نيل الأوطار
الشوكاني ج 9
[ 1 ]
نيل الاوطار من احاديث سيد الخيار شرح منتقى الاخبار للشيخ الامام المجتهد العلامة الرباني قاضى قضاة القطر اليماني محمد بن علي ابن محمد الشوكاني المتوفى سنة 1255 ه الجزء التاسع - 1973 دار الجيل بيروت - لبنان ص، پ - 8747
[ 2 ]
بسم الله الرحمن الرحيم [ رم ] أبواب الصيد باب ما يجوز فيه اقتناء الكلب وقتل الكلب الاسود البهيم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من اتخذ كلبا إلا كلب صيد أو زرع أو ماشية انتقص من أجره كل يوم قيراط رواه الجماعة. وعن سفيان بن أبي زهير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من اقتنى كلبا لا يغني عنه زرعا ولا ضرعا نقص من عمله كل يوم قيراط متفق عليه. وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتل الكلاب إكلب صيد أو كلب ماشية رواه مسلم والنسائي وابن ماجة والترمذي وصححه. وعن عبد الله بن المغفل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لولا أن الكلاب أمة من الامم لامرت بقتلها: فاقتلوا منها الاسود البهيم رواه الخمسة وصححه الترمذي. [ رح 3601 ] وعن جابر قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتل كل الكلاب حتى أن المرأة تقدم من البادية بكلبها فنقتله، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتلها وقال: عليكم بالاسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان رواه أحمد ومسلم. قوله: أو زرع زيادة الزرع أنكرها ابن عمر كما في صحيح مسلم أنه قيل لابن عمر: إن أبا هريرة يقول أو كلب زرع، فقال ابن عمر: إن لابي هريرة زرعا، ويقال إن ابن عمر أراد بذلك أن سبب حفظ أبي هريرة لهذه الرواية أنه صاحب زرع دونه، ومن كان مشتغلا بشئ احتاج إلى تعرف أحكامه، وهذا هو الذي ينبغي
[ 3 ]
حمل الكلام عليه. وفي صحيح مسلم أيضا قال سالم: وكان أبو هريرة يقول: أو كلب حرث وكان صاحب حرث. وقد وافق أبا هريرة على ذكر الزرع سفيان بن أبي زهير وعبد الله بن المغفل: قوله: أو ماشية أو للتنويع لا للترديد وهو ما يتخذ من الكلاب لحفظ الماشية عند رعيها. والمراد بقوله: ولا ضرعا الماشية أيضا. قوله: وقال عليكم بالاسود البهيم أي الخالص السواد، والنقطتان هما الكائنتان فوق العينين. قال ابن عبد البر: في هذه الاحاديث إباحة اتخاذ الكلب للصيد والماشية وكذلك للزرع لانها زيادة حافظ، وكراهة اتخاذها لغير ذلك، إلا أنه يدخل في معنى الصيد وغيره مما ذكر اتخاذها لجلب المنافع ودفع المضار قياسا، فتمحض كراهة اتخاذها لغير حاجة لما فيه من ترويع الناس وامتناع دخول الملائكة إلى البيت الذي الكلاب فيه. والمراد بقوله: نقص من عمله أي من أجر عمله. وقد استدل بهذا على جواز اتخاذها لغير ما ذكر، وأنه ليس بمحرم، لان ما كان اتخاذه محرما امتنع اتخاذه على كل حال سواء نقص الاجر أم لا. فدل ذلك على أن اتخاذها مكروه ولا حرام. قال ابن عبد البر أيضا: ووجه الحديث عندي أن المعاني المتعبد بها في الكلاب من غسل الاناء سبعا لا يكاد يقوم بها المكلف ولا يتحفظ منها، فربما دخل عليه باتخاذها ما ينقص أجره من ذلك. وروي أن المنصور بالله سأعمرو بن عبيد عن سبب هذا الحديث فلم يعرفه، فقال المنصور: لانه ينبح الضيف ويروع السائل اه. قال في الفتح: وما ادعاه من عدم التحريم واستدل له بما ذكره ليس بلازم، بل يحتمل أن تكون العقوبة تقع بعدم التوفيق للعمل بمقدار قيراط مما كان يعمله من الخير لو لم يتخذ كلبا، ويحتمل أن يكون الاتخاذ حراما، والمراد بالنقص إذا الاثم الحاصل باتخاذه يوازن قدر قيراط أو قيراطين من أجر، فينتقص من ثواب عمل المتخذ قدر ما يترتب عليه من الاثم باتخاذه وهو قيراط أو قيراطان. وقيل: سبب النقصان امتناع الملائكة من دخول بيته، أو ما يلحق المارين من الاذى، أو لان بعضها شياطين، أو عقوبة لمخالفة النهي، أو لولوغها في الاواني عند غفلة صاحبها فربما ينجس الطاهر منها، فإذا استعمل في العبادة لم يقع موقع الطاهر. وقال ابن التين: المراد أنه لو لم يتخذه لكان عمله كاملا، فإذا اقتناه نقص من ذلك العمل، ولا يجوز أن ينقص من عمل مضى، وإنما أراد أنه ليس في الكمال
[ 4 ]
كعمل من لم يتخذ اه. قال في الفتح: وما ادعاه من عدم الجواز منازع فيه. فقد حكى الروياني في البحر اختلافا في الاجر هل ينقص من العمل الماضي أو المستقبل؟ وفي محل نقصان القيراطين خلاف. فقيل: من عمل النهار قيراط ومن عمل الليل آخر. وقيل: من الفرض قيراط ومن النفل آخر. واختلفوا في اختلاف الروايتين في القيراطين كما في صحيح البخاري والقيراط كما في أحاديث الباب. فقيل: الحكم للزائد لكونه حفظ ما لم يحفظ الآخر، أو أنه صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أولا بنقص قيراط واحد فسمعه الراوي الاول، ثم أخبر ثانيا بنقص قيراطين زيادة في التأكيد والتنفير من ذلك فسمع الراوي الثاني. وقيل: ينزل على حالين، فنقص القيراطين باعتبار كثرة الاضرار باتخاذها، ونقص القيراط باعتبار قلته. وقيل: يختص نقص القيراطين بمن اتخذها بالمدينة الشريفة خاصة والقيراط بما عداها. وقيل غير ذلك واختلف في القيراطين المذكورين هنا هل هما كالقيراطين المذكورين في الصلاة على الجنازة واتباعها فقيل بالتسوية. وقيل: اللذان في الجنازة من باب الفضل، واللذان هنا من باب العقوبة، وباب الفضل أوسع من غيره، والاصح عند الشافعية إباحة اتخاذ الكلب لحفظ الدروب إلحاقا للمنصوص بما في معناه كما أشار إليه ابن عبد البر، واتفقوا على أن المأذون في اتخاذه ما لم يحصل الاتفاق على قتله وهو الكلب العقور. وأما غير العقور فقد اختلف هل يجوز قتله مطلقا أم لا؟ واستدل (بأحاديث الباب) على طهارة الكلب المأذون باتخاذه، لان في ملابسته مع الاحتراز عنه مشقة شديدة، فالاذن باتخاذه إذن بمكملات مقصوده، كما أن المنع من اتخاذه مناسب للمنع منه، وهو استدلال قوي كما قال الحافظ لا يعارضه إلا عموم الخبر في الامر بغسل ما ولغ فيه الكلب من غير تفصيل، وتخصيص العموم غير مستنكر إذا سوغه الدليل. باب ما جاء في صيد الكلب المعلم والبازي ونحوهما عنأبي ثعلبة الخشني قال: قلت يا رسول الله أنا بأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي المعلم وبكلبي الذي ليس بمعلم فما يصلح لي؟ فقال: ما صدت بقوسك
[ 5 ]
فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل. وعن عدي بن حاتم قال قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن علي وأذكر اسم الله، قال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك، قلت: وإن قتلن؟ قال: وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس معها، قلت له: فإني أرم بالمعراض الصيد فأصيد، قال: إذا رميت بالمعراض فخرق فكله، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله. وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاة متفق عليهن. وهو دليل على الاباحة، سواء قتله الكلب جرحا أو خنقا. وعن عدي بن حاتم: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك، قلت: وإن قتل؟ قال: وإن قتل ولم يأكل منه شيئا فإنما أمسكه عليك رواه أحمد وأبو داود. حديث عدي بن حاتم الآخر أخرجه أيضا البيهقي وهو من رواية مجالد عن الشعبي عنه، قال البيهقي: تفرد مجالد بذكر الباز فيه وخالف الحفاظ. قوله: ما صدت بقوسك سيأتي الكلام على الصيد بالقوس. قوله: وما صدت بكلبك المعلم المراد بالمعلم الذي إذا أغراه صاحبه على الصيد طلبه، وإذا زجره انزجر، وإذا أخذ الصيد حبسه على صاحبه، وفي اشتراط الثالث خلاف. واختلف متى يعلم ذلك منها؟ فقال البغوي في التهذيب: أقله ثلاث مرات. وعن أبي حنيفة وأحمد يكفي مرتين. وقال الرافعي: لا تقدير لاضطراب العرف واختلاف طباع الجوارح فصار المرجع إلى العرف. قوله: فذكرت اسم الله عليه فيه اشتراط التسمية وسيأتي الكلام عليه. (وأحاديث الباب) تدل على إباحة الصيد بالكلاب المعلمة، وإليه ذهب الجمهور من غير تقييد، واستثنى أحمد وإسحاق الاسود وقالا: لا يحل الصيد به لانه شيطان. ونقل عن الحسن وإبراهيم وقتادة نحو ذلك. قوله: فكل ما أمسك عليك فيه جواز أكل ما أمسكه الكلب بالشروط المذكورة في الاحاديث وهو مجمع عليه. قوله: ما لم يشركها كلب ليس معها فيه دليل على أنه لا يحل
[ 6 ]
أكل ما يشاركه كلب آخر في اصطياده، ومحله ما إذا استرسل بنفسه أو أرسله من ليس من أهل الذكاة، فإن تحقق أنه أرسله من هو من أهل الذكاة حل ثم ينظر، فإن كان إرسالهما معا فهو لهما وإلا فللاول، ويؤخذ ذلك من التعليل في قوله: فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره فإنه يفهم منه أن المرسل لو سمى على الكلب لحل ووقع في رواية بيان عن الشعبي: وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل فيؤخذ منه أنه لو وجده حيا وفيه حياة مستقرة فذكاه حل، لان الاعتماد في الاباحة على التذكية لا على إمساك الكلب، ويؤيده ما في حديث الباب: وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل. قوله: بالمعراض بكسر الميم وسكون المهملة وآخره معجمة. قال الخليل وتبعه جماعة: هو سهم لا ريش له ولا نصل. وقال ابن دريد وتبعه ابن سيده: هو سهم طويل له أربع قذذ رقاق فإذا رمي به اعترض. وقال الخطابي: المعراض نصل عريض له ثقل ورزانة، وقيل: عود رقيق الطرفين غليظ الوسط، وقيل: خشبة ثقيلة آخرها عصا محدد رأسها وقد لا يحدد، وقوى هذا الاخير النووي تبعا لعياض. وقال القرطبي: إنه المشهور، وقال ابن التين: المعراض عصا في طرفها حديدة يرمي بها الصائد فما أصاب بحده فهو ذكي فيؤكل، وما أصاب بغير حده فهو وقيذ. قوله: فخزق بفتح الخاء المعجمة والزاي بعدها قاف أي نفذ، يقال: سهم خازق أي نافذ، ويقال بالسين المهملة بدل الزاي، وقيل: الخزق بالزاي وقد تبدل سينا الخدش. قال في الفتح: وحاصله أن السهم وما في معناه إذا أصاب الصيد حل وكانت تلك ذكاته، وإذا أصاب بعرضه لم يحل لانه في معنى الخشبة الثقيلة أو الحجر ونحو ذلك من المثقل. قوله: بعرضه بفتح العين المهملة أي بغير طرفه المحدد، وهو حجة للجمهور في التفصيل المذكور. وعن الاوزاعي وغيره من فقهاء الشام يحل مطلقا، وسيأتي لهذا زيادة بسط إن شاء الله. قوله: ولم يأكل منه فيه دليل على تحريم ما أكل منه الكلب من الصيد ولو كان الكلب معلما، وقد علل في الحديث بالخوف من أنه إنما أمسك على نفسه، وهذا قول الجمهور، وقال مالك: وهو قول الشافعي في القديم، ونقل عن بعض الصحابة أنه يحل. واحتجوا بما ورد في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن أعرابيا يقال له أبو ثعلبة قال: يا رسول الله إن لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها، فقال: كل مما أمسك عليك وإن أكل منه أخرجه أبو داود. قال الحافظ: ولا بأس بإسناده،
[ 7 ]
وسيأتي هذا الحديث في الباب الذي بعد هذا. قال: وسلك الناس في الجمع بين الحديثين طرفا منها للقائلين بالتحريم. الاولى: حمل حديث الاعرابي على ما إذا قتله وخلاه ثم عاد فأكل منه. والثانية: الترجيح. فرواية عدي في الصحيحين ورواية الاعرابي في غير الصحيحين ومختلف في تضعيفها، وأيضا فرواية عدي صريحة مقرونة بالتعليل المناسب للتحريم وهو خوف الامساك على نفسه، متأيدة بأن الاصل في الميتة التحريم، فإذا شككنا في السبب المبيح رجعنا إلى الاصل ولظاهر القرآن أيضا وهو قوله تعالى: * (فكلوا مما أمسكن عليكم) * (المائدة: 4) فإن مقتضاها أن الذي تمسكه من غير إرسال لا يباح، ويتقوى أيضا بالشواهد من حديث ابن عباس عند أحمد: إذا أرسلت الكلب فأكل الصيد فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه، فإذا أرسلته فقتله ولم يأكل فكل فإنما أمسك على صاحبه وأخرجه البزار من وجه آخر عن ابن عباس وابن أبي شيبة من حديث أبي رافع نحوه بمعناه، ولو كان مجرد الامساك كافيا لما احتيج إلى زيادة عليكم في الآية. وأما القائلون بالاباحة فحملوا حديث عدي على كراهة التنزيه وحديث الاعرابي على بيان الجواز. قال بعضهم: ومناسبة ذلك أن عديا كان موسرا فاختير له الحمل على الاولى، بخلاف أبي ثعلبة فإنه كان بعكسه، ولا يخفى ضعف هذا التمسك مع التصريح بالتعليل في الحديث لخوف الامساك على نفسه. وقال ابن التين: قال بعض أصحابنا هو عام، فيحمل على الذي أدركه ميتا من شدة العدو أو من الصدمة فأكل منه لانه صار على صفة لا يتعلق بها الارسال والامساك على صاحبه. قال: ويحتمل أن يكون معنى قوله: فإن أكل فلا تأكل: أن لا يوجد منه غير الاكل دون إرسال الصائد له، وتكون هذه الجملة مقطوعة عما قبلها، ولا يخفى تعسف هذا وبعده وقال ابن القصار: مجرد إرسالنا الكلب إمساك علينا، لان الكلب لا نية له وإنما يتصيد بالتعليم، فإذا كان الاعتبار بأن يمسك علينا أو على نفسه واختلف الحكم في ذلك وجب أن يتميز ذلك بنية من له نية وهو مرسله، فإذا أرسله فقد أمسك عليه، وإذا لم يرسله فلم يمسك عليه. كذا قال. ولا يخفى بعده ومصادمته لسياق الحديث. وقد قال الجمهور: إن معنى قوله: أمسكن عليكم صدن لكم، وقد جعل الشارع أكله منه علامة على أنه أمسك لنفسه لا لصاحبه فلا يعدل عن ذلك. وقد وقع في رواية لابن أبي شيبة: إن شرب من دمه فلا تأكل فإنه لم يعلم ما علمته، وفي هذا إشارة إلى أنه إذا شرع في أكله دل على أنه ليس يعلم التعليم المشترط، وسلك
[ 8 ]
بعض المالكية الترجيح فقال: هذه القطعة ذكرها الشعبي ولم يذكرها همام، وعارضها حديث الاعرابي المعروف بأبي ثعلبة. قال الحافظ: وهذا ترجيح مردود لما تقدم وتمسك بعضهم بأن الاجماع على جواز أكله إذا أخذه الكلب بفيه وهم بأكله فأدركه قبل أن يأكل منه يدل على أنه يحل ما أكل منه، لان تناوله بفيه وشروعه في أكله مثل الاكل، في أن كل واحد منهما يدل على أنه إنما أمسكه على نفسه. قوله: فإن أخذ الكلب ذكاة فيه دليل على أن إمساك الكلب للصيد بمنزلة التذكية إذا لم يدركه الصائد إلا بعد الموت، لا إذا أدركه قبل الموت، فالتذكية واجبة لقوله في الحديث: فإن أدركته حيا فاذبحه. قوله: فكل ما أمسك عليك استدل به على أنه لو أرسل كلبه على صيد فاصطاد غيره حل للعموم الذي في قوله: ما أمسك عليك وهذا قول الجمهور. وقال مالك: لا يحل وهو رواية البويطي عن الشافعي. باب ما جافيما إذا أكل الكلب من الصيد عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه متفق عليه. وعن إبراهيم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أرسلت الكلب فأكل من الصيد فلا تأكل فإنما أمسكه على نفسه، فإذا أرسلته فقتل ولم يأكل فكل فإنما أمسكه على صاحبه رواه أحمد. وعن أبي ثعلبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صيد الكلب: إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه، وكل ما ردت عليك يدك رواه أبو داود. وعن عبد الله بن عمرو: أن أبا ثعلبة الخشني قال: يا رسول الله إن لي كلابا مكلبة فأفتني في صيدها قال: إن كانت لك كلاب مكلبة فكل مما أمسكت عليك، فقال: يا رسول الله ذكي وغير ذكي؟ قال: ذكي وغير ذكي. قال: وإن أكل منه؟ قال: وإن أكل منه، قال: يا رسول الله أفتني في قوسي، قال: كل مما أمسك عليك قوسك، قال: ذكي وغير
[ 9 ]
ذكي؟ قال: ذكي وغير ذكي، قال: فإن تغيب عني، قال: وإن تغيب عنك ما لم يصل يعني يتغير أو تجد فيه أثر غير سهمك رواه أحمد وأبو داود. حديث ابن عباس قد تقدم في الباب الذي قبل هذا ذكر طرقه وما يشهد له. وحديث أبي ثعلبة الاول قد تقدم أن الحافظ قال: لا بأس بإسناده انتهى. وفي إسناده داود بن عمرو الاودي الدمشقي عامل واسط، قال أحمد بن عبد الله العجلي ليس بالقوي وقال أبو زرعة الرازي: هو شيخ. وقال يحيى بن معين: ثقة. وقال أبو زرعة: لا بأس به. وقال ابن عدي: لا أرى برواياته بأسا. قال ابن كثير: وقد طعن في حديث أبي ثعلبة وأجيب بأنه صحيح لا شك فيه، على أنه قد روى الثوري عن سماك بن حرب عن عدي عنه صلى الله عليه وآله وسلم مثل حديث أبي ثعلبة: إذا كان الكلب ضاريا وروى عبد الملك بن حبيب: حدثنا أسد بن موسى عم أبي زائدة عن الشعبي عن عدي بمثله: فوجب حمل حديث عدي يعني على نحو ما تقدم في الباب الاول، وحديث أبي ثعلبة الثاني أخرجه أيضا النسائي وابن ماجة وأعله البيهقي، وقد تقدم الكلام على حديث ابن عمر وابن شعيب عن أبيه عن جده. قوله: إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل قد تقدم البحث عن هذا وما عارضه من حديث أبي ثعلبة المذكور مبسوطا في الباب الذي قبل هذا فليرجع إليه. قوله: وكل ما ردت عليك يدك أي كل ما صدته بيدك لا بشئ من الجوارح ونحوها. قوله: كلابا مكلبة يحتمل أن يكون مشتقا من الكلب بسكون اللام اسم العين، فيكون حجة لمن خص ما صاده الكلب بالحل إذا وجد ميتا دون ما عداه من الجوارح، كما قيل في قوله تعالى: * (مكلبين) * (المائدة: 4) ويحتمل أن يكون مشتقا من الكلب بفتح العين وهو مصدر بمعنى التكليب وهو التضرية، ويقوي هذا عموم قوله * (من الجوارح مكلبين) *، فإن الجوارح المراد بها الكواسب على أهلها وهو عام. قوله: ذكي وغير ذكي فيه دليل على أنه يحل ما وجد ميتا من صيد الكلاب المعلمة وهو مجمع عليه فيما عدا الكلب الاسود كما تقدم. واختلف العلماء فيما عداه من السباع كالفهد والنمر وغيرهما وكذلك الطيور، فذهب مالك إلى أنها مثل الكلاب، وحكاه ابن شعبان عن فقهاء الامصار، وهو مروي عن ابن عباس. وقال جماعة ومنهم مجاهد: لا يحل ما صادوه غير الكلب إلا بشرط إدراك ذكاته. وبعضهم خص البازي بحل
[ 10 ]
ما قتله لحديث ابن عباس المتقدم في الباب الاول. قوله: وإن تغيب عنك سيأتي الكلام عليه. قوله: ما لم يصل بفتح حرف المضارعة وكسر الصاد المهملة وتشديد اللام أي يتغير. قوله: أو تجد فيه أثر غير سهمك سيأتي أيضا الكلام عليه إن شاء الله تعالى. باب وجوب التسمية [ رح 3609 ] عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله إني أرسل كلبي وأسمي، قال: إن أرسلت كلبك وسميت فأخذ فقتل فكل، وإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه، قلت: إني أرسل كلبي أجد معه كلبا آخر لا أدري أيهما أخذه، قال: فلا تأكل فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره. وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، فإن وجدت مع كلبك كلبا غيره وقد قتل فلا تأكل فإنك لا تدري أيهما قتله متفق عليهما، وهو دليل على أنه إذا أوحاه أحدهما وعلم بعينه فالحكم له لانه قد علم أنه قاتله. قوله: وسميت استدل به على مشروعية التسمية وهو مجمع على ذلك، إنما الخلاف في كونها شرطا في حل الاكل، فذهب أبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإليه ذهبت القاسمية والناصر والثوري والحسن بن صالح إلى أنها شرط. وذهب ابن عباس وأبو هريرة وطاوس والشافعي وهو مروي عن مالك وأحمد إلى أنها سنة، فمن تركها عندهم عمدا أو سهوا لم يقدح في حل الاكل. ومن أدلة القائلين بأن التسمية شرط قوله تعالى: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) * (الانعام: 121) فهذه الآية فيها النهي عن أكل ما لم يسم عليه. وفي حديث الباب إيقاف الاذن في الاكل عليها، والمعلق بالوصف ينتفي عند انتفائه عند من يقول بالمفهوم، والشرط أقوى من الوصف، ويتأكد القول بالوجوب بأن الاصل تحريم الميتة، وما أذن فيه منها تراعى صفته، فالمسمى عليها وافق الوصف، وغير المسمى باق على أصل التحريم. واختلقوا إذا تركها ناسيا، فعند أبي حنيفة ومالك والثوري وجماهير العلماء، ومنهم القاسمية والناصر أن الشرطية إنما هي في حق الذاكر، فيجوز أكل ما تركت التسمية عليه سهوا لا عمدا. وذهب داود والشعبي وهو مروي عن مالك
[ 11 ]
وأبي ثور أنها شرط مطلقا لان الادلة لم تفصل واختلف الاولون في العمد هل يحرم الصيد ونحوه أم يكره؟ فعند الحنفية يحرم. وعند الشافعية في العمد ثلاثة أوجه أصحها يكره الاكل. وقيل: خلاف الاولى وقيل: يأثم بالترك ولا يحرم الاكل. والمشهور عن أحمد التفرقة بين الصيد والذبيحة، فذهب في الذبيحة إلى هذا القول الثالث. وحجة القائلين بعدم وجوب التسمية مطلقا ما سيأتي في باب الذبح إن شاء الله تعالى. قوله: فإن وجدت مع كلبك الخ، فيه دليل على أن من وجد الصيد ميتا ومع كلبه كلب آخر وحصل اللبس عليه أيهما القاتل له أنه لا يحل الصيد لانه لم يسم إلا على كلبه، بخلاف ما لو وجده حيا فإنه يذكيه ويحل أكله بالتذكية. وسيأتي الخلاف في الصيد إذا غاب، وسبب الاختلاف حصول اللبس المذكور هنا. قوله: على أنه أوحاه بالحاء المهملة بمعنى أنهاه إلى حركة المذبوح وليس لاوجاه بالجيم هنا معنى. باب الصيد بالقوس وحكم الرمية إذا غابت أو وقعت في ماء عن عدي قال: قلت: يا رسول الله إنا قوم نرمي فما يحل لنا؟ قال: يحل لكم ما ذكيتم وما ذكرتم اسم الله عليه وحزقتم فكلوا منه رواه أحمد، وهو دليل على أن ما قتله السهم بثقله لا يحل. وعن أبي ثعلبة الخشني: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا رميت سهمك فغاب ثلاثة أيام وأدركته فكله ما لم ينتن رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. وعن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الصيد قال: إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله، فإن وجدته قد قتل فكل إلا أن تجده قد وقع في ماء فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك متفق عليه، وهو دليل على أن السهم إذا أوحاه أبيح لانه قد علم أن سهمه قتله. وعن عدي: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل وإن وقع في الماء فلا تأكل رواه أحمد والبخاري. وفي رواية: إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله، فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل رواه مسلم والنسائي. وفي رواية أنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنا نرمي الصيد فنقتفي أثره اليومين والثلاثة ثم نجده ميتا وفيه سهمه، قال: يأكل إن شاء رواه البخاري. وفي رواية قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلت: إن أرضنا أرض صيد فيرمي أحدنا الصيد فيغيب عنه
[ 12 ]
ليلة أليلتين فيجده وفيه سهمه، قال: إذا وجدت سهمك ولم تجد فيه أثر غيره وعلمت أن سهمك قتله فكله رواه أحمد والنسائي. وفي رواية قال قلت: يا رسول الله أرمي الصيد فأجد فيه سهمي من الغد، قال: إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثر سبع فكل رواه الترمذي وصححه. حديث عدي الاول له طرق هذه أحدها وقد تقدم بعضها والرواية الاخرى من حديث عدي أخرجها أيضا أبو داود. قوله: يحل لكم ما ذكيتم وما ذكرتم اسم الله عليه فيه دليل على أن التسمية واجبة لتعليق الحل عليها، وقد تقدم الخلاف في ذلك، وسيأتي له مزيد. قوله: فكله ما لم ينتن جعل للغاية أن ينتن الصيد، فلو وجده في دونها مثلا بعد ثلاث ولم ينتن حل، فلو وجده دونه وقد أنتن فلا، هذا ظاهر الحديث. وأجاب النووي بأن النهي عن أكله إذا أنتن للتنزيه، وظاهر الحديث التحريم، ولكنه سيأتي في باب ما جاء في السمك أن الحبيش أكلوا من الحوت التي ألقاها البحر نصف شهر، وأهدوا عند قدومهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم منه فأكله، واللحم لا يبقى في الغالب مثل هذه المدة بلا نتن لاسيما في الحجاز مع شدة الحر، فلعل هذا الحديث هو الذي استدل به النووي على كراهة التنزيه، ولكنه يحتمل أن يكونوا ملحوه وقددوه فلم يدخله النتن. وقد حرمت المالكية المنتن مطلقا وهو الظاهر. قوله: إلا أن تجده قد وقع في ماء وجهه أنه يحصل حينئذ التردد هل قتله السهم أو الغرق في الماء؟ فلو تحقق أن السهم أصابه فمات فلم يقع في الماء إلا بعد أن قتله السهم حل أكله. قال النووي في شرح مسلم: إذ وجد الصيد في الماء غريقا حرم بالاتفاق انتهى. وقد صرح الرافعي بأن محله ما لم ينته الصيد بتلك الجراحة إلى حركة المذبوح، فإن انتهى إليها كقطع الحلقوم مثلا فقد تمت ذكاته، ويؤيده ما قاله بعد ذلك: فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك فدل على أنه إذا علم أن سهمه هو الذي قتله أنه يحل. قوله: إذا أوحاه قد تقدم ضبطه وتفسيره في الباب الذي قبل هذا. قوله: ليس به إلا أثر سهمك مفهومه أنه إن وجد فيه أثر غير سهمه لا يؤكل، وهو نظير ما تقدم في الكلب من التفصيل فيما إذا خالط الكلب الذي أرسله الصائد كلب آخر، لكن التفصيل في مسألة الكلب فيما إذا شارك الكلب في قتله كلب آخر، وهنا الاثر الذي يوجد فيه من غير سهم الرامي أعم من أن يكون أثر سهم رام آخر، أو
[ 13 ]
غير ذلك من الاسباب القاتلة فلا يحل أكله مع التردد، وقد جاءت فيه زيادة كما في الرواية الآخرة في الباب بلفظ: ولم تر فيه أثر سبع قال الرافعي: يؤخذ منه أنه لو جرحه ثم غاب ثم وجده ميتا أنه لا يحل وهو ظاهر نص الشافعي في المختصر. وقال النووي: الحل أصح دليلا. وحكى البيهقي في المعرفة عن الشافعي أنه قال في قول ابن عباس: كل ما أصميت ودع ما أنميت معنى ما أصميت ما قتله الكلب وأنت تراه، وما أنميت ما غاب عنك مقتله، قال: وهذا لا يجوز عندي غيره إلا أن يكون جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه شئ، فيسقط كل شئ خالف أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يقوم معه رأي ولا قياس. قال البيهقي: وقد ثبت الخبر يعني المذكور في الباب فينبغي أن يكون هو قول الشافعي. وقد استدل بما في الباب على أن الرمي لو أخر طلب الصيد عقب الرمي إلى أن يجده أنه يحل بالشروط المتقدمة ولا يحتاج إلى استفصال عن سبب غيبته عنه. قوله: فيقتفي أثره بفاء ثم مثناة تحتية ثم قاف ثم مثناة فوقية ثم فاء. أي يتبع قفاه حتى يتمكن منه. قوله: اليومين والثلاثة فيه زيادة على الرواية التي قبلها وهي قوله: بعد يوم أو يومين وفي الرواية الآخرة: فيغيب عنه الليلة والليلتين. باب النهي عن الرمي بالبندق وما في معناه عن عبد الله بن المغفل: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الخذف وقال: إنها لا تصيد صيدا ولا تنكأ عدوا ولكنها تكسر السن وتفقأ العين متفق عليه. [ رح 3618 ] وعن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قتل عصفورا بغير حقه سأله الله عنه يوم القيامة، قيل: يا رسوالله وما حقه؟ قال: أن تذبحه ولا تأخذ بعنقه فتقطعه رواه أحمد والنسائي. وعن إبراهيم عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا رميت فسميت فخزقت فكل، وإن لم تخزق فلا تأكل، ولا تأكل من المعراض إلا ما ذكيت، ولا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت رواه أحمد وهو مرسل، إبراهيم لم يلق عديا.
[ 14 ]
حديث عبد الله بن عمرو أخرجه أيضا الحاكم وصححه، وأعله ابن القطان بصهيب مولى ابن عباس الراوي عن عبد الله فقال: لا يعرف حاله، وله طريق أخرى عند الشافع وأحمد والنسائي وابن حبان عن عمرو بن الشريد عن أبيه مرفوعا: من قتل عصفور عبثا عج إلى الله يوم القيامة يقول يا رب إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني منفعة وقد تقدم ذكر هذا الحديث. وحديث عدي المذكور في الباب وإن كان مرسلا كما ذكره لكن معناه صحيح ثابت عن عدي في الصحيحين كما تقدم. قوله: نهى عن الخذف بالخاء المعجمة وآخره فاء وهو الرمي بحصاة أو نواة بين سبابتيه، أو بين الابهام والسبابة، أو على ظاهر الوسطى وباطن الابهام وقال ابن فارس: حذفت الحصاة رميتها بين أصبعيك، وقيل في حصى الخذف أن تجعل الحصاة بين السبابة من اليمنى والابهام من اليسرى ثم تقذفها بالسبابة من اليمنى. وقال ابن سيده: خذف بالشئ يخذف، قال: والمخذفة التي يوضع فيها الحجر ويرمى بها الطير، ويطلق على المقلاع أيضا قاله في الصحاح، والمراد بالبندقة المذكورة في ترجمة الباب هي التي تتخذ من طين وتيبس فيرمى بها. قال ابن عمر في المقتولة بالبندقة تلك الموقوذة، وكرهه سالم والقاسم ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن، كذا في البخاري وأخرج ابن أبي شيبة عن سالم بن عبد الله بن عمر والقاسم بن محمد بن أبي بكر أنهما كانا يكرهان البندقة إلا ما أدركت ذكاته. قوله: إنها لا تصيد صيدا قال المهلب: أباح الله الصيد على صفة فقال: * (تناله أيديكم ورماحكم) * (المائدة: 94) وليس الرمي بالبندقة ونحوها من ذلك وإنما هو وقيذ. وأطلق الشارع أن الخذف لا يصاد به، وقد اتفق العلماء إلا من شذ منهم على تحريم أكل ما قتلته البندقة والحجر، وإنما كان كذلك لانه يقتل الصيد بقوة راميه لا بحده كذا في الفتح. قوله: ولا تنكأ عدوا قال عياض الرواية بفتح الكاف وبهمزة في آخره وهي لغة، والاشهر بكسر الكاف بغير همزة، وقال في شرح مسلم: لا تنكأ بفتح الكاف مهموزا، وروي لاتنكي بكسر الكاف وسكون التحتانية وهو أوجه لان المهموز نكأت القرحة، وليس هذا موضعه فإنه من النكاية، لكن قال في العين نكأه لغة في نكيت، فعلى هذا تتوجه هذه الرواية، قال: ومعناه المبالغة في الاذى. وقال ابن سيده: نكى العدو نكاية أصاب منه، ثم قال: نكأت العدو أنكؤهم لغة في نكيتهم، فظهر أن الرواية صحيحة، ولا معنى
[ 15 ]
لتخطئتها، وأغرب ابن التين فلم يعرج على الرواية التي بالهمز أصلا، بل شرحه على التي بكسر الكاف بغير همز ثم قال: ونكأت القرحة بالهمز. قوله: ولكنها تكسر السن أي الرمية، وأطلق السن ليشمل سن المرمى وغيره من آدمي وغيره. قوله: وتفقأ العين قد تقدم ضبطه وتفسيره وأطلق العين لما ذكرنا في السن. قوله: بغير حقه فيه دليل على تحريم قتل العصفور وما شاكله لمجرد العبث وعلى غير الهيئة المذكورة، ولان تعذيب الحيوان قد ورد النهي عنه في غير حديث. قوله: فخزقت فكل فيه أن الخزق شرط الحل وقد تقدم، وكذلك تقدم الكلام على المعراض. باب الذبح وما يجب له وما يستحب عن الامام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن الله من آوى محدثا، ولعن الله من لعن والديه، ولعن الله من غير تخوم الار ض رواه أحمد ومسلم والنسائي. وعن عائشة: أن قوما قالوا: يا رسول الله إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: سموا عليه أنتم وكلوا، قال: وكانوا حديثي عهد بالكفر رواه البخاري والنسائي وابن ماجة، وهو دليل على أن التصرفات والافعال تحمل على حال الصحة والسلامة إلى أن يقوم دليل الفساد. وعن ابن كعب بن مالك عن أبيه: أنه كانت لهم غنم ترعى بسلع فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتا فكسرت حجرا فذبحتها به فقال لهم: لا تأكلوا حتى أسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أرسل إليه من يسأله عن ذلك، وأنه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك أو أرسل إليه فأمره بأكلها رواه أحمد والبخاري قال: وقال عبيد الله: يعجبني أنها أمة وأنها ذبحت بحجر. [ رح 3623 ] وعنزيد بن ثابت: أن ذئبا نيب في شاة فذبحوها بمروة فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أكلها رواه أحمد والنسائي وابن ماجة. [ رح 3624 ] وعنعدي بن حاتم قال: قلت يا رسول الله إنا نصيد الصيد فلا نجد سكينا إلا الظرار وشقة العصا، فقال صلى الله
[ 16 ]
عليه وآله وسلم: أمر الدم بما شئت واذكر اسم الله عليه رواه الخمسة إلا الترمذي. حديث زيد بن ثابت رجاله رجال الصحيح إلا حاضر بن المهاجه فقيل: هو مجهول وقيل مقبول. وقد أخرج معناه أحمد والبزار والطبراني في الاوسط عن ابن عمر بإسناد صحيح. وحديث عدي بن حاتم أخرجه أيضا الحاكم وابن حبان ومداره على سماك بن حرب عن مري بن قطري عنه. قوله: لعن الله من ذبح لغير الله المراد به أن يذبح لغير الله تعالى، كمن ذبح للصنم أو الصليب أو لموسى أولعيسى عليهما السلام أو للكعبة ونحو ذلك فكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة سواكان الذابح مسلما أو كافرا. وإليه ذهب الشافعي وأصحابه، فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله تعالى والعبادة له كان ذلك كفرا، فإن كان الذابح مسلما قبل ذلك صار بالذبح مرتدا. وذكر الشيخ إبراهيم المروزي من أصحاب الشافعي أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه لانه مما أهل به لغير الله. قال الرافعي: هذا إنما يذبحونه استبشارا بقدومه، فهو كذبح العقيقة لولادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: محدثا بكسر الدال هو من يأتي لما فيه فساد في الارض من جناية على غيره أو غير ذلك، والمؤوي له المانع له من القصاص ونحوه. ولعن الوالدين من الكبائر وتخوم الارض بالتاء المثناة من فوق والخاء المعجمة وهي الحدود والمعالم وظاهره العموم في جميع الار ض، وقيل معالم الحرم خاصة، وقيل في الاملاك، وقيل أراد المعالم التي يهتدى بها في الطرقات. قوله: أن قوما قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في الفتح: لم أقف على تعيينهم. قوله: فقال سموا عليه أنتم قال المهلب: هذا الحديث أصل في أن التسمية ليست فرضا، فلما نابت تسميتهم عن التسمية على الذبح دل على أنها سنة لان السنة لا تنوب عن فرض، هذا على أن الامر في حديث عدي وابن ثعلبة محمول على التنزيه من أجل أنهما كانا يصيدان على مذهب الجاهلية، فعلمهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر الصيد والذبح فرضه ومندوبه لئلا يوافقا شبهة في ذلك، وليأخذا بأكمل الامور. وأما الذين سألوا عن هذه الذبائح فإنهم سألوا عن أمر قوقع لغيرهم فعرفهم بأصل الحل فيه. وقال ابن التين: يحتمل أن يراد التسمية
[ 17 ]
هنا عند الاكل، وبذلك جزم النووي. قال ابن التين: وأما التسمية على ذبح تولاه غيرهم فلا تكليف عليهم فيه. وإنما يحمل على غير الصحة إذا تبين خلافها. ويحتمل أن يريد أن تسميتكم الآن تستبيحون بها كل ما لم تعلموا اذكروا اسم الله عليه أم لا إذا كان الذابح ممن تصح ذبيحته إذا سمى، ويستفاد منه أن كل ما يوجد في أسواق المسلمين محمول على الصحة، وكذا ما ذبحه أعراب المسلمين، لان الغالب أنهم عرفوا التسمية، وبهذا الاخير جزم ابن عبد البر فقال: إن ما ذبحه المسلم يؤكل، ويحمل على أنه سمى لان المسلم لا يظن به في كل شئ إلا الخير حتى يتبين خلاف ذلك، وعكس هذا الخطابي فقال فيه دليل على أن التسمية غير شرط على الذبيحة، لانها لو كانت شرطا لم تستبح الذبيحة بالامر المشكوك فيه، كما لو عرض الشك في نفس الذبيحة، فلم يعلم هل وقت الذكاة المعتبرة أم لا؟ وهذا هو المتبادر من سياق الحديث حيث وقع الجواب فيه: سموا أنتم، كأنه قيل لهم: لا تهتموا بذلك بل الذي يهمكم أنتم أن تذكروا اسم الله وتأكلوا، وهذا من الاسلوب الحكيم، كما نبه عليه الطيبي ومما يدل على عدم الاشتراط قوله تعالى: * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) * (المائدة: 5) فأباح الاكل من ذبائحهم مع وجود الشك في أنهم سموا أم لا. قوله: وكانوا حديثي عهد بالكفر في رواية لمالك: وذلك في أوائل الاسلام، وقد تعلق بهذه الزيادة قوم فزعموا أن هذا الجواب كان قبل نزول قوله تعالى: * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) * (الانعام: 121) قال ابن عبد البر: وهو تعلق ضعيف. وفي الحديث نفسه ما يرده لانه أمرهم فيه بالتسمية عند الاكل، فدل على أن الآية كانت نزلت بالامر بالتسمية، وأيضا فقد اتفقوا على أن الانعام مكية، وأن هذه القصة جرت بالمدينة، وأن الاعراب المشار إليهم في الحديث هم بادية أهل المدينة. قوله: جارية في رواية أمة، وفي رواية: امرأة، ولا تنافي بين الروايات، لان الرواية الاخيرة أعم، فيؤخذ بقول من زاد في روايته صفة وهي كونها أمة. قوله: فأمره بأكلها فيه دليل على أنها تحل ذبيحة المرأة وإليه ذهب الجمهور. وقد نقل محمد بن عبد الحكم عن مالك كراهته. وفي المدونة جوازه وفي وجه للشافعية: يكره ذبح المرأة الاضحية وعند سعيد بن منصور بسند صحيح عن إبراهيم النخعي أنه قال في ذبيحة المرأة والصبي: لا بأس إذا أطاق الذبيحة وحفظ التسمية. وفيه جواز ما ذبح بغير إذن مالكه، وإليه ذهب الجمهور
[ 18 ]
، وخالف في ذلك طاوس وعكرمة وإسحاق وأهل الظاهر، وإليه جنح البخاري، ويدل لما ذهبوا إليه ما أخرجه أحمد وأبو داود بسند قوي من طريق عاصم بن كليب عن أبيه في قصة الشاة التي ذبحتها المرأة بغير إذن صاحبها، فامتنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أكلها لكنه قال: أطعموها الاساري، ولو لم تكن مذكاة لما أمر بإطعام الاساري لانه لا يبيح لهم إلا ما يحل. قوله: فذبحوها بمروة أي بحجر أبيض، وقيل هو الذي تقدح منه النار. قوله: إلا الظرار بالمعجمة بعدها راآن مهملتان بينهما ألف جمع ظرر وهي الحجارة كذا في النهاية. قال في القاموس: الظر بالكسر والظرر والظررة الحجر أو المدور المحدد منه، الجمع ظرار وظرار، قال والمظرة بالكسر الحجر تقدح به النار، وبالفتح كسر الحجر ذي الحد. وقوله: وشقة العصا بكسر الشين المعجمة أي ما يشق منها ويكون مجددا. قوله: أمر الدم بفتح الهمزة وكسر الميم وبالراء مخففة من أمار الشئ، ومار إذا جرى، وبكسر الهمزة وسكون الميم من مري الضرع إذا مسحه ليدر. قال الخطابي: المحدثون يروونه بتشديد الراء وهو خطأ، إنما هو بتخفيفها من مريت الناقة إذا حلبتها، قال ابن الاثير: ويروى أمرر براءين مظهرين من غير إدغام، وكذا في التلخيص أنه براءين مهملتين الاولى مكسورة ثم نقل كلام الخطابي قال: وأجيب بأن التثقيل لكونه أدغم أحد الراءين في الاخرى على الرواية الاولى. وعن رافع بن خديج قال: قلت: يا رسول الله إنا نلقى العدو غدا وليس معنا مدى، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا ما لم يكن سنا أو ظفرا، وسأحدثكم عن ذلك، أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة رواه الجماعة. وعن شداد بن أو س عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله كتب الاحسان على كل شئ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة. وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر أن تحد الشفار وأن توارى عن البهائم وقال: إذا ذبح أحدكم فليجهز رواه أحمد وابن ماجة. وعن أبي هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بديل بن ورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى: ألا إن الذكاة في الحلق واللبة، ولا تعجلوا الانفس أن تزهق، وأيام منى أيام أكل وشر ب وبعال رواه الدارقطني.
[ 19 ]
حديث ابن عمر في إسناده عند ابن ماجة ابن لهيعة وفيه مقال معروف ويشهد له الحديث الذي قبله. وحديث أبي هريرة في إسناده سعيد بن سلام العطار قال أحمد: كذاب، وقد تقدم ما يشهد له في صلاة العيد. قوله: إنا نلقى العدو غدا لعله عرف ذلك بخبر أو بقرينة. قوله: وليس معنا مدى بضم الميم مخفف مقصور جمع مدية بسكون الدال بعدها تحتانية وهي السكين، سميت بذلك لانها تقطع مدى الحيوان أي عمره، والرابط بين قوله: نلقى العدو وليس معنا مدى، يحتمل أن يكون مراده أنهم إذا لقوا العدو صاروا بصدد أن يغنموا منهم ما يذبحونه، ويحتمل أن يكون مراده أنهم يحتاجون إلى ذبح ما يأكلونه ليتقووا به على العدو إذا لقوه. قوله: ما أنهر الدم أي أساله وصبه بكثرة شبهه بجري الماء في النهر، قال عياض: هذا هو المشهور في الروايات بالراء، وذكره أبو ذر بالزاي وقال: النهز بمعنى الدفع وهو غريب، وما موصولة في موضع رفع بالابتداء وخبرها فكلوا والتقدير: ما أنهر الدم فهو حلال فكلوا، ويحتمل أن تكون شرطية. ووقع في رواية إسحاق عن الثوري: كل ما أنهر الدم ذكاة وما في هذا موصوفة. قوله: وذكر اسم الله عليه فيه دليل على اشتراط التسمية لانه علق الاذن بمجموع الامرين وهما الانهار والتسمية، والمعلق على شيئين لا يكتفي فيه إلا باجتماعهما وينتفي بانتفاء أحدهما، وقد تقدم الكلام على ذلك. قوله: وسأحدثكم اختلف في هذا هل هو من جملة المرفوع أو مدرج؟ قوله: أما السن فعظم. قال البيضاوي: هو قياس حذفت منه المقدمة الثانية لشهرتها عندهم والتقدير: أما السن فعظم وكل عظم لا يحل الذبح به، وطوى النتيجة لدلالة الاستثناء عليها. وقال ابن الصلاح في مشكل الوسيط: هذا يدل على أنه عليه السلام كان قد قرر كون الذكاة لا تحصل بالعظم فلذلك اقتصر على قوله: فعظم قال: ولم أر بعد البحث من نقل للمنع من الذبح بالعظم معنى يعقل، وكذا وقع في كلام ابن عبد السلام. وقال النووي: معنى الحديث لا تذبحوا بالعظام فإنها تنجس بالدم وقد نهيتم عن تنجيسها لانها زاد إخوانكم من الجن وقال ابن الجوزي في المشكل: هذا يدل على أن الذبح بالعظم كان معهودا عندهم أنه لا يجزى وقررهم الشارع على ذلك. قوله: وأما الظفر فمدى الحبشة أي وهم كفار وقد نهيتم عن التشبه بهم قاله ابن الصلاح وتبعه النووي. وقيل: نهى عنهما لان الذبح بهما تعذيب للحيوان ولا يقع
[ 20 ]
به غالبا إلا الخنق الذي هو على صورة الذبح. واعترض على الاول بأنه لو كان كذلك لامتنع الذبح بالسكين وسائر ما يذبح به الكفار وأجيب بأن الذبح بالسكين هو الاصل. وأما ما يلتحق بها فهو الذي يعتبر فيه التشبه، ومن ثم كانوا يسألون عن جواز الذبح بغير السكين. وروي عن الشافعي أنقال: السن، إنما يذكى بها إذا كانت منتزعة، فأما وهي ثابتة فلو ذبح بها لكانت منخنقة، يعني فدل على عدم جواز التذكية بالسن المنتزعة، بخلاف ما نقل عن الحنفية من جوازه بالسن المنفصلة. قال: وأما الظفر فلو كان المراد به ظفر الانسان لقال فيه ما قال في السن، لكن الظاهر أنه أراد به الظفر الذي هو طيب من بلاد الحبشة وهو لا يقوى فيكون في معنى الخنق. قوله: فأحسنوا القتلة بكسر القافوهي الهيئة والحالة. قوله: فأحسنوا الذبح قال النووي في شرح مسلم: وقع في كثير من النسخ أو أكثرها فأحسنوا الذبح بفتح الذال بغير هاء، وفي بعضها الذبحة بكسر الذال وبالهاء كالقتلة وهي الهيئة والحالة. قوله: وليحد بضم الياء يقال: أحد السكين وحددها واستحدها بمعنى وليرح ذبيحته بإحداد السكين وتعجيل إمرارها وغير ذلك. قوله: وأن توارى عن البهائم قال النووي: ويستحب أن لا يحدد السكين بحضرة الذبيحة، وأن لا يذبح واحدة بحضرة أخرى، ولا يجرها إلى مذبحها. قوله: فليجهز بالجيم والزاي أي يسرع في الذبح. قوله: واللبة هي المنحر من البهائم وهي بفتح اللام وتشديد الموحدة. قوله: ولا تعجلوا الانفس أن تزهق بالزاي أي لا تسرعوا في شئ من الاعمال المتعلقة بالذبيحة قبل أن تموت. وعنابن عباس وأبي هريرة قالا: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن شريطة الشيطان وهي التي تذبح فيقطع الجلد ولا تفرى الاوداج رواه أبو داود. وعن أسماء ابنة أبي بكر قالت: نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرسا فأكلناه متفق عليه. وعن أبي العشراء عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة؟ قال: لو طعنت في فخذها لاجزأك رواه الخمسة وهذا فيما لم يقدر عليه. وعن رافع بن خديج قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فند بعير من إبل القوم ولم يكن معهم خيل فرماه رجل بسهم فحبسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
[ 21 ]
إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما فعل منها هذا فافعلوا به هكذا رواه الجماعة. حديث ابن عباس وأبي هريرة قال المنذري: في إسناده عمرو بن عبد الله الصنعاني وقد تكلم فيه غير واحد. وحديث أبي العشراء قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، ولا يعرف لابي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث. قال الخطابي: وضعفوا هذا الحديث لان رواته مجهولون، وأبو العشراء لا يدري من أبوه ولم يرو عنه غير حماد بن سلمة. قال في التلخيص: وقد تفرد حماد بن سلمة بالرواية عنه يعني أبا العشراء على الصحيح وهولا يعرف حاله. قوله: عن شريطة الشيطان أي ذبيحته وهي المذكورة في الحديث، والتفسير ليس من الحديث بل زيادة رواها الحسن بن عيسى أحد رواته كما صرح به أبو داود في السنن، قال في النهاية: شريطة الشيطان قيل هي الذبيحة التي لا يقطع أوداجها ولا يستقصى ذبحها وهو من شرط الحجام، وكان أهل الجاهلية يقطعون بعض حلقها ويتركونها حتى تموت، وإنما أضافها إلى الشيطان لانه هو الذي حملهم على ذلك وحسن هذا الفعل لديهم وسوله لهم انتهى. قوله: عن أبي العشراء بضم العين المهملة وفتح الشين المعجمة قال أبو داود: واسمه عطارد بن بكرة، ويقال ابن قهطم، ويقال اسمه عطارد بن مالك بن قهطم. قوله: لو طعنت في فخذها الخ، قال أهل العلم بالحديث: هذا عند الضرورة كالتردي في البئر وأشباهه. وقال أبو داود بعد إخراجه: هذا لا يصح إلا في المتردية والنافرة والمتوحشة. قوله: نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرسا فيه أن النحر يجزئ في الخيل كما يجزئ في الابل. قال ابن التين: الاصل في الابل النحر، وفي الشاة ونحوها الذبح، وأما البقر فجاء في القرآن ذكر ذبحها، وفي السنة ذكر نحرها، واختلف في ذبح ما ينحر ونحر ما يذبح، فأجازه الجمهور ومنع منه ابن القاسم. قوله: فند بعير أي نفروهو بفتح النون وتشديد الدال. قوله: فحبسه أي أصابه السهم فوقف. قوله: أوابد جمع آبدة بالمد وكسر الموحدة أي غريبة، يقال: جاء فلان بآبدة أي بكلمة أو فعلة منفرة، يقال: أبدت بفتح الموحدة تأبد بضمها ويجوز الكسر، ويقال: تأبدت أي توحشت، والمراد أن لها توحشا (وفي الحديث) جواز أكل ما رمي بالسهم فجرى في أي موضع
[ 22 ]
كان من جسده بشرط أن يكون وحشيا أو متوحشا، وإليه ذهب الجمهور. وروي عن مالك والليث وسعيد بن المسيب وربيعة أنه لا يحل الاكل لما توحش إلا بتذكية في حلقه أو لبته. باب ذكاة الجنين بذكاة أمه عن أبي سعيد: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في الجنين: ذكاته ذكاة أمه رواه أحمد والترمذي وابن ماجة. وفي رواية: قلنا يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة في بطنها الجنين أنلقيه أم نأكل؟ قال: كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه رواه أحمد وأبو داود. الحديث أخرجه أيضا الدارقطني وابن حبان وصححه وضعفه عبد الحق وقال: لا يحتج بأسانيده كلها وذلك لان في بعضها مجالدا، ولكن أقل أحوال الحديث أن يكون حسنا لغيره لكثرة طرقه، ومجالد ليس إلا في الطريق التي أخرجها الترمذي وأبو داود منها. وقد أخرجه أحمد من طريق ليس فيها ضعيف. والحاكم أخرجه من طريق فيها عطية عن أبي سعيد وعطية فيه لين، وقد صححه مع ابن حبان ابن دقيق العيد وحسنه الترمذي وقال: وفي الباب عن علي عليه السلام وابن مسعود وأبى أيوب والبراء وابن عمر وابن عباس وكعب عن مالك، وزاد في التلخيص: عن جابر وأبي أمامة وأبي الدرداء وأبي هريرة. أما حديث علي فأخرجه الدارقطني بإسناد فيه الحرث الاعور وموسى بن عمر الكوفي وهما ضعيفان. وأما حديث ابن مسعود فأخرجه أيضا الدارقطني بسند رجاله ثقات إلا أحمد بن الحجاج بن الصامت فإنه ضعيف جدا. وأما حديث أبي أيوب فأخرجه الحاكم وفي إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ضعيف. وأما حديث البراء فأخرجه البيهقي. وأما حديث ابن عمر فأخرجه الحاكم والطبراني في الاوسط وابن حبان في الضعفاء، وفي إسناده محمد بن الحسن الواسطي ضعفه ابن حبان، وفي بعض طرقه عنعنة محمد بن إسحاق، وفي بعضها أحمد بن عصام وهو ضعيف، وهو في الموطأ موقوف وهو أصح
[ 23 ]
وأما حديث ابن عباس فرواه الدارقطني وفي إسناده موسى بن عثمان العبدي وهو مجهول. وأما حديث كعببن مالك فأخرجه الطبراني في الكبير وفي إسناده إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف. وأما حديث جابر فأخرجه الدارمي وأبو داود وفي إسناده عبد الله بن أبي الزناد القداح عن أبي الزبير والقداح ضعيف وله طرق أخر. وأما حديث أبي أمامة وأبي الدرداء فأخرجهما الطبراني من طريق راشد بن سعد وفيه ضعف وانقطاع. وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الدارقطني وفي إسناده عمر بن قيس وهو ضعيف. قوله: ذكاة الجنين ذكاة أمه مرفوعان بالابتداء والخبر والمراد الاخبار عن ذكاة الجنين بأنها ذكاة أمه فيحل بها كما تحل الام بها ولا يحتاج إلى تذكية، وإليه ذهب الثوري والشافعي والحسن بن زياد وصاحبا أبي حنيفة، وإليه ذهب أيضا مالك، واشترط أن يكون قد أشعر لما في بعض روايات الحديث عن ابن عمر بلفظ: إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه وقد تفرد به أحمد بن عصام كما تقدم، والصحيح أنه موقوف فلا حجة فيه. وأيضا قد روي من طريق ابن أبي ليلى مرفوعا. ذكاة الجنين ذكاة أمه أشعر أولم يشعر وفيه ضعف كما تقدمت الاشارة إليه. وأيضا قد روي من طريق ابن عمر نفسه مرفوعا وموقوفا، كما رواه البيهقي أنه قال: أشعر أو لم يشعر وذهبت العترة وأبو حنيفة إلى تحريم الجنين إذا خرج ميتا وأنها لا تغني تذكية الام عن تذكيته محتجين بعموم قوله تعالى: * (حرمت عليكم الميتة) * (المائدة: 3) وهو من ترجيح العام على الخاص، وقد تقرر في الاصول بطلانه، ولكنهم اعتذروا عن الحديث بما لا يغني شيئا فقالوا: المراد ذكاة الجنين كذكاة أمه، ورد بأنه لو كان المعنى على ذلك لكان منصوبا بنزع الخافض والرواية بالرفع، ويؤيده أنه روي بلفظ ذكاة الجنين في ذكاة أمه أي كائنة أو حاصلة في ذكاة أمه وروي ذكاة الجنين بذكاة أمه والباء للسببية، قال في التلخيص فائدة، قال ابن المنذر: أنه لم يرو عن أحد من الصحابة ولا من العلماء أن الجنين لا يؤكل إلا باستئناف الذكاة فيه إلا ما روي عن أبي حنيفة اه. وظاهر الحديث أنه يحل بذكاة الام الجنين مطلقا سواء خرج حيا أو ميتا فالتفصيل ليس عليه دليل.
[ 24 ]
باب أن ما أبين من حي فهو ميتة عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما قطع من بهيمة وهي حية فما قطع منها فهو ميتة رواه ابن ماجة. وعن أبي واقد الليثي قال: قدم رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم المدينة وبها ناس يعمدون إلى أليات الغنم وأسنمة الابل يجبونها فقال: ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة رواه أحمد والترمذي. ولابي داود منه الكلام النبوي فقط. حديث ابن عمر أخرجه أيضا البزار والطبراني في الاوسط من حديث هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عنه، واختلف فيه على زيد بن أسلم، وقد روي عن زيد بن أسلم مرسلا، قال الدارقطني: المرسل أشبه بالصواب، وله طريق أخرى عن ابن عمر أخرجها الطبراني في الاوسط وفيها عاصم بن عمر وهو ضعيف. وحديث أبي واقد أخرجه أيضا الدارمي والحاكم من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار عن زيد بن أسلم عنه، وأخرجه أيضا الحاكم من حديث سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري مرفوعا، قال الدارقطني: والمرسل أصح وأخرجه البزار من طريق المسور بن الصلت عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري وقال: تفرد به ابن الصلت وخالفه سليمان بن بلال فقال عن زيد عن عطاء مرسلا، وكذا قال الدارقطني، وقد وصله الحاكم كما تقدم. وتابع المسور وغيره عليه خارجة بن مصعب، أخرجه ابن عدي في الكامل وأبو نعيم في الحلية، وأخرجه ابن ماجة والطبراني وابى عدي من طريق تميم الداري وإسناده ضعيف كما قال الحافظ. قوله: فما قطع منها المجئ بهذه الجملة لزيادة الايضاح وإلا فقد أغنى عنها ما قبلها. قوله: فهو ميتة فيه دليل على أن البائن من الحي حكمه حكم الميتة في تحريم أكله ونجاسته، وفي ذلك تفاصيل ومذاهب مستوفاة في كتب الفقه. قوله: إلى أليات جمع ألية، والجب القطع، والاسنمة جمع سنام.
