإنما أجزنا شرط الخيار بدلالة خصصناه بها من جملة ما تضمنته الآية في المداينات واستعملنا حكمها في البياعات العارية من شرط الخيار فليس فيما اجزنا من البيع المعقود على شرط الخيار ما يمنع استعمال حكم الآية بما انتظمته من الإحتياط بالإشهاد والرهن وصحة إقرار العاقد في البياعات التي لم يشرط فيها خيار والبيع المعقود على شرط الخيار خارج عن حكم الآية غير مراد بها لما وصفنا حتى يسقط الخيار ويتم البيع فحينئذ يكونان مندوبين إلى الإشهاد على الإقرار دون التبايع ولو أثبتنا الخيار في كل بيع وتم البيع على حسب ما يذهب إليه مخالفونا لم يبق للآية موضع يستعمل فيه حكمها على حسب مقتضاها وموجبها وأيضا فإن إثبات الخيار إنما يكون مع عدم الرضى بالبيع ليرتئي بعد في إبرام البيع أو فسخه فإذا تعاقدا عقد البيع من غير شرط
[ 223 ]
الخيار فكل واحد منهما راض بتمليك ما عقد عليه لصاحبه فلا معنى لإثبات الخيار فيه مع وجود الرضى به ووجود الرضى مانع من الخيار ألا ترى أنه لا خلاف بين المثبتين لخيار المجلس أنه إذا قال لصاحبه اختر فاختاره ورضي به أن ذلك مبطل لخيارهما يقول وليس في ذلك أكثر من رضاهما بإمضاء البيع والرضى موجود منهما بنفس المعاقدة فلا يحتاجان إلى رضى ثان لأنه لو جاز أن يشترط بعد رضاهما به بديا بالعقد رضى آخر لجاز أن يشترط رضى ثان وثالث وكان لا يمنع رضاهما به من إثبات خيار ثالث ورابع فلما بطل هذا صح أن رضاهما بالبيع هو إبطال للخيار وإتمام للبيع وإنما صح خيار الشرط في البيع لأنه لم يوجد من المشروط له الخيار رضى بإخراج شيئه من ملكه حين شرط لنفسه الخيار ومن أجل ذلك جاز إثبات الخيار فيه فإن قيل فأنت قد أثبت خيار الرؤية وخيار العيب مع وجود الرضى بالبيع ولم يمنع رضاهما من إثبات الخيار على هذا الوجه فكذلك لا يمنع رضاهما به من إثبات خيار المجلس قيل له ليس خيار العيب من خيار المجلس في شئ وذلك لأن خيار الرؤية لا يمنع وقوع الملك لكل واحد منهما فيما عقد صاحبه من جهته لوجود الرضى من كل واحد منهما به فليس لهذا الخيار تأثير في نفي الملك بل الملك واقع مع وجود الخيار لأجل وجود الرضى من كل واحد منهما به وخيار المجلس على قول القائلين به مانع من وقوع الملك لكل واحد منهما فيما ملكه إياه صاحبه مع وجود الرضى من كل واحد منهما بتمليكه إياه ولا فرق بين الرضى به بديا بإيجابه له العقد وبينه إذا قال قد رضيت فاختر ورضي به صاحبه فلا فرق بين البيع فيما فيه خيار الرؤية وخيار العيب وبين ما ليس فيه واحد من الخيارين في باب وقوع الملك به وإنما يختلفان بعد ذلك في خيار غير ناف للملك وإنما هو لأجل جهالة صفات المبيع عنده أو لفوت جزء منه موجب له بالعقد ويدل على أن الرضى بالعقد هو الموجب للملك اتفاق الجميع على وقوع الملك لكل واحد منهما بعد الإفتراق وبطلان الخيار به وقد علمنا أنه ليس في الفرقة دلالة على الرضى ولا على نفيه لأن حكم الفرقة والبقاء في المجلس سواء في نفي دلالته على الرضى فعلمنا أن الملك إنما وقع بالرضى بديا بالعقد لا بالفرقة وأيضا فإنه ليس في الأصول فرقة يتعلق بها تمليك وتصحيح العقد بل في الأصول أن الفرقة إنما تؤثر في فسخ كثير من العقود من ذلك الفرقة عن عقد الصرف قبل القبض وعن السلم قبل القبض لرأس المال وعن الدين بالدين قبل تعيين أحدهما فلما وجدنا الفرقة في الأصول في كثير من العقود إنما تأثيرها في إبطال العقد دون جوازه ولم تجد في الأصول فرقة
[ 224 ]
مؤثرة في تصحيح العقد وجوازه ثبت أن اعتبار خيار المجلس ووقوع الفرقة في تصحيح العقد خارج عن الأصول مع ما فيه من مخالفة ظاهر الكتاب وأيضا قد ثبت بالسنة واتفاق الأمة من شرط صحة عقد افتراقهما عن مجلس العقد عن قبض صحيح فإن كان خيار المجلس ثابتا في عقد الصرف مع التقابض والعقد لم يتم ما بقي الخيار فإذا افترقا لم يجز أن يصح بالافتراق ما من شأنه أن يبطله الافتراق قبل صحته فإذا كانا قد افترقا عنه ولما يصح بعد لم يجز أن يصح بالافتراق فيكون الموجب لصحته هو الموجب لبطلانه ويدل على نفي خيار المجلس قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه فأحل له المال بطيبة من نفسه وقد وجد ذلك بعقد البيع فوجب بمقتضى الخبر أن يحل له ودلالة الخبر على ذلك كدلالة قوله تعالى إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ويدل عليه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري فأباح بيعه إذا جرى فيه الصاعان ولم يشرط فيه الافتراق فوجب ذلك أن يجوز بيعه إذا اكتاله من بائعه في المجلس الذي تعاقدا فيه وقال النبي صلى الله عليه وسلم من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه فلما أجاز بيعه بعد القبض ولم يشرط فيه الافتراق فوجب بقضية الخبر انه إذا قبضه في المجلس أن يجوز بيعه وذلك ينفي خيار البائع لأن ما للبائع فيه خيار لا يجوز تصرف المشتري فيه ويدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع ومن باع نخلا وله ثمره فثمرته للبائع إلا أن يشترط المبتاع فجعل الثمرة ومال العبد للمشتري بالشرط من غير ذكر التفريق ومحال أن يملكها المشتري قبل مالك الأصل المعقود عليه فدل ذلك على وقوع الملك للمشتري بنفس العقد ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه واتفق الفقهاء على أنه لا يحتاج إلى استئناف عتق بعد الشرى وأنه متى صح له الملك عتق عليه فالنبي صلى الله عليه وسلم أوجب عتقه بالشرى من غير شرط الفرقة ويدل عليه من جهة النظر أن المجلس قد يطول ويقصر فلو عقلنا وقوع الملك على خيار المجلس لأوجب بطلانه لجهالة مدة الخيار الذي علق عليه وقوع الملك ألا ترى أنه لو باعه بيعا باتا وشرطا الخيار لهما بمقدار قعود فلان في مجلسه كان البيع باطلا لجهالة مدة الخيار الذي تعلقت عليه صحة العقد واحتج القائلون بخيار المجلس بما روي عن ابن عمر وأبي برزة وحكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا وروي عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا تبايع المتبايعان بالبيع فكل واحد منهما بالخيار من بائعه ما لم
[ 225 ]
يفترقا أو يكون بيعهما عن خيار فإذا كان عن خيار فقد وجب وكان ابن عمر إذا بايع الرجل ولم يخيره وأراد ألا يقيله قام فمشى هنيهة ثم رجع فاحتج القائلون بهذه المقالة بظاهر قوله المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا وابن عمر هو راوي الحديث وقد عقل من مراد النبي صلى الله عليه وسلم فرقة الأبدان قال أبو بكر فأما ما روي من فعل ابن عمر فلا دلالة فيه على أنه من مذهبه لأنه جائز أن يكون خاف أن يكون بائعه ممن يرى الخيار في المجلس فيحذر منه بذلك حذرا مما لحقه في البراءة من العيوب حتى خوصم إلى عثمان فحمله على خلاف رأيه ولم يجز البراءة إلا أن يبينه لمبتاعه وقد روي عن ابن عمر ما يدل على موافقته وهو ما روى ابن شهاب عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال ما أدركت الصفقة حيا فهو من مال المبتاع وهذا يدل على أنه كان يرى أن المبيع كان يدخل من ملك المشتري بالصفقة ويخرج من ملك البائع وذلك ينفي الخيار مطلب: في قوله عليه السلام " المتبايعان بالخيار " وأما قوله صلى الله عليه وسلم المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا وفي بعض الألفاظ البائعان بالخيار ما لم يفترقا فإن حقيقته تقتضي حال التبايع وهي حال السوم فإذا أبرما البيع وتراضيا فقد وقع البيع فليسا متبايعين في هذه الحال في الحقيقة كما أن المتضاربين والمتقايلين الذي إنما يلحقهما هذا الاسم في حال التضارب والتقايل وبعد انقضاء الفعل لا يسميان به على الإطلاق وإنما يقال كان متقايلين ومتضاربين لأن وإذا كانت حقيقة معنى اللفظ ما وصفنا لم يصح الاستدلال في موضع الخلاف به فإن قيل هذا التأويل يؤدي إلى إسقاط فائدة الخبر لأنه غير مشكل على أحد أن المتساومين قبل وجود التراضي بالعقد على خيارهما في إيقاع العقد أو تركه قيل له بل فيه أعظم الفوائد وهو أنه قد كان جائزا أن يظن ظان أن البائع إذا قال للمشتري قد بعتك أن لا يكون له رجوع فيه قبل قبول المشتري كالعتق على مال والخلع على مال أنه ليس للمولى ولا للزوج الرجوع فيه قبل قبول العبد والمرأة فأبان النبي صلى الله عليه وسلم حكم البيع في إثبات الخيار لكل واحد منهما في الرجوع قبل قبول الآخر وأنه مفارق للعتق والخلع فإن قيل كيف يجوز أن يسمى المتساومان متبايعين قبل وقوع العقد بينهما قيل له ذلك جائز إذا قصدا إلى البيع بإظهار السوم فيه كما نسمي القاصدين إلى القتل متقاتلين وإن لم يقع منهما قتل بعد وكما قيل لولد إبراهيم عليه السلام المأمور بذبحه الذبيح
[ 226 ]
لقربه من الذبح وإن لم يذبح قال تعالى فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف فيه مقاربة البلوغ ألا ترى أنه قال في آية أخرى طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن وأراد به حقيقة البلوغ فجائز على هذا أن يسمى المتساومان متبايعين إذا قصدا إيقاع العقد على النحو الذي بينا والذي لا يختل على أحد أنهما بعد وقوع البيع منهما لا يسميان متبايعين على الحقيقة كسائر الأفعال إذا انقضت زال عن فاعليها الأسماء المشتقة لها من أفعالهم إلا في أسماء المدح والذم على ما بينا في صدر هذا الكتاب وإنما يقال كانا متبايعين وكانا متقايلين وكانا متضاربين ويدل على أن هذا الاسم ليس بحقيقة لهما بعد إيقاع لعقد أنه قد يصح منهما الإقالة والفسخ بعد العقد وهما في الحقيقة متقايلان علي في حال فعل الإقالة وغير جائز أن يكونا متقابلين متفاسخين ومتبايعين حتى في حال واحدة فدل ذلك على أن إطلاق اسم المتبايعين عليهما إنما يتناول حال السوم وإيقاع العقد حقيقة وأن هذا الاسم إنما يلحقهما بعد انقضاء العقد على معنى أنهما كانا متبايعين وذلك مجاز وإذا كان كذلك وجب حمل اللفظ على الحقيقة وهي حال التبايع وهو أن يقول قد بعتك فأطلق اسم البيع من قبل نفسه قبل قبول الآخر فهذه هي الحال التي هما متبايعان فيها وهي حال ثبوت الخيار لكل واحد منهما فللبائع الخيار في الفسخ قبل قبول الآخر وللمشتري الخيار في تعالى القبول قبل الإفتراق ويدلك على أن المراد هذه الحال قوله المتبايعان وإنما البائع أحدهما وهو صاحب السلعة فكأنه قال إذا قال البائع قد بعت فهما بالخيار قبل الافتراق لأنه معلوم أن المشتري ليس ببائع فثبت أن المراد إذا باع البائع قبل قبول المشتري وقد اختلف الفقهاء في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا فروي عن محمد بن الحسن أن معناه إذا قال البائع قد بعتك فله أن يرجع ما لم يقل المشتري قبلت قال وهو قول أبي حنيفة وعن أبي يوسف هما المتساومان فإذا قال بعتك بعشرة فللمشتري خيار القبول في المجلس وللبائع خيار الرجوع فيه قبل قبول المشتري ومتى قام أحدهما قبل قبول البيع بطل الخيار الذي كان لهما ولم تكن لواحد منهما إجازته فحمله محمد على الافتراق بالقول وذلك سائغ قال الله تعالى تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ويقال تشاور القوم في كذا فافترقوا عن كذا يراد به الاجتماع على قول والرضى به وإن كانوا مجتمعين في المجلس ويدل على أن المراد الافتراق بالقول ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال
[ 227 ]
حدثنا أبو داود قال حدثنا قتيبة قال حدثنا الليث عن محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المتبايعيان فإن بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقبله وقوله المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا هو على الافتراق بالقول ألا ترى أنه قال ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله وهذا هو افتراق الأبدان بعد الافتراق بالقول وصحة وقوع العقد به والاستقالة عمر هو مسألته الإقالة وهذا يدل من وجهين على نفي الخيار بعد وقوع العقد أحدهما أنه لو كان له خيار المجلس لما احتاج إلى أن يسأله الإقالة بل كان هو يفسخه بحق الخيار الذي له فيه والثاني أن الإقالة لا تكون إلا بعد صحة العقد وحصول ملك كل واحد منهما فيما عقد عليه من قبل صاحبه فهذا أيضا يدل على نفي الخيار وصحة البيع وقوله ولا يحل له أن يفارقه يدل على أنه مندوب إلى إقالته إذا سأله إياها ما داما في المجلس مكروه له أن لا يجيبه إليها وأن حكمه في ذلك بعد الافتراق مخالف له إذا لم يفارقه في أنه لا يكره له ترك إجابته إلى الإقالة بعد الفرقة ويكره له قبلها ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا علي بن أحمد الأزدي قال حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن زرارة قال حدثنا هشيم عن يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم البيعان لا بيع بينهما إلا أن يفترقا إلا بيع الخيار وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا القعنبي قال حدثنا عبد العزيز بن مسلم القسلمي عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل بيعين لا بيع بينهما حتى يفترقا فأخبر صلى الله عليه وسلم كل بيعين لا بيع بينهما إلا بعد الافتراق وهذا يدل على أنه أراد بنفيه البيع بينهما في حال السوم وذلك لأنهما لو كانا قد تبايعا لم ينف النبي صلى الله عليه وسلم تبايعهما مع صحة العقد وقوعه فيما بينهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينفي ما قد أثبت فعلمنا أن المراد المتساومان اللذان قد قصدا إلى التبايع وأوجب البائع البيع للمشتري إلى شرائه منه بأن قال له بعني فنفى أن يكون بينهما بيع حتى يفترقا بالقول والقبول إذا لم يكن قوله بعني قبولا للعقد ولا من ألفاظ البيع وإنما هو أمر به فإذا قال قد قبلت وقع البيع فهذا هو الافتراق الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم على القول الذي قدمنا ذكر نظائره في إطلاق ذلك في اللسان فإن قيل ما أنكرت أن يكون مراد النبي صلى الله عليه وسلم عن نفيه البيع حال إيقاع البيع بالإيجاب والقبول وإنما نفى أن يكون بينهما بيع لما لهما فيه من خيار المجلس قيل له هذا غلط من قبل أن ثبوت الخيار لا يوجب نفي اسم البيع عنه ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت بينهما البيع إذا شرطا فيه الخيار بعد الافتراق ولم يكن ثبوت الخيار فيه
[ 228 ]
موجبا لنفي اسم البيع عنه لأنه قال كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا إلا بيع الخيار فجعل بيع الخيار بيعا فلو أراد بقوله كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا حال وقوع الإيجاب والقبول لما نفى البيع بينهما لأجل خيار المجلس كما لم ينفه إذا كان فيه خيار مشروط بل أثبته وجعله بيعا فدل ذلك على أن قوله كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا إنما أراد به المتساومين في البيع وأفاد ذلك أن قوله إشتر مني أو قول المشتري بعني ليس ببيع حتى يفترقا بأن يقول البائع قد بعت ويقول المشتري قد اشتريت فيكون قد افترقا وتم البيع ووجب أن لا يكون فيه خيار مشروط فيكون ذلك بيعا وإن لم يفترقا بأبدانهما بعد حصول الافتراق فيهما بالإيجاب والقبول وأكثر أحوال ما روي من قوله المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا احتماله لما وصفنا ولما قال مخالفنا وغير جائز الاعتراض على ظاهر القرآن بالاحتمال بل الواجب حمل الحديث على موافقة القرآن ولا يحمل على ما يخالفه ويدل من جهة النظر على ما وصفنا اتفاق الجميع على أن النكاح والخلع والعتق على مال والصلح من دم العمد إذا تعاقداه بينهما صح بالإيجاب والقبول من غير خيار يثبت لواحد منهما والمعنى فيه الإيجاب والقبول فيما يصح العقد عليه من غير خيار مشروط وقوله عز وجل ولا تقتلوا أنفسكم قال عطاء والسدي لا يقتل بعضكم بعضا قال أبو بكر هو نظير قوله تعالى ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه ومعناه يقتلوا بعضكم وتقول العرب قتلنا ورب الكعبة إذا قتل بعضهم وقيل إنما حسن ذلك لأنهم أهل دين واحد فهم كالنفس الواحدة فلذلك قال ولا تقتلوا أنفسكم وأراد قتل بعضكم بعضا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين كالنفس الواحدة إذا ألم بعضه تداعى سائره بالحمى والسهر وقال المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا فكان تقديره ولا يقتل بعضكم بعضا في أكل أموالكم بالباطل ولا غيره مما هو محرم عليكم وهو كقوله تعالى دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم ولا تقتلوا أنفسكم في طلب المال وذلك بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف ويحتمل ولا تقتلوا أنفسكم في حال غضب أو ضجر وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة لاحتمال اللفظ لها
[ 229 ]
وقوله تعالى ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا فإنه قيل فيما عاد إليه هذا الوعيد وجوه أحدها أنه عائد على أكل المال بالباطل وقتل النفس بغير حق فيستحق الوعيد بكل واحدة من الخصلتين وقال عطاء في قتل النفس المحرمة خاصة وقيل إنه عائد على فعل كل ما نهي عنه من أول السورة وقيل من عند قوله يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها لأن ما قبله مقرون بالوعيد والأظهر عوده إلى ما يليه من أكل المال بالباطل وقتل النفس المحرمة وقيد الوعيد بقوله النبي وظلما ليخرج منه فعل السهو والغلط وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام إلى حد التعمد والعصيان وذكر الظلم والعدوان مع تقارب معانيهما لأنه يحسن مع اختلاف اللفظ كقول عدي بن زيد وقددت وإن الأديم لراهشيه * كما وألقى قولها كذبا ومينا والكذب هو المين وحسن العطف لاختلاف اللفظين وكقول بشر بن حازم فما وطئ الحصى مثل ابن سعدي * هو ولا لبس النعال ولا احتذاها والاحتذاء هو لبس النعل وكما تقول بعدا وسحقا ومعناهما واحد وحسن لاختلاف اللفظ والله أعلم باب النهي عن التمني قال الله تعالى ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض روى سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم سلمة قالت قلت يا رسول الله يغزو الرجال ولا تغزو النساء ويذكر الرجال ولا تذكر النساء فأنزل الله تعالى ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض ونزلت إن المسلمين والمسلمات [ الاحزاب: 35 ] وروى قتادة عن الحسن قال لا يتمن أحد المال وما يدريه لعل هلاكه في ذلك المال وقال سعيد عن قتادة في قوله ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض كان أهل الجاهلية لا يورثون المرأة شيئا ولا الصبي ويجعلون الميراث لمن يحبون فلما ألحق للمرأة نصيبها وللصبي نصيبه وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين قال النساء لو كان أنصباؤنا في الميراث كأنصباء الرجال وقال الرجال إنا لنرجو أن نفضل على النساء في الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث فأنزل الله تعالى للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن يقول المرأة تجزى بحسناتها إن عشر أمثالها كما يجزى الرجل قال واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شئ عليما ونهى الله عن تمني ما فضل الله به بعضنا على بعض لأن الله تعالى لو علم أن المصلحة له في إعطائه ما أعطى
[ 230 ]
الآخر لفعل ولأنه لا يمنع من بخل ولا عدم وإنما يمنع ليعطي ما هو أكثر منه وقد تضمن ذلك النهي عن الحسد وهو تمني زوال النعمة عن غيره إليه وهو مثل ما روى أبو هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخطب الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سوم أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها فإن الله هو رازقها فنهى صلى الله عليه وسلم أن يخطب على خطبة أخيه إذا كانت قد ركنت إليه ورضيت به وأن يسوم على سومه كذلك فما ظنك بمن يتمنى أن يجعل له ما قد صار لغيره وملكه وقال لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها يعني أن تسعى في إسقاط حقها وتحصيله لنفسها وروى سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالا فهو ينفق منه آناء الليل والنهار ورجلا آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار مطلب: التمني على وجهين محظور وغير محظور قال أبو بكر والتمني على وجهين أحدهما أن يتمنى الرجل أن تزول نعمة غيره عنه فهذا الحسد وهو التمني المنهي عنه والآخر أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يريد زوال النعمة عن غيره فهذا غير محظور إذا قصد به وجه المصلحة وما يجوز في الحكمة ومن التمني المنهي عنه أن يتمنى ما يستحيل وقوعه مثل أن تتمنى المرأة أن تكون رجلا أو تتمنى حال الخلافة والإمامة ونحوها من الأمور التي قد علم أنها لا تكون ولا تقع وقوله تعالى للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن قيل فيه وجوه أحدها أن لكل واحد حظا من الثواب قد عرض له بحسن التدبير في أمره ولطف له فيه حتى استحقه وبلغ علو المنزلة به فلا تتمنوا خلاف هذا التدبير فإن لكل منهم حظه ونصيبه غير مبخوس ولا منقوص والآخر إن لكل أحد جزاء ما اكتسب فلا يضيعه بتمني ما لغيره محبطا لعمله وقيل فيه إن لكل فريق من الرجال والنساء نصيبا مما اكتسب من نعم الدنيا فعليه أن يرضى بما قسم الله له وقوله تعالى واسألوا الله من فضله قيل فيه إن معناه إن احتجتم إلى ما لغيركم فسلوا الله أن يعطيكم مثل ذلك من فضله لا بأن تتمنوا ما لغيركم إلا أن هذه المسألة تعني أن تكون معقودة بشريطة المصلحة والله تعالى أعلم بالصواب باب العصبة الله تعالى جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون قال ابن عباس
[ 231 ]
ومجاهد وقتادة الموالي ههنا العصبة وقال السدي الموالي الورثة وقيل إن أصل المولى من ولي الشئ يليه وهو اتصال الولاية في التصرف قال أبو بكر المولى لفظ مشترك ينصرف على وجوه فالمولى المعتق لأنه ولي نعمه في عتقه ولذلك سمي مولى النعمة والمولى العبد المعتق لاتصال ولاية مولاه به في إنعامه عليه وهذا كما يسمى الطالب غريما لأن له اللزوم والمطالبة بحقه ويسمى المطلوب غريما لتوجه المطالبة عليه وللزوم الدين إياه والمولى العصبة والمولى الحليف لأن المحالف يلي أمره بعقد اليمين والمولى ابن العم لأنه يليه بالنصرة للقرابة التي بينهما والمولى الولي لأنه يلي بالنصرة وقال تعالى ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم أي يلم بالنصرة للكافرين يعتد بنصرته ويروى للفضل بن العباس مهلا إلا بني عمنا مهلا موالينا * فيه لا تظهرن لنا ما كان مدفونا فسمى بني العم موالي والمولى مالك العبد لأنه يليه بالملك والتصرف والولاية والنصر والحماية فاسم المولى ينصرف على هذه الوجوه وهو اسم مشترك لا يصح اعتبار عمومه ولذلك قال أصحابنا فيمن أوصى لمواليه وله موال أعلى وموال أسفل إن الوصية باطلة لامتناع دخولهما تحت اللفظ في حال واحدة وليس أحدهما بأولى من الآخر فبطلت الوصية وأولى الأشياء بمعنى المولي ههنا العصبة لما روى إسرائيل عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أولى بالمؤمنين من مات وترك مالا فماله للموالي العصبة ومن ترك كلا أو ضياعا فأنا وليه وروى معمر عن ابن طاوس عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقسموا المال بين أهل الفرائض فما أبقت السهام فلا ولي رجل ذكر وروى فلا ولي عصبة ذكر وفيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تسمية الموالي عصبة وقوله فلا ولي عصبة ذكر ما يدل على أن المراد بقوله ولكل جعلنا مولى مما ترك الوالدان والأقربون العصبات ولا خلاف بين الفقهاء أن ما فضل عن سهام ذوي السهام فهو لأقرب العصبات إلى الميت والعصبات هم الرجال الذي تتصل قرابتهم إلى الميت بالبنين والآباء مثل الجد والأخوة من الأب والأعمام وأبنائهم وكذلك من بعد منهم بعد أن يكون الذي يصل بينهم البنون والآباء إلا الأخوات فإنهن عصبة مع البنات خاصة وإنما يرث من العصبات الأقرب فالأقرب ولا ميراث للأبعد مع الأقرب ولا خلاف أن من لا يتصل نسبه بالميت إلا من
[ 232 ]
قبل النساء أنه ليس بعصبة ومولى العتاقة عصبة للعبد المعتق ولا ولادة وكذلك أولاد المعتق الذكور منهم يكونون عصبة للعبد المعتق إذا مات أبوهم ويصير ولاؤه لهم دون الإناث من ولده ولا يكون أحد من النساء عصبة بالولاء إلا ما أعتقت أو أعتق من أعتقت وإنما صار مولى العتاقة عصبة بالسنة ويجوز أن يكون مرادا بقوله تعالى (ولكل جعلنا مولى مما ترك الوالدان والأقربون إذ كان عصبة ويعقل عنه كما يعقل عنه بنو أعمامه فإن قيل الميت ليس هو من أقرباء مولى العتاقة ولا من والديه قيل له إذا كان معه وارث من ذوي نسبة من الميت نحو البنت والأخت جاز دخوله معهم في هذه الفريضة فيستحق بأصل السهام وإن لم يكن هو من أقرباء الميت إذ كان في الورثة ممن يجوز أن يقال فيه أنه مما ترك الوالدان والأقربون فيكون بعض الورثة قد ورث الوالدين والأقربين واختلف أهل العلم في ميراث الولي الأسفل من الأعلى فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والشافعي وسائر أهل العلم لا يرث المولى الأسفل من المولى الأعلى وحكى أبو جعفر الطحاوي عن الحسن بن زياد قال يرث المولى الأسفل من الأعلى وذهب فيه إلى حديث رواه حماد بن سلمة وحماد بن زيد ووهب بن خالد ومحمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن عوسجة مولى ابن عباس عن ابن عباس أن رجلا أعتق عبدا له فمات المعتق ولم يترك إلا المعتق فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام المعتق قال أبو جعفر وليس لهذا الحديث معارض فوجب إثبات حكمه قال أبو بكر يجوز أن يكون دفعه إليه لا على وجه الميراث لكنه لحاجته وفقره لأنه كان مالا لا وارث له فسبيله أن يصرف إلى ذوي الحاجة والفقراء فإن قيل لما كانت الأسباب التي يجب بها الميراث هي الولاء والنسب والنكاح وكان ذوو الأنساب يتوارثون وكذلك الزوجان وجب أن يكون الولاء من حيث أوجب الميراث للأعلى من الأسفل أن يوجبه للأسفل من الأعلى قال أبو بكر هذا غير واجب لأنا قد وجدنا في ذوي الأنساب من يرث غيره ولا يرثه هو إذا مات لأن امرأة لو تركت أختا أو إبنة وابن أخيها كان للبنت النصف والباقي لابن الأخ ولو كان مكانها مات ابن الأخ وخلف بنتا أو أختا وعمته لم ترث العمة شيئا فقد ورثها ابن الأخ في الحال التي لا ترثه هي والله تعالى أعلم بالصواب باب ولاء الموالاة قال الله تعالى عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم روى طلحة بن
[ 233 ]
مصرف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال كان المهاجر يرث الأنصاري دون ذوي رحمه بالأخوة التي آخى الله بينهم فلما نزلت ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون نسخت ثم قرأ (والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال من النصر والرفادة ويوصي له وقد ذهب الميراث وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم قال كان الرجل يعاقد الرجل أيهما مات ورثه الآخر فأنزل الله تعالى (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا أخبرنا إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا لهم وصية فهو لهم جائز من ثلث مال الميت فذلك المعروف وروى أبو بشر عن سعيد بن جبير في قوله تعالى عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيموت فيرثه فعاقد أبو بكر رجلا فمات فورثه وقال سعيد بن المسيب هذا في الذين كانوا يتبنون رجالا ويورثونهم فأنزل الله فيهم أن يجعل لهم من الوصية ورد الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعصبة قال أبو بكر قد ثبت بما قدمنا من قول السلف أن ذلك كان حكما ثابتا في الإسلام وهو الميراث بالمعاقدة والموالاة ثم قال قائلون إنه منسوخ بقوله (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله وقال آخرون ليس بمنسوخ من الأصل ولكنه جعل ذوي الأرحام أولى من موالي المعاقدة فنسخ ميراثهم في حال وجود القرابات وهو باق لهم إذا فقد الأقرباء على الأصل الذي كان عليه واختلف الفقهاء في ميراث موالي الموالاة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر من أسلم على يدي رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وارث له غيره فميراثه له وقال مالك وابن شبرمة والثوري والأوزاعي والشافعي ميراثه للمسلمين وقال يحيى بن سعيد إذا جاء من أرض العدو فأسلم على يده فإن ولاءه لمن والاه ومن أسلم من أهل الذمة على يدي رجل من المسلمين فولاؤه للمسلمين عامة وقال الليث بن سعد من أسلم على يدي رجل فقد والاه وميراثه للذي أسلم على يده إذا لم يدع وارثا غيره قال أبو بكر الآية توجب الميراث للذي والاه وعاقده على الوجه الذي ذهب إليه اصحابنا لأنه كان حكما ثابتا في أول الإسلام وحكم الله به في نص التنزيل ثم قال الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا ذوي الأرحام أولى بالمعاقدين وقال الموالي فمتى فقد ذوو الأرحام
[ 234 ]
وجب ميراثهم بقضية الآية إذ كانت إنما نقلت ما كان لهم إلى ذوي الأرحام إذا وجدوا فليس في القرآن ولا في السنة ما يوجب نسخها فهي ثابتة الحكم مستعملة على ما تقتضيه من إثبات الميراث عند فقد ذوي الأرحام وقد ورد الأشر عن النبي صلى الله عليه وسلم بثبوت هذا الحكم وبقائه عند عدم ذوي الأرحام وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا يزيد بن خالد الرملي وهشام بن عمار الدمشقي قال حدثنا يحيى بن حمزة عن عبد العزيز بن عمر قال سمعت عبد الله بن موهب يحدث عمر بن عبد العزيز عن قبيصة بن ذؤيب عن تميم الداري أنه قال يا رسول الله ما السنة في الرجل يسلم على يد الرجل من المسلمين قال هو أولى الناس بمحياه ومماته فقوله هو أولى الناس بمماته يقتضي أن يكون أولاهم بميراثه إذ ليس بعد الموت بينهما ولاية إلا في الميراث وهو في معنى قوله تعالى (ولكل جعلنا موالي يعني ورثة وقد روي نحو قول أصحابنا في عن عمر وابن مسعود والحسن وإبراهيم وروى معمر عن الزهري أنه سئل عن رجل أسلم فوالى رجلا هل بذلك بأس قال لا بأس به قد أجاز ذلك عمر بن الخطاب وروى قتادة عن سعيد بن المسيب قال من أسلم على يدي قوم ضمنوا جرائره وحل لهم ميراثه وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن إذا أسلم الكافر على يدي رجل مسلم بأرض العدو أو بأرض المسلمين فميراثه للذي أسلم على يديه وقد روى أبو عاصم النبيل عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال كتب النبي صلى الله عليه وسلم على كل بطن عقوله وقال لا يتولى مولى قوم إلا بإذنهم وقد حوى هذا الخبر معنيين أحدهما جواز الموالاة لأنه قال إلا بإذنهم فأجاز الموالاة بإذنهم والثاني أن له أن يتحول بولاية إلى غيره إلا أنه كرهه إلا بإذن الأولين ولا يجوز أن يكون مراده عليه السلام في ذلك إلا في ولاء الموالاة لأنه لا خلاف أن ولاء العتاقة لا يصح النقل عنه وقال صلى الله عليه وسلم الولاء لحمة كلحمة النسب فإن احتج محتج بما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن بشر وابن نمير وأبو أسامة عن زكريا عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حلف في الإسلام وإنما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة قال فهذا يوجب بطلان حلف الإسلام ومنع التوارث به قيل له يحتمل أن يريد به نفي الحلف في الإسلام على الوجه الذي كانوا يتحالفون عليه في الجاهلية وذلك لأن حلف الجاهلية كان على أن يعاقده فيقول هدمي هدمك ودمي دمك وترثني وأرثك وكان في هذا
[ 235 ]
الحلف أشياء قد حظرها الإسلام وهو أنه كان يشرط أن يحامي عليه ويبذل دمه دونه ويهدم ما يهدمه فينصره على الحق والباطل وقد أبطلت الشريعة هذا الحلف وأوجبت معونة المظلوم على الظالم حتى يتنصف منه وأن لا يلتفت إلى قرابة ولا غيرها قال الله تعالى أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا [ النساء: 135 ] فأمر الله تعالى بالعدل والقسط في الأجانب والأقارب وأمر بالتسوية بين الجميع في حكم الله تعالى فأبطل ما كان عليه أمر الجاهلية من معونة القريب والحليف على غيره ظالما كان أو مظلوما مطلب: في معنى قوله عليه السلام: " انصر أخاك ظالما أو مظلوما " وكذلك قال صلى الله عليه وسلم أنصر أخاك ظالما أو مظلوما قالوا يا رسول الله هذا يعينه مظلوما فكيف يعينه ظالما قال أن ترده عن الظلم فذلك معونة منك له وكان في حلف الجاهلية أن يرثه الحليف دون أقربائه فنفى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لا حلف في الإسلام التحالف على النصرة والمحاماة من غير نظر في دين أو حكم وأمر باتباع أحكام الشريعة دون ما يعقده الحليف على نفسه ونفى أيضا أن يكون الحليف أولى بالميراث من الأقارب فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم لا حلف في الإسلام وأما قوله وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة فإنه يحتمل أن الإسلام من زاد شدة وتغليظا في المنع منه وإبطاله فكأنه قال إذا لميجز الحلف في الإسلام مع ما فيه من تناصر المسلمين وتعاونهم فحلف الجاهلية أبعد من ذلك قال أبو بكر وعلي نحو ما ذكرنا من التوارث بالموالاة قال أصحابنا فيمن أوصى بجميع ماله ولا وارث له أنه جائز وقد بينا ذلك فيما سلف وذلك لأنه لما جاز له أن يجعل ميراثه لغيره بعقد الموالاة ويزويه أنه عن بيت المال جاز له أن يجعله لمن شاء بعد موته بالوصية إذ كانت الموالاة إنما تثبت بينهما بعقده وإيجابه وله أن ينتقل بولائه ما لم يعقل عنه فأشبهت الوصية التي تثبت بقوله وإيجابه ومتى شاء رجع فيها إلا أنها تخالف الوصية من وجه وهو أنه وإن كان يأخذه بقوله فإنه يأخذه على وجه الميراث ألا ترى أنه لو ترك الميت ذا رحم كان أولى بالميراث من ولي الموالاة ولم يكن في الثلث بمنزلة من أوصى لرجل بماله فيجوز له منه الثلث بل لا يعطى شيئا إذا كان له وارث من قرابة أو ولاء عتاقة فولاء الموالاءة يشبه الوصية بالمال من وجه إذا لم يكن له وارث ويفارقها من وجه على نحو ما بينا والله أعلم
[ 236 ]
باب ما يجب على المرأة من طاعة زوجها قال الله تعالى قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم روى يونس عن الحسن أن رجلا جرح امرأته فأتى أخوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم القصاص فأنزل الله تعالى قوامون على النساء الآية فقال صلى الله عليه وسلم أردنا أمرا وأراد الله غيره وروى جرير بن حازم عن الحسن قال لطم رجل امرأته فاستعدت عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم عليكم القصاص فأنزل الله ولا تعجل بالقرآن من قبل ان يقضى إليك وحيه ثم أنزل الله تعالى قوامون على النساء) قال أبو بكر الحديث الأول يدل على أن لا قصاص بين الرجال والنساء فيما دون النفس وكذلك روي عن الزهري والحديث الثاني جائز أن يكون لطمها لأنها نشزت عليه وقد أباح الله تعالى ضربها عند النشوز بقوله واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن وهو فإن قيل لو كان ضربه إياها لأجل النشوز لما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم القصاص قيل له إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك قبل نزول هذه الآية التي فيها إباحة الضرب عند النشوز لأن قوله تعالى قوامون على النساء إلى قوله فاضربوهن بعد فلم يوجب عليهم بعد نزول الآية شيئا فتضمن قوله (الرجال قوامون على النساء قيامهم عليهن بالتأديب والتدبير والحفظ والصيانة لما فضل الله به الرجل على المرأة في العقل والرأي وبما ألزمه الله تعالى من الإنفاق عليها فدلت الآية على معان أحدها تفضيل الرجل على المرأة في المنزلة وأنه هو الذي يقوم بتدبيرها وتأديبها وهذا يدل على أن له إمساكها في بيته ومنعها من الخروج وأن عليها طاعته وقبول أمره ما لم تكن معصية ودلت على وجوب نفقتها عليه بقوله (وبما أنفقوا من أموالهم وهو نظير قوله وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) [ البقرة: 233 ] وقوله تعالى لينفق ذو سعة من سعته وقول النبي صلى الله عليه وسلم ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف) [ البقرة: 233 ] وقوله تعالى (لينفق ذو سعة من سعته) [ الطلاتق: 7 ]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ولهن وكسوتهن بالمعروف ". وقوله تعالى: (وبما أنفقوا من أموالهم منتظم للمهر والنفقة لأنهما جميعا مما يلزم الزوج لها قوله تعالى فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله يدل على أن في النساء الصالحات وقوله روي عن قتادة مطيعات لله تعالى ولأزواجهن وأصل القنوت مداومة الطاعة ومنه القنوت في الوتر لطول القيام وقوله حافظات للغيب بما حفظ الله قال عطاء وقتادة حافظات لما غاب عنه أزواجهن من ماله وما
[ 237 ]
يجب من رعاية حاله وما يلزم من صيانة نفسها له قال عطاء في قوله بما حفظ الله أي بما حفظ الله في مهورهن وإلزام الزوج من النفقة عليهن وقال آخرون (بما حفظ الله أنهن إنما صرن صالحات قانتات حافظات بحفظ الله إياهن من معاصيه وتوفيقه وما أمدهن صلى الله عليه وسلم به من ألطافه ومعونته وروى أبو معشر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها خلفتك في مالك ونفسها ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض والله الموفق باب النهي عن النشوز قال الله تعالى تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في معنى تخافون معنيان أحدهما يعلمون لأن خوف الشئ إنما يكون للعلم بموقعه فجاز أن يوضع مكان يعلم يخاف كما قال أبو محجن الثقفي ولا تدفنني بالفلاة فإنني * أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها ويكون خفت بمعنى ظننت وقد ذكره الفراء وقال محمد بن كعب هو الخوف الذي هو خلاف الأمن كأنه قيل تخافون نشوزهن بعلمكم بالحال المؤذنة به وأما النشوز فإن ابن عباس وعطاء والسدي قالوا أراد به معصية الزوج فيما يلزمه من طاعته وأصل النشوز الترفع على الزوج بمخالفته مأخوذ من نشز الأرض وهو الموضع المرتفع منها وقوله تعالى يعني خوفوهن بالله وبعقابه وقوله تعالى في المضاجع ابن عباس وعكرمة والضحاك والسدي هجر الكلام وقال سعيد بن جبير هجر الجماع وقال مجاهد والشعبي وإبراهيم هجر المضاجعة وقوله قال ابن عباس إذا أطاعته في المضجع فليس له أن يضربها وقال مجاهد إذا نشزت عن فراشه يقول لها اتقي الله وارجعي وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي وعثمان بن أبي شيبة وغيرهما قالوا حدثنا حاتم بن إسماعيل قال حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خطب بعرفات في بطن الوادي فقال اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف وروى ابن جريج عن عطاء قال الضرب غير المبرح بالسواك
[ 238 ]
ونحوه وقال سعيد عن قتادة ضربا غير شائن ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال مثل المرأة مثل الضلع متى ترد إقامتها تكسرها ولكن دعها تستمتع بها وقال الحسن فقال قال ضربا غير مبرح وغير مؤثر وحدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال حدثنا عبد الرازق قال أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله فعظوهن واهجروهن في المضاجع إذا خاف نشوزها وعظها فإن قبلت وإلا هجرها في المضجع فإن قبلت وإلا ضربها ضربا غير مبرح ثم قال (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا قال لا تعللوا عليهن بالذنوب باب الحكمين كيف يعملان قال الله تعالى وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها وقد اختلف في المخاطبين بهذه الآية من هم فروي عن سعيد بن جبير والضحاك أنه السلطان الذي يترافعان إليه وقال السدي الرجل والمرأة قال أبو بكر قوله واللاتي تخافون نشوزهن خطاب للأزواج لما في نسق الآية من الدلالة عليه وهو قوله واهجروهن في المضاجع وقوله وإن خفتم شقاق بينهما أن يكون خطابا للحاكم الناظر بين الخصمين والمانع من التعدي والظلم وذلك لأنه قد بين أمر الزوج وأمره بوعظها وتخويفها بالله ثم بهجرانها في المضجع إن لم تنزجر ثم بضربها إن أقامت على نشوزها ثم لم يجعل بعد الضرب للزوج إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم منهما من الظالم ويتوجه حكمه عليهما وروى شعبة عن عمرو بن مرة قال سألت سعيد بن جبير عن الحكمين فغضب وقال ما ولدت إذ ذاك فقلت إنما أعني حكمي شقاق قال إذا كان بين الرجل وامرأته درء وتدارؤ بعثوا حكمين فأقبلا على الذي جاء التدارؤ من قبله فوعظاه فإن أطاعهما وإلا أقبلا على الآخر فإن سمع منهما وأقبل إلى الذي يريدان وإلا حكما بينهما فما حكما من شئ فهو جائز وروى عبد الوهاب قال حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير في المختلعة يعظها فإن انتهت وإلا هجرها وإلا ضربها فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان فيبعث حكما من أهلها وحكما من أهله فيقول الحكم الذي من أهلها يفعل كذا ويفعل كذا ويقول الحكم الذي من أهله تفعل به كذا وتفعل به كذا فأيهما كان أظلم رده إلى السلطان وأخذ فوق يده وإن كانت ناشزا أمروه أن يخلع قال أبو بكر وهذا ظير العنين والمجبوب والإيلاء في باب أن الحاكم هو الذي
[ 239 ]
يتولى النظر في ذلك والفصل بينهما بما يوجبه حكم الله فإذا اختلفا وادعى النشوز وادعت هي عليه ظلمه وتقصيره في حقوقها حينئذ بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها ليتوليا به النظر فيما بينهما ويردا إلى الحاكم ما يقفان عليه من أمرهما وإنما أمر الله تعالى بأن يكون أحد الحكمين من أهلها والآخر من أهله لئلا تسبق الظنة إذا كانا أجنبيين بالميل إلى أحدهما فإن كان أحدهما من قبله والآخر من قبلها زالت الظنة وتكلم كل واحد منهما عمن هو من قبله ويدل أيضا قوله حكما من أهله وحكما من أهلها أن الذي من أهله وكيل له والذي من أهلها وكيل لها كأنه قال فابعثوا رجلا من قبله ورجلا من قبلها فهذا يدل على بطلان قول من يقول إن للحكمين أن يجمعا إن شاآ وإن شاآ فرقا بغير أمرهما وزعم إسماعيل بن إسحاق أنه حكى عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم لم يعرفوا أمر الحكمين قال أبو بكر هذا تكذب عليهم وما أولى بالإنسان حفظ لسانه لا سيما فيما يحكيه عن العلماء قال الله تعالى يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد [ ق: 18 ]، ومن علم أنه مؤاخذ بكلامه قل كلامه فيما لا يعنيه وأمر الحكمين في الشقاق بين الزوجين منصوص عليه في الكتاب فكيف يجوز أن يخفى عليهم مع محلهم من العلم والدين والشريعة ولكن عندهم أن الحكمين ينبغي أن يكونا وكيلين لهما أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل الزوج وكذا روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وروى ابن عيينة عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال أتى عليا رجل وامرأته مع كل واحد منهما فئام من الناس فقال علي ما شأن هذين قالوا بينهما شقاق قال حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما علي هل تدريان ما عليكما عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا فقالت المرأة رضيت بكتاب الله فقال الرجل أما الفرقة فلا فقال علي كذبت والله لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت فأخبر علي أن قول الحكمين إنما يكون برضا الزوجين فقال أصحابنا ليس للحكمين أن يفرقا إلا أن يرضى الزوج وذلك لأنه لا خلاف أن الزوج لو أقر بالإساءة إليها لم يفرق بينهما ولم يجبره الحاكم على طلاقها قبل تحكيم الحكمين وكذلك لو أقرت المرأة بالنشوز لم يجبرها الحاكم على خلع ولا على رد مهرها فإذا كان كذلك حكمها قبل بعث الحكمين فكذلك بعد بعثهما لا يجوز إيقاع الطلاق من جهتهما من غير رضى الزوج وتوكيله ولا إخراج المهر عن ملكها من غير رضاها فلذلك قال أصحابنا إنهما لا يجوز خلعهما إلا برضى الزوجين فقال أصحابنا ليس للحكمين أن يفرقا إلا برضى الزوجين لأن الحاكم لا يملك ذلك فكيف
[ 240 ]
يملكه الحكمان وإنما الحكمان وكيلان لهما أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل الزوج في الخلع أو في التفريق بغير جعل إن كان الزوج قد جعل إليه ذلك قال إسماعيل الوكيل ليس بحكم ولا يكون حكما إلا ويجوز أمره عليه وإن أبى وهذا غلط منه لأن ما ذكر لا ينفي معنى الوكالة لأنه لا يكون وكيلا أيضا إلا ويجوز أمره عليه فيما وكل به فجواز أمر الحكمين عليهما لا يخرجهما عن حد الوكالة وقد يحكم الرجلان حكما في خصومة بينهما ويكون بمنزلة الوكيل لهما فيما يتصرف به عليهما فإذا حكم بشئ لزمهما بمنزلة إصطلاحهما هذا على أن الحكمين في شقاق الزوجين ليس يغادر أمرهما من معنى الوكالة شيئا وتحكيم الحكم في الخصومة بين رجلين يشبه حكم الحاكم من وجه ويشبه الوكالة من الوجه الذي بينا والحكمان في الشقاق إنما يتصرفان بوكالة محضة كسائر الوكالات قال إسماعيل والوكيل لا يسمى حكما وليس ذلك كما ظن لأنه إنما سمي ههنا الوكيل حكما تأكيدا للوكالة التي فوضت إليه وأما قوله إن الحكمين يجوز أمرهما على الزوجين وإن أبيا فليس كذلك ولا يجوز أمرهما عليهما إذا أبيا لأنهما وكيلان وإنما يحتاج الحاكم أن يأمرهما بالنظر في أمرهما ويعرف أمور المانع من الحق منهما حتى ينقلا إلى الحاكم أن ما عرفاه من أمرهما فيكون قولهما مقبولا في ذلك إذا اجتمعا وينهى الظالم منهما عن ظلمه فجائز أن يكونا سميا حكمين لقبول قولهما عليهما وجائز أن يكونا سميا بذلك لأنهما إذا خلعا بتوكيل منهما وكان ذلك موكولا إلى رأيهما وتحريهما ثم للصلاح سميا حكمين لأن اسم الحكم يفيد تحري الصلاح فيما جعل إليه وإنفاذ القضاء بالحق والعدل فلما كان ذلك موكولا إلى رأيهما وأنفذا على الزوجين حكما من جمع أو تفريق مضى ما أنفذاه فسميا حكمين من هذا الوجه فلما أشبه فعلهما فعل الحاكم في القضاء عليهما بما وكلا به على جهة تحري الخير والصلاح سميا حكمين ويكونان مع ذلك وكيلين لهما إذ غير جائز أن تكون لأحد ولاية على الزوجين مع خلع أو طلاق إلا بأمرهما وزعم أن عليا إنما ظهر منه النكير على الزوج لأنه لم يرض بكتاب الله قال ولم يأخذه بالتوكيل وإنما أخذه بعدم الرضا بكتاب الله وليس هذا على ما ذكر لأن الرجل لما قال أما الفرقة فلا قال علي كذبت أما والله لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت فإنما أنكر على الزوج ترك التوكيل بالفرقة وأمره بأن يوكل بالفرقة وما قال الرجل لا أرضى بكتاب الله حتى ينكر عليه وإنما قال لا أرضى بالفرقة بعد رضى المرأة بالتحكيم وفي هذا دليل على أن الفرقة عليه غير نافذة إلا بعد توكيله بها قال ولما
[ 241 ]
قال يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما علمنا أن الحكمين يمضيان أمرهما وأنهما إن قصدا الحق وفقهما الله للصواب من الحكم قال وهذا لا يقال للوكيلين لأنه يجوز لواحد منهما أن يتعدى ما أمر به والذي ذكره لا ينفي معنى الوكالة لأن الوكيلين إذا كانا موكلين بما رأيا من جمع أو تفريق على جهة تحري الصلاح والخير فعليهما الاجتهاد فيما يمضيانه رسول من ذلك وأخبر الله أنه يوفقهما للصلاح إن صلحت نياتهما فلا فرق بين الوكيل والحكم إذ كل من فوض إليه أمر يمضيه على جهة تحري الخير والصلاح فهذه الصفة التي وصفه الله بها لاحقة به قال وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وأبي سلمة وطاوس وإبراهيم قالوا ما قضى به الحكمان من شئ فهو جائز وهذا عندنا كذلك أيضا ولا دلالة فيه على موافقة قوله لأنهم لم يقولوا إن فعل الحكمين في التفريق والخلع جائز بغير رضى الزوجين بل جائز أن يكون مذهبهم إن الحكمين لا يملكان التفريق إلا برضى الزوجين بالتوكيل ولا يكونان حكمين إلا بذلك ثم ما حكما بعد ذلك من شئ فهو جائز وكيف يجوز للحكمين أن يخلعا بغير رضاه ويخرجا المال عن ملكها وقد قال الله تعالى النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا وقال الله تعالى يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به وهذا الخوف المذكور ههنا هو المعني بقوله تعالى (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها وحظر الله على الزوج أخذ شئ مما أعطاها إلا على شريطة الخوف منهما ألا يقيما حدود الله فأباح حينئذ أن تفتدي بما شاءت وأحل للزوج أخذه فكيف يجوز للحكمين أن يوقعا خلعا أو طلاقا من غير رضاهما وقد نص الله على أنه لا يحل له أخذ شئ مما أعطى إلا بطيبة من نفسها ولا أن تفتدي به فالقائل بأن للحكمين أن يخلعا بغير توكيل من الزوج مخالف لنص الكتاب وقال الله تعالى أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا كل أحد أن يأكل مال غيره إلا برضاه وقال الله تعالى (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام صلى تعالى أن الحاكم وغيره سواء في أنه لا يملك أخذ مال أحد ودفعه إلى غيره وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه وقال صلى الله عليه وسلم فمن قضيت له من حق أخيه بشئ فإنما أقطع له قطعة من النار فثبت بذلك أن الحاكم لا يملك أخذ مالها ودفعه إلى زوجها ولا يملك إيقاع طلاق على الزوج بغير توكيله ولا رضاه وهذا حكم الكتاب والسنة وإجماع الأمة في أنه لا يجوز للحاكم في غير ذلك من الحقوق إسقاطه ونقله عنه إلى غيره من غير رضا من هو له فالحكمان إنما يبعثان للصلح بينهما وليشهدا على
[ 242 ]
الظالم منهما كما روى سعيد عن قتادة في قوله تعالى خفتم شقاق بينهما الاية، قال إنما يبعث الحكمان ليصلحا فإن أعياهما أن يصلحا على الظالم بظلمه وليس بأيديهما الفرقة ولا يملكان ذلك وكذلك روي عن عطاء قال أبو بكر وفي فحوى الآية ما يدل على أنه ليس للحكمين أن يفرقا وهو قوله تعالى يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما يقل إن يريدا فرقة وإنما يوجه الحكمان ليعظا لم الظالم منهما وينكرا حدثنا عليه ظلمه وإعلام الحاكم بذلك ليأخذ هو على يده فإن كان الزوج هو الظالم أنكرا عليه ظلمه وقالا لا يحل لك أن تؤذيها لتخلع ابن منك وإن كانت هي الظالمة قالا لها قد حلت لك الفدية وكان في أخذها معذورا لما ظهر للحكمين من نشوزها فإذا جعل كل واحد منهما إلى الحكم الذي من قبله ماله من التفريق والخلع كانا مع ما ذكرنا من أمرهما وكيلين جائز لهما أن يخلعا إن رأيا وأن يجمعا إن رأيا ذلك صلاحا فهما في حال شاهدان وفي حال مصلحان قوله وفي حال آمران بمعروف وناهيان له عن منكر ووكيلان ذلك في حال إذا فوض إليهما الجمع والتفريق وأما قول من قال إنهما يفرقان ويخلعان محمد من غير توكيل من الزوجين فهو تعسف خارج عن حكم الكتاب والسنة والله أعلم بالصواب باب الخلع دون السلطان قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والحسن بن صالح والشافعي يجوز الخلع بغير سلطان وروي مثله عن عمر وعثمان وابن عمر رضي الله عنهم وقال الحسن وابن سيرين لا يجوز الخلع إلا عند السلطان والذي يدل جوازه عند غير سلطان قوله تعالى طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا [ النساء: 4 ] اقتضى ظاهره جواز أخذه ذلك منهما على وجه الخلع وغيره وقال تعالى (فلا جناح عليهما فيما افتدت به ولم يشترط ذلك عند السلطان وكما جاز عقد النكاح وسائر العقود عند السلطان وعند غيره كذلك يجوز الخلع إذ لا اختصاص في الأصول لهذه العقود بكونها عند السلطان والله تعالى أعلم باب بر الوالدين قال الله تعالى إن الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا فقرن تعالى ذكره إلزام بر الوالدين بعبادته وتوحيده وأمر به كما أمر بهما كما قرن شكرهما بشكره في قوله تعالى اشكر لي ولوالديك إلي المصير وكفى بذلك دلالة
[ 243 ]
على تعظيم حقهما ووجوب برهما والإحسان إليهما وقال تعالى تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما إلى آخر القصة وقال تعالى (ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وقال في الوالدين الكافرين (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا عبد الله بن أنيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس والذي نفس محمد بيده لا يحلف أحد وإن كان على مثل جناح البعوضة إلا كانت وكتة في قلبه إلى يوم القيامة قال أبو بكر فطاعة الوالدين واجبة في المعروف لا في معصية الله فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا عبد الله بن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري أن رجلا من اليمن هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هل لك أحد باليمن قال أبواي قال أذنا لك قال لا قال ارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما ومن أجل ذلك قال أصحابنا لا يجوز أن يجاهد إلا بإذن الأبوين إذا قام بجهاد العدو من قد كفاه الخروج قالوا فإن لم يكن بإزاء العدو من قد قام بفرض الخروج فعليه الخروج بغير إذن أبويه وقالوا في الخروج في التجارة ونحوها فيما ليس فيه قتال لا بأس به بغير إذنهما لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما منعه من الجهاد إلا بإذن الأبوين إذا قام بفرض غيره لما فيه من التعرض للقتل وفجيعة إلى الأبوين به فأما التجارات والتصرف في المباحات التي ليس فيها تعرض للقتل فليس للأبوين منعه منها فلذلك لم يحتج إلى استئذانهما ومن أجل ما أكد الله تعالى من تعظيم حق الأبوين قال أصحابنا لا ينبغي للرجل أن يقتل أباه الكافر إذا كان محاربا للمسلمين لقوله تعالى ولا تقل لهما أف وقوله تعالى (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا [ لقمان 15 ]، فأمر تعالى بمصاحبتهما بالمعروف في الحال التي يجاهدانه كان فيها على الكفر ومن المعروف أن لا يشهر عليهما سلاحا ولا يقتلهما إلا أن يضطر إلى ذلك بأن يخاف أن يقتله إن ترك قتله فحينئذ يجوز قتله لأنه إن لم يفعل ذلك قد قتل نفسه بتمكنه غيره منه وهو منهي عن تمكين غيره من قتله كما هو منهي عن قتل نفسه فجاز له حينئذ من أجل ذلك قتله وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى حنظلة بن أبي عامر الراهب عن قتل أبيه وكان مشركا وقال أصحابنا في المسلم يموت أبواه وهما كافران
[ 244 ]
أنه يغسلهما ويتبعهما ويدفنهما أبو لأن ذلك من الصحبة بالمعروف التي أمر الله بها فإن قال قائل ما معنى قوله تعالى فإن إحسانا ضميره قيل له يحتمل استوصوا بالوالدين إحسانا ويحتمل وأحسنوا بالوالدين إحسانا وقوله تعالى القربى أمر بصلة الرحم والإحسان إلى القرابة على نحو ما ذكره في أول السورة في قوله تعالى فبدأ تعالى في أول الآية بتوحديه أو وعبادته إذ كان ذلك هو الأصل الذي به يصح سائر الشرائع والنبوات وبحصوله يتوصل إلى سائر مصالح الدين ثم ذكر تعالى ما يجب للأبوين من الإحسان إليهما وقضاء حقوقهما وتعظيمهما ثم ذكر الجار ذا القربى وهو قريبك المؤمن الذي له حق القرابة وأوجب له الدين الموالاة والنصرة ثم ذكر الجار الجنب وهو البعيد منك نسبا إذا كان مؤمنا فيجتمع حق الجار وما أوجبه له الدين بعصمة الملة وذمة عقد النحلة وروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك قالوا الجار ذو القربى القريب في النسب وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الجيران ثلاثة فجار له ثلاثة حقوق حق الجوار وحق القرابة وحق الإسلام وجار له حقان حق الجوار وحق الإسلام وجار له حق الجوار المشرك من أهل الكتاب وقوله تعالى عمر بالجنب روي فيه عن ابن عباس في إحدى الروايتين وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك أنه الرفيق في السفر وروي عن عبد الله بن مسعود وإبراهيم وابن أبي ليلى أنه الزوجة ورواية أخرى عن ابن عباس أنه المنقطع إليك رجاء خيرك وقيل هو جار البيت دانيا كان نسبه أو نائيا إذا كان مؤمنا قال أبو بكر لما كان اللفظ محتملا لجميع ذلك وجب حمله عليه وأن لا يخص منه شئ بغير دلالة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبي شريح الخزاعي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت وروى عبيدالله الوصافي عن أبي جعفر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما آمن من أمسى شبعان وجاره جائعا وروى عمر بن هارون الأنصاري عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة سوء
[ 245 ]
الجوار وقطيعة الأرحام وتعطيل الجهاد وقد كانت العرب في الجاهلية تعظم الجوار وتحافظ على حفظه وتوجب فيه ما توجب في القرابة قال زهير وجار) البيت والرجل المنادي * عبد أمام الحي عقدهما سواء يريد بالرجل المنادي من كان معك في النادي وهو 2 مجالس أبي الحي وقال بعض أهل العلم معنى الصاحب بالجنب أنه الذي يلاصق داره داره وإن الله خصه بالذكر تأكيدا لحقه على الجار غير الملاصق وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أبو عمر ومحمد بن عثمان القرشي وراق أحمد بن يونس قال حدثنا إسماعيل بن مسلم قال حدثنا عبد السلام بن حرب عن خالد الدالاني عن أبي العلاء الأزدي عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا اجتمع الداعيان فأجب أقربهما بابا فإن أقربهما بابا أقربهما جوارا وإذا سبق أحدهما فابدأ بالذي سبق وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أربعين دارا جوار وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا الحسن بن شبيب المعمري قال حدثنا محمد بن مصفى قال حدثنا يوسف بن السفر عن الأوزاعي عن يونس عن الزهري قال حدثني عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال إني نزلت بمحلة بني فلان وإن أشدهم لي إذا أقربهم من جواري فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا أن يأتوا باب المسجد فيقوموا على بابه فيصيحوا ثلاثا ألا إن أربعين دارا جوار ولا يدخل الجنة من خاف جاره بوائقه قال قلت للزهري يا أبا بكر أربعين دارا قال أربعين هكذا وأربعين هكذا وقد جعل الله الاجتماع في مدينة جوارا قال الله تعالى لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا فجعل تعالى اجتماعهم معه في المدينة جوارا والإحسان الذي ذكره الله تعالى يكون من وجوه منها المواساة للفقير منهم إذا خاف عليه الضرر الشديد من جهة الجوع والعري ومنها حسن العشرة وكف الأذى عنه والمحاماة دونه ممن يحاول ظلمه وما يتبع ذلك من مكارم الأخلاق وجميل الفعال ومما أوجب الله تعالى من حق الجوار الشفعة لمن بيعت دار إلى جنبه والله الموفق ذكر الخلاف في الشفعة بالجوار قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والشريك في المبيع أحق من الشريك في الطريق ثم الشريك في الطريق أحق من الجار الملازق ثم الجار الملازق بعدهما وهو قول ابن شبرمة والثوري والحسن بن صالح وقال الشافعي لا شفعة إلا
[ 246 ]
في مشاع ولا شفعة في بئر لا بياض لها ولا تحتمل القسم وقد روي وجوب الشفعة للجار عن جماعة من السلف روي عن عمر وعن أبي بكر بن أبي حفص بن عمر قال قال شريح كتب إلي عمر أن أقضي بالشفعة للجار وروى عاصم عن الشعبي عن شريح قال الشريك أحق من الخليط والخليط أحق من الجار والجار أحق ممن سواه وروى أيوب عن محمد قال كان يقال الشريك أحق من الخليط والخليط أحق ممن سواه وقال إبراهيم إذا لم يكن شريك فالجار أحق بالشفعة وقال طاوس مثل ذلك وقال إبراهيم بن ميسرة كتب إلينا عمر بن عبد العزيز إذا حدت الحدود فلا شفعة قال طاوس الجار أحق والذي يدل على وجوب الشفعة للجار ما روى حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرض ليس لأحد فيها شريك إلا الجار فقال الجار أحق بسبقه ما كان وروى سفيان عن إبراهيم بن ميسرة عن عمرو بن الشريد عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال الجار أحق بسبقه وروى أبو حنيفة قال حدثنا عبد الكريم عن المسور بن مخرمة عن رافع بن خديج قال عرض سعد بيتا له فقال خذه فإني قد أعطيت به أكثر مما تعطيني ولكنك أحق به لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الجار أحق بسبقه وروى أبو الزبير عن جابر قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة بالجوار وروى عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجار أحق بسبقه ينتظر به وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا وروى ابن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجار أحق بسبقه ما كان وروى قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال جار الدار أحق بشفعة الجار وقتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال جار الدار أحق بالدار وروى سفيان عن منصور عن الحكم قال حدثني من سمع عليا وعبد الله يقولان قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجوار ويونس عن الحسن قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجوار فاتفق هؤلاء الجماعة على الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وما نعلم أحدا دفع هذه الأخبار مع شيوعها واستفاضتها في الأمة فمن عدل عن القول بها كان تاركا للسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم
[ 247 ]
واحتج من أبى ذلك بما روى أبو عاصم النبيل قال حدثنا مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة وكذلك رواه عن مالك أبو قتيلة المدني وعبد الملك بن عبد العزيز الماجشون وهذا الحديث رواه هؤلاء موصولا عن أبي هريرة وأصله عن سعيد بن المسيب مقطوع رواه معن ووكيع والقعنبي وابن وهب كلهم عن مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب من غير ذكر أبي هريرة وكذلك هو في موطأ مالك ولو ثبت موصولا لما جاز الاعتراض به على الأخبار التي رواها نحو عشرة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاب الشفعة للجار لأنها في حيز المتواتر المستفيض الذي لا تجوز معارضته بأخبار الآحاد ولو ثبت من وجوه يجوز أن يعارض به ما قدمنا ذكره لم يكن فيه ما ينفي أخبار إيجاب الشفعة للجار وذلك لأن أكثر ما فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة فيما لم يقسم ثم قال فإذا وقعت الحدود فلا شفعة فأما قوله قضى رسول الله بالشفعة فيما لم يقسم فإنه متفق على استعماله في إيجاب الشفعة للشريك ومع ذلك فهو حكاية قضية من النبي صلى الله عليه وسلم قضى بها وليس بعموم لفظ ولا حكاية قول منه وأما قوله فإذا وقعت الحدود فلا شفعة فإنه يحتمل أن يكون من كلام الراوي إذ ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ولا أنه قضى به وإذا احتمل أن تكون رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم واحتمل أن يكون من قول الراوي أدرجه في الحديث كما وجد ذلك في كثير من الأخبار لم يجز لنا إثباته عن النبي صلى الله عليه وسلم إذ غير جائز لأحد أن يعزي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مقالة بالشك والإحتمال فهذا وجه منع الاعتراض به على ما ذكرنا واحتجوا أيضا بما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا حامد بن محمد المردف قال حدثنا عبيدالله بن عمر القواريري قال حدثنا عبد الواحد بن زياد قال حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله قال قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة وهذا لا دلالة فيه على نفي الشفعة بالجوار من وجهين أحدهما أنه إنما نفى وجوب الشفعة إذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فأفاد بذلك نفي الشفعة لغير الجار الملاصق لأن صرف الطرق ينفي الملاصقة لأن بينه وبين جاره طريقا والثاني أنا متى حملناه على حقيقته كان الذي يقتضيه اللفظ نفي الشفعة عند وقوع الحدود وصرف الطرق ووقوع الحدود وصرف الطرق إنما هو القسمة فكأنه إنما أفاد أن القسمة لا شفعة فيها كما قال أصحابنا أنه لا شفعة في قسمة وكذلك الحديث الأول محمول على ذلك أيضا وأيضا فقد روى عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
[ 248 ]
الجار أحق بصقبه ينتظر به وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا فهذان الخبران قد رويا عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وغير جائز أن نجعلهما متعارضين مع إمكان استعمالهما جميعا وقد يمكننا استعمالهما على الوجه الذي ذكرنا ومخالفونا يجعلونهما متعارضين ويسقطون أحدهما بالآخر مطلب: إذا خرج الكلام على سبب فلا مفهوم له عند الفقهاء وأيضا جائز أن يكون ذلك كلاما خرج على سبب فنقل الراوي لفظ النبي صلى الله عليه وسلم وترك نقل السبب نحو أن يختصم إليه رجلان أحدهما جار والآخر شريك فيحكم بالشفعة للشريك دون الجار وقال فإذا وقعت لاحدود ما فلا شفعة لصاحب النصيب المقسوم مع الجار كما روى أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا ربا إلا في النسيئة وهو عند سائر الفقهاء كلام خارج على سبب اقتصر فيه راويه على نقل قول النبي صلى الله عليه وسلم دون ذكر السبب وهو أن يكون سئل عن النوعين المختلفين من الذهب والفضة إذا بيع أحدهما بالآخر فقال صلى الله عليه وسلم لا ربا إلا في النسيئة يعني فيما سئل عنه وكذلك ما ذكرنا وأيضا لو تساوت أخبار إيجاب الشفعة بالجوار وأخبار نفيها لكانت أخبار الإيجاب أولى من أخبار النفي لأن الأصل أنها غير واجبة حتى يرد الشرع بإيجابها فخبر نفي الشفعة وارد على الأصل وخبر إثباتها ناقل عنه وارد بعده فهو أولى فإن قيل يحتمل أن يريد بالجار الشريك قيل له هذه الأخبار التي رويناها وأكثرها ينفي هذا التأويل لأن فيها أن جار الدار أحق بشفعة داره والشريك لا يسمى جار الدار وحديث جابر قال فيه ينتظر به وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا وغير جائز أن يكون هذا في الشريك في المبيع وأيضا فإن الشريك لا يسمى جارا لأنه لو استحق اسم الجوار بالشركة لوجب أن يكون كل شريكين في شئ جارين كالشريكين في عبد واحد ودابة واحدة فلما لم يستحق اسم الجار بالشركة في هذه الأشياء دل ذلك على أن الشريك لا يسمى جارا وإنما الجار هو الذي ينفرد حقه ونصيبه من حق الشريك ويتميز ملك كل واحد عن ملك صاحبه وأيضا فإن الشركة إنما تستحق بها الشفعة لأنها تقتضي حصول الجوار بالقسمة والدليل عليه أن الشركة في سائر الأشياء لا توجب الشفعة لعدم حصول الجوار بها عند القسمة فدل ذلك على أن الشركة في العقار إنما تستحق بها الشفعة لما يتعلق بها من الجوار عند القسمة وإن كان الشريك أحق من الجار
[ 249 ]
لمزية حصلت له مع تعلق حق الجوار بالقسمة والدليل عليه أن الشركة في سائر الأشياء لا توجب الشفعة لعدم حصول الجوار بها كما أن الأخ من الأب والأم أولى بالميراث من الأخ من الأب وإن كانت الأخوة من جهة الأب يستحق بها التعصيب والميراث إذا لم يكن أخ لأب وأم ومعلوم أن القرابة من جهة الأم لا يستحق بها التعصيب إذ لم تكن هناك قرابة من جهة الأب إلا أنها أكدت تعصيب القرابة من الأب وكذلك الشريك إنما يستحق الشفعة بالشركة لما تعلق بها من حصول الجوار عند القسمة والشريك أولى من الجار لمزية حصلت له كما وصفنا بالتعصيب ويكون المعنى الذي يتعلق به وجوب الشفعة هو الجوار وأيضا لما كان المعنى الذي به وجبت الشفعة بالشركة هو دوام التأذي بالشريك وكان ذلك موجودا في الجوار لأنه يتأذى به في الإشراف عليه ومطالعة أموره والوقوف على أحواله وجب أن تكون له الشفعة لوجود المعنى الذي من أجله وجبت الشفعة للشريك وهذا المعنى غير موجود في الجار غير الملاصق لأن بينه وبينه طريقا يمنعه التشرف عليه والاطلاع على أموره وأما قوله تعالى السبيل فإنه روي عن مجاهد والربيع بن أنس أنه المسافر وقال قتادة والضحاك هو الضيف قال أبو بكر ومعناه صاحب الطريق وهذا كما يقال لطير الماء ابن ماء قال الشاعر وردت لا اعتسافا والثريا كأنها * على قمة الرأس ابن ماء محلق ومن تأوله على الضيف فقوله سائغ أيضا لأن الضيف كالمجتاز غير المقيم فسمى ابن السبيل تشبيها بالمسافر المجتاز وهو كما يقال عابر سبيل وقال الشافعي ابن السبيل هو الذي يريد السفر وليس معه نفقته وهذا غلط لأنه ما لم يصر في الطريق لا يسمى ابن السبيل كما لا يسمى مسافرا ولا عابر سبيل وقوله عز وجل ملكت أيمانكم الإحسان المأمور به في أول الآية وروى سليمان التيمي عن قتادة عن أنس قال كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة وما ملكت أيمانكم حتى جعل يغرغر بها في صدره وما يقبض بها لسانه وروته أيضا أم سلمة وروى الأعمش عن طلحة بن مصرف عن أبي عمارة عن عمرو بن شرحبيل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنم بركة والإبل عز لأهلها والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة والمملوك أخوك فأحسن إليه فإن وجدته مغلوبا فأعنه وروى مرة الطيب عن أبي بكر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة سئ الملكة قيل
[ 250 ]
يا رسول الله أليس قد حدثتنا أن هذه الأمة أكثر الأمم مملوكين وأتباعا قال بلى فأكرموهم ككرامة أولادكم وأطعموهم مما تأكلون وروى الأعمش عن المعرور بن سويد قال مررت على أبي ذر وهو بالربذة فسمعته يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المماليك هم إخوانكم ولكن الله تعالى خولكم إياهم فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون مطلب: في معنى البخل لغة وشرعا وقوله تعالى الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله قيل في معنى البخل في اللغة أنه مشقة الإعطاء 2 وقيل على البخل منع مالا ينفع منعه ولا يضر بذله وقيل البخل منع الواجب ونظيره الشح ونقيضه الجود وقد عقل من معناه في أسماء الدين أنه منع الواجب ويقال إنه لا يصح إطلاقه في الدين إلا على جهة أن فاعله قد أتى كبيرة بالمنع قال الله تعالى تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة [ آل عمران: 18 ] الوعيد على من بخل بحق الله الذي أوجبه في ماله وأما قوله تعالى ويكتمون ما آتاهم الله من فضله فإنه روي عن ابن عباس ومجاهد والسدي أنها نزلت في اليهود إذ بخلوا بما أعطوا من الرزق وكتموا ما أوتوا من العلم بصفة محمد صلى الله عليه وسلم وقيل هو فيمن كان بهذه الصفة وفيمن كتم نعم الله وأنكرها وذلك كفر بالله تعالى قال أبو بكر الاعتراف بنعم الله تعالى واجب وجاحدها كافر وأصل الكفر إنما هو من تغطية نعم الله تعالى وكتمانها وجحودها وهذا يدل على أنه جائز للإنسان أن يتحدث بنعم الله عنده لا على جهة الفخر بل على جهة الاعتراف بالنعمة والشكر للمنعم وهو كقوله بنعمة ربك فحدث وقال النبي صلى الله عليه وسلم أنا سيد ولد آدم ولا فخر وأنا أفصح العرب ولا فخر فأخبر بنعم الله عنده وأبان أنه ليس إخباره بها على وجه الافتخار وقال صلى الله عليه وسلم لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى وقد كان صلى الله عليه وسلم خيرا منه ولكنه نهى أن يقال ذلك على وجه الافتخار وقال تعالى (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا يمدح رجلا فقال لو سمعك لقطعت ظهره ورأى المقداد رجلا يمدح عثمان
[ 251 ]
في وجهه فحثا في وجهه التراب وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب وقد روي إياكم والتمادح فإنه الذبح فهذا إذا كان على وجه الفخر فقد كره وإما أن يتحدث بنعم الله عنده أو يذكرها غيره بحضرته فهذا نرجو أن لا يضر إلا أن أصلح الأشياء لقلب الإنسان أن لا يغتر بمدح الناس له ولا يعتد به وقوله تعالى ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر معناه والله أعلم أنه أعد للذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس عذابا مهينا وفي ذلك دليل على أن كل ما يفعله العبد لغير وجه الله فإنه لا قربة فيه ولا يستحق عليه الثواب لأن ما يفعل على وجه الرياء فإنما يريد به عوضا من الدنيا كالذكر الجميل والثناء الحسن فصار ذلك أصلا في أن كل ما أريد به عوض من أعواض الدنيا أنه ليس بقربة كالاستيجار على الحج وعلى الصلاة الصلاة وسائر القرب أنه متى استحق عليه عوضا يخرج بذلك عن باب القربة وقد علمنا أن هذه الأشياء سبيلها أن لا تفعل إلا على وجه القربة فثبت بذلك أنه لا يجوز أن يستحق عليها الأجرة وأن الإجارة عليها باطلة قوله تعالى عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله يدل على بطلان مذهب أهل الجبر لأنهم لو لم يكونوا مستطيعين للإيمان بالله والإنفاق لما جاز أن يقال ذلك فيهم لأن عذرهم واضح وهو أنهم غير ممكنين مما دعوا إليه ولا قادرين عليه كما لا يقال للأعمى ماذا عليه لو أبصر ولا يقال للمريض ماذا عليه لو كان صحيحا وفي ذلك أوضح دليل على أن الله قطع عذرهم من فعل ما كلفهم من الإيمان وسائر الطاعات وأنهم ممكنون من فعلها وقوله تعالى أنه يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا فأخبر الله عنهم أنهم لا يكتمون الله هناك شيئا من أحوالهم وما عملوه لعلمهم بأن الله مطلع عليهم عالم بأسرارهم فيقرون بها ولا يكتمونها وقيل يجوز أن يكون المراد أنهم لا يكتمون أسرارهم هناك كما كانوا يكتمونها في الدنيا فإن قيل قد أخبر الله عنهم أنهم يقولون والله ربنا ما كنا مشركين قيل له فيه وجوه أحدها أن الآخرة مواطن فموطن لا تسمع فيه إلا همسا أي صوتا خفيا وموطن يكذبون فيه فيقولون ما كنا نعمل من سوء والله ربنا ما كنا مشركين وموطن يعترفون فيه بالخطأ ويسئلون الله أن يردهم إلى دار الدنيا وروي ذلك عن الحسن وقال ابن عباس
[ 252 ]
أن قوله تعالى يكتمون الله حديثا داخل في التمني بعد ما نطقت جوارحهم بفضيحتهم وقيل إن معناه أنه لا يعتد بكتمانهم لأنه ظاهر عند الله لا يخفى عليه منه شئ فكان تقديره أنهم غير قادرين هناك على الكتمان لأن الله يظهره وقيل أنهم لم يقصدوا الكتمان لأنهم إنما أخبروا على ما توهموا ولا يخرجهم ذلك من أن يكونوا قد كتموا والله تعالى أعلم باب الجنب يمر في المسجد قال الله تعالى أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا مطلب: في تفسير السكر المراد بهذه الاية قال أبو بكر قداختلف في المراد من السكر بهذه الآية فقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة السكر من الشراب وقال مجاهد والحسن نسخها تحريم الخمر وقال الضحاك المراد به سكر النوم خاصة فإن قيل كيف يجوز أن ينهى السكران في حال سكره وهو في معنى الصبي في نقص عقله قيل له يحتمل أن يريد السكران الذي لم يبلغ نقصان عقله إلى حد يزول التكليف معه ويحتمل أن يكونوا نهوا عن التعرض للسكر إذا كان عليهم فرض الصلاة ويجوز أن يكون النهي إنما دل على أن عليهم أن يعيدوها في حال الصحو إذا فعلوها في حال السكر وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة بالآية في حال نزولها فإن قال قائل إذا ساغ تأويل من تأولها على السكران الذي لم يزل عنه التكليف فكيف يجوز أن يكون منهيا عن فعل الصلاة في هذه الحال مع اتفاق المسلمين على أنه مأمور بفعل الصلاة في هذه الحال قيل له قد روي عن الحسن وقتادة أنه منسوخ ويحتمل إن لم يكن منسوخا أن يكون النهي متوجها إلى فعل الصلاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أو في جماعة قال أبو بكر والصحيح من التأويل في معنى السكر أنه السكر من الشراب من وجهين أحدهما أن النائم ومن خالط عينه النوم لا يسمى سكران ومن سكر من الشراب يسمى سكران حقيقة فوجب حمل اللفظ على الحقيقة ولا يجوز صرفه عنها إلى المجاز إلا بدلالة والثاني ما روى سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن عن علي قال دعا رجل من الأنصار قوما فشربوا من الخمر فتقدم عبد الرحمن بن عوف
[ 253 ]
لصلاة المغرب فقرأ قل أيها الكافرون فالتبس عليه فأنزل الله تعالى تقربوا الصلاة وأنتم سكارى وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان المؤدب قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى يسئلونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وقال في سورة النساء لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ثم نسختها هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام الآية قال أبو عبيد وحدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير [ البقرة: 219 ] قال وقوله تعالى تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون قال كانوا لا يشربونها عند الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها قال أبو عبيد حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال قال عمر اللهم بين لنا في الخمر فنزلت تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون وذكر الحديث قال أبو عبيد وحدثنا هشيم قال أخبرنا مغيرة عن أبي رزين قال شربت الخمر بعد الآية التي في سورة البقرة والتي في سورة النساء وكانوا يشربونها حتى تحضر الصلاة فإذا حضرت الصلاة تركوها ثم حرمت في المائدة قال أبو بكر فأخبر هؤلاء أن المراد السكر من الشراب وأخبر ابن عباس وأبو رزين أنهم تركوا شربها بعد نزول الآية عند الصلاة وشربوها في غير أوقات الصلوات ففي هذا دلالة على أنهم عقلوا من قوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) النهي عن شربها في الحال التي يكونون فيها سكارى عند لزوم فرض الصلاة وهذا يدل على أن قوله تعالى تقربوا الصلاة وأنتم سكارى إنما أفاد النهي عن شربها في أوقات الصلوات وكان معناه لا يكن منكم شرب تصيرون به إلى حال السكر عند أوقات الصلوات فتصلوا وأنتم سكارى وذلك أنهم لما كانوا متعبدين بفعل الصلوات في أوقاتها منهيين عن تركها قال تعالى تقربوا الصلاة وأنتم سكارى وقد علمنا أنه لم ينسخ بذلك فرض الصلاة كان في مضمون هذا اللفظ النهي عما يوجب السكر عند أوقات الصلوات كما أنه لما نهينا عن فعل الصلاة مع الحدث لقوله تعالى قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة بغير طهور وكما قال تعالى جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا كان ذلك نهيا عن ترك الطهارة ولم يكن نهيا عن فعل الصلاة ولم يوجب كون الإنسان جنبا أو محدثا
[ 254 ]
سقوط فرض الصلاة وإنما نهي عن فعلها في هذه الحال وهو مأمور مع ذلك بتقديم الطهارة لها كذلك النهي عن الصلاة في حال السكر إنما دل على حظر شرب يوجب السكر قبل الصلاة وفرض الصلاة قائم عليه فهذا التأويل يدل على ما روي عن ابن عباس وأبي رزين وظاهر الآية وفحواه يقتضي ذلك على الوجه الذي بينا وهذا التأويل لا ينافي ما قدمنا ذكره عن السلف في حظر الصلاة عند السكر لأنه جائز أن يكونوا نهوا عن شرب يقتضي كونه سكران عند حضور الصلاة فيكون ذلك حظرا قائما فإن اتفق أن يشرب حتى أنه كان سكران عند حضور الصلاة كان منهيا عن فعلها مأمورا بإعادتها في حال الصحو أو يكون النهي مقصورا على فعلها مع النبي صلى الله عليه وسلم أو في جماعة وهذه المعاني كلها صحيحة جائزة يحتملها لفظ الآية وقوله تعالى تعلموا ما تقولون يدل على أن السكران الذي منع من الصلاة هو الذي قد بلغ به السكر إلى حال لا يدري ما يقول وأن السكران الذي يدري ما يقول لم يتناوله النهي عن فعل الصلاة وهذا يشهد للتأويل الذي ذكرنا من النهي إنما انصرف إلى الشرب لا إلى فعل الصلاة لأن السكران الذي لا يدري ما يقول لا يجوز تكليفه في هذه الحال كالمجنون والنائم والصبي الذي لا يعقل والذي يعقل ما يقول لم يتوجه إليه النهي لأن في الآية إباحة فعل الصلاة إذا علم ما يقول وهذا يدل على أن الآية إنما حظرت عليه الشرب لا فعل الصلاة في حال السكر الذي لا يعلم ما يقول فيه إذ غير جائز تكليف السكران الذي لا يعقل وهي تدل على أن السكر الذي يتعلق به الحكم هو الذي لا يعقل صاحبه ما يقول وهذا يدل على صحة قول أبي حنيفة في السكر الموجب الحد أنه هو الذي لا يعرف فيه الرجل من المرأة ومن لا يعقل ما يقول لا يعرف الرجل من المرأة وقوله تعالى حتى تعلموا ما تقولون على فرض القراءة في الصلاة لأنه منعه من الصلاة لأجل عدم إقامة القراءة فيها فلولا أنها من أركانها وفروضها لما منع من الصلاة لأجلها فإن قيل لا دلالة في ذلك على وجوب القراءة فيها وذلك لأن قوله تعالى (حتى تعلموا ما تقولون قد دل على أنه ممنوع منها في الحال التي لا يعلم ما يقول ولم يذكر القراءة وإنما ذكر نفي العلم بما يقول وهذا على سائر الأقوال والكلام ومن صار بهذه الحال من السكر لم يصح له إحضار نية الصلاة ولا فعل سائر أركانها فإنما منع من الصلاة من كانت هذه حاله لأنه لا تصح منه نية الصلاة ولا سائر أفعالها ومع ذلك فلا يعلم أنه طاهر غير محدث قيل له هذا على ما ذكرت في أن من كانت هذه
[ 255 ]
حاله فلا يصح منه فعل الصلاة على سائر شرائطها إلا أن اختصاصه القول بالذكر دون غيره من أمور الصلاة وأحوالها يدل على أن المراد به قول مفعول في الصلاة وأنه متى كان من السكر على حال لم يمكنه إقامة القراءة فيها لم يصح له فعلها لأجل عدم القراءة وأن وجود القراءة فيها من فروضها وشرائطها وهذا مثل قوله وقد الصلاة [ البقرة: 43 ] في إفادته أن في الصلاة قياما مفروضا ومثل قوله مع الراكعين [ البقرة: 43 ] في دلالته على فرض الركوع في الصلاة وأما قوله تعالى قال إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا أهل العلم قد تنازعوا تأويله فروى المنهال بن عمرو عن زر عن علي رضي الله عنه في قوله (ولا جنبا إلا عابري سبيل إلا أن تكونوا مسافرين ولا تجدون ما تيممون عن به وتصلون وروى قتادة عن أبي مجلز عن ابن عباس مثله وعن مجاهد مثله وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال هو الممر في المسجد وروى عطاء بن يسار عن ابن عباس مثله في تأويل الآية وكذلك روي عن سعيد بن المسيب وعطاء وعمرو بن دينار في آخرين من التابعين واختلف السلف في مرور الجنب في المسجد فروي عن جابر قال كان أحدنا يمر في المسجد مجتازا وهو جنب وقال عطاء بن يسار كان رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضؤن ثم يأتون المسجد فيتحدثون فيه وقال سعيد بن المسيب الجنب لا يجلس في المسجد ويجتاز وكذلك روي عن الحسن وما روي في ذلك عن عبد الله فإن الصحيح فيه ما تأوله شريك عن عبد الكريم الجزري عن أبي عبيدة جنبا إلا عابري سبيل قال الجنب يمر في المسجد ولا يجلس ورواه معمر عن عبد الكريم عن أبي عبيدة عن عبد الله ويقال إن أحدا لم يرفعه إلى عبد الله غير معمر وسائر الناس وقفوه واختلف فقهاء الأمصار في ذلك فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد لا يدخله إلا طاهرا سواء أراد القعود فيه والاجتياز وهو قول مالك بن أنس والثوري وقال الليث الجنب لا يجوز له أن يجتاز في المسجد وقال الشافعي يمر ولا يقعد والدليل على أن الجنب لا يجوز له أن يجتاز في المسجد ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا عبد الواحد بن زياد قال حدثنا أقلت بن خليفة قال حدثتني جسرة بنت دجاجة قالت سمعت عائشة رضي الله عنها تقول جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد فقال وجهوا هذه البيوت عن المسجد ثم دخل ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة فخرج
[ 256 ]
إليهم بعد فقال وجهوا هذه البيوت فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب وهذا الخبر يدل من وجهين على ما ذكرنا أحدهما قوله لا أحل المسجد لحائض ولا جنب ولم يفرق فيه بين الإجتياز وبين القعود فهو عليهما سواء والثاني أنه أمرهم بتوجيه البيوت الشارعة لئلا يجتازوا في المسجد إذا أصابتهم جنابة لأنه لو أراد القعود لم يكن لقوله وجهوا هذه البيوت فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب معنى لأن القعود منهم بعد دخول المسجد لا تعلق له بكون البيوت شارعة إليه فدل على أنه إنما أمر بتوجيه البيوت لئلا يضطروا عند الجنابة إلى الإجتياز في المسجد إذ لم يكن لبيوتهم أبواب غير ما هي شارعة إلى المسجد روى سفيان بن حمزة عن كثير بن زيد عن المطلب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن أذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه وهو جنب إلا علي بن أبي طالب فإنه كان يدخله جنبا ويمر فيه لأن بيته كان في المسجد فأخبر في هذا الحديث بحظر النبي صلى الله عليه وسلم الإجتياز كما حظر عليهم القعود مطلب: فيما ورد من بعض الخصوصيات لبعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم ذكر من خصوصية علي رضي الله عنه فهو صحيح وقول الراوي لأنه كان بيته في المسجد ظن منه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر في الحديث الأول بتوجيه البيوت الشارعة إلى غيره ولم يبح لهم المرور لأجل كون بيوتهم في المسجد وإنما كانت الخصوصية فيه لعلي رضي الله عنه دون غيره كما خص جعفر بأن له جناحين في الجنة دون سائر الشهداء وكما خص حنظلة بغسل الملائكة له حين قتل جنبا وخص دحية الكلبي بأن جبريل كان ينزل على صورته وخص الزبير بإباحة لبس الحرير لما شكا من أذى القمل فثبت بذلك أن سائر الناس ممنوعون من دخول المسجد مجتازين وغير مجتازين وأما ما روى جابر كان أحدنا يمر في المسجد مجتازا وهو جنب فلا حجة فيه لأنه لم يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك فأقره عليه وكذلك ما روي عن عطاء بن يسار كان رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضؤن ثم يأتون المسجد فيتحدثون فيه لا دلالة فيه للمخالف لأنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم عليه بعد علمه بذلك منهم ولأنه جائز أن يكون ذلك في زمان النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يحظر عليهم ذلك ولو ثبت جميع ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم روي ما وصفنا لكان خبر الحظر أولى لأنه طارئ على الإباحة لا محالة فهو متأخر عنها ولما ثبت باتفاق الفقهاء حظر القعود فيه لأجل الجنابة تعظيما لحرمة المسجد وجب أن يكون كذلك حكم الإجتياز تعظيما للمسجد ولأن العلة في حظر القعود فيه هو الكون فيه جنبا وذلك موجود في الإجتياز
[ 257 ]
وكما أنه لما كان محظورا عليه العقود في ملك غيره بغير إذنه كان حكم الإجتياز فيه حكم القعود فكان الإجتياز بمنزلة القعود كذلك القعود في المسجد لما كان محظورا وجب أن يكون كذلك الإجتياز اعتبارا بما ذكرنا والعلة في الجميع حظر الكون فيه وأما قوله تعالى جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا من من تأوله على إباحة الإجتياز في المسجد فإن ما روي عن علي وابن عباس في تأويله أن المراد المسافر الذي لا يجد الماء فيتيمم أولى من تأويل من تأوله على الإجتياز في المسجد وذلك لأن قوله تعالى تقربوا الصلاة وأنتم سكارى نهي عن فعل الصلاة في هذه الحال لا عن المسجد لأن ذلك حقيقة اللفظ ومفهوم الخطاب وحمله على المسجد عدول بالكلام عن حقيقته إلى المجاز بأن تجعل الصلاة عبارة عن موضعها كما يسمى الشئ باسم غيره للمجاورة أو لأنه تسبب منه كقوله تعالى في صوامع وبيع وصلوات به مواضع الصلوات ومتى أمكننا استعمال اللفظ على حقيقته لم يجز صرفه عنها إلى المجاز إلا بدلالة ولا دلالة توجب صرف ذلك عن الحقيقة وفي نسق التلاوة ما يدل على أن المراد حقيقة الصلاة وهو قوله تعالى (حتى تعلموا ما تقولون وليس للمسجد قول مشروط يمنع من دخوله لتعذره عليه عند السكر وفي الصلاة قراءة مشروطة فمنع من أجل العذر عن إقامتها عن فعل الصلاة فدل ذلك على أن المراد حقيقة الصلاة فيكون تأويل من تأوله عليها موافقا لظاهرها وحقيقتها وقوله تعالى إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا فإن معناه المسافر لأن المسافر يسمى عابر سبيل ولولا أنه يطلق عليه هذا الاسم لما تأوله عليه علي وابن عباس إذ غير جائز لأحد تأويل الآية على مالا يقع عليه الاسم وإنما سمي المسافر عابر سبيل لأنه على الطريق كما يسمى ابن السبيل فأباح الله تعالى له في حال السفر أن يتيمم ويصلي وإن كان جنبا فدلت الآية على معنيين أحدهما جواز التيمم للجنب إذا لم يجد الماء والصلاة به والثاني أن التيمم لا يرفع الجنابة لأنه سماه جنبا مع كونه متيمما فهذا التأويل أولى من تأويل من حمله على الإجتياز في المسجد وقوله تعالى تغتسلوا غاية لإباحة الصلاة ولا خلاف أن الغاية في هذا الموضع داخلة في الحظر إلى أن يستوعبها بوجوب الاغتسال وأنه لا تجوز له الصلاة وقد بقي من غسله شئ في حال وجود الماء وإمكان استعماله من غير ضرر يخافه فهذا يدل على أن الغاية قد تدخل في الجملة التي قبلها وقال الله تعالى أتموا الصيام إلى الليل والغاية خارجة من الجملة لأنه بدخول أول الليل يخرج من الصوم لأن إلى غاية كما أن حتى غاية وهذا أصل في أن الغاية قد يجوز دخولها
[ 258 ]
في الكلام تارة وخروجها أخرى وحكمها موقوف على الدلالة في دخولها أو خروجها وسنذكر أحكام الجنابة ومعناها وحكم المريض والمسافر في سورة المائدة إذا انتهينا إليها إن شاء الله تعالى قوله تعالى علي بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها يدل على قول أصحابنا في قول الرجل لامرأته أنت طالق قبل قدوم فلان أنها تطلق في الحال قدم فلان أو لم يقدم وحكي عن بعضهم أنها لا تطلق حتى يقدم لأنه لا يقال أنه قبل قدوم فلان وما قدم والصحيح ما قال أصحابنا وهذه الآية تدل عليه لأنه قال الله تعالى يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فكان الأمر بالإيمان صحيحا قبل طمس الوجوه ولم يوجد الطمس أصلا وكان ذلك إيمانا قبل طمس الوجوه وما وجد وهو نظير قوله تعالى فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا فكان الأمر بالعتق للرقبة أمرا صحيحا وإن لم يوجد المسيس فإن قيل إن هذا وعيد من الله لليهود ولم يسلموا ولم يقع ما توعدوا به قيل له إن قوما من هؤلاء اليهود أسلموا منهم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعية وزيد بن سعنة وأسد بن سعية وأسد بن عبيد ومخريق بن في آخرين منهم وإنما كان الوعيد العاجل معلقا بترك جميعهم الإسلام ويحتمل أن يريد به الوعيد في الآخرة إذ لم يذكر في الآية تعجيل العقوبة في الدنيا إن لم يسلموا قوله تعالى تر إلى الذين يزكون أنفسهم قال الحسن وقتادة والضحاك هو قول اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وروي عن عبد الله أنه قال هو تزكية الناس بعضهم بعضا لينال به شيئا من الدنيا مطلب: في بيان التزكية المنهي عنها قال أبو بكر وهذا يدل على أن النهي عن التزكية من هذا الوجه وقال الله (فلا تزكوا أنفسكم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب قوله تعالى يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وعكرمة إن المراد بالناس ههنا هو النبي صلى الله عليه وسلم خاصة وقال قتادة العرب وقال آخرون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهذا أولى لأن أول الخطاب في ذكر اليهود وقد كانوا قبل ذلك يقرؤن في كتبهم مبعث النبي صلى الله عليه وسلم
[ 259 ]
وصفته وحال نبوته وكانوا يوعدون العرب بالقتل عند مبعثه لأنهم زعموا أنهم لا يتبعونه وكانوا يظنون أنه يكون من بني إسرائيل فلما بعثه الله تعالى من ولد إسماعيل حسدوا العرب وأظهروا الكفر به وجحدوا ما عرفوه قال الله تعالى (وكانوا من قبل يستفتتحون هذه على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به وقال الله تعالى كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم فكانت عداوة للعرب ظاهرة بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم حسدا منهم لهم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثا منهم فالأظهر من معنى الآية حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللعرب والحسد هو تمني زوال النعمة عن صاحبها ولذلك قيل إن كل أحد تقدر أن ترضيه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها والغبطة غير مذمومة لأنها تمني مثل النعمة من غير زوالها عن صاحبها بل مع سرور منه ببقائها عليه قوله تعالى نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها قيل فيه إن الله تعالى يجدد لهم جلودا غير الجلود التي احترقت والقائلون بهذا هم الذين يقولون إن الجلد ليس بعض الإنسان وكذلك اللحم والعظم وأن الإنسان هو الروح اللابس لهذا البدن ومن قال إن الجلد هو بعض الإنسان وأن الإنسان هو هذا الشخص بكماله فإنه يقول إن الجلود تجدد بأن ترد إلى الحال التي كانت عليها غير محترقة كما يقال لخاتم كثر ثم صيغ خاتم آخر هذا الخاتم غير ذاك الخاتم وكما يقال لمن قطع قميصه قباء هذا اللباس غير ذاك اللباس وقال بعضهم التبديل إنما هو للسرابيل التي قد ألبسوها وهو تأويل بعيد لأن السرابيل لا تسمى جلودا والله تعالى أعلم باب ما أوجب الله تعالى من أداء الأمانات قال الله تعالى إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها اختلف أهل التفسير في المأمورين بأداء الأمانة في هذه الآية من هم فروي عن زيد بن أسلم ومكحول وشهر بن حوشب أنهم ولاة الأمر وقال ابن جريج أنها نزلت في عثمان بن طلحة أمر بأن ترد عليه مفاتيح الكعبة وقال ابن عباس وأبي بن كعب والحسن وقتادة هو في كل مؤتمن على شئ وهذا أولى لأن قوله تعالى إن الله يأمركم خطاب يقتضي عمومه سائر المكلفين فغير جائز الاقتصار به على بعض الناس دون بعض إلا بدلالة وأظن من تأوله على ولاة الأمر ذهبت إلى قوله تعالى حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ي إن لما كان خطابا لولاة الأمر كان ابتداء الخطاب منصرفا إليهم وليس ذلك كذلك إذ لا يمتنع أن يكون أول الخطاب عموما في سائر الناس وما عطف عليه
[ 260 ]
خاصا في ولاة الأمر على ما ذكرنا في نظائره في القرآن وغيره قال أبو بكر ما اؤتمن عليه الإنسان فهو أمانة فعلى المؤتمن عليها ردها إلى صاحبها فمن الأمانات الودائع على مودعيها عمرو ردها إلى من أودعه إياها ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أنه لا ضمان على المودع فيها إن هلكت وقد روي عن بعض السلف فيه الضمان ذكر الشعبي عن أنس قال استحملني رجل بضاعة فضاعت من بين ثيابي فضمنني عمر بن الخطاب وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا حامد بن محمد قال حدثنا شريح قال حدثنا ابن إدريس عن هشام بن حسان عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك قال استودعت ستة آلاف درهم فذهبت فقال لي عمر ذهب لك معها شئ قلت لا فضمنني وروى حجاج عن أبي الزبير عن جابر أن رجلا استودع متاعا فذهب من بين متاعه فلم يضمنه أبو بكر رضي الله عنه وقال هي أمانة وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا قتيبة قال حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من استودع وديعة فلا ضمان عليه وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن هاشم قال حدثنا محمد بن عون قال حدثنا عبد الله بن نافع عن محمد بن نبيه الحجبي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ضمان على راع ولا على مؤتمن قال أبو بكر قوله صلى الله عليه وسلم لا ضمان على مؤتمن يدل على نفي ضمان العارية لأن العارية أمانة في يد المستعير إذ كان المعير قد ائتمنه عليها ولا خلاف بين الفقهاء في نفي ضمان الوديعة إذا لم يتعد فيها المودع ما روي عن عمر في تضمين الوديعة فجائز أن يكون المودع اعترف بفعل يوجب الضمان عنده فلذلك ضمنه واختلف الفقهاء في ضمان العارية بعد اختلاف من السلف فروي عن عمر وعلي وجابر وشريح وإبراهيم أن العارية غير مضمونة وروي عن ابن عباس وأبي هريرة أنها مضمونة وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد هي غير مضمونة إذا هلكت وهو قول ابن شبرمة والثوري والأوزاعي وقال عثمان البتي المستعير ضامن لما استعاره إلا الحيوان والعقل فإن اشترط عليه في الحيوان والعقل الضمان فهو ضامن وقال مالك لا يضمن الحيوان في العارية ويضمن الحلي والثياب ونحوها وقال الليث لا ضمان في العارية ولكن أبا ا لعباس أمير المؤمنين قد كتب إلي بأن أضمنها فالقضاء اليوم على الضمان وقال الشافعي كل عارية مضمونة قال أبو بكر والدليل على نفي ضمانها عند الهلاك إذا لم يتعد فيها أن المعير قد
[ 261 ]
ائتمن المستعير عليها حين دفعها إليه وإذا كان أمينا لم يلزمه ضمانها لأنا روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا ضمان على مؤتمن وذلك عموم في نفي الضمان عن كل مؤتمن وأيضا لما كانت مقبوضة بإذن مالكها لا على شرط الضمان لم يضمنها كالوديعة وأيضا قد اتفق الجميع على نفي ضمان الثوب المستأجر مع شرط بذل المنافع إذا لم يشترط عليه ضمان بدل المقبوض فالعارية أولى أن لا تكون مضمونة إذ ليس فيها ضمان مشروط بوجه ومن جهة أخرى أن المقبوض على وجه الإجارة مقبوض لاستيفاء المنافع ولم يكن مضمونا فوجب أن لا تضمن العارية إذ كانت مقبوضة لاستيفاء المنافع وأيضا لما كانت الهبة غير مضمونة على الموهوب له لأنها مقبوضة بإذن مالكها لا على شرط ضمان البدل وهي معروف وتبرع وجب أن تكون العارية كذلك إذ هي معروف وتبرع وأيضا قد اتفق الجميع على أن العارية لو نقصت بالاستعمال لم يضمن النقصان فإذا كان الجزء منها غير مضمون مع حصول القبض عليه وجب أن لا يضمن الكل لأن ما تعلق ضمانه بالقبض لا يختلف فيه حكم الكل والبعض كالغصب والمقبوض ببيع فاسد فلما اتفق الجميع على أن الجزء الفائت بالنقصان غير مضمون وجب أن لا يضمن الجميع كالودائع وسائر الأمانات وقد اختلف في ألفاظ حديث صفوان بن أمية في العارية فذكر بعضهم فيه الضمان ولم يذكره بعضهم وروى شريك عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن أمية بن صفوان بن أمية عن أبيه قال استعار النبي صلى الله عليه وسلم من صفوان أدراعا من حديد يوم حنين فقال له يا محمد مضمونة فقال مضمونة فضاع بعضها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إن شئت غرمناها لك فقال أنا أرغب في الإسلام من ذلك يا رسول الله ورواه إسرائيل عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن صفوان بن أمية قال استعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية أدراعا فضاع بعضها فقال إن شئت غرمناها لك فقال لا يا رسول الله فوصله شريك وذكر فيه الضمان وقطعه إسرائيل ولم يذكر الضمان وروى قتادة عن عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان بن أمية دروعا يوم حنين فقال له أمؤداة يا رسول الله العارية فقال نعم وروى جرير عن عبد العزيز بن رفيع عن أناس من آل عبد الله بن صفوان قال أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغزو حنينا وذكر الحديث من غير ذكر ضمان ويقال أنه ليس في رواة هذا الحديث أحفظ ولا أتقن ولا أثبت من جرير بن عبد الحميد ولم يذكر الضمان ولو تكافأت الرواة فيه حصل مضطربا وقد روي في أخبار أخر من طريق أبي أمامة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال العارية مؤداة وإن صح ذكر الضمان في حديث صفوان فإن معناه ضمان الأداء كما
[ 262 ]
روي في بعض ألفاظ حديث صفوان أنه قال هي مضمونة حتى أؤديها إليك وكما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا القريابي قال حدثنا قتيبة قال حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن أبي هند أن أول ما ضمنت العارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لصفوان أعرنا سلاحك وهي علينا ضمان حتى نأتيك بها فثبت بذلك أنه إنما شرط له ضمان الرد وذلك لأن صفوان كن حربيا كافرا في ذلك الوقت فظن أنه يأخذها على جهة استباحة ماله كسائر أموال الحربيين ولذلك قال له أغصبا تأخذها يا محمد فقال لا بل عارية مضمونة حتى أؤديها إليك وعارية مؤداة فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأخذها على أنها عارية مؤداة وأنه ليس يأخذها على سبيل ما تؤخذ عليه أموال أهل الحرب وهو كقول القائل أنا ضامن لحاجتك يعني القيام بها والسعي فيها حتى يقضيها قال الشاعر يصف ناقة بتلك قبل أسلي حاجة إن ضمنتها * يحيى وأبرئ هما كان في الصدر داخلا قال أهل اللغة في قوله إن ضمنتها يعني إن هممت وأردتها وأيضا فإنا نسلم للمخالف صحة الخبر بما روي فيه من الضمان ونقول أنه لا دلالة فيه على موضع الخلاف وذلك لأنه قال عارية مضمونة فجعل الأدراع التي قبضها مضمونة وهذا يقتضي ضمان عينها بالرد لا ضمان قيمتها إذ لم يقل أضمن قيمتها وغير جائز صرف اللفظ عن الحقيقة إلى الماز وكان إلا بدلالة وأيضا فيما ادعى المخالف إثبات ضمير في اللفظ لا دلالة عليه وهو ضمان القيمة ولا يجوز إثباته إلا بدلالة ويدل على أنها لم تكن مضمونة ضمان القيمة عند الهلاك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فقد منها أدراعا قال لصفوان إن شئت غرمناها لك فلو كان ضمان القيمة قد حصل عليه لما قال إن شئت غرمناها لك وهو غارم فدل ذلك على أن الغرم لم يجب بالهلاك وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد أن يغرمها إذا شاء ذلك صفوان متبرعا بالغرم ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما استقرض عن عبد الله بن ربيعة ثلاثين ألفا في هذه الغزاة أيضا ثم أراد أن يردها إلى عبد الله أبى عبد الله أن يقبلها فقال له خذها فإن جزاء القرض الوفاء والحمد فلو كان الغرم لازما فيما فقد من الأدراع لما قال إن شئت غرمناها لك ويدل على أنه لم يكن ضامنا لقيمة ما فقد أنه قال لا فإن في قلبي اليوم من الإيمان ما لم يكن قبل وفي ذلك دليل على أنها لم تكن مضمونة القيمة لأن ما كان مضمونا لا يختلف حكمه في الإيمان والكفر وقال بعض شيوخنا إن صفوان لما كان حربيا جاز أن يشرط له ذلك إذ قد يجوز فيما بيننا وبين أهل الحرب من الشروط مالا يجوز فيما بيننا بعضنا لبعض ألا ترى أنه يجوز أن يرتهن منهم الأحرار ولا يجوز مثله فيما بيننا أو كان
[ 263 ]
أبو الحسن الكرخي يأبى هذا التأويل ويقول لا يصح شرط الضمان لأهل الحرب فيما ليس بمضمون ألا ترى أنا لو شرطنا لهم ضمان الودائع والمضاربات ونحوها لم يصح ؟ واحتج من قال بضمان العارية بما رواه شعبة وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليد ما أخذت حتى تؤديه ولا دلالة في هذا الحديث أيضا على موضع الخلاف لأنه إنما أوجب رد المأخوذ بعينه وليس فيه ذكر ضمان القيمة عند هلاكه ونحن نقول أن عليه رد العارية فهذا لا خلاف فيه ولا تعلق له أيضا بموضع الخلاف والله تعالى أعلم بالصواب باب ما أمر الله تعالى به من الحكم بالعدل قال روى الله تعالى حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل تعالى إن الله يأمر بالعدل والإحسان وقال تعالى وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا عبد الله بن موسى بن أبي عثمان قال حدثنا عبيد بن حباب الحلي قال حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال عن إسحاق بن يحيى بن طلحة بن عبيدالله قال قال ثابت الأعرج أخبرني أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت صدقت وإذا حكمت عدلت وإذا استرحمت رحمت وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا عبد الرحمن المقري عن كهمس بن الحسن عن عبد الله الأسلمي قال شتم رجل ابن عباس فقال له ابن عباس إنك لتشتمني وفي ثلاث خصال إني لآتي على الآية من كتاب الله تعالى فلوددت بالله أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به ولعلي لا أقاضي إليه أبدا وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح به ومالي من سائمة وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا الحارث بن أبي اسامة قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن قال إن الله أخذ على الحكام ثلاثا أن لا يتبعوا الهوى وأن يخشوه ولا يخشوا الناس وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا ثم قرأ يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى وقال الله تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا إلى قوله تعالى فلا تخشوا الناس واخشوني ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [ المائدة: 44 ].