[ 25 ]
باب ما جاء في السمك والجراد وحيوان البحر قد سبق قوله في البحر: هو الحل ميتته. عن ابن أبي أوفى قال: غزونا مع رسوالله صلى الله عليه وآله وسلم سبع غزوات نأكل معه الجراد رواه الجماعة إلا ابن ماجة. وعن جابر قال: غزونا جيش الحبط وأميرنا أبو عبيدة فجعنا جوعا شديدا فألقى البحر حوتا ميتا لم نر مثله يقال له العنبر فأكلنا منه نصف شهر، فأخذ أبو عبيدة عظما من عظامه فمر الراكب تحته قال: فلما قدمنا المدينة ذكرنا ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: كلوا رزقا أخرجه الله عزوجل لكم، أطعمونا إن كان معكم، فأتاه بعضهم بشئ فأكله متفق عليه. [ رح 3638 ] وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال رواه أحمد وابن ماجة والدارقطني، وهو للدارقطني أيضا من رواية عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه بإسناده، قال أحمد وابن المديني: عبد الرحمن بن زيد ضعيف وأخوه عبد الله ثقة. وعن أبي شريح من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله ذبح ما في البحر لبني آدم رواه الدارقطني، وذكره البخاري عن أبي شريح موقوفا. وعن أبي بكر الصديق قال: الطافي حلال. وعن عمر في قوله تعالى: * (أحل لكم صيد البحر) * (المائدة: 96) قال: صيده ما اصطيد وطعامه ما رمي به وقال ابن عباس: طعامه ميتته إلا ما قذرت منها. قال ابن عباس: كل من صيد البحر صيد يهودي أو نصراني أو مجوسي وركب الحسن على سرج من جلود كلاب الماء ذكرهن البخاري في صحيحه. الحديث الذي أشار إليه المصنف بقوله: قد سبق، هو أول حديث في كتابه هذا، وقد مر الكلام عليه. وحديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أخرجه أيضا الشافعي والبيهقي، ورواه الدارقطني أيضا من رواية سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم موقوفا وقال: هو أصح، وكذا صحح الموقوف أبو زرعة وأبو حاتم وعبد الرحمن
[ 26 ]
بن زيد ضعيف كما نقله المصنف عن أحمد وابن المديني وفي رواية عن أحمد أنه قال: حديثه هذا منكر. وقال البيهقي: رفع هذا الحديث أولاد زيد بن أسلم وعبد الله وعبد الرحمن وأسامة وقد ضعفهم ابن معين، وكان أحمد بن حنبل يوثق عبد الله، وكذا روي عن ابن المديني، قال الحافظ: قلت رواه الدارقطني وابن عدي من رواية عبد الله بن زيد بن أسلم، قال ابن عدي: الحديث يدور على هؤلاء الثلاثة، قال الحافظ: وقد تابعهم شخص هو أضعف منهم وهو أبو هاشم كثير بن عبد الله الابلي، أخرجه ابن مردويه في تفسير سورة الانعام من طريقه عن زيد بن أسلم بلفظ: يحل من الميتة اثنان ومن الدم اثنان، فأما الميتة فالسمك والجراد، وأما الدم فالكبد والطحال ورواه المسور بن الصلت أيضا عن زيد بن أسلم لكنه خالف في إسناده قال: عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد مرفوعا، أخرجه الخطيب وذكره الدارقطني في العلل والمسور كذاب، نعم الرواية الموقوفة التي صححها أبو حاتم وغيره هي في حكم المرفوع لان قول الصحابي أحل لنا كذا وحرم علينا كذا، مثل قوله: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا، فيحصل الاستدلال بهذه الرواية لانها في معنى المرفوع، كذا قال الحافظ. قوله: سبع غزوات في رواية البخاري: أو ستا. ووقع في توضيح ابن مالك سبع غزوات أو ثماني وتكلم عليه فقال: الاجود أن يقال أو ثمانيا بالتنوين لان لفظ ثماني وإن كان كلفظ جواري في أن ثالث حروفه ألف بعدها حرفان ثانيهما ياء فهو يخالفه في أن جواري جمع وثماني ليس بجمع، وقد أطال الكلام على ذلك ثم وجه ترك التنوين بتوجيهات. منها: أن يكون حذف المضاف إليه وأبقى المضاف على ما كان عليه قبل الحذف. قال الحافظ: ولم أر لفظ ثماني في شئ من كتب الحديث، قال: وهذا الشك في عدد الغزوات من شعبة. قوله: نأكل معه الجراد يحتمل أن يراد بالمعية مجرد الغزو دون ما تبعه من أكل الجراد، ويحتمل أن يريد مع أكله. ويدل على الثاني ما وقع في رواية أبي نعيم بلفظ: ويأكله معنا وهذا يرد على الصيمري من الشافعية حيث زعم أنه صلى الله عليه وآله وسلم عافه كما عاف الضب. وقد أخرج أبو داود عنه صلى الله عليه وآله وسلم من حديث سلمان أنه قال: لا آكله ولا أحرمه والصواب أنه مرسل. ولابن عدي في ترجمة ثابت بن زهير عن نافع عن ابن عمر: أنه صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الضب فقال: لا آكله ولا أحرمه وسئل عن الجراد فقال مثل
[ 27 ]
ذلك قال الحافظ: وهذا ليس ثابتا. لان ثابتا قال فيه النسائي ليس بثقة ونقل النووي الاجماع على حل أكل الجراد. وفصل ابن العربي في شرح الترمذي بين جراد الحجاز وجراد الاندلس فقال في جراد الاندلس: لا يؤكل لانه ضرر محض، وهذا إن تثبت أنه يضر أكله بأن يكون فيه سمية تخصه دون غيره من جراد البلاد تعين استثناؤه، وذهب الجمهور إلى حل أكل الجراد ولو مات بغير سبب، وعند المالكية اشتراط التذكية وهي هنا أن يكون موته بسبب آدمي، إما بأن يقطع رأسه أو بعضه، أو يسلق أو يلقى في النار حيا، فإن مات حتف أنفه أو في وعاء لم يحل. واحتج الجمهور بحديث ابن عمر المذكور في الباب. ولفظ الجراد جنس يقع على الذكر والانثى، ويميز واحدة بالتاء، وسمي جرادا لانه يجرد ما ينزل عليه، أو لانه أجرد أي أملس وهو من صيد البر، وإن كان أصله بحريا عند الاكثر، وقيل: إنه بحري بدليل حديث أبي هريرة أنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حج أو عمرة فاستقبلنا رجل من جراد فجعلنا نضربهن بنعالنا وأسواطنا، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: كلوه، فإنه من صيد البحر أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة بإسناد ضعيف. وأخرج نحوه أبو داود والترمذي من طريق أخرى عن أبي هريرة وفي إسناده أبو المهزم بضم الميم وكسر الزاي وفتح الهاء وهو ضعيف. وأخرج ابن ماجة من حديث أنس مرفوعا: أن الجراد نثره حوت من البحر أي عطسته. قوله: الخبط بالتحريك هو ما يسقط من الورق عند خبط الشجر. قوله: فأكله بهذا تم الدلالة وإلا فمجرد أكل الصحابة منه وهم في حال المجاعة، قد يقال إنه للاضطرار، ولاسيما وقد ثبت عن أبي عبيدة في رواية عند مسلم بلفظ: وقد اضطررتم فكلوا. قال في الفتح: وحاصل قول أبي عبيدة أنه بني أولا على عموم تحريم الميتة، ثم ذكر تخصيص ا لمضطر بإباحة أكلها إذا كان غير باغ ولا عاد، وهم بهذه الصفة لانهم في سبيل الله وفي طاعة رسول الله، وقد تبين من آخر الحديث أن حمله كونها حلالا ليس لسبب الاضطرار بل لكونها من صيد البحر لاكله صلى الله عليه وآله وسلم منها لانه لم يكن مضطرا وقد ذهب الجمهور إلى إباحة ميتة البحر سواء ماتت بنفسها أو ماتت بالاصطياد. وعن الحنفية والهادي والقاسم والامام يحيى والمؤيد بالله في أحد قوليه إنه لا يحل إلا ما مات بسبب آدمي أو بإلقاء الماء له أو جزره عنه، وأما ما ما ت أو قتله حيوان غير آدمي فلا يحل، واستدلوا بحديث أبي الزبير عن جابر مرفوعا بلفظ: ما ألقاه البحر أو جزر عنه فكلوه،
[ 28 ]
وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه أخرجه أبو داود مرفوعا من رواية يحيى بن سليم الطائفي عن أبي الزبير عن جابر، وقد أسند من وجه آخر عن ابن أبي ذئب عن أبي الزبير عن جابر مرفوعا، وقال الترمذي: سألت البخاري عنه فقال: ليس بمحفوظ ويروى عن جابر خلافه انتهى. ويحيى بن سليم صدوق سيئ الحفظ. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال يعقوب: إذا حدث من كتابه فحديثه حسن، وإذا حدث حفظا ففي حديثه ما يعرف وينكر. وقال أبو حاتم: لم يكن بالحافظ. وقال ابن حبان في الثقات: كان يخطئ وقد توبع على رفعه، أخرجه الدارقطني من رواية أبي أحمد الزبيري عن الثوري مرفوعا لكن قال: خالفه وكيع وغيره فوقفوه على الثوري وهو الصواب. وروي عن ابن أبي ذئب وإسماعيل بن أمية مرفوعا ولا يصح والصحيح موقوف. قال الحافظ: وإذا لم يصح إلا موقوفا فقد عارضه قول أبي بكر وغيره يعني المذكور في الباب. وقال أبو داود: روى هذا الحديث سفيان الثوري وأيوب وحماد عن أبي الزبير أوقفوه على جابر، قال المنذري: وقد أسند هذا الحديث من وجه ضعيف، وأخرجه ابن ماجة، قال الحافظ أيضا، والقياس يقتضي حله لانه لو مات في البر لاكل بغير تذكية، ولو نضب عنه الماء فمات لاكل، فكذلك إذا مات وهو في البحر، ولا خلاف بين العلماء في حل السمك على اختلاف أنواعه، وإنما اختلفوا فيما كان على صورة حيوان البر كالآدمي والكلب والخنزير، فعند الحنفية وهو قول الشافعية أنه يحرم، والاصح عن الشافعية الحل مطلقا وهو قول المالكية إلا الخنزير في رواية. وحجتهم عموم قوله تعالى: * (أحل لكم صيد البحر) * (المائدة: 96) وحديث: هو الطهور ماؤه والحل ميتته أخرجه مالك وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما وقد تقدم في أول الكتاب. وروي عن الشافعية أيضا أنه يحل ما يؤكل نظيره في البر وما لا فلا، وإليه ذهبت الهادوية، واستثنت الشافعية ما يعيش في البر والبحر وهو نوعان: النوع الاول ما ورد في منع أكله شئ يخصه كالضفدع، وكذا استثناه أحمد للنهي عن قتله كما ورد ذلك من حديث عبد الرحمن بن عثمان التيمي، أخرجه أبو داود والنسائي وصححه الحاكم، وله شاهد من حديث ابن عمر عند أبي عاصم، وآخر عن عبد الله بن عمر، وأخرجه الطبراني في الاوسط وزاد: فإن نقيقها تسبيح. وذكر الاطباء أن الضفدع نوعان: بري وبحري، ومن المستثنى التمساح والقرش والثعبان والعقرب والسرطان والسلحفاة للاستخباث والضرر اللاحق من السم.
[ 29 ]
النوع الثاني ما لم يرد فيه مانع فيحل لكن بشرط التذكية كالبط وطير الماء. قوله: إن الله ذبح ما في البحر لبني آدم لفظ البخاري: كل شئ في البحر مذبوح وقد أخرجه الدارقطني وأبو نعيم في الصحابة مرفوعة، قال الحافظ: والموقوف أصح وأخرجه ابن أبي عاصم في الاطعمة من طريق عمرو بن دينار: سمعت شيخا كبيرا يحلف بالله ما في البحر دابة إلا قد ذبحها الله لبني آدم. وأخرج الدارقطني من حديث عبد الله بن سرجس رفعه: أن الله قد ذبح كل ما في البحر لبني آدم وفي سنده ضعف. والطبراني من حديث ابن عمر ورفعه نحوه وسنده ضعيف. وأخرج عبد الرزاق بسندين جيدين عن عمر ثم عن علي بلفظ: الحوت ذكي كله قال عطاء: أما الطير فأرى أن تذبحه. قوله: الطافي حلال وصله أبو بكر بن أبي شيبة والطحاوي والدارقطني من رواية عبد الملك بن أبي بشير عن عكرمة عن ابن عباس والطافي بغير همز من طفا يطفو إذا علا على الماء ولم يرسب. قوله: صيده ما اصطيد وطعامه ما رمى به وصله البخاري في التاريخ وعبد بن حميد. قوله: طعامه ميتة إلا ما قدرت وصله الطبراني. قوله: كل من صيد البحر صيد يهودي الخ، وصله البيهقي قال ابن التين مفهومه أن صيد البحر لا يؤكل إن صاده غير هؤلاء وهو كذلك عند قوم. وأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عطاء وسعيد بن جبير كراهية صيد المجوسي. وأخرج أيضا بسند آخر عن علي عليه السلام مثل ذلك. قوله: وركب الحسن على سرج قيل إنه الحسن بن علي، وقيل البصري، والمراد أن السرج متخذ من جلود الكلاب المعروفة بكلاب الماء التي في البحر كما صرح به في الرواية. باب الميتة للمضطر عن أبي واقد الليثي قال: قلت: يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا مخمصة فما يحل لنا من الميتة؟ فقال: إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تختفؤا بها بقلا، فشأنكم بها رواه أحمد. وعن جابر بن سمرة: أن أهل بيت كانوا بالحرة محتاجين قال: فماتت عندهم ناقة لهم أو لغيرهم فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أكلها، قال: فعصمتهم بقيشتائهم أو سنتهم رواه أحمد. وفي لفظ: أن رجلا نزل
[ 30 ]
الحرة ومعه أهله وولده فقال رجل: إن لي ناقة ضلت فإن وجدتها فأمسكها فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت فقالت امرأته: انحرها فأبى، فنفقت فقالت: اسلخها حتى نقدر شحمها ولحمها ونأكله، فقال: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتاه فسأله فقال: هل عندك غنى يغنيك؟ قال: لا قال: فكلوه، قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر فقال: هلا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك رواه أبو داود، وهو دليل على إمساك الميتة للمضطر. حديث أبي واقد قال في مجمع الزوائد: أخرجه الطبراني ورجاله ثقات انتهى. وحديث جابر بن سمرة سكت عنه أبو داود والمنذري وليس في إسناده مطعن، لان أبا داود رواه من طريق موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة وفي الباب عن الفجيع العامري أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما يحل لنا الميتة؟ قال: ما طعامكم؟ قلنا نغتبق ونصطبح، قال أبو نعيم وهو الفضل بن دكين: فسره لي عقبة قدح غدوة وقدح عشية قال: ذاك وأبي الجوع فأحل لهم الميتة على هذه الحال قال أبو داود: الغبوق من آخر النهار، والصبوح من أول النهار، وفي إسناده عقبة بن وهب العامري. قال يحيى بن معين: صالح، وقال علي بن المديني: قلت لسفيان بن عيينة عقبة بن وهب فقال: ما كان ذاك فيدري ما هذا الامر ولا كان شأنه الحديث انتهى. قوله: إذا لم تصطبحوا ولتغتبقوا قال ابن رسلان في شرح السنن: الاصطباح ههنا أكل الصبوح وهو الغداء، والغبوق أكل العشاء انتهى. وقد تقدم تفسير الصبوح والغبوق، وهما بفتح أولهما، الاول شرب اللبن أول النهار، والثاني شرب اللبن آخر النهار، ثم استعملا في الاكل للغداء والعشاء، وعليهما يحمل ما في حديث أبي واقد الليثي المذكور، ولعل المراد بهما في حديث الفجيع مجرد شرب اللبن، لانه لو كان المراد بهما أكل الطعام في الوقتين لم يصح ما في آخر الحديث وهو قوله: ذاك وأبي الجوع إذ لا جوع حينئذ. قوله: ولم تحتفئوا بها بقلا بفتح المثناتين من فوق بينهما حاء مهملة وبعدهما فاء مكسورة ثم همزة مضمومة من الحفاء وهو البردي بضم الموحدة نوع من جيد التمر، وضعفه بعضهم بأن البردي ليس من البقول. قال أبو عبيد: هو أصل البردي الابيض الرطب وقد يؤكل. قال أبو عبيد: معنى الحديث أنه ليس لكم أن تصطبحوا وتغتبقوا
[ 31 ]
وتجمعوهما مع الميتة. قال الازهري: قد أنكر هذا على أبي عبيد وفسر أنه أراد إذا لم تجدوا البينة تصطبحونها أو شربا تغتبقونه ولم تجدوا بعد عدم الصبوح والغبوق بقلة تأكلونها حلت لكم الميتة، قال: وهذا هو الصحيح. قال الخطابي: القدح من اللبن بالغداة، والقدح بالعشي يمسك الرمق ويقيم النفس، وإن كان لا يغدو البدن ولا يشبع الشبع التام، وقد أباح لهم مع ذلك الميتة، فكان دلالته أن تتناول الميتة إلى أن تأخذ النفس حاجتها من القوت، كما ذهب إليه مالك والشافعي في أحد قوليه، والقول الراجح عند الشافعي هو الاقتصار على سد الرمق كما نقله المزني وصححه الرافعي والنووي، وهو قول أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن مالك والهادوية. ويدل عليه قوله: هل عندك غنى يغنيك إذا كان يقال لمن وبعدسد رمقه مستغنيا لغة أو شرعا. واستدل به بعضهم على القول الاول قال: لانه سأله عن الغنى ولم يسأله عن خوفه على نفسه، والآية الكريمة قد دلت على تحريم الميتة واستثنى ما وقع الاضطرار إليه، فإذا اندفعت الضرورة لم يحل الاكل كحالة الابتداء، ولا شك أن سد الرمق يدفع الضرورة، وقيل إنه يجوز أكل المعتاد للمضطر في أيام عدم الاضطرار. قال الحافظ: وهو الراجح لاطلاق الآية، واختلفوا في الحالة التي يصح فيها الوصف بالاضطرار ويباح عندها الاكل. فذهب الجمهور إلى أنها الحالة التي يصل به الجوع فيها إلى حد الهلاك أو إلى مرض يفضي إليه. وعن بعض المالكية تحديد ذلك بثلاثة أيام. قال ابن أبي جمرة: الحكمة في ذلك أن في الميتة سمية شديدة فلو أكلها ابتداء لاهلكته، فشرع له أن يجوع ليصير في بدنه بالجوع سمية هي أشد من سمية الميتة. قوله: كانوا بالحرة بفتح الحاء والراء المشددة مهملتين أرض بظاهر المدينة بها حجارة سود. قوله: فنفقت بفتح النون والفاء والقاف أي ماتت، يقال: نفقت الدابة نفوقا مثل قعدت المرأة قعودا إذا ماتت. قوله: حتى نقدر بفتح النون وسكون القاف وضم الدال بعده راء مهملة، هكذا في النسخ الصحيحة، يقال: قدر اللحم يقدره طبخه في القدر. وفي سنن أبي داود: نقدد اللحم بدال مهملة مكان الراء، وعلى ذلك شرح ابن رسلان فإنه قال: أي نجعله قديدا قوله: غنى يغنيك أي تستغني به ويكفيك ويكفي أهلك وولدك عنها. قوله: استحييت منك بياءين مثناتين من تحت. ولغة تميم وبكر بن وائل: استحيت بفتح الحاء وحذف إحدى الياءين. وقد دلت أحاديث الباب على أنه يجوز للمضطر أن يتناول من الميتة
[ 32 ]
ما يكفيه على الخلاف السابق في مقدار ما يتناوله، ولا أعلم خلافا في الجواز وهو نص القرآن الكريم، وهل يجب على المضطر أن يتناول من الميتة حفظا لنفسه؟ قال في البحر: في ذلك وجهان. يجب لوجوب دفع الضرر، ولا إيثارا للورع، واختلفوا في المراد بقوله تعالى: * (غير باغ) * فقيل: أي غير متلذذ ولا مجاوز لدفع الضرر، وقيل: أي غير عاص، فمنعوا العاصي من أكل الميتة. وحكى الحافظ في الفتح عن الجمهور أنهم جعلوا من البغي العصيان، قالوا: وطريقه أن يتوب ثم يأكل، وجوزه بعضهم مطلقا، ولعله يعني بالبعض القائل بالتفسير الاول. باب النهي أن يؤكل طعام الانسان بغير إذنه عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فينتثل طعامه؟ وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه متفق عليه. وعن عمرو بن يثربي قال: شهدت خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنى وكان فيما خطب به أن قال: ولا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه، قال: فلما سمعت ذلك قلت: يا رسول الله أرأيت لو لقيت في موضع غنم ابن عمي فأخذت منها شاة فاجتزرتها هل علي في ذلك شئ؟ قال: إن لقيتها نعجة تحمل شفرة وأزنادا فلا تمسها. [ رح 3644 ] وعن عمير مولى أبي اللحم قال: أقبلت مع سادتي نريد الهجرة حتى إذا دنونا من المدينة قال: فدخلوا وخلفوني في ظهرهم فأصابتني مجاعة شديدة قال: فمر بي بعض من يخرج من المدينة فقالوا: لو دخلت المدينة فأصبت من تمر حوائطها، قال: فدخلت حائطا فقطعت منه قنوين، فأتاني صاحب الحائط وأتى بي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره خبري وعلي ثوبان فقال لي: أيهما أفضل؟ فأشرت إلى أحدهما، فقال: خذه وأعط صاحب الحائط الآخر فخلى سبيلي رواهما أحمد. حديث عمرو بن اليثربي في إسناده حاتم بن إسماعيل، وفيه خلاف عن عبد الملك ابن حسين الجاري، فإن يكن هو الكوفي النخعي فضعيف بمرة، وإلا فليس
[ 33 ]
من رجال الامهات. وحديث عمير مولى آبي اللحم في إسناده عبد الرحمن بن إسحاق عن محمد بن زيد، وقد قا العجلي: يكتب حديثه وليس بالقوي، وكذا قال أبو حاتم ونحوه عن البخاري وقال النسائي وابن خزيمة: ليس به بأس وقال في مجمع الزوائد: إن حديث عمير هذا أخرجه أحمد بإسنادين: في أحدهما ابن لهيعة وفي الآخر أبو بكر بن زيد بن المهاجر، ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا وبقية رجاله ثقات. قوله: مشربته قال في القاموس: والمشربة وتضم الراء أرض لينة دائمة النبات والغرفة والعلية والصفة والمشربة انتهى. والمراد هنا الغرفة التي يجمع فيها الطعام، شبه صلى الله عليه وآله وسلم ضروع المواشي في حفظها لما فيها من اللبن بالمشربة في حفظها لما فيها من الطعام، فكما أن هذه يحفظ فيها الانسان طعامه فتلك تحفظ له شرابه وهو لبن ماشيته، وكما أن الانسان يكره دخول غيره إلى مشربته لاخذ طعامه كذلك يكره حلب غيره لماشيته، فلا يحل الجميع إلا بإذن المالك. قوله: فينتثل طعامه النثل الاستخراج. أي فيستخرج طعامه، قال في القاموس: نثل الركية ينثلها استخرج ترابها وهي الثيلة والنثالة والكنانة استخرج نبلها ونثرها ودرعه ألقاها عنه واللحم في القدر وضعه فيها مقطعا، وامرأة نثول تفعل ذلك كثيرا، وعليه درعه صبها انتهى. قوله: فاجتزرتها بزاي ثم راء. قوله: إن لقيها نعجة تحمل شفرة وأزنادا هذا فيه مبالغة في المنع من أخذ ملك الغير بغير إذنه وإن كان على حالة مشعرة، بأن تلك الماشية معدة للذبح حاملة لما تصلح به من آلة الذبح وهي الشفرة وآلة الطبخ وهو الازناد وهي جمع زند وهو العود الذي يقدح به النار، قال في القاموس: والجمع زناد وأزند وأزناد. ونعجة منصوبة على الحال أي لقيتها حال كونها نعجة حاملة لشفرة وأزناد. قوله: مولى آبي اللحم قد تقدم غير مرة أن آبا اللحم اسم فاعل من أبى يأبى فهو آب. قوله: في ظهرهم أي في دوابهم التي يسافرون بها ويحملون عليها أمتعتهم. قوله: وأعط صاحب الحائط الآخر فيه دليل على تغريم السارق قيمة ما أخذه مما لا يجب فيه الحد، وعلى أن الحاجة لا تبيح الاقدام على مال الغير مع وجود ما يمكن الانتفاع به أو بقيمته ولو كان مما تدعو حاجة الانسان إليه فإنه هنا أخذ أحد ثوبيه ودفعه إلى صاحب النخل.
[ 34 ]
باب ما جاء من الرخصة في ذلك لابن السبيل إذا لم يكن حائط ولم يتخذ خبنة عن ابن عمر: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من دخل حائطا فليأكل ولا يتخذ خبنة رواه الترمذي وابن ماجة. وعن عبد الله بن عمر قال: سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الرجل يدخل الحائط فقال: يأكل غير متخذ خبنة رواه أحمد. وعن الحسن عن سمرة بن جندب: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحلب وليشرب، وإن لم يكن فيها أحد فليصوت ثلاثا، فإن أجابه أحد فليستأذنه فإن لم يجبه أحد فليحتلب وليشرب ولا يحمل رواه أبو داود والترمذي وصححه. وقال ابن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح. وعن أبي نضرة عنأبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا أتى أحدكم حائطا فأراد أن يأكل فليناد يا صاحب الحائط ثلاثا فإن أجابه وإلا فليأكل، وإذا مر أحدكم بإبل فأراد أن يشرب من ألبانها فليناد يا صاحب الابل أو يا راعي الابل فإن أجابه وإلا فليشرب رواه أحمد وابن ماجة. حديث ابن عمر الاول والثاني هما حديث واحد ولكن المصنف أوردهما هكذا لاختلاف اللفظ. وقال الترمذي بعد إخراجه في البيوع، غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وحديث سمرة قال الترمذي بعد إخراجه حديث سمرة: حسن صحيح غريب والعمل على هذا عند بعض أهل العلم وبه يقول أحمد وإسحاق. وقال علي بن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح وقد تكلم بعض أهل الحديث في رواية الحسن عن سمرة وقالوا: إنما يحدث عن صحيفة، سمرة انتهى. وحديث أبي سعيد أخرجه أيضا أبو يعلى وابن حبان والحاكم والمقدسي. وفي الباب عن رافع عند الترمذي وأبي داود قال: كنت أرمي نخل الانصار فأخذوني فذهبوا بي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رافع لم ترمي نخلهم؟ قال قلت: يا رسول الله الجوع، قال لا ترم وكل ما وقع أشبعك الله وأرواك وعند أبي داود والنسائي من حديث شرحبيل بن عباد في قصة مثل قصة رافع وفيها: فقال رسول الله صلى
[ 35 ]
الله عليه وآله وسلم لصاحب الحائط، ما علمت إذ كان جاهلا ولا أطعمت إذ كان جائعا. قوله في ترجمة الباب: إذا لم يكن حائط قال في النهاية: الحائط البستان من النخيل إذا كان عليه حائط وهو الجدار، وظاهر الاحاديث المذكورة في الباب مخالف لما قيد به المصنف الترجمة، فلعله أراد بقوله إذا لم يكن حائط أي جدار يمنع الدخول إليه بحرزه طرقه لما في ذلك من الاشعار بعدم الرضا، وكأنه حمل الاحاديث على ما ليس كذلك ولا ملجئ إلى هذا، بالظاهر الاطلاق وعدم التقييد. قوله: ولا يتخذ خبنة بضم الخاء المعجمة وسكون الباب الموحدة وبعدها نون وهي ما تحمله في حضنك كما في القاموس، وهذا الاطلاق في حديث ابن عمر مقيد بما في حديث أبي سعيد المذكور من الامر بالنداء ثلاثا. وحديث سمرة في الماشية ليس فيه إلا مجرد الاستئذان بدون تقييد بكونه ثلاثا، وكذلك حديث أبي سعيد فإنه لم يذكر في الماشية إلا مجرد النداء ولم يقيده بكونه ثلاثا. (وظاهر أحاديث) الباب جواز الاكل من حائط الغير والشرب من ماشيته بعد النداء المذكور، من غير فرق بين أن يكون مضطرا إلى الاكل أم لا، لانه إنما قال إذا دخل، وإذا أراد أن يأكل، ولم يقيد الاكل بحد ولا خصه بوقت فالظاهر جواز تناول الكفاية، والممنوع إنما هو الخروج بشئ من ذلك من غير فرق بين القليل والكثير. قال العلامة المقبلي في الابحاث بعد ذكر حديث أبي سعيد ما لفظه: وفي معناه عدة أحاديث تشهد لصحته، ووجه موافقته للقانون الشرعي ظاهر فيمن له حق الضيافة كابن السبيل وفي ذي الحاجة مطلقا، وسياقات الحديث تشعر بالاختصاص بمن هو كذلك فهو المتيقن، وأما الغني الذي ليس له حق الضيافة فمشكوك فيه فيبقى على المنع الاصلي، فإن صحت إرادته بدليل خاص كقضية فيها ذلك كان مقبولا وتكون مناسبته ما في اللبن والفاكهة من الندرة، إذ لا يوجد في كل حال مع مسارعة النفس إليها، والعرف شاهد بذلك حتى أنه يذم من ضن بهما ويبخل وهو خاصة الوجوب فهو من حق المال غير الصدقة، وهذا يرجح بقاء الحديث على عمومه، إذ لا معنى للاقتصار مع ظهور العموم وفي المنتهى من فقه الحنابلة: ومن مر بثمرة بستان لا حائط عليه ولا ناظر فله الاكل ولو بلا حاجة مجانا لا صعود شجره أو رميه بشئ، ولا يحمل ولا يأكل من مجنى مجموع إلا لضرورة، وكذا زرع قائم وشرب لبن ماشية، وألحق جماعة بذلك باقلا وحمصا أخضر من المنفتح وهو قوي انتهى. (وأحاديث الباب) مخصصة للحديث
[ 36 ]
المذكور في الباب الاول، ومخصصة أيضا لحديث: ليس في المال حق سوى الزكاة وهومن حديث فاطمة بنت قيس، مع أنه قد ثبت في الترمذي من حديثها بلفظ: في المال حق سوى الزكاة بدون لفظ ليس ومن جملة المخصصات لحديث: ليس في المال حق سوى الزكاة ما ورد في الضيافة وفي سد رمق المسلم. ومنها: وآتوا حقه يوم حصاده. باب ما جاء في الضيافة عن عقبة بن عامر قال: قلت يا رسول الله إنك تبعثني فننزل بقوم لا يقرونا فما ترى؟ فقال: إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم. وعن أبي شريح الخزاعي: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه متفق عليهما. وعن المقدام أبي كريمة: أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ليلة الضيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محروم كان دينا له عليه إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه، وفي لفظ: من نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه. رواهما أحمد وأبو داود. وعنه أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أيما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محروما فله أن يأخذ بقدر قراه ولا حرج عليه رواه أحمد. حديث المقدام سكت عنه أبو داود هو والمنذري، قال الحافظ في التلخيص: وإسناده على شرط الصحيح، وله أيضا من حديثه: أيما رجل أضاف قوما فأصبح الضيف محروما فإن نصره حق على كل مسلم حتى يأخذ بقرى ليلة من زرعه وماله قال الحافظ: وإسناده صحيح وعن أبي هريرة عند أبي داود والحاكم بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الضيافة ثلاثة أيام فما سوى ذلك فهو صدقة وعن شقيق بن سلمة عند الطبراني في الاوسط قال: دخلنا على سلمان فدعا بماء كان في البيت وقال: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن التكلف
[ 37 ]
للضيف لتكلفت لكم. وحديث أبي هريرة المذكور في الباب قال في مجمع الزوائد: رجال أحمد ثقات. (وفي الباب) عن عائشة أشار إليه الترمذي. قوله: لا يقرونا بفتح أوله من القرى أي لا يضيفونا. قوله: بما ينبغي للضيف أي من الاكرام بما لا بد منه من طعام وشراب وما يلتحق بهما. قوله: فخذوا منهم حق الضيف الخ قال الخطابي: إنما كان يلزم ذلك في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم حيث لم يكن بيت مال، وأما اليوم فأرزاقهم في بيت المال لا حق لهم في أموال المسلمين. وقال ابن بطال: قال أكثرهم إنه كان هذا في أول الاسلام حيث كانت المواساة واجبة، وهو منسوخ بقوله: جائزته كما في حديث الباب، قالوا: والجائزة تفضل لا واجب، قال ابن رسلان قال بعضهم: المراد أن لكم أن تأخذوا من أعراض من لم يضيفكم بألسنتكم وتذكروا للناس لؤمهم والعيب عليهم، وهذا من المواضع التي يباح فيها الغيبة، كما أن القادر المماطل بالدين مباح عرضه وعقوبته، وحمله بعضهم على أن هذا كان في أول الاسلام وكانت المواساة واجبة، فلما اتسع الاسلام نسخ ذلك. قال النووي: وهذا تأويل ضعيف أو باطل لان هذا الذي ادعاه قائله لا يعرف انتهى. وقد تقدم ذكر قائله قريبا، فتعليل الضعف أو البطلان بعدم معرفة القائل ضعيف أو باطل، بل الذي ينبغي عليه التعويل في ضعف هذا التأويل هو أن تخصيص ما شرعه صلى الله عليه وآله وسلم لامته بزمن من الازمان أو حال من الاحوال لا يقبل إلا بدليل، ولم يقم ههنا دليل على تخصيص هذا الحكم بزمن النبوة، وليس فيه مخالفة للقواعد الشرعية، لان مؤونة الضيافة بعد شرعتها قد صارت لازمة للمضيف لكل نازل عليه، فللنازل المطالبة بهذا الحق الثابت شرعا كالمطالبة بسائر الحقوق، فإذا أساء إليه واعتدى عليه بإهمال حقه كان له مكافأته بما أباحه له الشارع في هذا الحديث. * (وجزاء سيئة سيئة مثلها (الشورى: 40) * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * (البقرة: 194). قوله: من كان يؤمن بالله قيل المراد من كان يؤمن الايمان الكامل المنجي من عذاب الله الموصل إلى رضوانه، ويؤمن بيوم القيامة الآخر استعد له واجتهد في فعل ما يدفع به أهواله ومكارهه، فيأتمر بما أمر به، وينتهي عما نهي عنه. ومن جملة ما أمر به إكرام الضيف وهو القادم من السفر النازل عند المقيم، وهو يطلق على الواحد والجمع والذكر والانثى. قال ابن رسلان: والضيافة من
[ 38 ]
مكارم الاخلاق ومحاسن الدين، وليست واجبة عند عامة العلماء، خلافا لليث بن سعد فإنه أوجبها ليلة واحدة، وحجة الجمهور لفظ جائزته المذكورة، فإن الجائزة هي العطية والصلة التي أصلها على الندب، وقلما يستعمل هذا اللفظ في الواجب. قال العلماء: معنى الحديث الاهتمام بالضيف في اليوم والليلة وإتحافه بما يمكن من بر وإلطاف انتهى. والحق وجوب الضيافة لامور، الاول: إباحة العقوبة بأخذ المال لمن ترك ذلك وهذا لا يكون في غير واجب. والثاني: التأكيد البالغ بجعل ذلك فرع الايمان بالله واليوم الآخر، ويفيد أن فعل خلافه فعل من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، ومعلوم أن فروع الايمان مأمور بها، ثم تعليق ذلك بالاكرام، وهو أخص من الضيافة فهو دال على لزومها بالاولى. والثالث قوله: فما كان وراء ذلك فهو صدقة فإنه صريح أن ما قبل ذلك غير صدقة بل واجب شرعا قال الخطابي: يريد أنه يتكلف له في اليوم الاول ما اتسع له من بر وإلطاف، ويقدم له في اليوم الثاني ما كان بحضرته ولا يزيد على عادته، فما جاوز الثلاث فهو معروف وصدقة إن شاء فعل وإن شاء ترك. وقال ابن الاثير: الجائزة العطية أي يقري ضيفه ثلاثة أيام ثم يعطيه ما يجوز به مسافة يوم وليلة. والرابع: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ليلة الضيف حق واجب فهذا تصريح بالوجوب لم يأت ما يدل على تأويله. والخامس: قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث المقدام الذي ذكرنا: فإن نصره حق على كل مسلم فإن ظاهر هذا وجوب النصرة، وذلك فرع وجوب الضيافة، إذا تقرر هذا تقرر ضعف ما ذهب إليه الجمهور، وكانت أحاديث الضيافة مخصصة لاحاديث حرمة الاموال إلا بطيبة الانفس. ولحديث: ليس في المال حق سوى الزكاة ومن التعسفات حمل أحاديث الضيافة على سد الرمق، فإن هذا مما لم يقم عليه دليل ولا دعت إليه حاجة ، وكذلك تخصيص الوجوب بأهل الوبر دون أهل المدن استدلالا بما يروى أن الضيافة على أهل الوبر. قال النووي وغيره من الحفاظ: إنه حديث موضوع لا أصل له. قوله: وأن يثوي بفتح أوله وسكون المثلثة أي يقيم. قوله: حتى يحرجه بضم أوله وسكون الحاء المهملة أي يوقعه في الحرج وهو الاثم لانه قد يكدره فيقول: هذا الضيف ثقيل، أو قد ثقل علينا بطول إقامته، أو يتعرض له بما يؤذيه أو يظن به ما لا يجوز قال النووي: وهذا كله محمول على ما إذا أقام بعد الثلاثة بغير استدعائه،
[ 39 ]
وأما إذا استدعاه وطلب منه إقامته أو علم أو ظن منه محبة الزيادة على الثلاث أو عدم كراهته فلا بأس بالزيادة، لان النهي إنما جاء لاجل كونه يؤثمه، فلو شك في حال المضيف هل تكره الزيادة ولحقه بها حرج أم لا؟ لم يحل له الزيادة على الثلاث لظاهر الحديث. قوله: ليلة الضيف أي ويومه بدليل الحديث الذي قبله. قوله: بفنائه بكسر الفاء وتخفيف النون ممدودا وهو المتسع أمام الدار، وقيل ما امتد من جوانب الدار جمعه أفنية. قوله: فله أن يعقبهم الخ قال الامام أحمد في تفسير ذلك: أي للضيف أن يأخذ من أرضهم وزرعهم بقدر ما يكفيه بغير إذنهم وعنه رواية أخرى: أن الضيافة على أهل القرى دون الامصار، وإليه ذهبت الهادوية، وقد تقدم تحقيق ما هو الحق. باب الادهان تصيبها النجاسة عن ميمونة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن فماتت فقال: ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم رواه أحمد والبخاري والنسائي. وفي رواية: سئل عن الفأرة تقع في السمن فقال: إن كان جامدا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعا فلا تقربوه رواه أبو داود والنسائي. وعن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن فأرة وقعت في سمن فماتت فقال: إن كان جامدا فخذوها وما حولها ثم كلوا ما بقي وإن كان مائعا فلا تقربوه رواه أحمد وأبو داود. حديث أبي هريرة قال الترمذي: هو حديث غير محفوظ سمعت محمد بن إسماعيل يعني البخاري يقول هذا خطأ، قال: والصحيح حديث الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس عن ميمونة يعني الحديث الذي قبله. قال في الفتح: وجزم الذهلي بأن الطريقين صحيحتان. وقد قال أبو داود في روايته عن الحسن بن علي قال الحسن: فربما حدث به معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة، وأخرجه أبو داود أيضا عن أحمد بن صالح عن عبد الرزاق، وكذا أخرجه النسائي عن خشيش بن أصرم عن عبد الرزاق. وذكر الاسماعيلي أن الليث
[ 40 ]
رواه عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن فأرة وذكر الحديث. وأما الزيادة في حديث ميمونة التي زادها أبو داود والنسائي فصححها ابن حبان وغيره. قوله: فماتت استدل بهذا الحديث لاحدى الروايتين عن أحمد أن المائع إذا حلت فيه النجاسة لا ينجس إلا بالتغير وهو اختيار البخاري، ووجه الاستدلال ما قاله ابن العربي متمسكا بقوله: وما حولها على أنه كان جامدا قال: لانه لو كان مائعا لم يكن له حول، لانه لو نقل من جانب خلفه غيره في الحال فيصير مما حوله فيحتاج إلى إلقائه كله، فما بقي إلا اعتبار ضابط كلي في المائع وهو التغير، ولكنه يدفع هذا ما في الرواية الاخيرة من حديث ميمونة وما في حديث أبي هريرة المذكور من التفرقة بين الجامد والمائع، وتبيين حكم كل واحد منهما، وضابط المائع عند الجمهور أن يتراد بسرعة إذا أخذ منه شئ، واستدل بقوله فماتت على أن تأثيرها إنما يكون بموتها فيه، فلو وقعت فيه وخرجت بلا موت لم يضر، وما عدا الفأرة ملحق بها، وكذلك ما يشابه السمن ملحق فلا عمل بمفهومهما. وجمد ابن حزم على عادته قال: فلو وقع غير جنس الفأرة من الدواب في مائع لم ينجس إلا بالتغير، ولم يرد في طريق صحيحة تقدير ما يلقى. وقد أخرج ابن أبي شيبة من مرسل عطاء بن يسار أنه يكون قدر الكف وسنده جيد لولا إرساله. وأما ما أخرجه الطبراني عن أبي الدرداء مرفوعا من التقييد في المأخوذ منه بثلاث غرفات بالكفين فسنده ضعيف، ولو ثبت لكان ظاهرا في المائع. واستدل بقوله: في المائع فلا تقربوه على أنه لا يجوز الانتفاع به في شئ، فيحتاج من أجاز الانتفاع به في غير الاكل كالشافعية، أو أجاز بيعه كالحنفية أولى الجواب عن الحديث فإنهم احتجوا به في التفرقة بين الجامد والمائع. وأما الاحتجاج بما عند البيهقي من حديث ابن عمر بلفظ: إن كان السمن مائعا انتفعوا به ولا تأكلوه وعنده من رواية ابن جريج مثله، فالصحيح أنه موقوف، وعند البيهقي أيضا عن ابن عمر في فأرة وقعت في زيت فقال: استصبحوا به وادهنوا به أدمكم، وهذا السند على شرط الشيخين لانه من طريق الثوري عن أيوب عن نافع عنه إلا أنه موقوف. واستدل بالحديث على أن الفارة طاهرة العين، وأغرب ابن العربي فحكى عن الشافعي وأبي حنيفة أنها نجسة
[ 41 ]
باب آداب الاكل عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أكل أحدكم طعاما فليقل بسم الله فإن نسي في أوله فليقل بسم الله على أوله وآخره رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وصححه. الحديث أخرجه أيضا النسائي وهومن حديث عبد الله بن عبيد عن امرأة منهم يقال لها أم كلثوم عن عائشة، ولم يقل الترمذي عن امرأة منهم إنما قال عن أم كلثوم، ووقع في بعض رواياته أم كلثوم الليثية وهو الاشبه لان عبيد بن عمير ليثي. وقد أخرج أبو بكر بن أبي شيبة هذا الحديث في مسنده عن عبد الله بن عبيد بن عمير عن عائشة ولم يذكر فيه أم كلثوم وفي الباب عن جابر عند مسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجة سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان: لا مبيت لكم ولا عشاء، وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، فإذا لم يذكر الله عند طعامه قال: أدركتم المبيت والعشاء. وعن حذيفة بن اليمان عند مسلم وأبي داود والنسائي قال: كنا إذا حضرنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم طعاما لم يضع أحدنا يده في الطعام حتى يبدأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنا حضرنا معه طعاما فجاء أعرابي كأنما يدفع فذهب ليضع يده في الطعام فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيده، ثم جاءت جارية كأنما تدفع فذهبت لتضع يدها في الطعام فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيدها وقال: إن الشيطان ليستحل الطعام الذي لم يذكر اسم الله عليه، وأنه جاء بهذا الاعرابي ليستحل بيده فأخذت بيده، وجاء بهذه الجارية ليستحل بيدها فأخذت بيدها، والذي نفسي بيده إن يده لفي يدي مع أيديهما. وأخرج الترمذي عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأكل طعاما في ستة من أصحابه فجاء أعرابي فأكل بلقمتين فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما إنه لو سمى لكفي لكم وقال: حديث حسن. وأخرج ابن السني عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من نسي أن يذكر الله
[ 42 ]
في أول طعامه فليقل حين يذكر: بسم الله أوله وآخره فإنه يستقبل طعاما جديدا ويمنع الخبيث مما كان يصيب منه. وفي الباب أيضا عن عمر بن أبي سلمة وسيأتي. وفي هذه الاحاديث دليل على مشروعية التسمية للاكل، وأن الناسي يقول في أثنائه بسم الله على أوله وآخره، وكذا التارك للتسمية عمدا يشرع له التدارك في أثنائه. قال في الهدي: والصحيح وجوب التسمية عند الاكل، وهو أحد الوجهين لاصحاب أحمد، وأحاديث الامر بها صحيحة صريحة لا معارض لها ولا إجماع يسوغ مخالفتها ويخرجها عن ظاهرها، وتاركها يشركه الشيطان في طعامه وشرابه اه. والذي عليه الجمهور من السلف والخلف من المحدثين وغيرهم أن أكل الشيطان محمول على ظاهره، وأن للشيطان يدين ورجلين، وفيهم ذكر وأنثى، وأنه يأكل حقيقة بيده إذا لم يدفع، وقيل إن أكلهم على المجاز والاستعارة، وقيل إن أكلهم شم واسترواح، ولا ملجئ إلى شئ من ذلك. وقد ثبت في الصحيح كما سيأتي أن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله وروي عن وهب بن منبه أنه قال: الشياطين أجناس فخالص الجن لا يأكلون ولا يشربون ولا يتناكحون وهم ريح، ومنهم جنس يفعلون ذلك كله ويتوالدون وهم السعالى والغيلان ونحوهم. وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يأكل أحدكم بشماله ولا يشرب بشماله فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: البركة تنزل في وسط الطعام فكلوا من حافتيه ولا تأكلوا من وسطه رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه. وعن عمر أنأبي سلمة قال: كنت غلاما في حجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي: يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك متفق عليه. وعن أبي جحيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما أنا فلا آكل متكئا رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي. قوله: لا يأكل أحدكم بشماله فيه النهي عن الاكل والشرب بالشمال، والنهي حقيقة في التحريم كما تقرر في الاصول، ولا يكون لمجرد الكراهة فقط إلا مجازا مع قيام صارف. قال النووي: وهذا إذا لم يكن عذر، فإن كان عذر بمنع الاكل أو الشرب باليمين من مرض أو جراحة أو غير ذلك فلا كراهة في الشمال. قوله: فإن
[ 43 ]
الشيطان يأكل الخ إشارة إلى أنه ينبغي اجتناب الافعال التي تشبه أفعال الشيطان، وقد تقدم الخلاف هل ذلك على الحقيقة أم على المجاز؟ قوله: البركة تنزل في وسط الطعام لفظ أبي داود: إذا أكل أحدكم طعاما فلا يأكل من أعلى الصحفة ولكن ليأكل من أسفلها فإن البركة تنزل من أعلاها وفيه مشروعية الاكل من جوانب الطعام قبل وسطه. قال الرافعي وغيره: يكره أن يأكل من أعلى الثريد ووسط القصعة وأن يأكل مما يلي أكيله، ولا بأس بذلك في الفواكه. وتعقبه الاسنوي بأن الشافعي نص على التحريم فإن لفظه في الام: فإن أكل مما يليه أو من رأس الطعام أثم بالفعل الذي فعله إذا كان عالما، واستدل بالنهي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأشار إلى هذا الحديث. قال الغزالي: وكذا لا يأكل من وسط الرغيف بل من استدارته إلا إذ قل الخبز فليكسر الخبز، والعلة في ذلك ما في الحديث من كون البركة تنزل في وسط الطعام. قوله: تطيش بكسر الطاء وبعدها مثناة تحتية ساكنة أي تتحرك وتمتد إلى نواحي الصحفة ولا تقتصر على موضع واحد. قال النووي: والصحفة دون القصعة وهي ما تسع ما يشبع خمسة، والقصعة تشبع عشرة كذا قال الكسائي فيما حكاه الجوهري وغيره عنه. وقيل: الصحفة كالقصعة وجمعها صحاف. قال النووي أيضا وفي هذا الحديث ثلاث سنن من سنن الاكل، وهي: التسمية. والاكل باليمين وقد سبق بيانهما. والثالثة الاكل مما يليه لان أكله من موضع يد صاحبه سوء عشرة وترك مروءة قد يتقذره صاحبه لاسيما في الامراق وشبهها، وهذا في الثريد والامراق وشبههما. فإن كان تمرا وأجناسا فقد نقلوا إباحة اختلاف الايدي في الطبق ونحوه، والذي ينبغي تعميم النهي حملا للنهي على عمومه حتى يثبت دليل مخصص والله أعلم. قوله: أما أنا فلا آكل متكئا سبب هذا الحديث قصة الاعرابي المذكور في حديث عبد الله بن بسرعند ابن ماجه والطبراني بإسناد حسن قال: أهديت للنبي صلى الله عليه وآله وسلشاة فجثى على ركبتيه يأكل: فقال له أعرابي : ما هذه الجلسة: فقال: إن الله جعلني عبدا كريما ولم يجعلني جبارا عنيدا. قال ابن بطال: إنما فعل النبي صلي الله عليه وآله وسلم ذلك تواضعا لله. ثم ذكر من طريق أيوب عن الزهري قال: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ملك لم يأته قبلها فقال: إن ربك يخيرك بين أن تكون عبدا نبيا أو ملكا نبيا، قال: فنظر إلى جبريل كالمستشير له
[ 44 ]
فأومأ إليه أن تواضع، فقال بل عبدا نبيا، قال فما أكل متكئا اه. قال الحافظ: وهذا مرسل أو معضل. وقد وصله النسائي من طريق الزبيدي عن الزهري عن محمد بن عبد الله بن عباس قال: كان ابن عباس يحدث فذكر نحوه. وأخرج أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ما رئي النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأكل متكئا قط. وأخرج ابن أبي شيبة عن مجاهد قال: ما أكل النبي صلى الله عليه وآله وسلم متكئا إلا مرة ثم نزع فقال: اللهم إني عبدك ورسولك وهذا مرسل ويمكن الجمع بأن تلك المرة التي في أثر مجاهد ما اطلع عليها عبد الله بن عمرو. وقد أخرج ابن شاهين في ناسخه من مرسل عطاء بن يسار أن جبريل رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأكل متكئا فنهاه. ومن حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما نهاه جبريل عن الاكل متكئا لم يأكل متكئا بعد ذلك واختلف في صفة الاتكاء فقيل: إن يتمكن في الجلوس للاكل على أي صفة كان، وقيل أن يميل على أحد شقيه، وقيل إن يعتمد على يده اليسرى من الارض. قال الخطابي: يحسب العامة أن المتكئ هو الآكل على أحد شقيه وليس كذلك بل هو المعتمد على الوطاء عند الاكل لانه صلى الله عليه وآله وسلم قال: إني أذم فعل من يستكثر من الطعام فإني لا آكل إلا البلغة من الزاد فلذلك أقعد مستوفزا. وفي حديث أنس: أنه صلى الله عليه وآله وسلم أكل تمرا وهو مقع والمراد الجلوس على وركيه غير متمكن. وأخرج ابن عدي بسند ضعيف: زجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعتمد الرجل على يده اليسرى عند الاكل قال مالك: هو نوع من الاتكاء. قال الحافظ: وفي هذا إشارة من مالك إلى كراهة ما يعد الآكل فيه متكئا ولا يختص بصفة بعينها. وجزم ابن الجوزي في تفسير الاتكاء بأنه الميل على أحد الشقين، ولم يلتفت لانكار الخطابي ذلك، وحكى ابن الاثير في النهاية أن من فسر الاتكاء بالميل على أحد الشقين تأوله على مذهب الطب بأنه لا ينحدر في مجاري الطعام سهلا ولا يسيغه هنيئا. واختلف السلف في حكم الآكل متكئا فزعم ابن القاص أن ذلك من الخصائص النبوية، وتعقبه البيهقي فقال: يكره لغيره أيضا لانه من فعل المتعظمين وأصله مأخوذ من ملوك العجم قال: فإن كان بالمرء مانع لا يتمكن معه الاكل إلا متكئا لم يكن في ذلك كراهة، ثم ساق عن جماعة من السلف أنهم أكلوا كذلك، وأشار إلى حمل ذلك عنهم على
[ 45 ]
الضرورة وفي الحمل نظر. وقد أخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس وخالد بن الوليد وعبيدة السلماني ومحمد بن سيرين وعطاء بن يسار والزهري جواز ذلك مطلقا، وإذا ثبت كونه مكروها أو خلاف الاولى فالمستحب في صفة الجلوس للاكل أن يكون جاثيا على ركبتيه وظهور قدميه، أو ينصب الرجل اليمنى ويجلس على اليسرى، واستثنى الغزالي من كراهة الآكل مضطجعا أكل البقل، واختلف في علة الكراهة، وأقوى ما ورد في ذلك ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق إبراهيم النخعي قال: كانوا يكرهون أن يأكلوا تكأة مخافة أن تعظم بطونهم، وإلى ذلك يشير بقية ما ورد من الاخبار. ووجه الكراهة فيه ظاهر، وكذلك ما أشار إليه ابن الاثير من جهة الطب. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا طعم طعاما لعق أصابعه الثلاث وقال: إذا وقعت لقمة أحدكم فليمط عنها الاذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان، وأمرنا أن نسلت القصعة وقال: إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه. وعن المغيرة بن شعبة قال: ضفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات ليلة فأمر بجنب فشوي قال: فأخذ الشفرة فجعل يحتز لي بها منه رواه أحمد. وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى بعض حجر نسائه فدخل ثم أذن لي فدخلت فقال: هل من غداء؟ فقالوا نعم، فأتي بثلاثة أقرصة فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قرصا فوضعه بين يديه وأخذ قرصا آخر فوضعه بين يدي ثم أخذ الثالث فكسره باثنتين فجعل نصفه بين يديه ونصفه بين يدي ثم قال: هل من أدم؟ قالوا: لا إلا شئ من خل، قال: هاتوه فنعم الادم هو رواه أحمد ومسلم. حديث المغيرة بن شعبة أخرجه أيضا أبو داود والترمذي وابن ماجة، ولفظ أبي داود في باب ترك الوضوء مما مست النار عن المغيرة بن شعبة قال: ضفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم ليلة فأمر بجنب فشوي فأخذ الشفرة فجعل يحز لي بها منه قال: فجاء بلال فآذنه بالصلاة قال فألقى السكين وقال: ما له تربت يداه وقام يصلي زاد الانباري: وكان بشاربي وفاء فقصه على سواك أو قال أقصه لك على سواك. قوله: لعق أصابعه فيه استحباب لعق الاصابع محافظة على بركة الطعام وتنظيفا، وسيأتي تمام الكلام على ذلك. وفيه استحباب الاكل بثلاث أصابع ولا يضم إليها الرابعة والخامسة إلا
[ 46 ]
لعذر بأن يكون مرقا أو غيره مما لا يمكن بثلاث وغير ذلك من الاعذار. قوله: فليمط عنها الاذى فيه مشروعية أكل اللقمة الساقطة بعد مسح أذى يصيبها، هذا إذا لم تقع على موضع نجس، ولا بد من غسلها إن أمكن، فإن تعذر قال النووي: أطعمها حيوانا ولا يتركها للشيطان. قوله: أن نسلت القصعة قال الخطابي: سلت القصعة تتبع ما يبقى فيها من الطعام، وفيه أن لعق القصعة مشروع، والعلة في ذلك ما ذكرناه عقبه من أنهم لا يدرون في أي طعامهم البركة أي أن الطعام الذي يحضر الانسان فيه بركة، ولا يدري هل البركة فيما أكل أو فيما بقي على أصابعه أو فيما بقي في أسفل القصعة أو في اللقمة الساقطة؟ فينبغي أن يحافظ على هذا كله لتحصل البركة، وأصل البركة الزيادة وثبوت الخير والامتاع به. قال النووي: والمراد هنا والله أعلم ما تحصل به التغذية وتسلم عاقبته من أذى ويقوى على طاعة الله وغير ذلك، وسيأتي حديث استغفار القصعة قريبا وهو صالح للتعليل به. قوله: ضفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكسر الضاد المعجمة من ضاف يضيف مثل باع يبيع. وقال في النهاية: ضفت الرجل إذا نزلت به في ضيافته. وقال في الضياء: إذا تعرض به ليضيفه قال في النهاية: وأضفته إذا أنزلته وتضيفته إذا قوله: فأخذ الشفرة فجعل يحتز لي بها فيه دليل على جواز قطع اللحم نزلت به بالسكين. وقد أخرج أبو داود عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تقطعوا اللحم بالسكين فإنه من صنع الاعاجم وانهشوه فإنه أهنأ وأمرأ ويؤيد حديث الباب ما رواه البخاري وغيره من حديث عمرو بن أمية الضمري أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحتز من كتف شاة فدعي إلى الصلاة فألقى السكين فصلى ولم يتوضأ على أن حديث عائشة المذكور في إسناده أبو معشر السندي المدني واسمه نجيح كان يحيى بن سعيد القطان لا يحدث عنه ويستضعفه جدا ويضحك إذا ذكره غيره. قا المنذري: وتكلم فيه غير واحد من الائمة. وقال النسائي: أبو معشر له أحاديث مناكير منها هذا. ومنها عن أبي هريرة ما بين المشرق والمغرب قبلة. وأما أحمد بن حنبل فقال: صدوق وعلى كل حال فحديث عائشة لا يعادل ما عارضه من حديث عمرو بن أمية وحديث الباب. ويروى عن الامام أحمد أنه سئل عن حديث عائشة فقال: ليس بمعروف. قوله: فأخذ قرصا الخ، فيه استحباب التسوية بين الحاضرين
[ 47 ]
على الطعام وإن كان بعضهم أفضل من بعض. قوله: هل من أدم قال أهل اللغة: الادام بكسر الهمزة ما يؤتدم به، يقال أدم الخبز يأدمه بكسر الدال وجمع الادام أدم بضم الهمزة كإهاب وأهب وكتاب وكتب، والادم بإسكان الدال مفرد كالادام كذا قال النووي. قال الخطابي والقاضي عياض: معني الحديث مدح الاقتصار في المأكل ومنع النفس عن ملاذ الاطعمة تقديره ائتدموا بالخل، وما في معناه مما تخف مؤونته ولا يعز وجوده ولا تتأنقوا في الشهوات فإنها مفسدة للدين مسقمة للبدن. قال النووي: والصواب الذي ينبغي أن يجزم به أنه مدح للخل نفسه. وأما الاقتصار في المطعم وترك الشهوات فمعلوم من قواعد أخر. قال وأما قول جابر: فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو كقول أنس: ما زلت أحب الدباء، وهذا يؤيد ما قلناه في معنى الحديث أنه مدح للخل نفسه. وقد كررنا مرات أن تأويل الراوي إذا لم يخالف الظاهر يتعين المصير إليه والعمل به عند جماهير العلماء من الفقهاء والاصوليين وهذا كذلك، بل تأويل الراوي هنا هو ظاهر اللفظ فيتعين اعتماده اه. وقيل وهو الصواب: أنه ليس فيه تفضيل على اللحم واللبن والعسل والمرق، وإنما هو مدح له في تلك الحال التي حضر فيها، ولو حضر لحم أو لبن لكان أولى بالمدح منه. وعن أبي مسعود عقبة بن عمرو: أن رجلا من قومه يقال له أبو شعيب صنع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم طعاما فأرسل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ائتني أنت وخمسة معك، قال: فبعث إليه: أن ائذن لي في السادس متفق عليه. وعنابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يلعقها متفق عليه، ورواه أبو داود وقال فيه بالمنديل. وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بلعق الاصابع والصحفة وقال: إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة رواه أحمد ومسلم. وعنبيشة الخير: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أكل في قصعة ثم لحسها استغفرت له القصعة رواه أحمد وابن ماجة والترمذي. وعن جابر: أنه سئل عن الوضوء مما مسته النار فقال: لا، لقد كنا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا نجد مثل ذلك من الطعام إلا قليلا فإذا نحن وجدناه لم يكن لنا مناديل
[ 48 ]
إلا أكفنا وسواعدنا وأقدامنا ثم نصلي ولا نتوضأ رواه البخاري وابن ماجة. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من بات وفي يده غمر ولم يغسله فأصابه شئ فلا يلومن إلا نفسه رواه الخمسة إلا النسائي. حديث نبيشة الخير رواه الترمذي من طريق نصر بن علي الجهضمي قال: أخبرنا أبو اليمان المعلى بن راشد قال: حدثتني جدتي أم عاصم وكانت أم ولد لسنان بن سلمة قالت: دخل علينا نبيشة الخير ونحن نأكل في قصعة فحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أكل في قصعة ثم لحسها استغفرت له القصعة قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث المعلى بن راشد وقد روى يزيد بن هارون وغير واحد من الائمة عن المعلى بن راشد هذا الحديث اه. وحديث أبي هريرة سكت عنه أبو داود ورجال إسناده رجال الصحيح وأخرجه الترمذي معلقا. وأخرجه الضياء من حديث سعيد المقبري عن أبي هريرة وقال غريب. وأخرجه أيضا من حديث الاعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وقال: حسن غريب لا نعرفه من حديث الاعمش إلا من هذا الوجه. قوله: فبعث إليه أن ائذن لي في السادس فيه أن المدعو إذا تبعه رجل من غير استدعاء ينبغي له أن لا يأذن له ولا ينهاه، وإذا بلغ باب دار صاحب الطعام أعلمه به ليأذن له أو يمنعه، وأن صاحب الطعام يستحب له أن يأذن له إن لم يترتب على حضوره مفسدة بأن يؤذي الحاضرين أو يشيع عنهم ما يكرهونه أو يكون جلوسه معهم مزريا بهم لشهرته بالفسوق ونحو ذلك فإن خيف من حضوره شئ من هذا لم يأذن له، وينبغي أن يتلطف في رده ولو بإعطائه شيئا من الطعام إن كان يليق به ليكون ردا جميلا كذا قال النووي. قوله: فلا يمسح يده يحتمل أن يكون أطلق اليد على الاصابع الثلاث لما تقدم في حديث أنس بلفظ: لعق أصابعه الثلاث. وفي مسلم من حديث كعب بن مالك بلفظ: يأكل بثلاث أصابع فإذا فرغ لعقها ويحتمل أن يطلق على جميع أصابع اليد لان الغالب اتصال شئ من آثار الطعام بجميعها، ويحتمل أن يكون المراد باليد الكف كلها. قال الحافظ: وهو الاولى فيشمل الحكم من أكل بكفه كلها أو بأصابعه فقط أو ببعضها. وقال ابن العربي في شرح الترمذي: يدل على الاكل بالكف كلها أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتعرق العظم وينهش اللحم ولا يمكن ذلك عادة إلا بالكف
[ 49 ]
كلها، قيل وفيه نظر لانه يمكن بالثلاث سلمنا لكن هو ممسك بكفه كلها لا آكل بها سلمنا، محل الضرورة لا يدل على عموم الاحوال، ويؤخذ من حديث كعب بن مالك أن السنة الاكل بثلاث أصابع وإن كان الاكل بأكثر منها جائزا. وقد أخرج سعيد بن منصور عن سفيان عن عبيد الله بن يزيد أنه رأى ابن عباس إذا أكل لعق أصابعه الثلاث. قال عياض: والاكل بأكثر منها من الشره وسوء الادب وتكبير اللقم، ولانه غير مضطر إلى ذلك لجمعه اللقمة وإمساكها من جهاتها الثلاث، فإن اضطر إلى ذلك لخفة الطعام وعدم تلفيفه بالثلاث فيدعمه بالرابعة أو الخامسة. قوله: حتى يلعقها أو يلعقها الاول بفتح حرف المضارعة والثاني بضمها، أي يلعقها زوجته أو جاريته أو خادمه أو ولده، وكذا من كان في معناهم كتلميذ يعتقد البركة بلعقها، وكذا لو ألعقها شاة ونحوها. وقال البيهقي: إن قوله أو يلعقها شك من الراوي ثم قال: فإن كانا جميعا محفوظين فإنما أراد أن يلعقها صغيرا أو من يعلم أنه لا يتقذر بها، ويحتمل أن يكون أراد أن يلعق أصبعه فمه فيكون بمعنى يلعقها فتكون أو للشك. قال ابن دقيق العيد: جاءت علة هذا مبينة في بعض الروايات أنه لا يدري في أي طعامه البركة، وقد يعلل أن مسحها قبل ذلك فيه زيادة تلويث لما يمسح به مع الاستغناء عنه بالريق، لكن إذا صح الحديث بالتعليل لم يعدل عنه، وقد عرفت أنه في صحيح مسلم كما في الباب. قوله: وقال فيه بالمنديل هو أيضا في صحيح مسلم بلفظ: فلا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه وفي حديث جابر أنهم لم يكن لهم مناديل، ومفهومه يدل على أنها لو كانت لهم مناديل لمسحوا بها. قوله: استغفرت له القصعة فيه أن ذلك من القرب التي ينبغي المحافظة عليها، لان استغفار القصعة دليل على كون الفعل مما يثاب عليه الفاعل. قوله: إلا أكفنا وسواعدنا فيه الاخبار بما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من التقلل من الدنيا والزهد فيها والانتفاع بالاكف والسواعد كما ينتفع غيرهم بالمناديل، وقد تقدم الكلام على الوضوء مما مست النار. قوله: غمر بفتح الغين المعجمة والميم معا هو ريح دسم اللحم وزهومته كالوضر من السمن، ذكر معنى ذلك في النهاية. قوله: ولم يغسله إطلاقه يقتضي حصول السنة بمجرد الغسل بالماء، قال ابن رسلان: والاولى غسل اليد منه بالاشنان والصابون وما في معناهما. قوله: وأصابه
[ 50 ]
شئ في رواية للطبراني: من بات وفي يده ريح غمر فأصابه وضح أي برص قوله: فلا يلومن إلا نفسه أي لانه الذى فرط بترك الغسل فأتى الشيطان فلحس يده فوقع بها البرص وأخرج الترمذي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الشيطان حساس لحاس فاحذروه على أنفسكم، من بات وفي يده غمر فأصابه شئ فلا يلومن إلا نفسه وقد جاء في الحديث تخصيص غسل اليد بأكل اللحم فأخرج أبو يعلى بإسناد ضعيف من حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أكل من هذه اللحوم شيئا فليغسل يده من ريح وضره. وعن أبي أمامة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا رفع مائدته قال: الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا رواه أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجة والترمذي وصححه. وفي لفظ: كان إذا فرغ من طعامه قال: الحمد لله الذي كفانا وأروانا غير مكفي ولا مكفور رواه البخاري. وعن أبي سعيد قال: إذا أكل أو شرب قال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة. وعن معاذ بن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أكل طعاما فقال الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر الله له ما تقدم من ذنبه رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن غريب. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أطعمه الله طعاما فليقل اللهم بارك لنافيه وأطعمنا خيرا منه، ومن سقاه الله لبنا فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليس شئ يجزي مكان الشراب والطعام غير اللبن رواه الخمسة إلا النسائي. حديث أبي سعيد أخرجه أيضا النسائي وذكره البخاري في تاريخه الكبير وساق اختلاف الرواة فيه، وقد سكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده إسماعيل بن رباح السلمي وهو مجهول. وحديث معاذ بن أنس أخرجه الترمذي من طريق محمد بن إسماعيل قال: حدثنا عبد الله بن يزيد المقبري، حدثنا سعيد بن أيوب، حدثني أبو مرحوم وهو عبد الرحمن بن ميمون عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه وساق الحديث ثم قال: هذا حديث حسن غريب. وحديث ابن عباس وغيره ولكن لفظ
[ 51 ]
أبي داود: إذا أكل أحدكم طعاما فليقل: اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه، وإذا سقي لبنا فليقل اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه، فإنه ليس شئ يجزي من الطعام والشراب إلا اللبن. ولفظ الترمذي: من أطعمه الله طعاما فليقل: اللهم بارك فيه وأطعمنا خيرا منه، ومن سقاه الله لبنا فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليس شئ يجزي مكان الطعام والشراب غير اللبن وقد حسن هذا الحديث الترمذي ولكن في إسناده على ابن زيد بن جدعان عن عمرو بن حرملة، وقد ضعف علي بن زيد جماعة من الحفاظ. وعمر بن حرملة سئل عنه أبو زرعة الرازي فقال: بصري لا أعرفه إلا في هذا الحديث. قوله: إذا رفع مائدته قد ثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يأكل على خوان قط كما في حديث أنس، والمائدة هي خوان عليه طعام، فأجاب بعضهم بأن أنسا ما رأى ذلك ورآه غيره والمثبت يقدم على النافي. قال في الفتح: وقد تطلق المائدة ويراد بها نفس الطعام. وقد نقل عن البخاري أنه قال: إذا أكل الطعاعلى شئ ثم رفع قيل رفعت المائدة. قوله: غير مكفي بفتح الميم وسكون الكاف وكسر الفاء وتشديد التحتانية قال ابن بطال يحتمل أن يكون من كفأت الاناء فالمعنى غير مردود عليه إنعامه، ويحتمل أن يكون من الكفاية أي أن الله غير مكفي رزق عباده لانه لا يكفيهم أحد غيره. وقال ابن التين أي غير محتاج إلى أحد لكنه هو الذي يطعم عباده ويكفيهم هذا قول الخطابي. وقال القزاز: معناه أنا غير مكتف بنفسي عن كفايته. وقال الداودي معناه لم أكتف من فضل الله ونعمته قال ابن التين: وقول الخطابي أولى لان مفعولا بمعنى مفتعل فيه بعد وخروج عن الظاهر. قال في الفتح: وهذا كله على أن الضمير لله ويحتمل أن يكون الضمير للحمد. وقال إبراهيم الحربي: الضمير للطعام، ومكفي بمعنى مقلوب من الاكفاء وهو القلب. وذكر ابن الجوزي عن أبي منصور الجواليقي أن الصواب غير مكافأ بالهمز أي أن نعمة الله لا تتكافأ اه. وقد ثبت هكذا في حديث أبي هريرة، ويؤيد هذا لفظ كفانا الواقع في الرواية الاخرى لان الضمير فيه يعود إلى الله تعالى بلا ريب، إذ هو تعالى هو الكافي لا المكفي وكفانا هو من الكفاية وهو أعم من الشبع والري وغيرهما، فأروانا على هذا من الخاص بعد العام، ووقع في رواية ابن السكن وآوانا بالمد من الايواء. قوله: ولا مودع بفتح الدال
[ 52 ]
الثقيلة أي غير متروك، ويحتمل أنه حال من القائل أي غير تارك. قوله: ولا مستغنى عنه بفتح النون وبالتنوين. قوله: ربنا بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو ربنا، أو على أنه مبتدأ وخبره متقدم عليه، ويجوز النصب على المدح أو الاختصاص أو إضمار أعني. قال ابن التين: ويجوز الجر على أنه بدل من الضمير في عنه، وقال غيره على البدل من الاسم فقوله الحمد لله. وقال ابن الجوزي: ربنا بالنصب على النداء مع حذف أداة النداء. قوله: ولا مكفور أي مجحود فضله ونعمته، وهذا أيضا مما يقوي أن الضمير لله تعالى. قوله: إذا أكل أو شرب لفظ أبي داود: كان إذا فرغ من طعامه والمذكور في الباب لفظ الترمذي. وفي حديث أبي هريرة عند النسائي والحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم مرفوعا: الحمد لله الذي أطعم من الطعام، وسقى من الشراب، وكسا من العرى، وهدى من الضلال، وبصر من العمى، وفضل على كثير ممن خلق تفضيلا. قوله: وزدنا منه هذا يدل على الروايات التي ذكرناها أنه ليس في الاطعمة والاشربة خير من اللبن، وظاهره أنه خير من العسل الذي هو شفاء، لكن قد يقال إن اللبن باعتبار التغذي والري خير من العسل ومرجح عليه، والعسل باعتبار التداوي من كل داء، وباعتبار الحلاوة مرجح على اللبن، ففي كل منهما خصوصية يترجح بها، ويحتمل أن المراد وزدنا لبنا من جنسه وهو لبن الجنة كما في قوله تعالى: * (هذا الذي رزقنا من قبل) * (البقرة: 25). قوله: فإنه ليس يجزئ بضم أوله من الطعام أي بدل الطعام كقوله تعالى: * (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) * أي بدلها. [ رك ] كتاب الاشربة [ رم ] باب تحريم الخمر ونسخ إباحتها المتقدمة عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة رواه الجماعة إلا الترمذي. [ رح 3674 ] وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مدمن الخمر كعابد وثن رواه ابن ماجة. [ رح 3675 ] وعن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: يا أيها الناس إن الله يبغض الخمر، ولعل الله سينزل فيها أمرا فمن كان عنده منها شئ
[ 53 ]
فليبعه ولينتفع به، قال: فما لبثنا إلا يسيرا حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله حرم الخمر، فمن أدركته هذه الآية وعنده منها شفلا يشرب ولا يبيع، قال: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرق المدينة فسفكوها رواه مسلم. وعن ابن عباس قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صديق من ثقيف ودوس فلقيه يوم الفتح براحلة أو راوية من خمر يهديها إليه فقال: يا فلان أما علمت أن الله حرمها؟ فأقبل الرجل على غلامه فقال: اذهب فبعها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الذي حرم شربها حرم بيعها فأمر بها فأفرغت في البطحاء رواه أحمد ومسلم والنسائي. وفي رواية لاحمد: أن رجلا خرج والخمر حلال فأهدى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم راوية خمر فذكر نحوه وهو دليل على أن الخمور المحرمة وغيرها تراق ولا تستصلح بتخليل ولا غيره. وعن أبي هريرة: أن رجلا كان يهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم راوية خمر فأهداها إليه عاما وقد حرمت فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنها قد حرمت. فقال الرجل: أفلا أبيعها؟ فقال: إن الذي حرم شربها حرم بيعها، قال: أفلا أكارم بها اليهود؟ قال: إن الذي حرمها حرم أن يكارم بها اليهود، قال: فكيف أصنع بها؟ قال: شنها على البطحاء رواه الحميدي في مسنده. وعنابن عمر قال: نزل في الخمر ثلاث آيات، فأول شئ نزلت: * (يسألونك عن الخمر والميسر) * (البقرة 219) الآية، فقيل: حرمت الخمر، فقيل: يا رسول الله ننتفع بها كما قال الله عزوجل؟ فسكت عنهم ثم أنزلت هذه الآية: * (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) * (البقرة: 219) فقيل حرمت الخمر بعينها، فقالوا: يا رسول الله إنا لا نشربها قرب الصلاة فسكت عنهم ثم نزلت: * (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان) * (المائدة: 90) الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حرمت الخمر رواه أبو داود الطيالسي في مسنده. [ رح 3679 ] وعن علي عليه السلام قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا وقد حضرت الصلاة فقدموني فقرأت: * (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون) *، قال فأنزل الله عزوجل: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون) * (النساء: 43) رواه الترمذي وصححه. حديث أبي هريرة الاول إسناده في سنن ابن ماجة هكذا: حدثنا أبو بكر
[ 54 ]
بن أبي شيبة ومحمد بن الصباح قالا: حدثنا محمد بن سليمان الاصبهاني عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة فذكره ورجال إسناده ثقات إلا محمد بن سليمان فصدوق لكنه يخطئ، وقد ضعفه النسائي، وقال أبو حاتم: لا بأس به وليس بحجة. وحديث علي عليه السلام سيأتي الكلام عليه آخر البحث. قوله: من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها بضم المهملة وكسر الراء الخفيفة من الحرمان، والمراد بقوله لم يتب منها أي من شربها فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. قال الخطابي والبغوي في شرح السنة: معنى الحديث لا يدخل الجنة لان الخمر شراب أهل الجنة فإذا حرم شربها دل على أنه لا يدخل الجنة. وقال ابن عبد البر: هذا وعيد شديد يدل على حرمان دخول الجنة لان الله تعالى أخبر أن في الجنة أنهارا من خمر لذة للشاربين وأنهم لا يصدعون عنها ولا ينزفون، فلو دخلها وقد علم أن فيها خمرا أو أنه حرمها عقوبة له لزم وقوع الهم والحزن والجنة لا هم فيها ولا حزن، وإن لم يعلم بوجودها في الجنة ولا أنه حرمها عقوبة له لم يكن عليه في فقدها ألم، فلهذا قال بعض من تقدم: أنه لا يدخل الجنة أصلا. قال: وهو مذهب غير مرضي. قال: ويحمل الحديث عند أهل السنة على أنه لا يدخلها ولا يشرب الخمرة فيها إلا إن عفا الله عنه كما في بقية الكبائر وهو في المشيئة، فعلى هذا معنى الحديث جزاؤه في الآخرة أن يحرمها لحرمانه دخول الجنة إلا إن عفا الله عنه. قال: وجائز أن يدخل الجنة بالعفو ثم لا يشرب فيها خمرا ولا تشتهيها نفسه وإن علم بوجودها فيها. ويؤيده حديث أبي سعيد مرفوعا من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة، وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه، وقد أخرجه الطبراني وصححه ابن حبان، وقريب منه حديث عبد الله بن عمرو رفعه: من مات من أمتي وهو يشرب الخمر حرم الله عليه شربها في الجنة أخرجه أحمد بسند حسن، وقد زاد عياض على ما ذكره ابن عبد البر احتمالا وهو أن المراد بحرمانه شربها أنه يحبس عن الجنة مدة إذا أراد الله عقوبته، ومثله الحديث الآخر لم يرح رائحة الجنة، قال: ومن قال لا يشربها في الجنة بأن ينساها أو لا يشتهيها يقول: ليس عليه في ذلك حسرة، ولا يكون ترك شهوته إياها عقوبة في حقه بل هو نقص، نعم بالنسبة إلى من هو أتم نعيما منه كما تختلف درجاتهم، ولا يحلق من هو أنقص درجة بمن هو أعلى درجة منه استغناء بما أعطى واغتباطا به. وقال ابن العربي:
[ 55 ]
ظاهر الحديثين أنه لا يشرب الخمر في الجنة ولا يلبس الحرير فيها، وذلك لانه استعجل ما أمر بتأخيره ووعد بفحرمه عند ميقاته، وفصل بعض المتأخرين بين من شربها مستحلا فهو الذي لا يشربها أصلا لانه لا يدخل الجنة أصلا، وعدم الدخول يستلزم حرمانها ومن شربها عالما بتحريمها فهو محل الخلاف، وهو الذي يحرم شربها مدة ولو في حال تعذيبه إن عذب، أو المعنى أن ذاك جزاؤه إن جوزي وفي الحديث: إن التوبة تكفر المعاصي الكبائر وذلك في التوبة من الكفر قطعي وفي غيره من الذنوب، خلاف بين أهل السنة هل هو قطعي أو ظني؟ قال النووي: الاقوى أنه ظني وقال القرطبي: من استقرأ الشريعة علم أن الله يقبل توبة الصادقين قطعا، وللتوبة والصادقة شروط مدونة في مواطن ذلك. وظاهر الوعيد أنه يتناول من شرب الخمر إن لم يحصل له السكر، لانه رتب الوعيد في الحديث على مجرد الشرب من غير تقييد. قال في الفتح: وهو مجمع عليه في الخمر المتخذ من عصير العنب، وكذا فيما يسكر من غيرها، وأما ما لا يسكر من غيرها فالامر فيه كذلك عند الجمهور. قوله: مدمن الخمر كعابد وثن هذا وعيد شديد وتهديد ما عليه مزيد لان عابد الوثن أشد الكافرين كفرا، فالتشبيه لفاعل هذه المعصية بفاعل العبادة للوثن من أعظم المبالغة والزجر لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. قوله: إن الله حرم الخمر اختلف في بيان الوقت الذي حرمت فيه الخمر فقال الدمياطي في سيرته بأنه كان عام الحديبية والحديبية كانت سنة ست وذكر ابن إسحاق أنه كان في وقعة بني النضير وهي بعد أحد وذلك سنة أربع على الراجح. قوله: فمن أدركته هذه الآية لعله يعني قوله تعالى: * (إنما الخمر والميسر) * (المائدة: 90). قوله: أفلا أكارم بها اليهود قال في القاموس: كارمه فكرمه كنصره غلبه فيه اه. ولعل المراد هنا المهاداة، قال في النهاية: المكارمة أن تهدي لانسان شيئا ليكافئك عليه وهي مفاعلة من الكرم اه. قوله: ثم نزلت إنما الخمر والميسر أخرج أبو داود عن ابن عباس أن قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) * (النساء: 43) وقوله تعالى: * (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس) * (البقرة: 219) نسختهما التي في المائدة: * (إنما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس) * وفي إسناده علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال. ووجه النسخ أن الآية الآخرة فيها
[ 56 ]
الامر بمطلق الاجتناب، وهو يستلزم أن لا ينتفع بشئ معه من الخمر في حال من حالاته في غير وقت الصلاة، وفي حال السكر وحال عدم السكر، وجميع المنافع في العين والثمن. قوله: وعن علي رضي الله عنه قال: صنع لنا عبد الرحمن الخ، هذا الحديث صححه الترمذي كما رواه المصنف رحمه الله، وأخرجه أيضا النسائي وأبو داود وفي إسناده عطاء بن السائب لا يعرف إلا من حديثه، وقد قال يحيى بن معين لا يحتج بحديثه، وفرق مرة بين حديثه القديم وحديثه الحديث، ووافقه على التفرقة الامام أحمد. وقال أبو بكر البزار، وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن علي رضي الله عنه متصل الاسناد إلا من حديث عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن يعني السلمي، وإنما كان ذلك قبل أن تحرم الخمر فحرمت من أجل ذلك. قال المنذري: وقد اختلف في إسناده ومتنه، فأما الاختلاف في إسناده فرواه سفيان الثوري وأبو جعفر الرازي عن عطاء بن السائب فأرسلوه، وأما الاختلاف في متنه ففي كتاب أبي داود والترمذي: أن الذي صلى بهم علي عليه السلام وفي كتاب النسائي وأبي جعفر النحاس: أن المصلي بهم عبد الرحمن بن عوف. وفي كتاب أبي بكر البزار: أمروا رجلا فصلى بهم ولم يسمه. وفي حديث غيره: فتقدم بعض القوم اه. وأخرج الحاكم في تفسير سورة النساء عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن عن علي رضي الله عنه: دعانا رجل من الانصار قبل تحريم الخمر فحضرت صلاة المغرب فتقدم رجل فقرأ: * (قل يا أيها الكافرون) * فألبس عليه فنزلت: * (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) * ثم قال: صحيح. قال: وفي هذا الحديث فائدة كبيرة وهي أن الخوارج تنسب هذا السكر وهذه القراءة إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب دون غيره، وقد برأه الله منها فإنه راوي الحديث. باب ما يتخذ منه الخمر وأن كل مسكر حرام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة رواه الجماعة إلا البخاري. وعن أنس قال: إن الخمر
[ 57 ]
حرمت والخمر يومئذ البسر والتمر متفق عليه وفي لفظ قال: حرمت علينا حين حرمت وما نجد خمر الاعناب إلا قليلا وعامة خمرنا البسر والتمر رواه البخاري وفي لفظ: لقد أنزل الله هذه الآية التي حرم فيها الخمر وما في المدينة شراب إلا من تمر رواه مسلم. وعن أنس قال: كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب من فضيخ زهو وتمر فجاءهم آت فقال: إن الخمر حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهرقها فأهرقتها متفق عليه. وعن ابن عمر قال: نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب رواه البخاري. وعنابن عمر: أن عمر قال على منبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والخمر ما خامر العقل متفق عليه. وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن من الحنطة خمرا، ومن الشعير خمرا، ومن الزبيب خمرا، ومن التمر خمرا، ومن العسخمرا رواه الخمسة إلا النسائي زاد أحمد وأبو داود: وأنا أنهى عن كل مسكر. وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كل مسكر خمر، وكل مسكر حرارواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجة. وفي رواية: كل مسكر خمر، وكل خمر حرام رواه مسلم والدارقطني. وعن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن البتع وهو نبيذ العسل وكان أهل اليمن يشربونه فقال صلى الله عليه وآله وسلم: كل شراب أسكر فهو حرام. وعن أبي موسى قال: قلت يا رسول الله أفتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمن البتع وهو من العسل ينبذ حتى يشتد، والمزر وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتد، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه فقال: كل مسكر حرام متفق عليهما. وعن جابر أن رجلا مجيشان وجيشان من اليمن سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر فقال: أمسكر هو؟ قال: نعم، فقال: كل مسكر حرام، إن على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال، قالوا: يارسول الله وما طينة الخبال؟ قال: عرق أهل النار أو عصارة أهل النار رواه أحمد ومسلم والنسائي. وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كل مخمر خمر وكل مسكر حرام رواه
[ 58 ]
أبو داود. وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كل مسكر حرام رواه أحمد والنسائي وابن ماجة وصححه الترمذي. ولابن ماجة مثله من حديث ابن مسعود وحديث معاوية. حديث النعمان بن بشير في إسناده إبراهيم بن المهاجر البجلي الكوفي. قال المنذري: قد تكلم فيه غير واحد من الائمة. وقال الترمذي بعد إخراجه: غريب اه. قال ابن المديني: لابراهيم بن مهاجر نحو أربعين حديثا. وقال أحمد: لا بأس به، وقال النسائي والقطان: ليس بالقوي. وحديث ابن عباس سكت عنه أبو داود والمنذري وهو من طريق محمد بن رافع النيسابوري شيخ الجماعة سوى ابن ماجة قال: حدثنا إبراهيم بن عمر الصنعاني وهو ثقة قال: سمعت النعمان يعني ابن أبي شيبة عبيد الجنيدي وهو أيضا ثقة يقول عن طاوس عن ابن عباس الحديث وتمامه عند أبي داود: ومن شرب مسكرا بخست صلاته أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال، قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال: صديد أهل النار، ومن سقاه صغيرا لا يعرف حلاله من حرامه كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال. وحديث جابر المذكور في الباب أخرجه أيضا أبو داود بلفظ: ما أسكر كثيره فقليله حرام وقد حسنه الترمذي. قال المنذري في إسناده داود بن بكر بن أبي الفرات الاشجعي مولاهم المدني سئل عنه ابن معين فقال ثقة. وقال أبو حاتم الرازي: لا بأس به ليس بالمتين. قال المنذري أيضا: وقد روى عنه هذا الحديث من رواية الامام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وعائشة وخوات بن جبير. وحديث سعد بن أبي وقاص أجودها إسنادا، فإن النسائي رواه في سننه عن محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وهو أحد الثقات عن الوليد بن كثير. وقد احتج به البخاري ومسلم في الصحيحين عن الضحاك بن عثمان، وقد احتج به مسلم في صحيحه عن بكير بن عبد الله الاشج عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، وقد احتج البخاري ومسلم بهما في الصحيحين قال أبو بكر البزار: وهذا الحديث لا يعلم روي عن سعد إلا من هذا الوجه، ورواه عن الضحاك، وأسنده جماعة عنه منهم الدراوردي والوليد بن كثير ومحمد بن جعفر بن أبي كثير المدني انتهى. قال المنذري أيضا: وتابع محمد بن عبد الله بن عمار أبو سعيد
[ 59 ]
عبد الله بن سعيد الاشج وهو ممن اتفق عليه البخاري ومسلم واحتجابه. وحديث أبي هريرة لم يذكر الترمذي لفظه إنما ذكر حديث عائشة المذكور في الباب، ثم حديث ابن عمر بلفظ: كل مسكر حرام ثم قال: وفي الباب عن علي وعمر وابن مسعود وأنس وأبي سعيد وأبي موسى والاشج وديلم وميمونة وابن عباس وقيس بن سعد والنعمان بن بشير ومعاوية ووائل بن حجر وقرة المزني وعبد الله بن مغفل وأم سلمة وبريدة وأبي هريرة وعائشة قال: هذحديث حسن وقد روي عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه وكلاهما صحيح. ورواه غير واحد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وعن أبي سلمة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وحديث ابن مسعود ومعاوية اللذين أشار إليهما المصنف هما في سنن ابن ماجة كما قال. أما حديث ابن مسعود فلم يكن في إسناده إلا أيوب بن هانئ وهو صدوق وربما يخطئ وهو بلفظ: كل مسكر حرام وأما حديث معاوية ففي إسناده سليمان بن عبد الله بن الزبرقان وهو لين الحديث ولفظه: كل مسكر حرام على كل مؤمن. قوله: النخلة والعنبة لفظ أبي داود يعني النخلة والعنبة وهو يدل على أن تفسير الشجرتين ليس من الحديث، فيحتمل رواية من عدا أبا داود على الادراج، وليس في هذا نفي الخمرية عن نبيذ الحنطة والشعير والذرة وغير ذلك، فقد ثبت فيه أحاديث صحيحة في البخاري وغيره قد ذكر بعضها المصنف كما ترى، وإنما خص بالذكر هاتين الشجرتين، لان أكثر الخمر منهما وأعلى الخمر وأنفسه عند أهله منهما، وهذا نحو قولهم: المال الاب أي أكثره وأعمه، والحج عرفات ونحو ذلك، فغاية ما هناك أن مفهوم الخمر المدلول عليه باللام معارض بالمنطوقات وهي أرجح بلا خلاف. قوله: وعامة خمرنا البسر والتمر أي الشراب الذي يصنع منهما. وأخرج النسائي والحاكم وصححه من رواية محارب بن دثار عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الزبيب والتمر هو الخمر وسنده صحيح وظاهره الحصر. قال الحافظ: لكن المراد المبالغة وهو بالنسبة إلي ما كان حينئذ بالمدينة موجودا وقيل: إن مراد أنس الرد على من خص اسم الخمر بما يتخذ من العنب. وقيل مراده أن التحريم لا يختص بالخمر المتخذة من العنب بل يشركها في التحريم كل شراب مسكر. قال الحافظ: وهذا أظهر، قال: والمجمع على تحريمه عصير العنب إذا اشتد فإنه
[ 60 ]
يحرم تناوله بالاتفاق. وحكى ابن قتيبة عن قوم من مجان أهل الكلام أن النهي عنها للكراهة وهو قول مجهول لا يلتفت إلى قائله. وحكي أبو جعفر النحاس عن قوم: أن الحرام ما أجمعوا عليه. وما اختلفوا فيه فليس بحرام، قال: وهذا عظيم من القول يلزم منه القول بحل كل شئ اختلف في تحريمه ولو كان الخلاف واهيا. ونقل الطحاوي في اختلاف العلماء عن أبي حنيفة أن الخمر حرام قليلها وكثيرها، والسكر من غيرها حرام، وليس كتحريم الخمر، والنبيذ المطبوخ لا بأس به من أي شئ كان. وعن أبي يوسف لا بأس بالنقيع من كل شئ وإن غلا إلا الزبيب والتمر، قال: كذا حكاه محمد عن أبي حنيفة، وعن محمد: ما أسكر كثيره فأحب إلي أن لا أشربه ولا أحرقه. وقال الثوري: أكره نقيع التمر ونقيع الزبيب إذا غلا، قال: ونقيع العسل لا بأس به انتهى. والبسر بضم الموحدة من تمر النخل معروف. قوله: من فضيخ بالفاء ثم معجمتين وزن عظيم اسم للبسر إذا شدخ ونبذ. وأما الزهو فبفتح الزاي وسكون الهاء بعدها واو وهو البسر الذي يحمر أو يصفر قبل أن يترطب، وقد يطلق الفضيخ على خليط البسر والتمر، ويطلق على البسر وحده وعلى التمر وحده. قوله: فأهرقها الهاء بدل من الهمزة والاصل أراقها، وقد تستعمل هذه الكلمة بالهمزة والهاء معا كما وقع هنا وهو نادر. قوله: وهي من خمسة من العنب قال في الفتح: هذا الحديث أورده أصحاب المسانيد والابواب في الاحاديث المرفوعة لان له عندهم حكم الرفع، لانه خبر صحابي شهد التنزيل وأخبر عن سبب، وقد خطب به عمر على المنبر بحضرة كبار الصحابة وغيرهم، فلم ينقل عن أحد منهم إنكاره، وأراد عمر بنزول تحريم الخمر نزول قوله تعالى: * (إنما الخمر والميسر) * الآية فأراد عمر التنبيه على أن المراد بالخمر في هذه الآية ليس خاصا بالمتخذ من العنب بل يتناول المتخذ من غيرها انتهى. ويؤيده حديث النعمان بن بشير المذكور في الباب، وفي لفظ منه عند أصحاب السنن، وصححه ابن حبان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة ولاحمد من حديث أنس بسند صحيح قال: الخمر من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة بضم المعجمة وتخفيف الراء من الحبوب معروفة. قوله: والخمر ما خامر العقل أي غطاه أو خالطه فلم يتركه على حاله وهو مجاز، والعقل هو آلة التمييز، فلذلك حرم ما غطاه أو غيره لان بذلك يزول الادراك الذي
[ 61 ]
طلبه الله من عباده ليقوموا بحقوقه قال الكرماني: هذا تعريف بحسب اللغة. وأما بحسب العرف فهو ما يخامر العقل من عصير العنب خاصة. قال الحافظ: وفيه نظر لان عمر ليس في مقام تعريف الحكم الشرعي، فكأنه قال الخمر الذي وقع تحريمه في لسان الشرع هو ما خامر اللغة بل هو في مقام تعريف العقل، على أن عند أهل اللغة اختلافا في ذلك كما قدمته، ولو سلم أن الخمر في اللغة يختص بالمتخذ من العنب فالاعتبار بالحقيقة الشرعية، وقد تواترت الاحاديث على أن المسكر من المتخذ من غير العنب يسمى خمرا والحقيقة الشرعية مقدمة على اللغوية. وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة وقد تقدم. وقد جعل الطحاوي هذا الحديث معارضا لحديث عمر المذكور. وقال البيهقي: ليس المراد الحصر في الامرين المذكورين في حديث أبي هريرة لانه يتخذ الخمر من غيرهما، وقد تقدم الكلام على ذلك. قال الحافظ: إنه يحمل حديث أبي هريرة على إرادة الغالب لان أكثر ما يتخذ الخمر من العنب والتمر. ويحمل حديث عمر ومن وافقه على إرادة استيعاب ذكر ما عهد حينئذ أنه يتخذ منه الخمر. قال الراغب في مفردات القرآن: سمي الخمر لكونه خامرا للعقل أي ساترا له، وهو عند بعض الناس اسم لكل مسكر، وعند بعضهم للمتخذ من العنب خاصة، وعند بعضهم للمتخذ من العنب والتمر، وعند بعضهم لغير المطبوخ، ورجح أنه لكل شئ ستر العقل، وكذا قال غير واحد من أهل اللغة منهم الدينوري والجوهري ونقل عن ابن الاعرابي قال: سميت الخمر لانها تركت حتى اختمرت واختمارها تغير رائحتها، ويقال: سميت بذلك لمخامرتها العقل، نعم جزم ابن سيده في المحكم أن الخمر حقيقة، إنما هي للعنب وغيرها من المسكرات يسمى خمرا مجازا. وقال صاحب الفائق في حديث: إياكم والغبيراء فإنها خمر العالم هي نبيذ الحبشة تتخذ من الذرة سميت الغبيراء لما فيها من الغبرة، وقال: خمر العالم أي هي مثل خمر العالم لا فرق بينها وبينها. وقيل: أراد أنها معظم خمر العالم. وقال صاحب الهداية من الحنفية: الخمر ما اعتصر من ماء العنب إذا اشتد وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم. قال: وقيل هو اسم لكل مسكر لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: كل مسكر خمر ولانه من مخامرة العقل وذلك موجود في كل مسكر. قال: ولنا إطباق أهل اللغة
[ 62 ]
على تخصيص الخمر بالعنب ولهذا اشتهر استعمالها فيه، ولان تحريم الخمر قطعي، وتحريم ما عدا المتخذ من العنب ظني، قال: وإنما يسمى الخمر خمرا لتخمره لا لمخامرة العقل، قال: ولا ينافي ذلك كون الاسم خاصا فيه كما في النجم فإنه مشتق من الظهور ثم هو خاص بالثريا انتهى. قال في الفتح: والجواب عن الحجة الاولى ثبوت النقل عن بعض أهل اللغة بأن غير المتخذ من العنب يسمى خمرا. وقال الخطابي: زعم قوم أن العرب لا تعرف الخمر إلا من العنب فيقال لهم: إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من العنب خمرا عرب فصحاء، فلو لم يكن هذا الاسم صحيحا لما أطلقوه وقال ابن عبد البر: قال الكوفيون: الخمر من العنب لقوله تعالى: * (أعصر خمرا) * (يوسف: 36) قالوا: فدل على أن الخمر هو ما يعصر لا ما ينبذ، قال: ولا دليل فيه على الحصر، قال أهل المدينة وسائر الحجازيين وأهل الحديث كلهم: كل مسكر خمر وحكمه حكم ما اتخذ من العنب، ومن الحجة لهم أن القرآن لما نزل بتحريم الخمر فهم للصحابة وهم أهل اللسان أن كل شئ يسمى خمرا يدخل في النهي ولم يخصوا ذلك بالمتخذ من العنب. وعلى تقدير التسليم فإذا ثبت تسمية كل مسكر خمرا من الشرع كان حقيقة شرعية وهي مقدمة على الحقيقة اللغوية. والجواب عن الحجة الثانية أن اختلاف مشتركين في الحكم لا يلزم منه افتراقهما في التسمية كالزنى مثلا فإنه يصدق على من وطئ أجنبية وعلى من وطئ امرأة جاره والثاني أغلظ من الاول، وعلى من وطئ محرما له وهو أغلظ منهما، واسم الزنا مع ذلك شامل للثلاثة، وأيضا فالاحكام الفرعية لا تشترط فيها الادلة القطعية، فلا يلزم من القطع بتحريم المتخذ من العنب، وعدم القطع بتحريم المتخذ من غيره أن لا يكون حراما بل يحكم بتحريمه، وكذا تسميته خمرا، وعن الثالثة ثبوت النقل عن أعلم الناس بلسان العرب كما في قول عمر: الخمر ما خامر العقل، وكان مستنده ما ادعاه من اتفاق أهل اللغة، فيحمل قول عمر على المجاز، لكن اختلف قول أهل اللغة في سبب تسمية الخمر خمرا فقال ابن الانباري : لانها تخامر العقل أي تخالطه، وقيل: لانها تخمر العقل أي تستره، ومنه خمار المرأة لانه يستر وجهها، وهذا أخص من التفسير الاول لانه لا يلزم من المخالطة التغطية، وقيل: سميت خمرا لانها تخمر أي تترك، كما يقال: خمرت العجين أي تركته، ولا مانع من صحة
[ 63 ]
هذه الاقوال كلها لثبوتها عن أهل اللغة وأهل المعرفة باللسان. وقال ابن عبد البر: الاوجه كلها موجودة في الخمر. وقال القرطبي الاحاديث الواردة عن أنس وغيره على صحتها وكثرتها تبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب وما كانت من غيره فلا تسمى خمرا ولا يتناولها اسم الخمر، وهو قول مخالف للغة العرب والسنة الصحيحة وللصحابة، لانهم لما نزل تحريم الخمر فهموا من الامر باجتناب الخمر تحريم كل مسكر، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره، بل سووا بينهما وحرموا كل نوع منهما، ولم يتوقفوا ولا استفصلوا ولم يشكل عليهم شئ من ذلك، بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب وهم أهل اللسان وبلغتهم نزل القرآن، فلو كان عندهم فيه تردد لتوقفوا عن الاراقة حتى يستكشفوا ويستفصلوا ويتحققوا التحريم لما كان قد تقرر عندهم من النهي عن إضاعة المال، فلما لم يفعلوا ذلك بل بادروا إلى إتلاف الجميع علمنا أنهم فهموا التحريم، ثم انضاف إلى ذلك خطبة عمر بما يوافق ذلك، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة وقد ذهب إلى التعميم علي عليه السلام وعمر وسعد وابن عمرو أبو موسى وأبو هريرة وابن عباس وعائشة. ومن التابعين: ابن المسيب وعروة والحسن وسعيد بن جبير وآخرون، وهو قول مالك والاوزاعي والثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق وعامة أهل الحديث. قال في الفتح: ويمكن الجمع بأن من أطلق ذلك على غير المتخذ من العنب حقيقة يكون أراد الحقيقة الشرعية، ومن نفى أراد الحقيقة اللغوية، وقد أجاب بهذا ابن عبد البر وقال: إن الحكم إنما يتعلق بالاسم الشرعي دون اللغوي، قد تقرر أن نزول تحريم الخمر وهي من البسر إذ ذاك، فيلزم من قال إن الخمر حقيقة في ماء العنب مجاز في غيره أن يجوز إطلاق اللفظ الواحد على حقيقته ومجازه، لان الصحابة لما بلغهم تحريم الخمر أراقوا كما يطلق عليه لفظ الخمر حقيقة ومجازا وهو لا يجوز ذلك، فصح أن الكل خمر حقيقة ولا انفكاك عن ذلك، وعلى تقدير إرخاء العنان والتسليم بأن الخمر حقيقة في ماء العنب خاصة فإنما ذلك من حيث الحقيقة اللغوية، فأما من حيث الحقيقة الشرعية فالكل خمر حقيقة لحديث: كل مسكر خمر فكل ما اشتد كان خمرا، وكل خمر يحرقليله وكثيره، وهذا يخالف قولهم وبالله التوفيق. قال الخطابي: إنما عد عمر الخمسة المذكورة
[ 64 ]
لاشتهار أسمائها في زمانه ولم تكن كلها توجد بالمدينة الوجود العام، فإن الحنطة كانت بها عزيزة وكذا العسل بل كان أعز، فعد عمر ما عرف منها وجعل ما في معناه مما يتخذ من الارز وغيره خمرا إن كان مما يخامر العقل، وفي ذلك دليل على جواز إحداث الاسم بالقياس وأخذه من طريق الاشتقاق. وذكر ابن حزم أن بعض الكوفيين احتج بما أخرجه عبد الرزاق عن ابن عمرو بسند جيد قال: أما الخمر فحرام لا سبيل إليها وأما ما عداها من الاشربة فكل مسكر حرام قال: وجوابه إن ثبت عن ابن عمرو أنه قال: كل مسكر خمر فلا يلزم من تسمية المتخذ من العنب خمرا انحصار اسم الخمر فيه، وكذا احتجوا بحديث ابن عمرو أيضا: حرمت الخمر وما بالمدينة منها شئ، مراده المتخذ من العنب ولم يرد أن غيرها لا يسمى خمرا. قوله: من العنب والتمر هذان مما وقع الاجماع على تحريمهما حيث لم يطبخ حتى يذهب ثلثاه. قوله: والعسل هو الذي يسمي البتع وهو خمر أهل اليمن. قوله والشعير بفتح الشين المعجمة وكسرها لغة وهو المسمى بالمزر زاد أبو داود: والذرة وهي بضم الذال المعجمة وكسرها لغة وهو المسمى بالمزر زاد أبو داود: والذرة وهي بضم الذال المعجمة وتخفيف الراء المهملة كما سبق ولامها محذوفة والاصل ذرو أو ذري فحذفت لام الكلمة وعوض عنها الهاء. قوله: عن البتع بكسر الموحدة وسكون المثناة فوق وهو ما ذكره في الحديث. قوله: كل شراب أسكر فهو حرام هذا حجة للقائلين بالتعميم من غير فرق بين خمر العنب وغيره، لانه صلى الله عليه وآله وسلم لما سأله السائل عن البتع قال: كل شراب أسكر فهو حرام فعلمنا أن المسألة إنما وقعت على ذلك الجنس من الشراب وهو البتع، ودخل فيه كل ما كان في معناه مما يسمى شرابا مسكرا من أي نوع كان، فإن قال أهل الكوفة: أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: كل شراب أسكر يعني به الجزء الذي يحدث عقبه السكر فهو حرام، فالجواب أن الشراب اسم جنس فيقتضي أن يرجع التحريم إلى الجنس كله، كما يقال: هذا الطعام مشبع، والماء مرو، يريد به الجنس وكل جزء منه يفعل ذلك الفعل، فاللقمة تشبع العصفور، وما هو أكبر منها يشبع ما هو أكبر من العصفور، وكذلك جنس الماء يروي الحيوان على هذا الحد فكذلك النبيذ قال الطبري: يقال لهم أخبرونا عن الشربة التي يعقبها السكر أهي التي أسكرت صاحبها دون ما تقدمها من الشراب أم أسكرت باجتماعها مع ما تقدم وأخذت كل شربة بحظها من الاسكار؟ فإن قالوا: إنما أحدث له السكر
[ 65 ]
الشربة الآخرة التي وجد خبل العقل عقبها قيل لهم: وهل هذه التي أحدثت له ذلك إلا كبعض ما تقدم من الشربات قبلها في أنها لو انفردت دون ما قبلها كانت غير مسكرة وحدها؟ وأنها إنما أسكرت باجتماعها واجتماع عملها فحدث عن جميعها السكر. قوله: والمزر بكسر الميم بعدها زاي ثم راء. قوله: من جيشان بفتح الجيم وسكون الياء تحتها نقطتان وبالشين المعجمة وبالنون وهو جيشان بن عيدان بن حجر بن ذي رعين قاله في الجامع. قوله: من طينة الخبال بفتح الخاء المعجمة والموحدة المخففة يعني يوم القيامة. والخبال في الاصل الفساد وهو يكون في الافعال والابدان والعقول. والخبل بالتسكين الفساد. وعن عائشة: قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فمل ء الكف منه حرام رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن. وعن ابن عمر: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما أسكر كثيره فقليله حرام رواه أحمد وابن ماجة والدارقطني وصححه. ولابي داود وابن ماجة والترمذي مثله سواء من حديث جابر، وكذا لاحمد والنسائي وابن ماجة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وكذلك الدارقطني من حديث الامام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وعن سعد بن أبي وقاص: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن قليل ما أسكر كثيره رواه النسائي والدارقطني. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتاه قوم فقالوا: يا رسول الله إنا ننبذ النبيذ فنشربه على غدائنا وعشائنا، فقال: اشربوا فكل مسكر حرام، فقالوا يا رسول الله إنا نكسره بالماء فقال: حرام قليل ما أسكر كثيره رواه الدارقطني. وعن ميمونة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تنبذوا في الدباء ولا في المزفت ولا في النقير ولا في الجرار وقال: كل مسكر حرام رواه أحمد. [ رح 3697 ] وعن أبي مالك الاشعري: أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ليشربن أناس من أمتي الخمر ويسمونها بغير اسمها رواه أحمد وأبو داود وقد سبق. وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لتستحلن طائفة من أمتي الخمر باسم يسمونها إياه رواه أحمد وابن ماجة وقال تشرب مكان تستحل. وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
[ 66 ]
لا تذهب الليالي والايام حتى تشرب طائفة من أمتي الخمر ويسمونها بغير اسمها رواه ابن ماجة. وعن ابن محيريز عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يشرب ناس من أمتي الخمر ويسمونها بغير اسمها رواه النسائي. حديث عائشة رواته كلهم محتج بهم في الصحيحين سوى أبي عثمان عمرو، ويقال عمرو بن سالم الانصاري مولاهم المدني ثم الخراساني وهو مشهور، ولي القضاء بمرو، ورأى عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وسمع من القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق. وروى عنه غير واحد. قال المنذري: لم أر أحدا قال فيه كلاما. وقال الحاكم: هو معروف بكنيته. وأخرجه أيضا ابن حبان وأعله الدارقطني بالوقف. وحديث جابر الذي أشار إليه المصنف حسنه الترمذي. وقال الحافظ رجاله ثقات انتهى. وفي إسناده داود بن بكر بن أبي الفرات الاشجعي مولاهم المدني سئل عنه ابن معين فقال ثقة. وقال أبو حاتم الرازي: لا بأس به ليس بالمتين. وحديث عمرو بن شعيب وما بعده أشار إلى البعض منها الترمذي قال بعد إخراج حديث جابر: (وفي الباب) عن سعد وعائشة وعبد الله بن عمرو وابن عمر وخوات بن جبير. وقال المنذري بعد الكلام على حديث جابر ما نصه: وقد روى هذا الحديث من رواية الامام علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو. وحديث سعد بن أبي وقاص أجودها إسنادا فإن النسائي رواه في سننه عن محمد بن عبد الله بن عمار الموصلي وهو أحد الثقات عن الوليد بن كثير، وقد احتج به البخاري ومسلم في الصحيحين عن الضحاك بن عثمان. وقد احتج به مسلم في صحيحه عن بكير بن عبد الله الاشج عن عامر بن سعد بن أبي وقاص. وقد احتج البخاري ومسلم بهما في الصحيحين وقال أبو بكر البزار، وهذا الحديث لا نعلم روي عن سعد إلا من هذا الوجه، ورواه عن الضحاك، وأسنده جماعة منهم الدراوردي والوليد بن كثير ومحمد بن جعفر بن أبي كثير المدني انتهى. وتابع محمد بن عبد الله بن عمار أبو سعيد عبد الله بن سعيد الاشج وهو ممن اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج به، وأخرجه أيضا البزار وابن حبان. قال الحافظ في التلخيص: حديث علي في الدارقطني، وحديث خوات في المستدرك، وحديث سعد في النسائي، وحديث ابن عمرو في ابن ماجة
[ 67 ]
والنسائي. وحديث ابن عمر في الطبراني. وحديث ميمونة في إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل، وحديثه حسن وفيه ضعف. قال: في مجمع الزوائد: وبقية رجاله رجال الصحيح، وستأتي الاحاديث الواردة في معناه في باب الاوعية المنهي عن الانتباذ فيها، وإنما ذكره المصنف ههنا لقوله في آخره: كل مسكر حرام. وحديث أبي مالك الاشعري قد تقدم في باب ما جاء في آلة اللهو، وقد صححه ابن حبان، قال في الفتح: وله شواهد كثيرة، ثم ساق من ذلك عدة أحاديث: منها حديث أبي أمامة المذكور في الباب وسكت عنه. ومنها حديث ابن محيريز المذكور أيضا، وقد أخرجه أيضا أحمد وابن ماجة من وجه آخر بسند جيد. وحديث عبادة في إسناده عند ابن ماجة الحسين بن أبي السري العسقلاني وهو مجهول. وحديث أبي أمامة رواه ابن ماجة من طريق العباس بن الوليد الدمشقي وهو صدوق وقد ضعف عن عبد السلام بن عبد القدوس وهو ضعيف وبقية رجال إسناده ثقات. وحديث ابن محيريز إسناده عند النسائي صحيح قال: أخبرنا محمد بن عبد الاعلى عن خالد وهو ابن الحرث عن شعبة قال: سمعت أبا بكر بن حفص يقول: سمعت ابن محيريز يذكره، ولعل الرجل المبهم من الصحابة هو عبادة بن الصامت، فإن ابن ماجه روى حديث عبادة المتقدم من طريق ابن محيريز، والاحاديث الواردة في هذا المعنى يقوي بعضها بعضا. قوله: الفرق بفتح الراء وسكونها والفتح أشهر وهو مكيال يسع ستة عشر رطلا، وقيل هو بفتح الراء كذلك، فإذا سكنت فهو مائة وعشرون رطلا. قوله: فمل ء الكف منه حرام في رواية الامام أحمد في الاشربة بلفظ: فالاوقية منه حرام وذكره مل الكف أو الاوقية في الحديث على سبيل التمثيل، وإنما العبرة بأن التمثيل شامل للقطرة ونحوها. قوله: ما أسكر كثيره فقليله حرام قال ابن رسلان في شرح السنن: أجمع المسلمون على وجوب الحد على شاربها، سواء شرب قليلا أو كثيرا ولو قطرة واحدة قال: وأجمعوا على أنه لا يقتل شاربها وإن تكرر. قوله: لا تنبذوا في الدباء إلى آخر الحديث، سيأتي تفسير هذه الالفاظ في باب الاوعية المنهي عن الانتباذ فيها. قوله: ليشربن بفتح الياء الموحدة ونون التوكيد. قوله: ويسمونها بغير اسمها يعني يسمونها الداذي بدال مهملة وبعد الالف ذال معجمة قال الازهري: هو حب يطرح في النبيذ فيشتد حتى يسكر أو يسمونها بالطلاء. وقد تقدم الكلام على هذا في باب ما جاء في آلة اللهو.