[ 264 ]
باب في طاعة أولي الأمر قال الله تعالى أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم قال أبو بكر اختلف في تأويل أولي الأمر فروي عن جابر بن عبد الله وابن عباس رواية والحسن وعطاء ومجاهد أنهم أولوا الفقه والعلم وعن ابن عباس رواية وأبي هريرة أنهم أمراء السرايا ويجوز أن يكونوا جميعا مرادين بالآية لأن الاسم يتناولهم جميعا لأن الأمراء يلون أمر تدبير الجيوش والسرايا وقتال العدو والعلماء يلون حفظ الشريعة وما يجوز مما لا يجوز فأمر الناس بطاعتهم والقبول منهم ما عدل الأمراء والحكام وكان العلماء عدولا مرضيين موثوقا بدينهم وأمانتهم فيما يؤدون وهو نظير قوله تعالى فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ومن الناس من يقول إن الأظهر من أولي الأمر ههنا أنهم الأمراء لأنه قدم ذكر الأمر بالعدل وهذا خطاب لمن يملك تنفيذ الأحكام وهم الأمراء والقضاة ثم عطف عليه الأمر بطاعة أولي الأمر وهم ولاة الأمر الذين يحكمون عليهم ما داموا عدولا مرضيين وليس يمتنع أن يكون ذلك أمرا بطاعة الفريقين من أولي الأمر وهم أمراء السرايا والعلماء إذ ليس في تقدم الأمر بالحكم بالعدل ما يوجب الاقتصار بالأمر بطاعة أولي الأمر على ا لأمراء دون غيرهم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أطاع أميري فقد أطاعني وروى الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيف من منى فقال نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه لا فقه له ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله تعالى وقال بعضهم وطاعة ذوي الأمر وقال بعضهم والنصيحة لأولي الأمر ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من وراءهم والأظهر من هذا الحديث أنه أراد بأولي الأمر الأمراء وقوله تعالى عقيب ذلك فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول يدل على أن أولي الأمر هم الفقهاء لأنه أمر سائر الناس بطاعتهم قم قال (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول فأمر أولي الأمر برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إذا كانت العامة ومن ليس من أهل العلم ليست هذه منزلتهم لأنهم لا يعرفون كيفية الرد إلى كتاب الله والسنة ووجوه دلائلهما ولم على أحكام الحوادث فثبت أنه خطاب للعلماء
[ 265 ]
مطلب: في إبطال قول الرافضة أن يكون الامام معصوما واستدل بعض أهل العلم على إبطال قول الرافضة في الإمامة بقوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم قال فليس يخلو أولو الأمر من أن يكونوا الفقهاء أو الأمراء أو الإمام الذي يدعونه فإن كان المراد الفقهاء والأمراء فقد بطل أن يكون الإمام والفقهاء والأمراء يجوز عليهم الغلط والسهو والتبديل والتغيير وقد أمرنا بطاعتهم وهذا يبطل أصل الإمامة فإن شرط الإمامة عندهم أن يكون معصوما لا يجوز عليه الغلط والخطأ والتبديل والتغيير ولا يجوز أن يكون المراد الإمام لأنه قال في نسق الخطاب فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول فلو كان هناك إمام مفروض الطاعة لكان الرد إليه واجبا وكان هو يقطع الخلاف والتنازع فلما أمر برد المتنازع فيه من الحوادث إلى الكتاب والسنة دون الإمام دل ذلك على بطلان قولهم في الإمامة ولو كان هناك إمام تجب طاعته لقال فردوه إلى الإمام لأن الإمام عندهم هو الذي يقضي قوله على تأويل الكتاب والسنة فلما أمر بطاعة أمراء السرايا والفقهاء وأمر برد المتنازع فيه من الحوادث إلى الكتاب والسنة دون الإمام ثبت أن الإمام غير مفروض الطاعة في أحكام الحوادث المتنازع فيها وأن لكل واحد من الفقهاء أن يردها إلى نظائرها من الكتاب والسنة وزعمت هذه الطائفة أن المراد بقوله تعالى لم الأمر منكم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهذا تأويل فاسد لأن أولي الأمر جماعة وعلي بن أبي طالب رجل واحد وأيضا فقد كان الناس مأمورين بطاعة أولي الأمر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن علي بن أبي طالب لم يكن إماما في أيام النبي صلى الله عليه وسلم فثبت أن أولي الأمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أمراء وقد كان المولى عليهم طاعتهم ما لم يأمروهم بمعصية وكذلك حكمهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم في لزوم اتباعهم وطاعتهم ما لم تكن معصية مطلب: في بيان المراد من قوله تعالى: (فردوه إلى الله والرسول) قوله تعالى تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول روى مجاهد وقتادة وميمون بن مهران والسدي إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر وذلك عموم في وجوب الرد إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في حياة النبي وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم والرد إلى الكتاب والسنة يكون من وجهين أحدهما إلى المنصوص عليه المذكور باسمه ومعناه الثاني الرد إليهما من الدلالة عليه واعتباره به من طريق القياس والنظائر وعموم اللفظ ينتظم الأمرين جميعا فوجب إذا تنازعنا في شئ رده إلى نص
[ 266 ]
الكتاب والسنة إن وجدنا المتنازع فيه منصوصا على حكمه في الكتاب والسنة وإن لم نجد فيه نصا منهما وجب رده إلى نظيره منهما لأنا مأمورون بالرد في كل حال إذ لم يخصص الله تعالى الأمر بالرد إليهما بين في حال دون حال وعلى أن الذي يقتضيه فحوى الكلام وظاهره الرد إليهما فيما لا نص فيه وذلك لأن المنصوص عليه الذي لا احتمال فيه لغيره لا يقع التنازع فيه من الصحابة مع علمهم باللغة ومعرفتهم بما فيه احتمال مما لا احتمال فيه فظاهر ذلك يقتضي رد المتنازع فيه إلى نظائره من الكتاب والسنة فإن قيل إنما المراد بذلك ترك التنازع والتسليم لما في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل إن ذلك خطاب للمؤمنين لأنه قال تعالى أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول كان تأويله ما ذكرت فإن معناه اتبعوا كتاب الله وسنة نبيه وأطيعوا الله ورسوله وقد علمنا أن كل من آمن ففي اعتقاده للإيمان اعتقاد لالتزام حكم الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فيؤدي ذلك إلى إبطال فائدة قوله تعالى فردوه إلى الله والرسول وعلى أن ذلك قد تقدم الأمر به في أول الآية وهو قوله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فغير جائز حمل معنى قوله تعالى إلى الله والرسول) على ما قد أفاده بديا في أول الخطاب ووجب حمله على فائدة محددة وهو رد غير المنصوص عليه وهو ا لذي وقع فيه التنازع إلى المنصوص عليه وعلى أنا نرد جميع المتنازع فيه إلى الكتاب السنة بحق العموم ولا نخرج منه شيئا بغير دليل مطلب: يجوز الاجتهاد في حالين مع وجوده صلى الله عليه وسلم فإن قيل لما كانت الصحابة مخاطبين بحكم هذه الآية عند التنازع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وكان معلوما أنه لم يكن يجوز لهم استعمال الرأي والقياس في أحكام الحوادث بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم بل كان عليهم التسليم له واتباع أمره دون تكلف الرد من طريق القياس ثبت أن المراد استعمال المنصوص وترك تكلف النظر والاجتهاد فيما لا نص فيه قيل له هذا غلط وذلك لأن استعمال الرأي والاجتهاد ورد الحوادث إلى نظائرها من المنصوص قد كان جائزا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في حالين ولم يكن يجوز في حال: فأما الحالان اللتان كان يجوز فيهما الاجتهاد في حياة صلى الله عليه وسلم فإحداهما في حال غيبتهم عن حضرته كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذا حين بعثه إلى اليمن فقال له كيف تقضي إن عرض لك قضاء قال أقضي بكتاب الله قال فإن لم يكن في كتاب الله قال أقضي بسنة نبي الله قال فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله قال أجتهد رأيي لا ألو قال فضرب بيده على صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول
[ 267 ]
رسول الله لما يرضي رسول الله فهذه إحدى الحالين اللتين كان يجوز الاجتهاد فيهما في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والحال الأخرى أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد بحضرته ورد الحادثة إلى نظائرها ليستبرئ حاله في اجتهاده وهل هو موضع لذلك ولكن إن أخطأ وترك طريق النظر أعلمه وسدده وكان يعلمهم وجوب الاجتهاد في أحكام الحوادث بعده فالاجتهاد بحضرته على هذا الوجه سائغ كما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أسلم بن سهل قال حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله قال حدثنا أبي عن حفص بن سليمان عن كثير بن شنظير عن أبي العالية عن عقبة بن عامر قال جاء خصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اقض بينهما يا عقبة قلت يا رسول الله أقضي بينهما وأنت حاضر قال اقض بينهما فإن أصبت فلك عشر حسنات وإن أخطأت فلك حسنة واحدة فأباح له النبي صلى الله عليه وسلم الاجتهاد بحضرته على الوجه الذي ذكرنا وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وعقبة بن عامر بالاجتهاد صدر عندنا عن الآية وهو وقوله تعالى فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول لأنا متى وجدنا من النبي صلى الله عليه وسلم حكما مواطئا لمعنى قد ورد به القرآن حملناه على أنه حكم به عن القرآن وأنه لم يكن حكما مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم كنحو قطعه السارق وجلده الزاني وما جرى مجراهما فقول القائل إن الاجتهاد في أحكام الحوادث لم يكن سائغا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأن رد المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة كان واجبا حينئذ فدل على أن المراد به ترك الاختلاف والتنازع والتسليم للمنصوص عليه في الكتاب والسنة غير صحيح وأما الحال التي لم يكن يسوغ الاجتهاد فيه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فهو أن يجتهد بحضرته على جهة إمضاء الحكم والاستبداد بالرأي لا على الوجه الذي قدمناه فهذا لعمري اجتهاد مطرح لا حكم له ولم يسوغ ذلك لأحد والله أعلم باب وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى الله وأطيعوا الرسول وقال تعالى وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله وقال تعالى يطع الرسول فقد أطاع الله وقال تعالى وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما فأكد جل وعلا بهذه الآيات وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبان أن طاعته إطاعة الله وأفاد بذلك أن معصيته معصية الله وقال الله تعالى الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) [ النور: 63 ]، فأوعد على مخالفة أمر الرسول وجعل مخالف أمر الرسول والممتنع من تسليم ما جاء به والشاك فيه خارجا من الإيمان بقوله تعالى وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)
[ 268 ]
قيل في الحرج ههنا إنه الشك روي ذلك عن مجاهد وأصل الحرج الضيق وجائز أن يكون المراد التسليم من غير شك في وجوب تسليمه ولا ضيق صدر به بل بانشراح صدر وبصيرة ويقين وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئا من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام سواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والإمتناع من التسليم وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة وقتلهم وسبي ذراريهم لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي صلى الله عليه وسلم قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان فإن قيل إذا كانت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة الله تعالى فهلا كان أمر الرسول أمر الله تعالى قيل له إنما كانت طاعته طاعة الله بموافقتها إرادة كل واحد منهما أوامره وأما الأمر فهو قول القائل افعل ولا يجوز أن يكون أمرا وأحد الآمرين كما لا يكون فيه قول واحد من قائلين ولا فعل واحد من فاعلين قوله تعالى أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا) قيل الثبات الجماعات واحدها ثبة وقيل الثبة عصبة منفردة من عصب فأمرهم الله بأن ينفروا فرقة بعد فرقة في جهة وفرقة في جهة أو ينفروا جميعا من غير تفرق وروى ذلك عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وقوله تعالى (خذوا حذركم معناه خذوا سلاحكم فسمى السلاح حذرا لأنه يتقى به الحذر ويحتمل احذروا عدوكم بأخذ سلاحكم كقوله تعالى حذرهم واسلحتهم [ النساء: 102 ] حديث فانتظمت هذه الآية الأمر بأخذ السلاح لقتال العدو على حال افتراق العصب أو اجتماعها بما هو أولى في التدبير والنفور هو الفزع نفر ينفر نفورا إذا فزع ونفر إليه إذا فزع من أمر إليه والمعنى انفروا إلى قتال عدوكم والنفر جماعة تفزع إلى مثلها والنفير إلى قتال العدو والمنافرة المحاكمة للفزع إليها فيما ينوب من الأمور التي يختلف فيها ويقال إن أصلها أنهم كانوا يسئلون الحاكم أينا أعز نفرا وقد روي في هذه الآية نسخ روى ابن جريج وعثمان بن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى ثبات أو انفروا جميعا قال عصبا وفرقا وقال في براءة (انفروا خفافا وثقالا وقالي إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما) [ براءة: 39 ] الاية قال فنسخ هذه الآيات قوله تعالى وما كان المؤمنون لينفروا كافة
[ 269 ]
فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة وتمكث طائفة منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فالماكثون مع النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين يتفقهون في الدين وينذرون إخوانهم إذا رجعوا إليهم من الغزوات لعلهم يحذرون ما نزل من قضاء الله في كتابه وحدوده قوله تعالى يقاتلون في سبيل الله قيل عند في سبيل الله في طاعة الله لأنها تؤدي إلى ثواب الله في جنته التي أعدها لأوليائه وقيل دين الله الذي شرعه ليؤدي إلى ثوابه ورحمته فيكون تقديره في نصرة دين الله تعالى وقيل في الطاغوت أنه الشيطان قاله الحسن والشعبي وقال أبو العالية هو الكاهن وقيل كل ما عبد من دون الله وقوله تعالى إن كيد الشيطان كان ضعيفا الكيد هو السعي في فساد الحال على جهة الإحتيال والقصد لإيقاع الضرر قال الحسن إنما قال إن كيد الشيطان كان ضعيفا لأنه كان أخبرهم أنهم يستظهرون عليهم فلذلك كان ضعيفا وقيل إنما سماه ضعيفا لضعف نصرته لأوليائه إلى نصرة الله للمؤمنين قوله تعالى ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا فإن الاختلاف على ثلاثة أوجه اختلاف تناقض بأن يدعو أحد الشيئين إلى فساد الآخر واختلاف تفاوت وهو أن يكون بعضه بليغا وبعضه مرذولا ساقطا وهذان الضربان من الاختلاف منفيان عن القرآن وهو إحدى دلالات إعجازه لأن كلام سائر الفصحاء والبلغاء إذا طال مثل السور الطوال من القرآن لا يخلو من أن يختلف اختلاف التفاوت والثالث اختلاف التلاؤم هو أن يكون الجميع متلائما في الحسن كاختلاف وجوه القراءات ومقادير الآيات واختلاف الأحكام في الناسخ والمنسوخ فقد تضمنت الآية الحض على الإستدلال بالقرآن لما فيه من وجوه الدلالات على الحق الذي يلزم اعتقاده والعمل به قوله تعالى ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم الحسن وقتادة وابن أبي ليلى هم أهل العلم والفقه وقال السدي الأمراء والولاة قال أبو بكر يجوز أن يريد به الفريقين من أهل الفقه والولاة لوقوع الاسم عليهم جميعا فإن قيل أولو الأمر من يملك الأمر بالولاية على الناس وليست هذه صفة أهل العلم قيل له إن الله تعالى لم يقل من يملك الأمر بالولاية على الناس وجائز أن يسمي الفقهاء أولي الأمر لأنهم يعرفون أوامر الله ونواهيه ويلزم غيرهم قبول قولهم فيها فجائز أن يسموا أولي الأمر من هذا الوجه كما قال في آية أخرى (ليتفقهوا
[ 270 ]
في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون فأوجب الحذر بإنذارهم وألزم المنذرين قبول قولهم فجاز من أجل ذلك إطلاق اسم أولي الأمر عليهم والأمراء أيضا يسمون بذلك لنفاذ أمورهم على من يلون عليه وقوله تعالى الذين يستنبطونه منهم فإن الإستنباط هو الإستخراج ومنه استنباط المياه والعيون فهو اسم لكل ما استخرج حتى تقع عليه رؤية العيون أو معرفة القلوب والإستنابط لأنه في الشرع نظير الإستدلال والإستعلام مطلب: فيما دلت عليه هذه الاية من وجوب القول بالقياس وفي هذه الاية دلالة على وجوب القول بالقياس واجتهاد الرأي في أاحكام الحوادث وذلك لأنه أمر برد الحوادث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته إذا كانوا بحضرته وإلى العلماء بعد وفاته والغيبة عن حضرته صلى الله عليه وسلم وهذا لا محالة فيما لا نص فيه لأن المنصوص عليه لا يحتاج إلى استنباطه فثبت بذلك أن أحكام الله ما هو منصوص عليه ومنها ما هو مودع في النص قد كلفنا الوصول إلى الإستدلال عليه واستنباطه فقد حوت هذه الآية معاني منها أن في أحكام الحوادث ما ليس بمنصوص عليه بل مدلول عليه ومنها أن على العلماء استنباطه والتوصل إلى معرفته برده إلى نظائره من المنصوص ومنها أن العامي عليه تقليد العلماء في أحكام الحوادث ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان مكلفا باستنباط الأحكام والإستدلال عليها بدلائلها لأنه تعالى أمر بالرد إلى الرسول وإلى أولي الأمر ثم قال لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولم يخص أولي الأمر بذلك دون الرسول وفي ذلك دليل على أن للجميع الاستنباط والتوصل إلى معرفة الحكم بالاستدلال فإن قيل ليس هذا استنباطا في أحكام الحوادث وإنما هو في الأمن والخوف من العدو لقوله تعالى جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم فإنما ذلك في شأن الأراجيف التي كان المنافقون يرجفون بها فأمرهم الله بترك العمل بها ورد ذلك إلى الرسول وإلى الأمراء حتى لا يفتوا في أعضاد المسلمين إن كان شيئا يوجب الخوف وإن كان شيئا يوجب الأمن لئلا يأمنوا فيتركوا الاستعداد للجهاد والحذر من الكفار فلا دلالة في ذلك على جواز الاستنباط في أحكام الحوادث قيل له قوله تعالى جاءهم أمر من الأمن أو الخوف ليس بمقصور على أمر العدو لأن الأمن والخوف قد يكونان فيما
[ 271 ]
يتعبدون به من أحكام الشرع فيما يباح ويحظر وما يجوز وما لا يجوز ذلك كله من الأمن والخوف فإذا ليس في ذكره الأمن والخوف دلالة على وجوب الاقتصار به على ما يتفق من الأراجيف بالأمن والخوف في أمر العدو بل جائز أن يكون عاما في الجميع وحظر به على العامي أن يقول في شئ من حوادث الأحكام ما فيه حظر أو إباحة أو إيجاب أو غير ذلك وألزمهم رده إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ليستنبطوا حكمه بالاستدلال عليه بنظائره من المنصوص وأيضا فلو سلمنا لك أن نزول الآية مقصور على الأمن والخوف من العدو لكانت دلالته قائمة على ما ذكرنا لأنه إذا جاز استنباط تدبير الجهاد ومكايد العدو بأخذ الحذر تارة والإقدام في حال والإحجام في حال أخرى وكان جميع ذلك مما تعبدنا الله به ووكل الأمر فيه إلى آراء أولي الأمر واجتهادهم فقد ثبت وجوب الاجتهاد في أحكام الحوادث من تدبير الحروب ومكايد العدو وقتال الكفار فلا فرق بينه وبين الاجتهاد والاستدلال على النظائر من سائر الحوادث من العبادات وفروع الشريعة إذ كان جميع ذلك من أحكام الله تعالى ويكون المانع من الاجتهاد والاستنباط في مثله كمن أباح الاستنباط في البيوع خاصة ومنعه في المناكحات أو أباحه في الصلاة ومنعه في المناسك وهذا خلف من القول فإن قيل ليس الاستنباط مقصور على القياس واجتهاد الرأي دون الاستدلال بالدليل الذي لا يحتمل في اللغة إلا معنى واحدا قيل له الدليل الذي لا يحتمل في اللغة إلا معنى واحدا لا يقطع بين أهل اللغة فيه تنازع إذ كان أمرا معقولا في اللفظ فهذا ليس باستنباط بل هو في مفهوم الخطاب وذلك عندنا نحو قوله تعالى تقل لهما أف أنه لا دلالة على النهي عن الضرب والشم والقتل ونحوه وهذا لا يقع في مثله خلاف فإن أردت بالدليل الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا هذا الضرب من دلائل الخطاب فإن هذا لا تنازع فيه ولا يحتاج إلى استنباط وإن أردت بالدليل تخصيص الشئ بالذكر فيكون دلالة على أن ما عداه فحكمه بخلافه فإن هذا ليس بدليل وقد بيناه في أصول الفقه ولو كان هذا ضربا من الدليل لما غفلته الصحابة ولا استدلت به على أحكام الحوادث ولو فعلوا هذا لاستفاض ذلك عنهم وظهر فلما لم ينقل ذلك عنهم دل على سقوط قولك وأيضا لو كان هذا ضربا من الإستدلال لم يمنع ذلك إيجاب الاستنباط فيما لا طريق إليه إلا من جهة الرأي والقياس إذ ليس يوجد في كل حادثة هذا الضرب من الدلالة وقد أمرنا باستنباط سائر ما لا نص فيه فما لم نجد فيه من الحوادث هذا الضرب من الدليل فعلينا استنباط حكمه من طريق القياس والاجتهاد إذ لا سبيل لنا إليه إلا من هذه الجهة
[ 272 ]
فإن قيل لما قال الله تعالى الذين يستنبطونه منهم يكن دليل القياس مفضيا بنا إلى العلم بمدلوله إذ كان القائس يجوز على نفسه الخطأ ولا يجوز القطع بأن ما أداه إليه قياسه واجتهاده هو الحق عند الله علمنا أنه لم يرد الاستنباط من طريق القياس والاجتهاد قيل له قولك إن القائس لا يقطع بأن قياسه هو الحق عند الله خطأ لا نقول به وذلك أن ما كان طريقه الاجتهاد فإن المجتهد ينبغي له أن يقطع بأن ما أداه إليه اجتهاده هو الحق عند الله وهذا عندنا علم منه بأن هذا حكم الله عليه فاستنباطه حكم الحوادث من طريق الاجتهاد يوجب العلم بصحة موجبه وما أداه إليه اجتهاده وهذه الآية أيضا تدل على بطلان قول القائلين بالإمامة لأنه لو كان كل شئ من أحكام الدين منصوصا عليه لعرفه الإمام ولزال موضع الإستنباط وسقط الرد إلى أولي الأمر بل كان الواجب الرد إلى الإمام الذي يعرف صحة ذلك من باطله من جهة النص وقوله تعالى وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها قال أهل اللغة التحية الملك ومنه قول الشاعر أسير به إلى النعمان حتى * أتيح على تحيته بجند يعني عن ملكه ومعنى قولهم حياك الله أي ملكك الله ويسمى السلام تحية أيضا لأنهم كانوا يقولون حياك الله فأبدلوا منه بعد الإسلام بالسلام وأقيم مقام قولهم حياك الله قال أبو ذر كنت أول من حيى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحية الإسلام فقلت السلام عليك ورحمة الله وقال النابغة يحيون بالريحان يوم السباسب يعني أنهم يعطون الريحان ويقال لهم حياكم الله والأصل فيه ما ذكرنا من أنه ملكك الله فإذا حملنا قوله تعالى وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) على حقيقته أفاد أن من ملك غيره شيئا بغير بدل فله الرجوع فيه ما لم يثبت منه فهذا يدل على صحة قول أصحابنا فيمن وهب لغير ذي رحم أن له الرجوع فيها ما لم يثبت منها فإذا أثيب منها فلا رجوع له فيها لأنه أوجب أحد شيئين من ثواب أو رد لما جئ به وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجوع في الهبة ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا سليمان بن داود المهري قال أخبرنا ابن وهب قال أخبرني أسامة بن
[ 273 ]
زيد أن عمرو بن شعيب حدثه عن أبيه عن جده عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مثل الذي يسترد ما وهب كمثل الكلب يقئ فيأكل قيئه فغذا استرد الواهب فليوقف وليعرف بما استرد ثم ليدفع إليه ما وهب وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا وكيع عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن عمرو بن دينار عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل أحق بهبته ما لم يثبت منها وروى ابن عباس وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يحل لرجل يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده ومثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب يأكل فإذا شبع قاء ثم عاد في قيئه وهذا الخبر يدل على معنيين أحدهما صحة الرجوع في الهبة والآخر كراهته وأنه من لؤم الأخلاق ودناءتها في العادات وذلك لأنه شبه الراجع في الهبة بالكلب يعود في قيئه وهو يدل من وجهين على ما ذكرنا أحدهما أنه شبهه بالكلب إذا عاد في قيئه ومعلوم أنه ليس بمحرم على الكلب فما شبه به فهو مثله والثاني أنه لو كان الرجوع في الهبة لا يصح بحال لما شبه الراجع بالكلب العائد في القئ لأنه لا يجوز تشبيه ما لا يقع بحال بما قد صح وجوده وهذا يدل أيضا على صحة الرجوع في الهبة مع استقباح هذا الفعل وكراهته وقد روي الرجوع في الهبة لغير ذي الرحم المحرم عن علي وعمر وفضالة بن عبيد من غير خلاف من أحد من الصحابة رضي الله عنهم عليهم وقد روي عن جماعة من السلف أن ذلك في رد السلام منهم جابر بن عبد الله وقال الحسن السلام تطوع ورده فريضة وذكر الآية ثم اختلف في أنه خاص في أهل الإسلام أو عام في أهل الإسلام وأهل الكفر فقال عطاء هو في اهل الإسلام خاصة وقال ابن عباس وإبراهيم وقتادة هو عام في الفريقين وقال الحسن تقول للكافر وعليكم ولا تقل ورحمة الله لأنه لا يجوز الاستغفار للكفار وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تبدؤا اليهود بالسلام فإن بدؤكم فقولوا وعليكم وقال أصحابنا رد السلام فرض على الكفاية إذا سلم على جماعة فرد واحد منهم أجزأ وأما قوله تعالى سعيد منها إذا أريد رد السلام فهو الزيادة في الدعاء وذلك إذا قال السلام عليكم يقول هو وعليكم السلام
[ 274 ]
ورحمة الله وإذا قال السلام عليكم ورحمة الله قال هو وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته قوله تعالى فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا روي عن ابن عباس أنها نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة وكانوا يعينون المشركين على المسلمين وروي مثله عن قتادة وقال الحسن ومجاهد نزلت في قوم قدموا بالمدينة فأظهروا الإسلام ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك وقال زيد بن ثابت نزلت في الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وقالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم وفي نسق الآية دلالة على خلاف هذا التأويل الأخير وأنهم من أهل مكة وهو قوله تعالى فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله) وقوله تعالى أركسهم قال ابن عباس ردهم وقال قتادة أركسهم أهلكهم وقال غيرهم أركسهم نكسهم قال الكسائي أركسهم وركسهم بمعنى وإنما المعنى ردهم في حكم الكفار من الصغار والذلة وقيل من السبي والقتل لأنهم أظهروا الارتداد بعدما كانوا على النفاق وإنما وصفوا بالنفاق وقد أظهروا الارتداد عن الإسلام لأنهم نسبوا إلى ما كانوا عليه قبل من إضمار الكفر قاله الحسن وقال النحويون هذا يحسن مع علم التعريف وهو الألف واللام كما تقول هذه العجوز هي الشابة يعني هي التي كانت شابة ولا يجوز هذه شابة فأبان تعالى للمسلمين بهذه الآية عن أحوال هذه الطائفة من المنافقين إنهم يظهرون لكم الإسلام وإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا الكفر والردة ونهى المسلمين عن أن يحسنوا بهم الظن وأن يجادلوا عنهم قوله تعالى ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء يعني هذه الطائفة أخبر بذلك عن ضمائرهم واعتقاداتهم لئلا يحسن المؤمنون بهم الظن وليعتقدوا معاداتهم والبراءة منهم وقوله تعالى تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله يعني والله أعلم حتى يسلموا ويهاجروا لأن الهجرة بعد الإسلام وأنهم وإن أسلموا لم تكن بيننا وبينهم موالاة إلا بعد الهجرة وهو كقوله تعالى ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا وهذا في حال ما كانت الهجرة فرضا وقال النبي صلى الله عليه وسلم أنا برئ من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين وأنا برئ من كل مسلم اقام مع مشرك قيل ولم يا رسول الله قال لا تراءى نارهما فكانت الهجرة فرضا إلى أن فتحت مكة فنسخ فرض الهجرة حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا
[ 275 ]
عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استننفرتم فانفروا حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مؤمل بن الفضل قال حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن الزهري عن عطاء ابن يزيد عن أبي سعيد الخدري أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الهجرة فقال ويحك إن شأن الهجرة شديد فهل لك من إبل قال نعم قال (فهل تؤدى صدفتها ؟ فاعمل من وراء البحار فإن الله لن يترك من عملك شيئا فأباح النبي صلى الله عليه وسلم ترك الهجرة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن إسماعيل بن أبي خالد قال حدثنا عامر قال أتى رجل عبد الله بن عمرو فقال أخبرني بشئ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه وروي عن الحسن أن حكم الآية ثابت في كل من أقام في دار الحرب فرأى فرض الهجرة إلى دار الإسلام قائما وقوله تعالى واقتلوهم فإنه روي عن ابن عباس فإن تولوا عن الهجرة قال أبو بكر يعني والله أعلم فإن تولوا عن الإيمان والهجرة لأن قوله تعالى يهاجروا في سبيل الله قد انتظم الإيمان والهجرة جميعا وقوله فإن تولوا راجع إليها ولأن من أسلم حينئذ ولم يهاجر لم يجب قتله في ذلك الوقت فدل على أن المراد فإن تولوا عن الإيمان والهجرة فخذوهم واقتلوهم وقوله تعالى الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أبو عبيد يصلون بمعنى ينتسبون إليهم كما قال الأعشى إذا اتصلت قالت أبكر بن وائل * قد وبكر سبتها والأنوف رواغم وفي وقال زيد الخيل اتصلت كل تنادي يال قيس * وخصت بالدعاء بني كلاب قال أبو بكر الانتساب يكون بالرحم ويكون بالحلف وبالولاء وجائز أن يدخل فيه أيضا رجل في عهدهم على حسب ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش من الموادعة فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلت بنو كنانة في عهد قريش وقيل إن الآية منسوخة حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق إلى قوله تعالى
[ 276 ]
جعل الله لكم عليهم سبيلا وفي قوله تعالى ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم [ الممتحنة: 8 ] قال ثم نسخت هذه الآيات من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) [ براءة: 1 ] إلى قوله ونفضل الآيات لقوم يعلمون) وقال السدي في قوله إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق إلا الذين يدخلون في قوم بينكم وبينهم أمان فلهم منه مثل ما لهم وقال الحسن هؤلاء بنو مدلج كان بينهم وبين قريش عهد وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش عهد فحرم الله تعالى من بني مدلج ما حرم من قريش مطلب: إذا عقد الامام عهدا بينه وبين قوم يدخل من كان في حيزهم وأهل نصرتهم قال أبو بكر إذا عقد الإمام عهدا بينه وبين قوم من الكفار فلا محالة يدخل فيه من كان في حيزهم ممن ينسب إليهم بالرحم أو الحلف أو الولاء بعد أن يكون في حيزهم ومن أهل نصرتهم وأما من كان من قوم آخرين فإنه لا يدخل في العهد ما لم يشرط ومن شرط من أهل قبيلة أخرى دخوله في عهد المعاهدين فهو داخل فيهم إذا عقد العهد على ذلك كما دخلت بنو كنانة في عهد قريش وأما قول من قال إن ذلك منسوخ فإنما أراد أن معاهدة المشركين وموادعتهم منسوخة بقوله المشركين حيث وجدتموهم فهو كما قال لأن الله أعز الإسلام وأهله فأمروا أن لا يقبلوا من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف لقوله تعالى المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم فهذا حكم ثابت في مشركي العرب فنسخ به الهدنة والصلح وإقرارهم على الكفر وأمرنا في أهل الكتاب بقتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية بقوله تعالى الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) [ التوبة: 29 ] فغير جائز للإمام أن يقر أحدا من أهل سائر الأديان على الكفر من غير جزية وأما مشركو العرب فقد كانوا أسلموا في زمن الصحابة ورجع من ارتد منهم إلى الإسلام بعد ما قتل من قتل منهم فهذا وجه صحيح في نسخ معاهدة أهل الكفر على غير جزية والدخول في الذمة على أن تجري عليهم أحكامنا فكان ذلك حكما ثابتا بعد ما أعز الله الإسلام وأظهر أهله على سائر المشركين فاستغنوا بذلك عن العهد والصلح إلا أنه إن احتيج إلى ذلك في وقت لعجز المسلمين عن مقاومتهم أو خوف منهم على أنفسهم أو
[ 277 ]
ذراريهم جاز لهم مهادنة العدو ومصالحته من غير جزية يؤدونها إليهم لأن حظر المعاهدة والصلح إنما كان بسبب قوتهم على العدو واستعلائهم عليهم وقد كانت الهدنة جائزة مباحة في أول الإسلام وإنما حظرت لحدوث هذا السبب فمتى زال السبب وعاد الأمر إلى الحال التي كان المسلمون عليها من خوفهم العدو على أنفسهم عاد الحكم الذي كان من جواز الهدنة وهذا نظير ما ذكرنا من نسخ التوارث بالحلف والمعاقدة بذوي الأرحام فمتى لم يترك وارثا عاد التوارث بالمعاقدة قوله عز وجل أو جاؤكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم) قال الحسن والسدي ضاقت صدورهم على أن يقاتلوكم والحصر الضيق ومنه الحصر في القراءة لأنه ضاقت عليه المذاهب فلم يتوجه لقراءته ومنه المحصور في حبس أو نحوه وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال هلال بن عويمر الأسلمي هو الذي حصر صدره أن يقاتل المسلمين أو يقاتل قومه وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حلف قال أبو بكر ظاهره يدل على أن الذين حصرت صدورهم كانوا قوما مشركين محالفين للنبي صلى الله عليه وسلم ضاقت صدورهم أن يكونوا مع قومهم على المسلمين لما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من العهد وأن يقاتلوا مع المسلمين ذوي أرحامهم وأنسابهم فأمر الله تعالى المسلمين بالكف عن هؤلاء إذا اعتزلوهم فلم يقاتلوا المسلمين وإن لم يقاتلوا المشركين مع المسلمين ومن الناس من يقول إن هؤلاء كانوا قوما مسلمين كرهوا قتال قومهم من المشركين لما بينهم وبينهم من الرحم وظاهر الآية وما روي في تفسيرها يدل على خلاف ذلك لأن المسلمين لم يقاتلوا المسلمين قط في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وإن قعدوا عن القتال معهم ولا كانوا قط مأمورين بقتال أمثالهم وقوله تعالى ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم إن قاتلتموهم ظالمين لهم يدل على أنهم لم يكونوا مسلمين وقوله تعالى فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا يقتضي أن يكونوا مشركين إذ ليس ذلك من صفات أهل الإسلام فدل ذلك على أن هؤلاء كانوا قوما مشركين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم حلف فأمر الله تعالى نبيه أن يكف عنهم إذا اعتزلوا قتال المسلمين والمشركين وأن لا يكلفهم قتال قومهم من أهل الشرك أيضا والتسليط المذكور في الآية له وجهان أحدهما تقوية قلوبهم ليقاتلوكم والثاني إباحة القتال لهم في الدفع عن أنفسهم قوله تعالى ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم قال مجاهد
[ 278 ]
نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا وذكر أسباط عن السدي قال نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي وكان يأمن في المسلمين والمشركين فينقل الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين فقال (ستيجدوا آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم وظاهر الآية يدل على أنهم كانوا يظهرون الإيمان إذا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم إذا رجعوا إلى قومهم أظهروا الكفر لقوله تعالى كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها والفتنة ههنا الشرك وقوله أركسوا فيها يدل على أنهم قبل ذلك كانوا مظهرين للإسلام فأمر الله تعالى المؤمنين بالكف عن هؤلاء أيضا إذا اعتزلونا فلا وألقوا إلينا السلم وهو الصلح كما أمرنا بالكف عن الذين يصلون إلى قوم بيننا وبينهم ميثاق وعن الذين جاؤنا وقد حصرت صدورهم وكما قال في آية أخرى لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم منه وكما قال في سبيل الله الذين يقاتلونكم) [ البقرة: 190 ] فخص الأمر بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا ثم نسخ ذلك بقوله المشركين حيث وجدتموهم على ما قدمنا من الرواية عن ابن عباس ومن الناس من يقول إن هذه الآيات غير منسوخة وجائز للمسلمين ترك قتال من لا يقاتلهم من الكفار إذ لم يثبت أن حكم هذه الآيات في النهي عن قتال من اعتزلنا وكف عن قتالنا منسوخ وممن حكي عنه أن فرض الجهاد غير ثابت ابن شبرمة وسفيان الثوري وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى إلا أن هذه الآيات فيها حظر قتال من كف عن قتالنا من الكفار ولا نعلم أحدا من الفقهاء يحظر قتال من اعتزل قتالنا من المشركين وإنما الخلاف في جواز ترك قتالهم لا في حظره فقد حصل الإتفاق من الجميع على نسخ حظر القتال لمن كان وصفه ما ذكرنا والله الموفق للصواب باب قتل الخطأ قال الله تعالى كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ قال أبو بكر قد اختلف في معنى كان ههنا فقال قتادة معناه ما كان له ذلك في حكم الله وأمره وقال آخرون ما كان له سبب جواز قتله وقال آخرون ما كان له ذلك فيما سلف كما ليس له الآن
[ 279 ]
مطلب: في معنى الاستثناء في قوله تعالى: (إلا خطأ) وفيه فوائد شريفة واختلف أيضا في معنى إلا فقال قائلون هو استثناء منقطع بمعنى لكن قد يقتله فإذا وقع ذلك فحكمه كيت وكيت وهو كما قال النابغة وقفت فيها أصيلا لا أسائلها * عيت جوابا وما بالربع من أحد إلا الأواري لأياما أبينها * والنؤى كالحوض بالمظلومة الجلد وقال آخرون هو استثناء صحيح قد أفاد أن له أن يقتله خطأ في بعض الأحوال وهو أن يرى عليه سيما المشركين أو يجده في حيزهم فيظنه مشركا فجائز له قتله وهو خطأ كما روي عن الزهري عن عروة بن الزبير أن حذيفة بن اليمان قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فأخطأ المسلمون يومئذ بأبيه يحسبونه من العدو وكروا عليه بأسيافهم فطفق حذيفة يقول إنه أبي فلم يفهموا قوله حتى قتلوه فقال عند ذلك يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين فبلغت النبي صلى الله عليه وسلم فزادت حذيفة عنده خيرا ومن الناس من يقول معناه ولا خطأ لأن قتل المؤمن من غير مباح بحال قتال فغير جائز أن يكون الاستثناء محمولا على حقيقته وهذا ليس بشئ من وجهين أحدهما أن إلا لم توجد بمعنى ولا والثاني ما أنكره من امتناع إباحة قتل الخطأ موجود في حظره لأن الخطأ إن كان لا تصح إباحته لأنه غير معلوم عنده أنه خطأ فكذلك لا يصح حظره ولا النهي عنه وقال آخرون قد تضمن قوله وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ) إيجاب العقاب لقاتله لاقتضاء إطلاق النهي لذلك وأفاد بذلك استحقاق المأثم ثم قال (إلا خطأ فإنه لا مأثم على فاعله وإنما أدخل الاستثناء على ما تضمنه اللفظ من استحقاق المأثم وأخرج منه قاتل الخطأ والاستثناء مستعمل في موضعه على هذا القول غير معدول به عن وجهه وإنما دخل على المأثم المستحق بالقتل وأخرج قاتل الخطأ منه ولم يدخل على فعل القاتل فيكون مبيحا لما حظره بلفظ الجملة قال أبو بكر وهذا وجه صحيح سائغ وتأويل من تأوله على إباحة قتل الخطأ فيمن يظنه مشركا فإنه معلوم أنه لم يصح له ذلك إلا على الصفة المشروطة إن كان ذلك إباحة وهو أن يكون ذلك خطأ عند القاتل وإذا كان قتل المسلم الذي في حيز العدو قصد بالقتل لا يكون خطأ عند القاتل وإنما عنده أنه قتل عمد مأمور به فغير جائز أن يكون ذلك مراد الآية لأن الإباحة على قول هذا القائل لم يوجد شرطها وهو أن يكون
[ 280 ]
قتل خطأ عند القاتل ألا يرى أنه إذا قال لا تقتله عمدا اقتضى النهي قتلا بهذه الصفة عند القاتل وإذا قال لا تقتله بالسيف فإنما حظر عليه قتلا بهذه الصفة فكذلك قوله (إلا خطأ إذا كان قد اقتضى إباحة قتل الخطأ فواجب أن يكون شرط الإباحة أن يكون عنده أنه خطأ وذلك محال لا يجوز وقوعه لأن الخطأ هو الذي لا يعلم القاتل أنه مخطئ فيه والحال التي لا يعلمها لا يجوز أن يتعلق بها حظر ولا إباحة وقال أصحابنا القتل على أنحاء أربعة عمد وخطأ وشبه عمد وما ليس بعمد ولا خطأ ولا شبه عمد فالعمد ما تعمد ضربه بسلاح مع العلم بحال المقصود به والخطأ على ضربين أحدهما أن يقصد رمي مشرك أو طائر فيصيب مسلما والثاني أن يظنه مشركا لأنه في حيز أهل الشرك أو عليه لباسهم فالأول خطأ في الفعل والثاني خطأ في القصد وشبه العمد ما تعمد ضربه بغير سلاخ من حجر أو عصا وقد اختلف الفقهاء في ذلك وسنذكره إن شاء الله تعالى وأما ما ليس بعمد ولا شبه عمد ولا خطأ فهو قتل الساهي والنائم لأن العمد ما قصد إليه بعينه والخطأ أيضا الفعل فيه مقصود إلا أنه يقع الخطأ تارة في الفعل وتارة في القصد وقتل الساهي غير مقوصد أصلا فليس هو في حيز الخطأ ولا العمد إلا أن حكمه حكم الخطأ في الدية والكفارة قال أبو بكر وقد ألحق بحكم القتل في الحقيقة لا عمدا ولا غير عمد وذلك نحو حافر البئر وواضع الحجر في الطريق إذا عطب به إنسان هذا ليس بقاتل في الحقيقة إذ ليس له فعل في قتله لأن الفعل منا إما أن يكون مباشرة أو متولدا وليس من واضع الحجر وحافر البئر فعل في العاثر بالحجر والواقع في البئر لا مباشرة ولا تولدا فلم يكن قاتلا في الحقيقة ولذلك قال أصحابنا إنه لا كفارة عليه وكان القياس أن لا تجب عليه الدية ولكن الفقهاء متفقون على وجوب الدية فيه قال الله تعالى قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ولم يذكر في الآية من عليه الدية من القاتل أو العاقلة وقد وردت آثار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاب دية الخطأ على العاقلة واتفق الفقهاء عليه منها ما روى الحجاج عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم ويفكوا: عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين وروى ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب على كل بطن عقوله ثم كتب أنه لا يحل أن يتولى مولى رجل بغير إذنه وروى مجالد عن الشعبي عن جابر أن امرأتين من هذيل قتلت إحداهما الأخرى ولكل غير واحدة منهما زوج وولد فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة وترك زوجها
[ 281 ]
وولدها فقال عاقلة المقتولة ميراثها لنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا ميراثها لزوجها وولدها قال وكانت حبلى فألقت جنينا فخاف عاقلة القاتلة أن يضمنهم فقالودا يا رسول الله لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا سجع الجاهلية فقضى في الجنين غرة عبد أو أمة وروى محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين عبدا أو أمة فقال الذي قضي عليه العقل أنؤدي أحمد من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل فمثل ذلك بطل فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن هذا لقول الشاعر فيه غرة عبد أو أمة وروى عبد الواحد بن زياد عن مجالد عن الشعبي عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل في الجنين غرة على عاقلة القاتل وروى الأعمش عن إبراهيم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل العقل على العصبة وعن إبراهيم قال اختصم علي والزبير في ولاء موالي صفية إلى عمر فقضى بالميراث للزبير والعقل على علي رضي الله عنه وروي عن علي وعمر في قوم أجلوا عن قتيل أن الدية على بيت المال وعن عمر في قتيل وجد بين وداعة وحي آخر أنه قضى بالدية على العاقلة فقد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاب دية الخطأ على العاقلة واتفق السلف وفقهاء الأمصار عليه فإن قيل قال الله تعالى تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه وقال لأبي رمثة وابنه أنه لا يجني عليك ولا تجني عليه والعقول أيضا تمنع أخذ الإنسان بذنب غيره قيل له أما قوله تعالى ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى فلا دلالة فيه على نفي وجوب الدية على العاقلة لأن الآية إنما نفت أن يؤخذ الإنسان بذنب غيره وليس في إيجاب الدية على العاقلة أخذهم بذنب الجاني إنما الدية عندنا على القاتل وأمر هؤلاء القوم بالدخول معه في تحملها على وجه المواساة له من غير أن يلزمهم ذنب جنايته وقد أوجب الله في أموال الأغنياء حقوقا للفقراء من غير إلزامهم ذنبا لم يذنبوه بعد بل على وجه المواساة وأمر بصلة الأرحام بكل وجه أمكن ذلك وأمر ببر الوالدين وهذه كلها أمور مندوب إليها للمواساة وصلاح ذات البين فكذلك أمرت العاقلة بتحمل الدية عن قاتل الخطأ على جهة المواساة من غير إجحاف بهم به وإنما يلزم كل رجل منهم ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم ويجعل ذلك في أعطياتهم إذا كانوا من أهل الديوان ومؤجلة ثلاث سنين فهذا مما ندبوا إليه من مكارم الأخلاق وقد كان تحمل الديات مشهورا في العرب قبل الإسلام وكان ذلك مما يعد من جميل أفعالهم ومكارم أخلاقهم وقال النبي صلى الله عليه وسلم بعثت لأتمم
[ 282 ]
مكارم الأخلاق فهذا فعل مستحسن في العقل مقبول في الأخلاق والعادات وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه ولا يجني عليك ولا تجني عليه لا ينفي وجوب الدية على العاقلة على هذا النحو الذي ذكرناه من معنى الآية من غير أن يلام على فعل الغير أو يطالب بذنب سواه ولوجوب الدية على العاقلة وجوه سائغة مستحسنة في العقول أحدها أنه جائز أن يتعبد الله تعالى بديا بإيجاب المال عليهم لهذا الرجل من غير قتل كان منه كما أوجب الصدقات في مال الأغنياء للفقراء والثاني أن موضوع الدية على العاقلة إنما هو على النصرة والمعونة ولذلك أوجبها أصحابنا على أهل ديوانه دون أقربائه لأنهم أهل نصرته ألا ترى أنهم يتناصرون على القتال والحماية والذب عن الحريم فلما كانوا متناصرين في القتال والحماية أمروا بالتناصر والتعاون على تحمل الدية ليتساووا في حملها كما تساووا ي حماية بعضهم بعضا عند القتال والثالث أن في إيجاب الدية على العاقلة زوال الضغينة والعداوة من بعضهم لبعض إذا كانت قبل ذلك وهو داع إلى الألفة وصلاح ذات البين ألا ترى أن رجلين لو كانت بينهما عداوة فتحمل أحدهما عن صاحبه ما قد لحقه لأدى ذلك إلى زوال العداوة وإلى الألفة وصلاح ذات البين كما لو قصده إنسان بضرر فعاونه يقول وحماه عنه انسلت سخيمة قلبه وعاد إلى سلامة الصدر والموالاة والنصرة والرابع أنه إذا تحمل عنه جنايته حمل القاتل إذا جنى ايضا فلم يذهب حمله للجناية عنه ضياعا بل كان له أثر محمود يستحق مثله عليه إذا وقعت منه جناية فهذه وجوه كلها مستحسنة في العقول غير مدفوعة وإنما يؤتى الملحد المتعلق بمثله من ضيق عطنه وقلة معرفته وإعراضه عن النظر والفكر والحمد لله على حسن هدايته وتوفيقه ولا خلاف بين الفقهاء في وجوب دية الخطأ في ثلاث سنين قال أصحابنا كل دية وجبت من غير صلح فهي في ثلاث سنين وروى أشعث عن الشعبي والحكم عن إبراهيم قالا أول من فرض العطاء عمر بن الخطاب وفرض فيه الدية كاملة في ثلاث سنين وثلثي الدية في سنتين والنصف في سنتين وما دون ذلك في عامه قال أبو بكر استفاض ذلك عن عمر ولم يخالفه أحد من السلف واتفق فقهاء الأمصار عليه فصار إجماعا لا يسع خلافه واختلف فقهاء الأمصار في العاقلة من هم فقال أبو حنيفة وسائر أصحابنا الدية في قتل الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين من يوم يقضى بها والعاقلة هم أهل ديوانه إن كان من أهل الديوان يؤخذ ذلك من أعطياتهم حتى يصيب الرجل منهم من الدية كلها
[ 283 ]
ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم فإن أصابه أكثر من ذلك ضم إليهم أقرب القبائل في النسب من أهل الديوان وإن كان القاتل ليس من أهل الديوان فرضت الدية على عاقلته الأقرب فالأقرب في ثلاث سنين من يوم يقضي بها القاضي فيؤخذ في كل سنة ثلث الدية عند رأس كل حول ويضم إليهم أقرب القبائل منهم في النسب حتى يصيب الرجل منهم من الدية ثلاثة دراهم أو أربعة قال محمد بن الحسن ويعقل عن الحليف حلفاؤه ولا يعقل عنه قوله وقال عثمان البتي ليس أهل الديوان أولى بها من سائر العاقلة وقال ابن القاسم عن مالك الدية على القبائل على الغنى على قدره ومن دونه على قدره حتى يصيب الرجل من مائة درهم ونصف وحكي عنه أن ذلك يؤخذ من أعطياتهم وقال الثوري تجعل الدية ثلثا في العام الذي أصيب فيه الرجل ولكن تكون عند الأعطية على الرجال وقال الحسن بن صالح العقل على رؤس الرجال في أعطية المقاتلة وقال الليث العقل على القاتل وعلى القوم الذين يأخذون معهم العطاء ولا يكون على قومه منه شئ وإن لم يكن فيهم من يحمل العقل ضم إلى ذلك أقرب القبائل إليهم وروى المزني في مختصره عن الشافعي أن العقل على ذوي الأنساب دون أهل الديوان والحلفاء على الأقرب فالأقرب من بني أبيه ثم من بني جده ثم من بني جد أبيه فإن عجزوا عن البعض حمل الموالي المعتقون الباقي فإن عجزوا عن بعض ولهم عواقل عقلتهم الذي عواقلهم فإن لم يكن لهم ذو نسب ولا مولى من أعلى حمل على الموالي من أسفل ويحمل من كثر ماله نصف دينار ومن كان دونه ربع دينار ولا يزاد على هذا ولا ينقص منه قال أبو بكر حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب على كل بطن عقوله وقال لا يتولى مولى قوم إلا بإذنهم يدل على سقوط اعتبار الأقرب فالأقرب وإن القريب والبعيد من الجاني سواء في ذلك وروي عن عمر أنه قال لسلمة بن نعيم حين قتل مسلما وهو يظنه كافرا أن عليك وعلى قومك الدية ولم يفرق بين القريب والبعيد منهم وهذا يدل على تساوي القريب والعبيد ويدل أيضا على التسوية بينهم فيما يلزم كل واحد منهم من غير اعتبار الغني والفقير ويدل على أن القاتل يدخل في العقل مع العاقلة لأنه قال عليك وعلى قومك الدية وكان أهل الجاهلية يتعاقلون بالنصرة ثم جاء الإسلام فجرى الأمر فيه كذلك ثم جعل عمر الدواوين فجمع بها الناس وجعل أهل كل راية وجند يدا واحدة وجعل عليهم قتال من يليهم من الأعداء فصاروا يتناصرون بالرايات والدواوين وعليها يتعاقلون وإذا لم يكن من أهل الديوان فعلى ا لقبائل لأن التناصر في هذه الحال بالقبائل فالمعنى الذي تعاقلوا به في الجاهلية والإسلام معنى واحد وهو النصر فإذا
[ 284 ]
كانت في الجاهلية النصرة بالروايات والدواوين تعاقلون بها لأنهم في هذه الحال أخص بالنصرة من القبيلة فإذا فقدت الرايات تناصروا بالقبائل وبها يتعاقلون أيضا والدليل على أن العقل تابع للنصرة أن النساء لا يدخلن في العقل لعدم النصرة فيهن فدل ذلك على صحة اعتبار النصرة في العقل وأما العقل بالحلف فإن سعد بن إبراهيم روى عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم حلف الجاهلية وقد كان الحلف عندهم كالقرابة في النصرة والعقل ثم أكده الإسلام وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال مولى القوم من أنفسهم وحليفهم منهم وقد كانت ظهرت خيل للنبي صلى الله عليه وسلم على رجل من المشركين فربطه إلى سارية من سواري المسجد فقال علام أحبس فقال النبي صلى الله عليه وسلم بجريرة حلفائك فإن قيل فقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم حلف الإسلام بقوله لا حلف في الإسلام قيل له معناه نفي التوارث به مع ذوي الأرحام لأنهم كانوا يورثون الحليف دون ذوي الأرحام فأما حكم الحلف في العقل والنصرة فباق ثابت وكذلك الولاء ثابت يعقل به لم روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأخبار المتقدمة وإنما ألزم أصحابنا كل واحد ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم لاتفاق الجميع على لزومه هذا القدر وما زاد مختلف فيه لم تقم الدلالة عليه فلم يلزمه ويدخل القاتل معهم في العقل وهو قول أصحابنا ومالك وابن شبرمة والليث والشافعي وقال الحسن بن صالح والأوزاعي لا يدخل فيه وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز أنه يعقل معهم وما روي عن أحد من السلف خلافه ومن جهة النظر أن الدية إنما تلزم القاتل والعاقلة تعقل عنه على جهة المواساة والنصرة فواجب أن لا يلزم العاقلة إلا المتيقن وقد اتفقوا على أن ما عدا حصة الواحد منهم لازم العاقلة واختلفوا في المقدار الذي هو نصيب أحدهم هل تحمله العاقلة فواجب أن لا يكون لازما لعدم الدلالة على لزومه العاقلة ومن جهة أخرى أن العاقلة إنما تعقل عنه فعقله عن نفسه أولى فينبغي أن يدخل معهم وأيضا لو كان غيره هو الجاني لدخل مع سائر العاقلة للتخفيف عنهم فإذا كان هو الجاني فهو أولى بالدخول معهم للتخفيف عنهم لأنهم متساوون في التناصر والمواساة قوله تعالى رقبة مؤمنة قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والأوزاعي والشافعي يجزي في كفارة القتل الصبي إذا كان أحد أبويه مسلما وهو قول عطاء وروي عن ابن عباس والحسن وإبراهيم والشعبي لا يجزي
[ 285 ]
إلا من صام وصلى ولم يختلفوا في جوازه في رقبة الظهار ويدل على صحة القول الأول قوله تعالى رقبة مؤمنة وهذه رقبة مؤمنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه فأثبت له حكم ا لفطرة عند الولادة فوجب جوازه بإطلاق اللفظ ويدل عليه أن قوله تعالى قتل مؤمنا خطأ منتظم للصبي كما يتناول الكبير فوجب أن يتناوله عموم قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة ولم يشرط الله عليها الصيام والصلاة فلا تجوز الزيادة فيه لأن الزيادة في النص توجب النسخ ولو أن عبدا أسلم فأعتقه مولاه عن كفارته قبل حضور وقت الصلاة والصيام كان مجزيا عن الكفارة لحصول اسم الإيمان فكذلك الصبي إذا كان داخلا في إطلاق اسم الإيمان فإن قيل العبد المعتق بعد إسلامه لا يجزي إلا أن يكون قد صام وصلى قيل له لا يختلف المسلمون في إطلاق اسم الإيمان على العبد الذي أسلم قبل حضور وقت الصلاة أو الصوم فمن أين شرطت مع الإيمان فعل الصلاة والصوم والله سبحانه لم يشرطهما لأن ولم زدت في الآية ما ليس فيها وحظرت ما أباحته من غير نص يوجب ذلك وفيه إيجاب نسخ القرآن وأيضا لما كان حكم الصبي حكم الرجل في باب التوارث والصلاة عليه ووجوب الدية على قاتله وجب أن يكون حكمه حكمه في جوازه عن الكفارة إذ كانت رقبة تامة لها حكم الإيمان فإن قيل قوله تعالى فتحرير رقبة مؤمنة يقتضي حقيقة رقبة بالغة معتقدة للإيمان لا من لها حكم الإيمان من غير اعتقاد ولا خلاف مع ذلك أيضا أن الرقبة التي هذه صفتها مرادة بالآية فلا يدخل فيها من لا تلحقه هذه السمة إلا على وجه المجاز وهو العقل الذي لا اعتقاد له قيل له لا خلاف بين السلف أن غير البالغ جائز في كفارة الخطأ إذا كان قد صام وصلى ولم يشرط أحد وجود الإيمان منه حقيقة ألا ترى أن من له سبع سنين مأمور بالصلاة على وجه التعليم وليس له اعتقاد صحيح للإيمان فثبت بذلك سقوط اعتبار وجود حقيقة الإيمان الرقبة ولما ثبت ذلك باتفاق السلف علمنا أن الاعتبار فيه بمن لحقته سمة الإيمان على أي وجه سمي والصبي بهذه الصفة إذا كان أحد أبويه مسلما فوجب جوازه عن الكفارة مطلب: تصح البراءة ما لم يردها المبرأ قوله تعالى أن يصدقوا قال أبو بكر يعني والله أعلم إلا أن يبرئ أولياء القتيل من الدية فسمى الإبراء منها صدقة وفيه دليل على أن من كان له على آخر دين
[ 286 ]
فقال قد تصدقت به عليك أن ذلك براءة صحيحة وأنه لا يحتاج في صحة هذه البراءة إلى قبول المبرأ منه ولذلك قال أصحابنا إن البراءة واقعة ما لم يردها المبرأ منه وقال زفر لا يبرأ الغريم من الدين إلا أن يقبل البراءة وكذلك الصدقة وجعل بمنزلة هبة الأعيان وظاهر الآية يدل على صحة قول أصحابنا لأنه لم يشرط القبول ولأن الدين حق فيصح إسقاطه كالعفو عن دم العمد والعتق ولا يحتاج إلى قبول وقال أصحابنا إذا رد المبرأ منه البراءة من الدين عاد الدين وقال غيرهم لا يعود وجعلوه كالعتق والعفو عن دم العمد والدليل على صحة قولنا أن البراءة من الدين يلحقها الفسخ ألا ترى أنه لو صالحه على ثوب برئ فإن هلك الثوب قبل القبض بطلت البراءة وعاد الدين والعتق والعفو عن الدم لا ينفسخان وقد بحال ويدل أيضا على وقوع البراءة من الدين بلفظ التمليك أن الصدقة من ألفاظ التملك وقد حكم بصحة البراءة بها وأنه ليس بمنزلة الأعيان إذا ملكها غيره بلفظ الإبراء فلا يملك مثل أن يقول قد أبرأتك من هذا العبد فلا يملكه وإن قبل البراءة وإذا قال قد تصدقت بمالي عليك من الدين أو قد وهبت لك ما لي عليك صحت البراءة ويدل على ذلك أن من له على غيره دين وهو غني فقال قد تصدقت به عليك برئ منه لأن الله تعالى لم يفرق بين الغني والفقير في ذلك ويدل على أن الأهل يعبر به عن الأولياء والورثة لأن قوله مسلمة إلى أهله معناه إلى ورثته وقال محمد بن الحسن فيمن أوصى لأهل فلان أن القياس أن يكون ذلك لزوجاته إلا أني قد تركت القياس وجعلته لكل من كان في عياله قال أبو بكر الأهل اسم يقع على الزوجة وعلى جميع من يشتمل عليه منزله وعلى أتباع الرجل وأشياعه قال الله تعالى منجوك وأهلك إلا امرأتك عمر ذلك على جميع أهل منزله من أولاده وغيرهم وقال وأهله أجمعين [ الشعراء: 170 ]، ويقع على من اتبعه في دينه كقوله ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له ونجيناه وأهله من الكرب العظيم فسمى أتباعه في دينه أهله وقال في ابنه إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فاسم الأهل يقع على معان مختلفة وقد يطلق اسم الأهل ويراد به الآل وهو قراباته من قبل الأب كما يقال آل النبي وأهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهما سواء باب شبه العمد قال أبو بكر أصل أبي حنيفة في ذلك أن العمد ما كان بسلاح أو ما يجري مجراه
[ 287 ]
مثل الذبح بليطة قصبة أو شقة العصا أو بكل شئ له حد يعمل عمل السلاح أو بحرقه بالنار فهذا كله عنده عمد محض فيه القصاص ولا نعلم في هذه الجملة خلافا بين الفقهاء وقال أبو حنيفة ما سوى ذلك من القتل بالعصا والحجر صغيرا كان أو كبيرا فهو شبه العمد وكذلك التغريق في الماء وفيه الدية مغلظة على العاقلة وعليه الكفارة ولا يكون التغليظ عنده إلا في أسنان الإبل خاصة دون عددها وليس فيما دون النفس شبه عمد بل بأي شئ ضربه فعليه القصاص إذا أمكن وإن لم يكن فعليه أرشه مغلظا إذا كان من الإبل يسقط ما يجب وأصل أبي يوسف ومحمد أن شبه العمد مالا يقتل مثله كاللطمة الواحدة والضربة الواحدة بالسوط ولو كرر ذلك حتى صار جملته مما يقتل كان عمدا وفيه القصاص بالسيف وكذلك إذا غرقه بحيث لا يمكنه الخلاف منه وهو قول عثمان البتي إلا أنه يجعل دية شبه العمد في ماله قال ابن شبرمة وما كان من شبه العمد فهو عليه في ماله يبدأ بماله فيؤخذ حتى لا يترك له شئ فإن لم يتم كان ما بقي من الدية على عاقلته وقال ابن وهب عن مالك إذا ضربه بعصا أو رماه بحجر أو ضربه عمدا فهو عمد وفيه القصاص ومن العمد أن يضربه في نائرة تكون بينهما ثم ينصرف عنه وهو حي ثم يموت فتكون فيه القسامة وقال ابن القاسم عن مالك شبه العمد باطل إنما هو عمد أو خطأ وقال الأشجعي عن الثوري شبه العمد أن يضربه بعصا أو بحجر أو بيده فيموت ففيه الدية مغلظة ولا قود فيه والعمد ما كان بسلاح وفيه القود والنفس يكون فيها العمد وشبه العمد والخطأ الجراحة لا يكون فيها إلا خطأ أو عمد وروى الفضل بن دكين عن الثوري قال إذا حدد عودا أو عظما فجرح به بطن حرا فهذا شبه عمد ليس فيه قود قال أبو بكر هذا قول شاذ وأهل العلم على خلافه وقال الأوزاعي في شبه العمد الدية في ماله فإن لم يكن تماما فعلى العاقلة وشبه العمد أن يضربه بعصا أو سوط ضربة واحدة فيموت فإن ثنى بالعصا فمات مكانه فهو عمد يقتل به والخطأ على العاقلة وقال الحسن بن صالح إذا ضربه بعصا ثم على فقتله مكانه من الضربة الثانية فعليه القصاص وإن على الثانية فلم يمت منها ثم مات بعدها فهو شبه عمد لا قصاص فيه وفيه الدية على العاقلة والخطأ على العاقلة وقال الليث العمد ما تعمده إنسان فإن ضربه بأصبعه فمات من ذلك دفع إلى ولي المقتول والخطأ فيه على العاقلة وهذا يدل على أن الليث كان لا يرى شبه العمد وإنما يكون خطأ أو عمدا وقال المزني في مختصره عن الشافعي إذا عمد رجل بسيف أو حجر أو سنان رمح أو ما يشق بحده فضرب به أو رمى به الجلد أو اللحم فجرحه جرحا كبيرا أو صغيرا فمات فعليه القود وإن شدخه بحجر أو تابع عليه الخنق ووالى بالسوط عليه حتى مات أو طبق عليه مطبقا بغير طعام ولا شراب أو ضربه بسوط في شدة حر أو برد مما
[ 288 ]
الأغلب أنه يموت منه فمات فعليه القود وإن ضربه بعمود أو بحجر لا يشدخ أو بحد سيف ولم يجرح أو ألقاه في بحر قريب البر وهو يحسن العوم أو ما الأغلب أنه لا يموت مثله فمات فلا قود فيه وفيه الدية مغلظة على العاقلة والدليل على ثبوت شبه العمد ما روى هشيم عن خالد الحذاء عن القاسم بن ربيعة بن جوشن عن عقبة بن أوس السدوسي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال في خطبته ألا إن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر فيه الدية مغلظة مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها وروى إبراهيم عن عبيد بن نضلة الخزاعي عن المغيرة بن شعبة أن امرأتين ضربت إحداهما الأخرى بعمود الفسطاط فقتلتها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية على عصبة القاتلة وقضى فيما في بطنها بالغرة وروى يونس عن ابن شهاب عن ابن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال اقتتلت امرأتان من هذيل فضربت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها عبد أو وليدة وقضى بدية المرأة على عاقلتها ففي أحد هذين الحديثين أنها ضربتها بعمود فسطاط وفي الآخر أنها ضربتها بحجر وقد روى أبو عاصم عن ابن جريج قال أخبرني عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أن عمر بن الخطاب نشد الناس قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال إنني كنت بين امرأتين لي وأن إحداهما ضربت الأخرى بمسطح علي فقتلتها وجنينها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة وأن تقتل مكانها وروى الحجاج بن محمد عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس عن عمر بمثله فذكر أبو عاصم والحجاج عن ابن جريج أنه أمر بقتل المرأة وروى هذا الحديث هشام بن سليمان المخزومي عن ابن جريج عن ابن دينار وسفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار بإسناده ولم يذكرا فيه أنه أمر أن تقتل وذكر أبو عاصم والحجاج أنه أمر أن تقتل المرأة فاضطرب حديث ابن عباس في هذه القصة وروى سعيد عن قتادة عن أبي المليح عن حمل بن مالك قال كانت له امرأتان فرجمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب قلبها وهي حامل فألقت جنينا فماتت فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية على عاقلة القاتلة وقضى في الجنين بغرة عبد أو أمة فكان حديث حمل بن مالك في إيجاب القود على المرأة مختلفا متضادا وروي في بعض أخبار ابن عباس في هذه القصة بعينها القصاص ولم يذكره في بعضها قال حمل بن مالك وهو صاحب القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الدية على عاقلة القاتلة فتضادت حتى الأخبار في قصة حمل بن مالك وسقطت وبقي حديث المغيرة بن شعبة وأبي هريرة في نفي القصاص من غير معارض
[ 289 ]
وقد روى أبو معاوية عن حجاج عن قتادة عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (قتيل السوط والعصا شبه العمد وإثبات شبه العمد ضربا من القتل دون الخطأ فيه اتفاق السلف عندنا لا خلاف بينهم فيه وإنما الاختلاف بينهم في كيفية شبه العمد فأما أن يقول مالك لا أعرف إلا خطأ أو عمدا فإن هذا قول خارج عن أقاويل السلف كلهم وروى شريك عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي قال شبه العمد بالعصا والحجر الثقيل وليس فيهما قود وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال يعمد أحدكم فيضرب أخاه بمثل آكلة اللحم وهي العصا ثم يقول لا قود علي لا أوتى بأحد فعل ذلك إلا أقدته فكان هذا عنده من العمد لأن مثله يقتل في الغالب عل ما قال أبو يوسف ومحمد ومما يبين إجماع الصحابة على شبه العمد وأنه قسم ثالث ليس بعمد محض ولا خطأ محض اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسنان الإبل في الخطأ ثم اختلافهم في أسنان شبه العمد وأنها أغلظ من الخطأ منهم علي وعمر وعبد الله بن مسعود وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت وأبو موسى والمغيرة بن شعبة كل هؤلاء أثبت أسنان الإبل في شبه العمد أغلظ منها في الخطأ على ما سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى فثبت بذلك شبه العمد ولما ثبت شبه العمد بما قدمنا من الآثار واتفاق السلف بعد اختلاف منهم في كيفيته احتجنا أن نعتبر شبه العمد فوجدنا عليا قال شبه العمد بالعصا والحجر العظيم ومعلوم أن شبه العمد اسم شرعي لا سبيل إلى إثباته إلا من جهة التوقيف إذ ليس في اللغة هذا الاسم لضرب من القتل فعلمنا أن عليا لم يسم القتل بالحجر العظيم شبه العمد إلا توقيفا ولم يذكر الحجر العظيم إلا والصغير والكبير متساويان عنده في سقوط القود به ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي ابن قانع قال حدثنا المعمري قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الرقي قال حدثنا ابن المبارك عن سليمان التيمي وخالد الحذاء عن القاسم بن ربيعة عن عقبة بن أوس عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قتيل الخطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها فقد حوى هذا الخبر معاني منها إثباته قتيل خطأ العمد قسما غالب العمد وغير الخطأ وهو شبه العمد ومنها إيجابه الدية في قتيل السوط والعصا من غير فرق بين ما يقتل مثله وبين مالا يقتل مثله وبين من يوالي الضرب حتى يقتله وبين من يقتل بضربة واحدة ومنها أنه جمع بين السوط والعصا والسوط لا يقتل مثله في الغالب والعصا يقتل مثلها في الأكثر فدل على وجوب التسوية بين ما يقتل وبين مالا يقتل وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا عقبة بن مكرم
[ 290 ]
قال حدثنا يونس بن بكير قال حدثنا قيس بن الربيع عن أبي حصين عن إبراهيم بن بنت النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شئ سوى الحديدة خطأ ولكل خطأ أرش وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن يحيى بن سهل بن محمد العسكري قال حدثنا محمد بن المثنيى تعالى قال حدثنا يوسف بن يعقوب الضبعي قال حدثنا سفيان الثوري وشعبة عن جابر الجعفي عن أبي عازب عن النعمان بن بشير قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شئ خطأ إلا السيف وفي كل خطأ أرش وأيضا لما اتفقوا على أنه لو جرحه بسكين صغيرة لم يختلف حكمها وحكم الكبيرة في وجوب القصاص فوجب أن لا يختلف حكم الصغير والكبير من الحجر والخشب في سقوطه وهذا يدل على أن الحكم في إيجاب القصاص متعلق بالآلة وهي أن تكون سلاحا أو يعمل عمل السلاح فإن قيل على ما روينا من قوله صلى الله عليه وسلم قتيل خطأ العمد إن العمد لا يكون خطأ ولا الخطأ عمدا وهذا يدل على فساد الحديث قيل ليس كذلك لأنه سماه خطأ في الحكم عمد في الفعل وذلك معنى صحيح لأنه دل به على التغليظ من حيث هو عمد وعلى سقوط القود من حيث هو في حكم الخطأ فإن قيل قوله تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى وقوله (النفس بالنفس وسائر الآي التي فيها إيجاب القصاص يوجبه على القاتل بالحجر العظيم قيل له لا خلاف أن هذه الآي إنما أوجبت القصاص في العمد وهذا ليس بعمد ومع ذلك فإن الآي وردت في إيجاب القصاص في الأصل والآثار التي ذكرنا واردة فيما يجب فيه القصاص فكل واحد منهما مستعمل فيما ورد فيه لا يعترض بأحدهما على الآخر وأيضا قال الله تعالى قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله وسمى النبي صلى الله عليه وسلم شبه العمد قتيل الخطأ فلما أطلق عليه اسم الخطأ وجب أن تكون فيه الدية فإن احتجوا بحديث ابن عباس في قصة المرأتين قتلت إحداهما الأخرى بمسطح فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم عليها القصاص قيل له قد بينا اضطراب الحديث وما عارضه من رواية حمل بن مالك في إيجاب الدية دون القود ولو ثبت القود أيضا فإن ذلك إنما كان في شئ بعينه ليس بعموم في جميع من قتل بمسطح وجائز أن يكون كان فيه حديد وأصابها الحديد دون الخشب فمن أوجب النبي صلى الله عليه وسلم فيه القود فإن احتجوا بما روي أن يهوديا رضخ رأس جارية بالحجارة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يرضح رأسه قيل له جائز أن يكون كان لها مروة وهي التي لها حد يعمل عمل
[ 291 ]
السكين فلذلك أوجب النبي صلى الله عليه وسلم قتله وأيضا روى عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس أن يهوديا قتل جارية من الأنصار على حلي لها وألقاها في نهر ورضخ رأسها بالحجارة فأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به أن يرجم حتى يموت فرجم حتى مات ولا خلاف أن الرجم لا يجب على وجه القود وجائز أن يكون اليهودي مستأمنا فقتل الجارية ولحق بأرضه فأخذ وهو حربي لقرب منازلهم من المدينة فقتله على أنه محارب حربي ورجمه كما سمل أعين العرنيين الذين استاقوا الإبل وقتلوا الراعي وقطع أيديهم وأرجلهم وتركهم حتى ماتوا ثم نسخ القتل على وجه المثلة فصل وأما ما دون النفس فإنه ليس فيه شبه العمد من جهة الآلة ويجب فيه القصاص بحجر شجه أو بحديد وفيه شبه العمد من جهة التغليظ إذا تعذر فيه القصاص وإنما لم يثبت فيما دون النفس بشبه العمد لأن الله تعالى قال قد قصاص [ المائدة: 45 ] وقال فإن بالسن عمر ولم يفرق بين وقوعها بحديد أو غيره والأثر إنما ورد في إثبات خطأ معمد في القتل وذلك اسم شرعي لا يجوز إثباته إلا من طريق التوقيف ولم يرد فيما دون النفس توقيف في شبه العمد وأثبتوا فيه التغليظ إذا لم يمكن فيه القصاص لأنه بمنزلة شبه العمد حين كان عمدا في الفعل وقد روي عن عمر نضر الله وجهه أنه قضى قتادة المدلجي حين حذف ابنه بالسيف فقتله بمائة من الإبل مغلظة حين كان عمدا سقط فيه القصاص كذلك فيما دون النفس إذا كان عمدا قد سقط فيه القصاص إيجاب قسطه من الدية مغلظا ومع ذلك فلا نعلم خلافا بين الفقهاء في إيجاب القصاص في الجراحات التي يمكن القصاص فيها بأي شئ جرح قال أبو بكر قد ذكرنا الخطأ وشبه العمد في سورة البقرة والله أعلم باب مبلغ الدية من الإبل قد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بمقدار الدية وأنها مائة من الإبل فمنها حديث سهل بن أبي حثمة في القتيل الموجود بخيبر وأن النبي صلى الله عليه وسلم وداه بمائة من الإبل وروى سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان عن القاسم بن ربيعة عن ابن عمر قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فقال ألا إن قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا فيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون خلفة في بطونها أولادها وفي كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي النفس مائة من الإبل وروى عمرو بن دينار عن طاوس قال فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم دية الخطأ ماله من الإبل وذكر علي بن موسى القمي قال حدثنا
[ 292 ]
يعقوب بن شيبة قال حدثنا قيس بن حفص قال حدثنا الفضل بن سليمان النميري قال حدثنا غالب بن ربيعة بن قيس النميري قال أخبرني قرة بن دعموص النميري قال أتيت أنا وعمي النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إن لي عند هذا دية أبي فمره أن يعطينيها قال أعطه دية أبيه وكان قتل في الجاهلية قلت يا رسول الله هل لأمي فيها حق قال نعم وكان ديته مائة من الإبل فقد حوى هذا الخبر أحكاما منها أن المسلم والكافر في الدية سواء لأنه أخبر أنه قتل في الجاهلية ومنها أن المرأة ترث من دية زوجها ومنها أن الدية مائة من الإبل ولا خلاف بين السلف وفقهاء الأمصار في ذلك والله أعلم باب أسنان الإبل في دية الخطأ قال أبو بكر اختلف السلف في ذلك فروى علقمة عن الأسود عن عبد الله بن مسعود في دية الخطأ أخماسا وعشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنات مخاض وعشرون بنو مخاض وعشرون بنات لبون وعن عمر بن الخطاب أخماسا أيضا وروى عاصم بن ضمرة وإبراهيم عن علي في دية الخطأ أرباعا خمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وخمس وعشرون بنات مخاض وخمس وعشرون بنات لبون أربعة أسنان مثل أسنان الزكاة وقال عثمان وزيد بن ثابت في الخطأ ثلاثون بنات لبون وثلاثون جذعة وعشرون بنو لبون وعشرون بنات مخاض وروي عنهما مكان الجذاع الحقاق قال أبو بكر واتفق فقهاء الأمصار أصحابنا ومالك والشافعي أن دية الخطأ أخماس إلا أنهم اختلفوا في الأسنان من كل صنف فقال أصحابنا جميعا عشرون بنات مخاض وعشرون بنو مخاض وعشرون بنات لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة وقال مالك والشافعي عشرون بنات مخاض وعشرون بنو لبون وعشرون بنات لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن داود بن توبة التمار قال حدثنا عمرو بن محمد الناقد قال حدثنا أبو معاوية قال حدثنا حجاج بن أرطارة النبي عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الدية في الخطأ أخماسا واتفق الفقهاء على استعمال هذا الخبر في الأخماس يدل على صحته ولم يبين فيه كيفية الأسنان فروى منصور عن إبراهيم عن ابن مسعود في دية الخطأ أخماسا وذكر الأسنان مثل قول أصحابنا فهذا يدل على أن الأخماس التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم كانت على هذا الوجه لأنه غير جائز أن يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ثم يخالفه إلى غيره فإن قيل خشف بن مالك مجهول قيل له استعمال الفقهاء الخبرة في إثبات
[ 293 ]
الأخماس يدل على صحته واستقامته وأيضا فإن قول من جعل في الخطأ مكان بنو لبون بني مخاض أولى لأن بني لبون بمنزلة بنات مخاض لقوله صلى الله عليه وسلم فإن لم توجد ابنة مخاض فابن لبون فيصير بمنزلة من أوجب أربعين بنات مخاض إذا أوجب عشرين بني لبون وعشرين بنات مخاض وأيضا فإن بني لبون فوق بني مخاض ولا يجوز إثبات زيادة ما بين بني لبون وبنات مخاض إلا بتوقيف وأيضا فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم الدية مائة من الإبل يقتضي جواز ما يقع عليه الاسم فلا تثبت الزيادة إلا بدلالة ومذهب أصحابنا أقل ما قيل فيه فهو ثابت وما زاد فلم تقم عليه دلالة فلا يثبت وأيضا قد ثبت مثل قول أصحابنا عن عبد الله بن مسعود في كيفية الأسنان ولم يرو عن أحد من الصحابة ممن قال بالأخماس خلافه وقول مالك والشافعي لا يروى عن أحد من الصحابة وإنما يروى عن سليمان بن يسار فكان قول أصحابنا أولى لاتفاق الجميع من فقهاء الأمصار على إثبات الأخماس وثبوت كيفيتها على الوجه الذي يذهب إليه أصحابنا عن عبد الله بن مسعود فإن قيل إيجاب بني لبون أولى من بني مخاض لأنها تؤخذ في الزكاة ولا تؤخذ بنو مخاض قيل له ابن اللبون يؤخذ في الزكاة على وجه البدل وكذلك ابن مخاض يؤخذ عندنا على وجه البدل فلا فرق بينهما وأيضا فإن الديات غير معتبرة بالزكاة ألا ترى أنه يجب عند المخالف أربعون خلفة في شبه العمد ولا يجب مثلها في الزكاة والله أعلم باب أسنان الإبل في شبه العمد روى عن عبد الله بن مسعود في شبه العمد أرباعا خمس وعشرون بنات مخاض وخمس وعشرون بنات لبون وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وهي مثل أسنان الإبل في الزكاة وروي عن علي وأبي موسى والمغيرة بن شعبة في شبه العمد ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون ما بين ثنية إلى وإن بازل عامها كلها خلفة وعن عثمان وزيد بن ثابت ثلاثون بنات لبون وثلاثون حقة وأربعون جذعة خلفة وروى أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي في شبه العمد ثلاث وثلاثون حقة وثلاث وثلاثون جذعة وأربع وثلاثون ثنية إلى بازل عامها كلها خلفة واختلف فقهاء الأمصار في ذلك فقال أبو حنيفة وأبو يوسف دية شبه العمد أرباع على ما روي عن عبد الله بن مسعود وقال محمد دية شبه العمد أثلاث ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون ما بين ثنية إلى بازل عامها كلها خلفة والخلفة هي الحوامل وهو قول سفيان الثوري وروي مثله عن عمر وزيد بن ثابت ومن قدمنا ذكره
[ 294 ]
من السلف وروى ابن القاسم بن مالك أن الدية المغلظة في الرجل يحذف ابنه بالسيف فيقتله فتكون عليه الدية مغلظة ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وهي حالة قال والجد إذا قتل ولد ولده على هذا الوجه مثل الأب فإن قطع يد الولد وعاش ففيه نصف الدية مغلظة وقال مالك تغلظ على أهل الورق والذهب أيضا وهو أن ينظر إلى قيمة الثلاثين من الحقة والثلاثين من الجذعة والأربعين من الخلفة فيعرف كم قيمتهن ثم ينظر إلى دية الخطأ أخماسا من سنان عشرين بنت مخاض وعشرين ابن لبون وعشرين بنات لبون وعشرين حقة وعشرين جذعة ثم ينظر كم فضل ما بين دية الخطأ والدية المغلظة فيزاد في الرقة على قدر ذلك قال وهو على قدر الزيادة والنقصان في سائر الأزمان وإن صارت دية التغليظ ضعفي دية الخطأ زيد عليه من الورق بقدر ذلك وقال الثوري في دية شبه العمد من الورق يزاد عليها بقدر ما بين دية الخطأ إلى دية شبه العمد في أسنان الإبل نحو ما قال مالك وهو قول الحسن بن صالح قال أبو بكر لما ثبت أن دية الخطأ أخماس بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وبما قدمنا من الحجاج ثم اختلفوا في شبه العمد فجعله بعضهم أرباعا وبعضهم أثلاثا كان قول من قال بالأرباع أولى لأن في الأثلاث زيادة تغليظ لم تقم عليها دلالة وقول النبي صلى الله عليه وسلم الدية مائة من الإبل يوجب جواز الكل والتغليظ بالأرباع متفق عليه والزيادة عليها غير ثابتة فظاهر الخبر ينفيها فلم نثبتها وأيضا فإن في إثبات الخلفات وهي الحوامل إثبات زيادة عدد فلا يجوز لأنها تصير أكثر من مائة لأجل الأولاد فإن قيل في حديث القاسم بن ربيعة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قتيل خطأ العمد مائة من الإبل أربعون منها خلفة في بطونها أولادها وقد احتججتم به في إثبات شبه العمد فهلا أثبتم الأسنان قيل له أثبتنا به شبه العمد لاستعمال الصحابة إياه في إثبات شبه العمد ولو كان ذلك ثابتا لكان مشهورا ولو كان كذلك لما اختلفوا فيه كما لم يختلفوا في إثبات شبه العمد وليس يمتنع أن يشتمل خبر على معان فيثبت بعضها ولا يثبت بعض إما لأنه غير ثابت في الأصل أو لأنه منسوخ وأما التغليظ في الورق والذهب فإنه لا يخلو أصل الدية من أن يكون واجبا من الإبل وأن الورق والذهب مأخوذان عنها على أنهما قيمة لها أو أن تكون الدية في الأصل واجبة في أحد الأصناف الثلاثة من الدراهم والدنانير والإبل لا على أن بعضها بدل من بعض فإن كانت الإبل هي الدية وإنما تؤخذ الدراهم والدنانير بدلا منها فلا اعتبار بما ذكره مالك من إيجاب فضل ما بين دية الخطأ إلى الدية المغلظة وإنما الواجب أن يقال أن عليه قيمة الإبل على أسنان
[ 295 ]
التغليظ وكذلك دية الخطأ ينبغي أن تعتبر فيها قيمة الإبل على أسنان الخطأ وأن لا تعتبر الدراهم والدنانير في الديات مقدرا محدودا فلا يقال أن الدية من الدراهم عشرة آلاف ولا اثنا عشر ألفا ولا من الذهب ألف دينار بل ينظر في سائر الأزمان إلى قيمة الإبل فإن كانت ستى آلاف أوجب ذلك من الدراهم بغير زيادة خمسة عشر ألفا أوجب ذلك وكذلك قيمتها من الدنانير فلما قال السلف في الدية أحد قولين إما عشرة آلاف وإما اثنا عشر الفا وقالوا أنها من الدنانير ألف دينار حصل الاتفاق من الجميع على أن الزيادة على هذه المقادير والنقصان منها غير سائغ وفي ذلك دليل على أن الدراهم والدنانير هي ديات بأنفسها لا بدلا من غيرها وإن كان كذلك لم يجز التغليظ فيها من وجهين أحدهما أن إثبات التغليظ طريقه التوقيف أو الاتفاق ولا توقيف في إثبات التغليظ في الدراهم والدنانير ولا اتفاق والثاني أن التغليظ في الإبل إنما هو من جهة الأسنان لا من جهة زيادة العدد وفي إثبات التغليظ من جهة زيادة الوزن في الورق والذهب خروج عن الأصول ووجه آخر يدل على أن الدراهم والدنانير ليست على وجه القيمة عن الإبل وهو أنه معلوم أن القاضي يقضي على العاقلة إذا كانت من أهل الورق بالورق وإذا كانت من أهل الذهب بالدنانير فلو كانت الإبل هي الواجبة والدراهم والدنانير بدل منها لما جاز أن يقضي القاضي فيها بالدراهم والدنانير على أن تؤديها في ثلاث سنين لأنه دين بدين فلما جاز ذلك دل على أنها ديات بأنفسها ليست أبدالا عن غيرها ويدل على أن التغليظ غير جائز في الدراهم والدنانير أن عمر رضي الله عنه جعل الدية من الذهب ألف دينار ومن الورق ما اختلف عنه فيه فروى عنه أهل المدينة اثنا عشر ألفا وروى عنه أهل العراق عشرة آلاف ولم يفرق في ذلك بين دية شبه العمد والخطأ وذلك بمحضر من الصحابة من غير خلاف من أحد منهم عليه فدل على أن اعتبار التغليظ فيها ساقط ويدل عليه أيضا أن الصحابة قد اختلفت في كيفية التغليظ في أسنان الإبل لما كان التغليظ فيها واجبا ولو كان التغليظ في الورق والذهب واجبا لاختلفوا فيه حسب اختلافهم في الإبل فلما لم يذكر عنهم خلاف في ذلك وإنما روي عنهم في الذهب ألف دينار وفي الدراهم عشرة آلاف أو اثنا عشر الفا من غير زيادة ولا نقصان ثبت بإجماعهم على نفي التغليظ في غير الإبل فإن قيل على ما ذكرنا من الأصول لو كان من الإبل لكان قضاء القاضي عليهم بالدية من الدراهم يوجب أن يكون دينا بدين إن هذا كما يقولون فيمن تزوج امرأة على عبد وسط أنه إن جاء بالقيمة دراهم قبلت منه ولم يكن ذلك بيع دين بدين قيل له القاضي عندنا لا يقضي عليه بدراهم إذا تزوجها على عبد ولكنه يقول له إن شئت
[ 296 ]
فأعطها عبدا وسطا وإن شئت قيمته دراهم فليس فيما قلنا بيع دين بدين والدية يقضي بها القاضي على العاقلة دراهم ولا يقبل منهم الإبل إذا قضى بذلك وعلى أنه إنما تعتبر قيمة العبد في وقت ما يعطي قيمته دراهم والإبل لا تعتبر قيمتها إذا أراد القضاء بالدراهم سواء نقصت قيمتها أو زادت مطلب: في دية المقتول في الحرم والشهر الحرام واختلف السلف وفقهاء الأمصار في المقتول في الحرم والشهر الحرام فقال أبو حنيفة ومحمد وزفر وابن أبي ليلى ومالك القتل في الحرم والشهر الحرام كهو في غيره فيما يجب من الدية والقود وسئل الأوزاعي عن القتل في الشهر الحرام والحرم هل تغلظ الدية فيه بلغنا أنه إذا قتل في الحرم أو الشهر الحرام زيد العقل ثلثه ويزاد في شبه العمد في أسنان الإبل وذكر المزني عن الشافعي في مختصره وذكر تغليظ الدية في شبه العمد وقال الدية في هذا على العاقلة وكذلك الجراح وكذلك التغليظ في النفس والجراح في الشهر الحرام والبلد الحرام وذوي الرحم وروي عن عثمان أنه قضى في دية امرأة قتلت بمكة بدية وثلث وروى إبراهيم عن الأسود أن رجلا أصيب عند البيت فسأل عمر عليا فقال له على ديته من بيت المال فلم ير فيه على أكثر من الدية ولم يخالفه عمر وقال الله تعالى قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله وهو عام في الحل والحرم ولما كانت الكفارة في الحرم كهي في الحل لا فرق بينهما وإن كان ذلك كله حقا لله تعالى وجب أن تكون الدية كذلك إذ الدية حق لآدمي ولا تعلق لها بالحرم ولا بالشهر الحرام لأن حرمة الحرم والشهر الحرام إنما هي حق لله تعالى فلو كان لحرمة الحرم والأشهر تأثير في إلزام الغرم لكان تأثيره في الكفارة التي هي حق لله تعالى أولى ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم ألا إن قتيل الخطأ العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل ولم يفرق بين الحل والحرم وقد اختلف التابعون في ذلك فروي عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن وخارجة بن زيد وعبيدالله بن عبد الله وسليمان بن يسار الدية في الحرم كهي في غيره وكذلك الشهر الحرام وروي عن القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله أن من قتل في الحرم زيد على ذلك ديته مثل ثلثها والله أعلم باب الدية من غير الإبل قال أبو حنيفة الدية من الإبل والدراهم والدنانير فمن الدراهم عشرة آلاف درهم ومن الدنانير ألف دينار وأبو حنيفة لا يرى الدية إلا من الإبل والورق والذهب
[ 297 ]
وقال مالك والشافعي من الورق اثنا عشر ألفا ومن الذهب ألف دينار وقال مالك أهل الذهب أهل الشام ومصر وأهل الورق أهل العراق وأهل الإبل أهل البوادي وقال مالك ولا يقبل من أهل الإبل إلا الإبل ومن أهل الذهب إلا الذهب ومن أهل الورق إلا الورق وقال أبو يوسف ومحمد الدية من الورق عشرة وعلى أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الإبل مائة بعير وعلى أهل البقر مائتا بقرة وعلى أهل الشاء ألفا شاة وعلى أهل الحلل مائتا حلة يمانية ولا يؤخذ من الغنم والبقر في الدية إلا الثني فصاعدا ولا تؤخذ من الحلل إلا اليمانية قيمة كل حلة خمسون درهما فصاعدا وروي عن ابن أبي ليلى عن الشعبي عن عبيدة السلماني عن عمر أنه جعل الدية على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة وعلى أهل الإبل مائة من الإبل قال أبو بكر الدية قيمة النفس وقد اتفق الجميع على أن لها مقدارا معلوما لا يزاد عليه ولا ينقص منه وأنها غير موكولة إلى اجتهاد الرأي كقيم المتلفات ومهور المثل ونحوهما وقد اتفق الجميع على إثبات عشرة آلاف واختلفوا فيما زاد فلم يجز إثباته إلا بتوقيف وقد روى هشيم عن يونس عن الحسن أن عمر بن الخطاب قوم الإبل في الدية مائة من الإبل قوم كل بعير بمائة وعشرين درهما اثني عشر ألف درهم وقد روي عنه في الدية عشرة آلاف وجائز أن يكون من روى اثني عشر ألفا على أنها وزن ستة فتكون عشرة آلاف وزن سبعة وذكر الحسن في هذا الحديث أنه جعل الدية من الورق قيمة الإبل لا أنه أصل في الدية وفي غير هذا الحديث أنه جعل الدية من الورق وروى عكرمة عن أبي هريرة في الدية عشرة آلاف درهم فإن احتج محتج بما روى محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الدية اثنا عشر ألفا وروى ابن أبي نجيح عن أبيه أن عمر قضى في الدية باثني عشر الفا وروى نافع بن جبير عن ابن عباس مثله والشعبي عن الحارث عن علي مثله قيل له أما حديث عكرمة فإنه يرويه ابن عيينة وغيره عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر فيه ابن عباس ويقال إن محمد بن مسلم غلط في وصله وعلى أنه لو ثبت جميع ذلك احتمل أن يريد بها اثني عشر الف درهم وزن ستة وإذا احتمل ذلك لم يجز إثبات الزيادة بالاحتمال ويثبت عشرة آلاف بالاتفاق وأيضا قد اتفق الجميع على أنها من الذهب ألف دينار وقد جعل في الشرع كل عشرة دراهم قيمة لدينار ألا ترى أن الزكاة في عشرين مثقالا وفي مائتي درهم فجعلت مائتا الدرهم نصابا بإزاء العشرين دينارا كذلك ينبغي أن يجعل بإزاء كل دينار
[ 298 ]
من الدية عشرة دراهم وإنما لم يجعل أبو حنيفة الدية من غير الأصناف الثلاثة من قبل أن الدية لما كانت قيمة النفس كان القياس أن لا تكون إلا من الدراهم والدنانير كقيم سائر المتلفات إلا أنه لما جعل النبي صلى الله عليه وسلم قيمتها من الإبل اتبع الأثر فيها ولم يوجبها من غيرها والله أعلم باب ديات أهل الكفر قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وعثمان البتي وسفيان الثوري والحسن بن صالح دية الكافر مثل دية المسلم واليهودي والنصراني والمجوسي والمعاهد والذمي سواء وقال مالك بن أنس دية أهل الكتاب على دية المسلم ودية المجوسي ثمان مائة درهم وديات نسائهم على النصف من ذلك وقال الشافعي دية اليهودي والنصراني ثلث الدية ودية المجوسي ثمان مائة والمرأة على النصف قال أبو بكر الدليل على مساواتهم المسلمين في الديات قوله عز وجل (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا إلى قوله وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله والدية اسم لمقدار معلوم من المال بدلا من نفس الحر لأن الديات قد كانت متعالمة كما معروفة بينهم قبل الإسلام وبعده فرجع الكلام إليها في قوله في قتل المؤمن خطأ ثم لما عطف عليه قوله تعالى (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله كانت هذه الدية المذكورة بديا إذ لو لم تكن كذلك لما كانت دية لأن الدية اسم لمقدار معلوم من بدل النفس لا يزيد ولا ينقص وقد كانوا قبل ذلك يعرفون مقادير الديات ولم يكونوا يعرفون الفرق بين دية المسلم والكافر فوجب أن تكون الدية المذكورة للكافر هي التي ذكرت للمسلم وأن يكون قوله تعالى فدية مسلمة إلى أهله راجعا إليها كما عقل من دية المسلم أنها المعتاد المتعارف عندهم ولولا أن ذلك كذلك لكان اللفظ مجملا مفتقرا إلى البيان وليس الأمر كذلك فإن قيل فقوله تعالى مسلمة إلى أهله لا يدل على أنها مثل دية المسلم كما أن دية المرأة على النصف من دية الرجل ولا يخرجها ذلك من أن تكون دية كاملة لها قيل له هذا غلط من وجهين أحدهما أن الله تعالى إنما ذكر الرجل في الآية فقال ومن قتل مؤمنا خطأ ثم قال كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله فكما اقتضى فيما ذكره للمسلم كمال الدية كذلك دية المعاهد لتساويهما في اللفظ مع وجود التعارف عندهم في مقدار الدية والوجه الآخر أن دية
[ 299 ]
المرأة لا يطلق عليها اسم الدية وإنما يتناولها الاسم مقيدا ألا ترى أنه يقال دية المرأة نصف الدية وإطلاق اسم الدية إنما يقع على المتعارف المعتاد وهو كمالها فإن قيل قوله تعالى كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق يحتمل أن يريد به وإن كان المقتول المؤمن من قوم بينكم وبينهم ميثاق فاكتفى بذكر الإيمان للقتيلين هو الأولين عن إعادته في القتيل الثالث قيل له هذا غلط من وجوه أحدها أنه قد تقدم في أول الخطاب ذكر القتيل المؤمن خطأ وحكمه وذلك عموم يقتضي سائر المؤمنين إلا ما خصه الدليل فغير جائز إعادة ذكر المؤمن بذلك الحكم في سياق الآية مع شمول أول الآية له ولغيره فعلمنا أنه لم يرد المؤمن ممن كان بيننا وبينهم ميثاق والثاني لما لم يقيده بذكر الإيمان وجب إجراؤه في الجميع من المؤمنين والكفار من قوم بيننا وبينهم ميثاق وغير جائز تخصيصه بالمؤمنين دون الكافرين بغير دلالة والثالث أن إطلاق القول بأنه من المعاهدين يقتضي أن يكون معاهدا مثلهم ألا ترى أن قول القائل إن هذا الرجل من أهل الذمة يفيد أنه ذمي مثلهم وظاهر قوله تعالى كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق يوجب أن يكون معاهدا مثلهم ألا ترى أنه لما أراد بيان حكم المؤمن إذا كان من ذوي أنساب المشركين قال كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة فقيده بذكر الإيمان لأنه لو أطلقه لكان المفهوم منه كافر مثلهم والرابع أنه لو كان كما قال هذا القائل لما كانت الدية مسلمة إلى أهله لأن أهله كفار لا يرثونه فهذه الوجوه كلها تقتضي المساواة وفساد هذا التأويل ويدل على صحة قول أصحابنا أيضا ما رواه محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال لما نزلت جاؤك فاحكم بينهم) [ المائدة: 42 ] الآية قال كان إذا قتل بنو النضير من بني قريظة قتيلا أدوا نصف الدية وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا الدية إليهم قال فسوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم في الدية قال أبو بكر لما قال أدوا الدية ثم قال سوى بينهم في الدية دل ذلك على أنه راجع إلى الدية المعبودة المبدوء بذكرها لأنه لو كان رد بني النضير إلى نصفها لقال سوى بينهم في نصف الدية ولم يقل سوى بينهم الدية ويدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم في النفس مائة من الإبل وهو عام في الكافر والمسلم وروى مقسم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ودى العامريين وكانا مشركين دية الحرين المسلمين وروى محمد بن عبدوس قال حدثنا علي بن الجعد قال حدثنا أبو بكر قال سمعت نافعا عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ودى ذميا دية مسلم وهذان الخبران يوجبان مساواة الكافر للمسلم في الدية لأنه معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم وداهما بما في الآية في قوله عز وجل: (وإن
[ 300 ]
كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله فدل على أن المراد من الآية دية المسلم وأيضا لما لم يكن مقدار الدية مبينا في الكتاب كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك واردا مورد الباين وفعله صلى الله عليه وسلم إذا ورد مورد البيان فهو على الوجوب وروى أبو حنيفة عن الهيثم عن أبي الهيثم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان قالوا دية المعاهد دية الحر المسلم وروى إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب قال كان أبو بكر وعمر وعثمان يجعلون دية اليهودي والنصراني إذا كانوا معاهدين مثل دية المسلم وروى سعيد بن أبي أيوب قال حدثني يزيد بن أبي حبيب أن جعفر بن عبد الله بن الحكم أخبره أن رفاعة بن السموءل اليهودي قتل بالشام فجعل عمر ديته ألف دينار وروى محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح عن مجاهد عن ابن مسعود قال دية أهل الكتاب مثل دية المسلمين وهو قول علقمة وإبراهيم ومجاهد وعطاء والشعبي وروى الزهري عن سالم عن أبيه أن مسلما قتل كافرا من أهل العقد فقضى عليه عثمان بن عفان بدية المسلم فهذه الأخبار وما ذكرنا من أقاويل السلف مع موافقتها لظاهر الآية توجب مساواة الكافر للمسلم في الديات وقد روي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم ودية المجوسي ثمان مائة قال سعيد وقضى عثمان في دية المعاهد بأربعة آلاف قال أبو بكر وقد روي عنهما خلاف ذلك وقد ذكرناه واحتج المخالف بما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة عام الفتح قال في خطبته ودية الكافر نصف دية المسلم وبما روى عبد الله بن صالح قال حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المجوس ثمان مائة قيل له قد علمنا حضور هؤلاء الصحابة الذين ذكرنا عنهم مقدار الدية خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فلو كان ذلك ثابتا لعرفه هؤلاء ولما عدلوا عنه إلى غيره وأيضا قد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال دية المعاهد مثل دية المسلم وأنه ودى العامريين دية الحرين المسلمين وهذا أولى لما فيه من الزيادة ولو تعارض الخبران لكان ما اقتضاه ظاهر الكتاب وما ورد به النقل المتواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم في أن الدية مائة من الإبل من غير فصل فيه بين المسلم والكافر أولى فوجب تساويهما في الديات وأما حديث عقبة بن عامر في دية المجوسي فإنه حديث واه لا يحتج بمثله لأن ابن لهيعة ضعيف لا سيما من رواية عبد الله بن صالح عنه فإن قيل قوله تعالى فدية مسلمة إلى أهله عطفا على ما ذكر في دية المسلم لا يدل على تساوي الديتين كما لو قال من قتل عبدا فعليه قيمته ومن استهلك ثوبا فعليه قيمته لم يدل على تساوي القيمتين قيل له الفرق بينهما أن الدية اسم لمقدار من
[ 301 ]
المال بدلا من نفس الحر كانت معلومة المقدار عندهم وهي مائة من الإبل فمتى أطلقت كان من مفهوم اللفظ هذا القدر فإطلاق لفظ الدية قد أنبأ عن هذا المعنى وعطفها على الدية المتقدمة مع تساوي اللفظ فيهما بأنها دية مسلمة قد اقتضى ذلك أيضا والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب باب المسلم يقيم في دار الحرب فيقتل قبل أن يهاجر إلينا قال الله تعالى كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة روى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن قال يكون الرجل مؤمنا وقومه كفار فلا دية له ولكن عتق رقبة مؤمنة قال أبو بكر هذا محمول على الذي يسلم في دار الحرب فيقتل قبل أن يهاجر إلينا لأنه غير جائز أن يكون مراده في مؤمن في دار الإسلام إذا قتل وله أقارب كفار لأنه لا خلاف بين المسلمين أن على قاتله الدية لبيت المال وأن كون أقربائه كفارا لا يوجب سقوط ديته لأنهم بمنزلة الأموات حيث لا يرثونه وروى عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس فإن كان من قوم عدو لكم الآية قال كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يرجع إلى قومه فيكون فيهم فيصيبه المسلمون خطأ في سرية أو غزاة فيعتق الذي يصيبه رقبة قال أبو بكر إذا اسلم في دار الإسلام لم تسقط ديته برجوعه إلى دار الحرب كسائر المسلمين لأن ما بينه وبين المشركين من القرابة لا تأثير له في إسقاط قيمة دمه كسائر أهل دار الإسلام إذا دخلوا دار الحرب بأمان على القاتل الدية وروي عن ابن عباس وقال قتادة هو المسلم يكون في المشركين فيقتله المؤمن ولا يدري ففيه عتق رقبة وليس فيه دية وهذا على أنه يقتل قبل الهجرة إلى دار الإسلام وروى مغيرة عن إبراهيم فإن كان من قوم عدو لكم قال هو المؤمن يقتل وقومه مشركون ليس بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فعليه تحرير رقبة وإن كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد أدى ديته إلى قرابته الذين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد قال أبو بكر وهذا لا معنى له من قبل أن أقرباءه لا يرثونه لأنهم كفار وهو مسلم فكيف يأخذون ديته وإن كان قومه أهل حرب وهو من أهل الإسلام فالدية واجبة لبيت المال كمسلم قتل في دار الإسلام ولا وارث له وقد اختلف فقهاء الأمصار فيمن قتل في دار الحرب وهو مؤمن قبل أن يهاجر فقال أبو حنيفة وأبو يوسف في الرواية المشهورة ومحمد في الحربي يسلم فيقتله مسلم
[ 302 ]
مستأمن قبل أن يخرج فلا شئ عليه إلا الكفارة في الخطأ وإن كان مستأمنين دخلا دار الحرب فقتل أحدهما صاحبه فعليه الدية في العمد والخطأ والكفارة في الخطأ خاصة وإن كانا أسيرين فلا شئ على القاتل إلا الكفارة في الخطأ في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد الدية في العمد والخطأ وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف في الحربي يسلم في دار الحرب فيقتله رجل مسلم قبل أن يخرج إلينا أن عليه الدية استحسانا ولو وقع في بئر حفرها أو وقع عليه ميزاب عمله لم يضمن شيئا وهذا خلاف المشهور من قوله وخلاف القياس ايضا وقال مالك إذا أسلم في دار الحرب فقتل قبل أن يخرج إلينا فعلى قاتله الدية والكفارة إن كان خطأ قال وقوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة إنما كان في صلح النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة لأن من لم يهاجر لم يورث لأنهم كانوا يتوارثون بالهجرة قال الله تعالى والذين آمنوا لم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا فلم يكن لمن لم يهاجر ورثة يستحقون ميراثه فلم تجب الدية ثم نسخ ذلك بقوله وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله وقال الحسن بن صالح من أقام في أرض العدو وإن انتحل الإسلام وهو يقدر على التحويل إلى المسلمين فأحكامه أحكام المشركين وإذا أسلم الحربي فأقام ببلادهم وهو يقدر على الخروج فليس بمسلم يحكم فيه بما يحكم على أهل الحرب في ماله ونفسه وقال الحسن إذا لحق الرجل بدار الحرب ولم يرتد عن الإسلام فهو مرتد بتركه دار الإسلام وقال الشافعي إذا قتل المسلم مسلما في دار الحرب في الغارة أو الحرب وهو لا يعلمه مسلما فلا عقل فيه ولا قود وعليه الكفارة وسواء كان المسلم أسيرا أو مستأمنا أو رجلا أسلم هناك وإن علمه مسلما فقتله فعليه القود قال أبو بكر لا يخلو قوله تعالى كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة من أن يكون المراد به الحربي الذي يسلم فيقتل قبل أن يهاجر على ما قاله أصحابنا أو المسلم الذي له قرابات من أهل الحرب لأن قوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم يحتمل المعنيين جميعا بأن يكون من أهل دار الحرب وبأن يكون ذا نسب من أهل الحرب فلو خلينا والظاهر لأسقطنا دية من قتل في دار الإسلام من المسلمين إذا كان ذا قرابة من أهل الحرب لاقتضاء الظاهر ذلك فلما اتفق المسلمون على أن كونه ذا قرابة من أهل الحرب لا يسقط حكم دمه في إيجاب الدية أو القود إذا قتل في دار الإسلام دل ذلك على أن المراد من كان مسلما من أهل دار الحرب لم يهاجر إلى دار الإسلام فيكون الواجب على قاتله خطأ الكفارة دون الدية لأن الله تعالى إنما أوجب
[ 303 ]
فيه الكفارة ولم يوجب الدية وغير جائز أن يزاد في النص إلا بنص مثله إذ كانت الزيادة في النص توجب النسخ فإن قيل هلا أوجبت الدية بقوله تعالى قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله قيل له غير جائز أن يكون هذا المؤمن مرادا بالمؤمن المذكور في أول الآية لأن فيها إيجاب الدية والرقبة فيمتنع أن نعطفه عليه ونشرط كونه من أهل دار الحرب ونوجب فيه الرقبة وهو قد أوجبها بديا مع الدية في ابتداء الخطاب وأيضا فإن قوله كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن وسلم كلام يتقدم له ذكر في الخطاب لأنه لا يجوز أن يقال أعط هذا رجلا وإن كان رجلا فأعطه هذا كلام فاسد لا يتكلم به حكيم ثبت أن هذا المؤمن المعطوف على الأول غير داخل في أول الخطاب ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا هناد بن السري قال حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبد الله قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل وقال أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين قالوا يا رسول الله لم قال لا تراءى ناراهما وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن علي بن شعيب قال حدثنا ابن عائشة قال حدثنا حماد بن سلمة عن الحجاج عن إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة أو قال لا ذمة له قال ابن عائشة هو الرجل يسلم فيقيم معهم فيغزون فإن اصيب فلا دية له لقوله عليه السلام: (فقد برئت منه الذمة وقوله أنا برئ منه يدل على أن لا قيمة لدمه كأهل الحرب الذين لا ذمة لهم ولما أمر لهم بنصف العقل في الحديث الأول كان ذلك على أحد وجهين إما أن يكون الموضع الذي قتل فيه كان مشكوكا في أنه من دار الحرب أو من دار الإسلام أو أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تبرع به لأنه لو كان جميعه واجبا لما اقتصر على نصفه وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثنا شيبان قال حدثنا سليمان يعني ابن المغيرة قال حدثنا حميد بن هلال قال أتاني أبو العالية وصاحب لي فانطلقنا حتى أتينا بشر بن عاصم الليثي فقال أبو العالية حدث هذين فقال بشر حدثني عقبة بن مالك الليثي وكان من رهطه قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأغارت على قوم فشذ رجل من القوم واتبعه رجل من السرية ومعه السيف
[ 304 ]
شاهره فقال الشاذ إني مسلم فضربه فقتله فنمى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولا شديدا فقال القاتل يا رسول الله ما قال إلا تعوذا من القتل فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا تعرف المساءة في وجهه وقال إن الله أبى علي أن أقتل مؤمنا ثلاث مرات قال أبو بكر فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بإيمان المقتول ولم يوجب على قاتله الدية لأنه كان حربيا لم يهاجر بعد إسلامه وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا الحسن بن علي وعثمان بن أبي شيبة قالا حدثنا يعلى بن عبيد عن الأعمش عن أبي ظبيان قال حدثنا أسامة بن زيد قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى الحرقات فنذروا بنا فهربوا فأدركنا رجلا فلما غشيناه قال لا إله إلا الله فضربناه حتى قتلناه فذكرته النبي صلى الله عليه وسلم فقال من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة فقلت يا رسول الله إنما قالها مخافة السلاح قال أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا من ؟ لك بلا إله إلا الله يوم القيامة فما زال يقولها حتى وددت أني لم أسلم إلا يومئذ وهذا الحديث ايضا يدل على ما قلنا لأنه لم يوجب عليه شيئا وهو حجة على الشافعي في إيجابه القود على قاتل المسلم في دار الحرب إذا علم أنه مسلم لأن النبي عليه السلام قد أخبر بإسلام هذا الرجل ولم يوجب على أسامة دية ولا قودا وأما قول مالك إن قوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم كان حكما لمن أسلم ولم يهاجر وهو منسوخ بقوله تعالى وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض فإنه دعوى لنسخ حكم ثابت في القرآن بلا دلالة وليس في نسخ التوارث بالهجرة وإثباته بالرحم ما يوجب نسخ هذا الحكم بل هو حكم ثابت بنفسه لا تعلق له بالميراث وعلى أنه في حال ما كان التوارث بالهجرة قد كان من لم يهاجر من القرابات يرث بعضهم بعضا وإنما كانت الهجرة قاطعة للميراث بين المهاجر وبين من لم يهاجر فأما من لم يهاجر فقد كانوا يتوارثون بأسباب أخر فلو كان الأمر على ما قال مالك لوجب أن تكون ديته واجبة لمن لم يهاجر من أقربائه لأنه معلوم أنه لم يكن ميراث من لم يهاجر مهملا لا مستحق له فلما لم يوجب الله تعالى له دية قبل الهجرة لا للمهاجرين ولا لغيرهم علمنا أنه كان مبقي على حكم الحرب لا قيمة لدمه وقوله تعالى فإن كان من قوم عدو لكم يفيد أنه ما لم يهاجر فهو أهل دار الحرب باق على حكمه الأول في أن لا قيمة لدمه وإن كان دمه محظورا إذ كانت النسبة إليهم قد تصح بأن يكون من بلدهم وإن لم يكن بينه وبينهم رحم بعد أن يجمعهم في الوطن بلد أو قرية أو صقع فنسبه الله إليهم بعد
[ 305 ]
الإسلام إذ كان من أهل ديارهم ودل بذلك على أن لا قيمة لدمه وأما قول الحسن بن صالح في أن المسلم إذا لحق بدار الحرب فهو مرتد فإنه خلاف الكتاب والإجماع لأن الله تعالى قال والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا فجعلهم مؤمنين مع إقامتهم في دار الحرب بعد إسلامهم وأوجب علينا نصرتهم بقوله وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر عنه ولو كان ما قال صحيحا لوجب أن لا يجوز للتجار دخول دار الحرب بأمان وأن يكونوا بذلك مرتدين وليس هذا قول أحد فإن احتج محتج بما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل وعبدان المروزي قالا حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا حميد بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي إسحاق عن الشعبي عن جرير قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا ابق العبد إلى المشركين فقد حل دمه فإن هذا محمول عندنا على أنه قد لحق بهم مرتدا عن الإسلام لأن أباق العبد لا يبيح دمه واللحاق بدار الحرب كدخول التاجر إليها بأمان فلا يبيح دمه مطلب: في حكم دم المسلم وماله إذا أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا وأما قول الشافعي في أن من أصاب مسلما في دار الحارب وهو لا يعلمه مسلما فلا شئ عليه وإن علم إسلامه أقيد به فإنه متناقض من قبل أنه إذا ثبت أن لدمه قيمة لم يختلف حكم العمد والخطأ في وجوب بدله في العمد وديته في الخطأ فإذا لم يجب في الخطأ شئ كذلك حكم العمد فيه ولما ثبت بما قدمنا أنه لا قيمة لدم المقيم في دار الحرب بعد إسلامه قبل الهجرة إلينا وكان مبقي على حكم الحرب وإن كان محظور الدم أجروه أصحابنا مجرى الحربي في إسقاط الضمان عن متلف ماله لأن دمه أعظم حرمة من ماله ولا ضمان على متلف نفسه فماله أحرى أن لا يجب فيه ضمان وأن يكون كمال الحربي من هذا الوجه ولذلك أجاز أبو حنيفة مبايعته على سبيل ما يجوز مبايعته الحربي من بيع الدرهم بالدرهمين في دار الحرب وأما الأسير في دار الحرب فإن أبا حنيفة أجراه مجرى الذي أسلم هناك قبل أن يهاجر وذلك لأن إقامته هناك لا على وجه الأمان وهو مقهور مغلوب فلما استويا من هذا الوجه استوى حكمهما في سقوط الضمان عن قاتلهما والله أعلم ذكر أقسام القتل وأحكامه قال أبو بكر القتل ينقسم إلى أربعة أنحاء واجب ومباح ومحظور وما ليس
[ 306 ]
بواجب ولا محظور ولا مباح فأما الواجب فهو قتل أهل الحرب المحاربين لنا قبل أن يصيروا في أيدينا بالأسر أو بالأمان أو العهد وذلك في الرجال منهم دون النساء اللاتي لا يقاتلن ودون الصغار الذين لا يقاتلون المحاربين إذا خرجوا ممتنعين وقتلوا وصاروا في يد الإمام قبل التوبة وقتل أهل البغي إذا قاتلونا وقتل من غير قصد إنسانا محظور الدم بالقتل فعلينا قتله وقتل الساحر والزاني المحصن رجما وكل قتل وجب على وجه الحد فهذه ضروب القتل الواجب وأما المباح فهو القتل الواجب لولي الدم على وجه القود فهو مخير بين القتل والعفو فالقتل ههنا مباح ليس بواجب وكذلك قتل أهل الحرب إذا صاروا في أيدينا فالإمام مخير بين القتل والاستبقاء وكذلك من دخل دار الحرب وأمكنه القتل والأسر فهو مخير بين أن يقتل وبين أن يأسر وأما المحظور فإنه ينقسم إلى أنحاء منها ما يجب فيه القود هو قتل المسلم عمدا في دار الإسلام العاري من الشبهة فعلى القاتل القود في ذلك ومنها ما تجب فيه الدية دون القود وهو قتل شبه العمد وقتل الأب ابنه وقتل الحربي المستأمن والمعاهد وما يدخله الشبهة فيسقط القود وتجب الدية ومنها ما لا يجب فيه شئ وهو قتل المسلم في دار الحرب قبل أن يهاجر وقتل الأسير في دار الحرب من المسلمين على قول أبي حنيفة وقتل المولى لعبده هذه ضروب من القتل محظورة ولا يجب على القاتل فيها شئ غير التعزير وأما ما ليس بواجب ولا مباح ولا محظور فهو قتل المخطئ والساهي والنائم والمجنون والصبي وقد بينا حكمه فيما سلف قوله تعالى وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة قال ابن عباس والشعبي وقتادة والزهري هو الرجل من أهل الذمة يقتل خطأ فتجب على قاتله الدية والكفارة وهو قول أصحابنا وقال إبراهيم والحسن وجابر بن زيد أراد وإن كان المؤمن المقتول من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة وكانوا لا يوجبون الكفارة على قاتل الذمي وهو مذهب مالك وقد بينا فيما سلف أن ظاهر الآية يقتضي أن يكون المقتول المذكور في الآية كافرا ذا عهد وأنه غير جائز إضمار الإيمان له إلا بدلالة ويدل عليه أنه لما أراد مؤمنا من أهل دار الحرب ذكر الإيمان فقال كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة فوصفه بالإيمان لأنه لو أطلق لاقتضى الإطلاق أن يكون كافرا من قوم عدو لنا ويدل عليه أن الكافر المعاهد تجب على قاتله الدية وذلك مأخوذ من الآية فوجب أن يكون المراد الكافر المعاهد والله أعلم
[ 307 ]
باب القتل العمد هل فيه كفارة قال الله تعالى قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة فنص على إيجاب الكفارة في قتل الخطأ وذكر قتل العمد في قوله تعالى كتب عليكم القصاص في القتلى وقالي النفس بالنفس إن بالعمد فلما كان كل واحد من القتيلين مذكورا بعينه ومنصوصا على حكمه لم يجز لنا أن نتعدى ما نص الله تعالى علينا فيهما إذ غير جائز قياس المنصوصات بعضها على بعض وهذا قول أصحابنا جميعا وقال الشافعي على قاتل العمد الكفارة ومع ذلك ففي إثبات الكفارة في العمد زيادة في حكم النص وغير جائز الزيادة في النص إلا بمثل ما يجوز به النسخ وأيضا فغير جائر إثبات الكفارات قياسا وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق وأيضا لما نص الله على حكم كل واحد من القتيلين وقال النبي صلى الله عليه وسلم من أدخل في أمرنا ما ليس منه فهو رد فموجب الكفارة على العامد مدخل في أمره ما ليس منه فإن قيل لما وجبت الكفارة في الخطأ فهي في العمد أوجب لأنه أغلظ قيل له ليست هذه الكفارة مستحقة بالمأثم فيعتبر عظم المأثم فيها لأن المخطئ غير آثم فاعتبار المأثم فيه ساقط وأيضا قد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم سجود السهو على الساهي ولا يجب على العامد وإن كان العمد أغلظ فإن احتجوا بحديث ضمرة عن إبراهيم بن أبي عبلة عن العريف بن الديلي عن واثلة بن الأسقع قال أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب يعني النار بالقتل فقال اعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار قيل له رواه ابن المبارك وهانئ بن عبد الرحمن بن أخي إبراهيم بن أبي عبلة هذا الحديث عن أبي عبلة فلم يذكر أنه أوجب بالقتل وهؤلاء أثبت من ضمرة بن ربيعة ومع ذلك لو ثبت الحديث على ما رواه ضمرة لم يدل على قول المخالف من وجوه أحدها أنه تأويل من الراوي في قوله أوجب النار بالقتل لأنه قال يعني بالقتل والثاني أنه لو أراد رقبة القتل لذكر رقبة مؤمنة فلما لم يشرط لهم الإيمان فيها دل على أنها ليست من كفارة القتل وأيضا فإنما أمرهم بأن يعتقوا عنه ولا خلاف أنه ليس عليهم عتقها عنه وأيضا فإن عتق الغير عن القاتل لا يجزيه عن الكفارة قوله تعالى رقبة مؤمنة جعل الله من صفة رقبة القتل الإيمان ولا خلاف أنها لا تجزي إلا بهذه الصفة وهذا يدل على أن عتق الرقبة المؤمنة أفضل من الكافرة لأن هذه الصفة قد صارت شرطا في الفرض وكذلك من نذر أن يعتق رقبة
[ 308 ]
مؤمنة لم تجزه الكافرة لأنه أوجبها مقرونة بصفة هي قربة وفي ذلك دليل على أن الصدقة على المسلمين أفضل منها على الكفار الذميين وإن كانت تطوعا وكذلك جعل الله التتابع في صوم كفارة القتل صفة زائدة ولا خلاف أنه لا يجزي إلا بهذه الصفة مع الإمكان وكذلك قال أصحابنا فيمن أوجب صوم شهر متتابع أنه لا يجزيه التفريق لإيجابه إياه بصفة هي قربة فوجبت حين أوجبها كما وجب المنذور من الصوم قوله تعالى فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين قال أبو بكر لم ختلف الفقهاء أنه إذا صام بالأهلة أنه لا يعتبر فيه النقصان وأنها إن كانت ناقصة أو تامة أجزأته وقال النبي صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين فأمر باعتبار الشهور بالأهلة وأمر عند عدم الرؤية باعتبار الثلاثين وإن ابتدأ صيام الشهرين من بعض الشهر اعتبر الشهر الثاني بالهلال وبقية الشهر الأول بالعدد تمام ثلاثين وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يعتبر الأهلة إلا أن يكون ابتداء صومه بالهلال وروي نحوه عن الحسن البصري والأول أصح لأنه قد روي في معنى قوله في الأرض أربعة أشهر أنها بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وبقية من ربيع الآخر فاعتبر الكسر بالأيام على التمام وسائر الشهور بالأهلة وقوله فصيام شهرين متتابعين معلوم أنه كلفنا التتابع على حسب الإمكان وفي العادة أن المرأة لا تخلو من حيض في كل شهر ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش تحيضي في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر فأخبر أن عادة النساء حيضة في كل شهر فإذا كان تكليف صوم التتابع على حسب الإمكان وفي العادة أن المرأة إذا كان عليها صوم شهرين متتابعين لم يكن في وسعها في العادة أن تصوم شهرين لا حيض فيهما سقط حكم أيام الحيض ولم يقطع حكم التتابع وصارت أيام الحيض بمنزلة الليل الذي لا يقطع التتابع وهو قول الشافعي وروى عن إبراهيم أنها تستقبل وقال أصحابنا إذا مرض في الشهرين فأفطر استقبل وقال مالك يصل ويجزيه وفرقوا بين الحيض والمرض لأنه يمكنه في العادة صيام شهرين متتابعين بلا مرض ولا يمكنها ذلك بلا حيض ووجه آخر وهو
[ 309 ]
أن حدوث المرض لا يوجب الإفطار بفعله والحيض ينافي الصوم لا يفعلها فأشبه الليل ولم يقطع التتابع قوله تعالى توبة من الله قيل فيه إن معناه اعملوا بما أوجبه الله للتوبة من الله أي ليقبل الله توبتكم فيما اقترفتموه من ذنوبكم وقيل إنه خاص في سبب القتل فأمر بالتوبة منه وقيل معناه توسعة ورحمة من الله كما قال عليكم وعفا عنكم) [ البقرة: 187 ]، والمعنى وسع عليكم وسهل عليكم قوله تعالى أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام الآية روي أن سبب نزول هذه الآية أن سرية النبي صلى الله عليه وسلم لقيت رجلا ومعه غنيمات له فقال السلام عليكم لا إله إلا الله محمد رسول الله فقتله رجل من القوم فلما رجعوا أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال لم قتلته وقد أسلم فقال إنما قالها متعوذا من القتل فقال هلا شققت عن قلبه وحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله ورد عليهم غنيماته قال ابن عمر وعبد الله بن أبي حدرد القاتل محلم بن جثامة قتل عامر بن الأضبط الأشجعي وروي أن القاتل مات بعد أيام فلما دفن لفظته الأرض ثلاث مرات فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن الله أراد أن يريكم عظم الدم عنده ثم أمر أن يلقى عليه الحجارة وهذه القصة مشهورة لمحلم بن جثامة وقد ذكرنا حديث اسامة بن زيد أنه قتل في سرية رجل قال لا إله إلا الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم قتلته بعد ما قال لا إله إلا الله فقال إنما قالها تعوذا فقال هلا شققت عن قلبه من لك بلا إله إلا الله وذكرنا أيضا حديث عقبة بن مالك الليثي في هذا المعنى وأن الرجل قال إني مسلم فقتله فأنكره النبي صلى الله عليه وسلم وقال إن الله أبى علي أن أقتل مؤمنا وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا الليث عن ابن شهاب عن عطاء بن زيد الليثي عن عبيدالله بن عدي بن الخيار عن المقداد بن الأسود أنه أخبره أنه قال يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت لله أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتله فقلت يا رسول الله قطع يدي قال لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا أبو النضر هاشم بن القاسم قال حدثنا المسعودي عن أبي مجلز عن أبي عبيدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شرع أحدكم الرمح إلى الرجل فإن كان سنانه عند ثغرة نحره فقال لا إله إلا الله فليرجع منه الرمح وقال أبو عبيدة جعل الله تعالى هذه الكلمة أمنة المسلم وعصمه ماله ودمه وجعل الجزية أمنة
[ 310 ]
الكافر وعصمة ماله ودمه وهو نظير ما روي في آثار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وفي بعضها وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله رواه عمر وجرير بن عبد الله وابن عمر وأنس بن مالك وأبو هريرة وقالوا لأبي بكر الصديق حين أراد قتل العرب لما امتنعوا من أداء الزكاة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم فقال أبو بكر إلا بحقها وهذا من حقها فاتفقت الصحابة على صحة هذا الخبر وهو معنى قوله تعالى تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا فحكم الله تعالى بصحة إيمان من أظهر الإسلام وأمرنا بإجرائه على أحكام المسلمين وإن كان في المغيب على خلافه وهذا مما يحتج به في قبول توبة الزنديق متى أظهر الإسلام لأن الله تعالى لم يفرق بين الزنديق وغيره إذا أظهر الإسلام وهو يوجب أن من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله أو قال إني مسلم أنه يحكم له بحكم الإسلام لأن قوله تعالى لمن ألقى إليكم السلم إنما معناه لمن استسلم فأظهر الانقياد لما دعي إليه من الإسلام وإذا قرئ السلام فهو إظهار تحية الإسلام وقد كان ذلك علما لمن أظهر به الدخول في الإسلام وقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قتل الرجل الذي أسلمت والذي قال لا إله إلا الله قتلته بعد ما أسلم فحكم له بالإسلام بإظهار هذا القول وقال محمد بن الحسن في كتاب السير الكبير لو أن يهوديا أو نصرانيا قال أنا مسلم لم يكن بهذا القول مسلما لأن كلهم يقولون نحن مسلمون ونحن مؤمنون ويقولون إن ديننا هو الإيمان وهو الإسلام فليس في هذا دليل على الإسلام منهم وقال محمد ولو أن رجلا من المسلمين حمل على رجل من المشركين ليقتله فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله كان هذا مسلما وإن رجع عن هذا ضرب عنقه لأن هذا هو الدليل على الإسلام مطلب: في بيان المراد من قوله عليه السلام: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله " قال أبو بكر لم يجعل اليهودي مسلما بقوله أنا مسلم أو مؤمن لأنهم كذلك يقولون ويقولون الإيمان والإسلام هو ما نحن عليه فليس في هذا القول دليل على إسلامه وليس اليهودي والنصراني بمنزلة المشركين الذين كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم
[ 311 ]
كانوا عبدة أوثان فكان إقرارهم بالتوحيد وقول القائل منهم إني مسلم وإني مؤمن تركا لما كان عليه ودخولا في الإسلام فكان يقتصر منه على هذا القول لأنه كان لا يسمح به إلا وقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم وإنما أراد المشركين بهذا القول دون اليهود لأن اليهود قد كانوا يقولون لا إله إلا الله وكذلك النصارى يطلقون ذلك وإن ناقضوا بعد ذلك في التفصيل فيثبتونه ثلاثة فعلمنا أن قول لا إله إلا الله إنما كان علما لإسلام مشركي العرب لأنهم كانوا لا يعترفون بذلك إلا استجابة لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وتصديقا له فيما دعاهم إليه ألا ترى إلى قوله تعالى كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون واليهود والنصارى يوافقون المسلمين على إطلاق هذه الكلمة وإنما يخالفون في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم فمتى أظهر منهم مظهر الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو مسلم وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة في اليهودي والنصراني إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولم يقل إني داخل في الإسلام ولا برئ من اليهودية ولا من النصرانية لم يكن بذلك مسلما وأحسب إني قد رأيت عن محمد مثل هذا إلا أن الذي ذكره محمد في السير الكبير خلاف ما رواه الحسن بن زياد ووجه ما رواه الحسن بن زياد أن من هؤلاء من يقول إن محمدا رسول الله ولكنه رسول إليكم ومنهم من يقول إن محمدا رسول الله لكنه لم يبعث بعد وسيبعث إلا فلما كان فيهم من يقول ذلك في حال إقامته على اليهودية أو النصرانية لم يكن في إظهاره لذلك ما يدل على إسلامه حتى يقول إني داخل الإسلام أو يقول إني برئ من اليهودية أو النصرانية فقوله عز وجل تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا لو خلينا وظاهره لم يدل على ان فاعل ذلك محكوم له بالإسلام لأنه جائز أن يكون المراد أن لا تنفوا عنه الإسلام ولا تثبتوه ولكن تثبتوا في ذلك حتى تعلموا منه معنى ما أراد بذلك ألا ترى أنه قال ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا) فالذي يقتضيه ظاهر اللفظ الأمر بالتثبت والنهي عن نفي سمة الإيمان عنه وليس في النهي عن نفي سمة الإيمان عنه إثبات الإيمان والحكم به ألا ترى أنا متى شككنا في إيمان رجلا لا نعرف حاله لم يجز لنا أن نحكم بإيمانه ولا بكفره ولكن نتثبت حتى نعلم حاله وكذلك لو أخبرنا مخبر بخبر لا نعلم صدقه من كذبه لم يجز لنا أن نكذبه ولا يكون تركنا لتكذيبه تصديقا منا له كذلك ما وصفنا من مقتضى الآية ليس فيه إثبات إيمان ولا كفر وإنما فيه الأمر بالتثبت حتى نتبين حاله إلا أن الآثار التي قد ذكرنا قد
[ 312 ]
أوجبت له الحكم بالإيمان لقوله صلى الله عليه وسلم أقتلت مسلما وقتلته بعد ما أسلم وقوله أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها فأثبت لهم حكم الإسلام بإظهار كلمة التوحيد وكذلك قوله في حديث عقبة بن مالك الليثي إن الله تعالى أبى علي أن أقتل مؤمنا فجعله مؤمنا بإظهار هذه الكلمة وروي أن الآية نزلت في مثل ذلك فدل ذلك على أن مراد الآية إثبات الإيمان له في الحكم بإظهار هذه الكلمة وقد كان المنافقون يعصمون دماءهم وأموالهم بإظهار هذه الكلمة مع علم الله تعالى باعتقادهم الكفر وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بنفاق كثير منهم فدل ذلك على أن قوله تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا قد اقتضى الحكم لقائله بالإسلام قوله تعالى عرض الحياة الدنيا يعني به الغنيمة وإنما سمى متاع الدنيا عرضا لقلة بقائه على ما روي في الرجل الذي قتل الذي أظهر الإسلام وأخذ ما معه قوله تعالى ضربتم في سبيل الله يعني به السير فيها وقوله تعالى (فتثبتوا فيه قرئ بالتاء والنون وقيل إن الاختيار التبين لأن التثبت إنما سبب له وقوله تعالى قبل كنتم من قبلي عمرو قال الحسن كفارا مثلهم وقال سعيد بن جبير كنتم مستخفين بدينكم بين قومكم كما استخفوا وقوله تعالى الله عليكم يعني بإسلامكم كقوله تعالى بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان وقيل فمن الله عليكم بإعزازكم صلى حتى أظهرتم دينكم قوله تعالى يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر الآية يعني به تفضيل المجاهدين على القاعدين والحض على الجهاد ببيان ما للمجاهدين من منزلة الثواب التي ليست للقاعدين عن الجهاد ودل به على أن شرف الجزاء على قدر شرف العمل فذكر بديا أنهما غير متساويين ثم بين التفضيل بقوله فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة) مطلب: في أن الاغلب على كلمة " غير " أن تكون صفة لا استثناء وفي الفرق بين المعنيين وقد قرئ غير بالرفع والنصب فالرفع على أنها نعت للقاعدين والنصب على الحال ويقال إن الاختيار فيها الرفع لأن الصفة أغلب على غير من معنى الاستثناء
[ 313 ]
وإن كان كلاهما جائز أو الفرق بين غير إذا كانت صفة وبينها إذا كانت استثناء أنها في الاستثناء توجب إخراج بعض من كل نحو جاءني القوم غير زيد وليست كذلك في الصفة لأنك تقول جاءني رجل غير زيد فغير ههنا صفة وفي الأول استثناء وإن كانت في الحالين مخصصة على حد النفي وقوله تعالى وعد الله الحسنى يعني والله أعلم المجاهدين والقاعدين من المؤمنين وهذا دليل على ان فرض الجهاد على الكفاية وليس على كل أحد بعينه لأنه وعد القاعدين الحسنى كما وعد المجاهدين وإن كان ثواب المجاهدين أشرف وأجزل ولو لم يكن القعود عن الجهاد مباحا إذا قامت به طائفة لما وعد القاعدين الثواب وفي ذلك دليل على ما ذكرنا أن فرض الجهاد غير معين على كل أحد في نفسه وقوله تعالى وقال الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيماي وفي درجات منه ذكر ههنا منه) وذكر في أول الآية درجة فإنه روي عن ابن جريج أن الأول على أهل الضرر فضلوا عليهم درجة واحدة والثاني على غير أهل الضرر فضلهم عليهم درجات كثيرة وأجرا عظيما وقيل إن الأول على الجهاد بالنفس ففضلوا درجة واحدة والآخر الجهاد بالنفس والمال ففضلوا درجات كثيرة وقيل إنه أراد بالأول درجة المدح والتعظيم وشرف الدين وأراد بالآخر درجات الجنة فإن قيل هل في الآية دلالة على مساواة أولي الضرر للمجاهدين في سبيل الله من أجل معنى الاستثناء فيها قيل له لا دلالة فيها على التساوي لأن الاستثناء ورد من حيث كان مخرج الآية تحريضا على الجهاد وحثا عليه فاستثنى أولي الضرر إذ ليسوا مأمورين بالجهاد لا من حيث ألحقوا بالمجاهدين قوله عز وجل الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم الآية قيل فيه تقبض أرواحهم عند الموت وقال الحسن تحشرهم إلى النار وقيل إنها نزلت في قوم من المنافقين كانوا يظهرون الإيمان للمؤمنين خوفا وإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا لهم الكفر ولا يهاجرون إلى المدينة فبين الله تعالى بما ذكر أنهم ظالمون لأنفسهم بنفاقهم وكفرهم وبتركهم أنه الهجرة وهذا يدل على فرض الهجرة في ذلك الوقت لولا ذلك لما ذمهم على تركها ويدل أيضا على أن الكفار مكلفون بشرائع الإسلام معاقبون على تركها لأن الله قد ذم هؤلاء المنافقين على ترك الهجرة وهذا نظير قوله تعالى ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى فذمهم على ترك اتباع سبيل المؤمنين كما ذمهم على ترك الإيمان ودل بذلك على صحة حجة الإجماع لأنه لولا أن ذلك لازم لما ذمهم على
[ 314 ]
تركه ولما قرنه إلى مشاقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على النهي عن المقام بين أظهر المشركين لقوله تعالى ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها وهذا يدل على الخروج من أرض الشرك إلى أي أرض كانت من أرض الإسلام وروي عن ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي إن الآية نزلت في قوم من أهل مكة تخلفوا عن الهجرة وأعطوا المشركين المحبة وقتل قوم منهم ببدر على ظاهر الردة ثم استثنى منهم الذين أقعدهم الضعف بقوله إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطعيون حيلة ولا يهتدون سبيلا يعني طريقا إلى المدينة دار الهجرة وقوله تعالى فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم قال الحسن عسى من الله واجبة وقيل إنها بمنزلة الوعد لأنه لا يخبر بذلك عن شك وقيل إنما هذا على شك العباد أي كونوا أنتم على الرجاء والطمع قوله تعالى ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة قيل في المراغم أنه أراد متسعا لهجرته لأن الرغم أصله الذل تقول فعلت ذلك على الرغم من فلان أي فعلته على الذل والكره والرغام التراب لأنه يتيسر لمن رامه مع احتقاره وأرغم الله أنفه أي ألصقه بالتراب إذلالا له فقال تعالى ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة أي يجد في الأرض متسعا سهلا كما قال تعالى هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور فمراغم وهو وذلول متقاربان في المعنى وقيل في المراغم إنه ما يرغم به من كان يمنعه من الهجرة وأما قوله تعالى فإنه روي عن ابن عباس والربيع بن أنس والضحاك أنه السعة في الرزق وروي عن قتادة أنه السعة في إظهار الدينلما كان يلحقهم من تضييق المشركين عليهم في أمر دينهم حتى يمنعوهم من إظهاره وقوله عز وجل ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله فيه إخبار بوجوب أجر من هاجر إلى الله ورسوله وإن لم تتم هجرته وهذا يدل على أن من خرج متوجها لفعل شئ من القرب إن الله يجازيه بقدر نيته وسعيه وإن اقتطع دونه كما أوجب الله أجر من خرج مهاجرا وإن لم تتم هجرته وفيه ما يدل على صحة قول أبي يوسف ومحمد فيمن خرج يريد الحج ثم مات في بعض الطريق وأوصى أن يحج عنه من الموضع الذي مات فيه وكذلك الحاج عن الميت أو عمن ليس عليه فرض الحج بنفسه أنه يحج عنه من حيث مات الذي قصد