[ 68 ]
باب الاوعية المنهي عن الانتباذ فيها ونسخ تحريم ذلك عن عائشة: أن وفد عبد القيس قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسألوه عن النبيذ فنهاهم أن ينبذوا في الدباء والنقير والمزفت والحنتم. وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لوفد عبد القيس: أنهاكم عما ينبذ في الدباء والنقير والحنتم والمزفت. [ رح 3703 ] وعن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تنبذوا في الدباء ولا في المزفت. وعنابن أبي أوفى قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن نبيذ الجر الاخضر. وعن الامام علي رضي الله عنه قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تنبذوا في الدباء والمزفت متفق على خمستهن. [ رح ] وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تنبذوا في الدباء ولا في المزفت وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن المزفت والحنتم والنقير قيل لابي هريرة: ما الحنتم قال الجرار الخضر. وعن أبي سعيد: أن وفد عبد القيس قالوا: يا رسول الله ماذا يصلح لنا من الاشربة؟ قال: لا تشربوا في النقير، فقالوا: جعلنا الله فداك أو تدري ما النقير؟ قال: نعم الجذع ينقر في وسطه ولافي الدباء ولا في الحنتم وعليكم بالموكى رواهن أحمد ومسلم. [ رح 3708 ] وعن ابن عمر وابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الدباء والحنتم والمزفت. [ رح 3709 ] وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لوفد عبد القيس: أنهاكم على الدباء والحنتم والنقير والمقير والمزادة المجبوبة ولكن اشرب في سقائك وأوكه رواهما مسلم والنسائي وأبو داود. وعنابن عمر وابن عباس قالا: حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نبيذ الجر رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود. وعنابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحنتمة وهي الجرة. ونهى عن الدباء وهي القرعة، ونهى عن النقير وهي أصل النخل ينقر نقرا وينسح نسحا، ونهى عن المزفت وهو المقير وأمر أن ينبذ في الاسقية رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي وصححه. وعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كنت نهيتكم عن الاشربة إلا في ظروف الادم
[ 69 ]
فاشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. وفرواية: نهيتكم عن الظروف وأن ظرفا لا يحل شيئا ولا يحرمه وكل مسكر حرام رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود. وعن عبد الله بن عمر قال: لما نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الاوعية قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ليس كل الناس يجد سقاء فرخص لهم في الجر غير المزفت متفق عليه. وعن أنس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن النبيذ في الدباء والنقير والحنتم والمزفت ثم قال بعد ذلك: ألا كنت نهيتكم عن النبيذ في الاوعية؟ فاشربوا فيما شئتم ولا تشربوا مسكرا من شاء أوكى سقاءه على إثم. [ رح 3715 ] وعن عبد الله بن مغفل قال: أنا شهدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين نهى عن نبيذ الجر وأنا شهدته حين رخص فيه وقال: واجتنبوا كل مسكر رواهما أحمد. حديث أنس أخرجه أيضا أبو يعلى والبزار وفي إسناده يحيى بن عبد الله الجابري ضعفه الجمهور. وقال أحمد: لا بأس به وبقية رجاله ثقات. وحديث عبد الله بن مغفل رجال إسناده ثقات. وفي أبي جعفر الرازي كلام لا يضر. وقد أخرجه الطبراني في الكبير والاوسط في الباب عن جماعة من الصحابة غير من ذكره المصنف. قوله: في الدباء بضم الدال المهملة وتشديد الباء وهو القرع وهو من الآنية التي يسرع الشراب في الشدة إذا وضع فيها. قوله: والنقير هو فعيل بمعنى مفعول من نقر ينقر، وكانوا يأخذون أصل النخلة فينقرونه في جوفه ويجعلونه إناء ينتبذون فيه لان له تأثيرا في شدالشراب. قوله: والمزفت اسم مفعول وهو الاناء المطلي بالزفت وهو نوع من القار. قوله: والحنتم بفتح الحاء المهملة جرار خضر مدهونة كانت تحمل الخمر فيها إلى المدينة ثم اتسع فيها فقيل للخزف كله حنتم واحدها حنتمة وهي أيضا مما تسرع فيه الشدة. قوله: عن نبيذ الجر بفتح الجيم وتشديد الراء جمع جرة كتمر جمع تمرة، وهو بمعنى الجرار الواحدة جرة، ويدخل فيه جميع أنواع الجرار من الحنتم وغيره. وروى أبو داود عن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس: ما الجر؟ فقال: كل شئ يصنع من المدر، فهذا تصريح أن الجر يدخل فيه جميع أنواع الجرار المتخذة من المدر الذي هو التراب والطين، يقال مدرت الحوض أمدره إذا أصلحته بالمدر وهو الطين من التراب. قوله: والمقير
[ 70 ]
بضم الميم وفتح القاف والياء المشددة وهو المزفت أي المطلي بالزفت وهو نوع من القار كما تقدم. وروي عن ابن عباس أنه قال: المزفت هو المقير، حكى ذلك ابن رسلان في شرح السنن وقال: إنه صح ذلك عنه. قوله: والمزادة هي السقاء الكبير سميت بذلك لانه يزاد فيها على الجلد الواحد كذا قال النسائي. والمجبوبة بالجيم بعدها موحدتان بينهما واو قال عياض: ضبطناه في جميع هذه الكتب بالجيم والباء الموحدة المكررة، ورواه بعضهم المخنوثة بخاء معجمة ثم نون وبعدها ثاء مثلثة كأنه أخذه من اختناث الاسقية المذكورة في حديث آخر، ثم قال: وهذه الرواية ليست بشئ والصواب الاول أنها بالجيم وهي التي قطع رأسها فصارت كالدن مشتقة من الجب وهو القطع لكون رأسها يقطع حتى لا يبقى لها رقبة توكى. وقيل: هي التي قطعت رقبتها وليس لها عزلاء أي فم من أسفلها يتنفس الشراب منها فيصير شرابها مسكرا ولا يدرى به. قوله: وأوكبفتح الهمزة أي وإذا فرغت من صب الماء واللبن الذي من الجلد فأوكه أي سد رأسه بالوكاء يعني بالخيط لئلا يدخله حيوان أو يسقط فيه شئ. قوله: ينسح نسحا بالحاء المهملة عند أكثر الشيوخ، وفي كثير من نسخ مسلم عن ابن ماهان بالجيم وكذا في الترمذي وهو تصحيف ومعناه القشر ثم الحفر. قوله: إلا في ظروف الادم بفتح الهمزة والدال جمع أديم، ويقال أدم بضمهما وهو القياس ككثيب وكثب وبريد وبرد، والاديم الجلد المدبوغ. قوله: فاشربوا في كل وعاء فيه دليل على نسخ النهي عن الانتباذ في الاوعية المذكورة. قال الخطابي: ذهب الجمهور إلى أن النهي إنما كان أولا ثم نسخ. وذهب جماعة إلى أن النهي عن الانتباذ في هذه الاوعية باق منهم ابن عمر وابن عباس، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق كذا أطلق، قال: والاول أصح، والمعنى في النهي أن العهد بإباحة الخمر كان قريبا، فلما اشتهر التحريم أبيح لهم الانتباذ في كل وعاء بشرط ترك شرب المسكر، وكأن من ذهب إلى استمرار النهي لم يبلغه الناسخ. وقال الحازمي لمن نصر قول مالك أن يقول: ورد النهي عن الظروف كلها ثم نسخ منها ظروف الادم والجرار غير المزفتة واستمر ما عداها على المنع، ثم تعقب ذلك بما ورد من التصريح في حديث بريدة عند مسلم كما في حديث الباب قال: وطريق الجمع أن يقال لما وقع النهي عاما شكوا إليه الحاجة فرخصلهم في ظروف الادم، ثم شكوا إليه أن كلهم
[ 71 ]
لا يجد ذلك، فرخص لهم في الظروف كلها. وقال ابن بطال: النهي عن الاوعية إنما كان قطعا للذريعة، فلما قالوا لا نجد بدا من الانتباذ في الاوعية قال: انتبذوا وكل مسكر حرام، وهكذا الحكم في كل شئ نهي عنه بمعنى النظر إلى غيره فإنه يسقط للضرورة، كالنهي عن الجلوس في الطرقات، فلما قالوا لا بد لنا منها قال: وأعطوا الطريق حقها. باب ما جاء في الخليطين عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنه نهى أن ينبذ التموا الزبيب جميعا، ونهى أن ينبذ الرطب والبسر جميعا رواه الجماعة إلا الترمذي فإن له منه فصل الرطب والبسر. [ رح 3717 ] وعن أبي قتادة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تنبذوا الزهو والرطب جميعا، ولا تنبذوا الزبيب والرطب جميعا، ولكن انبذوا كل واحد منهما على حدته متفق عليه. لكن للبخاري ذكر التمر بدل الرطب. وفي لفظ: أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن خليط التمر والبسر، وعن خليط الزبيب والتمر، وعن خليط الزهو والرطب وقال: انتبذوا كل واحد على حدته رواه مسلم وأبو داود. وعن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن التمر والزبيب أن يخلط بينهما، وعن التمر والبسر أن يخلط بينهما يعني في الانتباذ رواه أحمد ومسلم والترمذي. وفي لفظ: نهانا أن نخلط بسرا بتمر أو زبيبا بتمر أو زبيبا ببسر وقال: من شربه منكم فليشربه زبيبا فردا وتمرا فردا أو بسرا فردا رواه مسلم والنسائي. [ رح 3719 ] وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تنبذوا التمر والزبيب جميعا، ولا تنبذوا التمر والبسر جميعا، وانبذوا كل واحد منهن وحده رواه أحمد ومسلم. وعنابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخلط التمر والزبيب جميعا، وأن يخلط البسر والتمر جميعا. [ رح 3721 ] وعنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يخلط البلح بالزهو رواهما مسلم والنسائي. [ رح 3722 ] وعن المختار بن فلفل عن أنس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نجمع بين شيئين فينبذا يبغي أحدهما على صاحبه، قال: وسألته
[ 72 ]
عن الفضيخ فنهاني عنه قال: كان يكره المذنب من البسر مخافة أن يكون شيئين فكنا نقطعه رواه النسائي. [ رح 3723 ] وعن عائشة قالت: كنا ننبذ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سقاء فنأخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب فنطرحهما ثم نصب عليه الماء فننبذه غدوة فيشربه عشية، وننبذه عشية فيشربه غدوة رواه ابن ماجة. حديث أنس رواه النسائي مطريق سويد بن نصر، وهو ثقة عن عبد الله بن المبارك الامام الكبير عن ورقاء، وهو صدوق عن المختار بن فلفل وهو ثقة عن أنس. وقد أخرجه أيضا أحمد بن حنبل من طريق المختار بن فلفل عنه. وحديث عائشة رجاله عند ابن ماجة رجال الصحيح إلا تبالة بنت يزيد الراوية له عن عائشة فإنها مجهولة. وقد أخرجه أيضا أبو داود عن صفية بنت عطية قالت: دخلت مع نسوة من عبد القيس على عائشة فسألناها عن التمر والزبيب فقالت: كنت آخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب فألقيه في إناء فأمرسه ثم أسقيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي إسناده أبو بحر عبد الرحمن بن عثمان البكراوي البصري قال المنذري: ولا يحتج بحديثه. قال أبو حاتم: وليس هو بالقوي. وأخرج أبو داود أيضا عن امرأة من بني أسد عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ينتبذ له زبيب فيلقي فيه تمرا وتمر فيلقي فيه الزبيب وفيه هذه المرأة المجهولة. قوله: باب ما جاء في الخليطين أصل الخلط تداخل أجزاء الاشياء بعضها في بعض. قوله: والبسر بضم الموحدة نوع من تمر النخل معروف. قوله: الزهو بفتح الزاي وضمها لغتان مشهورتان. قال الجوهري: أهل الحجاز يضمون يعني وغيرهم يفتح، والزهو هو البسر الملون الذي بدا فيه حمرة أو صفرة وطاب، وزهت تزهى زهوا، وأزهت تزهي، وأنكر الاصمعي أزهت بالالف، وأنكر غيره زهت بلا ألف، ورجح الجمهور زهت، وقال ابن الاعرابي: زهت ظهرت، وأزهت احمرت أو اصفرت والاكثرون على خلافه. قوله: على حدته بكسر الحاء المهملة وفتح الدال أي وحدته فحذفت الواو من أوله، والمراد أن كل واحد منهما ينبذ منفردا عن الآخر. قوله: البلح بفتح الموحدة وسكون اللام ثم حاء مهملة، وفي القاموس وشمس العلوم بفتحهما هو أول ما يرطب من البسر واحدة بلحة. قوله: وسألته عن الفضيخ
[ 73 ]
قد تقدم ضبطه وتفسيره. قوله: كان يكره المذنب بذال معجمة فنون مشددة مكسورة ما بدا فيه الطيب من ذنبه أي طرفه ويقال له أيضا التذنوب. قوله: نقطعه أي نفضل بين البسر وما بدا فيه. واختلف في سبب النهي عن الخليطين فقال النووي: ذهب أصحابنا وغيرهم من العلماء إلى أن سبب النهي عن الخليط أن الاسكار يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يشتد فيظن الشارب أنه لم يبلغ حد الاسكار وقد بلغه، قال: ومذهب الجمهور أن النهي في ذلك للتنزيه، وإنما يحرم إذا صار مسكرا ولا تخفى علامته. وقال بعض المالكية: هو للتحريم واختلف في خلط نبيذ البسر الذي لم يشتد مع نبيذ التمر الذي لم يشتد عند الشرب هل يمتنع أو يختص النهي عن الخلط بالانتباذ؟ فقال الجمهور: لا فرق. وقال الليث: لا بأس بذلك عند الشرب. ونقل ابن التين عن الداودي أن المنهي عنه خلط النبيذ بالنبيذ لا إذا نبذا معا واختلف) في الخليطين من الاشربة غير النبيذ. فحكى ابن التين عن بعض الفقهاء أنه كره أن يخلط للمريض الاشربة. قال ابن العربي: لنا أربع صور أن يكون الخليطان منصوصين فهو حرام، أو منصوص ومسكوت عنه فإن كان كل منهما لو انفرد أسكر فهو حرام قياسا على المنصوص أو مسكوت عنهما، وكل منهما لو انفرد لم يسكر جاز، إلى آخر كلامه. وقال الخطابي: ذهب إلى تحريم الخليطين وإن لم يكن الشراب منهما مسكرا جماعة عملا بظاهر الحديث وهو قول مالك وأحمد وإسحاق وظاهر مذهب الشافعي وقالوا: من شرب الخليطين أثم من جهة واحدة، فإن كان بعد الشدة أثم من جهتين، وخص الليث النهي بما إذا انتبذا معا وخص ابن حزم النهي بخمسة أشياء: التمر والرطب والزهو والبسر والزبيب قال: سواء خلط أحدها في الآخر منها أو في غيرها. فأما لو خلط واحد من غيرها في واحد من غيرها فلا منع كالتين والعسل مثلا. وحديث أنس المذكور في الباب يرد عليه. وقال القرطبي: النهي عن الخليطين ظاهر في التحريم وهو قول جمهور فقهاء الامصار وعن مالك يكره فقط. وشذمن قال لا بأس به لان كلا منهما يحل منفردا فلا يكره مجتمعا، قال: وهذه مخالفة للنص بقياس مع وجود الفارق فهو فاسد، ثم هو منتقض بجواز كل واحدة من الاختين منفردة وتحريمهما مجتمعتين.
[ 74 ]
باب النهي عن تخليل الخمر عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الخمر يتخذ خلا فقال: لا رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه. [ رح 3725 ] وعن أنس: أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أيتام ورثوا خمرا قال: أهرقها، قال: أفلا نجعلها خلا؟ قال: لا رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي سعيد قال: قلنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما حرمت الخمر: إن عندنا خمرا ليتيم لنا فأمرنا فأهرقناها رواه أحمد. [ رح 3727 ] وعن أنس: أن يتيما كان في حجر أبي طلحة فاشترى له خمرا فلما حرمت سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتتخذ خلا؟ قال: لا رواه أحمد والدارقطني. حديث أنس الاول قال الترمذي بعد إخراجه: حديث حسن صحيح. وحديثه الثاني عزاه المنذري في مختصر السنن إلى مسلم وهو كما قال في صحيح مسلم: ورجال إسناده في سنن أبي داود ثقات. وأخرجه الترمذي من طريقين وقال: الثانية أصح. وحديث أبسعيد أشار إليه الترمذي قال: وفي الباب عن جابر وعائشة وأبي سعيد وابن مسعود وابن عمر. وفي لفظ للترمذي: عن أنس عن أبي طلحة أنه قال: يا نبي الله. وفي لفظ آخر كما في الكتاب. قوله: قال لا فيه دليل للجمهور على أنه لا يجوز تخليل الخمر ولا تطهر بالتخليل، هذا إذا خللها بوضع شئ فيها، أما إذا كان التخليل بالنقل من الشمس إلى الظل أو نحو ذلك فأصح وجه عن الشافعية أنها تحل وتطهر، وقال الاوزاعي وأبو حنيفة: تطهر إذا خللت بإلقاء شئ فيها، وعن مالك ثلاث روايات أصحها أن التخليل حرام، فلو خللها عصي وطهرت. قال القرطبي: كيف يصح لابي حنيفة القول بالتخليل مع هذا الحديث ومع سببه الذي خرج عليه؟ إذ لو كان جائزا لكان قد ضيع على الايتام مالهم، ولوجب الضمان على من أراقها عليهم وهو أبو طلحة. قوله: أهرقها بسكون القاف وكسر الراء فيه دليل على أن الخمر لا تملك بل يجب إراقتها في الحال، ولا يجوز لاحد الانتفاع بها إلا بالاراقة. قال القرطبي وقال بعض أصحابنا تملك وليس بصحيح. ولفظ أحمد في رواية له: أن أبا طلحة
[ 75 ]
سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: عندي خمور لايتام فقال: أرقها، قال: ألا أخللها؟ قال: لا. باب شرب العصير ما لم يغل أو يأت عليه ثلاث وما طبخ قبل غليانه فذهب ثلثاه عن عائشة قالت: كنا ننبذ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سقاء يوكى أعلاه وله عزلاء ننبذه غدوة فيشربه عشيا، وننبذه عشيا فيشربه غدوة رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي. [ رح ] وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينبذ له أول الليل فيشربه إذا أصبح يومه ذلك، والليلة التي تجئ والغد والليلة الاخرى والغد إلى العصر، فإذا بقي شئ سقاه الخدام أو أمر به فصب رواه أحمد ومسلم. وفي رواية: كان ينقع له الزبيب فيشربه اليوم والغد وبعد الغد إلى مساء الثالثة ثم يأمر به فيسقى الخادم أو يهراق رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وقال: معنى يسقى الخادم يبادر به الفساد. وفي رواية: كان ينبذ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيشربه يومه ذلك والغد واليوم الثالث فإن بقي شئ منه أهراقه أو أمر به فأهريق رواه النسائي وابن ماجة. وعن أبي هريرة قال: علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصوم فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء ثم أتيته به فإذا هو ينش فقال: اضرب بهذا الحائط فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر رواه أبو داود والنسائي. وقال ابن عمر في العصير أشربه ما لم يأخذه شيطانه، قيل: وفي كم يأخذه شيطانه؟ قال: في ثلاث، حكاه أحمد وغيره. وعن أبي موسى: أنه كان يشرب من الطلاء ما ذهب ثلثاه وبقي ثلثه رواه النسائي، وله مثله عن عمر وأبي الدرداء. وقال البخاري: رأى عمر وأبو عبيدة ومعاذ شرب الطلاء على الثلث وشرب البراء وأبو جحيفة على النصف. وقال أبو داود: سألت أحمد عن شرب الطلاء إذا ذهب ثلثاه وبقي ثلثه فقال: لا بأس به، فقلت، إنهم يقولون يسكر، قال: لا يسكر لو كان يسكر ما أحله عمر رضي الله عنه. حديث عائشة تقدم في باب ما جاء في الخليطين. وأخرج أبو داود أيضا
[ 76 ]
عن عائشة: أنها كانت تنتبذ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غدوة فإذا كان من العشاء فتعشى، شرب على عشائه، وإن فضل شئ صبته أو فرغته، ثم تنبذ له بالليل فإذا أصبح تغدى فشرب على غدائه قالت: نغسل السقاء غدوة وعشية، فقال لها: أي مرتين في يوم؟ قالت: نعم. وحديث أبي هريرة أخرجه ابن ماجة وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات. وقد اختلف في هشام بن عمار ولكنه قد أخرج له البخاري. وأما قوله: وله مثله عن عمر فهو ما أخرجه النسائي من طريق عبد الله بن يزيد الخطمي قال: كتب عمر: اطبخوا شرابكم حتى يذهب نصيب الشيطان اثنين ولكم واحد وصحح هذا الحافظ في الفتح. وأخرج مالك في الموطأ من طريق محمود بن لبيد الانصاري أن عمر بن الخطاب حين قدم الشام شكى إليه أهل الشام وباء الارض وثقلها وقالوا: لا يصلحنا إلا هذا الشراب: فقال عمر: اشربوا العسل، قالوا: ما يصلحنا العسل، فقال رجل من أهل الارض: هل لك أن تجعل من هذا الشراب شيئا لا يسكر؟ فقال نعم، فطبخوا حتى ذهب منه الثلثان وبقي الثلث فأتوا به عمر فأدخل فيه أصبعه ثم رفع يده فتبعها يتمطط فقال: هذا الطلاء مثل طلاء الابل فأمرهم عمر أن يشربوه وقال: اللهم إني لا أحل لهم شيئا حرمته عليهم وأخرج سعيد بن منصور من طريق أبي مجلز عن عامر بن عبد الله قال: كتب عمر إلى عمار: أما بعد فإنه جاءني عير تحمل شرابا أسود كأنه طلاء الابل، فذكروا أنهم يطبخونه حتى يذهب ثلثاه الاخبثان ثلث بريحه وثلث ببغيه فمر من قبلك أن يشربوه. ومن طريق سعيد بن المسيب: أن عمر أحل من الشراب ما يطبخ فذهب ثلثاه وبقي ثلثه. وأثر أبي عبيدة ومعاذ أخرجه أبو مسلم الكجي وسعيد بن منصور بلفظ: يشربون من الطلاء ما يطبخ على الثلث وذهب ثلثاه. قال في الفتح: وقد وافق عمر ومن ذكر معه على الحكم المذكور أبو موسى وأبو الدرداء أخرجه النسائي عنهما، وعلي وأبو أمامة وخالد بن الوليد وغيرهم أخرجهما ابن أبي شيبة وغيره. ومن التابعين: ابن المسيب والحسن وعكرمة. ومن الفقهاء: الثوري والليث ومالك وأحمد والجمهور، وشرط تناوله عندهم ما لم يسكر، وكرهه طائفة تورعا. وأثر البراء أخرجه ابن أبي شيبة من رواية عدي بن ثابت عنه أنه كان يشرب الطلاء على النصف أي إذا طبخ فصار على النصف. وأثر أبي جحيفة أخرجه أيضا ابن أبي شيبة،
[ 77 ]
ووافق البراء وأبا جحيفة جرير، ومن التابعين ابن الحنفية وشريح، وأطلق الجميع على انه إن كان يسكر حرم. قال أبو عبيدة: بلغني أن النصف يسكر فإن كان كذلك فهو حرام، والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف أعناب البلاد، فقد قال ابن حزم: أنه شاهد العصير ما إذا طبخ إلى الثلث ينعقد ولا يصير مسكرا أصلا، ومنه ما إذا طبخ إلى النصف كذلك، ومنه ما إذا طبخ إلى الربع كذلك، بل قال: إنه شاهد منه مالو طبخ لا يبقى غير ربعه لا ينفك عنه السكر، قال: وجب أن يحمل ما ورد عن الصحابة من أمر الطلاء على ما لا يسكر بعد الطبخ وأخرج النسائي من طريق عطاء عن ابن عباس بسند صحيح أنه قال: إن النار لا تحل شيئا ولا تحرمه. وأخرج النسائي أيضا من طريق أبي ثابت الثعلبي قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل يسأله عن العصير فقال: اشربه ما كان طريا، قال: إني طبخت شرابا وفي نفسي: قال: كنت شاربه قبل أن تطبخه؟ قال: لا. قال: فإن النار لا تحل شيئا قد حرم. قال الحافظ: وهذا يقيد ما أطلق في الآثار الماضية وهو أن الذي يطبخ إنما هو العصير الطري قبل أن يتخمر، أما لو صار خمرا فطبخ فإن الطبخ لا يحله ولا يطهره إلا على رأي من يجيز تخليل الخمر والجمهور على خلافه. وأخرج ابن أبي شيبة والنسائي من طريق سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي: اشربوا العصير ما لم يغل وعن الحسن البصري: ما لم يتغير وهذا قول كثير من السلف أنه إذا بدا فيه التغير يمتنع، وعلامة ذلك أن يأخذ في الغليان وبهذا قال أبو يوسف. وقيل: إذا انتهى غليانه وابتدأ في الهدو بعد الغليان. وقل: إذا سكن غليانه. وقال أبو حنيفة: لا يحرم عصير العنب إلى أن يغلي ويقذف بالزبد فإذا غلي وقذف بالزبد حرم. وأما المطبوخ حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه فلا يمتنع مطلقا ولو غلي وقذف بالزبد بعد الطبخ. وقال مالك والشافعي والجمهور: يمتنع إذا صار مسكرا شرب قليله وكثيره، سواء غلي أم لا، لانه يجوز أن يبلغ حد الاسكار بأن يغلي ثم يسكن غليانه بعد ذلك، وهو مراد من قال: حد منع شربه أن يتغير. وأخرج مالك بإسناد صحيح أن عمر قال: إني وجدت من فلان ريح شراب فزعم أنه شرب الطلاء وإني سائل عما شرب فإن كان يسكر جلدته فجلد عمر الحد تاما. وفي السياق حذف والتقدير فسأل عنه فوجده يسكر فجلده. وأخرج سعيد بن منصور عنه نحوه. وفي هذا رد على من احتج بعمر في جواز المطبوخ إذا ذهل منه الثلثان ولو أسكر بأن
[ 78 ]
عمر أذن في شربه ولم يفصل، وتعقب بأن الجمع بين الاثرين ممكن بأن يقال: سأل ابنه فاعترف بأنه شرب كذا، فسأل غيره عنه فأخبر أنه يسكر، أو سأل ابنه فاعترف أنه يسكر وقال أبو الليث السمرقندي: شار ب المطبوخ إذا كان يسكر أعظم ذنبا من شارب الخمر، لان شارب الخمر يشربها وهو عالم أنه عاص بشربها، وشارب المطبوخ يشرب المسكر ويراه حلالا، وقد قام الاجماع على أن قليل الخمر وكثيره حرام، وثبت قوله صلى الله عليه وآله وسلم: كل مسكر حرام ومن استحل ما هو حرام بالاجماع كفر. قوله: يوكى أي يشد بالوكاء وهو غير مهموز. قوله: وله عزلاء بفتح العين المهملة وإسكان الزاي وبالمد وهو الثقب الذي يكون في أسفل المزادة والقربة. قوله: فيشربه عشاء قال النووي: هو بكسر العين وفتح الشين وضبطه بعضهم بفتح العين وكسر الشين وزيادة ياء مشددة. قال القرطبي: هذا يدل على أن أقصى زمان الشراب ذلك المقدار، فإنه لا تخرج حلاوة التمر أو الزبيب في أقل من ليلة أو يوم (والحاصل) أنه يجوز شرب النبيذ ما دام حلوا غير أنه إذا اشتد الحر أسرع إليه التغير في زمان الحر دون زمان البرد. قوله: إلى مساء الثالثة قال النووي: مساء الثالثة يقال بضم الميم وكسرها لغتان مشهورتان والضم أرجح. قوله: فيسقى الخادم هذا محمول على أنه لم يكن قد بلغ إلى حد السكر، لان الخادم لا يجوز أن يسقى المسكر، كما لا يجوز له شربه بل تتوجه إراقته. قوله: أو يهراق بضم أوله لانه إذا صار مسكرا حرم شربه وكان نجسا فيراق. قوله: فتحينت فطره أي طلبت حين فطره. قوله: صنعته في دباء أي قرع. قوله: ينش بفتح الياء التحتية وكسر النون أي إذا غلى يقال نشت الخمر تنش نشيشا إذا غلت. قوله: اضرب بهذا الحائط أي اصببه وأرقه في البستان وهو الحائط. قوله: في ثلاث فيه دليل على أن النبيذ بعد الثلاث قد صار مظنة لكونه مسكرا فيتوجه اجتنابه. قوله: من الطلاء بكسر المهملة والمد شبه بطلاء لا بل وهو في تلك الحال غاليا لا يسكر. باب آداب الشرب عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتنفس في الاناء ثلاثا
[ 79 ]
متفق عليه. وفي لفظ: كان يتنفس في الشرا ب ثلاثا ويقول: إنه أروى وأبرأ وأمرأ رواه أحمد ومسلم. وعن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الاناء متفق عليه. وعنابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يتنفس في الاناء أو ينفخ فيه رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي. وعن أبي سعيد: أن النبصلى الله عليه وآله وسلم نهى عن النفخ في الشراب فقال رجل: القذاة أراها في الاناء، فقال: أرقها، فقال: إني لا أروى من نفس واحد، قال: فأبن القدح إذا عن فيك رواه أحمد والترمذي وصححه. قوله: كان يتنفس في الاناء ثلاثا حمل بعضها هذه الرواية على ظاهرها وأنه يقع التنفس في الاناء ثلاثا وقال فعل ذلك ليبين به جواز ذلك. ومنهم من علل جواز ذلك في حقه عليه السلام بأنه لم يكن يتقذر منه شئ، بل الذي يتقذر من غيره يستطاب منه، فإنهم كانوا إذا بزق أو تنخع يدلكون بذلك، وإذا توضأ اقتتلوا على فضلة وضوئه، إلى غير ذلك مما في هذا المعنى. قال القرطبي: وحمل هذا الحديث على هذا المعنى ليس بصحيح بدليل بقيته فإنه قال: إنه أروى وأمرأ. وفي لفظ لابي داود: وأبرأ. وهذه الثلاثة الامور إنما تحصل بأن يشرب ثلاثة أنفاس خارج القدح، فأما إذا تنفس في الماء وهو يشرب فلا يأمن الشرق وقد لا يروى، وعلى هذا المعنى حمل الحديث الجمهور نظرا إلى المعنى ولبقية الحديث، وللنهي عن التنفس في الاناء في حديث أبي قتادة. وحديث ابن عباس ولقوله في حديث أبي سعيد: فأبن القدح إذا، ولا شك أن هذا من مكارم الاخلاق ومن باب النظافة، وما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر بشئ ثم لا يفعله، وإن كان لا يستقذر منه وأهنأ وأمرأ من قوله تعالى: * (فكلوه هنيئا مريئا) * (النساء: 4) ومعنى الحديث كان إذا شرب تنفس في الشراب من الاناء ثلاثا. ومعنى أروى أي أكثر ريا، وأبرأ مهموز أي أسلم من مرض أو أذى يحصل بسبب الشرب في نفس واحد، وأمرأ أي أكمل انسياغا. وقيل إذا نزل من المرئ الذي في رأس المعدة إليها فيمرئ في الجسد منها. وفي رواية لابي داود بزيادة أهنأ، وكل ما لم يأت بمشقة ولا عناء فهو هنئ، ويقال: هناني الطعام فهو هني أي لا إثم فيه ويحتمل أن يكون أهنأ في هذه الرواية
[ 80 ]
بمعنى أروى. قال ابن رسلان في شرح السنن: وفي هذا الحديث إشارة إلى ما يدعى للشارب به عقب الشراب، فيقال له عقب الشرب هنيئا مريئا وأما قولهم في الدعاء للشارب صحة بكسر الصاد فلم أجد له أصلا في السنة مسطورا بل نقل لي بعض طلبة الدمشقيين عن بعض مشايخه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال للتي شربت دمه أو بوله صحة فإن ثبت هذا فلا كلام انتهى. قوله: فلا يتنفس في الاناء النهي عن التنفس في الذي يشرب منه لئلا يخرج من الفم بزاق يستقذره من شرب بعده منه أو تحصل فيه رائحة كريهة تتعلق بالماء أو بالاناء، وعلى هذا فإذا لم يتنفس في الاناء فليشرب في نفس واحد، قاله عمر بن عبد العزيز، وأجازه جماعة منهم ابن المسيب وعطاء بن أبي رباح ومالك بن أنس، وكره ذلك جماعة منهم ابن عباس ورواية عكرمة وطاوس وقالوا: هو شرب الشيطان. والقول الاول أظهر لقوله في حديث الباب للذي قال له: إنه لا يروى من نفس واحد: أبن القدح عن فيك وظاهره أنه أباح له الشرب في نفس واحد إذا كان يروى منه، وكما لا يتنفس في الاناء لا يتجشأ فيه بل ينحيه عن فيه مع الحمد لله ويرده إلى فيه مع التسمية، فيتنفس ثلاثا يحمد الله في آخر كل نفس ويسمي الله في أوله. قوله: أو ينفخ فيه أي في الاناء الذي يشرب منه، والاناء يشمل إناء الطعام والشراب، فلا ينفخ في الاناء ليذهب ما في الماء من قذاة ونحوها، فإنه لا يخلو النفخ غالبا من بزاق يستقذر منه، وكذا لا ينفخ في الاناء لتبريد الطعام الحار بل يصبر إلى أن يبرد كما تقدم ولا يأكله حارا، فإن البركة تذهب منه وهو شراب أهل النار. وعن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الشرب قائما رواه أحمد ومسلم. وعن قتادة عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زجر عن الشرب قائما، قال قتادة: فقلنا فالاكل؟ قال: ذاك شر وأخبث رواه أحمد ومسلم والترمذي. [ رح 3738 ] وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا يشربن أحد منكم قائما فمن نسي فليستقئ رواه مسلم. وعن ابن عباس قال: شرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائما من زمزم متفق عليه. وعن الامام علي رضي الله عنه: أنه في رحبة الكوفة شرب وهو قائم قال: إن ناسا يكرهون الشرب قائما، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صنع مثل ما صنعت رواه أحمد والبخاري. [ رح 3741 ] وعنابن عمر قال: كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه
[ 81 ]
وآله وسلم ونحن نمشي ونشرب ونحن قيام رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه. ظاهر النهي في حديث أبي سعيد وأبي هريرة أن الشرب من قيام حرام ولاسيما بعد قوله: فمن نسي فليستقئ فإنه يدل على التشديد في المنع والمبالغة في التحريم ولكن حديث ابن عباس وحديث علي يدلان على جواز ذلك. (وفي الباب) أحاديث غير ما ذكره المصنف منها: ما أخرجه أحمد وصححه ابن حبان عن أبي هريرة بلفظ: لو يعلم الذي يشرب وهو قائم لاستقاء. ولاحمد من وجه آخر عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يشرب قائما فقال: قه، قال: لمه؟ قال: أيسرك أن يشرب معك الهر؟ قال: لا، قال: قد شرب معك من هو شر منه الشيطان وهو من رواية شعبة عن أبي زياد الطحان مولى الحسن بن علي عنه رضي الله عنهما. وأبو زيالا يعرف اسمه. وقد وثقه يحيى بن معين ومنها، عند مسلم عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم زجر عن الشرب قائما. قال المازري: اختلف الناس في هذا، فذهب الجمهور إلى الجواز وكرهه قوم، فقال بعض شيوخنا: لعل النهي منصرف إلى من أتى أصحابه بماء فبادر بشربه قائما قبلهم استبدادا به وخروجا عن كون ساقي القوم آخرهم شربا. قال: وأيضا فإن الحديث تضمن المنع من الاكل قائما، ولا خلاف في جواز الاكل قائما، قال: والذي يظهر لي أن أحاديث شربه قائما يدل على الجوا، وأحاديث النهي تحمل على الاستحباب والحث على ما هو أولى وأكمل، قال: ويحمل الامر بالقئ على أن الشرب قائما يحرك. خلطا يكون القئ دواءه، ويؤيده قول النخعي: إنما نهى عن ذلك لداء البطن. وقد تكلم عياض على أحاديث النهي وقال: إن مسلما أخرج حديث أبي سعيد، وحديث أنس من طريق قتادة، وكان شعبة يتقي من حديث قتادة ما لا يصرح فيه بالتحديث، قال: واضطراب قتادة فيه مما يعله مع مخالفة الاحاديث الاخرى والائمة له. وأما حديث أبي هريرة ففي سنده عمر بن حمزة ولا يتحمل منه مثل هذا لمخالفة غيره له، والصحيح أنه موقوف انتهى، ملخصا. قال النووي ما ملخصه: هذه الاحاديث أشكل معناها على بعض العلماء حتى قال فيها أقوالا باطلة وزاد: حتى تجاسر ورام أن يضعف بعضها، ولا وجه لاشاعة الغلطات، بل يذكر الصواب ويشار إلى التحذير عن الغلط، وليس في الاحاديث إشكال
[ 82 ]
ولا فيها ضعف، بل الصواب أن النهي فيها محمول على التنزيه، وشربه قائما لبيان الجواز. وأما من زعم نسخا أو غيره فقد غلط فإن النسخ لا يصار إليه مع إمكان الجمع لو ثبت التاريخ، وفعله صلى الله عليه وآله وسلم لبيان الجواز لا يكون في حقه مكروها أصلا، فإنه كان يفعل الشئ للبيان مرة أو مرات، ويواظب على الافضل والامر بالاستقاء محمول على الاستحباب، فيستحب لمن يشرب قائما أن يستقئ لهذا الحديث الصحيح، فإن الامر إذا تعذر حمله على الوجوب يحمل على الاستحباب. وأما قول عياض: لا خلاف بين أهل العلم أن من شرب قائما ليس عليه أن يتقيأ، وأشار به إلى تضعيف الحديث فلا يلتفت إلى إشارته، وكون أهل العلم لم يوجبوا الاستقاء لايمنع من الاستحباب، فمن ادعى منع الاستحباب بالاجماع فهو مجازف، وكيف تترك السنة الصحيحة بالتوهمات والدعاوى والترهات. قال الحافظ: ليس في كلام عياض التعرض للاستحباب أصلا، بل ونقل الاتفاق المذكور إنما هو في كلام المازري كما مضى. وأما تضعيف عياض للاحاديث فلم يتشاغل النووي بالجواب عنه قال: فأما إشارته إلى تضعيف حديث أنس بكون قتادة مدلسا فيجاب عنه بأنه صرح في نفس هذا الحديث بما يقتضي السماع فإنه قال: قلنا لانس فالاكل الخ، وأما تضعيف حديث أبي سعيد بأن أبا عباس غير مشهور فهو قول سبق إليه ابن المديني لانه لم يرو عنه إلا قتادة، لكن وثقه الطبري وابن حبان، ودعواه اضطرابه مردودة، فقد تابعه الاعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة كما رواه أحمد وابن حبان، فالحديث بمجموع طرقه صحيح. قال النووي والعراقي في شرح الترمذي: إن قوله فمن نسي لا مفهوم له، بل يستحب ذلك للعامد أيضا بطريق الاولى، وإنما خص الناسي بالذكر لكون المؤمن لا يقع ذلك منه بعد النهي غالبا إلا نسيانا. قال القرطبي في المفهم: لم يصر أحد إلى أن النهي فيه للتحريم، وإن كان القول به جاريا على أصول الظاهرية، وتعقب بأن ابن حزم منهم جزم بالتحريم، وتمسك من لم يقل بالتحريم بالاحاديث المذكورة في الباب. (وفي الباب) عن سعد بن أبي وقاص أخرجه الترمذي. وعن عبد الله بن أنيس أخرجه الطبراني. وعن أنس أخرجه البزار والاثرم. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أخرجه الترمذي وحسنه وعن عائشة أخرجه البزار وأبو علي الطوسي في الاحكام. وعن أم سليم أخرجه
[ 83 ]
ابن شاهين. وعن عبد الله بن السائب أخرجه ابن أبي حاتم، وثبت الشرب قائما عن عمر أخرجه الطبري. وفي الموطأ: أن عمر وعثمان وعليا كانوا يشربون قياما، وكان سعد وعائشة لا يريان بذلك بأسا، وثبتت الرخصة عن جماعة من التابعين وسلك العلماء في ذلك مسالك. أحدها: الترجيح وأن أحاديث الجواز أثبت من أحاديث النهي، وهذه طريقة أبي بكر الاثرم فقال: حديث أنس يعني في النهي جيد الاسناد، ولكن قد جاء عنه خلافه يعني في الجواز قال: ولا يلزم من كون الطريق إليه في النهي أثبت من الطريق إليه في الجواز أن لا يكون الذي يقابله أقوى، لان الثبت قد يروي من هو دونه الشئ فيرجح عليه، فقد رجح نافع على سالم في بعض الاحاديث عن ابن عمر، وسالم مقدم على نافع في التثبت، وقدم شريك على الثوري في حديثين، وسفيان مقدم عليه في جملة أحاديث. ويروى عن أبي هريرة أنه قال: لا بأس بالشرب قائما، قال: فدل على أن الرواية عنه في النهي ليست بثابتة وإلا لما قال لا بأس به قال: ويدل على وهانة أحاديث النهي أيضا اتفاق العلماء على أنه ليس على أحد شرب أن يستقئ. المسلك الثاني: دعوى النسخ وإليها جنح الاثرم وابن شاهين فقررا أن أحاديث النهي على تقدير ثبوتها منسوخة بأحاديث الجواز بقرينة عمل الخلفاء الراشدين ومعظم الصحابة والتابعين بالجواز وقد عكس ابن حزم فادعى نسخ أحاديث الجواز بأحاديث النهي متمسكا بأن الجواز على وفق الاصل. وأحاديث النهي مقررة لحكم الشرع، فمن ادعى الجواز بعد النهي فعليه البيان، فإن النسخ لا يثبت بالاحتمال. وأجاب بعضهم بأن أحاديث الجواز متأخرة لما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع، كما تقدم ذكره في حديث الباب عن ابن عباس، وإذا كان ذلك الآخر من فعله صلى الله عليه وآله وسلم دل على الجواز ويتأيد بفعل الخلفاء الراشدين. المسلك الثالث: الجمع بين الاخبار بضرب من التأويل قال أبو الفرج الثقفي: المراد بالقيام هنا المشي يقال: قمت في الامر إذا مشيت فيه، وقمت في حاجتي إذا سعيت فيها وقضيتها ومنه قوله تعالى: * (إلا ما دمت عليه قائما) * أي مواظبا بالمشي عليه. وجنح الطحاوي إلى تأويل آخر وهو حمل النهي على من لم يسم عند شربه، وهذا إسلم له في بعض ألفاظ الاحاديث لم يسلم له في بقيتها وسلك آخرون في الجمع يحمل أحاديث النهي على كراهة التنزيه، وأحاديث الجواز على بيانه، وهي طريقة الخطابي وابن بطال في آخرين قال
[ 84 ]
الحافظ: وهذا أحسن المسالك وأسلمها وأبعدها من الاعتراض وقد أشار الاثرم إلى ذلك آخرا فقال: إن ثبتت الكراهة حملت على الارشاد والتأديب لا على التحريم، وبذلك جزم الطبري وأيده بأنه لو كان جائزا ثم حرمه أو كان حراما ثم جوزه لبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بيانا واضحا، فلما تعارضت الاخبار في ذلك جمعنا بينها بهذا. وقيل: إن النهي عن ذلك إنما هو من جهة الطب مخافة وقوع ضرر به، فإن الشرب قاعدا أمكن وأبعد من الشرق، وحصول الوجع في الكبد أو الحلق وكل ذلك قد لا يأمن منه من شرب قائما. قوله: شرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قائما من زمزم في رواية لابن ماجة من وجه آخر عن عاصم فذكرت ذلك لعكرمة فحلف أنه ما كان حينئذ إلا راكبا. وعند أبي داود من وجه آخر عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم طاف على بعيره ثم أناخ بعد طوافه فصلى ركعتين فلعله حينئذ شرب من زمزم قبل أن يعود إلى بعيره ويخرج إلى الصفا، بل هذا هو الذي يتعين المصير إليه، لان عمدة عكرمة في إنكاره كونه شرب قائما إنما هو ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم طاف على بعيره وخرج إلى الصفا على بعيره وسعى كذلك، لكن لا بد من تخلل ركعتي الطواف بين ذلك، وقد ثبت أنه صلاهما على الارض، فما المانع من كونه شرب حينئذ من سقاية زمزم قائما كما حفظه الشعبي عن ابن عباس. قوله: في رحبة الكوفة الرحبة بفتح الراء المهملة وفتح الموحدة المكان المتسع، والرحب بسكون المهملة المتسع أيضا. قال الجوهري: ومنه أرض رحبة أي متسعة، ورحبة المسجد بالتحريك وهي ساحته. قال ابن التين، فعلى هذا يقرأ الحديث بالسكون، ويحتمل أنها صارت رحبة الكوفة بمنزلة رحبة المسجد فيقرأ بالتحريك وهذا هو الصحيح. قوله: صنع كما صنعت أي من الشرب قائما، وصرح به الاسماعيلي في روايته فقال: شرب فضلة وضوئه قائما كما شربت. وعن أبي سعيد: قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن اختناث الاسقية أن يشرب من أفواهها متفق عليه. وفي رواية: واختناثها أن يقلب رأسها ثم يشرب منه أخرجاه. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى أن يشرب من في السقاء رواه البخاري وأحمد. وزياد قال أيوب: فأنبئت أن رجلا شرب من في السقاء فخرجت حية. وعنابن عباس قال: نهى رسول الله
[ 85 ]
صلى الله عليه وآله وسلم عن الشرب من في السقاء رواه الجماعة إلا مسلما. وعن عبد الرحمن بن أبي عمرة عن جدته كبشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشرب من في قربة معلقة قائما فقمت إلى فيها فقطعته رواه ابن ماجة والترمذي وصححه. وعن أم سليم قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي البيت قربة معلقة فشرب منها وهو قائم فقطعت فاها فإنه لعندي رواه أحمد. حديث أم سليم أخرجه أيضا ابن شاهين والترمذي في الشمائل، والطبراني والطحاوي في معاني الآثار. (وفي الباب) عن عبد الله بن أنيس عند أبي داود والترمذي قوله: عن اختناث الاسقية بالخاء المعجمة ثم المثناة من فوق بعدها نون وبعد الالف مثلثة افتعال من الخنث بالخاء المعجمة والنون والمثلثة وهو في الاصل الانطواء والتكسر والانثناء. والاسقية جمع سقاء والمراد به المتخذ من الادم صغيرا كان أو كبيرا، وقيل القربة قد تكون صغيرة وقد تكون كبيرة، والسقاء لا يكون إلا صغيرا. قوله: واختناثها الخ هو مدرج وقد جزم الخطابي أن تفسير الاختناث من كلام الزهري. قوله: وزاد فقال أيوب الخ، هذه الزيادة زادها أيضا ابن أبي شيبة ولفظه: شرب رجل من سقاء فانساب في بطنه حيتان فنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك وكذا أخرجه الاسماعيلي. قوله: من في السقاء قال النووي: اتفقوا على أن النهي هنا للتنزيه لا للتحريم كذا قال وفي الاتفاق نظر، نقل ابن التين وغيره عن مالك أنه أجاز الشرب من أفواه القرب وقال: لم يبلغني فيه نهي. قال الحافظ: لم أر في شئ من الاحاديث المرفوعة ما يدل على الجواز إلا من فعلصلى الله عليه وآله وسلم، وأحاديث النهي كلها من قوله فهي أرجح، وإذا نظرنا إلى علة النهي عن ذلك فإن جميع ما ذكره العلماء في ذلك يقتضي أنه مأمون منصلى الله عليه وآله وسلم أما أولا فلعصمته وطيب نكهته، وأما دخول شئ في فم الشارب، فهو يقتضي أنه لو ملا السقاء وهو يشاهد الماء الذي يدخل فيه ثم ربطه ربطا محكما ثم شرب منه لم يتناوله النهي. وقد أخرج الحاكم من حديث عائشة بسند قوي بلفظ: نهى أن يشرب من في السقاء لان ذلك ينتنه وهذا يقتضي أن يكون النهخاصا بمن يشرب فيتنفس داخل السقاء أو باشر بفمه باطن السقاء، أما من صب من الفم إلى داخل فمه من
[ 86 ]
غير مماسة فلا. ومن جملة ما علل به النهي أن الذي يشرب من فم السقاء قد يغلبه الماء فينصب منه أكثر من حاجته فلا بأس أن يشرق به أو يبل ثيابه. قال ابن العربي: واحدة من هذه العلل تكفي في ثبوت الكراهة، وبمجموعها تقوي الكراهة جدا. قال ابن أبي جمرة: الذي يقتضيه الفقه أنه لا يبعد أن يكون النهي لمجموع هذه الامور، وفيها ما يقتضي الكراهة، وفيها ما يقتضي التحريم. والعادة في مثل ذلك ترجيح ما يقتضي التحريم. وقد جزم ابن حزم بالتحريم لثبوت النهي وحمل أحاديث الرخصة على أصل الاباحة. وأطلق أبو بكر الاثرم صاحب أحمد أن أحاديث النهي ناسخة للاباحة، لانهم كانوا أولا يفعلون ذلك حتى وقع دخول الحية في بطن الذي شرب من فم السقاء فنسخ الجواز. قال العراقي: لو فرق بين ما يكون لعذر كأن تكون القربة معلقة ولم يجد المحتاج إلى الشرب إناء ولم يتمكن من التناول بكفه فلا كراهة حينئذ، وعلى هذا تحمل الاحاديث المذكورة، وبين ما يكون لغير عذر فتحمل عليه أحاديث النهي. قال الحافظ: ويؤيده أن أحاديث الجواز كلها فيها أن القربة كانت معلقة، والشرب من القربة المعلقة أخص من الشرب من مطلق القربة، ولا دلالة في إخبار الجواز على الرخصة مطلقا بل على تلك الصورة وحدها، وحملها على حالة الضرورة جمعا بين الخبرين أولى من حملها على النسخ والله أعلم. قال: وقد سبق ابن العربي أن ما أشار إليه العراقي فقال: ويحتمل أن يكون شربه صلى الله عليه وآله وسلم في حال ضرورة إما عند الحرب وإما عند عدم الاناء أو مع وجوده، لكن لا يمكن تفريغ السقاء في الاناء، ثم قال: ويحتمل أن يكون شرب من أداوة، والنهي محمول على ما إذا كانت القربة كبيرة لانها مظنة وجود الهوام قال الحافظ: والقربة الصغيرة لا يمتنع وجود شئ من الهوام، فيها، والضرر يحصل به ولو كان حقيرا اه. وقد عرفت أن كبشة وأم سليم صرحتا بأن ذلك كان في البيت وهو مظنة وجود الآنية، وعلى فرض عدمها فأخذ القربة من مكانها وإنزالها والصب منها إلى الكفين أو أحدهما ممكن، فدعوى أن تلك الحالة ضرورية لم يدل عليها دليل، ولا شك أن الشرب من القربة المعلقة أخص من الشرب مطلقا، ولكن لا فرق في تجويز العذر وعدمه بين المعلقة وغيرها، وليست المعلقة مما يصاحبها العذر دون غيرها حتى يستدل بالشرب منها على اختصاصه بحال الضرورة، وعلى كل حال فالدليل أخص من الدعوى، فالاولى الجمع بين الاحاديث
[ 87 ]
بحمل الكراهة على التنزيه ويكون شربه صلى الله عليه وآله وسلم بيانا للجواز. وعنابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شرب لبنا فمضمض وقال إن له دسما رواه أحمد والبخاري. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي بلبن قد شيب بماء وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر فشرب ثم أعطى الاعرابي وقال: الايمن فالايمن رواه الجماعة إلا النسائي. وعن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام وعن يساره الاشياخ فقال للغلام: اتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: والله يا رسول الله لا آثرت بنصيبي منك أحدا فتله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في يده متفق عليه. [ رح 3750 ] وعن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ساقي القوم آخرهم شربا رواه ابن ماجة والترمذي وصححه. حديث أبي قتادة أخرجه أيضا أبو داود قال المنذري: ورجال إسناده ثقات وقد أخرج مسلم في حديث أبي قتادة الانصاري الطويل قلت لا أشرب حتى يشرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: إن الساقي آخرهم. قوله: فمضمض فيه مشروعية المضمضة بعد شراب اللبن. وقد روى أبو جعفر الطبري من طريق عقيل عن ابن شهاب بلفظ: تمضمضوا من شرب اللبن والعلة الدسومة الكائنة في اللبن والتعليل بذلك يشعر بأن ما كان له دسومة من مأكول أو مشروب فإنها تشرع له المضمضة. قوله: قد شيب بماء أي مزج بالماء وإنما كانوا يمزجونه بالماء لان اللبن يكون عند حلبه حارا وتلك البلاد في الغالب حارة، فكانوا يمزجونه بالماء لذلك. قوله: ثم أعطى الاعرابي وقال: الايمن فالايمن يجوز أن يكون قوله الايمن مبتدأ خبره محذوف أي الايمن مقدم أو أحق، ويجوز أن يكون منصوبا على تقدير قدموا الايمن أو أعطوا. وفيه دليل على أنه يقدم من على يمين الشارب في الشرب وهلم جرا وهو مستحب عند الجمهور. وقال ابن حزم، يجب ولا فرق بين شراب اللبن وغيره كما في حديث سهل بن سعد وغيره. ونقل عن مالك، أنه خصه بالماء، قال ابن عبد البر: لا يصح عن مالك. وقال عياض: يشبه أن يكون مراده أن السنة ثبتت نصافي الماء خاصة، وتقديم الايمن في غير شرب الماء يكون بالقياس قال ابن العربي: كان
[ 88 ]
اختصاص الماء بذلك لكونه قد قيل إنه لا يملك بخلاف سائر المشروبات، ومن ثم اختلف هل يجري الربا فيه وهل يقطع في سرقته؟ اه. ولا يخفى أن حديث أنس نص في اللبن. وحديث سهل بن سعد يعم الماء وغيره، فتأويل قول مالك بأن السنة ثبتت في الماء لا يصح. قوله: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء ظاهر في أنه لو أذن له لاعطاهم، ويؤخذ منه جواز الايثار بمثل ذلك وهو مشكل على ما اشتهر من أنه لا إيثاء بالقرب. وعبارة إمام الحرمين في هذا لا يجوز التبرع في العبادات ويجوز في غيرها، وقد يقال: إن القرب أعم من العبادة. وقد أورد على هذه القاعدة تجويز جذب واحد من الصف الاول ليصلي معه، فإن خروج المجذوب من الصف الاول لقصد تحصيل فضيلة للجاذب وهي الخروج من الخلاف في بطلان صلاته، ويمكن الجواب بأنه لاإيثار إذ حقيقة الايثار إعطاء ما استحقه لغيره، وهذا لم يعط الجاذب شيئا وإنما رجح مصلحته، لان مساعدة الجاذب على تحصيل مقصوده ليس فيها إعطاؤه ما كان يحصل للمجذوب لو لم يوافقه. قوله: فتله بفتح المثناة من فوق وتشديد اللام أي وضعه. وقال الخطابي: وضعه بعنف. وأصله من الرمي على التل وهو المكان العالي المرتفع، ثم استعمل في كل شئ رمي به وفي كل إلقاء. وقيل: هو من التلتل بلام ساكنة بين المثناتين المفتوحتين وآخره لام وهو العنق. ومنه وتله للجبين أي صرعه فألقى عنقه وجعل جبينه إلى الارض، والتفسير الاول أليق بمعنى حديث الباب، وقد أنكر بعضهم تقييد الخطابي الوضع بالعنف. وظاهر هذا أن تقديم الذي على اليمين ليس لمعنى فيه بل لمعنى من جهة اليمين وهو فضلها على جهة اليسار، فيؤخذ منه أن ذلك ليس ترجيحا لمن هو على اليمين بل هو ترجيح لجهة اليمين، وقد يعارض حديث أنس وسهل المذكورين، حديث سهل بن أبي حثمة الذي تقدم في القسامة بلفظ: كبر كبر. وكذلك حديث ابن عباس الذي أخرجه أبو يعلى بسند قوي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سقي قال: ابدؤوا بالاكبر ويجمع بأنه محمول على الحالة التي يجلسون فيها متساوين إما بين يدي الكبير أو عن يساره كلهم أو خلفه. قال ابن المنير، يؤخذ من هذا الحديث أنها إذا تعارضت فضيلة الفاضل وفضيلة الوظيفة اعتبرت فضيلة الوظيفة. قوله: ساقي القوم آخرهم شربا فيه دليل على أنه يشرع لمن تولى سقاية قوم أن يتأخر في الشرب حتى يفرغوا عن آخرهم، وفيه إشارة إلى أن كل من ولي من أمور المسلمين
[ 89 ]
شيئا يجب عليه تقديم إصلاحهم على ما يخص نفسه، وأيكون غرضه إصلاح حالهم، وجر المنفعة إليهم، ودفع المضار عنهم، والنظر لهم فل أدق أمورهم وجلها، وتقديم مصلحتهم على مصلحته. وكذا من يفرق على القوم فاكهة فيبدأ بسقي كبير القوم أو بمن عن يمينه إلى آخرهم وما بقي شربه، ولا معارضة بين هذا الحديث وحديث ابدأ بنفسك لان ذاك عام وهذا خاص فيبنى العام على الخاص. [ رم ] أبواب الطب باب إباحة التداوي وتركه عن أسامة بن شريك قال: جاء أعرابي فقال: يا رسول الله أنتداوى؟ قال نعم فإن الله لم ينزل داء إلا أنزل لشفاء علمه من علمه وجهله من جهله رواه أحمد. وفي لفظ: قالت الاعراب يا رسول الله ألا نتداوى؟ قال: نعم عباد الله تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء أو دواء إلا داء واحدا، قالوا: يا رسول الله وما هو؟ قال الهرم رواه ابن ماجة وأبو داود والترمذي وصححه. وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله تعالى رواه أحمد ومسلم. وعنابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله رواه أحمد. وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء رواه أحمد والبخاري وابن ماجة. وعن أبي خزامة قال: قلت يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به؟ وتقاة نتقيها؟ هل ترد من قدر الله شيئا؟ قال هي من قدر الله رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن ولا يعرف لابي خزامة غير هذا الحديث. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون. وعن ابن عباس: أن امرأة سوداء أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إني أصرع وإني