[ 315 ]
للحج لأن الله قد كتب له من الخروج والنفقة فلما كان ذلك محتبسا للأول كان الذي وجب أن يقضي عنه ما بقي مطلب: فيمن قال: " إن خرجت من داري إلا إلى الصلاة فعبدي حر " فخرج إليها ثم لم يصل وتوجه إلى حاجة أخرى لم يخنث وفيه الدلالة على أن من قال إن خرجت من دار إلا إلى الصلاة أو إلى الحج فعبدي حر فخرج يريد الصلاة أو الحج ثم لم يصل ولم يحج وتوجه إلى حاجة أخرى أنه لا يحنث في يمينه لأن خروجه بديا كما كان للصلاة أو للحج لمقارنة النية له كما كان خروج من خرج مهاجرا قربة وهجرة لمقارنة النبية واقتطاع الموت له عن الوصول إلى دار الهجرة لم يبطل حكم الخروج على الوجه الذي وجد بديا عليه ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه فأخبر أن أحكام الأفعال متعلقة بالنيات فإذا كان خروجه على نية الهجرة كان مهاجرا وإذا كان على نية الغزو كان غازيا واستدل قوم بهذه الآية على أن الغازي إذا مات في الطريق وجب سهمه من الغنيمة لورثته وهذه الآية لا تدل على ما قالوا لأن كونها غنيمة متعلق بحيازتها إذ لا تكون غنيمة إلا بعد الحيازة وقال الله تعالى واعلموا أنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه) [ الانفال: 41 ]، مات قبل أن يغنم فهو لم يغنم شيئا فلا سهم له وقوله تعالى (فقد وقع أجره على الله لا دلالة فيه على وجوب سهمه لأنه لا خلاف أنه لو خرج غازيا من بيته فمات في دار الإسلام قبل أن يدخل دار الحرب أنه لا سهم له وقد وجب أجره على الله كما وجب أجر الذي خرج مهاجرا ومات قبل بلوغه دار هجرته والله أعلم باب صلاة السفر قال الله تعالى ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فأباح الله تعالى القصر المذكور في هذه الآية بمعنيين أحدهما السفر وهو الضرب في الأرض والآخر الخوف واختلف السلف في معنى القصر المذكور فيها ما هو فروي عن ابن عباس قال فرض الله تعالى صلاة الحضر أربعا وصلاة السفر ركعتين والخوف ركعة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم وروى يزيد
[ 316 ]
الفقير عن جابر قال صلاة الخوف ركعة ركعة وروى مجاهد أنه قصر العدد من أربع إلى ثنتين وروى ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه قال قال قصرها في الخوف والقتال الصلاة في كل حال راكبا وماشيا فأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وصلاة الناس في السفر ركعتين فليس بقصر وروي عن ابن عباس رواية أخرى غير ما قدمنا في القصر وهي أنه قال إنما هو قصر حدود الصلاة وأن تكبر وتخفض رأسك وتومي صلى الله عليه وسلم إيماء قال أبو بكر وأولى المعاني وأشبهها بظاهر الآية ما روي عن ابن عباس وطاوس في أنه قصر في صفة الصلاة بترك الركوع والسجود إلى الإيماء وترك القيام إلى الركوب وجائز أن يسمى المشي في الصلاة قصرا إذ كان مثله في غير الخوف يفسدها وما روي عن ابن عباس وجابر في أن صلاة الخوف ركعة فمحمول على أن الذي يصليه المأموم مع الإمام ركعة لأنه يجعل الناس طائفتين فيصلي بها بالتي معه ركعة ثم يمضون إلى تجاه العدو ثم تأتي الطائفة الثانية فيصلي بها ركعة ويسلم بتلك فيصير لكل طائفة من المأمومين ركعة ركعة مع الإمام ثم يقضون ركعة ركعة فيكون ما روي عن ابن عباس في أنه قصر في صفة الصلاة غير مخالف لقوله إن صلاة الخوف ركعة لأن الآثار قد تواترت في فعل النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الخوف مع اختلافها وكلها موجبة للركعتين وليس في شئ منها أنه صلاها ركعة إلا أنها طائفة ركعة مع الإمام والقضاء لركعة دون الاقتصار على واحدة ولو كانت صلاة الخوف ركعة واحدة لما اختلف حكم النبي صلى الله عليه وسلم وحكم المأمومين فيها فلما نقل ابن عباس وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين علمنا أن أن فرض صلاة الخائف كفرض غيره وأن ما روي من أنه كان للقوم ركعة ركعة على معنى أنها كانت ركعة ركعة مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم قضوا ركعة ركعة على ما روي في سائر الأخبار والدليل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في صفة الصلاة أو المشي والاختلاف فيها على النحو الذي قدمنا ذكره دون أعداد ركعاتها وأن مذهب ابن عباس في القصر ما وصفنا دون نقصان عدد الركعات ما روى مجاهد أن رجلا جاء إلى ابن عباس فقال إني وصاحب لي خرجنا في سفر فكنت أتم وكان صاحبي يقصر فقال ابن عباس أنت الذي تقصر وصاحبك الذي كان يتم فأخبر ابن عباس أن القصر ليس في عدد الركعات وأن الركعتين في السفر ليستا بقصر ويدل على ذلك ما روى سفيان عن زبير اليامي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر قال صلاة السفر ركعتان وصلاة الفطر والأضحى ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم وقد دخل في ذلك صلاة الخوف في السفر لأنه ذكر جميع هذه الصلوات وأخبر أنها تمام غير قصر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فثبت بذلك أن القصر المذكور في الآية هو على ما وصفنا دون أعداد ركعات الصلاة
[ 317 ]
فإن قيل روي عن يعلى بن أمية أنه قال قلت لعمر بن الخطاب كيف تقصر وقد أمنا وقال الله تعالى عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقال عجبت مما عجبت منه فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته فهذا يدل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات وأن ذلك كان مفهوما عندهم من معنى الآية قيل له ما كان اللفظ محتملا للمعنيين من أعداد ركعات الصلاة ومن صفتها على الوجه الذي بينا لم يمتنع أن يكون قد سبق في وهم عمر ويعلى بن أمية ما ذكر وأن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن القصر في حال الأمن لا على أنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أن قصر الآية هو في العدد فأجابه بما وصف ولكنه جائز أن يكون قال النبي صلى الله عليه وسلم كيف نقصر وقد أمنا من غير أن ذكر له تأويل الآية لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يقصر في مغازيه ثم قصر في الحج في حال الأمن وزوال القتال فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته يعني إن الله قد أسقط عنكم في السفر فرض الركعتين في حال الخوف والأمن جميعا وقد روى عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة السفر أنها تمام غير قصر فجائز أن يكون ظن بديا أن قصر الخوف هو في عدد الركعات فلما سمعه يقول صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر علم أن قصر الآية إنما هو في صفة الصلاة لا في عدد الركعات وإذا صح بما وصفنا أن المراد بالقصر ما ذكرنا لم تكن في الآية دلالة على فرض المسافر ولا على أنه مخير بين الإتمام والقصر إذ لا ذكر له في الآية وقد اختلف الفقهاء في فرض المسافر فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد فرض المسافر ركعتان إلا صلاة المغرب فإنها ثلاث فإن صلى المسافر أربعا ولم يقعد في الإثنتين فسدت صلاته وإن قعد فيهما مقدار التشهد تمت صلاته بمنزلة من صلى الفجر أربعا بتسليمة وهو قول الثوري وقال حماد بن أبي سليمان إذا صلى أربعا أعاد وقال الحسن بن صالح إذا صلى أربعا متعمدا أعاد إذا كان ذلك منه الشئ اليسير فإذا طال في سفره وكثر لم يعد قال وإذا افتتح الصلاة على أن يصلي أربعا استقبل الصلاة حتى يبتدئها بالنية على ركعتين وتشهد ثم بدأ له أن يتم فصلى أربعا أعاد وإن نوى أن يصلي أربعا بعد ما افتتح الصلاة على ركعتين ثم بدا له فسلم في الركعتين أجزته وقال مالك إذا صلى المسافر أربعا فإنه يعيد ما دام في الوقت فإذا مضى الوقت فلا إعادة عليه قال ولو أن مسافرا افتتح المكتوبة ينوي أربعا فلما صلى ركعتين بدا له فسلم أنه لا يجزيه ولو صلى المسافر بمسافرين فقام في الركعتين فسبحوا به فلم يرجع فإنهم يقعدون ويتشهدون ولا يتبعونه وقال الأوزاعي
[ 318 ]
يصلي المسافر ركعتين فإن قام إلى الثالثة وصلاها فإنه يلغيها ويسجد سجدتي السهو وقال الشافعي ليس للمسافر أن يصلي ركعتين إلا أن ينوي القصر مع الإحرام فإذا أحرم ولم ينو القصر كان على أصل فرضه أربعا قال أبو بكر قد بينا أنه ليس في الآية حكم القصر في أعداد الركعات ولم يختلف الناس في قصر النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره كلها في حال الأمن والخوف فثبت أن فرض المسافر ركعتان بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وبيانه لمراد الله تعالى قال عمر بن الخطاب سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن القصر في حال الأمن فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته وصدقة الله علينا هي إسقاطه عنا فدل ذلك على أن الفرض ركعتان وقوله فاقبلوا صدقته يوجب ذلك لأن الأمر للوجوب فإذا كنا مأمورين بالقصر فالإتمام منهي عنه وقال عمر بن الخطاب صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم فأخبر ان الفرض ركعتان وأنه ليس بقصر بل هو تمام كما ذكر صلاة الفجر والجمعة والأضحى والفطر وعزا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فصار ذلك بمنزلة قول النبي صلى الله عليه وسلم صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر وذلك ينفي التخيير بين القصر والإتمام وروي عن ابن عباس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسافرا صلى ركعتين حتى يرجع وروى علي بن زيد عن أبي نضرة عن عمران بن حصين قال حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان يصلي ركعتين حتى يرجع إلى المدينة وأقام بمكة ثماني عشرة لا يصلي إلا ركعتين وقال لأهل مكة صلوا أربعا فإنا قوم سفر وقال ابن عمر صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر فلم يزد على ركعتين وصحبت أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم في السفر فلم يزيدوا على ركعتين حتى قبضهم الله تعالى وقد قال الله تعالى لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة بقية بن الوليد قال حدثنا أبان بن عبد الله عن خالد بن عثمان عن أنس بن مالك عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (صلاة المسافر ركعتان حتى يؤب إلى أهله أو يموت وقال عبد الله بن مسعود (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين وقال مورق العجلي سئل ابن عمر عن الصلاة في السفر فقال ركعتين ركعتين من خالف السنة كفر فهذه أخبار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في فعل الركعتين في السفر لا زيادة عليهما وفي ذلك الدلالة من وجهين على أنهما فرض المسافر أحدهما أن فرض الصلاة مجمل في الكتاب مفتقر إلى البيان وفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا ورد على وجه البيان فهو كبيانه بالقول يقتضي الإيجاب وفي فعله صلاة السفر ركعتين بيان منه أن ذلك مراد الله كفعله لصلاة الفجر وصلاة الجمعة وسائر الصلوات والوجه الثاني لو
[ 319 ]
كان مراد الله الإتمام أو القصر على ما يختاره المسافر لما جاز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقتصر بالبيان على أحد الوجهين دون الآخر وكان بيانه للإتمام في وزن بيانه للقصر فلما ورد البيان إلينا من النبي صلى الله عليه وسلم في القصر دون الإتمام دل ذلك على أنه مراد الله دون غيره ألا ترى أنه لما كان مراد الله في رخصة المسافر في الإفطار أحد شيئين من إفطار أو صوم ورد البيان من النبي صلى الله عليه وسلم تارة بالإفطار وتارة بالصوم وأيضا لما صلى عثمان بمنى أربعا أنكرت عليه الصحابة ذلك فقال عبد الله بن مسعود صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ومع أبي بكر ركعتين ومع عمر ركعتين ثم تفرقت بكم الطرق فلوددت أن حظي من أربع ركعتان متقبلتان وقال ابن عمر صلاة السفر ركعتان من خالف السنة كفر وقال عثمان أنا إنما أتممت لأني تأهلت بهذا البلد وسمعت النبي عليه السلام يقول من تأهل بللد إذا فهو من أهله فلم يخالفهم عثمان في منع الإتمام وإنما اعتذر بأنه قد تأهل بمكة فصار من أهلها وكذلك قولنا في أهل مكة أنهم لا يقصرون وقال ابن عباس فرض الله تعالى الصلاة في السفر ركعتين وفي الحضر أربعا وقالت عائشة أول ما فرضت الصلاة ركعتان ركعتان ثم زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر على ما كانت عليه فأخبرت أن فرض المسافر في الأصل ركعتان وفرض المقيم أربع كفرض صلاة الفجر وصلاة الظهر فغير جائز الزيادة عليها كما لا تجوز الزيادة على سائر الصلوات ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على أن للمسافر ترك الأخريين لا إلى بدل ومتى فعلهما فإنما يفعلهما على وجه الابتداء فدل على أنهما نفل لأن هذه صورة النفل وهو أن يكون مخيرا بين فعله وتركه وإذا تركه تركه لا إلى بدل واحتج من خيره بين القصر والإتمام بما روي عن عائشة قالت قصر رسول الله عليه السلام وأتم وهذا صحيح ومعناه أنه قصر في الفعل وأتم في الحكم كقول عمر صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم واحتج أيضا من قال بالتخيير أنه لو دخل في صلاة مقيم لزمه الإتمام فدل على أنه مخير في الأصل وهذا فاسد لأن الدخول في صلاة الإمام يغير الفرض ألا ترى أن المرأة والعبد فرضهما يوم الجمعة أربع ولو دخلا في الجمعة صليا ركعتين ولم يدل ذلك على أنهما مخيران قبل الدخول بين الأربع والركعتين وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في مواضع من كتبنا واختلفوا أيضا في المسافر يدخل في صلاة المقيم فقال أصحابنا والشافعي والأوزاعي يصلي صلاة مقيم وإن أدركه في التشهد وهو قول الثوري وقال مالك إذا لم يدرك معه ركعة صلى ركعتين والذي يدل على القول الأول قول النبي صلى الله عليه وسلم ما
[ 320 ]
أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا وفي بعض الألفاظ وما فاتكم فاقضوا فأمر النبي عليه السلام بقضاء الفائت من صلاة الإمام والذي فاته أربع ركعات فعليه قضاؤها وأيضا قد صح له الدخول في آخر صلاته ويلزمه سهوه وانتفى عنه سهو نفسه لأجل إمامه كذلك لزمه حكم صلاته في الإتمام وأيضا لو نوى المسافر الإقامة في هذه الحال لزمه الإتمام كذلك دخوله مع الإمام ويكون دخوله معه في التشهد كدخوله في أولها كما كانت نية الإقامة في التشهد كهي في أولها والله أعلم فصل قال أبو بكر وجميع ما قدمنا في قصر الصلاة للمسافر يدل على أن صلاة سائر المسافرين ركعتان في أي شئ كان سفرهم من تجارة أو غيرها وذلك لأن الآثار المروية فيه لم تفرق بين شئ من الأسفار وقد روى الأعمش عن إبراهيم أن رجلا كان يتجر إلى الحرين فقال للنبي صلى الله عليه وسلم كم أصلي فقال ركعتين وعن ابن عباس وابن عمر أنهما خرجا إلى الطائف فقصر الصلاة وروي عن عبد الله بن مسعود قال لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد وعن عطاء قال لا أرى أن يقصر الصلاة إلا من كان في سبيل الله فإن قيل لم يقصر النبي صلى الله عليه وسلم إلا في حج أو جهاد قيل له لأنه لم يسافر إلا في حج أو جهاد وليس في ذلك دليل على أن القصر مخصوص بالحج والجهاد وقول عمر صلاة السفر ركعتان على لسان نبيكم عموم في سائر الأسفار وقول النبي صلى الله عليه وسلم صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته عام أيضا في سائر الأسفار وكذلك قوله لأهل مكة أتموا فإنا قوم سفر ولم يقل في حج دليل على أن حكم القصر عام في جميع المسافرين ولما كان ذلك حكما متعلقا بالسفر وجب أن لا يختلف حكم الأسفار فيه كالمسح على الخفين ثلاثا ومن يتأول قوله تعالى ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة على عدد الركعات يحتج بعمومه في جميع الأسفار إذا كان خائفا من العدو ثم إذا ثبت ذلك في صلاة الخوف إذا كان سفره في غير جهة القربة وجب مثله في سائر الأسفار لأن أحدا لم يفرق بينهما وقد بينا أن القصر ليس هو في عدد الركعات والذي ذكرناه في القصر في جميع الأسفار بعد أن يكون السفر ثلاثا هو قول أصحابنا والثوري والأوزاعي وقال مالك إن خرج إلى الصيد وهو معاشه قصر وإن خرج متلذذا لم أستحب له أن يقصر وقال الشافعي إذا سافر في معصية لم يقصر ولم يمسح مسح السفر قال أبو بكر قد بينا أن ذلك في شأن المضطر في سورة البقرة
[ 321 ]
مطلب: الملاح يقصر في السفينة إذا كان مسافرا وقد اختلف في الملاح هل يقصر في السفينة فقال أصحابنا يقصر إذا كان في سفر حتى يصير إلى قريته فيتم وهو قول مالك والشافعي وقال الأوزاعي إذا كان فيها أهله وقراره يقصر إذا أكراها حتى ينتهي إلى أكراها فإذا انتهى أتم الصلاة وقال الحسن بن صالح إذا كانت السفينة بيته وليس له منزل غيرها فهو فيها بمنزلة المقيم يتم قال أبو بكر كون الملاح مالكا للسفينة لا يخرجه من حكم السفر كالجمال مالك للجمال التي ينتقل بها من موضع إلى موضع فلا يخرجه ذلك من حكم السفر وقد بينا الكلام في مدة السفر في سورة البقرة عند أحكام الصوم وشرط أصحابنا فيه ثلاثة أيام ولياليها وهو قول الثوري والحسن بن صالح وقال مالك ثمانية وأربعون ميلا فإن لم تكن فيها أميال فمسيرة يوم وليلة للقفل وهو قول الليث وقال الأوزاعي يوم تام وقال الشافعي ستة وأربعون ميلا بالهاشمي وروي عن ابن عمر ثلاثة أيام وروي عن ابن عباس يوم وليلة واختلفوا في المدة التي يتم فيها الصلاة فقال أصحابنا والثوري إذا نوى إقامة خمسة عشر يوما أتم وإن كان أقل قصر وقال مالك والليث والشافعي إذا نوى إقامة أربع أتم وقال الأوزاعي إذا نوى إقامة ثلاثة عشر يوما أتم وإن نوى أقل قصر وقال الحسن بن صالح إن مر المسافر بمصره الذي فيه أهله وهو منطلق ماض في سفره قصر فيه الصلاة ما لم يقم به عشرا أو إن أقام به عشرا أو بغيره أتم الصلاة قال أبو بكر وروي عن ابن عباس وجابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة صبحية الرابعة من ذي الحجة فكان مقامه إلى وقت خروجه أكثر من أربع وكان يقصر الصلاة فلدل فقال على سقوط اعتبار الأربع وأيضا روى أبو حنيفة عن عمر بن ذر عن مجاهد عن ابن عباس وابن عمر قالا إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي نفسك أن تقيم بها خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة بها وإن كنت لا تدري متى تظعن فاقصرها ولم يرو عن أحد من السلف خلاف ذلك فثبتت حجته فإن قيل روى الخراساني عن سعيد بن المسيب قال من أجمع على أربع وهو مسافر أتم الصلاة قيل له روى هشيم عن داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب قال إذا أقام المسافر خمسة عشر يوما وليلة أتم الصلاة وما كان من دون ذلك فليقصر وإن جعلنا الروايتين متعارضتين سقطتا وصار كأنه لم يرو عنه شئ ولو ثبتت الرواية عنه من غير معارضة لما جاز أن يكون خلافا على ابن عباس وابن عمر وأيضا
[ 322 ]
مدة الإقامة والسفر لا سبيل إلى إثباتها من طريق المقاييس وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق وقد حصل الاتفاق في خمسة عشر يوما وما دونها مختلف فيه فيثبت الخمسة عشر أنها إقامة صحيحة ولم يثبت ما دونها وكذلك السلف قد اتفقوا على الثلاث أنها سفر صحيح يتعلق بها حكم القصر والإفطار واختلفوا فيما دونها فلم يثبت والله أعلم باب صلاة الخوف قال الله تعالى وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك) الآية قال أبو بكر قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف على ضروب مختلفة واختلف فقهاء الأمصار فيها فقال أبو حنيفة ومحمد تقوم طائفة مع الإمام وطائفة بإزاء العدو فيصلي بهم ركعة وسجدتين ثم ينصرفون إلى مقام أصحابهم ثم تأتي الطائفة الأخرى التي بإزاء العدو فيصلي بهم ركعة وسجدتين ويسلم وينصرفون إلى مقام أصحابهم ثم تأتي الطائفة التي بإزاء العدو فيقضون ركعة بغير قراءة وتشهدوا ويسلموا ويذهبوا إلى وجه العدو ثم تأتي الطائفة الأخرى فيقضون ركعة وسجدتين بقراءة وقال ابن أبي ليلى إذا كان العدو بينهم وبين القبلة جعل الناس طائفتين فيكبر ويكبرون ويركع ويركعون جميعا معه وسجد الإمام والصف الأول ويقوم الصف الآخر في وجوه العدو فإذا قاموا من السجود سجد الصف المؤخر فإذا فرغوا من سجودهم قاموا وتقدم الصف المؤخر 2 وتأخر أي الصف المقدم فيصلي بهم الإمام الركعة الأخرى كذلك وإن كان العدو في دبر القبلة قام الإمام ومعه صف مستقبل القبلة والصف الآخر مستقبل العدو فيكبر ويكبرون جميعا ويركع ويركعون جميعا ثم يسجد الصف الذي مع الإمام سجدتين ثم ينقلبون فيكونون مستقبلي العدو ثم يجئ الآخرون ويصلي بهم الإمام جميعا الركعة الثانية فيركعون جميعا ويسجد الصف الذي معه ثم ينلقبون إلى وجه العدو ويجئ الآخرون فيسجدون معه ويفرغون ثم يسلم الإمام وهم جميعا قال أبو بكر وروي عن أبي يوسف في صلاة الخوف ثلاث روايات إحداها مثل قول أبي حنيفة ومحمد والأخرى مثل قول ابن أبي ليلى إذا كان العدو في القبلة وإذا كان في غير القبلة فمثل قول أبي حنيفة والثالثة أنه لا تصلى بعد النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإمام واحد وإنما تصلى بإمامين كسائر الصلوات وروي عن سفيان الثوري مثل قول أبي حنيفة وروي أيضا مثل قول ابن ابي ليلى وقال إن فعلت كذلك جاز وقال مالك يتقدم الإمام بطائفة وطائفة بإزاء العدو فيصلي بهم ركعة وسجدتين ويقوم قائما وتتم الطائفة التي معه لأنفسها ركعة أخرى ثم يتشهدون ويسلمون ثم يذهبون إلى مكان
[ 323 ]
الطائفة التي لم تصل فيقومون مكانهم وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة وسجدتين ثم يتشهدون ويسلم ويقومون فيتمون لأنفسهم الركعة التي بقيت قال ابن القاسم كان مالك يقول لا يسلم الإمام حتى تتم الطائفة الثانية لأنفسها ثم يسلم بهم لحديث يزيد بن رومان ثم رجع إلى حديث القاسم وفيه إن الإمام يسلم ثم تقوم الطائفة الثانية فيقضون وقال الشافعي مثل قول مالك إلا أنه قال الإمام لا يسلم حتى تتم الطائفة الثانية لأنفسها ثم يسلم بهم وقال الحسن بن صالح مثل قول أبي حنيفة إلا أنه قال الطائفة الثانية إذا صلت مع الإمام وسلم الإمام قضت لأنفسها الركعة التي لم يصلوها مع الإمام ثم تنصرف وتجئ الطائفة الأولى فتقضي بقية صلاتها قال أبو بكر أشد هذه الأقاويل موافقة لظاهر الآية قول أبي حنيفة ومحمد ذلك لأنه تعالى قال وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وفي ضمن ذلك أن طائفة منهم بإزاء العدو لأنه قال أسلحتهم وجائز أن يكون مراده الطائفة التي بإزاء العدو وجائز أن يريد به الطائفة المصلية والأولى أن يكون الطائفة التي بإزاء العدو لأنها تحرس هذه المصلية وقد عقل من ذلك أنهم لا يكونون جميعا مع الإمام لأنهم لو كانوا مع الإمام لما كانت طائفة منهم قائمة مع النبي صلى الله عليه وسلم بل يكونون جميعا معه وذلك خلاف الآية ثم قال تعالى فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم وعلى مذهب مالك يقضون لأنفسهم ولا يكونون من ورائهم إلا بعد القضاء وفي هذه الآية الأمر لهم بأن يكونوا بعد السجود من ورائهم وذلك موافق لقولنا ثم قال يحيى طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك فدل ذلك على معنيين أحدهما أن الإمام يجعلهم طائفتين في الأصل طائفة معه وطائفة بإزاء العدو على ما قال أبو حنيفة لأنه قال ولتأت طائفة أخرى ونون مذهب مخالفنا هي مع الإمام لا تأتيه والثاني قوله لم يصلوا فليصلوا معك وذلك يقتضي نفي كل جزء من الصلاة ومخالفنا يقول يفتتح الجميع الصلاة مع الإمام فيكون على حينئذ بعد الافتتاح فاعلين لشئ من الصلاة وذلك خلاف الآية بهذه الوجوه التي ذكرنا من معنى الآية موافقة لمذهب أبي حنيفة ومحمد وقولنا موافق للسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وللأصول وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد
[ 324 ]
فاسجدوا وقال إني امرؤ قد بدنت فلا تبادروني بالركوع ولا بالسجود ومن مذهب المخالف أن الطائفة الأولى تقضي صلاتها وتخرج منها قبل الإمام وفي الأصول أن المأموم مأمور بمتابعة الإمام لا يجوز له الخروج منها قبله وأيضا جائز أن يلحق الإمام سهو وسهوه يلزم المأموم ولا يمكن الخارجين من صلاته قبل فراغه أن يسجدوا ويخالف هذا القول الأصول من جهة أخرى وهي اشتغال المأموم بقضاء صلاته والإمام قائم أو جالس تارك لأفعال الصلاة فيحصل به مخالفة الإمام في الفعل وترك الإمام لأفعال الصلاة لأجل المأموم وذلك ينافي معنى الافتداء والائتمام ومنع الإمام من الاشتغال بالصلاة لأجل المأموم فهذان وجهان أيضا خارجان من الأصول فإن قيل جائز أن تكون صلاة الخوف مخصوصة بجواز انصراف الطائفة الأولى قبل الإمام كما جاز المشي فيها قيل له المشي له نظير في الأصول وهو الراكب المنهزم يصلي وهو سائر بالاتفاق فكان لما ذكرنا أصل متفق عليه فجاز أن لا تفسد صلاة الخوف وأيضا قد ثبت عندنا أن الذي سبقه الحدث في الصلاة ينصرف ويتوضأ ويبني قد ردت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم روي عن ابن عباس وعائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن على ما مضى من صلاته والرجل يركع ويمشي إلى الصف فلا تبطل صلاته وركع أبو بكر حين دخل المسجد ومشى إلى الصف فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم قال له زادك الله حرصا ولا تعد ولم يأمره باستيناف الصلاة فكان للمشي في الصلاة نظائر في الأصول وليس للخروج من الصلاة قبل فراغ الإمام نظير فلم يجز فعله وأيضا فإن المشي فيها اتفاق بيننا وبين مالك والشافعي ولما قامت به الدلالة سلمناه لها وما عدا ذلك فواجب حمله على موافقة الأصول حتى تقوم الدلالة على جواز خروجه عنها ومما يدل من جهة السنة على ما وصفنا ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو ثم انصرفوا وقاموا في مقام أولئك وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى ثم سلم عليهم ثم قام هؤلاء فقضوا ركعتهم وقام هؤلاء فقضوا ركعتهم قال أبو داود كذلك رواه نافع وخالد بن معدان عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال أبو داود وكذلك قول مسروق
[ 325 ]
ويوسف بن مهران عن ابن عباس وكذلك روى يونس عن الحسن عن أبي موسى أنه فعله وقول ابن عمر فقضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة على أنهم قضوا على وجه يجوز القضاء وهو أن ترجع الثانية إلى مقام الأولى وجاءت الأولى فقضت ركعة وسلمت ثم جاءت الثانية فقضت ركعة وسلمت وقد بين ذلك في حديث خصيف عن أبي عبيدة عن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في حرة بني سليم صلاة الخوف قام فاستقبل القبلة وكان العدو في غير القبلة فصف معه صفا وأخذ صف السلاح واستقبلوا العدو فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم والصف الذي معه ثم ركع وركع الصف الذي معه ثم تحول الصف الذين صفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح وتحول الآخرون فقاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم فركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعوا وسجد وسجدوا ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم فذهب الذين صلوا معه وجاء الآخرون فقضوا ركعة فلما فرغوا أخذوا السلاح وتحول الآخرون وصلوا ركعة فكان للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان وللقوم ركعة ركعة فبين في هذا الحديث انصراف الطائفة الثانية قبل قضاء الركعة الأولى وهو معنى ما أجمله ابن عمر في حديثه وقد روي في حديث عبد الله بن مسعود من رواية ابن فضل عن خصيف عن أبي عبيدة عن عبد الله أن الطائفة الثانية قضت ركعة لأنفسها قبل قضاء الطائفة الأولى الركعة التي بقيت عليها والصحيح ما ذكرناه أولا لأن الطائفة الأولى قد أدركت أول الصلاة والثانية ثنا لم تدرك فغير جائز للثانية الخروج من صلاتها قبل الأولى ولأنه لما كان من حكم الطائفة الأولى أن تصلي الركعتين في مقامين فكذلك حكم الثانية أن تقضيهما في مقامين لا في مقام واحد لأن سبيل صلاة الخوف أن تكون مقسومة بين الطائفتين على التعديل بينهما فيها واحتج مالك بحديث رواه عن زيد بن رومان عن صالح بن خوات مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيه أن الطائفة الأولى صلت الركعة الثانية قبل أن يصليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا لم يروه أحد إلا يزيد بن رومان وقد خولف فيه فروى شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف فصف صفا خلفه وصف مصاف العدو فصلى بهم ركعة ثم ذهب هؤلاء وجاء أولئك فصلى بهم ركعة ثم قاموا فقضوا ركعة ركعة ففي هذا الحديث أن الطائفة الأولى لم تقض الركعة الثانية إلا بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته وهذا أولى لما قدمناه من دلائل الأصول عليه وقد روى يحيى بن سعيد عن القاسم عن صالح مثل رواية يزيد بن رومان وفي حديث مالك عن يزيد بن رومان أن تلك الصلاة إنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع وقد روى يحيى بن كثير عن أبي سلمة عن جابر قال
[ 326 ]
كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة منهم ركعتين ثم انصرفوا وجاء الآخرون فصلى بهم ركعتين فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا وكل طائفة ركعتين وهذا يدل على اضطراب حديث يزيد بن رومان وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف على وجوه أخر فاتفق ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وجابر وحذيفة وزيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهون العدو ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعة وإن أحدا منهم لم يقض بقية صلاته قبل فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى صالح بن خوات على ما قد اختلف عنه فيه مما قدمنا ذكره وروى أبو عياش الزرقي عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف نحو المذهب الذي حكيناه عن ابن أبي ليلى وأبي يوسف إذا كان العدو في القبلة وروى أيوب وهشام عن أبي الزبير عن جابر هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك رواه داود بن حصين عن عكرمة عن ابن عباس وكذلك عبد الملك عن عطاء عن جابر وكذلك قتادة عن الحسن عن حطان عن أبي موسى من فعله ورواه عكرمة بن خالد عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك هشام بن عروة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي عن ابن عباس وجابر ما قدمنا ذكره قبل هذا واختلفت الرواية عنهما فيها وروي فيها نوع آخر وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن علي قال حدثنا أبو عبد الرحمن المقري قال حدثنا حياة بن شريح وابن لهيعة قالا أخبرنا أبو الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن مروان بن الحكم أنه سأل أبا هريرة هل صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فقال أبو هريرة نعم قال مروان متى فقال أبو هريرة عام غزوة نجد به قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العصر فقامت معه طائفة وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبروا جميعا الذين معه والذين مقابلي العدو ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة واحدة وركعت الطائفة التي معه ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجدت الطائفة التي تليه والآخرون قيام مقابلي العدو ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقامت الطائفة التي معه فذهبوا إلى العدو فقابلوهم وأقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم كما هو ثم قاموا فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى وركعوا معه وسجد وسجدوا معه ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد ومن معه ثم كان السلام فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا جميعا فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان ولكل رجل من الطائفتين ركعة ركعة وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم نوع آخر من صلاة الخوف وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال
[ 327 ]
حدثنا أبو داود قال حدثنا عبيدالله بن معاذ قال حدثنا أبي قال حدثنا الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خوف الظهر فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو فصلى ركعتين ثم سلم فانطلق الذين صلوا فوقفوا موقف أصحابهم ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى بهم ركعتين ثم سلم فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا ولأصحابه ركعتين ركعتين وبذلك كان يفتي الحسن قال أبو داود وكذلك يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك رواه سليمان اليشكري عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر وقد قدمنا قبل ذلك أن ابن عباس وجابرا رويا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى بكل طائفة ركعة ركعة فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان ولكل طائفة ركعة وأن هذا محمول عندنا على أنه كان ركعة في جماعة وفعلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب ابن أبي ليلى وأبو يوسف إذا كان العدو في القبلة إلى حديث أبي عياش الزرقي الذي ذكرناه وجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى هذه الصلوات على الوجوه التي وردت به الروايات وذلك لأنها لم تكن صلاة واحدة فتتضاد هذا الروايات فيها وتتنافى ثم بل كانت صلوات في مواضع مختلفة بعسفان في حديث أبي عياش الزرقي وفي حديث جابر ببطن النخل ومنها حديث أبي هريرة في غزوة نجد وذكر فيه أن الصلاة كانت بذات الرقاع وصلاها في حرة بني سليم ويشبه أن يكون قد صلى في بعض هذه المواضع عدة صلوات لأن في بعض حديث جابر الذي يقول فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بكل طائفة ركعتين ذكر أنه كان بذات الرقاع وفي حديث صالح بن خوات أيضا أنه صلاها بذات الرقاع وهما مختلفان كل واحد منهما ذكر فيه من صفة صلاته خلاف صفة الأخرى وكذلك حديث أبي عياش الزرقي ذكر أنه صلاها بعسفان وذكر ابن عباس أيضا أنه صلاها بعسفان فروى تارة نحو حديث أبي عياش وتارة على خلافه واختلاف هذه الآثار تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى هذه الصلوات على اختلافها على حسب ورود الروايات بها وعلى ما رآه النبي احتياطا في الوقت من كيد العدو وما هو أقرب إلى الحذر والتحرز على ما أمر الله تعالى به من أخذ الحذر في قوله حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولذلك كان الاجتهاد سائغا في جميع أقاويل الفقهاء على اختلافها لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلا أن الأولى عندنا ما وافق ظاهر الكتاب والأصول وجائز أن يكون الثابت الحكم منها واحدا والباقي منسوخ وجائز أن يكون الجميع ثابتا غير منسوخ توسعة وتر فيها لئلا يحرج من ذهب إلى بعضها ويكون الكلام في الأفضل منها كاختلاف الروايات في
[ 328 ]
الترجيع في الأذان وفي تثنية الإقامة وتكبيرات العيدين والتشريق ونحو ذلك مما الكلام فيه بين الفقهاء في الأفضل فمن ذهب إلى وجه منها فغير معنف عليه في اختياره وكان الأولى عندنا ما وافق ظاهر الآية والأصول وفي حديث جابر وأبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بكل طائفة ركعتين فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد كان مقيما حين صلاها كذلك ويكون قولهما أنه سلم في الركعتين المراد به تسليم التشهد وذلك لأن ظاهر الكتاب ينفيه على الوجه الذي يقتضيه ظاهر الخبر لأن الله تعالى قال طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم وظاهر الخبر يوجب أن يكونوا مصلين مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد السجود على الحال التي كانوا عليها قبله فإن قيل كيف يكون مقيما في البادية وهي ذات الرقاع وليست موضع إقامة ولا هي بالقرب من المدينة قيل له جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة لم ينو سفر ثلاث وإنما نوى في كل موضع يبلغ إليه سفر يومين فيكون مقيما عندنا إذ لم ينشئ سفر ثلاث وإن كان في البادية ويحتمل أن يكون فعلها في الوقت الذي يعاد الفرض فيه وذلك منسوخ عندنا وعلى أنه لو كان كذلك لم يكن صلاة خوف وإنما هي صلاة على هيئة سائر الصلوات ولا خلاف أن صلاة الخوف مخالفة لسائر الصلوات المفعولة في حال الأمن وأما القول الذي روي عن أبي يوسف في أنه لا تصلى بعد النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف وأنه ينبغي أن تصلى عند الخوف بإمامين فإنه ذهب فيه إلى ظاهر قول الله تعالى (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فخص هذه الصلاة بكون النبي صلى الله عليه وسلم فيهم وأباح لهم فعلها معه على هذا الوجه ليدركوا فضيلة الصلاة خلفه التي مثلها لا يوجد في الصلاة خلف غيره فغير جائز بعده لأحد أن يصليها إلا بإمامين لأن فضيلة الصلاة خلف الثاني كهي خلف الأول فلا يحتاج إلى مشي واختلاف واستدبار القبلة مما هو مناف للصلاة قال أبو بكر فأما تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب بها بقوله كنت فيهم بموجب بالاقتصار عليه بهذا الحكم دون غيره لأن الذي قال وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة هو الذي قال فاتبعوه وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل فعلا فعلينا اتباعه فيه على الوجه الذي فعله ألا ترى أن قوله خذ من أموالهم صدقة تطهرهم لم يوجب كون النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا به دون غيره من الأئمة بعده وكذلك قوله إذا جاءك المؤمنات يبايعنك وكذلك قوله (وأن احكم بينهم بما أنزل الله وقوله فإن جاؤك فاحكم بينهم)
[ 329 ]
[ المائدة: 42 ] فيه تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالمخاطبة والأئمة بعده مرادون بالحكم معه وأما إدراك فضيلة الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم فليس يجوز أن يكون علة لإباحة المشي في الصلاة واستدبار القبلة والأفعال التي تركها من فروض الصلاة لأنه لما كان معلوما أن فعل الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فرضا فغير جائز أن يكونوا أمروا بترك الفرض لأجل إدراك الفصل فلما كان هذا على ما وصفنا بطل اعتلاله بذلك وصح أن فعل صلاة الخوف على الوجه الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم جائز بعده كما جاز معه وقد روى جماعة من الصحابة جواز فعل صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه وسلم منهم ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو موسى وحذيفة وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن سمرة في آخرين منهم من غير خلاف يحكى عن أحد منهم ومثله يكون إجماعا لا يسع خلافه والله أعلم باب الاختلاف في صلاة المغرب قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والحسن بن صالح والأوزاعي والشافعي يصلي بالطائفة الأولى ركعتين وبالطائفة الثانية ركعة إلا أن مالكا والشافعي يقولان يقوم الإمام قائما حتى يتموا لأنفسهم ثم يصلي بالطائفة الثانية ركعة أخرى ثم يسلم الإمام وتقوم الطائفة الثانية فيقضون ركعتين وقال الشافعي إن شاء الإمام ثبت جالسا حتى تتم الطائفة الأولى لأنفسهم وإن شاء كان قائما ويسلم الإمام بعد فراغ الطائفة الثانية وقال الثوري يقوم صف خلفه وصف موازي العدو فيصلي بهم ركعة ثم يذهبون إلى مقام أولئك ويجئ هؤلاء فيصلي بهم ركعة ويجلسون فإذا قام ذهب هؤلاء إلى مصاف أولئك وجاء أولئك فركعوا وسجدوا والإمام قائم لأن قراءة الإمام لهم قراءة وجلسوا ثم قاموا يصلون مع الإمام الركعة الثالثة فإذا جلسوا وسلم الإمام ذهبوا إلى مصاف أولئك وجاء الآخرون فصلوا ركعتين وذهب في ذلك إلى أن عليه التعديل بين الطائفتين في الصلاة فيصلي بكل واحدة ركعة وقد ترك هذا المعنى حين جعل للطائفة الأولى أن يصلي مع الإمام الركعة الأولى والثالثة والطائفة الثانية إنما صلت الركعة الثانية معه وقال الثوري إنه إذا كان مقيما فصلى بهم الظهر أنه يصلي بالطائفة الأولى ركعتين وبالثانية ركعتين فلم يقسم الصلاة بينهم على أن يصلي كل طائفة منهم معه ركعة على حيالها ومذهب الثوري هذا مخالف للأصول من وجه آخر وذلك أنه أمر الإمام أن يقوم قائما حتى تفرغ الطائفة الأولى من الركعة الثانية وذلك خلاف الأصول على ما بينا فيما سلف من مذهب مالك والشافعي والله أعلم بالصواب
[ 330 ]
ذكر اختلاف الفقهاء في الصلاة في حال القتال قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر لا يصلى في حال القتال فإن قاتل في الصلاة فسدت صلاته وقال مالك والثوري يصلي إيماء إذا لم يقدر على الركوع والسجود وقال الحسن بن صالح إذا لم يقدر على الركوع من القتال كبر بدل كل ركعة تكبيرة وقال الشافعي لا بأس بأن يضرب في الصلاة الضربة ويطعن الطعنة فإن تابع الطعن والضرب أو عمل عملا يطول بطلت صلاته قال أبو بكر الدليل على أن القتال يبطل الصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى صلاة الخوف في مواضع على ما قدمنا ذكره ولم يصل يوم الخندق أربع صلوات حتى كان هوى من الليل ثم قال ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى ثم قضاهن على الترتيب فأخبر أن القتال شغله عن الصلاة ولو كانت الصلاة جائزة في حال القتال لما تركها كما لم يتركها في حال الخوف في غير قتال وقد كانت الصلاة مفروضة في حال الخوف قبل الخندق لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بذات الرقاع صلاة الخوف وقد ذكر محمد بن إسحاق والواقدي أن غزوة ذات الرقاع كانت قبل الخندق فثبت بذلك أن القتال ينافي الصلاة وأن الصلاة لا تصح معه وأيضا فلما كان القتال فعلا ينافي الصلاة لا تصح معه في غير الخوف كان حكمه في الخوف كهو في غيره مثل الحدث والكلام والأكل والشرب وسائر الأفعال المنافية للصلاة وإنما أبيح له المشي فيها لأن المشي لا ينافي الصلاة في كل حال على ما بيناه فيما سلف ولأنهم متفقون على أن المشي لا يفسدها فسلمناه رسول للإجماع وما عداه من الأفعال المنافية للصلاة فهو محمول على أصله وقوله تعالى ولا طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم يحتمل أن يكون المأمورون بأخذ السلاح الطائفة التي مع الإمام ويحتمل أن تكون الطائفة التي بإزاء العدو لأن في الآية ضميرا للطائفة التي بإزاء العدو وضميرها ظاهر في نسق الآية في قوله يحيى طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك ومن وجه آخر يدل على ما ذكرنا وهو أنه أمر الطائفة المصلية مع الإمام بأخذ السلاح ولم يقل فليأخذوا حذرهم لأن في وجه العدو طائفة غير مصلية حامية لها قد كفت هذه أخذ الحذر ثم قال تعالى يحيى طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم وفي ذلك دليل من وجهين على أن قوله طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم إنما أريد
[ 331 ]
به الطائفة التي مع الإمام أحدهما أنه لما ذكر الطائفة الثانية قال حذرهم وأسلحتهم ولو كانوا مأمورين بأخذ السلاح بديا لاكتفى بذكرها بديا لهم والوجه الثاني قوله وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم فجمع لهم بين الأمرين من أخذ الحذر والسلاح جميعا لأن الطائفة الأولى قد صارت بإزاء العدو وهي في الصلاة وذلك أولى بطمع العدو فيهم إذ قد صارت الطائفتان جميعا في الصلاة فدل ذلك على أن قوله (وليأخذوا أسلحتهم إنما أريد به الطائفة الأولى وهذا أيضا يدل على أن الطائفة التي تقف بإزاء العدو بديا غير داخلة في الصلاة وأنها إنما تدخل في الصلاة بعد مجيئها في الركعة الثانية ولذلك أمرت بأخذ الحذر والسلاح جميعا لأن الطائفة التي في وجه العدو في الصلاة فيشتد طمع العدو فيها لعلمهم باشتغالها بالصلاة ألا ترى أن خالد بن الوليد قال لأصحابه بعسفان بعد ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم فإذا صلوها حملنا عليهم فصلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ولذلك أمرهم الله بأخذ الحذر والسلاح جميعا والله أعلم ولما جاز أخذ السلاح في الصلاة وعمل ذلك فيها دل على أن العمل اليسير معفو عنه فيها قوله تعالى ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة إخبار عما كان عزم عليه المشركون من الإيقاع بالمسلمين إذا اشتغلوا بالصلاة فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم عليه وأمر المسلمين بأخذ الحذر منهم قوله تعالى جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم فيه إباحة وضع السلاح لما فيه من المشقة في حال المرض والوحل والطين وسوى الله تعالى بين أذى المطر والمرض ورخص فيهما جميعا في وضع السلاح وهذا يدل على أن من كان في وحل وطين فجائز له أن يصلي بالإيماء كما يجوز ذلك له في حال المرض إذا لم يمكنه الركوع والسجود إذ كان الله تعالى قد سوى بين أذى المطر والمرض فيما وصفنا وأمر مع ذلك بأخذ الحذر من العدو وأن لا يغفلوا عنه فيكون سلاحهم بالقرب منهم بحيث يمكنهم أخذه إن حمل عليهم العدو قوله تعالى قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم قال أبو بكر أطلق الله تعالى الذكر في غير هذا الموضع وأراد به الصلاة في قوله (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم يروى أن عبد الله بن
[ 332 ]
مسعود رأى الناس يصيحون في المسجد فقال ما هذا النكر قالوا أليس الله يقول (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم فقال إنما يعني بهذه الصلاة المكتوبة إن لم تستطع قائما فقاعدا وإن لم تستطع فصل على جنبك وروي عن الحسن لم الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم [ آل عمران: 191 ] هذه رخصة من الله للمريض أن يصلي قاعدا وإن لم يستطع فعلى جنبه مطلب: الذكر على وجهين أفضلهما الذكر القلبي وهو الفكر في عظمة الله تعالى وجلاله إلى آخره فهذا الذكر المراد به نفس الصلاة لأن الصلاة ذكر الله تعالى وفيها أيضا أذكار مسنونة ومفروضة وأما الذكر الذي في قوله تعالى قضيتم الصلاة فليس هو الصلاة ولكنه على أحد وجهين أما الذكر بالقلب وهو الفكر في عظمة الله وجلاله وقدرته وفيما في خلقه وصنعه من الدلائل عليه وعلى حكمه وجميل صنعه والذكر الثاني الذكر باللسان بالتعظيم والتسبيح والتقديس وروي عن ابن عباس قال لم يعذر أحد في ترك الذكر إلا مغلوبا على عقله والذكر الأول أشرفهما وأعلاهما منزلة والدليل على أنه لم يرد بهذا الذكر الصلاة أنه أمر به بعد الفراغ منها بقوله تعالى (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) وقوله تعالى فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين فإنه روي عن الحسن ومجاهد وقتادة فإذا رجعتم إلى الوطن في دار الإقامة فأتموا الصلاة من غير قصر وقال السدي وغيره فعليكم أن تتموا ركوعها وسجودها غير مشاة ولا ركبان قال أبو بكر من تأول القصر المذكور في قوله تعالى ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة على أعداد الركعات، جعل قوله: (فإذا اطمأنتم فأقيموا الصلاة) على إتمام الركعات عند زوال الخوف والسفر ومن تأوله على صفة الصلاة من فعلها بالإيماء أو على إباحة المشي فيها جعل قوله تعالى الصلاة (فأقيموا الصلاة) أمرا بفعل الصلاة المعهودة على الهيئة المفعولة قبل الخوف والله أعلم مواقيت الصلاة قال الله تعالى الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال إن للصلاة وقتا كوقت الحج وعن ابن عباس ومجاهد وعطية مفروضا وروي عن ابن مسعود أيضا أنه قال موقوتا منجما كلما مضى نجم جاء نجم آخر وعن زيد بن أسلم مثل ذلك
[ 333 ]
قال أبو بكر قد انتظم ذلك إيجاب الفرض ومواقيته لأن قوله تعالى كتابا معناه فرضا وقوله ابن معناه أنه مفروض في أوقات معلومة معينة فأجمل ذكر الأوقات في هذه الآية وبينها في مواضع أخر من الكتاب من غير ذكر تحديد أوائلها وأواخرها وبين على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم تحديدها ومقاديرها فمما ذكر الله في الكتاب من أوقات الصلاة قوله الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر [ الاسراء: 42 ] ذكر مجاهد عن ابن عباس لدلوك الشمس قال إذا زالت الشمس عن بطن السماء لصلاة الظهر إلى غسق الليل قال بدو الليل لصلاة المغرب وكذلك روي عن ابن عمر في دلوكها أنه زوالها وروى أبو وائل عن عبد الله بن مسعود قال إن دلوكها غروبها وعن أبي عبد الرحمن السلمي نحوه قال أبو بكر لما تأولوا الآية على المعنيين من الزوال ومن الغروب دل على احتمالها لولا ذلك لما تأوله السلف عليهما والدلوك في اللغة الميل فدلوك الشمس ميلها وقد تميل تارة للزوال وتارة للغروب وقد علمنا أن دلوكها هو أول الوقت وغسق الليل نهايته وغايته لأنه قال غسق الليل وإلى غاية ومعلوم أن وقت الظهر لا يتصل بغسق الليل لأن بينهما وقت العصر فالأظهر أن يكون المراد بالدلوك ههنا هو الغروب وغسق الليل ههنا هو اجتماع الظلمة لأن وقت المغرب يتصل بغسق الليل ويكون نهاية له واحتمال الزوال مع ذلك قائم لأن ما بين زوال الشمس إلى غسق الليل وقت هذه الصلاة وهي الظهر والعصر والمغرب فيفيد ذلك أن من وقت الزوال إلى غسق الليل لا ينفك من أن يكون وقتا لصلاة فيدخل فيه الظهر والعصر والمغرب ويحتمل أن يراد به العتمة أيضا لأن الغاية قد تدخل في الحكم كقوله تعالى إلى المرافق قوله داخلة فيها وقوله حتى تغتسلوا والغسل داخل في شرط الإباحة فإن حمل المعنى على الزوال انتظم أربع صلوات ثم قال الفجر وهو صلاة الفجر فتنتظم الآية الصلوات الخمس وهذا معنى ظاهر قد دل عليه إفراده صلاة الفجر بالذكر إذ كان بينها وبين صلاة الظهر وقت ليس من أوقات الصلاة المفروضة فأبان تعالى أن من وقت الزوال إلى وقت العتمة وقتا لصلوات مفعولة فيه وأفرد الفجر بالذكر إذ كان بينها وبين الظهر فاصلة وقت ليس من أوقات الصلاة فهذه الآية يحتمل أن يريد بها بيان وقت صلاتين إذا كان المراد بالدلوك الغروب وهو وقت المغرب والفجر بقوله تعالى وقرآن الفجر ويحتمل أن يريد بها الصلوات الخمس
[ 334 ]
على الوجه الذي بينا ويحتمل أن يريد بها الظهر والمغرب والفجر وذلك لأنه جائز أن يريد بقوله غسق الليل أقم الصلاة مع غسق الليل كقوله تعالى تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ومعناه مع أموالكم ويكون غسق الليل حينئذ وقتا لصلاة المغرب ويجوز أن يريد به وقت صلاة العتمة وقد روى ليث عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان يقول دلوك الشمس حين تزول إلى غسق الليل حين تجب الشمس قال وقال ابن مسعود دلوك الشمس حين تجب إلى غسق الليل حين يغيب الشفق وعن عبد الله أيضا أنه لما غربت الشمس قال هذا غسق الليل وعن أبي هريرة غسق الليل غيبوبة الشمس وقال الحسن غسق الليل صلاة المغرب والعشاء وقال إبراهيم النخعي غسق الليل العشاء الآخرة وعن أبي جعفر غسق الليل انتصافه وروى مالك عن داود بن الحصين قال أخبرني مخبر عن ابن عباس أنه كان يقول غسق الليل اجتماع الليل وظلمته فهذه الآية فيها احتمال للوجوه التي ذكرنا من مواقيت الصلوات وقال تعالى الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل روى عمرو عن الحسن في قوله تعالى النهار قال صلاة الفجر والأخرى الظهر والعصر له من الليل قال المغرب والعشاء فعلى هذا القول قد انتظمت الآية الصلوات الخمس وروى يونس عن الحسن أقم الصلاة طرفي النهار قال الفجر والعصر وروى ليث عن الحكم عن أبي عياض قال قال ابن عباس جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة فسبحان الله حين تمسون المغرب والعشاء وحين تصبحون الفجر وعشيا العصر وحين تظهرون الظهر وعن الحسن مثله وروى أبو رزين عن ابن عباس وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب قال الصلاة المكتوبة وقالي وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى [ طه: 130 ] وهذه الآية منتظمة لأوقات الصلوات أيضا فهذه الآيات كلها فيها ذكر أوقات الصلوات من غير تحديد لها إلا فيما ذكر من الدلوك فإنه جعله أول وقت لتلك الصلاة ووقت الزوال والغروب معلومان وقوله تعالى غسق الليل ليس فيه بيان نهاية الوقت بلفظ غير محتمل للمعاني وقوله تمسون إن أراد به المغرب كان معلوما وكذلك (تصبحون لأن وقت الصبح معلوم وقوله النهار [ هود:
[ 335 ]
114 ] لا دلالة فيه على تحديد الوقت لاحتماله أن يريد الظهر والعصر وذلك لأن وسط النهار هو وقت الزوال فما كان منه في النصف الآخر فهو طرف وكذلك ما كان منه في النصف الأول فهو طرف وجائز أن يريد به العصر لأن آخر النهار من طرفه والأولى أن يكون المراد العصر دون الظهر لأن طرف الشئ إما أن يكون ابتداءه ونهايته وآخره ويبعد أن يكون ما قرب من الوسط طرفا إلا أن الحسن في رواية عمر وقد تأوله على الظهر والعصر جميعا وقد روى عنه يونس أنه العصر وهو أشبه بمعنى الآية ألا ترى أن طرف الثوب ما يلي نهايته ولا يسمى ما قرب من وسطه طرفا فهذه الآي دالة على أعداد الصلوات وقوله تعالى وحافظوا على الصلوات الآية يدل على أنها وتر لأن الشفع لا وسط له وقد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم ونقلت الأمة عنه قولا وفعلا فرض الصلوات الخمس وقد روى أنس بن مالك وعبادة بن الصامت في حديث المعراج عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بخمسين صلاة وأنه لم يزل يسئل ربه التخفيف حتى استقرت على خمس وهذا عندنا كان فرضا موقوفا على اختيار النبي صلى الله عليه وسلم كذلك لأنه لا يجوز نسخ الفرض قبل التمكن من الفعل وقد بيناه في أصول الفقه ولا خلاف بين المسلمين في فرض الصلوات الخمس وقال جماعة من السلف بوجوب الوتر وهو قول أبي حنيفة وليس هو بفرض عنده وإن كان واجبا لأن الفرض ما كان في أعلى مراتب الإيجاب وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار متواترة في بيان تحديد أوقات الصلوات واتفقت الأمة في بعضها واختلفت في بعض وقت الفجر فأما أول وقت الفجر فلا خلاف فيه أنه من حين يطلع الفجر الثاني الذي يعترض في الأفق وروى سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس الفجر أن يقول هكذا وجمع كفه حتى يكون هكذا ومد أصبعيه السبابتين وروى قيس بن طلق عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلوا واشربوا ولا يهدينكم الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر وروى سفيان عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الفجر فجران فجر يحل فيه الطعام وتحرم فيه الصلاة وفجر تحل فيه الصلاة ويحرم فيه الطعام وروى نافع بن جبريل في
[ 336 ]
حديث المواقيت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل عليه السلام أمه عند البيت فصلى الفجر في اليوم الأول حين برق الفجر وحرم الطعام والشراب على الصائم فهذا أول وقت الفجر وقد تواترت به الآثار واتفق عليه فقهاء الأمصار وأما آخر وقتها فهو إلى طلوع الشمس عند سائر الفقهاء وذكر ابن القاسم عن مالك أنه قال وقت الصبح الإغلاس والنجوم بادية مشتبكة وآخر وقتها إذا أسفر ويحتمل أن يكون مراده الوقت المستحب وكراهة التأخير إلى بعد الإسفار لا على معنى أنها تكون فائتة إذا أخرها إلى بعد الإسفار قبل طلوع الشمس وقد روى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وقت الفجر ما لم تطلع الشمس وقد روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن للصلاة أولا وآخرا وأن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر وأن آخر وقتها حين تطلع الشمس وورى أبو هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أدرك ركعة من صلاة الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك فألزم النبي صلى الله عليه وسلم مدرك هذا القدر من الوقت جميع الصلاة مثل الحائض تطهر والصبي يبلغ والكافر يسلم فثبت أن وقت الفجر إلى طلوع الشمس وقت الظهر وأما أول وقت الظهر فهو من حين تزول الشمس ولا خلاف بين أهل العلم فيه وقال الله تعالى ذلك وحين تظهرون وقال الصلاة لدلوك الشمس وقد بينا أن دلوك الشمس تحتمل الزوال والغروب جميعا وهو عليهما فتنتظم الآية الأمر بصلاة الظهر والمغرب وبيان أول وقتيهما ومن جهة السنة حديث ابن عباس وأبي سعيد وجابر وعبد الله بن عمر وبريدة الأسلمي وأبي هريرة وأبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر المواقيت حين أمه جبريل وأنه صلى الظهر حين زالت الشمس وفي بعضها ابتداء اللفظ من النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أول وقت الظهر إذا زالت الشمس وهي أحاديث مشهورة كرهت الإطالة بذكر أسانيدها وسياقة ألفاظها فصار أول وقت الظهر معلوما من جهة الكتاب والسنة واتفاق الأمة وأما آخر وقتها فقد اختلف فيه الفقهاء فروي عن أبي حنيفة فيه ثلاث روايات إحداهن أن يصير الظل أقل من قامتين والأخرى وهي رواية الحسن بن زياد أن يصير ظل كل شئ مثله والثالثة أن يصير الظل قامتين وهي رواية الأصل وقال أبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والحسن بن صالح والثوري والشافعي هو أن يصير ظل كل شئ مثله وحكي عن مالك أن وقت الظهر والعصر إلى غروب الشمس
[ 337 ]
ويحتج لقول من قال بالمثلين في آخر وقت الظهر بظاهر قوله الصلاة طرفي النهار وذلك يقتضي فعل العصر بعد المثلين لأنه كلما كان أقرب إلى وقت الغروب فهو أولى باسم الطرف وإذا كان وقت العصر من المثلين فما قبله من وقت الظهر لحديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أول وقت الظهر حين تزول الشمس وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر ويحتج أيضا لهذا القول بظاهر قوله تعالى الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل [ الاسراء: 78 ] وقد بينا أن الدلوك يحتمل الزوال فإذا أريد به ذلك اقتضى ظاهره امتداد الوقت إلى الغروب إلا أنه ثبت أن ما بعد المثلين ليس بوقت للظهر فوجب أن يثبت إلى المثلين محمد بالظاهر ويحتج فيه من جهة السنة بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أجلكم في أجل من مضى قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ومثلكم ومثل أهل الكتابين قبلكم كرجل استأجر أجراء فقال من يعمل لي ما بين غدوة إلى نصف النهار على قيراط فعملت اليهود ثم قال من يعمل لي ما بين نصف النهار إلى العصر على قيراط فعملت النصارى ثم قال من يعمل لي ما بين العصر إلى المغرب على قيراطين فعملتم أنتم فغضبت اليهود والنصارى فقالوا كنا أكثر عملا وأقل عطاء قال هل نقصتم من جعلكم شيئا قالوا لا قال فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء مطلب: في بان قوله عليه السلام: " بعثت أنا والساعة كهاتين " وأن ذلك مقدر بنصف السبع من مدة الدنيا ودلالة هذا الخبر على ما ذكرنا من وجهين أحدهما قوله أجلكم في أجل من مضى قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس وإنما أراد بذلك الإخبار عن قصر الوقت وقال صلى الله عليه وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين وجمع بين السبابة والوسطى وفي خبر آخر كما بين هذه وهذه فأخبر فيه أن الذي بقي من مدة الدنيا كنقصان السبابة عن الوسطى وقد قدر ذلك بنصف السبع فثبت بذلك حين شبه صلى الله عليه وسلم أجلنا في أجل من مضى قبلنا بوقت العصر في قصر مدته أنه لا ينبغي أن يكون من المثل لأنه لو كان كذلك لكان أكثر من ذلك فدل ذلك على أن وقت العصر بعد المثلين والوجه الآخر من دلالة الخبر المثل الذي ضربه صلى الله عليه وسلم لنا ولأهل الكتابين بالعمل في الأوقات المذكورة وأنهم غضبوا فقالوا كنا أكثر عملا وأقل عطاء فلو كان وقت العصر في المثل لما كانت النصارى أكثر عملا من المسلمين بل كان يكون المسلمون أكثر عملا لأن ما بين المثل إلى الغروب أكثر مما بين الزوال إلى المثل فثبت بذلك أن وقت العصر أقصر من وقت الظهر
[ 338 ]
فإن قيل إنما أراد أن وقتي الفريقين جميعا أطول من وقت المسلمين قيل له: هذا غلط، لانه أخبر عن كل واحد من الفريقين بذلك على حياله دون الإخبار عنهما مجموعين ألا ترى أنهم قالوا كنا أكثر عملا وأقل عطاء وليسا بمجموعهما أقل عطاء لأن عطاءهما جميعا هو مثل عطاء المسلمين ويدل عليه حديث عروة عن بشير بن أبي مسعود عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل أتاه في اليوم الثاني حين صار ظل كل شئ مثله فقال قم فصل الظهر فأخبر أن جبريل أتاه بعد المثل فأمره بفعل الظهر فلو كان ما بعد المثل من وقت العصر لكان قد أخر الظهر عن وقتها فإن قيل في حديث ابن عباس وجابر وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شئ مثله وهذا يوجب أن يكون وقت العصر بعد المثل قيل له أما حديث ابن عباس فإنه أخبر فيه عن إمامة جبريل عند باب البيت وذلك قبل الهجرة وفيه أنه صلى الظهر من اليوم الثاني لوقت العصر بالأمس وذلك يوجب أن يكون وقت الظهر ووقت العصر واحدا فيما صلاهما في اليومين فإن قيل إنما أراد أنه ابتدأ العصر في وقت فراغه من الظهر من الأمس قيل له في حديث ابن مسعود إن جبريل أتاه حين صار ظل كل شئ مثله في اليوم الأول فقال قم فصل العصر وأنه أتاه في اليوم الثاني حين صار ظل كل شئ مثله فقال قم فصل الظهر فأخبر أن مجيئه إليه وأمره إياه بالصلاة كان بعد المثل وهذا يسقط تأويل من تأوله وإذا كان ذلك كذلك وقد روى عبد الله بن عمر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر وفي حديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى ثبت بذلك أن ما في حديث ابن عباس وابن مسعود على النحو الذي ذكرنا منسوخ وأنه كان قبل الهجرة وعلى أنه لو كان ثابت الحكم لوجب أن يكون الفعل الآخر ناسخا للأول وأن يكون الآخر منهما ثابتا والآخر من الفعلين أنه فعل الظهر في اليوم الثاني بعد المثل وذلك يقتضي أن يكون ما بعد المثل من وقت الظهر وفي حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله السائل عن مواقيت الصلاة أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس مرتفعة قبل أن تدخلها الصفرة وكذلك في حديث سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة ولا يقال هذا فيمن صلاها حين يصير الظل مثله وقد ذكر أيضا في حديث ابن مسعود أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة رواه جماعة من كبار أصحاب الزهري عن عروة منهم مالك والليث وشعيب ومعمر وغيرهم ورواه أيوب عن عتبة عن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن
[ 339 ]
عروة فذكر فيه مقادير الفئ على نحو ما قدمنا فحديث ابن مسعود يروى على هذين الوجهين فذكر في أحدهما أنه جاءه جبريل عليه السلام حين صار ظل كل شئ مثله فقال قم فصل الظهر وفي اليوم الثاني جاءه حين صار ظل كل شئ مثليه فقال قم فصل العصر وحديث الزهري عن عروة لم يذكر فيه مقدار الفئ وذكر أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة لم تدخلها صفرة وقد رويت أخبار في تعجيل العصر قد يحتج بها من يقول بالمثل وفيها احتمال لما قالوه ولغيره فلا تثبت بمثلها حجة في إثبات المثل دون غيره إذ لا حجة في المحتمل منها حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر ثم يذهب الذاهب إلى العوالي فيجدهم لم يصلوا العصر قال الزهري والعوالي على الميلين والثلاثة وورى أبو واقد الليثي قال حدثنا أبو أروى قال كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العصر بالمدينة ثم أمشي إلى ذي الحليفة قبل أن تغرب الشمس وفي حديث أسامة بن زيد عن الزهري عن عروة عن بشير بن أبي مسعود عن أبيه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس بيضاء مرتفعة يسير الرجل حين ينصرف منها إلى ذي الحليفة ستة أميال قبل غروب الشمس وروي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن يظهر الفئ وفي لفظ آخر لم يفئ الفئ بعد وليس في هذه الأخبار ذكر تحديد الوقت وما ذكر من المضي إلى العوالي وذي الحليفة فليس يمكن الوقوف منه على مقدار معلوم من الوقت لأنه على قدر الإبطاء والسرعة في المشي وقد كان شيخنا أبو الحسن رحمه الله تعالى يستدل بقوله صلى الله عليه وسلم أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم على أن ما بعد المثل وقت للظهر لأن الإبراد لا يكون عند المثل بل أشد ما يكون الحر في الصيف عند ما يصير ظل كل شئ مثله ومن قال بالمثل يجيب عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالهجير عند الزوال والفئ قليل في ذلك الوقت فكان منهم من يصلي في الشمس أو بالقرب منها وكذلك قال خباب شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء فلم يشكنا ثم قال أبردوا بالظهر فأمرهم أن يصلوها بعد ما يفئ الفئ فهذا هو الإبراد المأمور به عند من قال بالمثل وأما ما حكي عن مالك أن وقت الظهر والعصر إلى غروب الشمس فإنه قول ترده الأخبار المروية في المواقيت لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في اليومين في حديث ابن عباس وابن مسعود وجابر وأبي سعيد وأبي موسى وغيرهم في أول الوقت وآخره ثم قال ما بين هذين وقت وفي حديث عبد الله بن عمر وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر وفي بعض ألفاظ حديث أبي هريرة وآخر وقت الظهر حين يدخل
[ 340 ]
وقت العصر فغير جائز لأحد أن يجعل وقت العصر وقتا للظهر مع إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن آخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر وقد نقل الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأوقات عملا وقولا كما نقلوا وقت الفجر ووقت العشاء والمغرب وعقلوا بتوقيفه صلى الله عليه وسلم أن كل صلاة منها مخصوصة بوقت غير وقت الأخرى وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجئ وقت الآخر ولا خلاف أن تارك الظهر لغير عذر حتى يدخل وقت العصر مفرط فثبت أن للظهر وقتا مخصوصا وكذلك العصر وإن وقت كل واحدة منهما غير وقت الأخرى ولو كان الوقتان جميعا وقتا للصلاتين لجاز أن يصلي العصر في وقت الظهر من غير عذر ولما كان للجمع بعرفة خصوصية وفي امتناع جواز ذلك لغير عذر عند الجميع دلالة على أن كل واحدة من الصلاتين منفردة بوقتها فإن احتجوا بقوله تعالى الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل [ الاسراء: 78 ] وأن الدلوك هو الزوال وجعل ذلك كله وقتا للظهر إلى غروب الشمس لأنه روي في غسق الليل عن جماعة من السلف أنه الغروب قيل له ظاهره يقتضي إباحة فعل هذه الصلاة من وقت الزوال إلى غسق الليل وقد اتفق الجميع على أن ذلك ليس بمراد وأنه غير مخير في فعل الظهر من وقت الزوال إلى الليل فثبت أن المراد صلاة أخرى يفعلها وهي إما العصر وإما المغرب والمغرب أشبه بمعنى الآية لاتصال وقتها بغسق الليل الذي هو اجتماع الظلمة فيكون تقدير الآية أقم الصلاة لزوال الشمس وأقمها إلى أيضا إلى غسق الليل وهي صلاة أخرى غير الأولى فلا دلالة في الآية على أن وقت الظهر إلى غروب الشمس وقد وافق الشافعي مالكا في هذا المعنى أيضا من وجه وذلك أنه يقول من أسلم قبل غروب الشمس لزمته الظهر والعصر جميعا وكذلك الحائض إذا طهرت والصبي إذا بلغ وذهب إلى أنه وإن لم يكن وقت اختيار فهو وقت الضرورة والعذر لأنه يجوز على أصله الجمع بين الصلاتين في السفر والمرض ونحوه بأن يؤخر الظهر إلى وقت العصر أو يجعل العصر فيصليها في وقت الظهر معها فجعل من أجل ذلك الوقت وقتا لهما في حال العذر والضرورة فإن كان هذا اعتبارا صحيحا فإنه يلزمه أن يقول في المرأة إذا حاضت في أول وقت الظهر أن تلزمها صلاة الظهر والعصر جميعا كما أنها إذا طهرت في آخر وقت العصر لزمتها صلاة الظهر والعصر جميعا وقد أدركت هذه التي حاضت في وقت الظهر من الوقت ما يجوز لها فيه الجمع بين الصلاتين للعذر وهذا لا يقوله أحد فثبت بذلك أن وقت العصر غير وقت الظهر في سائر الأحوال وأنه لا تلزم أحدا صلاة الظهر بإدراكه وقت العصر دون وقت الظهر
[ 341 ]
وقت العصر قال أبو بكر أما أول وقت العصر فهو على ما ذكرنا من خروج وقت الظهر على اختلافهم فيه والصحيح من قولهم أنه ليس بين وقت الظهر ووقت العصر واسطة وقت من غيرهما وما روي عن أبي حنيفة من أن آخر وقت الظهر أن يصير الظل أقل من قامتين وأول وقت العصر إذا صار الظل قامتين فهو رواية شاذة وهي أيضا مخالفة للآثار الوارد في أن وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر وفي بعض ألفاظ حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وآخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر وفي حديث أبي قتادة التفريط في الصلاة أن يتركها حتى يدخل وقت الأخرى والصحيح من مذهب أبي حنيفة أحد قولين إما المثلان وإما المثل وإن بخروج وقت الظهر يدخل وقت العصر واتفق فقهاء الأمصار أن آخر وقت العصر غروب الشمس ومن الناس من يقول إن آخر وقتها حين تصفر الشمس ويحتج فيه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة عند غروب الشمس قال أبو بكر والدليل على أن آخر وقتها الغروب قول النبي صلى الله عليه وسلم من فاته العصر حتى غابت الشمس فكأنما وتر أهله وماله فجعل فواتها بالغروب وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك وهذا يدل على أن وقتها إلى الغروب فإن احتج محتج بحديث عبد الله بن عمر وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال آخر وقت العصر حين تصفر الشمس فإن هذا عندنا على كراهة التأخير وبيان الوقت المستحب كما روي في حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال آخر وقت العشاء الآخرة نصف الليل ومراده الوقت المستحب لأنه لا خلاف أن ما بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر من وقت العشاء الآخرة وأن مدركه بالإحتلام أو الإسلام يلزمه فرضها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إن الرجل ليصلي الصلاة ولما فاته من وقتها خير له من أهله وماله فقد يكون وقت يلزمه به مدركه الفرض ويكره له تأخيرها إليه ألا ترى أنه يكره الإسفار بصلاة الفجر بمزدلفة ولم تخرجه كراهة التأخير إليه من أن يكون وقتا لها فكذلك الأخبار التي فيها تقدير آخر الوقت باصفرار الشمس واردة على فوات فضيلة الوقت الذي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم خيرا له من أهله وماله وقت المغرب أول وقت المغرب من حين تغرب الشمس لا اختلاف بين الفقهاء في ذلك وقال
[ 342 ]
الله عز وجل الصلاة لدلوك الشمس وهو يقع على الغروب لما بيناه فيما سلف وقال تعالى وزلفا من الليل وهو ما قرب منه من النهار وهو أول أوقاته والله أعلم وقال تعالى فسبحان الله حين تمسون [ الرم: 17 ] قيل فيه إنه وقت الغروب وفي أخبار المواقيت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق ابن عباس وجابر وأبي سعيد وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب في اليومين جميعا حين غابت الشمس وقال سلمة بن الأكوع كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تواترت بالحجاب وقد ذهب شواذ من الناس إلى أن أول وقت المغرب حين يطلع النجم واحتجوا بما روى أبو تميم الجيشاني عن أبي بصرة الغفاري قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر فقال إن هذه الصلاة عرضت على من كان قبلكم فضيعوها فمن حافظ عليها منكم أوتي أجره مرتين ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد والشاهد النجم وهذا حديث شاذ لا تعارض به الأخبار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أول وقت المغرب أنه حين تغيب الشمس وقد روي ذلك أيضا عن جماعة من الصحابة منهم عمر وعبد الله وعثمان وأبي هريرة ويحتمل أن يكون خبر أبي بصرة في ذكر طلوع الشاهد غير مخالف لهذه الأخبار وذلك لأن النجم قد يرى في بعض الأوقات بعد غروب الشمس قبل اختلاط الظلام فلما كان الغالب في ذلك أنه لا يكاد يخلو من أن يرى بعض النجوم بعد غروب الشمس جعل ذلك عبارة عن غيبوبة الشمس وأيضا فلو كان الاعتبار برؤية النجم لوجب أن تصلى قبل الغروب إذا رؤي النجم لأن بعض النجوم قد يرى في بعض الأوقات قبل الغروب ولا خلاف أنه غير جائز فعلها قبل الغروب مع رؤية الشاهد فسقط بذلك اعتبار طلوع الشاهد وأما آخر وقت المغرب فإن أهل العلم مختلفون فيه فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والحسن بن صالح لوقت المغرب أول وآخر كسائر الصلوات وقال الشافعي ليس للمغرب إلا وقت واحد ثم اختلف من قال بأن له أولا وآخرا في آخر وقتها فقال أصحابنا والثوري والحسن بن صالح آخر وقتها أن يغيب الشفق ثم اختلفوا في الشفق فقال أبو حنيفة الشفق البياض وقال أبو يوسف ومحمد وابن أبي ليل ومالك والثوري والحسن بن صالح والشافعي الشفق الحمرة وقال مالك وقت المغرب والعشاء إلى طلوع الفجر قال أبو بكر وقد اختلف السلف أيضا في الشفق ما هو فقال بعضهم هو البياض وقال بعضهم الحمرة فممن قال أنه الحمرة ابن عباس وابن عمر
[ 343 ]
وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس وحدثنا أبو يعقوب يوسف بن شعيب المؤذن قال حدثنا أبو عمران موسى بن القاسم العصار والحسين بن الفرج البزاز قالا حدثنا هشام بن عبيدالله قال حدثنا هياج عمن ذكر عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال الشفق الحمرة قال هشام وحدثنا أبو سفيان عن العمري عن نافع عن ابن عمر قال الشفق الحمرة قال هشام وحدثنا محمد بن الحسن عن ثور بن يزيد عن مكحول قال كان عبادة بن الصامت وشداد بن أوس يصليان العشاء إذا غابت الحمرة ويريانها أبو الشفق فهؤلاء الذين روى عنهم الحمرة وممن روي عنه أن الشفق البياض عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وعمر بن عبد العزيز حدثنا يوسف بن شعيب قال حدثنا موسى بن القاسم والحسين بن الفرج قالا حدثنا هشام بن عبيدالله قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثنا عنبسة بن سعيد الكلاعي قال حدثني قتادة عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب كتب إن أول وقت العشاء مغيب الشفق ومغيبه إذا اجتمع البياض من الأفق فينقطع فذلك أول وقتها قال هشام حدثنا أبو عثمان عن خالد بن يزيد عن إسماعيل بن عبيدالله عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل قال الشفق البياض قال هشام وحدثنا محمد بن الحسن عمن ذكر عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول الشفق البياض فصل وأما الدلالة على أن لوقت المغرب أولا وآخرا وأنه غير مقدر بفعل الصلاة فحسب قوله تعالى الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقد ذكرنا من قال من السلف أنه الغروب واحتمال اللفظ له فاقتضت الآية أن يكون لوقت المغرب أول وآخر لأن قوله تعالى غسق الليل غاية وقد روي عن ابن عباس أن غسق الليل اجتماع الظلمة فثبت بدلالة الآية أن وقت المغرب من حين الغروب إلى اجتماع الظلمة وفي ذلك ما يقضي ببطلان قول من جعل لها وقتا واحدا مقدرا بفعل الصلاة وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أول وقت المغرب حين تسقط الشمس وأن آخر وقتها حين يغيب الأفق وفي حديث أبي بكرة عن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سائلا سأله عن مواقيت الصلاة فذكر الحديث وقال فيه وصلى المغرب في اليوم الأول حين وقعت الشمس وآخرها في اليوم الثاني حتى كان عند سقوط الشفق ثم قال الوقت فيما بين هذين وفي حديث علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا سأله عن وقت الصلاة فقال صل معنا فأقام المغرب حين غابت الشمس ثم صلى المغرب في اليوم
[ 344 ]
الثاني قبل أن يغيب الشفق وكذلك في حديث جابر فثبت بذلك أن لوقت المغرب أولا وآخرا وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا همام عن قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وقت المغرب ما لم يغب الشفق وروى عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب بأطوال الطول وهي وهذا يدل على امتداد الوقت ولو كان الوقت مقدرا بفعل ثلاث ركعات لكان من قرأ المص " قد أخرها عن وقتها فإن قيل روي في حديث ابن عباس وأبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب في اليومين جميعا في وقت واحد بعد غروب الشمس قيل له هذا لا يعارض ما ذكرنا لأنه جائز أن يكون فعله كذلك ليبين الوقت المستحب وفي الأخبار التي رويناها بيان أول الوقت وآخره وإخبار منه بأن ما بين هذين وقت فهو أولى لأن فيه استعمال الخبرين ومع ذلك فإن فعله لها في اليومين في وقت واحد لو انفرد عما يعارضه من الأخبار التي ذكرنا لم تكن فيه دلالة على أنه لا وقت لها غيره كما لم يدل فعله للعصر في اليومين قبل اصفرار الشمس على أنه لا وقت لها غيره وكفعله للعشاء الآخرة في اليومين قبل نصف الليل لم يدل على أن ما بعد نصف الليل ليس بوقت لها ومن جهة النظر أن سائر الصلوات المفروضات لما كان لأوقاتها أول وآخر ولم تكن أوقاتها مقدرة بفعل الصلاة وجب أن يكون المغرب كذلك فقول من جعل الوقت مقدرا بفعل الصلاة خارج عن الأصول مخالف للأثر والنظر جميعا ومما يلزم الشافعي في هذا أنه يجيز الجمع بين المغرب والعشاء في وقت واحد إما لمرض أو سفر كما يجيزه بين الظهر والعصر فلو كان بينهما وقت ليس منهما لما جاز الجمع بينهما كما لا يجوز الجمع بين الفجر والظهر إذ كان بينهما وقت ليس منهما فإن قيل ليست علة الجمع تجاور الوقتين لأنه لا يجمع المغرب إلى العصر مع تجاور الوقتين قيل له لم نلزمه أن يجعل تجاور الوقتين علة للجمع وإنما ألزمناه
[ 345 ]
المنع من الجمع إذا لم يكن الوقتان متجاورين لأن كل صلاتين بينهما وقت ليس منهما لا يجوز الجمع بينهما والله أعلم بالصواب ذكر القول في الشفق والاحتجاج له قال أبو بكر لما اختلف الناس في الشفق فقال منهم قائلون هو الحمرة وقال آخرون البياض علمنا أن الاسم يتناولهما ويقع عليهما في اللغة لولا ذلك لما تأولوه عليهما إذ كانوا عالمين بمعاني الأسماء اللغوية والشرعية ألا ترى أنهم لما اختلفوا في معنى ا لقرء فتأوله بعضهم على الحيض وبعضهم على الطهر ثبت بذلك أن الاسم يقع عليهما وإنما نحتاج بعد ذلك إلى أن نستدل على المراد منهما بالآية وحدثنا أبو عمر غلام ثعلب قال سئل ثعلب عن الشفق ما هو فقال البياض فقال له السائل الشواهد على الحمرة أكثر فقال ثعلب إنما يحتاج إلى الشاهد ما خفي فأما البياض فهو أشهر في اللغة من أن يحتاج إلى الشاهد قال أبو بكر ويقال إن اصل الشفق الرقة ومنه يقال ثوب شفق ومنه الشفقة وهي رقة القلب وإذا كان أصله كذلك فالبياض أخص به لأنه عبارة عن الأجزاء الرقيقة الباقية من ضياء الشمس وهو في البياض أرق منه في الحمرة ويشهد لمن قال بالحمرة قول أبي النجم حتى إذا الشمس اجتلاها المجتلي * أو بين سماطي شفق مهول فهي عبد على الأفق كعين الأحول ومعلوم أنه أراد الحمرة لأنه وصفها عند الغروب ومما يحتج به البياض قوله تعالى فلا أقسم بالشفق أبي قال مجاهد هو النهار ويدل عليه قوله والليل وما وسق فأقسم بالليل والنهار فهذا يوجب أن يكون الشفق البياض لأن أول النهار هو طلوع بياض الفجر وهذا يدل على أن الباقي من البياض بعد غروب الشمس هو الشفق ومما يستدل به على أن المراد البياض قوله تعالى الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) [ الاسراء: 78 ] وقد بينا أن الدلوك هو اسم يقع على الغروب ثم جعل غسق الليل غايته وروي عن ابن عباس في غسق الليل أنه اجتماع الظلمة وذلك لا يكون إلا مع غيبوبة البياض لأن البياض ما دام باقيا فالظلمة متفرقة في الأفق فثبت بذلك أن وقت المغرب إلى غيبوبة البياض فثبت أن المراد البياض
[ 346 ]
فإن قيل روي عن ابن مسعود وأبي هريرة أن غسق الليل هو غروب الشمس قيل له المشهور عن ابن مسعود أو دلوك الشمس هو غروبها ومحال إذا كان الدلوك عنده الغروب أن يكون غسق الليل غروب الشمس أيضا لأن الله تعالى قال أقم الصلاة لدلوك الشمس إلا الدلوك أول الوقت وغسق الليل آخره ويستحيل أن يكون ما جعله ابتداء هو الذي جعله غاية وإذا كان ذلك كذلك فالراوي عن ابن مسعود أن غسق الليل هو غروب الشمس غالط في روايته ومع ذلك فقد روي عن ابن مسعود رواية مشهورة أن دلوك الشمس غروبها وأن غسق الليل حين يغيب الشفق وهذه الرواية مستقيمة على ما ثبت عنه من تأويل الآية وقد روى ليث عن مجاهد عن ابن عباس أن دلوك الشمس حين تزول إلى غسق الليل حين تجب الشمس وهذا غير بعيد على ما ثبت عنه في تأويل الدلوك أنه الزوال إلا أنه قد روى عنه مالك عن داود بن الحصين قال أخبرني مخبر عن ابن عباس أنه كان يقول غسق الليل اجتماع الليل وظلمته وهذا ينفي أن يكون غسق الليل وقت الغروب من قبل أن وقت الغروب لا تكون ظلمة مجتمعة وقد روي عن أبي جعفر في غسق الليل أنه انتصافه وعن إبراهيم غسق الليل العشاء الآخرة وأولى هذه المعاني بلفظ الآية اجتماع الظلمة وذهاب البياض وذلك لأنه لو كان غسق الليل هو غروب الشمس لكانت الغاية المذكورة للوقت هي وجود الليل فحسب فيصير تقدير الآية أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى الليل وتسقط معه فائدة ذكر الغسق مع الليل ولما وجب حمل كل لفظ منه على فائدة مجددة وجب أن يكون غسق الليل قد أفاد ما لم يفدناه (لو قال إلى الليل عاريا من اجتماعها ومما يستدل به على أن الشفق هو البياض حديث بشير بن أبي مسعود عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العشاء اليوم الأول حين اسود الأفق وربما أخرها حتى يجتمع الناس فأخبر عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في أوائل أوقاتها وأخبر عنها في أواخرها وذكر في أول الوقت العشاء الآخرة اسوداد الأفق ومعلوم أن بقاء البياض يمنع إطلاق الاسم عليه بذلك فثبت أن أول وقت العشاء الآخرة غيبوبة البياض ومن يأبى هذا القول يقول إن قوله حين اسود الأفق لا ينفي بقاء البياض لأنه إنما أخبر عن اسوداد أفق من الآفاق لا عن جميعها ولو أراد غيبوبة البياض لقال حين اسودت الآفاق وليس يمتنع أن يبقى البياض وتكون سائر الآفاق غير موضع البياض مسودة ويحتج القائلون بالبياض أيضا
[ 347 ]
بحديث الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء الآخرة حين يستوي الأفق وربما أخرها حتى يجتمع الناس وهذا اللفظ يحتمل من المعنى ما احتمله قوله في الحديث الأول حين اسود الأفق ومما يحتج به القائلون بالحمرة ما روى ثور بن يزيد عن سليمان بن موسى عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله قال سأل رجل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلاة فقال صل معي فصلى في اليوم الأول العشاء الآخرة قبل غيبوبة الشفق قالوا ومعلوم أنه لم يصلها قبل غيبوبة الحمرة فوجب أن يكون أراد البياض ولا تكون رواية من روى أنه صلاها بعد ما غاب الشفق معارضة لحديث جابر هذا من قبل أن معناه: بعد ما غاب الشفق الذي هو الحمرة إذا كان الاسم يقع عليهما جميعا ليتفق الحديثان ولا يتضادا ومن يجعل الشفق البياض يجعل خبر جابر منسوخا على نحو ما روي في خبر ابن عباس في المواقيت أنه صلى ا لظهر في اليوم الثاني وقت العصر بالأمس ومما يحتج به القائلون بالحمرة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أول وقت المغرب إذا غربت الشمس وآخره غيبوبة الشفق وفي بعض أخبار عبد الله بن عمر إذا غابت الشمس فهو وقت المغرب إلى أن يغيب الشفق وفي لفظ آخر وقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق قالوا فالواجب حمله على أولهما وهو الحمرة ومن يقول البياض يجيب عن هذا بأن ظاهر ذلك يقتضي غيبوبة جميعه وهو بالبياض فيدل ذلك على اعتبار البياض دون الحمرة لأنه غير جائز أن يقال قد غاب الشفق إلا بعد غيبوبة جميعه كما لا يقال غابت الشمس إلا بعد غيبوبة جميعها دون بعضها ولمن قال بالحمرة أن يقول إن البياض والحمرة ليسا شفقا واحدا بل هما شفقتان ما فيتناول الاسم أولهما غيبوبة كما أن الفجر الأول والثاني هما فجران وليسا فجرا واحدا فيتناولهما إطلاق الاسم معا كذلك الشفق ومما يحتج به القائلين بالبياض حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء لسقوط القمر الليلة الثالثة وظاهر ذلك يقتضي غيبوبة البياض قال أبو بكر وهذا لا يعتمد عليه لأن ذلك يختلف في الصيف والشتاء ولا يمتنع بقاء البياض بعد سقوط القمر في الليلة الثالثة وجائز أن يكون قد غاب قبل سقوطه
[ 348 ]
مطلب: فيما ذكره الخليل بن أحمد من تردد الشفق في الافاق وعدم مغيبه قال أبو بكر وحكى ابن قتيبة عن الخليل بن أحمد قال راعيت البياض فرأيته لا يغيب البتة وإنما يستدير حتى يرجع إلى مطلع الفجر قال أبو بكر وهذا غلط والمحنة بيننا وبينهم وقد راعيته في البوادي في ليالي الصيف والجو نقي والسماء مصحية فإذا هو يغيب قبل أن يمضي من الليل ربعه بالتقريب ومن اراد أن يعرف ذلك فليجرب حتى يتبين له غلط هذا القول ومما يستدل به على أن المراد بالشفق البياض أنا وجدنا قبل طلوع الشمس حمرة وبياضا قبلها وكان جميعا من وقت صلاة واحدة إذ كانا جميعا من ضياء الشمس دون ظهور جرمها كذلك يجب أن تكون الحمرة والبياض جميعا بعد غروبها من وقت صلاة واحدة للعلة التي ذكرناها وقت العشاء الآخرة وأول لا وقت العشاء الآخرة من حين يغيب الشفق على اختلافهم فيه إلى أن يذهب نصف الليل في الوقت المختار وفي رواية أخرى حتى يذهب ثلث الليل ويكره تأخيرها إلى بعد نصف الليل ولا تفوت إلا بطلوع الفجر الثاني وقال الثوري والحسن بن صالح وقت العشاء إذا سقط الشفق إلى ثلث الليل والنصف أبعده قال أبو بكر ويحتمل أن يكونا أرادا الوقت المستحب لأنه لا خلاف بين الفقهاء أنها لا تفوت إلا بطلوع الفجر وإن من أدرك أو أسلم قبل طلوع الفجر أنه تلزمه العشاء الآخرة وكذلك المرأة إذا طهرت من الحيض قوله تعالى ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون الآية هو حث على
[ 349 ]
الجهاد وأمر به ونهي عن الضعف عن طلبهم ولقائهم لأن الابتغاء هو الطلب يقال بغيت وابتغيت إذا طلبت والوهن ضعف القلب والجبن الذي يستشعره الإنسان عند لقاء العدو واستدعاهم إلى نفي ذلك واستشعار الجرأة والإقدام عليهم بقوله إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون فأخبر أنهم يساوونكم أن فيما يلحق من الألم بالقتال وإنكم تفضلونهم على فإنكم ترجون من الله ما لا يرجون فأنتم أولى بالإقدام والصبر على ألم الجراح منهم إذ ليس لهم هذا الرجاء وهذه الفضيلة قوله تعالى وترجون من الله ما لا يرجون قيل فيه وجهان أحدهما ما وعدكم الله من النصر إذا نصرتم دينه والآخر ثواب الآخرة ونعيم الجنة فدواعي المسلمين على التصبر على القتال واحتمال ألم الجراح أكثر من دواعي الكفار وقيل فيه من الله مالا يرجون تؤملون من ثواب الله مالا يؤملون روي ذلك عن الحسن وقتادة وابن جريج وقال آخرون وتخافون من الله ما لا يخافون كما قال تعالى (مالكم لا ترجون لله وقارا يعني لا تخافون لله عظمة وبعض أهل اللغة يقول لا يكون الرجاء بمعنى الخوف إلا مع النفي وذلك حكم لا يقبل إلا بدلالة قوله تعالى أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله الآية فيه إخبار أنه أنزل الكتاب ليحكم بين الناس بما عرفه الله من الأحكام والتعبد مطلب: في قصة اليهودي الذي اتهم بسرقة الدرع قوله تعالى ولا تكن للخائنين خصيما روي أنه أنزل في رجل سرق درعا فلما خاف أن تظهر عليه رمى بها في دار يهودي فلما وجدت الدرع أنكر اليهودي أن يكون أخذها وذكر السارق أن اليهودي أخذها فأعان قوم من المسلمين هذا الآخذ على اليهودي فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قولهم فأطلعه الله على الآخذ وبرأ اليهودي منه ونهاه عن مخاصمة اليهودي وأمره بالاستغفار مما كان منه من معاونته الذين كانوا يتكلمون عن السارق وهذا يدل على أنه غير جائز لأحد أن يخاصم عن غيره في إثبات حق أو نفيه وهو غير عالم بحقيقة أمره لأن الله تعالى قد عاتب نبيه على مثله وأمره بالاستغفار منه وهذه الآية وما بعدها من النهي عن المجادلة عن الخونة إلى آخر ما ذكر كله تأكيد للنهي عن معونة من لا يعلمه حقا وقوله تعالى لتحكم بين الناس بما أراك الله ربما احتج به من يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول شيئا من طريق الاجتهاد وأن أقواله وأفعاله كلها كانت تصدر عن النصوص وأنه كقوله تعالى ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وليس في الآيتين دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول
[ 350 ]
شيئا من طريق الاجتهاد وذلك لأنا نقول ما صدر عن اجتهاد فهو مما أراه الله وعرفه إياه ومما أوحى به إليه أن يفعله فليس في الآية دلالة على نفي الاجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام وقد قيل في قوله تعالى ولا تكن للخائنين خصيما أنه جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم دفع عنهم وجائز أن يكون هم بالدفع عنهم ميلا منه إلى المسلمين دون اليهودي إذ لم يكن عنده أنهم غير محقين وإذا كان ظاهر الحال وجود الدرع عند اليهودي فكان اليهودي أولى بالتهمة والمسلم أولى ببراءة الساحة فأمره الله تعالى بترك الميل إلى أحد الخصمين والدفع عنه وإن كان مسلما والآخر يهوديا فصار ذلك أصلا في أن الحاكم لا يكون له ميل إلى أحد الخصمين على الآخر وإن كان أحدهما ذا حرمة له والآخر على خلافه وهذا يدل أيضا على أن وجود السرقة في يد إنسان لا يوجب الحكم عليه بها لأن الله تعالى نهاه عن الحكم على اليهودي بوجود السرقة عنده إذ كان جاحدا أن يكون هو الآخذ وليس ذلك مثل ما فعله يوسف عليه السلام حين جعل الصاع في رحل أخيه ثم أخذه بالصاع واحتبسه عنده لأنه إنما حكم عليهم بما كان عندهم أنه جائز وكانوا يسترقون السارق فاحتبسه عنده وكان له أن يتوصل إلى ذلك ولم يسترقه ولا قال أنه سرق وإنما قال ذلك رجل غيره ظنه سارقا وقد نهى الله عن الحكم بالظن والهوى بقوله كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم [ الحجرات: 12 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم إياكم والظن فإنه أكذب الحديث وقوله ولا تكن للخائنين خصيما وقوله ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم جائز أن يكون صادف ميلا من النبي صلى الله عليه وسلم على اليهودي بوجود الدرع المسروقة في داره وجائز أن يكون هم بذلك فأعلمه الله براءة ساحة اليهودي ونهاه عن مجادلته عن المسلمين الذين كانوا يجادلون عن السارق وقد كانت هذه الطائفة شاهدة للخائن بالبراءة سائلة للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم بعذره في أصحابه وأن ينكر ذلك على من ادعى عليه فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أظهر معاونته لما ظهر من الطائفة من الشهادة ببراءته وأنه ليس ممن يتهم بمثله فأعلمه الله باطن أمورهم بقوله فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك بمسئلتهم معونة هذا الخائن وقد قيل أن هذه الطائفة التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأعانوا الخائن كانوا مسلمين ولم يكونوا أيضا على يقين من أمر الخائن وسرقته ولكنه لم يكن لهم الحكم جائزا على اليهودي بالسرقة لأجل وجود الدرع في داره فإن قيل كيف يكون الحكم على ظاهر الحال ضلالا إذا كان في الباطن خلافه وإنما على الحاكم الحكم بالظاهر دون الباطن قيل له لا يكون الحكم بظاهر الحال ضلال وإنما الضلال إبراء الخائن من غير حقيقة علم فإنما اجتهدوا أن يضلوه عن هذا المعنى
[ 351 ]
قوله تعالى ومن يكسب خطيئة أو إثما فإنه قد قيل في الفرق بين الخطيئة والإثم أن الخطيئة قد تكون من غير تعمد والإثم ما كان عن عمد فذكرهما جميعا ليبين حكمهما وأنه سواء كان تعمد أو غير تعمد فإنه إذا رمى به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا إذ غير جائز له رمي غيره بما لا يعلمه منه قوله تعالى لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة الآية قال أهل اللغة النجوى هو الإسرار فأبان تعالى أنه لا خير في كثير ما يتسارون به إلا أن يكون ذلك أمرا بصدقة أو أمرا بمعروف أو إصلاح بين الناس وكل أعمال البر معروف لاعتراف العقول بها لأن العقول تعترف بالحق من جهة إقرارها به والتزامها له وتنكر الباطل من جهة زجرها عنه وتبريها منه ومن جهة أخرى سمى أعمال البر معروفا وهو أن أهل الفضل والدين يعرفون الخير لملابستهم إياه وعلمهم به ولا يعرفون الشر بمثل معرفتهم بالخير لأنهم لا يلابسونه الله ولا يعلمون به فسمى أعمال البر معروفا والشر منكرا حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال حدثنا سهل بن بكار قال حدثنا عبد السلام أبو الخليل عن عبيدة الهجيمي قال قال أبو جري جابر بن سليم ركبت قعودي ثم انطلقت إلى مكة فأنخت قعودي بباب المسجد فإذا النبي صلى الله عليه وسلم جالس عليه بردان من صوف فيها طرائق حمر فقلت السلام عليك يا رسول الله فقال وعليك السلام قلت إنا معشر أهل البادية فينا الجفاء فعلمني كلمات ينفعني الله بها فقال أدن ثلاثا فدنوت فقال أعد علي فأعدت عليه فقال اتق الله ولا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه منبسط وأن تفرغ من فضل دلوك في إناء المستسقي وإن امرؤ سبك بما يعلم منك فلا تسبه بما تعلم منه فإن الله جاعل لك أجرا وعليه وزرا ولا تسبن شيئا مما خولك الله قال أبو جري والذهب ذهب بنفسه ما سببت بعده شيئا لا شاة ولا بعيرا وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن محمد المسلم الدقاق قال حدثنا هارون بن معروف قال حدثنا سعيد بن مسلمة عن جعفر عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إصنع المعروف إلى من هو أهله وإلى من ليس أهله فإن أصبت أهله فهو أهله وإن لم تصب أهله فأنت
[ 352 ]
أهله وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد الحماني والحسين بن إسحاق قالا حدثنا شيبان قال حدثنا عيسى بن شعيب قال حدثنا حفص بن سليمان عن يزيد بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل معروف صدقة وأول أهل الجنة دخولا أهل المعروف صنائع المعروف تقي مصارع السوء وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا معاذ بن المثنى وسعيد بن محمد الأعرابي قالا حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا سفيان الثوري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري يعني عبد الله عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق مطلب: وأما الصدقة على وجوه وأما الصدقة فعلى وجوه منها الصدقة بالمال على الفقراء قال فرضا تارة ونفلا أخرى ومنها معونة المسلم بالجاه والقول كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كل معروف صدقة وقال صلى الله عليه وسلم على كل سلامي من ابن آدم صدقة وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم قالوا ومن أبو ضمضم قال رجل ممن كان قبلكم كان إذا خرج من بيته قال اللهم أني قد تصدقت بعرضي على من شتمه فجعل احتماله أذى الناس صدقة بعرضه عليهم قوله عز وجل أو إصلاح بين الناس هو نظير قوله تعالى طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما وقوله فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين وقال فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير وقال تعالى إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا ابن العلاء قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سالم عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة قالوا بلى يا رسول الله قال إصلاح ذات البين وفساد ذات البين الحالقة وإنما قيد الكلام بشرط فعله ابتغاء مرضاة الله لئلا يتوهم أن من فعله للترأس على الناس والتأمر عليهم يدخل في هذا الوعد قوله تعالى يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى الآية فإن مشاقة
[ 353 ]
رسول الله صلى الله عليه وسلم مباينته ومعاداته بأن يصير في شق غير الشق الذي هو فيه وكذلك قوله تعالى إن الذين يحادون الله ورسوله هو أن يصير في حد غير حد الرسول وهو يعني مباينته في الاعتقاد والديانة وقال من بعد ما تبين له الهدى) تغليظا في الزجر عنه وتقبيحا لحاله وتبيينا للوعيد فيه إذ كان معاندا بعد ظهور الآيات والمعجزات الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وقرن اتباع غير سبيل المؤمنين إلى مباينة الرسول فيما ذكر له من الوعيد فدل على صحة إجماع الأمة لإلحاقه الوعيد بمن اتبع غير سبيلهم وقوله نوله ما تولى إخبار عن براءة الله منه وأنه يكله إلى ما تولى من الأوثان واعتضد به ولا يتولى الله نصره ومعونته قوله تعالى ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام التبتيك التقطيع يقال بتكه يبتكه من تبتيكا في والمراد به في هذا الموضع شق أذن البحيرة روي ذلك عن قتادة وعكرمة والسدي وقوله ولأمنينهم يعني والله أعلم أنه يمنيهم طول البقاء في الدنيا ونيل نعيمها ولذاتها ليركنوا إلى ذلك ويحرصوا عليه ويؤثروا بن الدنيا على الآخرة ويأمرهم أن يشقوا آذان الأنعام ويحرموا على أنفسهم وعلى الناس بذلك أكلها وهي البحيرة التي كانت العرب تحرم أكلها وقوله ولآمرنهم فليغيرن خلق الله فإنه روي فيه ثلاثة أوجه أحدها عن ابن عباس رواية إبراهيم ومجاهد والحسن والضحاك والسدي دين الله بتحريم الحلال وتحليل الحرام ويشهد له قوله تعالى تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم [ الروم: 30 ] والثاني ما روي عن أنس وابن عباس رواية شهر بن حوشب وعكرمة وأبي صالح أنه الخصاء والثالث ما روي عن عبد الله والحسن أنه الوشم وروى قتادة عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا بإخصاء الدابة وعن طاوس وعروة مثله وروي عن ابن عمر أنه نهى عن الإخصاء وقال ما أنهى إلا في الذكور وقال ابن عباس إخصاء البهيمة مثله ثم قرأ فليغيرن خلق الله وروى عبد الله بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إخصاء الجمل قوله تعالى واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا هو نظير قوله (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وهذا يوجب أن كل ما ثبت من ملة إبراهيم عليه السلام فعلينا اتباعه فإن قيل فواجب أن تكون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم هي شريعة إبراهيم عليه السلام قيل
[ 354 ]
له إن ملة إبراهيم داخلة في ملة النبي صلى الله عليه وسلم وفي ملة نبينا صلى الله عليه وسلم زيادة على ملة إبراهيم فوجب من أجل ذلك اتباع ملة إبراهيم إذ كانت داخلة في ملة النبي صلى الله عليه وسلم فكان متبع ملة النبي صلى الله عليه وسلم متبعا لملة إبراهيم وقيل في الحنيف أنه المستقيم فمن سلك طريق الاستقامة فهو على الحنيفية وإنما قيل للمعوج الرجل أحنف تفاؤلا كما قيل للمهلكة مفازة وللديغ هذه سليما وقوله بعد الله إبراهيم خليلا فإنه قد قيل فيه وجهان أحدهما الاصطفاء بالمحبة والاختصاص بالأسرار دون من ليس له تلك المنزلة والثاني أنه من الخلة وهي الحاجة فخليل الله المحتاج إليه المنقطع إليه بحوائجه فإذا أريد به الوجه الأول جاز أن يقال إن إبراهيم خليل الله والله تعالى خليل إبراهيم وإذا أريد به الوجه الثاني لم يجز أن يوصف الله بأنه خليل إبراهيم وجاز أن يوصف إبراهيم بأنه خليل الله وقوله تعالى ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن قال أبو بكر روي أنها نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ولا يقسط لها في صداقها فنهوا أن ينكحوهن أو يبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق وقوله تعالى وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء يعني به ما ذكر في أول السورة من قوله تعالى خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء وقد بيناه في مواضعه والله الموفق باب مصالحة المرأة وزوجها قال الله تعالى امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا قيل في معنى النشوز أنه الترفع عليها لبغضه إياها مأخوذ من نشز الأرض وهي المرتفعة وقوله إعراضا يعني لموجدة أو أثرة فأباح الله لهما الصلح فروي علن علي وابن عباس أنه أجاز لهما أن يصطلحا على ترك بعض مهرها أو بعض أيامها بأن تجعله لغيرها وقال عمر ما اصطلحا عليه من شئ فهو جائز وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال خشيت سودة أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة ففعل فنزلت هذه الآية (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا الآية فما اصطلحا عليه من شئ فهو جائز وقال هشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة أنها نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد طلاقها ويتزوج غيرها فتقول أمسكني ولا تطلقني ثم تزوج وأنت في حل من النفقة والقسمة لي فذلك قوله تعالى فلا جناح عليهما إلى قوله تعالى والصلح
[ 355 ]
خير وعن عائشة من طرق كثيرة أن سودة وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم به لها قال أبو بكر فهذه الآية دالة على وجوب القسم بين النساء إذا كان تحته جماعة وعلى وجوب الكون عندها إذا لم تكن عنده إلا واحدة وقضى كعب بن سور بأن لها يوما من أربعة أيام بحضرة عمر فاستحسنه عمر وولاه قضاء البصرة وأباح الله أن تترك حقها من القسم وأن تجعله لغيرها من نسائه وعموم الآية يقتضي جواز اصطلاحا على ترك المهر والنفقة والقسم وسائر ما يجب لها بحق الزوجية إلا أنه إنما يجوز لها إسقاط ما وجب من النفقة للماضي فأما المستقبل فلا تصح البراءة منه وكذلك لو أبرأت من الوطء لم يصح إبراؤها وكان لها المطالبة بحقها منه وإنما يجوز بطيب نفسها بترك المطالبة بالنفقة وبالكون عندها فأما أن تسقط ذلك في المستقبل بالبراءة منه فلا ولا يجوز أيضا أن يعطيها عوضا على ترك حقها من القسم أو الوطء لأن ذلك أكل مال بالباطل أو ذلك حق لا يجوز أخذ العوض عنه لأنه لا يسقط مع وجوب السبب الموجب له وهو عقد النكاح وهو مثل أن تبرئ الرجل من تسليم العبد المهر فلا يصح لوجود ما يوجبه وهو العقد فإن قيل فقد أجاز أصحابنا أن يخلعها على نفقة عدتها فقد أجازوا البراءة من نفقة لم تجب بعد مع وجود السبب الموجب لها وهي العدة قيل له لم يجيزوا البراءة من النفقة ولا فرق بين المختلعة والزوجة في امتناع وقوع البراءة من نفقة لم تجب بعد ولكنه إذا خالعها على نفقة العدة فإنما جعل الجعل مقدار نفقة العدة والجعل في الخلع يجوز فيه هذا القدر من الجهالة فصار ذلك في ضمانها بعقد الخلع ثم ما يجب لها بعد من نفقة العدة في المستقبل يصير قصاصا بماله عليها وقد دلت الآية على جواز اصطلاحهما من المهر على ترك جميعه أو بعضه أو على الزيادة عليه لأن الآية لم تفرق بين شئ من ذلك وأجازت الصلح في سائر الوجوه وقوله تعالى والصلح خير قال بعض أهل العلم يعني خير من الإعراض والنشوز وقال آخرون من الفرقة وجائز أن يكون عموما في جواز الصلح في سائر الأشياء إلا ما خصه الدليل ويدل على جواز الصلح عن إنكار والصلح من المجهول وقوله تعالى وأحضرت الأنفس الشح قال ابن عباس وسعيد بن جبير الشح على أنصبائهن من أزواجهن وأموالهن وقال الحسن تشح نفس كل واحد من الرجل والمرأة بحقه قبل صاحبه والشح البخل وهو الحرص على منع الخير
[ 356 ]
قوله تعالى تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم الآية روي عن أبي عبيدة قال يعني المودة وميل الطباع وكذلك روي عن ابن عباس والحسن وقتادة وقوله تعالى تميلوا كل الميل يعني والله أعلم إظهاره بالفعل حتى ينصرف عنها إلى غيرها يدل عليه قوله فتذروها كالمعلقة قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة لا أيم ولا ذات زوج وقد روى قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط وهذا الخبر يدل أيضا على وجوب القسم بينهما بالعدل وأنه إذا لم يعدل فالفرقة أولى لقوله تعالى فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فقال تعالى بعد ذكره ما يجب لها من العدل في القسم وترك إظهار الميل عنها إلى غيرها وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته تسلية لكل واحد منهما عن الآخر وأن كل واحد منهما سيغنيه الله عن الآخر إذا قصدا الفرقة تخوفا من ترك حقوق الله التي أوجبها وأخبر أن رزق العباد كلهم على الله وأن ما يجريه منه على أيدي عباده فهو المسبب له والمستحق للحمد عليه وبالله التوفيق باب ما يجب على الحاكم من العدل بين الخصوم قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم الآية روى قابوس عن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس في قوله يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله قال هو الرجلان يجلسان إلى القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه عن الآخر وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مهران الدينوري قال حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا زهير قال حدثنا عباد بن كثير بن أبي عبد الله عن عطاء بن يسار عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لم يرفع على الآخر قال أبو بكر قوله تعالى كونوا قوامين بالقسط قد أفاد الأمر بالقيام بالحق والعدل وذلك موجب على كل أحد إنصاف الناس من نفسه فيما يلزمه لهم وإنصاف المظلوم من ظالمه ومنع الظالم من ظلمه لأن جميع ذلك من القيام بالقسط ثم أكد ذلك بقوله شهداء لله يعني والله أعلم فيما إذا كان الوصول إلى القسط من طريق الشهادة فتضمن ذلك الأمر بإقامة الشهادة على الظالم المانع من الحق للمظلوم صاحب
[ 357 ]
الحق لاستخراج حقه منه وأيضا له إليه وهو مثل قوله تعالى تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه وتضمن أيضا الأمر بالاعتراف والإقرار لصاحب الحق بحقه بقوله تعالى ولو على أنفسكم لأن شهادته على نفسه هو إقراره بما عليه لخصمه فدل ذلك على جواز إقرار المقر على نفسه لغيره وأنه واجب عليه أن يقر إذا طالبه صاحب الحق وقوله تعالى أو الوالدين والأقربين فيه أمر بإقامة الشهادة على الوالدين سنة والأقربين ودل على جواز شهادة الإنسان على والديه وعلى سائر أقربائه لأنهم والأجنبيين في هذا الموضع بمنزلة وإن كان الوالدان إذا شهد عليهما أولادهما ربما أوجب ذلك حبسهما وأن ذلك ليس بعقوق ولا يجب أن يمتنع من الشهادة عليهما لكراهتهما لذلك لأن ذلك منع لهما من الظلم وهو نصرة لهما كما قال صلى الله عليه وسلم أنصر أخاك ظالما أو مظلوما فقيل يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما قال ترده عن الظلم فذلك نصر منك إياه وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وهذا يدل على أنه إنما تجب عليه طاعة الأبوين فيما يحل ويجوز وأنه لا يجوز له أن يطيعهما في معصية الله تعالى لأن الله قد أمره بإقامة الشهادة عليهما مع كراهتهما لذلك وقوله تعالى إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما أمر لنا بأن لا ننظر إلى فقر المشهود عليه بذلك إشفاقا منا عليه فإن الله أولى بحسن النظر لكل أحد من الأغنياء والفقراء وأعلم بمصالح الجميع فعليكم إقامة الشهادة عليهم بما عندكم وقوله تعالى فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا يعني لا تتركوا العدل اتباعا للهوى والميل إلى الأقرباء وهو نظير قوله تعالى إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى وفي ذلك دليل على أن على الشاهد إقامة الشهادة على الذي عليه الحق وإن كان عالما بفقره وأنه لا يجوز له الامتناع من إقامتها خوفا من أن يحبسه القاضي لفقد علمه بعدمه وقوله تعالى تلووا أو تعرضوا فإنه يحتمل ما روي عن ابن عباس أنه في القاضي يتقدم إليه الخصمان فيكون ليه وإعراضه على أحدهما واللي هو الدفع ومنه قوله لي الواجد يحل عرضه وعقوبته يعني مطله ودفع الطالب عن حقه فإذا أريد به القاضي كان معناه دفعه الخصم عما يجب له من العدل والتسوية ويحتمل أن يريد به الشاهد في أنه مأمور بإقامة الشهادة وأن لا يدفع صاحب الحق عنها ويمطله عمرو بها ويعرض عنه إذا طالبه بإقامتها وليس يمتنع أن يكون أمرا للحاكم والشاهد جميعا
[ 358 ]
لاحتمال اللفظ لهما فيفيد ذلك الأمر بالتسوية بين الخصوم في المجلس والنظر والكلام وترك إسرار احدهما والخلوة به كما روي عن علي كرم الله وجهه قال نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضيف أحد الخصمين دون الآخر وقوله تعالى أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله قيل فيه يا أيها الذين آمنوا بمن قبل محمد من الأنبياء آمنوا بالله وبمحمد وما أتى به من عند الله لأنهم من حيث آمنوا بالمتقدمين من الأنبياء لما كان معهم من الآيات فقد ألزمهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لهذه العلة بعينها ومن جهة أخرى أن في كتب الأنبياء المتقدمين البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم فمن حيث آمنوا بهم وصدقوا بما اخبروا به عن الله تعالى وقد أخبروهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فعليهم الإيمان به وهم محجوجون بذلك وقيل إنه خطاب للمؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمر لهم بالمداومة على الإيمان والثبات عليه والله أعلم باب استتابة المرتد قال الله تعالى الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا قال قتادة يعني به أهل الكتابين من اليهود والنصارى آمن اليهود بالتوراة ثم كفروا بمخالفتها وكذلك آمنوا بموسى عليه السلام ثم كفروا بمخالفته وآمن النصارى بالإنجيل ثم كفروا بمخالفته وكذلك آمنوا بعيسى عليه السلام ثم كفروا بمخالفته ثم ازدادوا كفرا بمخالفة الفرقان ومحمد صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد هي في المنافقين آمنوا ثم ارتدوا ثم ماتوا على كفرهم وقال آخرون هم طائفة من أهل الكتاب قصدت تشكيك أهل الإسلام وكانوا يظهرون الإيمان به والكفر به وقد بين الله أمرهم في قوله (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) [ آل عمران: 72 ] مطلب: في الخلاف في قبول توبة الزندين قال أبو بكر هذا يدل على أن المرتد متى تاب تقبل توبته وإن توبة الزنديق مقبولة إذ لم تفرق بين الزنديق وغيره من الكفار وقبول توبته بعد الكفر مرة بعد أخرى والحكم بإيمانه متى أظهر الإيمان واختلف الفقهاء في استتابة المرتد والزنديق فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر في الأصل لا يقتل المرتد حتى يستتاب ومن قتل مرتدا قبل أن يستتاب فلا ضمان عليه وذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف في الزنديق الذي يظهر الإيمان قال أبو حنيفة أستتيبه كالمرتد فإن أسلم خليت سبيله وإن أبى قتلته وقال أبو يوسف كذلك زمانا فلما رأى ما يصنع الزنادقة ويعودون قال أرى
[ 359 ]
إذا أتيت بزنديق آمر بضرب عنقه ولا أستتيبه فإن تاب قبل أن أقتله خليته وذكر سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف قال إذا زعم الزنديق أنه قد تاب حبسته حتى أعلم توبته وذكر محمد في السير عن أبي يوسف عن أبي حنيفة إن المرتد يعرض عليه السلام فإن أسلم وإلا قتل مكانه إلا أن يطلب أن يؤجل فإن طلب ذلك أجل ثلاثة أيام ولم يحك خلافا قال أبو جعفر الطحاوي وحدثنا سليمان بن شعيب عن أبيه عن أبي يوسف في نوادر ذكرها عنه أدخلها في أماليه عليهم قال قال أبو حنيفة أقتل الزنديق سرا فإن توبته لا تعرف ولم يحك أبو يوسف خلافه وقال ابن القاسم عن مالك المرتد يعرض عليه الإسلام ثلاثا فإن أسلم وإلا قتل وإن ارتد سرا قتل ولم يستتب كما يقتل الزنادقة وإنما يستتاب من أظهر دينه الذي ارتد إليه قال مالك يقتل الزنادقة ولا يستتابون فقيل لمالك فكيف يستتاب القدرية قال يقال لهم اتركوا ما أنتم عليه فإن فعلوا وإلا قتلوا وإن أقر القدرية بالعلم لم يقتلوا وروى مالك عن زيد بن أسلم قال قال النبي صلى الله عليه وسلم من غير دينه فاضربوا عنقه قال مالك هذا فيمن ترك الإسلام ولم يقربه لا فيمن خرج من اليهودية إلى النصرانية ولا من النصرانية إلى اليهودية قال مالك وإذا رجع المرتد إلى الإسلام فلا ضرب عليه وحسن أن يترك المرتد ثلاثة أيام ويعجبني وقال الحسن بن صالح يستتاب المرتد وإن تاب مائة مرة وقال الليث الناس لا يستتيبون من ولد في الإسلام إذا شهد عليه بالردة ولكنه يقتل تاب من ذلك أو لم يتب إذا قامت البينة العادلة وقال الشافعي يستتاب المرتد ظاهرا والزنديق وإن لم يتب قتل وفي الاستتابة ثلاثا قولان أحدهما حديث عمر والآخر أنه لا يؤخر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر فيه بأناة وهذا ظاهر الخبر قال أبو بكر روى سفيان عن جابر عن الشعبي قال يستتاب المرتد ثلاثا ثم قرأ إن الذين آمنوا ثم كفروا الآية وروي عن عمر أنه أمر باستتابته ثلاثا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من بدل دينه فاقتلوه ولم يذكر فيه استتابته إلا أنه يجوز أن يكون محمولا على أنه قد استحق القتل وذلك لا يمنع دعاءه إلى الإسلام والتوبة لقوله تعالى إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة الآية وقال تعالى هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة
[ 360 ]
أنا ومن اتبعني فأمر بالدعاء إلى دين الله تعالى ولم يفرق بين المرتد وبين غيره فظاهره يقتضي دعاء المرتد إلى الإسلام كدعاء سائر الكفار ودعاؤه إلى الإسلام هو الاستتابة وقال تعالى للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) وقد تضمن ذلك الدعاء إلى الإيمان ويحتج بذلك أيضا في استتابة الزنديق لاقتضاء عموم اللفظ له وكذلك قوله إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا لم يفرق فيه بين الزنديق وغيره فظاهره يقتضي قبول إسلامه فإن قيل قوله تعالى للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) لا دلالة فيه على زوال القتل عنه لأنا نقول هو مغفور له ذنوبه ويجب مع ذلك قتله كما يقتل الزاني المحصن وإن كان تائبا ويقتل قاتل النفس مع التوبة قيل له قوله تعالى إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف يقتضي غفران ذنوبه وقبول توبته لو لم تكن مقبولة لما كانت ذنوبه مغفورة وفي ذلك دليل على صحة استتابته وقبولها منه في أحكام الدنيا والآخرة وأيضا فإن قتل الكافر إنما هو مستحق بإقامته على الكفر فإذا انتقل عنه إلى الإيمان فقد زال المعنى الذي من أجله وجب قتله وعاد إلى حظر دمه ألا ترى أن المرتد ظاهرا متى أظهر الإسلام حقن دمه كذلك الزنديق وقد روي عن ابن عباس في المرتد الذي لحق بمكة وكتب إلى قومه سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة فأنزل الله كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم قوله تعالى إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا) [ آل عمران: 89 ] فكتبوا بها إليه فرجع فأسلم فحكم له بالتوبة بما ظهر من قوله فوجب استعمال ذلك والحكم له بما يظهر منه دون ما في قلبه وقول من قال إني لا أعرف توبته إذا كفر سرا فإنا لا نؤاخذ باعتبار حقيقة اعتقاده لأن ذلك لا نصل إليه وقد حظر الله علينا الحكم بالظن بقوله تعالى اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم) [ حجرات: 12 ] وقال النبي صلى الله عليه وسلم إياكم والظن فإنه أكذب الحديث وقال تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم وقالي إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن قبل ومعلوم أنه لم يرد حقيقة العلم بضمائرهن واعتقادهن يحيى وإنما أراد ما ظهر من إيمانهن بالقول وجعل ذلك علما فدل على أنه لا اعتبار بالضمير في أحكام الدنيا وإنما الاعتبار بما يظهر من القول وقال تعالى ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا وذلك عموم في جميع الكفار وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد حين قتل الرجل الذي قال لا إله إلا الله فقال إنما قالها متعوذا قال هلا شققت عن قلبه وروى الثوري عن أبي إسحاق
[ 361 ]
عن حارثة بن مضرب أنه أتى عبد الله فقال ما بيني وبين أحد من العرب أحنة وأني مررت بمسجد بني حنيفة فإذا هم يؤمنون بمسيلمة فأرسل إليهم عبد الله فجاء بهم واستتابهم غير ابن النواحة قال له سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لولا أنك رسول لضربت عنقك فأنت اليوم لست برسول أبن ما كنت تظهر من الإسلام قال كنت أتقيكم به فأمر به قرظة بن كعب فضرب عنقه بالسوق ثم قال من أراد أن ينظر إلى ابن النواحة قتيلا بالسوق فهذا مما يحتج به من لم يقبل توبة الزنديق وذلك لأنه استتاب القوم وقد كانوا مظهرين لكفرهم وأما ابن النواحة فلم يستتبه لأنه أقر أنه كان مسرا للكفر مظهرا للإيمان على وجه التقية وقد كان قتله إياه بحضرة الصحابة لأن في الحديث أنه شاور الصحابة فيهم وروى الزهري عن عبيدالله بن عبد الله قال أخذ بالكوفة رجال يؤمنون بمسيلمة الكذاب فكتب فيهم إلى عثمان فكتب عثمان أعرض عليهم دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فمن قالها وتبرأ من دين مسيلمة فلا تقتلوه ومن لزم دين مسيلمة فاقتله فقبلها رجال منهم ولزم دين مسيلمة رجال فقتلوا قوله تعالى المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين قيل في معنى قوله من دون المؤمنين إنهم اتخذوهم أنصارا واعتضادا لتوهمهم أن لهم القوة والمنعة بعداوتهم للمسلمين بالمخالفة جهلا منهم بدين الله وهذا من صفة المنافقين المذكورين في الآية وهذا يدل على أنه غير جائز للمؤمنين الاستنصار بالكفار على غيرهم من الكفار إذ كانوا متى غلبوا كان حكم الكفر هو الغالب وبذلك قال أصحابنا وقوله أيبتغون عندهم العزة يدل على صحة هذا الاعتبار وأن الاستعانة بالكفار لا تجوز إذ كانوا متى غلبوا كان الغلبة والظهور للكفار وكان حكم الكفر هو الغالب فإن قيل إذا كانت الآية في شأن المنافقين وهم كفار فكيف يجوز الاستدلال به على المؤمنين قيل له لأنه قد ثبت أن هذا الفعل محظور فلا يختلف حكمه بعد ذلك أن يكون من المؤمنين أو من غيرهم لأن الله تعالى متى ذم قوما على فعل فذلك الفعل قبيح لا يجوز لأحد من الناس فعله إلا أن تقوم الدلالة عليه وقيل إن أصل العزة هو الشدة ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة عزاز وقيل قد استعز المرض على المريض إذا اشتد مرضه ومنه قول القائل عز علي كذا إذا اشتد عليه وعز الشئ إذا قل لأنه يشتد مطلبه وعازه الرحمن في الأمر إذا شاده فيه وشاة عزوز إذا كانت تحلب بشدة لضيق أحاليلها والعزة القوة منقولة عن الشدة والعزيز القوي المنيع فتضمنت الآية النهي عن اتخاذ
[ 362 ]
الكفار أولياء وأنصارا أو الاعتزاز بهم والالتجاء إليهم للتعزز بهم وقد حدثنا من لا أتهم قال حدثنا عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم الدوري قال حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب قال حدثنا عبد الله بن عبد الله الأموي عن الحسن بن الحر عن يعقوب بن عتبة عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من اعتز بالعبيد أذله الله تعالى وهذا محمول على معنى الآية فيمن اعتز بالكفار والفساق ونحوهم فأما أن يعتز بالمؤمنين فذلك غير مذموم قال الله تعالى ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) [ المنافقون: 8 ]. وقوله تعالى أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا تأكيد للنهي عن الاعتزاز بالكفار وإخبار بأن العزة لله دونهم وذلك منصرف على وجوه أحدها امتناع إطلاق العزة لله عز وجل لأنه لا يعتد بعزة أحد مع عزته لصغرها واحتقارها في صفة عزته والآخر أنه المقوي لمن له القوة من جميع خلقه فجميع العزة له إذ كان عزيزا لنفسه معزا لكل من نسب إليه شئ من العزة والآخر أن الكفار أذلاء في حكم الله فانتفت عنهم صفة العزة وكانت لله ومن جعلها له في الحكم وهم المؤمنون فالكفار وإن حصل لهم ضرب من القوة والمنعة فغير مستحق لإطلاق اسم العزة لهم قوله تعالى نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فيه نهي عن مجالسة من يظهر الكفر والاستهزاء بآيات الله فقال تعالى فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره وحتى ههنا تحتمل معنيين أحدهما أنها تصير غاية لحظر القعود معهم حتى إذا تركوا إظهار الكفر والاستهزاء بآيات الله زال الحظر عن مجالستهم والثاني أنهم كانوا إذا رأوا هؤلاء أظهروا الكفر والاستهزاء بآيات الله فقال لا تقعدوا معهم لئلا يظهروا ذلك ويزدادوا كفرا واستهزاء بمجالستكم لهم والأول أظهر وروي عن الحسن أن ما اقتضته الآية من إباحة المجالسة إذا خاضوا في حديث غيره منسوخ بقوله تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين [ الانعام: 68 ] قيل إنه يعني مشركي العرب وقيل أراد به المنافقين الذين ذكروا في هذه الآية وقيل بل هي عامة في سائر الظالمين وقوله إنكم إذا مثلهم قد قيل فيه وجهان أحدهما في العصيان وإن لم تبلغ معصيتهم منزلة الكفر والثاني إنكم مثلهم في الرضى بحالهم في ظاهر أمركم والرضى بالكفر والاستهزاء بآيات الله تعالى كفر ولكن من قعد معهم ساخطا لتلك الحال منهم لم يكفر وإن كان غير موسع عليه في القعود معهم وفي هذه الآية دلالة على
[ 363 ]
وجوب إنكار المنكر على فاعله وأن من إنكاره إظهار الكراهة إذا لم يمكنه إزالته وترك مجالسة فاعله والقيام عنه حتى ينتهي ويصير إلى حال غيرها مطلب: ينبغي التباعد عن المنكر إذا لم يكن في ذلك ترك حق عليه فإن قيل فهل يلزم من كان بحضرته منكر أن يتباعد عنه وأن يصير بحيث لا يراه ولا يسمعه قيل له قد قيل في هذا أنه ينبغي له أن يفعل ذلك إذا لم يكن في تباعده وترك سماعه ترك الحق عليه من نحو ترك الصلاة في الجماعة لأجل ما يسمع من صوت الغناء والملاهي وترك حضور الجنازة لما معها من النوح وترك حضور الوليمة لما هناك من اللهو واللعب فإذا لم يكن هناك شئ من ذلك فالتباعد ولم عنهم أولى وإذا كان هناك حق يقوم به ولم يلتفت إلى ما هناك من المنكر وقام بما هو مندوب إليه من حق بعد إظهاره لإنكاره وكراهته وقال قائلون إنما نهى الله عن مجالسة هؤلاء المنافقين ومن يظهر الكفر والاستهزاء بآيات الله لأن في مجالستهم تأنيسا لهم ومشاركتهم فيما يجري في مجلسهم وقد قال أبو حنيفة في رجل يكون في الوليمة فيحضر هناك اللهو واللعب أنه لا ينبغي له أن يخرج وقال لقد ابتليت به مرة وروي عن الحسن أنه حضر هو وابن سيرين جنازة وهناك نوح فانصرف ابن سيرين فذكر ذلك للحسن فقال إنا كنا متى رأينا باطلا وتركنا حقا أسرع ذلك في ديننا لم نرجع وإنما لم ينصرف لأن شهود الجنازة حق قد ندب إليه وأمر به فلا يتركه لأجل معصية غيره وكذلك حضور الوليمة قد ندب إليها النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجز أن يترك لأجل المنكر الذي يفعله غيره إذا كان كارها له وقد حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن عبد الله الغداني قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عن نافع قال سمع ابن عمر مزمارا فوضع اصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق وقال لي يا نافع هل تسمع شيئا فقلت لا فرفع أصبعيه من أذنيه وقال كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا وهذا هو اختيار لئلا تساكنه نفسه ولا تعتاد سماعه فيهون عنده أمره فأما أن يكون واجبا فلا قوله تعالى يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا روي عن علي وابن عباس قالا سبيلا في الآخرة وعن السدي ولن يجعل الله لهم عليهم حجة يعني فيما فعلوا بهم من قتلهم وإخراجهم من ديارهم فهم في ذلك ظالمون لا حجة لهم فيه ويحتج بظاهره في وقوع الفرقة بين الزوجين بردة الزوج لأن عقد النكاح يثبت عليها للزوج سبيلا في إمساكها في بيته وتأديبها ومنعها من الخروج وعليها طاعته فيما يقتضه عقد النكاح كما قال تعالى قوامون على النساء فاقتضى قوله
[ 364 ]
تعالى ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا بين الفرقة بردة الزوج وزوال سبيله عليها لأنه ما دام النكاح باقيا فحقوقه ثابتة وسبيله باق عليها فإن قيل إنما قال على المؤمنين فلا تدخل النساء فيه قيل له إطلاق لفظ التذكير يشتمل على المؤنث والمذكر كقوله إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا وقد أراد به الرجال والنساء وكذلك قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ونحوه من الألفاظ ويحتج بظاهره أيضا في الكافر الذمي إذا أسلمت امرأته أنه يفرق بينهما إن لم يسلم وفي الحربي كذلك أيضا فإنه لا يجوز إقرارها تحته أبدا ويحتج به أصحاب الشافعي في إبطال شرى الذمي للعبد المسلم لأنه بالملك يستحق السبيل عليه وليس ذلك كما قالوا لأن الشرى ليس هو المنفي بالآية لأن ا لشرا ليس هو الملك الملك إنما يتعقب الشرى وحينئذ يملك السبيل عليه فإذا ليس في الآية نفي الشرى وإنما فيها نفي السبيل فإن قيل إذا كان الشرى هو المؤدي إلى حصول السبيل وجب أن يكون منتفيا كما كان السبيل منتفيا قيل له ليس الأمر كذلك لأنه ليس يمتنع أن يكون السبيل عليه منتفيا ويكون الشرى المؤدي إلى حصول السبيل جائزا وإنما أردت نفي الشرى بالآية نفسها فإن ضممت إلى الآية معنى آخر في نفي الشرى فقد عدلت عن الاحتجاج بها وثبت بذلك أن الآية غير مانعة صحة الشرى وأيضا أهل فإنه لا يستحق بصحة الشرى السبيل عليه لأنه ممنوع من استخدامه والتصرف فيه إلا بالبيع وإخراجه عن ملكه فلم يحصل له ههنا سبيل عليه وقوله تعالى المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم قيل فيه وجهان أحدهما يخادعون نبي الله والمؤمنين بما يظهرون من الإيمان لحقن دمائهم ومشاركة المسلمين في غنائمهم والله تعالى يخادعهم حديث بالعقاب على خداعهم فسمى الجزاء على الفعل باسمه على مزاوجة الكلام كقوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه [ البقرة: 194 ] والآخر أنهم يعملون عمل المخادع لمالكه بما يظهرون من الإيمان ويبطنون خلافه وهو يعمل عمل المخادع بما أمر به من قبول إيمانهم من علمهم بأن الله عليم بما يبطنون من كفرهم وقوله تعالى ولا يذكرون الله إلا قليلا قيل فيه إنما سماه قليلا لأنه لغير وجهه فهو قليل في المعنى وإن كثر الفعل منهم وقال قتادة إنما سماه قليلا لأنه على وجه الرياء فهو حقير غير متقبل منهم بل هو وبال عليهم وقيل إنه أراد إلا يسيرا من الذكر نحو ما يظهرونه للناس دون ما أمروا به من ذكر الله في كل حال أمر به المؤمنين
[ 365 ]
في قوله تعالى فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم وأخبر أيضا أنهم يقومون إلى الصلاة كسالى مراآة للناس والكسل هو التثاقل عن الشئ للمشقة فيه مع ضعف الدواعي إليه فلما لم يكونوا معتقدين للإيمان لم يكن لهم داع إلى الصلاة إلا مراآة للنا خوفا منهم قوله تعالى أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين) فإن الولي هو الذي يتولى صاحبه بما يجعل له من النصرة والمعونة على أمره والمؤمن ولي الله بما يتولى من إخلاص طاعته والله ولي المؤمنين بما يتولى من جزائهم على طاعته واقتضت الآية النهي عن الاستنصار بالكفار والاستعانة بهم والركون إليهم والثقة بهم وهو يدل على أن الكافر لا يستحق الولاية على المسلم بوجه ولدا كان أو غيره ويدل على أنه لا تجوز الاستعانة بأهل الذمة في الأمور التي يتعلق بها التصرف والولاية وهو نظير قوله لا تتخذوا بطانة من دونكم وقد كره أصحابنا توكيل الذمي في الشرى والبيع ودفع المال إليه مضاربة وهذه الآية دالة على صحة هذا القول قوله تعالى وأخلصوا دينهم لله يدل على أن كل ما كان من أمر الدين على منهاج القرب فسبيله أن يكون خالصا لله سالما من شوب الرياء أو طلب عرض من الدنيا أو ما يحبطه من المعاصي وهذا يدل على امتناع جواز أخذ شئ من أعراض الدنيا على ما سبيله أن لا يفعل إلا على وجه القربة من نحو الصلاة والأذان والحج قوله عز وجل يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم قال ابن عباس وقتادة إلا أن يدعو على ظالمه وعن مجاهد رواية إلا أن يخبر بظلم ظالمه له وقال الحسن والسدي إلا أن ينتصر من ظالمه وذكر الفرات بن سليمان قال سئل عبد الكريم عن قول الله يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم قال هو الرجل يشتمك فتشتمه ولكن إن افترى عليك فلا تفتري عليه وهو مثل قوله ولمن انتصر بعد ظلمه وروى ابن عيينة عن أبي نجيح عن إبراهيم بن أبي بكر عن مجاهد في قوله يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم قال ذاك في الضيافة إذا جئت الرجل فلم يضفك فقد رخص أن تقول فيه قال أبو بكر إن كان التأويل كما ذكر فقد يجوز أن يكون ذلك في وقت كانت الضيافة واجبة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الضيافة ثلاثة أيام فما زاد فهو صدقة وجائز أن يكون فيمن لا
[ 366 ]
يجد ما يأكل فيستضيف عند غيره فلا يضيفه فهذا مذموم يجوز أن يشكى وفي هذه الآية دلالة على وجوب الإنكار على من تكلم بسوء فيمن كان ظاهره الستر والصلاح لأن الله تعالى قد أخبر أنه لا يحب ذلك وما لا يحبه فهو الذي لا يريده فعلينا أن نكرهه وننكره وقال إلا من ظلم فما لم يظهر لنا ظلمه فعلينا إنكار سوء القول فيه وقوله تعالى من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم قال قتادة عوقبوا على ظلمهم وبغيهم بتحريم أشياء عليهم وفي ذلك دليل على جواز تغليظ المحنة عليهم بالتحريم الشرعي عقوبة لهم على ظلمهم لأن الله تعالى قد أخبر في هذه الآية أنه حرم عليهم طيبات بظلمهم وصدهم عن سبيل لله والذي حرم عليهم ما بينه تعالى في قوله الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم) [ الانعام: 146 ] وقوله وأخذهم الربوا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل) يدل على أن الكفار مخاطبون بالشرائع مكلفون بها مستحقون للعقاب على تركها لأن الله تعالى قد ذمهم على أكل الربا وأخبر أنه عاقبهم عليه قوله تعالى لكن الراسخون في العلم منهم روي عن قتادة أن لكن ههنا استثناء وقيل أن لا ولكن قد تتفقان في الإيجاب بعد النفي أو النفي بعد الإيجاب وتطلق إلا ويراد بها لكن كقوله تعالى كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ ومعناه لكن إن قتله خطأ فتحرير رقبة فأقيمت إلا في هذا الموضع مقام لكن وتنفصل لكن من إلا بأن إلا لإخراج بعض من كل ولكن قد تكون بعد الواحد نحو قولك ما جاءني زيد لكن عمرو وحقيقة لكن الاستدراك ولا للتخصيص قوله تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم روي عن الحسن أنه خطاب لليهود والنصارى لأن النصارى غلت في المسيح فجاوزوا به منزلة الأنبياء حتى اتخذوه إلها واليهود غلت فيه فجعلوه لغير رشدة فغلا الفريقان جميعا في أمره والغلو في الدين هو مجاوزة حد الحق فيه وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله أن يناوله حصيات لرمي الجمار قال فناولته إياها مثل حصا الخذف فجعل يقلبهن بيده
[ 367 ]
ويقول بمثلهن بمثلهن إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من قبلكم بالغلو في دينهم ولذلك قيل دين الله بين المقصر والغالي قوله تعالى وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه قيل في وصف المسيح بأنه كلمة الله ثلاثة أوجه أحدها ما روي عن الحسن وقتادة أنه كان عيسى بكلمة الله وهو قوله كن فيكون لا على سبيل ما أجري العادة به من حدوثه من الذكر والأنثى جميعا والثاني أنه يهتدى به كما يهتدى بكلمة الله والثالث ما تقدم من البشارة به في الكتب المتقدمة التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه وأما قوله تعالى وروح منه فلأنه كان بنفخة جبريل بإذن الله والنفخ يسمى روحا كقول ذي الرمة فقلت له أرفعها إليك وأحيها * لأنه بروحك واقتته لها قيتة قدرا أي بنفختك يا وقيل إنما سماه روحا لأنه يحيى الناس به كما يحيون بالأرواح ولهذا المعنى سمي القرآن روحا في قوله أوحينا إليك روحا من أمرنا) [ الشورى: 52 ] وقيل لأنه روح من الأرواح كسائر أرواح الناس وأضافه الله تعالى إليه تشريفا له كما يقال بيت الله وسماء الله قوله يبين الله لكم أن تضلوا قيل فيه إنه بمعنى لئلا تضلوا فحذف لا كما تحذف مع القسم في قولك والله أبرح قاعدا أي لا أبرح قال الشاعر تالله يبقى على الأيام ذو حيد معناه لا يبقى وقيل يبين الله لكم كراهة أن تضلوا كقوله واسئل القرية يعني أهل القرية
[ 368 ]
سورة المائدة مطلب: في عقود الجاهلية وعقود الاسلام قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود روي عن ابن عباس ومجاهد ومطرف والربيع والضحاك والسدي وابن جريج والثوري قالوا العقود في هذا الموضع أراد بها العهود وروى معمر عن قتادة قال هي عقود الجاهلية الحلف وروى جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا حلف في الإسلام وأما حلف الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة وروى ابن عيينة عن عاصم الأحول قال سمعت أنس بن مالك يقول حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا فقيل له قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حلف في الإسلام وما كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فقال حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا قال ابن عيينة إنما آخى بين المهاجرين والأنصار قال أبو بكر قال الله تعالى والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم [ النساء: 33 ] فلم يختلف المفسرون أنهم في أول الإسلام قد كانوا يتوارثون بالحلف دون النسب وهو معنى قوله والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إلى أن جعل الله ذوي الأرحام أولى من الحليف بقوله الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين فقد كان حلف الإسلا على التناصر والتوارث ثابتا صحيحا وأما قوله لا حلف في الإسلام فإنه جائز أن يريد به الحلف على الوجوه التي كان عليها الحلف في الجاهلية وكان هذا القول منه بعد نسخ التوارث بالحلف وقد كان حلف الجاهلية على وجوه منها الحلف في التناصر فيقول أحدهما لصاحبه إذا حالفه دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك فيتعاقدان الحلف على أن ينصر كل واحد منهم صاحبه فيدفع عنه ويحميه بحق كان ذلك أو بباطل ومثله لا يجوز في الإسلام لأنه لا يجوز أن يتعاقدا الحلف على أن ينصره على الباطل ولا أن يزوي
[ 369 ]
ميراثه عن ذي أرحامه ويجعله لحليفه فهذا أحد وجوه الحلف الذي لا يجوز مثله في الإسلام وقد كانوا يتعاقدون الحلف للحماية والدفع وكانوا يدفعون إلى ضرورة لأنهم كانوا نشرا لا سلطان عليهم ينصف المظلوم من الظالم ويمنع القوي عن الضعيف فكانت الضرورة تؤديهم إلى التحالف فيمتنع به بعضهم من بعض وكان ذلك معظم ما يراد الحلف من أجله ومن أجل ذلك كانوا يحتاجون إلى الجوار وهو أن يجير الرجل أو الجماعة أو العير على قبيلة ويؤمنهم فلا ينداه يكون مكروه منهم فجائز أن يكون أراد بقوله لا حلف في الإسلام هذا الضرب من الحلف وكانوا يحتاجون إلى الحلف في أول الإسلام لكثرة أعدائهم من سائر المشركين ومن يهود المدينة ومن المنافقين فلما أعز الله الإسلام وكثر أهله وامتنعوا بأنفسهم وظهروا على أعدائهم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم باستغنائهم عن التحالف لأنهم قد صاروا كلهم يدا واحدة على أعدائهم من الكفار بما أوجب الله عليهم من التناصر والموالاة بقوله تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وقال النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنون يد على من سواهم وقال ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله والنصيحة لولاة الأمر ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من وراءهم فزال التناصر بالحلف وزال الجوار ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم ولعلك أن تعيش حتى ترى المرأة تخرج من القادسية إلى اليمن بغير جوار ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لا حلف في الإسلام وأما قوله وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فإنما يعني به الوفاء بالعهد مما هو مجوز في العقول مستحسن فيها نحو الحلف الذي عقده الزبير بن عبد المطلب قال النبي صلى الله عليه وسلم ما أحب أن لي بحلف حضرته حمر النعم في دار ابن جدعان وإني أغدر به هاشم وزهرة وتيم تحالفوا أن يكونوا مع المظلوم ما بل بحر صوفه ولو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت وهو حلف الفضول وقيل إن الحلف كان على منع المظلوم وعلى التأسي في المعاش فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه حضر هذا الحلف قبل النبوة وأنه لو دعي إلى مثله في الإسلام لأجاب لأن الله تعالى قد أمر المؤمنين بذلك وهو شئ مستحسن في العقول بل واجب فيها قبل ورود الشرع فعلمنا أن قوله لا حلف في الإسلام إنما أراد به الذي لا تجوزه العقول ولا تبيحه الشريعة وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال حضرت حلف المطيبين وأنا غلام وما أحب أن
[ 370 ]
أنكثه وأن لي حمر النعم وقد كان حلف المطيبين بين قريش على أن يدفعوا عن الحرم من أراد انتهاك حرمته بالقتال فيه وأما قوله وما كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة فهو نحو حلف المطيبين وحلف الفضول وكل ما يلزم الوفاء به من المعاقدة دون ما كان منه معصية لا تجوزه الشريعة والعقد في اللغة هو الشد تقول عقدت الحبل إذا شددته واليمين على المستقبل تسمى عقدا قال الله تعالى يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان والحلف يسمى عقدا مع قال الله تعالى (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم أبو عبيدة في قوله (أوفوا بالعقود قال هي العهود والأيمان وروي عن جابر في قوله أوفوا بالعقود قال هي عقدة النكاح والبيع والحلف والعهد وزاد زيد بن أسلم من قبله وعقد الشركة وعقد اليمين وروى وكيع عن موسى بن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال العقود ستة عقد الأيمان وعقد النكاح وعقدة العهد وعقدة الشرى والبيع وعقدة الحلف قال أبو بكر العقد ما يعقده العاقد على أمر يفعله هو أو يعقد على غيره فعله على وجه إلزامه إياه لأن العقد إذا كان في أصل اللغة الشد ثم نقل إلى الأيمان والعقود عقود المبايعات ونحوها فإنما أريد به إلزام الوفاء بما ذكره وإيجابه عليه وهذا إنما يتناول منه ما كان منتظرا مراعى في المستقبل من الأوقات فيسمى البيع والنكاح والإجارة وسائر عقود المعاوضات عقودا لأن كل واحد منهما قد ألزم نفسه التمام عليه والوفاء به وسمي اليمين على المستقبل عقدا لأن الحالف قد ألزم نفسه الوفاء بما حلف عليه من فعل أو ترك والشركة والمضاربة ونحوها تسمى أيضا عقودا لما وصفنا من اقتضائه الوفاء بما شرطه على كل واحد من الربح والعمل لصاحبه وألزمه نفسه وكذلك العهد والأمان لأن معطيها قد ألزم نفسه الوفاء بها وكذلك كل شرط شرطه إنسان على نفسه في شئ يفعله في المستقبل فهو عقد وكذلك النذور وإيجاب القرب وما جرى مجرى ذلك ومالا تعلق له بمعنى في المستقبل ينتظر وقوعه وإنما هو على شئ ماض قد وقع فإنه لا يسمى عقدا ألا ترى أن من طلق امرأته فإنه لا يسمى طلاقه عقدا ولو قال لها إذا دخلت الدار فأنت طالق كان ذلك عقدا ليمين ولو قال والله لقد دخلت الدار أمس لم يكن عاقدا لشئ ولو قال لأدخلنها غدا كان عاقدا ويدلك على ذلك أنه لا يصح إيجابه في الماضي ويصح في المستقبل لو قال علي أن أدخل الدار أمس كان لغوا من الكلام مستحيلا ولو قال علي أن أدخلها غدا كان إيجابا مفعولا
[ 371 ]
فالعقد ما يلزم به حكم في المستقبل واليمين على المستقبل إنما كانت عقدا لأن الحالف قد أكد على نفسه أن يفعل ما حلف عليه بذلك وذلك معدوم في الماضي ألا ترى أن من قال والله لأكلمن زيدا فهو مؤكد على نفسه بذلك كلامه وكذلك لو قال والله لا كلمت زيدا كان مؤكدا به نفي كلامه ملزما نفسه به ما حلف عليه من نفي أو إثبات فسمي من أجل التأكيد الذي في اللفظ عقدا تشبيها بعقد الحبل الذي هو بيده والإستيثاق سعيد به ومن أجله كان النذر عقدا ويمينا لأن الناذر ملزم نفسه ما نذره ومؤكد على نفسه ما أن يفعله أو يتركه ومتى صرف الخبر إلى الماضي لم يكن ذلك عقدا كما لا يكون ذلك إيجابا وإلزاما ونذرا وهذا يبين معنى ما ذكرنا من العقد على وجه التأكيد والإلزام ومما يدل على أن العقد هو ما تعلق بمعنى مستقبل دون الماضي أن ضد العقد هو الحل ومعلوم أن ما قد وقع لا يتوهم له حل عما وقع عليه بل يستحيل ذلك فيه فلما لم يكن الحل ضدا لما وقع في الماضي علم أنه ليس يعقد لأنه لو كان عقدا لكان له ضد من الحل يوصف به كالعقد على المستقبل مطلب: شرط انعقاد البر إمكان البر إمكانا عقليا فإن قيل قوله إن دخلت الدار فأنت طالق وأنت إذا جاء غد هو عقد ولا يلحقه الانتقاض والفسخ قيل له جائز أن لا يقع ذلك بموتها قبل وجود الشرط فهو مما يوصف بضده من الحل ولذلك قال أبو حنيفة فيمن قال إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز فعبدي حر وليس في الكوز ماء أن يمينه لا تنعقد ولم يكن ذلك عقدا لأنه ليس له نقيض من الحل ولو قال إن لم أصعد السماء فعبدي حر حنث بعد انعقاد يمينه لأن لهذا العقد نقيضا من الحل وإن كنا قد علمنا أنه لا يبر فيه لأنه عقد اليمين على معنى متوهم معقول إذ كان صعود السماء معنى متوهما معقولا وكذلك تركه معقول جائز وشرب ما ليس بموجود مستحيل توهمه فلم يكن ذلك عقدا وقد اشتمل قوله تعالى أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود على إلزام الوفاء بالعهود والذمم التي نعقدها لأهل الحرب وأهل الذمة والخوارج وغيرهم من سائر الناس وعلى إلزام الوفاء بالنذور والأيمان وهو نظير قوله تعالى بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقوله تعالى وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وعهد الله تعالى أوامره ونواهيه وقد روي عن ابن عباس في قوله تعالى أوفوا بالعقود أي بعقود الله فيما حرم وحلل وعن الحسن قال يعني عقود الدين واقتضى أيضا الوفاء بعقود البياعات والإجازات والنكاحات بكر وجميع
[ 372 ]
ما يتناوله اسم العقود فمتى اختلفنا في جواز عقده أو فساده وفي صحة نذر ولزومه صح الاحتجاج بقوله تعالى أوفوا بالعقود لاقتضاء عمومه جواز جميعها من الكفالات والإجازات والبيوع وغييرها قد ويجوز الاحتجاج به في جواز الكفالة بالنفس وبالمال وجواز تعلقها على الأخطار لأن الآية لم تفرق بين شئ منها وقوله صلى الله عليه وسلم والمسلمون عند شروطهم في معنى قول الله تعالى أوفوا بالعقود وهو عموم في إيجاب الوفاء بجميع ما يشرط الإنسان على نفسه ما لم تقم دلالة تخصصه مطلب: النذر على ثلاثة أنحاء فإن قيل هل يجب على كل من عقد على نفسه يمينا أو نذرا أو شرطا لغيره الوفاء بشرطه ويكون عقده لذلك على نفسه يلزمه ما شرطه وأوجبه قيل له أما النذور فهي على ثلاثة أنحاء منها نذر قربة فيصير واجبا بنذره بعد أن كان فعله قربة غير واجب لقوله تعالى أوفوا بالعقود وقوله تعالى بعهد الله إذا عاهدتم [ النحل 91 ] وقوله تعالى يوفون بالنذر وقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون وقوله تعالى ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما أتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فذمهم على ترك الوفاء بالمنذور نفسه وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب أوف بنذرك حين نذر أن يعتكف يوما في الجاهلية وقوله صلى الله عليه وسلم من نذر نذرا سماه فعليه أن يفي به ومن نذر نذرا ولم يسمه فعليه كفارة يمين فهذا حكم ما كان قربة من المنذور في لزوم الوفاء به بعينه وقسم آخر وهو ما كان مباحا غير قربة فمتى نذر ه لا يصير واجبا ولا يلزمه فعله فإذا أراد به يمينا فعليه كفارة يمين إذا لم يفعله مثل قوله لله علي أن أكلم زيدا وأدخل هذه الدار وأمشي إلى السوق فهذه أمور مباحة لا تلزم بالنذر لأن ما ليس له أصل في القرب لا يصير قربة بالإيجاب كما أن ما ليس له أصل في الوجوب لا يصير واجبا بالنذر فإن أراد به اليمين كان يمينا وعليه الكفارة إذا حنث والقسم الثالث ما نذر المعصية نحو أن يقول لله علي أن أقتل فلانا أو أشرب الخمر أو أغصب فلانا ماله فهذه أمور هي معاص لله تعالى لا يجوز له الإقدام عليه لأجل النذور وهي باقية على ما كانت عليه من الحظر وهذا يدل على ما ذكرناه في إيجاب ما ليس بقربة من المباحات
[ 373 ]
أنها لا تصير واجبة بالنذور كما أن ما كان محظروا وفي لا يصير مباحا ولا واجبا بالنذر وتجب فيه كفارة يمين إذا أراد يمينا وحنث لقوله صلى الله عليه وسلم لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين فالنذر ينقسم إلى هذه الأنحاء وأما الأيمان فإنها تعقد على هذه الأمور من قربة أو مباح أو معصية فإذا عقدها على قربة لم تصر واجبة باليمين ولكنه يؤمر بالوفاء به فإن لم يف به وحنث لزمته الكفارة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعبدالله بن عمر بلغني أنك قلت والله لأصومن الدهر فقال نعم قال فلا تفعل ولكن صم من كل شهر ثلاثة أيام فقال إني أطيق أكثر من ذلك إلى أن ورده إلى أن يصوم يوما ويفطر يوما فلم يلزمه صوم الدهر باليمين فدل ذلك على أن اليمين لا يلزم بها المحلوف عليه ولذلك قال أصحابنا فيمن قال والله لأصومن غدا ثم لم يصمه فلا قضاء عليه وعليه كفارة يمين والقسم الآخر من الأيمان هو أن يحلف على مباح أن يفعله فلا يلزمه فعله كما لا يلزمه فعل القربة المحلوف عليها فإن شاء فعل المحلوف عليه وإن شاء ترك حنث لزمته الكفارة والقسم الثالث أن يحلف على معصية فلا يجوز له أن يفعلها بل عليه أن يحنث في يمينه ويكفر عنها لقوله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه وقال أني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا فعلت الذي هو خير وكفرت عن يميني وقال الله تعالى يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم روي أنها نزلت في أبي بكر الصديق حين حلف أن لا ينفق على مسطح ابن أثاثة لما كان منه من الخوض في أمر عائشة رضي الله عنها فأمره الله تعالى بالرجوع إلى الانفاق عليه قوله تعالى أحلت لكم بهيمة الأنعام قيل في الأنعام أنها الإبل والبقر والغنم وقال بعضهم الإطلاق يتناول الإبل وإن كانت منفردة وتتناول البقر والغنم إذا كانت مع الإبل ولا تتناولهما منفردة عن الإبل وقد روي عن الحسن القول الأول وقيل إن الأنعام تقع على هذه الأصناف الثلاثة وعلى الظباء وبقر الوحش ولا يدخل فيها الحافر لأنه أخذ من نعومة الوطء ويدل على هذا القول استثناؤه الصيد منها بقوله في نسق التلاوة غير محلي الصيد وأنتم حرم ويدل على أن الحافر غير داخل في الأنعام قوله تعالى فقال خلقها لكم فيها دف ء ومنافع ومنها تأكلون ثم عطف عليه قوله تعالى والخيل والبغال والحمير لتركبوها فلما استأنف ذكرها وعطفها على الأنعام دل على أنها ليست منها وقد روي عن ابن عباس أنه قال في
[ 374 ]
جنين البقرة أنها بهيمة الأنعام وهو كذلك لأن البقرة من الأنعام وإنما قال بهيمة الأنعام وإن كانت الأنعام كلها من البهائم لأنه بمنزلة قوله أحل لكم البهيمة التي هي الأنعام فأضاف البهيمة إلى الأنعام وإن كانت هي كما تقول نفس الأنسان مطلب: كل ما أباحه الله تعالى للمؤمنين فهو مباح لغيرهم من سائر المكلفين إلا أن يخص بعضهم دليل ومن الناس من يظن أن هذه الإباحة معقودة بشرط الوفاء بالعقود المذكورة في الآية وليس كذلك لأنه لم يجهل الوفاء بالعقود شرطا للإباحة ولا أخرجه مخرج المجازاة ولكنه وجه الخطاب إلينا بلفظ الإيمان في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود ولا يوجب ذلك الاقتصار بالإباحة على المؤمنين دون غيرهم بل الإباحة عامة لجيمع المكلفين كفارا كانوا أو مؤمنين كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها وهو حكم عام في المؤمنين والكفار مع ورود اللفظ خاصا بخطاب المؤمنين وكذلك كل ما أباحه الله تعالى للمؤمنين فهو مباح لسائر المكلفين كما أن كل ما أوجبه وفرضه فهو فرض على جميع المكلفين إلا أن يخص بعضهم دليل وكذلك قلنا إن الكفار مستحقون للعقاب على ترك الشرائع كما يستحقون على ترك الإيمان فإن قيل إذا كان ذبح البهائم محظورا إلا بعد ورود السمع به فمن لم يعتقد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم واستباحته من طريق الشرع فحكمه في حظره عليه باق على الأصل وقائل هذا القول يقول إن ذبح البهائم محظور على الكفار أهل الكتاب منهم وغيرهم وهم عصاة في ذبحها وإن كان أكل ما ذبحه أهل الكتاب مباحا لنا وزعم هذا القول أن للملحد أن يأكل بعد الذبح وليس له أن يذبح وليس هذا عند سائر أهل العلم كذلك لأنه لو كان أهل الكتاب عصاة بذبحهم لأجل دياناتهم لوجب أن تكون ذبائحهم غير مذكاة مثل المجوسي لما كان ممنوعا من الذبح لأجل اعتقاده لم يكن ذبح ذكاة وفي ذلك دليل على أن الكتابي غير عاص في ذبح البهائم وأنه مباح له كهو لنا وأما قوله إنه إذا لم يعتقد صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم واستباحته من طريق الشرع فحكم حظر الذبح قائم عليه فليس كذلك لأن اليهود والنصارى قد قامت عليهم حجة السمع بكتب الأنبياء المتقدمين في إباحة ذبح البهائم وأيضا فإن ذلك لا يمنع صحة ذكاته لأن رجلا لو ترك التسمية على الذبيحة عامدا لكان عندنا عاصيا بذلك وكان لمن يعتقد جواز ترك التسمية عليها أن يأكلها ولم يكن كون الذابح عاصيا مانعا صحة ذكاته
[ 375 ]
قوله عز وجل إلا ما يتلى عليكم روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي إلا ما يتلى عليكم يعني قوله حرمت عليكم الميتة والدم علي ما حرم في القرآن وقال آخرون إلا ما يتلى عليكم من أكل الصيد وأنتم حرم فكأنه قال على هذا التأويل إلا ما يتلى عليكم في نسق هذا الخطاب قال أبو بكر يحتمل قوله إلا ما يتلى عليكم مما قد حصل تحريمه ما روي عن ابن عباس فإذا أريد به ذلك لم يكن اللفظ مجملا لأن ما قد حصل تحريمه قبل ذلك هو معلوم فيكون قوله (أحلت لكم بهيمة الأنعام عموما في إباحة جميعها إلا ما خصه الآي التي فيها تحريم ما حرم منها وجعل هذه الأباحة مرتبة على آي الحظر وهو قوله حرمت عليكم الميتة والدم ويحتمل أن يريد بقوله إلا ما يتلى عليكم إلا ما يبين حرمته فيكون مؤذنا بتحريم بعضها علينا في وقت ثان فلا يسلب ذلك الآية حكم العموم أيضا ويحتمل أن يريد أن بعض بهيمة الأنعام محرم عليكم الآن تحريما يرد بيانه في الثاني فهذا يوجب إجمال قوله تعالى أحلت لكم بهيمة الأنعام لاستثنائه بعضها فهو مجهول المعنى عندنا فيكون اللفظ مشتملا على إباحة وحظر على وجه الإجمال ويكون حكمه موقوفا على البيان وأولى الأشياء بنا إذا كان في اللفظ احتمال لما وصفنا من الإجمال والعموم حمله على معنى العموم لإمكان استعماله فيكون المستثنى منه ما ذكر تحريمه في القرآن من الميتة ونحوها فإن قيل قوله تعالى إلا ما يتلى عليكم) يقتضي تلاوة مستقبلة لا تلاوة ماضية وما قد حصل تحريمه قبل ذلك فقد تلا علينا فوجب حمله على تلاوة ترد في الثاني قيل له يجوز أن يريد به ما قد تلى علينا ويتلى في الثاني لأن تلاوة القرآن غير مقصورة على حال ماضية دون مستقبلة بل علينا تلاوته في المستقبل كما تلوناه في الماضي فتلاوة ما قد نزل قبل ذلك من القرآن ممكنة في المستقبل وتكون حينئذ فائدة هذا الاستثناء إبانة عن بقاء حكم المحرمات قبل ذلك من بهيمة الأنعام وأنه غير منسوخ ولو أطلق اللفظ من غير استثناء مع تقدم نزول تحريم كثير من بهيمة الأنعام لأوجب ذلك نسخ التحريم وإباحة الجميع منها قوله تعالى محلي الصيد وأنتم حرم أبو بكر فمن الناس من يحمله على معنى إلا ما يتلى عليكم من أكل الصيد وأنتم حرم فيكون المستثنى بقوله (إلا ما يتلى عليكم هو الصيد الذي حرمه على المحرمين وهذا تأويل يؤدي إلى إسقاط حكم الاستثناء الثاني وهو قوله غير محلي الصيد وأنتم حرم ويجعله بمنزلة قوله إلا ما يتلى عليكم وهو تحريم الصيد على المحرم وذلك تعسف في التأويل ويوجب ذلك أيضا أن يكون الاستثناء من إباحة بهيمة الأنعام مقصورا على الصيد وقد علمنا أن
[ 376 ]
الميتة من بهيمة الأنعام مستثناة من الإباحة فهذا تأويل لا وجه له ثم لا يخلو من أن يكون قوله محلى الصيد وأنتم حرم مستثنى مما يليه من الاستثناء فيصير بمنزلة قوله إلا ما يتلى عليكم إلا محلي الصيد وأنتم حرم ولو كان كذلك لوجب أن يكون موجبا لإباحة الصيد في الإحرام لأنه استثناء من المحظور إذ كان مثل قوله إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد مما قد بين وسيبين تحريمه في الثاني أو أن يكون معناه أوفوا بالعقود غير محلي الصيد وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله روي عن السلف فيه وجوه فروي عن ابن عباس أن الشعائر مناسك الحج وقال مجاهد الصفا والمروة والهدي والبدن كل ذلك من الشعائر وقال عطاء فرائض الله التي حدها لعباده وقال الحسن دين الله كله لقوله تعالى ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب أي دين الله وقيل إنها أعلام الحرم نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إذا أرادوا دخول مكة وهذه الوجوه كلها في احتمال الآية والأصل في الشعائر أنها مأخوذه من الإشعار وهي الإعلام من جهة الإحساس ومنه مشاعر البدن وهي الحواس والمشاعر أيضا هي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات وتقول قد شعرت به أي علمته وقال تعالى لا يشعرون يعني لا يعلمون ومنه الشاعر لأنه يشعر بفطنته لما لا يشعر به غيره وإذا كان الأصل على ما وصفنا فالشعائر العلامات واحدها شعيرة وهي العلامة التي يشعر بها الشئ ويعلم فقوله تعالى لا تحلوا شعائر الله قد انتظم جميع معالم دين الله وهو ما أعلمناه الله تعالى وحده من فرائض دينه وعلاماتها بأن لا يتجاوزوا حدوده ولا يقصروا دونها ولا يضيعوها فينتظم ذلك جميع المعاني التي رويت عن السلف من تأويلها فاقتضى ذلك حظر دخول الحرم إلا محرما وحظر استحلاله بالقتال فيه وحظر قتل من لجأ إليه ويدل أيضا على وجوب السعي بين الصفا والمروة لأنهما من شعائر الله على ما روي عن مجاهد لأن الطواف بهما كان من شريعة إبراهيم عليه السلام وقد طاف النبي صلى الله عليه وسلم بهما فثبت أنهما من شعائر الله وقوله عز وجل ولا الشهر الحرام روي عن ابن عباس وقتادة أن إحلاله هو القتال فيه قال الله تعالى في سورة البقرة يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وقد بينا أنه منسوخ وذكرنا قول من روي عنه ذلك وأن قوله تعالى: (اقتلوا المشركين نسخه وقال عطاء حكمه ثابت والقتال في الشهر الحرام محظور وقد اختلف في المراد بقوله ولا الشهر الحرام فقال قتادة
[ 377 ]
معناه الأشهر الحرم وقال عكرمة هو ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب وجائز أن يكون المراد بقوله ولا الشهر الحرام هذه الأشهر كلها وجائز أن يكون جميعها في حكم واحد منها وبقية الشهور معلوم حكمها من جهة دلالة اللفظ إذ كان جميعها في حكم واحد منها فإذا بين حكم واحد منها فقد دل على حكم الجميع قوله تعالى الهدي ولا القلائد أما الهدي فإنه يقع على كل ما يتقرب به من الذبائح والصدقات قال النبي صلى الله عليه وسلم المبتكر إلى الجمعة كالمهدى بدنة ثم الذي يليه المهدى بقرة ثم الذي يليه كالمهدى شاة ثم الذي يليه كالمهدى دجاجة ثم الذي يليه كالمهدى بيضة فسمى الدجاجة والبيضة هديا وأراد به الصدقة وكذلك قال أصحابنا فيمن قال ثوبي هذا هدى أن عليه أن يتصدق به إلا أن الإطلاق إنما يتناول أحد هذه الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم إلى الحرم وذبحه فيه قال الله تعالى فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا خلاف بين السلف والخلف من أهل العلم أن أدناه شاة وقال تعالى النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة وقال فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي [ البقرة: 196 ] وأقله شاة عند جميع الفقهاء فاسم الهدي إذا أطلق يتناول ذبح أحد هذه الأصناف الثلاثة في الحرم وقوله ولا الهدي أراد به النهي عن إحلال الهدي الذي قد جعل للذبح في الحرم وإحلاله استباحة لغير ما سيق إليه من القربة وفيه دلالة على حظر الانتفاع بالهدي إذا ساقه صاحبه إلى البيت أو أوجبه هديا من جهة نذر أو غيره وفيه دلالة على حظر الأكل من الهدايا نذرا كان أو واجبا من إحصار أو أجزاء صيد وظاهره يمنع جواز الأكل من هدى المتعة والقرآن لشمول الأسم له إلا أن الدلالة قد قامت عندنا على جواز الأكل منه وأما قوله عز وجل ولا القلائد فإن معناه لا تحلو القلائد وقد روى في تأويل القلائد وجوه عن السلف فقال ابن عباس أراد الهدي المقلد قال أبو بكر هذا يدل على أن من الهدي ما يقلد ومنه مالا يقلد والذي يقلد الإبل والبقر والذي لا يقلد الغنم فحظر تعالى إحلال الهدي مقلدا وغير مقلد وقال مجاهد كانوا إذا أحرموا يقلدون أنفسهم والبهائم من لحاء شجر الحرم فكان ذلك أمنا لهم فحظر الله تعالى استباحة ما هذا وصفه وذلك منسوخ في الناس وفي البهائم غير الهدايا وروي نحوه عن قتادة في تقليد الناس لحاء شجر الحرم وقال بعض أهل العلم أراد به قلائد الهدي بأن يتصدقوا بها ولا ينتفعوا بها وروي عن الحسن أنه قال يقلد الهدي
[ 378 ]
بالنعال فإذا لم توجد فالجفاف تقور ثم تجعل في أعناقها ثم يتصدق بها وقيل هو صوف يفتل فيجعل في أعناق الهدي قال أبو بكر قد دلت الآية على أن تقليد الهدي قربة وأنه يتعلق به حكم كونه هديا وذلك بأن يقلده ويريد أن يهديه فيصير هديا بذلك وإن لم يوجبه بالقول فمتى وجد على هذه الصفة فقد صار هديا لا تجوز استباحته والانتفاع به إلا بأن يذبحه ويتصدق به وقد دل أيضا على أن قلائد الهدي يجب أن يتصدق بها لاحتمال اللفظ لها وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في البدن التي نحر بعضها بمكة وأمر عليا بنحر بعضها وقال له تصدق بجلالها وخطمها ولا تعط الجزار منها شيئا فإنا نعطيه من عندنا وذلك دليل على أنه لا يجوز ركوب الهدي ولا حلبه ولا الانتفاع بلبنه لأن قوله الهدي ولا القلائد قد تضمن ذلك كله وقد ذكر الله القلائد في غير هذا الموضع بما دل به على القربة فيها وتعلق الأحكام بها وهو قوله تعالى جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد فلولا ما تعلق بالهدي والقلائد من الحرمات والحقوق التي هي لله تعالى كتعلقها بالشهر وبالكعبة لما ضمها إليهما عند الأخبار عما فيها من المنافع وصلاح اناس وقوامهم وروى الحكم عن مجاهد قال لم تنسخ من المائدة إلا هاتان الآيتان لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد نسختها اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [ التوبة: 5 ]. (فإن جاؤوك فأحكم بينهم الآية نسختها وأن احكم بينهم بما أنزل الله قال أبو بكر يريد به نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام ونسخ القلائد التي كانوا يقلدون به أنفسهم وبهائمهم من لحاء شجر الحرم ليأمنوا به ولا يجوز أن يريد نسخ قلائد الهدي لأن ذلك حكم ثابت بالنقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين بعدهم وروى مالك بن مغول عن عطاء في قوله تعالى ولا القلائد قال كانوا يقلدون لحاء شجر الحرم يأمنون به إذا خرجوا فنزلت لا تحلوا شعائر الله قال أبو بكر يجوز أن يكون حظر الله انتهاك حرمة من يفعل ذلك على ما كان عليه أهل الجاهلية لأن الناس كانوا مقرين بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم على ما كانوا عليه من الأمور التي لا يحظرها العقل إلى أن نسخ الله منها ما شاء فنهى الله عن استحلال حرمة من تقلد بلحاء شجر
[ 379 ]
الحرم ثم نسخ ذلك من قبل أن الله قد أمن المسلمين حيث كانوا بالإسلام وأما المشركين فقد أمر الله بقتلهم حتى يسلموا بقوله تعالى * المشركين حيث وجدتموهم فلا حظر قتل المشرك الذي تقلد بلحاء شجر الحرم منسوخا والمسلمون قد استغنوا عن ذلك فلم يبق له حكم وبقي حكم قلائد الهدي ثابتا وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي قال حدثنا الحسين بن أبي الربيع الجرجاني قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا الثوري عن بيان عن الشعبي قال لم تنسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله) وحدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا الحسين بن أبي الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام) الآية قال منسوخ كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من السمر فلم يعرض له أحد وإذا رجع تقلد فلادة منه شعر فلم يعرض له أحد وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت فنسختها قوله تعالى اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وروى يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة في قوله تعالى جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد حواجز جعلها الله بين الناس في الجاهلية وكان الرجل إذا لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يقرب، وكان الرجل إذا لقي الهدي مقلدا وهو يأكل العصب من الجوع لم يعرض له ولم يقربه وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادة من شعر تمنعه من الناس وكان إذا نفر تقلد قلادة من الأذخر أو من لحاء شجر الحرام فمنعت الناس عنه وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد الله قال حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام قال كان المسلمون والمشركون يحجون البيت جميعا فنهى الله تعالى المؤمنين أن يمنعوا أحدا أن يحج البيت أو يعرضوا له من مؤمن أو كافر ثم أنزل الله بعد هذا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وقال تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر وقد روى إسحاق بن يوسف عن ابن عون قال سألت الحسن هل نسخ من المائدة شئ فقال
[ 380 ]
لا وهذا يدل على أن قوله تعالى ولا آمين البيت الحرام إنما أريد به المؤمنون عند الحسن لأنه إن كان قد أريد به الكفار فذلك منسوخ بقوله فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وقوله أيضا ولا الشهر الحرام حظر القتال فيه منسوخ بما قدمنا إلا أن يكون عند الحسن هذا الحكم ثابتا على نحو ما روي عن عطاء قوله تعالى يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا روي عن ابن عمر أنه قال أريد به الربح في التجارة وهو نحو قوله تعالى عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) [ البقرة: 196 ] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن التجارة في الحج فأنزل الله تعالى ذلك وقد ذكرناه فيما تقدم وقال مجاهد في قوله تعالى يتبغون فضلا من ربهم ورضوانا الأجرة والتجارة قوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا قال مجاهد وعطاء في آخرين هو تعليم إن شاء صاد وإن شاء لم يصد قال أبو بكر هو إطلاق من حظر بمنزلة قوله تعالى فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله لما حظر البيع بقوله وذروا البيع عقبه بالإطلاق بعد الصلاة بقوله (فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله [ الجمعة: 9 ]. وقوله تعالى وإذا حللتم فاصطادوا قد تضمن إحراما متقدما لأن الإحلال لا يكون إلا بعد الإحرام وهذا يدل على أن قوله الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام قد اقتضى كون من فعل ذلك محرما فيدل على أن سوق الهدي وتقليده يوجب الإحرام ويدل قوله آمين البيت الحرام على أنه غير جائز لأحد دخول مكة إلا بالإحرام إذ كان قوله وإذا حللتم فاصطادوا قد يضمن أن يكون من أم البيت الحرام فعليه إحرام يحل منه ويحل له الاصطياد بعده وقوله وإذا حللتم فاصطادوا قد أراد به الإحلال من الإحرام والخروج من الحرم أيضا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حظر الاصطياد في الحرم بقوله ولا ينفر صيدها ولا خلاف بين السلف والخلف فيه فعلمنا أنه قد أراد به الخروج من الحرم والإحرام جميعا وهو يدل على جواز الاصطياد لمن حل من إحرامه بالحلق وإن بقاء طواف الزيارة عليه لا يمنع لقوله تعالى (وإذا حللتم باصطادوا وهذا قد حل إذ كان هذا الحلق واقعا للإحلال وقوله تعالى يجر منكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا) قال ابن عباس وقتادة لا يجرمنكم لا يحملنكم وقال أهل اللغة يقال جرمني زيد على بغضك أو حملني عليه وقال الفراء لا يكسبنكم يقال جرمت على أهلي أي
[ 381 ]
كسبت لهم وفلان جريمة أهله أي كاسبهم قال الشاعر جريمة: ناهض في رأس نيق * غير ترى لعظام ما جمعت صليبا ويقال جرم يجرم جرما إذا قطع وقوله تعالى شنآن قوم فرئ بفتح النون وسكونا فمن فتح النون جعله مصدرا من قولك شنئته أشنأه بعد شنآنا والشنآن البغض فكأنه قال ولا يجرمنكم بغض قوم وكذلك روي عن ابن عباس وقتادة قالا عداوة قوم ومن قرأ بسكون النون فمعناه بغيض قوم فنهاهم الله بهذه الآية أن يتجاوزوا الحق إلى الظلم والتعدي لأجل تعدى الكفار بصدهم المسلمين عن المسجد الحرام ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك وقوله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى يعتضي ظاهره إيجاب التعاون على كل ما كان تعالى لأن البر هو طاعات الله وقوله تعالى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان نهى عن معاونة غيرنا على معاصي الله تعالى قوله تعالى عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير الآية الميتة ما فارقته الروح بغير تزكية مما شرط علينا الزكاة في إباحته وأما الدم فالمحرم منه هو المسفوح لقوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا وقد بينا ذلك في سورة البقرة والدليل أيضا على أن المحرم منه هو المسفوح اتفاق المسلمين على إباحة الكبد والطحال وهما دمان وقال النبي صلى الله عليه وسلم أحلت لي ميتتان ودمان يعنى بالدمين الكبد والطحال فأباحهما وهما دمان إذ ليسا بمسفوح فدل على إباحة كل ما ليس بمسفوح من الدماء فإن قيل لما حصر المباح منه بعدد دل على حظر ما عداه قيل هذا غلط لأن الحصر بالعدد لا يدل على أن ما عداه حكمه بخلافه ومع ذلك فلا خلاف أن مما عداه من الدماء ما هو المباح وهو الدم الذي يبقى في حلل اللحم بعد الذبح وما يبقى منه في العروق فدل على أن حصره الدمين بالعدد وتخصيصهما بالذكر لم يقتض حظر جميع ما عداهما من الدماء وأيضا فإنه لما قال أو دما مسفوحا ثم قال
[ 382 ]
والدم كانت الألف واللام للمعهود وهو الدم المخصوص بالصفة وهو أن يكون مسفوحا وقوله صلى الله عليه وسلم أحلت لي ميتتان ودمان إنما ورد مؤكدا لمقتضى قوله عز وجل لا أجد فيما أوحى إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا) [ الانعام: 196 ] إذ ليسا بمسفوحين يقول ولو لم يره لكانت دلالة الآية كافية في الاقتصار بالتحريم على المسفوح منه دون غيره وأن الكبد والطحال غير محرمين وقوله تعالى ولحم الخنزير فإنه قد تناول شحمه وعظمه وسائر أجزائه ألا ترى أن الشحم المخالط للحم قد اقتضاه اللفظ لأن اسم للحم يتناوله ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك وإنما ذكر اللحم لأنه معظم منافعه وأيضا فإن تحريم الخنزير لما كان منهما اقتضى ذلك تحريم سائر أجزائه كالميتة والدم وقد ذكرنا حكم شعره وعظمه فيما تقدم وأما قوله وما أهل لغير الله به فإن ظاهره يقتضي تحريم ما سمي عليه غير الله لأن الإهلال هو إظهار الذكر والتسمية وأصله استهلال الصبي إذا صاح حين يولد ومنه إهلال المحرم فينتظم ذلك تحريم ما سمي عليه الأوثان على ما كانت العرب تفعله وينتظم أيضا تحريم ما سمي عليه اسم غير الله أي اسم كان فيوجب ذلك أنه لو قال عند الذبح باسم زيد أو عمرو أن يكون غير مذكى وهذا يوجب أن يكون ترك التسمية عليه موجبا تحريمها وذلك لأن أحدا لا يفرق بين تسمية زيد على الذبيحة بين ترك التسمية رأسا قوله تعالى والمنخنقة فإنه روي عن الحسن وقتادة والسدي والضحاك أنها التي تختنق بحبل الصائد أو غيره حتى تموت ومن نحوه حديث عباية بن رفاعة عن رافع بن خديح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذكوا بكل شئ إلا السن والظفر وهذا عندنا على السن والظفر غير المنزوعين لأني يصير في معنى المخنوق وأما قوله تعالى والموقوذة فإنه روي عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي أنه المضروبة بالخشب ونحوه حتى تموت يقال فيه وقذه يقذه وقذا وهو وقيذ إذا ضربه حتى يشفى على الهلاك ويدخل في الموقوذة كل ما قتل منها على غير وجه الزكاة وقد روى أبو عامر العقدي عن زهير بن محمد عن زيد بن أسلم عن ابن عمر أنه كان يقول في المقتولة بالبندقة تلك الموقوذة وروى شعبة عن قتادة عن عقبة بن صهبان عن عبد الله بن المغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف وقال أنها لا تنكأ العدو لا تصيد الصيد ولكنها تكسر السن وتفقأ العين ونظير ذلك ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عيسى قال حدثنا جرير عن منصور عن
[ 383 ]
إبراهيم عن همام عن عدي بن حاتم قال قلت يا رسول الله أرمى بالمعراض فأصيب أفآكل قال إذا رميت بالمعراض وذكرت اسم الله فأصاب فخرق فكل وإن أصاب بعرضه فلا تأكل حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا عبد الله بن احمد قال حدثنا هشيم عن مجالد وزكريا وغيرهما عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض فقال ما أصاب بحده فخرق فكل وما أصاب بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل فجعل ما أصاب بعرضه من غير جراحة موقوذة وإن لم يكن مقدورا على ذكاته وفي ذلك دليل على أن شرط ذكاة الصيد الجراحة وإسالة الدم وإن لم يكن مقدورا على ذبحه واستيفاء شروط الذكاة فيه وعموم قوله والموقوذة) عام في المقدور على ذكاته وفي غيره مما لا يقدر على ذكاته وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا أحمد بن محمد بن النضر قال حدثنا معاوية بن عمر قال حدثنا زائدة قال حدثنا عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال سمعت عمر بن الخطاب يقول يا أيها الناس هاجروا ولا تهجروا وإياكم والأرنب يحذفها أحدكم بالعصا أو الحجر يأكلها ولكن ليذك لكم الأسل الرماح والنبل وأما قوله تعالى والمتردية فإنه روي عن ابن عباس والحسن والضحاك وقتادة قالوا هي الساقطة من رأس جبل أو في بئر فتموت وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود قال إذا رميت صيدا من على جبل فمات فلا تأكله فإني أخشى أن يكون التردي هو الذي قتله وإذا رميت طيرا فوقع في ماء فمات فلا تطعمه فإن أخشى أن يكون الغرق قتله قال أبو بكر لما وجد هناك سببا آخر وهو التردي وقد يحدث عنه الموت حظر أكله وكذلك الوقوع في الماء وقد روى نحو ذلك النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا احمد بن محمد بن إسماعيل قال حدثنا ابن عرفة قال حدثنا ابن المبارك عن عاصم الأحول عن الشعبي عن عدي بن حاتم أنه سال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيد فقال إذا رميت بسهمك وسميت فكل إن قتل إلا أن تصيبه في الماء فلا تدرى أيهما قتله ونظيره ما روي عنه صلى الله عليه وسلم في صيد الكلب أنه قال إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فكل وإن خالطه كلب آخر فلا تأكل فحظر صلى الله عليه وسلم أكله إذا وجد مع الرمي سبب آخر يجوز حدوث الموت منه مما لا يكون ذكاة وهو الوقوع في الماء ومشاركة كلب آخر معه وكذلك قول عبد الله في الذي يرمي الصيد وهو على الجبل فيتردى أنه لا يؤكل
[ 384 ]
لاجتماع سبب الحظر والإباحة في تلفه فجعل الحكم للحظر دون الإباحة وكذلك لو اشترك مجوسي ومسلم في قتل صيد أو ذبحه لم يؤكل مطلب: إذا اجتمع الحظر والاباحة كان الحكم للحظر دون الاباحة وجميع ما ذكرنا أصل في أنه متى اجتمع سبب الحظر وسبب الإباحة كان الحكم للحظر دون الإباحة وأما قوله تعالى والنطيحة الذي فإنه روي عن الحسن والضحاك وقتادة والسدي أنها المنطوحة حتى تموت وقال بعضهم هي الناطحة حتى تموت قال أبو بكر هو عليهما جميعا فلا فرق بين أن تموت من نطحها لغيرها وبين موتها من نطح غيرها لها وأما قوله وما أكل السبع فإن معناه ما أكل منه السبع حتى يموت فحذف والعرب تسمي ما قتله السبع وأكل منه أكيلة السبع ويسمون الباقي منه أيضا أكيلة السبع قال أبو عبيدة ما أكل السبع مما أكل السبع فيأكل منه ويبقى بعضه وإنما هو فريسته وجميع ما تقدم ذكره في الآية بالنهي عنه قد أريد به الموت من ذلك وقد كان أهل الجاهلية يأكلون جميع ذلك فحرمه الله تعالى ودل بذلك على أن سائر الأسباب التي يحدث عنها الموت للأنعام محظورا أكلها بعد أن لا يكون من فعل أدمى على وجه التذكية وأما قوله تعالى إلا ما ذكيتم فإنه معلوم أن الاستثناء راجع إلى بعض المذكور دون جميعه لأن قوله حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به لا خلاف أن الاستثناء غير راجع إليه وإن ذلك لا يجوز أن تلحقه الزكاة وقد كان حكم الاستثناء أن يرجع إلى ما يليه وقد ثبت أنه لم يعد إلى ما قبل المنخنقة فكان حكم العموم فيه قائما وكان الاستثناء عائدا إلى المذكور من عند قوله والمنخنقة لما روى ذلك عن علي وابن عباس والحسن وقتادة وقالوا كلهم إن أدركت ذكاته بأن توجد له عين تطرف أو ذنب يتحرك فأكله جائز وحكى عن بعضهم أنه قال الاستثناء عائدا إلى قوله وما أكل السبع دون ما تقدم لأنه يليه وليس هذا بشئ لاتفاق السلف على خلافه ولأنه لا خلاف أن سبعا لو أخذ قطعة من لحم البهيمة فأكلها أو تردى شاة من جبل ولم يشف بها ذلك على الموت فذكاها صاحبها أن ذلك جائز مباح الأكل وكذلك النطيحة وما ذكر معها فثبت أن الاستثناء راجع إلى جميع المذكور من عند قوله والمنخنقة وإنما قوله إلا ما ذكيتم فإنه استثناء منقطع بمنزلة قوله لكن ما ذكيتم كقوله فلولا كانت قرية آمنت فنفعها أيمانها إلا قوم يونس:
[ 385 ]
98 ] ومعناه لكن قوم يونس وقوله طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى ومعناه لكن تذكرة لمن يخشى ونظائره في القرآن كثيرة وقد اختلف الفقهاء في ذكاة الموقوذة ونحوها فذكر محمد في الأصل في المتردية إذا أدركت ذكاتها قبل أن تموت أكلت وكذلك الموقوذة والنطيحة وما أكل السبع وعن أبي يوسف في الإملاء أنه إذا بلغ به ذلك إلى حال لا يعيش في مثله لم يؤكل وإن ذكي قبل الموت وذكر ابن سماعة عن محمد أنه إن كان يعيش منه اليوم ونحوه أو دونه فذكاها حلت وإن كان لا يبقى إلا كبقاء المذبوح لم يؤكل وإن ذبح واحتج بأن عمر كانت به جراحة متلفة وصحت عهوده وأوامره ولو قتله قاتل في ذلك الوقت كان عليه القود وقال مالك إذا أدركت ذكاتها وهي حية تطرف أكلت وقال الحسن بن صالح إذا صارت بحال لا تعيش أبدا لم تؤكل وإن ذبحت وقال الأوزاعي إذا كان فيها حياة فذبحت أكلت والمصيودة لأن إذا ذبحت لم تؤكل وقال الليث إذا كانت حية وقد أخرج السبع ما في جوفها أكلت إلا ما بان عنها وقال الشافعي في السبع إذا شق بطن الشاة ونستيقن أنها تموت إن لم تذك فذكيت فلا بأس بأكلها قال أبو بكر قوله تعالى إلا ما ذكيتم يقتضي ذكاتها ما دامت حية فلا فرق في ذلك بين أن تعيش من مثله أو لا تعيش وأن تبقى قصير المدة أو طويلها وكذلك روي عن علي وابن عباس أنه إذا تحرك شئ منها صحت ذكاتها ولم يختلفوا في الأنعام إذا أصابتها الأمراض المتلفة التي تعيش معها مدة قصيرة أو طويلة إن ذكاتها بالذبح فكذلك المتردية ونحوها والله اعلم باب في شرط الذكاة قال أبو بكر قوله تعالى ما ذكيتم اسم شرعي يعتوره معان منها موضع الذكاة وما يقطع منه ومنها الآلة ومنها الدين ومنها التسمية في حال الذكر وذلك فيما كانت ذكاته بالذبح عند القدرة فأما السمك فإن ذكاته بحدوث الموت فيه عن سبب من خارج وما مات حتف أنفه فغير مذكى وقد بينا ذلك فيما تقدم من الكلام في
[ 386 ]
الطافي في سورة البقرة فأما موضع الذكاة في الحيوان المقدور على ذبحه فهو اللبة وما فوق ذلك إلى اللحيين وقال أبو حنيفة في الجامع الصغير لا بأس بالذبح في الحلق كله أسفل الحلق وأوسطه وأعلاه وأما ما يجب قطعه فهو الأوداج وهي أربعة الحلقوم والمرئ والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمرئ فإذا فرى المذكى ذلك أجمع فقد أكمل الذكاة على تمامها وسنتها فإن قصر عن ذلك ففرى من هذه الأربعة ثلاثة فإن بشر بن الوليد روى عن أبي يوسف أن أبا حنيفة قا إذا قطع أكثر الأوداج أكل وإذا قطع ثلاثة منها أكل من أي جانب كان وكذلك قال أبو يوسف ومحمد ثم قال أبو يوسف بعد ذلك لا تأكل حتى تقطع الحلقوم والمرئ وأحد العرقين وقال مالك بن أنس والليث يحتاج أن يقطع الأوداج والحلقوم وإن ترك شيئا منها لم يجزه ولم يذكر المرئ وقال الثوري لا بأس إذا قطع الأوداج وإن لم يقطع الحلقوم وقال الشافعي أقل ما يجزى من الذكاة قطع الحلقوم والمرئ وينبغي أن يقطع الودجين وهما العرقان وقد يسلان من البهيمة والإنسان ثم يحييان فإن لم يقطع العرقان وقطع الحلقوم والمرئ جاز وإنما قلنا أن موضع الذكاة النحر واللبة لما روى أبو قتادة الحراني عن حماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذكاة فقال في اللبة والحلق ولو طعنت في فخذها أجزأ عنك وإنما يعني بقوله صلى الله عليه وسلم لو ظننت في فخذها أجزأ عنها فيما لا تقدر على مذبحه قال أبو بكر ولم يختلفوا أنه جائز له قطع هذه الأربعة وهذا يدل على أن قطعها مشروط في الذكاة ولولا أنه كذلك لما جاز له قطعها إذ كان فيه زيادة ألم بما ليس هو شرطا في صحة الذكاة فثبت بذلك أن عليه قطع هذه الأربع إلا أن أبا حنيفة قال إذا قطع الأكثر جاز مع تقصيره عن الواجب فيه لأنه قد قطع والأكثر في مثلها يقوم مقام الكل كما أن قطع الأكثر من الأذن والذنب بمنزلة قطع الكل في امتناع جوازه عن الأضحية وأبو يوسف جعل شرط صحة الذكاة الحلقوم والمرئ وأحد العرقين ولم يفرق أبو حنيفة بين قطع العرقين وأحد شيئين من الحلقوم والمرئ وبين قطع هذين مع أحد العرقين إذ كان قطع الجميع مأمورا به صحة الذكاة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هناد بن السري والحسن بن عيسى مولى ابن المبارك عن ابن المبارك عن معمر عن عمرو بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس زاد ابن عيسى وأبي هريرة قالا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان زاد ابن عيسى في حديثه وهي التي تذبح فيقطع الجلد ولا يفرى الأوداج ثم تترك حتى تموت وهذا الحديث يدل
[ 387 ]
على أنه عليه قطع الأوداج وروى أبو حنيفة عن سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل ما أنهر الدم وأفرى الأوداج ما خلا السن والظفر وروى إبراهيم عن أبيه عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اذبحوا بكل ما أفرى الأوداج وهراق وقد الدم ما خلا السن والظفر فهذه الأخبار كلها توجب أن يكون فرى الأوداج شرطا في الذكاة والأوداج اسم يقع على الحلقوم والمرئ والعرقين علي اللذين عن جنبيهما فصل حتى فصل وأما الآلة فإن كل ما فرى الأوداج وأنهر الدم فلا بأس به والذكاة صحيحة غير أن أصحابنا كرهوا الظفر المنزع والعظم والقرن والسن لما روى فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وأما غير ذلك فلا بأس به ذكر ذلك في الجامع الصغير وقال أبو يوسف في الإملاء لو أن رجلا ذبح بليطة ففرى الأوداج وأنهر الدم فلا بأس بذلك وكذلك لو ذبح بعود وكذلك لو نحر بوتد أو بشظاظ أو بمروة لم يكن بذلك بأس فأما العظم والسن والظفر فقد نهي أن يذكى بها وجاءت في ذلك أحاديث وآثار وكذلك القرن عندنا والناب قال ولو أن رجلا ذبح بسنه أو بظفره فهي ميتة لا تؤكل وقال في الأصل إذا ذبح بسن نفسه أو بظفر نفسه فإنه قاتل وليس بذابح وقال مالك بن أنس كل ما بضع من عظم أو غيره ففرى الأوداج فلا بأس به وقال الثوري كل ما فرى الأوداج فهو ذكاة إلا السن والظفر وقال الأوزاعي لا يذبح بصدف البحر وكان الحسن بن صالح يكره الذبح بالقرن والسن والظفر والعظم وقال الليث لا بأس بأن يذبح بكل ما أنهر الدم إلا العظم والسن والظفر واستثنى الشافعي الظفر والسن قال أبو بكر الظفر والسن المنهي عن الذبيحة بهما إذا كانتا قائمتين في صاحبهما وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الظفر أنها مدي الحبشة وهم إنما يذبحون بالظفر القائم في موضعه غير المنزوع وقال ابن عباس ذلك الخنق وعن أبي بشر قال سألت عكرمة عن الذبيحة بالمروة قال إذا كانت حديدة لا تترد الأوداج فكل فشرط في ذلك أن لا تترد الأوداج وهو أ لا تفريها تعالى ولكنه يقطعها قطعة قطعة والذبح بالظفر والسن غير المنزوع يترد ولا يفرى فلذلك لم تصح الذكاة بهما وأما إذا كانا منزوعين ففريا فإن الأوداج فلا بأس وإنما كره أصحابنا منها ما كان بمنزلة السكين الكلالة
[ 388 ]
ولهذا المعنى كرهوا الذبح بالقرن والعظم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا شعبة عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس قال خصلتان سمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله كتب الإحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحاسنوا عمر قال غير مسلم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته فكانت كراهتهم للذبح بسن منزوع أو عظم أو قرن أو نحو ذلك من جهة كلاله لما يلحق البهيمة من الألم الذي لا يحتاج إليه في صحة الذكاة وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن مري بن قطري عن عدي بن حاتم أنه قال قلت يا رسول الله أرأيت أن أحدنا أصاب صيدا وليس معه سكين أيذبح بالمروة وشقة العصا قال أمرر الدم بما شئت واذكر اسم الله وفي حديث نافع عن كعب بن مالك عن أبيه أن جارية سوداء ذكت شاة بمروة فذكر ذلك كعب للنبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بأكلها وروى سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وفي حديث رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا إلا ما كان من سن أو ظفر فصل وهذا الذي ذكرناه فيما كان من الحيوان مقدورا على ذبحه فيعتبر في ذكاته ما وصفنا من موضع الذكاة ومن الآلة على النحو الذي بينا وأما الذي لا نقدر منه على ذبحه فإن ذكاته إنما تكون بإصابته بما يجرح ويسيل الدم أو بإرسال كلب أو طير فيجرحه دون ما يصدم أو يهشم مما لا حد له يجرحه ولا يختلف في ذلك عندنا حكم ما يكون أصله ممتنعا مثل الصيد وما ليس بممتنع في الأصل من الأنعام ثم يتوحش ويمتنع أو يتردى في موضع لا نقدر فيه على ذكاته وقد اختلف الفقهاء في ذلك في موضعين أحدهما في الصيد إذا أصيب بما لا يجرحه من الآلة فقال أصحابنا ومالك والثوري إذا أصابه بعرض المعراض لم يؤكل إلا أن يدرك ذكاته وقال الثوري وإن رميته بحجر أو بندقة كرهته إلا أن تذكيه ولا فرق عند أصحابنا بين المعراض والحجر والبندقة وقال الأوزاعي في صيد المعراض يؤكل خزق أو لم يخزق قال وكان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبد الله بن عمر ومكحول لا يرون به بأسا وقال
[ 389 ]
الحسن بن صالح إذا خزق الحجر فكل والبندقة لا تخزق وقال الشافعي إن خزق المرمي برميه أو قطع بحده أكل وما جرح بثقله فهو وقيذ وفيما نالته الجوارح فقتلته فيه قولان أحدهما أن لا يؤكل حتى يجرح لقوله تعالى من الجوارح مكلبين) والآخر أنه حل قال أبو بكر ولم يختلف أصحابنا ومالك والشافعي في الكلب إذا قتل الصيد بصدمته لم يؤكل وأما الموضع الآخر فما ليس بممتنع في الأصل مثل البعير والبقر إذا توحش أو تردى في بئر فقال أصحابنا إذا لم يقدر على ذبحه فإنه يقتل كالصيد ويكون مذكى وهو قول الثوري والشافعي وقال مالك والليث لا يؤكل إلا أن يذبح على شرائط الذكاة وروي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعلقمة والأسود ومسروق مثل قول أصحابنا وقد تقدم ذكر الآثار المؤيدة لقول أصحابنا في الصيد إن شرط ذكاته أن يجرحه بما له حد ومنه ما ذكر في المعراض أنه إن أصاب بحده أكل وإن أصاب بعرضه لم يؤكل فإنه وقيذ لقوله تعالى والموقوذة فكل ما لا يجرح من ذلك فهو وقيذ محرم بظاهر الكتاب والسنة وفي حديث قتادة عن عقبة بن صهبان عن عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف وقال إنها لا تنكأ العدو ولا تصيد الصيد ولكنها تكسر السن وتفقأ العين فدل ذلك على أن الجراحة في مثله لا تذكى إذ ليس له حد وإنما الجراحة التي لها حكم في الذكاة هي ما يقع بما له حد ألا ترى أن النبي قال في المعراض إن أصابه بحده فخزق فكل وإن أصابه بعرضه فلا تأكل ولا يفرق بين ما يجرح ولا يجرح فدل ذلك على اعتبار الآلة وأن سبيلها أن يكون لها حد في صحة الذكاة بها وكذلك قوله في الحذف أنها لا تصيد الصيد يدل على سقوط اعتبار جراحته في صحة الذكاة إذا لم يكن له حد وأما البعير ونحوه إذا توحش أو تردى في بئر فإن الذي يدل على أنه بمنزلة الصيد في ذكاته ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا سفيان عن عمرو بن سعيد بن مسروق عن أبيه عن عباية بن رفاعة عن رافع بن خديج قال ند علينا بعير فرميناه بالنبل ثم سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فإذا ند منها شئ فاصنعوا به ذلك وكلوه وقال سفيان وزاد إسماعيل بن مسلم فرميناه بالنبل حتى رهصناه النبي فهذا يدل على إباحة أكله إذا قتله النبل لإباحة النبي صلى الله عليه وسلم من غير شرط ذكاة غيره وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا حماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه أنه قال يا رسول الله
[ 390 ]
أما تكون الذكاة إلا في اللبة والنحر فقال صلى الله عليه وسلم لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك وهذا على الحال التي لا يقدر فيها على ذبحها إذ لا خلاف أن المقدور على ذبحه لا يكون ذلك ذكاته ويدل على صحة قولنا من طريق النظر اتفاق الجميع على أن رمي الصيد يكون ذكاة له إذا قتله ثم لا يخلو المعنى الموجب لكون ذلك ذكاة من أحد وجهين إما أن يكون ذلك لجنس الصيد أو لأنه غير مقدور على ذبحه فلما اتفقوا على أن الصيد إذا صار في يده حيا لم تكن ذكاته إلا بالذبح كذكاة ما ليس من جنس الصيد دل ذلك على أن هذا الحكم لم يتعلق بجنسه وإنما تعلق بأنه غير مقدور على ذبحه في حال امتناعه فوجب مثله في غيره إذا صار بهذه الحال لوجود العلة التي من أجلها كان ذلك ذكاة للصيد مطلب: في حكم الصيد إذا انقطع قطعتين واختلف الفقهاء في الصيد يقطع بعضه فقال أصحابنا والثوري وهو قول إبراهيم ومجاهد إذا قطعه بنصفين أكلا جميعا وإن قطع الثلث مما يلي الرأس أكل فإن قطع الثلث الذي يلحق العجز أكل الثلثان الذي يلي الرأس ولا يؤكل الثلث الذي يلي العجز وقال ابن أبي ليلى والليث إذا قطع منه قطعة فمات الصيد مع الضربة أكلهما جميعا وقال مالك إذا قطع وسطه أو ضرب عنقه أكل وإن قطع فخذه لم يأكل الفخذ وأكل الباقي وقال الأوزاعي إذا أبان عجزه لم يؤكل من قطع منه ويؤكل سائره وإن قطعه بنصفين أكله كله وقال الشافعي إن قطعه قطعتين أكله وإن كانت إحداهما أقل من الأخرى وإن قطع يدا أو رجلا أو شيئا يمكن أن يعيش بعده ساعة أو أكثر ثم قتله بعد رميته أكل ما لم يبن منه ولم يؤكل ما بان وفيه الحياة ولو مات من القطع الأول أكلهما جميعا قال أبو بكر حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال حدثنا هاشم بن القاسم قال حدثنا عبد الرحمن بن دينار عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي واقد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة وهذا إنما يتناول قطع القليل منه من غير موضع الذكاة وذلك لأنه لا خلاف أنه لو ضرب عنق الصيد فأبان رأسه كان الجميع مذكى فثبت بذلك أن المراد ما بان منها من غير موضع الذكاة وذلك إنما يتناول الأقل منه لأنه إذا قطع النصف أو الثلث الذي يلي الرأس فإنه يقطع العروق التي يحتاج إلى قطعها للذكاة وهي الأوداج والحلقوم والمرئ فيكون الجميع مذكى وإذا قطع الثلث مما يلي الذنب فإنه لا يصادف قطع العروق التي يحتاج إليها في شرط الذكاة فيكون ما بان منه ميتة لقوله صلى الله عليه وسلم ما بان من البهيمة وهي
[ 391 ]
حية ميتة وذلك لأنه لا محالة إنما يحدث الموت بعد القطع فقد بان ذلك العضو منها وهي حية فهو ميتة وما يلي الرأس كله مذكى كما لو قطع رجلها أو جرحها في غير موضع الذكاة ولم يبن منها شيئا فيكون ذلك ذكاة لها لتعذر قطع موضع الذكاة فصل وأما الدين فأن يكون الرامي أو المصطاد مسلما أو كتابيا وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى وأما التسمية فهي أن يذكر اسم الله تعالى عند الذبح أو عند الرمي أو إرسال الجوارح والكلب إذا كان ذاكرا فإن كان ناسيا لم يضره ترك التسمية وسيأتي الكلام فيه في موضعه إن شاء الله تعالى مطلب: في الفرق بين الصنم والنصب وأما قوله تعالى ذبح على النصب فإنه روي عن مجاهد وقتادة وابن جريج أن النصب أحجار منصوبة كانوا يعبدونها ويقربون الذبائح لها فنهى الله عن أكل ما ذبح على النصب لأنه مما أهل به لغير الله والفرق بين النصب والصنم أن الصنم يصور وينقش وليس كذلك النصب لأ النصب حجارة منصوبة والوثن كالنصب سواء ويدل على أن الوثن اسم يقع على ما ليس بمصور وإن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم حين جاؤه وفي عنقه صليب ألق هذا الوثن من عنقك فسمى الصليب وثنا فدل ذلك على أن النصب والوثن اسم لما نصب للعبادة وإن لم يكن مصورا ولا منقوشا وهذه ذبائح قد كان أهل الجاهلية يأكلونها فحرمها الله تعالى مع ما حرم من الميتة ولحم الخنزير وما ذكر في الآية مما كان المشركون يستبيحونه وقد قيل إنها المرادة بالاستثناء المذكور في قوله تعالى لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم) قوله تعالى تستقسموا بالأزلام قيل في الاستقسام وجهان أحدهما طلب علم ما قسم له بالأزلام والثاني إلزام أنفسهم بما تأمرهم به القداح كقسم اليمين والاستقسام بالأزلام أن أهل الجاهلية كانوا إذا أراد أحدهم سفرا أو غزوا أو تجارة أو غير ذلك من الحاجات أجال القداح وهي الأزلام وهي على ثلاثة أضرب منها ما كتب عليه: " أمرني ربي عليه نهاني ربي ومنها غفل لا كتابة عليه يسمى المنيح فإذا خرج أمرني ربي مضى في الحاجة وإذا خرج نهاني ربي قعد عنها وإذا خرج الغفل أجالها ثانية قال الحسن كانوا يعمدون إلى ثلاثة قداح نحو ما وصفنا وكذلك قال سائر أهل العلم بالتأويل وواحد الأزلام زلم وهي القداح فحظر الله تعالى ذلك وكان من فعل أهل الجاهلية وجعله فسقا بقوله فسق وهذا
[ 392 ]
يدل على بطلان القرعة في عتق العبيد لأنها في معنى ذلك بعينه إذ كان فيه اتباع ما أخرجته القرعة من غير استحقاق لأن من أعتق عبديه أو عبيدا له عند موته ولم يخرجوا من الثلث فقد علمنا أنهم متساوون في استحقاق الحرية ففي استعمال القرعة إثبات حرية غير مستحقة وحرمان من هو مساو له فيها كما يتبع صاحب الأزلام ما يخرجه الأمر والنهي لا سبب له غيره فإن قيل قد جازت القرعة في قسمة الغنائم وغيرها وفي إخراج النساء قيل له إنما القرعة فيها لتطييب نفوسهم وبراءة للتهمة من إيثار بعضهم بها ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة وأما الحرية الواقعة كما على واحد منهم فغير جائز نقلها عنه إلى غيره وفي استعمال القرعة نقل الحرية عمن وقعت عليه وإخراجه منها مع مساواته لغيره فيها قوله عز وجل يئس الذين كفروا من دينكم قال ابن عباس والسدي يئسوا أن ترتدوا راجعين إلى دينهم وقد اختلف في اليوم فقال مجاهد هو يوم عرفة عام حجة الوداع فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم عن ابن جريج وقال الحسن ذلك اليوم يعني به اليوم أكملت لكم دينكم وهو زمان النبي صلى الله عليه وسلم كله قال ابن عباس نزلت يوم عرفة وكان يوم الجمعة قال أبو بكر اسم اليوم يطلق على الزمان كقوله ومن يولهم يومئذ دبره إنما عنى به وقتا منهما قوله تعالى فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الاضطرار هو الضر الذي يصيب الإنسان من جوع أو غيره ولا يمكنه الامتناع منه والمعنى ههنا من إصابة ضر الجوع وهذا يدل على إباحة ذلك عند الخوف على نفسه أو على بعض أعضائه وقد بين ذلك في قوله تعالى في مخمصة قال ابن عباس والسدي وقتادة المخمصة المجاعة فأباح الله عند الضرورة أكل جميع ما نص على تحريمه في الآية ولم يمنع ما عرض من قوله اليوم أكملت لكم دينكم مع ما ذكر معه من عود التخصيص إلى ما تقدم ذكره من المحرمات فالذي تضمنه الخطاب في أول السورة في قوله أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم فيه بيان إباحة الصيد في حال الإحلال وغير داخل هو في قوله أحلت لكم بهيمة الأنعام ثم بين ما حرم علينا في قوله حرمت عليكم الميتة إلى آخر ما ذكر ثم خص من ذلك حال الضرورة وأبان أنها غير داخلة في التحريم وذلك عام في الصيد في حال الإحرام وفي جميع المحرمات فمتى اضطر إلى شئ منها حل له أكله بمقتضى الآية
[ 393 ]
وقوله تعالى غير متجانف لإثم قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد والسدي غير معتمد عليه فكأنه قال غير معتمد بهواه إثم وذلك بأن يتناول منه بعد زوال الضرورة مطلب: اسم الطيبات يطلق على الحلال وعلى المستلذ وقوله عز وجل يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات اسم الطيبات يتناول معنيين أحدهما الطيب المستلذ والآخر الحلال وذلك لأن ضد الطيب هو الخبيث والخبيث حرام فإذا الطيب حلال والأصل فيه الاستلذاذ فشبه الحلال به في انتفاء المضرة منهما جميعا وقال تعالى يا أيها الرسل كلوا من الطيبات [ المؤمنون: 51 ] يعني الحلال وقال ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث [ الاعراف: 157 ] فجعل الطيبات في مقابلة الخبائث والخبائث هي المحرمات وقال تعالى (فانكحوا ما طاب لكم من النساء وهو يحتمل ما حل لكم ويحتمل ما استطبتموه مطلب: يحتج بظاهر هذه الاية في إباحة جميع المستلذات إلا ما خصه الدليل فقوله قل أحل لكم الطيبات جائز أن يريد به ما استطبتموه واستلذتموه وسلم مما لا ضرر عليكم في تناوله من طريق الدين فيرجع ذلك إلى معنى الحلال الذي لا تبعة على متناوله وجائز أن يحتج بظاهره في إباحة جميع الأشياء المستلذة إلا ما خصه الدليل مطلب: في أمره عليه السلام أبا رافع بقتل الكلاب قوله تعالى وما علمتم من الجوارح حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا يعقوب بن غيلان العماني قال حدثنا هناد بن السري قال حدثنا يحيى بن زكريا قال حدثنا إبراهيم بن عبيد قال حدثني أبان بن صالح عن القعقاع بن حكيم عن سلمى عن أبي رافع قال أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقتل الكلاب فقال الناس يا رسول الله ما أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها فأنزل الله أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح الآية حدثنا عبد الباقي قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل وابن عبدوس بن كامل قالا حدثنا عبيدالله بن عمر الجشمي قال حدثنا أبو معشر النواء قال حدثنا عمرو بن بشير قال حدثنا عامر الشعبي عن عدي بن حاتم قال لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد الكلاب لم يدر ما يقول لي حتى نزلت وما علمتم من الجوارح
[ 394 ]
مكلبين قال أبو بكر قد اقتضى ظاهر هذا الحديث الأول أن تكون الإباحة تناولت ما علمنا من الجوارح وهو ينتظم الكلب وسائر جوارح الطير وذلك يوجب إباحة سائر وجوه الانتفاع بها فدل على جواز بيع الكلب والجوراح عنه والانتفاع بها بسائر وجوه الانتفاع إلا ما خصه الدليل وهو الأكل ومن الناس من يجعل في الكلام حذفا فجعله بمنزلة قل أحل لكم الطيبات من صيد ما علمتم من الجوارح ويستدل عليه بحديث عدي بن حاتم الذي ذكرناه حين سأله عن صيد الكلاب فأنزل الله تعالى علمتم من الجوارح مكلبين وحديث أبي رافع فيه أنه سئل عما أحل من الكلاب اتلي أمروا بقتلها فأنزل الله تعالى الآية وليس يمتنع أن تكون الآية منتظمة لإباحة الانتفاع بالكلاب وبصيدها إن جميعا وحقيقة اللفظ تقتضي الكلاب أنفسها لأن قوله وما علمتم يوجب إباحة ما علمنا وإضمار الصيد فيه يحتاج إلى دلالة وفي فحوى الآية دليل على إباحة صيدها أيضا وهو قوله فكلوا مما أمسكن عليكم فحمل الآية على المعنيين واستعمالها فيهما على الفائدتين أولى من الاقتصار على أحدهما وقد دلت الآية أيضا على أن شرط إباحة الجوارح أن تكون متعلمة لقوله وما علمتم من الجوارح وقوله تعلمونهن مما علمكم الله) وأما الجوارح فإنه قد قيل إنها الكواسب للصيد على أهلها وهي الكلاب وسباع الطير التي يصاد بها غيرها وأحدها جارح ومنه سميت الجارحة لأنه يكسب بها قال الله تعالى ما جرحتم بالنهار يعني ما كسبتم ومنه أم حسب الذين اجترحوا السيئات وذلك يدل على جواز الاصطياد بكل ما علم الاصطياد من سائر ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير وقيل في الجوارح أنها ما تجرح بناب أو مخلب قال محمد في الزيادات إذا صدم الكلب الصيد ولم يجرحه فمات لم يؤكل لأنه لم يجرحه بناب أو مخلب ألا ترى إلى قوله تعالى وما علمتم من الجوارح مكلبين فإنما يحل صيد ما يجرح بناب أو مخلب وإذا كان الاسم يقع عليهما فليس يمتنع أن يكونا مرادين باللفظ فيريد بالكواسب ما يكسب بالاصطياد فيفيد الأصناف التي يصطاد بها من الكلاب والفهود وسباع الطير وجميع ما يقبل التعليم ويفيد مع ذلك في شرط الذكاة وقوع الجراحة بالمقتول من الصيد وأن ذلك شرط ذكاته ويدل أيضا على أن الجراحة مرادة حديث النبي صلى الله عليه وسلم في المعراض أنه إن خزق بحده فكل وإن أصاب بعرضه فلا تأكل ومتى وجدنا للنبي صلى الله عليه وسلم حكما يواطئ معنى ما في القرآن وجب حمل مراد القرآن عليه وأن ذلك مما أراد الله تعالى به وقوله تعالى مكلبين قد قيل فيه وجهان أحدهما أن المكلب هو صاحب
[ 395 ]
الكلب الذي يعلمه الصيد ويؤدبه وقيل معناه مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب والتكليب هو التضرية يقال كلب كلب إذا ضرى بالناس وليس في قوله مكلبين تخصيص للكلاب دون غيرها من الجوارح إذ كانت التضرية عامة فيهن وكذلك إن أراد به تأديب الكلب وتعليمه كان ذلك عموما في سائر الجوارح وقد اختلف السلف فيما قتلته الجوارح غير الكلاب فروى مروان العمري عن نافع عن علي بن الحسين قال الصقر والبازي من الجوارح مكلبين وروى معمر عن ليث قال سئل مجاهد عن البازي والفهد وما يصاد به من السباع فقال هذه كلها جوارح وروى ابن جريج عن مجاهد في قوله تعالى من الجوارح مكلبين قال الطير والكلاب وروى معمر عن ابن طاوس عن أبيه ما علمتم من الجوارح مكلبين) قال: " الجوارح الكلاب وما تعلم من البزاة والفهود ". وروى أشعث ععن الحسن: (وما علمتم من الجوارح مكلبين قال الصقر والبازي والفهد بمنزلة الكلب وروى صخر بن جويرية عن نافع قال وجدت في كتاب لعلي بن أبي طالب قال لا يصلح أكل ما قتلته البزاة وروى ابن جريج عن نافع قال قال عبد الله فأما ما صاد من الطير البزاة وغيرها فما أدركت ذكاته فذكيته فهو لك وإلا فلا تطعمه وروى سلمة بن علقمة عن نافع أن عليا كره ما قتلت الصقور وروى أبو بشر عن مجاهد أنه كان يكره صيد الطير ويقول إنما هي الكلاب قال أبو بكر فتأول بعضهم قوله مكلبين على الكلاب خاصة وتأوله بعضهم على الكلاب وغيرها ومعلوم أن قوله تعالى علمتم من الجوارح شامل للطير والكلاب ثم قوله مكلبين محتمل أن يريد به جميع ما تقدم ذكره من الجوارح والكلاب منها ويكون قوله مكلبين بمعنى مؤدبين أو مضرين ولا يخصص ذلك بالكلاب دون غيرها فوجب حمله على العموم وأن لا يخصص بالاحتمال ولا نعلم خلافا بين فقهاء الأمصار في إباحة صيد الطير وإن قتل وأنه كصيد الكلب قال أصحابنا ومالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي ما علمت من كل ذي مخلب من الطير وذي ناب من السباع فإنه يجوز صيده وظاهر الآية يشهد لهذه المقابلة لأنه أباح صيد الجوارح وهو مشتمل على جميع ما يجري بناب أو بمخلب وعلى ما يكسب على أهله بالاصطياد لم يفرق فيه بين الكلب وبين غيره وقوله تعالى وما علمتم من الجوارح مكلبين يدل على أن شرط إباحة صيد هذه الجوارح أن تكون معلمة وأنها إذا لم تكن معلمة لم يكن مذكى وذلك لأن الخطاب خرج على سؤال السائلين عما يحمل من الصيد فأطلقلهم إباحة صيد الجوارح المعلمة
[ 396 ]
وذلك شامل لجميع ما شملته الإباحة وانتظمه الإطلاق لأن السؤال وقع عن جميع ما يحل لهم من الصيد فخص الجواب بالأوصاف المذكورة فلا تجوز استباحة شئ منه إلا على الوصف المذكور ثم قال تعالى مما علمكم الله فروي عن سليمان وسعد أن تعليمه أن يضرى على الصيد ويعود إلى إلف صاحبه حتى يرجع إليه ولا يهرب عنه وكذلك قال ابن عمر وسعيد بن المسيب ولم يشرطوا فيه ترك الأكل وروي عن غيرهما أن ذلك من تعليم الكلب وأن من شرط إباحة صيده أن لا يأكل منه فإن أكل منه لم يؤكل وهو قول ابن عباس وعدي بن حاتم وأبي هريرة وقالوا جميعا في صيد البازي أنه يؤكل منه وإنما تعليمه أن تدعوه فيجيبك ذكر اختلاف الفقهاء في ذلك مطلب: لا يؤكل صيد الكلب المعلم إذا أكل منه ويؤكل صيد البازي وإن أكل منه قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر إذا أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم لا يؤكل صيده ويؤكل صيد البازي وإن أكل وهو قول الثوري وقال مالك والأوزاعي والليث يؤكل وإن أكل الكلب منه وقال الشافعي لا يؤكل إذا أكل الكلب منه والبازي مثله في القياس قال أبو بكر اتفق السلف المجيزون لصيد الجوارح من سباع الطير أن صيدها يؤكل وإن أكلت منه منهم سعد وابن عباس وسلمان وابن عمر وأبو هريرة وسعيد بن المسيب وإنما اختلفوا في صيد الكلب فقال علي بن أبي طالب وابن عباس وعدي بن حاتم وأبو هريرة وسعيد بن جبير وإبراهيم لا يؤكل صيد الكلب إذا أكل منه وقال سلمان وسعد وابن عمر يؤكل صديه وإن لم يبق منه إلا ثلثه وهو قول الحسن وعبيد بن عمير وإحدى الروايتين عن أبي هريرة وعطاء وسليمان بن يسار وابن شهاب قال أبو بكر معلوم من حال الكلب قبوله للتأديب في ترك الأكل فجائز أن يعلم تركه ويكون تركه للأكل علما للتعليم ودلالة عليه فيكون تركه للأكل من شرائط صحة ذكاته ووجود الأكل مانع من صحة ذكاته وأما البازي فإنه معلوم أنه لا يمكن تعليمه بترك الأكل وأنه لا يقبل التعليم من هذه الجهة فإذ كان الله قد أباح صيد جميع الجوارح على شرط التعليم فغير جائز أن يكون من شرط التعليم للبازي تركه الأكل إذ لا سبيل إلى تعليمه ذلك ولا يجوز أن يكلفه الله تعليم ما لا يصح منه التعلم وقبول التأديب فثبت أن ترك الأكل ليس من شرائط تعلم البازي وجوارح الطير وكان ذلك من شرائط تعلم الكلب لأنه يقبله ويمكن تأديبه به ويشبه أن يكون ما روي عن علي بن أبي طالب وغيره في حظر ما قتله البازي من حيث كان عندهم أن من شرط التعليم ترك
[ 397 ]
الأكل وذلك غير ممكن في الطير فلم يكن معلما فلا يكون ما قتله مذكى إلا أن ذلك يؤدي إلى أن لا تكون لذكر التعليم في الجوارح من الطير فائدة إذ كان صيدها غير مذكى وأن يكون المعلم وغير المعلم فيه سواء وذلك غير جائز لأن الله تعالى قد عمم الجوارح كلها وشرط تعليمها ولم يفرق بين الكلب وبين الطير فوجب استعمال عموم اللفظ فيها كلها فيكون من جوارح الطير ما يكون معلما وكذلك من الكلاب وإن اختلفت وجوه تعليمها فيكون من تعليم الكلاب ونحوها ترك الأكل ومن تعليم جوارح الطير أن يجيبه إذا دعاه ويألفه ولا ينفر عنه حتى يكون التعليم عاما في جميع ما ذكر في الآية ومن الدليل على أن من شرائط ذكاة صيد الكلب ونحوه ترك الأكل قول الله تعالى مما أمسكن عليكم يظهر الفرق بين إمساكه على نفسه وبين إمساكه علينا إلا بترك الأكل ولو لم يكن ترك الأكل مشروطا لزالت فائدة قوله مما أمسكن عليكم فلما كان ترك الأكل علما لإمساكه علينا وكان الله إنما أباح لنا أكل صيدها بهذه الشريطة وجب أن يكون ما أمسكه على نفسه محظورا فإن قيل فقد يأكل البازي منه ويكون مع الكل ممسكا علينا قيل له الإمساك علينا إنما هو مشروط في الكب ونحوه فأما الطير فلم يشرط فيه أن يمسكه علينا لما قدمناه بديا ويدل على أن إمساك الكلب علينا أن لا يأكل منه وأنه متى أكل منه كان ممسكا على نفسه وما روي عن ابن عباس أنه قال إذا أكل منه الكلب فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه فأخبر أن الإمساك علينا تركه للأكل فإذا كان اسم الإمساك يتناول ما ذكره ولو لم يتناوله لم يتأوله عليه وجب حمل الآية عليه من حيث صار ذلك اسما له وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أيضا فثبتت حجته من وجهين أحدهما بيان معنى الآية والمراد بها والثاني نص السنة في تحريم ذلك حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثني الحميدي قال حدثنا سفيان قال حدثنا مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد الكلب المعلم فقال إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل مما أمسك عليك فإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا شعبة عن عبد الله بن ابي السفر عن الشعبي قال قال عدي بن حاتم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعراض فقال إذا أصاب بحده فكل وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ قلت أرسل كلبي قال إذا سميت فكل وإلا فلا تأكل وإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه وقال أرسل كلبي فأجد عليه كلبا آخر قال لا
[ 398 ]
تأكل لأنك إنما سميت على كلبك فثبت بهذا الخبر مراد الله تعالى بقوله مما أمسكن عليكم ونص النبي صلى الله عليه وسلم على النهي عن أكل ما أكل منه الكلب فإن قيل قد روى حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ثعلبة الخشني فكل مما أمسك عليك الكلب قال فإن أكل منه قال وإن أكل منه قيل له هذا اللفظ غلط في حديث أبي ثعلبة وذلك لأن حديث أبي ثعلبة قد رواه عنه أبو إدريس الخولاني وأبو أسماء وغيرهم فلم يذكر فيه هذا اللفظ وعلى أنه لو ثبت في حديث أبي ثعلبة كان حديث عدي بن حاتم أولى من وجهين أحدهما من موافقته لظاهر الآية في قوله مما أمسكن عليكم) والثاني ما فيه من حظر ما أكل منه الكلب ومتى ورد خبران في أحدهما حظر شئ وفي الآخر إباحته فخبر الحظر أولاهما بالاستعمال مطلب: متى ورد خبران في حظر شئ وفي إباحته فالحاظر أولى فإن قيل في معنى قوله مما أمسكن عليكم أن يحبسه علينا بعد قتله له فهذا هو إمساكه علينا فيقال له هذا غلط لأنه قد صار محبوسا بالقتل فلا يحتاج الكلب إلى أن يحبسه علينا بعد قتله فهذا لا معنى له فإن قيل قتله هو حبسه علينا قيل له هذا أيضا لا معنى له لأنه يصير تقديره الآية على هذا فكلوا مما قتلن عليكم وهذا يسقط فائدة الآية لأن إباحة ما قتلته قد تضمنته الآية قبل ذلك في قوله تعالى علمتم من الجوارح وهو يعني صيد ما علمنا من الجوارح جوابا لسؤال من سأل عن المباح منه وعلى أن الإمساك ليس بعبارة عن القتل لأنه قد يمسكه علينا وهو حي غير مقتول فليس إمساكه علينا إذا إلا أن يحبسه حتى يجئ صاحبه ولا يخلو الإمساك علينا من أن يكون حبسه إياه علينا من غير قتل أو حبسه علينا بعد قتله أو تركه للأكل منه بعد قتله ومعلوم أنه لم يرد به حبسه علينا وهو حي غير مقتول لاتفاق الجميع على أن ذلك غير مراد وإن حبسه علينا حيا ليس بشرط في إباحة أكله لأنه لو كان كذلك لكان لا يحل أكل ما قتله ولا يجوز أيضا أن يكون المراد حبسه علينا بعد وإن أكل منه لأن ذلك لا معنى له لأن الله تعالى جعل إمساكه علينا شرطا في الإباحة ولا خلاف أنه لو قتله ثم تركه وانصرف عنه ولم يحبسه علينا أنه يجوز أكله فعلمنا أن ذلك غير مراد فثبت أن المراد تركه الأكل فإن قيل قوله مما أمسكن عليكم يقتضي إباحة ما بقي من الصيد بعد أكله لأنه قد أمسكه علينا إذا لم يأكله وإنما لم يمسك علينا المأكول منه دون ما بقي
[ 399 ]
منه فقد اقتضى ظاهر الآية إباحة أكل الباقي إذ هو ممسك علينا قيل له هذا غلط من وجوه أحدها أن من روي عنه معنى الإمساك من السلف قالوا فيه قولين أحدهما أن لا يأكل منه وهو قول ابن عباس وقول من قال حبسه علينا بعد القتل ولم يقل أحد منهم إن ترك أكل الباقي منه بعد ما أكل هو إمساك فبطل هذا القول والثاني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه فلم يجعله ممسكا علينا ما بقي منه إذا كان قد أكل منه شيئا والثالث أنه يصير في معنى قوله فكلوا مما قتله من غير ذكر إمساك إذ معلوم أن ما قد أكله لا يجوز أن يتناوله الحظر فيؤدي ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر إمساكه علينا وأيضا فإنه إذا أكل منه فقد علمنا أنه إنما اصطاد لنفسه وأمسكه عليها ولم يمسكه علينا باصطياد وتركه أكل بعضه بعد ما أكل منه ما أكل لا يكسبه في الباقي حكم الإمساك علينا لأنه لا يجوز أن يترك أكل الباقي لأنه قد شبع ولم يحتج إليه لا لأنه أمسكه علينا وفي أكله منه بديا دلالة على أنه لم يمسكه علينا باصطياده وهذا الذي يجب علينا اعتباره في صحة التعليم وهو أن يعلم أنه ينبغي أن يصطاده لنا ويمسكه علينا فإذا أكل منه علمنا أنه لم يبلغ حد التعليم فإن قيل الكلب إنما يصطاد ويمسك لنفسه لا لصاحبه ألا ترى أنه لو كان شبعان حين أرسل لم يصطد وهو إنما يضرى على الصيد بأن يطعم منه فليس إذا في أكله منه نفي التعليم والإمساك علينا ولو اعتبر ما ذكرتم فيه لاحتجنا إلى اعتبار نية الكلب وضميره وذلك مما لا نعلمه ولا نقف عليه بل لا نشك أن نيته وقصده لنفسه قيل له أما قولك أنه يصطاد ويمسك لنفسه فليس كذلك لأنه لو كان كذلك لما ضرب حتى يترك الأكل ولما تعلم ذلك إذا علم فلما كان إذا علم ترك الأكل تعلم ذلك ولم يأكل منه علمنا أنه متى ترك الأكل فهو ممسك له علينا معلم لما شرط الله تعالى من تعليمه فهو حينئذ مصطاد إلا لصاحبه ممسك عليه وقولك إنه لو كان يصطاد لصاحبه لكان يصطاد في حال الشبع فهو يصطاد في حال الشبع لصاحبه ويمسكه عليه إذا أرسله صاحبه وهو إذا كان معلما لم يمتنع من الاصطياد إذا أرسله وأما قولك أنه يضرى على الصيد بانه يطعم منه فإنه إنما يطعمه منه بعد إمساكه على صاحبه وأما ضمير الكلب ونيته فإن الكلب يعلم ما يراد منه بالتعليم فينتهي إليه كما يعرف الفرس ما يراد منه بالزجر ورفع السوط ونحوه والذي يعلم به ذلك من الكلب تركه للأكل ومتى أكل منه فقد علم منه أنه قصد بذلك إمساكه على نفسه دون صاحبه ومما يدل على ما ذكرنا وأن تعليم الكلب إنما يكون بتركه الأكل أنه معلوم أنه ألوف غير مستوحش فلا يجوز أن يكون تعليمه ليتألف ولا يستوحش فوجب أن يكون بتركه الأكل والبازي من جوارح الطير هو
[ 400 ]
مستوحش في الأصل ولا يجوز أن يكون تعليمه بأن يضرب ليترك الأكل فثبت أن تعليمه بألفه لصاحبه وزوال الوحشة منه بأن يدعوه فيجيبه فيزول بذلك عن طبعه الأول ويكون ذلك علما لتعليمه وقوله تعالى فكلوا مما أمسكن عليكم قيل فيه أن من دخلت للتبعيض ويكون معنى التبعيض فيه أن بعض ما يمسكه عليه مباح دون جميعه وهو الذي يجرحه فيقتله دون ما يقتله بصدمه من غير جراحة وقال بعضهم أن من ههنا زائدة للتأكيد كقوله تعالى عنكم من سيئاتكم وقال بعض النحويين هذا خطأ لأنها لا تزاد في الموجب وإنما تزاد في النفي والاستفهام وقوله تعالى (يكفر عنكم من سيئاتكم ابتداء الغاية أي يكفر عنكم أعمالكم التي تحبون سترها عليكم من سيئاتكم قال ويجوز أن يكون بمعنى يكفر عنكم من السيئات ما يجوز تكفيره في الحكمة دون مالا يجوز لأنه خطاب عام لسائر المكلفين مطلب: لا حظ للاجتهاد مع اليقين وقال أبو حنيفة في الكلب إذا أكل من الصيد وقد صاد قبل ذلك صيدا ولم يأكل منه أن جميع ما تقدم حرام لأنه قد تبين حين أكل أنه لم يكن معلما وقد كان الحكم بتعليمه بديا حين ترك الأكل من طريق الاجتهاد وغالب الظن والحكم بنفي التعليم عند الأكل من طريق اليقين ولا حظ للاجتهاد مع اليقين وقد يترك الأكل بديا وهو غير معلم كما يترك سائر السباع فرائسها عند الاصطياد ولا يأكلها ساعة الاصطياد فإنما يحكم إذا كثر منه ترك الأكل التعليم من جهة غالب الظن فإذا أكل منه بعد ذلك حصل اليقين بنفي التعليم فيحرم ما قد اصطاده قبل ذلك وقال أبو يوسف ومحمد إذا ترك الأكل ثلاث مرات فهو معلم فإن أكل بعد ذلك لم يحرم ما تقدم من صيده لأنه جائز أن يكون قد نسي التعليم فلم يحرم ما قد حكم بإباحته بالاحتمال وينبغي أن يكون مذهب أبي حنيفة محمولا على أنه أكل في مدة لا يكاد ينسى فيها فإن تطاولت المدة في الاصطياد ثم اصطاد فأكل منه وفي مثل تلك المدة يجوز أن ينسى فإنه ينبغي أن لا يحرم ما تقدم ويكون موضع الخلاف بينه وبين أبي يوسف ومحمد أنهما يعتبران في شرط التعليم ترك الأكل ثلاث مرات وأبو حنيفة لا يحده وإنما يعتبر ما يغلب في الظن من حصول التعليم فإذا غلب في الظن أنه معلم بترك الأكل ثم أرسل مع قرب المدة فأكل منه فهو محكوم بأنه غير معلم فيما ترك أكله وإن تطاولت المدة بإرساله بعد ترك الأكل حتى يظن في مثلها نسيان التعليم لم يحرم ما
[ 401 ]
تقدم وأبو يوسف ومحمد يقولان إذا ترك الأكل ثلاث مرات ثم اصطاده فأكل في مدة قريبة أو بعيدة لم يحرم ما تقدم من صيده فيظهر موضع الخلاف بينهم ههنا قوله تعالى اسم الله عليه قال ابن عباس والحسن والسدي يعني على إرسال الجوارح قال أبو بكر قوله اسم الله عليه ثم يقتضي الإيجاب ويحتمل أن يرجع إلى الأكل المذكور في قوله فكلوا مما أمسكن عليكم) ويحتمل أن يعود إلى الإرسال لأن قوله وما علمتممن الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله قد تضمن إرسال الجوارح المعلمة على الصيد فجائز عود الأمر بالتسمية إليه ولو احتماله لذلك لما تأوله السلف عليه وإذا كان ذلك كذلك وقد تضمن الأمر بالذكر إيجابه واتفقوا أن الذكر غير واجب على الكل فوجب استعمال حكمه على الإرسال إذ كان مختلفا فيه وإذا كانت التسمية واجبة على الإرسال صارت من شرائط الذكاة كتعليم الجوارح وكون المرسل ممن تصح ذكاته وإسالة دم الصيد بما يجرح وله حد فإذا تركها لم تصح ذكاته كما لا تصح ذكاته مع ترك ما ذكرنا من شرائط الذكاة والذي تقتضيه الآية فساد الذكاة عند ترك التسمية عامدا وذلك لأن الأمر لا يتناول الناسي إذ لا يصح خطابه فلذلك قال أصحابنا إن ترك التسمية ناسيا لا يمنع صحة الذكاة إذ هو غير مكلف بها في حال النسيان وسنذكر إيجاب التسمية على الذبيحة عند قوله تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه انتهينا إليه إن شاء الله وقد روي في التسمية على إرسال الكلب ما حدثنا محمد بن بكر قال أبو داود قال حدثنا محمد بن كثير قال حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي قال قال عدي بن حاتم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أرسل كلبي قال إذا سميت فكل وإلا فلا تأكل وإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه وقال أرسل كلبي فأجد عليه كلبا آخر قال لا تأكل لأنك إنما سميت على كلبك فنهاه عن أكل ما لم يسم عليه وما شاركه كلب آخر لم يسم عليه فدل على أن من شرائط ذكاة الصيد التسمية على الإرسال وهذا يدل أيضا على أن حال الإرسال بمنزلة حال الذبح في وجوب التسمية عليه وقد اختلف الفقهاء في أشياء من أمر الصيد منها الاصطياد بكلب المجوسي فقال أصحابنا ومالك والأوزاعي والشافعي لا بأس بالاصطياد بكلب المجوسي إذا كان معلما وإن كان الذي عمله مجوسيا بعد أن يكون الذي أرسله مسلما وقال الثوري أكره الاصطياد بكلب المجوسي إلا أن يأخذه من تعليم المسلم قال أبو بكر ظاهر
[ 402 ]
قوله تعالى مما أمسكن عليكم يقتضي جواز صديه وإباحة أكله ولم يفرق بين أن يكون مالكه مسلما أو مجوسيا وأيضا فإن الكلب آلة كالسكين يذبح بها والقوس يرمى عنها فواجب أن لا يختلف حكم الكلب لمن كان كسائر الآلات التي يصطاد بها وأيضا فلا اعتبار بالكلب وإنما الاعتبار بالمرسل ألا ترى أن مجوسيا لو اصطاد بكلب مسلم لم يجز أكله وكذلك اصطياد المسلم بكلب المجوسي ينبغي أن يحل أكله فإن قيل قال الله تعالى ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله ومعلوم أن ذلك خطاب للمؤمنين فواجب أن يكون تعليم المسلم شرطا في الإباحة قيل له لا يخلو تعليم المجوسي من أن يكون مثل تعليم المسلم المشروط في إباحة الذكاة أو مقصرا عنه فإن كان مثله فلا اعتبار بالمعلم وإنما الاعتبار بحصول التعليم ألا ترى أنه لو ملكه مسلم وهو معلم كتعليم المسلم جاز أكل ما صاده فإذا لا اعتبار بالملك وإنما الاعتبار بالتعليم وإن كان تعليم المجوسي مقصرا عن تعليم المسلم حتى يخل عند الاصطياد ببعض شرائط الذكاة فهذا كلب غير معلم ولا يختلف حينئذ حكم ملك المجوسي والمسلم في حظر ما يصطاده وأما قوله مما علمكم الله فإنه وإن كان خطابا للمسلمين فالمقصد فيه حصول التعليم للكلب فإذا علمه المجوسي كتعليم المسلم فقد وجد المعنى المشروط فلا اعتبار بعد ذلك بملك المجوسي واختلفوا في الصيد يدركه حيا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد فيمن يدرك صيد الكلب أو السهم فيحصل في يده حيا ثم يموت فإنه لا يؤكل وإن لم يقدر على ذبحه حتى مات وقال مالك والشافعي إن لم يقدر على ذبحه حتى مات أكل وإن مات في يده وإن قدر على ذبحه فلم يذبحه لم يؤكل وإن لم يحصل في يده وقال الثوري إن قدر أن يأخذه من الكلب فيذبحه فلم يفعل لم يؤكل وقال الأوزاعي إذا أمكنه أن يذكيه ولم يفعل لم يؤكل وإن لم يمكنه حتى مات بعد ما صار في يده أكل وقال الليث إن أدركه في في الكلب فأخرج سكينة من خفه أو منطقته ليذبحه فمات أكله وإن ذهب ليخرج السكين من خرجه فمات قبل أن يذبحه لم يأكله قال أبو بكر إذا حصل في يده حيا فلا اعتبار بإمكان ذبحه أو تعذره في أن شرط ذكاته الذبح وذلك لأن الكلب إنما حل صيده لامتناع الصيد وتعذر الوصول إليه إلا من هذه الجهة فإذا حصل في يده حيا فقد زال المعنى الذي من أجله أبيح صيده صار بمنزلة سائر البهائم التي يخاف عليها الموت فلا تكون ذكاته إلا بالذبح سواء مات في وقت لا يقدر على ذبحه أو قدر عليه والمعنى فيه كونه حيا
[ 403 ]
فإن قيل إنما لم تكن ذكاة سائر البهائم إلا بالذبح لأن ذبحها قد كان مقدورا عليه ولو مات حتف أنفها لم يكن ذلك ذكاة وجراحة الكلب والسهم قد كانت تكون ذكاة للصيد لو لم يحصل في يده حتى مات فإذا صار في يده ولم يبق من حياته بمقدار ما يدرك ذكاته فهو مذكى بجراحة الكلب وهو بمنزلة ما لو صار في يده بعد الموت قيل له هذا على وجهين أحدهما أن يكون الكلب قد جرحه جراحة لا يعاش من مثلها إلا مثل حياة المذبوح وذلك بأن قد قطع أوداجه أو شق جوفه فأخرج حشوته فإذا كان ذلك كذلك كانت جراحته ذكاة له سواء أمكن بعد ذلك ذبحه أو لم يمكن فهذا الذي تكون جراحة الكلب ذكاة له وأما الوجه الآخر فهو أن يعيش من مثلها إلا أنه اتفق موته بعد وقوعه في يده في وقت لم يكن يقدر على ذبحه فهذا لا يكون مذكى لأن تلك الجراحة قد كانت مراعاة على حدوث الموت قبل حصوله في يده وإمكان ذكاته فإذا صار في يده حيا بطل حكم الجراحة وصار بمنزلة سائر البهائم التي يصيبها جراحات غير مذكية فيه لها مثل المتردية والنطيحة وغيرهما فلا يكون ذكاته إلا بالذبح واختلفوا في الصيد يغيب عن صاحبه فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر إذا توارى عنه الصيد والكلب وهو في طلبه فوجده قد قتله جاز أكله وإن ترك الطلب واشتغل بعمل غيره ثم ذهب في طلبه فوجده مقتولا والكلب عنده كرهنا أكله وكذلك قالوا في السهم إذا رماه به فغاب عنه وقال مالك إذا أدركه من يومه أكله في الكلب والسهم جميعا وإن كان ميتا إذا كان فيه أثر جراحة وإن بات عنه لم يأكله وقال الثوري إذا رماه فغاب عنه يوما أو ليلة كرهت أكله وقال الأوزاعي إن وجده من الغد ميتا ووجد فيه سهمه أو أثرا في أكله وقال الشافعي القياس أن لا يأكله إذا غاب عنه قال أبو بكر روي عن ابن عباس أنه قال كل ما أصميت ودع ما أنميت وفي خبر آخر عنه وما غاب عنك ليلة فلا تأكله والإصماء ما أدركه من ساعته والإنماء ما غاب عنه وروى الثوري عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن أبي رزين عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصيد إذا غاب عنك مصرعه كرهه وذكر هوام الأرض وأبو رزين هذا ليس بأبي رزين العقيلي صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو أبو رزين مولى أبي وائل ويدل على أنه إذا تراخى عن طلبه لم يأكله أنه لا خلاف أنه لو لم يغب عنه وأمكنه أن يدرك ذكاته فلم يفعل حتى مات أنه لا يؤكل فإذا لم يترك الطلب وأدركه ميتا فقد علمنا أنه لم يكن يدرك ذكاته فكان قتل الكلب أو السهم له ذكاة له وإذا تراخى عن الطلب فجائز أن يكون لو طلبه في فوره أدرك ذكاته ثم لم يفعل حتى مات فإنه لا يؤكل فإذا لم يترك الطلب وأدرك حياته تيقن أن قتل الكلب ليس بذكاة له فلا يجوز أكله ألا
[ 404 ]
ترى أنه النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم وإن شاركه كلب آخر فلا تأكله فلعله أن يكون الثاني قتله فحظر الشارع صلى الله عليه وسلم أكله حين جوز أن يكون قتله كلب آخر فكذلك إذا جاز أن يكون مما كان يدرك ذكاته لو طالبه فلم يفعل وجب أن لا يؤكل لتجويز هذا المعنى فيه فإن قيل روى معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي عن أبيه عن أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يدرك صيده بعد ثلاث يأكله إلا أن ينتن وروي في بعض الألفاظ إذا أدركت بعد ثلاث وسهمك فيه فكله ما لم ينتن قيل له قد اتفق الجميع على رفض هذا الخبر وترك استعماله من جوه أحدها أن أحدا من الفقهاء لا يقول أنه إذا وجده بعد ثلاث يأكله والثاني أنه أباح له أكله ما لم ينتن ولا اعتبار عند أحد بتغير الرائحة والثالث أن تغير الرائحة لا حكم له في سائر الأشياء وإنما الحكم يتعلق بالذكاة أو فقدها فإن كان الصيد مذكى مع تراخي المدة فلا حكم للرائحة وإن كان غير مذكى فلا حكم أيضا لعدم تغيره وقد روى محمد بن إبراهيم التيمي عن عيسى بن طلحة عن عمير بن سلمة عن رجل من نهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالروحاء فإذا هو بحمار وحش عقير فيه سهم قد مات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوه حتى يجئ صاحبه فجاء النهدي فقال يا رسول الله هي رميتي فكلوه فأمر أبا بكر أن يقسم بين الرفاق وهم محرمون فمن الناس من يحتج بذلك في إباحة أكله إن تراخى عن طلبه لترك النبي صلى الله عليه وسلم مسألته عن ذلك ولو كان ذلك يختلف حكمه لسأله وليس في هذا دليل على ما ذكر من قبل أنه جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم شاهد هذا الحمار على حال استدل بها على قرب وقت الجراحة من سيلان الدم وطراوته ومجئ الرامي عقبه فعلم أنه لم يتراخ عن طلبه فلذلك لم يسأله فإن قيل روى هشيم عن أبي هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن عدي بن حاتم قال قلت يا رسول الله إنا أهل صيد يرمي أحدنا الصيد فيغيب عنه الليلة والليلتين يتبع أثره بعد ما يصبح فيجد سهمه فيه قال إذا وجدت سهمك فيه ولم تجد به أثر سبع وعلمت أن سهمك قتله فكله قيل له هذا يوجب أن يكون لو أصابه بعد ليال كثيرة أن يأكله إذا علم أن سهمه قتله ولا نعلم ذلك قول أحد من أهل العلم لأنه اعتبر العلم بأن سهمه قتله وأيضا فإنه لا يحصل له العلم بأن سهمه قتله بعد ما تراخى عن طلبه وقد شرط صلى الله عليه وسلم حصول العلم بذلك فإذا لم يعلم بذلك فواجب أن لا يأكله وهو لا يعلم إذا تراخى عن طلبه وطالت المدة أن سهمه قتله ويدل على صحة قول أصحابنا ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثنا محمد بن عباد
[ 405 ]
قال حدثنا محمد بن سليمان عن مشمول عن عمرو بن تميم عن أبيه عن جده قال قلت يا رسول إنا أهل بدو ونصيد صلى بالكلاب المعلمة ونرمي الصيد فما يحل لنا من ذلك وما يحرم علينا قال إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فكل مما أمسك عليك أكل أو لم يأكل قتل أو لم يقتل وإذا رميت الصيد فكل مما أصميت ولا تأكل مما أنميت فحظر ما أنمي وهو غاب عنه وهو محمول على ما غاب عنه وتراخى عن طلبه لأنه لا خلاف أنه إذا كان في طلبه فأكل إن قيل فقد أباح في هذا الحديث أكل ما أكل منه الكلب وهو خلاف قولكم قيل له قد عارضه حديث عدي بن حاتم وقد تقدم الكلام فيه قوله تعالى أحل لكم الطيبات فإنه جائز أن يريد به اليوم الذي نزلت فيه الآية ويجوز أن يريد به اليوم الذي تقدم ذكره في موضعين أحدهما قوله يئس الذين كفروا من دينكم والآخر قوله تعالى أكملت لكم دينكم قيل أنه يوم عرفة في حجة الوداع وقيل زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كله على ما قدمنا من اختلاف السلف فيه والطيبات ههنا يجوز أن يريد بها ما استطبناه وقال واستلذذناه أنه ما عدا ما بين تحريمه في هذه الآيات وفي غيرها فيكون عموما في إباحة جميع المتلذذات وهو إلا ما قام دليل حظره ويحتمل أن يريد بالطيبات ما اباحه لنا من سائر الأشياء التي ذكر إباحتها في غير هذا الموضع وقوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم روي عن ابن عباس وأبي الدرداء والحسن ومجاهد وإبراهيم وقتادة والسدي أنه ذبائحهم وظاهره يقتضي ذلك لأن ذبائحهم من طعامهم ولو استعملنا اللفظ على عمومه لانتظم جميع طعامهم من الذبائح وغيرها والأظهر أن يكون المراد الذبائح خاصة لأن سائر طعامهم من الخبز والزيت وسائر الأدهان لا يختلف حكمها بمن يتولاه ولا شبهة في ذلك على أحد سواء كان المتولي لصنعه واتخاذه مجوسيا أو كتابيا ولا خلاف فيه بين المسلمين وما كان منه غير مذكى لا يختلف حكمه في إيجاب حظره بمن تولى إماتته من مسلم أو كتابي أو مجوسي فلما خص الله تعالى طعام أهل الكتاب بالإباحة وجب أن يكون محمولا على الذبائح التي يختلف حكمها باختلاف الأديان مطلب: في أكله عليه السلام من الشاة التي أهدتها إليه اليهودية من دون أن يسألها أهي ذبيحة مسلم أم يهودي وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الشاة المسمومة المشوية التي أهدت إليه اليهودية ولم يسئلها عن ذبيحتها أهي من ذبيحة المسلم أم اليهودي
[ 406 ]
واختلف الفقهاء فيمن انتحل دين أهل الكتاب من العرب فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر من كان يهوديا أو نصرانيا من العرب والعجم فذبيحته مذكاة إذا سمى الله عليها وإن سمى النصراني عليها باسم المسيح لم تؤكل ولا فرق بين العرب والعجم في ذلك وقال مالك ما ذبحوه لكنائسهم أكره أكله وما سمي عليه باسم المسيح لا يؤكل والعرب والعجم فيه سواء وقال الثوري إذا ذبح وأهل به لغير الله كرهته وهو قول إبراهيم وقال الثوري وبلغني عن عطاء أنه قال قد أحل الله ما أهل به لغير الله لأنه قد علم أنهم سيقولون هذا القول وقال الأوزاعي إذا سمعته يرسل كلبه باسم المسيح أكل وقال فيما ذبح أهل الكتابين لكنائسهم وأعيادهم كان مكحول لا يرى به بأسا ويقول هذه كانت ذبائحهم قبل نزول القرآن ثم أحلها الله تعالى في كتابه وهو قول الليث بن سعد وقال الربيع عن الشافعي لا خير في ذبائح نصارى العرب من بني تغلب قال ومن دان دين أهل الكتاب قبل نزول القرآن وخالف دين أهل الأوثان قبل نزول القرآن فهو خارج من أهل الأوثان وتقبل منه الجزية عربيا كان أو عجميا ومن دخل عليه إسلام ولم يدن بدين أهل الكتاب فلا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف قال أبو بكر وقد روي عن جماعة من السلف القول في أهل الكتاب من العرب لم يفرق أحد منهم فيه بين من دان بذلك قبل نزول القرآن أو بعده ولا نعلم أحدا من السلف أو الخلف اعتبر فيهم ما اعتبره الشافعي في ذلك فهو منفرد بهذه المقالة خارج بها عن أقاويل أهل العلم وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله إكراه في الدين [ البقرة: 156 ] قال كانت المرأة من الأنصار لا يعيش لها ولد فتحلف لأن عاش لها ولد لتهودنه فلما أجليت بنو النضير إذا فيهم ناس من أبناء الأنصار فقالت الأنصار يا رسول الله أبناؤها فأنزل الله لا إكراه في الدين قال سعيد فمن شاء لحق بهم ومن شاء دخل الإسلام فلم يفرق فيما ذكر بين من دان باليهودية قبل نزول القرآن وبعده ورو عبادة بن نسي عن غضيف بن الحارث أن عاملا لعمر بن الخطاب كتب إليه أن ناسا من السامرة يقرؤن التوراة ويسبتون السبت ولا يؤمنون بالبعث فما ترى فكتب إليه عمر أنهم طائفة من أهل الكتاب وروى محمد بن سيرين عن عبيدة قال سألت عليا عن ذبائح نصارى العرب فقال لا تحل ذبائحهم
[ 407 ]
فإنهم لم يتعلقوا من دينهم بشئ إلا بشرب الخمر وروى عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس قال كلوا من ذبائح بني تغلب وتزوجوا من نسائهم فإن الله تعالى قال في كتابه يتولهم منكم فإنه منهم فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية كانوا منهم ولم يفرق أحد من هؤلاء بين من دان بذلك قبل نزول القرآن وبعده فهو إجماع منهم ويدل على بطلان هذه المقالة من التفرقة بين من دان بدين أهل الكتاب قبل نزول القرآن أو بعده قول الله تعالى أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم وذلك إنما يقع على المستقبل فأخبر تعالى بعد نزول القرآن أن من يتولهم من العرب فهو منهم وذلك يقتضي أن يكون كتابيا لأنهم أهل الكتاب وأن تحل ذبائحهم لقوله تعالى (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) ومن الناس من يزعم أن أهل الكتاب هم بنو إسرائيل الذين ينتحلون اليهودية والنصرانية دون من سواهم من العرب والعجم الذين دانوا بدينهم ولم يفرقوا في ذلك بين من دان بذلك قبل نزول القرآن وبعده ويحتجون في ذلك بقوله ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة فأخبر أن الذين آتاهم الكتاب هم بنو إسرائيل وبحديث عبيدة السلماني عن علي أنه قال لا تحل ذبائح نصارى العرب لأنهم لم يتعلقوا من دينهم بشئ إلا بشرب الخمر أما الآية فلا دلالة فيها على قولهم لأنه إنما أخبر أنه آتى بني إسرائيل الكتاب ولم ينف بذلك أن يكون من انتحل دينهم في حكمهم وقد قال ابن عباس تحل ذبائحهم لقوله تعالى لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم وقول علي رضي الله عنه في ذلك وحظر ذبائح نصارى العرب ليس من جهة أنهم من غير بني إسرائيل لكن من قبل أنهم غير متمسكين بأحكام تلك الشريعة لأنه قال إنهم لا يتعلقون من دينهم إلا بشرب الخمر ولم يقل لأنهم ليسوا من بني إسرائيل فقول من قال إن أهل الكتاب لا يكونون إلا من بني إسرائيل وإن دانوا بدينهم قول ساقط مردود وروى هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي عبيدة عن حذيفة عن عدي بن حاتم قال أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عدي بن حاتم أسلم تسلم فقلت له إن لي دينا فقال أنا أعلم بدينك منك قلت أنت أعلم بديني مني قال نعم ألست ركوسيا قال قلت بلى قال ألست ترأس قومك قال قلت بلى قال ألست تأخذ المرباع قال قلت بلى قال فإن ذلك لا يحل لك في دينك
[ 408 ]
قال فكأني رأيت أن علي بها غضاضة وكأني تواضعت بها وروى عبد السلام بن حرب عن عطيف بن أعين عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب ذهب فقال ألق هذا الوثن عنك ثم قرأ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله قال قلت يا رسول الله ما كنا نعبدهم قال أليس كانوا يحلون لكم ما حرم الله عز وجل فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه قال فتلك عبادتهم وفي هذين الخبرين ضروب من الدلالة على ما ذكرنا أحدها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبه إلى متخذي الأحبار والرهبان أربابا وهم اليهود والنصارى ولم ينف ذلك عنه من حيث كان عربيا وقال في الحديث الأول ألست ركوسيا وهم صنف من النصارى فلم يخرجه عنهم بأخذهم المرباع وهو ربع الغنيمة وليس ذلك من دين النصارى لأن في دينهم أن الغنائم لا تحل فهذا يدل على أن ترك التمسك بما ينتحله المنتحلون للأديان لا يخرجهم من أن يكونوا من أهل تلك الشريعة وذلك الدين ويدل على أن العرب وبني إسرائيل سواء فيما ينتحلون من دين أهل الكتاب وأنهم غير مختلفي الأحكام ولما لم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم عما انتحله من دين النصارى أكان قبل نزول القرآن أو بعده ونسبه إلى فرقة منهم من غير مسألة دل على أنه لا فرق بين من انتحل ذلك قبل نزول القرآن أو بعده والله أعلم باب تزوج الكتابيات قال الله عليه وسلم الله تعالى من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال أبو بكر اختلف في المراد بالمحصنات ههنا فروي عن الحسن والشعبي وإبراهيم والسدي أنهم العفائف وروي عن عمر ما يدل على أن المعنى عنده ذلك وهو ما حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا محمد بن يزيد عن الصلت بن بهرام عن شقيق بن سلمة قال تزوج حذيفة بيهودية فكتب إليه عمر أن خل سبيلها فكتب إليه حذيفة أحرام هي فكتب إليه عمر لا ولكني أخاف أن تواقعوا المومسات منهن قال أبو عبيد يعني العواهر فهذا يدل على أن معنى الإحصان عنده ههنا كان على العفة وقال مطرف عن الشعبي في قوله (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال إحصان اليهودية والنصرانية أن تغتسل من الجنابة وأن تحصن فرجها وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم قال الحرائر قال أبو بكر الاختلاف في نكاح الكتابية على أنحاء مختلفة منها إباحة نكاح الحرائر منهن إذا كن ذميات فهذا لا خلاف بين السلف وفقهاء الأمصار فيه إلا شيئا
[ 409 ]
يروى عن ابن عمر أنه كرهه حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يرى بأسا بطعام أهل الكتاب ويكره نكاح نسائهم قال جعفر وحدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث قال حدثني نافع عن ابن عمر أنه كان إذا سئل عن نكاح اليهودية والنصرانية قال إن الله حرم المشركات على المسلمين ولا أعلم من الشرك شيئا أعظم من أن تقول ربها عيسى بن مريم أو عبد من عبيد الله قال أبو عبيد وحدثني علي بن معبد عن أبي المليح عن ميمون بن مهران قال قلت لابن عمر إنا بأرض يخالطنا فيها أهل الكتاب أفننكح نساءهم ونأكل طعامهم قال فقرأ علي آية التحليل وآية التحريم قال قلت إني أقرأ ما تقرأ أفننكح نساءهم ونأكل طعامهم قال فأعاد علي آية التحليل وآية التحريم قال أبو بكر يعني بآية التحليل (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وبآية التحريم تنحوا المشركات حتى يؤمن فلما رأى ابن عمر الآيتين في نظامها تقتضي إحداهما التحليل والأخرى التحريم وقف فيه ولم يقطع بإباحته مطلب: اتفق جماعة من الصحابة على إباحة نكاح التابيات الذميات، وخالف في ذلك ابن عمر رضي الله تعالى عنهما واتفق جماعة من الصحابة على إباحة أهل الكتاب الذميات سوى ابن عمر وجعلوا قوله ولا تنكحوا المشركات خاصا في غير أهل الكتاب حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن حماد قال سألت سعيد بن جبير عن نكاح اليهودية والنصرانية قال لا بأس قال قلت فإن الله تعالى قال تنكحوا المشركات حتى يؤمن قال أهل الأوثان والمجوس وقد روي عن عمر ما قدمنا ذكره وروي أن عثمان بن عفان تزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية وهي نصرانية وتزوجها على نسائه وروي عن طلحة بن عبيدالله أنه تزوج يهودية من أهل الشام وتروى إباحة ذلك عن عامة التابعين منهم الحسن وإبراهيم والشعبي في آخرين منهم ولا يخلو قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات من أحد معنيين
[ 410 ]
إما أن يكون إطلاقه مقتضيا لدخول الكتابيات فيه أو مقصورا على عبدة الأوثان غير الكتابيات فإن كان إطلاق اللفظ يتناول الجميع فإن قوله من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم يخصه ويكون قوله تعالى ولا تنكحوا المشركات [ البقرة: 221 ] مرتبات عليه لأنه متى أمكننا استعمال الآيتين على معنى ترتيب العام على الخاص وجب استعمالهما ولم يجز لنا نسخ الخاص بالعام إلا بيقين وإن كان قوله ولا تنكحوا المشركات إنما يتناول إطلاقه عبدة الأوثان على ما بيناه في غير هذا الموضع فقوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ثابت الحكم إذ ليس في القرآن ما يوجب نسخه فإن قيل قوله تعالى من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إنما المراد به اللاتي كن كتابيات فأسلمن كما قال تعالى في آية أخرى من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم وقوله تعالى ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر والمراد من كان من أهل الكتاب فأسلم كذلك قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم المراد به من كان من أهل الكتاب فأسلم قيل له هذا غلط من وجوه أحدها أن إطلاق لفظ أهل الكتاب ينصرف إلى الطائفتين من اليهود والنصارى دون المسلمين ودون سائر الكفار ولا يطلق أحد على المسلمين أنهم أهل الكتاب كمالا يطلق عليهم أنهم يهود أو نصارى والله تعالى حين قال من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله فإنه لم يطلق الاسم عليهم إلا مقيدا بذكر الإيمان عقيبه وكذلك قال من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون فذكر إيمانهم بعد وصفهم أنهم أهل الكتاب ولست واجدا في شئ من القرآن إطلاق أهل الكتاب من غير تقييد إلا وهو يريد به اليهود والنصارى والثاني أنه قد ذكر المؤمنات في قوله (والمحصنات من المؤمنات فانتظم ذلك سائر المؤمنات ممن كن مشركات أو كتابيات فأسلمن وممن نشأ منهن على الإسلام فغير جائز أن يعطف عليه مؤمنات كن كتابيات فوجب أن يكون قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم على الكتابيات اللاتي لم يسلمن وأيضا فإن ساغ التأويل الذي ادعاه من خالف في ذلك فغير جائز لنا الانصراف عن الظاهر إلى غيره إلا بدلالة وليس معناه دلالة توجب صرفه عن الظاهر وأيضا فلو حمل على ذلك لزالت فائدته إذ كانت مؤمنة وقد تقدم في الآية ذكر المؤمنات وأيضا لما كان معلوما أنه لم يرد بقوله تعالى وطعام الذين أوتوا الكتاب
[ 411 ]
حل لكم طعام المؤمنين الذين كانوا من أهل الكتاب وأن المراد به اليهود والنصارى كذلك قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب على الكتابيات دون المؤمنات ويحتج للقائلين بتحريمهمن فقال بقوله تعالى ولا تمسكوا بعصم الكوافر) [ الممتحنة: 10 ] قيل له إنما ذلك في الحربية إذا خرج زوجها مسلما أو الحربي تخرج امرأته مسلمة ألا ترى إلى قوله واسئلوا ما أنفقتم وليسئلوا ما أنفقوا وأيضا فلو كان عموما لخصه قوله من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) وقد اختلف في نكاح الكتابيات من وجه آخر فقال ابن عباس لا تحل نساء أهل الكتاب إذا كانوا حربا وتلا هذه الآية قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) إلى قوله وهم صاغرون قال الحكم حدثت بذلك إبراهيم فأعجبه ولم يفرق في غيره ممن ذكرنا قوله من الصحابة بين الحربيات والذميات وظاهر الآية يقتضي جواز نكاح الجميع لشمول الاسم لهن قال أبو بكر ومما يحتج به لقول ابن عبا س قوله تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله والنكاح يوجب المودة بقوله تعالى خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليا وجعل بينكم مودة ورحمة فينبغي أن يكون نكاح الحربيات محظورا لأن قوله تعالى يوادون من حاد الله ورسوله [ المجادلة: 22 ] إنما يقع على أهل الحرب لأنهم في حد غير حدنا وهذا عندنا إنما يدل على الكراهة وأصحابنا يكرهون مناكحات أهل الحرب من أهل الكتاب وقد اختلف السلف في نكاح المرأة من بني تغلب فروي عن علي أنه لا يجوز لأنهم لم يتعلقوا من النصرانية إلا بشرب الخمر وهو قول إبراهيم وجابر بن زيد وقال ابن عباس لا بأس بذلك لأنهم لو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم واختلف أيضا في نكاح الأمة الكتابية وقد ذكرنا اختلاف الفقهاء فيه في سورة النساء ومن تأول قوله والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم على الحرائر جعل الإباحة مقصورة على نكاح الحرائر من الكتابيات ومن تأوله على العفة أباح نكاح الإماء الكتابيات واختلف في المجوس فقال جل السلف وأكثر الفقهاء ليسوا أهل الكتاب وقال آخرون هم أهل الكتاب والقائلون بذلك شواذ والدليل على أنهم ليسوا أهل الكتاب قوله تعالى وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا
[ 412 ]
إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا فأخبر تعالى أن أهل الكتاب طائفتان فلو كان المجوس أهل الكتاب لكانوا ثلاث طوائف ألا ترى أن من قال إنما لي على فلان جبتان لم يكن له أن يدعي أكثر منه وقول القائل إنما لقيت اليوم رجلين ينفي أن يكون قد لقي أكثر منهما فإن قيل إنما حكى الله ذلك عن المشركين وجائز أن يكونوا قد غلطوا قيل له إن الله لم يحك هذا القول عن المشركين ولكنه قطع بذلك عذرهم لئلا يقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين فهذا إنما هو قول الله واحتجاج منه على المشركين في قطع عذرهم بالقرآن وأيضا فإن المجوس لا ينتحلون أي شيئا من كتب الله المنزلة على أنبيائه وإنما يقرؤن كتاب زرادشت وكان متنبيا كذابا فليسوا إذا أهل كتاب ويدل على أنهم ليسوا أهل كتاب حديث يحيى بن سعيد عن جعفر بن محمد عن أبيه قال قال عمر ما أدري كيف أصنع بالمجوس وليسوا أهل كتاب فقال عبد الرحمن بن عوف سمعت رسول اله صلى الله عليه وسلم يقول سنوا بهم سنة أهل الكتاب فصرح عمر بأنهم ليسوا أهل كتاب ولم يخالفه عبد الرحمن ولا غيره من الصحابة وروى عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب فلو كانوا أهل الكتاب لما قال سنوا بهم سنة أهل الكتاب ولقال هم من أهل الكتاب وفي حديث آخر أنه أخذ الجزية من مجوس هجر وقال سنوا بهم سنة أهل الكتاب فإن قيل إن لم يكونوا أهل كتاب فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حكمهم حكم أهل الكتاب بقوله سنوا بهم سنة أهل الكتاب قيل له إنما قال ذلك في الجزية خاصة وقد روي ذلك في غير هذا الخبر وروى سفيان عن قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد قال كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مجوس هجر يدعوهم إلى الإسلام قال فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ومن أبى فعليه الجزية غير أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم وقد روي النهي عن صيد المجوس عن علي وعبد الله وجابر بن عبد الله والحسن وسعيد بن المسيب وأبي رافع وعكرمة وهذا يوجب أن لا يكونوا عندهم أهل كتاب ويدل على أنهم ليسوا أهل كتاب أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحب الروم يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم وكتب إلى كسرى ولم ينسبه إلى كتاب وروي في قوله تعالى الم غلبت الروم أن المسلمين أحبوا غلبة الروم لأنهم أهل كتاب وأحبت قريش غلبة فارس لأنهم جميعا ليسوا بأهل الكتاب فخاطرهم أبو بكر رضي الله عنه والقصة في ذلك مشهورة وأما من قال إنهم كانوا أهل كتاب ثم ذهب منهم بعد ذلك ويجعلهم من أجل ذلك من أهل الكتاب فإن هذا لا يصح ولا يعلم ثبوته وإن ثبت اوجب أن لا
[ 413 ]
يكونوا من أهل الكتاب لأن الكتاب قد ذهب منهم وهم الآن غير منتحلين لشئ من كتب الله تعالى مطلب: في الكلام على الصابئة وبيان نحلتهم وقد اختلف في الصابئين هم من أهل الكتاب أم لا فروي عن أبي حنيفة أنهم أهل كتاب وقال أبو يوسف ومحمد ليسوا أهل كتاب وكان أبو الحسن الكرخي يقول الصابئون الذين هم عنده من أهل الكتاب قوم ينتحلون دين المسيح ويقرؤن الإنجيل فأما الصابئون الذين يعبدون الكواكب وهم الذين بناحية حران فإنهم ليسوا بأهل كتاب عندهم جميعا قال أبو بكر الصابئون الذين يعرفون بهذا الاسم في هذا الوقت ليس فهيم أهل كتاب وانتحالهم في الأصل واحد أعني الذين بناحية حران والذين بناحية البطائح في سواد واسط وأصل اعتقادهم تعظيم الكواكب السبعة وعبادتها واتخاذها آلهة وهم عبدة الأوثان في الأصل إلا أنهم منذ ظهر الفرس على إقليم العراق وأزالوا مملكة الصابئين وكانوا نبطا لم يجسروا على عبادة الأوثان ظاهرا لأنهم منعوهم من ذلك وكذلك الروم وأهل الشام والجزيرة كانوا صابئين فلما تنصر قسطنطين حملهم بالسيف على الدخول في النصرانية فبطلت عبادة الأوثان من ذلك الوقت ودخلوا في عمار النصارى في الظاهر وبقي كثير منهم على تلك النحلة مستخفين بعبادة الأوثان فلما ظهر الإسلام دخلوا في جملة النصارى ولم يميز المسلمون بينهم وبين النصارى إذ كانوا مستخفين بعبادة الأوثان كاتمين لأصل الاعتقاد وهم أكتم الناس لاعتقادهم ولهم أمور وحيل في صبيانهم إذا عقلوا في كتمان دينهم وعنهم أخذت الإسماعيلية كتمان المذهب وإلى مذهبهم انتهت دعوتهم وأصل الجميع اتخاذ الكواكب السبعة آلهة وعبادتها واتخاذها أصناما على أسمائها لا خلاف بينهم في ذلك وإنما الخلاف بين الذين بناحية حران وبين الذين بناحية البطائح في شئ من شرائعهم وليس فيهم أهل كتاب فالذي يغلب في ظني في قول أبي حنيفة في الصابئين أنه شاهد قوما منهم أنهم يظهرون أنهم من النصارى وأنهم يقرؤن الإنجيل وينتحلون دين المسيح تقية لأن كثيرا من الفقهاء لا يرون إقرار معتقدي مقالهم بالجزية ولا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ومن كان اعتقاده من الصابئين ما وصفنا فلا خلاف بين الفقهاء أنهم ليسوا أهل كتاب وأنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم باب الطهارة للصلاة قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية
[ 414 ]
قال أبو بكر ظاهر الآية يقتضي وجوب الطهارة بعد القيام إلى الصلاة لأنه جعل القيام إليها شرطا لفعل الطهارة وحكم الجزاء أن يتأخر عن الشرط ألا ترى أن من قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق إنما يقع الطلاق بعد الدخول وإذا قيل إذا لقيت زيدا فأكرمه أنه موجب للإكرام بعد اللقاء وهذا لا خلاف فيه بين أهل اللغة أنه مقتضى اللفظ وحقيقته ولا خلاف بين السلف والخلف أن القيام إلى الصلاة ليس بسبب لإيجاب الطهارة وأن وجوب الطهارة متعلق بسبب آخر غير قيام فليس إذا هذا اللفظ عموما في إيجاب الطهارة بعد القيام إلى الصلاة إذ كان الحكم فيه متعلقا بضمير غير مذكور وليس في اللفظ أيضا ما يوجب تكرار وجوب ا لطهارة بعد القيام إلى الصلاة من وجهين أحدهما ما ذكرنا من تعلق الحكم بضمير غير مذكور يحتاج فيه إلى طلب الدلالة عليه من غيره والثاني إذا لا توجب التكرار في لغة العرب ألا ترى أن من قال لرجل إذا دخل زيد الدار فأعطه درهما فدخلها مرة أنه يستحق درهما فإن دخلها مرة أخرى لم يستحق شيئا وكذلك من قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلتها مرة طلقت فإن دخلتها مرة أخرى لم تطلق فثبت بذلك أنه ليس في الآية دلالة على وجوب تكرار الطهارة لتكرار القيام إليها فإن قيل فلم يتوضأ أحد بالآية إلا مرة واحدة قيل له قد بينا أن الآية غير مكتفية بنفسها في إيجاب الطهارة دون بيان مراد الضمير بها فقول القائل إنه لم يتوضأ بالآية إلا مرة واحدة خطأ لأن الآية في معنى المجمل المفتقر إلى البيان فمهما ورد به البيان فهو المراد الذي به تعلق الحكم على وجه الإفراد أو التكرار على حسب ما اقتضاه بيان المراد ولو كان لفظ الآية عموما مقتضيا للحكم فيما ورد غير مفتقر إلى البيان لم يكن أيضا موجبا لتكرار الطهارة عند القيام إليها من جهة اللفظ وإنما كان يوجب التكرار من جهة المعنى الذي علق به وجوب الطهارة وهو الحدث دون القيام إليها مطلب: كان عليه السلام مأمورا بالوضوء عند كل صلاة ثم وضع عنه الوضوء إلا من حدث وقد حدثنا من لا أتهم قال حدثنا أبو مسلم الكرخي قال حدثنا أبو عاصم عن سفيان عن علقمة ابن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة خمس صلوات بوضوء واحد ومسح على خفيه فقال له عمر يا رسول الله صنعت شيئا لم تكن تصنعه قال عمدا فعلته وحدثنا من لا أتهم قال حدثنا محمد بن يحيى الذهلي قال حدثنا أحمد بن خالد الوهبي قال حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عبد الله بن عبد الله بن عمر قال قلت له
[ 415 ]
أرأيت وضوء عبد الله بن عمر لكل صلاة طاهرا أكان أو غير طاهر عمن هو قال حدثتنيه أسماء بنت زيد بن الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل حدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرا فلما شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسواك عند كل صلاة ووضع عنه الوضوء إلا من حدث فكان عبد الله يرى أن به قوة على ذلك ففعله حتى مات فقد دل الحديث الأول على أن القيام إلى الصلاة غير موجب للطهارة إذ لم يجدد النبي صلى الله عليه وسلم لكل صلاة طهارة فثبت بذلك أن فيه ضميرا به يتعلق إيجاب الطهارة وبين في الحديث الثاني أن الضمير هو الحدث لقوله ووضع عنه الوضوء إلا من حدث ويدل على أن الضمير فيه هو الحدث ما روى سفيان الثوري عن جابر عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الله بن علقمة عن أبيه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراق ماء نكلمه فلا يكلمنا ونسلم عليه فلا يكلمنا حتى يأتي أهله فيتوضأ وضوءه للصلاة فقلنا له في ذلك حين نزلت آية الرخصة أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية فأخبر أن الآية نزلت في إيجاب الوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة وحدثنا من لا أتهم في الرواية قال أخبرنا محمد بن علي بن زيد أن سعيد بن منصور حدثهم قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال أخبرنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء فقدم إليه الطعام فقالوا ألا نأتيك بوضوء قال إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة قال أبو بكر سألوه عن الوضوء من الحدث عند الطعام فأخبر أنه أمر بالوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة وروى أبو معشر المدني عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا أن أشق على أمتي لأمرت في كل صلاة بوضوء ومع كل وضوء بسواك وهذا يدل على أن الآية لم تقض إيجاب الوضوء لكل صلاة من وجهين أحدهما أن الآية لو أوجبت ذلك لما قال لأمرت في كل صلاة بوضوء والثاني إخباره بأنه لو أمر به لكان واجبا بأمره دون الآية وروى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم قال إذا قمتم من المضجع يعني النوم وقد كان رد السلام محظورا إلا بطهارة وروى قتادة عن الحسن عن حضين أبي ساسان عن المهاجر قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ فسلمت عليه فلما فرغ من وضوئه قال ما منعني ان أرد عليك السلام إلا أني كنت على غير وضوء وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن شاذان قال حدثنا معلى بن منصور قال أخبرني محمد بن ثابت العبدري قال حدثنا نافع قال انطلقت مع ابن عمر في
[ 416 ]
حاجة إلى ابن عباس فلما قضى حاجته من ابن عباس كان من حديثه يومئذ قال بينا النبي صلى الله عليه وسلم في سكة من سكك المدينة وقد خرج من غائط أو بول فخرج عليه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه ثم أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب بكفيه على الحائط ثم مسح وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه إلى المرفقين ثم رد على الرجل السلام وقال لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني لم أكن على وضوء أو قال على طهارة فهذا يدل على أن رد السلام كان مشروطا فيه الطهارة وجائز أن يكون ذلك كان خاصا للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يرو أنه نهى عن رد السلام إلا على طهارة ويدل على أن ذلك كان على الوجوب أنه تيمم حين خاف فوت الرد لأن رد السلام إنما يكون على الحال فإذا تراخى فات فكان بمنزلة من خاف فوت صلاة العيد أو صلاة الجنازة إن توضأ فيجوز له التيمم وجائز أن يكون قد نسخ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون هذا الحكم قد كان باقيا إلى أن قبضه الله تعالى وقد روي عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أنهم كانوا يتوضؤن لكل صلاة وهذا محمول على أنهم فعلوه استحبابا وقال سعد إذا توضأت فصل بوضوئك ما لم تحدث وقد روى ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس أن عبيد بن عمير كان يتوضأ لكل صلاة ويتأول قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فأنكر ذلك عليه ابن عباس وقد روي نفي إيجاب الوضوء لكل صلاة من غير حدث عن ابن عمر وأبي موسى وجابر بن عبد الله وعبيدة السلماني وأبي العالية وسعيد بن المسيب وإبراهيم والحسن ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار في فضيلة تجديد الوضوء منها ما حدثنا من لا أتهم قال حدثنا محمد بن زيد قال حدثنا سعيد قال حدثنا سلام الطويل عن زيد العمى عن معاوية بن قرة عن ابن عمر قال دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ مرة مرة وقال هذا وظيفة الوضوء وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به ثم تحدث ساعة ثم دعا بماء فتوضأ مرتين مرتين فقال هذا وضوء من توضأ به ضاعف الله له الأجر مرتين ثم تحدث ساعة ثم دعا بماء فتوضأ ثلاثا ثلاثا فقال هذا وضوئي ووضوء النبيين من قبلي وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال الوضوء على الوضوء نور على نور وقال صلى الله عليه وسلم لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالوضوء عند كل صلاة فهذا كله يدل على استحباب الوضوء عند كل صلاة وإن لم يكن محدثا وعلى هذا يحمل ما روي عن السلف من تجديد الوضوء عند كل صلاة وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه توضأ ومسح على نعليه وقال هذا وضوء من لم يحدث ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم فثبت بما قدمنا أن قوله تعالى (إذا قمتم إلى الصلاة غير موجب للوضوء لكل صلاة وثبت أنه غير مستعمل على
[ 417 ]
حقيقته وإن فيه ضميرا به يعلق إيجاب الطهارة وأنه بمنزلة المجمل المفتقر إلى البيان لا يصح الاحتجاج بعمومه إلا فيما قام دليل مراده وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار متواترة في إيجاب الوضوء من النوم وهذا يدل على أن القيام إلى الصلاة غير موجب للوضوء لأنه إذا وجب من النوم لم يكن القيام إلى الصلاة بعد ذلك موجبا ألا ترى أنه إذا وجب من النوم لم يجب عليه بعد ذلك من حدث آخر وضوء آخر إذا لم يكن توضأ من النوم فلو كان القيام إلى الصلاة موجبا للوضوء لما وجب من النوم عند إرادة القيام إليها كالسببين إذا كان كل واحد منهما موجبا للوضوء ثم وجب من الأول لم يجب من الثاني وهذا يدل على أن من النوم هو الضمير الذي في الآية فكان تقديره إذا قمتم من النوم على ما روي عن زيد بن أسلم ويدل على أن النوم الموجب للوضوء هو النوم المعتاد الذي يجوز أن يقال فيه أنه قام من النوم ومن نام قاعدا أو ساجدا أو راكعا لا يقال إنه قام من النوم وإنما يطلق ذلك في نوم المضطجع ومن قال إن النوم ليس بحدث وإنما وجب به الطهارة لغلبة الحال في وجود الحدث فيه فإن الآية جالة على وجوب الطهارة من الريح وإذا كان المعنى على ما وصفنا فيكون حينئذ في مضمون الآية إيجاب الوضوء من النوم ومن الريح وقد أريد به أيضا إيجاب الوضوء من الغائط والبول وذلك من ضمير الآية لأنه مذكور في قوله جاء أحد منكم من الغائط والغائط هو المطمئن من الأرض وكانوا يأتونه لقضاء حوائجهم فيه وذلك يشتمل على وجوب الوضوء من الغائط والبول وسلس البول والمذي ودم الاستحاضة وسائر ما يستتر الإنسان عند وجوده عن الناس لأنهم كانوا يأتون الغائط للاستتار عن الناس وإخفاء ما يكون منهم وذلك لا يختلف باختلاف الأشياء الخارجة من البدن التي في العادة يسترها عن الناس من سلس البول والمذي ودم الاستحاضة فدل ذلك على أن هذه الأشياء كلها أحداث يشتمل عليها ضمير الآية وقد اتفق السلف وسائر فقهاء الأمصار على نفي إيجاب الوضوء على من نام قاعدا غير مستند إلى شئ روى عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر صلاة العشاء ذات ليلة حتى نام الناس ثم استيقظوا فجاءه عمر فقال الصلاة يا رسول الله فخرج وصلى ولم يذكر أنهم توضؤا وروي عن أنس قال كنا نجئ إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ننتظر الصلاة فمنا من نعس ومنا من نام ولا نعيد وضوء وروى نافع عن ابن عمر قال لا يجب عليه الوضوء حتى يضع جنبه وينام وقد ذكرنا اختلاف الفقهاء في ذلك في غير هذا الموضع وروى أبو يوسف عن محمد بن عبد الله عن عطاء عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي الصبح ولا يتوضأ فسئل عن ذلك فقال إني لست كأحدكم
[ 418 ]
إنه تنام عيناي ولا ينام قلبي لو أحدثت لعلمته وهذا الحديث يدل على أن النوم في نفسه ليس بحدث وان إيجاب الوضوء فيه إنما هو لما عسى أن يكون فيه من الحدث الذي لا يشعر به وهو الغالب من حال النائم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال العين وكاء السه فإذا نامت العين استطلق الوكاء فلما كان الأغلب في النوم الذي يستثقل فيه النائم وجود الحدث فيه حكم له بحكم ا لحدث هذا إنما هو في النوم المعتاد الذي يضع النائم جنبه على الأرض ويكون في المضطجع من غير علم منه بما يكون منه فإذا كان جالسا أو على حال من أحوال الصلاة لغير ضرورة مثل القيام والركوع والسجود لم تنتقض طهارته لأن هذه أحوال يكون الإنسان فيها محتفظا وإن كان منه حدث علم به وقد روى يزيد بن عبد الرحمن عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ليس على من نام ساجدا وضوء حتى يضطجع فإذا اضطجع استرخت مفاصله فصل قال أبو بكر قوله تعالى قمتم إلى الصلاة لما كان ضميره ما وصفنا من القيام من النوم أو إرادة القيام إليها في حال الحدث فأوجب ذلك تقديم الطهارة من الأحداث للصلاة وكانت الصلاة اسما للجنس يتناول سائرها من المفروضات والنوافل اقتضى ذلك أن تكون من شرائط صحة الصلاة الطهارة أي صلاة إذ لم تفرق الآية بين شئ منها وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله لا يقبل الله صلاة بغير طهور قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم يقتضي إيجاب الغسل والغسل اسم لإمرار الماء على الموضع إذا لم تكن هناك نجاسة وإذا كان هناك نجاسة فغسلها إزالتها بإمرار الماء أو ما يقوم مقامه فقوله تعالى وجوهكم إنما المقصد فيه إمرار الماء على الموضع إذ ليس هناك نجاسة مشروط إزالتها فإذا ليس عليه ذلك الموضع بيده وإنما عليه إمرار الماء حتى يجري على الموضع وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أوجه فقال مالك بن أنس عليه إمرار الماء وذلك الموضع بيده وإلا لم يكن غسلا وقال آخرون وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء عليه إجراء الماء عليه وليس عليه دلكه بيده وروى هشام عن أبي يوسف أنه إن مسح الموضع بالماء كما يسمح بالدهن أجزأه والدليل على بطلان قول موجبي ذلك الموضع إن اسم الغسل يقع على إجراء الماء على الموضع من غير دلك والدليل على ذلك أنه لو كان على بدنه نجاسة فوالى بين صب الماء عليه حتى أزالها سمي بذلك غاسلا وإن لم يدلكه بيده فلما كان الاسم يقع عليه مع عدم الدلك لأجل إمرار الماء عليه وقال الله تعالى ثنا فهو متى أجرى الماء على الموضع فقد فعل مقتضى الآية وموجبها فمن شرط فيه دلك الموضع