[ 90 ]
أتكشف فادع الله لي، قال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك، فقالت: أصبر، وقالت: إنا أتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها متفق عليهما. حديث أسامة أخرجه أيضا النسائي والبخاري في الادب المفرد، وصححه أيضا ابن خزيمة والحاكم. وحديث ابن مسعود أخرجه أيضا النسائي وصححه ابن حبان والحاكم. وحديث أبي خزامة وهو بمعجمة مكسورة وزاي خفيفة أخرجه أيضا الترمذي من طريقين: إحداهما عن ابن أبي عمر عن سفيان عن الزهري عن أبي خزامة عن أبيه، والثانية عن سعيد بن عبد الرحمن عن سفيان عن الزهري عن ابن أبي خزامة عن أبيه. قال: وقد روي عن ابن عيينة كلتا الروايتين. وقال بعضهم: عن أبي خزامة عن أبيه. وقال بعضهم: عن ابن أبي خزامة عن أبيه. قال: وقد روى هذا الحديث غير ابن عيينة عن الزهري عن أبي خزامة عن أبيه وهذا أصح، ولا يعرف لابي خزامة عن أبيه غير هذا الحديث اه كلامه. وقد صرح بأنه حديث حسن وهو كما قال. قوله: فإن الله لم ينزل داء المراد بالانزال إنزال علم ذلك على لسان الملك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مثلا أو المراد به التقدير. قوله: عباد الله تداووا لفظ الترمذي قال: نعم يا عباد الله تداووا والداء والدواء كلاهما بفتح الدال المهملة بالمد، وحكي كسر دال الدواء. قوله: والهرم استثناه لكونه شبيها بالموت، والجامع بينهما تقضي الصحة أو لقربه من الموت أو إفضائه إليه. ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا والتقدير: لكن الهرم لا دواء له. وفي لفظ: إلا السام بمهملة مخففا وهو الموت، ولعل التقدير إلا داء السام أي المرض الذي قدر على صاحبه الموت. قوله: علمه من علمه فيه إشارة إلى أن بعض الادوية لا يعلمه كل واحد (وفي أحاديث الباب) كلها إثبات الاسباب، وأن ذلك لا ينافي التوكل على الله لمن اعتقد أنها بإذن الله وبتقديره، وأنها لا تنجع بذواتها بل بما قدره الله فيها، وأن الدواء قد ينقلب داء إذا قدر الله ذلك وإليه الاشارة في حديث جابر حيث قال بإذن الله، فمدار ذلك كله على تقدير الله وإرادته، والتداوي لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالاكل والشرب، وكذلك تجنب المهلكات والدعاء بالعافية ودفع المضار وغير ذلك. قوله: وجهله من جهله فيه دليل على أنه لا بأس بالتداوي لمن
[ 91 ]
كان به داء، قد اعترف الاطباء بأنه لا دواء له وأقروا بالعجز عنه. قوله: رقى نسترقيها الخ، سيأتي الكلام على الرقية. قوله: وتقاة نتقيها أي ما نتقي به ما يرد علينا من الامور التي لا نريد وقوعها بنا. قوله: قال هي من قدر الله أي لا مخالفة بينهما لان الله هو الذي خلق تلك الاسباب وجعل لها خاصية في الشفاء. قوله: لا يسترقون الخ، سيأتي الكلام على الرقية والكي. وأما التطير فهو من الطيرة بكسر الطاء المهملة وفتح المثناة التحتية وقد تسكن وهي التشاؤم بالشئ، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم فنفاه الشرع وأبطله ونهى عنه. (والاحاديث) في الطيرة متعارضة وقد وضعت فيها رسالة مستقلة. وقد استدل بهذا الحديث والذي بعده على أنه يكره التداوي. وأجيب عن ذلك بأجوبة. قال النووي لا مخالفة بل المدح في ترك الرقى المراد بها الرقى التي هي من كلام الكفار، والرقى المجهولة والتي بغير العربية وما لا يعرف معناه، فهذه مذمومة لاحتمال أن معناه كفر أو قريب منه أو مكروه، وأما الرقى بآيات القرآن وبالاذكار المعروفة فلا نهي فيه بل هو سنة، ومنهم من قال في الجمع بين الحديثين أن الواردة في ترك الرقى للافضلية وبيان التوكل وفي فعل الرقي لبيان الجواز مع أن تركها أفضل، وبهذا قال ابن عبد البر وحكاه عمن حكاه والمختار الاول. وقد نقلوا الاجماع على جواز الرقى بالآيات وأذكار الله تبارك وتعالى. قال المازري: جميع الرقى جائزة إذا كانت بكتاب الله أو بذكره، ومنهي عنها إذا كانت باللغة العجمية أو بما لا يدرى معناه لجواز أن يكون فيه كفر. وقال الطبري والمازري وطائفة: أنه محمول على من يعتقد أن الادوية تنفع بطبعها كما كان أهل الجاهلية يعتقدون. قال عياض: الحديث يدل على أن للسبعين ألفا مزية على غيرهم، وفضيلة انفردوا بها عمن يشاركهم في أصل الفضل والديانة، ومن كان يعتقد أن الادوية تؤثر بطبعها أو يستعمل رقى أهل الجاهلية ونحوها فليس مسلما فلم يسلم هذا الجواب. وأجاب الداودي وطائفة أن المراد بالحديث الذين يجتنبون فعل ذلك في الصحة خشية وقوع الداء وأما من يستعمل الدواء بعد وقوع الداء. فلا. وأجاب الحليمي بأنه يحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المذكورين في الحديث من غفل عن أحوال الدنيا وما فيها من الاسباب المعدة لدفع العوارض، فهم لا يعرفون الاكتواء ولا الاسترقاء، وليس لهم ملجأ فيما يعتريهم إلا الدعاء والاعتصام بالله والرضا بقضائه، فهم
[ 92 ]
غافلون عن طب الاطباء ورقى الرقاة، ولا يخشون من ذلك شيئا. وأجاب الخطابي ومن تبعه بأن المراد بترك الرقى والكي الاعتماد على الله في دفع الداء والرضا بقدره لا القدح في جواز ذلك وثبوت وقوعه في الاحاديث الصحيحة. وعن السلف الصالح لكن مقام الرضا والتسليم أعلى من تعاطي الاسباب. قال ابن الاثير: هذا من صفة الاولياء المعرضين عن الدنيا وأسبابها وعلاقتها وهؤلاء هم خواص الاولياء، ولا يرد عليه وقوع مثل ذلك من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعلا وأمرا، لانه كان في أعلى مقامات العرفان ودرجات التوكل، فكان ذلك منه للتشريع وبيان الجواز، ومع ذلك فلا ينقص من توكله لانه كان كامل التوكل يقينا، فلا يؤثر فيه تعاطي الاسباب شيئا بخلاف غيره ولو كان كثير التوكل فكان من ترك الاسباب وفوض وأخلص أرفع مقاما. قال الطبري: قيل لا يستحق اسم التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف من شئ البتة حتى السبع الضاري والعدو العادي، ولا يسعى في طلب رزقه ولا في مداواة ألم. والحق من وثق بالله وأيقن أن قضاءه عليه ماض لم يقدح في توكله تعاطيه الاسباب اتباعا لسنته وسنة رسوله، فقد ظاهر صلى الله عليه وآله وسلم بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة وهاجر هو، وتعاطى أسباب الاكل والشرب، وأدخر لاهله قوتهم، ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء، وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك، وقال للذي سأله: أيعقل ناقته أو يتوكل؟ أعقلها وتوكل. فإشار إلى أن الاحتراز لا يدفع التوكل. قوله: فقالت إني أصرع الصرع نعوذ بالله منه علة تمنع الاعضاء الرئيسة عن استعمالها منعا غير تام، وسببه ريح غليظة تنحبس في منافذ الدماغ أو بخار ردئ يرتفع إليه من بعض الاعضاء، وقد يتبعه تشنج في الاعضاء ويقذف المصروع بالزبد لغلظ الرطوبة، وقد يكون الصرع من الجن ويقع من النفوس الخبيثة منهم، إما لاستحسان بعض الصور الانسية، وإما لايقاع الاذية به، والاول هو الذي يثبته جميع الاطباء ويذكرون علاجه. والثاني يجحده كثير منهم وبعضهم يثبته، ولا يعرف له علاج إلا بجذب الارواح الخيرة العلوية لدفع آثار الارواح الشريرة السفلية وتبطيل أفعالها، وممن نص على ذلك بقراط فقال بعد ذكر علاج المصروع: إنما ينفع في الذي سببه أخلاط، وأما الذي يكون من
[ 93 ]
الارواح فلا. قوله: وأني أتكشف بمثناة من فوق وتشديد الشين المعجمة من التكشف وبالنون الساكنة المخففة من الانكشاف، والمراد أنها خشيت أن تظهر عورتها وهي لا تشعر. وفيه أن الصبر على بلايا الدنيا يورث الجنة، وأن الاخذ بالشدة أفضل من الاخذ بالرخصة لمن علم من نفسه الطاقة ولم يضعف عن التزام الشدة، وفيه دليل على جواز ترك التداوي، وأن التداوي بالدعاء مع الالتجاء إلى الله أنجع وأنفع من العلاج بالعقاقير، ولكن إنما ينجع بأمرين: أحدهما من جهة العليل وهو صدق القصد، والآخر من جهة المداوي وهو توجه قلبه إلى الله وقوته بالتقوى والتوكل على الله تعالى. باب ما جاء في التداوي بالمحرمات عن وائل بن حجر أن طارق بن سويد الجعفي: سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخمر فنهاه عنها فقال: إنما أصنعها للدواء، قال: إنه ليس بدواء ولكنه داء رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه. وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تتداووا بحرام رواه أبو داود. وقال ابن مسعود في المسكر: إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم ذكره البخاري. وعن أبي هريرة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الدواء الخبيث يعني السم رواه أحمد ومسلم وابن ماجة والترمذي. وقال الزهري في أبوال الابل: قد كان المسلمون يتداوون بها فلا يرون بها بأسا رواه البخاري. حديث أبي الدرداء في إسناده إسماعيل بن عياش، قال المنذري: وفيه مقال انتهى. وقد عرفت غير مرة أنه إذا حدث عن أهل الشام فهو ثقة وإنما يضعف في الحجازيين، وهو هاهنا حدث عن ثعلبة بن مسلم الخثعمي وهو شامي، ذكره ابن حبان في الثقات عن أبي عمران الانصاري مولى أم الدرداء وقائدها وهو أيضا شامي. قوله ليس بدواء ولكنه داء فيه التصريح بأن الخمر ليست بدواء، فيحرم
[ 94 ]
التداوي بهاكما يحرم شربها، وكذلك سائر الامور النجسة أو المحرمة، وإليه ذهب الجمهور. قوله: ولا تتداووا بحرام أي لا يجوز التداوي بما حرمه الله من النجاسات وغيرها مما حرمه الله ولو لم يكن نجسا. قال ابن رسلان في شرح السنن: والصحيح من مذهبنا يعني الشافعية جواز التداوي بجميع النجاسات سوى المسكر لحديث العرنيين في الصحيحين حيث أمرهم صلى الله عليه وآله وسلم بالشرب من أبوال الابل للتداوي. قال: (وحديث الباب) محمول على عدم الحاجة بأن يكون هناك دواء غيره يغني عنه ويقوم مقامه من الطاهرات. قال البيهقي: هذان الحديثان إن صحا محمولان على النهي عن التداوي بالمسكر والتداوي بالحرام من غير ضرورة ليجمع بينهما وبين حديث العرنيين انتهى. ولا يخفى ما في هذا الجمع من التعسف، فإن أبوال الابل الخصم يمنع اتصافها بكونها حراما أو نجسا، وعلى فرض التسليم فالواجب الجمع بين العام وهو تحريم التداوي بالحرام وبين الخاص وهو الاذن بالتداوي بأبوال الابل بأن يقال: يحرم التداوي بكل حرام إلا أبوال الابل، هذا هو القانون الاصولي. قوله: عن الدواء الخبيث ظاهره تحريم التداوي بكل خبيث والتفسير بالسم مدرج لا حجفيه، ولا ريب أن الحرام والنجس خبيثان قال الماوردي وغيره: السموم على أربعة أضرب منها ما يقتل كثيره وقليله، فأكله حرام للتداوي ولغيره لقوله تعالى: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * (آل عمران: 75) ومنها ما يقتل كثيره دون قليله، فأكل كثيره الذي يقتل حرام للتداوي وغيره، والقليل منه إن كان مما ينفع في التداوي جاز أكله تداويا، ومنها ما يقتل في الاغلب وقد يجوز أن لا يقتل فحكمه كما قبله، ومنها ما لا يقتل في الاغلب وقد يجوز أن يقتل، فذكر الشافعي في موضع إباحة أكله وفي موضع تحريم أكله، فجعله بعض أصحابه على حالين، فحيث أباح أكله فهو إذا كان للتداوي، وحيث حرم أكله فهو إذا كان غير منتفع به في التداوي. باب ما جاء في الكي عن جابر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي بن كعب
[ 95 ]
طبيبا فقطع منه عرقا ثم كواه رواه أحمد ومسلم. [ رح 3762 ] وعن جابر أيضا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كوى سعد بن معاذ في أكحله مرترواه ابن ماجة ومسلم بمعناه. [ رح 3763 ] وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كوى أسعد بن زرارة من الشوكة رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وعن المغيرة بن شعبة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه. [ رح 3765 ] وعناب عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنهى أمتي عن الكي رواه أحمد والبخاري وابن ماجة. وعن عمران بن حصين: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الكي فاكتوينا فما أفلحن ولا نجعن رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي وقال: فما أفلحنا ولا أنجعنا. حديث أنس أخرجه الترمذي من طريق حميد بن مسعدة: حدثنا بريدة بن زريع، أخبرنا معمر عن الزهري عن أنس وإسناده حسن كما قال. وحديث المغيرة صححه أيضا ابن حبان والحاكم. قوله: فقطع منه عرقا استدل بذلك على أن الطبيب يداوي بما ترجح عنده قال ابن رسلان: وقد اتفق الاطباء على أنه متى أمكن التداوي بالاخف لا ينتقل إلى ما فوقه، فمتى أمكن التداوي بالغذاء لا ينتقل إلى الدواء، ومتى أمكن بالبسيط لا يعدل إلى المركب، ومتى أمكن بالدواء لا يعدل إلى الحجامة، ومتى أمكن بالحجامة لا يعدل إلى قطع العرق. وقد روي ابن عدي في الكامل من حديث عبد الله بن جواد: قطع العروق مسقمة كما في الترمذي وابن ماجة ترك العشاء مهرمة، وإنما كواه بعد القطع لينقطع الدم الخارج من العرق المقطوع. قوله: كوى سعد بن معاذ الكي هو أن يحمى حديد وبوضع على عضو معلول ليحرق ويحبس دمه ولا يخرج أو لينقطع العرق الذي خرج منه الدم. وقد جاء النهي عن الكي، وجاءت الرخصة فيه والرخصة لسعد لبيان جوازه حيث لا يقدر الرجل أن يداوي العلة بدواء آخر، وإنما ورد النهي حيث يقدر الرجل على أن يداوي العلة بدواء آخر لان الكي فيه تعذيب بالنار، ولا يجوز أن يعذب بالنار إلا رب النار وهو الله تعالى، ولان الكي يبقى منه أثر فاحش، وهذان نوعان من أنواع الكي الاربعة وهما: النهي عن الفعل وجوازه، والثالث الثناء على من تركه كحديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة وقد تقدم، والرابع عدم محبته كحديث الصحيحين:
[ 96 ]
وما أحب أن أكتوي فعدم محبته يدل على أن الاولى عدم فعله، والثناء على تركه يدل على أن تركه أولى، فتبين أنه لا تعارض بين الاربعة. قال الشيخ أبو محمد بن حمزة: علم من مجموع كلامه في الكي أن فيه نفعا وأن فيه مضرة، فلما نهى عنه علم أن جانب المضرة فيه أغلب، وقريب منه إخبار الله تعالى أن في الخمر منافع ثم حرمها لان المضار التي فيها أعظم من المنافع انتهى ملخصا. قوله: من الشوكة هي داء معروف كما في القاموس. قال في النهاية: هي حمرة تعلو الوجه والجسد يقال منه شيك فهو مشوك، وكذلك إذا دخل في جسمه شوكة، ومنه الحديث: إذا شيك فلا انتقش أي إذا شاكته شوكة فلا يقدر على انتقاشها وهو إخراجها بالنقاش. قوله: فقد برئ من التوكل قال في الهدى أحاديث الكي التي في هذا الباب قد تضمنت أربعة أشياء: أحدها فعله. ثانيها عدم محبته. ثالثها الثناء على من تركه. رابعها النهي عنه، ولا تعارض فيها بحمد الله فإن فعله يدل على جوازه، وعدم محبته لا يدل على المنع منه، والثناء على تاركيه يدل على أن تركه أفضل، والنهي عنه إما على سبيل الاختيار من دون علة أو عن النوع الذي يحتاج معه إلى كي انتهى. وقيل: الجمع بين هذه الاحاديث أن المنهي عنه هو الاكتواء ابتداء قبل حدوث العلة كما يفعله الاعاجم، والمباح هو الاكتواء بعد حدوث العلة. قوله: في شرطة محجم بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم. قوله: أو شربة عسل قال في الفتح: العسل يذكر ويؤنث وأسماؤه تزيد على المائة، وفيه من المنافع ما لخصه الموفق البغدادي وغيره فقالوا: يجلي الاوساخ التي في العروق والامعاء ويدفع الفضلات ويغسل المعدة ويسخنها تسخينا معتدلا ويفتح أفواه العروق ويشد المعدة والكبد والكلى والمثانة، وفيه تحليل للرطوبات أكلا وطلاء وتغذية، وفيه حفظ للمعجونات، وإذهاب لكيفية الادوية المستكرهة، وتنقية للكبد والصدر، وإدرار البول والطمس، وينفع للسعال الكائن من البلغم والامزجة الباردة، وإذا أضيف إليه الخل نفع أصحاب الصفراء، ثم هو غذاء من الاغذية، ودواء من الادوية، وشراب من الاشربة، وحلوا من الحلاوات، وطلاء من الاطلية، ومفرح من المفرحات. ومن منافعه أنه إذا شرب حارا بدهن الورد نفع من نهش الحيوان، وإذا شرب وحده بماء نفع من عضة الكلب الكلب، وإذا جعل فيه اللحم الطري حفظ طراوته ثلاثة أشهر، وكذا الخيار والقرع والباذنجان
[ 97 ]
والليمون ونحو ذلك، وإذا لطخ به البدن للقمل قتل القمل والصئبان، وطول الشعر وحسنه ونعمه، وإاكتحل به جلا ظلمة البصر، وإن استن به صقل الاسنان وحفظ صحتها، وهو عجيب في حفجثة الموتى فلا يسرع إليها البلا، وهو مع ذلك مأمون الغائلة قليل المضرة، ولم يكن يعول قدماء الاطباء في الادوية المركبة إلا عليه، ولا ذكر للسكر في أكثر كتبها أصلا. وقد أخرج أبو نعيم في الطب النبوي بسند ضعيف من حديث أبي هريرة رفعه وابن ماجة بسند ضعيف من حديث جابر رفعه من لعق العسل ثلاث غدوات من كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء. قوله: وأنهى أمتي عن الكي قال النووي: هذا الحديث من بديع الطب عند أهله لان الامراض الامتلائية دموية أو صفراوية أو سوداوية أو بلغمية، فإن كانت دموية فشفاؤها إخراج الدم، وإن كانت من الثلاثة الباقية فشفاؤها بالاسهال بالمسهل اللائق بكل خلط منها، فكأنه نبه صلى الله عليه وآله وسلم بالعسل على المسهلات، وبالحجامة على إخراج الدم بها، وبالفصد ووضع العلق وما في معناها، وذكر الكي لانه يستعمل عند عدم نفع الادوية المشروبة ونحوها فآخر الط ب الكي، والنهي عنه إشارة إلى تأخير العلاج بالكي حتى يضطر إليه لما فيه من استعجال الالم الشديد في دفع ألم قد يكون أضعف من ألم الكي. قوله: نهى عن الكي فاكتوينا قال ابن رسلان، هذه الرواية فيها إشارة إلى أنه يباح الكي عند الضرورة بالابتلاء بالامراض المزمنة التي لا ينجع فيها إلا الكي ويخاف الهلاك عند تركه، ألاتراه كوى سعدا لما لم ينقطع الدم من جرحه وخاف عليه الهلاك من كثرة خروجه كما يكوى من تقطع يده أو رجله، ونهى عمران بن حصين عن الكي لانه كان به باسور وكان موضعه خطرا فنهاه عن كيه، فتعين أن يكون النهي خاصا بمن به مرض مخوف، ولان العرب كانوا يرون أن الشافي لما لا شفاء له بالدواء هو الكي، ويعتقدون أن من لم يكتو هلك فنهاهم عنه لاجل هذه النية فإن الله تعالى هو الشافي. قال ابن قتيبة الكي جنسان كي الصحيح لئلا يعتل فهذا الذي قيل فيه لم يتوكل من اكتوى لانه يريد أن يدفع القدر عن نفسه والثاني كي الجرح إذا لم ينقطع دمه بإحراق ولا غيره والعضو إذا قطع ففي هذا الشفاء بتقدير الله، وأما إذا كان الكي للتداوي الذي يجوز أن ينجح ويجوز أن لا ينجح فإنه إلى الكراهة أقرب. وقد
[ 98 ]
تضمنت (أحاديث الكي) أربعة أنواع كما تقدم. قوله: فما أفلحن ولا أنجحن هكذا الرواية الصحيحة بنون الاناث فيهما، يعني تلك الكيات التي اكتويناهن وخالفنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فعلهن، وكيف يفلح أو ينجح شئ خولف فيه صاحب الشريعة؟ وعلى هذا فالتقدير فاكتوينا كيات لاوجاع فما أفلحن ولا أنجحن، وهو أولى من أن يكون المحذوف الفاعل على تقدير فما أفلحن الكيات ولا أنجحن، لان حذف المفعول الذي هو فضله أقوى من حذف الفاعل الذي هو عمدة. ورواية الترمذي كما ذكره المصنف رحمه الله فيكون الفلاح والنجاح مسندا فيها إلى المتكلم ومن معه. وفي رواية لابن ماجة: فما أفلحت ولا أنجحت بسكون تاء التأنيث بعد الحاء المفتوحة. باب ما جاء في الحجامة وأوقاتها عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن كان في شئ من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة نار توافق الداء وما أحب أن أكتوي متفق عليه. [ رح 3768 ] وعن قتادة عن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحتجم في الاخدعين والكاهل، وكان يحتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من احتجم لسبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين كان شفاء من كل داء رواه أبو داود. وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن خير ما تحتجمون فيه يوم سبع عشرة وتسع عشرة وإحدى وعشرين رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وعن أبي بكرة أنه كان ينهى أهله عن الحجامة يوم الثلاثاء ويزعم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يوم الثلاثاء يوم الدم وفيه ساعة لا يرقأ رواه أبو داود. [ رح 3772 ] وروي عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الحجامة يوم الثلاثاء لسبع عشرة من الشهر دواء لداء السنة رواه حرب بن إسماعيل الكرماني صاحب أحمد وليس إسناده بذاك.
[ 99 ]
[ رح 3773 ] وروى الزهري: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من احتجم يوم السبت أو يوم الاربعاء فأصابه وضح فلا يلوم إلا نفسه ذكره أحمد واحتج به قال أبو داود: وقد أسند ولا يصح. وكره إسحاق بن راهويه الحجامة يوم الجمعة والاربعاء والثلاثاء إلا إذا كان يوم الثلاثاء سبع عشرة من الشهر أو تسع عشرة أو إحدى وعشرين. حديث أنس أخرجه أيضا ابن ماجة من وجه آخر وسنده ضعيف. والطريق التي رواها الترمذي منها هي ما في سننه قال: حدثنا عبد القدوس بن محمد حدثنا عمرو بن عاصم حدثنا همام وجرير بن حازم قالا: حدثنا قتادة عن أنس فذكره. وقال النووي عند الكلام على هذا الحديث: رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم وصححه الحاكم أيضا، ولكن ليس في حديث أبي داود المذكور الزيادة وهي قوله: وكان يحتجم لسبع عشرة الخ. وحديث أبي هريرة سكت عنه أبو داود والمنذري، وهو من رواية سعيد ابن عبد الرحمن بن عوف الجمحي عن سهيل بن أبي صالح وسعيد وثقه الاكثر. ولينه بعضهم من قبل حفظه وله شاهد مذكور في الباب بعده. وحديث ابن عباس أخرجه أيضا أحمد قال الحافظ: ورجاله ثقات لكنه معلول انتهى. وإسناده في سنن الترمذي هكذا: حدثنا عبد بن حميد أخبره النضر بن شميل حدثنا عباد بن منصور قال: سمعت عكرمة فذكره. وحديث أبي بكرة في إسناده أبو بكرة بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة قال يحيى ابن معين ضعيف ليس حديثه بشئ، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به وهو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم. وحديث معقل بن يسار أشار إليه الترمذي وقد ضعف المصنف إسناده ولكن شهد له ما قبله، وقد أخرجه أيضا رزين. (وفي الباب) عن ابن عمر عند ابن ماجة رفعه في أثناء حديث وفيه: فاحتجموا على بركة الله يوم الخميس واحتجموا يوم الاثنين والثلاثاء، واجتنبوا الحجامة يوم الاربعاء والجمعة والسبت والاحد أخرجه من طريقين ضعيفتين، وله طريق ثالثة ضعيفة أيضا عند الدارقطني في الافراد، وأخرجه بسند جيدعن ابن عمر موقوفا. ونقل الخلال عن أحمد أنه كره الحجامة في الايام المذكورة وإكان الحديث لم يثبت. وحكي أن رجلا احتجم يوم الاربعاء فأصابه برص لكونه تهاون بالحديث، قال في الفتح: ولكون هذه الاحاديث لم يصح منها شئ، قال حنبل بن إسحاق: كان أحمد
[ 100 ]
يحتجم أي وقت هاج به الدم وأي ساعة كانت. (ومن أحاديث الباب) في الحجامة حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن كان في شئ مما تداويتم به خير فالحجامة أخرجه أبو داود وابن ماجه. وعن سلمى خادمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت: ما كان أحد يشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعا في رأسه إلا قال: احتجم، ولا وجعا في رجليه إلا قال: اخضبهما أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: حديث غريب إنما يعرف من حديث قائد. وقائد هذا هو مولى عبيدالله بن علي بن أبي رافع وثقه يحيى بن معين. وقال أحمد وأبو حاتم الرازي: لا بأس به، وفي إسناده أيضا عبيد الله بن علي بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ابن معين: لا بأس به. وقال أبو حاتم الرازي: لا يحتج بحديثه. وقد أخرجه الترمذي من حديث علي بن عبيدالله عن جدته وقال: وعبيدالله بن علي أصح، وقال غيره: علي بن عبيدالله بن أبي رافع لا يعرف بحال، ولم يذكره أحد من الائمة في كتاب، وذكر بعده حديث عبيدالله بن علي بن أبي رافع هذا الذي ذكرناه وقال: فانظر في اختلاف إسناده وتغير لفظه هل يجوز لمن يدعي السنة أو ينسب إلى العلم أن يحتج بهذا الحديث على هذا الحال ويتخذه سنة وحجة في خضاب اليد والرجل؟ وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم احتجم على وركيه من وث ء كان به أخرجه أبو داود والنسائي. والوث ء بالمثلثة الوجع. قوله: أو لذعة بنار بذال معجمة ساكنة وعين مهملة. اللذع هو الخفيف من حرق النار. وأما اللدغ بالدال المهملة والغين المعجمة فهو ضرب أو عض ذات السم. وقد تقدم الكلام على حديث جابر هذا قريبا. قوله: في الاخدعين قال أهل اللغة: الاخدعان عرقان في جانبي العنق يحجم منه، والكاهل ما بين الكتفين وهو مقدم الظهر. قال ابن القيم في الهدى: الحجامة على الاخدعين تنفع من أمراض الرأس وأجزائه كالوجه والاسنان والاذنين والعينين والانف إذا كان حدوث ذلك من كثرة الدم أو فساده أو منهما جميعا، قال: والحجامة لاهل الحجاز والبلاد الحارة لان دماءهم رقيقة وهي أميل إلى ظاهر أبدانهم لجذب الحرارة الخارجة إلى سطح الجسد واجتماعها في نواحي الجلد، ولان مسام أبدانهم واسعة ففي الفصد لهم خطر. قوله: كان شفاء من كل داء
[ 101 ]
هذا من العام المراد به الخصوص، والمراد كان شفاء من كل داء سببه غلبة الدم، وهذا الحديث موافق لما أجمعت عليه الاطباء أن الحجامة في النصف الثاني من الشهر أنفع مما قبله، وفي الربع الرابع أنفع مما قبله. قال صاحب القانون: أوقاتها في النهار الساعة الثانية أو الثالثة، وتكره عندهم الحجامة على الشبع فربما أورثت سددا وأمراضا رديئة لا سيما إذا كان الغذاء رديئا غليظا، والحجامة على الريق دواء وعلى الشبع داء، واختيار هذه الاوقات للحجامة فيما إذا كانت على سبيل الاحتراز من الاذى وحفظا للصحة، وأما في مداواة الامراض فحيثما وجد الاحتياج إليها وجب استعمالها. قوله: أن يوم الثلاثاء يوم الدم أي يوم يكثر فيه الدم في الجسم. قوله: وفيه ساعة لا يرقأ بهمز آخره أي لا ينقطع فيها دم من احتجم أو افتصد أو لا يسكن وربما يهلك الانسان فيها بسبب عدم انقطاع الدم، وأخفيت هذه الساعة لتترك الجحامة في هذا اليوم خوفا من مصادفة تلك الساعة كما أخفيت ليلة القدر في أوتار العشر الاواخر ليجتهد المتعبد في جميع أوتاره ليصادف ليلة القدر، وكما أخفيت ساعة الاجابة في يوم الجمعة. وفي رواية رواها رزين: لا تفتحوا الدم في سلطانه ولا تستعملوا الحديد في يوم سلطانه وزاد أيضا: إذا صادف يوم سبع عشرة يوم الثلاثاء كان دواء السنة لمن احتجم فيه وفي الحجامة منافع. قال في الفتح: والحجامة على الكاهل تنفع من وجع المنكب والحلق وتنوب عن فصد الباسليق، والحجامة على الاخدعين تنفع من أمراض الرأس والوجه كالاذنين والعينين والاسنان والانف والحلق وتنوب عن فصد القيفال، والحجامة تحت الذقن تنفع من وجع الاسنان والوجه والحلقوم وتنقي الرأس، والحجامة على القدم تنوب عن فصد الصافن وهو عرق تحت الكعب وتنفع من قروح الفخذين والساقين وانقطاع الطمث والحكة العارضة في الانثيين، والحجامة على أسفل الصدر نافعة من دماميل الفخذ وجربه وبثوره ومن النقرس والبواسير وداء الفيل وحكة الظهر ومحل ذلك كله إذا كان عن دم هائج وصادف وقت الاحتياج إليه، والحجامة على المعدة تنفع الامعاء وفساد الحيض انتهى. قال أهل العلم: بالفصد فصد الباسليق ينفع حرارة الكبد والطحال والرئة ومن الشوصة وذات الجنب وسائر الامراض الدموية العارضة من أسفل الركبة
[ 102 ]
إلى الورك. وفصد الاكحل ينفع الامتلاء العارض في جميع البدن إذا كان دمويا ولا سيما إن كان قد فسد. وفصد القيفال ينفع من علل الرأس والرقبة إذا كثر الدم أو فسد. وفصد الودجين لوجع الطحال والربو. قال أهل المعرفة: إن المخاطب بأحاديث الحجامة غير الشيوخ لقلة الحرارة في أبدانهم. وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن ابن سيرين قال: إذا بلغ الرجل أربعين سنة لم يحتجم قال الطبري: وذلك لانه يصير من حينئذ في انتقاص من عمره وانحلال من قوة جسده، فلا ينبغي أن يزيده وهنا بإخراج الدم انتهى. وهو محمول على من لم تتعين حاجته إليه وعلى من لم يعتده، وقد قال ابن سينا في أرجوزته: [ شع ] ومن يكن تعود الفصادفلا يكن يقطع تلك العادة [ / شع ] ثم أشار إلى أنه يقلل ذلك بالتدريج إلى أن ينقطع جملة في عشر الثمانين. وقال ابن سينا في أبيات أخرى: [ شع ] ووفر على الجسم الدماء فإنها لصحة جسم من أجل الدعائم [ / شع ] قال الموفق البغدادي بعد أن ذكر أن الحجامة في نصف الشهر الآخر ثم في ربعه الرابع أنفع من أوله وآخره، وذلك أن الاخلاط في أول الشهر وفي آخره تسكن فأولى ما يكون الاستفراغ في أثنائه. (والحاصل) أن أحاديث التوقيت وإن لم يكن شئ منها على شرط الصحيح إلا أن المحكوم عليه بعدم الصحة إنما هو في ظاهر الامر لا في الواقع، فيمكن أن يكون الصحيح ضعيفا والضعيف صحيحا، لان الكذوب قد يصدق والصدوق قد يكذب، فاجتناب ما أرشد الحديث الضعيف إلى اجتنابه واتباع ما أرشد إلى اتباعه من مثل هذه الامور ينبغي لكل عارف، وإنما الممنوع إثبات الاحكام التكليفية أو الوضعية أو نفيها بما هو كذلك. باب ما جاء في الرقى والتمائم وعن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. والتولة ضرب من السحر، قال
[ 103 ]
الاصمعي، هو تحبيب المرأة إلى زوجها. وعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له رواه أحمد. [ رح 3776 ] وعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما أبالي ما ركبت أو ما أتيت إذا أنا شربت ترياقا أو تعلقت تميمة أو قلت الشعر مقبل نفسي رواه أحمد وأبو داود وقال: هذا كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وقد رخص فيه قوم يعني الترياق. وعن أنسقال: رخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الرقية من العين والحمة والنملة رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة. والنملة قروح تخرج في الجنب. وعن الشفا بنت عبد الله قالت: دخل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا عند حفصة فقال لي: ألا تعلمين هذه رقية النملة كما علمتيها الكتابة رواه أحمد وأبو داود. وهو دليل على جواز تعلم النساء الكتابة. وعن عوف بن مالك قال: كنا نرقي في الجاهلية فقلنا يا رسول اللكيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك رواه مسلم وأبو داود. [ رح 3780 ] وعن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الرقى فجاء آل عمرو بن حزم فقالوا: يا رسول الله إنها كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب وإنك نهيت عن الرقى قال: فعرضوها عليه فقال: ما أرى بأسا فمن استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل رواه مسلم. [ رح 3781 ] وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات فلما مرض مرضه الذي مات فيه جعلت أنفث عليه وأمسحه بيد نفسلانها أعظم بركة من يدي متفق عليه. حديث ابن مسعود أخرجه أيضا الحاكم وصححه، وصححه أيضا ابن حبان وهو من رواية ابن أخي زينب امرأة ابن مسعود عنها عن ابن مسعود. قال المنذري: والراوي عن زينب مجهول. وحديث عقبة بن عامر قال في مجمع الزوائد: أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجالهم ثقات انتهى. وحديث عبد الله بن عمرو في إسناده عبد الرحمن بن رافع التنوخي قاضي إفريقيا قال البخاري في حديثه مناكير. وحكى ابن أبي حاتم عن أبيه نحو هذا. وحديث الشفا سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح إلا إبراهيم بن مهدي البغدادي المصيصي
[ 104 ]
وهو ثقة. وقد أخرجه النسائي عن إبراهيم بن يعقوب عن علي بن المدني عن محمد بن بشر ثم بإسناد أبي داود. قوله: إن الرقى بضم الراء وتخفيف القاف مع القصر جمع رقية كدمي جمع دمية. قوله: والتمائم جمع تميمة وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يمنعون بها العين في زعمهم فأبطله الاسلام. قوله: والتولة بكسر التاء المثناة فوق وبفتح الواو المخففة. قال الخليل: التولة بكسر التاء وضمها شبيه بالسحر. وقد جاء تفسير التولة عن ابن مسعود كما أخرجه الحاكم وابن حبان وصححاه أنه دخل على امرأته وفي عنقها شئ معقود فجذبه فقطعه ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك، قالوا: يا أبا عبد الله هذه التمائم والرقى قد عرفناها فما التولة؟ قال: شئ يصنعه النساء يتحببن إلى أزواجهن يعني من السحر. قيل هي خيط يقرأ فيه من السحر، أو قرطاس يكتب فيه شئ منه يتحبب به النساء إلى قلوب الرجال أو الرجال إلى قلوب النساء، فأما ما تحبب به المرأة إلى زوجها من كلام مباح كما يسمى الغنج وكما تلبسه للزينة أو تطعمه من عقار مباح أكله أو أجزاء حيوان مأكول مما يعتقد أنه سبب إلى محبة زوجها لما أودع الله تعالى فيه من الخصيصة بتقدير الله لا أنه يفعل ذلك بذاته. قال ابن رسلان: فالظاهر أن هذا جائز لا أعرف الآن ما يمنعه في الشرع. قوله: شرك جعل هذه الثلاثة من الشرك لاعتقادهم أن ذلك يؤثر بنفسه. قوله: فلا أتم الله له فيه الدعاء على من اعتقد في التمائم وعلقها على نفسه بضد قصده وهو عدم التمام لما قصده من التعليق. وكذلك قوله: فلا ودع الله له فإنه دعاء على من فعل ذلك، وودع ماضي يدع مثل وذر ماضي يذر. قوله: أو ما أتيت بفتح الهمزة والتاء الاولى أي لا أكترث بشئ من أمر ديني ولا أهتم بما فعلته إن أنا فعلت هذه الثلاثة أو شيئا منها، وهذه مبالغة عظيمة وتهديد شديد في فعل شئ من هذه الثلاثة أي من فعل شيئا منها فهو غير مكترث بما يفعله ولا يبالي به هل هو حرام أو حلال؟ وهذا وإن أضافه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى نفسه فالمراد به إعلام غيره بالحكم. وقد سئل عن تعليق التمائم فقال ذلك شرك. قوله: ترياقا بالتاء أو الدال أو الطاء في أوله مكسورات أو مضمومات، فهذه ست لغات أرجحهن بمثناة مكسورة رومي ومعرب. والمراد به هنا ما كان مختلطا
[ 105 ]
بلحوم الافاعي يطرح منها رأسها وأذنابها ويستعمل أوساطها في الترياق وهو محرم لانه نجس، وإن اتخذ الترياق من أشياء طاهرة فهو طاهر لا بأس بأكله وشربه، ورخص مالك فيما فيه شمن لحوم الافاعي لانه يرى إباحة لحوم الحيات، وأما إذا كان الترياق نباتا أو حجرا فلا مانع منه. قوله: أو قلت الشعر من قبل نفسي أي من جهة نفسي فخرج به مقاله لا عن نفسه بل حاكيا له عن غيره كما في الصحيح: خير كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد ويخرج منه أيضا ما قاله لا على قصد الشعر فجاء موزونا. قوله: كان للنبي خاصة يعني وأما في حق الامة فالتمائم وإنشاء الشعر غير حرام. قوله: في الرقية من العين أي من إصابة العين. قوله: والحمة بضم الحاء المهملة وفتح الميم المخففة وأصلها حمو أو حمى بوزن صرد، والهاء فيه عوض من الواو المحذوفة أو الياء مثل سمة من الوسم، وهذا على تخفيف الميم، أما من شدد فالاصل عنده حممة ثم أدغم كما في الحديث: العالم مثل الحمة وهي عين ماء حار ببلاد الشام يستشفي بها المرضى، وأنكر الازهري تشديد الميم والمراد بالحمة السم من ذوات السموم، وقد تسمى إبرة العقرب والزنبور ونحوهما حمة لان السم يخرج منها فهو من المجاز والعلاقة المجاورة. قوله: ألا تعلمين بضم أوله وتشديد اللام المكسورة هذه يعني حفصة رقية النملة بفتح النون وكسر الميم وهي قروح تخرج من الجنب أو الجنبين، ورقية النملة كلام كانت نساء العرب تستعمله يعلم كل من سمعه أنه كلام لا يضر ولا ينفع. ورقية النملة التي كانت تعرف بينهن أن يقال للعروس: تحتفل وتختضب وتكتحل وكل شئ يفتعل غير أن لا تعصي الرجل، فأراد صلى الله عليه وآله وسلم بهذا المقال تأنيب حفصة والتأديب لها تعريضا لانه ألقى إليها سرا فأفشته على ما شهد به التنزيل في قوله تعالى: * (وإذ أسر النبي إلى بعض) * (البقرة: 195) الآية. قوله: كما علمتها الكتابة فيه دليل على جواز تعليم النساء الكتابة. وأما حديث: لا تعلموهن الكتابة ولا تسكنوهن الغرف وعلموهن سورة النور فالنهي عن تعليم الكتابة في هذا الحديث محمول على من يخشى من تعليمها الفساد. قوله: لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شئ من الشرك المحرم وفيه دليل على جواز الرقى والتطيب بما لا ضرر فيه ولا منع من جهة الشرع وإن كان بغير أسماء الله وكلامه، لكن إذا كان مفهوما لان ما لا يفهم لا يؤمن أن يكون فيه شئ من الشرك. قوله: من استطاع أن ينفع أخاه
[ 106 ]
فليفعل قد تمسك قوم بهذا العموم فأجازوا كل رقية جربت منفعتها ولو لم يعقل معناها، لكن دل حديث عوف أنه يمنع ما كان من الرقى يؤدي إلى الشرك، وما لا يعقل معناه لا يؤمن أن يؤدي إلى الشرك فيمنع احتياطا، وقال قوم: لا تجوز الرقية إلا من العين والحمة كما في حديث عمران بن حصين: لا رقية إلامن عين أو حمة وأجيب بأن معنى الحصر فيه أنهما أصل كل محتاج إلى الرقية، فيلحبالعين جواز رقية من به مس أو نحوه، لاشتراك ذلك في كون كل واحد ينشأ عن أحوال شيطانية من أنسي أو جني، ويلتحق بالسم كل ما عرض للبدن من قرح ونحوه من المواد السمية، وقد وقع عند أبي داود في حديث أنس مثل حديث عمران وزاد أو دم. وكذلك حديث أنس المذكور في الباب زاد فيه النملة. وقال قوم: المنهي عنه من الرقى ما يكون قبل وقوع البلاء، والمأذون فيه ما كان بعد وقوعه، ذكره ابن عبد البر والبيهقي وغيرهما وفيه نظر، وكأنه مأخوذ من الخبر الذي قرنت فيه التمائم بالرقى كما في حديث ابن مسعود المذكور في الباب. قوله: نفث النفث نفخ لطيف بلا ريق وفيه استحباب النفث في الرقية. قال النووي: وقد أجمعوا على جوازه واستحبه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. قال القاضي: وأنكر جماعة النفث في الرقى وأجازوا فيها النفخ بلا ريق قال: وهذا هو المذهب، قال: وقد اختلف في النفث والتفل فقيل هما بمعنى ولا يكون إلا بريق. وقال أبو عبيد: يشترط في التفل ريق يسير ولا يكون في النفث وقيل عكسه. قال: وسئلت عائشة عن نفث النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الرقية فقالت: كما ينفث آكل الزبيب لاريق معه ولا اعتبار بما يخرج عليه من بلة ولا يقصد ذلك. وقد جاء في حديث الذي رقى بفاتحة الكتاب فجعل يجمع بزاقه ويتفل. قوله: بالمعوذات قال ابن التين: الرقى بالمعوذات وغيرها من أسماء الله تعالى هو الطب الروحاني إذا كان على لسان الابرار من الخلق حصل الشفاء بإذن الله، فلما عز هذا النوع فزع الناس إلى الطب الجسماني، وتلك الرقى المنهي عنها التي يستعملها المعزم وغيره ممن يدعي تسخير الجن له، تأتي بأمور مشبهة مركبة من حق وباطل يجمع إلى ذلك الله وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة بمردتهم، ويقال: إن الحية لعداوتها للانسان بالطبع تصادق الشياطين لكونهم أعداء بني آدم، فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين أجابت وخرجت، فلذلك كره من الرقى ما لم يكن بذكر الله وأسمائه خاصة، وباللسان
[ 107 ]
العربي الذي يعرف معناه ليكون بريئا من شوب الشرك، وعلى كراهة الرقى بغير كتاب الله علماء الامة. وقال القرطبي: الرقى ثلاثة أقسام: أحدها ماكان يرقى به في الجاهلية ما لا يعقل معناه فيجب اجتنابه لئلا يكون فيه شرك أو يؤدي إلى الشرك. الثاني: ما كان بكلام الله أو بأسمائه فيجوز فإن كان مأثورا فيستحب. الثالث: ما كان بأسماء غير الله من ملك أو صالح أو معظم من المخلوقات كالعرش. قال: فهذا ليس من الواجب اجتنابه ولا من المشروع الذي يتضمن الالتجاء إلى الله والتبرك بأسمائه فيكون تركه أولى، إلا أن يتضمن تعظيم المرقى به فينبغي أن يجتنب كالحلف بغير الله، قال الربيع: سألت الشافعي عن الرقية فقال: لا بأس أن ترقى بكتاب الله وبما تعرف من ذكر الله، قلت: أيرقى أهل الكتاب المسلمين؟ قال نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الله. قوله: وأمسحه بيد نفسه في رواية وأمسح بيده نفسه. باب الرقية من العين والاستغسال منها عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأمرني أن أسترقي من العين متفق عليه. [ رح 3783 ] وعن أسماء بنت عميس أنها قالت: يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفنسترقي لهم؟ قال: نعم فلو كان شئ سبق القدر لسبقته العين رواه أحمد والترمذي وصححه. [ رح 3784 ] وعنابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: العين حق ولو كان شئ سابق القدر لسبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه. وعن عائشة قالت: كان يؤمر العائن فيتوضأ ثم يغسل منه المعين رواه أبو داود. [ رح 3786 ] وعن سهل بن حنيف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج وسار معه نحو مكة حتى إذا كانوا بشعب الخرار من الجحفة اغتسل سهل بن حنيف وكان رجلا أبيض حسن الجسم والجلد فنظر إليه عامر بن ربيعة أحد بني عدي بن كعب وهو يغتسل فقال: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة فلبط سهل فأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقيل: يارسول الله هل لك في سهل والله ما يرفع رأسه، قال: هل تتهمون فيه من أحد؟ قالوا: نظر إليه عامر بن ربيعة فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عامرا فتغيظ عليه وقال: على ما يقتل أحدكم
[ 108 ]
أخاه؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت، ثم قال له: اغتسل له فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزافي قدح ثم صب ذلك الماء عليه يصبه رجل على رأسه وظهره من خلفه ثم يكفأ القدح وراءه ففعل به ذلك فراح سهل مع الناس ليس به بأس رواه أحمد. حديث أسمابنت عميس أخرجه أيضا النسائي، ويشهد له حديث جابر المتقدم في الباب الاول. وحديث عائشة سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات لانه عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن الاعمش عن إبراهيم عن الاسود عنها. وحديث سهل أخرجه أيضا في الموطأ والنسائي وصححه ابن حبان من طريق الزهري عن أبي أمامة بن سهل عن أبيه، ووقع في رواية ابن ماجة من طريق ابن عيينة عن الزهري عن أبي أمامة أن عامر بن ربيعة مر بسهل بن حنيف وهو يغتسل فذكر الحديث. قوله: يأمرني أن أسترقي من العين أي من الاصابة بالعين، قال المازري: أخذ الجمهور بظاهر الحديث وأنكره طوائف من المبتدعة لغير معنى، لان كل شئ ليس محالا في نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا فساد دليل فهو من مجوزات العقول، فإذا أخبر الشرع بوقوعه لم يكن لانكاره معنى، وهل من فرق بين إنكارهم هذا وإنكارهم ما يخبر به في الآخرة من الامور. قوله: فلو كان شئ سبق القدر لسبقته العين فيه رد على من زعم من المتصوفة أن قوله العين حق يريد به القدر أي العين التي تجري منها الاحكام فإن عين الشئ حقيقته، والمعنى أن الذي يصيب من الضرر بالعادة عند نظر الناظر، إنما هو بقدر الله السابق لا شئ يحدثه الناظر في المنظور، ووجه الرد أن الحديث ظاهر في المغايرة بين القدر وبين العين، وإن كنا نعتقد أن العين من جملة المقدور، لكن ظاهره إثبات العين التي تصيب إما بما جعل الله تعالى فيها من ذلك وأودعه إياها، وإما بإجراء العادة بحدوث الضرر عند تحديد النظر، وإنما جرى الحديث مجرى المبالغة في إثبات العين لا أنه يمكن أن يرد القدر إذ القدر عبارة عن سابق علم الله وهو لا راد لامره، أشار إلى ذلك القرطبي وحاصله: لو فرض أن شيئا له قوة بحيث يسبق القدر لكان العين لكنها لا تسبق فكيف غيرها. وقد أخرج البزار من حديث جابر بسند حسن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالانفس قال الراوي يعني بالعين. قوله: العين حق أي شئ ثابت موجود
[ 109 ]
من جملة ما تحقق كونه. قوله: وإذا استغسلتم فاغسلوا أي إذا طلبتم للاغتسال فاغسلوا أطرافكم عند طلب المعيون ذلك من العائن، وهذا كان أمرا معلوما عندهم، فأمرهم أن لا يمتنعوا منه إذا أريد منهم وأدنى ما في ذلك رفع الوهم وظاهر الامر الوجوب. وحكى المازري فيه خلافا وصحح الوجوب وقال: متى خشي الهلاك وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء فيه فإنه يتعين، وقد تقرر أن يجبر على بذل الطعام للمضطر وهذا أولى، ولم يبين في حديث ابن عباس صفة الاغتسال. قوله: بشعب الخرار بمعجمة ثم مهملتين قال في القاموس: هو موضع قرب الجحفة. قوله: فلبط بضم اللام وكسر الموحدة لبط الرجل فهو ملبوأي صرع وسقط إلى الارض. قوله: وداخلة إزاره يحتمل أن يريد بذلك الفرج، ويحتمل أن يريد طرف الازار الذي يلي جسده من الجانب الايمن، وقد اختلف في ذلك على قولين ذكرهما في الهدى وقد بين في هذا الحديث صفة الغسل. قوله: ثم يكفأ القدح وراءه زاد في رواية على الارض. قال المازري: هذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل فلا يرد لكونه لا يعقل معناه. وقال ابن العربي: إن توقف فيه متشرع قلنا له الله ورسوله أعلم وقد عضدته التجربة وصدقته المعاينة. قال ابن القيم: هذه الكيفية لا ينتفع بها من أنكرها ولا من سخر منها ولا من شك فيها أو فعلها مجربا غير معتقد، وإذا كان في الطبيعة خواص لا يعرف الاطباء عللها بل هي عندهم خارجة عن القياس وإنما يفعل بالخاصة، فما الذي ينكر جهلتهم من الخواص الشرعية، هذا مع أن في المعالجة بالاغتسال مناسبة لا تأباها العقول الصحيحة فهذا ترياق، سم الحية يؤخذ من لحمها وهذا علاج النفس الغضبية توضع اليد على بدن الغضبان فيسكن، فكأن أثر تلك العين شعلة نار وقعت على جسد المعيون، ففي الاغتسال إطفاء لتلك العلة، ثم لما كانت هذه الكيفية الخبيثة تظهر في المواضع الرقيقة من الجسد لشدة النفوذ فيها ولا شئ أرق من العين فكان في غسلها إبطال لعملها ولا سيما للارواح الشيطانية في تلك المواضع. وفيه أيضا وصول أثر الغسل إلى القلب من أرق المواضع وأسرعها نفاذا، فتنطفئ تلك النار التي أثارتها العين بهذا الغسل المأمور به ينفع بعد استحكام النظرة، فأما عند الاصابة وقبل الاستحكام فقد أرشد الشارع إلى ما يدفعه بقوله في قصة سهل بن حنيف المذكورة: إلا بركت
[ 110 ]
عليه وفي رواية ابن ماجة: فليدع بالبركة. ومثله عند ابن السني من حديث عامر بن ربيعة. وأخرج البزار وابن السني من حديث أنس رفعه: من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره وقد اختلف في القصاص بذلك فقال القرطبي: لو أتلف العائن شيئا ضمنه، ولو قتل فعليه القصاص أو الدية إذا تكرر ذلك منه بحيث يصير عادة وهو في ذلك كالساحر. قال الحافظ: ولم تتعرض الشافعية للقصاص في ذلك بل منعوه وقالوا إنه لا يقتل غالبا ولا يعد مهلكا. وقال النووي في الروضة: ولا دية فيه ولا كفارة لان الحكم إنما يترتب على منضبط عام دون ما يختص ببعض الناس في بعض الاحوال مما لا انضباط له كيف ولم يقع منه فعل أصلا، وإنما غايته حسد وتمن لزوال نعمة، وأيضا فالذي ينشأ عن الاصابة حصول مكروه لذلك الشخص، ولا يتعين المكروه في زوال الحياة فقد يحصل له مكروه بغير ذلك من أثر العين. ونقل ابن بطال عن بعض أهل العلم أنه ينبغي للامام منع العائن إذا عرف بذلك من مداخلة الناس وأن يلزم بيته، فإن كان فقيرا رزقه ما يقوم به، فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي أمر عمر بمنعه من مخالطة الناس، وأشد من ضرر الثوم الذي منع الشارع آكله من حضور الجماعة. قال النووي: هذا القول صحيح متعين لا يعرف عن غيره تصريح بخلافه. [ رم ] أبواب الايمان وكفارتها باب الرجوع في الايمان وغيرها من الكلام إلى النية عن سويد بن حنظلة قال: خرجنا نريد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعنا وائل بن حجر فأخذه عدو له فتحرج القوم أن يحلفوا وحلفت أنه أخي فخلي عنه فأتينا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت ذلك له فقال: أنت كنت أبرهم وأصدقهم صدقت المسلم أخو المسلم رواه أحمد وابن ماجة. وفي حديث الاسراء المتفق عليه: مرحبا بالاخ الصالح والنبي الصالح. وعن
[ 111 ]
أنس قال: أقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف ونبي الله شاب لا يعرف قال: فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق وإنما يعني سبيل الخير رواه أحمد والبخاري. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يمينك على ما يصدقك به صاحبك رواه أحمد ومسلم وابن ماجة والترمذي. وفي لفظ: اليمين على نية المستحلف رواه مسلم وابن ماجة وهو محمول على المستحلف المظلوم. حديث سويد بن حنظلة أخرجه أيضا أبو داود وسكت عنه ورجاله ثقات وله طرق، وهو من رواية إبراهيم بن عبد الاعلى عن جدته عن سويد بن حنظلة، وعزاه المنذري إلى مسلم فينظر في صحة ذلك. قال المنذري أيضا: وسويد بن حنظلة لم ينسب ولا يعرف له غير هذا الحديث انتهى. وآخره الذي هو محل الحجة وهو قوله: المسلم أخو المسلم هو متفق عليه بلفظ: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه وكذلك حديث: انصر أخاك ظالما أو مظلوما فإنه متفق عليه، وليس المراد بهذه الاخوة إلا أخوة الاسلام، فإن كل اتفاق بين شيئين يطلق بينهما اسم الاخوة ويشترك في ذلك الحر والعبد ويبر الحالف إذا حلف أن هذا المسلم أخوه، ولا سيما إذا كان في ذلك قربة كما في حديث الباب. ولهذا استحسن ذلك صلى الله عليه وآله وسلم من الحالف وقال: أنت كنت أبرهم وأصدقهم، ولهذا قيل: إن في المعاريض لمندوحة. وقد أخرج ذلك البخاري في الادب المفرد من طريق قتادة عن مطرف بن عبد الله عن عمران بن حصين. وأخرجه الطبري في التهذيب والطبراني في الكبير قال الحافظ: ورجاله ثقات. وأخرجه ابن عدي من وجه آخر عن قتادة مرفوعا ووهاه أبو بكر بن كامل في فوائده. وأخرجه البيهقي في الشعب من طريقه كذلك. وأخرجه ابن عدي أيضا من حديث علي. قال الحافظ: وسنده واه أيضا. وأخرج البخاري في الادب من طريق أبي عثمان النهدي عن عمر قال: أما في المعاريض ما يكفي المسلم من الكذب قال الجوهري: المعاريض هي خلاف التصريح وهي التورية بالشئ عن الشئ. وقال الراغب: التعريض له وجهان في صدق وكذب أو باطن وظاهر. والمندوحة السعة، وقد جعل البخاري في صحيحه هذه المقالة ترجمة باب فقال: باب المعاريض مندوحة.
[ 112 ]
قال ابن بطال: ذهب مالك والجمهور إلى أن من أكره على يمين إن لم يحلفها قتل أخوه المسلم أنه لا حنث عليه. وقال الكوفيون يحنث. قوله: مرحبا بالاخ الصالح فيه دليل على صحة إطلاق الاخوة على بعض الانبياء من بعض منهم والجهة الجامعة هي النبوة. قوله: ونبي الله شاب فيه جواز إطلاق اسم الشاب على من كان في نحو الخمسين السنة، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند مهاجره قد كان مناهزا للخمسين إن لم يكن قد جاوزها، وفي إثبات الشيخوخة لابي بكر والشباب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إشكال، لان أبا بكر أصغر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه عاش بعده ومات في السن التي مات فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويمكن أن يقال إن أبا بكر ظهرت عليه هيئة الشيخوخة من الشيب والنحول في ذلك الوقت والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يظهر عليه ذلك، ولهذا وقع الخلاف بين الرواة في وجود الشيب فيه عنموته صلى الله عليه وآله وسلم، وفي هذا التعريض الواقع من أبي بكر غاية اللطافة. قوله: على ما يصدقك به صاحبك فيه دليل على أن الاعتبار بقصد المحلف من غير فرق بين أن يكون المحلف هو الحاكم أو الغريم، وبين أن يكون المحلف ظالما أو مظلوما صادقا أو كاذبا. وقيل هو مقيد بصدق المحلف فيما ادعاه، أما لو كان كاذبا كان الاعتبار بنية الحالف، وقد ذهبت الشافعية إلى أن تخصيص الحديث بكون المحلف هو الحاكم، ولفظ صاحبك في الحديث يرد عليهم، وكذلك ما ثبت في رواية لمسلم بلفظ: اليمين على نية المستحلف قال النووي: أما إذا حلفبغير استحلاف ووري فتنفعه التورية ولا يحنث سواء حلف ابتداء من غير تحليف أو حلفه غير القاضي أو غير نائبه في ذلك، ولا اعتبار بنية المستحلف بكسر اللام غير القاضي. وحاصله أن اليمين على نية الحالف في كل الاحوال إلا إذا استحلفه القاضي أو نائبه في دعوى توجهت عليه. قال: والتورية وإن كان لا يحنث بها فلا يجوفعلها حيث يبطل بها حق المستحلف وهذا مجمع عليه انتهى. وقد حكى القاضي عياض الاجماع على أن الحالف من غير استحلاف ومن غير تعلق حق بيمينه له نيته ويقبل قوله، وأما إذا كان لغيره حق عليه فلا خلاف أنه يحكم عليه بظاهر يمينه، سوا حلف متبرعا أو باستحلاف انتهى ملخصا. وإذا صح الاجماع على خلاف ما يقضي به ظاهر الحديث كان الاعتماد عليه، ويمكن
[ 113 ]
التمسك لذلك بحديث سويد بن حنظلة المذكور في الباب، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكم له بالبر في يمينه، مع أنه لا يكون بارا إلا باعتبار نية نفسه لانه قصد الاخوة المجازية والمستحلف له قصد الاخوة الحقيقية، ولعل هذا هو مستند الاجماع. باب من حلف فقال إن شاء الله [ رح 3790 ] عنأبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وقال: فله ثنياه. والنسائي قال: فقد استثني. وعنابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه رواه الخمسة إلا أبا داود. وعن عكرمة عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: والله لاغزون قريشا ثم قال: إن شاء الله، ثم قال: والله لاغزون قريشا ثم قال: إن شاء الله، ثم قال: والله لاغزون قريشا ثم سكت ثم قال: إن شاء الله ثم لم يغزهم أخرجه أبو داود. حديث أبي هريرة أخرجه أيضا ابن حبان وهو من حديث عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة. قال البخاري فيما حكاه الترمذي: أخطأ فيه عبد الرزاق واختصره عن معمر من حديث أن سليمان بن داود عليه السلام قال: لاطوفن الليلة على سبعين امرأة الحديث. وفيه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لو قال إن شاء الله لم يحنث. وهو في الصحيح: وله طرق أخرى رواها الشافعي وأحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم من حديث ابن عمر كما ذكره المصنف في الباب. قال الترمذي: لا نعلم أحدا رفعه غير أيوب السختياني. وقال ابن علية: كان أيوب تارة يرفعه وتارة لا يرفعه قال: ورواه مالك وعبيد الله بن عمر وغير واحد موقوفا. قال الحافظ: هو في الموطأ كما قال البيهقي. وقال: لا يصح رفعه إلا عن أيوب، مع أنه شك فيه وتابعه على لفظه العمري عبد الله وموسى بن عقبة وكثير بن فرقد وأيوب بن موسى وقد صححه ابن حبان. وحديث ابن عمر رجاله رجال الصحيح وله طرق، كما ذكره صاحب الاطراف، وهو أيضا في سنن أبي داود في الايمان والنذور
[ 114 ]
لاكما قال المصنف. وحديث عكرمة قال أبو داود: إنه قد أسنده غير واحد عن عكرمة عن ابن عباس، وقد رواه البيهقي موصولا ومرسلا. قال ابن أبي حاتم في العلل الاشبه إرساله. وقال ابن حبان في الضعفاء: رواه مسعر وشريك أرسله مرة ووصله أخرى. قوله: لم يحنث فيه دليل على أن التقييد بمشيئة الله مانع من انعقاد اليمين أو يحل انعقادها، وقد ذهب إلى ذلك الجمهور، وادعى عليه ابن العربي الاجماع قال: أجمع المسلمون على أن قوله إن شاء الله يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلا. قال: ولو جاز منفصلا كما روى بعض السلف لم يحنث أحد قط في يمين ولم يحتج إلى كفارة. قال: واختلفوا في الاتصال فقال مالك والاوزاعي والشافعي والجمهور: هو أن يكون قوله إن شاء الله متصلا باليمين من غير سكوت بينهما ولا يضر سكتة النفس. وعن طاوس والحسن وجماعة من التابعين أن له الاستثناء ما لم يقم من مجلسه. وقال قتادة: ما لم يقم أو يتكلم. وقال عطاء: قدر حلبة ناقة. وقال سعيد بن جبير: يصح بعد أربعة أشهر. وعن ابن عباس له الاستثناء أبدا، ولا فرق بين الحلف بالله أو بالطلاق أو العتاق أن التقييد بالمشيئة يمنع الانعقاد وإلى ذلك ذهب الجمهور وبعضهم فصل. واستثنى أحمد العتاق قال الحديث: إذا قال أنت طالق إن شاء الله لم تطلق، وإن قال لعبده أنت حر إن شاء الله فإنه حر وقد تفرد به حميد بن مالك وهو مجهول كما قال البيهقي. وذهبت الهادوية إلى أن التقييد بالمشيئة يعتبر فيه مشيئة الله في تلك الحال باعتبار ما يظهر من الشريعة، فإن كان ذلك الامر الذي حلف على تركه وقيد الحلف بالمشيئة محبوبا لله فعله لم يحنث بالفعل، وإن كان محبوبا لله تركه لم يحنث بالترك، فإذا قال: والله ليتصدقن إن شاء الله حنث بترك الصدقة لان الله يشاء التصدق في الحال، وإن حلف ليقطعن رحمه إن شاء الله لم يحنث بترك القطع، لان الله يشاء ذلك الترك. وقال المؤيد بالله: معنى التقييد بالمشيئة بقاء الحالف في الحياة وقتا يمكنه الفعل، فإذا بقي ذلك القدر حنث الحالف على الفعل بالترك وحنث الحالف على الترك بالفعل. والظاهر من أحاديث الباب أن التقييد إنما يفيد إذا وقع بالقول كما ذهب إليه الجمهور، لا بمجرد النية إلا ما زعمه بعض المالكية عن مالك أن قياس قوله صحة الاستثناء بالنية، وعند الهادوية في ذلك تفصيل معروف، وقد بوب البخاري على ذلك فقال: باب النية في الايمان. قوله: ثم سكت
[ 115 ]
ثم قال إن شاء الله لم يقيد هذا السكوت بالعذر بل ظاهره السكوت اختيارا لا اضطرارا فيدل على جواز ذلك. باب من حلف لا يهدي هدية فتصدق عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتي بطعام سأل عنه أهدية أم صدقة؟ فإن قيل صدقة قال لاصحابه: كلوا ولم يأكل، وإن قيل هدية ضرب بيده وأكل معهم. وعن أنس قال: أهدت بريرة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحما تصدق به عليها فقال هو لها صدقة ولنا هدية متفق عليهما. قد تقدم الكلام على معنى الحديثين في كتاب الزكاة، والمقصود من إيرادهما ههنا أن الحالف بأنه لا يهدى لا يحنث إذا تصدق، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يسأل عن الطعام الذي يقرب إليه هل هو صدقة أو هدية؟ وكذلك قال في لحم بريرة: هو لها صدقة ولنا هدية كما في حديث الباب، فدل ذلك على تغاير مفهومي الهدية والصدقة، فإذا حلف من إحداهما لم يحنث بالاخرى كسائر المفهومات المتغايرة. قال ابن بطال: إنما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يأكل الصدقة لانها أوساخ الناس، ولان أخذ الصدقة منزلة ضعة والانبياء منزهون عن ذلك لانه صلى الله عليه وآله وسلم كان كما وصفه الله: * (ووجدك عائلا فأغنى) * (الضحى: 8) والصدقة لا تحل للاغنياء وهذا بخلاف الهدية فإن العادة جارية بالاثابة عليها وكذلك كان شأنه. وفي حديث أنس دليل على أن الصدقة إذا قبضها من يحل له أخذها ثم تصرف فيها زال عنها حكم الصدقة، وجاز لمن حرمت عليه الصدقة أن يتناول منها إذا أهديت له أو بيعت. باب من حلف لا يأكل إداما بماذا يحنث عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: نعم الادم الخل
[ 116 ]
رواه الجماعة إلا البخاري. ولاحمد ومسلم وابن ماجة والترمذي من حديث عائشة مثله. وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إدامكم الملح رواهما ابن ماجة. وعن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ كسرة من خبر شعير فوضع عليها تمرة وقال هذه إدام هذه رواه أبو داود والبخاري. وعن بريدة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: سيد إدام أهل الدنيا والآخرة اللحم رواه ابن قتيبة في غريبه فقال: حدثنا القومسي حدثنا الاصمعي عن أبي هلال الراسبي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه فذكره. وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تكون الارض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفؤ أحدكم خبزته في السفر نزلا لاهل الجنة، فأتى رجل من اليهود فقال: بارك الرحمن عليك يا أبا القاسم ألا أخبرك بنزل أهل الجنة؟ قال بلى، قال: تكون الارض خبزة واحدة كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنظر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلينا ثم ضحك حتى بدت نواجذه ثم قال: ألا أخبرك بإدامهم؟ قال بلى، قال: إدامهم بالام ونون، قال: ما هذا؟ قال ثور ونون يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفا متفق عليه والنون والحوت. حديث ابن عمر رجال إسناده في سنن ابن ماجه ثقات إلا الحسين بن مهدي شيخ ابن ماجة فقال في التقريب: إنه صدوق. وعزاه السيوطي في الجامع الصغير أيضا إلى الحاكم في المستدرك والبيهقي في الشعب. وأخرج أيضا الطبراني في الكبير عن ابن عمر مرفوعا: ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة وحديث أنس في إسناده عند ابن ماجه رجل مجهول فإنه قال عن رجل أراه موسى عن أنس. وقد أخرجه أيضا الحكيم الترمذي. وحديث بريدة أخرجه بهذا اللفظ أبو نعيم في الطب من حديث علي بإسناد ضعيف. قوله: نعم الادام قال النووي: الادام بكسر الهمزة ما يؤتدم به، يقال: أدم الخبز يأدمه بكسر الدال، وجمع الادام أدم بضم الهمزة كإهاب وأهب، وكتاب وكتب، والادم بإسكان الدال مفرد كالادام، قال الخطابي والقاضي عياض: معنى الحديث مدح الاقتصار في المآكل ومنع النفس
[ 117 ]
عن ملاذ الاطعمة تقديره: ائتدموا بالخل وما في معناه مما تخف مؤونته ولا يعز وجوده ولا تتأنقوا في الشهوات فإنها مفسدة للدين مسقمة للبدن. قال النووي: والصواب الذي ينبغي أن يجزم به أنه مدح للخل نفسه. وأما الاقتصار في المطعم وترك الشهوات فمعلوم من قواعد أخر. وأمقول جابر: فما زلت أحب الخل منذ سمعتها من نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو كقول أنس: ما زلت أحب الدباء، قال: وهذا مما يؤيد ما قلنا في معنى الحديث أنه مدح للخل نفسه، وتأويل الراوي إذا لم يخالف الظاهر يتعين المصيب إليه والعمل به عند جماهير العلماء من الفقهاء والاصوليين وهذا كذلك، بل تأويل الراوي هنا هو ظاهر اللفظ فيتعين اعتماده. قوله: ائتدموا بالزيت فيه الترغيب في الائتدام بالزيت معللا ذلك بكونه من شجرة مباركة. قوله: سيد إدامكم الملح قد تقدم أن الادام اسم لما يؤتدم به أي يؤكل به الخبز مما يطيب، سواء كان مما يصطبغ به كالامراق والمائعات، أو مما لا يصطبغ به كالجامدات من الجبن والبيض والزيتون وغير ذلك، قال ابن رسلان: هذا معنى الادام عند الجمهور من السلف والخلف انتهى. ولعل تسمية الملح بسيد الادام لكونه مما يحتاج إليه في كل طعام ولا يمكن أن يساغ بدونه، فمع كونه لا يزال مخالطا لكل طعام محتاجا إليه لا يغني عنه من أنواع الادام شئ وهو يغني عنها، بل ربما لا يصلح بعض الادم إلا بالملح، فلما كان بهذا المحل أطلق عليه اسم السيد وإن لم يكن سيدا بالنسبة إلى ذاته لكونه خاليا عن الحلاوة والدسومة ونحوهما. قوله: فوضع عليها تمرة فيه أن وضع التمرة على الكسرة جائز ليس بمكروه، وإن كان البزار قد روى حديث: أكرموا الخبز مع ما في الحديث من المقال فمثل هذا لا ينافي الكرامة. قوله: هذه إدام هذه فيه دليل على أن الجوامد تكون إداما كالجبن والزيتون والبيض والتمر وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: ما لا يصطبغ به فليس بإدام لان كل واحد منهما يرفع إلى الفم منفردا. قوله: سيد إدام أهل الدنيا الخ، فيه تصريح بأن اللحم حقيبأن يطلق عليه اسم السيادة المطلقة في الدنيا والآخرة، ولا جرم فهو بمنزلة لا يبلغها شئ من الادم كائنا ما كان، فإطلاق السيادة عليه لذاته لا لمجرد الاحتياج إليه كما تقدم في الملح. قوله: خبزة واحدة بضم الخاء المعجمة وسكون الموحدة بعدها زاي هي في أصل اللغة الظلمة والمراد بها هنا المصنوع من الطعام. قال النووي: معنى الحديث أن الله يجعل الارض
[ 118 ]
كالظلمة والرغيف العظيم، ويكون ذلك طعاما نزلا لاهل الجنة، والله تبارك وتعالى على كل شئ قدير. قوله: بالام ونو الحرف الاول باء موحدة وبعدها لام مخففة بعده ميم مرفوعة غير منونة كذا قال النووي. قال: وفي معناها أقوال مضطربة الصحيح منها الذي اختاره القاضي وغيره من المحققين أنها لفظة عبرانية معناها بالعبرانية ثور ولهذا فسر ذلك به، ووقع السؤال لليهود عن تفسيرها، ولو كانت عربية لعرفتها الصحابة ولم يحتاجوا إلى سؤاله عنها، فهذا هو المختار في بيان هذه اللفظة. قال: وأما النون فهو الحوت باتفاق العلماء. والمراد بقوله يتكفؤها أي يميلها من يد إلى يد حتى تجتمع وتستوي لانها ليست منبسطة كالرقاقة ونحوها. والنزل بضم النون والزاي ويجوز إسكان الزاي وهو ما يعد للضيف عند نزوله. قال الخطابي: لعل اليهودي أراد التعمية عليهم فقطع الهجاء وقدم أحد الحرفين على الآخر وهي لام ألف وياء بريد لاي على وزن لعا وهو الثور الوحشي، فصحف الراوي الياء المثناة فجعلها موحدة. قال الخطابي: هذا أقرب ما يقع لي فيه، والمراد بزائدة الكبد قطعة منفردة متعلقة بالكبد وهي أطيبها. قوله: يأكل منها سبعون ألفا قال القاضي: يحتمل أنهم السبعون ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب فخصوا بأطيب النزل. ويحتمل أنه عبر بالسبعين ألفا عن العدد الكثير ولم يرد الحصر في ذلك القدر، وهذا معروف في كلام العرب. باب أن من حلف أنه لا مال له يتناول الزكاتي وغيره عن أبي الاحوص عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي شملة أو شملتا فقال: هل لك من مال؟ فقلت: نعم. قد آتاني الله من كل ماله من خيله وإبله وغنمه ورقيقه، فقال: فإذا آتاك الله مالا فلير عليك نعمه، فرحت إليه في حلة. وعن سويد بن هبيرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: خير مال امرئ له مهرة مأمورة أو سكة مأبورة رواهما أحمد. المأمورة الكثيرة النسل، والسكة الطريق من النخل المصطفة. والمأبورة هي الملفحة. وقد سبق أن عمر قال: يا رسول الله أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه وقال أبو طلحة
[ 119 ]
للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: أحب أموالي إلي بيرحاء لحائط له مستقبلة المسجد متفق عليه. حديث أبي الاحوص أخرجه أيضا أبو داود والنسائي والترمذي والحاكم في المستدرك ورجال إسناده رجال الصحيح. وحديث سويد بن هبيرة أخرجه أيضا أبو سعيد والبغوي وابن قانع والطبراني في الكبير والبيهقي في السنن والضياء المقدسي في المختارة وصححه، وأخرجه أيضا عنه من طريق أخرى العسكري. وحديث عمر قد سبق في أول كتاب الوقف. قوله: فإذا آتاك الله مالا ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إتيان المال مع أمره بإظهار النعمة عليه يدل على أنه علة، لانه لو لم يمكن التعليل لما كان لاعادة ذكره فائدة وكان ذكره عبثا، وكلام الشارع منزه عنه. قوله: فلير بسكون لام الامر والياء المثناة التحتية مضمومة، ويجوز بالمثناة من فوق باعتبار النعم المذكورة، ويجوز أيضا بالمثناة من تحت المفتوحة. وفيه أنه يستحب للغني أن يلبس من الثياب ما يليق به ليكون ذلك إظهارا لنعمة الله عليه، إذ الملبوس هو أعظم ما يظهر فيه الفرق بين الاغنياء والفقراء، فمن لبس من الاغنياء ثياب الفقراء صار مماثلا لهم في إيهام الناظر له أنه منهم، وذلك ربما كان من كفران نعمة الله عليه، وليس الزهد والتواضع في لزوم ثياب الفقر والمسكنة، لان الله سبحانه أحل لعباده الطيبات، ولم يخلق لهم جيد الثياب إلا لتلبس ما لم يرد النص على تحريمه، ومن فوائد إظهار أثر الغنى أن يعرفه ذوو الحاجات فيقصدونه لقضاء حوائجهم. وقد أخرج الترمذي حديث: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته بالخير على عبده وقال: حسن، فدل هذا على أن إظهار النعمة من محبوبات المنعم، ويدل على ذلك قوله تعالى: * (وأما نعمة ربك فحدث) * (الضحى: 11) فإن الامر منه جل جلاله إذا لم يكن للوجوب كان للندب، وكلا القسمين مما يحبه الله، فمن أنعم الله عليه بنعمة من نعمه الظاهرة أو الباطنة فليبالغ في إظهارها بكل ممكن، ما لم يصحب ذلك الاظهار رياء أو عجب أو مكاثرة للغير، وليس من الزهد والتواضع أن يكون الرجل وسخ الثياب شعث الشعر. فقد أخرج أبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله قال: أتانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرأى رجلا شعثا قد تفرق شعره فقال: أما كان هذا يجد ما يسكن به شعره؟ ورأى رجلا آخر عليه ثياب وسخة فقال: أما كان هذا يجد ما يغسل به
[ 120 ]
ثوبه؟ (والحاصل) أن الله جميل يحب الجمال، فمن زعم أن رضاه في لبس الخلقان والمرقعات وما أفرط في الغلظ من الثياب فقد خالف ما أرشد إليه الكتاب والسنة. قوله: مهرة مأمورة قال في القاموس: وأمر كفرح أمرا وأمرة كثر وتم فهو أمر والامر اشتد، والرجل كثرت ماشيته وأمره الله وأمره كنصره لغية كثر نسله وماشيته. قوله: سكة قال في القاموس: السك والسكة بالكسر حديدة منقوشة يضرب عليها الدراهم، والسطر من الشجر، وحديدة الفدان، والطريق المستوي، وضربوا بيوتهم سكاكا بالكسر صفا واحدا. قوله: مأبورة قال في القاموس: وأبر كفرح صلح، وذكر أن تأبير النخل إصلاحه. وقد تقدم الكلام على ما قاله عمر وما قاله أبو طلحة في الوقف. باب من حلف عند رأس الهلال لا يفعل شيئا شهرا فكان ناقصا عن أم سلمة: أالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حلف لا يدخل على بعض أهله شهرا. وفي لفظ: المن نسائه شهرا فلما مضى تسعة وعشرون يوما غدا عليهم أو راح فقيل له: يا رسول الله حلفت أن لا تدخل عليهن شهرا، فقال: إن الشهر يكون تسعا وعشرين متفق عليه. [ رح 3804 ] وعنابن عباس قال: هجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نساءه شهرا فلما مضى تسعة وعشرون أتى جبريل عليه السلام فقال: قد برت يمينك وقد تم الشهر رواه أحمد. قوله: فقيل له يا رسول الله حلفت الخ، فيه تذكير الحالف بيمينه إذا وقع منه ما ظاهره نسيانها لا سيما ممن له تعلق بذلك، والقائل له بذلك عائشة كما تدل عليه الروايات الآخرة، فإنها لما خشيت أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم نسي مقدار ما حلف عليه وهو شهر، والشهر ثلاثون يوما أو تسعة وعشرون يوما، فلما نزل في تسعة وعشرين ظنت أنه ذهل عن القدر أو أن الشهر لم يهل، فأعلمها أن الشهر استهل، وأن الذي كان الحلف وقع فيه تسع وعشرون، وفيه تقوية لقول من قال: إن يمينه صلى الله عليه وآله وسلم اتفق أنها كانت في أول الشهر، ولهذا اقتصر على تسعة وعشرين، وإلا فلو اتفق ذلك في أثناء الشهر فالجمهور على أنه لا يقع البر إلا بثلاثين. وذهبت طائفة
[ 121 ]
إلى الاكتفاء بتسعة وعشرين أخذا بأقل ما ينطلق عليه الاسم. قال ابن بطال: يؤخذ منه أن من حلف على شئ بر بفعل أقل ما ينطلق عليه الاسم، والقصة محمولة عند الشافعي ومالك على أنه دخل أول الهلال وخرج به، فلو دخل في أثناء الشهر لم يبر إلا بثلاثين وافية. قوله: إن الشهر يكون تسعا وعشرين هذه الرواية تدل على المراد من الرواية الاخرى بلفظ: الشهر تسع وعشرون كما في لفظ ابن عمر فإن ظاهر ذلك الحصر، وهذا الظاهر غير مراد، وإن وهم فيه من وهم، وقد أنكرت عائشة على ابن عمر روايته المطلقة أن الشهر تسع وعشرون، قال: فذكروا ذلك لعائشة فقالت: يرحم الله أبا عبد الرحمن إنما قال الشهر قد يكون تسعا وعشرين. وقد أخرج مسلم من وجه آخر عن عمر بهذا اللفظ الاخير الذي جزمت به عائشة. ويدل أيضا على ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج من يمينه بمجرد مضي ذلك العدد، بل للخبر الواقع من جبريل كما في حديث ابن عباس المذكور. باب الحلف بأسماء الله وصفاته والنهي عن الحلف بغير الله تعالى عن ابن عمر قال: كان أكثر ما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحلف لا ومقلب القلوب رواه الجماعة إلا مسلما. وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لما خلق الله الجنة أرسل جبريل فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لاهلها فيها، فنظر إليها فرجع فقال: لا وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها. وفي حديث لابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يبقى رجل بين الجنة والنار فيقول: يا رب اصرف وجهي عن النار لا وعزتك لا أسألك غيرها متفق عليهما. وفي حديث اغتسال أيوب: بلى وعزتك ولكن لا غنى بي عن بركتك. وعن قتيلة بنت صيفي: أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنكم تنددون وإنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت وتقولون والكعبة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة، ويقول أحدهم: ما شاء الله ثم شئت رواه أحمد والنسائي. وعنابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع عمر وهو يحلف بأبيه فقال: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا
[ 122 ]
فليحلف بالله أو ليصمت متفق عليه. في لفظ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله، فكانت قريش تحلف بآبائها فقال: لا تحلفوا بآبائكم رواه أحمد ومسلم والنسائي. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون رواه النسائي. حديث قتيلة أخرجه أيضا ابن ماجة وصححه النسائي. وحديث أبي هريرة الآخر أخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن حبان والبيهقي. وفي الصحيحين عن ابن عمر رفعه: من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله. (وفي الباب) عن ابن عمر رفعه: من حلف بغير الله فقد كفر أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه. ويروى أنه قال: فقد أشرك وهو عند أحمد من هذا الوجه، وكذا عند الحاكم. ورواه الترمذي وابن حبان من هذا الوجه أيضا بلفظ: فقد كفر وأشرك قال البيهقي: لم يسمعه سعد بن عبيدة من ابن عمر. قال الحافظ: قد رواه شعبة عن منصور عنه قال: كنت عند ابن عمر، ورواه الاعمش عن سعيد عن عبد الرحمن السلمي عن ابن عمر. قوله: لا ومقلب القلوب لا نفي للكلام السابق، ومقلب القلوب هو المقسم به، والمراد بتقليب القلوب تقليب أحوالها لا ذواتها، وفيه جواز تسمية الله بما ثبت من صفاته على وجه يليق به. قال القاضي أبو بكر بن العربي: في الحديث جواز الحلف بأفعال الله تعالى إذا وصف بها ولم يذكر اسمه تعالى. وفرق الحنفية بين القدرة والعلم فقالوا: إن حلف بقدرة الله انعقدت يمينه، وإن حلف بعلم الله لم تنعقد، لان العلم يعبر به عن المعلوم كقوله تعالى: * (قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا) * (الانعام: 148) والجواب أنه هنا مجاز إن سلم أن المراد به المعلوم والكلام إنما هو في الحقيقة. قال الراغب: تقليب الله القلوب والابصار صرفها عن رأي إلى رأي، قال: ويعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به من الروح والعلم والشجاعة. قوله: فقال وعزتك هذا طرف من الحديث الذي فيه: إن الجنة حفت بالمكاره والنار بالشهوات وذكره المصنف رحمه الله هنا للاستدلال به على الحلف بعزة الله. قال ابن بطال: العزة يحتمل أن تكون صفة ذات بمعنى القدرة والعظمة، وأن تكون صفة فعل بمعنى القهر لمخلوقاته والغلبة لهم، ولذلك صحت الاضافة، قال: ويظهر الفرق
[ 123 ]
بين الحالف بعزة الله أي التي هي صفة لذاته، والحالف بعزة الله التي هي صفة لفعله بأنه يحنث في الاول دون الثاني. قال الحافظ: وإذا أطلق الحالف انصرف إلى صفة الذات وانعقدت اليمين. قوله: لا وعزتك لا أسألك غير هذا هذا طرف من الحديث الطويل في صفة الحشر، ومحل الحجة منه هذا اللفظ المذكور، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر ذلك مقررا له فكان دليلا على جواز الحلف بذلك. قوله: بلى وعزتك هو طرف من حديث طويل وأوله: أن أيوب كان يغتسل فخر عليه جراد من ذهب ووجه الدلالة منه أن أيوب عليه السلام لا يحلف إلا بالله، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك عنه وأقره. قوله: ولكن لا غنى لي عن بركتك بكسر الغين المعجمة والقصر كذا للاكثر. ووقع لابي ذر عن غير الكشميهني بفتح أوله والمد والاول أولى، فإن معنى الغناء بالفتح والمد الكفاية، يقال: ما عند فلان غناء أي ما يغتنى به. قوله: تنددون أي تجعلون لله أندادا، وتشركون أتجعلون لله شركاء، وفيه النهي عن الحلف بالكعبة وعن قول الرجل ما شاء الله وشئت، ثم أمرهم أن يأتوا بما لا تنديد فيه ولا شرك فيقولون: ورب الكعبة، ويقولون: ما شاء الله ثم شئت. وحكى ابن التين عن أبي جعفر الداودي أنه قال: ليس في الحديث نهي عن القول المذكور وقد قال الله تعالى: * (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) * (التوبة: 74) وقال تعالى: * (وإذ تقول للذأنعم الله عليه وأنعمت عليه) * (الاحزاب: 37) وغير ذلك، وتعقبه بأن الذقاله أبو جعفر ليس بظاهر لان قوله: ما شاء الله وشئت تشريك في مشيئته تعالى وأما الآية فإنما أخبر الله أنه أغناهم وأن رسوله أغناهم وهو من الله حقيقة لانه الذي قدر ذلك، ومن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حقيقة باعتبار تعاطي الفعل. وكذا الانعام أنعم الله على زيد بن حارثة بالاسلام، وأنعم عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعتق، وهذا بخلاف المشاركة في المشيئة فإنها منفردة لله سبحانه وتعالى بالحقيقة، وإذا نسبت لغيره فبطريق المجاز. قوله: إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم في رواية للترمذي من حديث ابن عمر: أنه سمع رجلا يقول: لا والكعبة، فقال: لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك قال الترمذي: حسن وصححه الحاكم. والتعبير بقوله كفر أو أشرك للمبالغة في الزجر
[ 124 ]
والتغليظ في ذلك وقد تمسك به من قال بالتحريم. قوله: فليحلف بالله أو ليصمت قال العلماء: السفي النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشئ يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده، فلا يحلف إلا بالله وذاته وصفاته وعلى ذلك اتفق الفقهاء. واختلف هل الحلف بغير الله حرام أو مكروه؟ للمالكية والحنابلة قولان، ويحمل ما حكاه ابن عبد البر من الاجماع على عدم جواز الحلف بغير الله على أن مراده بنفي الجواز فيه. الكراهة أعم من التحريم والتنزيه، وقد صرح بذلك في موضع آخر. وجمهور الشافعية على أنه مكروه تنزيها وجزم ابن حزم بالتحريم. وقال إمام الحرمين: المذهب القطع بالكراهة وجزم غيره بالتفصيل، فإن اعتقد في المحلوف به ما يعتقد في الله تعالى كان بذلك الاعتقاد كافرا، ومذهب الهادوية أنه لا إثم في الحلف بغير الله ما لم يسو بينه وبين الله في التعظيم، أو كان الحلف متضمنا كفرا أو فسقا، وسيأتي الكلام على من يكفر بحلفه. قال في الفتح: وأما ما ورد في القرآن من القسم بغير الله ففيه جوابان: أحدهما أن فيه حذفا والتقدير ورب الشمس ونحوه. والثاني أن ذلك يختص بالله، فإذا أراد تعظيم شئمن مخلوقاته أقسم به وليس لغيره ذلك. وأما ما وقع مما يخالف ذلك كقوله صلى الله عليه وآله وسلم للاعرابي أفلح وأبيه إن صدق، فقد أجيب عنه بأجوبة، الاول: الطعن في صحة هذه اللفظة كما قال ابن عبد البر أنها غير محفوظة وزعم أن أصل الرواية أفلح والله فصحفها بعضهم. والثاني: أن ذلك كان يقع من العرب ويجري على ألسنتهم من دون قصد للقسم، والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف قاله البيهقي. وقال النووي: إنه الجواب المرضي. والثالث: أنه كان يقع في كلامهم على وجهين للتعظيم والتأكيد والنهي إنما وقع عن الاول. والرابع: أن ذلك كان جائزا ثم نسخ قاله الماوردي. وقال السهيلي: أكثر الشراح عليه. قال ابن العربي: وروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحلف بأبيه حتى نهي عن ذلك قال السهيلي: ولا يصح لانه لا يظن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يحلف بغير الله، ويجاب بأنه قبل النهي عنه غير ممتنع عليه ولا سيما الاقسام القرآنية على ذلك النمط. وقال المنذري: دعوى النسخ ضعيفة لامكان الجمع ولعدم تحقيق التاريخ. والخامس: أنه كان في ذلك حذف والتقدير أفلح ورب أبيه قاله البيهقي. والسادس: أنه للتعجيب قاله السهيلي: والسابع: أنه خاص
[ 125 ]
به صلى الله عليه وآله وسلم وتعقب بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال. (وأحاديث الباب) تدل على أن الحلف بغير الله لا ينعقد لان النهي يدل على فساد المنهي عنه وإليه ذهب الجمهور، وقال بعض الحنابلة: إن الحلف بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم ينعقد وتجب الكفارة. باب ما جاء في وأيم الله ولعمر الله وأقسم بالله وغير ذلك عن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قال سليمان بن داود: لاطوفن الليلة على تسعين امرأة كلها تأتي بفارس يقاتل في سبيل الله فقال له صاحبه: قل إن شاء الله، فلم يقل إن شاء الله، فطاف عليهن جميعا فلم يحمل منهن إلا امرأة واحدة فجاءت بشق رجل وأيم الذي نفس محمد بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون وهو حجة في أن إلحاق الاستثناء ما لم يطل الفصل ينفع وإن لم ينوه وقت الكلام الاول. وعن ابن عمر: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال في زيد بن حارثة: وأيم الله إن كان لخليقا للامارة متفق عليهما. وفي حديث متفق عليه: لما وضع عمر على سريره جاء أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فترحم عليه وقال: وأيم الله إن كنت لاظن أن يجعلك الله مع صاحبيك وقد سبق في حديث المخزومية: وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها. وقول عمر لغيلان بن سلمة: وأيم الله لتراجعن نساءك. وفي حديث الافك: فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي فقام أسيد بن حضير فقال لسعد بن عبادة: لعمر الله لنقتلنه وهو متفق عليه. [ رح 3814 ] وعن عبد الرحمن بن صفوان وكان صديقا للعباس: أنه لما كان يوم الفتح جاء بأبيه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله بايعه على الهجرة فأبى وقال: إنها لا هجرة، فانطلق إلى العباس فقام العباس معه فقال: يا رسول الله قد عرفت ما بيني وبين فلان وأتاك بأبيه لتبايعه على الهجرة فأبيت، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا هجرة، فقال العباس: أقسمت عليك لتبايعنه، قال: فبسط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده فقال: هات أبرره عمي ولا هجرة رواه أحمد وابن ماجة. وعن أبي الزاهرية عن عائشة: أن امرأة أهدت إليها تمرا في طبق فأكلت بعضه وبقي بعضه فقالت:
[ 126 ]
أقسمت عليك إلا أكلت بقيته، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أبريها فإن الاثم على المحنث رواه أحمد. [ رح 3816 ] وعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليس منا من حلف بالامانة رواه أبو داود. حديث المخزومية تقدم في باب ما جاء في السارق يوهب السرقة بعد وجوب القطع أو يشفع فيه، وقول عمر لغيلان تقدم في باب من أسلم وتحته أختان أو أكثر من أربع. وحديث عبد الرحمن بن صفوان قال ابن ماجة في إسناده حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا محمد بن فضيل وحدثنا محمد بن يحيى حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا ابن إدريس جميعا عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن عبد الرحمن بن صفوان فذكره ثم قال: حدثنا محمد ابن يحيى، حدثنا الحسن بن الربيع عن عبد الله بن إدريس عن يزيد بن أبي زياد بإسناده نحوه. وقال يزيد بن أبي زياد: يعني لا هجرة من دار من قد أسلم أهلها اه. وحديث أبي الزاهرية قال في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح، ويشهد لصحته الاحاديث الآتية في إبرار القسم. وحديث بريدة سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات. وأخرج الطبراني في الاوسط بإسناد رجاله ثقات من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع رجلا يحلف بالامانة فقال: ألست الذي يحلف بالامانة؟. قوله: لاطوفن اللام جواب القسم كأنه قال: والله لاطوفن، ويرشد إلى ذلك ذكر الحنث في قوله لم يحنث كما في رواية. قوله: على تسعين بتقديم التاء الفوقية على السين. قوله: وأيم الله بكسر الهمزة وفتحها والميم مضمومة. وحكى الاخفش كسرها مع كسر الهمزة وهو اسم عند الجمهور، وحرف عند الزجاج، وهمزته همزة وصل عند الاكثر، وهمزة قطع عند الكوفيين ومن وافقهم لانه عندهم جمع يمين، وعند سيبويه ومن وافقه أنه اسم مفرد، واحتجوا بجواز كسر همزته وفتح ميمه. قال ابن مالك: فلو كان جمعا لم تكسر همزته. وقد ذكر في فتح الباري فيها لغات عديدة وقال غيره: أصله يمين الله، ويجمع على أيمن فيقال: وأيمن الله، حكاه أبو عبيدة، وأنشد لزهير بن أبي سلمى: [ شع ] فيجمع أيمن منا ومنكم لمقسمة تمور بها الدماء [ / شع ] فقالوا عند القسم: وأيمن الله ثم كثر فحذفوا النون كما حذفوها من لم يكن
[ 127 ]
فقالوا لم يك، ثم حذفوا الياء فقالوا: أم الله، ثم حذفوا الالف فاقتصروا على الميم مفتوحة ومضمومة ومكسورة. وقالوا أيضا: م الله بكسر الميم وضمها، وأجازوا في أيمن فتح الميم وضمها، وكذا في أيم، ومنهم من وصل الالف وجعل الهمزة زائدة ومسهلة، وعلى هذا تبلغ لغاتها عشرين. قال الجوهري قالوا: أيم الله وربما حذفوا الياء فقالوا: أم الله، وربما أبقوا الميم وحدها مضمومة فقالوا: م الله، وربما كسروها لانها صارت حرفا واحدا فشبهوها بالباء، قال: وألفها ألف وصل عند أكثر النحويين ولم يجئ ألف وصل مفتوحة غيرها، وقد يدخل اللام للتأكيد فيقال ليمن الله، قال الشاعر: [ شع ] فقال فريق القوم لماشهدتهم نعم وفريق ليمن الله ما ندري [ / شع ] وذهب ابن كيسان وابن درستويه إلا أن ألفها ألف قطع، وإنما خففت همزتها وطرحت في الوصل لكثرة الاستعمال. وحكى ابن التين عن الداوودي أنه قال: أيم الله معناه اسم الله بإبدال السين ياء وهو غلط فاحش لان السين لا تبدل ياء. وذهب المبرد إلى أنها عوض من واو القسم، وأن معنى قوله: وأيم الله والله لافعلن. ونقل عن ابن عباس أن يمين الله من أسماء الله، ومنه قول امرئ القيس: [ شع ] فقلت يمين الله أبرح قاعداولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي [ / شع ] ومن ثم قالت المالكية والحنفية: إنه يمين، وعند الشافعية إن نوى اليمين انعقدت، وإن نوى غير اليمين لم تنعقد يمينا، وإن أطلق فوجهان أصحهما لا تنعقد إلا إن نوى. وعن أحمد روايتان أصحهما الانعقاد. وحكى الغزالي في معناه وجهين: أحدهما أنه كقوله بالله. والثاني أنه كقوله أحلف بالله وهو الراجح، ومنهم من سوى بينه وبين لعمر الله. وفرق الماوردي بأن لعمر الله شاع في استعمالهم عرفا بخلاف أيم الله، واحتج بعض من قال منهم بالانعقاد مطلقا بأن معناه يمين الله، ويمين الله من صفاته وصفاته قديمة. وجزم النووي في التهذيب أن قوله: وأيم الله كقوله: وحق الله، وقال: إنه ينعقد به اليمين عند الاطلاق وقد استغربوه. قوله: لعمر الله بفتح العين المهملة وسكون الميم هو العمر بضم العين، قال في النهاية: ولا يقال في القسم إلا بالفتح. وقال الراغب العمر بالضم وبالفتح واحد، ولكن خص الحلف
[ 128 ]
بالثاني. قال الشاعر: عمرك الله كيف يلتقيان. أي سألت الله أن يطيل عمرك. وقال أبو القاسم الزجاجي: العمة الحياة فمن قال: لعمر الله فكأنه قال: أحلف ببقاء الله، واللام للتوكيد والخبر محذوف أي ما أقسم به. ومن ثم قالت المالكية والحنفية: تنعقد بها اليمين لان بقاء الله تعالى من صفة ذاته. وعن الامام مالك لا يعجبني الحالف بذلك. وقد أخرج إسحاق بن راهويه في مصنفه عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: كانت يمين عثمان بن أبي العاص لعمري. وقال الامام الشافعي وإسحاق: لا يكون يمينا إلا بالنية لانه يطلق على العلم وعلى الحق، وقد يراد بالعلم المعلوم، وبالحق ما أوجبه الله تعالى. وعن أحمد كالمذهبين والراجح عنه كالشافعي. وأجابوا عن الآية التي فيها القسم بالعمر بأن الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه، وليس ذلك لغيره لثبوت النهي عن الحلف بغير الله تعالى، وقد عد الائمة ذلك في فضائل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لان الله تعالى أقسم به حيث قال: * (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) * (الحجر: 72) وأيضا فإن اللام ليست من أدوات القسم لانها محصورة في الواو والباء والتاء، وقد ثبت عند البخاري في كتاب الرقاق من حديث لقيط بن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لعمر الاهل وكررها، وهو عند عبد الله بن أحمد وعند غيره. قوله: أقسمت عليك قال ابن المنذر: اختلف فيمن قال أقسمت بالله أو أقسمت مجردا فقال قوم: هي يمين وإن لم يقصد. وممن روى عنه ذلك ابن عمر وابن عباس، وبه قال النخعي والثوري والكوفيون. وقال الاكثرون: لا يكون يمينا إلا إن نوى. وقال الامام مالك: أقسمت بالله يمين، وأقسمت مجردة لا تكون يمينا إلا إن نوى. وقال الشافعي: المجردة لا تكون يمينا أصلا ولو نوى وأقسمت بالله إن نوى يكون يمينا. وكذا لو قال: أقسم بالله. وقال سحنون: لا يكون يمينا أصلا. وعن الامام أحمد كالاول، وعنه كالثاني، وعنه: إن قال قسما بالله فيمين جزما لان التقدير أقسمت بالله قسما، وكذا لو قال: آليت بالله. قال ابن المنير لو قال: أقسم بالله عليك لتفعلن فقال نعم هل يلزمه اليمين بقوله نعم وتجب الكفارة إن لم يفعل؟ قال: وفي ذلك نظر. قوله: ليس منا من حلف بالامانة قال في النهاية يشبه أن تكون الكراهة فيه لاجل أنه أمر أن يحلف بأسماء الله وصفاته، والامانة أمر من أموره فنهوا عنها من أجل التسوية بينها وبين أسماء الله، كما نهوا أن يحلفوا بآبائهم. قال: وإذا قال الحالف: وأمانة
[ 129 ]
الله كانت يمينا عند أبي حنيفة والشافعي لا يعدها يمينا. قال: والامانة تقع على الطاعة والعبادة والوديعة والنقد والامان وقد جاء في كل منها حديث. باب الامر بإبرار القسم والرخصة في تركه للعذر عن البراء بن عازب قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار القسم أو المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام. [ رح 3818 ] وعنابن عباس في حديث رؤيا قصها أبو بكر: أن أبا بكر قال: أخبرني يا رسول الله بأبي أنت وأمي أصبت أم أخطأت؟ فقال: أصبت بعضا وأخطأت بعضا، قال: فوالله لتحدثني بالذي أخطأت، قال: لا تقسم متفق عليهما. قوله: وإبرار القسم أي بفعل ما أراد الحالف ليصير بذلك بارا. قوله: أو المقسم اختلف في ضبط السين فالمشهور أنها بالكسر وضم الميم على أنه اسم فاعل، وقيل بفتح السين أي الاقسام، والمصدر قد يأتي للمفعول مثل أدخلته مدخلا بمعنى الادخال وكذا أخرجته. قوله: في حديث رؤيا قصها هذا من كلام المصنف. قوله: لا تقسم أي لا تحلف وهذا طرف من حديث طويل قد ساقه البخاري مستوفى في كتاب التعبير. قوله: وإبرار القسم ظاهر الامر الوجوب واقترانه ببعض ما هو متفق على عدم وجوبه كإفشاء السلام قرينة صارفة عن الوجوب وعدم إبراره صلى الله عليه وآله وسلم لقسم أبي بكر وإن كان خلاف الاحسن لكنه صلى الله عليه وآله وسلم فعله لبيان عدم الوجوب، ويمكن أن يقال إن الفعل منه صلى الله عليه وآله وسلم لا يعارض الامر الخاص بالامة كما تقرر في الاصول وما نحن فيكذلك، وبقية ما اشتمل عليه الحديث موضعه غير هذا.
[ 130 ]
باب ما يذكر فيمن قال هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا عن ثابت بن الضحاك: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من حلف على يمين بملة غير الاسلام كاذبا فهو كما قال رواه الجماعة إلا أبا داود. وعن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من قال إني برئ من الاسلام فإن كان كاذبا فهو كما قال، وإن كان صادقا لم يعد إلى الاسلام سالما رواه أحمد والنسائي وابن ماجة. حديث بريدة هو من طريق الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه وقد صححه النسائي. قوله: بملة غير الاسلام الملة بكسر الميم وتشديد اللام الدين والشريعة وهي نكرة في سياق الشرط، فتعم جميع الملل من أهل الكتاب كاليهودية والنصرانية ونحوهم من المجوسية والصابئة وأهل الاوثان والدهرية والمعطلة وعبدة الشياطين والملائكة وغيرهم. قال ابن المنذر: اختلف فيمن قال: أكفر بالله ونحوه إن فعلت ثم فعل، فقال ابن عباس وأبو هريرة وعطاء وقتادة وجمهور فقهاء الامصار: لا كفارة عليه، ولا يكون كافرا إلا إن أضمر ذلك بقلبه. وقال الاوزاعي والثوري والحنفية وأحمد وإسحاق هو يمين وعليه الكفارة. قال ابن المنذر: والاول أصح لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله ولم يذكر كفارة. زاد غيره: وكذا قال من حلف بملة سوى الاسلام فهو كما قال، فأراد التغليظ في ذلك حتى لا يجترئ أحد عليه. ونقل ابن القصار من المالكية عن الحنفية أنهم احتجوا لايجاب الكفارة بأن في اليمين الامتناع من الفعل، وتضمن كلامه بما ذكر تعظيما للاسلام، وتعقب ذلك بأنهم قالوا فيمن قال وحق الاسلام إذا حنث لا يجب عليه كفارة، فأسقطوا الكفارة إذا صرح بتعظيم الاسلام وأثبتوها إذا لم يصرح. قال ابن دقيق العيد: الحلف بالشئ حقيقة هو القسم به وإدخال بعض حروف القسم عليه كقوله: والله، وقد يطلق على التعليق بالشئ يمين كقولهم من حلف بالطلاق فالمراد تعليق الطلاق، وأطلق عليه الحلف لمشابهته لليمين في اقتضاء الحنث أو المنع، وإذا تقرر ذلك فيحتمل أن يكون المراد المعنى الثاني لقوله كاذبا، والكذب يدخل القضية الاخبارية
[ 131 ]
التي يقع مقتضاها تارة ولا يقع أخرى، وهذا بخلاف قولنا والله وما أشبهه، فليس الاخبار بها عن أمر خارجي بل هي لانشاء القسم، فتكون صورة الحلف هنا على وجهين: أحدهما أن تتعلق بالمستقبل كقوله: إن فعل كذا فهو يهودي. والثاني تتعلق بالماضي كقوله: إن كان كاذبا فهو يهودي. وقد يتعلق بهذا من لم ير فيه الكفارة لكونه لم يذكر فيه كفارة بل جعل المرتب على كذبه. قوله: فهو كما قال قال: ولا يكفر في صورة الماضي إلا إن قصد التعظيم، وفيه خلاف عند الحنفية لكونه تنجيز معنى، فصار كما لو قال هو يهودي، ومنهم من قال: إذا كان لا يعلم أنه يمين لم يكفر، وإن كان يعلم أنه يكفر بالحنث به كفر لكونه رضي بالكفر حيث أقدم على الفعل. وقال بعض الشافعية: ظاهر الحديث أنه يحكم عليه بالكفر إذا كان كاذبا والتحقيق التفصيل فإن اعتقد تعظيم ما ذكر كفر، وإن قصد حقيقة التعليق فينظر، فإن كان أراد أن يكون متصفا بذلك كفر لان إرادة الكفر كفر، وإن أراد البعد عن ذلك لم يكفر، لكن هل يحرم عليه ذلك أو يكره تنزيها؟ الثاني هو المشهور. قوله: كاذبا زاد في البخاري ومسلم متعمدا. قال عياض: تفرد بهذه الزيادة سفيان الثوري وهي زيادة حسنة يستفاد منها أن الحالف متعمدا إن كان مطمئن القلب بالايمان وهو كاذب في تعظيم ما لا يعتقد تعظيمه لم يكفر، وإن قاله معتقدا لليمين بتلك الملة لكونها حقا كفر، وإن قالها لمجرد التعظيم لها احتمل. قال الحافظ: وينقدح بأن يقال إن أراد تعظيمها باعتبار ما كانت قبل النسخ لم يكفر أيضا، قال: ودعواه أن سفيان تفرد بها إن أراد بالنسبة إلى رواية مسلم فعسى، فإنه أخرجها من طريق شعبة عن أيوب وسفيان عن خالد الحذاء جميعا عن أبي قلابة. قوله: في الحديث الآخر فهو كما قال. قال في الفتح: يحتمل أن يكون المراد بهذا الكلام التهديد والمبالغة في الوعيد لا الحكم كأن قال: فهو مستحق مثل عذاب من اعتقد ما قال، ونظير من ترك الصلاة فقد كفر أي استوجب عقوبة من كفر. وقال ابن المنذر: ليس على إطلاقه في نسبته إلى الكفر، بل المراد أنه كاذب كذب المعظم لتلك الجهة.
[ 132 ]
باب ما جاء في اليمين الغموس ولغو اليمين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، وبهت مؤمن، والفرار يوم الزحف، ويمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق. وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل: فعلت كذا؟ قال لا والذي لا إله إلا هو ما فعلت، قال فقال له جبريل عليه السلام: قد فعل ولكن الله عز وجل غفر له بقوله لا والذي لا إله إلا الله هو. وعن ابن عباس قال: اختصم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلان، فوقعت اليمين على أحدهما فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عنده شئ، قال: فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال إنه كاذب إن له عنده حقه، فأمره أن يعطيه حقه، وكفارة يمينه معرفته أن لا إله إلا الله أو شهادته رواهن أحمد ولابي داود الثالث بنحوه. وعن عائشة قالت: أنزلت هذه الآية * (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) * (البقرة: 225) في قول الرجل: لا والله وبلى والله أخرجه البخاري. حديث أبي هريرة أخرجه أيضا أبو الشيخ، ويشهد له ما أخرجه البخاري من حديث ابن عمرو قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ فذكر الحديث وفيه اليمين الغموس وفيه قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: الذي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب. وحديث ابن عباس أخرجه أيضا النسائي وفي إسناده عطاء بن السائب وقد تكلم فيه غير واحد. وأخرج له البخاري حديثا مقرونا بابن بشر. قوله: ليس لهن كفارة أي لا يمحو الاثم الحاصل بسببهن شئ من الطاعات، أما الشرك بالله فلقوله تعالى: * (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (النساء: 48) وأما قتل النفس فعلى الخلاف في قبول توبة التائب عنه، وقد تقدم الكلام فيه. والمراد ببهت المؤمن أن يغتابه بما ليس فيه، واليمين الصابرة أي التي ألزم بها وصبر عليها وكانت لازمة لصاحبها من جهة الحكم، والظاهر أن هذه الامور لا كفارة لها إلا التوبة منها، ولا توبة في مثل القتل إلا بتسليم النفس للقود. قوله: وكفارة يمينه الخ هذا يعارض حديث أبي هريرة لانه قد نفى الكفارة عن الخمس التي من
[ 133 ]
جملتها اليمين الفاجرة في اقتطاع حق، وهذا أثبت له كفارة وهي التكلم بكلمة الشهادة ومعرفته لها، ويجمع بينهما بأن النفي عام والاثبات خاص. قوله: باللغو الآية قال الراغب: هو في الاصل ما لا يعتد به من الكلام، والمراد به في الايمان ما يورد عن غير روية فيجري مجرى اللغا وهو صوت العصافير. قوله: لا والله أخرجه أبو داود عنها مرفوعا بلفظ: قالت عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: هو كلام الرجل في بيته: كلا والله، وبلى والله وأخرجه أيضا البيهقي وابن حبان وصحح الدارقطني الوقف ورواه البخاري والشافعي ومالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة موقوفا. ورواه الشافعي من حديث عطاء أيضا موقوفا قال أبو داود: ورواه غير واحد عن عطاء عن عائشة موقوفا. وأخرج الطبري من طريق الحسن البصري مرفوعا في قصة الرماة وكان أحدهم إذا رمى حلف أنه أصاب فيظهر أنه أخطأ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أيمان الرماة لغو لا كفارة لها ولا عقوبة. قال الحافظ: وهذا لا يثبت لانهم كانوا لا يعتمدون مراسيل الحسن لانه كان يأخذ عن كل أحد، وقد تمسك بتفسير عائشة المذكور في الباب الشافعي وقال: إنها قد جزمت بأن الآية نزلت في قول الرجل: لا والله وبلى والله، وهي قد شهد ت التنزيل. وذهبت الحنفية والهادوية إلى أن لغو اليمين أن يحلف على الشئ يظنه ثم يظهر خلافه. وبه قال ربيعة ومالك ومكحول والاوزاعي والليث. وعن أحمد روايتان: قال في الفتح ونقل ابن المنذر وغيره عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما من الصحابة، وعن القاسم وعطاء والشعبي وطاوس والحسن نحو ما دل عليه حديث عائشة عن أبي قلابة: لا والله وبلى والله، لغة من لغات العرب لا يراد بها اليمين وهي من صلة الكلام. ونقل إسماعيل القاضي عن طاوس أن لغو اليمين أن يحلف وهو غضبان، ونقل أقوالا أخر عن بعض التابعين. (وجملة) ما يتحصل من ذلك ثمانية أقوال من جملتها قول إبراهيم النخعي: إن اللغو هو أن يحلف على الشئ لا يفعله ثم ينسى فيفعله أخرجه الطبري. وأخرج عبد الرزاق عن الحسن مثله، وعنه هو كقول الرجل، والله لكذا وهو يظن أنه صادق ولا يكون كذلك. وأخرج الطبري من طريق طاوس عن ابن عباس أن يحلف وهو غضبان. ومن طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس أن يحرم ما أحد الله له. وقيل هو أن يدعو على نفسه إن فعل كذا
[ 134 ]
ثم يفعله وهذا هو يمين المعصية قال ابن العربي: القول بأن لغو اليمين هو المعصية باطل، لان الحالف على ترك المعصية ينعقد يمينه ويقال له لا تفعل وكفر عن يمينك، فإن خالف وأقدم على الفعل أثم وبر في يمينه. قال: ومن قال إنها يمين الغضب يرده ما ثبت في الاحاديث يعني المذكورة في الباب. ومن قال دعاء الانسان على نفسه إن فعل أو لم يفعل فاللغو إنما هو في طريق الكفارة وهي تنعقد، وقد يؤاخذ بها لثبوت النهي عن دعاء الانسان على نفسه. ومن قال إنها اليمين التي تكفر فلا متعلق له، فإن الله تعالى رفع المؤاخذة عن اللغو مطلقا فلا إثم فيه ولا كفارة، فكيف يفسر اللغو بما فيه الكفارة وثبوت الكفارة يقتضي وجود المؤاخذة؟ وقد أخرج ابن أبي عاصم من طريق الزبيدي وابن وهب في جامعه عن يونس وعبد الرزاق في مصنفه عن معمر كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة: لغو اليمين ما كان في المراء والهزل أو المراجعة في الحديث الذي لا يعقد عليه القلب وهذا موقوف. ورواية يونس تقارب الزبيدي ولفظ معمر أنه القوم يتدارؤون يقول أحدهم: لا والله، وبلى والله، وكلا والله، ولا يقصد الحلف وليس مخالفا للاول. وأخرج ابن وهب عن الثقة عن الزهري بهذا السند هو الذي يحلف على الشئ لا يريد به إلا الصدق فيكون على غير ما حلف عليه، وهذا يوافق القول الثاني لكنه ضعيف من أجل هذا المبهم شاذ لمخالفته من هو أوثق منه وأكثر عددا. (والحاصل) في المسألة أن القرآن الكريم قد دل على عدم المؤاخذة في يمين اللغو، وذلك يعم الاثم والكفارة فلا يجب أيهما، والمتوجه الرجوع في معرفة معنى اللغو إلى اللغة العربية، وأهل عصره صلى الله عليه وآله وسلم أعرف الناس بمعاني كتاب الله تعالى، لانهم مع كونهم من أهل اللغة قد كانوا من أهل الشرع، ومن المشاهدين للرسول صلى الله عليه وآله وسلم والحاضرين في أيام النزول، فإذا صح عن أحدهم تفسير لم يعارضه ما يرجح عليه أو يساويه وجب الرجوع إليه، وإن لم يوافق ما نقله أئمة اللغة في معنى ذلك اللفظ لانه يمكن أن يكون المعنى نقله إليه شرعيا لا لغويا، والشرعي مقدم على اللغوي كما تقرر في الاصول، فكان الحق فيما نحن بصدده هو أن اللغو ما قالته عائشة رضي الله عنها. وفي (حديث الباب) تعرض لذكر بعض الكبائر، والكلام في شأنها طويل الذيول لا يتسع لبسطه إلا مؤلف حافل، وقد ألف ابن حجر في ذلك مجلدا ضخما
[ 135 ]
سماه الزواجر في الكبائر فمن رام الاستقصاء رجع إليه، وأما حصرها في عدد معين فليس ذلك إلا باعتبار الاستقرار لا باعتبار الواقع، فمن جعل عددها أوسع فلكثرة ما استقراه منها. باب اليمين على المستقبل وتكفيرها قبل الحنث وبعده عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك. وفي لفظ: فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير متفق عليهما. وفي لفظ: إذا حلفت على يمين فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير رواه النسائي وأبو داود وهو صريح في تقديم الكفارة. وعن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا حلف أحدكم على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير رواه مسلم. وفي لفظ: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه. وفي لفظ: فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه رواه مسلم. وعن أبي موسى: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها. وفي لفظ: إلا كفرت عن يميني وفعلت الذي هو خير. وفي لفظ: إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني متفق عليهن. [ رح 3829 ] وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا نذر ولا يمين فيما لا تملك ولا في معصية ولا في قطيعة رحرواه النسائي وأبو داود وهو محمول على نفي الوفاء بها. وعن ابن عباس قال: كان الرجل يقوت أهله قوتا في سعة وكان الرجل يقوت أهله قوتا في شدة فنزلت: * (من أوسط ما تطعمون أهليكم) * (المائدة: 89) رواه ابن ماجة. [ رح 3831 ] وعن أبي بن كعب وابن مسعود أنهما قرآ * (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) * حكاه أحمد ورواه الاثرم بإسناده.