[ 419 ]
بيده فقد زاد فيه ما ليس منه وغير جائز الزيادة في النص إلا بمثل ما يجوز به النسخ وأيضا فإنه لما لم يكن هناك شئ يزال بالدلك لم يكن لدلك الموضع وإمساسه بيده فائدة ولا حكم فلم يختلف حكمه إذا دلكه بيده أو أمر الماء عليه من غير دلك وأيضا فليس لذلك الموضع بديه حكم في الطهارة في سائر الأصول فوجب أن لا يتعلق به فيما اختلف فيه فإن قال قائل إذا لم يكن الغسل مأمورا به لإزالة شئ هناك علمنا أنه عبادة فمن حيث شرط فيه إمرار الماء وجب أن يكون دلكه بيده شرطا وإلا فلا معنى لإمرار الماء وإجرائه عليه قيل له قد ثبت في الأصول لإمرار الماء على الموضع حكم في غسل النجاسات ولم يثبت بدلك الموضع حكم بل حكمه ساقط في إزالة الأنجاس لأنه لو كان له حكم لكان اعتبار الدلك فيها أولى فوجب أن يكون كذلك حكمه في طهارة الحدث واما من أجاز مسح هذه الأعضاء المأمور بغسلها فإن قوله مخالف لظاهر الآية لان الله تعالى شرط في بعض الأعضاء الغسل وفي بعضها المسح فما أمر بغسله لا يجزي فيه المسح لأن الغسل يقتضي إمرار الماء على الموضوع وإجراءه عليه ومتى لم يفعل ذلك لم يسم غاسلا والمسح لا يقتضي ذلك وإنما يقتضي مباشرته بالماء دون إمراره عليه فغير جائز به ترك الغسل إلى المسح ولو كان المراد بالغسل هو المسح لبطلت فائدة التفرقة بينهما في الآية وفي وجوب إثبات التفرقة بينهما ما يوجب أن يكون المسح غير الغسل فمتى مسح ولم يغسل فلا يجزيه لأنه لم يفعل المأمور به ويدل على ذلك أنه ليس عليه في مسح الرأس في الوضوء لإبلاغ الماء إلى أصول الشعر وإنما عليه مسح الظاهر منه وعليه في غسل الجنابة إبلاغ الماء أصول الشعر فلو كان المسح والغسل واحدا لأجزى في غسل الجنابة مسحه كما يجزي في الوضوء وفي ذلك دليل على أن ما شرط فيه الغسل لا ينوب عنه المسح فإن قيل إذا لم تكن هناك نجاسة تزال بالغسل فالمقصد فيه مباشرة الموضع بالماء فلا فرق بين الغسل والمسح قيل له هذا يدل على صحة ما ذكرنا وذلك لأنه لما لم تكن هناك نجاسة من أجلها يجب الغسل فكان وجوب عبادة ثم فرق الله تعالى في الآية بين الغسل والمسح فعلينا اتباع الأمر على حسب مقتضاه وموجبه وغير جائز لنا ترك الغسل إلى غيره والعبادة علينا في الغسل في الأعضاء المأمور بها كهي علينا في مسح العضو المأمور به فلم يجز استعمال النظر في ترك حكم اللفظ إلى غيره فإن قيل لو بقيت لمعة في ذراعه فمسحها جاز وهذا يدل على جواز مسح الجميع كما جاز مسح البعض قيل له هذا غلط لأن اللمعة
[ 420 ]
إذا اتصلت صارت في حكم المغسول وأما إذا لم تتصل فلا يجوز الإجماع ففي ذلك دلالة على أن المسح لا ينوب مناب الغسل وقيل له لو لزم منا هذا في الوضوء للزمك في غسل الجنابة مثله والله أعلم باب الوضوء بغير نية قوله هذا تعالى فاغسلوا وجوهكم يقتضي جواز الصلاة بوجود الغسل سواء فارنته النية أو لم تقارنه وذلك لأن الغسل اسم شرعي مفهوم المعنى في اللغة وهو إمرار الماء على الموضع وليس هو عبارة عن النية فمن شرط فيه النية فهو زائد في النص وهذا فاسد من وجهين أحدهما أنه يوجب نسخ الآية قد أباحت فعل الصلاة بوجود الغسل للطهارة من غير شرط النية فمن حظر الصلاة ومنعها إلا مع وجود نية الغسل فقد أوجب نسخها وذلك لا يجوز إلا بنص مثله والوجه الآخر أن النص له حكمه ولا يجوز أن يلحق به ما ليس منه كما لا يجوز أن يسقط منه ما هو منه فإن قيل فقد شرطت في صحة الصلاة النية مع عدم ذكرها في اللفظ قيل له إنما جاز ذلك فيها من وجهين أحدهما أن الصلاة اسم مجمل مفتقر إلى البيان غير موجب للحكم بنفسه إلا ببيان يرد فيه وقد ورد فيه البيان بإيجاب إليه فلذلك أوجبناها وليس كذلك الوضوء لأنه اسم شرعي ظاهر المعنى بين المراد فمهما ألحقنا به ما ليس في اللفظ عبارة عنه فهو زيادة في النص ولا يجوز ذلك إلا بنص مثله والوجه الآخر اتفاق الجميع على إيجاب النية فيها فلو كان اسم الصلاة عموما ليس بمجمل لجاز إلحاق النية بها بالاتفاق فهي إذا كانت مجملا أحرى بإثبات النية فيها من جهة الإجماع ذكر اختلاف الفقهاء في فرض النية قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد كل طهارة بماء تجوز بغير نية ولا يجزي التيمم إلا بنية وهو قول الثوري وقال الأوزاعي يجزي الوضوء بغير نية ولم تحفظ عنه في التيمم وقال مالك والليث والشافعي لا يجزي الوضوء ولا الغسل إلا بالنية وكذلك التيمم وقال الحسن بن صالح يجزي الوضوء والتيمم جميعا بغير نية قال أبو جعفر الطحاوي ولم نجد هذا القول في التيمم عن غيره قال أبو بكر قد قدمنا ذكر دلالة الآية على جواز الوضوء بغير نية وقوله تعالى (جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا دل على جواز الاغتسال من الجنابة بغير نية كذلك قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم على النحو الذي بينا ويدل عليه أيضا قوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا)
[ 421 ]
[ الفرقان: 48 ] ومعناه مطهرا فحيثما وجد فواجب أن يكون مطهرا ولو شرطنا فيه النية كنا قد سلبناه الصفة التي وصفه الله بها من كونه طهورا لأنه حينئذ لا يكون طهورا إلا بغيره والله تعالى جعله طهورا من غير شرط معنى آخر فيه فإن قيل إيجاب شرط النية فيه لا يخرجه من أن يكون طهورا كما وصفه الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وقال التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء ولم يمنع ذلك إيجاب النية شرطا فيه قيل له إنما سماه طهورا على وجه المجاز تشبيها له بالماء في باب إباحة الصلاة والدليل عليه أنه لا يرفع الحدث ولا يزيل النجس فعلمنا أنه سماه طهورا استعارة ومجازا ومن جهة أخرى أن إثبات النية شرطا في التيمم جائز مع قوله التراب طهور المسلم ولا يجوز مثله في الوضوء وذلك لأن قوله يقتضي إيجاب النية إذ كان التيمم هو القصد في اللغة وقوله التراب طهور المسلم وارد من طريق الآحاد فواجب أن يكون الخبر مرتبا على الآية إذ غير جائز ترك حكم الآية بالخبر وتجوز الزيادة في الخبر بالآية وليس ذلك كقوله وأنزلنا من السماء ماء طهورا لأنه غير جائز أن يزاد في نص القرآن إلا بمثل ما يجوز به نسخه ويدل على ذلك ايضا قوله تعالى عليكم من السماء ماء ليطهركم به فأبان تعالى عن وقوع التطهير بالماء من غير شرط النية فيه فإن قيل لما كان قوله تعالى وجوهكم الآية مقتضيا لفرض الطهارة فمن حيث كان فرضا وجب أن تكون النية شرطا في صحته لاستحالة وقوع الفعل موقع الفرض إلا بالنية وذلك لأن الفرض يحتاج في صحة وقوعه إلى نيتين أحدهما نية التقرب به إلى الله تعالى والأخرى نية الفرض فإذا لم ينوه لم توجد صحة الفرض فلم يجز عن الفرض إذ هو غير فاعل للمأمور به قيل له إنما يجب ما ذكرت في الفروض التي هي مقصودة لأعيانها ولم تجعل سببا لغيرها فأما ما كان شرطا لصحة فعل آخر فليس يجب ذلك فيه بنفس ورود الأمر إلا بدلالة تقاربه فلما جعل الله الطهارة شرطا لصحة الصلاة ولم تكن مفروضة لنفسها لأن من لا صلاة عليه فليس عليه فرض الطهارة كالمريض المغمى عليه أياما وكالحائض والنفساء وقال تعالى قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وقالي ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا [ النساء: 43 ] فجعله شرطا في غيره ولم يجعله مأمورا به لنفسه فاحتاج موجب النية شرطا فيه إلى دلالة من غيره ألا ترى أن كثيرا مما هو شرط في الفرض وليس بمفروض بعينه فجائز أن يكون من فعل غيره نحو الوقت الذي هو شرط في صحة أداء الصلاة ولا صنع
[ 422 ]
للمصلي ونحو البلوغ والعقل اللذين هما شرط في صحة التكليف وليسا بفعل المكلف فبان بما وصفنا أن ورود لفظ الأمر بما جعل شرطا في غيره لا يقتضي وقوعه طاعة منه ولا إيجاب النية فيه ألا ترى أن قوله تعالى فطهر [ المدثر: 4 ] وإن كان أمرا بتطهير الثوب من النجاسة فإنه لم يوجب كون النية شرطا في تطهيره إذا لم تكن إزالة النجاسة مفروضة لنفسها وإنما هي شرط في غيرها وإنما تقديره لا تصل إلا في ثوب طاهر ولا تصل إلا مستور العورة ويدل على ذلك ايضا أن الشافعي قد وافقنا على أن رجلا لو قعد في المطر ينوي الطهارة فأصاب جميع أعضائه أنه يجزيه من غير فعل له فيه ولو كان ذلك مفروضا لنفسه لما أجزأه دون أن يفعله هو أو يأمر به غيره لأن هذا حكم المفروض فإن قيل فالتيمم غير مفروض لنفسه ولا يصح مع ذلك إلا بالنية فليس إيجاب النية مقصورا على ما كان مفروضا لنفسه قيل له هذا غير لازم لأنا لم نخرج هذا القول مخرج الاعتلال فتلزمنا رسول عليه المناقضة وإنما بينا أن لفظ الأمر إذا ورد فيما كان وصفه ما ذكرنا فإنه لا يقتضي إيجاب النية شرطا فيه إلا بدلالة أخرى من غيره فإنما أسقطنا بذلك احتجاج من احتج بظاهر ورود الأمر في إيجاب النية وفي مضمون لفظ التيمم إيجاب النية إذ كان التيمم في اللغة اسما للقصد قال الله تعالى تيمموا الخبيث منه تنفقون يعني لا تقصدوا وقال الشاعر ولن يلبث العصران يوم وليلة * إذا طلبا أن يدركا ما تيمما وقال آخر فإن تلي خيلي قد أصيب صميمها * لم فعمدا على عين تيممت مالكا وقال الأعشى تيممت حدثنا قيسا وكم دونه * من الأرض من مهمه ذي شزن يعني قصدته فلما كان في لفظ الآية إيجاب القصد والقصد هو النية لفعل ما أمر به جعلنا النية شرطا ولم يكن في إيجاب النية لحاق زيادة بالآية غير مذكورة فيها وأما الغسل فلا تنطوي تحته النية وفي إيجابها فيه إثبات زيادة فيها ليست منها وذلك غير جائز ووجه آخر في الفصل بين التيمم والوضوء وهو أن التيمم قد يقع تارة عن الغسل وتارة عن الوضوء وهو على صفة واحدة في الحالين فاحتيج إلى النية للفصل بين حكميهما لأن النية إنما شرطت لتمييز أحكام الأفعال فلما كان حكم التيمم قد يختلف فيقع تارة عن الغسل وتارة عن الوضوء احتيج إلى النية فيه لتمييز ما يقع منه عن
[ 423 ]
الغسل عما يقع منه عن الوضوء وأما الغسل لا يختلف حكمه في نفسه ولا فيما يقع له فاستغنى عن النية فيه والتمييز إذ كان المقصد منه إيقاع الفعل كما قيل لا تصل حتى تغسل النجاسة من بدنك أو ثوبك ولا تصل إلا مستور العورة وليس يقتضي شئ من ذلك إيجاب النية فيه ويدل على ما ذكرنا من جهة السنة حديث رفاعة بن رافع وأبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعليمه الأعرابي الصلاة وقوله لا تتم صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضه فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل رجليه فقوله حتى يضع الطهور مواضعه يقتضي جوازه بغير نية لأن مواضع الطهور معلومة مذكورة في القرآن فصار كقوله حتى يغسل هذه الأعضاء وقوله فيغسل وجهه ويديه يوجب ذلك أيضا إذ لم يشرط فيه النية فظاهره يقتضي جوازه على أي وجه غسله ويدل من جهة أخرى أنه معلوم أن الأعرابي كان جاهلا بأحكام الصلاة والطهارة فلو كانت النية شرطا فيها لما أخلاه النبي صلى الله عليه وسلم من التوقيف عليها وفي ذلك أوضح دليل على أنها ليست من فروضها ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم في غسل الجنابة لأم سلمة إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات على سائر جسدك فإذا أنت قد طهرت ولم يشرط فيه النية وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ مرة مرة ثم قال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به فأشار إلى الفعل المشاهد دون النية هي ضمير لا تصح الإشارة إليه وأخبر بقبول الصلاة به وقال إذا وجدت الماء فامسسه جلدك وقال إن تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وانقوا البشرة ومن جهة النظر أن الوضوء طهارة الماء كغسل النجاسة وأيضا هو سبب يتوصل به إلى صحة أداء الصلاة لا على وجه البدل عن غيره فأشبه غسل النجاسة وستر العورة والوقوف على مكان طاهر ولا يلزم عليه التيمم لأنه بدل عن غيره فإن احتجوا بقوله تعالى أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [ البينة: 45 ] ذلك يقتضي إيجاب النية له لأن ذلك أقل أحوال الإخلاص قيل له ينبغي أن يثبت أن الوضوء عبادة أو أنه من الدين إذ جائز أن يقال إن العبادات هي مقصودا لعينه في التعبد فأما ما أمر به لأجل غيره أو جعل شرطا فيه أو سببا له فليس يتناوله هذا الاسم ولو لزم أن يكون تارك النية في الطهارة غير مخلص لله لوجب مثله في تارك النية في غسل النجاسة وستر العورة فلما لم يجز أن يكون تارك النية فيما وصفنا غير مخلص إذ كان مأمورا به لأجل الصلاة كان كذلك في الطهارة
[ 424 ]
مطلب: الاخلاص ضد الاشراك وأيضا فإن كل من اعتقد الإسلام فهو مخلص لله تعالى فيما يفعله من العبادات إذ لم يشرك في النية بين الله وبين غيره لأن ضد الإخلاص هو الإشراك فمتى لم يشرك فهو مخلص بنفس اعتقاد الإيمان في جميع ما يفعله من العبادات ما لم يشرك غيره فيه واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم الأعمال بالنيات وهذا لا يصح الاحتجاج به في موضع الخلاف من قبل أن حقيقة اللفظ تقتضي كون العمل موقوفا على النية والعمل موجود مع فقد النية فعلمنا أنه لم يرد به حقيقة اللفظ وإنما أراد معنى مضمرا فيه غير مذكور فالمحتج بعموم الخبر في ذلك مغفل فإن قيل مراده حكم العمل قيل له الحكم غير مذكور فالاحتجاج بعمومه ساقط فإن ترك الاحتجاج بظاهر اللفظ وقال ما لم يجز أن يخلو كلام النبي صلى الله عليه وسلم من فائدة وقد علمنا أنه لم يرد نفس العمل وجب أن يكون مراده حكم العمل قيل له يحتمل أن يريد به فضيلة العمل لا حكمه وإذا احتمل الأمرين احتيج إلى دلالة من غيره في إثبات المراد وسقط الاحتجاج به فإن قيل هو على الأمرين قيل له هذا خطأ لأن الضمير المحتمل للمعنيين غير ملفوظ به فيقال عمومه شامل للجميع فأما ما ليس بمذكور وهو ضمير ليس اللفظ عبارة عنه فقول القائل أحمله على العموم خطأ وأيضا فغير جائز إرادة الأمرين لأنه إن أريد به فضيلة العمل صار بمنزلة قوله لا فضيلة للعمل إلا بالنية وذلك يقتضي إثبات حكم العمل حتى يصح نفي فضيلته لأجل عدم النية ومتى أراد به حكم العمل لم يجز أن يريد به الفضيلة والأصل منتف فغير جائز أن يرادا جميعا بلفظ واحد إذ غير جائز أن يكون لفظ واحد لنفي الأصل ونفي الكمال وأيضا غير جائز أن يزاد في حكم القرآن بخبر الآحاد على ما بينا وهذا من أخبار الآحاد فصل قوله عز وجل قوله أبو بكر قد قيل فيه إن حد الوجه من قصاص الشعر إلى أصل الذقن إلى شحمة الأذن حكى ذلك أبو الحسن الكرخي عن أبي سعيد البردعي ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في هذا المعنى وكذلك يقتضي ظاهر الاسم إذ كان إنما سمي وجها لظهوره ولأنه يواجه ا لشئ ويقابل به وهذا الذي ذكرناه من تحديد الوجه هو الذي يواجه انسان ويقابله من غيره فإن قيل فينبغي أن يكون الأذنان من الوجه لهذا المعنى قيل له لا يجب ذلك لأن الأذنين تستران له بالعمامة والقلنسوة
[ 425 ]
ونحوهما كما يستر صدره وإن كان متى ظهر كان مواجها لمن يقابله وهذا الذي ذكرنا من معنى الوجه يدل على أن المضمضة والاستنشاق غير واجبين بالآية إذ ليس داخل الأنف والفم من الوجه إذ هما غير مواجهين لمن قابلهما وإذا لم تقتض الآية إيجاب غسلهما وإنما اقتضت غسل ما واجهنا وقابلنا منه فمن قال بإيجاب المضمضة والاستنشاق فهو زائد في حكم الفرض ما ليس منه وهذا غير جائز لأنه يوجب نسخه فإن قيل قول النبي صلى الله عليه وسلم بالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما وقوله صلى الله عليه وسلم حين توضأ مرة مرة هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به يوجب فرض المضمضة والإستنشاق قيل له أما الحديث الذي فيه أنه توضأ مرة مرة ثم قال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به فإنه لم يذكر فيه أنه تمضمض فيه واستنشق وإنما ذكر فيه الوضوء فحسب والوضوء هو غسل الأعضاء المذكورة في كتاب الله تعالى وجائز أن لا يكون تمضمض واستنشق في ذلك الوضوء لأنه قصد به توقيفهم على المفروض الذي لا يجزي غيره فإذا لا دلالة في هذا الخبر على ما قال هذا القائل ولو ثبت أنه تمضمض واستنشق لم يجز أن يراد في حكم الآية وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم بالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما لا يجوز الاعتراض به على الآية في إثبات الزيادة لأنه غير جائز أن يزاد في حكم القرآن بخبر الواحد وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أبو ميسرة محمد بن الحسن بن العلاء قال حدثنا عبد الأعلى قال حدثنا يحيى بن ميمون بن عطاء قال حدثنا ابن جريج عن عطاء قال سئلت عائشة عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء فيه ماء فتوضأ وكفا على يديه مرة وغسل وجهه مرة وغسل ذراعيه مرة ومسح برأسه مرة وغسل قدميه مرة وقال هذا الوضوء الذي افترض الله علينا ثم أعاد ذلك فقال من ضاعف ضاعف الله له ثم أعاد الثالثة فقال هذا وضوؤنا ذلك معشر الأنبياء فمن زاد فقد أساء فأخبرت بوضوئه من غير مضمضة ولا استنشاق لأنه قصد بيان المفروض منه ولو كان فرضا فيه لفعله باب غسل اللحية وتخليلها قال محمد الله تعالى فاغسلوا وجوهكم وقد بينا أن الوجه ما واجهك من الإنسان فاحتمل أن تكون اللحية من الوجه لأنها تواجه المقابل له غير مغطاة في الأكثر كسائر الوجه وقد يقال أيضا خرج وجهه إذا خرجت لحيته فليس يمتنع أن تكون اللحية من الوجه فيقتضي ظاهر ذلك وجوب غسلها ويحتمل أن يقال ليست من الوجه وإنما الوجه ما واجهك من بشرته دون الشعر النابت عليه بعد ما كانت البشرة ظاهرة دونه
[ 426 ]
ولمن قال بالقول الأول أن يقول نبات الشعر عليه بعد ظهور البشرة لا يخرجه من أن يكون من الوجه كما أن شعر الرأس من الرأس وقد قال الله تعالى وامسحوا برءوسكم إلى فلو مسح على شعر رأسه من غير إبلاغ الماء بشرته كان ماسحا على الرأس وفاعلا لمقتضى الآية عند جميع المسلمين فكذلك نبات الشعر على الوجه لا يخرجه من أن يكون منه ولمن يأبى أن يكون من الوجه أن يفرق بينه وبين شعر الرأس أن شعر الرأس يوجد مع الصبي حين يولد فهو بمنزلة الحاجب في كون كل واحد منهما من العضو الذي هو فيه وشعر اللحية غير موجود معه في حال الولادة وإنما نبت بعدها فلذلك لم يكن من الوجه وقد ذكر عن السلف اختلاف في غسل اللحية وتخليلها ومسحها فروى إسرائيل عن جابر قال رأيت القاسم ومجاهدا وعطاء والشعبي يمسحون لحاهم وكذلك روي عن طاوس وروى جرير عن زيد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال رأيته توضأ ولم أره خلل لحيته وقال هكذا رأيت عليا رضي الله عنه توضأ وقال يونس رأيت أبا جعفر لا يخلل لحيته فلم ير أحد من هؤلاء غسل اللحية واجبا ورى ابن جريج عن نافع أن ابن عمر كان يبل أصول شعر لحيته ويغلغل بيديه في أصول شعرها حتى يكثر القطر منها وكذلك روي عن عبيد بن عمير وابن سيرين وسعيد بن جبير فهؤلاء كلهم روي عنهم غسل اللحية ولكنه لم يثبت عنهم أنهم رأوا ذلك واجبا كغسل الوجه وقد كان ابن عمر متقصيا في أمر الطهارة كان يدخل الماء عينيه ويتوضأ لكل صلاة وكان ذلك منه استحبابا لا إيجابا ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن تخليل اللحية ليس بواجب وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خلل لحيته وروي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم خلل لحيته وقال بهذا أمرني ربي وروى عثمان وعمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خلل لحيته في الوضوء وروى الحسن عن جابر قال وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثا فرأيته يخلل لحيته بأصابعه كأنها أسنان مشط قال أبو بكر وروي أخبار أخر في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيها ذكر تخليل اللحية منها حديث عبد خير عن علي وحديث عبد الله بن زيد وحديث الربيع بنت معوذ وغيرهم كلهم ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل وجهه ثلاثا ولم يذكروا تخليل اللحية فيه وغير جائز إيجاب تخليل اللحية ولا غسلها بالآية وذلك لأن الآية إنما أوجبت غسل الوجه والوجه ما واجهك منه وباطن اللحية ليس من الوجه كداخل الفم والأنف لما لم يكونا من الوجه لم يلزم تطهيرهما في الوضوء على جهة الوجوب فإن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تخليلها أو غسلها كان ذلك منه استحبابا لا إيجابا كالمضمضة والاستنشاق وذلك لأنه لما لم تكن في الآية دلالة على
[ 427 ]
وجوب غسلها أو تخليلها لم يجز لنا أن نزيد في الآية بخبر الواحد وجميع ما روي من أخبار التخليل إنما هي أخبار أحاد لا يجوز إثبات الزيادة بها في نص القرآن وأيضا فإن التخليل ليس بغسل فلا يجوز أن يكون موجبا بالآية ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم التخليل ثبت أن غسلها غير واجب لأنه لو كان واجبا لما تركه إلى التخليل وقد اختلف أصحابنا في تخليل اللحية ومسحها فروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة قال سألته عن تخليل اللحية في الوضوء فقال لا يخللها ويجزيه أن يمر بيده على ظاهرها قال فإنما مواضع الوضوء منها الظاهر وليس تخليل الشعر من مواضع الوضوء وبه قال ابن أبي ليلى قال أبو يوسف وأنا أخلل وقال بشر بن الوليد عن أبي يوسف في نوادره يمسح ما ظهر من اللحية وإن كانت عريضة فإن لم يفعل فعليه الإعادة إن صلى وذكر ابن شجاع عن الحسن عن زفر في الرجل يتوضأ أنه ينبغي له إذا غسل وجهه أن يمر الماء على لحيته فإن أصاب لحيته من الماء قدر ثلث أو ربع أجزأه ذلك وإن كان أقل من ذلك لم يجزه وهو قول أبي حنيفة وبه أخذ الحسن وقال أبو يوسف يجزيه إذا غسل وجهه أن لا يمس لحيته بشئ من الماء وقال ابن شجاع لما لم يلزمه غسلها صار الموضع الذي ينبت عليه الشعر من الوجه بمنزلة الراس إذ لم يجب غسله فكان الواجب مسحها كمسح الرأس فيجزي منه الربع كما قالوا في مسح الرأس قال أبو بكر لا تخلو اللحية من أن تكون من الوجه فيلزمه غسلها كغسل بشرة الوجه مما ليس عليه شعر وأن لا تكون من الوجه فلا يلزمه غسلها ولا مسحها بالآية فلما اتفق الجميع على سقوط غسلها دل ذلك على أنها ليست من الوجه لأنها لو كانت منه لوجب غسلها ولما سقط غسلها لم يجز إيجاب مسحها لأن فيه إثبات زيادة في الآية كما لم يجز إيجاب المضمضة والاستنشاق لما فيه من الزيادة في نص الكتاب وأيضا لوجب مسحها كان فيه إثبات فرض المسح والغسل في عضو واحد وهو الوجه من غير ضرورة وذلك خلاف الأصول فإن قيل قد يجتمع فرض المسح والغسل في عضو واحد بأن يكون على يده جبائر فيمسح عليها ويغسل باقي العضو قيل له إنما يجب للضرورة والعذر وليس في نبات اللحية ضرورة في ترك الغسل والوجه بمنزلة سائر الأعضاء التي أوجب الله تعالى طهارتها فلا يجوز اجتماع الغسل والمسح فيه من غير ضرورة ويقتضي ما قال أبو يوسف من سقوط فرض غسلها ومسحها جميعا وإن كان المستحب إمرار الماء عليها قوله تعالى وأيديكم إلى المرافق قال أبو بكر اليد اسم يقع على هذا العضو
[ 428 ]
إلى المنكب والدليل على ذلك أن عمارا تيمم إلى المنكب وقال تيممنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المناكب وكان ذلك لعموم قوله فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ولم ينكره عليه أحد من جهة اللغة بل هو كان من أهل اللغة فكان عنده أن الاسم للعضو إلى المنكب فثبت بذلك أن الاسم يتناولها إلى المنكب وإذا كان الإطلاق يقتضي ذلك ثم ذكر التحديد فجعل المرافق غاية كان ذكره لها لإسقاط ما وراءها من وجهين أحدهما أن عموم اللفظ ينتظم المرافق فيجب استعماله فيها إذ لم تقم الدلالة على سقوطها والثاني أن الغاية لما كانت قد تدخل تارة ولا تدخل أخرى والموضع الذي دخلت الغاية فيه قوله تعالى تقربوهن حتى يطهرن ووجود الطهر شرط في الإباحة كان وقال تنكح زوجا غيره ووجوده شرط فيه وإلى وحتى جميعا للغاية والموضع الذي لا تدخل فيه نحو قوله ثم أتموا الصيام إلى الليل والليل خارج منه فلما كان هذا هكذا وكان الحدث فيه يقينا لم يرتفع إلا بيقين مثله وهو وجود غسل المرفقين إذ كانت الغاية مشكوكا فيها وأيضا روى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بلغ المرفقين في الوضوء أدار الماء عليهما وفعله ذلك عندنا على الوجوب لوروده مورد البيان لأن قوله تعالى إلى المرافق لما احتمل دخول المرافق فيه واحتمل خروجها صار مجملا مفتقرا إلى البيان وفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب والذي ذكرنا من دخول المرافق في الوضوء هو قول أصحابنا جميعا إلا زفر فإنه يقول إن المرافق غير داخلة في الوضوء وكذلك الكعبان على هذا الخلاف وقوله تعالى وامسحوا برؤسكم قال أبو بكر اختلف الفقهاء في المفروض من مسح الرأس فروي عن أصحابنا فيه روايتان إحداهما ربع الرأس والأخرى مقدار ثلاثة أصابع ويبدأ بمقدم الرأس وقال الحسن بن صالح يبدأ بمؤخر الرأس وقال الأوزاعي والليث يمسح مقدم الرأس وقال مالك الفرض مسح جميع الرأس وإن ترك القليل منه جاز وقال الشافعي الفرض مسح بعض رأسه ولم يحد شيئا وقوله تعالى وامسحوا برؤسكم يقتضي مسح بعضه وذلك لأنه معلوم أن هذه الأدوات موضوعة لإفادة المعاني فمتى أمكننا استعالها على فوائد مضمنة بها وجب استعمالها على ذلك وإن كان قد يجوز دخولها في بعض المواضع صلة للكلام وتكون ملغاة نحو من هي مستعملة على معان منها التبعيض ثم قد تدخل في الكلام وتكون ملغاة وجودها وعدمها سواء ومتى أمكننا استعمالها على وجه الفائدة وما هي موضوعة له لم يجز لنا إلغاؤها قلنا من أجل ذلك إن الباء للتبعيض وإن جاز وجودها في الكلام
[ 429 ]
على أنها ملغاة ويدل على أنها للتبعيض أنك إذا قلت مسحت يدي بالحائط كان معقولا مسحها ببعضه دون جميعه ولو قلت مسحت الحائط كان المعقول مسحه جميعه دون بعضه فقد وضح الفرق بين إدخال الباء وبين إسقاطها في العرف واللغة فوجب إذا كان ذلك كذلك أن نحمل قوله وامسحوا برؤسكم على البعض حتى نكون قد وفينا الحرف حظه من الفائدة وأن لا نسقطه فتكون ملغاة يستوي دخولها وعدمها والباء وإن كانت تدخل للإلصاق كقوله كتبت بالقلم ومررت بزيد فإن دخولها للإلصاق لا ينافي كونها مع ذلك للتبعيض فنستعمل الأمرين فنكون مستعملا للإلصاق في البعض المفروض طهارته ويدل على أنها للتبعيض ما روى عمر بن علي بن مقدم عن إسماعيل بن حماد عن أبيه حماد عن إبراهيم في قوله تعالى وامسحوا برؤسكم قال إذا مسح ببعض الرأس أجزأه قال ولو كانت امسحوا رؤسكم كان مسح الرأس كله فأخبر إبراهيم أن الباء للتبعيض وقد كان من أهل اللغة مقبول القول فيها ويدل على أنه قد أريد بها التبعيض في الآية اتفاق الجميع على جواز ترك القليل من الرأس في المسح والاقتصار على البعض وهذا هو استعمال اللفظ على التبعيض وقول مخالفنا بإيجاب مسح الأكثر لا يعصمه من أن يكون مستعملا للفظ على التبعيض إلا أنه زعم أن ذلك البعض ينبغي أن يكون المقدار الذي ادعاه وإذا ثبت أن المراد البعض باتفاق الجميع احتاج إلى دلالة في إثبات المقدار الذي حده فإن قيل لو كانت الباء للتبعيض لما جاز أن تقول مسحت رأسي كله كما لا تقول مسحت ببعض رأسي كله قيل له قد بينا أن حقيقتها ومقتضاها إذا أطلقت التبعيض مع احتمال كونها ملغاة فإذا قال مسحت برأسي كله علمنا أنه أراد أن تكون الباء ملغاة وإذا لم يقل ذلك فهي محمولة على حقيقتها التبعيض وقد توجد صلة الكلام فتكون ملغاة في نحو قوله تعالى (ما لكم من إله غيره) [ الاعراف: 59 ] و (ويغفر لكم من ذنوبكم ولا يجب من أجل ذلك أن نجعلها ملغاة في كل موضع إلا بدلالة وقد روي نحو قولنا في جواز مسح بعض الرأس عن جماعة من السلف منهم ابن عمر روى عنه نافع أنه مسح مقدم رأسه وعن عائشة مثل ذلك وقال الشعبي أي جانب رأسك مسحت أجزأك وكذلك قال إبراهيم ويدل على صحة قول القائلين بفرض البعض ما حدثنا أبو الحسن عبيدالله بن الحسين الكرخي قال حدثنا إبراهيم الحربي قال حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا هشيم قال حدثنا يونس عن ابن سيرين قال أخبرني عمرو بن وهب قال سمعت المغيرة بن شعبة يقول خصلتان لا أسأل عنهما
[ 430 ]
أحدا بعد ما شهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا كنا معه في سفر فنزل لحاجته ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته وجانبي عمامته وروى سليمان التيمي عن بكر بن عبد الله المزني عن ابن المغيرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين ومسح على ناصيته ووضع يده على العمامة أو مسح على العمامة وحدثنا عبيدالله بن الحسين قال حدثنا محمد بن سليمان الحضرمي قال حدثنا كردوس بن أبي عبيدالله قال حدثنا المعلى بن عبد الرحمن قال حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن عطاء عن ابن عباس قال توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح رأسه مسحة واحدة بين ناصيته وقرنه فثبت بما ذكرنا من ظاهر الكتاب والسنة أن المفروض مسح بعض الرأس فإن قيل يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما اقتصر على مسح الناصية لضرورة أو كان وضوء من لم يحدث قيل له إنه لو كان هناك ضرورة لنقلت كما نقل غيره وأما كونه وضوء من لم يحدث فإنه تأويل ساقط لأن في حديث المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى حاجته ثم توضأ ومسح على ناصيته ولو ساغ هذا التأويل في مسح الناصية لساغ في المسح على الخفين حتى يقال إنه مسح لضرورة أو كان وضوء من لم يحدث واحتج من قال بمسح الجميع بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح مقدم رأسه ومؤخره قال فلو كان المفروض بعضه لما مسح النبي صلى الله عليه وسلم جميعه ولوجب أن يكون من مسح جميع رأسه متعديا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ثلاثا ثلاثا وقال من زاد فقد اعتدى وظلم فيقال له لا يمتنع أن يكون المفروض البعض والمسنون الجميع كما أن المفروض في الأعضاء المغسولة مرة والمسنون ثلاثا فلا يكون الزائد على المفروض معتديا إذا أصاب السنة وكما أن المفروض من المسح على الخفين هو بعض ظاهرهما ولو مسح ظاهرهما وباطنهما لم يكن معتديا وكما أن فرض القراءة على قولنا آية وعلى قول مخالفينا فاتحة الكتاب والمسنون عند الجميع قراءة فاتحة الكتاب وشئ معها والمفروض من غسل الوجه ظاهره والمسنون غسل ذلك والمضمضة والاستنشاق والمفروض مسح الرأس والمسنون مسح الأذنين معه وكما يقول مخالفنا إن المفروض من مسح الرأس هو الأكثر وإن ترك القليل جائز ولو مسح الجميع لم يكن متعديا بل كان مصيبا كذلك نقول إن المفروض مسح البعض والمسنون مسح الجميع وإنما قال أصحابنا إن المفروض مقدار ثلاثة أصابع في إحدى الروايتين وهي رواية الأصل وفي
[ 431 ]
رواية لحسن بن زياد الربع فإن وجه تقدير ثلاث اصابع أنه لما ثبت أن المفروض البعض بما قدمنا وكان ذلك البعض غير مذكور المقدار في الآية احتجنا فيه إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على ناصيته كان فعله ذلك واردا مورد البيان وفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب كفعله لأعداد ركعات الصلاة وأفعالها فقدروا الناصية بثلاث أصابع وقد روي عن ابن عباس أنه مسح بين ناصيته وقرنه فإن قيل فقد روي أنه مسح رأسه بيديه أقبل بهما وأدبر فينبغي أن يكون ذلك واجبا قيل له معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يترك المفروض وجائز أن يفعل غير المفروض على أنه مسنون فلما روي عنه الاقتصار على مقدار الناصية في حال وروي عنه استيعاب الرأس في أخرى استعملنا الخبرين وجعلنا المفروض مقدار الناصية إذ لم يرو عنه أنه مسح أقل منها وما زاد عليها فهو مسنون وأيضا لو كان المفروض أقل من مقدار الناصية لاقتصر النبي صلى الله عليه وسلم في حال بيانا للمقدار المفروض كما اقتصر على مسح الناصية في بعض الأحوال فلما لم يثبت عنه أقل من ذلك دل على أنه هو المفروض فإن قيل لو كان فعله ذلك على وجه البيان لوجب أن يكون المفروض موضع الناصية دون غيره من الرأس كما جعلتها بيانا للمقدار ولم تجز أقل منها فلما جاز عند الجميع من القائلين بجواز مسح بعض الرأس ترك مسح الناصية إلى غيرها من الرأس دل ذلك على أن فعله ذلك غير موجب للاقتصار على مقداره قيل له قد كان ظاهر فعله يقتضي ذلك لولا قيام الدلالة على أن مسح غير الناصية من الرأس يقوم مقام الناصية فلم يوجب تعيين الفرض فيها وبقي حكم فعله في المقدار على ما اقتضاه ظاهر بيانه بفعله مطلب: في أن فعله عليه السلام يبين المجمل من أحكام القرآن فإن قيل لما كان قوله تعالى بن برؤسكم مقتضيا مسح بعضه فأي بعض مسحه منه وجب أن يجزيه بحكم الظاهر قيل له إذا كان ذلك البعض مجهولا صار مجملا ولم يخرجه ما ذكرت من حكم الإجمال ألا ترى أن قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة وقوله وآتوا الزكاة وقوله (يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله كلها مجملة لجهالة مقاديرها في حال ورودها وأنه غير جائز لأحد اعتبار ما يقع عليه الاسم منها فكذلك قوله تعالى (برؤسكم وإن اقتضى البعض فإن ذلك البعض لما كان مجهولا عندنا وجب أن يكون مجملا موقوف الحكم على البيان فما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل فيه فهو بيان مراد الله
[ 432 ]
به ودليل آخر وهو أن سائر أعضاء الوضوء لما كان المفروض منها مقدار وجب أن يكون كذلك حكم مسح الرأس لأنه من أعضاء الوضوء وهذا يحتج به على مالك والشافعي جميعا لأن مالكا يوجب مسح الأكثر ويجيز ترك القليل منه فيحصل المفروض مجهول المقدار والشافعي يقول كل ما وقع عليه اسم المسح جاز وذلك مجهول القدر وما قلنا من مقدار ثلاثة أصابع فهو معلوم وكذلك الربع في الرواية الأخرى فهو موافق لحكم أعضاء الوضوء من كون المفروض منها معلوم القدر وقول مخالفينا على خلاف المفروض من أعضاء الوضوء ويجوز أن نجعل ذلك ابتداء دليل في المسألة من غير اعتبار له بمقدار الناصية وذلك بأن نقول لما وجب أن يكون المفروض في مقدار المسح مقدرا اعتبارا بسائر أعضاء الوضوء ثم لم يقدره أحد بغير ما ذكرنا من مقدار ثلاثة أصابع أو مقدار ربع الرأس وجب أن يكون هذا هو المفروض من المقدار فإن قيل ما أنكرت أن يكون مقدرا بثلاث شعرات قيل له هذا محال لأن مقدار ثلاث شعرات لا يمكن المسح عليه دون غيره وغير جائز أن يكون المفروض ما لا يمكن الاقتصار عليه وأيضا فهو قياس على المسح على الخفين لما كان مقدرا بالأصابع وبه وردت السنة وهو مس بالماء وجب أن يكون مسح الرأس مثله وأما وجه رواية من روى الربع فهو أنه لما ثبت أن المفروض البعض وأن مسح شعرة لا يجزي وجب اعتبار المقدار الذي يتناوله الاسم عند الإطلاق إذا أجرى على الشخص وهو الربع لأنك تقول رأيت فلانا والذي يليك منه الربع فيطلق عليه الاسم فلذلك اعتبروا الربع واعتبروا أيضا في حلق الرأس الربع لا خلاف بينهم فيه أنه يحل به المحرم إذا حلقه ولا يحل عند أصحابنا بأقل منه فلذلك يوجبون به ما إذا حلقه في الإحرام واختلف الفقهاء في مسح الرأس بأصبع واحدة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد لا يجوز مسحه بأقل من ثلاث أصابع وإن مسحه بإصبع أو إصبعين ومدها حتى يكون الممسوح مقدار ثلاثة أصابع لم يجز وقال الثوري وزفر والشافعي يجزيه إلا أن زفر يعتبر الربع والأصل في ذلك أنه لا يجزي في مفروض المسح نقل الماء من موضع إلى موضع وذلك لأن المقصد فيه إمساس الماء الموضع لا إجراؤه عليه فإذا وضع إصبعا فقد حصل ذلك الماء ممسوحا به فغير جائز مسح موضع غيره به وليس كذلك الأعضاء المغسولة لأنه لو مسحها بالماء ولم يجره عليها لم يجزه فلا يحصل معنى الغسل إلا بجريان الماء على العضو وانتقاله من موضع إلى موضع فلذلك لم يكن مستعملا بحصوله من موضع وانتقاله إلى غيره من ذلك العضو وأما المسح فلو
[ 433 ]
اقتصر فيه على إمساس الماء الموضع من غير جري لجاز فلما استغنى عن إجرائه على العضو في صحة أداء الفرض لم يجز نقله إلى غيره فإن قيل فلو صب على رأسه ماء وجرى عليه حتى استوفى منه مقدار ثلاثة أصابع أجزى عن المسح مع انتقاله من موضع إلى غيره فهلا أجزته أيضا إذا مسح بإصبع واحدة ونقله إلى غيره قيل له من قبل أن صب الماء غسل وليس بمسح والغسل يجوز نقل الماء فيه من موضع إلى غيره وأما إذا وضع إصبعه عليه فهذا مسح فلا يجوز أن يمسح بها موضعا غيره وأيضا فإن الماء الذي يجري عليه بالصب والغسل يتسع للمقدار المفروض كله وما على إصبع واحدة من الماء لا يتسع للمقدار المفروض وإنما يكفي لمقدار الإصبع فإذا جره إلى غيره فإنما نقل إليه ماء مستعملا في غيره فلا يجوز له ذلك باب غسل الرجلين قال الله تعالى وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين قال أبو بكر قرأ ابن عباس والحسن وعكرمة وحمزة وابن كثير أبو وتأولوها على المسح وقرأ علي وعبد الله بن مسعود وابن عباس في رواية وإبراهيم والضحاك ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم بالنصب وكانوا يرون غسلها واجبا والمحفوظ عن الحسن البصري استيعاب الرجل كلها بالمسح ولست أحفظ عن غيره ممن أجاز المسح من السلف هو على الاستيعاب أو على البعض وقال قوم يجوز مسح البعض ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن المراد الغسل وهاتان القراءتان قد نزل بهما القرآن جميعا ونقلتهما أو الأمة تلقيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يختلف أهل اللغة أن كل واحدة من القراءتين محتملة للمسح بعطفها على الرأس ويحتمل أن يراد بها الغسل بعطفها على المغسول من الأعضاء وذلك لأن قوله وأرجلكم بالنصب يجوز أن يكون مراده فاغسلوا أرجلكم ويحتمل أن يكون معطوفا على الرأس فيراد بها المسح وإن كانت منصوبة فيكون معطوفا على المعنى لا على اللفظ لأن الممسوح به مفعول به كقول الشاعر معاوية) إننا بشر فاسجح * عبد فلسنا بالجبال ولا الحديدا فنصب الحديد وهو معطوف على الجبال بالمعنى ويحتمل قراءة الخفض أن تكون معطوفة على الرأس فيراد به المسح ويحتمل عطفه على الغسل ويكون مخفوضا بالمجاورة كقوله تعالى أبي عليهم ولدان مخلدون (ثم قال
[ 434 ]
عين فخفضهن ما بالمجاورة وهن معطوفات في المعنى على الولدان لأنهن يطفن ولا يطاف بهن وكما قال الشاعر فهل أنت إن ماتت أتانك راكب * لا إلى آل بسطام بن قيس فخاطب فخفض خاطبا بالمجاورة وهو معطوف على المرفوع من قوله راكب والقوافي مجرورة ألا ترى إلى قوله فنل على مثلها في مثلهم أو فلمهم * على دارمي بين ليلى وغالب فثبت بما وصفنا احتمال كل واحد من القراءتين للمسح والغسل فلا يخلو حينئذ القول من أحد معان ثلاثه إما أن يقال إن المراد هما جميعا مجموعان فيكون عليه أن يمسح ويغسل فيجمعهما أو أن يكون أحدهما على وجه التخيير يفعل المتوضئ أيهما شاء ويكون ما يفعله هو المفروض أو يكون المراد أحدهما بعينه لا على وجه التخيير وغير جائز أن يكونا هما جميعا على وجه الجمع لاتفاق الجميع على خلافه ولا جائز أيضا أن يكون المراد أحدهما على وجه التخيير إذ ليس في الآية ذكر التخيير ولا دلالة عليه ولو جاز إثبات التخيير مع عدم لفظ التخيير في الآية لجاز إثبات الجمع مع عدم لفظ الجمع فيظل التخيير بما وصفنا وإذا انتفى التخيير والجمع لم يبق إلا أن يكون المراد أحدهما لا على وجه التخيير فاحتجنا إلى طلب الدليل على المراد منهما فالدليل على أن المراد الغسل دون المسح اتفاق الجميع على أنه إذا غسل فقد أدى فرضه وأتى بالمراد وأنه غير ملوم على ترك المسح فثبت أن المراد الغسل وأيضا فإن اللفظ لما وقف الموقف الذي ذكرنا من احتماله لكل واحد من المعنيين مع اتفاق الجميع على أن المراد أحدهما صار في حكم المجمل المفتقر إلى البيان فمهما ورد فيه من البيان عن الرسول صلى الله عليه وسلم من فعل أو قول علمنا أنه مراد الله تعالى وقد ورد البيان عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالغسل قولا وفعلا فأما وروده من جهة الفعل فهو ما ثبت بالنقل المستفيض المتواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل رجليه في الوضوء ولم يختلف الأمة فيه فصار فعله ذلك واردا مورد البيان وفعله إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب فثبت أن ذلك هو مراد الله تعالى بالآية وأما من جهة القول فما روى جابر وأبو هريرة وعائشة وعبد الله بن عمر وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما تلوح أعقابهم لم يصبها الماء فقال ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء وتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم مرة مرة فغسل رجليه وقال هذا وضوء من لا
[ 435 ]
يقبل الله له صلاة إلا به فقوله ويل للأعقاب من النار وعيد لا يجوز أن يستحق إلا بترك الفرض فهذا يوجب استيعاب الرجل بالطهارة ويبطل قول من يجيز الاقتصار على البعض وقوله صلى الله عليه وسلم أسبغوا الوضوء وقوله بعد غسل الرجلين هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به يوجب استيعابهما بالغسل لأن الوضوء اسم للغسل يقتضي إجراء الماء على الموضع والمسح لا يقتضي ذلك وفي الخبر الآخر إخبار أن الله تعالى لا يقبل الصلاة إلا بغسلهما وأيضا فلو كان المسح جائزا لما أخلاه النبي صلى الله عليه وسلم من بيانه إذ كان مراد الله في المسح كهو في الغسل فكان يجب أن يكون مسحه في وزن غسله فلما لم يرد عنه المسح حسب وروده في الغسل ثبت أن المسح غير مراد وأيضا فإن القراءتين كالآيتين في إحداهما الغسل وفي الأخرى المسح لاحتمالهما للمعنيين فلو وردت آيتان إحداهما توجب الغسل والأخرى المسح لما جاز ترك الغسل إلى المسح لأن في الغسل زيادة فعل وقد اقتضاه الأمر بالغسل فكان يكون حينئذ يجب استعمالهما على أعمهما حكما وأكثرهما فائدة وهو الغسل لأنه يأتي على المسح والمسح لا ينتظم الغسل وأيضا لما حدد الرجلين بقوله تعالى إلى الكعبين كما قال وأيديكم إلى المرافق دل على استيعاب الجميع كما دل ذكر الأيدي إلى المرافق على استيعابهما بالغسل فإن قيل قد روى علي وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ومسح على قدميه ونعليه قيل له لا يجوز قبول أخبار الآحاد فيه من وجهين أحدهما لما فيه من الاعتراض به على موجب الآية من الغسل على ما قد دللنا عليه والثاني أن أخبار الآحاد غير مقبولة في مثله لعموم الحاجة إليه وقد روي عن علي أنه قرأ (وأرجلكم) بالنصب وقال المراد الغسل فلو كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم جواز المسح والاقتصار عليه دون الغسل لما قال إن مراد الله الغسل وأيضا فإن الحديث الذي روي عن علي في ذلك قال فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا وضوء من لم يحدث وهو حديث شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة أن عليا صلى الظهر ثم قعد في الرحبة فلما حضرت العصر دعا بكوز من ماء فغسل يديه ووجهه وذراعيه ومسح برأسه ورجليه وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل وقال هذا وضوء من لم يحدث ولا خلاف في جواز مسح الرجلين في وضوء من لم يحدث وأيضا لما احتملت الآية الغسل والمسح استعملناها على الوجوب في أن الحالين الغسل في حال ظهور الرجلين والمسح في حال لبس الخفين فإن قيل لما سقط فرض الرجل في حال التيمم كما سقط الرأس دل على أنها
[ 436 ]
ممسوحة غير مغسولة قيل له فهذا يوجب أن لا يكون الغسل مرادا ولا خلاف أنه إذا غسل فقد فعل المفروض ولم تختلف الأمة أيضا في نقل الغسل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأيضا فإن غسل البدن كله يسقط في الجنابة إلى التيمم عند عدم الماء وقام التيمم في هذين العضوين مقام غسل سائر الأعضاء كذلك جائز أن يقوم مقام غسل الرجلين وإن لم يجب التيمم فيها فصل وقد اختلف في الكعبين ما هما فقال جمهور أصحابنا وسائر أهل العلم هما الناتئان بين مفصل القدم والساق وحكى هشام عن محمد أنه مفصل القدم الذي يقع عليه عقد الشراك على ظهر القدم والصحيح هو الأول لأن الله تعالى قال (وأرجلكم إلى الكعبين فدل ذلك أن في كل رجل كعبين ولو كان في كل رجل كعب واحد لقال إلى الكعاب كما قال تعالى إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما [ التحريم: 4 ] لما كان لكل واحد قلب واحد أضافهما إليهما بلفظ الجميع فلما أضافهما إلى الأرجل بلفظ التثنية دل على أن في كل رجل كعبين مطلب: فيما استدل به المصنف من الحديث على المراد بالكعبين ويدل عليه أيضا ما حدثنا من لا أتهم قال حدثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه قال حدثنا إسحاق بن راهويه قال حدثنا الفضل بن موسى عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد عن جامع بن شداد عن طارق بن عبد الله المحاربي قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق ذي المجاز وعليه جبة حمراء وهو يقول يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ورجل يتبعه ويرميه بالحجارة وقد أدمى عرقوبيه وكعبيه وهو يقول يا أيها الناس لا تطيعوه فإنه كذاب فقلت من هذا فقالوا ابن عبد المطلب قلت فمن هذا الذي يتبعه ويرميه بالحجارة قالوا هذا عبد العزى أبو لهب وهذا يدل على أن الكعب هو العظم الناتئ في جانب القدم لأن الرمية إذا كانت من وراء الماشي لا يضرب ظهر القدم قال وحدثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه قال أخبرنا وكيع قال حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن القاسم الجدلي قال سمعت النعمان بن بشير يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتسوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم أو وجوهكم قال فلقد رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكب صاحبه وهذا يدل على أن الكعب ما وصفنا والله أعلم
[ 437 ]
ذكر الخلاف في المسح على الخفين قال أصحابنا جميعا والثوري والحسن بن صالح والأوزاعي والشافعي يمسح المقيم على الخفين يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها وروي عن مالك والليث أنه لا وقت للمسح على الخفين إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان يمسح ما بدا له قال مالك والمقيم والمسافر في ذلك سواء وأصحابه يقولون هذا هو الصحيح من مذهبه وروى عنه ابن القاسم أن المسافر يمسح ولا يمسح المقيم وروى ابن القاسم أيضا عن مالك أنه المسح على الخفين قال أبو بكر قد ثبت المسح على الخفين عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق التواتر والاستفاضة من حيث يوجب العلم ولذلك قال أبو يوسف إنما يجوز نسخ القرآن بالسنة إذا وردت كورود المسح على الخفين في الاستفاضة وما دفع أحد من الصحابة من حيث نعلم المسح على الخفين ولم يشك أحد منهم في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مسح وإنما اختلف في وقت مسحه أكان قبل نزول المائدة أو بعدها فروي المسح موقتا للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمر وعلي وصفوان بن عسال وخزيمة بن ثابت وعوف بن مالك وابن عباس وعائشة ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير موقت سعد بن أبي وقاص وجرير بن عبد الله البجلي وحذيفة بن اليمان والمغيرة بن شعبة وأبو أيوب الأنصاري وسهل بن سعد وأنس بن مالك وثوبان وعمرو بن أمية عن أبيه وسليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وروى الأعمش عن إبراهيم عن همام عن جرير بن عبد الله قال قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على خفيه قال الأعمش قال إبراهيم كانوا معجبين بحديث جرير لأنه أسلم بعد نزول المائدة ولما كان ورود هذه الأخبار على الوجه الذي ذكرنا من الاستفاضة مع كثرة عدد ناقليها وامتناع التواطؤ والسهو والغفلة عليهم فيها وجب استعمالها مع حكم الآية وقد بينا أن في الآية احتمالا للمسح فاستعملناه في حال لبس الخفين واستعملنا الغسل في حال ظهور الرجلين فلا فرق بين أن يكون مسح النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول المائدة أو بعدها من قبل أنه إن كان مسح قبل نزول الاية فالآية مرتبة عليه غير ناسخة له لاحتمالها ما يوجب موافقته من المسح في حال لبس الخفين ولأنه لو لم يكن فيها احتمال لموافقة الخبر لجاز أن تكون مخصوصة به فيكون الأمر بالغسل خاصا في حال ظهور الرجلين دون حال لبس الخفين وإن كانت الآية متقدمة للمسح فإنما جاز المسح لموافقة ما احتملته الآية ولا يكون ذلك نسخا ولكنه بيان للمراد بها وإن كان جائزا نسخ الآية بمثله لتواتره وشيوعه ومن حيث ثبت المسح على الخفين ثبت التوقيت فيه للمقيم والمسافر على ما بينا لأن بمثل الأخبار الواردة في المسح مطلقا ثبت التوقيت أيضا فإن بطل التوقيت بطل المسح وإن ثبت المسح ثبت التوقيت
[ 438 ]
فإن احتج المخالف في ذلك بما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لعقبة بن عامر حين قدم عليه وقد مسح على خفيه جمعة أصبت السنة وبما روى حماد بن زيد عن كثير بن شنظير عن الحسن أنه سئل عن المسح على الخفين في السفر فقال كنا نسافر مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يوقتون قيل له قد روى سعيد بن المسيب عن عمر أنه قال لابنه عبد الله حين أنكر على سعد المسح على الخفين يا بني عمك أفقه منك للمسافر ثلاثة أيام ولياليها وللمقيم يوم وليلة وسويد بن غفلة عن عمر أنه قال ثلاثة أيام ولياليها للمسافر ويوم وليلة للمقيم وقد ثبت عن عمر التوقيت على الحد الذي بيناه فاحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم لعقبة حين مسح على خفيه جمعة أصبت السنة يعني أنك أصبت السنة في المسح وقوله إنه مسح جمعة إنما عنى به أنه مسح جمعة على الوجه الذي يجوز عليه المسح كما يقول القائل مسحت شهرا على الخفين وهو يعني على الوجه الذي يجوز فيه المسح لأنه معلوم أنه لم يرد به أنه مسح جمعة دائما لا يفتر وإنما أراد به المسح في الوقت الذي يحتاج فيه إلى المسح كذلك إنما أراد الوقت الذي يجوز فيه المسح وكما تقول صليت الجمعة شهرا بمكة والمعنى في الأوقات التي يجوز فيها فعل الجمعة وأما قول الحسن أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين سافر معهم كانوا لا يوقتون فإنه إنما عنى به والله أعلم أنهم ربما خلعوا الخفاف فيما بين يومين أو ثلاثة وأنهم لم يكونوا يداومون على مسح الثلاث حسبما قد جرت به العادة من الناس إنهم ليسوا يكادون يتركون خفافهم لا ينزعون ثلاثا فلا دلالة فيه على أنهم كانوا يمسحون أكثر من ثلاث فإن قيل في حديث خزيمة بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليها وللمقيم يوم وليلة ولو استزدناه لزادنا وفي حديث أبي ابن عمارة أنه قال يا رسول الله أمسح على الخفين قال نعم قال يوما قال ويومين قال وثلاثة قال نعم وما شئت وفي حديث آخر قال حتى بلغ سبعا قيل له أما حديث خزيمة وما قيل فيه ولو استزدناه لزادنا فإنما هو ظن من الراوي والظن لا يغني من الحق شيئا وأما حديث أبي بن عمارة فقد قيل إنه ليس بالقوي وقد اختلف في سنده ولو ثبت كان قوله وما شئت على أنه يمسح بالثلاث ما شاء وغير جائز الاعتراض على إخبار التوقيت بمثل هذه الأخبار الشاذة المحتمله للمعاني مع استفاضة الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتوقيت مطلب: لا حظ للنظر مع الاثر فإن قيل لما جاز المسح وجب أن يكون غير موقت كمسح الرأس قيل له لا
[ 439 ]
حظ للنظر مع الأثر فإن كانت أخبار التوقيت ثابتة فالنظر معها ساقط وإن كانت غير ثابتة فالاكلام قال حينئذ ينبغي أن يكون في إثباتها وقد ثبت التوقيت بالأخبار المستفيضة من حيث لا يمكن دفعها وأيضا فإن الفرق بينهما ظاهر من طريق ا لنظر وهو أن مسح الرأس هو المفروض في نفسه وليس ببدل عن غيره والمسح على الخفين يدل عن الغسل مع إمكانه من غير ضرورة فلم يجز إثباته بدلا إلا في المقدار الذي ورد به التوقيت مطلب: المسح على الجبيرة مستحب عند أبي حنيفة فإن قيل قد جاز المسح على الجبائر بغير توقيت وهو بدل عن الغسل قيل له أما على مذهب أبي حنيفة فهذا السؤال ساقط لأنه لا يوجب المسح على الجبائر وهو عنده مستحب تركه لا يضر وعلى قول أبي يوسف ومحمد أيضا لا يلزم لأنه إنما يفعله عند الضرورة كالتيمم والمسح على الخفين جائز بغير ضرورة فلذلك اختلفا فإن قيل ما أنكرت أن يكون جواز المسح مقصورا على السفر لأن الأخبار وردت فيه وأن لا يجوز في الحضر لما روي أن عائشة سئلت عن ذلك فقالت سلوا عليا فإنه كان معه في أسفاره وهذا يدل على أنه لم يمسح في الحضر لأن مثله لا يخفى على عائشة قيل له يحتمل أن تكون سئلت عن توقيت المسح للمسافر فأحالت به على علي رضي الله عنه وأيضا فإن عائشة أحد من روى توقيت المسح للمسافر والمقيم جميعا وأيضا فإن الأخبار التي فيها توقيت مسح المسافر فيها توقيته للمقيم فإن ثبت للمسافر ثبت للمقيم فإن قيل تواترت الأخبار بغسله في الحضر وقوله ويل للعراقيب من النار قيل له إنما ذلك في حال ظهور الرجلين فإن قيل جائز أن يختص حال السفر بالتخفيف دون حال الحضر كالقصر والتيمم والإفطار قيل له لم نبح المسح للمقيم ولا للمسافر قياسا وإنما أبحناه بالآثار وهي متساوية فيما يقتضيه من المسح في السفر والحضر فلا معنى للمقايسة واختلف الفقهاء أيضا في المسح من وجه آخر فقال أصحابنا إذا غسل رجليه ولبس خفيه ثم أكمل الطهارة قبل الحدث أجزأه أن يمسح إذا أحدث وهو قول الثوري وروي عن مالك مثله وذكر الطحاوي عن مالك والشافعي أنه لا يجزيه إلا أن يلبس خفيه بعد إكمال الطهارة ودليل أصحابنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها ولم يفرق بين لبسه قبل إكمال الطهارة وبعدها وروى
[ 440 ]
الشعبي عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فأهويت إلى خفيه لأنزعهما فقال مه فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان فمسح عليهما وروي عن عمر بن الخطاب قال إذا أدخلت قدميك الخفين وهما طاهرتان فامسح عليهما ومن غسل رجليه فقد طهرتا قبل إكمال طهارة سائر الأعضاء كما يقال غسل رجليه وكما يقال صلى ركعة وإن لم يتم صلاته وأيضا فإن من لا يجيز ذلك فإنما يأمره بنزع الخفين ثم لبسهما كذلك بقاؤهما في رجليه لحين المسح لأن استدامة اللبس بمنزلة ابتدائه واختلف في المسح على الجوربين فلم يجزه أبو حنيفة والشافعي إلا أن يكونا مجلدين وحكى الطحاوي عن مالك أنه لا يمسح وإن كانا مجلدين وحكى بعض أصحاب مالك عنه أنه لا يمسح إلا أن يكونا مجلدين كالخفين وقال الثوري وأبو يوسف ومحمد والحسن بن صالح يمسح إذا كانا ثخينين وإن لم يكونا مجلدين والأصل فيه أنه قد ثبت أن مراد الآية الغسل على ما قدمنا فلو لم ترد الآثار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين لما أجزنا المسح فلما وردت الآثار الصحاح واحتجنا إلى استعمالها مع الآية استعملناها معها على موافقة الآية في احتمالها للمسح وتركنا الباقي على مقتضى الآية ومرادها ولما لم ترد الآثار في جواز المسح على الجوربين في وزن ورودها في المسح على الخفين بقينا حكم الغسل على مراد الآية ولم ننقله عنه فإن قيل روى المغيرة بن شعبة وأبو موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على جوربيه ونعليه قل له يحتمل أنهما كانا مجلدين فلا دلالة فيه على موضع الخلاف إذ ليس بعموم لفظ وإنما هو حكاية فعل لا نعلم حاله وأيضا يحتمل أن يكون وضوء من لم يحدث كما مسح على رجليه وقال هذا وضوء من لم يحدث ومن جهة النظر اتفاق الجميع على امتناع جواز المسح على اللفافة إذ ليس في العادة المشي فيها كذلك الجوربان وأما إذا كانا مجلدين فهما بمنزلة الخفين ويمشى فيهما وبمنزلة الجرموقين ألا ترى أنهم قد اتفقوا على أنه إذا كان كله مجلدا جاز المسح ولا فرق بين أن يكون جميعه مجلدا أو بعضه بعد أن يكون بمنزلة الخفين في المشي والتصرف واختلف في المسح على العمامة فقال أصحابنا ومالك والحسن بن صالح والشافعي لا يجوز المسح على العمامة ولا على الخمار وقال الثوري والأوزاعي يمسح على العمامة والدليل على صحة القول الأول قوله تعالى (فامسحوا برؤسكم وحقيقته تقتضي إمساسه الماء ومباشرته وماسح العمامة غير ماسح برأسه فلا تجزيه صلاته إذا صلى به وأيضا فإن الآثار متواترة في مسح الرأس فلو كان المسح على العمامة جائزا لورد النقل به متواترا في وزن وروده في المسح على الخفين فلما لم
[ 441 ]
يثبت عنه مسح العمامة من جهة التواتر لم يجز المسح عليها من وجهين أحدهما أن الآية تقتضي مسح الرأس فغير جائز العدول عنه إلا بخبر يوجب العلم والثاني عموم الحاجة إليه فلا يقبل في مثله إلا المتواتر من الأخبار وأيضا حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ مرة مرة وقال هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به ومعلوم أنه مسح برأسه لأن مسح العمامة لا يسمى وضوء ثم نفى جواز الصلاة إلا به وحديث عائشة الذي قدمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ومسح برأسه ثم قال هذا الوضوء الذي افترض الله علينا فأخبر أن مسح الرأس بالماء هو المفروض علينا فلا تجزي الصلاة إلا به وإن احتجوا بما روى بلال والمغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والعمامة وما روى راشد بن سعد عن ثوبان قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريه فأصابهم البرد فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين قيل لهم هذه أخبار مضطربة الأسانيد وفيها رجال مجهولون ولو استقامت أسانيدها لما جاز الاعتراض بمثلها على الآية وقد بينا في حديث المغيرة بن شعبة أنه مسح على ناصيته وعمامته وفي بعضها على جانب عمامته وفي بعضها وضع يده على عمامته فأخبر أنه فعل المفروض في مسح الناصية ومسح على العمامة وذلك جائز عندنا ويحتمل ما رواه بلال ما بين في حديث المغيرة وأما حديث ثوبان فمحمول على معنى حديث المغيرة أيضا بأن مسحوا على بعض الرأس وعلى العمامة والله أعلم باب الوضوء مرة مرة قال الله تعالى فاغسلوا وجوهكم الآية الذي يقتضيه ظاهر اللفظ غسلها مرة واحدة إذ ليس فيها ذكر العدد فلا يوجب تكرار الفعل فمن غسل مرة فقد أدى الفرض وبه وردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم منها حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وقال هذا الوضوء الذي افترض الله علينا وروى ابن عباس وجابر ان النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وقال أبو رافع توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ثلاثا ومرة مرة قال أبو بكر فما نص الله تعالى عليه في هذه الآية هو فرض الوضوء على ما بيناه وفيه أشياء مسنونة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما حدثنا عبد الله بن الحسن قال حدثنا أبو مسلم قال حدثنا أبو الوليد قال حدثنا زائدة قال حدثنا خالد بن علقمة عن عبد الخير قال دخل على الرحبة بعد ما صلى الفجر فجلس في الرحبة ثم قال لغلامه إيتني بطهور فأتاه الغلام بإناء وطست قال عبد الخير ونحن جلوس ننظر إليه فأخذ بيده اليمنى الإناء
[ 442 ]
فأكفاه على يده اليسرى ثم غسل كفيه ثم أخذ بيده اليمنى الإناء فأفرغ على يده اليسرى فغسل كفيه ثلاث مرات ثم أدخل يده اليمنى الإناء فلما ملأ كفه تمضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى فغسل ثلاث مرات ثم غسل وجهه ثلاث مرات ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات ثم غسل يده اليسرى إلى المرفق ثلاث مرات ثم أدخل يديه الإناء حتى غمرهما بالماء ثم رفعهما بما حملتا ثم مسح رأسه بيده كلتيهما ثم صب بيديه اليمنى على قدمه اليمنى ثم غسلها بيده اليسرى ثلاث مرات ثم صب بيده اليمنى على قدمه اليسرى ثم غسلها بيده اليسرى ثلاث مرات ثم أخذ غرفة بكفه فشرب منه ثم قال من سره أن ينظر إلى طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا طهوره وهذا الذي رواه علي في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم هو مذهب أصحابنا وذكر فيه أنه بدأ فأكفأ الإناء على يديه فغسلهما ثلاثا وهو عند أصحابنا وسائر الفقهاء مستحب غير واجب وإن أدخلهما الإناء قبل أن يغسلهما لم يفسد الماء إذا لم تكن فيهما نجاسة ويروى عن الحسن البصري أنه قال من غمس يده في إناء قبل الغسل إهراق الماء وتابعه على ذلك من لا يعتد به ويحكى عن بعض أصحاب الحديث أنه فصل بين نوم الليل ونوم النهار لأنه ينكشف في نوم الليل فلا يأمن أن تقع يده على موضع الاستنجاء ولا ينكشف في نوم النهار قال أبو بكر والذي في حديث علي من صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم يسقط هذا الاعتبار ويقتضي أن يكون ذلك سنة الوضوء لأن عليا كرم الله وجهه صلى الفجر ثم توضأ ليعلمهم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسل يديه قبل إدخالهما في الإناء وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده قال محمد بن الحسن كانوا يستنجون بالأحجار فكان الواحد منهم لا يأمن وقوع يده في حال النوم على موضع الاستنجاء وهناك بلة من عرق أو غيره فتصيبها فأمر بالاحتياط مع تلك النجاسة التي عسى أن تكون قد أصابت يده من موضع الاستنجاء وقد اتفق الفقهاء على الندب ومن ذكرنا قوله آنفا فهو شاذ وظاهر الآية ينفي إيجابه وهو قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق فاقتضى الظاهر وجوب غسلهما بعد إدخالهما الإناء ومن أوجب غسلهما قبل ذلك فهو زائد في الآية ما ليس فيها وذلك لا يجوز إلا بنص مثله أو باتفاق والآية على عمومها فيمن قام من النوم وغيره وعلى أنه قد روي أن الآية نزلت فيمن قام من النوم وقد أطلقت جواز الغسل على سائر الوجوه وقد روى عطاء بن يسار عن ابن عباس أنه قال لهم أتحبون أن أريكم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فدعا بإناء فيه ماء فاغترف بيده اليمنى فتمضمض واستنشق ثم أخذ أخرى فغسل بها يديه اليمنى ثم أخذ أخرى فغسل بها يده اليسرى وذكر الحديث فأخبر في هذا الحديث أنه أدخل يده
[ 443 ]
الإناء قبل أن يغسلها وهذا يدل على أن غسل اليد قبل إدخالها الإناء استحباب ليس بإيجاب وإن ما في حديث علي وحديث أبي هريرة في غسل اليد قبل إدخالها الإناء ندب وحديث أبي هريرة في ذلك ظاهر الدلالة على أنه لم يرد به الإيجاب وأنه أراد الاحتياط مما عسى أن يكون قد أصابت يده موضع الاستنجاء وهو قوله فإنه لا يدري أين باتت يده فأخبر أن كون النجاسة على يده ليس بيقين ومعلوم أن يده قد كانت طاهرة قبل النوم فهي على أصل طهارتها كمن كان على يقين من الطهارة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عند الشك أن يبنى على يقين من الطهارة ويلغي الشك فدل ذلك على أن أمره إذا استيقظ من نومه بغسل يديه قبل إدخالهما الإناء استحباب ليس بإيجاب وقد ذكر إبراهيم النخعي أن أصحاب عبد الله كانوا إذا ذكر لهم حديث أبي هريرة في أمر المستيقظ من نومه بغسل يديه قبل إدخالهما الإناء قالوا إن أبا هريرة كان مهذارا فما يصنع بالمهراس وقال الأشجعي لأبي هريرة فما تصنع بالمهراس فقال أعوذ بالله من شرك والذي أنكره أصحاب عبد الله من قول أبي هريرة اعتقاده الإيجاب فيه لأنه كان معلوما أن المهراس الذي كان بالمدينة قد كان يتوضأ منه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده فلم ينكره احد ولم يكن الوضوء منه إلا بإدخال اليد فيه فاستنكر أصحاب عبد الله اعتقاد الوجوب فيه مع ظهور الاغتراف منه باليد من غير نكير من أحد منهم عليه ولم يدفعوا عندنا روايته وإنما أنكروا اعتقاد الوجوب واختلف الفقهاء في مسح الأذنين مع الرأس فقال أصحابنا هما من الرأس تمسحان معه وهو قول مالك والثوري والأوزاعي ورواه أشهب عن مالك وكذلك رواه ابن القاسم عنه وزاد وأنهما تمسحهما بماء جديد وقال الحسن بن صالح يغسل باطن أذنيه مع وجهه ويمسح ظاهرهما مع رأسه وقال الشافعي يمسحهما بماء جديد وهما سنة على حيالهما لا من الوجه ولا من الرأس والدليل على أنهما من الرأس وتمسحان معه ما حدثنا عبيدالله بن الحسين قال حدثنا أبو مسلم قال حدثنا أبو عمر عن حماد بن زيد عن سنان بن ربيعة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل كفيه ثلاثا وطهر وجهه ثلاث وذراعيه ثلاثا ومسح برأسه وأذنيه وقال الأذنان من الرأس وأخبرنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن النضر بن بحر قال حدثنا عامر بن سنان قال حدثنا زياد بن علاقة عن عبد الحكم عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذنان من الرأس ما أقبل منهما وما أدبر وروى ابن عباس وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله أيضا
[ 444 ]
أما الحديث الأول فإنه يدل على صحة قولنا من وجهين أحدهما قوله أنه مسح رأسه وأذنيه وهذا يقتضي أن يكون مسح الجميع بماء واحد ولا يجوز إثبات تجديد ماء لهما بغير رواية والثاني قوله الأذنان من الرأس لأنه لا يخلو من أن يكون مراده تعريفنا موضع الأذنين من الرأس أو أنهما تابعتان له ممسوحتان معه وغير جائز أن يكون مراده تعريفنا موضع الأذنين لأن ذلك بين معلوم بالمشاهدة وكلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو من الفائدة فثبت أن المراد الوجه الثاني فإن قيل يجوز أن يكون مراده أنهما ممسوحتان كالرأس قيل له لا يجوز ذلك لأن اجتماعهما في الحكم لا يوجب إطلاق الحكم بأنهما منه ألا ترى أنه غير جائز أن يقال الرجلان من الوجه من حيث كانتا مغسولتين كالوجه فثبت أن قوله الأذنان من الرأس إنما مراده أنهما كبعض الرأس وتابعتان عن له ووجه آخر وهو أن من بابها التبعيض إلا أن تقوم الدلالة على غيره فقوله الأذنان من الرأس حقيقته إنهما بعض الرأس فواجب إذا كان كذلك أن تمسحا معه بماء واحد كما يمسح سائر أبعاض الرأس وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا مسح المتوضئ برأسه خرجت خطاياه من رأسه حتى تخرج من تحت أذنيه وإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من تحت أشفار عينيه فأضاف الأذنين إلى الرأس كما جعل العينين من الوجه فإن قيل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عشر من الفطرة خمس في الرأس فذكر منها المضمضة والاستنشاق ولم يدل ذلك على دخولهما في حكم الرأس كذلك قوله الأذنان من الرأس قيل له لم يقل الفم والأنف من الرأس وإنما قال خمس في الرأس فوصف ما يفعل من الخمس في الرأس ونحن نقول إن هذه الجملة هو الرأس ونقول العينان في الرأس وكذلك الفم والأنف قال الله تعالى من رؤسهم) [ المنافقون: 5 ] والمراد هذه الجملة على أن ما ذكرته هو لنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمى ما تشتمل عليه هذه الجملة رأسا فوجب أن تكون الأذنان من الرأس لاشتمال هذه الجملة عليهما وأن لا يخرج شئ منها إلا بدلالة ولما قال تعالى وامسحوا برؤسكم) وكان معلوما أنه لم يرد به الوجه وإن كان في الرأس وإنما أراد ما علا منه مما فوق الأذنين ثم قال صلى الله عليه وسلم الأذنان من الرأس كان ذلك إخبارا منه بأنهما من الرأس الممسوح فإن قيل روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ لهما ماء جديدا وروت الربيع بنت معوذ أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وصدغيه ثم مسح أذنيه وهذا يقتضي تجديد الماء لهما قيل له أما قولك أنه أخذ لهما ماء جديدا فلا نعلمه روي من جهة يعتمد عليها ولو صح لم
[ 445 ]
يدل على قولك لأنهما إذا كانتا من الرأس فالماء الجديد الذي أخذ لهما هو الذي أخذه لجميع الرأس ولا فرق بين قول القائل أخذ للأذنين ماء جديدا وبين قوله أخذ للرأس ماء جديدا إذا كانتا من الرأس والماء المأخوذ للرأس هو للأذنين وقول الربيع بنت معوذ مسح برأسه ثم مسح أذنيه لا دلالة فيه على تجديد الماء للأذنين لأن ذكر المسح لا يقتضي تجديد الماء لهما لأن اسم المسح يقع على هذا الفعل مع عدم الماء وهو مثل ما روي أنه مسح رأسه مرتين بماء واحد أقبل بهما وأدبر وقد علمنا أنه أقبل بهما وأدبر ولم يوجد ذلك تجديد الماء كذلك الأذنان إذ غير ممكن مسح الرأس مع الأذنين في وقت واحد كما لا يمكن مسح مقدم الرأس ومؤخره في حال واحدة فلا دلالة في ذكر مسح الأذنين بعد مسح الرأس على تجديد الماء لهما دون الرأس مطلب: في معنى قوله عليه السلام: " سجد وجهي للذي خلقه " فإن احتجو بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره فجعل السمع من الوجه قيل له لم يرد بالوجه في هذا الموضع العضو المسمى بذلك وإنما أراد به أن جملة الإنسان هو الساجد لله لا الوجه وهو كقوله تعالى شئ هالك إلا وجهه يعني به ذاته وأيضا فإنه ذكر السمع وليس الأذنان هما السمع فلا دلالة فيه على حكم الأذنين وقد قال الشاعر إلى هامة قد وقر الضرب سمعها * بن وليست كأخرى سمعها لم يوقر فأضاف السمع إلى الهامة ويدل على أنهما تمسحان مع الرأس على وجه التبع أنه ليس في الأصول مسح مسنون إلا على وجه التبع للمفروض منه ألا ترى أن من سنة المسح على الخفين أن يمسح من أطراف الأصابع إلى أصل الساق والمفروض منه بعضه أما على قولنا فمقدار ثلاثة أصابع وعلى قول المخالف مقدار ما يسمى مسحا وقد روي في حديث عبد خير عن علي أنه مسح رأسه مقدمه ومؤخره ثم قال هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عبد الله بن زيد المازني والمقدام بن معدي كرب أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بيديه أقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ومعلوم أن القفا ليس بموضع مفروض المسح لأن مسح ما تحت الأذنين لا يجزي من المفروض وإنما مسح ذلك الموضع على جهة التبع للمفروض
[ 446 ]
فإن قيل لما لم تكن الأذنان موضع فرض المسح أشبهتا داخل الفم والأنف فيجدد لهما ماء جديدا كالمضمضة والاستنشاق فيكون سنة على حيالها قيل له هذا غلط لأن القفا ليس بموضع لفرض المسح والنبي صلى الله عليه وسلم قد مسحه مع الرأس على وجه التبع فكذلك الأذنان وأما المضمضة والاستنشاق فكانا سنة على حيالهما من قبل أن داخل الفم والأنف ليسا من الوجه بحال فلم يكونا تابعين له فأخذ لهما ماء جديدا والأذنان والقفا جميعا من الرأس وإن لم يكونا موضع الفرض فصارا تابعين له فإن قيل لو كانت الأذنان من الرأس لحل بحلقهما من الإحرام ولكان حلقهما مسنونا مع الرأس إذا أراد الإحلال من إحرامه قيل له لم يسن حلقهما ولا حل بحلقهما لأن في العادة أن لا شعر عليهما وإنما الحلق مسنون في الرأس في الموضع الذي يكون عليه الشعر في العادة فلما كان وجود الشعر على الأذنين شاذا نادرا أسقط حكمهما في الحلق ولم يسقط في المسح وأيضا فإنا قلنا إن الأذنين تابعتان للرأس على ما بينا لا على أنهما الأصل ألا ترى أنا لا نجيز المسح عليهما دون الرأس فكيف يلزمنا أن نجعلهما أصلا في الحلق وأما قول الحسن بن صالح في غسل باطن الأذنين ومسح ظاهرهما فلا وجه له لأنه لو كان باطنهما مغسولا لكانتا من الوجه فكان يجب غسلهما ولما وافقنا على أن ظاهرهما ممسوح مع الرأس دل ذلك على أنهما من الرأس ولأنا لم نجد عضوا بعضه من الرأس وبعضه من الوجه وقال أصحابنا لو مسح ما تحت أذنيه من الرأس لم يجزه من الفرض لأن ذلك من القفا وليس هو من مواضع فرض المسح فلا يجزيه ألا ترى أنه لو كان شعره قد بلغ منكبه فمسح ذلك الموضع من شعره لم يجزه عن مسح رأسه واختلف الفقهاء في تفريق الوضوء فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والأوزاعي والشافعي هو جائز وقال ابن أبي ليلى ومالك والليث إن تطاول أو تشاغل بعمل غيره ابتدأ الوضوء من أوله والدليل على صحة ما قلناه قوله تعالى وجوهكم وأيديكم إلى المرافق الآية فإذا أتى بالغسل على أي وجه فعله فقد قضى عهدة الآية ولو شرطنا فيه وترك الفريق الموالاة كان فيه إثبات زيادة في النص والزيادة في النص توجب نسخه ويدل عليه أيضا قوله تعالى يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم والحرج الضيق فأخبر تعالى أن المقصد حصول الطهارة ونفي الحرج وفي قول مخالفينا إثبات الحرج مع وقوع الطهارة المذكورة في الآية ويدل عليه قوله تعالى عليكم من السماء ماء ليطهركم به [ الانفال: 11 ] الآية فأخبر بوقوع التطهير الماء من غير شرط الموالاة فحيثما وجد كان مطهرا
[ 447 ]
بحكم الظاهر ويدل عليه قوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا [ الفرقان: 48 ] ومعناه مطهرا فحيثما وجد فواجب أن يكون هذا حكمه ولو منعنا الطهارة مع وجود الغسل لأجل التفريق كنا قد سلبناه الصفة التي وصفه الله تعالى بها من كونه طهورا ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا علي بن محمد بن أبي الشوارب قال حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا محمد بن عبيدالله عن الحسين بن سعد عن أبيه عن علي قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني اغتسلت من الجنابة وصليت الفجر فلما أصبحت رأيت بذراعي قدر موضع الظفر لم يصبه الماء فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لو مسحت عليه بيدك أجزاك فأجاز له أن يمسح عليه بعد تراخي الوقت ولم يأمره باستئناف الطهارة وروى عبد الله بن عمر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما وأعقابهم تلوح فقال ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء ويدل عليه حديث رفاعة بن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تتم صلاة أحدكم حتى يضع الوضوء مواضعه والتفريق لا يخرجه من أن يكون وضعه مواضعه لأن مواضعه هذه الأعضاء المذكورة في القرآن ولم يشرط فيه الموالاة وترك التفريق ويدل عليه من وجه آخر قوله في لفظ آخر حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل رجليه ولم يذكر فيه التتابع فهو على الأمرين من تفريق أو موالاة فإن قيل لما كان قوله تعالى وجوهكم وأيديكم أمرا يقتضي الفور وجب ان يكون مفعولا على الفور فإذا لم يفعل استقبل إذ لم يفعل المأمور به قيل له الأمر على الفور لا يمنع صحة فعله على المهلة ألا ترى أن تارك الوضوء رأسا لا تفسد طهارته إذا فعله بعد ذلك على التراخي وكذلك سائر الأوامر التي ليست موقتة فإن تركها في وقت الأمر بها لا يفسدها إذا فعلها ولا يمنع صحتها وعلى أن هذا المعنى لأن يكون دليلا على صحة قولنا أولى وذلك لأن غسل العضو المفعول على الفور قد صح عندنا جميعا وتركه لغسل باقي الأعضاء ينبغي أن لا يغير حكم الأول ولا تلزمه إعادته لأن في إيجاب إعادته إبطاله عن الفور وإيجاب فعله على التراخي فواجب أن يكون مقرا على حكمه في صحة فعله بديا على الفور واحتج أيضا القائلون بذلك بحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وقال هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به قالوا ومعلوم أن فعله كان على وجه المتابعة قيل له هذا دعوى ومن أين لك أنه فعله متتابعا وجائز أن يكون غسل وجهه في وقت ثم غسل يديه بعد ساعات وكذلك سائر أعضائه ليفيد الحاضرين حكم جواز فعله متفرقا وعلى أنه لو تابع لم يدل قوله ذلك على وجوب التتابع لأن قوله هذا وضوء إنما إشارة إلى الغسل لا إلى الزمان
[ 448 ]
فإن قيل لما كان بعضه منوطا ببعض حتى لا يصح لبعضه حكم إلا بجميعه أشبه أفعال الصلاة قيل له هذا منتقض بالحج لأن بعضه منوط ببعض ألا ترى أنه لو لم يقف بعرفة بطل إحرامه وطوافه الذي قدمه ولم يجب من أجل ذلك متابعة أفعاله وأيضا فإنه قد ثبت لغسل بعض الأعضاء حكم دون بعض ألا ترى أنه لو كان بذراعه عذر لسقط فرض طهارته عنه وليس كذلك الصلاة لأن أفعالها كلها منوطة بعضها ببعض فإما أن يسقط جميعها أو يثبت جميعها على الحال التي يمكن فعلها فمن حيث جاز سقوط بعض أعضاء الطهارة وبقي البعض أشبه الصلاة والزكاة وسائر العبادات إذا اجتمع وجوبها عليه فيجوز تفريقها عليه وأيضا فإن الصلاة إنما لزم فيها الموالاة من غير فصل لأنه يدخل فيها بتحريمة ولا يصح بناء أفعالها إلا على التحريمة التي دخل بها في الصلاة فمتى أبطل التحريمة بكلام أو فعل لم يصح له بناء باقي أفعالها بغير تحريمة والطهارة لا تحتاج إلى تحريمة ألا ترى أنه يصح في أضعافها الكلام وسائر الأفعال ولا يبطلها ذلك وإنما شرط فيه من قال ذلك عدم جفاف العضو قبل إتمام الطهارة وجفاف العضو لا تأثير له في حكم رفع الطهارة ألا ترى أن جفاف جميع الأعضاء لا يؤثر في رفعها كذلك جفاف بعضها وأيضا فلو كان هذا تشبيها صحيحا وقياسا مستقيما لما صح في هذا الموضع إذ غير جائز الزيادة في النص بالقياس فلا مدخل للقياس ههنا وأيضا فإنه لا خلاف أنه لو كان في الشمس ووالى بين الوضوء إلا أنه كان يجف العضو منه قبل أن يغسل الآخر إنه لا يوجب ذلك بطلان الطهارة كذلك إذا جف بتركه إلى أن يغسل الآخر فصل مطلب: فيما تمسك به القائلون بفرض التسمية على الوضوء وجواب المصنف عن ذلك وقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية يدل على أن التسمية على الوضوء ليست بفرض لأنه أباح الصلاة بغسل هذه الأعضاء من غير شرط التسمية وهو قول أصحابنا وسائر فقهاء الأمصار وحكي عن بعض أصحاب الحديث أنه رآها فرضا في الوضوء فإن تركها عامدا لم يجزه وإن تركها ناسيا أجزأه ويدل على جوازه قوله تعالى من السماء ماء طهورا سنة صحة الطهارة بالفعل من غير ذكر التسمية شرطا فيه فمن شرطها فهو زائد في حكم هذه الآيات ما ليس منها وناف لما أباحته من جواز الصلاة بوجود الغسل ويدل عليه من جهة السنة
[ 449 ]
حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ مرة مرة وقال هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به ولم يذكر فيه التسمية وقد علم الأعرابي الطهارة في الصلاة في حديث رفاعة بن رافع وقال لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه ويديه..) إلى آخره ولم يذكر التسمية وحديث علي وعثمان وعبد الله بن زيد وغيرهم في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر أحد منهم التسمية فرضا فيه وقالوا هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو كانت التسمية فرضا فيه لذكروها ولورد النقل به متواترا في وزن ورود النقل في سائر الأعضاء المفروض طهارتها لعموم الحاجة إليه فإن احتجوا بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه قيل له لا تجوز الزيادة في نص القرآن إلا بمثل ما يجوز به النسخ فهذا سؤال ساقط من وجهين أحدهما ما ذكرنا والآخر أن أخبار الآحاد غير مقبولة فيما عمت البلوى به وإن صح احتمل أنه يريد به نفي الكمال لا نفي الأصل كقوله لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد ومن سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له ونحو ذلك فإن قيل لما كان الحدث يبطله صار كالصلاة في الحاجة إلى ذكر اسم الله تعالى في ابتدائه قيل له قولك إن الحدث يبطل الصلاة غلط عندنا لأنه جائز بقاء الصلاة مع الحدث إذا سبقه ويتوضأ ويبني وأيضا فليست العلة في حاجة الصلاة إلى الذكر أن الحدث يبطلها وإنما المعنى أن القراءة مفروضة فيها وأيضا نقيسه على غسل النجاسة بمعنى أنه طهارة وأيضا فقد وافقونا على أن تركها ناسيا لا يمنع صحة الطهارة فبطل بذلك قولهم من وجهين أحدهما أن الصلاة يستوي في بطلانها ترك ذكر التحريمة ناسيا أو عامدا والثاني أنها لو كانت فرضا لما أسقطها النسيان إذ كانت شرطا في صحة الطهارة كسائر شرائطها المذكورة فصل مطلب: اختلف الفقهاء في فرضية الاستنجاء قوله تعالى قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية يدل على أن الاستنجاء ليس بفرض وأن الصلاة جائزة مع تركه إذا لم يتعد الموضع وقد اختلف الفقهاء في ذلك فأجاز أصحابنا صلاته وإن كان مسيئا في تركه وقال الشافعي لا يجزيه إذا تركه رأسا وظاهر الآية يدل على صحة القول الأول وروي في التفسير أن معناه إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون وقال في نسق الآية أو جاء أحد منكم من
[ 450 ]
الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا فحوت هذه الآية الدلالة من وجهين على ما قلنا أحدهما إيجابه على المحدث غسل هذه الأعضاء وإباحة الصلاة به وموجب الاستنجاء فرضا مانع ما أباحته الآية وذلك يوجب النسخ وغير جائز نسخ الآية إلا بما يوجب العلم من النقل المتواتر وذلك غير معلوم في إيجاب الاستنجاء ومع ذلك فإنهم متفقون على أن هذه الآية غير منسوخة وأنها ثابتة الحكم وفي اتفاقهم على ذلك ما يبطل قول موجبي الاستنجاء فرضا والوجه الآخر من دلالة الآية قوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط إلى آخرها فأوجب التيمم على من جاء من الغائط وذلك كناية عن قضاء الحاجة فأباح صلاته بالتيمم من غير استنجاء فدل ذلك على أنه غير فرض ويدل عليه من جهة السنة حديث علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا تتم صلاة أحدكم حتى يغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل رجليه فأباح صلاته بعد غسل هذه الأعضاء مع ترك الاستنجاء ويدل عليه أيضا حديث الحصين الحراني عن أبي سعيد عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج ومن اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج فنفى الحرج عن ترك الاستجمار فدل على أنه ليس بفرض فإن قيل إنما نفى الحرج عن تاركه إلى الماء قيل له هذا خطأ من وجهين أحدهما أنه أجاز تركه من غير استعمال الماء ومن ادعى تركه إلى الاستنجاء بالماء فإنما خصه بغير دلالة والثاني أنه تسقط فائدته لأنه معلوم أن الاستنجاء بالماء أفضل من الاستجمار بالأحجار فغير جائز أن ينفي الحرج عن فاعل الأفضل هذا ممتنع مستحيل لا يقوله النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان وضعا للكلام في غير موضعه فإن قيل في حديث سلمان نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجتزي بدون ثلاثة أحجار وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم فليستنج بثلاثة أحجار وأمره على الوجوب فيحمل قوله فلا حرج علي مالا يسقط إيجاب الأمر وهو أن يكون إنما نفى الحرج عمن لم يستجمر وترا ويفعله شفعا لا بأن يتركه أصلا أو على أن يتركه إلى الماء ليسلم لنا مقتضى الأمر من الإيجاب قيل له بل نجمع بينهما ونستعملهما ولا نسقط أحدهما بالآخر فنجعل أمره بالاستنجاء ونهيه عن تركه على الندب ونستعمل معه قوله صلى الله عليه وسلم ومن لا فلا حرج في نفي الإيجاب ولو استعمل على ما ذكرت كان فيه إسقاط أحدهما أصلا لا سيما إذا كان خبرنا موافقا لما تضمنته نص الآية من دلالتها على جواز الصلاة مع تركه ويدل على أنه غير فرض وعلى جواز الصلاة مع تركه اتفاق الجميع على جواز
[ 451 ]
صلاة المستنجي بالأحجار مع وجود الماء وعدم الضرورة في العدول عنه إلى الأحجار ولو كان الاستنجاء فرضا لكان الواجب أن يكون بالماء دون الأحجار كسائر البدن إذا أصابته نجاسة كثيرة لا تجوز الصلاة بإزالتها بالأحجار دون غسلها بالماء إذا كان موجودا وفي ذلك دليل على أن هذا القدر من النجاسة معفو عنه فإن قيل أنت تجيز فرك المني من الثوب إذا كان يابسا ولم يدل ذلك على جواز الصلاة مع تركه إذا كان كثيرا فكذلك موضع الاستنجاء مخصوص بجواز الصلاة مع إزالته بالأحجار قيل له إنما أجزنا ذلك في المني وإن كان نجسا لخفة حكمه في نفسه ألا ترى أنه لا يختلف حكمه في أي موضع أصابه من ثوبه في جواز فركه فأما بدن الإنسان فلا يختلف حكم شئ منه في عدم جواز إزالة النجاسة عنه بغير ما يزيله من الماء وسائر المائعات وكذلك حكم النجاسة التي على موضع الاستنجاء لا يختلف في تغليظ حكمها فواجب أن لا يختلف حكمها في ذلك الموضع وفي سائر البدن وكذلك إن سألونا عن حكم النجاسة التي لها جرم قائم في الخف إنه يطهر بالدلك بعد الجفاف ولو أصابت البدن لم يزلها إلا الغسل فيقال لها إنما اختلفنا لاختلاف حال جرم الخف وبدن الإنسان في كون جرم الخف مستخصفا عمرو غير ناشف لما يحصل فيه من الرطوبة إلى نفسه وجرم النجاسة سخيف متخلخل ينشف الرطوبة الحاصلة في الخف إلى نفسها فإذا حكت لم يبق منها إلا اليسير الذي لا حكم له فصار اختلاف أحكامها في الحك والفرك والغسل متعلقا إما بنفس النجاسة لخفتها وإما بما تحله النجاسة في إمكان إزالتها عنه بغير الماء كما نقول في السيف إذا أصابه دم فمسحه أنه يجزي لأن جرم السيف لا يقبل النجاسة فينشفها قبل إلى نفسه فإذا أزيل ما على ظاهره لم يبق هناك إلا ما لا حكم له فصل ويستدل بقوله تعالى وجوهكم الآية على بطلان قول القائلين بإيجاب الترتيب في الوضوء وعلى أنه جائز تقديم بعضها على بعض على ما يرى المتوضئ وهو قول أصحابنا ومالك والثوري والليث والأوزاعي وقال الشافعي لا يجزيه غسل الذراعين قبل الوجه ولا غسل الرجلين قبل الذراعين وهذا القول مما خرج به الشافعي عن إجماع السلف والفقهاء وذلك لأنه روي عن علي وعبد الله وأبي هريرة ما أبالي بأي أعضائي بدأت إذا أتممت وضوئي ولا يروى عن أحد من السلف والخلف فيما نعلم مثل قول الشافعي وقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية يدل من ثلاثة أوجه على سقوط فرض الترتيب أحدها مقتضى ظاهرها جواز الصلاة بحصول الغسل من غير شرط الترتيب إذ كانت الواو ههنا عند
[ 452 ]
أهل اللغة لا توجب الترتيب قاله المبرد وثعلب جميعا وقالوا إن قول القائل رأيت زيدا وعمرا بمنزلة قوله رأيت الزيدين ورأيتهما وكذلك هو في عادة أهل اللفظ ألا ترى أن من سمع قائلا يقول رأيت زيدا وعمرا لم يعتقد في خبره أنه رأى زيدا قبل عمرو بل يجوز أن يكون رآهما معا وجائز أن يكون رأى عمرا قبل زيد فثبت بذلك أن الواو لا توجب الترتيب وقد أجمعوا جميعا أيضا في رجل لو قال إذا دخلت الدار فامرأتي طالق وعبدي حر وعلي صدقة أنه إذا دخل الدار لزمه ذلك كله في وقت واحد لا يلزمه أحدها قبل الآخر كذلك وهذا يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم لا تقولوا ما شاء الله وشئت ولكن قولوا ما شاء الله ثم شئت فلو كانت الواو توجب الترتيب لجرت مجرى ثم ولما فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وإذا ثبت أنه ليس في الآية إيجاب الترتيب فموجبه في الطهارة مخالف لها وزائد فيها ما ليس منها وذلك يوجب نسخ الآية عندنا لحظره ما أباحته وهم يختلفون أنه ليس في هذه الآية نسخ فثبت جواز فعله غير مرتب والوجه الثاني من دلالة الآية قوله تعالى وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الرجل مغسول معطوفة في المعنى على الأيدي وأن تقديرها فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم وامسحوا برؤسكم فثبت بذلك أن ترتيب اللفظ على هذا النظام غير مراد به ترتيب المعنى والوجه الثالث قوله في نسقها (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وهذا الفصل يدل من وجهين على سقوط الترتيب أحدهما نفيه الحرج وهو الضيق فيما تعبدنا به من الطهارة وفي إيجاب الترتيب إثبات للحرج ونفي التوسعة والثاني قوله يريد ليطهركم فأخبر أن مراده حصول الطهارة بغسل هذه الأعضاء ووجود ذلك مع عدم الترتيب كهو مع وجوده إذ كان مراد الله تعالى الغسل فإن قيل على الفصل الأول نحن نسلم لك أن الواو لا توجب الترتيب ولكن الآية قد اقتضت إيجابه من حيث كانت الفاء للتعقيب ولا خلاف بين أهل اللغة فيه فلما قال تعالى قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم لزم بحكم اللفظ أن يكون الذي يلي حال القيام إليها غسل الوجه لأنه معطوف عليه بالفاء فلزم به تقديم غسله على سائر الأعضاء وإذا لزم الترتيب في غسل الوجه لزم في سائر الأعضاء لأن أحدا لم يفرق بينهما قيل له هذا غير واجب من وجهين أحدهما أن قوله قمتم إلى الصلاة متفق على أنه ليس المراد به حقيقة اللفظ لأن الحقيقة تقتضي إيجاب الوضوء بعد القيام إلى الصلاة لأنه جعله شرطا فيه فأطلق ذكر القيام وأراد به غيره ففيه ضمير على ما بينا فيما تقدم وما كان هذا سبيله فغير جائز استعماله إلا بقيام الدلالة عليه إذ
[ 453 ]
كان مجازا فإذا لا يصح إيجاب غسل الوجه مرتبا على المذكور في الآية لأجل إدخال الفاء عليه إذ كان المعنى الذي ترتب عليه الغسل موقوفا على الدلالة فهذا وجه يسقط به سؤال هذا السائل والوجه الآخر أن نسلم لهم جواز اعتبار هذا اللفظ فيما يقتضيه من الترتيب فنقول لهم إذا ثبت أن الواو لا توجب الترتيب صار تقدير الآية إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا هذه الأعضاء فيصير الجميع مرتبا على القيام وليس يختص به الوجه دون سائرها إذ كانت الواو للجمع فيصير كأنه عطف الأعضاء كلها مجموعة بالفاء على حال القيام فلا دلالة فيه على الترتيب بل تقتضي إسقاط الترتيب ويدل على سقوط الترتيب قوله تعالى وأنزلنا من السماء ماء طهورا [ الفرقان: 48 ] ومعناه مطهرا فحيثما وجد ينبغي أن يكون مطهرا مستوفيا لهذه الصفة التي وصفه الله بها وموجب الترتيب قد سلبه هذه الصفة إلا مع وجود معنى آخر غيره وهذا غير جائز ويدل عليه من جهة السنة حديث رفاعة بن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الأعرابي حين علمه الصلاة وقال له إنه لا تتم صلاة أحد من الناس حتى يضع الوضوء مواضعه ثم يكبر ويحمد الله وذكر الحديث فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا وضع الوضوء مواضعه أجزأه ومواضع الوضوء الأعضاء المذكورة في الآية فأجاز الصلاة بغسلها من غير ذكر الترتيب فدل على أن غسل هذه الأعضاء يوجب كمال طهارته لوضعه الوضوء مواضعه فإن قيل إذا لم يرتب فلم يضع الوضوء مواضعه قيل له هذا غلط لأن مواضع الوضوء معلومة مذكورة في الكتاب فعلى أي وجه حصل الغسل فقد وضع الوضوء مواضعه فيجزيه بحكم النبي صلى الله عليه وسلم بإكمال طهارته إذا فعل ذلك ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على جواز طهارته لو بدأ من المرفق إلى الزند وقال تعالى إلى المرافق فلما لم يجب الترتيب فيما هو مرتب في مقتضى حقيقة اللفظ فما لم يقتض اللفظ ترتيبه أحرى أن يجوز وهذه دلالة ظاهرة لا يحتاج معها إلى ذكر علة يجمعها لأنه قد ثبت بما وصفنا أن المقصد فيه ليس الترتيب إذ لو كان كذلك لكان ما اقتضى اللفظ ترتيبه أولى أن يكون مرتبا وأيضا يجوز أن يقاس عليها بأنهما جميعا من أعضاء الطهارة فلما سقط الترتيب في أحدهما وجب سقوطه في الآخر وأيضا لما لم يجب الترتيب بين الصلاة والزكاة إذ كل واحدة منهما يجوز سقوطها مع ثبوت فرض الأخرى كان كذلك الترتيب في الوضوء لجواز سقوط فرض غسل الرجلين لعلة بهما مع لزوم فرض غسل الوجه وأيضا لما لم يستحل جمع هذه الأعضاء في الغسل وجب أن لا يجب فيها الترتيب كالصلاة والزكاة وقد روي عن عثمان أنه توضأ فغسل وجهه ثم يديه ثم غسل رجليه ثم مسح ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ
[ 454 ]
فإن احتجوا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وقال هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به قيل له ليس في هذا الخبر ذكر الترتيب وإنما هو حديث زيد العمى عن معاوية بن قرة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ثم قال هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به ثم توضأ مرتين مرتين وذكر الحديث فلم يذكر فيه أنه فعله مرتبا وليس يمتنع أن يكون قد بدأ بالذراعين الرحمن قبل الوجه أو يمسح الرأس قبله ومن ادعى أنه فعله مرتبا لم يمكنه إثباته إلا برواية فإن قيل كيف يجوز أن يتأول عليه ترك الترتيب مع قولك إن المستحب فعله مرتبا قيل له جائز أن يترك المستحب إلى غيره مما هو مباح ومع ذلك فيجوز أن يكون فعله غير مرتب على وجه التعليم كما أنه أخر المغرب في حال على وجه التعليم والمستحب تقديمها في سائر الأوقات فإن قيل فإن لم يكن فعله مرتبا فواجب أن يكون فعله غير مرتب واجبا لقوله هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به قيل له لو قبلنا ذلك وقلنا مع ذلك إن اللفظ يقتضي وجوب فعله على ما أشار به إليه من عدم ترتيب الفعل لكنا أجزناه مرتبا بدلالة تسقط سؤالك ولكنا نقول إن قوله هذا وضوء إنما هو إشارة إلى الغسل دون الترتيب فلذلك لم يكن للترتيب فيه مدخل فإن احتجوا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد الصفا وقال نبدأ بما بدأ الله به وذلك عموم في ترتيب الحكم به واللفظ جميعا قيل له هذا يدل على أن الواو لا توجب الترتيب لأنها لو كانت توجبه لما احتاج إلا تعريفه الحاضرين وهم أهل اللسان ولا دلالة فيه مع ذلك على وجوب الترتيب في الصفا والمروة فكيف به في غيره لأن أكثر ما فيه أنه إخبار عما يريد فعله من التبدئة بالصفا وإخباره عما يريد فعله لا يقتضي وجوبا كما أن فعله لا يقتضي الإيجاب وعلى أنه لو اقتضى الإيجاب لكان حكمه مقصورا على ما أخبر به وفعله دون غيره فإن قيل قوله صلى الله عليه وسلم نبدأ بما بدأ الله به إخبار بان ما بدأ الله به في اللفظ فهو مبدوء به في المعنى لولا ذلك لم يقل نبدأ بما بدأ الله به إنما أراد التبدئة به في الفعل فتضمن ذلك إخبارا بأن الله قد بدأ به في الحكم من حيث بدأ به في اللفظ قيل له ليس هذا كما ظننت من قبل إنه يجوز أن يقول نبدأ بالفعل فيما بدأ الله به في اللفظ فيكون كلاما صحيحا مفيدا وأيضا لا يمتنع عندنا أن يريد بترتيب اللفظ ترتيب الفعل إلا أنه لا يجوز إيجابه إلا بدلالة ألا ترى أن ثم حقيقتها التراخي وقد ترد وتكون في معنى الواو كقوله تعالى كان من الذين آمنوا ومعناه وكان من الذين
[ 455 ]
آمنوا وقوله تعالى الله شهيد ومعناه والله شهيد وكما تجئ أو بمعنى الواو كقوله تعالى إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما [ النساء: 135 ] ومعناه إن يكن غنيا وفقيرا فكذلك لا يمتنع أن يريد بالواو الترتيب فتكون مجازا ولا يجوز حملها عليه إلا بدلالة مطلب: في جواب ابن عباس السائل عن تقديم العمرة على الحج فإن قيل سئل ابن عباس وقيل له كيف تأمر بالعمرة قبل الحج والله سبحانه يقول وأتموا الحج والعمرة لله فقال كيف تقرؤن الدين قبل الوصية أو الوصية قبل الدين قالوا الوصية قال فبأيهما تبدؤون قالوا بالدين قال فهو ذاك فلولا أن في لسانهم الترتيب في الفعل على حسب وجوده في اللفظ لما سألوه عن ذلك قيل له كيف يحتج بقول هذا السائل وهو قد جهل ما فيه الترتيب بلا خلاف بين أهل اللغة فيه وهو قوله تمتع بالعمرة إلى الحج [ البقرة: 196 ] ؟ وهذا اللفظ لا محالة يوجب ترتيب فعل الحج على العمرة وتقديمها عليه فمن جهل هذا لم ينكر منه الجهل بحكم اللفظ في قوله تعالى الحج والعمرة لله [ البقرة: 196 ] وما يدري هذا القائل أن هذا السائل كان من أهل اللغة وعسى أن يكون ممن أسلم من العجم ولم يكن من أهل المعرفة باللسان وأيهما أولى قول ابن عباس في أن ترتيب اللفظ لا يوجب ترتيب الفعل أو قول هذا السائل فلو لم يكن في إسقاط قول القائلين بالترتيب إلا قول ابن عباس لكان كافيا مغنيا فإن قيل قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ابدؤا بما بدأ الله به وقال تعالى علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه فقوله ابدؤا بما بدأ الله به أمر يقتضي التبدئة مما بدأ الله به في اللفظ والحكم وقوله عز وجل (فاتبع قرآنه لزوم في عموم اتباعه مرتبا إذا ورد اللفظ كذلك قيل له وأما قوله ابدؤا بما بدأ الله به فإنما ورد في شأن الصفا والمروة فذكر بعضهم القصة على وجهها وحفظ بعضهم ذكر السبب واقتصر على قوله صلى الله عليه وسلم ابدؤوا بما بدأ الله به وغير جائز لنا أن نجعلهما حديثين ونثبت من النبي صلى الله عليه وسلم القول في حالين إلا بدلالة توجب ذلك وأيضا فنحن نبدأ بما بدأ الله به وإنما الكلام بيننا وبين مخالفينا في مراد الله من التبدئة بالفعل إذا بدأ به في اللفظ فالواجب أن نثبت أن الله قد أراد ترتيب الحكم حتى نبدأ به وكذلك الجواب في قوله قرآنه لأن اتباع قرآنه أن نبدأ به على ترتيبه ونظامه وواجب أن نبدأ بحكم القرآن على حسب مراده من ترتيب أو
[ 456 ]
جمع وغيره وأنت متى أوجبت الترتيب فيما لا يقتضي المراد ترتيبه فلم تتبع قرآنه وترتيب اللفظ لا يوجب ترتيب الفعل فإن قيل إذا كان القرآن اسما للتأليف والحكم جميعا فواجب علينا اتباعه في الأمرين قيل له القرآن اسم للمتلو حكما كان أو خبرا فعلينا اتباعه في تلاوته فأما مراد ترتيب الفعل على ترتيب اللفظ فإن المرجع فيه إلى مقتضى اللغة وليس في اللغة إيجاب ترتيب الفعل على ترتيب اللفظ في المأمور به ألا ترى أن كثيرا من القرآن قد نزل بأحكام ثم نزلت بعده أحكام أخر ولم يوجب تقديم تلاوته تقديم فعله على ما نزل بعده وقد علمنا أنه غير جائز تعبير نظم القرآن والسور والآي عما هي عليه وليس يجب ذلك ترتيب الأحكام المذكورة فيها حسب ترتيب التلاوة فبان بذلك سقوط هذا السؤال فإن قيل قد أثبت الترتيب بالواو في قول الرجل لامرأته أنت طالق وطالق وطالق قبل الدخول بها فأثبتها بالأولى ولم توقع الثانية والثالثة فجعلت الواو مرتبة بحكم اللفظ فكذلك قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم يلزمك إيجاب الترتيب في غسل هذه الأعضاء حسب ما في نظام التلاوة من الترتيب قيل له لم نوقع الأولى قبل الثانية في مسألة الطلاق لما ذكرت من كون الواو مقتضية للترتيب وإنما أوقعنا الأولى قبل الثانية لأنه أوقعها غير معلقة بشرط ولا مضافة إلى وقت وحكم الطلاق إذا حصل هكذا أن يقع غير منتظر به حال أخرى فلما وقعت الأولى لأنه قد بدأ بها في اللفظ ثم أوقع الثانية صادفتها الثانية وليست هي بزوجة فلم تلحقها وأما قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم فلم يقع به غسل الوجه قبل اليد ولا اليد قبل المسح لأن غسل بعض هذه الأعضاء لا يغني ولا يتعلق به حكم إلا بغسل الجميع فصار غسل الجميع موجبا معا بحكم اللفظ فلم يقتض اللفظ الترتيب ألا ترى أنه لو علق الطلاق الأول والثاني والثالث بشرط فقال أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار لم يقع منه شئ إلا بالدخول لأنه شرط في كل واحدة ما شرطه في الأخرى من الدخول كما شرط في غسل كل واحد من الأعضاء غسل الأعضاء الأخر ولا يختلف أهل العلم في رجل قال لامرأته إن دخلت هذه الدار وهذه الدار فأنت طالق فدخلت الثانية ثم الأولى أنها تطلق ولم يكن قوله هذه وهذه موجبا لتقديم الأولى في الشرط الذي علق به وقوع الطلاق فإن قيل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه ثم يديه ثم يمسح برأسه ثم يغسل رجليه وثم تقتضي الترتيب بلا خلاف قيل له لا يخلو قائل ذلك من أن يكون متكذبا وكان أو جاهلا وأكثر ظني أن قائله
[ 457 ]
فيه متكذب روى وقد تعمد ذلك لأن هذا إنما هو حديث علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع وقد روي من طرق كثيرة وليس في شئ منها ما ذكر من الترتيب وعطف الأعضاء بعضها على بعض بثم وإنما أكثر ما فيه يغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين وقال في بعضها حتى يضع الطهور مواضعه وذلك يقتضي جواز ترك الترتيب وأما عطفه بثم فما رواه أحد ولا ذكره بإسناد ضعيف ولا قوي وعلى أنه لو روي ذلك في الحديث لم يجز الاعتراض به على القرآن في إثبات الزيادة فيه وإيجاب نسخه فإذ قد ثبت أنه ليس في القرآن إيجاب الترتيب فغير جائز إثباته بخبر الواحد لما وصفنا باب الغسل من الجنابة قال الله تعالى كنتم جنبا فاطهروا قال أبو بكر الجنابة اسم شرعي يفيد لزوم اجتناب الصلاة وقراءة القرآن ومس المصحف ودخول المسجد إلا بعد الاغتسال فمن كان مأمور باجتناب ما ذكرنا من الأمور موقوف الحكم على الاغتسال فهو جنب وذلك إنما يكون بالإنزال على وجه الدفق والشهوة أو الإيلاج في أحد السبيلين من الإنسان ويستوي فيه الفاعل والمفعول به وينفصل حكم الجنابة من حكم الحيض والنفاس وإن كان الحيض والنفاس يحظران ما تحظره الجنابة مما قدمنا بأن الحيض والنفاس يحظران الوطء أيضا ووجود الغسل لا يطهرهما أيضا ما دامت حائضا أو نفساء والغسل يطهر الجنب ولا تحظر عليه الجنابة الوطء وإنما سمي جنبا لما لزم من اجتناب ما وصفنا إلى أن يغتسل فيطهره الغسل والجنب اسم يطلق على الواحد وعلى الجماعة وذلك لأنه مصدر كما قالوا رجل عدل وقوم عدل ورجل زور وقوم زور من الزيارة وتقول منه أجنب الرجل وتجنب واجتنب والمصدر الجنابة والاجتناب فالجنابة المذكورة في هذا الموضع هي البعد والاجتناب لما وصفنا وقال الله تعالى ذي القربى والجار الجنب يعني البعيد منه نسبا فصارت الجنابة في الشرع اسما للزوم اجتناب ما وصفنا من الأمور وأصله التباعد عن الشئ وهو مثل الصوم قد صار اسما في الشرع للإمساك عن أشياء معلومة وقد كان أصله في اللغة الإمساك فقط واختص في الشرع بما قد علم وقوعه عليه ونظائره من الأسماء الشرعية المنقولة من اللغة إليها فكان المعقول بها ما استقرت عليه أحكامها في الشرع فأوجب الله تعالى على من حصلت له هذه السمة الطهارة بقوله كنتم جنبا فاطهروا وقوله في آية أخرى تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وقالي وينزل عليكم من
[ 458 ]
السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان روي أنهم أصابتهم جنابة فأنزل الله مطرا فأزالوا به أثر الاحتلام والمفروض من غسل الجنابة إيصال الماء بالغسل إلى كل موضع يلحقه حكم التطهير من بدنه لعموم قوله فاطهروا) وبين النبي صلى الله عليه وسلم مسنون الغسل فيما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا علي بن محمد بن عبد الملك قال حدثنا محمد بن مسدد قال حدثنا عبد الله بن داود عن الأعمش عن سالم عن كريب قال حدثنا ابن عباس عن خالته ميمونة قالت وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلا يغتسل من الجنابة فأكفأ الإناء على يده اليمنى فغسلها مرتين أو ثلاثا ثم صب على فرجه بشماله ثم ضرب بيده الأرض فغسلها ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه ثم صب على رأسه وجسده ثم تنحى ناحية فغسل رجليه فناولته المنديل فلم يأخذه وجعل ينفض الماء عن جسده وكذلك الغسل من الجنابة عند أصحابنا والوضوء ليس بفرض في الجنابة لقوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا) وإذا اغتسل فقد تطهر وقضى عهدة الآية وقال تعالى تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) [ النساء: 43 ] إلى قوله جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا [ النساء: 43 ]، فأباح الصلاة بالاغتسال من غير وضوء فمن شرط في صحته مع وجود الغسل وضوءا فقد زاد في الآية ما ليس فيها وذلك غير جائز لما بينا فيما سلف فإن قيل قال الله تعالى قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية وذلك عموم في سائر من قام إليها قيل له فالجنب حين غسل سائر جسده فهو غاسل لهذه الأعضاء فقد قضى عهدة الآية لأنه متوضئ مغتسل فهو إن لم يفرد الوضوء قبل الاغتسال فقد أتى بالغسل على وضوء لأنه أعم منه فإن قيل توضأ النبي صلى الله عليه وسلم قبل الغسل قيل له هذا يدل على أنه مستحب مندوب إليه لأن ظاهر فعله لا يقتضي الإيجاب واختلف الفقهاء في وجوب المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والليث والثوري هما فرض فيه وقال مالك والشافعي ليس بفرض فيه وقوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا عموم في إيجاب تطهير سائر ما يلحقه حكم التطهير من البدن فلا يجوز ترك شئ منه فإن قيل من اغتسل ولم يتمضمض ولم يستنشق يسمى متطهرا فقد فعل ما أوجبته الآية قيل له إنما يكون مطهرا لبعض جسده وعموم الآية يقتضي تطهير
[ 459 ]
الجميع فلا يكون بتطهير البعض فاعلا لموجب عموم اللفظ ألا ترى أن قوله تعالى (فاقتلوا المشركين عموم في سائرهم وإن كان الاسم قد يتناول ثلاثة منهم كذلك ما وصفنا ولما لم يجز لأحد أن يقتصر من حكم آية قتال المشركين على ثلاثة منهم لأن الاسم يتناولهم إذ كان العموم شاملا للجميع فكذلك قوله تعالى (فاطهروا) عموم في سائر البدن فلا يجوز الاقتصار على بعضه مطلب: يجب استعمال الايتتين على أعمهما حكما وأكثرهما فائدة قيل قوله ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا يقتضي جوازه مع تركها لوقوع اسم المغتسل عليه # قيل له إذا كان قوله فاطهروا يقتضي تطهير داخل الفم والأنف فالواجب علينا استعمال الآيتين على أعمهما حكما وأكثرهما فائدة وغير جائز الاقتصار بهما على أخصهما حكما إذ فيه تخصيص بغير دلالة ألا ترى أن من تمضمض واستنشق يسمى مغتسلا أيضا فليس في ذكره الاغتسال نفي لمقتضى قوله عز وجل كنتم جنبا فاطهروا هذا يدل عليه من جهة السنة حديث الحارث بن وجيهعن مالك بن دينار عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وانقوا البشرة وروى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن زاذان عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل بها كذا وكذا من النار قال علي فمن ثم عاديت شعري وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أحمد بن النضر بن بحر وأحمد بن عبد الله بن سابور والعمري قالوا حدثنا بركة بن محمد الحلبي قال حدثنا يوسف بن أسلط عن سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثة فريضة وأما قوله تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وانقوا البشرة ففيه الدلالة من وجهين على ما ذكرنا أحدهما أن الأنف فيه شعر وبشرة والفم فيه بشرة فاقتضى الخبر وجوب غسلها وحديث علي أيضا يوجب غسل داخل الأنف لأن فيه شعرا فإن قيل إن العين قد يكون فيها شعر قيل له هو شاذ نادر والأحكام إنما تتعلق بالأعم الأكثر ولا حكم للشاذ النادر فيها وعلى أنا خصصناه بالإجماع ومع ذلك فإن الكلام في وجه دلالة التخصيص خروج عن المسألة والعموم سالم لنا فيما لم تقم دلالة خصوصه فإن قيل إن ابن عمر كان يدخل الماء عينيه في الجنابة قيل له لم يكن يفعله على وجه الوجوب وقد كان مصعبا على نفسه في أمر الطهارة يفعل فيها مالا يراه
[ 460 ]
واجبا قد كان يتوضأ لكل صلاة ويفعل أشياء على وجه الاحتياط لا على وجه الوجوب وحديث يوسف بن أسباط الذي ذكرنا فيه نص على إيجابها فرضا فإن قيل ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الثلاث فرضا وأنت لا تقول به قيل ظاهره يقتضي كون الثلاث فرضا وقد قامت الدلالة على سقوط فرض الاثنين وبقي حكم اللفظ فيما وراءه ويدل عليه من جهة النظر أن المفروض في غسل الجنابة غسل الظاهر والباطن مما يلحقه حكم التطهير بدلالة أن عليه إبلاغ الماء أصول الشعر لأنها يلحقها حكم التطهير لو أصابتها نجاسة فكذلك يلزمه تطهير داخل الفم والأنف لهذه العلة فإن قيل فيجب على غسل داخل العينين لهذه العلة قيل له لو أصاب داخل عينيه نجاسة لم يلزمه تطهيرها هكذا كان يقول أبو الحسن وأيضا فليس في داخل العينين بشرة وإنما يلزم في الجنابة تطهير البشرة فإن قيل لما كان داخل العينين باطنا ولم يلزم تطهيره وجب أن يكون كذلك حكم داخل الأنف والفم قيل له وكيفصار داخل العينين باطنا فإن أردت به أنه ينطبق عليهما الجفن فذلك موجود في الإبطين لأنهما ينطبق عليهما العضد ولا خلاف في لزوم تطهيرهما في الجنابة ولا يلزمنا إيجاب المضمضة والإستنشاق في الوضوء لأجل إيجابنا لهما في الجنابة وذلك لأن الآية في إيجاب الوضوء إنما اقتضت غسل الوجه والوجه هو ما واجهك فلم يتناول داخل الأنف والفم والآية في غسل الجنابة قد أوجبت تطهير سائر البدن من غير خصوص فاستعملنا الآيتين على ما وردتا والفرق أيضا بينهما من جهة النظر أن الواجب في الوضوء غسل الظاهر دون الباطن بدلالة أنه لا يلزمنا فيه إبلاغ الماء أصول الشعر فلذلك لم يلزم تطهير الفم وداخل الأنف وفي الجنابة عليه غسل الباطن من البشرة بدلالة أن عليه إبلاغ الماء أصول الشعر وبهذا نجيب عن قوله صلى الله عليه وسلم عشر من الفطرة خمس في الرأس وخمس في البدن فذكر في الرأس المضمضة والإستنشاق فنحمله على أنه مسنون في الطهارة الصغرى ونفرق بينه وبين الجنابة بما ذكرنا والله أعلم قال الله تعالى وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو
[ 461 ]
لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فتضمنت الآية بيان حكم المريض الذي يخاف ضرر استعمال الماء وحكم المسافر الذي لا يجد الماء إذا كان جنبا أو محدثا لأن قوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط أهل بيان حكم الحدث لأن الغائط هو اسم للمنخفض حديث من الأرض وكانوا يقضون الحاجة هناك فجعل ذلك كناية عن الحدث وقوله أو لامستم النساء مفيد لحكم الجنابة في حال عدم الماء ولما يستدل عليه إن شاء الله تعالى وقد دل ظاهر قوله وإن كنتم مرضى على إباحة التيمم لسائر المرضى بحق العموم لولا قيام الدلالة على أن المراد بعض المرضى فروي عن ابن عباس وجماعة من التابعين أنه المجدور ومن يضره الماء ولا خلاف مع ذلك أن المريض الذي لا يضره استعمال الماء لا يباح له التيمم مع وجود الماء وإباحة التيمم للمريض غير مضمنة بعدم الماء بل هي مضمنة بخوف ضرر الماء على ما بينا وذلك لأنه تعالى قال وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا فأباح التيمم للمريض من غير شرط عدم الماء وعدم الماء إنما هو مشروط للمسافر دون المريض من قبل أنه لو جعل عدم الماء شرطا في إباحة التيمم للمريض لأدى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المريض لأن العلة المبيحة للتيمم وجواز الصلاة به في المريض والمسافر لو كانت عدم الماء لما كان لذكر المريض مع ذكر عدم الماء فائدة إذ لا تأثير للمريض في إباحة التيمم ولا منعه إذ كان الحكم متعلقا بعدم الماء فإن قيل إذا جاز أن يذكر حال السفر مع عدم الماء وإن كان جواز التيمم متعلقا بعدم الماء دون السفر إذ لو كان واجدا للماء أجزأه التيمم لم يمتنع أن تكون إباحة التيمم للمريض موقوفة على حال عدم الماء قيل له إنما ذكر المسافر لأن الماء إنما يعدم في السفر في الأعم الأكثر فإنما ذكر السفر إبانة عن الحال التي يعدم الماء فيها في الأعم الأكثر كما قال صلى الله عليه وسلم لا قطع في ثمر حتى يأويه الجرين وليس المقصد فيه أن يأويه الجرين فحسب لأنه لو آواه بيت أو دار كان ذلك كذلك وإنما مراده بلوغ حال الاستحكام وامتناع إسراع الفساد إليه وإيواء الحرز لأن الجرين الذي يأويه حرز وكما قال في خمس وعشرين بنت مخاض ولم يرد به وجود المخاض بأمها وإنما أريد به أنه قد أتى عليها حول وصارت في الثاني لأنها إذا كانت كذلك كان بأمها مخاض في الأعم الأكثر فكان فائدة ذكر المسافر مع شرط عدم الماء ما وصفنا وليس كذلك المريض لأن المريض لا تعلق له بعدم الماء فعلمنا أن مراده ما يلحق من الضرر باستعمال الماء وعموم اللفظ يقتضي جواز التيمم للمريض في كل حال لولا ما روي عن السلف واتفق الفقهاء عليه من أن المرض الذي لا يضر معه استعمال الماء لا يبيح له
[ 462 ]
التيمم ومن أجل ذلك قال أبو حنيفة ومحمد ومن خاف برد الماء إن اغتسل جاز له التيمم لما يخاف من الضرر وقد روي في حديث عمرو بن العاص أنه تيمم مع وجود الماء لخوف البرد فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره وقد اتفقوا على جوازه في السفر مع وجود الماء لخوف البرد فوجب أن يكون الحضر مثله لوجود العلة المبيحة له وكما لم يختلف حكم المرض في السفر والحضر كذلك حكم خوف ضرر الماء لأجل البرد وقوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط فإن أو ههنا بمعنى الواو تقديره وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط وذلك راجع إلى المريض والمسافر إذا كانا محدثين ولزمهما فرض الصلاة وإنما قلنا إن قوله أو جاء أحد منكم من الغائط بمعنى الواو لأنه لو لم يكن كذلك لكان الجائي من الغائط ثالثا لهما غير المريض والمسافر فلا يكون حينئذ وجوب الطهارة على المريض والمسافر متعلقا بالحدث ومعلوم أن المريض والمسافر لا يلزمهما التيمم إلا أن يكونا محدثين فوجب أن يكون قوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط بمعنى وجاء أحدكم كقوله وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون معناه ويزيدون وكقوله إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ومعناه غنيا وفقيرا وأما قوله تعالى أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا فإن السلف قد تنازعوا في معنى الملامسة المذكورة في هذه الآية فقال علي وابن عباس وأبو موسى والحسن وعبيدة والشعبي هي كناية عن الجماع وكانوا لا يوجبون الوضوء لمن مس امرأته وقال عمر وعبد الله بن مسعود المراد اللمس باليد وكانا يوجبان الوضوء بمس المرأة ولا يريان للجنب أن يتيمم فمن تأوله من الصحابة على الجماع لم يوجب الوضوء من مس المرأة ومن حمله على اللمس باليد أوجب الوضوء من مس المرأة ولم يجز التيمم للجنب واختلف الفقهاء في ذلك أيضا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري والأوزاعي لا وضوء على من مس امرأة لشهوة أو لغير شهوة وقال مالك إن مسها لشهوة تلذذا فعليه الوضوء وكذلك إن مسته تلذذا فعليها الوضوء وقال إن مس شعرها تلذذا فعليه الوضوء وإذا قال لها شعرك طالق طلقت وقال الحسن بن صالح إن قبل لشهوة فعليه الوضوء وإن كان لغير شهوة فلا وضوء عليه وقال الليث إن مسها فوق الثياب تلذذا فعليه الوضوء وقال الشافعي إذا مس جسدها فعليه الوضوء لشهوة أو لغير شهوة والدليل على أن لمسها ليس بحدث على أي وجه كان ما روي عن عائشة من طرق مختلفة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض نسائه ثم يصلي ولا يتوضأ كما روي أنه
[ 463 ]
كان يقبل بعض نسائه وهو صائم وقد روي الأمران جميعا في حديث واحد ولا يجوز حمله على أنه قبل خمارها وثوبها لوجهين أحدهما أنه لا يجوز أن يحمل اللفظ على المجاز بغير دلالة إذ حقيقته أن يكون قد باشر جلدها حيث قبلها وما ذكره الخصم يكون قبلة لخمارها عند والثاني أنه لا فائدة في نقله وأيضا فإنه لم يكن بين النبي صلى الله عليه وسلم من الوحشة وبين أزواجه أن يكون مستورات عنه لا يصيب منها إلا الخمار ومنه حديث عائشة أنها طلبت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة قالت فوقعت يدي على أخمص قدمه وهو ساجد يقول أعوذ بعفوك من عقوبتك وبرضاك من سخطك فلو كان مس المرأة حدثا لما مضى في سجوده لأن المحدث لا يجوز أن يبقى على حال السجود وحديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص فإذا سجد وضعها وإذا رفع رأسه حملها ومعلوم أن من فعل ذلك لا يخلو من وقوع يده على شئ من بدنها فثبت بذلك أن مس المرأة ليس بحدث وهذه الأخبار حجة على من يجعل اللمس حدثا لشهوة أو لغير شهوة ولا يحتج بها على من اعتبر اللمس لشهوة لأنه حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لشهوة ومسه أمامة قد علم يقينا أنه لم يكن لشهوة والذي يحتج به على الفريقين أنه معلوم عموم البلوى بمس النساء لشهوة والبلوى بذلك أعم منها بالبول والغائط ونحوهما فلو كان حدثا لما أخل النبي صلى الله عليه وسلم الأمة من التوقيف عليه لعموم البلوى به وحاجتهم إلى معرفة حكمه ولا جائز في مثله الاقتصار بالتبليغ إلى بعضهم دون بعض فلو كان منه توقيف لعرفه عامة الصحابة فلما روي عن الجماعة الذين ذكرناهم من الصحابة أنه لا وضوء فيه دل على أنه لم يكن منه صلى الله عليه وسلم توقيف لهم عليه وعلم أنه لا وضوء فيه فإن قيل يلزمك مثله لخصمك لأن لو لم يكن فيه وضوء لكان من النبي صلى الله عليه وسلم توقيف للكافة عليه لأنه لا وضوء فيه لعموم البلوى به قيل له لا يجب ذلك في نفي الوضوء منه كما يجب في إثباته وذلك لأنه معلوم أن الوضوء منه لم يكن واجبا في الأصل فجائز أن يتركهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما كان معلوما عندهم من نفي وجوب الطهارة ومتى شرع الله تعالى فيه إيجاب الوضوء فغير جائز أن يتركهم بغير توقيف عليه مع علمه بما كانوا عليه من نفي إيجابه لأن ذلك يوجب إقرارهم على خلاف ما تعبدوا به فلما وجدنا قوما من جلة الصحابة لم يعرفوا الوضوء من مس المرأة علمنا أنه لم يكن منه توقيف على ذلك فإن قيل جائز أن لا يكون منه صلى الله عليه وسلم توقيف في حال ذلك اكتفاء بما في ظاهر
[ 464 ]
الكتاب من قوله تعالى أو لامستم النساء وحقيقته هو اللمس باليد وبغيرها من الجسد قيل له في الآية نص على أحد المعنيين بل فيها احتمال لكل واحد منهما ولأجل ذلك اختلفوا في معناها وسوغوا الاجتهاد في طلب المراد بها فليس إذا فيها توقيف في إيجاب الوضوء مع عموم الحاجة إليه وأيضا اللمس يحتمل الجماع على ما تأوله علي وابن عباس وأبو موسى ويحتمل اللمس باليد على ما روي عن عمر وابن مسعود فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ أبان ذلك عن مراد الله تعالى ووجه آخر يدل على أن المراد منه الجماع وهو أن اللمس وإن كان حقيقة للمس باليد فإنه لما كان مضافا إلى النساء وجب أن يكون المراد منه الوطء كما أن الوطء حقيقته المشي بالأقدام فإذا أضيف إلى النساء لم يعقل منه غير الجماع كذلك هذا ونظيره قوله تعالى وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن يعني من قبل أن تجامعوهن وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الجنب بالتيمم في أخبار مستفيضة ومتى ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حكم ينتظمه لفظ الآية وجب أن يكون فعله إنما صدر عن الكتاب كما أنه لما قطع السارق وكان في الكتاب لفظ يقتضيه كان قطعه معقولا بالآية وكسائر الشرائع التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم مما ينطوي عليه ظاهر الكتاب وإذا ثبت أن المراد باللمس الجماع انتفى منه مس اليد من وجوه أحدها اتفاق السلف من الصدر الأول أن المراد أحدهما لأن عليا وابن عباس وأبو موسى لما تأولوه على الجماع لم يوجبوا نقض الطهارة بلمس اليد وعمر وابن مسعود لما تأولاه على اللمس لم يجيزا للجنب التيمم فاتفق الجميع منهم على أن المراد أحدهما ومن قال إن المراد هما جميعا فقد خرج عن اتفاقهم وخالف إجماعهم في أن المراد أحدهما وما روي عن ابن عمر أن قبلة الرجل لامرأته من الملامسة فلا دلالة فيه على أنه كان يرى المعنيين جميعا مرادين بالآية بل كان مذهبه في ذلك مذهب عمر وابن مسعود فبين في هذا الخبر بأن اللمس ليس بمقصور على اليد وإنما يكون أيضا بالقبلة وبغيره من المعانقة والمضاجعة ونحوها ووجه آخر يدل على أنه لا يجوز أن يرادا جميعا بالآية وهو أن اللمس باليد إنما يوجب الوضوء عند مخالفينا والجماع يوجب الغسل وغير جائز أن يتعلق بعموم واحد حكمان مختلفان فيما انتظمه ألا ترى إلى قوله تعالى والسارق والسارقة لما كان لفظ عموم لم يجز أن ينتظم السارقين لا يقطع أحدهما إلا في عشرة ويقطع الآخر في خمسة وإذا ثبت أن الجماع مراد بما وصفنا وهو يوجب الغسل انتفى دخول اللمس باليد فيه فإن قيل لم يختلف حكم موجب اللفظ في إرادت الجماع واللمس باليد لأن الواجب فيها التيمم المذكور في الآية قيل له التيمم بدل والأصل هو الطهارة بالماء
[ 465 ]
ومحال إيجاب التيمم إلا وقد وجب قبل ذلك الطهارة بالماء وهو بدل فيها فغير جائز أن يكون اللمس المذكور موجبا للوضوء في إحدى الحالتين وموجبا للغسل في الأخرى وأيضا إن التيمم وإن كان بصورة واحدة فإن حكمه مختلف لأن أحدهما ينوب عن غسل جميع الأعضاء والآخر غسل بعضها فغير جائز أن ينتظمهما لفظ واحد فمتى وجب لأحد المعنيين فكأنه قد نص عليه وذكره بأن قال هو الجماع فلا يدخل فيه اللمس باليد ويدل على انتفاء إرادتهما أن اللمس متى أريد به الجماع كان اللفظ كناية وإذا أريد منه اللمس باليد كان صريحا وكذلك روي عن علي وابن عباس أنهما قالا اللمس هو الجماع ولكنه كني وغير جائز أن يكون لفظ واحد كناية صريحا في حال واحدة ومن جهة أخرى يمتنع ذلك وهو أن الجماع مجاز والحقيقة هو اللمس باليد ولا يجوز أن يكون لفظ واحد حقيقة مجازا في حال واحدة فإن قيل لم لا يكون عموما في اللمس من حيث كان الجماع أيضا مسا ويكون حقيقة فيهما جميعا قيل له يمتنع ذلك من وجوه أحدها أنه قد روي عن علي وابن عباس أنه كناية عن الجماع وهما أعلم باللغة من هذا القائل فبطل قول القائل أن اللمس صريح فيهما جميعا والآخر ما بينا من امتناع عموم واحد مقتضيا لحكمين مختلفين فيما دخلا فيه ولأن اللمس إذا أريد به مماسة في الجسد فقد حصل نقض الطهارة ووجب التيمم المذكور في الآية بمسه إياها قبل حصول الجماع لاستحالة أن يحصل جماع إلا ويحصل قبله لمس لجسدها فلا يكون الجماع حينئذ موجبا للتيمم المذكور في الآية لوجوبه قبل ذلك بمس جسدها ويدل على أن المراد الجماع دون لمس اليد أن الله تعالى قال إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى قوله تعالى وإن كنتم جنبا فاطهروا أبان به عن حكم الحدث في حال وجود الماء ثم عطف عليه قوله (وإن كنتم مرضى أو على سفر إلى قوله فتيمموا صعيدا طيبا فأعاد ذكر حكم الحدث في حال عدم الماء فوجب أن يكون قوله أو لامستم النساء على الجنابة لتكون الآية منتظمة لهما مبينة لحكمهما في حال وجود الماء وعدمه ولو كان المراد اللمس باليد لكان ذكر التيمم مقصورا على حال الحدث دون الجنابة غير مفيد لحكم الجنابة في حال عدم الماء وحمل الآية على فائدتين أولى من الاقتصار بها على فائدة واحدة وإذا ثبت أن المراد الجماع انتفى اللمس باليد لما بينا من امتناع إرادتهما بلفظ واحد فإن قيل إذا حمل على اللمس باليد كان مفيدا لكون اللمس حدثا وإذا جعل
[ 466 ]
مقصورا على الجماع لم يفد ذلك فالواجب على قضيتك في اعتبار الفائدتين حمله عليهما جميعا فيفيد كون اللمس حدثا ويفيد أيضا جواز التيمم للجنب فإن لم يجز حمله على الأمرين لما ذكرت من اتفاق السلف على أنهما لم يرادا ولامتناع كون اللفظ مجازا حقيقة أو كناية وصريحا فقد ساويناك لأنه في إثبات فائدة مجدد بحمله على اللمس باليد مع استعمالنا حقيقة اللفظ فيه فما جعلك إثبات فائدة من جهة إباحة التيمم للجنب أولى ممن أثبت فائدته من جهة كون اللمس باليد حدثا قيل له لأن قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة مفيد لحكم الأحداث في حال وجود الماء ونص مع ذلك على حكم الجنابة فالأولى أن يكون ما في نسق الآية من قوله أو جاء أحد منكم من الغائط إلى قوله أو لامستم النساء بيانا لحكم الحدث والجنابة في عدم الماء كما كان في أول الآية بيانا لحكمهما في حال وجوده وليس موضع الآية في بيان تفصيل الأحداث وإنما هي في بيان حكمها وأنت متى حملت اللمس على بيان الحدث فقد أزلتها عن مقتضاها وظاهرها فلذلك كان ما ذكرناه أولى ووجه آخر وهو أن حمله على الجماع يفيد معنيين أحدهما إباحة التيمم للجنب في حال عوز الماء والآخر أن التقاء الختانين دون الإنزال يوجب الغسل فكان حمله على الجماع أولى من الاقتصار به على فائدة واحدة وهو كون اللمس حدثا مطلب: المفاعلة لا تكون إلا من اثنين إلا في أشياء نادرة ودليل آخر على ما ذكرنا من معنى الآية وهو أنها قد قرئت على وجهين أو لامستم النساء ولمستم فمن قرأ أو لامستم فظاهره الجماع لا غير لأن المفاعلة لا تكون إلا من اثنين إلا في أشياء نادرة كقولهم قاتله الله وجازاه وعافاه الله ونحو ذلك وهي أحرف معدودة لا يقاس عليها أغيارها والأصل في المفاعلة أنها بين اثنين كقولهم قاتله وضاربه وسالمه وصالحه ونحو ذلك وإذا كان ذلك حقيقة اللفظ فالواجب حمله على الجماع الذي يكون منهما جميعا ويدل على ذلك أنك لا تقول لامست الرجل ولامست أخبرنا الثوب إذا مسسته بديك لانفرادك يا بالفعل فدل على أن قوله أو لامستم بممعنى أو جامعتم النساء فيكون حفيفته لو الجماع وإذا صح ذلك وكانت قراءة من قرأ: " أو لمستم " يحتمل اللمس باليد ويحتمل الجماع، وجب أن يكون ذلك محمولا على مالا يحتمل إلا معنى واحدا لأن مالا يحتمل إلا معنى واحدا فهو المحكم وما يحتمل معنيين فهو المتشابه وقد أمرنا الله تعالى بحكم المتشابه على المحكم ورده إليه بقوله هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب الآية فلما جعل المحكم أما للمتشابه فقد أمرنا بحمله عليه
[ 467 ]
وذم متبع المتشابه باقتصاره على حكمه بنفسه دون رده إلى غيره بقوله فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه فثبت بذلك أن قوله أو لمستم لما كان محتملا للمعنيين كان متشابها وقوله أو لامستم لما كان مقصورا في مفهوم اللسان على معنى واحد كان محكما فوجب أن يكون معنى المتشابه مبينا عليه فإن قيل لما قرئت الآية على الوجهين اللذين ذكرت وكان أحد الوجهين لا يحتمل إلا معنى واحدا وهو قراءة من قرأ أو لامستم النساء والوجه الآخر يحتمل اللمس باليد ويحتمل الجماع وجب أن نجعل القراءتين كالآيتين لو وردتا أحدهما كناية عن الجماع فنستعملها فيه والأخرى صريحة في اللمس باليد خاصة فتستعملها يكون فيه دون الجماع ويكون كل واحد من اللفظين مستعملا على مقتضاه من كناية أو صريح إذ لا يكون لفظ واحد حقيقة مجاز ولا كناية صريحا في حال واحدة ونكون مع ذلك قد استعملنا حكم القراءتين على فائدتين دون الاقتصار بهما على فائدة واحدة قيل له لا يجوز ذلك لأن السلف من الصدر الأول المختلفين في مراد الآية قد عرفوا القراءتين جميعا لأن القراءتين لا تكونان إلا توقيفا من الرسول للصحابة عليهما وإذا كانوا قد عرفوا القراءتين ثم لم يعتبروا هذا الاعتبار ولم يحتج بهما موجبو الوضوء من اللمس علمنا بذلك بطلان هذا القول وعلى أنهم مع ذلك لم يحملوهما على المعنيين بل اتفقوا على أن المراد أحدهما وحمله كل واحد من المختلفين على معنى غير ما تأوله عليه صاحبه من جماع أو لمس بيد دون الجماع فثبت بذلك أن القراءتين على أي وجه حصلتا لم تقتضيا مع بمجموعهما ولا بانفراد كل واحدة منهما الأمرين جميعا ولم يجعلوهما بمنزلة الآيتين إذا وردتا فيجب استعمال كل واحدة منهما على حيالها وحملها على مقتضاها وموجبها وكان أبو الحسن الكرخي يجيب عن ذلك بجواب آخر وهو أن سبيل القراءتين غير سبيل الآيتين وذلك لأن حكم القراءتين لا يلزم معا في حال واحدة بل بقيام أحدهما مقام الأخرى ولو جعلناهما كالآيتين لوجب الجمع بينهما في القراءة وفي المصحف والتعليم لأن القراءة الأخرى بعض القرآن ولا يجوز إسقاط شئ منه ولكان من اقتصر على إحدى القراءتين مقتصرا على بعض القرآن لاعلى كله وللزم من ذلك أن المصاحف لم يثبت فيها جميع القرآن وهذا خلاف ما عليه جميع المسلمين فثبت بذلك أن القراءتين ليستا كالآيتين في الحكم بل تقرآن على أن تقام أحدهما مقام الأخرى لا على أن يجمع بين أحكامهما كما لا يجمع بين قراءتهما وإثباتهما في المصحف معا ويدل على أن اللمس ليس بحدث أن ما كان حدثا لا يختلف فيه الرجال والنساء
[ 468 ]
ولو مست امرأة امرأة لم يكن حدثا كذلك مس الرجل إياها وكذلك مس الرجل الرجل ليس بحدث فكذلك مس المرأة ودلالة ذلك على ما وصفنا من وجهين أحدهما أنا وجدنا الأحداث لا تختلف فيها الرجال والنساء فكل ما كان حدثا من الرجل فهو من المرأة حدث، وكذلك ما كان حدثا من المرأة فهو حدث من الرجل، فمن فرق بين الرجل والمرأة فقوله خارج عن الأصول ومن جهة أخرى أن العلة في مس المرأة المرأة والرجل الرجل أنه مباشرة من غير جماع فلم يكن حدثا كذلك الرجل والمرأة فإن قيل قد أوجب أبو حنيفة الوضوء على من باشر امرأته وانتشرت آلته وليس بينهما ثوب ولا فرق بين مسها بيده وبين مسها ببدنه قيل له لم يوجب أبو حنيفة ههنا الوضوء بالمباشرة وإنما أوجبه إذ التقى الفرجان من غير إيلاج كذلك رواه محمد عنه وذلك لأن الإنسان لا يكاد يبلغ هذه الحال إلا ويخرج منه شئ وإن لم يشعر به فلما كان الغالب في هذه الحال خروج شئ منه وإن لم يشعر به أوجب الوضوء له احتياطا فحكم له بحكم الحدث فليس إذا في ذلك إيجاب الوضوء من اللمس والله أعلم بالصواب باب وجوب التيمم عند عدم الماء قال الله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا قال أبو بكر شرط الوجود مختلف فيه والجملة التي اتفق أصحابنا عليها أن الوجود إمكان استعمال الماء الذي يكفيه لطهارته من غير ضرر فلو كان معه ماء وهو يخاف العطش أو لم يجده إلا بثمن كثير تيمم وليس عليه أن يغالي فيه إلا أن يجده بثمن كما يباع بغير ضرورة فيشتريه وإن كان أكثر من ذلك فلا يشتريه وجعل أصحابنا جميعا شرط الوجود أن يكفيه لجميع طهارته وأما العلم بكونه في رحله فمختلف فيه أنه من شرط الوجود وسنذكره إن شاء الله واختلف أيضا في وجوب الطلب وهل يكون غير واجد قبل الطلب وإنما قلنا أنه إذا خاف العطش باستعماله للطهارة فهو غير واجد للماء المفروض به الطهارة لأنه متى خاف الضرر في استعماله كان معذورا في تركه إلى التيمم كالمريض قال الله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم فنفى الحرج عنا وهو الضيق وفي الأمر باستعمال الماء الذي يخاف فيه العطش أعظم الضيق وقد نفاه الله تعالى نفيا مطلقا وقال تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر من العسر استعمال الماء الذي يؤديه إلى الضرر وتلف النفس ألا ترى أنه لو اضطر إلى شرب الماء وحضرته الصلاة ولا ماء معه غيره أنه مأمور بشربه وترك استعماله للطهارة فكذلك إذا خاف العطش في المستأنف باستعماله وروي نحو هذا القول فيمن خاف