[ 136 ]
حديث عمرو بن شعيب ذكر البيهقي أنه لم يثبت وتمامه ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليدعها وليأت الذي هو خير فإن تركها كفارتها قال أبو داود: الاحاديث كلها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: وليكفر عن يمينه إلا ما لا يعبأ به قال الحافظ في الفتح: ورواته لا بأس بهم، لكن اختلف في سنده على عمرو، وفي بعض طرقه عند أبي داود ولا في معصية. وأثر ابن عباس رجال إسناده في سنن ابن ماجة رجال الصحيح إلا سليمان بن أبي المغيرة العبسي، ولكنه قد وثقه ابن معين. وقال في التقريب صدوق. وأثر أبي بن كعب أخرجه الدارقطني وصححه. قوله: فأت الذي هو خير فيه دليل على أن الحنث في اليمين أفضل من التمادي إذا كان في الحنث مصلحة، ويختلف باختلاف حكم المحلوف عليه، فإن حلف على فعل واجب أو ترك حرام فيمينه طاعة والتمادي واجب والحنث معصية وعكسه بالعكس. وإن حلف على فعل نفل فيمينه طاعة والتمادي مستحب والحنث مكروه. وإن حلف على ترك مندوب فبعكس الذي قبله. وإن حلف على فعل مباح فإن كان يتجاذبه رجحان الفعل أو الترك كما لو حلف لا يأكل طيبا ولا يلبس ناعما ففيه عند الشافعية خلاف. وقال ابن الصباغ وصوبه المتأخرون: إن ذلك يختلف باختلاف الاحوال، وإن كان مستوي الطرفين فالاصح أن التمادي أولى لانه قال: فليأت الذي هو خير. قوله: فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير هذه الرواية صححها الحافظ في بلوغ المرام. وأخرج نحوها أبو عوانة في صحيحه. وأخرج الحاكم عن عائشة نحوها. وأخرج أيضا الطبراني من حديث أم سلمة بلفظ: فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذي هو خير. وفيه دليل على أن الكفارة يجب تقديمها على الحنث، ولا يعارض ذلك الرواية المذكورة في الباب قبلها بلفظ: فأت الذي هو خير وكفر لان الواو لا تدل على ترتيب إنما هي لمطلق الجمع، على أن الواو لو كانت تفيد ذلك لكانت الرواية التي بعدها بلفظ: فكفر عن يمينك وائت الذي هو خير تخالفها وكذلك بقية الروايات المذكورة في الباب. قال ابن المنذر: رأى ربيعة والاوزاعي ومالك والليث وسائر فقهاء الامصار غير أهل الرأي أن الكفارة تجزي قبل الحنث، إلا أن الشافعي استثنى الصيام فقال: لا يجزي إلا بعد الحنث. وقال أصحاب الرأي: لا تجزي الكفارة قبل الحنث. وعن مالك روايتان. ووافق الحنفية أشهب من المالكية وداود الظاهري، وخالفه ابن حزم واحتج له الطحاوي بقوله تعالى: * (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) * (المائدة: 89) فإن المراد إذا حلفتم فحنثتم. ورده مخالفوه
[ 137 ]
فقالوا: بل التقدير فأردتم الحنث. قال الحافظ: وأولى من ذلك أن يقال التقدير أعم من ذلك فليس أحد التقديرين بأولى من الآخر. واحتجوا أيضا بأن ظاهر الآية أن الكفارة وجبت بنفس اليمين، ورده من أجازها بأنها لو كانت بنفس اليمين لم تسقط عمن لم يحنث اتفاقا. واحتجوا أيضا بأن الكفارة بعد الحنث فرض وإخراجها قبله تطوع، فلا يقوم التطوع مقام المفروض. وانفصل عنه من أجاز بأنه يشترط إرادة الحنث وإلا فلا تجزئ كما في تقديم الزكاة. وقال عياض: اتفقوا على أن الكفارة لا تجب إلا بالحنث وأنه يجوز تأخيرها بعد الحنث، واستحب الامام مالك والشافعي والاوزاعي والثوري تأخيرها بعد الحنث، قال عياض: ومنع بعض المالكية تقديم كفارة حنث المعصية لان فيه إعانة على المعصية ورده الجمهور. قال ابن المنذر: واحتج للجمهور بأن اختلاف ألفاظ الاحاديث لا يدل على تعين أحد الامرين، والذي يدل عليه أنه أمر الحالف بأمرين، فإذا أتى بهما جميعا فقد فعل ما أمر به، وإذا دل الخبر على المنع فلم يبق إلا طريق النظر، فاحتج للجمهور بأن عقد اليمين لما كان يحله الاستثناء وهو كلام فلان تحله الكفارة وهي فعل مالي أو بدني أولى، ويرجح قولهم أيضا بالكثرة. وذكر عياض وجماعة أن عدة من قال بجواز تقديم الكفارة أربعة عشر صحابيا وتبعهم فقهاء الامصار إلا أبا حنيفة. وقد عرفت مما سلف أن المتوجه العمل برواية الترتيب المدلول عليه بلفظ ثم، ولولا الاجماع المحكي سابقا على جواز تأخير الكفارة عن الحنث لكان ظاهر الدليل أن تقديم الكفارة واجب كما سلف. قال المازري: للكفارة ثلاث حالات: أحدها قبل الحلف فلا تجزى اتفاقا. ثانيها بعد الحلف والحنث فتجزى اتفاقا. ثالثها بعد الحلف وقبل الحنث ففيها الخلاف. (والاحاديث) المذكورة في الباب تدل على وجوب الكفارة مع إتيان الذي هو خير. وفي حديث عمرو بن شعيب المذكور بعضه في الباب ما يدل على أن ترك اليمين وإتيان الذي هو خير هو الكفارة، وقد ذكرنا ذلك، وذكرنا أن أبا داود قال: إنه ما ورد من ذلك إلا ما لا يعبأ به، قال الحافظ: كأنه يشير إلى حديث يحيى بن عبيدالله عن أبيه عن أبي هريرة يرفعه: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير فهو كفارته ويحيى ضعيف جدا. وقد وقع في حديث عدي بن حاتم عند مسلم ما يوهم ذلك، فإنه أخرجه
[ 138 ]
عنه بلفظ: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليترك يمينه هكذا أخرجه من وجهين ولم يذكر الكفارة، ولكن أخرجه من وجه آخر بلفظ: فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو خير ومداره في الطرق كلها على عبد العزيز بن رفيع عن تميم بن طرفة عن عدي، والذي زاد ذلك حافظ فهو المعتمد. قوله: كان الرجل يقوت أهله الخ فيه أن الاوسط المنصوص عليه في الآية الكريمة هو المتوسط ما بين قوت الشدة والسعة. قوله: إنهما قرآ: فصيام ثلاثة أيام متتابعات قراءة الآحاد منزلة منزلة أخبار الآحاد صالحة لتقييد المطلق وتخصيص العام كما تقرر في الاصول، وخالف في وجوب التتابع عطاء ومالك والشافعي والمحاملي. [ رك ] كتاب النذر [ رم ] باب نذر الطاعة مطلقا ومعلقا بشرط عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه رواه الجماعة إلا مسلما. وعنابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن النذر وقال: إنه لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من البخيل رواه الجماعة إلا الترمذي. وللجماعة إلا أبا داود مثل معناه من رواية أبي هريرة. لفظ حديث أبي هريرة: لا يأتي ابن آدم النذر بشئ لم أكن قدرته ولكن يلقيه النذر إلى القدر فيستخرج الله فيؤتيني عليه ما لم يكن يؤتيني عليه من قبل أي يعطيني. قوله: فليطعه الطاعة أعم من أن تكون واجبة أو غير واجبة، ويتصور النذر في الواجب بأن يؤقته كمن ينذر أن يصلي الصلاة في أول وقتها فيجب عليه ذلك بقدر ما أقته. وأما المستحب من جميع العبادات المالية والبدنية فينقلب بالنذر واجبا، ويتقيد بما قيد به الناذر، والخبر صريح في الامر بالوفاء بالنذر إذا كان في طاعة، وفي النهي عن الوفاء به إذا كان في معصية، وهل تجب في الثاني كفارة يمين أولا؟
[ 139 ]
فيه خلاف يأتي إن شاء الله. قوله: إنه لا يرد شيئا فيه إشارة إلى تعليل النهي عن النذر. وقد اختلف العلماء في هذا النهي، فمنهم من حمله على ظاهره، ومنهم من تأوله، قال ابن الاثير في النهاية: تكرر النهي عن النذر في الحديث وهو تأكيد لامره وتحذير عن التهاون به بعد إيجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك إبطال حكمه وإسقاط لزوم الوفاء به، إذ يصير بالنهي معصية فلا يلزم، وإنما وجه الحديث أنه قد أعلمهم أن ذلك الامر لا يجر إليهم في العاجل نفعا ولا يصرف عنهم ضررا ولا يغير قضاء فقال: لا تنذروا على أنكم تدركون بالنذر شيئا لم يقدر الله لكم أو تصرفون به عنكم ما قدره عليكم، فإذا نذرتم فاخرجوا بالوفاء فإن الذي نذرتموه لازم لكم انتهى. وقال أبو عبيد: النهي عن النذر والتشديد فيه ليس هو أن يكون مأثما، ولو كان كذلك ما أمر الله تعالى أن يوفى به ولا حمد فاعله، ولكن وجهه عندي تعظيم شأن النذر وتغليظ أمره لئلا يستهان بشأنه فيفرط في الوفاء به ويترك القيام به. ثم استدل على الحث على الوفاء به من الكتاب والسنة، وإلى ذلك أشار المازري بقوله: ذهب بعض علمائنا إلى أن الغرض بهذا الحديث التحفظ في النذر قال: وهذا عندي بعيد من ظاهر الحديث. ويحتمل عندي أن يكون وجه الحديث أن الناذر يأتي بالقربة مستثقلا لها لما صارت عليه ضربة لازب وكل ملزوم فإنه لا ينشط للفعل نشاط مطلق الاختيار، ويحتمل أن يكون سببه أن الناذر لما لم يب ذل القربة إلا بشرط أن يفعل له ما يريد صار كالمعاوضة التي تقدح في نية المتقرب، قال: ويشير إلى هذا التأويل قوله: إنه لا يأتي بخير. وقوله: إنه لا يقرب من ابن آدم شيئا لم يكن الله قدره له وهذا كالنص على هذا التعليل انتهى. والاحتمال الاول يعم أنواع النذر. والثاني يخص نوع المجازاة. وزاد القاضي عياض فقال: إن الاخبار بذلك وقع على سبيل الاعلام من أنه لا يغالب القدر ولا يأتي الخير بسببه، والنهي عن اعتقاد خلاف ذلك خشية أن يقع ذلك في ظن بعض الجهلة، قال: ومحصل مذهب الامام مالك أنه مباح إلا إذا كان مؤبدا لتكرره عليه في أوقات فقد يثقل عليه فعله، فيفعله بالتكلف من غير طيبة نفس وخالص نية. قوله: إنه لا يرد شيئا يعني مما يكرهه الناذر وأوقع النذر استدفاعا له، وأعم من هذه الرواية ما في البخاري وغيره بلفظ: إنه لا يأتي بخير فإنه قد ينظر استجلابا لنفع أو استدفاعا
[ 140 ]
لضرر، والنذر لا يأتي بذلك المطلوب، وهو الخير الكائن في النفع أو الخير الكائن في اندفاع الضرر. قا الخطابي في الاعلام: هذا باب من العلم غريب وهو أن ينهى عن فعل شئ حتى إذا فعل كان واجبا. وقد ذهب أكثر الشافعية ونقل عن نص الشافعي أن النذر مكروه، وكذعن المالكية وجزم الحنابلة بالكراهة. وقال النووي: إنه مستحب صرح بذلك في شرح المهذب وروي ذلك عن القاضي حسين والمتولي والغزالي، وجزم القرطبي في المفهم بحمل ما ورد في الاحاديث من النهي على نذر المجازاة فقال: هذا النهي محله أن يقول مثلا: إن شفى الله مريضي فعلي صدقة. ووجه الكراهة أنه لما وقف فعل القربة المذكورة على حصول الغرض المذكور ظهر أنه لم يتمحض له نية التقرب إلى الله تعالى بما صدر منه بل سلك فيها مسلك المعاوضة، ويوضحه أنه لو لم يشف مريضه لم يتصدق بما علقه على شفائه، وهذه حالة البخيل فإنه لا يخرج من ماله شيئا إلا بعوض عاجل يزيد على ما أخرج غالبا، وهذا المعنى هو المشار إليه بقوله: إنما يستخرج به من البخيل قال: وقد ينضم إلى هذا اعتقاد جاهل يظن أن النذر يوجب حصول ذلك الغرض، أو أن الله تعالى يفعل معه ذلك الغرض لاجل ذلك النذر، وإليهما الاشارة في الحديث بقوله: فإنه لا يرد شيئا والحالة الاولى تقارب الكفر والثانية خطأ صريح. قال الحافظ: بل تقرب من الكفر. ثم نقل القرطبي عن العلماء حمل النهي الوارد في الخبر على الكراهة قال: والذي يظهر لي أنه على التحريم في حق من يخاف عليه ذلك الاعتقاد الفاسد فيكون إقدامه على ذلك محرما، والكراهة في حق من لم يعتقد ذلك. قال الحافظ: وهو تفصيل حسن، ويؤيده قصة ابن عمر راوي الحديث في النهي عن النذر فإنها في نذر المجازاة. وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن قتادة في قوله تعالى: * (يوفون بالنذر) * (الانسان: 7) قال: كانوا ينذرون طاعة الله تعالى من الصلاة والصيام والزكاة والحج والعمرة وما افترض عليهم فسماهم الله تعالى أبرارا، وهذا صريح في أن الثناء وقع في غير نذر المجازاة، وقد يشعر التعبير بالبخيل أن المنهي عنه من النذر ما فيه مال فيكون أخص من المجازاة، لكن قد يوصف بالبخل من تكاسل عن الطاعة كما في الحديث المشهور: البخيل من ذكرت عنده فلم يصل علي أخرجه النسائي وصححه ابن حبان، أشار إلى ذلك العراقي في شرح الترمذي. وقد نقل القرطبي
[ 141 ]
الاتفاق على وجوب الوفاء بنذر المجازاة لقوله: من نذر أن يطيع الله فليطعه ولم يفرق بين المعلق وغيره. قال الحافظ: والاتفاق الذي ذكره مسلم، لكن في الاستدلال بالحديث المذكور لوجوب الوفاء بالنذر المعلق نظر. قلت: لا نظر إذا لم يصحبه اعتقاد فاسد، لان إخراج المال في القرب طاعة والبخيل يحرص على المال فلا يخرجه إلا في نحو نذر المجازاة، ولا تتيسر طاعته المالية إلا بمثل ذلك أو ما لا بد له منه كالزكاة والفطرة، فلو لم يلزمه الوفاء لاستمر على نخله ولم يتم الاستخراج المذكور. باب ما جاء في نذر المباح والمعصية وما أخرج مخرج اليمين عن ابن عباس قال: بينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب إذ هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم وأن يصوم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه رواه البخاري وابن ماجة وأبو داود. [ رح 3835 ] وعن ثابت بن الضحاك: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ليس على الرجل نذر فيما لا يملك متفق عليه. [ رح 3836 ] وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله تعالى رواه أحمد وأبو داود. وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نظر إلى أعرابي قائما في الشمس وهو يخطب فقال: ما شأنك؟ قال: نذرت يا رسول الله أن لا أزال في الشمس حتى تفرغ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليس هذا نذرا إنما النذر ما ابتغي به وجه الله رواه أحمد. وعن سعيد بن المسيب: أن أخوين من الانصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال: إن عدت تسألني القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة، فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك كفر عن يمينك وكلم أخاك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك رواه أبو داود. وعن ثابت بن الضحاك: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة، فقال:
[ 142 ]
أكان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ قالوا لا، قال: فهل كان فيهاعيد من أعيادهم؟ قالوا لا، قال: أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية اللولا فيما لا يملك ابن آدم رواه أبو داود. وعن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين رواه الخمسة واحتج به أحمد وإسحاق. [ رح 3840 ] وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين رواه أبو داود. وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كفارة النذر كفارة يمين رواه أحمد ومسلم. حديث عمرو بن شعيب أخرجه أيضا البيهقي، وأورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه. وقد أخرجه بلفظ أحمد الطبراني. قال في مجمع الزوائد: فيه عبد الله بن نافع المدني وهو ضعيف، ولم يكن في إسناد أبي داود لانه أخرجه عن أحمد بن عبدة الضبي عن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وحديث سعيد بن المسيب حديث صالح سكت عنه أبو داود والحافظ وهو من طريق عمرو ابن شعيب ولكن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر بن الخطاب فهو منقطع. وروي نحوه عن عائشة: أنها سئلت عن رجل جعل ماله في رتاج الكعبة إن كلم ذا قرابة، فقالت: يكفر عن اليمين أخرجه مالك والبيهقي بسند صحيح وصححه ابن السكن. وحديث ثابت بن الضحاك أخرجه أيضا الطبراني وصحح الحافظ إسناده، وأخرج نحوه أبو داود من وجه آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا، ورواه ابن ماجة من حديث ابن عباس، ورواه أحمد في مسنده من حديث عمرو بن شعيب عن ابنة كردم عن أبيها بنحوه. وفي لفظ لابن ماجة عن ميمونة بنت كردم. وحديث عائشة قال الترمذي بعد إخراجه: لا يصح لان الزهري لم يسمع هذا الحديث من أبي سلمة وكذلك قال غيره قالوا: وإنما سمعه من سليمان بن أرقم وسليمان متروك. وقال أحمد: ليس بشئ ولا يساوي فلسا. وقال البخاري: تركوه وتكلم فيه جماعة أيضا منهم عمرو بن علي وأبو داود وأبو زرعة والنسائي وابن حبان والدارقطني. وقال الخطابي: لو صح هذا الحديث لكان القول به واجبا والمصير إليه لازما، إلا أن أهل المعرفة بالحديث زعموا أنه حديث مقلوب وهم فيه سليمان بن الارقم. ورواه النسائي والحاكم والبيهقي من
[ 143 ]
حديث عمران بن حصين ومداره على محمد بن الزبير الحنظلي عن أبيه عنه ومحمد ليس بالقوي وقد اختلف عليه فيه. ورواه ابن المبارك عن عبد الوارث عن أبيه أن رجلا حدثه أنه سأل عمران بن الحصين فذكره وفيه رجل مجهول. ورواه أحمد وأصحاب السنن والبيهقي من رواية الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال الحافظ: وإسناده صحيح إلا أنه معلول بأنه منقطع وذلك لان الزهري لم يروه عن أبي سلمة. ورواه ابن ماجة من حديث سليمان بن بلال عن حرشي بن عتبة ومحمد بن أبي عتيق عن الزهري عن سليمان بن أرقم عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن الزبير الحنظلي عن أبيه عن عمران فرجع إلى الرواية الاولى. ورواه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن رجل من بني حنيفة وأبي سلمة كلاهما عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو مع كونه مرسلا، فالحنفي هو محمد بن الزبير المتقدم قاله الحاكم. وقال: إن قوله من بني حنيفة تصحيف، وإنما هو من بني حنظلة. وله طريق أخرى عن عائشة عند الدارقطني من رواية غالب بن عبد الله الجزري عن عطاء عن عائشة مرفوعا بلفظ: من جعل عليه نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين وغالب متروك، وله طريق أخرى عند أبي داود من حديث كريب عن ابن عباس وإسنادها حسن فيها طلحة بن يحيى وهو مختلف فيه. وقال أبو داود موقوفا يعني وهو أصح. وقال النووي في الروضة: حديث لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين ضعيف باتفاق المحدثين. قال الحافظ: قلت قد صححه الطحاوي وأبو علي بن السكن فأين الاتفاق؟ وحديث ابن عباس قد تقدمت الاشارة إليه أنه من طريق كريب عنه، ولفظه في سنن أبي داود عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا أطاقه فليف به وسيأتي. وقد تقدم أنه موقوف على ابن عباس وأن الموقوف أصح. وأخرجه ابن ماجة وفي إسناد ابن ماجة من لا يعتمد عليه، وليس فيه من نذر نذرا في معصية. قوله: أبو إسرائيل قال الخطيب: هو رجل من قريش ولا يشاركه أحد من الصحابة في كنيته. واختلف في اسمه فقيل قشير بقاف وشين معجمة مصغرا. وقيل بسير
[ 144 ]
بمهملة مصغرا. وقيل قيصر باسم ملك الروم. وقيل بالسين المهملة بدل الصاد. وقد جزم ابن الاثير وغيره بأنه من الصحابة، وفيه دليل على أن كل شئ يتأذى به الانسان مما لم يرد بمشروعيته كتاب ولا سنة كالمشي حافيا والجلوس في الشمس ليس من طاعة الله تعالى فلا ينعقد النذر به، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر أبا إسرائيل في هذا الحديث بإتمام الصوم دون غيره، وهو محمول على أنه علم أنه لا يشق عليه. قال القرطبي في قصة أبي إسرائيل: هذا أعظم حجة للجمهور في عدم وجوب الكفارة على من نذر معصية أو ما لا طاعة فيه. قال مالك: لم أسمع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمره بكفارة. قوله: ليس على الرجل نذر فيما لا يملك فيه دليل على ان من نذر بما لا يملك لا ينفذ نذره، وكذلك من نذر بمعصية كما في بقية أحاديث الباب. واختلف في النذر بمعصية هل تجب فيه الكفارة أم لا؟ فقال الجمهور: لا. وعن أحمد والثوري وإسحاق وبعض الشافعية والحنفية نعم. ونقل الترمذي اختلاف الصحابة في ذلك، واتفقوا على تحريم النذر في المعصية، واختلافهم إنما هو في وجوب الكفارة، واحتج من أوجبها بحديث عائشة المذكور في الباب وما ورد في معناه، وأجيب بأن ذلك لا ينتهض للاحتجاج لما سبق من المقال. واحتج أيضا بما أخرجه مسلم من حديث عقبة بن عامر بلفظ: كفارة النذر كفارة اليمين لان عمومه يشمل نذر المعصية، وأجيب بأن فيه زيادة تمنع العموم، وهي أن الترمذي وابن ماجة أخرجا حديث عقبة بلفظ: كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين هذا لفظ الترمذي. ولفظ ابن ماجة: من نذر نذرا لم يسمه. وحديث ابن عباس المذكور في الباب أيضا قد سبق ما فيه من المقال. (واستدل بأحاديث الباب) على أنه يصح النذر في المباح لانه لما نفى النذر في المعصية بقي ما عداه ثابتا. ويدل على أن النذر لا ينعقد في المباح الحديث المذكور في أول الباب عن ابن عباس، والحديث الذي فيه: إنما النذر ما يبتغى به وجه الله. ومن جملة ما استدل به على أنه يلزم الوفاء بالنذر المباح قصة التي نذرت الضرب بالدف، وأجاب البيهقي بأنه يمكن أن يقال: إن من قسم المباح ما قد يصير بالقصد مندوبا كالنوم في القائلة للتقوي على قيام الليل، وأكلة السحر للتقوي على صيام النهار فيمكن أن يقال: إن إظهار الفرح بعود النبي صلى الله عليه وآله وسلم سالما معنى مقصود يحصل به الثواب. قوله: في رتاج الكعبة
[ 145 ]
بمهملة فمثناة فوقية فجيم بعد ألف هو في اللغة الباب، وكنى به هنا عن الكعبة نفسها. قوله: ببوانة بضم الموحدة وبعد الالف نون قال في التلخيص: موضع بين الشام وديار بكر قاله أبو عبيدة. وقال البغوي: أسفل مكة دون يلملم. وقال المنذري: هضبة من وراء ينبع ومثله في النهاية. وسيأتي الكلام على حديث ثابت بن الضحاك. باب من نذر نذرا لم يسمه ولا يطيقه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين رواه ابن ماجة والترمذي وصححه. وعن ابن عباس: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من نذر نذرا ولم يسمه فكفارته كفارة يمين. ومن نذر نذرا لم يطقه فكفارته كفارة يمين رواه أبو داود وابن ماجة وزاد: ومن نذر نذرا أطاقه فليف به. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى شيخا يهاد بين ابنيه فقال: ما هذا؟ قالوا: نذر أن يمشي، قال: إن الله عن تعذيب هذنفسه لغني وأمره أن يركب رواه الجماعة إلا ابن ماجة. وللنسائي في رواية: نذر أن يمشي إلى بيت الله. [ رح 3845 ] وعن عقبة بن عامر قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستفتيته فقال: لتمش ولتركب متفق عليه. ولمسلم فيه: حافية غير مختمرة. وفي رواية: نذرت أختي أن تمشي إلى الكعبة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله لغني عن مشيها لتركب ولتهد بدنة رواه أحمد. وفي رواية: أن أخته نذرت أن تمشي حافية غير مختمرة فسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا مرها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام رواه الخمسة. وعن كريبعنابن عباس قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله إن أختي نذرت أن تحج ماشية فقال: إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا لتخرج راكبة ولتكفر عن يمينها رواه أحمد وأبو داود. وعن عكرمة عن ابن عباس: أن عقبة بن عامر سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن أخته نذرت أن تمشي إلى البيت وشكا إليه ضعفها فقال النبي صلى الله عليه
[ 146 ]
وآله وسلم: إن الله غني عن نذر أختك فلتركب ولتهد بدنة رواه أحمد. وفي لفظ أن أخت عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى البيت وأنها لا تطيق ذلك فأمرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تركب وتهدي هديا رواه أبو داود. حديث عقبة الاول هو فصحيح مسلم بدون زيادة إذا لم يسم. وأخرجه أيضا أبو داود والنسائي. وحديث ابن عباس الاول قال الحافظ في بلوغ المرام: إسناده صحيح إلا أن الحفاظ رجحوا وقفه وقد تقدم الكلام عليه. والرواية الاخرى من حديث عقبة التي فيها، ولتصم ثلاثة أيام حسنها الترمذي ولكن في إسنادها عبد الله بن زحر وقد تكلم فيه غير واحد من الائمة. وحديث كريب عن ابن عباس سكت أيضا عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح. وحديث عكرمة عن ابن عباس سكت أيضا عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح. قال الحافظ في التلخيص: إسناده صحيح، والرواية الاخرى أوردها أبو داود وسكت عنها هو والمنذري. قوله: لم يسم فيه دليل على أن كفارة اليمين إنما تجب فيما كان من النذور غير مسمى. قال النووي: اختلف العلماء في المراد بهذا الحديث فحمله جمهور أصحابنا على نذر اللجاج، فهو مخير بين الوفاء بالنذر أو الكفارة، وحمله مالك وكثيرون أو الاكثرون على النذر المطلق كقوله: علي نذر. وحمله جماعة من فقهاء الحديث على جميع أنواع النذر وقالوا: هو مخير في جميع أنواع المنذورات بين الوفاء بما التزم وبين كفارة اليمين انتهى. والظاهر اختصاص الحديث بالنذر الذي لم يسم لان حمل المطلب على المقيد واجب. وأما النذور المسماة إن كانت طاعة، فإن كانت غير مقدورة ففيها كفارة يمين، وإن كانت مقدورة وجب الوفاء بها، سواء كانت متعلقة بالبدن أو بالمال، وإن كانت معصية لم يجز الوفاء بها ولا ينعقد ولا يلزم فيها الكفارة، وإن كانت مباحة مقدورة فالظاهر الانعقاد ولزوم الكفارة لوقوع الامر بها في أحاديث الباب في قصة الناذرة بالمشي، وإن كانت غير مقدورة ففيها الكفارة لعموم: ومن نذر نذرا لم يطقه هذا خلاصة، ما يستفاد من الاحاديث الصحيحة. وقال ابن رشد في نهاية المجتهد ما حاصله: أنه وقع الاتفاق على لزوم النذر بالمال إذا كان في سبيل البر وكان على جهة الخبر، وإن كان على جهة الشرط فقال مالك: يلزم كالخبر ولا كفارة يمين في ذلك، إلا أنه إذا نذر بجميع ماله لزمه ثلث ماله إذا كان مطلقا وإن كان معينا لزمه، وإن كان جميع ماله أو
[ 147 ]
أكثر من الثلث. وسيأتي الخلاف فيمن نذر بجميع ماله. قال: وإذا كان النذر مطلقا أي غير مسمى ففيه الكفارة عند كثير من العلماء. وقال قوم: فيه كفارة الظهار. وقال قوم: فيه أقل ما ينطلق عليه الاسم من القرب صيام يوم أو صلاة ركعتين. قوله: ومن نذر نذرا لم يطقه فكفارته كفارة يمين ظاهره سواء كان المنذور به طاعة أو معصية أو مباحا إذا كان غير مقدور ففيه الكفارة، إلا أنه يخص من هذا العموم ما كان معصية بما تقدم ويبقى ما كان طاعة أو مباحا، وسواء كان غير مقدور شرعا أو عقلا أو عادة. قوله: ومن نذر نذرا أطاقه الخ ظاهره العموم، ولكنه يخص منه نذر المعصية بما سلف، وكذلك نذر المباح بلزوم الكفارة. وأما النذر الذي لم يسم فغير داخل في عموم الطاقة وعدمها، لان اتصاف النذر بأحد الوصفين فرع معرفته وما لم يسم لم يعرف. قوله: لتمش ولتركب فيه أن النذر بالمشي ولو إلى مكان المشي إليه طاعة، فإنه لا يجب الوفاء به بل يجوز الركوب، لان المشي نفسه غير طاعة، إنما الطاعة الوصول إلى ذلك المكان كالبيت العتيق من غير فرق بين المشي والركوب، ولهذا سوغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الركوب للناذرة بالمشي، فكان ذلك دالا على عدم لزوم النذر بالمشي وإن دخل تحت الطاقة. قال في الفتح: وإنما أمر الناذرة في حديث أنس أن تركب جزما، وأمر أخت عقبة أن تمشي وأن تركب، لان الناذر في حديث أنس كان شيخا ظاهر العجز، وأخت عقبة لم توصف بالعجز، فكأنه أمرها أن تمشي إن قدرت وتركب إن عجزت، وبهذا ترجم البيهقي للحديث، وأورد في بعض طرقه من رواية عكرمة عن ابن عباس ما ذكره المصنف رحمه الله. وأخرج الحاكم من حديث ابن عباس بلفظ: جاء رجل فقال: يا رسول الله إن أختي حلفت أن تمشي إلى البيت وأنه يشق عليها المشي فقال: مرها فلتركب إذا لم تستطع أن تمشي، فما أغنى الله أن يشق على أختك وأحاديث الباب مصرحة بوجوب الكفارة. ونقل الترمذي عن البخاري أنه لا يصح فيه الهدي. وقد أخرج الطبراني من طريق أبي تميم الجيشاني عن عقبة بن عامر في هذه القصة: نذرت أن تمشي إلى الكعبة حافية حاسرة وفيه: لتركب ولتلبس ولتصم. وللطحاوي من طريق أبي عبد الرحمن الحبلي عن عقبة نحوه. وأخرج البيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة: بينما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسير في جوف الليل إذ بصر بخيال ففرت منه الابل فإذا امرأة عريانة ناقضة
[ 148 ]
شعرها فقالت: نذرت أن أحج عريانة ناقضة شعري، فقال: مرها فلتلبس ثيابها ولتهرق دما وأورد من طريق الحسن عن عمران رفعه: إذا نذر أحدكم أن يحج ماشيا فليهد هديا وليركب وفي سنده انقطاع. وقد استدل بهذه الاحاديث على صحة النذر بإتيان البيت الحرام لغير حج ولا عمرة. وعن أبي حنيفة: إذا لم ينو حجا ولا عمرة لم ينعقد، ثم إن نذره راكبا لزمه، فلو مشى لزمه دم لتوفر مؤنة الركوب، وإن نذر ماشيا لزمه من حيث أحرم إلى أن ينتهي الحج أو العمرة، ووافقه صاحباه فإن ركب لعذر أجزأه ولزم دم. وفي أحد القولين عن الشافعي مثله. واختلف هل يلزم بدنة أو شاة؟ وإن ركب بلا عذر لزمه الدم؟ وعن المالكية في العاجز يرجع من قابل فيمشي ما ركب إلا أن يعجز مطلقا فيلزمه الهدي. وعن عبد الله بن الزبير لا يلزمه شئ مطلقا. قال القرطبي: زيادة الامر بالهدي رواتها ثقات. وعن الهادوية أنه لا يجوز الركوب مع القدرة على المشي، فإذا عجز جاز الركوب ولزمه دم، قالوا: لان الرواية وإن جاءت مطلقة فقد قيدت برواية العجز، ولا يخفى ما في أكثر هذه التفاصيل من المخالفة لصريح الدليل، ويرد قول من قال: بأنه لا كفارة مع العجز، وتلزم مع عدمه ما وقع في حديث عكرمة عن ابن عباس وفي الرواية التي بعده فإنهما مصرحان بوجوب الهدي مع ذكر ما يدل على العجز من الضعف وعدم الطاقة، والرجل المذكور في حديث أنه يهادي بين ابنيه قيل هو أبو إسرائيل المذكور في الباب الاول، روي ذلك عن الخطيب حكى ذلك عنه مغلطاي. قال الحافظ: وهو تركيب منه، وإنما ذكر الخطيب ذلك في رجل آخر مذكور في حديث لابن عباس. باب من نذر وهو مشرك ثم أسلم أو نذر ذبحا في موضع معين عن عمر قال: نذرت نذرا في الجاهلية فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ما أسلمت فأمرت أن أوفي بنذري رواه ابن ماجة. وعن كردم بن سفيان: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نذر نذره في الجاهلية فقال له: ألوثن أو لنصب؟ قال: لا ولكن لله، فقال: أوف لله ما جعلت له، انحر على بوانة وأوف
[ 149 ]
بنذرك رواه أحمد. وعن ميمونة بنت كردم قالت: كنت ردف أبي فسمعته يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلفقال: يا رسول الله إني نذرت أن أنحر ببوانة قال: أبها وثن أو طاغية؟ قال، قال: أوف بنذرك رواه أحمد وابن ماجة. وفي لفظ لاحمد: إني نذرت أن أنحر عددا من الغنم وذكر معناه وفيه دلالة على جواز نحر ما يذبح. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أنحر بمكان كذاوكذا مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية، قال: لصنم؟ قالت: لا، قال: لوثن؟ قالت: لا؟ قال: أوفي بنذرك رواه أبو داود. حديث عمر رجال إسناده في سنن ابن ماجة رجال الصحيح، وهذا اللفظ لعله أحد روايات حديثه الصحيح المتفق عليه بلفا أنه قال: قلت يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، قال: أوف بنذرك وزاد البخاري في رواية فاعتكف وحديث ميمونة بنت كردم رجال إسناده في سنن ابن ماجة رجال الصحيح، وعبد الله بن عبد الرحمن الطائفي قد أخرج له مسلم، وقال فيه يحيى بن معين صالح، وقال أبو حاتم ليس بالقوي، وقال في التقريب صدوق يخطئ. وقد أخرجه ابن ماجة من طريق أخرى من حديث ابن عباس وبقية أحاديث الباب قد تقدم تخريج بعضها في باب ما جاء في نذر المباح عند ذكر المصنف رحمه الله لحديث ثابت بن الضحاك الذي بمعناها هنالك. وفي حديث عمر دليل على أنه يجب الوفاء بالنذر من الكافر متى أسلم، وقد ذهب إلى هذا بعض أصحاب الشافعي. وعند الجمهور ولا ينعقد النذر من الكافر، وحديث عمر حجة عليهم، وقد أجابوا عنه بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما عرف أن عمر قد تبرع بفعل ذلك أذن له به لان الاعتكاف طاعة، ولا يخفى ما في هذا الجواب من مخالفة الصواب. وأجاب بعضهم بأنه صلى الله عليه وآله وسلم أمره بالوفاء استحبابا لا وجوبا، ويرد بأن هذا الجواب لا يصلح لمن ادعى عدم الانعقاد. وقد تقدم الكلام على حديث عمر في باب الاعتكاف. قوله: كردم بفتح الكاف والدال، وفيه دليل على أنه يجب الوفاء بالنذر في المكان المعين إذا لم يكن في التعيين معصية ولا مفسدة من اعتقاد تعظيم جاهلية أو نحوه. وبوانة قد تقدم ضبطه وتفسيره. قوله: قال لصنم؟ قالت: لا، قال: لوثن؟ قال في النهاية: الفرق بين الوثن والصنم أن الوثن كل ما له جثة معمولة
[ 150 ]
من جواهر الارض أو من الخشب والحجارة كصورة الآدمي تعمل وتنصب فتعبد، والصنم الصورة بلا جثة، ومنهم من لم يفرق بينهما وأطلقهما على المعنيين، وقد يطلق الوثن على غير الصورة، ومنه حديث عدي بن حاتم: قدمت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي عنقي صليب من ذهب فقال: ألق هذا الوثن عنك انتهى. باب ما يذكر فيمن نذر الصدقة بماله كله عن كعببن مالك أنه قال: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك، قال قلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر متفق عليه. وفي لفظ قال: قلت يرسول الله إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله إلى الله ورسوله صدقة، قال: لا، قلت: فنصفه؟ قال: لا، قلت: فثلثه؟ قال: نعم، قلت: فإني سأمسك سهمي من خيبر رواه أبو داود. وعن الحسين بن السائب بن أبي لبابة: أن أبا لبابة بن عبد المنذر لما تاب الله عليه قال: يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي وأساكنك وأن أنخلع من مالي صدقة لله عزوجل ولرسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يجزي عنك الثلث رواه أحمد. رواية أبي داود في إسنادها محمد بن إسحاق وفيه مقال معروف. وحديث أبي لبابة أورده الحافظ في الفتح وعزاه إلى أحمد وأبي داود وسكت عنه. وأخرج أبو داود من طريق أبي عيينة عن الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر الحديث وفيه: وأن أنخلع من مالي كله صدقة، قال: يجزي عنه الثلث. قوله: أن أنخلع بنون وخاء معجمة أي أعرى من مالي كما يعرى الانسان، إذا خلع ثوبه. وقد اختلف السلف فيمن نذر أن يتصدق بجميع ماله على عشرة مذاهب. الاول: أنه يلزمه الثلث فقط لهذا الحديث قاله مالك، ونوزع في أن كعب بن مالك لم يصرح بلفظ النذر وبمعناه، بل يحتمل أنه نجز النذر، ويحتمل أن يكون أراده فاستأذن، والانخلاع الذي ذكره ليس بظاهر في صدور النذر منه وإنما الظاهر أنه أراد أن يؤكد أمر توبته بالتصدق بجميع ما يملك شكرا لله تعالى على ما أنعم به عليه. قال
[ 151 ]
ابن المنير: لم يبتت كعب الانخلاع بل استشار هل يفعل أم لا؟ قال الحافظ: ويحتمل أن يكون استفهم وحذفت أداة الاستفهام. ومن ثم كان الراجح عند الكثير من العلماء وجوب الوفاء ممن التزم أن يتصدق بجميع ماله إذا كان على سبيل القربة. وقيل: إن كان مليا لزمه، وإن كان فقيرا فعليه كفارة يمين وهذا قول الليث، ووافقه ابن وهب وزاد: وإن كان متوسطا يخرج قدر زكاة ماله. والاخير عن أبي حنيفة بغير تفصيل وهو قول ربيعة. وعن الشعبي وابن أبي ليلى: لا يلزمه شئ أصلا. وعن قتادة يلزم الغنية العشر والمتوسط السبع والمملق الخمس. وقيل: يلزم الكل إلا في نذر اللجاج فكفارة يمين. وعن سحنون يلزمه أن يخرج ما لا يضر به. وعن الثوري والاوزاعي وجماعة يلزمه كفارة يمين بغير تفصيل. وعن النخعي يلزمه الكل بغير تفصيل، وإذا تقرر ذلك فقد دل حديث كعب أنه يشرع لمن أراد التصدق بجميع ماله أن يمسك بعضه ولا يلزم من ذلك أنه لو نجزه لم ينفذ. وقيل: إن التصدق بجميع المال يختلف باختلاف الاحوال، فمن كان قويا على ذلك يعلم من نفسه الصبر لم يمنع وعليه يتنز فعل أبي بكر الصديق وإيثار الانصار على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن لم يكن كذلك فلا، وعليه يتنزل لا صدقة إلا عن ظهر غني، وفي لفظ: أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غني. باب ما يجزي من عليه عتق رقبة مؤمنة بنذر أو غيره [ رح 3855 ] عن عبيدالله بن عبد الله عن رجل من الانصار: أنه جاء بأمة سوداء فقال: يا رسول الله إن علي عتق رقبة مؤمنة فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت نعم، قال: أتشهدين أني رسول الله؟ قالت نعم، قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ قالت نعم، قال: فأعتقها. وعن أبي هريرة: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجارية سوداء أعجمية فقال: يا رسول الله إن علي عتق رقبة مؤمنة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أين الله؟ فأشارت إلى السماء بأصبعها، فقالها: من أنا؟ فأشارت بأصبعها إلى رسول الله وإلى السماء أي أنت رسول الله فقال: أعتقها رواهما أحمد.
[ 152 ]
حديث عبيدالله بن عبد الله رواه أحمد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عبيدالله بن عبد الله عن رجل من الانصار، وهذا إسناد رجاله أئمة، وجهالة الصحابي مغتفرة كما تقرر في الاصول. وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا أبو داود من حديث عون بن عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة: أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجارية سوداء الحديث. وأخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عون بن عبد الله بن عتبة: حدثني أبي عن جدي فذكره، وفي اللفظ مخالفة كثيرة، وسياق أبي داود أقرب إلى السياق الذي في الباب. وروى نحوه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان من حديث الشريد بن سويد، وأخرجه الطبراني في الاوسط من طريق ابن أبي ليلى عن المنهال، والحكم عن سعيد عن ابن عباس بنحو حديث أبي هريرة المذكور في الباب. ومن ذلك حديث معاوية بن الحكم السلمي المشهور. قوله: إن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها إلى آخر ما في الحديثين، استدل بالحديثين على أنه لا يجزي في كفارة اليمين إلا رقبة مؤمنة، وإن كانت الآية الواردة في كفارة اليمين لم تدل على ذلك لانه قال تعالى: * (أو تحرير رقبة) * (المائدة: 89) بخلاف آية كفارة القتل فإنها قيدت بالايمان. قال ابن بطال: حمل الجمهور ومنهم الاوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق المطلق على المقيد كما حملوا المطلق في قوله تعالى: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) * (البقرة: 282) على المقيد في قوله تعالى: * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) * (الطلاق: 2) وخالف الكوفيون فقالوا: يجوز إعتاق الكافر، ووافقهم أبو ثور وابن المنذر واحتج له في كتابه الكبير بأن كفارة القتل مغلظة بخلاف كفارة اليمين، ومما يؤيد القول الاول أن المعتق للرقبة المؤمنة آخذ بالاحوط، بخلاف المكفر بغير المؤمنة فإنه في شك من براءة الذمة. باب أن من نذر الصلاة في المسجد الاقصى أجزأه أن يصلي في مسجد مكة والمدينة عن جابر أن رجلا قال يوم الفتح: يا رسول الله إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس، فقال: صل ههنا، فسأله فقال: صل ههنا، فسأله فقال: شأنك إذن رواه
[ 153 ]
أحمد وأبو داود، ولهما عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الخبر وزاد: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: والذي بعث محمدا بالحق لو صليت ههنا لقضى عنك ذلك كل صلاة في بيت المقدس. وعنابن عباس: أن امرأة شكت شكوى فقالت: إن شفاني الله فلاخرجن فلاصلين في بيت المقدس فبرأت ثم تجهزت تريد الخروج فجاءت ميمونة تسلم عليها فأخبرتها بذلك فقالت: اجلسي فكلي ما صنعت وصلي في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا مسجد الكعبة رواه أحمد ومسلم. وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام رواه الجماعة إلا أبا داود. ولاحمد وأبي داود من حديث جابر مثله وزاد: وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه. وكذلك لاحمد من حديث عبد الله بن الزبير مثل حديث أبي هريرة وزاد: وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في هذا. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الاقصى متفق عليه. ولمسلم في رواية: إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد. حديث جابر أخرجه أيضا البيهقي والحاكم وصححه. وصححه أيضا ابن دقيق العيد في الاقتراح. وحديث بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم سكت عنه أبو داود والمنذري وله طرق رجال بعضها ثقات، وقد تقرر أن جهالة الصحابي لا تضر. وقيل إنه روى الحديث عن عبد الرحمن بن عوف وعن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وحديث جابر الآخر رواه أحمد من حديث أحمد بن عبد الملك حدثنا عبد الله بن عمرو عن عبد الكريم الجزري عن عطاء عن جابر رفعه: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه قال الحافظ: وإسناده صحيح إلا أنه اختلف فيه على عطاء. وحديث عبد الله بن الزبير أخرجه أيضا ابن حبان والبيهقي ولفظه: صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه
[ 154 ]
من المساجد إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي وفي الباب عن جابر أيضا عند ابن عدي بلفظ: الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة وإسناده ضعيف لانه من حديث يحيى بن أبي حية عن عثمان بن الاسود عن مجاهد عن جابر. وفي الباب أيضا من حديث أبي الدرداء مرفوعا عن الطبراني في الكبير: الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألف صلاة، والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة وعن أبي ذر عند الدارقطني في العلل والحاكم في المستدرك: صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات في بيت المقدس. وعند ابن ماجة من حديث ميمونة بنت سعد: بأن الصلاة في بيت المقدس كألف صلاة في غيره. وروى ابن ماجة من حديث أنس: فصلاة في المسجد الاقصى بخمسين ألف صلاة وإسناده ضعيف. وروى ابن عبد البر في التمهيد من حديث الارقم: صلاة هذا خير من ألف صلاة ثمة يعني بيت المقدس. قال ابن عبد البر: هذا حديث ثابت، وحديث أبي هريرة الآخر هو أيضا متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري وغيره. قوله: صل ههنا فيه دليل على أن من نذر بصلاة أو صدقة أو نحوهما في مكان ليس بأفضل من مكان الناذر فإنه لا يجب عليه الوفاء بإيقاع المنذور به في ذلك المكان، بل يكون الوفاء بالفعل في مكان الناذر، وقد تقدم أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر الناذر بأن ينحر ببوانة يفي بنذره بعد أن سأله: هل كانت كذا هل كانت كذا؟ فدل ذلك على أنه يتعين مكان النذر ما لم يكن معصية، ولعل الجمع بين ما هنا وما هناك أن المكان لا يتعين حتما، بل يجوز فعل المنذور به في غيره، فيكون من هنا بيانا للجواز، ويمكن الجمع بأنه يتعين مكان النذر إذا كان مساويا للمكان الذي فيه الناذر أو أفضل منه، لا إذا كان المكان الذي فيه الناذر فوقه في الفضيلة، ويشعر بهذا ما في حديث ميمونة من تعليل ما أفتت به ببيان أفضلية المكان الذي فيه الناذرة في الشئ المنذور به وهو الصلاة. قوله: إلا المسجد الحرام هذا فيه دليل على أفضلية الصلاة في مسجده صلى الله عليه وآله وسلم على غيره من المساجد إلا المسجد الحرام فإنه استثناه، فاقتضى ذلك أنه ليس بمفضول بالنسبة إلى مسجده صلى الله عليه وآله وسلم، ويمكن أن يكون مساويا أو أفضل، وسائر الاحاديث دلت على أنه أفضل باعتبار الصلاة فيه بذلك المقدار. قوله: لا تشد الرحال الخ فيه دليل على أنه يتعين مكان النذر إذا كان أحد الثلاثة المذكورة
[ 155 ]
، وقد ذهب إلى ذلك مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يلزم وله أن يصلي في أي محل شاء، وإنما يجب عنده المشي إلى المسجد الحرام إذا كان بحج أو عمرة، وما عدا الامكنة الثلاثة فلا يتعين مكانا للنذر ولا يجب الوفاء عند الجمهور. وقد تمسك بهذا الحديث من منع السفر وشد الرحل إلى غيرها من غير فرق بين جميع البقاع وقد وقع لحفيد المصنف في ذلك وقائع بينه وبين أهل عصره لا يتسع المقام لبسطها. باب قضاء كل المنذورات عن الميت عن ابن عباس: أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اقضه عنها رواه أبو داود والنسائي وهو علشرط الصحيح. قال البخاري: وأمر ابن عمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء يعني ثم ماتت فقال: صلي عنها. قال: وقال ابن عباس نحوه. حديث ابن عباس في قصة سعد بن عبادة أصله في الصحيحين. وقول ابن عباس الذي أشار البخاري بأنه نحو ما قاله ابن عمر أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح: أن امرأة جعلت على نفسها مشيا إلى مسجد قباء فماتت ولم تقضه فأفتى عبد الله بن عباس ابنتها أن تمشي عنها وجاء عن ابن عمر وابن عباس خلاف ذلك، فقال مالك في الموطأ: أنه بلغه أن عبد الله بن عمر كان يقول: لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد. وأخرج النسائي من طريق أيوب بن موسى عن ابن أبي رباح عن ابن عباس قال: لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد. أورده ابن عبد البر من طريقه موقوفا ثم قال: والنقل في هذا عن ابن عباس مضطرب. قال الحافظ: ويمكن الجمع بحمل الاثبات في حق من مات والنفي في حق الحي، قال: ثم وجدت عن ابن عباس ما يدل على تخصيصه في حق الميت بما إذا مات وعليه شئ واجب، فعند ابن أبي شيبة بسند صحيح سئل ابن عباس عن رجل مات وعليه نذر فقال : يصام عنه النذر. وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون ابن عمر أراد بقوله صلي عنها العمل بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث فعد منها
[ 156 ]
الولد لان الولد من كسبه، فأعماله الصالحة مكتوبة للوالد من غير أن ينقص من أجره، فمعنى صل عنها أن صلاتك مكتتبة لها ولو كنت إنما تنوي عن نفسك، كذا قال ولا يخفى تكلفه. وحاصل كلامه تخصيص الجواز بالولد، وإلى ذلك ذهب ابن وهب وأبو مصعب من أصحاب الامام مالك، وفيه تعقب على ابن بطال حيث نقل الاجماع أنه لا يصلي أحد عن أحد فرضا ولاسنة لا عن حي ولا عن ميت. ونقل عن المهلب أن ذلك لو جاز لجاز في جميع العبادات البدنية، ولكان الشارع أحق بذلك أن يفعله عن أبويه، ولما نهى عن الاستغفار لعمه، ولبطل معنى قوله: ولا تكسب كل نفس إلا عليها قال الحافظ: وجمع ما قاله لا يخفى وجه تعقبه خصوصا ما ذكره في حق الشارع صلى الله عليه وآله وسلم. وأما الآية فعمومها مخصوص اتفاقا، وقد ذهب ابن حزم ومن وافقه إلى أن الوارث يلزمه قضاء النذر عن مورثه في جميع الحالات، واختلف في تعيين نذر أم سعد فقيل: كان صوما لما رواه مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: جاء رجل فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ قال نعم الحديث، وأجيب بأنه لم يكن فيه أن الرجل سعد. وقال ابن عبد البر: كان عتقا، واستدل بما أخرجه من طريق القاسم بن محمد أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله إن أمي هلكت فهل ينفعها أن أعتق عنها؟ قال: نعم وقيل: كان صدقة لما رواه في الموطأ وغيره: أن سعدا خرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقيل لامه أوصي قالت: المال مال سعد فتوفيت قبل أن يقدم. فقال: يا رسول الله هل ينفعها أن أتصدق عنها؟ قال نعم وليس في هذا والذي قبله أنها نذرت. قال عياض: والذي يظهر أنه كان نذرها في مال أو مبهما. وظاهر حديث الباب أنه كان معينا عند سعد. (وفي الحديث) قضاء الحقوق الواجبة عن الميت، وقد ذهب الجمهور إلى أن ممات وعليه نذر مالي فإنه يجب قضاؤه من رأس ماله وإن لم يوص إلا أن وقع النذر في مرض الموت فيكون من الثلث، وشرط المالكية والحنفية أن يوصي بذلك مطلقا
[ 157 ]
. [ رك ] كتاب الاقضية والاحكام [ رم ] باب وجوب نصبة ولاية القضاء والامارة وغيرهما عن عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الارض إلا أمروا عليهم أحدهم رواه أحمد. وعن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا عليهم أحدهم رواه أبو داود. وله من حديث أبي هريرة مثله. حديث عبد الله بن عمرو وحديث أبي سعيد قد أخرج نحوهما البزار بإسناد صحيح من حديث عمر بن الخطاب بلفظ: إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمروا أحدكم ذاك أمير أمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج البزار أيضا بإسناد صحيح من حديث عبد الله بن عمر مرفوعا بلفظ: إذا كانوا ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم. وأخرجه بهذا اللفظ الطبراني من حديث ابن مسعود بإسناد صحيح، وهذه الاحاديث يشهد بعضها لبعض، وقد سكت أبو داود والمنذري عن حديث أبي سعيد وأبي هريرة وكلاهما رجالهما رجال الصحيح إلا علي بن بحر وهو ثقة. ولفظ حديث أبي هريرة: إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم وفيها دليل على أنه يشرع لكل عدد بلغ ثلاثة فصاعدا أن يؤمروا عليهم أحدهم، لان في ذلك السلامة من الخلاف الذي يؤدي إلى التلاف، فمع عدم التأمير يستبد كل واحد برأيه ويفعل ما يطابق هواه فيهلكون، ومع التأمير يقل الاختلاف وتجتمع الكلمة، وإذا شرع هذا لثلاثة يكونون في فلاة من الارض أو يسافرون فشرعيته لعدد أكثر يسكنون القرى والامصار ويحتاجون لدفع التظالم وفصل التخاصم أولى وأحرى، وفي ذلك دليل لقول من قال: إنه يجب على المسلمين نصب الائمة والولاة والحكام، وقد ذهب الاكثر إلى أن الامامة واجبة، لكنهم اختلفوا هل الوجوب عقلا أو شرعا؟ فعند العترة وأكثر المعتزلة والاشعرية تجب شرعا. وعند الامامية تجب عقلا فقط، وعند الجاحظ والبلخي
[ 158 ]
والحسن البصري تجب عقلا وشرعا. وعند ضرار والاصم وهشام الفوطي والنجدات لا تجب. باب كراهية الحرص على الولاية وطلبها عن أبي موسى قال دخلت على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنا ورجلان من بني عمي فقال أحدهما: يارسول الله أمرنا على بعض ما ولاك الله عز وجل وقال الآخر مثل ذلك فقال: إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا يسأله أو أحدا حرص عليه. وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الامارة فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها متفق عليهما. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مسأل القضاء وكل إلى نفسه، ومن جبر عليه ينزل عليه ملك يسدده رواه الخمسة إلا النسائي. وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنكم ستحرصون على الامارة وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة رواه أحمد والبخاري والنسائي. [ رح 3868 ] وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدله جوره فله الجنة، ومن غلب جوره عدله فله النار رواه أبو داود وقد حمل على ما إذا لم يوجد غيره. حديث أنس أخرجه أيضا الطبراني في الاوسط من رواية عبد الاعلى التغلبي عن بلال بن أبي بردة الاشعري عن أنس مرفوعا بلفظ: من طلب القضاء واستعان عليه وكل إلى نفسه ومن لم يطلبه ولم يستعن عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده قال: لا يروى عن أنس إلا بهذا الاسناد تفرد به عبد الاعلى، وأخرجه البزار من طريق عبد الاعلى عن بلال بن مرداس عن خيثمة عن أنس قال: ولا يعلم عن أنس إلا من هذا الوجه. وأخرجه الترمذي من الطريقتين جميعا وقال: حسن غريب. وقال في الرواية الثانية أصح، وأخرجه الحاكم من طريق إسرائيل عن عبد الاعلى عن بلال عن خيثمة وصححه وتعقب أن خيثمة لينه يحيى بن معين، وعبد الاعلى
[ 159 ]
ضعفه الجمهور. وأخرج الحديث ابن المنذر بلفظ: من طلب القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إلى نفسه ومن أكره عليه أنزل الله ملكا يسدده وحديث أبي هريرة الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري وسنده لا مطعن فيه، فإن أبا داود قال: حدثنا عباس العنبري يعني ابن عبد العظيم أبا الفضل شيخ الشيخين، حدثنا عمر بن يونس يعني اليمامي، حدثنا ملازم بن عمرو يعني ابن عبد الله بن بدر اليمامي وثقه أحمد وابن معين والنسائي، حدثني محمد بن نجدة يعني اليمامي عن جده يزيد بن عبد الرحمن يعني الذي يقال له أبو كثير السخيمي عن أبي هريرة فذكره. قوله: أو أحدا حرص عليه بفتح المهملة والراء. قال العلماء: والحكمة في أنه لا يولى من يسأل الولاية أنه يوكل إليها ولا يكون معه إعانة كما في الحديث الذي بعده، وإذا لم يكن معه إعانة لا يكون كفؤا ولا يولى غير الكف ء لان فيه تهمة. قوله: لا تسأل الامارة هكذا في أكثر طرق الحديث، ووقع في رواية بلفظ: لا تتمنين الامارة بصيغة النهي عن التمني مؤكدا بالنون الثقيلة. قال ابن حجر: والنهي عن التمني أبلغ من النهي عن الطلب. قوله: عن غير مسألة أي سؤال. قوله: وكلت إليها بضم الواو وكسر الكاف مخففا ومشددا وسكون اللام ومعنى المخفف أي صرفت إليها، وكل الامر إلى فلان صرفه إليه، ووكله بالتشديد استحفظه. ومعنى الحديث: أن من طلب الامارة فأعطيها تركت إعانته عليها من أجل حرصه، ويستفاد من هذا أن طلب ما يتعلق بالحكم مكروه فيدخل في الامارة القضاء والحسبة ونحو ذلك، وأن من حرص على ذلك لا يعان، ويعارض ذلك في الظاهر حديث أبي هريرة المذكور في آخر الباب. قال الحافظ: ويجمع بينهما أنه لا يلزم من كونه لا يعان بسبب طلبه أن لا يحصل منه العدل إذا ولي أو يحمل الطلب هنا على القصد وهناك على التولية. وبالجملة فإذا كان الطالب مسلوب الاعانة تورط فيما دخل فيه وخسر الدنيا والآخرة، فلا تحل تولية من كان كذلك، ربما كان الطالب للامارة مريدا بها الظهور على الاعداء والتنكيل بهم فيكون في توليته مفسدة عظيمة. قال ابن التين: محمول على الغالب، وإلا فقد قال يوسف عليه السلام: * (اجعلني على خزائن الارض) * (يوسف: 55). وقال سليمان: * (وهب لي ملكا) * (ص: 35) قال: ويحتمل أن يكون في غير الانبياء عليهم السلام انتهى. قلت: ذلك لوثوق الانبياء بأنفسهم بسبب العصمة من الذنوب، وأيضا لا يعارض الثابت في شرعنا ما كان
[ 160 ]
في شرع غيرنا، فيمكن أن يكون الطلب في شرع يوسف عليه السلام سائغا. وأما سؤال سليمان فخارج عن محل النزاع إذ محله سؤال المخلوقين لا سؤال الخالق، وسليمان عليه السلام إنما سأل الخالق. قوله: إنكم ستحرصون بكسر الراء ويجوز فتحها ويدخل في لفظ الامارة، الامارة العظمى وهي الخلافة، والصغرى وهي الولاية على بعض البلاد، وهذا إخبار منه صلى الله عليه وآله وسلم بالشئ قبل وقوعه فوقع كما أخبر. قوله: وستكون ندامة يوم القيامة أي لمن لم يعمل فيها بما ينبغي، ويوضح ذلك ما أخرجه البزار والطبراني بسند صحيح عن عوف بن مالك بلفظ: أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة إلا من عدل. وفي الاوسط للطبراني من رواية شريك عن عبد الله بن عيسى عن أبي صالح عن أبي هريرة قال شريك: لا أدري رفعه أم لا قال: الامارة أولها ندامة، وأوسطها غرامة، وآخرها عذاب يوم القيامة. وله شاهد من حديث شداد بن أوس رفعه بلفظ: أولها ملامة، وثانيها ندامة أخرجه الطبراني. وعند الطبراني من حديث زيد بن ثابت رفعه: نعم الشئ الامارة لمن أخذها بحقها وحلها، وبئس الشئ الامارة لمن أخذها بغير حقها تكون عليه حسرة يوالقيامة قال الحافظ: وهذا يقيد ما أطلق في الذي قبله. ويقيد أيضا ما أخرجه مسلم عن أبي ذر: قلت: يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها قال النووي: هذا أصل عظيم في اجتناب الولاية ولا سيما لمن كان فيه ضعف، وهو من دخل فيها بغير أهلية ولم يعدل، فإنه يندم على ما فرط منه إذا جوزي بالخزي يوم القيامة. وأما من كان أهلا وعدل فيها فأجره عظيم كما تظاهرت به الاخبار، ولكن الدخول فيها خطر عظيم ولذلك امتنع الاكابر منها انتهى. وسيأتي حديث أبي ذر هذا. قوله: فنعم المرضعة وبئست الفاطمة. قال الداودي: نعمت المرضعة أي الدنيا، وبئست الفاطمة أي بعد الموت لانه يصير إلى المحاسبة على ذلك، فهو كالذي يفطم قبل أن يستغني فيكون في ذلك هلاكه. وقال غيره: نعمت المرضعة لما فيها من حصول الجاه والمال ونفاذ الكلمة وتحصيل اللذات الحسية والوهمية حال حصولها. وبئست الفاطمة عند الانفصال عنها بموت أو غيره وما يترتب عليها من التبعات في الآخرة. قوله: ثم غلب عدله جوره أي كان عدله في حكمه أكثر من ظلمه كما يقال غلب على فلان الكرم أي هو
[ 161 ]
أكثر خصاله. وظاهره أنه ليس من شرط الاجر الذي هو الجنة أن لا يحصل من القاضي جور أصلا، بل المراد أن يكون جوره مغلوبا بعدله، فلا يضر صدور الجور المغلوب بالعدل، إنما الذي يضر ويوجب النار أن يكون الجور غالبا للعدل، قيل: هذا الحديث محمول على ما إذا لم يوجد غير هذا القاضي الذي طلب القضاء جمعا بينه وبين أحاديث الباب. وقد تقدم طرف من الجمع، وبقي الكلام في استحقاق الامير للاعانة هل يكون بمجرد إعطائه لها من غير مسألة كما يدل عليه حديث عبد الرحمن بن سمرة المذكور في الباب؟ أم لا يستحقها إلا بالاكراه والاجبار كما يدل عليه حديث أنس المذكور أيضا؟ فقال ابن رسلان: إن المطلق مقيد بما إذا أكره على الولاية وأجبر على قبولها، فلا ينزل الله إليه الملك يسدده إلا إذا أكره على ذلك جبرا، ولا يحصل هذا لمن عرضت عليه الولاية فقبلها من دون إكراه كما في لفظ الترمذي من رواية بلال بن مرداس: ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكا يسدده. وقال: حسن غريب. ولا يخفى ما في حديث أنس من المقال الذي قدمناه مع اضطراب ألفاظه التي أشرنا إلى بعضها، وأكثر ألفاظه بدون ذكر الاجبار والاكراه، كما في سنن أبي داود وغيرها، على أنه على فرض صحته وصلاحيته لا معارضة بينه وبين حديث عبد الرحمن بن سمرة، لان حديث عبد الرحمن فيه أن من أعطي الامارة من غير مسألة أعين عليها وليس فيه نزول الملك للتسديد. وحديث أنس فيه أن من أجبر نزل عليه ملك يسدده، فغايته أن الاعانة تحصل بمجرد إعطاء الامارة من غير مسألة، بخلاف نزول الملك فلا يحصل إلا بالاجبار، فلا معارضة ولا إطلاق ولا تقييد إفي حديث أنس نفسه، فيمكن أن يحمل المطلق من ألفاظه عن الاجبار والاكراه بالمقيد بهما إذا انتهض لذلك. لا يقال: إن إنزال الملك للتسديد نوع من الاعانة فتثبت المعارضة. لانا نقول: بعض أنواع الاعانة لا يعارض البعض الآخر.