[ 469 ]
العطش عن علي وابن عباس والحسن وعطاء وإنما شرطنا أن يجده بثمن مثل قيمته في غير الضرورة من قبل أن المقدار الفاضل عن قميته غير مستحق عليه إتلافه لأجل الطهارة إذ لا يحصل بإزائه بدل فكان إضاعة للمال لأن من اشترى ما يساوي درهما بعشرة دراهم فهو مضيع للتسعة وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال وأيضا لو كان على ثوبه نجاسة ولم يجد الماء لم يكن عليه قطع موضع النجاسة لأجل الصلاة بل عليه أن يصلي فيه لأجل ما يلحقه من الضرر بقطعه فكذلك شرى الماء بثمن غال وأما إذا وجده بثمن مثله فعليه أن يشتريه ويتوضأ ولا يجزيه التيمم من قبل أنه ليس فيه تضييع المال إذ كان يملك بإزاء ما أخرج من ماله مثله وهو الماء الذي أخذه فكان عليه شراؤه والوضوء به وقد اختلف الفقهاء فيمن وجد من الماء مالا يكفيه لطهارته فقال أصحابنا جميعا يتيمم وليس عليه استعماله وكذلك لو كان جنبا فوجد ما يكفيه لوضوئه ولا يكفيه لغسله يتيمم وقال مالك والأوزاعي لا يستعمل الجنب هذا الماء في الابتداء ويتيمم فإن أحدث بعد ذلك وعندما يكفيه لوضوئه يتيمم أيضا وقال أصحابنا في هذه المسألة الأخيرة يتوضأ بهذا الماء ما لم يجد ما يكفيه لغسله وقال الشافعي عليه غسل ما قدر على غسله ويتيمم لا يجزيه غير ذلك قال أبو بكر قال الله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى قوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا فاقتضى ذلك وجوب أحد شيئين إما الماء عند وجوده أو التراب عند عدمه لأنه أوجبه بهذه الشريطة ولا خلاف أن من فرض هذا الرجل التيمم وإن صلاته غير مجزية إلا به فعلمنا أن هذا الماء ليس هو الماء المفروض به الطهارة إذ لو كان الماء المفروض به الطهارة موجودا لم تكن صحة صلاته موقوفة على فعل التيمم منه فإن قيل قال الله تعالى فلم تجدوا ماء فأباح التيمم عند عدم ماء منكور وذلك يتناول كل جزء منه سواء كان كافيا لطهارته أو غير كاف فلا يجوز التيمم مع وجوده قيل له الدليل على فساد هذا التأويل اتفاق الجميع على أن من فرضه التيمم وإن استعمل الماء، فلو كان هذا القدر من الماء مأمورا باستعماله بالاية لما لزمه التيمم معه لأن الله تعالى إنما أوجب عليه التيمم عند عدم الماء الذي تصح به صلاته فإن قيل فنحن لا نجيز تيممه إلا بعد عدم هذا الماء باستعماله إياه فحينئذ يتيمم قيل له لو كان هذا على ما ذكر لاستغنى عن التيمم باستعمال الماء الذي معه فلما اتفقوا على أن عليه التيمم بعد استعماله ثبت أن هذا الماء ليس هو المفروض به الطهارة ولا ما أبيح التيمم بعدمه وأيضا لما كان وجود هذا الماء بمنزلة عدمه في باب استباحة الصلاة به صار بمنزلة ما ليس بموجود فجاز له التيمم وأيضا لما لم يجز الجمع بين
[ 470 ]
غسل إحدى الرجلين والمسح على الخف في الرجل الأخرى لكون المسح بدلا من الغسل فلم يجز الجمع بينهما وجب أن لا يلزمه الجمع بين غسل الأعضار سعيد والتيمم لهذه العلة وأيضا فإن التيمم لا يرفع الحدث كالمسح لا يرفع الحدث عن الرجل فلم يجز الجمع بين ما يرفع الحدث وبين مالا يرفعه في المسح كذلك لا يجوز الجمع بين التيمم والغسل في بعض الأعضاء على أن يكونا من فرضه وأيضا فإن التيمم بدل من غسل جميع الأعضاء وغير جائز بكر وقوعه عن بعض الأعضاء دون بعض ألا ترى أنه ينوب عن الغسل تارة وعن الوضوء أخرى على أنه قام مقام جميع الأعضاء التي أوجب الحدث غسلها فلو أوجبنا عليه غسل ما يمكنه غسله مع التيمم لم يخل التيمم من أن يقوم مقام غسل بعض أعضائه أو جميعه فإن قام مقام ما لم يغسل منه فقد صار التيمم إنما يقع طهارة عن بعض الأعضاء وذلك مستحيل لأنه لا يتبعض فلما بطل ذلك لم يبق إلا أن يقوم مقام جميعها فيصير حينئذ متوضئا متيمما في الأعضاء المغسولة وذلك محال لأن الحدث زائل عن العضو المغسول فلا ينوب عنه التيمم فثبت أنه لا يجوز اجتماعهما في الوجوب وعلى أن الشافعي يوجب عليه غسل الوجه والذراعين بذلك الماء ويتيمم مع ذلك لهذين العضوين فيكون تيممه في هذين العضوين قائما مقامهما ومقام العضوين الآخرين فيكون قد ألزمه طهارتين في هذين العضوين فكيف يجوز أن يكون طهارة في العضوين المغسولين وهو إذا حصل طهارة لم يرفع الحدث ويكون حكم الحدث باقيا مع وجوده فكيف يجوز وقوعه مع عدم رفع الحدث عما وقع فيه فإن قيل يلزمك مثله إذا قلت فيما غسل بعض أعضائه لأنه ملزم التيمم ويكون ذلك طهارة لجميعه قيل له لا يلزمنا ذلك لأنا لا نوجب عليه استعماله فسقط حكمه إن استعمله وأنت توجب استعماله كما نوجبه لو وجد ما يكفيه لجميع أعضائه فكان بمنزلة من توضأ وأكمل وضوءه فلا يجوز أن يقوم التيمم مقام شئ منه فإن قال فقد يجوز عندكم الجمع بين التيمم والوضوء ولا ينافي أحدهما الآخر وهو الذي يجد سؤر الحمار ولا يجد غيره قيل له إن طهارته أحد هذين لإجماعهما ولذلك أجزنا له أن يبدأ بأيهما شاء لأنه مشكوك فيه عندنا فلم يسقط عنه فرض الطهارة بالشك فإذا جمع بينهما فالمفروض أحدهما كما قالوا جميعا فيمن نسي إحدى الصلوات الخمس ولا يدري أيها هي يصلي خمس صلوات حتى يصلي على اليقين وإنما الذي عليه واحدة لا جميعها كذلك ههنا وأنت تزعم أن المفروض هما جميعا في مسئلتنا وأيضا لما كان التيمم بدلا من الماء كالصوم بدلا من الرقبة لم يجز اجتماع بعض الرقبة
[ 471 ]
والصوم وجب مثله في التيمم والماء فإن قيل الصغيرة قد تجب عدتها بالشهور فإن حاضت قيل انقضائها وجب الحيض وكذلك ذات الحيص لو اعتدت بحيضة ثم يئست وجبت الشهور مع الحيضة المتقدمة قيل له إذا طرأ عليها ما ذكرت قبل انقضاء العدة خرج ما تقدم من أن يكون عدة معتدا به وأنت لا تخرج ما غسل من أن يكون طهارة وكذلك التيمم ودليل آخر في المسألة وهو قوله صلى الله عليه وسلم التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء والدلالة من هذا قوله ما لم يجد الماء فأدخل عليها الألف واللام وذلك لأحد وجهين إما أن تكون لاستغراق الجنس أو المعهود فإن كان أراد به استغراق الجنس صار في التقدير كأنه قال التراب طهور ما لم يجد مياه الدنيا وإن كان أراد به المعهود فهو قولنا أيضا لأنه ليس ههنا ماء معهود يجوز أن ينصرف الكلام إليه غير الماء الذي يقع به كمال الطهارة وذلك لم يوجد في مسئلتنا فجاز تيممه بظاهر الخبر مطلب: في حكم من صلى ونسي الماء في رحله واختلفوا في العلم بكون الماء في رحله هل هو شرط في الوجود أم لا فقال أبو حنيفة ومحمد إذا نسي الماء في رحله وهو مسافر فتيمم وصلى أجزأه ولا يعيد في الوقت ولا بعده وقال مالك ولا يعيد في الوقت ولا يعيد بعده وقال أبو يوسف والشافعي يعيد في الأحوال كلها والأصل فيه قوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا والناسي غير واجد لما هو ناس له إذ لا سبيل له إلى الوصول إلى استعماله فهو بمنزلة من لا ماء في رحله ولا بحضرته وقال الله ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا فاقتضى ذلك سقوط حكم المنسي وأيضا قال الله تعالى (فاغسلوا وجوهكم ومعلوم أن هذا الخطاب لم يتوجه إلى الناسي لأن تكليف الناسي لا يصح وإذا لم يكن مأمورا مكلفا بالغسل فهو مأمور بالتيمم لا محالة لأنه لا يجوز سقوطهما جميعا عنه مع الإمكان فثبت جواز تيممه وأيضا لا يختلفون أنه لو كان في مفازة وطلب في الماء فلم يجده فتيمم وصلى ثم علم أنه كان هناك بئر مغطى الرأس لم تجب عليه الإعادة ووجود الماء لا يختلف حكمه بأن يكون مالكه أو في نهر أو في بئر فلما كان جهله بماء البئر مخرجه من حكم الوجود كذلك جهله بالماء الذي في رحله فإن قيل لو نسي الطهارة أو الصلاة لم يسقطها النسيان فكذلك نسيان الماء قيل له ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم رفع عن أمتي الخطأ والنسيان يقتضي سقوطه وكذلك نقول والذي ألزمناه عند الذكر هو فرض آخر غير الأول وأما الأول فقد سقط وإنما ألزمنا الناسي فعل الصلاة وألزمناه الطهارة المنسية بدلالة أخرى وإلا فالنسيان يسقط عنه
[ 472 ]
القضاء لولا الدلالة وأيضا فلا تأثير للنسيان بانفراده في سقوط الفرض إلا بانضمام معنى آخر إليه فيصيران عذرا في سقوطه نحو السفر الذي هو حال عدم الماء فإذا انضم إليه النسيان صار جميعا عذرا في سقوطه وأما نسيان الطهارة والقراءة والصلاة ونحو ذلك فلم ينضم إلى النسيان في ذلك معنى آخر حتى يصير عذرا في سقوط هذه الفرائض ومن جهة أخرى إنا جعلنا النسيان عذرا في الانتقال إلى بدل لا في سقوط أصل الفرض وفي المسائل التي ذكرتها فيها إسقاط الفروض لا نقلها إلى أبدال فلذلك اختلفا فإن قيل الناسي للماء في رحله هو واجد له قيل له ليس الوجود هو كون الماء في رحله دون إمكان الوصول إلى استعماله من غير ضرر يلحقه ألا ترى أن من معه ماء وهو يخاف على نفسه العطش يجوز له التيمم وهو واجد للماء فالناسي أبعد من الوجود لتعذر وصوله إلى استعماله ألا ترى أن من ليس في رحله ماء وهو قائم على شفير نهر إنه واجد للماء وإن لم يكن له مالكا لإمكان الوصول إلى استعماله فعلمنا أن الوجود هو إمكان التوصل إلى استعماله من غير ضرر ألا ترى أن الماء لو كان في رحله ومنعه منه مانع جاز له التيمم فعلمنا أن الوجود شرطه ما ذكرنا دون الملك فإن قيل ما تقول لو كان على ثوبه نجاسة فنسي الماء في رحله ولم يغسله وصلى فيه هل يجزيه قيل له لا نعرفها محفوظة عن أصحابنا وقياس قول أبي حنيفة أنه يجزي وكذلك كان يقول أبو الحسن الكرخي فيمن نسي في رحله ثوبا وصلى عريانا أنه يجزيه مطلب: في أن الوجود لا يقتضي سبق طلب واختلفوا في تارك الطلب إذا لم يكن بحضرته ماء هل هو غير واجد فقال أصحابنا إذا لم يطمع في الماء ولم يخبره مخبر فليس عليه الطلب ويجزيه التيمم وقال الشافعي عليه الطلب وإن تيمم قبل الطلب لم يجزه وقال أصحابنا إن طمع فيه أو أخبره مخبر بموضعه فإن كان بينه وبينه ميل أو أكثر فليس عليه إتيانه لما يلحقه من المشقة والضرر بتخلفه عن أصحابه وانقطاعه عن أهل رفقته وإن كان أقل من ميل أتاه وهذا إذا لم يخف على نفسه وما معه من لصوص أو سبع ونحوه ولم ينقطع عن أصحابه وإنما قالوا فيمن كانت حاله ما قدمنا أنه يجزيه التيمم وليس عليه الطلب من قبل أنه غير واجد للماء وقال الله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا وهذا غير واجد فإن قالوا لا يكون غير واجد إلا بعد الطلب قيل له هذا خطأ لأن الوجود لا يقتضي طلبا قال الله تعالى فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم [ الاعراف: 44 ] فأطلق اسم الوجود على ما لم يطلبوه وقال النبي صلى الله عليه وسلم من وجد لقطة فليشهد ذوي
[ 473 ]
عدل ويكون واجدا لها وإن لم يطلبها وقال في الرقبة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ومعناه ليس في ملكه ولا له قيمتها لا أنه أوجب عليه أن يطلبها فإذا كان الوجود قد يكون من غير طلب فمن ليس بحضرته ماء ولا هو عالم به فهو غير واجد إذا تناوله إطلاق اللفظ لم يجز لنا أن نزيد فيه فرض الطلب لأن فيه إلحاق الزيادة بحكم الآية وذلك غير جائز ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وقال النبي صلى الله عليه وسلم التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء وقال لأبي ذر التراب كافيك ولو إلى عشر حجج فإذا وجدت فامسسه جلدك ويدل أيضا على أن الوجود لا يقتضي الطلب أنه قد يكون واجدا لما يحصل عنده من شئ من غير طلب منه من ماء أو غيره فيقال هذا واجد للرقبة إذا كانت عنده وإن لم يطلبها فإن قال قائل ما أنكرت أنه جائز أن يقال إنه واجد لما لم يطالبه ولا يقال إنه غير واجد إلا أن يكون قد طلبه قيل له إذا كان الوجود لا يقتضي الطلب وليس ذلك شرطه فنفى الوجود مثله لأنه ضده فما جاز إطلاقه عليه جاز على عدمه ألا ترى أنه يصح أن يقال هو غير واجد لألف دينار وإن لم يتقدم منه طلب ولو ضاع منه مال جاز أن يقال إنه لم يجده وإن لم يكن منه طلب كما يقال هو واجده وإن لم يطلبه فالوجود ونفيه سواء في أن كل واحد منهما لا يتعلق إطلاق الاسم فيه بالطلب وقد قال الله تعالى وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين [ الاعراف: 102 ] فأطلق الوجود في النفي كما أطلقه في الإثبات مع عدم الطلب فيهما فإن قيل لو كان مع رفيق له ماء فلم يطلبه لم يصح تيممه حتى يطلبه فيمنعه وهذا يدل على وجوب الطلب ويؤكده ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبدالله بن مسعود ليلة الجن هل معك ماء فطلبه قيل له أما طلبه من رفيقه فقد روي عن أبي حنيفة أن صلاته جائزة وإن لم يطلبه وأما على قول أبي يوسف ومحمد فإنه لا يجزيه حتى يطلبه فيمنعه وهذا عندنا إذا كان طامعا منه في بذله له وأنه إن لم يطمع في ذلك فليس عليه الطلب ونظيره إن يطمع في ماء موجود بالقرب أو يخبره به مخبر فلا يجوز تيممه لأن غالب الظن في مثله يقوم مقام اليقين كما لو غلب في ظنه أنه إن صار إلى النهر وهو بالقرب منه افترسه سبع أو اعترض له قاطع طريق جاز له أن يتيمم وإن غلب على ظنه السلامة لم يجز له التيمم فليس هذا من قول من يوجب الطلب في شئ وأما حديث عبد الله بن مسعود وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم إياه الماء وأن النبي صلى الله عليه وسلم وجه عليا في طلب الماء فإن فعله صلى الله عليه وسلم ليس على الوجوب وهو عندنا مستحب كما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأيضا لا يخلو
[ 474 ]
الذي في المفازة وليس بحضرته ماء ولم يطمع فيه من أن يكون واجدا أو غير واجد فإن كان واجدا فالطلب ساقط لانه غير جائز تكليفه طلب ما هو واجده، وإن كان غير واجد جاز تيممه بقوله ولم تجدوا ماء فتيمموا وبقول النبي صلى الله عليه وسلم التراب طهور المسلم ما لم يجد ماء فإن قيل إذا كان شرط جواز التيمم عدم الماء فواجب أن لا يجزي حتى يتيقن وجود شرطه كما أنه لما كان شرط جواز الصلاة حضور الوقت لم يجزه فعلها إلا بعد حصول اليقين بدخول الوقت قيل له الفصل بنيهما أن الأصل هو عدم الماء في مثل ذلك الموضع وذلك يقين عنده وإنما لا يعلم هل هو موجود في غيره وهل يكون موجودا إن طلب أم لا فليس عليه أن يزول عن اليقين الأول بما لا يعلمه ويشك فيه ووقت الصلاة أيضا كان غير موجود فغير جائز له فعلها بالشك حتى يتيقن وجوده فيهما سواء في هذا الوجه في باب البناء على اليقين الذي كان الأصل فإن قيل قال الله تعالى فاغسلوا وجوهكم إلى قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا فالغسل أبدا واجب وعليه التوصل إليه كيف أمكن فإذا كان قد يمكنه التوصل إليه بالطلب فذلك فرضه قيل له الذي قال فاغسلوا هو الذي قال فلم تجدوا ماء فتيمموا فوجوب الغسل مضمن بوجود الماء وجواز التيمم مضمن بعدمه وهو عادم له في الحال لا محالة وإنما يزعم المخالف أنه جائز أن يكون واجدا عند الطلب فغير جائز ترك ما حصل من شرط إباحة التيمم لما عسى يجوز أن يكون ويجوز أن لا يكون والذي قاله المخالف كان يلزم لو طمع في الماء وغلب على ظنه وجوده وأخبره به مخبر فأما مع فقد ذلك فقد حصل شرط الآية على الوجه الذي يبيح التيمم فغير جائز لأحد إسقاطه وإيجاب اعتبار معنى غيره وإنما قدر أصحابنا أقل من ميل من قبل لزوم استعماله إذا علم بموضعه وغلب في ظنه ولم يوجبوه ذلك في ميل فصاعدا اجتهادا ولأن الميل هو الحد الذي تقدر به المسافات ولا تقدر بأقل منه في العادة فاعتبروه في ذلك دون ما هو أقل منه كما قلنا في اعتبار أبي يوسف الكثير الفحش أنه شبر في شبر لأنه أقل المقادير التي تقدر بها المساحات ولا تقدر في العادة بأقل منه وروى نافع عن ابن عمر أنه كان يكون في السفر من الماء على غلوتين أو ثلاث فيتيمم ويصلي ولا يميل إليه وعن سعيد بن المسيب في الراعي يكون بينه وبين الماء ميلان أو ثلاثة وتحضره الصلاة أنه يتيمم ويصلي وقال الحسن وابن سيرين لا يتيمم من رجا أن يقدر على الماء في الوقت
[ 475 ]
مطلب: فيمن وجد الماء في آخر الوقت يجب عليه الوضو وإن خاف فوات الوقت خلافا لمالك واختلف فيمن وجد الماء وخاف ذهاب الوقت إن لم يتيمم فقال أصحابنا والثوري والأوزاعي والشافعي من وجد الماء من مسافر أو مقيم وهو في مصر وهو في آخر الوقت فخاف إن توضأ أن يفوته الوقت لم يجزه إلا الوضوء وقال مالك يجزيه التيمم إذا خاف فوات الوقت وقال الليث بن سعد إذا خاف فوات الوقت إن توضأ يصلي بتيمم ثم أعاد بالوضوء بعد الوقت والأصل فيه قوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا فأوجب استعمال الماء في حال وجوده ونقله عنه إلى التراب عند عدمه فغير جائز نقله إليه مع وجوده لأنه خلاف الآية وحين أمره الله تعالى بغسل هذه الأعضاء لم يقيده بشرط بقاء الوقت وإدراك فعل الصلاة فيه فهو مطلق في الوقت وبعده وقال الله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا فمنعه من فعل الصلاة إذا كان جنبا إلا بعد تقديم الغسل ولم يذكر فيه بقاء الوقت ولا غيره ويدل عليه من جهة السنة قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر التراب كافيك ولو إلى عشر حجج فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك فمتى كان واجدا فعليه استعمال الماء سواء خاف فوت الوقت أو لم يخف لعموم قوله فاغسلوا ولقوله صلى الله عليه وسلم التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء فمتى كان وجدا للماء فليس التراب طهورا له فلا تجزيه صلاته ومن جهة النظر أن فرض الطهارة آكد من فرض الوقت بدلالة أنه لا تجز صلاة بغير طهارة وهي جائزة مع فوات الوقت فإن قيل إذا خاف فوت الوقت صلى بتيمم ليدرك فضيلة الوقت قيل له كيف يكون مدركا لفضيلة الوقت وهو غير مصل لأنه صلى بغير طهارة فإن قيل التيمم طهور قيل له إنما هو طهور مع عدم الماء كما قال الله تعالى وكما شرطه النبي صلى الله عليه وسلم وأما مع وجوده فليس بطهور فالواجب عليك أن تدل أو لا على أنه طهور مع وجود الماء وإمكان استعماله من غير ضرر حتى تبني عليه بعد ذلك مذهبك في أنه مدرك لفضيلة الوقت فإن قال قائل المسافر إنما أبيح له التيمم ليدرك الوقت لا لأجل عدم الماء قيل له لو كان كذلك لما جاز له التيمم في أول الوقت في حال عدم الماء لأنه غير خائف فوت الوقت وفي اتفاق الجميع على جواز تيممه في أول الوقت دلالة على أن شرط جواز التيمم ليس هو لأجل فوت الوقت فإن قال لو كان شرط التيمم عدم الماء لما جاز للمريض ولمن يخاف العطش أن
[ 476 ]
يتيمم مع وجود الماء قيل له إنما قلنا بجوازه لأن الوجود هو إمكان استعماله بلا ضرر ولا مشقة لأن الله قد ذكر المريض والمسافر فعدم الماء على الإطلاق شرط وخوف الضرر باستعماله أيضا شطر وأنت لم تلجأ في اعتبارك الوقت لا إلى آية ولا إلى أثر بل الكتاب والأثر يقضيان بطلان قولك فإن قيل لما جازت الصلاة في حال الخوف مع الاختلاف والمشي إلى غير القبلة وراكبا لأجل إدراك الوقت دل على وجوب اعتبار الوقت في جوازها بالتيمم إذا خاف فوته قيل له إنما أبيحت صلاة الخائف على هذه الوجوه لأجل الخوف لا للوقت ولا لغيره والخوف موجود والدليل على ذلك جواز صلاة الخوف في أول الوقت مع غلبة الظن بانصراف العدو قبل خروج الوقت فدل على أنها إنما أبيحت للخوف لا ليدرك الوقت والتيمم إنما أبيح له لعدم الماء فنظير صلاة الخوف من التيمم أن يكون الماء معدوما فيجوز له التيمم فأما حال وجود الماء فهو يمنزلة زوال الخوف فلا يجوز له فعل الصلاة إلا على هيئتها في حال الأمن وإنما جعل صلاة الخوف بمنزلة الإفطار للمسافر وبمنزلة المسح على الخفين في أنها رخصة مخصوصة بحال لا لخوف فوات الوقت وأيضا فإنه إن فات وقته باشتغاله بالوضوء فإنه يصير إلى وقت آخر لها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال من نام عن صلاة أو نسيها فليصليها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها فأخبر أن وقت الذكر مع فواتها وقت لها كما كان الوقت الذي كان قبله وقتا لها فإذا كان وقت الصلاة باقيا مع فواتها عن الوقت الأول لم يجز لنا ترك الطهارة بالماء لخوف فواتها من وقت إلى وقت وقد وافقنا مالك على وجوب الترتيب بين الفائتة وبين صلاة الوقت وأن الفائتة أخص بالوقت من التي هي في وقتها حتى أنه لو بدأ بصلاة الوقت قبلها لم يجزه فلو كان خوف فوت الوقت مبيحا له التيمم لوجب أن يباح له التيمم بعد الفوات أيضا لأن كل وقت يأتي بعد الفوات هو وقت لها لا يسعه تأخيرها عنه فيلزم مالكا أن يجيز لمن فاتته صلاة أن يصليها بتيمم في أي وقت كان لأن اشتغاله بالوضوء يوجب تأخيرها عن الوقت المأمور بفعلها فيه والمنهي عن تأخيرها عنه ولما اتفق الجميع على أنه غير جائز له فعلها بالتيمم مع خوف فوات وقتها الذي هو مأمور بفعلها فيه إذا اشتغل باستعمال الماء صح أن الوقت لا تأثير له في ترك الطهارة بالماء إلى التيمم وأما قول الليث بن سعد أنه يتيمم ويصلي في الوقت ثم يتوضأ ويعيد بعد الوقت فلا معنى له لأنه معلوم أنه لا يعتد بتلك الصلاة فلا معنى لأمره بها وتأخير الفرض الذي عليه تقديمه مطلب: في حكم المحبوس الفاقد للطهورين واختلف فيمن حبس في موضع قذر لا يقدر على ماء ولا تراب نظيف فقال أبو
[ 477 ]
حنيفة ومحمد زفر لا يصلي حتى يقدر على الماء إذا كان في المصر وهو قول الثوري والأوزاعي وقال أبو يوسف والشافعي يصلي ويعيد والحجة لأبي حنيفة ومن قال بقوله قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا إلى قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة بغير طهور ومن صلى بغير وضوء ولا تيمم فقد صلى بغير طهور فلا يكون ذلك صلاة فلا معنى لأمرنا إياه بأن نفعل ما ليس بصلاة لأجل أن عليه فرض الصلاة وقد قال أبو يوسف إنه يصلي بالإيماء ثم يعيد فلم يعتد به وأمره بالإعادة فلو كانت هذه صلاة لما كان مأمورا بالإعادة ألا ترى أنه من لم يقدر على الركوع والسجود صلى بالإيماء ولا يؤمر بالإعادة فإن قيل قد يأمره إذا كان محبوسا في بيت نظيف أن يتيمم ويعيد ووجوب الإعادة لم يسقط عنه فعلها بالتيمم قيل له قد روى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يتيمم ولا يصلي حتى يخرج فهذا مستمر على هذا الأصل وذكر في الأصل أنه يتيمم ويصلي ويعيد ولم يذكر خلافا وجائز أن يكون هذا قول أبي يوسف وحده فإن كان قولهم جميعا فوجه هذه الرواية على قول أبي حنيفة إن الصلاة بالتيمم قد تكون صلاة صحيحة بحال وهو حال عدم الماء أو خوف الضرورة فلما كان عادما للماء في هذه الحال جاز له التيمم وكان القياس أن يكون كالمسافر إذا كان الماء منه قريبا وخاف السبع أو اللصوص فيجوز له التيمم ولا يعيد فهذا هو القياس إلا أنه ترك القياس وأمره بالإعادة وفرق بين حال السفر والحضر لأن الماء موجود في الحضر وإنما وقع المنع بفعل آدمي وفعل الآدمي في مثله لا يسقط الفرض ألا ترى أنه لو منعه رجل مكرها من فعل الصلاة أصلا أو من فعلها بركوع وسجود وصلى بالإيماء أنه يعيد ولو كان المنع من فعل الله تعالى بإغماء ونحوه سقط عنه الفرض ولو كان مريضا سقط عنه فعل الركوع إلى الإيماء فاختلف حكم المنع إذا كان بفعل الله أو بفعل الآدمي فكذلك حال الحضر لما كانت حال وجود الماء لم يسقط فرض استعماله بمنع الآدمي منه فأمره بالتيمم وإعادتها بالماء وعلى الرواية الأولى لم يأمره بفعلها لأنه لا يعتد بها فلا معنى للأمر بها فإن قيل فأنت تأمر المحرم الذي لا شعر على رأسه وأراد الإحلال أن يمر الموسى على رأسه متشبها بالحالقين وإن لم يحلق فهلا أمرت المحبوس الذي لا يقدر على الماء والتراب أن يصلي متشبها بالمصلين وإن لم يكن مصليا وكما تأمر الأخرس بتحريك لسانه بالتلبية استحبابا وإن لم يكن ملبيا قيل له الفصل بينهما أن أفعال المناسك قد ينوب عنه الغير فيها في حال فيصير حكم فعله كفعله فجاز أن ينوب عن الحلق إمرار الموسى على رأسه كما يفعله الغير عنه فيجزي وكذلك تلبية الغير قد تنوب
[ 478 ]
عند أبي حنيفة في حال الإغماء فلذلك استحب له تحريك لسانه بها وإن لم يكن ملبيا إذا كان أخرس وأما الصلاة فلا ينوب عنه فيها غيره ولا يجوز أن يفعل ما ليس بصلاة متشابها بالمصلين فيصير هذا الفعل وتركه سواء لا معنى له فلذلك لم يستحبه فإن احتجوا بما روي في قصة قلادة عائشة حين صلت وأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم لطلب القلادة صلوا بغير تيمم ولا وضوء وأخبروه بذلك ثم نزلت آية التيمم ولم ينكر عليهم فعلها بغير وضوء ولا تيمم قيل له إن آية التيمم لم تكن نزلت وقت ما صلوا ولم يكن التيمم واجبا وأيضا فإنهم لم يؤمروا بالإعادة فينبغي أن يدل على أن لا إعادة على من صلى بغير وضوء ولا تيمم إذا لم يجدهما فلما قال مخالفونا إنه يعيد علمنا أن حكم من ذكر مخالف لأولئك وأيضا فإن أولئك كانوا واجدين للتراب غير واجدين للماء وأنت لا تقول ذلك فيمن كان في مثل حالهم واختلف في جواز التيمم قبل دخول الوقت فقال أصحابنا جائز قبل دخول وقت الصلاة لمن لا يجد الماء ويصلي به الفرض إذا دخل الوقت وقال مالك بن أنس والشافعي لا يجوز إلا بعد دخوله ودليلنا قوله أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فأمر بالتيمم بعد الحدث إذا عدم الماء ولم يفرق فيه بين حاله قبل دخول الوقت أو بعده وأيضا قال إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وقد دللنا في أول الكتاب أن معناه إذا أردتم القيام وأنتم محدثون ثم عطف عليه التيمم وأباحه في الحال التي أمر فيها بالوضوء لو كان واجدا للماء وأيضا لما قال تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس وأمر بتقديم الطهارة لها في غير هذه الآية وكانت الطهارة شيئين الماء عند وجوده والتراب عند عدمه اقتضى ذلك جواز تقديم التيمم على الوقت ليصلي في أوله على شرط الآية ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء وقوله لأبي ذر التراب كافيك ولو إلى عشر حجج ولم يفرق بينه قبل الوقت أو بعده وإنما علق جوازه بعدم الماء لا بالوقت فإن قيل على استدلالنا بقوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط أن ذلك معطوف على قوله إذا قمتم إلى الصلاة وهو مضمر فيه فكان تقديره إذا قمتم إلى الصلاة وجاء أحد منكم من الغائط وذلك يكون بعد دخول الوقت قيل له هذا غلط من قبل أن قوله إذا قمتم معناه إذا أردتم القيام وأنتم محدثون فهذه جملة مكتفية بنفسها في إيجاب الوضوء للحدث ثم استأنف حكم عادم الماء فقال وإن كنتم مرضى أو على سفر إلى قوله فتيمموا وهذه أيضا جملة مفيدة مستقلة بنفسها غير
[ 479 ]
مفتقرة إلى تضمينها بغيرها وما كان هذا وصفه من الكلام ففي تضمينه بغيره تخصيص له وذلك غير جائز إلا بدلالة فوجب أن يكون شرط المجئ من الغائط في إباحة التيمم مقرا على بابه وأن لا يضمن بغيره وأيضا فإن حكم كل جواب علق بشرط أن يرجع إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدم إلا بدلالة والذي يلي ذلك هو شرط المجئ من الغائط وأيضا كما جاز الوضوء قبل الوقت وجب أن يجوز التيمم كذلك لأنه طهارة لم يوجد بعدها حدث فإن قيل المستحاضة لا تصلي بوضوء فعلته قبل الوقت قيل له يجوز ذلك عندنا لأنها لو توضأت قبل الزوال كان لها أن تصلي به إلى خروج وقت الظهر وأما إذا توضأت في وقت الظهر فإنها لا تصلي به في وقت العصر للسيلان الموجود بعد الطهارة والوقت كان رخصة لها في فعل الصلاة مع الحدث فلما ارتفعت الرخصة بخروجه وجب الوضوء للحدث المتقدم واختلف في فعل صلاتي فرض بتيمم واحد فقال يصلي بتيممه ما شاء من الصلوات ما لم يحدث أو يجد الماء وهو مذهب الثوري والحسن بن صالح والليث بن سعد وهو مذهب إبراهيم وحماد والحسن وقال مالك لا يصلي صلاتي فرض بتيمم واحد ولا يصلي الفرض بتيمم النافلة ويصلي النافلة بعد الفرض بتيمم الفرض وقال شريك بن عبد الله يتيمم لكل صلاة فرض ويصلي الفرض والنفل وصلاة الجنازة بتيمم واحد والدليل على صحة قولنا قوله صلى الله عليه وسلم التراب كافيك ولو إلى عشر حجج فإذا وجدت الماء فامسسه جلدك وقال التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء فجعل التراب طهورا ما لم يجد الماء ولم يوقته بفعل الصلاة وقوله ولو إلى عشر حجج على وجه التأكيد وليس المراد حقيقة الوقت وهو كقوله تعالى إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ليس المراد به توقيت العدد المذكور وإنما المراد تأكيد نفي الغفران فإن قيل لم يذكر الحدث وهو ينقض التيمم كذلك فعل الصلاة قيل له لأن بطلانه بالحدث كان معلوما عند المخاطبين فلم يحتج إلى ذكره وإنما ذكر ما لم يكن معلوما عندهم وأكده ببقائه إلى وجود الماء وأيضا فإن المعنى المبيح للصلاة بالتيمم بديا كان عدم الماء وهو قائم بعد فعل الصلاة فينبغي أن يبقى تيممه ولا فرق فيه بين الابتداء والبقاء إذ كان المعنى فيهما واحدا وهو عدم الماء وأيضا لما كان المسح على الخفين بدلا من الغسل كما أن التيمم بدل منه ثم جاز عند الجميع فعل صلاتين بمسح واحد جاز فعلهما أيضا بتيمم واحد وأيضا فلا يخلو المتيمم بعد فعل صلاته من أن
[ 480 ]
تكون طهارته باقية أو زائلة فإن كانت زائلة فالواجب أن لا يصلي بها نفلا لأن النفل والفرض لا يختلفان في باب الطهارة وإن كانت باقية فجائز أن يصلي بها فرضا آخر فإن قيل قد خفف أمر النفل عن الفرض جاز على الراحلة وإلى غير القبلة من غير ضرورة ولا يجوز فعل الفرض على هذا الوجه إلا لضرورة قيل له أنهما وإن اختلفا من هذا الوجه فلم يختلفا في أن شرط كل واحد منهما الطهارة فمن حيث جاز النفل بالتيمم الذي أدى به الفرض فواجب أن يجوز فعل فرض آخر به وإنما خفف أمر النفل في جواز فعله على الراحلة وإلى غير القبلة لأن فعل الفرض جائز على هذه الصفة في حال الضرورة وأما الطهارة فلا يختلف فيها حكم النفل والفرض في الأصول واستدل من خالف في ذلك بقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا وذلك يقتضي وجوب تجديد الطهارة على كل قائم إليها فوجب بحق العموم إيجاب تجديد التيمم لكل صلاة قيل له هذا غلط لأن قوله تعالى إذا قمتم لا يقتضي التكرار في اللغة وقد بيناه فيما سلف ألا ترى أنه لم يقتضه في استعمال الماء فكذلك في التيمم وعلى أنه أوجب التيمم في الحال التي لو كان الماء موجودا لكان مأمورا باستعماله فجعل التيمم بدلا منه فإنما يجب التيمم على الوجه الذي يجب فيه الأصل فأما حال أخرى غير هذه فليس في الآية ذكر إيجابه فيها فإذا كان الماء لو كان موجودا لم يلزمه تجديد الطهارة به للصلاة الثانية بعد ما صلى بها الصلاة الأولى كان كذلك حكم التيمم فإن قيل التيمم لا يرفع الحدث فليس هو بمنزلة الماء الذي يرفعه فلما كان الحدث باقيا مع التيمم وجب عليه تجديده قيل له ليس بقاء الحدث علة لإيجاب تكرار التيمم لأنه لو كان كذلك لوجب عليه تكراره أبدا قبل الدخول في الصلاة لهذه العلة فلما جاز أن يفعل الصلاة الأولى بالتيمم مع بقاء الحدث كانت الثانية مثلها إذا كان التيمم مفعولا لأجل ذلك الحدث بعينه الذي يريد إيجاب التيمم من أجله وقد وقع له مرة فلا يجب ثانية وأيضا فإن هذه العلة منتقضة بالمسح على الخفين لبقاء الحدث في الرجل مع المسح ويجوز فعل صلوات كثيرة به وينتقض أيضا بتجويز مخالفينا صلاة نافلة بعد الفرض لوجود الحدث فإن قيل هلا جعلته كالمستحاضة عند خروج وقتها قيل له قد ثبت عندنا أن رخصة المستحاضة مقدرة بوقت الصلاة ولا نعلم أحدا يجعل رخصة التيمم مقدرة بالوقت فهو قياس فاسد منتقض وعلى أن المستحاضة مخالفة للمتيمم من قبل أنه قد وجد منها حدث بعد وضوءها والوقت رخصة في فعل الصلاة مع الحدث فإذا خرج
[ 481 ]
الوقت توضأت لحدث وجد بعد طهارتها ولم يوجد في المتيمم حدث بعد تيممه فطهارته باقية واختلف في المتيمم إذا وجد الماء في الصلاة فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر إذا وجد الماء في الصلاة بطلت صلاته وتوضأ واستقبل وقال مالك والشافعي يمضي فيها وتجزيه وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه إذا وجد الماء قبل دخوله في الصلاة لم يلزمه الوضوء وصلى بتيممه وهو قول شاذ مخالف للسنة والإجماع والدليل على صحة قولنا قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم إلى قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا فأوجب غسل هذه الأعضاء عند وجود الماء ثم نقله إلى التراب عند عدمه فمتى وجد الماء فهو مخاطب باستعماله بظاهر الآية وعلى أن حقيقة اللفظ تقتضي وجوب الغسل بعد القيام إلى الصلاة فغير جائز أن يكون دخوله فيها مانعا من لزوم استعماله وأيضا لا يختلفون أن حكم الآية في فرض الغسل عند وجود الماء قائم عليه بعد دخوله في الصلاة لأنه لو أفسد صلاته قبل إتمامها لزمه استعمال الماء بالآية فثبت بذلك أن دخوله في الصلاة لم يسقط عنه فرض الغسل والخطاب بحكم الآية فوجب عليه بحكم الآية استعماله لبقاء فرض استعماله عليه وأيضا لا يخلو قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة من أن يكون المراد به حال وجود الصلاة بعد فعل جزء منها وإرادة القيام إليها في حال الحدث، فإن كان المراد وجود جزء من الصلاة بعد فعل جزء منها أو إرادة القيام إليها محدثا وجعل ذلك شرطا للزوم استعماله فقد وجد فعليه استعماله ولا يسقط عنه ذلك بالتيمم والدخول فيها مع وجود سبب تكليفه إذ كان المسقط لفرضه هو عدم الماء فمتى وجد فقد عاد شرط لزومه فلزمته الطهارة به ويدل عليه أيضا قوله تعالى لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا فإذا كان جنبا ودخل في الصلاة بالتيمم ثم وجد الماء لزمه بقوله لا تقربوا الصلاة إلى قوله حتى تغتسلوا [ النساء: 43 ]. فإن قيل في نسق الخطاب وإن كنتم مرضى أو على سفر إلى قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا قيل له هما مستعملان جميعا كل واحد على شريطته فالتيمم عند عدم الماء والغسل عند وجوده وغير جائز إسقاط الغسل عند وجوده إذ كان الظاهر يوجبه ولم تفرق الآية بين حاله بعد الدخول في الصلاة أو قبله ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء فجعله طهورا بشريطة عدم الماء فإذا
[ 482 ]
وجد الماء خرج من أن يكون طهارة ولم يفرق بين أن يكون في الصلاة أو في غيرها فإذا بطلت طهارته برؤيته الماء لم يجز أن يمضي فيها وأيضا فقال صلى الله عليه وسلم الماء طهور المسلم وقال صلى الله عليه وسلم إذا وجدت الماء فأمسسه جلدك وفي بعض الألفاظ وأمسسه بشرتك ودلالته على وصفنا من وجهين أحدهما ما ذكرنا من قوله التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء فأخبر بالحال التي يكون التراب فيها طهورا وهو أن لا يجد الماء ولم يفرق بين حاله قبل الدخول في الصلاة وبعده فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم خص كونه طهورا بهذه الحال دون غيرها فمتى صلى به والماء موجود فهو مصل بغير طهور والثاني قوله صلى الله عليه وسلم فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك ولم يفرق بينه قبل الدخول وبعده فهو على الحالين يلزمه استعماله متى وجده بظاهر قوله ويدل عليه اتفاق الجميع على أن وجود الماء بعد التيمم قبل الدخول يمنع الابتداء فوجب أن يمنع البناء كما أن الحدث لما منع ابتداء الصلاة منع البناء عليها إذ كان من شرط صحتها جميعا الطهارة وأيضا فإن كونه في الصلاة لا يمنع لزوم الطهارة لأنه لو أحدث فيها لزمته الطهارة وكذلك لا يمنع لزوم سائر الفروض التي هي من شروط الصلاة مثل وجود الثوب للعريان وعتق الأمة في لزومها تغطية الرأس وخروج وقت المسح فوجب أن لا يمنع كونه في الصلاة من لزوم الطهارة بالماء عند وجوده وأيضا لما لم يجز التحريمة بالتيمم مع وجود الماء لأنه يكون فاعلا لجزء من الصلاة بالتيمم مع وجود الماء وكان هذا المعنى موجودا بعد الدخول وجب أن يمنع المضي فيها فإن قيل لو أحدث جاز البناء عندك إذا توضأ ولا تجوز التحريمة بعد الحدث قيل له لا فرق بينهما لأنه لو فعل جزأ من الصلاة بعد الحدث قبل الطهارة بطلت صلاته وإنما نجيز له البناء إذا توضأ وأنت تجيزه قبل الطهارة بالماء فإن قيل إنما اختلف حال الصلاة وقبلها في التيمم لسقوط فرض الطلب عنه بدخوله في الصلاة لأن كونه فيها ينافي فرض الطلب وأما قبل الدخول فيها ففرض الطلب قائم عليه فلذلك لزمته الطهارة إذا وجده قبل الدخول قيل له أما قولك في لزوم فرض الطلب قبل الدخول فيها ففاسد على ما قدمناه فيما سلف ومع ذلك فلو سلمناه لك لانتقض على أصلك وذلك أن بقاء فرض الطلب ينافي صحة الدخول في الصلاة عندك فلا يخلو إذا طلب ولم يجد فتيمم أن يكون فرض الطلب قائما عليه أو ساقطا عنه فإذا كان فرض الطلب قائما عليه فواجب أن لا يصح دخوله إذ كان بقاء فرض الطلب ينافي صحة الصلاة ويمنع صحة التيمم أيضا على أصلك وإن كان فرض الطلب ساقطا عنه فالواجب على قضيتك أن لا يلزمه استعمال الماء إذا وجده بعد التيمم قبل الدخول في
[ 483 ]
الصلاة كما حكي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن فلما ألزمته استعمال الماء عند وجوده بعد التيمم قبل الدخول في الصلاة مع سقوط فرض الطلب ثبت أن سقوط فرض الطلب ليس بعلة لجاز ترك استعمال الماء عند وجوده وأيضا قد اتفقوا جميعا أن الصغيرة لو اعتدت شهرا ثم حاضت انتقلت عدتها إلى الحيض لأن الشهور بدل من الحيض وإنما تكون عدة عند عدمه كما أن التيمم طهور عند عدم الماء فلما اتفقوا على استواء حالهما قبل وجوب العدة وبعده في كون الحيض عدة عند وجوده وجب أن يستوي حكم وجود الماء بعد الدخول في الصلاة وقبله وأيضا لما كان التيمم بدلا من الماء لم يجز أن يبقى حكمه مع وجود المبدل عنه كسائر الأبدال لا يثبت حكمها مع وجود الأصل فإن قيل فلو أن متمتعا وجد الهدي بعد صوم الثلاثة أيام وبعد الإحلال جاز له أن يصوم السبعة مع وجود الأصل قيل له الثلاثة بدل من الهدي لأن بها يقع الإحلال وليست للسبعة بدلا من الهدي لأن الإحلال يكون قبل السبعة فإن قيل ليست حال الصلاة حال للطهارة فلا يلزمه استعمال الماء قيل له فينبغي أن لا يلزمه غسل الرجلين بخروج وقت المسح وهو في الصلاة وأن لا يلزم المستحاضة الوضوء بانقطاع الدم في الصلاة وأن لا تلزمها الطهارة لو أحدث فيها لهذه العلة فإن احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا قيل له لم يقل ذلك ابتداء بل بكلام متصل به وهو أنه قال إذا وجد أحدكم حركة في دبره فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا وقال إن الشيطان يخيل إلى أحدكم أنه قد أحدث فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا وقال في بعض الألفاظ لا وضوء إلا من صوت أو ريح فأما ابتداء قول منه فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا فإن ذلك لم ينقل ولم يروه أحد وإذا كان كذلك فإنما هو في الشاك في الحدث فلم يصح نجعله في غيره ممن لم يشك ووجد الماء وعلى أن قوله لا وضوء إلا من صوت أو ريح يقتضي ظاهره إيجاب الوضوء بوجود الماء لأن الحدث الذي عنه وجبت الطهارة باق لم يرتفع بالتيمم مطلب: المجمل لا يصح الايجاب به فإن قيل ما تقول لو تيمم ودخل في صلاة العيد أو صلاة الجنازة ثم وجد الماء قيل له ينتقض تيممه ولا يجوز له المضي عليها وتبطل صلاته إذا أمكنه استعمال الماء والدخول في الصلاة لا فرق بينهما وبين الصلاة المكتوبة وجواب آخر عما أورده من الخبر أنه مجمل لا يصح الإيجاب به لأنه مفهوم أنه لم يرد به كل صوت أو ريح يوجد
[ 484 ]
في دار الدنيا وإنما أراد صوتا أو ريحا على صفة لا يدرى ما هو بنفس اللفظ فسبيله أن يكون موقوفا على دلالة فإن ادعوا فيه العموم كان دلالة لنا لأنه إذا سمع صوت الماء وجب عليه بظاهره إذ لم يفرق بين الأصوات فصل مطلب: في الوضوء بنبيذ ويستدل بقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم الآية على جواز الوضوء بنبيذ التمر من وجهين أحدهما قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم وذلك عموم في جميع المائعات لأنه يسمى غاسلا بها إلا ما قام الدليل فيه ونبيذ التمر مما قد شمله العموم والثاني قوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا فإنما أباح التيمم عند عدم كل جزء من الماء لأنه لفظ منكر يتناول كل جزء منه سواء كان مخالطا لغيره أو منفردا بنفسه ولا يمتنع أحد أن يقول في نبيذ التمر ماء فلما كان كذلك وجب أن لا يجوز التيمم مع وجوده بالظاهر ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ به بمكة قبل نزول آية التيمم وقبل أن نقل من الماء إلى بدل فدل ذلك على أنه بقي فيه حكم الماء الذي فيه لا على وجه البدل عن الماء إذ قد توضأ به في وقت كانت الطهارة فيه مقصورة على الماء دون غيره وقد تكلمنا في هذه المسألة في مواضع من كتبنا وروى يحيى بن كثير عن عكرمة عن ابن عباس قال الوضوء بالنبيذ الذي لا يسكر وضوء لمن لم يجد الماء وقال عكرمة النبيذ وضوء إذا لم تجد غيره وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال ركبت مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم البحر ففنى ماؤهم فتوضؤا بالنبيذ وكرهوا ماء البحر وروى المبارك بن فضالة عن أنس أنه كان لا يرى بأسا بالوضوء بالنبيذ فهؤلاء الصحابة والتابعون قد روي عنهم جواز الوضوء بالنبيذ من غير خلاف ظهر من أحد من نظرائهم عليهم وروي عن أبي حنيفة في الوضوء بنبيذ التمر ثلاث روايات إحداها وهي المشهورة أنه يتوضأ به ولا يتيمم وهو قول زفر وروي عنه أنه يتوضأ به ويتيمم وهو قول محمد وروى نوح أن أبي حنيفة رجع عن الوضوء بالنبيذ وقال يتيمم ولا يتوضأ به وقال مالك والثوري وأبو يوسف والشافعي يتيمم ولا يتوضأ به وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف أنه يتوضأ به ويتيمم وكذلك روي عنه المعلى وقال حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي صاحب الحسن بن صالح يتوضأ بنبيذ التمر مع وجود الماء إن شاء وروي الوضوء بنبيذ التمر عن النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود وأبو أمامة روى عن عبد الله من طرق عدة قد بيناها في مواضع
[ 485 ]
باب صفة التيمم قال الله تعالى فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه فاختلف الفقهاء في صفته فقال أصحابنا التيمم ضربتان ضربة الوجه وضربة لليدين إلى المرفقين فقالوا يضرب بيديه على الصعيد يحركهما فيقبل بهما ويدبر على الصعيد ثم ينفضهما ثم يمسح بهما وجهه ثم يعيد إلى الصعيد كفه جميعا فيقبل بهما ويدبر ويرفعهما فينفضهما ثم يمسح بكل كف ظهر ذراعه الأخرى وباطنها إلى المرفقين واتفق مالك والثوري والليث والشافعي أنه ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين وروي مثله عن مالك أيضا أنه يتيمم إلى المرفقين فإن تيمم إلى الكوعين لم يعد وقال الأوزاعي تجزي ضربة واحدة للوجه والكوعين وروي نحوه عن عطاء وقال الزهري يمسح يديه إلى الإبط وقال ابن ابي ليلى والحسن بن صالح يتيمم بضربتين يمسح بكل واحدة منها وجهه وذراعيه ومرفقيه وقال أبو جعفر الطحاوي لم نجد عن غيرهما أنه يمسح بكل واحدة من الضربتين وجهه وذراعيه ومرفقيه والحجة لقول أصحابنا ما روى ابن عمر وابن عباس والأسلع عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين واختلفت الرواية عن عمار فروى عنه عبد الرحمن بن أبزى عن النبي صلى الله عليه وسلم ضربة واحدة للوجه ولليدين وروى عبيدالله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم ضربتين وهذا أولى لأنه زائد وخبر الزائد أولى وأيضا فكما أنه لا يجوز في الوضوء الاكتفاء بماء واحد لعضوين وفي بل عليه تجديد الماء لكل عضو كذلك الحكم في التيمم لأنهما طهارتان وإن كانت إحداهما مسحا والأخرى غسلا ألا ترى أنه يحتاج إلى تجديد الماء لكل رجل في المسح على الخفين وإن لم يكن غسلا وإنما قلنا إن التيمم إلى المرفقين بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث الأسلع ذكرا فيه جميعا أن التيمم إلى المرفقين واختلف عن عمار فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة التيمم فروى الشعبي عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أوفوا التيمم إلى المرفقين وروى غيره عن سعيد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمار قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن التيمم فأمرني بضربة واحدة للوجه والكفين ورواه شعبة عن سلمة بن كهيل عن زر عن ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار وقال فيهما ونفخ فيهما ومسح بهما وجهه وكفيه إلى المرفقين وروى سلمة عن أبي مالك عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمار أنه تمعك في التراب في
[ 486 ]
الجنابة فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له إنما كان يكفيك أن تقول هكذا وضرب بيديه إلى الأرض ثم نفخهما ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نصف الذراع وروى الزهري عن عبيدالله بن عبد الله بن عتبة عن عمار أنهم مسحوا وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصعيد ضربة واحدة للوجه وضربة لليدين إلى المناكب والآباط فلما اختلفت أحاديث عمار هذا الاختلاف واتفقوا أن التيمم إلى المناكب غير ثابت الحكم ومع ذلك لم يعزه عمار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما حكى فعل نفسه لم يثبت التيمم إلى المناكب وإن كان له وجه في الاحتمال وهو أنه جائز أن يكون عمار ذهب في ذلك مذهب أبي هريرة في غسله ذراعيه في الوضوء إلى إبطيه على وجه المبالغة فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم إنكم الغر المحجلون من آثار الوضوء فمن أراد أن يطول غرته فليفعل فقال أبو هريرة إني أحب أن أطيل غرتي ثم بقي من أخبار عمار مما عزاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم الوجه والكفان ونصف الذراع إلى المرفقين فكانت رواية من روى إلى المرفقين أولى لوجوه أحدها أنه زائد على روايات الآخرين وخبر الزائد أولى والثاني أن الآية تقتضي اليدين إلى المنكبين لدخولهما تحت الاسم فلا يخرج شئ منه إلا بدليل وقد قامت الدلالة على خروج ما فوق المرفقين فبقي حكمه إلى المرفقين والثالث أن في حديث ابن عمرو الأسلع التيمم إلى المرفقين من غير اختلاف عنهما في روايتهما وقول الزهري يمسح يديه إلى الإبط قول شاذ ومع ذلك لم يروه أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم وأما قول ابن أبي ليلى والحسن بن صالح أنه يمسح بكل واحدة من الضربتين وجهه ويديه فخلاف ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في سائر الأخبار التي ذكر فيها صفة التيمم لأن الذي روي في بعضها ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين فلم يجعل ما للوجه لليدين وما لليدين للوجه وفي بعضها ضربة واحدة لهما فقولهما خارج عن حكم الخبرين جميعا وهو مع ذلك خلاف الأصول لأن التيمم مسح فليس تكراره بمسنون كالمسح على الخفين ومسح الرأس ولو كان التكرار مسنونا فيه لكان ثلاثا كالأعضاء المغسولة و إنما قال أصحابنا في صفة التيمم أنه يضع يديه على الصعيد يقبل بهما ويدبر ليتخلل أصابعه ويصيب جميعها وإنما قالوا ينفضهما لما روى الأعمش عن سفيان عن أبي موسى أن عمارا قال وذكر قصة التيمم فقال إنه صلى الله عليه وسلم قال إنما يكفيك أن تصنع هكذا وضرب بيده على الأرض وفي حديث عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ضرب بيده إلى الأرض ثم نفخهما وفي حديث الأسلع أنه نفضهما في كل مرة والنفخ والنفض جميعا إنما هو لإزالة التراب عن يده وهذا يدل على أنه ليس المقصد فيه وصول التراب إلى وجهه ولا حصوله فيه لأنه لو كان المقصد حصول التراب في العضو لما نقضه
[ 487 ]
باب ما يتيمم به قال الله تعالى فتيمموا صعيدا طيبا اختلف الفقهاء فيما يجوز به التيمم فقال أبو حنيفة يجزي التيمم بكل ما كان من الأرض التراب والرمل والحجارة والزرنيخ والنورة والطين الأحمر والمرداسنج وما أشبهه وهو قول محمد وزفر وكذلك يجزي بالكحل والآجر المدقوق في قولهما رواه محمد ورواه أيضا الحسن بن زياد عن أبي حنيفة وإن تيمم ببورق كل أو رماد أو ملح أو نحوه لم يجز عندهم وكذلك الذهب والفضة في قولهم وقال أبو يوسف لا يجزي إلا أن يكون ترابا أو رملا وإن ضرب يده على صخرة أو حائط لا صعيد عليها أجزأه في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف لا يجزيه وروى المعلى عن أبي يوسف أنه إن تيمم بأرض لا صعيد عليها لم يجزه وهو بمنزلة الحائط وهو قوله الآخر وقال الثوري يجوز بالزرنيخ والنورة ونحوهما وكل ما كان من تراب الأرض ولا يتيمم بالآجر وقال مالك يتيمم بالحصا والجبل وكذلك حكى عنه أصحابه في الزرنيخ والنورة ونحوهما قال وإن تيمم بالثلج ولم يصل إلى الأرض أجزأه وكذلك الحشيش إذا كان ممتدا وروى أشهب عن مالك أنه لا يتيمم بالثلج وقال الشافعي يتيمم بالتراب مما تعلق باليد قال أبو بكر لما قال الله فتيمموا صعيدا طيبا وكان الصعيد اسما للأرض اقتضى ذلك جواز التيمم بكل ما كان من الأرض وأخبرنا أبو عمر غلام ثعلب عنه عن ابن الأعرابي قال الصعيد الأرض والصعيد التراب والصعيد القبر والصعيد الطريق فكل ما كان من الأرض فهو صعيد فيجوز التيمم به بظاهر الآية فإن قيل إنما أباح التيمم بالصعيد الطيب والأرض الطيبة هي التي تنبت والجص والزرنيخ لا ينبت شيئا فليس إذا بطيب قال الله تعالى والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه [ الاعراف: 58 ]. قيل له إيجاب التيمم بالصعيد الطاهر دون النجس وأما قوله والبلد الطيب كلوا من طيبات ما رزقناكم) [ البقرة: 75 ] فأفاد بذلك إيجاب التيميم بالصعيد الطاهر دون النجس. وأما قوله: (والبلد الطيب) [ الاعراف: 58 ] فإنما يريد به ما ليس بسبخة لأنه قال والذي خبث لا يخرج إلا نكدا ولا خلاف في جواز التيمم بالسبخة التي لا تخرج
[ 488 ]
مثل ما يخرج غيرها فعلمنا أنه لم يرد بالطيب ما ذكرت وقد روى أبو ظبيان عن ابن عباس قال الطيب الصعيد الجرز أو قال الأرض الجرز وقال ابن جريج قال قلت لعطاء فتيمموا صعيدا طيبا قال أطيب ما حولك ويدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وهو يدل من وجهين على ما ذكرنا أحدهما إخباره أن الأرض طهور فكل ما كان من الأرض فهو طهور بمقتضى الخبر والآخر أن ما جعله من الأرض مسجدا هو الذي جعله طهورا وسائر ما ذكر هو من الأرض وهي مسجد فيجوز التيمم به بحق العموم وروى عمرو بن دينار عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن أعرابيا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إنا نكون في هذه الرمال لا نقدر على الماء ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر وفينا النفساء والحائض والجنب فقال صلى الله عليه وسلم عليكم بأرضكم فأفاد بذلك جوازه بكل ما كان من الأرض ولما ذكرنا من عموم الآية والخبر أجزنا التيمم بالحجر والحائط لأنه من الأرض لأنها تشتمل على أنواع مختلفة ولا يخرجها اختلاف أنواعها من كون جميعها صعيدا وقال تعالى (فتصبح صعيدا زلقا يعني الأرض الملساء التي لا شئ عليها وقال النبي صلى الله عليه وسلم يحشر الناس عراة حفاة في صعيد واحد يعني الأرض المستوية التي ليس عليها شئ كقوله تعالى فيذرها قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا [ طه: 106 و 107 ] فلا فرق بين ما عليه منها تراب أو لا تراب عليه لوقوع الاسم عليه على الإطلاق فإن قيل إن الآجر وإن كان أصله من الأرض فقد انتقل عن طبع الأرض بالطبخ وحال عن حد التراب فهو كالماء المنتقل عن حاله بما يدخل عليه من الرياحين والأصباغ حتى يحول إلى جنس آخر ويزول عنه الاسم الأول وكالزجاج * فلا يجوز الوضوء به قيل له إنما لم يجز الوضوء بالماء الذي ذكرت لغلبة غيره عليه حتى أزال عنه اسم الماء وأما الآجر فلا يخالطه ما يخرجه عن حد الأرض وإنما حدثت فيه صلابة بالإحراق فهو كالحجر فلا يمتنع ذلك التيمم به وقد روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده على الحائط فتيمم به وروي أنه نفض يديه حين وضعهما على التراب وأنه نفخهما فعلمنا أن المقصد فيه وضع اليد على ما كان من الأرض على أن يحصل في يده أو وجهه شئ منه ولو كان المقصد أن يحصل في يده منه شئ لأمر بحمل التراب على يده ومسح الوجه به كما أمر بأخذ الماء للغسل أو للمسح حتى يحصل في وجهه فلما لم يأمر بأخذ التراب ونفض النبي صلى الله عليه وسلم يديه ونفخهما علمنا أنه ليس المقصد حصول التراب في وجهه
[ 489 ]
فإن قيل قوله تعالى فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) يقتضي حصول شئ منه في الأعضاء الممسوحة به قيل له إنما أفاد بذلك تأكيد وجوب النية فيه لأن من قد تكون لبدء الغاية كقولك خرجت من الكوفة وهذا كتاب من فلان إلى فلان فيكون معناه على هذا ليكن ابتداء الأخذ من الأرض حتى يتصل بالوجه واليد بلا فاصل يفصل بين الأخذ وبين المسح فينقطع حكم النية ويحتاج إلى تجديدها وهو كقولك توضأ من النهر يعني أن ابتداء أخذه من النهر إلى أن اتصل بأعضاء الوضوء من غير قطع ألا ترى أنه لو أخذه من النهر في إناء وتوضأ منه لم يقل إنه توضأ من النهر ويحتمل أن يكون قوله فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه يعني من بعضه وأفاد به أن أي بعض منه مسحتم به على جهة الإطلاق والتوسعة وأما الذهب والفضة واللؤلؤ ونحوها فلا يجوز التيمم لأنها ليست من طبع الأرض وإنما هي جواهر مودوعة فيها قال النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الركاز هو الذهب والفضة اللذان خلقهما الله تعالى في الأرض يوم خلقت واللؤلؤ من الصدف والصدف من حيوان الماء وأما الرماد فهو من الخشب ونحوه ومع ذلك فليس هو من طبع الأرض ولا من جوهرها وأما الثلج والحشيش فهما كالدقيق والحبوب ونحوها فلا يجوز التيمم بها لأنها ليست من الصعيد ولا يجوز نقل الأبدال إلى غيرها إلا بتوقيف فلما جعل الله الصعيد بدلا من الماء لم يجز لنا إثبات بدل منه إلا بتوقيف ولو جاز ذلك لجاز أن يضرب يده على ثوب لا غبار عليه فيتيمم به ولا جاز التيمم بالقطن والحبوب وقال النبي صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا قال وترابها لنا طهور وقد اتفقوا على امتناع جوازه بالثلج والحشيش إذا وصل إلى الأرض فلو كان مما يجوز التيمم به لجاز مع وجود التراب لأن التيمم بالصعيد بدل فلا ينتقل إلى بدل غيره فإن قيل إذا لم يصل إلى الأرض فهو كالزرنيخ والنورة والمغرة إذا كان بينه وبين الأرض قيل له الزرنيخ ونحوه من الأرض ويجوز التيمم به مع وجود التراب وعدمه وليس هو مع ذلك حائلا بيننا وبين الأرض وإنما الأرض في الأغلب حائلة بيننا وبينه فكيف يشبهه بالثلج والحشيش وإن تيمم بغبار ثوب أو لبد وقد نفضه جاز عند أبي حنيفة ولا يجوز عند أبي يوسف وإنما جاز عند أبي حنيفة لأن الغبار الذي فيه من الأرض ولا يختلف حكمه في كونه في الثياب أو على الأرض كما أن الماء لا يختلف حكمه في كونه في إناء أو نهر أو ما عصر من ثوب مبلول وذهب أبو يوسف في ذلك كله إلى أن هذا لا يسمى ترابا على الإطلاق فلا يجوز التيمم به ومن أجل ذلك لم يجز التيمم بأرض لا تراب عليها وجعلها بمنزلة الحجر على أصله وروى قتادة عن نافع عن ابن
[ 490 ]
عمر أن عمر صلى على مسح من ثلج أصابه وأرادوا أن يتيمموا فلم يجدوا ترابا فقال لينفض أحدكم ثوبه أو صفة سرجه فتيمم به وروى هشام بن حسان عن الحسن قال إذا لم يجد الماء ولم يصل إلى الأرض ضرب بيده على لبده وسرجه ثم يتيمم به قوله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه قال أبو بكر الذي يقتضيه الظاهر مسح البعض على ما بيناه في قوله تعالى وامسحوا برؤسكم وإن الباء تقتضي التبعيض إلا أن الفقهاء متفقون على أنه لا يجوز له الاقتصار على القليل منه وأن عليه مسح الكثير وذكر أبو الحسن الكرخي عن أصحابنا أنه إن ترك المتيمم من مواضع التيمم شيئا قليلا أو كثيرا لم يجزه وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه يجزيه إذا ترك اليسير منه وهذا أولى بمذهبه لأن من أصله جواز التيمم بالحجارة التي لا غبار عليها وليس عليه تخليل أصابعه بالحجارة وهذا يدل على أن ترك اليسير منه لا يضره وقال الله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق ولا خلاف في وجوب استيعاب البيت كله وغير جائز له ترك شئ منه قوله تعالى ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم قال أبو بكر لما كان الحرج الضيق ونفى الله عن نفسه إرادة الحرج بنا ساغ الاستدلال بظاهره في نفي الضيق وإثبات التوسعة في كل ما اختلف فيه من أحكام السمعيات فيكون القائل بما يوجب الحرج والضيق محجوجا بظاهر هذه الآية وهو نظير قوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقوله تعالى ولكن يريد ليطهركم) يحتمل معنيين الطهارة من الذنوب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ العبد فغسل وجهه خرجت ذنوبه من وجهه وإذا غسل يديه خرجت ذنوبه من يده إلى آخره كما قال تعالى إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا يحتمل التطهير من الذنوب ويحتمل التطهير من الأحداث والجنابة والنجاسة كقوله تعالى (وإن كنتم جنبا فاطهروا وقوله تعالى وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان فانتظم لطهارة الجنابة والطهارة من النجاسة وقوله تعالى وثيابك فطهر فلما احتمل المعنيين فالواجب حمله عليهما فيكون المراد التطهير من الاحداث والتطهير به أيضا من الذنوب، وهذا
[ 491 ]
يدل إذا كان المراد حصول الطهارة على سقوط اعتبار الترتيب وإيجاب النية في الوضوء فإن قيل لما ذكر ذلك عقيب التيمم فينغبي أن يدل على سقوط اعتبار النية في التيمم كما دل على سقوطها في الوضوء قيل له لما كان التيمم يقتضي إحضار النية في فحواه ومقتضاه علمنا أنه لم يرد به إسقاط ما انتظمه واما الوضوء والغسل فلا يقتضيان النية فوجب اعتبار عمومه فيهما وعلى أن قوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم كلام مكتف بنفسه غير مفتقر إلى تضمينه بغيره فصح اعتبار عمومه في جميع ما انتظمه لفظ إلا ما قام دليل خصوصه فصل قال أبو بكر قد ذكرنا ما حضرنا من علم أحكام هذه الآية وما في ضمنها من الدلائل على المعاني وما يشتمل عليه من وجوه الاحتمال على ما ذهب إليه المختلفون فيها وذكرناه عن قائليها من السلف وفقهاء الأمصار وأنزل الله إياها بهذه الألفاظ المحتملة للمعاني ووجوه الدلالات على الأحكام مع أمره إيانا باعتبارها والاستدلال بها في قوله تعالى لعلمه الذين يستنبطونه منهم وقوله تعالى وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون فحثنا على التفكر فيه وحرضنا على الاستنباط والتدبر وأمرنا بالاعتبار لنتسابق فلا إلى إدراك أحكامه وننال درجة المستنبطين والعلماء الناظرين ودل بما نزل من الآي المحتملة للوجوه من الأحكام التي طريق استدراك معانيها السمع على تسويغ الاجتهاد في طلبها وإن كلا منهم مكلف بالقول بما أداه إليه اجتهاده واستقر عليه رأيه ونظره وأن مراد الله من كل واحد من المجتهدين اعتقاد ما أداه إليه نظره إذ لم يكن لنا سبيل إلى استدراكه إلا من طريق السمع وكان جائزا تعبد كل واحد منهم من طريق النظر بمثل ما حصل عليه اجتهاده فوجب من أجل ذلك أن يكون من حيث جعل لفظ الكتاب محتملا للمعاني أن يكون مشرعا لكل واحد من المجتهدين ما دل عليه عنده فحوى الآية وما في مضمون الخطاب ومقتضاه من وجوه الاحتمال فانظر على كم اشتملت هذه الآية بفحواها ومقتضاها من لطيف المعاني وكثرة الفوائد وضروب ما أدت إليه من وجوه الاستنباط وهذه إحدى دلائل إعجاز القرآن إذ غير جائز وجود مثله في كلام البشر وأنا ذاكرنا مجملا ما تقدم ذكره مفصلا ليكون أقرب إلى فهم قارئه إذا كان مجموعا محصورا والله تعالى نسأل التوفيق فأول ما ذكرنا من حكم قوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة ما احتمله اللفظ من
[ 492 ]
إرادة القيام والثاني ما اقتضه حقيقة اللفظ من إيجاب الغسل بعد القيام والثالث ما احتمله من القيام من النوم لأن الآية على هذه الحال نزلت والرابع اقتضاؤها إيجاب الوضوء من النوم المعتاد الذي يصح إطلاق القول فيه بأنه قائم من النوم والخامس احتمالها لإيجاب الوضوء لكل صلاة واحتمالها لطهارة واحدة لصلوات كثيرة ما لم يحدث والسادس احتمالها إذا أردتم القيام وأنتم محدثون وإيجاب الطهارة من الأحداث والسابع دلالتها على جواز الوضوء بإمرار الماء على الموضع من غير ذلك واحتمالها لقول من أوجب الدلك والثامن إيجابها بظاهرها إجراء الماء على الأعضاء وإن مسحها غير جائز على ما بينا وبطلان قول من أجاز المسح في جميع الأعضاء والتاسع دلالتها على جواز الوضوء بغير نية والعاشر دلالتها على وجوب الاقتصار بالفرض على ما واجهنا من المتوضئ بقوله تعالى وجوهكم إذ كان الوجه ما واجهك وإن المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الوضوء والحادي عشر دلالتها على أن تخليل اللحية غير واجب إذ لم يكن باطنها من الوجه والثاني عشر دلالتها على نفي إيجاب التسمية في الوضوء والثالث عشر دلالتها على دخول المرافق في الغسل والرابع عشر احتمالها أن تكون المرافق غير داخلة والخامس عشر دلالتها على جواز مسح بعض الرأس والسادس عشر احتمالها لوجوب مسح الجميع والسابع عشر احتمالها لجواز مسح البعض أي بعض كان منه والثامن عشر دلالتها على أنه غير جائز أن يكون المفروض ثلاث شعرات إذ غير جائز تكليفه مالا يمكن الاقتصار عليه والتاسع عشر احتمالها لوجوب غسل الرجلين والعشرون احتمالها لجواز المسح على قول موجبي استيعابها بالمسح والحادي والعشرون دلالتها على بطلان قول مجيزي مسح البعض بقوله إلى الكعبين والثاني والعشرون دلالتها على عدم إيجاب الجمع بين الغسل والمسح وأن الواجب إنما كان أحدهما باتفاق الفقهاء والثالث والعشرون دلالتها على جواز المسح في حال لبس الخفين ووجوب الغسل في حال ظهور الرجلين والرابع والعشرون دلالتها على جواز المسح على الخفين إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان ثم أكمل الطهارة قبل الحدث لأنها من حيث دلت على المسح دلت على جوازه في جميع الأحوال إلا ما قام دليله والخامس والعشرون دلالتها على قول من أجاز المسح على الجرموقين من حيث دلت على المسح على الخفين لأن الماسح على الخفين والجرموقين جائز أن يقال قد مسح على رجليه وإن كان عليهما خفان والسادس والعشرون دلالتها على المسح على الجوربين وأنه يحتاج إلى دليل منه في أن المسح على الجوربين وأنه غير مراد والسابع والعشرون دلالتها على لزوم مباشرة الرأس بالمسح وامتناع
[ 493 ]
جوازه على العمامة والخمار فإن قيل كان ذلك دليلا على بطلان المسح على العمامة فقوله وأرجلكم يدل على بطلان المسح على الخفين قيل له لما كان قوله وأرجلكم محتملا للمسح والغسل وأمكننا استعمالها لها استعملناهما في حالين وإن كان في أحدهما مجازا لئلا نسقط واحدا منهما ولم تكن بنا حاجة إلى استعمال قوله وامسحوا برؤسكم على المجاز فاستعملناه على حقيقته والثامن والعشرون دلالتها على جواز الوضوء مرة مرة وأن ما زاد فهو تطوع والتاسع والعشرون دلالتها على نفي فرض الاستنجاء وعلى جواز الصلاة مع تركه وعلى بطلان قول من أوجب الاستنجاء من الريح والثلاثون دلالتها على بطلان قول من أوجب غسل اليد قبل إدخالهما الإناء وأنه إن أدخلهما قبل أن يغسلهما لم يجزه الوضوء والحادي والثلاثون دلالتها على ان مسح الأذنين ليس بفرض وبطلان قول من أجاز المسح عليهما دون الرأس والثاني والثلاثون دلالتها على جواز تفريق الوضوء بإباحة الصلاة بالغسل على أي وجه حصل والثالث والثلاثون دلالتها على بطلان قول موجبي الترتيب في الوضوء والرابع والثلاثون اقتضاؤها لإيجاب الغسل من الجنابة والخامس والثلاثون دلالتها على اقتضاء هذا اللفظ لمن سمي به اجتناب أشياء إذ كانت الجنابة من مجانبة ما يقتضي ذلك اجتنابه وهو ما قد بين حكمه في غيرها والسادس والثلاثون دلالتها على استيعاب البدن كله بالغسل ووجوب المضمضة والاستنشاق فيه بقوله وإن كنتم جنبا فاطهروا والسابع والثلاثون دلالتها على أنه متى طهر بدنه استباح الصلاة وأن الوضوء ليس بفرض فيه والثامن والثلاثون إيجاب التيمم للحدث عند عدم الماء والتاسع والثلاثون جوازه للمريض إذا خاف ضرر الماء والأربعون جواز التيمم لغير المريض إذا خاف ضرر البرد إذ كان المعنى في المرض مفهوما وهو أنه خوف الضرر والحادي والأربعون دلالتها على جواز التيمم للجنب إذ كان قوله تعالى أو لامستم النساء يحتمل الجماع والثاني والأربعون احتمالها أيجاب الوضوء من مس المرأة إذ كان قوله تعالى أو لامستم يحتمل الأمرين والثالث والأربعون دلالتها على أن من خاف العطش جاز له التيمم إذ كان في معنى الخائف لضرر الماء باستعماله وهو المريض والمجروح والرابع والأربعون دلالتها على أن الناسي للماء في رحله يجوز له التيمم إذ هو غير واجد للماء والله تعالى شرط استعمال الماء عند وجوده والخامس والأربعون دلالتها على أن من معه ماء لا يكفيه لوضوئه فليس عليه استعماله لأنه أمر بغسل أعضاء الوضوء ثم قال تعالى فلم تجدوا ماء يعني ما يكفي لغسلها ولأنه لا خلاف أن من فرضه التيمم فدل على أن هذا القدر من الماء غير مراد والسادس والأربعون احتمالها لاستدلال من استدل بقوله تعالى فلم
[ 494 ]
تجدوا ماء فتيمموا فذكر عدم كل جزء منه إذ كان نكرة في جواز التيمم فإذا وجد قليلا لم يجز الاقتصار على التيمم والسابع والأربعون دلالتها على سقوط فرض الطلب وبطلان قول موجبه إذ كان الوجود أو العدم لا يقتضيان طلبا فموجب الطلب زائد فيها ما ليس منها والثامن والأربعون دلالتها على أن من خاف ذهاب الوقت إن توضأ لم يجز له التيمم إذ كان واجدا للماء لأمره تعالى إيانا بالغسل عند وجود الماء بقوله تعالى فاغسلوا من غير ذكر الوقت والتاسع والأربعون دلالتها على أن المحبوس الذي لا يجد ماء ولا ترابا نظيفا أنه لا يصلي لأن الله أمر بفعل الصلاة بأحد ما ذكره في الاية من ماء أو تراب والخمسون احتمالها لجواز التيمم للمحبوس إذا وجد ترابا نظيفا والحادي والخمسون جواز التيمم قبل دخول الوقت إذ لم يحصره بوقت وإنما علقه بعدم الماء بقوله تعالى فلم تجدوا ماء والثاني والخمسون دلالتها على جواز الصلوات المكتوبات بتيمم واحد ما لم يحدث أو يجد الماء بقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ثم قوله في سياقه فتيمموا فأمر بالصلاة بالتيمم على الوجه الذي أمر بها بالوضوء فلما لم تقتض الآية تكرار الوضوء لكل صلاة لم تقتض تكرار التيمم والثالث والخمسون دلالتها على أن على المتيمم إذا وجد الماء في الصلاة الوضوء لقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا على ما بينا من دلالتها على ذلك فيما سلف والرابع والخمسون مسح الوجه واليدين في التيمم واستيعابهما به والخامس والخمسون مسح اليدين إلى المرفقين لاقتضاء قوله تعالى وأيديكم إلى المرافق إياها وأن ما فوق المرفقين إنما خرج بدليل والسادس والخمسون جوازه بكل ما كان من الأرض لقوله تعالى فتيمموا صعيدا طيبا والصعيد الأرض والسابع والخمسون بطلان التيمم بالتراب النجس لقوله تعالى طيبا والنجس ليس بطيب والثامن والخمسون وجوب النية في التيمم من وجهين أحدهما أن التيمم القصد والثاني قوله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه على ما بينا من دلالته على أن ابتداءه يكون من الأرض حتى يتصل بالوجه من غير قطع وأن استعماله لشئ آخر يقطع حكم النية وتوجب الاستيناف والتاسع والخمسون احتمالها لإصابة بعض التراب وجهه ويديه لقوله منه وهو للتبعيض والستون دلالتها على بطلان قول من أجاز التيمم بالثلج والحشيش إذ ليسا من الصعيد والواحد والستون دلالة قوله تعالى أو جاء أحد منكم من الغائط على إيجاب الطهارة من الخارج من السبيلين وأن دم الاستحاضة وسلس البول والمذي ونحوهما توجب الوضوء إذ كان الغائط هو المطمئن من الأرض يؤتى لكل ذلك والثاني والستون دلالة قوله تعالى فاغسلوا وجوهكم على جواز الغسل بسائر المائعات إلا ما خصه الدليل فيستدل به على جواز
[ 495 ]
الوضوء بنبيذ التمر ويستدل به أيضا الحسن بن صالح على جوازه بالخل وما جرى مجراه ويستدل به أيضا على جواز الطهارة بالماء الذي خالطه شئ من الطاهرات ولم يغلب على الماء مثل ماء الورد واللبن والخل ونحو ذلك والثالث والستون دلالة قوله تعالى فلم تجدوا ماء فتيمموا على جوازه بالنبيذ إذ كان في النبيذ ماء وإنما أطلق لنا التيمم عند عدم كل جزء من الماء لذكره إياه بلفظ منكور ويستدل به أيضا من يجيز الوضوء بالماء المضاف كالمرق وخل التمر ونحوه إذا كان فيه ماء والرابع والستون دلالتها لمن يمنع المستحاضة صلاتي فرض بوضوء واحد على لزوم إعادة الوضوء لفرض ثان لقوله إذا قمتم إلى الصلاة فقد روي إذا قمتم وأنتم محدثون وهي محدثة لوجود الحدث بعد الطهارة والخامس والستون دلالتها على امتناع جواز فرضين بتيمم واحد كدلالتها: في الاستحاضة إذا كان التيمم غير رافع للحدث فهو متى أراد القيام إلى الصلاة قام إليها وهو محدث والسادس والستون دلالتها على جواز التيمم في أول الوقت عند عدم الماء لقوله تعالى أقم الصلاة لدلوك الشمس [ الاسراء: 78 ] وقوله إذا قمتم إلى الصلاة إلى قوله فلم تجدوا ماء فتيمموا فأمر بالصلاة عند دلوكها وأمر بتقديم الطهارة لها بالماء إن كان موجودا أو التراب إذا كان معدوما فاقتضى ذلك جواز التيمم في أول الوقت وقبل الوقت كما اقتضى جواز الطهارة بالماء قبل الوقت وفي أوله والسابع والستون دلالتها على امتناع جواز التيمم في الحضر للمحبوس وجواز الصلاة به لقوله تعالى وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط إلى قوله فتيمموا صعيدا فشرط في إباحة التيمم شيئين أحدهما المرض والآخر السفر مع عدم الماء فإذا لم يكن مسافرا وكان مقيما إلا أنه ممنوع منه بحبس فغير جائز صلاته بالتيمم فإن قيل فهو غير واجد للماء وإن كان مقيما قيل له هو كذلك إلا أنه قد شرط في جوازه شيئين أحدهما السفر الذي الأغلب فيه عدم الماء والثاني عدمه وإنما أبيح له التيمم وجواز الصلاة بتعذر وجود الماء للحال الموجبة لذلك وهو السفر لا في الحضر الذي الماء فيه موجود في الأغلب وإنما حصل المنع بفعل آدمي من غير حال العادة فيها والغالب منها عدمه والثامن والستون دلالة قوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج على نفي كل ما أوجب الحرج والاحتجاج به عند وقوع الخلاف عن منتحلي مذهب التضييق فيدل ذلك على جواز التيمم وإن كان معه ما إذا خاف على نفسه من العطش فيحبسه لشربه إذ كان فيه نفي الضيق والحرج وعلى نفي إيجاب الترتيب والموالاة في الطهارة وعلى نفي إيجاب النية فيها وما جرى مجرى ذلك والتاسع والستون دلالة قوله ولكن يريد ليطهركم على أن المقصد حصول الطهارة على أي وجه حصلت من ترتيب أو غيره
[ 496 ]
ومن موالاة أو تفريق ومن وجوب نية أو عدمها وما جرى مجرى ذلك مطلب اغتساله عليه السلام بالصاع غير موجب اعتباره والسبعون دلالة قوله فاطهروا على سقوط اعتبار تقدير الماء إذ كان المراد التطهير وعلى أن اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم بالصاع غير موجب اعتباره والواحد والسبعون أن قوله تعالى فامسحوا برؤسكم فيه دلالة على أن المراد المسح بالماء، إذ المسح لا يقتضي ماء (1)، فلما قال: (فلم تجدوا ماء) دل على المراد مسحه بالماء. فهذه وجوه دلالات هذه الآية الواحدة على المعاني وضروب الحكام منها نصوص ومنها احتمال في الطهارة التي يجب تقديمها أمام الصلاة وشروطها التي تصح بها وعسى أن يكون كثير من دلائلها وضروب احتمالها مما لم يبلغه علمنا متى يحث عنها واستقصي النظر فيها أدركها من وفق لفهمها والله الموفق باب القيام بالشهادة والعدل قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ومعناه كونوا قوامين لله بالحق في كل ما يلزمكم القيام به من الأمر بالمعروف والعمل به والنهي عن المنكر واجتنابه فهذا هو القيام لله بالحق وقوله شهداء لله بالقسط يعني بالعدل قد قيل في الشهادة أنها الشهادات في حقوق الناس روي ذلك عن الحسن وهو مثل قوله كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم وقيل إنه أراد الشهادة على الناس بمعاصيهم كقوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس) [ البقرة: 143 ] فكان معناه أن كونوا من أهل العدالة الذين حكم الله بأن مثلهم يكونون شهداء على الناس يوم القيامة وقيل أراد به الشهادة لأمر الله بأنه الحق وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة لاحتمال اللفظ لها وقوله تعالى ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا روي أنها نزلت في شأن اليهود حين ذهب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستعينهم في دية فهموا أن يقتلوه وقال الحسن نزلت في قريش لما صدوا المسلمين عن المسجد الحرام قال أبو بكر قد ذكر الله تعالى هذا المعنى في هذه السورة في قوله ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا فحمله الحسن على معنى الآية الأولى والأولى أن تكون نزلت في غيرهم وأن لا تكون تكرارا
[ 497 ]
مطلب: فيما تضمنته الاية من الامر بالعدل مع المحق والمبطل وقد تضمن ذلك الأمر بالعدل على المحق والمبطل وحكم بأن كفر الكافرين وظلمهم لا يمنع من العدل عليهم وأن لا يتجاوز في قتالهم وقتلهم ما يستحقون وأن يقتصر بهم على المستحق من القتال والأمر والاسترقاق دون المثلة بهم وتعذيبهم وقتل أولادهم ونسائهم قصدا لإيصال الغم والألم إليهم وكذلك قال عبد الله بن رواحة حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر خارصا فجمعوا له شيئا من حليهم وأرادوا دفعه إليه ليخفف في الخرص إن هذا سحت وإنكم لأبغض إلي من عدتكم قردة وخنازير وما يمنعني ذلك من أن أعدل عليكم فقالوا بهذا قامت السموات والأرض فإن قيل لما قال هو أقرب للتقوى ومعلوم أن العدل نفسه هو التقوى فكيف يكون الشئ هو أقرب إلى نفسه قيل معناه هو أقرب إلى أن تكونوا متقين باجتناب جميع السيآت فيكون العدل فيما ذكر داعيا إلى العدل في جميع الأشياء واجتناب جميع المعاصي ويحتمل هو أقرب لاتقاء النار وقوله هو أقرب للتقوى) فقوله هو راجع إلى المصدر الذي دل عليه الفعل كأنه قال العدل أقرب للتقوى كقول القائل من كذب كان شرا له يعني كان الكذب شرا له وقوله تعالى ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا قد اختلف في المراد بالنقيب ههنا فقال الحسن الضمين وقال الربيع بن أنس الأمين وقال قتادة الشهيد على قومه وقيل إن أصل النقيب مأخوذ من النقب وهو الثقب الواسع فقيل نقيب القوم لأنه ينقب على أحوالهم وعن مكنون ضمائرهم وأسرارهم فسمي رئيس العرفاء نقيبا لهذا المعنى وأما قول الحسن أنه الضمين فإنما أراد به أنه الضمين لتعرف أحوالهم وأمورهم وصلاحهم وفسادهم واستقامتهم وعدولهم ليرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار اثني عشر نقيبا على هذا المعنى وقول الربيع بن أنس أنه الأمين وقول قتادة أنه الشهيد يقارب ما قال الحسن أيضا لأنه أمين عليهم وشهيد بما يعملون به ويجري عليهم أمورهم وإنما نقب النبي صلى الله عليه وسلم النقباء لشيئين أحدهما لمراعاة أحوالهم وأمورهم وإعلامها النبي صلى الله عليه وسلم ليدبر فيهم بما روي والثاني أنهم إذا علموا أن عليهم نقيبا كانوا أقرب إلى الاستقامة إذ علموا أن أخبارهم تنتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولأن كل واحد منهم يحتشم مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم فيما ينوبه ويعرض له من الحوائج قبله فيقوم عنه النقيب فيه وليس يجوز أن يكون النقيب ضامنا عليهم الوفاء بالعهد والميثاق لأن ذلك معنى لا يصح ضمانه ولا يمكن الضمين فعله ولا القيام به فعلمنا أنه على المعنى الأول
[ 498 ]
وفي هذه الآية دلالة على قبول خبر الواحد لأن نقيب كل قوم إنما نصب ليعرف أحوالهم النبي صلى الله عليه وسلم أو الإمام فلولا أن خبره مقبول لما كان لنصبه وجه فإن قيل إنما يدل ذلك على قبول الإثني عشر دون الواحد قيل له إن الإثني عشر لم يكونوا نقباء على جميع بني إسرائيل بجملتهم وإنما كان كل واحد منهم نقيبا على قومه خاصة دون الآخرين قوله تعالى وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قال ابن عباس هذا قول جماعة من اليهود حين حذرهم النبي صلى الله عليه وسلم نقمات الله فقالوا لا تخوفنا فإنا أبناء الله وأحباؤه قال السدي تزعم اليهود أن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل أن ولدك بكري من الولد وقال الحسن إنما قالوا ذلك على معنى قرب الولد من الوالد وأما النصارى فقيل إنهم تأولوا ما في الإنجيل في قول المسيح عليه السلام إني ذاهب إلى أبي وأبيكم وقيل إنهم لما قالوا المسيح ابن الله وكان منهم جرى ذلك على قول العرب هذيل شعراء أي منهم شعراء وعلى قولهم في رهط مسيلمة قالوا نحن أبناء الله أي قال قائل منهم وتابعوه عليه فكان معنى قولهم على هذا الوجه نحن أبناء الله أي منا ابن الله وقال تعالى قل فلم يعذبكم بذنوبكم فيه إبطال دعواهم ذلك وتكذيبهم بها على لسانهم لأنهم كانوا مقرين بأنهم يعذبون بالذنوب ومعلوم أن الأب المشفق لا يعذب ولده مطلب: في معنى قوله تعالى: (وجعلكم ملوكا) قوله تعالى وجعلكم ملوكا قال عبد الله بن عمر وزيد بن أسلم والحسن الملك من له دار وامرأة وخادم وقال غيرهم هو الذي له ما يستغني به عن تكلف الأعمال وتحمل المشاق للمعاش وقال ابن عباس ومجاهد جعلوا ملوكا بالمن والسلوى والحجر والغمام وقال غيرهم بالأموال أيضا وقال الحسن إنما سماهم ملوكا لأنهم ملكوا أنفسهم بالتخلص من القبط الذين كانوا يستعبدونهم وقال السدي ملك كل واحد منهم نفسه وأهله وماله وقال قتادة كانوا أول من ملك الخادم مطلب: في معنى التحريف قوله يحرفون الكلم عن مواضعه تحريفهم إياه يكون بوجهين أحدهما بسوء التأويل والآخر بالتغيير والتبديل وأما ما قد استفاض وانتشر في أيدي الكافة فغير ممكن تغيير ألفاظه إلى غيرها لامتناع الطواطؤ على مثلهم وما لم يستفض في الكافة
[ 499 ]
وإنما كان علمه عند قوم من الخاصة يجوز على مثلهم التواطؤ فإنه جائز وقوع تغيير ألفاظه ومعانيه إلى غيرها وإثبات ألفاظ أخر سواها وأما المستفيض الشائع في أيدي الكافة فإنما تحريفهم على تأويلات فاسدة كما تأولت المشبهة والمجبرة كثيرا من الآي المتشابهة على ما تعتقده من مذهبها وتدعي من معانيها ما يوافق اعتقادها دون حملها على معاني المحكمة وإنما قلنا إنه غير جائز وقوع التحريف من جهة تغيير الألفاظ فيما استفاض وانتشر عند الكافة من قبل أن ذلك لا يقع إلا بالتواطؤ عليه ومثله مع اختلاف هممهم وتباعد أوطانهم لا يجوز وقوع التواطؤ منهم على مثله كما لا يجوز وقوع التواطؤ من المسلمين على تغيير شئ من ألفاظ القرآن إلى غيره ولو جاز ذلك لجاز تواطؤهم على اختراع أخبار لا أصل لها ولو جاز ذلك لما صح أن يعلم بالأخبار شئ وقد علم بطلان هذا القول اضطرار قوله تعالى ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم عن الحسن قال إنما قال قالوا إنا نصارى ولم يقل من النصارى ليدل على أنهم ابتدعوا النصرانية وتسموا بها وأنهم ليسوا على منهاج الذين اتبعوا المسيح في زمانه من الحواريين وهم الذين كانوا نصارى في الحقيقة نسبوا إلى قرية بالشام تسمى ناصرة فانتسب هؤلاء إليهم وإن لم يكونوا منهم لأن أولئك كانوا موحدة مؤمنين وهؤلاء مثلثة مشركون وقد أطلق الله تعالى في مواضع غيره اسم النصارى لا على وجه الحكاية عنهم في قوله تعالى وقالت النصارى المسيح ابن الله وفي مواضع أخر لأنهم قد عرفوا بذلك وصار ذلك سمة لهم وعلامة قوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم إنما لحقتهم سمة الكفر لأنهم قالوا ذلك على جهة التدين به واعتقادهم إياه والإقرار بصحته لأنهم لو قالوا على جهة الحكاية عن غيرهم منكرين له لما كفروا والكفر هو التغطية ويرجع معنى ما ذكر عنهم إلى التغطية من وجهين أحدهما كفران النعمة يجحدها أن يكون المنعم بها هو الله تعالى وإضافتها إلى غيره ممن ادعوا له الإلهية والآخر كفر من جهة الجهل بالله تعالى وكل جاهل بالله كافر لتضييعه حق نعم الله تعالى فكان بمنزلة مضيفها غير إلى غيره وقوله تعالى فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم معناه من يقدر على دفع أمر الله تعالى إن أراد هلاك المسيح وأمه وهذا من أظهر الاحتجاج وأوضحه لأنه لو كان المسيح إلها لقدر على دفع أمر الله تعالى إذا أراد الله تعالى إهلاكه وإهلاك غيره فلما كان المسيح وسائر المخلوقين سواء في جواز ورود الموت والهلاك عليهم صح أنه ليس
[ 500 ]
بإله إذا لم يكن سائر الناس آلهة وهو مثلهم فيجواز الفناء والموت والهلاك عليهم قوله تعالى يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم قال ابن عباس والسدي أرض بيت المقدس وقال مجاهد أرض الطور وقال قتادة أرض الشام وقيل دمش وفلسطين وبعض الأردن والمقدسة هي المطهرة لأن التقديس التطهير وإنما سماها الله المقدسة لأنها طهرت من كثير من الشرك وجعلت مسكنا وقرارا للأنبياء والمؤمنين فإن قيل لم قال كتب الله لكم وقد قال فإنها محرمة عليهم قيل له روي عن ابن إسحاق أنها كانت هبة من الله تعالى لهم ثم حرمهم إياها قال أبو بكر ينبغي أن يكون الله قد جعلها على شريطة القيام بطاعته واتباع أمره فلما عصوا حرمهم إياها وقد قيل أنها على الخصوص وإن كان مخرجه مخرج العموم قوله تعالى إن فيها قوما جبارين فإنه قد قيل أن الجبار هو من الإجبار على الأمر وهو الإكراه عليه وجبر العظم لأنه كالإكراه على الصلاح والجبار هدر الأرش لأن فيه معنى الكره والجبار من النخل ما فات اليد طولا لأنه كالجبار من الناس والجبار من الناس الذي يجبرهم على ما يريد والجبار صفة مدح لله تعالى وهو ذم في صفة غيره يتعظم بما ليس له والعظمة لله عز وجل وحده الجبار المتعظم بالاقتدار ولم يزل الله جبارا والمعنى أن ذاته يدعو العارف به إلى تعظيمه والفرق بين الجبار والقهار أن في القهار معنى الغالب لمن ناوأه أو كان في حكم المناوئ بعصيانه إياه قوله تعالى قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب) روي عن قتادة في قوله يخافون أنهم يخافون الله تعالى وقال غيره من أهل العلم يخافون الجبارين ولم يمنعهم الخوف من أن يقولوا الحق فأثنى الله عليهما بذلك فدل على فضيلة قول الحق عند الخوف وشرف منزلته وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يقول الحق إذا رآه وعلمه فإنه لا يبعد من رزق ولا يدني من أجل وقال لأبي ذر رضوان الله عليه وأن لا يأخذك في الله لومة لائم وقال حين سئل عن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر قوله تعالى قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون قوله فاذهب أنت وربك فقاتلا يحتمل معنيين أحدهما أنهم قالوه على وجه المجاز بمعنى وربك معين لك والثاني الذهاب الذي هو النقلة وهذا تشبيه وكفر من قائله وهو أولى بمعنى الكلام لأن الكلام خرج مخرج الإنكار
[ 501 ]
عليهم والتعجب من جهلهم وقد يقال على المجاز قاتله الله بمعنى أن عداوته لهم كعداوة المقاتل المستعلى عليهم بالاقتدار وعظم السلطان قوله تعالى قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي هذا مجاز لأن الإنسان لا يملك نفسه ولا أخاه الحر على الحقيقة وذلك لأن أصل الملك القدرة ومحال أن يقدر الإنسان على نفسه أو على أخيه ثم أطلق اسم الملك على التصرف فجعل المملوك في حكم المقدور عليه إذ كان له أن يصرفه تصرف المقدور عليه وإنما معناه ههنا أنه يملك تصريف نفسه في طاعة الله وأطلقه على أخيه أيضا إذ كان يتصرف بأمره وينتهي إلى قوله وقال النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدا من علي بنفسه وذات يده من أبي بكر فبكى أبو بكر وقال هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله يعني أني متصرف حيث صرفتني وأمرك جائز في مالي وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل أنت ومالك لأبيك ولم يرد به حقيقة الملك قوله تعالى فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض قال أكثر أهل العلم هو تحريم منع لأنهم كانوا يصبحون بحيث أمسوا ومقدار الموضع ستة فراسخ وقال بعض أهل العلم يجوز أن يكون تحريم التعبد لأن التحريم أصله المنع قال الله تعالى وحرمنا عليه المراضع من قبل يعني به المنع قال الشاعر يصف فرسا حالت لتصرعني فقلت لها اقصري * بعد إني امرؤ صرعي عليك حرام يعني إني فارس لا يمكنك صرعي فهذا هو أصل التحريم ثم أجرى تحريم التعبد عليه لأن الله تعالى قد منعه بذلك حكما وصار المحرم بمنزلة الممنوع إذ كان من حكم الله فيه أن لا يقع كما لا يقع الممنوع منه وقوله تعالى حرمت عليكم الميتة والدم ونحوهما تحريم حكم وتعبد لا تحريم منع في الحقيقة ويستحيل اجتماع تحريم المنع وتحريم التعبد في شئ واحد لأن الممنوع لا يجوز حظره ولا إباحته إذ هو غير مقدور عليه والحظر والإباحة يتعلق بأفعالنا ولا يكون فعل لنا إلا وقد كان قبل وقوعه منا مقدورا لنا قوله تعالى واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا قال ابن عباس وعبد الله بن عمر ومجاهد وقتادة كان ابني آدم لصلبه هابيل وقابيل وكان هابيل مؤمنا وقابيل كافرا وقيل بل كان رجل سوء وقال الحسن هما من بني إسرائيل لأن علامة تقبل القربان لم يكن قبل ذلك والقربان ما يقصد به القرب من رحمة الله تعالى من أعمال البر وهو فعلان من القرب كالفرقان من الفرق والعدوان من العدو والكفران
[ 502 ]
من الكفر وقيل إذا لم يتقبل من أحدهما لأنه قرب شر ماله قرب الآخر خير ماله فتقبل منه وقيل بل رد قربانه لأنه كان فاجرا وإنما يتقبل الله من المتقين وقيل كانت علامة القبول أن تجئ نار فتأكل المتقبل ولا تأكل المردود ومنه قوله تعالى (حتى يأتينا بقربان تأكله النار إلى قوله تعالى (وبالذي قلتم [ آل عمران: 103 ]. قوله تعالى لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك قال ابن عباس معناه لئن بدأتني بقتل لم أبدأك به ولم يرد أني لا أدفعك على نفسي إذا قصدت قتلي فروي أنه قتل غيلة بأن ألقى عليه صخرة وهو نائم فشدخه بها وروي عن الحسن ومجاهد أنه كتب عليهم إذا أراد رجل قتله أن يتركه ولا يدفعه عن نفسه قال أبو بكر وجائز في العقل ورود العبادة بمثله فإن كان التأويل هو الأول فلا دلالة فيه على جواز ترك الدفع عن نفسه بقتل من أراد قتله وإنما فيه أنه لا يبدأ بقتل غيره وإن كان التأويل هو الثاني فهو منسوخ لا محالة وجائز أن يكون نسخه بشريعة بعض الأنبياء المتقدمة وجائز أن يكون نسخه بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم مطلب: يجب على من قصده إنسان بالقتل قتله إذا أمكنه والذي يدل على أن هذا الحكم غير ثابت في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وأن الواجب على من قصده إنسان بالقتل أن عليه قتله إذا أمكنه وأنه لا يسعه ترك قتله مع الإمكان قوله تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فأمر الله بقتال الفئة الباغية ولا بغي أشد من قصد إنسان بالقتل بغير استحقاق فاقتضت الآية قتل من قصد قتل غيره بغير حق وقال تعالى ولكم في القصاص حيوة فأخبر أن في إيجابه القصاص حياة لنا لأن القاصد لغيره بالقتل متى علم أنه يقتص منه كف عن قتله وهذا المعنى موجود في حال قصده لقتل غيره لأن في قتله إحياء لمن لا يستحق القتل وقال الله تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة فأمر بالقتال لنفي الفتنة ومن الفتنة قصده قتل الناس بغير حق وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا إسماعيل بن الفضل قال حدثنا حسين بن حريث قال حدثنا الفضل بن موسى عن معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من شهر سيفه ثم وضعه فدمه هدر وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أخبار مستفيضة من قتل دون نفسه
[ 503 ]
فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون ماله فهو شهيد وروى عبد الله بن الحسين عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أريد ماله فقاتل فقتل فهو شهيد فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الدافع عن نفسه وأهله وماله شهيد ولا يكون مقتولا دون ماله إلا وقد قاتل دونه ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يسطع فبقلبه وذاك ضعف الإيمان فأمر بتغير المنكر باليد وإذا لم يمكن تغييره إلا بقتله فعليه أن يقتله بمقتضى ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا نعلم خلافا أن رجلا لو شهر سيفه على رجل ليقتله بغير حق أن على المسلمين قتله فكذلك جائز للمقصود بالقتل قتله وقد قتل علي بن ابي طالب الخوارج حين قصدوا قتل الناس وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معه موافقون عليه وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار في وجوب قتهلم يقول منها حديث أبي سعيد الخدري وأنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سيكون في أمتي اختلاف وفرقة فيهم قوم يحسنون القول ويسيئون العمل يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية طوبى لمن قتلهم أو قتلوه في آثار كثيرة مشهورة وقد تلقتها السلف بالقبول واستعملتها في وجوب قتلهم وقتالهم وروى أبو بكر بن عياش قال حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن قابوس بن أبي المخارق عن أبيه قال قال رجل يا رسول الله الرجل يأتيني يريد مالي قال ذكره الله قال فإن لم يذكر قال استعن عليه من حولك من المسلمين قال فإن لم يكن حولي منهم قال فاستعن عليه السلطان قال فإن نأى عني السلطان قال قاتل دون مالك حتى تمنع مالك أو تكون شهيدا في الآخرة وذهب قوم من الحشوية إلى أن على من قصده إنسان بالقتل أن لا يقاتله ولا يدفعه عن نفسه حتى يقتله وتأولوا فيه هذه الآية وقد بينا أنه ليس في الآية دلالة على أنه كف يده عن قتله حين قصده بالقتل وإنما الآية تدل على أنه لا يبدأ بالقتل على ما روي عن ابن عباس ولو ثبت حكم الآية على ما ادعوه لكان منسوخا بما ذكرنا من القرآن والسنة واتفاق المسلمين على أن على سائر الناس دفعهم عنه وإن أتى على نفسه وتأولت هذه الطائفة التي ذكرنا قولها أحاديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم منها حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار فقيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه أراد قتل صاحبه وروى علي بن زيد بن جدعان عن الحسن عن سعد بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فافعل ولا تقتل أحدا من أهل القبلة وروى الحسن عن الأحنف بن قيس قال سمعت أبا بكر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
[ 504 ]
إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قلت يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه وروى معمر عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن ابني آدم ضربا لهذه الأمة مثلا فخذوا بالخير منهما وروى معمر عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف بك يا أبا ذر إذا كان بالمدينة قتل قال قلت ألبس سلاحي قال شاركت القوم إذ قال قلت فكيف أصنع يا رسول الله قال إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ناحية ثوبك على وجهك يبؤ بإثمك وإثمه فاحتجوا بهذه الآثار ولا دلالة لهم فيها فأما قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار فإنما أراد بذلك إذا قصد كل واحد منهما صاحبه ظلما على نحو ما يفعله أصحاب العصبية والفتنة وأما قوله صلى الله عليه وسلم إن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فافعل ولا تقتل أحدا من أهل القبلة فإنما عنى به ترك القتال في الفتنة وكف اليد عن الشبهة فأما قتل من استحق القتل فمعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينفه بذلك وأما قوله صلى الله عليه وسلم كن كخير ابني آدم فإنما عنى به أن لا يبدأ بالقتل وأما دفع القاتل عن نفسه فلم يمنعه فإن احتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير نفس فلا يجوز قتله قبل أن يقتل بقضية نفي النبي صلى الله عليه وسلم قتل المسلم إلا بإحدى ما ذكر وهذا لم يقتل بعد فلا يستحق القتل قيل له هذا القاصد لقتل غيره ظلما داخل في هذا الخبر لأنه أراد قتل غيره فإنما قتلناه بنفس من قصد لقتله لئلا يقتله فأحيينا نفس المقصود بقتلنا إياه ولو كان الأمر في ذلك على ما ذهبت إليه هذه الطائفة من حظر قتل من قصد قتل غيره ظلما والإمساك عنه حتى يقتل من يريد قتله لوجب مثله في سائر المحظورات إذا أراد الفاجر ارتكابها من الزنا وأخذ المال أن نمسك عنه حتى يفعلها فيكون في ذلك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستيلاء الفجار وغلبة الفساق والظلمة ومحو آثار الشريعة وما علم مقالة أعظم ضررا على الإسلام والمسلمين من هذه المقالة ولعمري إنها أدت إلى غلبة الفساق على أمور المسلمين واستيلائهم على بلدانهم حتى تحكموا فحكموا فيها بغير حكم الله وقد جر ذلك ذهاب الثغور وغلبة العدو حين ركن الناس إلى هذه المقالة في ترك قتال الفئة الباغية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنكار على الولاة والجوار والله المستعان ويدل على صحة قول الجمهور في ذلك وأن القاصد لقتل غيره ظلما يستحق القتل وأن على الناس كلهم أن يقتلوه قوله تعالى من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه
[ 505 ]
من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا فكان في مضمون الآية إباحة قتل المفسد في الأرض ومن أعظم الفساد قصد قتل النفس المحرمة فثبت بذلك أن القاصد لقتل غيره ظلما مستحق للقتل مبيح لدمه مطلب: من اراد قلع سنك فلك قتله إلى آخره قال أبو بكر ذكر ابن رستم عن محمد عن أبي حنيفة أنه قال في اللص ينقب البيوت يسعك قتله لقوله صلى الله عليه وسلم من قتل دون ماله فهو شهيد ولا يكون شهيدا إلا وهو مأمور بالقتال إن أمكنه فقد تضمن ذلك إيجاب قتله إذا قدر عليه وقال أيضا في رجل يريد قلع سنك قال فلك أن تقتله إذا كنت في موضع لا يعينك الناس عليه قال أبو بكر وذلك لأن قلع السن أعظم من أخذ المال فإذا جاز قتله لحفظ ماله فهو أولى بجواز القتل من أجلها قوله تعالى إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فإنه روي عن ابن عباس وابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي وقال غيرهم إثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك والمراد إني أريد أن تبوء بعقاب إثمي وإثمك لأنه لا يجوز أن يكون مراده حقيقة الإثم إذ غير جائز لأحد إرادة معصية الله من نفسه ولا من غيره كما لا يجوز أن يأمره بها ومعنى تبوء ترجع يقال باء إذا رجع إلى المباءة وهي المنزلة وباؤا بغضب الله رجعوا والبواء الرجوع بالقود وهم في هذه الأمر بواء أي سواء لأنهم يرجعون فيه إلى معنى واحد قوله تعالى فطوعت له نفسه قتل أخيه قال مجاهد شجعته نفسه على قتل أخيه وقال قتادة زينت له نفسه قتل أخيه وقيل ساعدته نفسه على قتل أخيه والمعنى في جميع ذلك أنه فعله طوعا من نفسه غير متكره الذي له ويقال إن العرب تقول طاع لهذه الظبية أصول الشجر وطاع فلان كذا أي أتاه طوعا ويقال انطاع بمعنى انقاد ويقال طوعت له نفسه ولا يقال أطاعته نفسه على هذا المعنى لأن قولهم أطاع يقتضي قصد أمنه لموافقة معنى الأمر وذلك غير موجود في نفسه وليس كذلك الطوع لأنه لا يقتضي أمرا ولا يجوز أن يكون آمرا لنفسه ولا ناهيا لها إذ كان موضوع الأمر والنهي ممن هو أعلى لمن دونه وقد يجوز أن يوصف بفعل يتناوله ولا يتعدى إلى غيره كقولك حرك غيره وقتل نفسه كما يقال حرك غيره وقتل غيره قوله تعالى فأصبح من الخاسرين يعني خسر نفسه بإهلاكه إياها لقوله تعالى إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ولا
[ 506 ]
دلالة في قوله فأصبح من الخاسرين على أن القتل كان ليلا وإنما المراد به وقت مبهم جائز أن يكون ليلا وجائز أن يكون نهارا وهو كقول الشاعر أصبحت عاذلتي معتلة وليس المراد النهار دون الليل وكقول الآخر بكرت لأن علي عواذلي * وقد يلحينني والومهته ولم يرد بذلك أول النهار دون آخره وهذا عادة العرب في إطلاق مثله والمراد به الوقت المبهم باب دفن الموتى قال الله تعالى فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه) قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك لم يدر كيف يصنع به حتى رأى غرابا جاء يدفن غرابا ميتا وفي هذا دليل على فساد ما روي عن الحسن أنهما رجلان من بني إسرائيل لأنه لو كان كذلك لكان قد عرف الدفن بجريان العادة فيه قبل ذلك وهو الأصل في سنة دفن الموتى وقال تعالى ثم أماته فأقبره [ عبس: 21 ] وقال تعالى ألم نجعل الأرض كفاتا أحياءا وأمواتا وقيل في معنى سوأة أخيه وجهان أحدهما جيفة أخيه لأنه لو تركه حتى ينتن لقيل لجيفة وسوأة والثاني عورة أخيه وجائز أن يريد الأمرين جميعا لاحتمالهما وأصل السوأة التكره ومنه ساءه يسوءه سوء إذا أتاه بما يتكرهه حتى وقص الله علينا قصته لنعتبر بها ونتجنب تعالى قبح ما فعله القاتل منهما وروي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهما ودعوا شرهما وقال الله تعالى فأصبح من النادمين قيل إنه ندم على القتل على غير جهة القربة إلى الله تعالى منه وخوف عقابه وإنما كان ندمه من حيث لم ينتفع بما فعل وناله ضرر بسببه من قبل أبيه وأمه ولو ندم على الوجه المأمور به لقبل الله توبته وغفر ذنوبه قوله تعالى من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل الآية فيه إبانة عن المعنى الذي من أجله كتب على بني إسرائيل ما ذكر في الآية وهو لئلا يقتل بعضهم بعضا فدل ذلك على أن النصوص قد ترد مضمنة بمعان يجب اعتبارها في أغيارها في إثبات الأحكام وفيه دليل على إثبات القياس ووجوب اعتبار المعاني التي علق بها الأحكام وجعلت عللا وأعلاما لها وقوله تعالى من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض يدل على أن من قتل
[ 507 ]
نفسا بنفس فلا لوم عليه وعلى أن من قتل نفسا بغير نفس فهو مستحق للقتل ويدل أيضا على أن الفساد في الأرض معنى يستحق به القتل وقوله تعالى فكأنما قتل الناس جميعا قد قيل فيه وجوه أحدها تعظيم الوزر والثاني أن عليه مثل مأثم كل قاتل من الناس لأنه سن القتل وسهله لغيره فكان كالمشارك له فيه وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما من قاتل ظلما إلا وعلى ابن آدم كفل من الإثم لأنه سن القتل وقال النبي صلى الله عليه وسلم من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة والثالث أن على الناس كلهم معونة ولي المقتول حتى يقيدوه منه فيكون كلهم خصومه في ذلك حتى يقاد منه كأنه قتل أولياءهم جميعا وهذا يدل على وجوب القود على الجماعة إذا قتلت واحدا إذ كانوا بمنزلة من قتل الناس جميعا وقوله تعالى ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا قال مجاهد من أحياها نجاها من الهلاك وقال الحسن إذا عفا عن دمها وقد وجب القود وقال غيرهم من أهل العلم زجر عن قتلها بما فيه حياتها قال أبو بكر يحتمل أن يريد بإحيائها معونة الولي على قتل القاتل واستيفاء القصاص منه حياة كما قال تعالى (ولكم في القصاص حياة ويحتمل أن يريد بإحيائها أن يقتل القاصد لقتل غيره ظلما فيكون محييا لهذا المقصود بالقتل ويكون كمن أحيا الناس جميعا لأن ذلك يردع القاصدين إلى قتل غيرهم عن مثله فيكون في ذلك حياة لسائر الناس من القاصدين للقتل والمقصودين فإن به فتضمنت هذه الآية ضروبا من الدلائل على الأحكام منها دلالتها على ورود الأحكام مضمنة بمعان يجب اعتبارها بوجودها وهذا يدل على صحة القول بالقياس والثاني إباحة قتل النفس بالنفس والثالث أن من قتل نفسا فهو مستحق للقتل والرابع من قصد قتل مسلم ظلما فهو مستحق القتل لأن قوله تعالى (من قتل نفسا بغير نفس كما دل على وجوب قتل النفس بالنفس فهو يدل على وجوب قتله إذا قصد قتل غيره إذ هو مقتول بنفس إرادة إتلافها والخامس الفساد في الأرض يستحق به القتل والسادس احتمال قوله تعالى فكأنما قتل الناس جميعا أن عليه مأثم كل قاتل عبده لأنه سن القتل وسهله لغيره والسابع أن على الناس كلهم معونة ولي المقتول حتى يقيدوه منه والثمن دلالتها على وجوب قتل الجماعة إذا قتلوا واحدا والتاسع قوله تعالى فكأنما أحيا الناس جميعا على معونة الولي على قتل القاتل والعاشر دلالته أيضا على قتل من قصد قتل غيره ظلما والله أعلم بالصواب
[ 508 ]
باب حد المحاربين قال الله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا) الآية قال أبو بكر قوله تعالى يحاربون الله هو مجاز ليس بحقيقة لأن الله يستحيل أن يحارب وهو يحتمل وجهين أحدهما أنه سمى الذين يخرجون ممتنعين مجاهرين بإظهار السلاح وقطع الطريق محاربين لما كانوا بمنزلة من حارب غيره من الناس ومانعه فسموا محاربين تشبيها لهم بالمحاربين من الناس كما قال تعالى ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله وقوله إن الذين يحادون الله ورسوله) [ المجادة: 5 و 20 ] ومعنى المشاقة أواحد منهما في شق يباين صاحبه معنى المحادة أن يصير كل واحد منهما في حد على وجه المفارقة وذلك يستحيل على الله تعالى إذ ليس بذي مكان فيشاق عمر أو يحاد أو تجوز عليه المباينة والمفارقة ولكنه تشبيه بالمعادين النبي إذ صار كل واحد منهما في شق وناحية على وجه المباينة وذلك منه على وجه المبالغة في إظهار المخالفة والمباينة فكذلك قوله تعالى يحاربون الله يحتمل أن يكونوا سموا بذلك تشبيها بمظهري الخلاف على غيرهم ومحاربتهم إياهم من الناس وخصت هذه الفرقة بهذه السمة لخروجها ممتنعة بأنفسها لمخالفة أمر الله تعالى وانتهاك الحريم وإظهار السلاح ولم يسم بذلك كل عاص لله تعالى إذ ليس بهذه المنزلة في الامتناع وإظهار المبالغة في أخذ الأموال وقطع الطريق ويحتمل أن يريد الذين يحاربون أولياء الله ورسوله كما قال تعالى إن الذين يؤذون الله والمعنى يؤذون أولياء الله ويدل على ذلك أنهم لو حاربوا رسول الله لكانوا مرتدين بإظهار محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد يصح إطلاق لفظ المحاربة لله ولرسوله على من عظمت جريرته بالمجاهرة بالمعصية وإن كان من أهل الملة والدليل عليه ما روى زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر بن الخطاب رأى معاذا يبكي فقال ما يبكيك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اليسير من الربا شرك ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة فأطلق عليهم اسم المحاربة ولم يذكر الردة ومن حارب مسلما على أخذ ماله فهو معاد لأولياء الله تعالى بذلك وروى أسباط عن السدي عن صبيح مولى أم سلمة عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين أنا حرب لمن حاربتم سلم لمن سالمتم فاستحق من حاربهم اسم المحارب لله ولرسوله وإن لم يكن مشركا فثبت بما ذكرنا أن قاطع الطريق يقع عليه اسم المحارب لله عز وجل ولرسوله ويدل عليه أيضا ما روى أشعث عن الشعبي عن سعد بن قيس أن حارثة بن بدر حارب الله وسوله
[ 509 ]
وسعى في الأرض فسادا وتاب من قبل أن يقدر عليه فكتب علي رضي الله عنه إلى عامله بالبصرة أن حارثة بن بدر حارب الله ورسوله وتاب من قبل أن نقدر عليه فلا تعرضن إلا بخير فأطلق عليه اسم المحارب لله ورسوله ولم يرتد وإنما قطع الطريق فهذه الأخبار وما ذكرنا من معنى الآية دليل على أن هذا الاسم يلحق قطاع الطريق وإن لم يكونوا كفارا ولا مشركين مع أنه لا خلاف بين السلف والخلف من فقهاء الأمصار أن هذا الحكم غير مخصوص بأهل الردة وأنه فيمن قطع الطريق وإن كان من أهل الملة وحكي عن بعض المتأخرين ممن لا يعتد به أن ذلك مخصوص بالمرتدين وهو قول ساقط مردود مخالف للآية وإجماع السلف والخلف ويدل على أن المراد به قطع الطريق من أهل الملة قوله تعالى إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم ومعلوم أن المرتدين لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقطها عنهم قبل القدرة وقد فرق الله بين توبتهم قبل القدرة أو بعدها وأيضا فإن الإسلام لا يسقط الحد عمن وجب عليه فعلمنا أن المراد قطاع الطريق من أهل الملة وأن توبتهم من الفعل قبل القدرة عليهم هي المسقطة للحد عنهم وأيضا فإن المرتد يستحق القتل بنفس الردة دون المحاربة والمذكور في الآية من استحق القتل بالمحاربة فعلمنا أنه لم يرد المرتد وأيضا ذكر فيه نفي من لم يتب قبل القدرة عليه والمرتد لا ينفى فعلمنا أن حكم الآية جار في أهل الملة وأيضا فإنه لا خلاف أن أحدا لا يستحق قطع اليد والرجل بالكفر وأن الأسير من أهل الردة متى حصل في أيدينا عرض عليه الإسلام فإن اسلم وإلا قتل ولا تقطع يده ولا رجله وأيضا فإن الآية أوجبت قطع يد المحارب ورجله ولم توجب منه شيئا آخر ومعلوم أن المرتد لا يجوز أن تقطع يده ورجله ويخلى سبيله بل يقتل إن لم يسلم والله تعالى قد أوجب الاقتصار بهم في حال على قطع اليد والرجل دون غيره وأيضا ليس من حكم المرتدين الصلب فعلمنا أن الآية في غير أهل الردة ويدل عليه أيضا قوله تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وقال في المحاربين إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم فشرط في زوال الحد عن المحاربين وجود التوبة منهم قبل القدرة عليهم وأسقط عقوبة الكفر بالتوبة قبل القدرة وبعدها فلما علم انه لم يرد بالمحاربين أهل الردة فهذه الوجوه التي ذكرناها كلها دالة على بطلان قول من ادعى خصوص الآية في المرتدين فإن قال قائل قد روى قتادة وعبد العزيز بن صهيب وغيرهما عن أنس قال قدم على النبي صلى الله عليه وسلم أناس من عرينة فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو خرجتم إلى ذودنا فشربتم
[ 510 ]
من ألبانها وأبوالها ففعلوا فلما صحوا قاموا إلى راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوه ورجعوا كفارا واستاقوا ذود رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل في طلبهم فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا قيل له إن خبر العرنيين مختلف فيه فذكر بعضهم عن أنس نحو ما ذكرنا وزاد فيه أنه كان سبب نزول الآية وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت في أصحاب أبي برزة الأسلمي وكان موادعا للنبي صلى الله عليه وسلم فقطعوا الطريق على قوم جاؤا يريدون الإسلام فنزلت فيهم وروى عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في المشركين فلم يذكر مثل قصة العرنيين وروي عن ابن عمر أنها نزلت في العرنيين ولم يذكر ردة مطلب: الحكم لعموم اللفظ إلا أن تقوم الدلالة على الاقتصار به على السبب ولا يخلو نزول الآية من أن يكون في شأن العرنيين أو الموادعين فإن كان نزولها في العرنيين وأنهم ارتدوا فإن نزولها في شأنهم لا يوجب الاقتصار بها عليهم لأنه لا حكم للسبب عندنا وإنما الحكم عندنان لعموم اللفظ إلا أن تقوم الدلالة على الاقتصار به على السبب وأيضا فإن من ذكر نزولها في شأن العرنيين فإنه ما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية شيئا وإنما تركهم في الحرة حتى ماتوا ويستحيل نزول الآية في الأمر بقطع من قد قطع وقتل من قد قتل لأن ذلك غير ممكن فعلمنا أنهم غير مرادين بحكم الآية ولأن الآية عامة في سائر من يتناوله الاسم غير مقصور الحكم على المرتدين وقد روى همام عن قتادة عن ابن سيرين قال كان أمر العرنيين قبل أن ينزل الحدود فأخبر أنه كان قبل نزول الآية ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعينهم وذلك منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة وأيضا لما كان نزول الآية بعد قصة العرنيين واقتصر فيها على ما ذكر ولم يذكر سمل الأعين فصار سمل الأعين منسوخا بالآية لأنه لو كان حدا معه لذكره وهو مثل ما روي في خبر عبادة في البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب الجلد والرجم ثم أنزل الله تعالى الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) [ النور: 2 ] فصار الحد هو ما في الآية دون غيره وصار النفي منسوخا بها ومما يدل على أن الآية لم تنزل في العرنيين وأنها نزلت بعدهم أن فيها ذكر القتل والصلب وليس فيها ذكر سمل الأعين وغير جائز أن تكون الآية نزلت قبل إجراء الحكم عليهم وأن يكونوا مرادين بها لأنه لو كان كذلك لأجرى النبي صلى الله عليه وسلم حكمها عليهم فلما لم يصلبوا وسملهم دل على أن حكم الآية لم يكن ثابتا حينئذ فثبت بذلك أن حكم الآية غير مقصور على المرتدين وأنه عام في سائر المحاربين
[ 511 ]
ذكر الاختلاف في ذلك قال السلف وفقهاء الأمصار في حكم الآية من وجوه أنا ذاكرها بعد اتفاقهم على أن حكم الآية جار في أهل الملة إذا قطعوا الطريق فروى الحجاج بن أرطاة عن عطية العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا الآية قال إذا حارب الرجل فقتل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف وقتل وصلب فإن قتل ولم يأخذ المال قتل وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف وإذا لم يقتل ولم يأخذ المال نفي وروى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم في الرجل يقطع الطريق ويأخذ المال ويقتل إن الإمام فيه بالخيار إن شاء قطع يده ورجله من خلاف وقتله وصلبه وإن شاء صلبه ولم يقطع يده ولا رجله وإن شاء قتله ولم يصلبه فإن أخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف وإن لم يأخذ مالا ولم يقتل عزر ونفي من الأرض ونفيه حبسه وفي رواية أخرى أوجع عقوبة وحبس حتى يحدث خيرا وهو قول الحسن رواية وسعيد بن جبير وحماد وقتادة وعطاء الخراساني فهذا قول السلف الذين جعلوا حكم الآية على الترتيب وقال الآخرون الإمام مخير فيهم إذا خرجوا يجري عليهم أي هذه الأحكام شاء وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا وممن قال ذلك سعيد بن المسيب ومجاهد والحسن رواية وعطاء بن أبي رباح وقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد إذا قتل المحاربون ولم يعدوا ذلك قتلوا وإن أخذوا المال ولم يعدوا ذلك قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف لا خلاف بين أصحابنا في ذلك فإن قتلوا وأخذوا المال فإن أبا حنيفة قال للإمام أربع خيارات إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وقتلهم وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم وإن شاء صلبهم وإن شاء قتلهم وترك القطع وقال أبو يوسف ومحمد إذا قتلوا وأخذوا المال فإنهم يصلبون ويقتلون ولا يقطعون وروي عن أبي يوسف في الإملاء أنه قال إن شاء قطع يده ورجله وصلبه فأما الصلب فلا أعفيه منه وقال الشافعي في قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا إذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف وإذا خافوا السبيل نفوا وإذا هربوا طلبوا حتى يؤخذوا فيقام عليهم الحدود إلا من تاب قبل أن نقدر عليه سقط عنه الحد ولا يسقط حقوق الآدميين ويحتمل أن يسقط كل حق لله تعالى بالتوبة ويقطع من أخذ ربع دينار فصاعدا وقال مالك إذا أخذ المحارب المخيف للسبيل فإن الإمام مخير في إقامة أي الحدود التي أمر الله تعالى بها قتل المحارب أو لم يقتل أخذ مالا أو لم يأخذ الإمام مخير في ذلك إن شاء قتله وإن شاء قطعه خلافا وإن شاء
[ 512 ]
نفاه ونفيه حبسه حتى يظهر توبة فإن لم يقدر على المحارب حتى يأتيه تائبا وضع عنه حد المحاربة القتل والقطع والنفي وأخذ بحقوق الناس وقال الليث بن سعد الذي يقتل ويأخذ المال يصلب فيطعن بالحربة حتى يموت والذي يقتل فإنه يقتل بالسيف وقال أبو الزناد في المحاربين ما يصنع الوالي فيهم فهو صواب من قتل أو صلب أو قطع أو نفي وإن قال أبو بكر الدليل على أن حكم الآية على الترتيب الذي ذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير نفس فنفى صلى الله عليه وسلم قتل من خرج عن هذه الوجوه الثلاثة ولم يخصص فيه قاطع الطريق فانتفى بذلك قتل من لم يقتل من قطاع الطريق وإذا انتفى قتل من لم يقطع وجب قطع يده ورجله إذا أخذ المال وهذا لا خلاف فيه فإن قيل روى إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن رفيع عن عبيد بن عمير عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان ورجل قتل رجلا فقتل به ورجل خرج محاربا لله ولرسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض قيل له قد روي هذا الحديث من وجوه صحاح ولم يذكر فيه قتل المحارب ورواه عثمان وعبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه قتل المحارب والصحيح منها ما لم يذكر ذلك فيه لأن المرتد لا محال مستحق للقتل بالاتفاق وهو أحد الثلاثة المذكورين في خبر هؤلاء فلم يبق من الثلاثة غيرهم ويكون المحارب إذا لم يقتل خارجا منهم وإن صح ذكر المحارب فيه فالمعنى فيه إذا قتل حتى يكون موافقا للإخبار الآخر وتكون فائدته جواز قتله على وجه الصلب فإن قيل فقد ذكر فيه أو ينفى من الأرض قيل له لا يمتنع أن يكون مبتدأ قد أضمر فيه إن لم يقتل فإن قيل فقد يقتل الباغي وإن لم يقتل وهو خارج عن الثلاثة المذكورين في الخبر قيل له ظاهر الخبر ينفي قتله وإنما قتلناه بدلالة الاتفاق وبقي حكم الخبر في نفي قتل المحارب إلا أن يقتل على العموم وأيضا فإن الخبر إنما ورد فيمن استحق القتل بفعل سبق منه واستقر حكمه عليه كالزاني المحصن والمرتد والقاتل والباغي لا يستحق القتل على هذا الوجه وإنما يقتل على وجه الدفع ألا ترى أنه لو قعد في بيته ولم يقتل وإن كان معتقدا لمقالة أهل البغي فثبت بما وصفنا أن حكم الآية على الترتيب على الوجه الذي بينا لا على التخيير ويدل على أن في الآية ضميرا ولا تخيير فيها اتفاق الجميع على أنهم لو أخذوا المال ولم يقتلوا لم يجز للإمام أن ينفيه ويترك قطع
[ 513 ]
يده ورجله وكذلك لو قتلوا وأخذوا المال لم يجز للإمام أن يعفيه من القتل أو الصلب ولو كان الأمر على ما قال القائلون بالتخيير لكان التخيير ثابتا فيما إذا أخذوا المال وقتلوا أو أخذوا المال ولم يقتلوا فلما كان ذلك على ما وصفنا ثبت أن في الآية ضميرا وهو أن يقتلوا إن قتلوا أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال ولم يقتلوا أن ينفوا من الأرض إن خرجوا ولم يفعلوا شيئا من ذلك حتى ظفر بهم واحتج القائلون بالتخيير بظاهر الآية وبقوله تعالى من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا فدل على أن الفساد في الأرض بمنزلة قتل النفس في باب وجوب قتله، والمحاربون مفسدون في الارض بخروجهم وامتناعهم وإخافتهم السبيل وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا وليس ما ذكروه بموجب للتخيير مع قيام الدلالة على ضمير الآية وتعلق الحكم به دون مقتضى ظاهرها وهو ما قدمنا من أنها لو كانت موجبة للتخيير ولم يكن فيها ضمير لكان الخيار باقيا إذا قتلوا وأخذوا المال في العدول عن قتلهم وقطعهم إلى نفيهم فلما ثبت أنه غير جائز العدول عن القتل والقطع في هذه الحال صح أن معناها أن يقتلوا إن قتلوا أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال أو تقطع أيديهم وأرجهلم من خلاف إن أخذوا المال فإن قال قائل إنما أوجب قتلهم إذا قتلوا وقطعهم إذا أخذوا المال ولم يجز العدول عنه إلى النفي لأن القتل على الإنفراد يستحق به القتل وإن لم يكن محاربا وأخذ المال يستحق به القطع إذا كان سارقا فلذلك لم يجز في هذه الحال العدول إلى النفي وترك القتل أو القطع قيل له قتل المحارب في هذه الحال وقطعه حد ليس على وجه القود ألا ترى أن عفو الأولياء غير جائز فيه فثبت أنه إنما يستحق ذلك على وجه الحد لأنه قتل على وجه المحاربة ووجب قطعه لأخذه المال على وجه المحاربة فإذا لم يقتل ولم يأخذ مالا لم يجز أن يقتل ولا يقطع لأنه لو كان القتل واجبا حدا لما جاز العدول عنه إلى النفي وكذلك القطع كما أنهم إذا قتلوا وأخذوا المال لم يجز العدول عن القتل أو القطع إلى النفي إذ كان وجوب ذلك على وجه الحد وفي ذلك دليل على أن المحارب لا يستحق القتل إلا إذا قتل ولا القطع إلا إذا أخذ المال ويصلح أن يكون ذلك دليلا مبتدأ لأن القتل إذا وجب حدا لم يجز العدول عنه إلى غيره وكذلك القطع كالزاني والسارق فلما جاز للإمام أن يعدل عن قتل المحارب الذي لم يقتل إلى النفي علمنا أنه غير مستحق للقتل بنفس الخروج وكما لو قتل لم يجز أن يعفى عن قتله فلو كان يستحق القتل بنفس المحاربة لما جاز أن يعدل عنه كما لم يجز أن يعدل عنه إذا قتل
[ 514 ]
وأما قوله تعالى من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض وتسويته بين قتل النفس بغير النفس وبين الفساد في الأرض فإنما المراد الفساد في الأرض الذي يكون معه قتل أو قتله في حال إظهار الفساد فيقتل على وجه الدفع ونحن قد نقتل المحارب الذي لم يقتل على وجه الدفع وإنما الكلام فيمن صار في يد الإمام قبل أن يتوب هل يجوز أن يقتله إذا لم يقتل فأما على وجه الدفع فلا خلاف فيه فجائز أن يكون المراد من قوله تعالى أو فساد في الأرض على هذا الوجه لأن الفساد في الأرض لو كان يستحق به القتل لما جاز العدول عنه إلى النفي فلما جاز عند الجميع نفيه دل على أنه غير مستحق للقتل فصح بما وصفنا قول من قال بإيجاب ترتيب حكم الآية على الوجه الذي ذكرنا وأيضا فإن الوصول إلى القتل لا يستحق بأخذ المال ولا القصد له ومعلوم أن المحاربين إنما خرجوا لأخذ المال فإن كان القتل غير مستحق لأخذ المال في الأصول فالقصد لأخذه أولى أن لا يستحق به القتل على وجه الحد فإذا خرج المحاربون وقتلوا قتلوا حدا لأجل القتل وليس قتلهم هذا لأن القتل يستحق به القتل في الأصول إلا أنه لما قتله على جهة إظهار الفساد في الأرض تأكد حكمه بأن أوجب قتله على أنه حق لله تعالى لا يجوز فيه عفو الأولياء فإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف لما في الآية من ذكر ذلك وقطع اليد والرجل يستحق بأخذ المال في الأصول ألا ترى أن السارق تقطع يده فإن عاد فسرق قطعت رجله إلا أنه غلظت عقوبته حين كان أخذه للمال على وجه الفساد في الأرض فإن قتل وأخذ فالإمام فيه بالخيار على ما ذكرنا من اختلاف أصحابنا فيه فكان عند أبي حنيفة له أن يجمع عليه قطع اليد والرجل والصلب والقتل وكان جميع ذلك عنده حدا واحدا وكذلك لما استحق القتل والقطع بالقتل وأخذ المال على وجه المحاربة صار جميع ذلك حدا واحدا ألا ترى أن القتل في هذا الموضع مستحق على وجه الحد كالقطع وأن عفو الأولياء فيه لا يجوز فدل ذلك على أنهما جميعا حد واحد فلذلك كان للإمام أن يجمعهما جميعا وله أن يقتلهم فيدخل فيه قطع اليد والرجل وذلك لأنه لم يؤخذ على الإمام الترتيب في التبدئة ببعض ذلك دون بعض فله أن يبدأ بالقتل أو بالقطع فإن قال قائل هلا قتلته وأسقطت القطع كمن سرق وقتل أنه يقتل ولا يقطع قيل له ما بينا من أن جميع ذلك حد واحد مستحق بسب واحد هو القتل وأخذ المال على وجه المحاربة وأما السرقة والقتل فكل واحد منهما مستحق بسبب غير السبب الذي به استحق الآخر وقد أمرنا بدرء الحدود ما استطعنا فلذلك بدأنا بالقتل لندرأ كما أحد الحدين وليس في مسئلتنا درء أحد الحدين وإنما هو حد واحد فلم يلزمنا إسقاط بعضه
[ 515 ]
وإيجاب بعض وهو مخير أيضا بين أن يقتله صلبا وبين الاقتصار على القتل دون الصلب لقوله تعالى أن يقتلوا أو يصلبوا وذكر أبو جعفر الطحاوي أن الصلب المذكور في آية المحارب هو الصلب بعد القتل في قول أبي حنيفة وكان أبو الحسن الكرخي يحكي عن أبي يوسف أنه يصلب ثم يقتل يبعج بطنه برمح أو غيره فيقتل وقال أبو الحسن هذا هو الصحيح وصلبه بعد القتل لا معنى له لأن الصلب عقوبة وذلك يستحيل في الميت فقيل له لم لا يجوز أن يصلب بعد القتل ردعا لغيره فقال لأن الصلب إذا كان موضوعه للتعذيب والعقوبة لم يجز إيقاعه إلا على الوجه الموضوع في الشريعة فإن قال قائل إذا كان الله تعالى إنما أوجب القتل أو الصلب على وجه التخيير فكيف يجوز جمعهما عليه قيل له أراد قتلا على غير وجه الصلب إذا قتل ولم يأخذ المال وأراد قتلا على وجه الصلب إذا قتل وأخذ المال فغلظت العقوبة عليه في صفة القتل لجمعه بين القتل وأخذ المال وروى مغيرة عن إبراهيم قال يترك المصلوب من المحاربين على الخشبة يوما وقال يحيى بن آدم ثلاثة أيام واختلف في النفي فقال أصحابنا هو حبسه حيث يرى الإمام وروي مثله عن إبراهيم وروي عن إبراهيم رواية أخرى وهو أن ينفيه طلبه وقال مالك ينفى إلى بلد آخر غير البلد الذي يستحق فيه العقوبة فيحبس هناك وقال مجاهد وغيره هو أن يطلب الإمام الحد عليه حتى يخرج عن دار الإسلام قال أبو بكر فأما من قال إنه ينفى عن كل بلد يدخل فهو إنما ينفيه عن البلد الذي هو فيه والإقامة فيه وهو حينئذ غير منفي من التصرف في غيره فلا معنى لذلك ولا معنى أيضا لحبسه في بلد غير بلده إذ الحبس يستوي في البلد الذي أصاب فيه وفي غيره فالصحيح إذا حبسه في بلده وأيضا فلا يخلو قوله تعالى أو ينفوا من الأرض من أن يكون المراد به نفيه من جميع الأرض وذلك محال لأنه لا يمكن نفيه من جميع الأرض إلا بأن يقتل ومعلوم أنه لم يرد بالنفي القتل لأنه قد ذكر في الآية القتل مع النفي أو يكون مراده نفيه من الأرض التي خرج منها محاربا من غير حبسه لأنه معلوم أن المراد بما ذكره زجره عن إخافة السبيل وكف أذاه عن المسلمين وهو إذا صار إلى بلد آخر فكان هناك مخلا كانت معرته قائمة على المسلمين إذا كان تصرفه هناك كتصرفه في غيره أو أن يكون المراد نفيه عن دار الإسلام وذلك ممتنع أيضا لأنه لا يجوز نفي المسلم إلى دار الحرب لما فيه من تعريضه للردة ومصيره إلى أن يكون حربيا فثبت أن معنى النفي هو نفيه عن سائر الأرض إلا موضع حبسه الذي لا يمكنه فيه العبث والفساد
[ 516 ]
مطلب: إقامة الحد على قاطع الطريق لا تكون كفارة لذنوبه وقوله تعالى ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم يدل على أن إقامة الحد عليه لا تكون كفارة لذنوبه لإخبار الله تعالى بوعيده في الآخرة بعد إقامة الحد عليهم قوله تعالى إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) استثناء لمن تاب منهم من قبل القدرة عليهم وإخراج لهم من جملة من أوجب الله عليه الحد لأن الاستثناء إنما هو إخراج بعض ما انتظمته الجملة منها كقوله تعالى إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته فأخرج آل لوط من جملة المهلكين وأخرج المرأة بالاستثناء من جملة المنجين وكقوله تعالى فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس) فكان إبليس خارجا من جملة الساجدين فكذلك لما استثناهم من جملة من أوجب عليهم الحد إذا تابوا قبل القدرة عليهم فقد نفى إيجاب الحد عليهم وقد أكد ذلك بقوله تعالى فاعلموا أن الله غفور رحيم كقوله تعالى قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف عقل بذلك سقوط عقوبات الدنيا والآخرة عنهم فإن قال قائل قد قال في السرقة فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم ومع ذلك فليست توبة السارق مسقطة للحد عنه قيل له لأنه لم يستثنهم من جملة من أوجب عليهم الحد وإنما أخبر أن الله غفور رحيم لمن تاب منهم وفي آية المحاربين استثناء يوجب إخراجهم من الجملة وأيضا فإن قوله تعالى (فمن تاب من بعد ظلمه واصلح) يصح أن يكون كلاما مبتدأ مستغنيا بنفسه عن تضمينه بغيره وكل كلام اكتفى بنفسه لم نجعله مضمنا بغيره إلا بدلالة وقوله تعالى (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم مفتقر في صحته إلى ما قبله فمن أجل ذلك كان مضمنا به مطلب: إذا سقط الحد وجب ضمان المال ومتى سقط الحد المذكور في الآية وجبت حقوق الآدميين من القتل والجراحات وضمان الأموال وإذا وجب الحد سقط ضمان حقوق الآدميين في المال والنفس والجراحات وذلك لأن وجوب الحد بهذا الفعل يسقط ما تعلق به من حق الآدمي كالسارق إذا سرق وقطع لم يضمن السرقة وكالزاني إذا وجب عليه الحد لم يلزمه المهر وكالقاتل هو إذا وجب عليه القود لم يلزمه ضمان المال كذلك المحاربون إذا وجب عليهم الحد سقطت حقوق الآدميين فإذا سقط الحد عن المحارب وجب ضمان ما تناوله من مال أو نفس كالسارق إذا در عنه الحد وجب عليه ضمان المال وكالزاني إذا سقط عنه الحد لزمه آخر
[ 517 ]
واختلف في الموضع الذي يكون به محاربا فقال أبو حنيفة من قطع الطريق في المصر ليلا أو نهارا أو بين الحيرة والكوفة ليلا أو نهارا فلا يكون قاطعا للطريق إلا في الصحارى وحكى أصحاب الإملاء عن أبي يوسف أن الأمصار وغيرها سواء وهم المحاربون يقام حدهم وروي عن أبي يوسف في اللصوص الذين يكبسون الناس ليلا في دورهم في المصر أنهم بمنزلة قطاع الطريق يجري عليهم أحكامهم وحكي عن مالك أنه لا يكون محاربا حتى يقطع على ثلاثة أميال من القرية وذكر عنه أيضا قال المحاربة أن يقاتلوا على طلب المال من غير نائرة ولم يفرق ههنا بين المصر وغيره وقال الشافعي قطاع الطريق الذين يعرضون بالسلاح للقوم حتى يغصبوهم المال والصحارى والمصر واحد وقال الثوري لا يكون محاربا بالكوفة حتى يكون خارجا منها قال أبو بكر روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا قطع على خائن ولا مختلس فنفى عليه السلام القطع عن المختلس والمختلس هو الذي يختلس الشئ وهو ممتنع فوجب بذلك اعتبار المنعة من المحاربين وأنهم متى كانوا في موضع لا يمكنهم أن يمتنعوا وقد يلحق من قصدوه الغوث من قبل المسلمين أن لا يكونوا محاربين وأن يكونوا بمنزلة المختلس والمتهب كالرجل الواحد إذا فعل ذلك في المصر فيكون مختلسا غاصبا لا يجري عليه أحكام قطاع الطريق وإذا كانت جماعة ممتنعة في الصحراء فهؤلاء يمكنهم أخذ أموال السابلة قبل أن يلحقهم الغوث فباينوا بذلك المختلس ومن ليس له امتناع في أحكامهم ولو وجب أن يستوي حكم المصر وغيره لوجب استواء حكم الرجل الواحد والجماعة ومعلوم أن الرجل الواحد لا يكون محاربا في المصر لعدم الامتناع منه فكذلك ينبغي أن يكون حكم الجماعة في المصر لفقد الامتناع منهم على أهل المصر وأما إذا كانوا في الصحراء فهم ممتنعون غير مقدور عليهم إلا بالسلب والقتال فلذلك اختلف حكمهم وحكم من في المصر فإن قال قائل إن كان الاعتبار بما ذكرت فواجب أن يكون العشرة من اللصوص إذا اعترضوا قافلة فيها ألف رجل غير محاربين إذ قد يمكنهم الامتناع عليهم قيل له صاروا محاربين بالامتناع والخروج سواء قصدوا القافلة أو لم يقصدوها فلا يزول عنهم هذا الحكم بعد ذلك بكون القافلة ممتنعة منهم كما لا يزول بكون أهل الأمصار ممتنعين منهم وأجرى أبو يوسف على اللصوص في المصر حكم المحاربين لامتناعهم والخروج على وجه المحاربة لأخذ المال فلا يختلف حكمهم بالمصر وغيره كما أن سائر ما يوجب الحد من الزنا والسرقة والقذف والقتل لا يختلف أحكام فاعليها بالمصر وغيره
[ 518 ]
فصل واعتبر أصحابنا في إيجاب قطع المحارب مقدار المال المأخوذ بأن يصيب كل واحد منهم عشرة دراهم واعتبر الشافعي ربع دينار كما اعتبره في قطع السارق ولم يعتبره مالك لأنه يروى إجراء الحكم عليها بالخروج قبل أخذ المال فصل وقال أصحابنا إذا كان الذي ولي القتل وأخذ المال بعضهم كان حكم جميعهم حكم المحاربين يجري الحكم عليهم وذلك لأن حكم المحاربة والمنعة لم يحصل إلا بإجتماعهم جميعا فلما كان السبب الذي تعلق به حكم المحاربة وهو المنعة حصل باجتماعهم جميعا وجب أن لا يختلف حكم من ولي القتل منهم ومن كان عونا أو ظهيرا والدليل عليه أن الجيش إذا غنموا من أهل الحرب لم يختلف فيه حكم من ولي القتال منهم ومن كان منهم ردأ وظهيرا ولذلك لم يختلف حكم من قتل بعصا أو بسيف إذ كان من لم يل القتال يجري عليه الحكم باب قطع السارق قال الله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما روى سفيان عن جابر عن عامر قال قراءة عبد الله فاقطعوا أيديهما وروى ابن عوف عن إبراهيم في قراءتنا فاقطعوا أيمانهما قال أبو بكر لم تختلف الأمة في أن اليد المقطوعة بأول سرقة هي اليمين فعلمنا أن مراد الله تعالى بقوله أيديهما أيمانهما فظاهر اللفظ في جمعه الأيدي من الإثنين يدل على أن المراد اليد الواحدة من كل واحد منهما كقوله تعالى إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما لما كان لكل واحد منهما قلب واحد أضافه إليها بلفظ الجمع كذلك لما أضاف الأيدي إليهما بلفظ الجمع دل على أن المراد إحدى اليدين من كل واحد منهما وهي اليمنى وقد اختلف في قطع اليسرى في المرة الثالثة وفي قطع الرجل اليمنى في الرابعة وسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى ولم تختلف الأمة في خصوص هذه الآية لأن اسم السارق يقع على سارق الصلاة قال النبي صلى الله عليه وسلم إن أسوأ الناس سرقة هو الذي يسرق صلاته قيل له يا رسول الله وكيف يسرق صلاته قال لا يتم ركوعها وسجودها ويقع على سارق اللسان روى ليث بن سعد قال حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله عن أبي رهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أسرق السارق الذي يسرق لسان الأمير فثبت بذلك أنه لم يرد كل سارق
[ 519 ]
والسرقة اسم لغوي مفهوم المعنى عند أهل اللسان بنفس وروده غير محتاج إلى بيان وكذلك حكمه في الشرع وإنما علق بهذا الاسم حكم القطع كالبيع والنكاح والإجارة وسائر الأمور المعقولة معانيها من اللغة قد علقت بها أحكام يجب اعتبار عمومها بوجود الاسم إلا ما قام دليل خصوصه فلو خلينا وظاهر قوله السارق والسارقة لوجب إجراء الحكم على الاسم إلا ما خصه الدليل إلا أنه قد ثبت عندنا أن الحكم متعلق بمعنى غير الاسم يجب اعتباره في إيجابه وهو الحرز والمقدار فهو مجمل من جهة المقدار يحتاج إلى بيان من غيره في إثباته فلا يصح من أجل ذلك اعتبار عمومه في إيجاب القطع في كل مقدار والدليل على إجماله وامتناع اعتبار عمومه ما حدثنا عبد الباقي قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا عبد الرحمن بن المبارك قال حدثنا وهيب عن أبي واقد قال حدثني عامر بن سعد عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقطع يد السارق إلا في ثمن المجن وروى ابن لهيعة عن أبي النضر عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تقطع يد السارق إلا فيما بلغ ثمن المجن فما فوقه وروى سفيان عن منصور عن مجاهد عن عطاء عن أيمن الحبشي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أدنى ما يقطع فيه السارق ثمن المجن فثبت بهذه الأخبار أن حكم الآية في إيجاب القطع موقوف على ثمن المجن فصار ذلك كوروده مع الآية مضموما إليها وكان تقديرها والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما إذا بلغت السرقة ثمن المجن وهذا لفظ مفتقر إلى البيان غير مكتف بنفسه في إثبات الحكم وما كان هذا سبيله لم يصح الاحتجاج بعمومه ووجه آخر يدل على إجمالها في هذا الوجه وهو ما روى عن السلف في تقويم المجن فروي عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأيمن الحبشي وأبي جعفر وعطاء وإبراهيم في آخرين أن قيمته كانت عشرة دراهم وقال ابن عمر قيمته ثلاثة دراهم وقال أنس وعروة والزهري وسليمان بن يسار قيمته خمسة دراهم وقالت عائشة ثمن المجن ربع دينار ومعلوم أنه لم يكن ذلك تقويما منهم لسائر المجان لأنها تختلف كاختلاف الثياب وسائر العروض فلا محالة أن ذلك كان تقويما للمجن وسلم الذي قطع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعلوم أيضا أنهم لم يحتاجوا إلى تقويمه من حيث قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم إذ ليس في قطع النبي صلى الله عليه وسلم في شئ بعينه دلالة على نفي القطع عما دونه كما أن قطعه السارق في المجن غير دال على أن حكم القطع مقصور عليه دون غيره إذ كان ما فعله بعض ما تناوله لفظ العموم على حسب حدوث الحادثة فإذا لا محالة قد كان من النبي صلى الله عليه وسلم توقيف لهم حين قطع السارق على نفي القطع فيما دونه فدل ذلك على إجمال حكم الآية في المقدار كدلالة الأخبار التي قدمناها لفظا من نفي القطع عما دونه قيمة المجن فلم يجز من أجل ذلك اعتبار عموم الآية في إثبات المقدار
[ 520 ]
ووجب طلب معرفة قيمة المجن الذي قطع فيه النبي صلى الله عليه وسلم وليس إجمالها في المقدار بموجب إجمالها في سائر الوجوه من الحرز وجنس المقطوع فيه وغير ذلك بل جائز أن يكون عموما في هذه الوجوه مجملا في حكم المقدار فحسب كما أن قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة عموم في جهة الأموال الموجب فيها الصدقة مجمل في المقدار الواجب منها وكان شيخنا أبو الحسن يذهب إلى أن الآية مجملة من حيث علق فيها الحكم بمعان لا يقتضيها اللفظ من طريق اللغة وهو الحرز والمقدار والمعاني المعتبرة في إيجاب القطع متى عدم منها شئ لم يجب القطع مع وجود الاسم لأن اسم السرقة موضوع في اللغة لأخذ الشئ على وجه الاستخفاء ومنه قيل سارق اللسان وسارق الصلاة تشبيها بأخذ الشئ على وجه الاستخفاء والأصل فيها ما ذكرنا وهذه المعاني التي ذكرنا اعتبارها في الإيجاب القطع لم يكن الاسم موضوعا لها في اللغة وإنما ثبت ذلك من جهة الشرع فصارت السرقة في الشرع اسما شرعيا لا يصح الاحتجاج بعمومه إلا فيما قامت دلالته واختلف في مقدار ما يقطع فيه السارق فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري لا قطع إلا في عشرة دراهم فصاعدا أو قيمتها من غيرها وروي عن أبي يوسف ومحمد أنه لا قطع حتى تكون قيمة السرقة عشرة دارهم مضروبة وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه إذا سرق ما يساوي عشرة دارهم مما يجوز بين الناس قطع وقال مالك والأوزاعي والليث والشافعي لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا وقال الشافعي فلو غلت الدراهم حتى يكون الدرهمان بدينار قطع إلا في ربع دينار وإن كان ذلك نصف درهم وإن رخصت الدنانير حتى يكون الدينار بمائة درهم قطع في ربع دينار وذلك خمسة وعشرون درهما وروي عن الحسن البصري أنه قال لا يقطع في درهم واحد وهو قول شاذ قد اتفق الفقهاء على خلافه وقال أنس بن مالك وعروة والزهري وسليمان بن يسار لا يقطع إلا في خمسة دراهم وروي نحوه عن عمر وعلي أنهما قالا لا يقطع إلا في خمسة وقال ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأيمن الحبشي وأبو جعفر وعطاء وإبراهيم لا قطع إلا في عشرة دراهم قال ابن عمر يقطع في ثلاثة دراهم وروي عن عائشة القطع في ربع دينار وروي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة قالا لا تقطع اليد إلا في أربعة دراهم والأصل في ذلك أنه لما ثبت باتفاق الفقهاء من السلف ومن بعدهم أن القطع لا يجب إلا في مقدار متى قصر عنه لم يجب وكان طريق إثبات هذا الضرب من المقادير التوقيف أو الاتفاق ولم يثبت التوقيف فيما دون العشرة وثبت الاتفاق في الشعرة
[ 521 ]
أثبتناها ولم نثبت ما دونها لعدم التوقيف والاتفاق فيه ولا يصح الاحتجاج بعموم قوله (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما لما بينا أنه مجمل بما اقترن إليه من توقيف الرسول عليه السلام على اعتبار ثمن المجن ومن اتفاق السلف على ذلك أيضا فسقط الاحتجاج بعمومه ووجب الوقوف عند الاتفاق في القطع في العشرة ونفيه عما دونها لما وصفنا وقد رويت أخبار توجب اعتبار العشرة في إيجاب القطع منها ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثنا نصر بن ثابت عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا قطع فيما دون عشرة دراهم وقد سمعنا أيضا في سنن ابن قانع حديثا رواه بإسناده له عن زحر بن ربيعة عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم وقال عمرو بن شعيب قلت لسعيد بن المسيب إن عروة والزهري وسليمان بن يسار يقولون لا تقطع اليد إلا في خمسة دراهم فقال أما هذا فقد مضت السنة فيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم قاله ابن عباس وأيمن الحبشي وعبد الله بن عمر وقالوا كان ثمن المجن عشرة دراهم فإن احتجوا بما روي عن ابن عمر وأنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم وبما روي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال تقطع يد السارق في ربع دينار قيل له أما حديث ابن عمر وأنس فلا دلالة فيه على موضع الخلاف لأنهما قوماه ثلاثة دراهم وقد قومه غيرهما عشرة فكان تقديم الزائد أولى وأما حديث عائشة فقد اختلف في رفعه وقد قيل إن الصحيح منه أنه موقوف عليها غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن الإثبات من الرواة رووه موقوفا وروى يونس عن الزهري عن عروة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تقطع يد السارق إلا في ثمن المجن ثلث دينار أو نصف دينار فصاعدا وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن يد السارق لم تكن تقطع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدنى من ثمن المجن وكان المجن يومئذ له ثمن ولم تكن تقطع في الشئ التافه فهذا يدل على أن الذي كان عند عائشة من ذلك القطع في ثمن المجن وأنه لم يكن عندها عن النبي صلى الله عليه وسلم غير ذلك إذ لو كان عندها عن رسول الله في ذلك شئ معلوم المقدار من الذهب أو الفضة لم تكن بها حاجة إلى ذكر ثمن المجن إذ كان ذلك مدركا من جهة الاجتهاد ولا حظ للاجتهاد مع النص وهذا يدل أيضا على أن ما روي عنها مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن ثبت فإنما هو تقدير منها لثمن المجن اجتهادا وقد روى حماد بن زيد عن أيوب عن عبد الرحمن بن القاسم عن عمرة عن عائشة قالت تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا قال أيوب وحدث به يحيى عن عمرة عن عائشة
[ 522 ]
ورفعه فقال له عبد الرحمن بن القاسم إنها كانت لا ترفعه فترك يحيى رفعه فهذا يدل على أن من رواه مرفوعا فإنما سمعه من يحيى قبل تركه الرفع مطلب: خبر الحظر أولى من خبر الاباحة ثم لو ثبت هذا الحديث لعارضه ما قدمناه من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه مختلفة في نفي القطع عن سارق ما دون العشرة وكان يكون حينئذ خبرنا أولى لما فيه من حظر القطع عما دونها وخبرهم مبيح له وخبر الحظر أولى من خبر الإباحة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعن الله السارق يسرق الحبل فيقطع فيه ويسرق البيضة فيقطع فيها فربما ظن بعض من لا روية له أنه يدل على أن ما دون العشرة يقطع فيه لذكر البيضة والحبل وهما في العادة أقل قيمة من عشرة دراهم وليس ذلك على ما يظنه لأن المراد بيضة الحديد وقد روي عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في بيضة من حديد قيمتها أحد وعشرون درهما ولأنه لا خلاف بين الفقهاء أن سارق بيضة الدجاج لا قطع عليه وأما الحبل فقد يكون مما يساوي العشرة والعشرين وأكثر من ذلك فصل مطلب: في معنى قوله عليه السلام: " لا قطع على خائن " وأما اعتبار الحرز فالأصل فيها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لا قطع على خائن رواه ابن عباس وجابر وهو يشتمل على نفي القطع في جميع ما ائتمن الإنسان فيه فمنها أن الرجل إذا ائتمن غيره على دخول بيته ولم يحرز منه ماله لم يجب عليه القطع إذا خانه لعموم لفظ الخبر ويصير حينئذ بمنزلة المودع والمضارب وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لا قطع على خائن وجوب القطع على جاحد الوديعة والمضاربة وسائر الأمانات ويدل أيضا على نفي القطع عن المستعير إذا جحد العارية مطلب: في تأويل ما ورد عنه عليه السلام من أنه قطع يد المرأة التي كانت تستعير المتاع وتجحده وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قطع المرأة التي كانت تستعير المتاع وتجحده فلا دلالة فيه على وجوب القطع على المستعير إذا خان إذ ليس فيه أنه قطعها لأجل جحودها للعارية وإنما ذكر جحود العارية تعريفا لها إذ كان ذلك معتادا منها حتى عرفت به فذكر ذلك على وجه التعريف وهذا مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للرجلين أحدهما
[ 523 ]
يحجم الآخر في رمضان أفطر الحاجم والمحجوم فذكر الحجامة تعريفا لهما والإفطار واقع بغيرها وقد روي في أخبار صحيحة أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت وهي هذه المرأة التي ذكر في الخبر أنها كانت تستعير المتاع وتجحده فبين في هذه الأخبار أنه قطعها لسرقتها ويدل على اعتبار الحرز أيضا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه سئل عن حريسة الجبل فقال فيها غرامة مثلها وجلدات نكال فإذا أواها المراح وبلغ ثمن المجن ففيه القطع وقال ليس في الثمر المعلق قطع حتى يأويه الجرين فإذا أواه الجرين ففيه القطع إذا بلغ ثمن المجن ودلالة هذا الخبر على وجوب اعتبار الحرز أظهر من دلالة الخبر الأول وإن كان كل واحد منهما مكتفيا بنفسه في وجوب اعتباره ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن الحرز شرط في القطع وأصله من السنة ما وصفنا والحرز عند أصحابنا ما بني للسكنى وحفظ الأموال من الأمتعة وما في معناها وكذلك الفساطيط والمضارب والخيم التي يسكن الناس فيها ويحفظون أمتعتهم بها كل ذلك حرز وإن لم يكن فيه حافظ ولا عنده وسواء سرق من ذلك وهو مفتوح الباب أم لا باب له إلا أنه محجر بالبناء وما كان في غير بناء ولا خيمة ولا فسطاط ولا مضرب فإنه لا يكون حرزا إلا أن يكون عنده من يحفظه وهو قريب منه بحيث يكون حافظ له وسواء كان الحافظ نائما في ذلك الموضع أو مستيقظا والأصل في كون الحافظ حرزا له وإن كان في مسجد أو صحراء حديث صفوان بن أمية حين كان نائما في المسجد ورداؤه تحت رأسه فسرقه سارق فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطعه ولا خلاف أن المسجد ليس بحرز فثبت أنه كان محرزا لكون صفوان عنده ولذلك قال أصحابنا لا فرق بين أن يكون الحافظ نائما أو مستيقظا لأن صفوان كان نائما وليس المسجد عندهم في ذلك كالحمام فمن سرق من الحمام لم يقطع وكذلك الخان والحوانيت المأذون في دخولها وإن كان هناك حافظ من قبل أن الإذن موجود في الدخول من جهة مالك الحمام والدار فخرج الشئ من أن يكون محرزا من المأذون له في الدخول ألا ترى أن من أذن لرجل في دخول داره أن الدار لم تخرج من أن تكون حرزا في نفسها ولا يقطع مع ذلك المأذون له في الدخول لأنه حين أذن له في الدخول فقد ائتمنه ولم يحرز ماله عنه كذلك كل موضع يستباح دخوله بإذن المالك فهو غير حرز من المأذون له في الدخول وأما المسجد فلم يتعلق إباحة دخوله بإذن آدمي كالمفازة والصحراء فإذا سرق منه وهناك حافظ له قطع وحكي عن مالك أن السارق من الحمام يقطع إن كان هناك حافظ له قال أبو بكر لو وجب قطع السارق من الحانوت والمأذون له في
[ 524 ]
الدخول إليه لأن صاحب الحانوت حافظ له ومعلوم أن إذنه له في دخوله قد أخرجه من أن يكون ماله فيه محرزا فكان بمنزلة المؤتمن ولا فرق بين الحمام والحانوت والمأذون في دخوله فإن قال قائل يقطع السارق من الحانوت والخان المأذون له قيل له هو كالخائن للودائع والعواري والمضاربات وغيرها إذ لا فرق بين ما ذكرنا وبينها وقد ائتمنه صاحبه بأن لم يحرزه كما ائتمنه في إيداعه وقال عثمان البتي إذا سرق من الحمام قطع واختلف في قطع النباش فقال أبو حنيفة والثوري ومحمد والأوزاعي لا قطع على النباش وهو قول ابن عباس ومكحول وقال الزهري اجتمع رأي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في زمن كان مروان أميرا على المدينة أن النباش لا يقطع ويعزر وكان الصحابة متوافرين يومئذ وقال أبو يوسف بن أبي ليلى وأبو الزناد وربيعة يقطع وروي مثله عن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز والشعبي والزهري ومسروق والحسن والنخعي وعطاء وهو قول الشافعي والدليل على صحة القول الأول أن القبر ليس بحرز والدليل عليه اتفاق الجميع على أنه لو كان هناك دراهم مدفونة فسرقها لم يقطع لعدم الحرز والكفن كذلك فإن قيل إن الأحراز مختلفة فمنها شريحة البقال حرز لما في الحانوت والإصطبل حرز للدواب وللأموال عنه ويكون الرجل حرزا لما هو حافظ له وكل شئ من ذلك حرزا لما يحفظ به ذلك الشئ في العادة ولا يكون حرزا لغيره فلو سرق دراهم من اصطبل لم يقطع ولو سرق منه دابة قطع ذلك القبر هو حرز للكفن وإن لم يكن حرزا للدراهم قيل له هذا كلام فاسد من وجهين أحدهما أن الأحراز على اختلافها في أنفسها ليست مختلفة في كونها حرزا لجميع ما يجعل فيها لأن الإصطبل لما كان حرزا للدواب فهو حرز للدراهم والثياب ويقطع فيما يسرقه منه وكذلك حانوت البقال هو حرز لجميع ما فيه من ثياب ودراهم وغيرها فقول القائل الإصطبل حرز للدواب ولا يقطع من سرق منه دراهم غلط والوجه الآخر أن قضيتك هذه لو كانت صحيحة لكانت مانعة من إيجاب قطع النباش لأن القبر لم يحفر ليكون حرزا للكفن فيحفظ به وإنما يحفر لدفن الميت وستره عن عيون الناس وأما الكفن فإنما هو للبلى والهلاك ودليل آخر وهو أن الكفن لا مالك له والدليل عليه أنه من جميع المال فدل على أنه ليس في ملك أحد ولا موقوف على أحد فلما صح أنه من جميع المال وجب أن لا يملكه الوارث كما لا يملكون ما صرف في الدين الذي هو من جميع المال
[ 525 ]
ويدل عليه أيضا أن الكفن يبدأ به على الديون فإذا لم يملك الوارث ما يقضي به الديون فهو أن لا يملك الكفن أولى وإذا لم يملكه الوارث واستحال أن يكون الميت مالكا وجب أن لا يقطع سارقه كما لا يقطع سارق بيت المال وأخذ الأشياء المباحة التي لا ملك لها فإن قال قائل جواز خصومة الوارث المطالبة بالكفن دليل على أنه ملكه قيل له الإمام يطالب بما يسرق من بيت المال ولا يملكه ووجه آخر وهو أنا الكفن يجعل هناك للبلى والتلف لا للقنية والتبقية فصار بمنزلة الخبز واللحم والماء الذي هو للإتلاف لا للتبقية فإن قال قائل القبر حرز للكفن لما روى عبادة بن الصامت عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أنت إذا أصاب الناس موت يكون البيت فيه بالوصيف يعني القبر قلت الله ورسوله أعلم قال عليك بالصبر فسمى القبر بيتا وقال حماد بن أبي سليمان يقطع النباش لأنه دخل على الميت بيته وروى مالك عن أبي الرحال عن أمه عمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المختفي والمختفية وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من اختفى ميتا فكأنما قتله وقال أهل اللغة المختفي النباش قيل له إنما سماه بيتا على وجه المجاز لأن البيت موضوع في لغة العرب لما كان مبنيا ظاهرا على وجه الأرض وإنما سمي القبر بيتا تشبيها بالبيت المبني ومع ذلك فإن قطع السارق ليس معلقا بكونه سارقا من بيت إلا أن يكون ذلك البيت مبنيا ليحرز به ما يجعل فيه وقد بينا أن القبر ليس بحرز ألا ترى أن المسجد يسمى بيتا قال الله تعالى في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ولو سرق من المسجد لم يقطع إذا لم يكن له حافظ وأيضا فلا خلاف أنه لو كان في القبر دراهم مدفونة فسرقها لم يقطع وإن كان بيتا فعلمنا أن قطع السرقة غير متعلق بكونه بيتا وأما ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الله المختفي وما روي أنه قال من اختفى ميتا فكأنما قتله فإن هذا إنما هو لعن له واستحقاق اللعن ليس بدليل على وجوب القطع لأن الغاصب والكاذب والظالم كل هؤلاء يستحقون اللعن ولا يجب قطعهم وقوله من اختفى ميتا فكأنما قتله فإنه لم يوجب به قطعا وإنما جعله كالقاتل وإن كان معناه محمولا على حقيقة لفظه فواجب أن نقتله وهذا لا خلاف فيه ولا تعلق لذلك بالقطع من أين يقطع باب من أين السارق قال الله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما واسم اليد يقع على هذا العضو إلى المنكب والدليل عليه أن عمارا تيمم إلى المنكب بقوله تعالى فامسحوا
[ 526 ]
بوجوهكم وأيديكم منه ولم يخطئ من طريق اللغة وإنما لم يثبت ذلك لورود السنة بخلافه ويقع على اليد إلى مفصل الكف أيضا قال الله تعالى إذا أخرج يده لم يكد يراها وقد عقل به ما دون المرفق وقال تعالى لموسى (أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء ويمتنع أن يدخل يده إلى المرفق ويدل عليه أيضا قوله تعالى وأيديكم إلى المرافق فلو لم يقع الاسم على ما دون المرافق لما ذكرها إلى المرافق وفي ذلك دليل على وقوع الاسم إلى الكوع لما كان الاسم يتناول هذا العضو إلى المفصل وإلى المرفق وإلى المنكب قتضى عموم اللفظ القطع من المنكب إلى أن تقوم الدلالة على أن المراد ما دونه وجائز أن يقال إن الاسم لما تناولها إلى الكوع ولم يجز أن يقال إن ذلك بعض اليد بل يطلق عليه اسم اليد من غير تقييد وإن كان قد يطلق أيضا على ما فوقه إلى المرفق تارة وإلى المنكب أخرى ثم قال تعالى فاقطعوا أيديهما وكانت اليد محظورة في الأصل فمتى قطعناها من الفصل فقد قضينا عهدة الآية لم يجز لنا قطع ما فوقه إلا بدلالة كما لو قال أعط هذا رجالا فأعطاه ثلاثة منهم فقد فعل المأمور به إذ كان الاسم يتناولهم وإن كان اسم الرجال يتناول ما فوقهم فإن قال قائل يلزمكم في التيمم مثله بقوله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه وقد قلتم فيه إن الاسم لما تناول العضو إلى المرفق اقتضاه العموم ولم ينزل عنه إلا بدليل قيل له هما مختلفان من قبل أن اليد لما كانت محظورة في الأصل ثم كان الاسم يقع على العضو إلى المفصل وإلى المرفق لم يجز لنا قطع الزيادة بالشك ولما كان الأصل الحدث واحتاج إلى استباحة الصلاة لم يزل أيضا إلا بيقين وهو التيمم إلى المرفق ولا خلاف بين السلف من الصدر الأول وفقهاء الأمصار أن القطع من المفصل وإنما خالف فيه الخوارج وقطعوا من المنكب لوقوع الاسم عليه وهم شذوذ لا يعدون خلافا وقد روى محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق من الكوع وعن عمر وعلي أنهما قطعا اليد من المفصل ويدل على أن دون الرسغ لا يقع عليه اسم اليد على الإطلاق قوله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ولم يقل أحد أنه يقتصر بالتيمم على ما دون المفصل وإنما اختلفوا فيما فوقه واختلفوا في قطع الرجل من أي موضع هو فروي عن علي أنه قطع سارقا من خصر القدم وروى صالح السمان قال رأيت الذي قطعه علي رضي الله عنه مقطوعا من أطراف الأصابع فقيل له من قطعك فقال خير الناس قال أبو رزين سمعت ابن
[ 527 ]
عباس يقول أيعجز من رأى هؤلاء أن يقطع كما قطع هذا الأعرابي يعني نحوه فلقد قطع فما أخطأ يقطع الرجل ويذر عقبها وروي مثله عن عطاء وأبي جعفر من قولهما وعن عمر رضي الله عنه في آخرين يقطع الرجل من المفصل وهو قول فقهاء الأمصار والنظر يدل على هذا القول لاتفاقهم على قطع اليد من المفصل الظاهر وهو الذي يلي الزند وكذلك الواجب قطع الرجل من المفصل الظاهر الذي يلي الكعب الناتئ وأيضا لما اتفقوا على أنه لا يترك له من اليد ما ينتفع به للبطش ولم يقطع من أصول الأصابع حتى يبقى له الكف كذلك ينبغي أن لا يترك له من الرجل العقب فيمشي عليه لأن الله تعالى إنما أوجب قطع اليد ليمنعه الأخذ والبطش بها وأمر بقطع الرجل ليمنعه المشي بها فغير جائز ترك العقب للمشي عليه ومن قطع من المفصل الذي هو على ظهر القدم فإنه ذهب في ذلك أن هذا المفصل من الرجل بمنزلة مفصل الزند من اليد لأنه ليس بين مفصل أصابع الرجل مفصل غيره كما أنه ليس بين مفصل الزند ومفصل أصابع اليد مفصل غيره فلما وجب في اليد قطع أقرب المفصل إلى مفصل الأصابع كذلك وجب أن يقطع في الرجل من أقرب المفاصل إلى مفصل الأصابع والقول الأول أظهر لأن مفصل ظهر القدم غير ظاهر كظهور مفصل الكعب من الرجل ومفصل الزند من اليد فلما وجب قطع مفصل اليد ظاهر منه كذلك يجب أن يكون في الرجل لما استوعبت اليد بالقطع وجب استيعاب الرجل أيضا والرجل كلها إلى مفصل الكعب بمنزلة الكف إلى مفصل الزند وأما القطع من أصول أصابع الرجل فإنه لم يثبت عن علي من جهة صحيحة وهو قول شاذ خارج عن الإتفاق والنظر جميعا واختلف في قطع اليد اليسرى والرجل اليمنى فقال أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب حين رجع إلى قول علي لما استشاره وابن عباس إذا سرق قطعت يده اليمنى فإذا سرق بعد ذلك قطعت رجله اليسرى فإذا سرق لم يقطع وحبس وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف وروي عن عمر أنه تقطع يده اليسرى بعد الرجل اليمنى فإن سرق قطعت رجله اليمنى فإن سرق حبس حتى يحدث التوبة وعن أبي بكر مثل ذلك إلا أن عمر قد روي عنه الرجوع إلى قول علي كرم الله وجهه وقال مالك والشافعي تقطع اليد اليسرى بعد ا لرجل اليسرى والرجل اليمنى بعد ذلك ولا يقتل إن سرق بعد ذلك وروي عن عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وعمر بن عبد العزيز أنهم قتلوا سارقا بعد ما قطعت أطرافه وروى سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن أبا بكر أراد أن يقطع الرجل بعد اليد والرجل فقال له
[ 528 ]
عمر السنة اليد وروى عبد الرحمن بن يزيد عن جابر عن مكحول أن عمر قال لا تقطعوا يده بعد اليد والرجل ولكن احبسوه عن المسلمين وقال الزهري انتهى أبو بكر إلى اليد والرجل وروى أبو خالد الأحمر عن حجاج عن سماك عن بعض أصحابه أن عمر استشارهم في السارق فأجمعوا على أنه تقطع يده اليمنى فإن عاد فرجله اليسرى ثم لا يقطع أكثر من ذلك وهذا يقتضي أن يكون ذلك إجماعا لا يسع خلافه لأن الذي يستشيرهم عمر هم الذين ينعقد بهم الإجماع وروى سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن أبا بكر الصديق قطع اليد بعد قطع اليد والرجل في قصة الأسود الذي نزل بأبي بكر ثم سرق حلي أسماء وهو مرسل وأصله حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رجلا خدم أبا بكر فبعثه مع مصدق وأوصاه به فلبث قريبا من شهر ثم جاءه وقد قطعه المصدق فلما رآه أبو بكر قال له مالك قال وجدني خنت فريضة فقطع يدي فقال أبو بكر إني لا آراه يخون أكثر من ثلاثين فريضة والذي نفسي بيده لئن كنت صادقا لأقيدنك منه ثم سرق حلي أسماء بنت عميس فقطعه أبو بكر فأخبرت عائشة أن أبا بكر قطعه بعد قطع المصدق يده وذلك لا يكون إلا قطع الرجل اليسرى وهو حديث صحيح لا يعارض بحديث القاسم ولو تعارضا لسقطا إن جميعا ولم يثبت بهذا الحديث عن أبي بكر شئ ويبقى لنا الأخبار الأخر التي ذكرناها عن أبي بكر والاقتصار على الرجل اليسرى فإن قيل روى خالد الحذاء عن محمد بن حاطب أن أبا بكر قطع يدا بعد يد ورجل قيل له لم يقل في السرقة ويجوز أن يكون في قصاص وقد روي عن عمر بن الخطاب مثل ذلك وتأويله ما ذكرناه فحصل من اتفاق السلف وجوب الاقتصار على اليد والرجل وما روي عنهم من مخالفة ذلك فإنما هو على وجهين إما أن يكون الحكاية في قطع اليد بعد الرجل أو قطع الأربع من غير ذكر السرقة فلا دلالة فيه على القطع في السرقة أو يكون مرجوعا عنه كما روي عن عمر ثم روي عنه الرجوع عنه وقد روي عن عثمان أنه ضرب عنق رجل بعد ما قطع أربعته وليس فيه دلالة على قول المخالف لأنه لم يذكر أنه قطعه في السرقة ويجوز أن يكون قطعه من قصاص ويدل على صحة قول أصحابنا قوله تعالى فاقطعوا أيديهما وقد بينا أن المراد أيمانهما وكذلك هو في قراءة ابن مسعود وابن عباس والحسن وإبراهيم وإذا كان الذي تتناوله الآية يدا واحدة لم تجز الزيادة عليها إلا من جهة التوقيف أو الاتفاق وقد ثبت الاتفاق في الرجل اليسرى واختلفوا بعد ذلك في اليد اليسرى فلم يجز قطعها مع عدم الاتفاق والتوقيف إذ غير جائز إثبات الحدود إلا من أحد هذين الوجهين ودليل آخر وهو
[ 529 ]
اتفاق الأمة على قطع الرجل بعد اليد وفي ذلك دليل على أن اليد اليسرى غير مقطوعة أصلا لأن العلة في العدول عن اليد اليسرى بعد اليمنى إلى الرجل في قطعها على هذ الوجه إبطال منفعة الجنس وهذه العلة موجودة بعد قطع الرجل اليسرى ومن جهة أخرى أنه لم تقطع رجله اليمنى بعد رجله اليسرى لما فيه من بطلان منفعة المشي رأسا كذلك لا تقطع اليد اليسرى بعد اليمنى لما فيه من بطلان البطش وهو منافع اليد كالمشي من منافع الرجل ودليل آخر وهو اتفاق الجميع على أن المحارب وإن عظم جرمه في أخذ المال لا يزاد على قطع اليد والرجل لئلا تبطل منفعة جنس الأطراف كذلك السارق وإن كثر الفعل منه بأن عظم جرمه فلا يوجب الزيادة على قطع اليد والرجل فإن قال قائل قوله عز وجل فاقطعوا أيديهما يقتضي قطع اليدين جميعا ولولا الاتفاق لما عدلنا عن اليد اليسرى في السرقة الثانية إلى الرجل اليسرى قيل له أما قولك إن الآية مقتضية لقطع اليد اليسرى فليس كذلك عندنا لأنها إنما اقتضت يدا واحدة لما ثبت من إضافتها إلى الإثنين بلفظ الجمع دون التثنية وإن ما كان هذا وصفه فإنه يقتضي يدا واحد منهما ثم قد اتفقوا أن اليد اليمنى مرادة فصار كقوله تعالى فاقطعوا أيمانهما فانتفى بذلك أن تكون اليسرى مرادة باللفظ فيسقط الاحتجاج بالآية في إيجاب قطع اليسرى وعلى أنه لو كان لفظ الآية محتملا لما وصفت لكان اتفاق الأمة على قطع الرجل بعد اليمنى دلالة على أن اليسرى غير مرادة إذ غير جائز ترك المنصوص والعدول عنه إلى غيره واحتج موجبو قطع الأطراف بما رواه عبد الله بن رافع قال أخبرني حماد بن بن أبي حميد عن محمد بن المنكدر عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق قد سرق فأمر به أن تقطع يده ثم أتي به مرة أخرى قد سرق فأمر به أن تقطع رجله، ثم به مرة أخرى قد سرق فأمره به أن تقطع يده، ثم سرق فأمر به أن تتطع رجله، حتى قطعت أطرافه كلها وحماد بن أبي حميد ممن يضعف وهو مختصر وأصله ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل الهلالي حدثنا جدي عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال جئ بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق فقال اقطعوه قال فقطع ثم جئ به الثانية فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه قال فقطع ثم جئ الثالثة فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه ثم أتي به الرابعة فقال اقتلوه فقالوا
[ 530 ]
يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه ثم أتي به الخامسة فقال اقتلوه قال جابر فانطلقنا به فقتلناه ورواه معشر عن مصعب بن ثابت بإسناد مثله وزاد خرجنا به إلى مربد النعم فحملنا عليه النعم فأشار بيده ورجليه فنفرت الإبل عنه فلقيناه بالحجارة حتى قتلناه ورواه يزيد بن سنان حدثني هشام بن عروة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطع يده ثم أتي به قد سرق فقطع رجله ثم أتي به قد سرق فأمر بقتله ورواه حماد بن سلمة عن يوسف بن الحارث بن حاطب أن رجلا سرق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتلوه فقال القوم إنما سرق فقال اقطعوه فقطعوه ثم سرق على عهد أبي بكر الصديق فقطعه حتى قطعت قوائمه كلها ثم سرق الخامسة فقال أبو بكر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم به حين أمر بقتله فأمر به فقتل والذي ذكرناه من حديث مصعب بن ثابت هو أصل الحديث الذي رواه حماد بن أبي حميد وفيه الأمر بقتله بديا ومعلوم ان السرقة لا يستحق بها القتل فثبت أن قطع هذه الأعضاء لم يكن على وجه الحد المستحق بالسرقة وإنما كان على جهة تغليظ العقوبة والمثلة كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة العرنيين أنه قطع أيديهم وأرجلهم وسملهم وليس السمل حدا في قطاع الطريق فلما نسخت المثلة نسخ بها هذا الضرب من العقوبة فوجب الاقتصار على اليد والرجل لا غير ويدل على أن قطع الأربع كان على وجه المثلة لا على الحد أن في حديث جابر أنهم حملوا عليه النعم ثم قتلوه بالحجارة وذلك لا يكون حدا في السرقة بوجه باب مالا يقطع فيه قال أبو بكر قوله والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما يوجب قطع كل من تناول الاسم في سائر الأشياء لأنه عموم في هذا الوجه وإن كان مجملا في المقدار إلا أنه قد قامت الدلالة من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وقول السلف واتفاق فقهاء الأمصار على أنه لم يرد به العموم وأن كثيرا مما يسمى آخذه سارقا لا قطع فيه واختلف الفقهاء في ذكر أشياء منه الاختلاف في ذلك قال أبو حنيفة ومحمد لا قطع في كل ما يسرع إليه الفساد نحو الرطب والعنب والفواكه الرطبة واللحم والطعام الذي لا يبقى ولا في الثمر المعلق والحنطة في سنبلها سواء كان لها حافظ أو لم يكن ولا قطع في شئ من الخشب إلا الساج والقنا ولا قطع في الطين والنورة والجص والزرنيخ ونحوه ولا قطع في شئ من الطير ويقطع في
[ 531 ]
الياقوت والزمرد ولا قطع في شئ من الخمر ولا في شئ من آلات الملاهي وقال أبو يوسف يقطع في كل شئ سرق من حرز إلا في السرقين والتراب والطين وقال مالك لا يقطع في الثمر المعلق ولا في حريسة الجبل وإذا أواه الجرين ففيه القطع وكذلك إذا سرق خشبة ملقاة فبلغ ثمنها ما يجب فيه القطع ففيه القطع وقال الشافعي لا قطع في الثمر المعلق ولا في الجمار لأنه غير محرز فإن أحرز ففيه القطع رطبا كان أو يابسا وقال عثمان البتي إذا سرق الثمر على شجره فهو سارق يقطع قال أبو بكر روى مالك وسفيان الثوري وحماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان أن مروان أراد قطع يد عبد وقد سرق وديا فقال رافع بن خديج سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا قطع في ثمرة ولا كثر وروى سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد عن محمد بن حبان عن عمه واسع بن حبان بهذه القصة فأدخل ابن عيينة بين محمد بن حبان وبين رافع واسع بن حبان ورواه الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن محمد بن حبان عن عمة له بهذه القصة وأدخل الليث بينهما عمة له مجهولة ورواه الدراوردي عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن أبي ميمونة عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله فجعل الدراوردي بين محمد بن يحيى ورافع أبا ميمونة فإن كان واسع بن حبان كنيته أبو ميمونة فقد وافق ابن عيينة وإن كان غيره فهو مجهول لا يدري من هو إلا أن الفقهاء قد تلقت هذا الحديث بالقبول وعملوا به فثبت حجته بقولهم له كقوله لا وصية لوارث واختلاف التابعين لما تلقاه العلماء بالقبول ثبتت حجته ولزم العمل به وقد تنازع أهل العلم معنى قوله لا قطع في ثمر ولا كثر فقال أبو حنيفة ومحمد هو على كل ثمر يسرع إليه الفساد وعمومه يقتضي ما يبقى منه ومالا يبقى إلا أن الكل متفقون على القطع فيما قد استحكم ولا يسرع إليه الفساد فخص ما كان بهذا الوصف من العموم وصار ذلك أصلا في نفي القطع عن جميع ما يسرع إليه الفساد وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لا قطع في طعام وذلك ينفي القطع عن جميع الطعام إلا أنه خص مالا يسرع إليه بالفساد بدليل وقال أبو يوسف ومن قدمنا قوله أن نفيه القطع عن الثمر والكثر لأجل عدم الحرز فإذا أحرز فهو وغيره سواء وهذا تخصيص بغير دلالة وقوله ولا كثر أصل في ذلك أيضا لأن الكثر قد قيل فيه وجهان أحدهما الجمار والآخر النخل الصغار وهو عليهما جميعا فإذا أراد به
[ 532 ]
الجمار فقد نفى القطع عنه لأنه مما يفسد وهو أصل في كل ما كان في معناه وإن أراد به النخل فقد دل على نفي القطع في الخشب فنستعملهما على فائدتيهما جميعا وكذلك قال أبو حنيفة لا قطع في الخشب إلا الساج والقنا وكذلك يجئ على قوله في الأبنوس وذلك أن الساج والأبنوس لا يوجد في دار الإسلام إلا مالا فهو كسائر الأموال وإنما اعتبر ما يوجد في دار الإسلام مالا من قبل أن الأملاك الصحيحة هي التي توجد في دار الإسلام وما كان في دار الحرب فليس بملك صحيح لأنها دار إباحة وأملاك أهلها مباحة فلا يختلف فيها حكم ما كان منه مالا مملوكا وما كان منه مباحا فلذلك سقط اعتبار كونها مباحة في دار الحرب فاعتبر حكم وجودها في دار الإسلام فلما لم توجد في دار الإسلام إلا مالا كانت كسائر أموال المسلمين التي ليست مباحة الأصل فإن قال قائل النخل غير مباح الأصل قيل له هو مباح الأصل في كثير من المواضع كسائر الجنس المباح الأصل وإن كان بعضها مملوكا بالأخذ والنقل من موضع إلى موضع وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمر قال جاء رجل من مزينة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف ترى في حريسة الجبل قال هي عليه ومثلها والنكال وليس في شئ من الماشية قطع إلا ما أواه المراح فإذا أواه المراح فبلغ ثمن المجن ففيه قطع اليد وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثله وجلدات النكال قال يا رسول الله كيف ترى في الثمر المعلق قال هي ومثله معه والنكال وليس في شئ من الثمر المعلق قطع إلا ما أواه الجرين فما أخذه من الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع وما لم يبلغ ففيه غرامة مثله وجلدات النكال فنفى في حديث رافع بن خديج القطع عن الثمر رأسا ونفى في حديث عبد الله بن عمر القطع عن الثمر إلا ما أواه الجرين وقوله حتى يأويه الجرين يحتمل معنيين أحدهما الحرز والآخر الإبانة عن حال استحكامه وامتناع إسراع الفساد إليه لأنه لا يأويه الجرين إلا وهو مستحكم في الأغلب وهو كقوله تعالى وآتوا حقه يوم حصاده ولم يرد به وقوع الحصاد وإنما أراد به بلوغه وقت الحصاد وقوله صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار ولم يرد به وجود الحيض وإنما أخبر عن حكمها بعد البلوغ وقوله إذا زنى الشيخ والشيخة فارجموهما البتة ولم يرد به السن وإنما أراد الإحصان وقوله في خمس وعشرين بنت مخاض أراد دخولها في السنة الثانية وإن لم يكن بأمها مخاض لأن الأغلب إذا صارت كذلك كان بأمها مخاض وكذلك قوله حتى يأويه الجرين يحتمل أن يريد به بلوغ حال الاستحكام فلم يجز من أجل ذلك أن يخص
[ 533 ]
حديث رافع بن خديج في قوله لا قطع في ثمر ولا كثر وإنما لم يقطع في النورة ونحوها لما روت عائشة قالت لم يكن قطع السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشئ التافه يعني الحقير فكل ما كان تافها مباح الأصل فلا قطع فيه والزرنيخ والجص والنورة ونحوها تافه مباح الأصل لأن أكثر الناس يتركونه في موضعه مع إمكان القدرة عليه وأما الياقوت والجوهر فغير تافه وإن كان مباح الأصل بل هو ثمين رفيع ليس يكاد يترك في موضعه مع إمكان أخذه فيقطع فيه وإن كان الأصل كما يقطع في سائر الأموال لأن شرط زوال القطع المعينان جميها من كونه تافها في نفسه ومباح الأصل وأيضا فإن الجص والنورة ونحوها أموال لا يراد بها القنية بل الإتلاف فهي كالخبز واللحم ونحو ذلك والياقوت ونحوه مال يراد به القنية والتبقية كالذهب والفضة وأما الطير فإنما لم تقطع فيه لما روي عن علي وعثمان أنهما قالا لا يقطع في الطير من غير خلاف من أحد من الصحابة عليهما وأيضا فإنه مباح الأصل فأشبه الحشيش والحطب واختلف في السارق من بيت المال فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد والشافعي لا يقطع من سرق من بيت المال وهو قول علي وإبراهيم النخعي والحسن وروى ابن وهب عن مالك أنه يقطع وهو قول حماد بن أبي سليمان وروى سفيان عن سماك بن حرب عن ابن عبيد بن الأبرص أن عليا أتي برجل سرق مغفرا من الخمس فلم يرد عليه قطعا وقال له فيه نصيب وروى وكيع عن المسعودي عن القاسم أن رجلا سرق من بيت المال فكتب فيه سعد إلى عمر فكتب إليه عمر ليس عليه قطع له في نصيب ولا نعلم عن أحد من الصحابة خلاف ذلك وأيضا لما كان حقه وحق سائر المسلمين فيه سواء فصار كسارق مال بينه وبين غيره فلا يقطع واختلف فيمن سرق خمرا من ذمي أو مسلم فقال أصحابنا ومالك والشافعي لا قطع عليه وهو قول الثوري وقال الأوزاعي في ذمي سرق من مسلم خمرا أو خنزيرا غرم الذمي ويجد فيه المسلم قال أبو بكر الخمر ليست بمال لنا وإنما أمر هؤلاء أن نترك مالا لهم بالعهد والذمة فلا يقطع سارقها لأن ما كان مالا من وجه وغير مال من وجه فإن أقل أحواله أن يكون ذلك شبهة في درء الحد عن سارقه كن وطئ جارية بينه وبين غيره وأيضا فإن المسلم معاقب على اقتناء الخمر وشربها مأمور بتخليلها أو صبها فمن أخذها فإنما أزال يده عما كان عليه إزالته عنه فلا يقطع واختلف فيمن أقر بالسرقة مرة واحدة فقال أبو حنيفة وزفر ومالك والشافعي والثوري إذا أقر بالسرقة مرة واحدة قطع وقال أبو يوسف وابن شبرمة وابن أبي
[ 534 ]
ليلى لا يقطع حتى يقر مرتين والدليل على صحة القول الأول ما روى عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن يزيد بن صفية عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة قال أتي بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله هذا سرق فقال ما أخاله سرق فقال السارق بلى قال فاذهبوا به فاقطعوه فقطع ورواه غير الدراوردي عن يزيد عن محمد بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه أبا هريرة منهم الثوري وابن جريج ومحمد بن إسحاق قال أبو بكر وعلى أي وجه حصلت الرواية من وصل أو قطع فحكمها ثابت لأن إرسال من أرسله لا يمنع صحة وصل من وصله ومع ذلك لو حصل مرسلا لكان حكمه ثابتا لأن المرسل والموصول سواء عندنا فيما يوجبون من الحكم فقد قطع النبي صلى الله عليه وسلم بإقراره مرة واحدة فإن قال قائل إنما قطعه بشهادة الشهود لأنهم قالوا سرق قيل له لو كان كذلك لاقتصر عليها ولم يلقنه الجحود فلما قال بعد قولهم سرق وما أخاله سرق ولم يقطعه حتى أقر ثبت أنه قطع بإقراره دون الشهادة فإن احتجوا بما روى حماد بن سلمة عن إسحاق عن عبد الله بن أبي طلحة عن أبي المنذر مولى أبي ذر عن أبي أمية المخزومي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بلص اعترف اعترافا ولم يوجبوا معه المتاع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخالك سرقت قال بلى يا رسول الله فأعادها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين أو ثلاثا قال بلى فأمر به فقطع ففي هذا الحديث أنه لم يقطعه بإقراره مرة واحدة وهو أقوى إسنادا من الأول قيل له ليس في هذا الحديث بيان موضع الخلاف وذلك أنه لم يذكر فيه إقرار السارق مرتين أو ثلاثا وإنما فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعاد عليه القول مرتين أو ثلاثا قبل أن يقر ثم أقر فإن قيل فقد ذكر فيه أنه اعترف اعترافا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " ما إخالك سرقت " وأعاده مرتين أو ثلاثا. قيل: له: يحتمل أنه يريد اعترف بعدما قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذلك مرتين أو ثلاثا ويحتمل أيضا أن يكون الاعتراف قد حصل منه عند غير النبي صلى الله عليه وسلم فلا يوجب ذلك القطع عليه وأيضا لو ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أعاد عليه ذلك بعد الإقرار الأول لما دل على أن الإقرار الأول لم يوجب القطع إذ ليس يمتنع أن يكون القطع قد وجب وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوصل إلى إسقاطه بتلقينه الرجوع عنه فإن قيل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما بنبغي لوال أمر أن يؤتى الحد إلا أقامه فلو كان القطع واجبا بإقراره بديا لما اشتغل النبي صلى الله عليه وسلم بتلقينه الرجوع عن الإقرار ولسارع إلى إقامته قيل له ليس وجوب القطع مانعا من استثبات الإمام إياه فيه ولا موجبا عليه قطعه في الحال لأن ماعزا قد أقر عند النبي صلى الله عليه وسلم بالزنا أربع مرات فلم يرجمه حتى استثبته
[ 535 ]
وقال لعلك قبلت لعلك لمست وسأل أهله عن صحة عقله وقال لهم أبه جنة ولم يدل ذلك على أن الرجم لم يكن قد وجب بإقراره أربع مرات فليس إذا في هذا الخبر ما يعترض به على خبر أبي هريرة الذي ذكر فيه أنه أمر بقطعه حين أقر ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقدم على إقامة حد لم يجب بعد وليس يمتنع أن يؤخر إقامة حد قد وجب مستثبتا لذلك ومتحريا بالاحتياط والثقة فيه ويدل على صحة ما ذكرنا أيضا حديث ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري عن أبيه أن عمرو بن سمرة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا إنا فقدنا جملا لنا فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت يده ففي هذا الخبر أيضا قطعه بإقراره مرة واحدة ومن جهة النظر أيضا أن السرقة المقر بها لا تخلو من أن تكون عينا أو غير عين فإن كانت عينا ولم يجب القطع بإقرار الأول فقد وجب ضمانها لا محالة من قبل أن حق الآدمي فيه يثبت بإقراره مرة واحدة ولا يتوقف على الإقرار ثانيا وإذا ثبت الملك للمقر له ولم يثبت القطع صار مضمونا عليه وحصول الضمان ينفي القطع وإن كانت السرقة ليست بعين قائمة قد صارت دينا بالإقرار الأول وحصولها دينا في ذمته ينفي القطع على ما وصفنا فإن قال قائل إذا جاز أن يكون حكم أخذه بديا على وجه السرقة موقوفا في القطع على نفي الضمان وإثباته فهلا جعلت حكم إقراره موقوفا في تعلق الضمان به على وجوب القطع وسقوطه قيل له نفس الأخذ عندنا على وجه السرقة يوجب القطع فلا يكن موقوفا وإنما سقوط القطع بعد ذلك يوجب الضمان ألا ترى أنه إذا ثبتت السرقة بشهادة الشهود كان كذلك حكمها فإن لم يكن الإقرار بديا موجبا للقطع فينبغي أن يوجب الضمان ووجوب الضمان ينفي القطع إذ كان إقراره الثاني لا ينفي ما قد حصل عليه من الضمان النافي للقطع بإقراره الأول فإن قيل ينتقض هذا الاعتلال بالإقرار بالزنا لأن إقراره الأول بالزنا إذا لم يوجب حدا فلا بد من إيجاب المهر به لأن الوطء في غير ملك لا يخلو من إيجاب حد أو ومهر ومتى انتفى الحد وجب المهر وإقراره الثاني والثالث والرابع لا يسقط المهر الواجب بديا بالإقرار الأول وهذا يؤدي إلى سقوط اعتبار عدد الإقرار في الزنا فلما صح وجوب اعتبار عدد الإقرار في الزنا مع وجود العلة المانعة من اعتبار عدد الإقرار في السرقة بان فيه فساد اعتلالك قيل له ليس هذا مما ذكرناه في شئ وذلك أن سقوط الحد في الزنا على وجه الشبهة لا يجب به مهر لأن البضع لا قيمة له إلا من جهة عقد أو شبهة عقد ومتى عري من ذلك لم يجب مهر ويدل عليه اتفاقهم جميعا على أنه لو
[ 536 ]
أقر بالزنا مرة واحدة ثم مات أو قامت عليه بينة بالزنا فمات قبل أن يحد لم يجب عليه المهر في ماله ولو مات بعد إقراره بالسرقة مرة واحدة لكانت السرقة مضمونة عليه باتفاق منهم جميعا فقد حصل من قولهم جميعا إيجاب الضمان بالإقرار مرة واحدة وسقوط المهر مع الإقرار بالزنا من غير حد واحتج الآخرون بما روى الأعمش عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن علي أن رجلا أقر عنده بسرقة مرتين فقال شهدت على نفسك بشهادتين فأمر به فقطع وعلقها في عنقه ولا دلالة في هذا الحديث على أن مذهب علي رضي الله عنه أنه لا يقطع إلا بالإقرار مرتين إنما قال شهدت على نفسك بشهادتين ولم يقل لو شهدت بشهادة واحدة لما قطعت وليس فيه أيضا أنه لم يقطع حتى أقر مرتين ومما يحتج به لأبي يوسف من طريق النظر أن هذا لما كان حدا يسقط بالشبهة وجب أن يعتبر عدد الإقرار فيه بالشهادة فلما كان أقل من يقبل فيه شهادة شاهدين وجب أن يكون أقل ما يصح به إقراره مرتين كالزنا اعتبر عدد الإقرار فيه بعدد الشهود وهذا يلزم ابا يوسف أن يعتبر عدد الإقرار في شرب الخمر بعدد الشهود وقد سمعت أبا الحسن الكرخي يقول إنه وجد عن أبي يوسف في شرب الخمر أنه لا يحد حتى يقر مرتين كعدد الشهود ولا يلزم عليه حد القذف لأن المطالبة به حق لآدمي وليس كذلك سائر الحدود وهذا الضرب من القياس مدفوع عندنا فإن المقادير لا تؤخذ من طريق المقاييس فيما كان هذا صفته وإنما طريقها التوقيف والاتفاق باب السرقة من ذوي الأرحام قال أبو بكر قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما عموم في إيجاب قطع كل سارق إلا ما خصه الدليل على النحو الذي قدمنا وعلى ما حكينا عن أبي الحسن ليس بعموم وهو مجمل محتاج فيه إلى دلالة من غيره في إثبات حكمه ومن جهة أخرى على أصله أن ما ثبت خصوصه بالاتفاق لا يصح الاحتجاج بعمومه وقد بينا ذلك في أصول الفقه وهو مذهب محمد بن شجاع إلا أنه وإن كان عموما عندنا لو خلينا ومقتضاه فقد قامت دلالة خصوصه في ذوي الرحم المحرم وقد اختلف الفقهاء فيه ذكر الاختلاف في ذلك قال أصحابنا لا يقطع من سرق من ذي الرحم وهو الذي لو كان أحدهما رجلا والآخر امرأة لم يجز له أن يتزوجها من أجل الرحم الذي بينهما ولا تقطع أيضا عندهم
[ 537 ]
المرأة إذا سرقت من زوجها ولا الزوج إذا سرق من امرأته وقال الثوري إذا سرق من ذوي رحم منه لم يقطع وقال مالك يقطع الزوج فيما سرق من امرأته والمرأة فيما تسرق من زوجها في غير الموضع الذي يسكنان فيه وكذلك في الأقارب وقال عبيدالله بن الحسن في الذي يسرق من أبويه إن كان يدخل عليهم لا يقطع وإن كانوا نهوه عن الدخول عليهم فسرق قطع وقال الشافعي لا قطع على من سرق من أبويه أو أجداده ولا على زوج سرق من امرأته أو امرأة سرقت من زوجها والدليل على صحة قول أصحابنا قول الله عز وجل ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم إلى قوله أو ما ملكتم مفاتحه فأباح تعالى الأكل من بيوت هؤلاء وقد اقتضى ذلك إباحة الدخول إليها بغير إذنهم فإذا جاز لهم دخولها لم يكن ما فيها محرزا عنهم ولا قطع إلا فيما سرق من حرز وأيضا إباحة أكل أموالهم يمنع وجوب القطع فيها لما لهم فيها من الحق كالشريك ونحوه فإن قيل فقد قال أو صديقكم ويقطع فيه مع ذلك إذا سرق من صديقه قيل له ظاهر الآية ينفي القطع من الصديق أيضا وإنما خصصناه بدلالة الاتفاق ودلالة اللفظ قائمة فيما عداه وعلى أنه لا يكون صديقا إذا قصد السرقة ودليل آخر هو أنه قد ثبت عندنا وجوب نفقة هؤلاء عند الحاجة إليه وجواز أخذها منه بغير يدل فأشبه السارق من بيت المال لثبوت حقه فيه بغير بدل يلزمه عند الحاجة إليه فإن قيل قد ثبت هذا الحق عند الضرورة في مال الأجنبي ولم يمنع من القطع بالسرقة منه قيل له يعترضان من وجهين أحدهما أنه في مال الأجنبي يثبت عند الضرورة وخوف التلف وفي مال هؤلاء يثبت بالفقر وتعذر الكسب والوجه الآخر أن الأجنبي يأخذه ببدل وهؤلاء يستحقونه بغير بدل كمال بيت المال وأيضا فلما استحق عليه إحياء نفسه وأعضائه عند الحاجة إليهم بالإنفاق عليه وكان هذا السارق محتاجا إلى هذا المال في إحياء يده لسقوط القطع صار في هذه الحالة كالفقير الذي يستحق على ذي الرحم المحرم منه الإنفاق عليه لإحياء نفسه أو بعض أعضائه وأيضا فهو مقيس على الأب بالمعنى الذي قدمناه والله تعالى أعلم باب فيمن سرق ما قد قطع فيه قال أصحابنا فيمن سرق ثوبا فقطع فيه ثم سرقه مرة أخرى وهو بعينه لم يقطع فيه والأصل فيه أنه لا يجوز عندنا إثبات الحدود بالقياس وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق فلما عدمناهما فيه فيما وصفنا لم يبق في إثباته إلا القياس ولا يجوز ذلك عندنا
[ 538 ]
فإن قيل هلا قطعته بعموم قوله والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما قبل السرقة قيل له السرقة الثانية لم يتناولها العموم لأنها توجب قطع الرجل لو وجب القطع والذي في الآية قطع اليد وأيضا فإن وجوب قطع السرقة متعلق بالفعل والعين جميعا والدليل عليه أنه متى سقط القطع وجب ضمان العين كما أن حد الزنا لما تعلق بالوطء كان سقوط الحد موجبا ضمان الوطء ولما تعلق وجوب القصاص بقتل النفس كان سقوط القود موجبا ضمان النفس فكذلك وجوب ضمان العين في السرقة عند سقوط القطع يوجب اعتبار العين في ذلك فلما كان فعل واحد في عينين لا يوجب إلا قطعا واحدا كان كذلك حكم الفعلين في عين واحدة ينبغي أن لا يوجب إلا قطعا واحدا إذا كان لكل واحد من العينين أعني الفعل والعين تأثير في إيجاب القطع فإن قيل فلو زنى بامرأة فحد ثم زنى بها مرة أخرى حد ثانيا مع وقوع الفعلين في عين واحدة قيل له لأنه لا تأثير لعين المرأة في تعلق وجوب الحد بها وإنما يتعلق وجوب حد الزنا بالوطء لا غير والدليل على ذلك أنه متى سقط الحد ضمن الوطء ولم يضمن عين المرأة وفي السرقة متى سقط القطع ضمن عين السرقة وأيضا فلما صارت السرقة في يده بعد القطع في حكم المباح التافه بدلالة أن استهلاكها لا يوجب عليه ضمانها وجب أن لا يقطع فيها بعد ذلك كما لا يقطع في سائر المباحات التافهة في الأصل وإن حصلت ملكا للناس كالطين والخشب والحشيش والماء ومن أجل ذلك قالوا إنه لو كان غزلا فنسجه ثوبا بعد ما قطع فيه ثم سرقه مرة أخرى قطع لأن حدوث هذا الفعل فيه يرفع حكم الإباحة المانعة كانت من وجوب القطع كما لو سرق خشبا لم يقطع فيه ولو كان بابا منجورا فسرقه قطع لخروجه بالصنعة عن الحال الأولى وأيضا لما كان وقوع القطع فيه يوجب البراءة من استهلاكه قام القطع فيه مقام دفع قيمته فصار كأنه عوضه منه وأشبه من هذا الوجه وقوع الملك له في المسروق لأن استحقاق البدل عليه يوجب له الملك فلما أشبه ملكه من هذا الوجه سقط القطع لأنه يسقط بالشبهة أن يشبه المباح من وجب ويشبه الملك من وجه باب السارق يوجد قبل إخراج السرقة قال أبو بكر رحمه الله اتفق فقهاء الأمصار على أن القطع غير واجب إلا أن يفرق بين المتاع وبين حرزه والدار كلها حرز واحد فكما لم يخرجه من الدار لم يجب القطع وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عمر وهو قول إبراهيم وروى يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم قال بلغ عائشة أنهم كانوا يقولون إذا لم
[ 539 ]
يخرج بالمتاع لم يقطع فقالت عائشة لو لم أجد إلا سكينا لقطعته وروى سعيد عن قتادة عن الحسن قال إذا وجد في بيت فعليه القطع قال أبو بكر دخوله البيت لا يستحق به اسم السارق فلا يجوز إيجاب القطع به وأخذه في الحرز أيضا لا يوجب القطع لأنه باق في الحرز ومتى لم يخرجه من الحرز فهو بمنزلة من لم يأخذه فلا يجب عليه القطع ولو جاز إيجاب القطع في مثله لما كان لاعتبار الحرز معنى والله أعلم باب غرم السارق بعد القطع قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري وابن شبرمة إذا قطع السارق فإن كانت السرقة قائمة بعينها أخذها المسروق منه وإن كانت مستهلكة فلا ضمان عليه وهو قول مكحول وعطاء والشعبي وابن شبرمة وأحد قولي إبراهيم النخعي وقال مالك يضمنها إن كان موسرا ولا شئ عليه إن كان معسرا وقال عثمان البتي والليث والشافعي يغرم السرقة وإن كانت هالكة وهو قول الحسن والزهري وحماد وأحد قولي إبراهيم قال أبو بكر أما إذا كانت قائمة بعينها فلا خلاف أن صاحبها يأخذها وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع سارق رداء صفوان ورد الرداء على صفوان والذي يدل على نفي الضمان بعد القطع قوله تعالى فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والجزاء اسم لما يستحق بالفعل فإذا كان الله تعالى جعل جميع ما يستحق بالفعل هو القطع لم يجز إيجاب الضمان معه لما فيه من الزيادة في حكم المنصوص ولا يجوز ذلك إلا بمثل ما يجوز به النسخ وكذلك قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله فأخبر أن جميع الجزاء هو المذكور في الآية لأن قوله تعالى إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ينفي أن يكون هناك جزاء غيره ومن جهة السنة حديث عبد الله بن صالح قال حدثني المفضل بن فضالة عن يونس بن زيد قال سمعت سعد بن إبراهيم يحدث عن أخيه المسور بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا أقمتم على السارق الحد فلا غرم عليه وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن نصر بن صهيب قال حدثنا أبو بكر بن أبي شجاع الأدمي قال حدثني خالد بن خداش قال حدثنا إسحق بن الفرات قال حدثنا المفضل بن فضالة عن يونس عن الزهري عن سعد بن إبراهيم عن المسور بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق فأمر بقطعه وقال لا غرم عليه وقال عبد الباقي هذا هو الصحيح وأخطأ فيه خالد بن خداش فقال المسور بن مخرمة ويدل عليه من جهة النظر امتناع وجوب الحد والمال بفعل واحد كما لا يجتمع
[ 540 ]
الحد والمهر والقود والمال فوجب أن يكون القطع نافيا لضمان المال إذ كان المال في الحدود لا يجب إلا مع الشبهة وحصول الشبهة ينفي وجوب القطع ووجه آخر وهو أن من أصلنا أن الضمان سبب لإيجاب الملك فلو ضمناه لملكه بالأخذ الموجب للضمان فيكون حينئذ مقطوعا في ملك نفسه وذلك ممتنع فلما لم يكن لنا سبيل إلى رفع القطع وكان في إيجاب الضمان إسقاط القطع امتنع وجوب الضمان باب الرشوة قال الله تعالى سماعون للكذب أكالون للسحت قيل إن اصل السحت الاستيصال يقال أسحته صلى إسحاتا إذا استأصله وأذهبه قال الله عز وجل فيسحتكم بعذاب أي يستأصلكم به ويقال أسحت ماله إذا أفسده وأذهبه فسمى الحرام سحتا لأنه لا بركة فيه لأهله ويهلك به صاحبه هلاك الاستيصال وروى ابن عيينة عن عمار الدهني عن سالم بن أبي الجعد عن مسروق قال سألت عبد الله بن مسعود عن السحت أهو الرشوة في الحكم فقال ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ولكن السحت أن يستشفع بك على إمام فتكلمه فيهدي لك هدية فتقبلها وروى شعبة عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن مسروق قال سألت عبد الله عن الجور في الحكم فقال ذلك كفر وسألته عن السحت فقال الرشا وروى عبد الأعلى بن حماد حدثنا حماد عن أبان عن ابن أبي عياش عن مسلم أن مسروقا قال قلت لعمر يا أمير المؤمنين أرأيت الرشوة في الحكم من السحت قال لا ولكن كفر إنما السحت أن يكون لرجل عند سلطان جاه ومنزلة ويكون للآخر إلى السلطان حاجة فلا يقضي حاجته حتى يهدي إليه وروي عن علي بن أبي طالب قال السحت الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسب الفحل وكسب الحجام وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستعجال في القضية فكأنه جعل السحت اسما لأخذ مالا يطيب أخذه وقال إبراهيم والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك السحت الرشا وروى منصور عن الحكم عن أبي وائل عن مسروق قال إن القاضي إذا أخذ الهدية فقد أكل السحت وإذا أكل الرشوة بلغت به الكفر وقال الأعمش عن خيثمة عن عمر قال بابان من السحت يأكلهما الناس الرشا ومهر الزانية وروى إسماعيل بن زكريا عن إسماعيل بن مسلم عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هدايا الأمراء من السحت وروى أبو إدريس الخولاني عن ثوبان قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي وروى أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبي
[ 541 ]
هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم قال أبو بكر اتفق جميع المتأولين لهذه الآية على أن قبول الرشا محرم واتفقوا على أنه من السحت الذي حرمه الله تعالى مطلب: في وجوه الرشوة والرشوة تنقسم إلى وجوه منها الرشوة في الحكم وذلك محرم على الراشي والمرتشي جميعا وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم لعن الله الراشي والمرتشي والرائش وهو الذي يمشي بينهما فلذلك لا يخلو من أن يرشوه ليقضي له بحقه أو بما ليس بحق له فإن رشاه ليقضي له بحقه فقد فسق الحاكم بقبول الرشوة على أن يقضي له بما هو فرض عليه واستحق الراشي الذم حين حاكم إليه وليس بحاكم ولا ينفذ حكمه لأنه قد انعزل عن الحكم بأخذه الرشوة كمن أخذ الأجرة على أداء الفروض من الصلاة والزكاة والصوم ولا خلاف في تحريم الرشا على الأحكام وأنها من السحت الذي حرمه الله في كتابه وفي هذا دليل أن كل ما كان مفعولا على وجه الفرض والقربة إلى الله تعالى أنه لا يجوز أخذ الأجرة عليه كالحج وتعليم القرآن والإسلام ولو كان أخذ الأبدال على هذه الأمور جائز لجاز أخذ الرشا على إمضاء الأحكام فلما حرم الله أخذ الرشا على الأحكام واتفقت الأمة عليه دل ذلك على فساد قول القائلين بجواز أخذ الأبدال على الفروض والقرب وإن أعطاه الرشوة على أن يقضي له بباطل فقد فسق الحاكم من وجهين أحدهما أخذ الرشوة والآخر الحكم بغير حق وكذلك الراشي وقد تأول ابن مسعود ومسروق السحت على الهدية في الشفاعة إلى السلطان وقال إن أخذ الرشا على الأحكام كفر وقال علي رضي الله عنه وزيد بن ثابت ومن قدمنا قوله الرشا من السحت وأما الرشوة في غير الحكم فهو ما ذكره ابن مسعود ومسروق في الهدية إلى الرجل ليعينه بجاهه عند السلطان وذلك منهي عنه أيضا لأن عليه معونته في دفع الظلم عنه قال الله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى وقال النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال الله في عون المرء ما دام المرء في عون أخيه ووجه آخر من الرشوة وهو الذي يرشو السلطان لدفع ظلمه عنه فهذه الرشوة محرمة على آخذها غير محظورة على معطيها وروي عن جابر بن زيد والشعبي قالا لا بأس بأن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم وعن عطاء وإبراهيم مثله وروى هشام عن الحسن قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي قال الحسن ليحق باطلا أو يبطل حقا فأما أن تدفع عن مالك فلا بأس وقال يونس عن الحسن لا بأس أن يعطي الرجل من ماله ما يصون به عرضه وروى عثمان بن الأسود عن مجاهد قال اجعل مالك جنة
[ 542 ]
دون دينك ولا تجعل دينك جنة دون مالك وروى سفيان عن عمرو عن أبي الشعثاء قال لم نجد زمن زياد شيئا أنفع لنا من الرشا فهذا الذي رخص فيه السلف إنما هو في دفع الظلم عن نفسه بما يدفعه إلى من يريد ظلمه أو انتهاك عرضه وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم غنائم خيبر وأعطى تلك العطايا الجزيلة أعطى العباس بن مرداس السلمي شيئا فسخطه فقال شعرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم اقطعوا عنا لسانه فزادوه حتى رضي وأما الهدايا للأمراء والقضاة فإن محمد بن الحسن كرهها وإن لم يكن للمهدي خصم ولا حكومة عند الحاكم ذهب في ذلك إلى حديث أبي حميد الساعدي في قصة ابن اللتبية حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة فلما جاء قال هذا لكم وهذا أهدي لي فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما بال أقوام نستعملهم على ما ولانا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي فهلا جلس في بيت أبيه فنظر أيهدى له أم لا وما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال هدايا الأمراء غلول وهدايا الأمراء سحت وكره عمر بن عبد العزيز قبول الهدية فقيل له إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها فقال كانت حينئذ هدية وهي اليوم سحت ولم يكره محمد للقاضي قبول الهدية ممن كان يهديه قبل القضاء فكأنه إنما كره منها ما أهدي له لأجل أنه قاض ولولا ذلك لم يهد له وقد دل على هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم هلا جلس في بيت أبيه وأمه فنظر أيهدى له أم لا فأخبر أنه إنما أهدي له لأنه عامل ولولا أنه عامل لم يهد له وأنه لا يحل له وأما من كان يهاديه قبل القضاء وقد أعلم به لم يهده إليه لأجل القضاء فجائز له قبوله على حسب ما كان يقبله قبل ذلك وقد روي أن بنت ملك الروم أهدت لأم كلثوم بنت علي امرأة عمر فردها عمر ومنع قبولها باب الحكم بين أهل الكتاب قال الله تعالى فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ظاهر ذلك يقتضي معنيين أحدهما تخليتهم وأحكامهم من غير اعتراض عليهم والثاني التخيير بين الحكم والإعراض إذا ارتفعوا إلينا وقد اختلف السلف في بقاء هذا الحكم فقال قائلون منهم إذا ارتفعوا إلينا فإن شاء الحاكم حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم وردهم إلى دينهم وقال آخرون التخيير منسوخ فمتى ارتفعوا إلينا حكمنا بينهم من غير تخيير
[ 543 ]
فممن أخذ بالتخيير عند مجيئهم إلينا الحسن والشعبي وإبراهيم رواية وروي عن الحسن خلوا بين أهل الكتاب وبين حاكمهم وإذا ارتفعوا إليكم فأقيموا عليهم ما في كتابكم وروى سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال آيتان نسختا من سورة المائدة آية القلائد وقوله تعالى فاحكم بينهم أو أعرض عنهم) فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيرا إن شاء حكم بينهم أو أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم حتى نزلت وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما أنزل الله في كتابه وروى عثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم قال نسخها قوله وأن احكم بينهم بما انزل الله وروى سعيد بن جبير عن الحكم عن مجاهد فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم قال نسختها وأن احكم بينهم بما أنزل الله وروى سفيان عن السدي عن عكرمة مثله قال أبو بكر فذكر هؤلاء أن قوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله ناسخ للتخيير المذكور في قوله فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ومعلوم أن ذلك لا يقال من طريق الرأي لأن العلم بتواريخ نزول الآي لا يدرك من طريق الرأي والاجتهاد وإنما طريقه التوقيف ولم يقل من أثبت التخيير أن آية التخيير نزلت بعد قوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله وأن التخيير نسخه وإنما حكى عنهم مذاهبهم في التخيير من غير ذكر النسخ فثبت نسخ التخيير بقوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله كرواية من ذكر نسخ التخيير ويدل على نسخ التخيير قوله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون الايات ومن أعرض عنهم فلم يحكم في تلك الحادثة التي اختصموا فيها بما أنزل الله ولا نعلم أحدا قال إن في هذه الآيات ومن لم يحكم بما أنزل الله منسوخا إلا ما يروى عن مجاهد رواه منصور عن الحكم عن مجاهد أن قوله ومن لم يحكم بما أنزل الله نسخها ما قبلها فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وقد روى سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد أن قوله فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم منسوخ بقوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله ويحتمل أن يكون قوله تعالى فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم قبل أن تعقد لهم الذمة ويدخلوا تحت أحكام الإسلام بالجزية فلما أمر الله بأخذ الجزية منهم وجرت عليهم أحكام الإسلام أمر بالحكم بينهم بما أنزل الله فيكون حكم الآيتين جميعا ثابتا للتخيير في أهل العهد الذين لا ذمة لهم ولم يجر عليهم أحكام المسلمين كأهل الحرب إذا هادناهم وإيجاب الحكم بما أنزل الله في أهل الذمة
[ 544 ]
الذين يجري عليهم أحكام المسلمين وقد روي عن ابن عباس ما يدل على ذلك روى محمد بن إسحق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن الآية التي في المائدة قول الله تعالى فاحكم بينهم أو أعرض عنهم إنما نزلت في الدية بين بني قريظة وبين بني النضير وذلك أن بني النضير كان لهم شرف يدون دية كاملة وأن بني قريظة يدون نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ذلك فيهم فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك فجعل الدية سواء ومعلوم أن بني قريظة والنضير لم تكن لهم ذمة قط وقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير وقتل بني قريظة ولو كان لهم ذمة لما أجلاهم ولا قتلهم وإنما كان بينه وبينهم عهد وهدنة فنقضوها فأخبر ابن عباس إن آية التخيير نزلت فيهم فجائز أن يكون حكمها باقيا في أهل الحرب من أهل العهد وحكم الآية الأخرى في وجوب الحكم بينهم بما أنزل الله تعالى ثابتا في أهل الذمة فلا يكون فيها نسخ وهذا تأويل سائغ لولا ما روي عن السلف من نسخ التخيير بالآية الأخرى وروي عن ابن عباس رواية أخرى وعن الحسن ومجاهد والزهري أنها نزلت في شأن الرجم حين تحاكموا إليه وهؤلاء أيضا لم يكونوا أهل ذمة وإنما تحاكموا إليه طلبا للرخصة وزوال الرجم فصار النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت مدارسهم ووقفهم على آية الرجم وعلى كذبهم وتحريفهم كتاب الله ثم رجم اليهوديين وقال اللهم إني أول من أحيا سنة أماتوها وقال أصحابنا أهل الذمة محمولون في ا لبيوع والمواريث وسائر العقود على أحكام الإسلام كالمسلمين إلا في بيع الخمر والخنزير فإن ذلك جائز فيما بينهم لأنهم مقرون على أن تكون مالا لهم ولو لم يجز مبايعتهم وتصرفهم فيها والانتفاع بها لخرجت من أن تكون مالا لهم ولما وجب على مستهلكها عليهم ضمان ولا نعلم خلافا بين الفقهاء فيمن استهلك لذمي خمرا أن عليه قيمتها وقد روي أنهم كانوا يأخذون الخمر من أهل الذمة في العشور فكتب إليهم عمر أن ولوهم بيعها وخذوا العشر من أثمانها فهذان مال لهم يجوز تصرفهم فيهما وما عدا ذلك فهو محمول على أحكامنا لقوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب إلى أهل نجران إما أن تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله فجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم في حظر الربا ومنعهم منه كالمسلمين قال الله تعالى وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل فأخبر أنهم منهيون عن الربا وأكل المال بالباطل كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فسوى بينهم وبين المسلمين في المنع
[ 545 ]
من الربا والعقود الفاسدة المحظورة وقال تعالى سماعون للكذب أكالون للسحت فهذا الذي ذكرناه مذهب أصحابنا في عقود المعاملات والتجارات وحدود أهل الذمة والمسلمون فيها سواء إلا أنهم لا يرجمون لأنهم غير محصنين وقال مالك الحاكم مخير إذا اختصموا إليه بين أن يحكم بينهم بحكم الإسلام أو يعرض عنهم فلا يحكم بينهم وكذلك قوله في العقود والمواريث وغيرها واختلف أصحابنا في مناكحتهم فيما بينهم فقال أبو حنيفة هم مقرون على أحكامهم لا يعترض عليهم فيها إلا أن يرضوا لأحكامنا فإن رضي بها الزوجان حملا على أحكامنا وإن أبى أحدهما لم يعترض عليهم فإذا تراضيا جميعا حملهما على أحكام الإسلام إلا في النكاح بغير شهود والنكاح في العدة فإنه لا يفرق بينهم وكذلك إن أسلموا وقال محمد إذا رضي احدهما حملا جميعا على أحكامنا وإن أبى الآخر إلا في النكاح بغير شهود خاصة وقال أبو يوسف يحملون على أحكامنا وإن أبوا إلا في النكاح بعد شهود نجيزه إذا تراضوا بها فأما أبو حنيفة فإنه يذهب في إقرارهم على مناكحتهم إلى أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر مع علمه بأنهم يستحلون نكاح ذوات المحرم ومع علمه بذلك لم يأمر بالتفرقة بينهما وكذلك اليهود والنصارى يستحلون كثيرا من عقود المناكحات المحرمة ولم يأمر بالتفرقة بينهما حين عقد لهم الذمة من أهل نجران ووادي القرى وسائر اليهود والنصارى الذين دخلوا في الذمة ورضوا بإعطاء الجزية وفي ذلك دليل أنه أقرهم على مناكحتهم كما أقرهم على مذاهبهم الفاسدة واعتقاداتهم التي هي ضلال وباطل ألا ترى أنه لما علم استحلالهم للربا كتب إلى أهل نجران إما أن تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله فلم يقرهم عليه حين علم بتايعهم وقال به وأيضا قد علمنا أن عمر بن الخطاب لما فتح السواد أقر أهلها عليها وكانوا مجوسا ولم يثبت أنه أمر بالتفريق بين ذوي المحارم منهم مع علمه بمناكحتهم وكذلك سائر الأمة بعده جروا على منهاجه في ترك الإعتراض عليهم وفي ذلك دليل على صحة ما ذكرنا فإن قيل فقد روي عن عمر انه كتب إلى سعد يأمره بالتفريق بين ذوي المحارم منهم وأن يمنعهم من المذهب فيه قيل له لو كان هذا ثابتا لورد النقل متواترا كوروده في سيرته فيهم في أخذ الجزية ووضع الخراج وسائر ما عاملهم به فلما لم يرد ذلك من جهة التواتر علمنا أنه غير ثابت ويحتمل أن يكون كتابه إلى سعد بذلك إنما كان فيمن رضي منهم بأحكامنا وكذلك نقول إذا تراضوا بأحكامنا وأيضا قد بينا أن قوله وأن احكم بينهم بما أنزل الله ناسخ للتخيير المذكور في قوله فإن جاؤك فاحكم بينهم أو
[ 546 ]
أعرض عنهم والذي ثبت نسخه من ذلك هو التخيير فأما شرط المجئ منهم فلم تقم الدلالة على نسخه فينبغي أن يكون حكم الشرط باقيا والتخيير منسوخا فيكون تقديره مع الآية الأخرى فإن جاؤك فاحكم بينهم بما أنزل وإنما قال إنهم يحملون على أحكامنا إذا رضوا بها إلا في النكاح بغير شهود والنكاح في العدة من قبل أنه لما ثبت أنه ليس لنا اعتراض عليهم قبل التراضي منهم بأحكامنا فمتى تراضوا بها وارتفعوا إلينا فإنما الواجب إجراؤهم على أحكامنا في المستقبل ومعلوم أن العدة لا تمنع بقاء النكاح في المستقبل وإنما تمنع الابتداء لأن امرأة تحت زوج أو طرأت عليها عدة من وطء بشبهة لم يمنع ما وجب من العدة بقاء الحكم فثبت أن العدة إنما تمنع ابتداء العقد ولا تمنع البقاء فمن أجل ذلك لم يفرق بينهما ومن جهة أخرى أن العد حق الله تعالى وهم غير مؤاخذين بحقوق الله تعالى في أحكام الشريعة فإذا لم تكن عندهم عدة واجبة لم تكن عليها عدة فجاز نكاحها الثاني وليس كذلك نكاح ذوات المحارم إذ لا يختلف فيها حكم الابتداء والبقاء في باب بطلانه وأما النكاح بغير شهود فإن الذي هو شرط في صحة العقد وجوب الشهود في حال العقد ولا يحتاج في بقائه إلى استصحاب الشهود لأن الشهود لو ارتدوا بعد ذلك أو ماتوا لم يؤثر ذلك في العقد فإذا كان إنما يحتاج إلى الشهود للابتداء لا للبقاء لم يجز أن يمنع البقاء في المستقبل لأجل عدم الشهود ومن جهة أخرى أن النكاح بغير شهود مختلف فيه بين الفقهاء فمنهم من يجيزه والاجتهاد سائغ في جوازه ولا يعترض على المسلمين إذا عقدوه ما لم يختصموا فيه فغير جائز فسخه إذا عقدوه في حال الكفر إذ كان ذلك سائغا جائزا في وقت وقوعه لو أمضاه حاكم ما بين المسلمين جاز ولم يجز بعد ذلك فسخه وإنما اعتبر أبو حنيفة تراضيهما جميعا بأحكامنا من قبل قول الله تعالى فإن جاؤك فاحكم بينهم فشرط مجيئهم فلم يجز الحكم على أحدهما بمجئ الآخر فإن قال قائل إذا رضي أحدهما بأحكامنا فقد لزمه حكم الإسلام فيصير بمنزلته لو أسلم فيحمل الآخر معه على حكم الإسلام قيل له هذا غلط لأن رضاه بأحكامنا لا يلزمه ذلك إيجابا ألا ترى أنه لو رجع عن الرضا قبل الحكم عليه لم يلزمه إياه بعد الإسلام يمكنه الرضا بأحكامنا وأيضا إذا لم يجز أن يعترض عليهم إلا بعد الرضا بحكمنا فمن لم يرض به مبقي على حكمه لا يجز إلزامه حكما لأجل رضا غيره وذهب محمد إلى أن رضا أحدهما يلزم الآخر حكم الإسلام كما لو أسلم وذهب أبو يوسف إلى ظاهر قوله تعالى وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم قوله تعالى وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله يعني الله أعلم
[ 547 ]
فيما تحاكموا إليك فيه فقيل إنهم تحاكموا إليه في حد الزانيين وقيل في الدية بين بني قريظة وبني النضير فأخبر تعالى أنهم لم يتحاكموا إليه تصديقا منهم بنبوته وإنما طلبوا الرخصة ولذلك قال وما أولئك بالمؤمنين يعني هم غير مؤمنين بحكمك أنه من عند الله مع جحدهم بنبوتك وعدولهم عما يعتقدونه حكما لله مما في التوراة ويحتمل أنهم حين طلبوا غير حكم الله ولم يرضوا به فهم كافرون غير مؤمنين وقوله تعالى وعندهم التوراة فيها حكم الله يدل على أن حكم التوراة فيما اختصموا فيه لم يكن منسوخا وأنه صار بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم شريعة لنا لم ينسخ لأنه لو نسخ لم يطلق عليه بعد النسخ أنه حكم الله كما لا يطلق أن حكم الله تحليل الخمر أو تحريم السبت وهذا يدل على أن شرائع من قبلنا من الأنبياء لازمة لنا ما لم تنسخ وأنها حكم الله بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي عن الحسن في قوله تعالى فيها حكم الله) بالرجم لأنهم اختصموا إليه في حد الزنا وقال قتادة فيها حكم الله بالقود لأنهم اختصموا في ذلك وجائز أن يكونوا تحاكموا إليه فيهما جميعا من الرجم والقود قوله تعالى إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا روي عن الحسن وقتادة وعكرمة والزهري والسدي أن النبي صلى الله عليه وسلم مراد بقوله حكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا قال أبو بكر وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على الزانيين منهم بالرجم وقال اللهم إني أول من أحيا سنة أماتوها وكان ذلك في حكم التوراة وحكم فيه بتساوي الديات وكان ذلك أيضا حكم التوراة وهذا يدل على أنه حكم عليهم بحكم التوراة لا بحكم مبتدأ شريعة وقوله تعالى وكانوا عليه شهداء قال ابن عباس شهداء على حكم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في التوراة وقال غيره شهداء على ذلك الحكم أنه من عند الله وقال عز وجل فلا تخشوا الناس واخشون قال فيه السدي لا تخشوهم في كتمان ما أنزلت وقيل لا تخشوهم في الحكم بغير ما أنزلت وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن قال إن الله تعالى أخذ على الحكام ثلاثا أن لا يتبعوا الهوى وأن يخشوه ولا يخشوا الناس وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا ثم قال يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى الآية وقال إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا إلى قوله فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فتضمنت هذه
[ 548 ]
الآية معاني منها الإخبار بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم على اليهود بحكم التوراة ومنها أن حكم التوراة كان باقيا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب نسخه ودل ذلك على أن ذلك الحكم كان ثابتا لم ينسخ بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومنها إيجاب الحكم بما أنزل الله تعالى وأن لا يعدل عنه ولا يجابى أنه فيه مخالفة الناس ومنها تحريم أخذ الرشا في الأحكام وهو قوله تعالى ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا) وقوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله قال ابن عباس هو في الجاحد لحكم الله وقيل هي في اليهود خاصة وقال ابن مسعود والحسن وإبراهيم هي عامة يعني فيمن لم يحكم بما أنزل ا لله وحكم بغيره مخبرا أنه حكم الله تعالى ومن فعل هذا فقد كفر فمن جعلها في قوم خاصة وهم اليهود لم يجعل من بمعنى الشرط وجعلها بمعنى الذي لم يحكم بما أنزل الله والمراد قوم بأعيانهم وقال البراء بن عازب وذكر قصة رجم اليهود فأنزل الله تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر الآيات إلى قوله ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون قال في اليهود خاصة وقوله فأولئك هم الظالمون وأولئك هم الفاسقون في الكفار كلهم وقال الحسن ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون نزلت في اليهود وهي علينا واجبة وقال أبو مجلز نزلت في اليهود وقال أبو جعفر نزلت في اليهود ثم جرت فينا وروى سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري قال قيل لحذيفة ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) نزلت في بني إسرائيل قال نعم الأخوة لكم بنو إسرائيل إن كانت لكم كل حلوة ولهم كل مرة ولتسلكن طريقهم قد الشراك قال إبراهيم النخعي نزلت في بني إسرائيل ورضي لكم بها وروى الثوري عن زكريا عن الشعبي قال الأولى للمسلمين والثانية لليهود والثالثة للنصارى وقال طاوس ليس بكفر ينقل عن الملة وروى طاوس عن ابن عباس قال ليس الكفر الذي يذهبون إليه في قوله ومن لم يحكم بما أنزل ا لله فأولئك هم الكافرون وقال ابن جريج عن عطاء كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق وقال علي بن حسين رضي الله عنهما ليس بكفر شرك ولا ظلم شرك ولا فسق شرك قال أبو بكر قوله تعالى ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون لا يخلو من أن يكون مراده كفر الشرك والجحود أو كفر النعمة من غير جحود فإن كان المراد جحود حكم الله أو الحكم بغيره مع الإخبار بأنه حكم الله فهذا كفر يخرج عن الملة وفاعله مرتد إن كان قبل ذلك مسلما وعلى هذا تأوله من قال إنها نزلت في بني
[ 549 ]
إسرائيل وجرت فينا يعنون أن من جحد منا حكم أو حكم بغير حكم الله ثم قال إن هذا حكم الله فهو كافر كما كفرت بنو إسرائيل حين فعلوا ذلك وإن كان المراد به كفر النعمة فإن كفران النعمة قد يكون بترك الشكر عليها من غير جحود فلا يكون فاعله خارجا من الملة والأظهر هو المعنى الأول لإطلاقه اسم الكفر على من لم يحكم بما أنزل الله وقد تأولت الخوارج هذه الآية على تكفير من ترك الحكم بما أنزل الله من غير جحود لها وأكفروا بذلك كل من عصى الله بكبيرة أو صغيرة فإذا هم ذلك إلى الكفر والضلال بتكفيرهم الأنبياء بصغائر ذنوبهم قوله تعالى وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين الآية فيه إخبار عما كتب الله على بني إسرائيل في التوراة من القصاص في النفس وفي الأعضاء المذكورة وقد استدل أبو يوسف بظاهر هذه الآية على إيجاب القصاص بين الرجل والمرأة في النفس لقوله تعالى أن النفس بالنفس وهذا يدل على أنه كان من مذهبه أن شرائع من كان قبلنا حكمها ثابت إلى أن يرد نسخا على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أو بنص القرآن وقوله في نسق الآية ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون دليل على ثبوت هذا الحكم ي وقت نزول هذه الآية من وجهين أحدهما أنه قد ثبت أن ذلك مما أنزل الله ولم يفرق بين شئ من الأزمان فهو ثابت في كل الأزمان إلى أن يرد نسخه والثاني معلوم أنهم استحقوا سمة الظلم والفسق في وقت نزول الآية لتركهم الحكم بما أنزل الله تعالى من ذلك وقت نزول الآية إما جحودا له أو تركا لفعل ما أوجب الله من ذلك وهذا يقتضي وجوب القصاص في سائر النفوس ما لم تقم دلالة نسخه أو تخصيصه وقوله تعالى والعين بالعين معناه عند أصحابنا في العين إذا ضربت فذهب ضوءها وليس هو على أن تقلع عينه هذا عندهم لا قصاص فيه لتعذر استيفاء لا قصاص في مثله ألا ترى أنا لا نقف على الحد الذي يجب قلعه منها فهو كمن قطع قطعة لحم من فخذ رجل أو ذراعه أو قطع بعض فخذه فلا يجب فيه القصاص وإنما القصاص عندهم فيما قد ذهب ضوءها وهي قائمة أن تشد عينه الأخرى وتحمى له مرآة فتقدم إلى العين التي فيها القصاص حتى يذهب ضوءها وأما قوله تعالى والأنف بالأنف فإن أصحابنا قالوا إذا قطعه من أصله فلا قصاص فيه لأنه عظم لا يمكن استيفاء القصاص فيه كما لو قطع يده من نصف الساعد وكما لو قطع رجله من نصف الفخذ لا خلاف في سقوط القصاص فيه لتعذر استيفاء
[ 550 ]
المثل والقصاص هو أخذ المثل فمتى لم يكن كذلك لم يكن قصاصا وقالوا إنما يجب القصاص في الأنف إذا قطع المارن وهو ما لان منه ونزل عن قصبة الأنف وروي عن أبي يوسف أن في الأنف إذا استوعب القصاص وكذلك الذكر واللسان وقال محمد لا قصاص في الأنف واللسان والذكر إذا استوعب وقوله تعالى والأذن بالأذن فإنه يقتضي وجوب القصاص فيها إذا استوعبت لإمكان استيفائه وإذا قطع بعضها فإن أصحابنا قالوا فيه القصاص إذا كان يستطاع ويعرف قدره وقوله عز وجل والسن بالسن فإن أصحابنا قالوا لا قصاص في عظم إلا السن فإن قلعت أو كسر بعضها ففيها القصاص لإمكان استيفائه إن كان الجميع فبالقلع كما يقتص من اليد من المفصل وإن كان البعض فإنه يبرد بمقداره بالمبرد فيمكن استيفاء القصاص فيه وأما سائر العظام فغير ممكن استيفاء القصاص فيها لا نه لا يوقف على حده وقد اقتضى ما نص الله تعالى في هذه الأعضاء أن يؤخذ الكبير من هذه الأعضاء بصغيرها والصغير بالكبير بعد أن يكون المأخوذ منه مقابلا لما جني عليه لا غيره وقوله تعالى والجروح قصاص يعني إيجاب القصاص في سائر الجراحات التي يمكن استيفاء المثل فيها ودل به على نفي القصاص فيما لا يمكن استيفاء المثل فيه لأن قوله والجروح قصاص يقتضي أخذ المثل سواء ومتى لم يكن مثله فليس بقصاص وقد اختلف الفقهاء في أشياء من ذلك منها القصاص بين الرجال والنساء فيما دون النفس وقد بيناه في سورة البقرة وكذلك بين العبيد والأحرار ذكر الخلاف في ذلك قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك والشافعي لا تؤخذ اليمنى باليسرى لا في العين ولا في اليد ولا تؤخذ السن إلا بمثلها من الجاني وقال ابن شبرمة تفقأ العين اليمنى باليسرى واليسرى باليمنى وكذلك اليدان وتؤخذ الثنية بالضرس والضرس بالثنية وقال الحسن بن صالح إذا قطع أصبعا من كف فلم يكن للقاطع من تلك الكف أصبع مثلها قطع مما يلي تلك الأصبع ولا يقطع أصبع كف بأصبع كف أخرى وكذلك تقلع السن التي تليها إذا لم تكن للقاطع سن مثلها وإن بلغ ذلك الأضراس وتفقأ العين اليمنى باليسرى إذا لم تكن له يمنى ولا تقطع اليد اليمنى باليسرى ولا اليسرى باليمنى
[ 551 ]
قال أبو بكر لا خلاف أنه إذا كان ذلك العضو من الجاني باقيا لم يكن للمجني عليه استيفاء القصاص من غيره ولا يعدو ما قبله من عضو الجاني إلى غيره مما بإزائه وإن تراضيا به فدل ذلك على أن المراد بقوله تعالى والعين بالعين إلى آخر الآية استيفاء مثله مما يقابله من الجاني فغير جائز إذا كان كذلك أن يعتدى إلى غيره سواء كان مثله موجودا من الجاني أو معدوما ألا ترى أنه إذا لم يكن له أن يعدو اليد إلى الرجل لم يختلف حكمه تكون يد الجاني موجودة أو معدومة في امتناع تعديه إلى الرجل وأيضا فإن القصاص استيفاء المثل وليست هذه الأعضاء مماثلة فغير جائز أن يستوعبها ولم يختلفوا أن اليد الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء وأن الشلاء تؤخذ بالصحيحة وذلك لقوله تعالى والجروح قصاص وفي أخذ الصحيحة بالشلاء استيفاء أكثر مما قطع وأما أخذ الشلاء بالصحيحة فهو جائز لأنه رضي بدون حقه واختلف في القصاص في العظم فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد لا قصاص في عظم ما خلا السن وقال الليث والشافعي مثل ذلك ولم يستثنيا السن وقال ابن القاسم عن مالك عظام الجسد كلها فيها القود إلا ما كان منها مجوفا مثل الفخذ وما أشبهه فلا قود فيه وليس في الهاشمة قود وكذلك المنقلة وفي الذراعين والعضد والساقين والقدمين والكعبين والأصابع إذا كسرت ففيها القصاص وقال الأوزاعي ليس في المأمومة قصاص قال أبو بكر لما اتفقوا على نفي في عظم الرأس كذلك سائر العظام وقال الله تعالى والجروح قصاص وذلك غير ممكن في العظام وروى حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن ابن الزبير أنه اقتص من مأمومة فأنكر ذلك عليه ومعلوم أن المنكرين كانوا الصحابة ولا خلاف أيضا أنه لو ضرب أذنه فيبست أنه لا يضرب أذنه حتى تيبس لأنه لا يوقف على مقدار جنايته فكذلك العظام وقد بينا وجوب القصاص في السن فيما تقدم قوله تعالى فمن تصدق به فهو كفارة له روي عن عبد الله بن عمر والحسن وقتادة وإبراهيم رواية والشعبي رواية هو كفارة لولى القتيل وللمجروح إذا عفوا المستوفي لحقه ويكون الجاني كأنه لم يجن وهذا محمول على أن وقال الجاني للجاني كأنهم جعلوه بمنزلة المستوفي لحقه، ويكون الجاني كأنه لم يجن. وهذا محمول على أن الجاني تاب من جنايته لأنه لو كان مصرا عليه فعقوبته عند الله فيما ارتكب من نهيه قائمة والقول الأول هو الصحيح لأن قوله تعالى راجع إلى المذكور وهو قوله فمن تصدق به فالكفارة واقعة لمن تصدق ومعناه كفارة لذنوبه
[ 552 ]
قوله تعالى وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه قال أبو بكر فيه دلالة على أن ما لم ينسخ من شرائع الأنبياء المتقدمين فهو ثابت على معنى أنه صار شريعة للنبي صلى الله عليه وسلم لقوله وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومعلوم أنه لم يرد أمرهم باتباع ما أنزل الله في الإنجيل إلا على أنهم يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم لأنه صار شريعة له لأنهم لو استعملوا ما في الإنجيل مخالفين للنبي صلى الله عليه وسلم غير متبعين له لكانوا كفارا فثبت بذلك أنهم مأمورون باستعمال أحكام تلك الشريعة على معنى أنها قد صارت شريعة للنبي عليه السلام. قوله تعالى وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه قال ابن عباس ومجاهد وقتادة مهيمنا يعني أمينا وقيل شاهدا وقيل حفيظا وقيل مؤتمنا والمعنى فيه أنه أمين عليه ينقل إلينا ما في الكتب المتقدمة على حقيقته من غير تحريف ولا زيادة ولا نقصان لأن الأمين على الشئ مصدق عليه وكذلك الشاهد وفي ذلك دليل على أن كل من كان مؤتمنا على شئ فهو مقبول القول فيه من نحو الودائع والعواري والمضاربات ونحوها لأنه حين أنبأ عن وجوب التصديق بما أخبر به القرآن عن الكتب المتقدمة سماه أمينا عليها وقد بين الله تعالى في سورة البقرة أن الأمين مقبول القول فيما ائتمن فيه وهو قوله تعالى فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي ائتمن أمانته وليتق الله ربه وقال وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فلما جعله أمينا فيه وعظه بترك البخس وقد اختلف في المراد بقوله ومهيمنا فقال ابن عباس هو الكتاب وفيه إخبار بأن القرآن مهيمن على الكتب المتقدمة شاهد عليها وقال مجاهد أراد به النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى فاحكم بينهم بما أنزل الله يدل على نسخ التخيير على ما تقدم من بيانه قوله تعالى ولا تتبع أهواءهم يدل على بطلان قول من يردهم إلى الكنيسة أو البيعة للاستحلاف لما فيه من تعظيم الموضع وهم يهون ذلك وقد نهى الله تعالى عن اتباع أهوائهم ويدل على بطلان قول من يردهم إلى دينهم لما فيه من اتباع أهوائهم والاعتداد بأحكامهم ولأن ردهم إلى أهل دينهم إنما هو رد لهم ليحكموا فيهم بما هو كفر بالله عز وجل إذ كان حكمهم بما يحكمون به كفرا بالله وإن كان موافقا لما أنزل في التوراة والإنجيل لأنهم مأمورون بتركه واتباع شريعة النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا الشرعة والشريعة واحد ومعناها
[ 553 ]
الطريق إلى الماء الذي فيه الحياة فسمى الأمور التي تعبد الله بها من جهة السمع شريعة وشرعة لإيصالها العاملين بها إلى الحياة الدائمة في النعيم الباقي قوله تعالى ومنهاجا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك سنة وسبيلا ويقال طريق نهج إذا كان واضحا قال مجاهد وأراد بقوله شرعة القرآن لأنه لجميع الناس وقال قتادة وغيره شريعة التوراة وشريعة الإنجيل وشريعة القرآن وهذا يحتج به من نفى لزوم شرائع من قبلنا إيانا وإن لم يثبت نسخها لإخباره بأنه جعل لكل نبي من الأنبياء شرعة ومنهاجا وليس فيه دليل على ما قالوا لأن ما كان شريعة لموسى عليه السلام فلم ينسخ إلى ان بعث النبي صلى الله عليه وسلم فقد صارت شريعة للنبي عليه السلام وكان فيما سلف شريعة لغيره فلا دلالة في الآية على اختلاف أحكام الشرائع وأيضا فلا يختلف أحد في تجويز أن يتعبد الله رسوله بشريعة موافقة لشرائع من كان قبله من الأنبياء فلم ينف قوله لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا أن تكون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم موافقة لكثير من شرائع الأنبياء المتقدمين وإذا كان كذلك فالمراد فيما نسخ من شرائع المتقدمين من الأنبياء وتعبد النبي صلى الله عليه وسلم بغيرها فكان لكل منكم شرعة غير شرعة الآخر قوله عز وجل ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة قال الحسن لجعلكم على الحق وهذه مشيئة القدرة على إجبارهم على القول بالحق ولكنه لو فعل لم يستحقوا ثوابا وهو كقوله ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها وقال قائلون معناه ولو شاء الله لجمعهم على شريعة واحدة في دعوة جميع الأنبياء قوله تعالى فاستبقوا الخيرات معناه الأمر بالمبادرة بالخيرات التي تعبدنا بها قبل الفوات بالموت وهذا يدل على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها نحو قضاء رمضان والحج والزكاة وسائر الواجبات لأنها من الخيرات مطلب: الصوم في السفر أفضل من الافطار فإن قيل فهو يدل على أن فعل الصلاة في أول الوقت أفضل من تأخيرها لأنها من الواجبات في أول الوقت قيل له ليست من الواجبات في أول الوقت والآية مقتضية للوجوب فهي فيما قد وجب وألزم وفي ذلك دليل على أن الصوم في السفر أفضل من الإفطار لأنه من الخيرات وقد أمر الله بالمبادرة بالخيرات وقوله تعالى في هذا الموضع وأن احكم بينهم بما أنزل الله ليس بتكرار لما تقدم من مثله لأنهما نزلا في شيئين مختلفين أحدهما في شأن الرجم والآخر في
[ 554 ]
التسوية بين الديات حين تحاكموا إليه في الأمرين قوله تعالى واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك قال ابن عباس أراد أنهم يفتنونه بإضلالهم إياه عما أنزل الله إلى ما يهوون من الأحكام أطماعا منهم له في الدخول في الإسلام وقال غيره إضلالهم بالكذب على التوراة بما ليس فيها فقد بين الله تعالى حكمه قوله تعالى فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ذكر البعض والمراد الجميع كما يذكر لفظ العموم والمراد الخصوص وكما قال يا أيها النبي والمراد جميع المسلمين بقوله إذا طلقتم النساء وفيه أن المراد الإخبار عن تغليظ العقاب في أن بعض ما يستحقون به يهلكهم وقيل أراد تعجيل البعض بتمردهم وعتوهم وقال الحسن ما عجله من إجلاء بني النضير وقتل بني قريظة قوله تعالى أفحكم الجاهلية يبغون فيه وجهان أحدهما أنه خطاب لليهود لأنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه وإذا أوجب على أغنيائهم لم يأخذهم به فقيل لهم أفحكم عبدة الأوثان تبغون وأنتم أهل الكتاب وقيل إنه أريد به كل من خرج عن حكم الله إلى حكم الجاهلية وهو ما تقدم عليه فاعله بجهالة من غير علم قوله تعالى ومن أحسن من الله حكما إخبار عن حكمه بالعدل والحق من غير محاباة وجائز أن يقال إن حكما أحسن من حكم كما لو خير بين حكمين نصا وعرف أن أحدهما أفضل من الآخر كان الأفضل أحسن وكذلك قد يحكم المجتهد بما غيره أولى منه لتقصير منه في النظر أو لتقليده من قصر فيه قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض روي عن عكرمة أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر لما تنصح إلى بني قريظة وأشار إليهم بأنه الذبح وقال السدي لما كان بعد أحد خاف قوم من المشركين حتى قال رجل أو إلى اليهود وقال آخر أو إلى النصارى فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال عطية بن سعد نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي بن سلول لما تبرأ عبادة من موالاة اليهود وتمسك بها عبد الله بن أبي وقال أخاف الدوائر والولي هو الناصر لأنه يلي صاحبه بالنصرة وولي الصغير لأنه يتولى التصرف عليه بالحياطة وولي المرأة عصبتها لأنهم يتولون عليها عقد النكاح
[ 555 ]
مطلب: الكافر لا يكون وليا للمسلم وفي هذه الآية دلالة على أن الكافر لا يكون وليا للمسلم لا في التصرف ولا في النصرة ويدل على وجوب البراءة من الكفار والعداوة لهم لأن الولاية ضد العداوة فإذا أمرنا بمعاداة اليهود والنصارى لكفرهم فغيرهم من الكفار بمنزلتهم ويدل على أن الكفر كله ملة واحدة لقوله تعالى بعضهم أولياء بعض ويدل على أن اليهودي يستحق الولاية على النصراني في الحال التي كان يستحقها لو كان المولى عليه يهوديا وهو أن يكون صغيرا أو مجنونا وكذلك الولاية بينهما في النكاح هو على هذا السبيل ومن حيث دلت على كون بعضهم أولياء بعض فهو يدل على إيجاب التوارث بينهما وعلى ما ذكرنا من كون الكفر كله ملة واحدة وإن اختلفت مذاهبه وطرقه وقد دل على جواز مناكحة بعضهم لبعض اليهودي للنصرانية والنصراني لليهودية وهذا الذي ذكرنا إنما هو في أحكامهم فيما بينهم وأما فيما بينهم لا بين المسلمين فيختلف حكم الكتابي وغير الكتابي في جواز المناكحة وأكل الذبيحة قوله تعالى ومن يتولهم منكم فإنه منهم يدل على أن حكم نصارى بني تغلب حكم نصارى بني إسرائيل في أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم وروي ذلك عن ابن عباس والحسن وقوله منكم يجوز أن يريد به المغرب لأنه لو أراد المسلمين لكانوا إذ تولوا الكفار صاروا مرتدين والمرتد إلى النصرانية واليهودية لا يكون منهم في شئ من أحكامهم ألا ترى أنه لا تؤكل ذبيحة وإن كانت امرأة لم يجز نكاحها ولا يرثهم ولا يرثونه ولا يثبت بينما شئ من حقوق الولاية وزعم بعضهم أن قوله ومن يتولهم منكم فإنه منهم يدل على أن المسلم لا يرث المترتد وهو لإخبار الله أنه ممن تولاه من اليهود والنصارى ومعلوم أن المسلم لا يرث اليهودي ولا النصراني فكذلك لا يرث المرتد قال أبو بكر وليس فيه دلالة على ما ذكرنا لأنه لا خلاف أن المرتد إلى اليهودية لا يكون يهوديا والمرتد إلى النصرانية لا يكون نصرانيا ألا ترى أنه لا تؤكل ذبيحته ولا يجوز تزويجها إن كانت امرأة وأنه لا يرث اليهودي ولا يرثه فكما لم يدل ذلك على إيجاب التوارث بينه وبين اليهودي والنصراني كذلك لا يدل على أن المسلم لا يرثه وإنما المراد أحد وجهين إن كان الخطاب لكفار العرب فهو دال على أن عبدة الأوثان من العرب إذا تهودوا أو تنصروا كان حكمهم حكمهم في جواز المناكحة وأكل الذبيحة والإقرار على الكفر بالجزية وإن كان الخطاب للمسلمين فهو إخبار بأنه كافر مثلهم بموالاته إياهم فلا دلالة فيه على حكم الميراث فإن قال قائل لما كان ابتداء الخطاب في المؤمنين لأنه قال يا أيها الذين آمنوا
[ 556 ]
لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء لم يحتمل أن يريد بقوله ومن يتولهم منكم) مشركي العرب قيل له لما كان المخاطبون بأول الآية في ذلك الوقت هم العرب جاز أن يريد بقوله ومن يتولهم منكم العرب فيفيد أن مشركي العرب إذا تولوا اليهود أو النصارى بالديانة والانتساب إلى الملة يكونون في حكمهم وإن لم يتمسكوا بجميع شرائع دينهم ومن الناس من يقول فيمن اعتقد من أهل ملتنا بعض المذاهب الموجبة لإكفار معتقديها صلى الله عليه وسلم أن الحكم بإكفاره إذا لا يمنع أكل ذبيحته ومناكحة المرأة منهم إذا كانوا منتسبين إلى ملة الإسلام وإن كفروا باعتقادهم لما يعتقدونه من المقالة الفاسدة إذ كانوا في الجملة متولين لأهل الإسلام منتسبين إلى حكم القرآن كما أن من انتحل النصرانية أو إلى اليهودية كان حكمه حكمهم وإن لم يكن متمسكا بجميع شرائعهم ولقوله تعالى ومن يتولهم منكم فإنه منهم وكان أبو الحسن الكرخي ممن يذهب إلى ذلك قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه قال الحسن وقتادة والضحاك وابن جريج نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومن قاتل معه أهل الردة وقال السدي هي في الأنصار وقال مجاهد في أهل اليمن وروى شعبة عن سماك بن حرب عن عياض الأشعري قال لما نزلت يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه أومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشئ معه إلى أبي موسى فقال هم قوم هذا مطلب: الدليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وفي الآية دلالة على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وذلك لأن الذين ارتدوا من العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إنما قاتلهم أبو بكر وهؤلاء الصحابة وقد أخبر الله أنه يحبهم ويحبونه وأنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ومعلوم أن من كانت هذه صفته فهو ولي الله ولم يقاتل المرتدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم غير هؤلاء المذكورين وأتباعهم ولا يتهيأ لأحد أن يجعل الآية في غير المرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من العرب ولا في غير هؤلاء الأئمة لأن الله تعالى لم يأت بقوم يقاتلون المرتدين المذكورين في الآية غير هؤلاء الذين قاتلوا مع أبي بكر مطلب: الدليل على صحة إمامة أبي بكر رضي الله عنه ونظير ذلك ايضا في دلالته على صحة إمامة أبي بكر قوله تعالى قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا لأنه كان الداعي لهم إلى قتال أهل الردة وأخبر تعالى
[ 557 ]
بوجوب طاعته عليهم بقوله فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما [ الفتح: 16 ] فإن قال قائل يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي دعاهم قيل له قال الله تعالى فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا فأخبر أنهم لا يخرجون معه أبدا ولا يقاتلون معه عدوا فإن قال قائل جائز أن يكون عمر هو الذي دعاهم قيل له إن كان كذلك فإمامة عمر ثابتة بدليل الآية وإذا صحت إمامته صحت إمامة أبي بكر لأنه هو المستخلف له فإن قيل جائز أن يكون علي هو الذي دعاهم إلى محاربة من حارب قيل له قال الله تعالى تقاتلونهم أو يسلمون [ الفتح: 16 ] وعلي رضي الله عنه إنما قاتل أهل البغي وحارب أهل الكتاب على أن يسلموا أو يعطوا الجزية ولم يحارب أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم على أن يسلموا غير أبي بكر فكانت الآية دالة على صحة إمامته باب العمل اليسير في الصلاة قال الله تعالى إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون روي عن مجاهد والسدي وأبي جعفر وعتبة بن أبي حكيم أنها نزلت في علي بن أبي طالب حين تصدق بخاتمه وهو راكع وروى الحسن أنه قال هذه الآية صفة جميع المسلمين لأن قوله تعالى الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكاة وهم راكعون صفة للجماعة وليست للواحد وقد اختلف في معنى قوله وهم راكعون فقيل فيه أنهم كانوا على هذه الصفة في وقت نزول الآية منهم من قد أتم الصلاة ومنهم من هو راكع في الصلاة وقال آخرون معنى وهم راكعون أن ذلك من شأنهم وأفرد الركوع بالذكر تشريفا له وقال آخرون معناه أنهم يصلون بالنوافل كما يقال فلان يركع أي يتنفل فإن كان المراد فعل الصدقة في حال الركوع فإنه يدل على إباحة العمل اليسير في الصلاة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار في إباحة العمل اليسير فيها فمنها أنه خلع نعليه في الصلاة ومنها أنه مس لحيته وأنه أشار بيده ومنها حديث ابن عباس أنه قام على يسار النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بذؤابته وأداره إلى يمينه ومنها أنه كان يصلي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع فإذا سجد وضعها وإذا رفع رأسه حملها فدلالة الآية ظاهرة في إباحة الصدقة في الصلاة لأنه إن كان المراد الركوع فكان تقديره الذين يتصدقون في حال الركوع فقد دلت على إباحة الصدقة في هذه الحال وإن كان المراد وهم يصلون فقد دلت على إباحتها في سائر أحوال الصلاة فكيفما تصرفت الحال فالآية دالة على إباحة الصدقة في الصلاة
[ 558 ]
فإن قال قائل فالمراد أنهم يتصدقون ويصلون ولم يرد به فعل الصدقة في الصلاة قيل له هذا تأويل ساقط من قبل أن قوله تعالى وهم راكعون إخبار عن الحال التي تقع فيها الصدقة كقوله تكلم فلان وهو قائم وأعطى فلانا وهو قاعد إنما هو إخبار عن حال الفعل أيضا لو كان المراد ما ذكرت كان تكرارا لما تقدم ذكره في أول الخطاب قوله تعالى الذين يقيمون الصلوة ويكون تقديره الذين يقيمون الصلاة ويصلون وهذا لا يجوز في كلام الله تعالى فثبت أن المعنى ما ذكرنا من مدح الصدقة في حال الركوع أو في حال الصلاة وقوله تعالى ويؤتون الزكاة وهم راكعون يدل على أن صدقة التطوع تسمى زكاة لأن عليا تصدق بخاتمه تطوعا وهو نظير قوله تعالى وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون [ الروم: 39 ] قد انتظم صدقة الفرض والنفل فصار اسم الزكاة يتناول الفرض والنفل كاسم الصدقة وكاسم الصلاة ينتظم الأمرين باب الأذان قال الله تعالى وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا قد دلت هذه الآية على أن للصلاة أذانا يدعى به الناس إليها ونحوه قوله تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وقد روى عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ قال كانوا يجتمعون للصلاة لوقت يعرفونه ويؤذن بعضهم بعضا حتى نقسوا أو كادوا أن ينقسوا فجاء عبد الله بن زيد الأنصاري وذكر الأذان فقال عمر قد طاف بي الذي طاف به ولكنه سبقني وروى الزهري عن سالم عن أبيه قال استشار النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين على ما يجمعهم في الصلاة فقالوا البوق فكرهه من أجل اليهود وذكر قصة عبد الله بن زيد وأن عمر رأى مثل ذلك فلم يختلفوا أن الأذان لم يكن مسنونا قبل الهجرة وأنه إنما سن بعدها وقد روى أبو يوسف عن محمد بن بشر الهمداني قال سألت محمد بن علي عن الأذان كيف كان أوله وما كان فقال شأن الأذان أعظم من ذلك ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أسري به جمع النبيون ثم نزل ملك من السماء لم ينزل قبل ليلته فأذن كأذانكم فقال وأقام كإقامتكم أي ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنبيين قال أبو بكر ليلة أسري به كان بمكة وقد صلى بالمدينة بغير أذان واستشار أصحابه فيما يجمعهم به للصلاة ولو كانت تبدئة الأذان قد تقدمت قبل الهجرة لما استشار فيه وقد ذكر معاذ وابن عمر في قصة الأذان ما ذكرنا
[ 559 ]
والأذان مسنون لكل صلاة مفروضة منفردا كان المصلي أو في جماعة إلا أن أصحابنا قالوا جائز للمقيم المنفرد أن يصلي بغير أذان لأن أذان الناس دعاء له فيكتفى به والمسافر يؤذن ويقيم وإن اقتصر على الإقامة دون الأذان أجزأه ويكره له أن يصلي بغير أذان ولا إقامة لأنه لم يكن هناك أذان ويكون دعاء له وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من صلى في أرض بأذان وإقامة صلى خلفه صف من الملائكة لا يرى طرفاه وهذا يدل على أن من سنة صلاة المنفرد الأذان وقال في خبر آخر إذا سفرتما فأذنا وأقيما وقد ذكرنا صفة الأذان والإقامة والاختلاف فيهما في غير هذا الكتاب مطلب: في الاستعانة بالمشركين قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا فيه نهي عن الاستنصار بالمشركين لأن الأولياء هم الأنصار وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حين أراد الخروج إلى أحد جاء قوم من اليهود وقالوا نحن نخرج معك فقال إنا لا نستعين بمشرك وقد كان كثير من المنافقين يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم المشركين وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا أبو مسلم حدثنا حجاج حدثنا حماد عن محمد بن إسحق عن الزهري أن أناسا من اليهود غزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقسم لهم كما قسم للمسلمين وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد ويحيى بن معين قالا حدثنا يحيى عن مالك عن الفضل عن عبد الله بن نيار عن عروة عن عائشة قال يحيى إن رجلا من المشركين لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقاتل معه فقال ارجع ثم اتفقا فقال إنا لا نستعين بمشرك وقال أصحابنا لا بأس بالاستعانة بالمشركين على قتال غيرهم من المشركين إذا كانوا متى ظهروا كان حكم الإسلام هو الظاهر فأما إذا كانوا لو ظهروا كان حكم الشرك هو الغالب فلا ينبغي للمسلمين أن يقاتلوا معهم ومستفيض في أخبار أهل السير ونقله المغازي أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يغزو ومعه قوم من اليهود في بعض الأوقات وفي بعضها قوم من المشركين وأما وجه الحديث الذي قال فيه إنا لا نستعين بمشرك فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يثق بالرجل وظن أنه عين للمشركين فرده وقال إنا لا نستعين بمشرك يعني به من كان في مثل حاله قوله تعالى لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم قيل فيه إن معناه هلا وهي تدخل للماضي والمستقبل فإذا كانت للمستقبل فهي في معنى الأمر كقوله لم لا تفعل وهي ههنا للمستقبل يقول هلا ينهاهم ولم لا ينهاهم وإذا كانت
[ 560 ]
للماضي فهو للتوبيخ كقوله تعالى لولا جاؤا عليه بأربعة شهداء [ النور: 13 ] ولولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقيل في الرباني إنه العالم بدين الرب فنسب إلى الرب كقولهم روحاني في النسبة إلى الروح وبحراني في النسبة إلى البحر وقال الحسن الربانيون علماء أهل الإنجيل والأحبار علماء أهل التوراة وقال غيره هو كله في اليهود لأنه متصل بذكرهم وذكر لنا أبو عمر غلام ثعلب عن ثعلب قال الرباني العالم العامل وقد اقتضت الآية وجوب إنكار المنكر بالنهي عنه والاجتهاد في إزالته لذمه من ترك ذلك قوله تعالى وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم وروي عن ابن عباس وقتادة والضحاك أنهم وصفوه بالبخل وقالوا هو مقبوض العطاء كقوله تعالى ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط وقال الحسن قالوا هي مقبوضة عن عقابنا مطلب: في معاني اليد واليد في اللغة تنصرف على وجوه منها الجارحة وهي معروفة ومنها النعمة تقول لفلان عندي يد أشكره عليها أي نعمة ومنها القوة فقوله أولي الأيدي فسروه بأولي القوى ونحوه قول الشاعر تحملت ثنا من ذلفاء ما ليس لي به * ولا للجبال الراسيات يدان ومنها الملك ومنه قوله الذي بيده عقدة النكاح يعني يملكها ومنها الاختصاص بالفعل كقوله تعالى خلقت بيدي أي توليت خلقه ومنها التصرف كقوله هذه الدار في يد فلان يعني التصرف فيها بالسكنى أو الإسكان ونحو ذلك وقيل أنه قال تعالى بل يداه على وجه التثنية لأنه أراد نعمتين أحدهما نعمة الدنيا والأخرى نعمة الدين والثاني قوتان بالثواب والعقاب على خلاف قول اليهود لأنه لا يقدر على عقابنا وقيل إن التثنية للمبالغة في صفة النعمة كقولك لبيك وسعديك وقيل في قوله تعالى غلت أيديهم) يعني في جهنم روي عن الحسن قوله تعالى كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله فيه إخبار بغلبة المسلمين لليهود الذين تقدم ذكرهم في قوله وقالت اليهود يد الله مغلولة وفيه دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر به عن الغيب مع كثرة اليهود وشدة شوكتهم وقد كان من
[ 561 ]
حول المدينة منهم فئات تقاوم العرب في الحروب التي كانت تكون بينهم في الجاهلية فأخبر الله تعالى في هذه الآية بظهور المسلمين عليهم فكان مخبره على ما أخبر به فأجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع وبني النضير وقتل بني قريظة وفتح خيبر عنوة وانقادت له سائر اليهود صاغرين حتى لم تبق منهم فئة تقاتل المسلمين وإنما ذكر النار ههنا عبارة عن الاستعداد للحرب والتأهب لها على مذهب العرب في إطلاق اسم النار في هذا الموضع ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم أنا برئ من كل مسلم مع مشرك قيل لم يا رسول الله قال لا تراءى ناراهما وإنما عنى بها نار الحرب يعني أن حرب المشركين للشيطان وحرب المسلمين لله تعالى فلا يتفقان وقيل إن الأصل في العبارة باسم النار عن الحرب أن القبيلة الكبيرة من العرب كانت إذا أرادت حرب أخرى منها أوقدت النيران على رؤس الجبال والمواضع المرتفعة التي تعم القبيلة رؤيتها فيعلمون أنهم قد ندبوا إلى الاستعداد للحرب والتأهب لها فاستعدوا وتأهبوا فصار اسم النار في هذا الموضع مفيدا للتأهب للحرب وقد قيل فيه وجه آخر وهو أن القبائل كانت إذا رأت التحالف على التناصر على غيرهم والجد في حربهم وقتالهم أوقدوا نارا عظيمة ثم قربوا منها وتحالفوا بحرمان منافعها إن هم غدروا أو نكلوا عن الحرب وقال الأعشى وأوقدت هذا للحرب نارا قوله تعالى يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك فيه أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ الناس جميعا وما أرسله به إليهم من كتابه وأحكامه وأن لا يكتم منه شيئا خوفا من أحد ولا مداراة له وأخبر أنه إن ترك تبليغ شئ منه فهو كمن لم يبلغ شيئا بقوله تعالى وإن لم تفعل فما بلغت رسالته فلا يستحق منزلة الأنبياء القائمين بأداء الرسالة وتبليغ الأحكام وأخبر تعالى أنه يعصمه من الناس حتى لا يصلوا إلى قتله ولا قهره ولا أسره بقوله تعالى والله يعصمك من الناس وفي ذلك إخبار أنه لم يكن تقية من إبلاغ جميع ما أرسل به إلى جميع من أرسل إليهم وفيه الدلالة على بطلان قول الرافضة في دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم بعض المبعوثين إليهم على سبيل الخوف والتقية لأنه تعالى قد أمره بالتبليغ وأخبر أنه ليس عليه تقية بقوله تعالى والله يعصمك من الناس وفيه دلالة على أن كل ما كان من الأحكام بالناس إليه حاجة عامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغه الكافة وأن وروده ينبغي أن يكون من طريق التواتر نحو الوضوء من مس الذكر ومن مس المرأة ومما مسته النار ونحوها لعموم البلوى بها فإذا لم نجد ما كان منها بهذه المنزلة واردا من طريق التواتر علمنا أن الخبر غير ثابت في الأصل أو تأويله ومعناه غير ما اقتضاه ظاهره من نحو الوضوء الذي هو غسل اليد دون وضوء الحديث
[ 562 ]
مطلب: في الدليل على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وقد دل قوله تعالى والله يعصمك من الناس على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان من أخبار الغيوب التي وجد مخبرها على ما أخبر به لأنه لم يصل إليه احد بقتل ولا قهر ولا أسر مع كثرة أعدائه المحاربين له مصالتة ثم والقصد لاغتياله مخادعة نحو ما فعله عامر بن الطفيل وأربد فلم يصلا إليه ونحو ما قصده به عمير بن وهب الجمحي بمواطأة من صفوان بن أمية فأعلمه الله إياه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمير بن وهب بما تواطأ هو وصفوان بن أمية عليه وهما في الحجر من اغتساله فأسلم عمير وعلم أن مثله لا يكون إلا من عند الله تعالى عالم الغيب والشهادة ولو لم يكن ذلك من عند الله لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ولا ادعى أنه معصوم من القتل والقهر من أعدائه وهو لا يأمن أن يوجد ذلك على خلاف ما أخبر به فيظهر كذبه مع غناه عن الإخبار بمثله وأيضا لو كانت هذه الأخبار من عند غير الله لما اتفق في جميعها وجود مخبراتها على ما أخبر به إذ لا يتفق مثلها في أخبار الناس إذا أخبروا عما يكون على جهة الحدث والتخمين وتعاطي علم النجوم والزرق والفال ونحوها فلما اتفق جميع ما أخبر به عنه من الكائنات في المستأنف على ما أخبر به ولا تخلف شئ منها علمنا أنها من عند الله العالم بما كان وما يكون قبل أن يكون قوله تعالى يا أهل الكتاب لستم على شئ حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم فيه أمر لأهل الكتاب بالعمل بما في التوراة والإنجيل لأن إقامتها هو العمل بهما وبما في القرآن أيضا لأن قوله تعالى وما أنزل إليكم من ربكم حقيقته تقتضي أن يكون المراد ما أنزل الله على رسوله فكان خطابا لهم وإن كان محتملا لأن يكون المراد ما أنزل الله على آبائهم في زمان الأنبياء المتقدمين وقوله تعالى لستم على شئ مقتضاه لستم على شئ من الدين الحق حتى تعملوا بما في التوراة والإنجيل والقرآن وفي هذا دلالة على أن شرائع الأنبياء المتقدمين ما لم ينسخ منها قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فهو ثابت الحكم مأمور به وأنه قد صار شريعة لنبينا عليه السلام لولا ذلك لما أمروا بالثبات عليه والعمل به فإن قال قائل معلوم نسخ كثير من شرائع الأنبياء المتقدمين على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم فجائز إذا كان هذا هكذا أن تكون هذه الآية نزلت بعد نسخ كثير منها ويكون معناها الأمر بالإيمان على ما في التوراة والإنجيل من صفة النبي صلى الله عليه وسلم ومبعثه وبما في القرآن من الدلالة المعجزة الموجبة لصدقه وإذا احتملت الآية ذلك لم تدل على بقاء شرائع الأنبياء المتقدمين قيل له لا تخلو هذه الآية من أن تكون نزلت قبل نسخ شرائع الأنبياء
[ 563 ]
المتقدمين فيكون فيها أمر باستعمالها وإخبار ببقاء حكمها أو أن تكون نزلت بعد نسخ كثير منها فإن كان كذلك فإن حكمها ثابت فيما لم ينسخ منها كاستعمال حكم العموم فيما لم تقم دلالة خصوصه واستعمالها فيما لا يجوز فيه النسخ من وصف النبي صلى الله عليه وسلم وموجبات أحكام العقول فلم تخل الآية من الدلالة على بقاء حكم ما لم ينسخ من شرائع من قبلنا وأنه قد صار شريعة لنبينا عليه السلام مطلب: في الدليل على بطلان قول النصارى في أن المسيح إله قوله تعالى ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام فيه أوضح الدلالة على بطلان قول النصارى في أن المسيح إله لأن من احتاج إلى الطعام فسبيله سبيل سائر العباد في الحاجة إلى الصانع المدبر إذ كان من فيه سمة الحدث لا يكون قديما ومن يحتاج إلى غيره لا يكون قادرا لا يعجزه شئ وقد قيل في معنى قوله كانا يأكلان الطعام أنه كناية عن الحدث لأن كل من يأكل الطعام فهو محتاج إلى الحدث لا محالة وهذا وإن كان كذلك في العادة فإن الحاجة إلى الطعام والشراب وما يحتاج المحتاج إليهما من الجوع والعطش ظاهر الدلالة على حدث المحتاج إليهما وعلى أن الحوادث تتعاقب عليه وإن ذلك ينفي كونه إلها وقديما قوله تعالى لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم قال الحسن ومجاهد والسدي وقتادة لعنوا على لسان داود فصاروا قردة وعلى لسان عيسى فصاروا خنازير وقيل إن فائدة لعنهم على لسان الأنبياء إعلامهم الأياس من المغفرة مع الإقامة على الكفر والمعاصي لأن دعاء الأنبياء عليهم السلام باللعن والعقوبة مستجاب وقيل إنما ظهر لعنهم على لسان الأنبياء لئلا يوهموا الناس أن لهم منزلة بولادة الأنبياء تنجيهم من عقاب المعاصي قوله تعالى كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه معناه لا ينهى بعضهم بعضا عن المنكر وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا يونس بن راشد عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم إلى قوله فاسقون ثم قال كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم
[ 564 ]
ولتأطرنه على الحق اطرا ولتقصرنه على الحق قصرا وقال أبو داود وحدثنا خلف بن هشام حدثنا أبو شهاب الحناط عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة عن سالم عن أبي عبيدة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه زادا وليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم قال أبو بكر في هذه الآية مع ما ذكرنا من الخبر في تأويلها دلالة على النهي عن مجالسة المظهرين للمنكر وأنه لا يكتفى منهم بالنهي دون الهجران قوله تعالى ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا روي عن الحسن وغيره أن الضمير في منهم راجع إلى اليهود ولا وقال آخرون هو راجع إلى أهل الكتاب والذين كفروا هم عبدة الأوثان تولاهم أهل الكتاب على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم ومحاربته قوله تعالى ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء) روي عن الحسن ومجاهد أنه من المنافقين من اليهود أخبر أنهم غير مؤمنين بالله وبالنبي وإن كانوا يظهرون الإيمان وقيل إنه أراد بالنبي موسى عليه السلام أنهم غير مؤمنين به إذ كانوا يتولون المشركين قوله تعالى ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى الآية قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي نزلت في النجاشي وأصحابه لما أسلموا وقال قتادة قوم من أهل الكتاب كانوا على الحق متمسكين بشريعة عيسى عليه السلام فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا به ومن الجهال من يظن أن في هذه الآية مدحا للنصارى وإخبارا بأنهم خير من اليهود وليس كذلك وذلك لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول يدل عليه ما ذكر في نسق التلاوة من إخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله وبالرسول ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أمعن النظر في مقالتي هاتين الطائفتين أن مقالة النصارى أقبح وأشد استحالة وأظهر فسادا من مقالة اليهود لأن اليهود تقر بالتوحيد في الجملة وإن كان فيها مشبهة تنقص ما أعطته في الجملة من التوحيد بالتشبيه باب تحريم ما أحل الله عز وجل قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم والطيبات اسم يقع على ما يستلذ ويشتهي ويميل إليه القلب ويقع على الحال وجائز أن يكون مراد الآية الأمرين جميعا لوقوع الاسم عليهما فيكون تحريم الحلال على أحد وجهين أحدهما أن يقول قد حرمت هذا الطعام على نفسي فلا يحرم عليه وعليه الكفارة إن
[ 565 ]
أكل منه والثاني أن يغصب طعام غيره فيخلطه بطعامه فيحرمه على نفسه حتى يغرم لصاحبه مثله روى عكرمة عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني إذا أكلت اللحم انتشرت فحرمته على نفسي فأنزل الله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم الآية وروى سعيد عن قتادة قال كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هموا بترك اللحم والنساء والاختصاء فأنزل الله عز وجل يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم الآية فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال ليس في ديني ترك النساء ولا اللحم ولا اتخاذ الصوامع وروى مسروق قال كنا عند عبد الله فأتى بضرع فتنحى رجل فقال عبد الله أدنه فكل فقال إني كنت حرمت الضرع فتلا عبد الله يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم كل وكفر وقال الله تعالى يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك إلى قوله قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم مارية وروي أنه حرم العسل على نفسه فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمره بالكفارة وكذلك قال أكثر أهل العلم فيمن حرم طعاما أو جارية على نفسه أنه إن أكل من الطعام حنث وكذلك إن وطئ الجارية لزمته كفارة يمين وفرق أصحابنا بين من قال والله لا آكل هذا الطعام وبين قوله حرمته على نفسي فقالوا في التحريم إن أكل الجزء منه حنث وفي اليمين لا يحنث إلا بأكل الجميع وجعلوا تحريمه إياه على نفسه بمنزلة قوله والله لأكلت منه شيئا إذ كان ذلك مقتضى لفظ التحريم في سائر ما حرم الله تعالى مثل قوله حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير اقتضى اللفظ تحريم كل جزء منه فكذلك تحريم الإنسان طعاما يقتضي إيجاب اليمين في أكل الجزء منه وأما اليمين بالله في نفي أكل هذا الطعام فإنها محمولة على الأيمان المنتظمة للشروط والجواب كقول القائل إن أكلت هذا الطعام فعبدي حر فلا يحنث بأكل البعض منه حتى يستوفي أكل الجميع فإن قال قائل قال الله تعالى كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) [ آل عمران: 93 ] فروي أن إسرائيل أخذه عرق النسا فحرم أحب الأشياء إليه وهو لحوم الإبل إن عافاه الله فكان ذلك تحريما صحيحا حاظرا لما حرم على نفسه قيل له هو منسوخ بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم مطلب: في الدليل على بطلان قول الممتنعين من أكل اللحوم والاطعمة اللذيذة تزهدا وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول الممتنعين من أكل اللحوم والأطعمة اللذيذة
[ 566 ]
تزهدا لأن الله تعالى قد نهى عن تحريمها وأخبر بإباحتها في قوله وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا ويدل على أنه لا فضيلة في الامتناع من أكلها وقد روى أبو موسى الأشعري أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأكل لحم الدجاج وروي أنه كان يأكل الرطب والبطيخ وروى غالب بن عبد الله عن نافع عن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يأكل الدجاج حبسها ثلاثة أيام فعلفها ثم أكلها وروى إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال سمعت ابن عباس يقول كل ما شئت واكتس لم ما أخطأت اثنتين سرفا أو مخيلة وقد روي أن عثمان وعبد الرحمن بن عوف والحسن بن علي وعبد الله بن أبي أوفى وعمران بن حصين وأنس ابن مالك وأبا هريرة وشريحا كانوا يلبسون الخز ويدل على نحو دلالة الاية التي ذكرنا في أكل إباحة الطيبات قوله تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق وقوله عقيب ذكره لما خلق من الفواكه متاع لكم [ المائدة: 96 ]. مطلب: في تحريم إيقاع الطلاق الثلاث ويحتج بقوله لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم في تحريم إيقاع الطلاق الثلاث لما فيه من تحريم المباح من المرأة باب الأيمان مطلب: في اليمين اللغو قال الله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم عقيب نهيه عن تحريم ما أحل الله قال ابن عباس لما حرموا الطيبات من المآكل والمناكح والملابس حلفوا على ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية وأما اللغو فقد قيل فيه أنه مالا يعتد به ومنه قول الشاعر أو مائة تجعل أولادها * حدثنا لغوا وعرض المائة الجلد يعني نوقا لا تعتد بأولادها فعلى هذا لغو اليمين ما لا يعتد به ولا حكم له وروى إبراهيم الصائغ عن عطاء عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا محمد بن أحمد بن سفيان الترمذي وابن عبدوس قالا حدثنا محمد بن بكار حدثنا حسان بن إبراهيم عن إبراهيم الصائغ عن عطاء وسئل عن اللغو في اليمين فقالت عائشة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هو كلام الرجل في بيته لا والله وبلى والله وروى إبراهيم عن الأسود وهشام بن
[ 567 ]
عروة عن أبيه عن عائشة قالت لغو اليمين لا والله وبلى والله موقوفا عليها وروى عكرمة عن ابن عباس في لغو اليمين أن يحلف على الأمر يراه كذلك وليس كذلك وروي عن ابن عباس أيضا أن لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان وروي عن الحسن والسدي وإبراهيم مثل قول عائشة وقال بعض أهل العلم اللغو في اليمين هو الغلط من غير قصد على نحو قول القائل لا والله وبلى والله على سبق اللسان وقال بعضهم اللغو في اليمين أن تحلف على معصية أن تفعلها فينبغي أن لا تفعلها ولا كفارة فيه وروي فيه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها وقد اختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا فقال أصحابنا اللغو هو قوله لا والله وبلى والله فيما يظن أنه صادق فيه على الماضي وقال مالك والليث نحو ذلك وهو قول الأوزاعي وقال الشافعي اللغو هو المعقود عليه وقال الربيع عنه من حلف على شئ يرى أنه كذلك ثم وجده على غير ذلك فعليه كفارة قال أبو بكر لما قال الله تعالى لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان أبان بذلك أن لغو اليمين غير المعقود منها لأنه لو كان المعقود هو اللغو لما عطفه عليه ولما فرق بينهما في الحكم في نفيه المؤاخذة بلغو اليمين وإثبات الكفارة في المعقودة ويدل على ذلك أيضا أن اللغو لما كان هو الذي لا حكم له فغير جائز أن يكون هو اليمين المعقودة ويدل على ذلك ايضا أن اللغو لما كان هو الذي لا حكم له فغير جائز أن يكون هو اليمين المعقودة لأن المؤاخذة قائمة في المعقودة وحكمها ثابت فبطل بذلك قول من قال إن اللغو هو اليمين المعقودة وأن فيها الكفارة فثبت بذلك أن معناه ما قال ابن عباس وعائشة وأنها اليمين على الماضي فيما يظن الحالف أنه كما قال مطلب: في أقسام اليمين والأيمان على ضربين ماض ومستقبل والماضي ينقسم قسمين لغو وغموس ولا كفارة في واحد منهما والمستقبل ضرب واحد وهو اليمين المعقودة وفيها الكفارة إذا حنث وقال مالك والليث مثل قولنا في الغموس إنه لا كفارة فيها وقال الحسن بن صالح والأوزاعي والشافعي في الغموس الكفارة وقد ذكر الله تعالى هذه الأيمان الثلاث في الكتاب فذكر في هذه الآية اليمين اللغو والمعقودة ابن جميعا بقوله لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان وقال في سورة البقرة لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم)
[ 568 ]
والمراد به والله أعلم الغموس لأنها هي التي تتعلق المؤاخذة فيها بكسب القلب وهو المأثم وعقاب الآخرة دون الكفارة إذ لم تكن الكفارة متعلقة بكسب القلب ألا ترى أن من حلف على معصية كان عليه أن يحنث فيها وتلزمه الكفارة مع ذلك فدل على أن قوله ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم المراد به اليمين الغموس التي يقصد بها إلى الكذب وأن المؤاخذة بها هي عقاب الآخرة وذكره للمؤاخذة بكسب القلب في هذه الآية عقيب ذكره اللغو في اليمين يدل على أن اللغو هو الذي لم يقصد فيه إلى الكذب وأنه ينفصل من الغموس بهذا المعنى مطلب: لا كفارة في اليمين الغموس ومما يدل على أن الغموس لا كفارة فيها قوله تعالى إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانم قوله ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة فذكر الوعيد فيها ولم يذكر الكفارة فلو أوجبنا فيها الكفارة كان زيادة في النص وذلك غير جائز إلا بنص مثله وروى عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من حلف على يمين وهو فيها آثم فاجر ليقطع بها مالا لقي الله تعالى وهو عليه غضبان وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار فذكر النبي صلى الله عليه وسلم المأثم ولم يذكر الكفارة فدل على أن الكفارة غير واجبة من وجهين أحدهما أنه لا تجوز الزيادة في النص إلا بمثله والثاني أنها لو كانت واجبة لذكرها في اليمين المعقودة في قوله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خيرا منها وليكفر عن يمينه رواه عبد الرحمن بن سمرة وأبو هريرة وغيرهما ومما يدل على نفي الكفارة في اليمين على الماضي قوله تعالى في نسق التلاوة واحفظوا أيمانكم وحفظها مراعاتها لأداء كفارتها عند الحنث فيها ومعلوم امتناع حفظ اليمين على الماضي لوقوعها على وجه واحد لا يصح فيها المراعاة والحفظ فإن قال قائل قوله تعالى ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم يقتضي عمومه إيجاب الكفارة في سائر الأيمان إلا ما خصه الدليل قيل له ليس كذلك لأنه معلوم أنه قد أراد به اليمين المعقودة على المستقبل فلا محالة أن فيه ضمير يتعلق به وجوب الكفارة وهو الحنث وإذا ثبت أن في الآية ضميرا سقط الاحتجاج بظاهرها لأنه لا خلاف أن اليمين المعقودة لا تجب بها كفارة قبل الحنث فثبت أن في الآية ضميرا فلم يجز اعتبار عمومها إذ كان حكمها متعلقا بضمير غير مذكور فيها وأيضا قوله تعالى واحفظوا أيمانكم يقتضي أن يكون جميع ما تجب فيه الكفارة من الأيمان هي التي
[ 569 ]
ألزمنا حفظها وذلك إنما هو في اليمين المعقودة التي تمكن مراعاتها وحفظها لأداء كفارتها واليمين على الماضي لا يقع فيها حنث فينتظمها له اللفظ ألا ترى أنه لا يصح دخول الاستثناء عليها فتقول كان أمس الجمعة إن شاء الله والله لقد كان أمس الجمعة إذ كان الحنث وجود معنى بعد اليمين بخلاف ما عقد عليه ويدل على أن الكفارة إنما تتعلق بالحنث في اليمين بعد العقد أنه لو قال والله كان ذلك قسما ولم تلزمه كفارة بوجود هذا القول لأنه لم يتعلق به حنث وقد قرئ قوله تعالى بما عقدتم على ثلاثة أوجه عقدتم بالتشديد قد قرأه جماعة وعقدتم خفيفة وعاقدتم فقوله تعالى عقدتم بالتشديد كان أبو الحسن يقول لا يحتمل إلا عقد قول وعقدتم بالتخفيف يحتمل عقد القلب وهو العزيمة والقصد إلى القول ويحتمل عقد اليمين قولا ومتى احتمل إحدى القراءتين القول واعتقاد القلب ولم يحتمل الأخرى إلا عقد اليمين قولا وجب حمل ما يحتمل وجهين على مالا يحتمل إلا وجها واحدا فيحصل المعنى من القراءتين عقد اليمين قولا ويكون حكم إيجاب الكفارة مقصورا على هذا الضرب من الأيمان وهو أن تكون معقودة ولا تجب في اليمين على الماضي لأنها غير معقودة وإنما هو خبر عن ماض والخبر عن الماضي ليس بعقد سواء كان صدقا أو كذبا فإن قال قائل إذ كان قوله تعالى عقدتم بالتخفيف يحتمل اعتقاد القلب ويحتمل عقد اليمين فهلا حملته على المعنيين إذ ليسا متنافيين وكذلك قوله تعالى بما عقدتم بالتشديد محمول على عقد اليمين فلا ينفي ذلك واستعمال اللفظ في القصد إلى اليمين فيكون عموما في سائر الأيمان قيل له لو سلم لك ما ادعيت من الاحتمال لما جاز استعماله فيما ذكرت ولكانت دلالة الإجماع مانعة من حمله على ما وصفت وذلك أنه لا خلاف أن القصد إلى اليمين لا يتعلق به وجوب الكفارة وأن حكم إيجابها متعلق باللفظ دون القصد في الأيمان التي يتعلق به وجوب الكفارة فبطل بذلك تأويل من تأوله اللفظ على قصد القلب في حكم الكفارة وثبت أن المراد بالقراءتين جميعا في إيجاب الكفارة هو اليمين المعقودة على المستقبل فإن قال قائل قوله عقدتم بالتشديد يقتضي التكرار والمؤاخذة تلزم من غير تكرار فما وجه اللفظ المقتضي للتكرار مع وجوب الكفارة في وجودها على غير وجه
[ 570 ]
التكرار قيل له قد يكون تعقيد اليمين بأن يعقدها في قلبه ولفظه ولو عقد عليها في أحدهما دون الآخر لم يكن تعقيدا إذ هو كالتعظيم الذي يكون تارة بتكرير الفعل والتضعيف وتارة بعظم المنزلة وأيضا فإن في قراءة التشديد إفادة حكم ليس في غيره وهو أنه متى أعاد المين على وجه التكرار أنه لا تلزمه إلا كفارة واحدة وكذلك قال أصحابنا فيمن حلف على شئ ثم حلف عليه في ذلك المجلس أو غيره وأراد به التكرار لا يلزمه واحدة فإن قيل قوله بما عقدتم بالتخفيف يفيد إيجاب الكفارة باليمين إلا كفارة أحد قيل له القراءتان والتكرار جميعا مستعملتان على ما وصفنا ولكل واحدة منهما فائدة مجددة فصل ومن يجيز الكفارة قبل الحنث يحتج بهذه الآية من وجهين أحدهما قوله ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته فجعل ذلك كفارة عقيب عقد اليمين من غير ذكر الحنث لأن الفاء للتعقيب والثاني قوله تعالى ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) فأما قوله بما عقدتم الأيمان فكفارته فإنه لا خلاف أن فيه ضميرا متى أراد إيجابها وقد علمنا لا محالة أن الآية قد تضمنت إيجاب الكفارة عند الحنث وأنها غير واجبة قبل الحنث فثبت أن المراد بما عقدتم الأيمان وحنثتم فيها فكفارته وهو كقوله تعالى ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر والمعنى فأفطر فعدة من أيام أخر وقوله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة فمعناه فحلق ففدية عن صيام كذلك قوله بما عقدتم الأيمان فكفارته معناه فحنثتم بكفارته لاتفاق الجميع أنها غير واجبة قبل الحنث وقد اقتضت الآية لا محالة إيجاب الكفارة وذلك لا يكون إلا بعد الحنث فثبت أن المراد ضمير الحنث فيه وأيضا لما سماه كفارة علمنا أنه أراد التكفير بها في حال وجوبها لأن ما ليس بواجب فليس بكفارة على الحقيقة ولا يسمى بهذا الاسم فعلمنا أن المراد إذا حنثتم فكفارته إطعام عشرة مساكين وكذلك قوله في نسق التلاوة ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم معناه إذا حلفتم وحنثتم لما بيناه آنفا فإن قيل يجوز أن تسمى كفارة قبل وجوبها كما يسمى ما يعجله من الزكاة قبل الحول زكاة لوجوب السبب الذي هو النصاب وكما يسمى ما يعجله بعد الجراحة كفارة قبل وجود القتل وإن لم تكن واجبة في هذه الحال فكذلك يجوز أن يكون ما يعجله الحالف كفارة قبل الحنث ولا يحتاج إلى إثبات إضمار الحنث في جوازها قيل له قد
[ 571 ]
بينا أن الكفارة الواجبة بعد الحنث مرادة بالآية وإذا أريد بها الكفارة الواجبة امتنع أن ينتظم ما ليس منها لاستحالة كون لفظ واحد مقتضيا للإيجاب ولما ليس بواجب فمن حيث أريد بها الواجب انتفى ما ليس منها بواجب وأيضا فقد ثبت أن المتبرع بالطعام ونحوه لا يكون مكفرا بما يتبرع به إذا لم يحلف فلما كان المكفر قبل الحنث متبرعا بما أعطى ثبت أن ما أخرج ليس بكفارة ومتى فعله لم يكن فاعلا للمأمور به وأما إعطاء كفارة القتل قبل الموت بعد الجراحة وتعجيل الزكاة قبل الحول فإن جميع ما أخرج هؤلاء تطوع وليس بكفارة ولا زكاة وإنما أجزناه لما قامت الدلالة أن إخراج هذا التطوع يمنع لزوم الفرض بوجود الموت وحؤول الحول فصل ويحتج من يوجب على من عقد نذره بشرط كفارة يمين دون المنذور مثل قوله إن دخلت الدار فالله علي حجة أو عتق رقبة أو نحو ذلك فحنث بظاهر قوله تعالى (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته وبقوله تعالى ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم قال فلما كان هذا حالفا وجب أن يكون الواجب عليه بالحنث كفارة اليمين دون المنذور بعينه وليس هذا كما ظن هذا القائل وذلك لأن النذر يوجب الوفاء بالمنذور بعينه وله أصل غير اليمين لقوله تعالى وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم [ النحل: 91 ] وقال تعالى يوفون بالنذر وقال تعالى أوفوا بالعقود وقال تعالى ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون [ التوة: 76 ] فذمهم تعالى على ترك الوفاء بنفس المنذور وقال النبي صلى الله عليه وسلم من نذر نذرا لم يسمه فعليه كفارة يمين ومن نذر نذرا سماه فعليه الوفاء به وكان قوله تعالى ذلك كفارة أيمانكم في اليمين المعقودة بالله عز وجل وكانت النذور محمولة على الأصول الأخر التي ذكرنا في لزوم الوفاء بها قوله تعالى واحفظوا أيمانكم فقال قائلون معناه احفظوا أنفسكم من الحنث فيها واحذروا الحنث فيها وإن لم يكن الحنث معصية وقال آخرون أقلوا من الأيمان على نحو قوله تعالى ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم واستشهد من قال ذلك بقول الشاعر قليل الألا يا حافظ ليمينه * إذا بدرت منه الألية برت وقال آخرون معناه راعوها لكي تؤدوا الكفارة عند الحنث فيها لأن حفظ الشئ
[ 572 ]
هو مراعاته وهذا هو الصحيح فأما الأول فلا معنى له لأنه غير منتهي عن الحنث إذا لم يكن ذلك الفعل معصية وقد قال صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه فأمره بالحنث فيها وقد قال الله تعالى ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا الآية روي أنها نزلت في شأن مسطح بن أثاثة حين حلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن لا ينفق عليه لما كان منه من الخوض في أمر عائشة وقد كان ينفق عليه وكان ذا قرابة منه فأمره الله تعالى بالحنث في يمينه والرجوع إلى الإنفاق عليه ففعل ذلك أبو بكر وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك إلى قوله قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم [ التحريم: 2 ] بالكفارة والرجوع عما حرم على نفسه فثبت بذلك أنه غير منهي عن الحنث في اليمين إذا لم يكن الفعل معصية فغير جائز أن يكون معنى قوله واحفظوا أيمانكم نهيا عن الحنث وأما من قال إن معناه النهي عن الحلف واستشهد بالبيت فقوله مرذول ساقط لأنه غير جائز أن يكون الأمر بحفظ اليمين نهيا عن اليمين كما لا يجوز أن يقال احفظ مالك بمعنى أن لا تكسبه ومعنى البيت هو على ما نقوله مراعاة الحنث لأداء الكفارة لأنه قال قليل الألا يا حافظ ليمينه فأخبر بديا بقلة أيمانه ثم قال حافظ ليمينه ومعناه أنه مراع لها ليؤدي كفارتها عند الحنث ولو كان على ما قال المخالف لكان تكرارا لما قد ذكره فصح أن معناه الأمر بمراعاتها لأداء كفارتها عند الحنث قوله تعالى طعام عشرة مساكين روي عن علي وعمر وعائشة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وإبراهيم ومجاهد والحسن في كفارة اليمين كل مسكين نصف صاع من بر وقال عمر وعائشة أو صاعا من تمر وهو قول أصحابنا إذا أعطاهم الطعام تمليكا وقال ابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وعطاء في آخرين مد من بر لكل مسكين وهو قول مالك والشافعي مطلب: في الاطعام من غير تمليك واختلف في الإطعام من غير تمليك فروي عن علي ومحمد بن كعب والقاسم وسالم والشعبي وإبراهيم وقتادة يغديهم ويعشيهم وهو قول أصحابنا ومالك بن أنس والثوري والأوزاعي وقال الحسن البصري وجبة واحدة تجزئ وقال الحكم لا يجزي الإطعام حتى يعطيهم وقال سعيد بن جبير مدين من طعام ومد لإدامه ولا يجمعهم فيطعمهم ولكن يعطيهم وروي عن ابن سيرين وجابر بن زيد ومكحول
[ 573 ]
وطاوس والشعبي يطعمهم أكلة واحدة وروي عن أنس مثل ذلك وقال الشافعي لا يعطيهم جملة ولكن يعطي كل مسكين مدا قال أبو بكر قال الله تعالى فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم فاقتضى ظاهره جواز الإطعام بالأكل من غير إعطاء ألا ترى إلى قوله تعالى ويطعمون الطعام على حبه مسكينا قد عقل منه إطعامهم بالإباحة لهم من غير تمليك ويقال فلان يطعم الطعام وإنما مرادهم دعاؤه إياهم إلى أكل طعامه فلما كان الاسم يتناول الإباحة وجب جوازه وإذا جاز إطعامهم على وجه الإباحة من غير تمليك فالتمليك أحرى بالجواز لأنه أكثر من الإباحة ولا خلاف في جواز التمليك وإنما قالوا يغديهم ويعشيهم لقوله تعالى من أوسط ما تطعمون أهليكم) وهو مرتان غداء وعشاء لأن الأكثر في العادة ثلاث مرات والأقل واحدة والأوسط مرتان وقد روى ليث عن ابن بريدة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان خبزا يابسا فهو غداؤه وعشاؤه وإنما قال أصحابنا إذا أعطاهم كان من البر نصف صاع ومن الشعير والتمر صاعا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث كعب بن عجرة في فدية الأذى أو أطعم ثلاثة آصع من طعام ستة مساكين وفي حديث آخر أطعم ستة آصع من تمر ستة مساكين فجعل لكل مسكين صاعا من تمر أو نصف صاعا من بر ولم يفرق بين تقدير الطعام في فدية الأذى وكفارة اليمين فثبت أن كفارة اليمين مثلها وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في كفارة الظهار وسقا من تمر لستين مسكينا والوسق ستون صاعا ولما ثبت في كفارة الظهار لكل مسكين صاع من تمر كانت كفارة اليمين مثلها لاتفاق الجميع على تساويهما في مقدار ما يجب فيهما من الطعام وإذا ثبت من التمر صاع وجب أن يكون من البر نصف صاع لأن كل من أوجب فيها صاعا من التمر أوجب من البر نصف صاع قوله تعالى من أوسط ما تطعمون أهليكم روي عن ابن عباس قال كان لأهل المدينة قوت وكان للكبير أكثر مما للصغير وللحر أكثر مما للمملوك فنزلت (من أوسط ما تطعمون أهليكم ليس بأفضله ولا بأخسه وروي عن سعيد بن جبير مثله قال أبو بكر بين ابن عباس أن المراد الأوسط في المقدار لا بأن يكون ما دوما ذلك وروي عن ابن عمر قال أوسطه الخبز والتمر والخبز والزيت وخير ما نطعم أهلنا الخبز واللحم وعن عبيدة الخبز والسمن وقال أبو رزين الخبز والتمر والخل
[ 574 ]
وقال ابن سيرين أفضله اللحم وأوسطه السمن وأحسنه التمر مع الخبز روي عن عبد الله بن مسعود مثله قال أبو بكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم سلمة بن صخر أن يكفر عن الظهار بإعطاء كل مسكين صاعا من تمر ولم يأمره معه بشئ آخر غيره من الإدام وأمر كعب بن عجرة أن يتصدق بثلاثة آصع من طعام على ستة مساكين ولم يأمره بالإدام ولا فرق عند أحد بين كفارة الظهار وكفارة اليمين في مقدار الطعام فثبت بذلك أن الإدام غير واجب مع الطعام وأن الأواسط المراد بالآية الأوسط في مقدار الطعام لا في ضم الإدام إليه مطلب: في الاحتجاج في جواز إعطاء مسكين واحد جميع الطعام في عشرة أيام كل يوم نصف صاع وقوله تعالى فكفارته إطعام عشرة مساكين عموم في جميع من يقع عليه الاسم منهم فيصح الاحتجاج به في جواز إعطاء مسكين واحد جميع الطعام في عشرة أيام كل يوم نصف صاع لأنا لو منعناه في اليوم الثاني كنا قد خصصنا الحكم في بعض ما انتظمه الاسم دون بعض لا سيما فيمن قد دخل في حكم الآية بالاتفاق وهو قول أصحابنا وقال مالك والشافعي لا يجزي فإن قال قائل لما ذكر عشرة مساكين لم يجز الاقتصار على من دونهم كقوله تعالى فاجلدوهم ثمانين جلدة وقوله تعالى أربعة أشهر وعشرا) [ البقرة: 234 ] وسائر الأعداد المذكورة لا يجوز الاقتصار على ما دونها كذلك غير جائز الاقتصار على الأقل من العدد المذكور قيل له لما كان القصد في ذلك سد جوعة المساكين لم يختلف فيه حكم الواحد والجماعة بعد أن يتكرر عليهم الإطعام أو على واحد منهم في عشرة أيام على حسب ما يحصل به سد الجوعة فكان المعنى المقصود بإعطاء العشرة موجودا في الواحد عند تكرار الدفع والإطعام في عدد الأيام وليس يمتنع إطلاق اسم إطعام العشرة على واحد بتكرار الدفع إذ كان المقصد فيه تكرار الدفع لا تكرار المساكين كما قال تعالى يسئلونك عن الأهلة وهو هلال واحد فأطلق عليه اسم الجمع لتكرار الرؤية في الشهور وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستنجاء بثلاثة أحجار ولو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف أجزأه وكذلك أمر برمي الجمار بسبع حصيات ولو رمى بحصاة واحدة سبع مرات أجزأه لأن المقصد فيه حصول الرمي سبع مرات والمقصد في الاستنجاء حصول المساحات دون عدد الأحجار فكذلك لما كان المقصد في إخراج الكفارة سد جوعة المساكين لم يختلف حكم الواحد إذا تكرر ذلك
[ 575 ]
عليه في الأيام وبين الجماعة ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى أو كسوتهم ومعلوم أن كسوتهم عشرة أثواب فصار تقديره أو عشرة أثواب لم يخصصها بمسكين واحد ولا بجماعة فوجب أن يجزي إعطاؤها الواحد منهم ألا ترى أنه يجوز أن تقول أعطيت كسوة عشر مساكين مسكينا واحدا فقوله تعالى أو كسوتهم يدل من هذا الوجه على أنه غير مقصور على أعداد المساكين عشرة ويدل أيضا من الوجه الذي دل عليه ذكر الطعام على الوجه الذي ذكرنا ولا تجزي الكسوة عندهم إذا أعطاها مسكينا واحدا إلا أن يعطيه كل يوم ثوبا لأنه لما ثبت ما وصفنا في الطعام من تفريقه في الأيام وجب مثله في الكسوة إذ لم يفرق واحد بينهما مطلب: أجاز أصحابنا إعطاء قيمة الطعام والكسوة وأجاز أصحابنا إعطاء قيمة الطعام والكسوة لما ثبت أن المقصد فيه حصول النفع للمساكين بهذا القدر من المال ويحصل لهم من النفع بالقيمة مثل حصوله بالطعام والكسوة ولما صح إعطاء القيمة في الزكوات من جهة الآثار والنظر وجب مثله في الكفارة لأن أحدا لم يفرق بينهما ومع ذلك فليس يمتنع إطلاق الاسم على من أعطى غيره دراهم يشتري بها ما يأكله ويلبسه بأن يقال قد أطعمه وكساه وإذا كان إطلاق ذلك سائغا انتظمه لفظ الآية ألا ترى أن حقيقة الإطعام أن يطعمه إياه بأن يبيحه له فيأكله ومع ذلك فلو ملكه إياه ولم يأكله المسكين وباعه أجزأه وإن لم يتناوله حقيقة اللفظ بحصول المقصد في وصول هذا القدر من المال إليه وإن لم يطعمه ولم ينتفع به من جهة الأكل وكذلك لو أعطاه كسوة فلم يكتس بها وباعها وإن لم يكن له كاسيا بإعطائه إذ كان موصلا إليه هذا القدر من المال بإعطائه إياه ثبت بذلك أنه ليس المقصد حصول المطعم والإكتساء محمد وأن المقصد وصوله إلى هذا القدر من المال فلا يختلف حينئذ حكم الدراهم والثياب والطعام ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قدر في صدقة الفطر نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير ثم قال أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم فأخبر أن المقصود حصول الغنى لهم عن المسألة لا مقدار الطعام بعينه إذ كان الغنى عن المسألة يحصل بالقيمة كحصوله بالطعام فإن قال قائل لو جازت القيمة وكان المقصد فيه حصول هذا القدر من المال للمساكين لما كان لذكر الإطعام والكسوة فائدة مع تفاوت قيمتها في أكثر الأحوال وفي ذكره الطعام أو الكسوة دلالة على أنه غير جائز أن يتعداهما إلى القيمة وأنه ليس المقصد حصول النفع بهذا القدر من المال دون عين الطعام والكسوة قيل له ليس الأمر على ما ظننت وفي ذكره الطعام والكسوة أعظم الفوائد وذلك أنه ذكرها ودلنا بما ذكر على
[ 576 ]
جواز إعطاء قيمتها ليكون مخيرا بين أن يعطي حنطة أو يطعم أو يكسوا أو يعطي دراهم قيمة عن الحنطة أو عن الثياب فيكون موسعا في العدول عن الأرفع إلى الأوكس إن تفاوت القيمتان أو عن الأوكس إلى الأرفع أو يعطي أي المذكورين بأعيانهما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ومن وجبت في إبله بنت لبون فلم توجد أخذ منه بنت مخاض وشاتان أو عشرون درهما فخيره في ذلك وهو يقدر على أن يشتري بنت لبون وهي الفرض المذكور وكما جعل الدية مائة من الإبل واتفقت الأمة على أنها من الدراهم والدنانير أيضا قيمة للإبل على اختلافهم فيها وكمن تزوج امرأة على عبد وسط فإن جاء به بعينه قبل منه وإن جاء بقيمته قبلت منه أيضا ولم يبطل جواز أخذ القيمة في هذه المواضع حكم التسمية لغيرها فكذلك ما وصفنا ألا ترى أنه خيره بين الكسوة والطعام والعتق ؟ فالقيمة مثل أحد هذه الأشياء وهو مخير بينها وبين المذكور وإن كانت قد تختلف في الطعام والكسوة لأن في عدوله إلى الأرفع زيادة فضيلة وفي اقتصاره على الأوكس رخصة وأيهما فعل فهو المفروض وهذا مثل ما نقول في القراءة في الصلاة أن المفروض منها مقدار آية فإن أطال القراءة كان الجميع هو المفروض والمفروض من الركوع هو الجزء الذي يسمى به راكعا فإن أطال كان الفرض جميع المفعول منه ألا ترى أنه لو أطال الركوع كان مدركه في آخر الركوع مدركا لركعته وكذلك لا يمتنع أن يكون المفروض من الكفارة قيمة الأوكس من الطعام أو الكسوة فإن عدل إلى قيمة الأرفع كان هو المفروض أيضا مطلب: في مقدار الكسوة في الكفارة وقد اختلف في مقدار الكسوة فقال أصحابنا الكسوة في كفارة اليمين لكل مسكين ثوب إزار أو رداء أو قميص أو قباء أو كساء وروى ابن سماعة عن محمد أن السراويل تجزي وأنه لو حلف لا يشتري ثوبا فاشترى سراويل حنث إذا كان سراويل الرجال وروى هشام عن محمد أنه لا يجزي السراويل ولا العمامة وكذلك روى بشر عن أبي يوسف وقال مالك والليث إن كسا الرجل كسا ثوبا وللمرأة ثوبين ودرعا وخمارا وذلك أدنى ما تجزي فيه الصلاة ولا يجزي ثوب واحد للمرأة ولا تجزي العمامة وقال الثوري تجزي العمامة وقال الشافعي تجزي العمامة والسراويل والمقنعة قال أبو بكر روي عن عمران بن حصين وإبراهيم والحسن ومجاهد وطاوس والزهري ثوب لكل مسكين قال أبو بكر ظاهره يقتضي ما يسمى به الإنسان مكتسيا إذا لبسه ولابس السراويل ليس عليه غيره أو العمامة ليس عليه غيرها لا يسمى مكتسيا كلابس القلنسوة فالواجب أن لا يجزي السراويل والعمامة ولا الخمار لأنه مع لبسه
[ 577 ]
لأحد هذه الأشياء يكون عريانا غير مكتس وأما الإزار والقميص ونحوه فإن كل واحد من ذلك يعم بدنه حتى يطلق عليه اسم المكتسي فلذلك أجزأه قوله تعالى أو تحرير رقبة يعني عتق رقبة وتحريرها إيقاع الحرية عليها وذكر الرقبة وأراد به جملة الشخص تشبيها له بالأسير الذي تفك رقبته ويطلق فصارت الرقبة عبارة عن الشخص وكذلك قال اصحابنا إذا قال رقبتك حرة أنه يعتق كقوله أنت حر واقتضى اللفظ رقبة سليمة من العاهات لأنه اسم للشخص بكماله إلا أن الفقهاء اتفقوا على أن النقص اليسير لا يمنع جوازها فاعتبر أصحابنا بقاء منفعة الجنس في جوازها وجعلوا فوات منفعة الجنس من تلك الأعضاء مانعا لجوازها قوله تعالى فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام روى مجاهد عن عبد الله بن مسعود وأبو العالية عن أبي فصيام ثلاثة ايام متتابعات وقال إبراهيم النخعي في قراءتنا فصيام ثلاثة أيام متتابعات وقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وطاوس هن متتابعات لا يجزي فيها التفريق فثبت التتابع بقول هؤلاء ولم تثبت التلاوة لجواز كون التلاوة منسوخة والحكم ثابتا وهو قول أصحابنا وقال مالك والشافعي يجزي فيه التفريق وقد بينا ذلك في أصول الفقه قوله تعالى فكفارته إطعام عشرة مساكين يقتضي إيجاب التكفير مع القدرة مع بقاء الخطاب بالكفارة وإنما يجوز الصوم مع عدم المذكور بديا لأنه قال فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام فنقله عن أحد الأشياء الثلاثة إلى الصوم عند عدمها فما دام الخطاب بالكفارة قائما عليه لم يجزه الصوم مع وجود الأصل ودخوله في الصوم لم يسقط عنه الخطاب بأحد الأشياء الثلاثة والدليل عليه أنه لو دخل في صوم اليوم الأول ثم أفسده وهو واجد للرقبة لم يجز الصوم مع وجودها فثبت بذلك أن دخوله في الصوم لم يسقط عنه فرض الأصل فلا فرق بين وجود الرقبة قبل الدخول في الصوم وبعده إذ كان الخطاب بالتكفير قائما عليه في الحالين باب تحريم الخمر قال الله تعالى إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه اقتضت هذه الآية تحريم الخمر من وجهين أحدهما قوله رجس لأن الرجس اسم في الشرع لما يلزمه اجتنابه ويقع اسم الرجس على الشئ المستقذر النجس وهذا أيضا يلزم اجتنابه فأوجب وصفه إياها بأنها رجس لزوم اجتنابها والوجه
[ 578 ]
الآخر قوله تعالى فاجتنبوه وذلك أمر والأمر يقتضي الإيجاب فانتظمت الآية تحريم الخمر من هذين الوجهين والخمر هي عصير العنب الني المشتد وذلك متفق عليه أنه خمر وقد سمى بعض الأشربة المحرمة باسم الخمر تشبيها بها مثل الفضيخ وهو نقيع البسر ونقيع التمر وإن لم يتناولهما اسم الإطلاق وقد روي في معنى الخمر آثار مختلفة منها ما روى مالك بن مغول عن نافع عن ابن عمر قال لقد حرمت الخمر وما بالمدينة منها شئ) وقد علمنا أنه كان بالمدينة نقيع التمر والبسر وسائر ما يتخذ منهما من الأشربة ولم يكن ابن عمر ممن يخفى عليه الأسماء اللغوية فهذا يدل على أن أشربة النخل لم تكن عنده تسمى خمرا وروى عكرمة عن ابن عباس قال نزل تحريم الخمر وهو الفضيخ فأخبر ابن عباس أن الفضيخ خمر وجائز أن يكون سماه خمرا من حيث كان شرابا محرما وروى حميد الطويل عن أنس قال كنت أسقي أبي عبيدة وأبي بن كعب وسهيل بن بيضاء في نفر في بيت أبي طلحة فمر بنا رجل فقال إن الخمر قد حرمت فوالله ما قالوا حتى نتبين حتى قالوا أهرق ما في إنائك يا أنس ثم ما عادوا فيها حتى لقوا الله عز وجل وأنه البسر والتمر وهو خمرنا يومئذ فأخبر أنس إن الخمر يوما حرمت البسر والتمر وهذا جائز أن يكون لما كان محرما سماه خمرا وأن يكون المراد انهم كانوا يجرونه مجرى الخمر ويقيمونه مقامها لا أن ذلك اسم له على الحقيقة ويدل عليه أن قتادة روى عن أنس هذا الحديث وقال إنما نعدها يومئذ خمرا فأخبر أنهم كانوا يعدونها خمرا على معنى أنهم يجرونها مجرى الخمر وروى ثابت عن أنس قال حرمت علينا الخمر يوم حرمت وما نجد خمور الأعناب إلا القليل وعامة خمورنا البسر والتمر ومع هذا أيضا معناه أنهم كانوا يجرونه مجرى الخمر في الشرب وطلب الإسكار وطيبة النفس وإنما كان شراب البسر والتمر وروى المختار بن فلفل قال سألت أنس بن مالك عن الأشربة فقال حرمت الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة وما خمرت من ذلك فهو خمر فذكر في الحديث الأول أنه من البسر والتمر وذكر في هذا الحديث أنها من ستة أشياء فكان عنده أن ما أسكر من هذه الأشربة فهو خمر ثم قال وما خمرت من ذلك فهو خمر وهذا يدل على أنه إنما سمي ذلك خمرا في حال الإسكار وأن ما لا يسكر منه فليس بخمر وقد روي عن عمر أنه قال إن الخمر حرمت وهي من خمسة أشياء من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل وهذا أيضا يدل على أنه إنما سماه خمرا في حال ما أسكر إذا أكثر منه لقوله والخمر ما خامر العقل وقد روي عن السري بن إسماعيل
[ 579 ]
عن الشعبي أنه حدثه أنه سمع النعمان بن بشير يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من الحنطة خمرا وإن من الشعير خمرا وإن من الزبيب خمرا وإن من التمر خمرا وإن من العسل خمرا ولم يقل إن جميع ما يكون من هذه الأصناف خمر وإنما أخبر أن منهم خمرا ويحتمل أن يريد به ما يسكر منه فيكون محرما في تلك الحال ولم يرد بذلك أن ذلك اسم لهذه الأشربة المتخذة من هذه الأصناف لأنه قد روي عنه بأسانيد أصح من إسناد هذا الحديث ما ينفي أن يكون الخمر من هذه الأصناف وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا أبان قال حدثني يحيى بن أبي كثير عن أبي كثير العنبري وهو يزيد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنب وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا عبيد بن حاتم قال حدثنا ابن عمار الموصلي قال حدثنا عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبي عروبة عن عكرمة بن عمار عن أبي كثير عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمر من هاتين الشجرتين النخل والعنب وهذا الخبر يقضي على جميع ما تقدم ذكره في هذا الكتاب بصحة سنده وقد تضمن نفي اسم الخمر عن الخارج من غير هاتين الشجرتين لأن قوله الخمر اسم للجنس فاستوعب بذلك جميع ما يسمى خمرا فانتفى بذلك أن يكون الخارج من غيرهما مسمى باسم الخمر واقتضى هذا الخبر أيضا أن يكون المسمى بهذا الاسم من الخارج من هاتين الشجرتين وهو على أول الخارج منهما مما يسكر منه وذلك هو العصير الني المشتد ونقيع التمر والبسر قبل أن تغيره النار لأن قوله منهما يقتضي أول خارج منهما مما يسكر والذي حصل عليه الاتفاق من الخمر هو ما قدمنا ذكره من عصير العنب الني المشتد إذ غلا وقذف بالزبذ فيحتمل على هذا إذا كان الخمر ما وصفنا أن يكون معنى حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم الخمر من هاتين الشجرتين أن مراده أنها من إحداهما كما قال تعالى يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم [ الانعام: 130 ] وإنما الرسل من الإنس وقال تعالى يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) [ الرحمن: 22 ] وإنما يخرج من أحدهما ويدل على أن الخمر هو ما ذكرنا وأن ما عداها ليس بخمر في الحقيقة اتفاق المسلمين على تكفير مستحل الخمر في غير حال الضرورة واتفاقهم على أن مستحل ما سواها من هذه الأشربة غير مستحق لسمة الكفر فلو كانت خمرا لكان مستحلها كافرا خارجا عن الملة كمستحل الني المشتد من عصير العنب وفي ذلك دليل على أن اسم الخمر في الحقيقة إنما يتناول ما وصفنا وزعم بعض من ليس معه من الورع إلا تشدده
[ 580 ]
في تحريم النبيذ دون التورع عن أموال الأيتام وأكل السحت أن كتاب الله عز وجل والأحاديث الصحاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء في الحديث من تفسير الخمر ما هي واللغة القائمة المشهورة والنظر وما يعرفه ذوو الألباب بعقولهم يدل على أن كل شئ أسكر فهو خمر فأما كتاب الله فقوله تتخذون منه سكرا فعلم أن السكر من العنب مثل السكر من النخل فادعى هذا القائل أن كتاب الله يدل على أن ما أسكر فهو خمر ثم تلا الآية وليس في الآية أن السكر ما هو ولا أن السكر خمر فإن كان السكر خمرا على الحقيقة فإنما هو الخمر المستحيلة عن عصير العنب لأنه قال ومن ثمرات النخيل والأعناب ومع ذلك فإن الآية مقتضية لإباحة السكر المذكور فيها لأنه تعالى اعتد علينا فيها بمنافع النخيل والأعناب كما اعتد بمنافع الأنعام وما خلق فيها من اللبن فلا دلالة في الآية إذا على تحريم السكر ولا على أن السكر خمر ولو دلت على أن السكر خمر لما دلت على أن الخمر تكون من كل ما يسكر إذ فيها ذكر الأعناب التي منها تكون الخمر المستحيلة من عصيرها فكان دعواها على الكتاب غير صحيحة وذكر من الأحاديث في ذلك ما قدمنا ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف وقد بينا وجهه وذكرنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كل مسكر خمر وكل مسكر حرام وكل شراب أسكر فهو حرام وما أسكر كثيره فقليله حرام ونحوها من الأخبار والمعنى في هذه الأخبار حال وجود الإسكار دون غيرها الموافق لما ذكرنا من الأخبار النافية لكونها خمرا وما ذكرنا من دلالة الإجماع وقد تواترت الآثار عن جماعة من عليه السلف شرب النبيذ الشديد منهم عمر وعبد الله وأبو الدرداء وبريدة في آخرين قد ذكرناهم في كتابنا في الأشربة وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرب من النبيذ الشديد في أخبار أخر فينبغي على قول هذا القائل أن يكونوا قد شربوا خمرا وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا مطين قال حدثنا أحمد بن يونس قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مسكر حرام فقلنا يا ابن عباس إن هذا النبيذ الذي نشرب يسكرنا ! إلى قال ليس هكذا إن شرب أحدكم تسعة أقداح لم يسكر فهو حلال فإن شرب العاشر فأسكره فهو حرام حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا هودة قال حدثنا عوف بن سنان عن أبي الحكم عن بعض الأشعريين عن الأشعري قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذا إلى اليمن فقلت يا رسول الله إنك تبعثنا إلى أرض بها أشربة منها البتع من العسل والمزر من الشعير والذرة يشتد حتى يسكر قال وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم فقال إنما حرم المسكر الذي يسكر عن الصلاة فأخبر عليه
[ 581 ]
السلام في هذا الحديث أن المحرم منه ما يوجب السكر دون غيره وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا محمد بن زكريا العلائي قال حدثنا العباس بن بكار قال حدثنا عبد الرحمن بن بشير الغطفاني عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأشربة عام حجة الوداع فقال حرم الخمر بعينها والسكر من كل شراب وفي هذا الحديث أيضا بيان ما حرم من الأشربة سوى الخمر وهو ما يوجب السكر وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا معاذ بن المثنى قال حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا سماك بن حرب عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي بردة بن نيار قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اشربوا في الظروف ولا تسكروا فقوله اشربوا في الظروف منصرف إلى ما كان حظره من الشرب في الأوعية فأباح الشرب منها بهذا الخبر ومعلوم أن مراده ما يسكر كثيره ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال اشربوا الماء ولا تسكروا إذا كان الماء لا يسكر بوجه ما فثبت أن مراده إباحة شرب قليل ما يسكره كثيره وأما ما روي عن الصحابة من شرب النبيذ الشديد فقد ذكرنا منه طرفا في كتاب الأشربة ونذكر ههنا بعض ما روي فيه حدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا حسين بن جعفر القتات قال حدثنا يزيد بن مهران الخباز قال حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي حصين والأعمش عن إبراهيم عن علقمة والأسود قال كنا ندخل على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فيسقينا النبيذ الشديد وحدثنا عبد الله بن الحسين الكرخي قال حدثنا أبو عون الفرضي قال حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال حدثنا نعيم بن حماد قال كنا عند يحيى بن سعيد القطان بالكوفة وهو يحدثنا في تحريم النبيذ فجاء أبو بكر بن عياش حتى وقف عليه فقال أبو بكر أسكت يا صبي حدثنا الأعمش بن إبراهيم عن علقمة قال شربنا عند عبد الله بن مسعود نبيذا صلبا آخره يسكر وحدثنا أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون قال شهدت عمر بن الخطاب حين طعن وقد أتي بالنبيذ فشربه قال عجبنا من قول أبي بكر ليحيى أسكت يا صبي وروى إسرائيل عن أبي إسحاق عن الشعبي عن سعيد وعلقمة أن أعرابيا شرب من شراب عمر فجلده عمر الحد فقال الأعرابي إنما شربت من شرابك فدعا عمر شرابه فكسره بالماء ثم شرب منه وقال من رابه من شرابه شئ فليكسره بالماء ورواه إبراهيم النخعي عن عمر نحوه وقال فيه إنه شرب منه بعد ما ضرب الأعرابي وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا المعمري قال حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال حدثنا معمر قال حدثني عطاء بن أبي ميمونة عن أنس بن مالك عن أم سليم وأبي طلحة أنهما كانا
[ 582 ]
يشربان نبيذ الزبيب والتمر يخلطانه فقيل له يا أبا طلحة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا ! فقال إنما نهى عنه للعوز في ذلك الزمان كما نهى عن الإقران وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كثير وقد ذكرنا منه طرفا في كتابنا الأشربة وكرهت التطويل بإعادته هنا وما روي عن أحد من الصحابة والتابعين تحريمه الأشربة التي يبيحها أصحابنا فيما نعلمه وإنما روي عنهم تحريم نقيع الزبيب والتمر وما لم يرد من العصير إلى الثلث إلى أن نشأ قوم من الحشو تصنعوا عند العامة بالتشديد في تحريمه ولو كان النبيذ محرما لورد النقل به مستفيضا لعموم البلوى كانت به إذ كانت عامة أشربتهم نبيذ التمر والبسر كما ورد تحريم الخمر وقد كانت بلواهم بشرب النبيذ أعم منها بشرب الخمر لقلتها كانت عندهم وفي ذلك دليل على بطلان قول موجبي تحريمه وقد استقصينا الكلام في ذلك من سائر وجوهه في الأشربة وأما الميسر فقد روي عن علي أنه قال الشطرنج من الميسر وقال عثمان وجماعة من الصحابة والتابعين النرد وقال قوم من أهل العلم القمار كله من الميسر وأصله من تيسير أمر الجزور بالاجتماع على القمار فيه وهو السهام التي يجيلونها فمن خرج سهمه استحق منه ما توجبه علامة السهم فربما أخفق بعضهم حتى لا يخطئ بشئ وينجح البعض فيحظى بالسهم الوافر وحقيقته تمليك المال على المخاطرة وهو أصل في بطلان عقود التمليكات الواقعة على الأخطار كالهبات والصدقات وعقود البياعات ونحوها إذا علقت على الأخطار بأن يقول قد بعتك إذا قدم زيد ووهبته لك إذا خرج عمرو لأن معنى إيسار الجزور أن يقول من خرج سهمه استحق من الجزور كذا فكان استحقاقه لذلك السهم منه معلقا على الحظر والقرعة في الحقوق تنقسم إلى معنيين أحدهما تطييب النفوس من غير إحقاق واحد من المقترعين ولا بخس حظه مما اقترعوا عليه مثل القرعة في القسمة وفي قسم النساء وفي تقديم الخصوم إلى القاضي والثاني مما ادعاه مخالفونا في القرعة بين عبيد أعتقهم المريض ولا مال له غيرهم فقول مخالفينا هنا من جنس الميسر المحظورة بنص الكتاب لما فيه من نقل الحرية عمن وقعت عليه إلى غيره بالقرعة ولما فيه أيضا من إحقاق بعضهم وبخس حقه حتى لا يخطئ منه بشئ واستيفاء بعضهم حقه وحق غيره ولا فرق بينه وبين الميسر في المعنى وأما الأنصاب فهي ما نصب للعبادة من صنم أو حجر غير مصور أو غير ذلك من سائر ما ينصب للعبادة وأما الأزلام فهي القداح وهي سهام كانوا يجعلون عليها علامات افعل ولا
[ 583 ]
تفعل ونحو ذلك فيعملون في سائر ما يهتمون به من أعمالهم على ما تخرجه تلك السهام من أمر أو نهي أو إثبات أو نفي ويستعملونها في الأنساب أيضا إذا شكوا فيها فإن خرج لا نفوه وإن خرج نعم أثبتوه وهي سهام الميسر أيضا وأما قوله رجس من عمل الشيطان فإن الرجس هو الذي يلزم اجتنابه إما لنجاسته وإما لقبح ما يفعل به عباده أو تعظيم لأنه يقال رجس نجس فيراد بالرجس النجس ويتبع أحدهما الآخر كقولهم حسن بسن وعطشان نطشان وما جرى مجرى ذلك والرجز قد قيل فيه إنه العذاب في قوله تعالى لئن كشفت عنا الرجز أي العذاب وقد يكون في معنى الرجس كما في قوله والرجز فاهجر وقوله ويذهب عنكم رجز الشيطان [ الانفال: 11 ]. وإنما قال تعالى من عمل الشيطان لأنه يدعو إليه ويأمر به فأكد بذلك أيضا حكم تحريمها إذ كان الشيطان لا يأمر إلا بالمعاصي والقبائح والمحرمات وجازت نسبته إلى الشيطان على وجه المجاز إذ كان هو الداعي إليه والمزين له ألا ترى لو أغرى غيره أو نسبه وزينه له جاز أن يقال له هذا من عملك قوله تعالى إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر الآية فإنما يريد به ما يدعو الشيطان إليه ويزينه من شرب الخمر حتى يسكر منها شاربها فيقدم على القبائح ويعربد على جلسائه فيؤدي ذلك إلى العداوة والبغضاء وكذلك القمار يؤدي إلى ذلك قال قتادة كان الرجل يقامر في ماله وأهله فيقمر ويبقى حزينا سليبا فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء ومن الناس من يستدل به على تحريم النبيذ إذ كان السكر منه يوجب من العداوة والبغضاء مثل ما يوجبه السكر في الخمر وهذا المعنى لعمري موجود فيما يوجب السكر منه غير موجود فيما لا يوجبه ولا خلاف في تحريم ما يوجب السكر منه وأما قليل الخمر فليست هذه العلة موجودة فيه فهو محرم لعينه وليس فيه علة تقتضي تحريم قليل النبيذ قوله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا قال ابن عباس وجابر والبراء بن عازب وأنس بن مالك والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك لما حرم الخمر كان قد مات رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر قبل أن تحرم فقالت الصحابة كيف بمن مات منا وهم يشربونها فأنزل الله تعالى هذه الآية وروى عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي إن قوما شربوا بالشام وقالوا هي لنا حلال وتأولوا هذه الآية فأجمع عمر وعلي على أن يستتابوا فإن تابوا وإلا
[ 584 ]
قتلوا وروى الزهري قال أخبرني عبد الله بن عامر بن ربيعة أن الجارود سيد بني عبد القيس وأبا هريرة شهدا على قدامة بن مظعون أنه شرب الخمر وأراد عمر أن يجلده فقال قدامة ليس لك ذلك لأن الله تعالى يقول ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح الآية فقال عمر إنك قد أخطأت التأويل يا قدامة إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله تعالى عليك فلم يحكموا على قدامة بحكمهم على الذين شربوها بالشام ولم يكن حكمه حكمهم لأن أولئك شربوها مستحلين لها ومستحل ما حرم الله كافر فلذلك استتابوهم وأما قدامة بن مظعون فلم يشربها مستحلا لشربها وإنما تأول الآية على أن الحال التي هو عليها ووجود الصفة التي ذكر الله تعالى في الآية فيه مكفرة لذنوبه وهو قوله تعالى ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين فكان عنده أنه من أهل هذه الآية وأنه لا يستحق العقوبة على شربها مع اعتقاده لتحريمها ولتكفير إحسانه إساءته وأعاد ذكر الاتقاء في الآية ثلاث مرات والمراد بكل واحد منهما غير المراد بالأخرى فأما الأول فمن اتقى فيما سلف والثاني الاتقاء منهم في مستقبل الأوقات والثالث اتقاء ظلم العباد والإحسان إليهم باب الصيد للمحرم قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد قيل في موضع من ههنا أنها للتبعيض بأن يكون المراد صيد البر دون صيد البحر وصيد الإحرام دون صيد الإحلال وقيل إنها للتمييز كقوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الأوثان [ الحج: 30 ] وقولك باب من حديد وثوب من قطن وجائز أن يريد ما يكون من أجزاء الصيد وإن لم يكن صيدا كالبيض والفرخ لأن البيض من الصيد وكذلك الفرخ والريش وسائر أجزائه فتكون الآية شاملة لجميع هذه المعاني ويكون المحرم بعض الصيد في بعض الأحوال وهو صيد البر في حال الإحرام ويفيد أيضا تحريم ما كان من أجزاء الصيد ونما عنه كالبيض والفرخ والوبر وغيره وقد روي عن ابن عباس في قوله تعالى تناله أيديكم قال فراخ الطير وصغار الوحش وقال مجاهد الفرخ والبيض وقد روي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه أعرابي بخمس بيضان فقال إنا محرمون وإنا لا نأكل فلم يقبلها وروى عكرمة عن ابن عباس عن
[ 585 ]
كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بيض نعام أصابه المحرم بقيمته وروي عن عمر وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبي موسى في بيض النعامة يصيبه المحرم أن عليه قيمته ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في ذلك وقوله تعالى ورماحكم قال ابن عباس كبار الصيد قوله تعالى لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم قيل فيه ثلاثة أوجه كلها محتمل أحدها محرمون بحج أو عمرة والثاني دخول الحرم يقال أحرم الرجل إذا دخل الحرم كما يقال أنجد إذا أتى نجدا وأعرق إذا أتى العراق وأتهم إذا أتى تهامة والثالث الدخول في الشهر الحرام كما قال الشاعر قتل كان الخليفة محرما يعني في الشهر الحرام وهو يريد عثمان بن عفان رضي الله عنه ولا خلاف أن الوجه الثالث غير مراد بهذه الآية وأن الشهر الحرام لا يحظر الصيد والوجهان الأولان مرادان وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن صيد الحرم للحلال والمحرم فدل أنه مراد بالآية لأنه متى ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حكم ينتظمه لفظ القرآن فالواجب أن يحكم بأنه صدر عن الكتاب غير مبتدأ وقوله عز وجل لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم يقتضي عمومه صيد البر والبحر لولا ما خصه بقوله أحل لكم صيد البحر وطعامه فثبت أن المراد بقوله لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم صيد البر خاصة دون صيد البحر وقد دل قوله لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم أن كل ما يقتله المحرم من الصيد فهو غير ذكي لأن الله تعالى سماه قتلا والمقتول لا يجوز أكله وإنما يجوز أكل المذبوح على شرائط الذكاة وما ذكي من الحيوان لا يسمى مقتولا لأن كونه مقتولا يفيد أنه غير مذكى وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم خمس يقتلهن المحرم في الحل والحرم قد دل على أن هذه الخمسة ليست مما يؤكل لأنه مقتول غير مذكى ولو كان مذكى كانت إفاتة روحه لا تكون قتلا ولم يكن يسمى بذلك وكذلك قال أصحابنا فيمن قال لله علي ذبح شاة أن عليه أن يذبح ولو قال لله علي قتل شاة لم يلزمه شئ وكذلك قال أصحابنا فيمن قال لله علي ذبح ولدي أو نحره فعليه شاة ولو قال لله علي قتل ولدي لم يلزمه شئ لأن اسم الذبح متعلق بحكم الشرع في الإباحة والقربة وليس كذلك القتل وروي عن سعيد بن المسيب في قوله لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم قال قتله حرام في هذه الآية وأكله حرام في هذه الآية يعني أكل ما قتله المحرم منه وروى أشعث عن الحسن قال كل
[ 586 ]
صيد يجب فيه الجزاء فذلك الصيد ميتة لا يحل أكله وروى عنه يونس أيضا أنه لا يؤكل وروى حماد بن سلمة عن يونس عن الحسن في الصيد يذبحه المحرم قال يأكله الحلال وعن عطاء إذا أصاب المحرم الصيد لا يأكله الحلال وقال الحكم ووعمرو بن دينار يأكله الحلال وهو قول سفيان وقد ذكرنا دلالة الاية) على تحريم ما اصابه المحرم من الصيد وأنه لا يكون مذكى ويدل على أن تحريمه عليه من طريق الدين على أنه حق الله تعالى فأشبه صيد المجوسي والوثني وما ترك فيه التسمية أو شئ من شرائط الذكاة ليس بمنزلة الذبح بسكين مغصوبة لأن تحريمه تعلق بحق آدمي ألا ترى أنه لو أباحه جاز فلم يمنع صحة الذكاة إذ كانت الذكاة حقا لله تعالى فشروطها ما كان حقا لله تعالى باب ما يقتله المحرم قوله تعالى لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم لما كان خاصا في صيد البر دون صيد البحر لما ذكرنا في سياق الآية من التخصيص اقتضى عمومه تحريم سائر صيد البر إلا ما خصه الدليل وقد روى ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال خمس يقتلهن المحرم في الحل والحرم الحية والعقرب والغراب والفأرة والكلب العقور على اختلاف منهم في بعضها وفي بعضها هن فواسق وروي عن أبي هريرة قال الكلب العقور والأسد وروى حجاج بن أرطاة عن وبرة قال سمعت ابن عمر يقول أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الذئب والفأرة والغراب والحدأة فذكر في هذا الحديث الذئب وذكر القعنبي عن مالك قال الكلب العقور الذي أمر المحرم بقتله ما قتل الناس وعدا عليهم مثل الأسد والنمر والذئب وهو الكلب العقور وأما ما كان من السباع لا يعدو مثل الضبع والثعلب والهرة وما أشبههن من السباع فلا يقتلهن المحرم فإن قتل منهن شيئا فداه قال أبو بكر قد تلقى الفقهاء هذا الخبر بالقبول واستعملوه في إباحة قتل الأشياء الخمسة للمحرم وقد اختلف في الكلب العقور فقال أبو هريرة على ما قدمنا الرواية فيه أنه الأسد ويشهد لهذا التأويل أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي لهب فقال أكلك كلب الله فأكله الأسد قيل له إن الكلب العقور هو الذئب وروي في بعض أخبار ابن عمر في موضع الكلب الذئب ولما ذكر الكلب العقور أفاد بذلك كلبا من شأنه العدو على الناس وعقرهم وهذا صفة الذئب فأولى الأشياء بالكلب ههنا الذئب وقد دل على أن كل ما عدا على المحرم وابتدأه بالأذى فجائز له قتله من غير فدية لأن فحوى ذكره الكلب العقور يدل عليه وكذلك قال أصحابنا فيمن
[ 587 ]
ابتدأه السبع فقتله فلا شئ عليه وإن كان هو الذي ابتدأ السبع فعليه الجزاء لعموم قوله تعالى لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم واسم الصيد واقع على كل ممتنع الأصل متوحش ولا يختص بالمأكول منه دون غيره ويدل عليه قوله تعالى ليبلونكم الله بشئ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم فتعلق الحكم منه بما تناله أيدينا ورماحنا ولم يخصص المباح منه دون المحظور الأكل ثم خص النبي صلى الله عليه وسلم الأشياء المذكورة في الخبر وذكر معها الكلب العقور فكان تخصيصه لهذه الأشياء وذكره للكلب العقور دليلا على أن كل ما ابتدأ الإنسان بالأذى من الصيد فمباح للمحرم قتله لأن الأشياء المذكورة من شأنها أن تبتدئ بالأذى فجعل حكمها حكم حالها في الأغلب وإن كانت قد لا تبتدئ في حال لأن الأحكام إنما تتعلق في الأشياء بالأعم عبد الأكثر ولا حكم للشاذ النادر ثم لما ذكر الكلب العقور وقيل هو الأسد فإنما أباح قتله إذا قصد بالعقر والأذى وإن كان الذئب فذلك من شأنه في الأغلب فما خصه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك بالخبر وقامت دلالته فهو مخصوص من عموم الآية وما لم يخصه ولم تقم دلالة تخصيصه فهو محمول على عمومها ويدل عليه حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الضبع صيد وفيه كبش إذا قتله المحرم وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع والضبع من ذي الناب من السباع وجعل النبي صلى الله عليه وسلم فيها كبشا فإن قيل هلا قست على الخمس ما كان في معناها وهو مالا يؤكل لحمه قيل له إنما خص هذه الأشياء الخمسة من عموم الآية وغير جائز عندنا القياس على المخصوص إلا أن تكون علته مذكورة فيه أو دلالة قائمة فيما خص فلما لم تكن للخمس علة مذكورة فيها لم يجز القياس عليها في تخصيص عموم الأصل وقد بينا وجه دلالته على ما يبتدئ الإنسان بالأذى من السباع وكونه غير مأكول اللحم لم تقم عليه دلالة من فحوى الخبر ولا علته مذكورة فيه فلم يجز اعتباره وأيضا فإنه لا خلاف فيما ابتدأ المحرم في سقوط الجزاء فجاز تخصيصه بالإجماع وبقي حكم عموم الآية فيما لم يخصه الخبر ولا الإجماع وعن أصحابنا من يأبى القياس في مثله لأنه حصره بعدد فقال خمس يقتلهن المحرم وفي ذلك دليل على أن ما عداه محظور فغير جائز استعمال القياس في إسقاط دلالة اللفظ ومنهم من يأبى صحة الاعتلال بكونه غير مأكول لأن ذلك نفي والنفي لا يكون علة وإنما العلل أوصاف ثابتة في الأصل المعلول وأما نفي الصفة فليس يجوز أن يكون علة فإن غير الحكم بإثبات وصف وجعل العلة أنه محرم الأكل لم يصح ذلك أيضا لأن التحريم هو الحكم بنفي الأكل
[ 588 ]
فلم يخل من أن يكون نافيا للصفة فلم يصح الاعتلال بها وزعم الشافعي أن مالا يؤكل من الصيد فلا جزاء على المحرم فيه قوله تعالى ومن قتله منكم متعمدا قال أبو بكر اختلف الناس في ذلك على ثلاثة أوجه فقال قائلون وهم الجمهور سواء قتله عمدا أو خطأ فعليه الجزاء وجعلوا فائدة تخصيصه العمد بالذكر في نسق التلاوة من قوله تعالى ومن عاد فينتقم الله منه وذلك يختص بالعمد دون الخطأ لأن المخطئ لا يجوز أن يلحقه الوعيد فخص العمد بالذكر وإن كان الخطأ والنسيان مثله ليصح رجوع الوعيد إليه وهو قول عمر وعثمان والحسن رواية وإبراهيم وفقهاء الأمصار والقول الثاني ما روى منصور عن قتادة عن رجل قد سماه عن ابن عباس أنه كان لا يرى في الخطأ شيئا وهو قول طاوس وعطاء وسالم والقاسم وأحد قولي مجاهد في رواية جابر الجعفي عنه والقول الثالث ما روى سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ومن قتله منكم متعمدا قال إذا كان عامدا لقتله ناسيا لإحرامه فعليه الجزاء وإن كان ذاكرا لإحرامه عامدا لقتله فلا جزاء عليه وفي بعض الروايات قد فسدت حجه وعليه الهدي وقد روي عن الحسن نحو قول مجاهد في أن الجزاء إنما يجب إذا كان عامدا لقتله ناسيا لإحرامه والقول الأول هو الصحيح لأنه قد ثبت أن جنايات الإحرام لا يختلف فيها المعذور وغير المعذور في باب وجوب الفدية ألا ترى أن الله تعالى قد عذر المريض ومن به أذى من رأسه ولم يخلهما من إيجاب الكفارة وكذلك لا خلاف في فوات الحج لعذر أو غيره أنه غير مختلف الحكم ولما ثبت ذلك في جنايات الإحرام وكان الخطأ عذرا لم يكن مسقطا للجزاء فإن قال قائل لا يجوز عندكم إثبات الكفارات قياسا وليس في المخطئ نص في إيجاب الجزاء قيل له ليس هذا عندنا قياسا لأن النص قد ورد بالنهي عن قتل الصيد في قوله لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم وذلك عندنا يقتضي إيجاب البدل على متلفه كالنهي عن قتل صيد الآدمي أو إتلاف ماله يقتضي إيجاب البدل على متلفه فلما جرى الجزاء في هذا الوجه مجرى البدل وجعله الله مثلا للصيد اقتضى النهي عن قتله إيجاب بدل على متلفه ثم ذلك البدل يكون الجزاء بالاتفاق وأيضا فإنه لما ثبت استواء حال المعذور وغير المعذور في سائر جنايات الإحرام كان مفهوما من ظاهر النهي تساوي حال العامد والمخطئ وليس ذلك عندنا قياسا كما أن حكمنا في غير بريرة بما حكم النبي صلى الله عليه وسلم في بريرة ليس بقياس وكذلك حكمنا في العصفور بحكم الفأرة وحكمنا في الزيت بحكم السمن إذا مات فيه ليس هو قياسا على الفأرة وعلى السمن لأنه قد ثبت
[ 589 ]
تساوي ذلك قبل ورود الحكم بما وصفنا فإذا ورد في شئ منه كان حكما في جميعه ولذلك قال أصحابنا إن حكم النبي صلى الله عليه وسلم ببقاء صوم الآكل ناسيا هو حكم فيه ببقاء صوم المجامع ناسيا لأنهما غير مختلفين فيما يتعلق بهما من الأحكام في حال الصوم وكذلك قالوا فيمن سبقه الحدث في الصلاة من بول أو غائط أنه بمنزلة الرعاف والقئ اللذين جاء فيهما الأثر في جواز البناء عليها لأن ذلك غير مختلف فيما يتعلق بهما من أحكام الطهارة والصلاة فلما ورد الأثر في بعض ذلك كان ذلك حكما في جميعه وليس ذلك بقياس كذلك حكم قاتل الصيد خطأ وأما المجاهد فإنه تارك لظاهر الآية لأن الله تعالى قال ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم فمن كان ذاكرا لإحرامه عامدا لقتل الصيد فقد شمله الاسم فواجب عليه الجزاء ولا معنى لاعتبار كونه ناسيا لإحرامه عامدا لقتله فإن قال قائل نص الله تعالى على كفارة قاتل الخطأ فلم تردوا عليه قاتل العمد كذلك لما نص الله تعالى على قاتل العمد بإيجاب الجزاء لم يجز إيجابها على قاتل الخطأ قيل له الجواب عن هذا من وجوه أحدها أن الله تعالى لما نص الله على حكم كل واحد من القتلين وجب استعمالهما ولم يجز قياس أحدهما على الآخر لأنه غير جائز عندنا قياس المنصوصات بعضها على بعض ومن جهة أخرى أن قتل العمد لم يخل من إيجاب القود الذي هو أعظم من الكفارة والدية ومتى أخلينا قاتل الصيد خطأ من إيجاب الجزاء لم يجب عليه شئ آخر فيكون لغوا عاريا من حكم وذلك غير جائز وأيضا فإن أحكام القتل في الأصول مختلفة في العمد والخطأ والمباح والمحظور ولم يختلف ذلك في الصيد فلذلك استوى حكم العمد والخطأ فيه واختلف في قتل الآدمي قوله تعالى فجزاء مثل ما قتل اختلف في المراد بالمثل فروي عن ابن عباس أن المثل نظيره في الأروى بقرة وفي الظبية شاة وفي النعامة بعير وهو قول سعيد بن جبير وقتادة في آخرين من التابعين وهو قول مالك ومحمد بن الحسن والشافعي وذلك فيما له نظير من النعم فأما مالا نظير له منه كالعصفور ونحوه ففيه القيمة وروى الحجاج عن عطاء ومجاهد وإبراهيم في المثل أنه القيمة دراهم وروي عن مجاهد رواية أخرى أنه الهدي وقال أبو حنيفة وأبو يوسف المثل هو القيمة ويشتري بالقيمة هديا إن شاء وإن شاء اشترى طعاما وأعطى كل مسكين نصف صاع وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوما قال أبو بكر المثل اسم يقع على القيمة وعلى النظير من جنسه وعلى نظيره من النعم ووجدنا المثل الذي يجب في الأصول على أحد وجهين إما من جنسه كمن
[ 590 ]
استهلك لرجل حنطة فيلزمه أن مثلها وإما من قيمة كمن استهلك ثوبا أو عبدا والمثل من غير جنسه ولا قيمة خارج عن الأصول واتفقوا أن المثل من جنسه غير واجب فوجب أن يكون المثل المراد بالآية هو القيمة وأيضا لما كان ذلك متشابها محتملا للمعاني وجب حمله على ما اتفقوا على معناه من المثل المذكور في القرآن وهو قوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم فلما كان المثل في هذا الموضع فيما لا مثل له من جنسه هو القيمة وجب أن يكون المثل المذكور للصيد محمولا عليه من وجهين أحدهما أن المثل في آية الاعتداء محكم متفق على معناه منه والوجه الثاني أنه قد ثبت أن المثل اسم للقمية ما في الشرع ولم يثبت أنه اسم للنظير من النعم فوجب حمله على ما قد ثبت اسما له ولم يجز حمله على ما لم يثبت أنه اسم له وأيضا قد اتفقوا أن القيمة مرادة بهذا المثل فيما لا نظير له من النعم فوجب أن تكون هي المرادة من وجهين أحدهما أنه قد ثبت أن القيمة مرادة فهو بمنزلة لو نص عليها فلا ينتظم النظير من النعم والثاني أنه لما ثبت أن القيمة مرادة انتفى النظير من النعم لاستحالة إرادتهما جميعا في لفظ واحد لأنهم متفقون على أن المراد أحدهما من قيمة أو نظير من النعم ومتى ثبت أن القيمة مرادة انتفى غيرها ومن جهة أخرى أن قوله تعالى لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم لما كان عاما فيما له نظير وفيما لا نظير له ثم عطف عليه قوله ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل وجب أن يكون ذلك المثل عاما في جميع المذكور والقيمة بذلك أولى لأنه إذا حمل على القيمة كان المثل عاما في جميع المذكور وإذا حمل على النظير كان خاصا في بعضه دون بعض وحكم اللفظ استعماله على عمومه ما أمكن ذلك فلذلك وجب أن يكون اعتبار القيمة أولى ومن اعتبر النظير جعل اللفظ خاصا في بعض المذكور دون البعض فإن قيل إذا كان اسم المثل يقع على القيمة تارة وعلى النظير أخرى فمن استعملهما فيما له نظير على النظير وفيما لا نظير له من النعم على القيمة فلم يخل من استعمال لفظ المثل على عمومه إما في القيمة أو المثل قيل له ليس كذلك بل هو مستعمل في القيمة على الخصوص وفي النظير على الخصوص أيضا واستعماله على العموم في جميع ما انتظمه الاسم باعتبار القيمة أولى من استعماله على الخصوص في كل واحد من المعنيين فإن قال قائل المثل اسم للنظير وليس باسم للقيمة وإنما أوجبت القيمة فيما لا نظير له من الصيد بالإجماع لا بالآية قيل له هذا غلط من وجوه أحدها أن الله تعالى قد سمى القيمة مثلا في قوله تعالى فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى
[ 591 ]
عليكم واتفق فقهاء الأمصار فيمن استهلك عبدا أن عليه قيمته وحكم النبي صلى الله عليه وسلم على معتق عبد بينه وبين غيره بنصف قيمته إذا كان موسرا فبان بذلك غلط هذا القائل في نفيه اسم المثل عن القيمة ووجه آخر وهو أن قولك إن الآية لم تقتض إيجاب الجزاء فيما لا نظير له تخصيص لها بغير دليل مع دخول ذلك في عموم قوله (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم وقوله ومن قتله منكم متعمدا والهاء في قتله كناية عن جميع المذكور من الصيد فإذا خرجت منه بعضه فقد خصصته بغير دليل وذلك غير سائغ ويدل على أن المثل القيمة دون النظير أن جماعة من الصحابة قد روي عنهم في الحمامة شاة ولا تشابه بين الحمامة والشاة في المنظر فعلمنا أنهم أوجبوها على وجه القيمة فإن قيل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل في الضبع كبشا قيل له لأن تلك كانت قيمته ولا دلالة فيه على أنه أوجبه من حيث كان نظيرا له فإن قال قائل إنما كان يسوغ هذا التأويل وحمل الآية على القيمة ولم يكن في الآية بيان المراد بالمثل وقد فسر في نسق الآية معنى المثل في قوله فجزاء مثل ما قتل من النعم فأخبر أن المثل من النعم ولا مساغ للتأويل مع النص قيل له إنما كان يكون على ما ادعيت لو اقتصر على ذلك ولم يصله بما أسقط دعواك وهو قوله من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما فلما وصله بما ذكر وأدخل عليه حرف التخيير ثبت بذلك أن ذكر النعم ليس على وجه التفسير للمثل ألا ترى أنه قد ذكر الطعام والصيام جميعا وليسا مثلا وأدخل أو بينهما وبين النعم ولا فرق إذ كان ذلك ترتيب الآية بين أن يقول فجزاء مثل ما قتل طعاما أو صياما أو من النعم هديا لأن تقديم ذكر النعم في التلاوة لا يوجب تقديمه في المعنى بل الجميع كأنه مذكور معا ألا ترى أن قوله تعالى فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة لم يقتض كون الطعام مقدما على الكسوة ولا الكسوة مقدمة على العتق في المعنى بل الكل كأنه مذكور بلفظ واحد معا فكذلك قوله فجزاء مثل ما قتل من النعم موصولا بقوله يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين لم يكن ذكر النعم تفسيرا للمثل وأيضا فإن قوله تعالى فجزاء مثل ما قتل كلام مكتف بنفسه غير مفتقر إلى تضمينه بغيره وقوله من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين يمكن استعماله على غير وجه التفسير للمثل فلم يجز أن يجعل المثل مضمنا بالنعم مع استغناء الكلام عنه لأن كل كلام فله حكم غير جائز تضمينه بغيره إلا بدلالة تقوم عليه سواه وأيضا قوله من
[ 592 ]
النعم معلوم أن فيه ضمير إرادة المحرم فمعناه من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا إن أراد الهدي والطعام إن أراد الطعام فليس هو إذا تفسيرا للمثل كما أن الطعام والصيام ليسا تفسيرا للمثل المذكور فإن قيل روي عن جماعة من الصحابة أنهم حكموا في النعامة ببدنة ومعلوم أن القيم تختلف وقد أطلقوا القول في ذلك من غير اعتبار الصيد في زيادة القيمة ونقصانها قيل له فما تقول أنت هل توجب في كل نعامة بدنة من غير اعتبار الصيد في ارتفاع قيمته وانخفاضها فتوجب في أدنى النعامة بدنة رفيعة وتوجب في أرفع النعام بدنة وضيعة فإن قيل لا وإنما أوجب بدنة على قدر النعامة فإن كانت رفيعة فبدنة رفيعة وإن كانت وضيعة فبدنة على قدرها قيل له فقد خالفت الصحابة لأنهم لم يسئلوا عن حال الصيد ولم يفرقوا بين الرفيعة منها والدنية فاعتبرت خلاف ما اعتبروا فإن قيل هذا محمول على أنهم حكموا بالبدنة على حسب حال النعامة وإن لم يذكروا ذلك ولم ينقله الراوي قيل له فكذلك يقول لك القائلون بالقيمة إنهم حكموا بالبدنة لأن ذلك كان قيمتها في ذلك الوقت وإن لم ينقل إلينا أنهم حكموا بالبدنة على أن قيمتها كانت قيمة النعامة ويقال لهم هل يدل حكمهم في النعامة ببدنة على أنه لا يجوز غيرها من الطعام والصيام فإن قالوا لا قيل لهم فكذلك حكمهم فيها بالبدنة غير دال على نفي جواز القيمة فصل وقرئ قوله تعالى فجزاء مثل برفع المثل وقرئ بخفضه وإضافة الجزاء إليه والجزاء قد يكون اسما للواجب بالفعل ويكون مصدرا فيكون فعلا للمجازي فمن قرأه بالتنوين جعل المثل صفة للجزاء المستحق بالفعل وهو القيمة أو النظير من النعم على اختلافهم فيه ومن أضافه جعله مصدرا وأضافه إلى المثل فكان ما يخرجه من الواجب مضافا إلى المثل المذكور ويحتمل أن يكون الجزاء الذي هو الواجب مضافا إلى المثل والمثل يكون مثلا للصيد فيفيد أن الصيد ميتة محرم لا قيمة له وأن الواجب اعتبار مثل الصيد حيا في إيجاب القيمة فالإضافة صحيحة المعنى في الحالين سواء كان الجزاء اسما أو مصدرا والنعم من الإبل والبقر والغنم وقوله تعالى يحكم به ذوا عدل منكم يحتمل القولين جميعا من القيمة أو النظير من النعم لأن القيم تختلف على حسب اختلاف أحوال الصيد فيحتاج في كل حين وفي كل صيد إلى استيناف حكم الحكمين في تقويمه ومن قال بالنظر فرجع إلى قول الحكمين لا ختلاف
[ 593 ]
الصيد في نفسه من ارتفاع أو انخفاض حتى يوجبا في الرفيع منه من النظير وفي الوسط الوسط وفي الدني الدني وذلك يحتاج فيه إلى اجتهاد الحكمين وروي عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس وابن عمر قالا في محرم قتل قطاة فيه ثلثا مد وثلثا مد خير من قطاة في بطن مسكين وروى معمر عن صدقة بن يسار قال سألت القاسم وسالما عن حجلة ذبحها وهو محرم ناسيا فقال أحدهما لصاحبه أحجلة في بطن رجل خير أو ثلثا مد فقال بل ثلثا مد فقال هي خير أو نصف مد قال بل نصف مد قال هي خير أو ثلث مد قال قلت أتجزي عني شاة قالا أو تفعل ذلك قلت نعم قالا فاذهب وروي أن عمر وضع رداءه على عود في دار الندوة فأطار حماما فقتله حار فقال لعثمان ونافع بن عبد الحارث احكما علي فحكما بعناق بنية عفراء فأمر بها عمر وروى عبد الملك بن عمير عن قبيصة بن جابر أن محرما قتل ظبيا فسأل عمر رجلا إلى جنبه ثم أمره بذبح شاة وأن يتصدق بلحمها قال قبيصة فلما قمنا من عنده قلت له أيها المستفتي ابن الخطاب إن فتيا ابن الخطاب لم تغن عنك من الله شيئا شيئا فانحر ناقتك وعظم شعائر الله فوالله ما علم ابن الخطاب ما يقول حتى سأل الرجل الذي إلى جنبه فقمت إلى عمر وإذا عمر قد أقبل ومعه الدرة على صاحبي صفعا وهو يقول قاتلك الله أتقتل الحرام وتعدى الفتيا وتقول ما علم عمر حتى سأل من إلى جنبه أما تقرأ يحكم به ذوا عدل منكم فهذا يدل على أن حكم الحكمين في ذلك من طريق الاجتهاد ألا ترى أن عمر وابن عباس وابن عمر والقاسم وسالما كل واحد منهم سأل صاحبه عن اجتهاده في المقدار الواجب فلما اتفق رأيهما على شئ حكما به وهذا يدل على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث لإباحة الله تعالى الاجتهاد في تقويم الصيد وما يجب فيه ويدل أيضا على أن تقويم المستهلكات موكول إلى الاجتهاد عدلين يحكمان به على المستهلك كما أوجب الرجوع إلى قول الحكمين في تقديم الصيد والحكمان عند أبي حنيفة يحكمان عليه بالقيمة ثم يختار المحرم ما شاء من هدي أو طعام أو صيام وقال محمد الحكمان يحكمان بما يريان من هدي أو طعام أو صيام فإن حكما بالهدي كان عليه أن يهدي وأما قوله تعالى هديا بالغ الكعبة فإن الهدي من الإبل والبقر والغنم وقال الله تعالى فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا خلاف أن له أن يهدي من أحد هذه الأصناف أيها شاء منها هذا في الإحصار فأما في جزاء الصيد فإن من يجعل الواجب عليه قيمة الصيد فإنه يخيره بعد ذلك فإن اختار الهدي وبلغت قيمته بدنة نحرها وإن لم تبلغ بدنة وبلغ بقرة ذبحها فإن لم تبلغ وبلغ شاة ذبحها وإن اشترى
[ 594 ]
بالقيمة جماعة شاة أجزأه ومن يوجب النظير من النعم فإنه أحكم عليه بالهدي أهدي بما حكم به من بدنة أو بقرة أو شاة وقد اختلف في السن الذي يجوز في جزاء الصيد فقال أبو حنيفة لا يجوز أن يهدي إلا ما يجزي في الأضحية وفي الإحصار والقران وقال أبو يوسف ومحمد يجزي الجفرة والعناق على قدر الصيد والدليل على صحة الأول أن ذلك هدي تعلق وجوبه بالإحرام وقد اتفقوا في سائر الهدايا التي تعلق وجوبها بالإحرام أنها لا يجزي منها إلا ما يجزي في الأضاحي وهو الجذع من الضأن أو الثني من المعز والإبل والبقر فصاعدا فكذلك هدي جزاء الصيد وأيضا لما سماه الله تعالى هديا على الإطلاق كان بمنزلة سائر الهدايا المطلقة في القرآن فلا يجزي دون السن الذي ذكرنا وذهب أبو يوسف ومحمد إلى ما روي عن جماعة من الصحابة أن في اليربوع جفرة وفي الأرنب عناق وعلى أنه لو أهدى شاء فولدت ذبح ولدها فأما ما روي عن الصحابة فجائز أن يكون على وجه القيمة وأما ولد الهدي فإنه تبع لها فيسري الحق الذي في الأم من جهة التبع وليس يجوز اعتبار ما كان أصلا في نفسه بالاتباع ألا ترى أنه يصح أن يكون ابن أم الولد بمنزلة أمه في كونه غير مال وعتقه بموت المولى من غير سعاية ولا يصح ابتداء إيجاب هذا الحكم له على غير وجه التبع والدخول في حكم الأم وكذلك ولد المكاتبة هو مكاتب وهو علوق ولو ابتدأ كتابة العلوق لم يصح ونظائر ذلك كثيرة وقوله تعالى بالغ الكعبة صفة للهدي وبلوغه الكعبة ذبحه في الحرم لا خلاف في ذلك وهذا يدل على أن الحرم كله بمنزلة الكعبة في الحرمة وأنه لا يجوز بيع رباعها لأنه عبر بالكعبة عن الحرم وهو كما روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحرم كله مسجد وكذلك قوله تعالى فلا يقربوا المسجد الحرام مراد به الحرم المراد به الحرم كله ومعالم الحج لأنهم منعوا بهذه الآية من الحج وقد اختلف في مواضع تقويم الصيد فقال إبراهيم يقوم في المكان الذي أصابه فإن كان في فلاة ففي أقرب الأماكن من العمران إليها وهو قول أصحابنا وقال الشعبي يقوم بمكة أو بمنى الأول هو الصحيح لأنه كتقويم المستهلكات فيعتبر الموضع الذي وقع فيه الإستهلاك ولا في الموضع الذي يؤدي فيه القيمة ولأن تخصيص مكة ومنى من بين سائر البقاع تخصيص الآية بغير دليل فلا يجوز فإن قال قائل روي عن عمر وعبد الرحمن بن عوف أنهما حكما في الظبي بشاة ولم يسئلا لا السائل عن الموضع الذي قتله فيه قيل له يجوز أن يكون السائل سأل عن قتله في موضع علم أن قيمته فيه شاة
[ 595 ]
وأما قوله تعالى أو كفارة طعام مساكين فإنه قرئ كفارة بالإضافة وقرئ بالتنوين بلا إضافة وقد اختلف في تقدير الطعام فقال ابن عباس رواية إبراهيم وعطاء ومجاهد ومقسم يقوم الصيد دراهم ثم يشترى بالدراهم طعام فيطعم كل مسكين نصف صاع وروي عن ابن عباس رواية يقوم الهدي ثم يشتري بقيمة الهدي طعاما وروي مثله عن مجاهد أيضا والأول قول أصحابنا والثاني قول الشافعي والأول أصح وذلك لأن جميع ذلك جزاء الصيد فلما كان الهدي من حيث كان جزاء معتبرا بالصيد إما في قيمته أو في نظيره وجب أن يكون الطعام مثله لأنه قال فجزاء مثل ما قتل إلى قوله أو كفارة طعام مساكين فجعل الطعام جزاء وكفارة كالقيمة فاعتباره بقيمة الصيد أولى من اعتباره بالهدي إذ هو بدل من الصيد وجزاء عنه لا من الهدي وأيضا قد اتفقوا فيما لا نظير له من النعم أن اعتبار الطعام إنما هو بقيمة الصيد فكذلك فيما له نظير لأن الآية منتظمة للأمرين فلما اتفقوا في أحدهما أن المراد اعتبار الطعام بقيمة الصيد كان الآخر مثله وقال أصحابنا إذا أراد الإطعام اشترى بقيمة الصيد طعاما فأطعم كل مسكين نصف صاع من بر ولا يجزيه أقل من ذلك ككفارة اليمين وفدية الأذى وقد بيناه فيما سلف وقوله تعالى أو عدل ذلك صياما فإنه روي عن ابن عباس وإبراهيم وعطاء ومجاهد ومقسم وقتادة أنهم قالوا لكل نصف صاع يوما وهو قول أصحابنا وروي عن عطاء أيضا أنه قال لكل مد يوما وما ذكره الله تعالى في هذه الآية من الهدي والإطعام والصيام فهو على التخيير لأن أو يقتضي ذلك كقوله تعالى في كفارة اليمين فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة وكقوله تعالى ففدية من صيام أو صدقة أو نسك [ البقرة: 196 ]. وروي نحو ذلك عن ابن عباس وعطاء والحسن وإبراهيم رواية وهو قول أصحابنا وروي عن ابن عباس رواية أخرى أنها على الترتيب وروي عن مجاهد والشعبي والسدي مثله وعن إبراهيم رواية أخرى أنها على الترتيب والصحيح هو الأول لأنه حقيقة اللفظ ومن حمله على الترتيب زاد فيه ما ليس منه ولا يجوز إلا بدلالة قوله تعالى ومن عاد فينتقم الله منه روي عن ابن عباس والحسن وشريح إن عاد عمدا لم يحكم عليه والله تعالى ينتقم منه وقال إبراهيم كانوا يسئلون هل أصبت شيئا قبله فإن قال نعم لم يحكمون عليه وإن قال لا حكم عليه وقال سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد يحكم عليه أبدا وسأل عمر قبيصة بن جابر عن صيد أصابه وهو محرم فسأل عمر عبد الرحمن بن عوف ثم حكم عليه ولم يسئله هل أصبت قبله
[ 596 ]
شيئا وهو قول فقهاء الأمصار وهو الصحيح لأن قوله تعالى ومن قتله منكم متعمدا فجزاء يوجب الجزاء في كل مرة كقوله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحريم رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله وذكره الوعيد للعائد لا ينافي وجوب الجزاء ألا ترى أن الله تعالى قد جعل حد المحارب جزاء له بقوله إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ثم عقبه بذكر الوعيد بقوله ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم فليس إذا في ذكر الانتقام من العائد نفي لإيجاب الجزاء وعلى أن قوله تعالى ومن عاد فينتقم الله منه لا دلالة فيه على أن المراد العائد إلى قتل الصيد بعد قتله لصيد آخر قبله لأن قوله عفا الله عما سلف يحتمل أن يريد به عفا الله عما سلف قبل التحريم ومن عاد يعني بعد التحريم وإن كان أول صيد بعد نزول الآية وإذا كان فيه احتمال ذلك لم يدل على أن العائد في قتل الصيد بعد قتله مرة أخرى ليس عليه إلا الإنتقام فصل قوله تعالى ليذوق وبال أمره يحتج به لأبي حنيفة في المحرم إذا أكل من الصيد الذي لزمه جزاؤه أن عليه قيمة ما أكل يتصدق به لأن الله تعالى أخبر أنه أوجب عليه الغرم ليذوق وبال أمره بإخراج هذا القدر من ماله فإذا أكل منه فقد رجع من الغرم في مقدار ما أكل منه فهو غير ذائق بذلك وبال أمره لأن من غرم شيئا وأخذ مثله لا يكون ذائقا وبال أمره فدل ذلك على صحة قوله وقال أصحابنا إن شاء المحرم صام عن كل نصف صاع من الطعام يوما وإن شاء صام عن بعض وأطعم بعضا فأجازوا الجمع بين الصيام والطعام وفرقوا بينه وبين الصيام في كفارة اليمين مع الإطعام فلم يجيزوا الجمع بينهما وفرقوا أيضا بينه وبين العتق والطعام في كفارة اليمين بأن يعتق نصف عبد ويطعم خمسة مساكين فأما الصوم في جزاء الصيد فإنما أجازوا الجمع بينه وبين الطعام من قبل إن الله تعالى جعل الصيام عدلا للطعام ومثلا له بقوله أو عدل ذلك صياما ومعلوم أنه لم يرد بقوله عدل ذلك أن يكون مثلا له في حقيقة معناه إذ لا تشابه بين الصيام وبين الطعام فعلمنا أن المراد المماثلة بينهما في قيامه مقام الطعام ونيابته عنه لمن صام بعضا فكأنه قد أطعم بقدر ذلك فجاز ضمه إلى الطعام فكان الجميع طعاما وأما الصيام في كفارة اليمين فإنما يجوز عند عدم الطعام وهو بدل منه فغير جائز الجمع بينهما إذ لا يخلو من أن يكون واجدا أو غير واجد فإن كان واجدا للطعام لم يجزه الصيام وإن كان غير واجد فالصوم فرضه بدلا منه وغير جائز الجمع بين البدل والمبدل منه كالمسح على أحد الخفين وغسل الرجل الأخرى
[ 597 ]
وكالتيمم والوضوء وما جرى مجرى ذلك ولا نعلم خلافا في امتناع جواز الجمع بين الصيام والطعام في كفارة اليمين وأما العتق والطعام فإنما لم يجز الجمع لأن الله تعالى جعل كفارة اليمين أحد الأشياء الثلاثة فإذا أعتق النصف وأطعم النصف فهو غير فاعل لأحدهما فلم يجزه والعتق لا يتقوم فيجزي عن الجميع بالقيمة وليس هو مثل أن يكسو خمسة ويطعم خمسة فيجزي بالقيمة لأن كل واحد من هذين متقوم فيجزي عن أحدهما بالقيمة فصل قوله تعالى ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل ينتظم الواحد والجماعة إذا قتلوا في إيجاب جزاء تام على كل واحد لأن من يتناول كل واحد على حياله في إيجاب جميع الجزاء عليه والدليل عليه قوله تعالى ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة قد اقتضى إيجاب الرقبة على كل واحد من القاتلين إذا قتلوا نفسا واحدة وقال تعالى ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا وعيدا لكل واحد على حياله وقوله عز وجل ومن يقتل مؤمنا متعمدا وعيد لكل واحد من القاتلين وهذا معلوم عند أهل اللغة لا يتدافعونه وإنما يجهله من لا حظ له فيها فإن قال قائل فلو قتل جماعة رجلا كانت على جميعهم دية واحدة والدية إنما دخلت في اللفظ حسب دخول الرقبة قيل له الذي يقتضيه حقيقة اللفظ وعمومه إيجاب ديات بعدد القاتلين وإنما اقتصر فيه على دية واحدة بالإجماع وإلا فالظاهر يقتضيه ألا ترى أنهما لو قتلاه عمدا كان كل واحد منهما كأنه قاتل له على حياله ويقتلان جميعا به ألا ترى أن كل واحد من القاتلين لا يرث وانه لو كان بمنزلة من قتل بعضه لوجب أن لا يحرم الميراث مما قتله منه غيره فلما اتفق الجميع على أنهما جميعا لا يرثان وأن كل واحد منهما كأنه قاتل له وحده كذلك في إيجاب الكفارة إذ كانت النفس لا تتبعض وكذلك قاتلوا الصيد كل واحد كأنه متلف للصيد على حياله فتجب على كل واحد كفارة تامة ويدل عليه أن الله تعالى سمى ذلك كفارة بقوله أو كفارة أن طعام مساكين وجعل فيها صوما فأشبهت كفارة القتل فإن قال قائل لما قال الله تعالى فجزاء مثل ما قتل دل على أن الجزاء إنما هو جزاء واحد ولم يفرق بين أن يكونوا جماعة أو واحدا وأنت تقول يجب عليهم جزآن
[ 598 ]
وثلاثة وأكثر من ذلك قيل له هذا الجزاء ينصرف إلى كل واحد منهم ونحن لا نقول إنه يجب على كل واحد منهم جزاآن وثلاثة وإنما يجب عليه جزاء واحد والذي يدل على أنه منصرف إلى كل واحد قوله تعالى فجزاء مثل ما قتل ولم يقل قتلوا فدل على أنه أراد واحد وقد بينا ذلك في كتاب شرح المناسك والخصم يحتج علينا بهذه الآية في القارن فإنه لا يجب عليه إلا جزاء واحد بظاهر الكتاب والجواب عن هذا أنه محرم عندنا بإحرامين على ما سنذكره في موضعه وإذا صح لنا ذلك ثم أدخل النقص عليهما وجب أن يخبرهما بدمين قال أبو بكر ولا خلاف بين الفقهاء أن الهدي لا يجزي إلا بمكة وأن بلوغه الكعبة أن يذبحه ناك في الحرم وأنه لو هلك بعد دخوله الحرم قبل أن يذبحه أن عليه هديا آخر غيره وقال أصحابنا إذا ذبحه في الحرم بعد بلوغ الكعبة فإن سرق بعد ذلك لم يكن عليه شئ لأن الصدقة تعينت فيه بالذبح فصار كمن قال لله علي أن أتصدق بهذا اللحم فسرق فلا يلزمه شئ واتفق الفقهاء أيضا على جواز ا لصوم في غير مكة واختلفوا في الطعام فقال أصحابنا يجوز أن يتصدق به حيث شاء وقال الشافعي لا يجزي إلا أن يعطي مساكين مكة والدليل على جوازه حيث شاء قوله تعالى أو كفارة طعام مساكين وذلك عموم في سائرهم وغير جائز تخصيصه بمكان إلا بدلالة ومن قصره على مساكين مكة فقد خص الآية بغير دليل وأيضا ليس في الأصول صدقة مخصوصة بمكان لا يجوز أداؤها في غيره فلما كان ذلك صدقة وجب جوازها في سائر المواضع قياسا على نظائرها من الصدقات ولأن تخصيصه بمكان خارج عن الأصول وما خرج عن الأصول وظاهر الكتاب من الأقاويل فهو ساقط مرذول فإن قال قائل فالهدي سبيله الصدقة وهو مخصوص بالحرم. قيل له: ذبحة مخصوص بالحرم فأما الصدقة فحيث شاء وكذلك قال اصحابنا أنه لو ذبحه في الحرم ثم أخرجه فتصدق به في غيره أجزأه وأيضا لما اتفقوا على جواز الصيام في غير مكة وهو جزاء للصيد وليس بذبح وجب مثله في الطعام لهذه العلة باب صيد البحر قال الله تعالى أحل لكم صيد البحر وطعامه وروي عن ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وقتادة والسدي ومجاهد قالوا صيده ما صيد طريا بالشباك ونحوها فأما قوله وطعامه فقد روي عن أبي بكر وعمر وابن عباس
[ 599 ]
وقتادة قالوا ما قذفه ميتا وروي عن ابن عباس أيضا وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وقتادة ومجاهد قالوا المملوح منه والقول الأول أظهر لأنه ينتظم إباحة الصنفين مما صيد منه وما لم يصد وأما المملوح فقد تناوله قوله صيد البحر) ويكون قوله وطعامه على هذا التأويل تكرارا لما انتظمه اللفظ الأول فإن قال قائل هذا يدل على إباحة الطافي لأنه قد انتظم ما صيد منه وما لم يصد والطافي لم يصد قيل له إنما تأول السلف قوله وطعامه على ما قذفه البحر وعندنا أن ما قذفه البحر ميتا فليس بطاف وإنما الطافي ما يموت في البحر حتف أنفه فإن قيل قالوا ما قذفه البحر متيا وهذا يوجب أن يكون قد مات فيه ثم قذفه وهذا يدل على أنهم قد أرادوا به الطافي قيل له وليس كل ما قذفه البحر ميتا يكون طافيا إذ جائز أن يموت في البحر بسبب طرأ عليه فقتله من برد أو حر أو غيره فلا يكون طافيا وقد بينا الكلام في الطافي فيما تقدم من هذا الكتاب وقد روي عن الحسن في قوله وطعامه قال ما وراء بحركم هذا كله البحر وطعامه البر والشعير والحبوب رواه أشعث بن عبد الملك عن الحسن فلم يجعل البحر في هذا الموضع بحور المياه وجعله على ما اتسع من الأرض لأن العرب تسمي ما اتسع بحرا ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم للفرس الذي ركبه لأبي طلحة وجدناه بحرا أي واسع الخطو وقد روى حبيب بن الزبير عن عكرمة في قوله تعالى ظهر الفساد في البر والبحر أنه أرد بالبحر الأمصار لأن العرب تسمى الأمصار البحر وروى سفيان عن بعضهم عن عكرمة ظهر الفساد في البر والبحر قال البر الفيافي التي ليس فيها شئ والبحر القرى والتأويل الذي روي عن الحسن غير صحيح لأنه قد علم بقوله تعالى (أحل لكم صيد البحر أن المراد به بحر الماء وأنه لم يرد به البر ولا الأمصار لأنه عطف عليه قوله تعالى وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) وقوله تعالى متاعا لكم وللسيارة روي عن ابن عباس وقتادة قالوا منفعة للمقيم والمسافر فإن قال قائل هل اقتضى تعالى أحل لكم صيد البحر) إباحة صيد الأنهار قيل نعم لأن العرب تسمي النهر بحرا ومنه قوله تعالى ظهر الفساد في البر والبحر وقد قيل إن الأغلب على البحر هو الذي يكون ماؤه ملحا إلا أنه إذا جرى ذكره على طريق الجملة الأنهار أيضا وأيضا فالمقصد فيه صيد الماء فسائر الماء يجوز للمحرم اصطياده ولا نعلم خلافا في ذلك بين الفقهاء وقوله تعالى أحل لكم صيد البحر يحتج به من يبيح أكل جميع حيوان البحر وقد اختلف أهل العلم فيه والله أعلم
[ 600 ]
ذكر الخلاف في ذلك قال أصحابنا لا يؤكل من حيوان الماء إلا السمك وهو قول الثوري رواه عنه أبو إسحاق الفزاري وقال ابن ابي ليلى لا بأس بأكل كل شئ يكون في البحر من الضفدع وحية الماء وغير ذلك وهو قول مالك بن أنس وروي مثله عن الثوري قال الثوري ويذبح وقال الأوزاعي صيد البحر كله حلال ورواه عن مجاهد وقال الليث بن سعد ليس بميتة البحر بأس وكلب الماء والذي يقال له فرس الماء ولا يؤكل إنسان الماء ولا خنزير الماء وقال الشافعي ما يعيش في الماء حل أكله وأخذه ذكاته ولا بأس بخنزير الماء واحتج من أباح حيوان الماء كله بقوله تعالى وأحل لكم صيد البحر وهو على جميعه إذ لم يخصص شيئا منه ولا دلالة فيه على ما ذكروا لأن قوله تعالى أحل) لكم صيد البحر إنما هو على إباحة اصطياد ما فيه للمحرم ولا دلالة فيه على أكله والدليل عليه أنه عطف عليه قوله وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما فخرج الكلام مخرج بيان اختلاف حكم صيد البر والبحر على المحرم وأيضا فإن الصيد اسم مصدر وهو اسم للاصطياد وإن كان قد يقع على المصيد ألا ترى أنك تقول صدت صيدا وإذا كان ذلك مصدرا كان اسما للاصطياد الذي هو فعل على الصائد ولا دلالة فيه إذا أريد به ذلك على إباحة الأكل وإن كان قد يعبر به عن المصيد إلا أن ذلك مجاز لأنه تسمية للمفعول باسم الفعل وتسمية الشئ باسم غيره إنما هو استعارة ويدل على بطلان قول من أباح جميع حيوان الماء قول النبي صلى الله عليه وسلم أحلت لنا ميتتان ودمان السمك والجراد فخص من الميتات هذين وفي ذلك دليل على أن المخصوص من جملة الميتات المحرمة بقوله حرمت عليكم الميتة هو هذان دون غيرهما لأن ما عداهما قد شمله عموم التحريم بقوله حرمت عليكم الميتة وقوله تعالى إلا أن تكون ميتة وذلك عموم في ميتة البر والبحر ومن أصحابنا من يجعل حصره المباح بالعدد المذكور دلالة على حظره ما عداه وأيضا لما خصهما بالذكر وفرق بينهما وبين غيرهما من الميتات دل تفرقه على اختلاف حالهما ويدل عليه أيضا وقوله تعالى ولحم الخنزير) [ المائدة 3، البقرة: 173، النحل: 115 ] وذلك عموم في خنزير الماء كهو في خنزير البر فإن قيل إن خنزير الماء إنما يسمى حمار الماء قيل له إن سماه إنسان حمارا لم يسلبه ذلك اسم الخنزير المعهود له في اللغة فينتظمه عموم التحريم ويدل عليه حديث ابن ابي ذئب عن سعيد بن خالد عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن عثمان قال ذكر طبيب الدواء عند النبي صلى الله عليه وسلم وذكر
[ 601 ]
الضفدع يكون في الدواء فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله والضفدع من حيوان الماء ولو كان أكله جائزا والانتفاع به سائغا لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله ولما ثبت تحريم الضفدع بالأثر كان سائر حيوان الماء سوى السمك بمثابته لأنا لا نعلم أحد فرق بينهما واحتج الذين أباحوه بما روى مالك بن أنس عن صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة الزرقي عن المغيرة بن أبي بردة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته وسعيد بن سلمة مجهول لا يقطع بروايته وقد خولف في هذا الإسناد فروى يحيى بن سعيد الأنصاري عن المغيرة بن عبد الله وهو ابن أبي بردة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه يحيى بن أيوب عن جعفر بن ربيعة وعمرو بن الحارث عن بكر بن سودة عن أبي معاوية العلوي عن مسلم بن مخشي المدلجي عن الفراسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته وحدثنا عبد الباقي قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ومحمد بن عبدوس قالا حدثنا أحمد بن حنبل قال حدثنا أبو اسم بن أبي الزناد قال حدثنا إسحاق يعني ابن حازم عن ابن مقسم يعني عبد الله بن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البحر فقال هو الطهور ماؤه الحل ميتته وهذه الأخبار لا يحتج بها من له معرفة بالحديث ولو ثبت كان محمولا على ما بينه في قوله أحلت لنا ميتتان ويدل على ذلك أنه لم يخصص بذلك حيوان الماء دون غيره وإنما ذكر ما يموت فيه وذلك يعم ظاهره حيوان الماء والبر جميعا إذا ماتا فيه وقد علم أنه لم يرد ذلك فثبت أنه اراد السمك خاصة دون ما سواه إذ قد علم أنه لم يرد به العموم ولا يصح اعتقاده فيه واحتج المبيحون له بحديث جابر في جيش الخبط وأن البحر ألقى لهم دابة يقال لها العنبر فأكلوا منها ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هل معكم منه شئ تطعمونيه وهذا لا دليل فيه على ما قالوا لأن جماعة قد رووا هذا الحديث وذكروا فيه أن البحر ألقى لهم حوتا يقال له العنبر فأخبروا أنها كانت حوتا وهو السمك وهذا لا خلاف فيه ولا دلالة على إباحة ما سواه باب أكل المحرم لحم صيد الحلال قال الله تعالى وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما فروي عن علي وابن عباس أنهما كرها للمحرم أكل صيد اصطاده حلال إلا أن إسناد حديث علي ليس بقوي يرويه علي بن زيد وبعضهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقفه بعضهم وروي عن عثمان وطلحة بن عبيدالله وأبي قتادة وجابر وغيرهم إباحته وروى عبد الله بن أبي قتادة
[ 602 ]
وعطاء بن يسار عن أبي قتادة قال أصبت حمار وحش فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني أصبت حمار وحش وعندي منه فضلة فقال للقوم كلوا وهم محرمون وروى أبو الزبير عن جابر قال عقر أبو قتادة حمار وحش ونحن محرمون وهو حلال فأكلنا منه ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى المطلب بن عبد الله بن حنطب عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحم صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصطاد لكم) وقد روي في إباحته أخبار أخر غير ذلك كرهت الإطالة بذكرها لاتفاق فقهاء الأمصار عليه واحتج من حظره بقوله وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما وعمومه يتناول الاصطياد والمصيد نفسه لوقوع الاسم عليهما ومن أباحه ذهب إلى قوله وحرم عليكم صيد البر إذ كان يتناول الاصطياد وتحريم المصيد نفسه فإن هذا الحيوان إنما سمي صيدا ما دام حيا وأما اللحم فغير مسمى بهذا الاسم بعد الذبح فإن سمي بذلك فإنما يسمى به على أنه كان صيدا فأما اسم الصيد فليس يجوز أن يقع على اللحم حقيقة ويدل على أن لفظ الآية لم ينتظم اللحم أنه غير محظور عليه التصرف في اللحم بالإتلاف والشرى والبيع وسائر وجوه التصرف سوى الأكل عند القائلين بتحريم أكله ولو كان عموم الآية قد اشتمل عليه لما جاز له التصرف فيه بغير الأكل كهو إذا كان حيا ولكان على متلفه إذا كان محرما ضمانه كما يلزم ضمان إتلاف الصيد الحي لأن قوله تعالى وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما يتناول تحريم سائر أفعالنا في الصيد في حال الإحرام فإن قال قائل بيض الصيد محرم على المحرم وإن لم يكن ممتنعا ولا مسمى صيدا فكذلك لحمه قيل له ليس كذلك لأن المحرم غير منهي عن إتلاف لحم الصيد ولو أتلفه لم يضمنه وهو منهي عن إتلاف البيض والفرخ ويلزمه ضمانه وأيضا فإن البيض والفرخ قد يصيران صيدا ممتنعا فحكم لهما بحكم الصيد ولحم الصيد لا يصير صيدا بحال فكان بمنزلة لحوم سائر الحيوانات إذ ليس بصيد في الحال ولا يجئ منه صيد وأيضا فإنا لم نحرم الفرخ والبيض بعموم الآية وإنما حرمناهما بالاتفاق وقد اختلف في حديث مصعب بن جثامة أنه أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالأبواء أو غيرها لحم حمار وحش وهو محرم فرأى في وجهه الكراهة فقال ليس بنا رد عليك ولكنا حرم وخالفه مالك فرواه عن الزهري عن عبيدالله بن عبد الله عن ابن عباس عن مصعب بن جثامة أنه أهدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالأبواء أو بودان حمار وحش فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم قال ابن
[ 603 ]
إدريس فقيل لمالك إن سفيان يقول رجل حمار وحش فقال ذاك غلام ذاك غلام ورواه ابن جريج عن الزهري بإسناد كرواية مالك وقال فيه إنه أهدى له حمار وحش وروى الأعمش عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن مصعب بن جثامة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمار وحش وهو محرم فرده وقال لولا أنا حرم لقبلناه منك فهذا يدل على وهاء حديث سفيان وأن الصحيح ما رواه مالك لاتفاق هؤلاء الرواة عليه وقد روي فيه وجه آخر وهو ما روى أبو معاوية عن ابن جريج عن جابر بن زيد أبي الشعثاء عن أبيه قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن محرم أتي بلحم صيد يأكل منه فقال أحسبوا له قال أبو معاوية يعني إن كان صيد قبل أن يحرم فيأكل وإلا فلا وهذا يحتمل أن يريد به إذا صيد من أجله أو أمر به أو أعان عليه أو دل عليه ونحو ذلك من الأسباب المحظورة قوله تعالى جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس الآية قيل إنه أراد أنه جعل ذلك قوما لمعايشهم وعمادا لهم من قولهم هو قوام الأمر وملاكه وهو ما يستقيم به أمره فهو قوام دينهم ودنياهم وروي عن سعيد بن جبير قوله قواما للناس صلاحا لهم وقيل قياما للناس أي تقوم به أبدانهم لأمنهم في التصرف لمعايشهم فهو قوام دينهم لما في المناسك من الزجر عن القبيح والدعاء إلى الحسن ولما في الحرم والأشهر الحرم من الأمن ولما في الحج والمواسم واجتماع الناس من الآفاق فيها من صلاح المعاش وفي الهدي والقلائد أن الرجل إذا كان معه الهدي مقلدا كانوا لا يعرضون له وقيل إن من أراد الإحرام منهم كان يتقلد من لحاء شجر الحرم فيأمن وقال الحسن القلائد من تقليد الإبل والبقر بالنعال والخفاف فهذا على صلاح التعبد به في الدين وهذا يدل على أن تقليد البدن قربة وكذلك سوق الهدي والكعبة اسم للبيت الحرام قال مجاهد وعكرمة إنما سميت كعبة لتربيعها وقال أهل اللغة إنما قيل كعبة البيت فأضيفت لأن كعبته تربع أعلاه وأصل ذلك من الكعوبة الله وهو النتو فقيل للتربيع كعبة لنتو قال زوايا المربع ومنه كعب ثدي الجارية إذا نتأ ومنه كعب الإنسان لنتوه عن وهذا يدل على أن الكعبين اللذين ينتهي إليهما الغسل في الوضوء هما الناتئان عن جنبي أصل الساق وسمى الله تعالى البيت حراما لأنه أراد الحرم كله لتحريم صيده وخلاه وتحريم قتل من لجأ إليه وهو مثل قوله تعالى هديا بالغ الكعبة والمراد الحرم وأما قوله تعالى والشهر الحرام روي عن الحسن أنه قال هو الأشهر الحرم فأخرجه مخرج الواحد لأنه أراد الجنس وهو أربعة أشهر ثلاثة سرد وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد فرد وهو رجب فأخبر تعالى أنه جعل الشهر الحرام
[ 604 ]
قياما للناس لأنهم كانوا يأمنون فيها ويتصرفون فيها في معايشهم فكان فيه قوامهم وهذا الذي ذكره الله تعالى من قوام الناس بمناسك الحج والحرم والأشهر الحرم والهدي والقلائد ومعلوم مشاهد من ابتداء وقت الحج في زمن إبراهيم عليه السلام إلى زمان النبي صلى الله عليه وسلم وإلى آخر الدهر فلا ترى شيئا من أمر الدين والدنيا تعلق به من صلاح المعاش والمعاد بعد الإيمان ما تعلق بالحج ألا ترى إلى كثرة منافع الحج في المواسم التي يردون عليها من سائر البلدان التي يجتازون بمنى وبمكة إلى أن يرجعوا إلى أهاليهم وانتفاع الناس بهم وكثرة معايشهم وتجاراتهم معهم ثم ما فيه منافع الدين من التأهب للخروج إلى الحج وإحداث التوبة والتحري لأن تكون نفقته من أحل ماله ثم احتمال المشاق في السفر إليه وقطع المخاوف ومقاساة اللصوص والمحتالين من في مسيرهم إلى أن يبلغوا مكة ثم الإحرام والتجرد لله تعالى والتشبه بالخارجين في يوم النشور من قبورهم إلى عرصة القيامة ثم كثرة ذكر الله تعالى بالتلبية واللجأ إلى الله تعالى وإخلاص النية له عند ذلك البيت والتعلق بأستاره موقنا بأنه لا ملجأ له غيره كالغريق المتعلق بما يرجو به النجاة وأنه لا خلاص له بالتمسك به ثم إظهار التمسك بحبل الله الذي من تمسك به نجا وما حاد عنه هلك ثم حضور الموقف والقيام على الأقدام داعين راجين لله تعالى متخلفين عن كل شئ من أمور الدنيا تاركين لأموالهم وأولادهم وأهاليهم على نحو وقوفهم في عرصة القيامة وما في سائر مناسك الحج من الذكر والخشوع والانقياد لله تعالى ثم ما يشتمل عليه الحج من سائر القرب التي هي معروفة في غير الصلاة والصيام والصدقة والقربات والذكر بالقلب واللسان والطواف بالبيت وما لو استقصينا ذكره لطال به القول فهذه كلها من منافع الدين والدنيا قوله تعالى ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض إخبار عن علمه بما يؤدي إليه شريعة الحج من منافع الدين والدنيا فدبره هذا التدبير العجيب وانتظم به صلاح الخلق من أول الأمة وآخرها إلى يوم القيامة فلولا أن الله تعالى كان عالما بالغيب وبالأشياء كلها قبل كونها لما كان تدبيره لهذه الأمور مؤديا إلى ما ذكر من صلاح عباده في دينهم ودنياهم لأن من لا يعلم الشئ قبل كونه لا يتأتى منه فعل المحكم المتقن على نظام وترتيب يعم جميع الأمة نفعه في الدين والدنيا قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم روى قيس بن الربيع عن ابي حصين عن أبي هريرة قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبان قد احمر وجهه فجلس على المنبر فقال لا تسئلوني عن شئ إلا أجبتكم فقام إليه رجل فقال أين أنا فقال في النار فقام إليه آخر فقال من أبي فقال أبوك حذافة فقام عمر
[ 605 ]
فقال رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبمحمد نبيا يا رسول الله كنا حديثي عهد بجاهلية وشرك والله تعالى يعلم من آباؤها فسكن غضبه ونزلت هذه الآية يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وروى إبراهيم الهجري عن أبي عياض عن أبي هريرة أنها نزلت حين سئل الحج أفي كل عام وعن أمامة نحو ذلك وروى عكرمة أنها نزلت في الرجل الذي قال من أبي وقال سعيد بن جبير في الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة وقال مقسم فيما سألت الأمم أنبياءهم من الآيات قال أبو بكر ليس يمتنع تصحيح هذه الروايات كلها في سبب نزول الآية فيكون النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لا تسئلوني عن شئ إلا أجبتكم سأله عبد الله بن حذافة عن أبيه من هو لأنه قد كان يتكلم في نسبه وسأله كل واحد من الذين ذكر عنهم هذه المسائل على اختلافها فأنزل الله تعالى لا تسئلوا عن أشياء يعني عن مثلها لأنه لم يكن بهم حاجة إليها فأما عبد الله بن حذافة فقد كان نسبه من حذافة ثابتا بالفراش فلم يحتج إلى معرفة حقيقة كونه من ماء من هو منه ولأنه كان يأمن أن يكون من ماء غيره فيكشف عن أمر قد ستره الله تعالى ويهتك أمه ويشين نفسه بلا طائل ولا فائدة له فيه لأن نسبه حينئذ مع كونه من ماء غير ثابت من حذافة لأنه صاحب الفراش فلذلك قالت له لقد عققتني بن بسؤالك فقال لم تكسن هذه نفسي إلا بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فهذا من الأسئلة التي كان ضرر الجواب عنها عليه كان كثيرا لو صادف غير الظاهر فكان منهيا عنه ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أتى شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله فإن من أبدى لنا صحفة أقمنا عليه كتاب الله وقال لهزال وكان أشار على ماعز بالإقرار بالزنا لو سترته بثوبك كان خيرا لك وكذلك الرجل الذي قال يا رسول الله أين أنا قد كان غنيا عن هذه المسألة والستر على نفسه في الدنيا فهتك ستره وقد كان الستر أولى به وكذلك المسألة عن الآيات مع ظهور ما ظهر من المعجزات منهي عنها غير سائغ لأحد لأن معجزات الأنبياء لا يجوز أن تكون تبعا لأهواء الكفار وشهواتهم فهذا النحو من المسائل مستقبحة مكروهة وأما سؤال الحج في كل عام فقد كان على سامع آية الحج الاكتفاء بموجب حكمها من إيجابها حجة واحدة ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم إنها حجة واحدة ولو قلت نعم لوجبت فأخبر أنه لو قال نعم لوجبت بقوله دون الآية فلم يكن به حاجة إلى المسألة مع إمكان الاجتزاء بحكم الآية وأبعد هذه التأويلات قول من ذكر أنه
[ 606 ]
سئل عن البحيرة والسائبة والوصيلة لأنه لا يخلو من أن يكون سؤاله عن معنى البحيرة ما هو أن عن جوازها وقد كانت البحيرة وما ذكر معها أسماء لأشياء معلومة عندهم في الجاهلية ولم يكونوا يحتاجون إلى المسألة عنها ولا يجوز أيضا أن يكون السؤال وقع عن إباحتها وجوازها لأن ذلك كان كفرا يتقربون به إلى أوثانهم فمن اعتقد الإسلام فقد علم بطلانه وقد احتج بهذه الآية قوم في حظر المسألة عن أحكام الحوادث واحتجوا أيضا بما رواه الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شئ لم يكن حراما فحرم من أجل مسئلته قال أبو بكر ليس في الآية دلالة على حظر المسألة عن أحكام الحوادث لأنه إنما قصد بها إلى النهي عن المسألة عن أشياء أخفاها الله تعالى عنهم واستأثر بعلمها وهم غير محتاجين إليها بل عليهم فيها ضرر إن أبديت لهم كحقائق الأنساب لأنه قال الولد للفراش فلما سأله عبد الله بن حذافة عن حقيقة خلقه من ماء من هو دون ما حكم الله تعالى به من نسبته إلى الفراش نهاه الله عن ذلك وكذلك الرجل الذي قال أين أنا لم يكن به حاجة إلى كشف عيبه في كونه من أهل النار وكسؤال آيات الأنبياء وفي فحوى الآية دلالة على أن الحظر تعلق بما وصفنا قوله تعالى قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين يعني الآية التي سألوها الأنبياء عليهم السلام فأعطاهم الله إياها وهذا تصديق تأويل مقسم فأما السؤال عن أحكام غير منصوصة فلم يدخل في حظر الآية والدليل عليه أن ناجية بن جندب لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معه البدن لينحرها بمكة قال كيف أصنع بما عطب منها فقال انحرها واصبغ نعلها بدمها واضرب بها صفحتها وخل بينها وبين الناس ولا تأكل أنت ولا أحد من أهل رفقتك شيئا ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم سؤاله وفي حديث رافع بن خديج أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم إنا لاقو العدو غدا وليس معنا مدى فلم ينكره عليه وحديث يعلى بن أمية في الرجل الذي سأله عما يصنع في عمرته فلم ينكره عليه وأحاديث كثيرة في سؤال قوم سألوه عن أحكام شرائع الدين فيما ليس بمنصوص عليه غير محظور على أحد وروى شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل قال قلت يا رسول الله إني أريد أن اسئلك عن أمر ويمنعني مكان هذه الآية يا أيها الذين آمنوا لا تسئلوا عن أشياء فقال ما هو قلت العمل الذي يدخلني الجنة قال قد سألت عظيما وإنه ليسير شهادة أن لا إله إلا الله وإني رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان فلم يمنعه السؤال ولم ينكره وذكر محمد بن سيرين عن الأحنف
[ 607 ]
عن عمر قال تفقهوا قبل أن تسووا وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمعون في المسجد يتذاكرون حوادث المسائل في الأحكام على هذا المنهاج جرى أمر التابعين ومن بعدهم من الفقهاء إلى يومنا هذا وإنما أنكر هذا قوم حشو جهال قد حملوا أشياء من الأخبار لا علم لهم بمعانيها وأحكامها فعجزوا عن الكلام فيها واستنباط فقهها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه وهذه الطائفة المنكرة لذلك كمن قال تعالى مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا [ الجمعة: 5 ]. وقوله تعالى إن تبد لكم تسؤكم معناه إن تظهر لكم وهذا يدل على أن مراده فيمن سأل مثل سؤال عبد الله بن حذافة والرجل الذي قال أين أنا لأن إظهار أحكام الحوادث لا يسوء السائلين لأنهم إنما يسئلون عنها ليعلموا أحكام الله تعالى فيها ثم قال الله تعالى وإن تسئلوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم يعني في حال نزول الملك وتلاوته القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يظهرها لكم وذلك مما يسؤكم ويضركم وقوله تعالى عفا الله عنها يعني هذا الضرب من المسائل لم يؤاخذكم الله بها بالبحث عنها والكشف عن حقائقها والعفو في هذا الموضوع التسهيل والتوسعة في إباحة ترك السؤال عنها كما قال تعالى فتاب عليكم وعفا عنكم ومعناه سهل عليكم وقال ابن عباس الحلال ما أحل الله وما سكت عنه فهو عفو يعني تسهيل وتوسعة ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق قوله تعالى قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين قال ابن عباس قوم عيسى عليه السلام سألوا المائدة ثم كفروا بها وقال غيره قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها وكفروا بها وقال السدي هذا حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يحول لهم الصفا ذهبا وقيل إن قوما سألوا نبيهم عن مثل هذه الأشياء التي سأل عبد الله بن حذافة ومن قال أين أنا فلما أخبرهم به نبيهم ساءهم فكذبوا به وكفروا قوله تعالى ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال البحيرة من الإبل يمنع درها للطواغيت والسائبة من الإبل كانوا يسيبونها لطواغيتهم والوصيلة كانت الناقة تبكر بالأنثى ثم تثنى بالأنثى فيسمونها الوصيلة يقولون وصلت اثنتين ليس بينهما ذكر فكانوا يذبحونها لطواغيتهم والحامي الفحل من الإبل كان يضرب الضراب المعدود فإذا بلغ ذلك يقال حمى ظهره فيترك
[ 608 ]
فيسمونه الحامي وقال أهل اللغة البحيرة الناقة التي تشق أذنها يقال بحرت أذن الناقة أبحرها بحرا والناقة مبحورة وبحيرة إذا شققتها واسعا ومنه البحر لسعته قال وكان أهل الجاهلية يحرمو البحيرة وهي أن تنتج خمسة أبطن يكون آخرها ذكرا بحروا أذنها وحرموها وامتنعوا من ركوبها ونحرها ولم تطرد عن ماء ولم تمنع عن مرعى وإذا لقيها المعيى لم يركبها قال والسائبة المخلاة وهي المسيبة وكانوا في الجاهلية إذا نذر الرجل لقدوم من سفر أو برء من مرض أو ما أشبه ذلك قال ناقتي سائبة فكانت كالبحيرة في التحريم والتخلية وكان الرجل إذا عتق عبدا فقال هو سائبة لم يكن بينهما عقل ولا ولاء ولا ميراث فأما الوصيلة فإن بعض أهل اللغة ذكر أنها الأنثى من الغنم إذا ولدت مع ذكر قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوها وقال بعضهم كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم وإذا ولدت ذكرا ذبحوه لآلهتهم في زعمهم وإذا ولدت ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوه لآلهتهم وقالوا الحامي الفحل من الإبل إذا نتجت من صلبه عشرة أبطن قالوا حمى ظهره فلا يحتمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى وإخبار الله تعالى بأن ما اعتقده أهل الجاهلية في البحيرة والسائبة وما ذكر في الآية يدل على بطلان عتق السائبة على ما يذهب إليه القائلون بأن من أعتق عبده سائبة فلا ولاء له منه وولاؤه جماعة المسلمين أن لأهل الجاهلية قد كانوا يعتقدون ذلك فأبطله الله تعالى بقوله ولا سائبة وقول النبي صلى الله عليه وسلم الولاء لمن أعتق يؤكد ذلك أيضا ونبينه باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال أبو بكر أكد الله تعالى فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواضع من كتابه وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخبار متواترة عنه فيه وأجمع السلف وفقهاء الأمصار على وجوبه وإن كان قد تعرض أحوال من التقية يسع معها السكوت فمما ذكره الله تعالى حاكيا عن لقمان يا بني أقم الصلوة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور يعني والله اعلم واصبر على ما ساءك من المكروه عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنما حكى الله تعالى لنا ذلك عن عبده لنقتدي به وننتهي إليه وقال تعالى فيما مدح به سالف الصالحين من الصحابة التائبون العابدون إلى قوله الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وقال تعالى كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال
[ 609 ]
حدثنا محمد بن العلاء وهناد بن السري قالا حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من رأى منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا أبو إسحاق عن ابن جرير عن جرير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا اصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا فأحكم الله تعالى فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كتابه وعلى لسان رسوله وربما ظن من لا فقه له أن ذلك منسوخ أو مقصور الحكم على حال دون حال وتأول فيه قول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وليس التأويل على ما يظن هذا الظان لو تجردت هذه الآية عن قرينه وذلك لأنه قال عليكم أنفسكم احفظوها لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ومن الإهتداء اتباع أمر الله في أنفسنا وفي غيرنا فلا دلالة فيها إذا على سقوط فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد روي عن السلف في تأويل الآية أحاديث مختلفة الظاهر وهي متفقة في المعنى فمنها ما حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا محمد بن يزيد الواسطي عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال سمعت أبا بكر على المنبر يقول يا أيها الناس إني أراكم تأولون هذه الآية يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الناس إذا عمل فيهم بالمعاصي ولم يغيروا أوشك أن يعمهم الله بعقابه فأخبر أبو بكر أن هذه الآية لا رخصة فيها في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنه لا يضره ضلال من ضل إذا اهتدى هو بالقيام بفرض الله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في هذه الآية لا يضركم من ضل إذا اهتديتم قال يعني من أهل الكتاب وقال أبو عبيد وحدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في هذه الآية قال من اليهود والنصارى ومن ضل من غيرهم فكأنهما ذهبا إلى أن هؤلاء قد أقروا ولا يجوز لنا نقض عهدهم بإجبارهم سنة على الإسلام فهذا لا يضرنا الإمساك عنه وأما ما لا يجوز الإقرار عليه من
[ 610 ]
المعاصي والفسوق والظلم والجور فهذا على كل المسلمين تغييره والإنكار على فاعله على ما شرطه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الذي قدمنا وحدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود العتكي قال حدثنا بن المبارك عن عتبة بن أبي حكيم قال حدثني عمرو بن جارية اللخمي قال حدثنا أبو أمية الشعباني قال سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية عليكم أنفسكم فقال أما والله لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع عنك العوام فإن من ورائكم أيام الصبر فيه كقبض على الجمر عمرو للعامل فيها مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله قال وزادني غيره قال يا رسول الله أجر خمسين منهم قال أجر خمسين منكم وهذه دلالة فيه على سقوط فرض الأمر بالمعروف إذا كانت الحال ما ذكر لأن ذكر تلك الحال تنبئ عن تعذر تغيير المنكر باليد واللسان لشيوع الفساد وغلبته على العامة وفرض النهي عن المنكر في مثل هذه الحال إنكاره بالقلب كما قال عليه السلام فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه فكذلك إذا صارت الحال إلى ما ذكر كان فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلب للتقية ولتعذر تغييره وقد يجوز إخفاء الإيمان وترك إظهاره تقية بعد أن يكون مطمئن القلب بالإيمان قال الله تعالى إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان فهذه منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد روي فيه وجه آخر وهو ما حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا أبو مسهر عن عباد الخواص قال حدثني يحيى بن أبي عمرو الشيباني أن أبا الدرداء وكعبا كانا جالسين بالجابية فأتاهما آت فقال لقد رأيت اليوم أمرا كان حقا على من يراه أن يغيره فقال رجل إن الله تعالى يقول يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فقال كعب إن هذا لا يقول شيئا ذب عن محارم الله تعالى كما تذب عن عائلتك حتى يأتي تأويلها فانتبه لها أبو الدرداء فقال متى يأتي تأويلها فقال إذا هدمت كنيسة دمشق وبني مكانها مسجد فلذلك من تأويلها وإذا رأيت الكاسيات العاريات فلذلك من تأويلها وذكر خصلة ثالثة لا أحفظها فلذلك من تأويلها قال أبو مسهر وكان هدم الكنيسة بعهد الوليد بن عبد الملك أدخلها في مسجد دمشق وزاد في سعته بها وهذا أيضا على معنى الحديث الأول في الاقتصار على إنكار المنكر بالقلب دون اليد واللسان للتقية والخوف على النفس
[ 611 ]
مطلب: في ذم الحجاج الظالم ولعمري أن ايام عبد الملك والحجاج والوليد وأضرابهم كانت من الأيام التي سقط فيها فرض الإنكار عليهم بالقول واليد لتعذر ذلك والخوف على النفس وقد حكي أن الحجاج لما مات قال الحسن اللهم أنت أمته فاقطع عنا سنته فإنه أتانا أخيفش أعيمش يمد بيد قصيرة البنان والله ما عرق فيها عنان في سبيل الله عز وجل برجل جمته ويخطر في مشيته ويصعد المنبر فيهذر حتى تفوته الصلاة لا من الله يتقي ولا من الناس يستحي فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون لا يقول له قائل الصلاة أيها الرجل ثم قال الحسن هيهات والله حال دون ذلك السيف والسوط وقال عبد الملك بن عمير خرج الحجاج يوم الجمعة بالهاجرة فما زال يعبر مرة عن أهل الشام يمدحهم ومرة عن أهل العراق يذمهم حتى لم نر من الشمس إلا حمرة على شرف المسجد ثم أمر المؤذن فأذن فصلى بنا الجمعة ثم أذن فصلى بنا العصر ثم أذن فصلى بنا المغرب فجمع بين الصلوات يومئذ فهؤلاء السلف كانوا معذورين في ذلك الوقت في ترك النكير باليد واللسان وقد كان فقهاء التابعين وقراؤهم خرجوا عليه مع ابن الأشعث إنكارا منهم لكفره وظلمه وجوره فجرت بينهم تلك الحروب المشهورة وقتل منهم من قتل ووطئهم بأهل الشام حتى لم يبقى أحد ينكر عليه شيئا يأتيه إلا بقلبه وقد روى ابن مسعود في ذلك ما حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا حجاج عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن عبد الله بن مسعود أنه ذكر عنده هذه الآية عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم فقال لم يجئ تأويلها بعد إن القرآن أنزل حين أنزل ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن وكان منه آي وقع تأويلهن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومنه آي وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم ومنه آي يقع تأويلهن عند الساعة ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب من الجنة والنار قال فما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا بالمعروف
[ 612 ]
وانهوا عن المنكر فإذا اختلف القلوب والأهواء ولبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض فامرأ قبل ونفسه عند ذلك جاء تأويل هذه الآية قال أبو بكر يعني عبد الله بقوله لم يجئ تأويلها بعد إن الناس في عصره كانوا ممكنين من تغيير المنكر لصلاح السلطان والعامة وغلبة الأبرار للفجار فلم يكن أحد منهم معذورا في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان ثم إذا جاء حال التقية وترك القبول وغلبت الفجار سوغ السكوت في تلك الحال مع الإنكار بالقلب وقد يسع السكوت أيضا في الحال التي قد علم فاعل المنكر أنه يفعل محظورا ولا يمكن الإنكار باليد ويغلب في الظن بأنه لا يقبل إذا قتل فحينئذ يسع السكوت وقد روي نحوه عن ابن مسعود في تأويل الآية وحدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا هشيم قال أخبرنا يونس عن الحسن عن ابن مسعود في هذه الآية عليكم أنفسكم) قال قولوها ما قبلت منكم فإذا أردت عليكم فعليكم أنفسكم فأخبر ابن مسعود أنه في سعة من السكوت إذا ردت ولم تقبل وذلك إذا لم يمكنه تغييره بيده لأنه لا يجوز أن يتوهم عن ابن مسعود إباحته ترك النهي عن المنكر مع إمكان تغييره حدثنا جعفر بن محمد قال حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال حدثنا أبو عبيد قال حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي عن حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمكم الله بعقاب من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم قال أبو عبيدة وحدثنا حجاج عن حمزة الزيات عن أبي سفيان عن أبي نضرة قال جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال إني أعمل بأعمال الخير كلها إلا خصلتين قال وما هما قال لا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر قال لقد طمست سهمين من سهام الإسلام إن شاء غفر لك وإن شاء عذبك قال أبو عبيد وحدثنا محمد بن يزيد عن جويبر عن الضحاك قال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضتان من فرائض الله تعالى كتبهما الله عز وجل قال أبو عبيد أخبروني عن سفيان بن عيينة قال حدثت ابن شبرمة بحديث ابن عباس من فر من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة لم يفر فقال أما أنا فأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا لا يعجز الرجل عن اثنين أن يأمرهما أو ينهاهما وذهب ابن عباس في ذلك إلى قوله تعالى فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين [ الانفال: 66 ]، وجائز أن يكون ذلك أصلا فيما يلزم من تغيير المنكر وقال مكحول في قوله تعالى عليكم أنفسكم إذا هاب الواعظ وأنكر الموعوظ فعليك حينئذ نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت والله الموفق
[ 613 ]
باب الشهادة على الوصية في السفر قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم قد اختلف في معنى الشهادة ههنا قال قائلون هي الشهادة على الوصية في السفر وأجازوا بها شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر وروى الشعبي عن أبي موسى أن رجلا مسلما توفي بدقوقا ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فأحلفهما أبو موسى بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وأنها لوصية الرجل وتركته فأمضى أبو موسى شهادتهما وقال هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال آخرون معنى شهادة بينكم حضور الوصيين من قولك شهدته إذا حضرته وقال آخرون إنما الشهادة هنا أيمان الوصية بالله إذا ارتاب الورثة بهما وهو قول مجاهد فذهب أبو موسى إلى أنها الشهادة على الوصية التي تثبت بها عند الحكام وأن هذا حكم ثابت غير منسوخ وروي مثله عن شريح هو قول الثوري وابن أبي ليلى والأوزاعي وروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وابن سيرين وعبيدة وشريح والشعبي أو آخران من غيركم من غير ملتكم وروي عن الحسن والزهري من غير قبيلتكم فأما تأويل من تأولها على اليمين دون الشهادة التي تقام عند الحكام فقول مرغوب عنه وإن كانت اليمين قد تسمى شهادة في نحو قوله تعالى فشهادة أحدكم أربع شهادات بالله لأن الشهادة إذا أطلقت فهي الشهادة المتعارفة كقوله تعالى وأقيموا الشهادة لله واستشهدوا شهيدين من رجالكم) [ البقرة: 282 ] ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا وأشهدوا يحيى ذوي عدل منكم كل ذلك قد عقل به الشهادات على الحقوق لا الأيمان وكذلك قوله تعالى شهادة بينكم المفهوم فيه الشهادة المتعارفة ويدل عليه قوله تعالى (إذا حضر أحدكم الموت ويبعد أن يكون المراد أيمان بينكم إذا حضر أحدكم الموت لأن حال الموت ليس حالا للأيمان ثم زاد بذلك بيانا بقوله اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم يعني والله أعلم إن لم توجد ذوا عدل منكم ولا يختلف في حكم اليمين وجود ذوي العدل وعدمهم وقوله تعالى ولا نكتم شهادة الله يدل على ذلك أيضا لأن اليمين موجودة ظاهرة غير مكتوبة ثم ذكر يمين الورثة بعد اختلاف الوصيين على مال الميت وإنما الشهادة التي هي اليمين هي المذكورة في قوله (لشهادتنا أحق من شهادتهما) ثم قوله: (ذلك أدنى أن يأتوا باشهادة على وجهها) يعني به الشهادة
[ 614 ]
على الوصية إذ غير جائز أن يقول أن يأتوا باليمين على وجهها الوصية في السفر على وجهها وقوله تعالى أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم يدل أيضا على أن الأول شهادة لأنه ذكر الشهادة واليمين كل واحدة بحقيقة لفظها فأما تأويل من تأول قوله أو آخران من غيركم من غير قبيلتكم فلا معنى له والآية تدل على خلافه لأن الخطاب توجه إليهم بلفظ الإيمان من غير ذكر للقبيلة في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم ثم قال أو آخران من غيركم يعني من غير المؤمنين ولم يجر للقبيلة ذكر حتى ترجع إليه الكناية ومعلوم أن الكناية إنما ترجع إما إلى الظهر مذكور في الخطاب أو معلوم بدلالة الحال فما لم تكن هنا دلالة على الحال ترجع الكناية إليها يثبت أنها راجعة إلى من تقدم ذكره في الخطاب من المؤمنين وصح أن المراد من غير المؤمنين فاقتضت الآية جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر وقد روي في تأويل الآية عن عبد الله بن مسعود وأبي موسى وشريح وعكرمة وقتادة وجوه مختلفة وأشبهها بمعنى الآية ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا الحسن بن علي قال حدثنا يحيى بن آدم قال حدثنا ابن أبي زائدة عن محمد بن أبي القاسم عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جام فضة مخوصا بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وجد الجام بمكة فقالوا اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم قال فنزلت فيهم يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بديا لأن الورثة اتهموهما بأخذه ثم لما ادعيا أنهما اشتريا الجام من الميت استحلف الورثة وجعل القول قولهم في أنه لم يبع وأخذوا الجام ويشبه أن يكون ما قال أبو موسى في قبول شهادة الذميين على وصية المسلم في السفر وأن ذلك لم يكن منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن هو هذه القصة التي في حديث ابن عباس وقد روى عكرمة في قصة تميم الداري نحو رواية ابن عباس واختلف في بقاء حكم جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر فقال أبو موسى وشريح هي ثابتة وقول ابن عباس ومن قال أو آخران من غيركم أنه من غير المسلمين يدل على أنهم تأولوا الآية على جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر ولا يحفظ عنهم بقاء هذا الحكم أو نسخه وروي عن زيد بن أسلم
[ 615 ]
في قوله تعالى شهادة بينكم قال كان ذلك في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام وذلك في أول الإسلام والأرض حرب والناس كفار إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فكان الناس يتوارثون بالمدينة بالوصية ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض وعمل المسلمون بها وروي عن إبراهيم النخعي قال هي منسوخة نسختها (وأشهدوا ذوى عدل منكم وروى ضمرة بن جندب وعطية بن قيس قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها) قال جبير بن نفير عن عائشة قالت المائدة من آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم من حرام فاستحرموه وكان وروى أبو إسحاق عن أبي ميسرة قال في المائدة ثماني عشرة فريضة وليس فيها منسوخ وقال الحسن لم ينسخ من المائدة شئ فهؤلاء ذهبوا إلى أنه ليس في الآية شئ منسوخ والذي يقتضيه ظاهر الآية جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر سواء كان في الوصية بيع أو إقرار بدين أو وصية بشئ أو هبة أو صدقة هذا كله يشتمل عليه اسم الوصية إذا عقده في مرضه وعلى أن الله تعالى أجاز شهادتهما عليه الوصية لم يخصص بها الوصية دون غيرها وحين الوصية قد يكون إقرار بدين أو بمال عين وغيره لم تفرق الآية بين شئ منه ثم قد روى أن آية الدين من آخر ما نزل من القرآن وإن كان قوم قد ذكروا أن المائدة من آخر ما نزل وليس يمتنع أن يريدوا بقولهم من آخر ما نزل من آخر سورة نزلت في الجملة لا على أن كل آية منها من آخر ما نزل وإن كان كذلك فآية الدين لا محالة ناسخة لجواز شهادة أهل الذمة على الوصية في السفر لقوله إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى إلى قوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم وهم المسلمون لا محالة لأن الخطاب توجه إليهم باسم الأيمان ولم يخصص بها حال الوصية دون غيرها فهي عامة في الجميع ثم قال (ممن ترضون من الشهداء وليس الكفار بمرضيين في الشهادة على المسلمين فتضمنت آية الدين نسخ شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر وفي الحضر أو في الوصية وغيرها فانتظمت الآية جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم ومن حيث دلت على جوازها على وصية المسلم في السفر فهي دالة أيضا على وصية الذمي ثم نسخ فيها جوازها على وصية المسلم بآية الدين وبقي حكمها على الذمي في السفر وغيره إذ كانت حالة السفر والحضر سواء في حكم الشهادات وعلى جواز شهادة الوصيين على وصية الميت لأن في التفسير أن الميت أوصى إليهما وأنهما شهدا على وصيته ودلت على أن القول قول الوصي فيما في يده للميت مع يمينه لأنهما على ذلك
[ 616 ]
استحلفا ودلت على أن دعواهما شرى شئ من الميت غير مقبولة إلا ببينة وأن القول قول الورثة إن الميت لم يبع ذلك منهما مع أيمانهم قوله تعالى ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها يعني والله أعلم أقرب أن لا يكتموا ولا يبدلوا أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم يعني إذا حلفا ما غيرا ولا كتما ثم عثر على شئ من مال الميت عندهما أن تجعل أيمان الورثة أولى من أيمانهم بديا أنهما ما غيرا ولا كتما على ما روى عن ابن عباس في قصة تميم الداري وعدي بن بداء مطلب: في موضع الاستحلاف وقوله تعالى تحبسونهما من بعد الصلاة فإنه روي عن ابن سيرين وقتادة فاستحلفا بعد العصر وإنما استحلفا بعد العصر تغليظا لليمين في الوقت المعظم كما قال تعالى حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى قيل صلاة العصر وقد روي عن أبي موسى أنه استحلف بعد العصر في هذه القصة وقد روي تغليظ اليمين بالاستحلاف في البقعة المعظمة وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من حلف عند هذا المنبر على يمين آثمة فليتبوأ مقعده من النار ولو على سواك أخضر فأخبر أن اليمين الفاجرة عند المنبر أعظم مأثما وكذلك سائر المواضع الموسومة للعبادات ولتعظيم الله تعالى وذكره فيها تكون المعاصي فيها أعظم إثما ألا ترى أن شرب الخمر والزنا في المسجد الحرام وفي الكعبة أعظم مأثما منه في غيره وليست اليمين عند المنبر وفي المسجد في الدعاوي بواجبة وإنما ذلك على وجه الترهيب وتخويف العقاب وحكى عن الشافعي أنه يستحلف بالمدينة عند المنبر واحتج له بعض أصحابه بحديث جابر الذي ذكرنا وبحديث وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحضرمي لك يمينه قال إنه رجل فاجر لا يبالي قال ليس لك منه إلا ذلك فانطلق ليحلف فلما أدبر ليحلف قال من حلف على مال ليأكله ظلما لقي الله وهو عنه معرض وبحديث أشعث بن قيس وفيه فانطلق ليحلف فقالوا قوله من حلف عند هذا المنبر على يمين آثمة يدل على أن الأيمان قد كانت تكون عنده قال أبو بكر وليس فيه دلالة على أن ذلك مسنون وإنما قال ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يجلس هناك فلذلك كان يقع الاستحلاف عند المنبر واليمين عند المنبر أعظم مأثما إذا كانت كاذبة لحرمة الموضع فلا دلالة فيه على أنه ينبغي أن تكون عند المنبر والشافعي لا يستحلف في الشئ التافه عند المنبر وقد ذكر في الحديث ولو على سواك أخضر فقد خالف الخبر على أصله وأما قوله انطلق ليحلف وأنه لما أدبر قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال فإنه لا دلالة فيه على أنه ذهب إلى
[ 617 ]
الموضع وإنما المراد بذلك العزيمة والتصميم عليه قال تعالى ثم أدبر واستكبر) لم يرد به الذهاب إلى الموضع وإنما أراد التولي عن الحق والإصرار عليه وما روي عن الصحابة في الحلف عند المنبر وبين الركن والمقام فإنما كان ذلك لأنه كان ينفق الحكومة هناك ولا ينكر أن تكون اليمين هناك أغلظ ولكنه ليس بواجب لقوله صلى الله عليه وسلم اليمين على المدعي عليه ولم يخصصها بمكان ولكن الحاكم إن رأى تغليظ اليمين باستحلافه عند المنبر إن كان بالمدينة وفي المسجد الحرام إن كان بمكة جاز له ذلك كما أمر الله باستحلاف هذين الوصيين بعد صلاة العصر لأن كثيرا من الكفار يعظمونه ووقت غروب الشمس فصل قد تضمنت هذه الآية الدلالة على جواز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض وذلك لأنها قد اقتضت جواز شهاداتهم على المسلمين وهي على أهل الذمة أجوز فقد دلت الآية على جواز شهادتهم على أهل الذمة في الوصية في السفر ولما نسخ منها جوازها على المسلمين بقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه إلى قوله واستشهدوا شهيدين من رجالكم [ البقرة: 282 ] بقي بذلك جواز شهادة أهل الذمة عليهم ونسخ بذلك قوله أو آخران من غيركم) وبقي حكم دلالتها في جوازها على أهل الذمة في الوصية في السفر وإذا كان حكمها باقيا في جوازها على أهل الذمة في في الوصية في السفر اقتضى ذلك جوازها عليهم في سائر الحقوق، لان كل من يجيزها على أهل الذمة في الوصية في السفر ومنع جوازها على المسلمين في ذلك أجازها على أهل الذمة في سائر الحقوق. فإن قال قائل فإن ابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي يجيزون شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر على ما روي عن أبي موسى وشريح ولا يجيزونها على الذمي في سائر الحقوق قيل له قد بينا أنها منسوخة على المسلمين باقية على أهل الذمة في سائر الحقوق وقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض وإن اختلفت مللهم قول أصحابنا وعثمان البتي والثوري وقال ابن أبي ليلى والأوزاعي والحسن وصالح والليث تجوز شهادة أهل الكفر بعضهم على بعض ولا تجوز على ملة غيرها وقال مالك والشافعي لا تجوز شهادة أهل الكفر بعضهم على بعض ". وما ذكرنا من دلالة الاية يقتضي تساوي شهادات أهل الملل بقوله تعالى أو آخران من غيركم) يعني غير المؤمنين المبدوء بذكرهم ولم تفرق بين الملل ومن حيث اقتضت جواز شهادة أهل
[ 618 ]
الملل على وصية المسلم في السفر وهي دالة على جواز شهادتهم على الكفار في ذلك مع اختلاف مللهم ومما يوجب جواز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض من جهة السنة ما روى مالك عن نافع عن ابن عمر أن اليهود جاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا أن رجلا وامرأة منهم زنيا فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمهما وروى الأعمش عن عبد الله بن مرة عن البراء بن عازب قال مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمم فقال ما شأن هذا فقالوا زنى فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى جابر عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه اليهود برجل وامرأة زنيا فقال النبي صلى الله عليه وسلم ائتوني بأربعة منكم يشهدون فشهد أربعة منهم فرجمهما النبي صلى الله عليه وسلم وعن الشعبي قال تجوز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض وعن شريح وعمر بن عبد العزيز والزهري مثله وقال ابن وهب خالف مالك معلميه في رد شهادة النصارى بعضهم على بعض وكان ابن شهاب ويحيى بن سعيد وربيعة يجيزونها وقال ابن أبي عمران من أصحابنا سمعت يحيى بن أكثم يقول جمعت هذا الباب فما وجد عن أحد من المتقدمين رد شهادة النصارى بعضهم على بعض إلا من ربيعة فإني وجدت عنه ردها ووجدت عنه إجازتها قال أبو بكر قد ذكرنا حكم الآية على الوجوه التي رويت فيها عن السلف وما نسخ منها وما هو منها ثابت الحكم فلنذكر الآية على سياقها مع بيان حكمها على ما اقتضاه ترتيبها على السبب الذي نزلت فيه فنقول وبالله التوفيق أن قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم يعتوره معنيان أحدهما شهادة بينكم شهادة اثنين ذوى عدل منكم فحذف ذكر الشهادة الثانية لعلم المخاطبين بالمراد ويحتمل عليكم شهادة بينكم فهو أمر بإشهاد اثنين ذوي عدل كقوله تعالى في الدين واستشهدوا شهيدين من رجالكم فأفاد الأمر بإشهاد شاهدين عدلين من المسلمين أو آخرين من غير المسلمين على وصية المسلم في السفر وكان نزولها على السبب الذي تقدم من ذكره من رواية ابن عباس في قصة تميم الداري وعدي بن بداء فذكر بعض السبب في الآية ثم قال إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت فجعل شرط قبول شهادة الذميين على الوصية أن تكون في حال السفر وقوله حين الوصية قد تضمن أن يكون الشاهدان هما الوصيين لأن الموصى أوصى إلى ذميين ثم جاءا فشهدا بوصية فضمن ذلك جواز شهادة الوصيين على وصية الميت ثم قال فأصابتكم مصيبة الموت يعني قصة الموت الموصى قال تحبسونهما من بعد الصلاة يعني لما اتهمهما الورثة في حبس شئ من مال الميت وأخذه على ما رواه عكرمة في قصة
[ 619 ]
تميم الداري وعلى ما قاله أبو موسى في استحلافه الذميين ما خانا ولا كذبا فصار مدعى عليهما فلذلك استحلفا لا من حيث كانا شاهدين ويدل عليه قوله تعالى فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله يعني فيما أوصى به الميت وأشهدهما عليه ثم قال تعالى فإن عثرا على أنهما استحقا إثما) يعني ظهور شئ من مال الميت في أيديهما بعد ذلك وهو جام الفضة الذي ظهر في أيديهما من مال الميت فزعما أنهما كانا اشتريا من مال الميت ثم قال تعالى فآخران يقومان مقامهما يعني في اليمين لأنهما صارا في هذه الحال مدعيين للشرى فصارت اليمين على الورثة وعلى أنه لم يكن للميت إلا وارثان فكانا مدعى عليهما فلذلك استحلفا ألا ترى أنه قال من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما يعني إن هذه اليمين أولى من اليمين التي حلف بها الوصيان أنهما ما خانا ولا بدلا لأن الوصيين صارا في هذه الحال مدعيين وصار الوارثان مدعى عليهما وقد كان برئا في الظاهر بديا بيمينهما فمضت شهادتهما على الوصية فلما ظهر في أيديهما شئ من مال الميت صارت أيمان الوارثين أولى وقد اختلف في تأويل قوله تعالى الأوليان فروي عن سعيد بن جبير قال معنى الأوليان بالميت يعني الورثة وقيل الأوليان بالشهادة وهي الأيمان في هذا الموضع وليس في الآية دلالة على إيجاب اليمين على الشاهدين فيما شهدا به وإنما أوجبت اليمين عليهما لما ادعى الورثة عليهما الخيانة وأخذ شئ من تركة الميت فصار بعض ما ذكر في هذه الآيات من الشهادات أيمانا وقال بعضهم الشهادة على الوصية معنى الأوليان بالميت يعني الورثة وقيل الأوليان بالشهادة وهي الأيمان في هذا الموضع وليس في الآية دلالة على إيجاب اليمين على الشاهدين فيما شهدا به وإنما أوجبت اليمين عليهما لما ادعى الورثة عليهما الخيانة وأخذ شئ من تركة الميت فصار بعض ما ذكر في هذه الآيات من الشهادات أيمانا وقال بعضهم الشهادة على الوصية كالشهادة على الحقوق لقوله تعالى شهادة بينكم لا محالة أريد بها شهادات الحقوق لقوله إثنان ذوى عدل منكم أو آخران من غيركم وقوله بعد ذلك (فيقسمان بالله غير اليمين ثم قال فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان فيقسمان بالله لشهادتنا يعني بها اليمين لأن هذه أيمان الوارثين وقوله أحق من شهادتهما يحتمل من يمينهما ويحتمل من شهادتهما لأن الوصيين قد كان منهما شهادة ويمين وصارت يمين الوارث أحق من شهادة الوصيين ويمينهما روى لأن شهادتهما لأنفسهما غير جائزة ويميناهما ولم لم توجب تصحيح دعواهما في شراء ما ادعيا شراءه من الميت ثم قال تعالى ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها يعني والله أعلم بالشهادة على الوصية وأن لا يخونوا ولا يغيروا يعني أن ما حكم الله تعالى به من ذلك من الإيمان وإيجابها تارة على الشهود فيما ادعى عليهما من الخيانة وتارة على الورثة فيما
[ 620 ]
ادعى الشهود من شرى شئ من مال الميت وأنهم متى علموا ذلك أتوا بالشهادة على وصية الميت على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ولا يقتصروا على أيمانهم ولا يبرئهما ذلك من أن يستحق عليهم ما كتموه وادعوا شراه إذا حلف الورثة على ذلك والله أعلم آخر سورة المائدة. تم الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث أوله سورة الانعام