[ 162 ]
باب التشديد في الولايات وما يخشى على من لم يقم بحقها دون القائم به عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من جعل قاضيا بين الناس فقد ذبح بغير سكين رواه الخمسة إلا النسائي. وعن ابن مسعود: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما من حكم يحكم بين الناس إلا حبس يوم القيامة وملك آخذ بقفاه حتى يقفه علجهنم ثم يرفع رأسه إلى الله عز وجل فإن قال ألقه ألقاه في مهوى فهوى أربعين خريفا رواه أحمد وابن ماجة بمعناه. وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ويل للامراء، ويل للعرفاء، ويل للامناء، ليتمنين أقوام يوم القيامة أن ذوائبهم كانت متعلقة بالثريا يتذبذبون بين السماء والارض ولم يكونوا عملوا على شئ. وعن عائشة قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لتأتين على القاضي العدل يوم القيامة ساعة يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة قط. وعن أبي أمامة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق ذلك إلا أتى الله عزوجل يوم القيامة يده إلى عنقه فكه بره أو أوبقه إثمه، أولها ملامة، وأوسطها ندامة، وآخرها خزي يوم القيامة. وعن عبادة بن الصامت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من أمير عشرة إلا جئ به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه حتى يطلقه الحق أو يوبقه، ومن تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم رواهن أحمد. وعن عبد الله بن أبي أوفى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار وكله الله إلى نفسه رواه ابن ماجة. وفي لفظ: الله مع القاضي ما لم يجر فإذا جار تخلى عنه ولزمه الشيطان رواه الترمذي. وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا رواه أحمد ومسلم والنسائي.
[ 163 ]
حديث أبي هريرة الاول أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي والدارقطني وحسنه الترمذي وصححه ابن خزيمة وابن حبان وله طرق، وقد أعله ابن الجوزي فقال: هذا حديث لا يصح. قال الحافظ ابن حجر: وليس كما قال وكفاه قوة تخريج النسائي له. وقد ذكر الدار قطني الخلاف فيه على سعيد المقبري قال: والمحفوظ عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، قال المنذري: وفي إسناده عثمان بن محمد الاخنسي. قال النسائي: ليس بذاك القوي، قال: وإنما ذكرناه لئلا يخرج من الوسط ويجعل عن ابن أبي ذئب عن سعيد انتهى. فلا تم التقوية بإخراج النسائي للحديث كما زعم الحافظ. وحديث ابن مسعود أخرجه أيضا البيهقي في شعب الايمان والبزار وفي إسناده مجالد بن سعيد وثقه النسائي وضعفه جماعة، وحديث أبي هريرة الثاني حسنه السيوطي. وحديث عائشة أخرجه أيضا العقيلي وابن حبان والبيهقي. قال البيهقي: عمران بن حطان الراوي عن عائشة لا يتابع عليه ولا يتبين سماعه منها. ووقع في رواية الامام أحمد من طريقه قال: دخلت على عائشة فذاكرتها حتى ذكرنا القاضي فذكره، قال في مجمع الزوائد: وإسناده حسن وحديث أبي أمامة حسنه السيوطي، وفي معناه أحاديث منها حديث عبادة المذكور بعده. ومنها حديث أبي هريرة عند البيهقي في السنن بلفظ: ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولا حتى يفكه العدل أو يوبقه الجور. ومنها حديث ابن عباس: ما من أمير يؤمر على عشرة إلا سئل عنهم يوم القيامة أخرجه الطبراني في الكبير. وأخرج البيهقي حديثا آخر عن أبي هريرة بمعنى حديثه هذا. وحديث عبادة أخرجه أيضا الطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب من حديث سعد بن عبادة. وحديث عبد الله بن أبي أوفى أخرجه أيضا الحاكم في المستدرك والبيهقي في السنن وابن حبان وحسنه الترمذي. قوله: فقد ذبح بغير سكين بضم الذال المعجمة مبني للمجهول. قال ابن الصلاح: المراد ذبح من حيث المعنى لانه بين عذاب الدنيا إن رشد، وبين عذاب الآخرة إن فسد. وقال الخطابي ومن تبعه: إنما عدل عن الذبح بالسكين ليعلم أن المراد ما يخاف من هلاك دينه دون بدنه وهذا أحد الوجهين. والثاني أن الذبح بالسكين فيه إراحة للمذبوح، وبغير السكين كالخنق أو غيره يكون الالم فيه أكثر، فذكر ليكون أبلغ في التحذير. قال الحافظ في التلخيص: ومن الناس من فتن بحب القضاء، فأخرجه عما يتبادر إليه الفهم من سياقه فقال: إنما قال ذبح بغير سكين إشارة إلى الرفق به، ولو
[ 164 ]
ذبح بالسكين لكاأشق عليه ولا يخفى فساده انتهى. وحكى ابن رسلان في شرح السنن عن أبي العباس أحمد بن القاص أنه قال: ليس في هذا الحديث عندي كراهية القضاء وذمه، إذ الذبح بغير سكين مجاهدة النفس وترك الهوى والله تعالى يقوله: * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) * (العنكبوت: 69). ويدل على ذلك حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا أبا هريرة عليك بطريق قوم إذا فزع الناس أمنوا، قلت: من هم يا رسول الله؟ قال: هم قوم تركوا الدنيا فلم يكفي قلوبهم ما يشغلهم عن الله قد أجهدوا أبدانهم وذبحوا أنفسهم في طلب رضا الله، فناهيك به فضيلة وزلفى لمن قضى بالحق في عباده، إذ جعله ذبيح الحق امتحانا لتعظم له المثوبة امتنانا. وقد ذكر الله قصة إبراهيم خليله عليه السلام. وقوله: * (يا بني أني أرى في المنام أني أذبحك) * فإذا جعل الله إبراهيم في تسليمه لذبح ولده مصدقا فقد جعل ابنه لاستسلامه للذبح ذبيحا ولذا قال (ص): أنا ابن الذبيحين يعني إسماعيل وعبد الله، فكذلك القاضي عندنا لما استسلم لحكم الله واصطبر على مخالفة الاباعد والاقارب في خصوماتهم، لم تأخذه في الله لومة لائم، حتى قاده إلى مر الحق، جعله ذبيحا للحق، وبلغ به حال الشهداء الذين لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله، وقد ولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا ومعاذا ومعقل بن يسار فنعم الذابح ونعم المذبوح. وفي كتاب الله الدليل على الترغيب فيه بقوله: * (يحكم بها النبيون الذين أسلموا) * (الصافات: 102) إلى آخر الآيات انتهى. وحديث أبي هريرة الذي ذكره لا أدري من أخرجه فيبحث عنه، وعلى كل حال فحديث الباب وارد في ترهيب القضاة لا في ترغيبهم، وهذا هو الذي فهمه السلف والخلف، ومن جعله من الترغيب فقد أبعد، وقد استروح كثير من القضاة إلى ما ذكره أبو العباس وأنا وإن كنت حال تحرير هذه الاحرف منهم ولكن الله يحب الانصاف. وقد ورد في الترغيب في القضاة ما يغني عن مثل ذلك التكلف، فأخر الشيخان من حديث عمرو بن العاص وأبي هريرة: إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران. ورواه الحاكم والدارقطني من حديث عقبة بن عامر وأبي هريرة وعبد الله بن عمر بلفظ: إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله عشرة أجور وفي إسناده فرج بن فضالة وهو ضعيف، وتابعه ابن لهيعة بغير لفظه. ورواه أحمد من طريق عمرو بن العاص بلفظ: إن أصبت القضاء فلك عشرة أجور، وإن
[ 165 ]
اجتهدت فأخطأت فلك حسنة وإسناده ضعيف أيضا. وأخرج أحمد في مسنده وأبو نعيم في الحلية عن عائشة أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: السابقون إلى ظل الله يوم القيامة الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوا بذلوه، وإذا حكموا بين الناس حكموا كحكمهم لانفسهم وهو من رواية ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن القاسم بن محمد عنها، قال أبو نعيم: تفرد به ابن لهيعة عن خالد. قال الحافظ: وتابعه يحيى بن أيوب عن عبد الله بن زحر عن علي بن زيد عن القاسم وهو ابن عبد الرحمن عن عائشة، ورواه أبو العباس بن القاص في كتاب آداب القضاء له. ومن الاحاديث الواردة في الترغيب حديث عبد الله بن عمر المذكور في الباب. ومنها حديث ابن عباس: إذا جلس الحاكم في مكانه هبط عليه ملكان يسددانه ويوفقانه ويرشدانه ما لم يجر فإذا جار عرجا وتركاه أخرجه البيهقي من طريق يحيى بن زيد الاشعري عن ابن جريج عن عطاء عنه وإسناده ضعيف، قال صالح جزرة: هذا الحديث ليس له أصل ، وروى الطبراني معناه من حديث وائلة بن الاسقع. وفي البزار من رواية إبراهيم بن خثيم بن عراك عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا: من ولي من أمور المسلمين شيئا وكل الله به ملكا عن يمينه وأحسبه قال وملكا عن شماله يوفقانه ويسددانه إذا أريد به خير، ومن ولي من أمور المسلمين شيئا فأريد به غير ذلك وكل إلى نفسه قال: ولا نعلمه يروى بهن اللفظ إلا من حديث عراك وإبراهيم ليس بالقوي. ومن أحاديث الترغيب حديث عبد الله بن أبي أوفى المذكور في الباب. ولكن هذه الترغيبات إنما هي في حق القاضي العادل الذي لم يسأل القضاء ولا استعان عليه بالشفعاء، وكان لديه من العلم بكتاب الله وسنة رسوله ما يعرف به الحق من الباطل، بعد إحراز مقدار من آلاتهما يقدر به على الاجتهاد في إيراده وإصداره. وأما من كان بعكس هذه الاوصاف أو بعضها فقد أوقع نفسه في مضيق وباع آخرته بدنياه، لان كل عاقل يعلم أن من تسلق للقضاء وهو جاهل بالشريعة المطهرة جهلا بسيطا أو جهلا مركبا، أو من كان قاصرا عن رتبة الاجتهاد فلا حامل له على ذلك إلا حب المال والشرف أو أحدهما، إذ لا يصح أن يكون الحامل من قبيل الدين، لان الله لم يوجب على من لم يتمكن من الحكم بما أنزل من الحق أن يتحمل هذا العب ء الثقيل قبل تحصيل شرطه الذي يحرم قبوله قبل حصوله، فعلم من هذا أن الحامل للمقصرين على التهافت على القضاء والتوثب على أحكام الله بدون ما شرطه ليس إلا الدنيا لا الدين، فإياك والاغترار بأقوال قوم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، فإذا
[ 166 ]
لبسوا لك أثوا ب الرياء والتصنع وأظهروا شعار التغرير والتدليس والتلبيس وقالوا ما لهم بغير الحق حاجة ولا أرادوا إلا تحصيل الثواب الاخروي فقل لهم: دعوا الكذب على أنفسكم يا قضاة النار بنص المختار، فلو كنتم تخشون الله وتتقونه حق تقاته لما أقدمتم على المخاطرة بادئ بدء، بدون إيجاب من الله، ولا إكراه من سلطان، ولا حاجة من المسلمين، وقد كثر التتابع من الجهلة في هذا المنصب الشريف، واشتروه بالاموال ممن هو أجهل منهم حتى عمت البلوى جميع الاقطار اليمنية. قوله: فهوى أربعين خريفا قال في النهاية: هو الزمان المعروف من فصول السنة ما بين الصيف والشتاء ويريد به أربعين سنة، لان الخريف لا يكون في السنة إلا مرة، فإذا انقضى أربعون خريفا انقضت أربعون سنة. قوله: ويل للعرفاء بضم العين المهملة وفتح الراء والفاء: جمع عريف. قال في النهاية: وهو القيم بأمور القبيلة والجماعة من الناس يلي أمورهم ويتعرف الامير منه أحوالهم فعيل بمعنى فاعل والعرافة عمله. وسبب الوعيد لهذه الطوائف الثلاث وهم الامراء والعرفاء والامناء أنهم يقبلون ويطاعون فيما يأتون به، فإذا جاروا الرعايا جاروا وهم قادرون فيكون ذلك سببا لتشديد العقوبة عليهم، لان حق شكر النعمة التي امتازوا بها على غيرهم أن يعدلوا ويستعملوا الشفقة والرأفة. قوله: أو أوبقه إثمه بالباء الموحدة والقاف قال في النهاية: يقال وبق يبق ووبق يوبق إذا هلك، وأوبقه غيره فهو موبق. قوله: وكلتا يديه يمين قال في النهاية: أي أن يديه تبارك وتعالى بصفة الكمال لا نقص في واحدة منهما لان الشمال تنقص عن اليمين. وكل ما جاء في القرآن والحديث من إضافة اليد والايدي واليمين وغير ذلك من أسماء الجوارح إلى الله فإنما هو على سبيل المجاز والاستعارة والله منزه عن التشبيه والتجسيم. باب المنع من ولاية المرأة والصبي ومن لا يحسن القضاء أو يضعف عن القيام بحقه عن أبي بكرة قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أهل
[ 167 ]
فارس ملكوا عليهم بنت كسرى قا: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة رواه وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله أحمد والبخاري والنسائي والترمذي وصححه. وعن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تعوذوا بالله من رأس السبعين وإمارة الصبيان رواه أحمد. وعن بريدة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار رواه ابن ماجة وأبو داود، وهو دليل على اشتراط كون القاضي رجلا. وعن أبي هريرة: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على الذي أفتاه رواه أحمد وابن ماجة. وفي لفظ: من أفتي بفتيا بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي ذر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا أبا ذر إني أراك ضعيفا وإني أحب إليك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم. وعن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها رواهما أحمد ومسلم. وعن أم الحصين الاحمسية: أنها سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي ما أقام فيكم كتاب الله عزوجل رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة رواه أحمد والبخاري. وهذا عند أهل العلم محمول على غير ولاية الحكم أو على من كان عبدا. حديث أبي هريرة الاول قد أخرج ما يشهد له أحمد من حديث قيس الغفاري مرفوعا، وفيه التحذير من إمارة السفهاء، ورجاله رجال الصحيح، ومثله أخرجه الطبراني عن عوف بن مالك مرفوعا وفي إسناده النهاس بن قهم وهو ضعيف. وحديث بريدة أخرجه أيضا الترمذي والنسائي والحاكم وصححه. قال الحاكم في علوم الحديث: تفرد به الخراسانيون ورواته مراوزة، قال الحافظ: له طرق غير هذه جمعتها في جزء مفرد. وحديث أبي هريرة الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده أئمة أكثرهم من رجال الصحيح، وزاد أبو داود: ومن أشار على أخيه بأمر يعلم أن الرشد في غيره فقد خا.
[ 168 ]
وحديث أنس لفظ البخاري: أطيعوا السلطان وإن عبدا حبشيا كالزبيبة. قوله: لن يفلح قوم الخ فيه دليل على أن المرأة ليست من أهل الولايات ولا يحل لقوم توليتها، لان تجنب الامر الموجب لعدم الفلاح واجب. قال في الفتح: وقد اتفقوا على اشتراط الذكورة في القاضي إلا عن الحنفية واستثنوا الحدود. وأطلق ابن جرير ويؤيد ما قاله الجمهور أن القضاء يحتاج إلى كمال الرأي، ورأي المرأة ناقص ولا سيما في محافل الرجال. واستدل المصنف أيضا على ذلك بحديث بريدة المذكور في الباب لقوله فيه رجل ورجل، فدل بمفهومه على خروج المرأة. قوله: وإمارة الصبيان فيه دليل على أنه لا يصح أن يكون الصبي قاضيا. قال في البحر إجماعا، وأمره صلى الله عليه وآله وسلم بالتعوذ من رأس السبعين لعله لما ظهر فيها من الفتن العظيمة منها قتل الحسين رضي الله عنه، ووقعة الحرة وغير ذلك مما وقع في عشر السبعين. قوله: القضاة ثلاثة الخ في هذا الحديث أعظم وازع للجهلة عن الدخول في هذا المنصب الذي ينتهي بالجاهل والجائر إلى النار. وبالجملة فما صنع أحد بنفسه ما صنعه من ضاقت عليه المعايش، فزج بنفسه في القضاء لينال من الحطام وأموال الارامل والايتام ما يحول بينه وبين دار السلام مع جهله بالاحكام أو جوره على من قعد بين يديه للخصام من أهل الاسلام. قوله: من أفتي بضم الهمزة وكسر المثناة مبني لما لم يسم فاعله، فيكوالمعنى من أفتاه مفت عن غير ثبت من الكتاب والسنة والاستدلال كان إثمه على من افتاه بغير الصواب لا على المستفتي المقلد. وقد روي بفتح الهمزة والمثناة، فيكون المعنى: من أفتى الناس بغير علم كان إثمه على الذي سوغ له ذلك، وأفتاه بجواز الفتيا من مثله مع جهله وأذن له في الفتوى ورخص له فيها. قوله: أراك ضعيفا فيه دليل على أن من كان ضعيفا لا يصلح لتولي القضاء بين المسلمين. قال أبو علي الكرابيسي صاحب الشافعي في كتاب أدب القضاء له: لا أعلم بين العلماء ممن سلف خلافا أن أحق الناس أن يقضي بين المسلمين من بان فضله وصدقه وعلمه وورعه، وأن يكون عارفا بكتاب الله عالما بأكثر أحكامه، عالما بسنن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حافظا لاكثرها، وكذا أقوال الصحابة عالما بالوفاق والخلاف، وأقوال فقهاء التابعين يعرف الصحيح من السقيم، يتتبع النوازل من الكتاب، فإن لم يجد ففي السنة، فإن لم يجد عمل بما اتفق عليه الصحابة، فإن اختلفوا فما وجده أشبه بالقرآن ثم بالسنة ثم بفتوى أكابر الصحابة عمل به، ويكون كثير المذاكرة مع أهل العلم والمشاورة لهم مع فضل وورع، ويكون حافظا للسانه ونطقه وفرجه فهما لكلام
[ 169 ]
الخصوم، ثم لا بد أن يكون عاقلا مائلا عن الهوى. ثم قال: وهذا وإن كنا نعلم أنه ليس على وجه الارض أحد يجمع هذه الصفات، ولكن يجب أن يطلب من أهل كل زمان أكملهم وأفضلهم. وقال المهلب: لا يكفي في استحباب القضاء أن يرى نفسه أهلا لذلك بل أن يراه الناس أهلا له. وقال ابن حبيب عن مالك: لا بد أن يكون القاضي عالما عاقلا، قال ابن حبيب: فإن لم يكن علم فعقل وورع، لانه بالورع يقف وبالعقل يسأل، وهو إذا طلب العلم وجده، فإذا طلب العقل لم يجده انتهى. قلت: ماذا يصنع الجاهل العاقل عند ورود مشكلات المسائل، وغاية ما يفيده العقل التوقف عند كل خصومة ترد عليه، وملازمة سؤال أهل العلم عنها، والاخذ بأقوالهم مع عدم المعرفة لحقها من باطلها، وما بهذا أمر الله عباده، فإنه أمر الحاكم أن يحكم بالحق وبالعدل وبالقسط وبما أنزل، ومن أين لمثل هذا العاقل العاطل عن حلية الدلائل أن يعرف حقية هذه الامور؟ بل من أين له أن يتعقل الحجة إذا جاءته من كتاب أو سنة حتى يحكم بمدلولها؟ ثم قد عرف اختلاف طبقات أهل العلم في الكمال والقصور والانصاف والاعتساف والتثبت والاستعجال والطيش والوقار والتعويل على الدليل والقنوع بالتقليد، فمن أين لهذا الجاهل العاقل معرفة العالي من السافل حتى يأخذ عنه أحكامه وينيط به حله وإبرامه؟ فهذا شئ لا يعرف بالعقل باتفاق العقلاء، فما حال هذا القاضي إلا كحال من قال فيه من قال: [ شع ] كبهيمة عمياء قاد زمامها أعمى على عوج الطريق الحائر [ / شع ] قوله: لا تأمرن على اثنين الخ، في هذا النهي بعد إمحاض النصح بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إني أحب لك ما أحب لنفسي إرشاد للعباد إلى ترك تحمل أعباالامارة مع الضعف عن القيام بحقها من أي جهة من الجهات التي يصدق على صاحبها أنه ضعيف فيها، وقد قدمنا كلام النووي على هذا الحديث في باب كراهية الحرص على الامارة. قوله: وإن أمر عليكم عبد حبشي بفتح المهملة والموحدة بعدها معجمة منسوب إلى الحبشة. قوله: كأن رأسه زبيبة هي واحدة الزبيب المأكول المعروف الكائن من العنب إذا جف، وإنما شبه رأس العبد بالزبيبة لتجمعها ولكون شعره أسود، وهو تمثيل في الحقارة وبشاعة الصورة وعدم الاعتداد بها. وقد حكى الحافظ في الفتح عن ابن بطال عن المهلب أنها لا تجب الطاعة للعبد إلا إذا كان المستعمل له إماما قرشيا، لان
[ 170 ]
الامامة لا تكون إلا في قريش، قال: وأجمعت الامة على أنها لا تكون في العبيد. وحكي في البحر عن العترة أنه يصح أن يكون العبد قاضيا، وعن الشافعية والحنفية أنه لا يصح أن يكون العبد قاضيا. باب تعليق الولاية بالشرط عن ابن عمر قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة مؤتة زيد بن حارثوقال: إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد الله بن رواحة رواه البخاري. ولاحمد من حديث أبي قتادة وعبد الله بن جعفر نحوه. حديث ابن عمر هو طرف من حديث طويل في ذكر غزوة مؤتة، وكذلك حديث أبي قتادة وعبد الله بن جعفر هما في وصف الغزوة المذكورة، وقد اشتمل على جميع ذلك كتب الحديث والسير فلا نطول بذكره. وقد استدل المصنف رحمه الله بالحديث على جواز تعليق الولايات بالشرط المستقبل كما في ولاية جعفر فإنها مشروطة بقتل زيد، وكذلك ولاية عبد الله بن رواحة فإنها مشروطة بقتل جعفر، ولا أعرف الآن دليلا يدل على المنع من تعليق الولاية بالشرط، فلعل خلاف من خالف في ذلك مستند إلى قاعدة فقهية كما يقع ذلك في كثير من المسائل. باب نهي الحاكم عن الرشوة واتخاذ حاجب لبابه في مجلس حكمه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لعنة الله على الراشي والمرتشي في الحكم رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لعنة الله على الراشي والمرتشي رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي. وعن ثوبان قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الراشي والمرتشي والرائش يعني الذي يمشي بينهما رواه أحمد. وعن عمرو بن مرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما من إمام أو وال يغلق بابه دون ذوي الحاجة والخلة
[ 171 ]
والمسكنة إلا غلق الله أبواب السماء دون خلته وحاجته ومسكنته رواه أحمد والترمذي. حديث أبي هريرة أخرجه أيضا ابن حبا وصححه وحسنه الترمذي، وقد عزاه الحافظ في بلوغ المرام إلى أحمد والاربعة وهو وهم، فإنه ليس في سنن أبي داود غير حديث ابن عمرو المذكور، ووهم أيضا بعض الشراح فقال: إن أبا داود زاد في روايته لحديث ابن عمرو لفظ في الحكم، وليست تلك الزيادة عند أبي داود بل لفظه: لعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الراشي والمرتشي. قال ابن رسلان في شرح السنن: وزاد الترمذي والطبراني بإسناد جيد في الحكم. وحديث ابن عمرو أخرجه أيضا ابن حبان والطبراني والدارقطني، قال الترمذي: وقواه الدارمي اه. وإسناده لا مطعن فيه، فإن أبا داود قال: حدثنا أحمد بن يونس يعني اليربوعي، حدثنا ابن أبي ذئب عن الحرث بن عبد الرحمن يعني القرشي العامري خال ابن أبي ذئب، ذكره ابن حبان في الثقات عن أبي سلمة يعنن ابن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو بن العاص. وحديث ثوبان أخرجه أيضا الحاكم وفي إسناده ليث بن أبي سليم، قال البزار: إنه تفرد به. وقال في مجمع الزوائد: إنه أخرجه أحمد والبزار والطبراني في الكبير وفي إسناده أبو الخطاب وهو مجهول اه. وفي الباب عن عبد الرحمن بن عوف عند الحاكم، وعن عائشة وأم سلمة أشار إليهما الترمذي قال في التلخيص: ينظر من خرجهما. وحديث عمرو بن مرة أخرجه أيضا الحاكم والبزار. وفي الباب عن أبي مريم الازدي مرفوعا أخرجه أبو داود والترمذي بلفظ: من تولى شيئا من أمر المسلمين فاحتجب عن حاجتهم وفقيرهم احتجب الله دون حاجته قال الحافظ في الفتح: إن سنده جيد. وعن ابن عباس عند الطبراني في الكبير بلفظ: أيما أمير احتجب عن الناس فأهمهم احتجب الله عنه يوم القيامة قال ابن أبي حاتم: هو حديث منكر. قوله: على الراشي هو دافع الرشوة، والمرتشي القابض لها، والرائش هو ما ذكره في الرواية التي في الباب، قال ابن رسلان: ويدخل في إطلاق الرشوة: الرشوة للحاكم والعامل على أخذ الصدقات وهي حرام بالاجماع اه. قال الامام المهدي في البحر في كتاب الاجارات منه مسألة: وتحرم رشوة الحاكم إجماعا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لعن الله الراشي والمرتشي قال الامام يحيى: ويفسق للوعيد. والراشي إن طلب
[ 172 ]
باطلا عمه الخبر. قال المنصور بالله وأبو جعفر وبعض أصحاب الشافعي: وإن طلب بذلك حقا مجمعا علجاز. قيل: وظاهر المذهب المنع لعموم الخبر، وإن كان مختلفا فيه فكالباطل إذلا تأثير لحكمه اه. قلت: والتخصيص لطالب الحق بجواز تسليم الرشوة منه للحاكلا أدري بأي مخصص، فألحق التحريم مطلقا أخذا بعموم الحديث، ومن زعم الجواز في صورة من الصور فإن جاء بدليل مقبول وإلا كان تخصيصه ردا عليه، فإن الاصل في مال المسلم التحريم: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * (البقرة: 188) لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه، وقد انضم إلى هذا الاصل كون الدافع إنما دفعه لاحد أمرين: إما لينال به حكم الله إن كان محقا وذلك لا يحل لان المدفوع في مقابلة أمر واجب أوجب الله عزوجل على الحاكم الصدع به، فكيف لا يفعل حتى يأخذ عليه شيئا من الحطام؟ وإن كان الدفع للمال من صاحبه لينال به خلاف ما شرعه الله إن كان مبطلا فذلك أقبح لانه مدفوع في مقابلة أمر محظور، فهو أشد تحريما من المال المدفوع للبغي في مقابلة الزنا بها، لان الرشوة يتوصل بها إلى أكل مال الغير الموجب لاحراج صدره والاضرار به، بخلاف المدفوع إلى البغي فالتوصل به إلى شئ محرم وهو الزنا لكنه مستلذ للفاعل والمفعول به، وهو أيضا ذنب بين العبد وربه، وهو أسمح الغرماء، ليس بين العاصي وبين المغفرة إلا التوبة ما بينه وبين الله وبين الامرين بون بعيد. ومن الادلة الدالة على تحريم الرشوة ما حكاه ابن رسلان في شرح السنن عن الحسن وسعيد بن جبير أنهما فسرا قوله تعالى: * (أكالون للسحت) * (المائدة: 42) بالرشوة. وحكي عن مسروق عن ابن مسعود أنه لما سئل عن السحت أهو الرشوة؟ فقال لا، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون. ولكن السحت أن يستعينك الرجل على مظلمته فيهدي لك فإن أهدى لك فلا تقبل. وقال أبو وائل شقيق بن سلمة أحد أئمة التابعين القاضي: إذا أخذ الهدية فقد أكل السحت، وإذا أخذ الرشوة بلغت به الكفر. رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح اه. ما حكاه ابن رسلان. ويدل على المنع من قبول هدية من استعان بها على دفع مظلمته ما أخرجه أبو داود عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من شفع لاخيه شفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا وفي إسناده القاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن الاموي مولاهم الشامي وفيه مقال. ويدل على تحريم قبول مطلب الهدية على
[ 173 ]
الحاكم وغيره من الامراء حديث: هدايا الامراء غلول أخرجه البيهقي وابن عدي من حديث أبي حميد. قال الحافظ: وإسناده ضعيف، ولعل وجه الضعف أنه من رواية إسماعيل بن عياش عن أهل الحجاز، وأخرجه الطبراني في الاوسط من حديث أبي هريرة قال الحافظ: وإسناده أشد ضعفا. وأخرجه سنيد بن داود في تفسيره عن عبيدة بن سليمان عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جابر وإسماعيل ضعيف. وأخرجه الخطيب في تلخيص المتشابه من حديث أنس بلفظ: هدايا العمال سحت وقد تقدم في كتاب الزكاة في باب العاملين عليها حديث بريدة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلفظ: من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذه بعد ذلك فهو غلول أخرجه أبو داود. وقد بوب البخاري في أبواب القضاء باب هدايا العمال وذكر حديث ابن اللتيبة المشهور، والظاهر أن الهدايا التي تهدى للقضاة ونحوهم هي نوع من الرشوة، لان المهدي إذا لم يكن معتادا للاهداء إلى القاضي قبل ولايته لا يهدي إليه إلا لغرض، وهو إما التقوي به على باطله، أو التوصل لهديته له إلى حقه، والكل حرام كما تقدم، وأقل الاحوال أن يكون طالبا لقربه من الحاكم وتعظيمه ونفوذ كلامه، ولا غرض له بذلك إلا الاستطالة على خصومه، أو الامن من مطالبتهم له، فيحتشمه من له حق عليه، ويخافه من لا يخافه قبل ذلك، وهذه الاغراض كلها تؤول إلى ما آلت إليه الرشوة، فليحذر الحاكم المتحفظ لدينه المستعد للوقوف بين يدي ربه من قبول هدايا من أهدى إليه بعد توليه للقضاء، فإن للاحسان تأثيرا في طبع الانسان، والقلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، فربما مالت نفسه إلى المهدي إليه ميلا يؤثر الميل عن الحق عند عروض المخاصمة بين المهدي وبين غيره، والقاضي لا يشعر بذلك، ويظن أنه لم يخرج عن الصواب بسبب ما قد زرعه الاحسان في قلبه، والرشوة لا تفعل زيادة على هذا، ومن هذه الحيثية امتنعت عن قبول الهدايا بعد دخولي في القضاء ممن كان يهدي إلي قبل الدخول فيه، بل من الاقارب فضلا عن سائر الناس، فكان في ذلك من المنافع ما لا يتسع المقام لبسطه، أسأل الله أن يجعله خالصا لوجهه. وقد ذكر المغربي في شرح بلوغ المرام في شرح حديث الرشوة كلاما في غاية السقوط فقال ما معناه: أنه يجوز أن يرشي من كان يتوصل بالرشوة إلى نيل حق أو دفع باطل، وكذلك قال: يجوز للمرتشي أن يرتشي إذا كان ذلك في حق لا يلزمه فعله، وهذا أعم مما قاله المنصور بالله ومن معه كما تقدمت الحكاية لذلك عنهم،
[ 174 ]
لانهم خصوا الجواز بالراشي، وهذا عممه في الراشي والمرتشي، وهو تخصيص بدون مخصص، ومعارضة لعموم الحديث بمحض الرأي الذي ليس عليه أثارة من علم، ولا يغتر بمثل هذا إلا من لا يعرف كيفية الاستدلال، والقائل رحمه الله كان قاضيا. قوله: والخلة في النهاية الخلة بالفتح الحاجة والفقر، فيكون العطف على ما قبله من عطف العام على الخاص. (وفي الحديث) دليل على أنه لا يحل احتجاب أولي الامر عن أهل الحاجات، قال الشافعي وجماعة: أنه ينبغي للحاكم أن لا يتخذ حاجبا، قال في الفتح: وذهب آخرون إلى جوازه، وحمل الاول على زمن سكون الناس واجتماعهم على الخير وطواعيتهم للحاكم. وقال آخرون: بل يستحب الاحتجاب حينئذ لترتيب الخصوم ومنع المستطيل ودفع الشر. ونقل ابن التين عن الداودي قال: الذي أحدثه القضاة من شدة الاحتجاب وإدخال بطائق من الخصوم لم يكن من فعل السلف اه. قلت: صدق لم يكن من فعل السلف، ولكن من لنا بمثل رجال السلف في آخر الزمان، فإن الناس اشتغلوا بالخصومة لبعضهم بعضا، فلو لم يحتجب الحاكم لدخل عليه الخصوم وقت طعامه وشرابه وخلوه بأهله وصلاته الواجبة وجميع أوقات ليله ونهاره، وهذا مما لم يتعبد الله به أحدا من خلقه، ولا جعله في وسع عبد من عباده، وقد كان المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم يحتجب في بعض أوقاته، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى أنه كان بوابا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما جلس على قف البئر في القصة المشهورة، وإذا جعل لنفسه بوابا في ذلك المكان وهو منفرد عن أهله خارج عن بيته فبالاولى اتخاذه في مثل البيت وبين الاهل، وقد ثبت أيضا في الصحيح في قصة حلفه صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يدخل على نسائه شهرا أن عمر استأذن له الاسود لما قال له: يا رباح استأذن لي، فذلك دليل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتخذ لنفسه بوابا، ولولا ذلك لاستأذن عمر لنفسه. ولم يحتج إلى قوله استأذن لي، وقد ورد ما يخالف هذا في الظاهر، وهو ما ثبت في الصحيح في قصة المرأة التي وجدها تبكي عند قبر فجاءت إلى بابه فلم تجد عليه بوابا، والجمع ممكن، أما أولا فلان النساء لا يحجبن عن الدخول في الغالب لان الامر الاهم من اتخاذ الحاجب هو منع دخول من يخشى الانسان من اطلاعه على ما لا يحل الاطلاع عليه. وأما ثانيا فلان النفي للحاجب في بعض الاوقات لا يستلزم النفي مطلقا، وغاية ذلك أنه لم يكن له صلى الله عليه وآله وسلم حاجب راتب. قال ابن بطال: الجمع بينهما أنه صلى الله عليه وآله
[ 175 ]
وسلم إذا لم يكن في شغل من أهله ولا انفراد بشئ من أمره رفع حجابه بينه وبين الناس ويبرز لطالب الحاجة، وبمثله قال الكرماني. وقد ثبت في قصة عمر في منازعة أمير المؤمنين علي والعباس في فد ك أنه كان له حاجب يقال له يرفا. قال ابن التين متعقبا لما نقله عن الداودي في كلامه المتقدم: إن كان مراده البطائق التي فيها الاخبار بما جرى فصحيح يعني أنه حادث، وإن كان مراده البطائق التي يكتب فيها للسبق ليبدأ بالنظر في خصومة مسبق فهو من العدل في الحكم اه. قلت: ومن العدل والتثبت في الحكم أن لا يدخل الحاكم جميع من كان ببابه من المتخاصمين إلى مجلس حكمه دفعة واحدة إذا كانوا جمعا كثيرا، ولا سيما إذا كانوا مثل أهل هذه الديار اليمنية، فإنهم إذا وصلوا إلى مجلس القاضي صرخوا جميعا فيتشوش فهمه ويتغير ذهنه فيقل تدبره وتثبته، بل يجعل ببابه من يرقم الواصلين من الخصوم الاول فالاول، ثم يدعوهم إلى مجلس حكمه كل خصمين على حدة، فالتخصيص لعموم المنع بمثل ما ذكرناه معلوم من كليات الشريعة وجزئياتها مثل حديث نهي الحاكم عن القضاء حال الغضب، والتأذي بأمر من الامور كما سيأتي، وكذلك أمره بالتثبت والاستماع لحجة كل واحد من الخصمين، وكذلك أمره باجتهاد الرأي في الخصومة التي تعرض. قال بعض أهل العلم: وظيفة البواب أو الحاجب أن يطالع الحاكم بحال من حضر ولا سيما من الاعيان لاحتمال أن يجئ مخاصما، والحاكم يظن أنه جاء زائرا فيعطيه حقه من الاكرام الذي لا يجوز لمن يجئ مخاصما انتهى. ولا شك في أنه يكره دوام الاحتجاب إن لم يكن محرما لما في حديث الباب. قال في الفتح: واتفق العلماء على أنه يستحب تقديم الاسبق فالاسبق والمسافر على المقيم، ولا سيما إن خشي فوات الرفقة، وأن من اتخذ بوابا أو حاجبا أن يتخذه أمينا ثقة عفيفا عارفا حسن الاخلاق عارفا بمقادير الناس انتهى. باب ما يلزم اعتماده في أمانة الوكلاء والاعوان عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من خاصم في باطل وهو يعلم لم يزل في سخط الله حتى ينزع. وفي لفظ: من أعان على خصومة بظلم فقد باء بغضب من الله رواهما أبو داود. وعن أنس قال: إن قيس بن سعد
[ 176 ]
كان يكون بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنزلة صاحب الشرط من الامير رواه البخاري. حديث ابن عمر أخرجه أبو داود بإسنادين: الاسناد الاول لا مطعن فيه لانه قال: حدثنا أحمد بن يونس يعني اليربوعي، حدثنا زهير، حدثنا عمارة بن غزية عن يحيى بن راشد يعني الدمشقي الطويل وهو ثقة قال: جلسنا لعبدالله بن عمر فذكره. والاسناد الثاني قال: حدثنا علي بن الحسين بن إبراهيم يعني العامري وثقه النسائي، حدثنا عمر بن يونس يعني اليماني وهو ثقة، حدثنا عاصم بن محمد بن زيد العمري يعني ابن عبد الله بن عمر، حدثنا المثنى بن يزيد قال المنذري: هو مجهول انتهى. وقد أخرج له النسائي في عمل اليوم والليلة عن مطر يعني بن طمهان الخراساني الوراق، قال المنذري: ضعفه غير واحد انتهى. وقد أخرج له مسلم في مواضع عن نافع عن ابن عمر فذكره بمعناه. قوله: من خاصم قال الغزالي: الخصومة لجاج في الكلام ليستوفى بها مال أو حق مقصود وتارة تكون ابتداء، وتارة تكون اعتراضا، والمراء لا يكون إلا اعتراضا على كلام سابق، قال بعضهم: إياك والخصومة فإنها تمحق الدين، ويقال: ما خاصم قط ورع. قوله: لم يزل في سخط الله هذا ذم شديد له شرطان: أحدهما أن تكون المخاصمة في باطل. والثاني أن يعلم أنه باطل فإن اختل أحد الشرطين فلا وعيد، وإن كان الاولى ترك المخاصمة ما وجد إليه سبيلا. قوله: من أعان على خصومة بظلم في معنى ذلك ما أخرجه الطبراني في الكبير من حديث أوس بن شرحبيل: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من مشى مع ظالم ليعينه وهو يعلم أنه ظالم فقد خرج من الاسلام وأما ما ورد في الحديث الصحيح بلفظ انصر أخاك ظالما أو مظلوما فقد ورد تفسيره في آخر الحديث: أن نصر الظالم كفه عن الظلم. قوله: فقد باء بغضب من الله أي انقلب ورجع بغضب لازم له، ومعنى الغضب في صفات الله إرادة العقوبة. (وفي الحديث) دليل على أنه ينبغي للحاكم إذا رأى مخاصما أو معينا على خصومة بتلك الصفة أن يزجره ويردعه لينتهي عن غيه. قوله: إن قيس بن سعد يعني ابن عبادة الانصاري الخزرجي. قوله: كان يكون قال الكرماني: فائدة تكرار لفظ الكون إرادة بيان الدوام والاستمرار. وقد وقع في رواية الترمذي وابن حبان والاسماعيلي وأبي نعيم وغيرهم بلفظ: كان قيس بن سعد الخ. قوله: بمنزلة صاحب الشرط زاد
[ 177 ]
الترمذي: لما يلي من أموره وقد ترجم ابن حبان لهذا الحديث فقال: احتراز المصطفى من المشركين في مجلسه إذا دخلوا وقد روى الاسماعيلي: أن سعدا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قيس أن يصرفه عن الموضع الذي وضعه فيه مخافة أن يقدم على شئ فصرفه عن ذلك. والشرط بضم المعجمة والراء والنسبة إليها شرطي بضمتين وقد يفتح الراء فيهما أعوان الامير. والمراد بصاحب الشرط كبيرهم فقيل سموا بذلك لانهم رذالة الجند. ومنه في حديث الزكاة المتقدم: ولا الشرط اللئيمة أي ردئ المال، وقيل لانهم الاشداء الاقوياء من الجند. ومنه في حديث الملاحم: ويتشرط شرطة للموت أي يتعاقدون على أن لا يفروا ولو ماتوا. قال الازهري: شرطة كل شئ خياره، ومنه الشرط لانهم نجبة الجند، وقيل هم أول طائفة تتقدم الجيش. وقيل سموا شرطا لان لهم علامات يعرفون بها في اللباس والهيئة وهو اختيار الاصمعي. وقيل لانهم أعدوا أنفسهم لذلك، يقال أشرط فلان نفسه لامر كذا إذا أعدها قاله أبو عبيد. وقيل مأخوذ من الشريط وهو الحبل المبروم لما فيهم من الشدة. وفي الحديث جواز اتخاذ الاعوان لدفع ما يرد على الامام والحاكم. باب النهي عن الحكم في حال الغضب إلا أن يكون يسيرا لا يشغل عن أبي بكرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان رواه الجماعة. وعن عبد الله بن الزبير عن أبيه: أن رجلا من الانصار خاصم الزبير عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شراج الحرة التي يسقون بها النخل فقال الانصاري: سرح الماء يمر فأبى عليه فاختصما عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للزبير: أسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك، فغضب الانصاري ثم قال: يا رسول الله آن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال للزبير: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر، فقال الزبير: والله إني لا أحسب أن هذه الآية نزلت إلا في ذلك: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم)
[ 178 ]
* (النساء: 65) الآية. رواه الجماعة لكنه للخمسة إلا النسائي من رواية عبد الله بن الزبير لم يذكر فيه عن أبيه. وللبخاري في رواية قال: خاصم الزبير رجلا وذكر نحوه وزاد فيه: فاستوعى رسوالله صلى الله عليه وآله وسلم حينئذ للزبير حقه، وكان قبل ذلك قد أشار على الزبير برأي فيه سعة له وللانصاري، فلما أحفظ الانصاري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم قال عروة قال الزبير: فوالله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك: * (فلا وربك) * الآية. رواه أحمد كذلك لكن قال عن عروة بن الزبير: أن الزبير كان يحدث أنه خاصم رجلا وذكره جعله من مسنده. وزاد البخاري في رواية: قال ابن شهاب: فقدرت الانصار والناس قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر فكان ذلك إلى الكعبين. وفي الخبر من الفقه جواز الشفاعة للخصم والعفو عن التعزير. قوله: لا يقضين الخ، قال المهلب: سبب هذا النهي أن الحكم حالة الغضب قد يتجاوز بالحاكم إلى غير الحق فمنع، وبذلك قال فقهاء الامصار. وقال ابن دقيق العيد: النهي عن الحكم حالة الغضب لما يحصل بسببه من التغير الذي يختل به النظر، فلا يحصل استيفاء الحكم على الوجه، قال: وعداه الفقهاء بهذا المعنى إلى كل ما يحصل به تغير الفكر كالجوع والعطش المفرطين وغلبة النعاس، وسائر ما يتعلق به القلب تعلقا يشغله عن استيفاء النظر، وهو قياس مظنة على مظنة، وكأن الحكمة في الاقتصار على ذكر الغضب لاستيلائه على النفس وصعوبة مقاومته بخلاف غيره. وقد أخرج البيهقي بسند ضعيف عن أبي سعيد رفعه: لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان انتهى. وسبب ضعفه أن في إسناده القاسم العمري وهو متهم بالوضع. وظاهر النهي التحريم، ولا موجب لصرفه عن معناه الحقيقي إلى الكراهة، فلو خالف الحاكم فحكم في حال الغضب فذهب الجمهور إلى أنه يصح إن صادف الحق، لانه صلى الله عليه وآله وسلم قضى للزبير بعد أن أغضبه كما في حديث الباب، فكأنهم جعلوا ذلك قرينة صارفة للنهي إلى الكراهة، ولا يخفى أنه لا يصح إلحاق غيره صلى الله عليه وآله وسلم به في مثل ذلك، لانه معصوم عن الحكم بالباطل في رضائه وغضبه، بخلاف غيره فلا عصمة تمنعه عن الخطأ، ولهذا ذهب بعض الحنابلة إلى أنه
[ 179 ]
لا ينفذ الحكم في حال الغضب لثبوت النهي عنه، والنهي يقتضي الفساد، وفصل بعضهم بين أن يكون الغضب طرأ عليه بعد أن استبان له الحكم فلا يؤثر وإلا فهو محل الخلاف. قال الحافظ ابن حجر: وهو تفصيل معتبر. وقيد إمام الحرمين والبغوي الكراهة بما إذا كان الغضب لغير الله، واستغرب الروياني هذا واستبعده غيره لمخالفته لظاهر الحديث وللمعنى الذي لاجله نهى عن الحكم حال الغضب. وذكر ابن المنير أن الجمع بين حديثي الباب بأن يجعل الجواز خاصا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لوجود العصمة في حقه والامن من التعدي أوان غضبه إنما كان للحق، فمن كان في مثل حاله جاز وإلا منع، وقد تعقب القول بالتحريم وعدم انعقاد الحكم بأن النهي الذي يفيد فساد المنهي عنه هو ما كان لذات المنهي عنه أو لجزئه أو لوصفه الملازم له لا المفارق كما هنا، وكما في النهي عن البيع حال النداء للجمعة، وهذه قاعدة مقررة في الاصول مع اضطراب فيها وطول نزاع وعدم اطراد. قوله: أن رجلا من الانصار اسمه ثعلبة بن حاطب وقيل حميد وقيل حاطب بن أبي بلتعة ولا يصح لانه ليس بأنصاري، وقيل إنه ثابت بن قيس بن شماس، وإنما ترك صلى الله عليه وآله وسلم قتله بعد أن جاء في مقاله بما يدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم جار في الحكم لاجل القرابة لان ذلك كان في أوائل الاسلام، وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يتألف الناس إذ ذاك، كما ترك قتل عبد الله بن أبي بعد أن جاء بما يسوغ به قتله. وقال القرطبي: يحتمل أنه لم يكن منافقا بل صدر منه ذلك عن غير قصد، كما اتفق لحاطب بن أبي بلتعة ومسطح وحمنة وغيرهم ممبدره لسانه بدرة شيطانية. قوله: في شراج بكسر الشين المعجمة وراء مهملة بعد الالف جيم وهي مسايل النخل والشجر، واحدتها شرجة وإضافتها إلى الحرة لكونها فيها، والحرة بفتح الحاء المهملة هي أرض ذات حجارة سود. قوله: سرح الماء بفتح السين المهملة وتشديد الراء المكسورة ثم حاء مهملة أي أرسله. قوله: ثم أرسل إلى جارك كان هذا على سبيل الصلح. قوله: أن كان ابن عمتك بفتح الهمزة لانه استفهام للاستكثار أي حكمت بهذا لكونه ابن عمتك. قوله: حتى يرجع الماء إلى الجدر بفتح الجيم وسكون الدال المهملة وهو الجدار، والمراد به أصل الحائط وقيل أصول الشجر، والصحيح الاول. وفي الفتح: أن المراد به هنا المسناة
[ 180 ]
وهي ما وضع بين شريات النخل كالجدار، ويروى الجدر بضم الجيم والدال جمع جدار. وحكى الخطابي الجذر بسكون الذال المعجمة وهو جذر الحساب والمعنى حتى يبلغ تمام الشرب. وفي بعض طرق الحديث: حتى يبلغ الماء الكعبين رواه أبو داود. قوله: فلما أحفظ الانصاري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالحاء المهملة أي أثار حفيظته. قال في الفتح: أحفظه بالمهملة والظاء المشالة أي أغضبه. قوله: فاستوعى أي استوفى وهو من الوعاء كأنه جمعه له في وعائه. قوله: فقدرت الانصار والناس هو من عطف العام على الخاص. قوله: فكان ذلك إلى الكعبين يعني أنهم لما رأوا أن الجدر يختلف بالطول والقصر قاسوا ما وقعت فيه القصة فوجدوه يبلغ الكعبين، فجعلوا ذلك معيار الاستحقاق الاول فالاول، والمراد بالاول هنا من يكون مبدأ الماء من ناحيته، وقد تقدم الكلام على ذلك في باب الناس شركاء في ثلاث من كتاب إحياء الموات. باب جلوس الخصمين بين يدي الحاكم والتسوية بينهما عن عبد الله بن الزبير قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم رواه أحمد وأبو داود. وعن علي عليه السلام: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الاول فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء رواه أحمد وأبو داود والترمذي. حديث عبد الله بن الزبير أخرجه أيضا البيهقي والحاكوفي إسناده مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير وهو ضعيف كما قال ابن معيوابن حبان، وبين الذهبي ذلك الضعف فقال فيه لين لغلطه. وقال أبو حاتم: صدوكثير الغلط. وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال المنذري: لا يحتج بحديثه، وقصحح الحديث الحاكم كما حكاه الحافظ في بلوغ المرام. وحديث أمير المؤمنين علي عليه السلام أخرجه أيضا ابن حبان وصححه وحسنه الترمذي، وله طرق منها عند البزاوفيها عمرو بن أبي المقدام، وفيها أيضا اختلاف على عمرو بن مرة، ففي رواية أبي يعلى أنه رواه عنه شعبة عن أبي البختري قال: حدثني من سمع أمير المؤمنين عليا. ومنهم من أخرجه
[ 181 ]
عن أبي البختري عن أمير المؤمنين علي عليه السلام. ومنهم من رواه عن حارثة بن مضرب عن أمير المؤمنين علي. ومنهم من رواه عن سماك بن حرب عن حنش بن المعتمر عن أمير المؤمنين علي. ومنهم من رواه من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس عن أمير المؤمنين علي عليه السلام. ورواه أبو يعلى والدارقطني والطبراني في الكبير من حديث أم سلمة بلفظ: من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه وإشارته ومقعده ومجلسه، ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفع على الآخر وفي إسناده عبادة بن كثير وهو ضعيف. وفي الباب عن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه جلس بجنب شريح في خصومة له مع يهودي فقال: لو كان خصمي مسلما جلست معه بين يديك ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا تساووهم في المجالس. أخرجه أبو أحمد الحاكم في الكنى في ترجمة أبي سمية عن الاعمش عن إبراهيم التيمي قال: عرف علي درعا مع يهودي فذكره مطولا وقال منكر. وأورده ابن الجوزي في العلل من هذا الوجه وقال: لا يصح تفرد به أبو سمية. ورواه البيهقي من وجه آخر من طريق جابر عن الشعبي قال: خرج أمير المؤمنين على السوق فإذا هو بنصراني يبيع درعا فعرف أمير المؤمنين علي عليه السلام الدرع وذكر الحديث. وفي إسناده عمرو بن سمرة عن جابر الجعفي وهما ضعيفان. قال ابن الصلاح: في كلامه على الوسيط لم أجد له إسنادا يثبت. قوله: أن الخصمين يقعدان الخ هذا فيه دليل لمشروعية قعود الخصمين بين يدي الحاكم، ولعل هذه الهيئة مشروعة لذاتها لا لمجرد التسوية بين الخصمين، فإنها ممكنة بدون القعود بين يدي الحاكم، بأن يقعد أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، أو أحدهما في جانب المجلس والآخر في جانب يقابله ويساويه أو نحو ذلك. والوجه في مشروعية هذه الهيئة أن ذلك هو مقعد الاهانة والاصغار، وموقف من لا يعتد بشأنه من الخدم ونحوهم لقصد الاعزاز للشريعة المطهرة والرفع من منارها وتواضع المتكبرين لها، وكثيرا ما ترى من كان متمسكا بأذيال الكبر يعظم عليه قعوده في ذلك المقعد، فلعل هذه هي الحكمة والله أعلم. (ويؤخذ) من الحديث أيضا مشروعية التسوية بين الخصمين، لانهما لما أمرا بالقعود جميعا على تلك الصفة كان الاستواء في الموقف لازما لها، وأوضح من ذلك حديث أم سلمة وقصة أمير المؤمنين علي عليه السلام مع خصمه عند شريح كما تقدم. وفيها
[ 182 ]
تخصيص المسلم إذا كان خصمه كافرا فلا يساويه في الموقف بل يرفع موقف المؤمن على موقف الكافر لان الاسلام يعلو ويستفاد من الحديث أن الخصمين لا يتنازعان قائمين أو مضطجعين أو أحدهما. قوله: حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الاول فيه دليل على أنه لا يحرم على الحاكم أن يحكم قبل سماع حجة كل واحد من الخصمين واستفصال ما لديه والاحاطة بجميعه، والنهي يدل على قبح المنهي عنه، والقبح يستلزم الفساد، فإذا قضى قبل السماع من أحد الخصمين كان حكمه باطلا فلا يلزم قبوله، بل يتوجه عليه نقضه ويعيده على وجه الصحة أو يعيده حاكم آخر، فإن امتنع أحد الخصمين من الاجابة لخصمه جاز القضاء عليه لتمرده، ولكن بعد التثبت المسوغ للحكم كما في الغائب على خلاف فيه معروف باب ملازمة الغريم إذا ثبت عليه الحق وإعداء الذمي على المسلم عن هرماس بن حبيب رجل من أهل البادية عن أبيه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغريم لي فقال لي الزمه، ثم قال لي: يا أخا بني تميم ما تريد أن تفعل بأسيرك؟ رواه أبو داود وابن ماجة وقال فيه: ثم مر بي آخر النهار فقال: ما فعل أسيرك يا أخا بني تميم؟. وقال في مسنده عن أبيه عن جده وعن ابن أبي حدرد الاسلمي أنه كان ليهودي عليه أربعة دراهم فاستعدى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا محمد إن لي على هذا أربعة دراهم وقد غلبني عليها، فقال: أعطه حقه، قال: والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها، قال: أعطه حقه، قال: والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها، قد أخبرته أنك تبعثنا إلى خيبر فأرجو أن تغنمنا شيئا فأرجع فأقضيه، قال: أعطه حقه، قال: وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا قال ثلاثا لم يراجع، فخرج به ابن أبي حدرد إلى السوق وعلى رأسه عصابة وهو متزر ببردة فنزع العمامة عن رأسه فاتزر بها ونزع البردة ثم قال: اشتر مني هذه البردة فباعها منه بأربعة دراهم، فمرت عجوز فقالت: ما لك يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فأخبرها فقالت: ها دونك هذا البرد عليها طرحته عليه رواه أحمد. وفيه أن الحاكم يكرر على الناكل وغيره ثلاثا. ومثله ما روى أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا سلم سلم ثلاثا، وإذا تكلم بكلمة أعادها
[ 183 ]
ثلاثا رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه. حديث هرماس أخرجه البخاري في تاريخه الكبير عن أبيه عن جده. وقال ابن أبي حاتم: هرماس بن حبيب العنبري روى عن أبيه عن جده ولجده صحبة، وذكر أنه سأل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين عن الهرماس بن حبيب العنبري فقالا: لا نعرفه. وقال سألت أبي عن هرماس بن حبيب فقال: هو شيخ أعرابي لم يرو عنه غير النضر بن شميل ولا يعرف أبوه ولا جده. وحديث ابن أبي حدرد قال في مجمع الزوائد: رواه أحمد والطبراني في الصغير والاوسط ورجاله ثقات، إلا أن محمد بن أبي يحيى لم أجد له رواية عن الصحابة فيكون مرسلا صحيحا انتهى. قوله: إلزمه بفتح الزاي فيه دليل على جواز ملازمة من له الدين لمن هو عليه بعد تقرره بحكم الشرع، وقد حكاه في البحر عن أبي حنيفة وأحد وجهي أصحاب الشافعي فقالوا: إنه يسير حيث سار ويجلس حيث جلس، غير مانع له من الاكتساب ويدخل معه داره. وذهب أحمد إلى أن الغريم إذا طلب ملازمة غريمه حتى يحضر ببينته القريبة أجيب إلى ذلك، لانه لو لم يمكن من ملازمته ذهب من مجلس الحاكم وهذا بخلاف البينة البعيدة، وذهب الجمهور إلى أن الملازمة غير معمول بها، بل إذا قال لي بينة غائبة، قال الحاكم: لك يمينه أو أخره حتى تحضر بينتك، وحملوا الحديث على أن المراد الزم غريمك بمراقبتك له بالنظر من بعد، ولعل الاعتذار عن الحديث بما فيه من المقال أولى من هذا التأويل المتعسف. وأما حديث ابن أبي حدرد فليس فيه دليل على الملازمة، بل فيه التشديد على المديون بإيجاب القضاء وعدم قبول دعواه الاعسار لمجردها من دون بينة، وعدم الاعتداد بيمينه من غير فرق بين أن يكون صاحب المال مسلما أو كافرا. قوله: ما تريد أن تفعل بأسيرك سماه أسيرا باعتبار ما يحصل له من المذلة بالملازمة له وكثرة تذلله عند المطالبة، وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم يعرض بالشفاعة. وقد زاد رزين بعد قوله ما تريد أن تفعل بأسيرك فأطلقه. قوله: وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا لعل هذا في الامور التي يريد صلى الله عليه وآله وسلم أن تحفظ عنه وتنقلها الناس إلى بعضهم بعضا، بخلاف الكلام في المحاورات التي تجري من دون قصد إلى حفظها لكونها ليست من الامور الشرعية، فلعل التكرار فيها لم يقع منه صلى الله عليه وآله وسلم لعدم الفائدة في ذلك، مثلا لو أنه صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يخبر رجلا بأنه خرج إلى المسجد وصلى ورجع إلى بيته
[ 184 ]
فكرر كل كلمة من هذا الخبر ثلاث مرات لم يكن ذلك بمكان من الحسن والقبول. وأما تكرير التسليم فلعله التسليم المراد به الاستئذان، وقد ثبتت مشروعية تكريره لايقاظ رب المنزل الذي وقع الاستئذان عليه، لا أنه كان يكرر السلام الواقع لمحض التحية مثلا لا يلقى رجلا في طريق فيقوم بين يديه ويسلم عليه ثلاث مرات. باب الحاكم يشفع للخصم ويستوضع له [ رح 3898 ] عن كعب بن مالك: أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينا كان له عليه في المسجد فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سجف حجرته فنادى: يا كعب، فقال: لبيك يا رسول الله، قال: ضع من دينك هذا وأومأ إليه أي الشطر، قال: قد فعلت يا رسول الله، قال: قم فاقضه رواه الجماعة إلا الترمذي. وفيه من الفقه جواز الحكم في المسجد، وأن من قيل له بع أو هب أو أبر فقال قد فعلت صح ذلك منه، والايماء المفهوم يقوم مقام النطق. قوله: سجف حجرته بكسر السين المهملة وفتحها وسكون الجيم وهو الستر وقيل الرقيق منه يكون في مقدم البيت، ولا يسمى سجفا إلا أن يكون مشقوق الوسط كالمصراعين، والحجرة ما يجعل عليه الرجل حاجرا في بيته. قوله: ضع من دينك هذا وأومأ إليه فيه دليل على أن الاشارة المفهمة بمنزلة الكلام لانها تدل كما تدل عليه الحروف والاصوات، فيصح بيع الاخرس وشراؤه وإجارته وسائر عقوده إذا فهم ذلك عنه. قوله: أي الشطر هو النصف على المشهور، ووقع في حديث الاسراء ما يدل على أن الشطر يطلق على الجزء، والمراد بهذا الامر الواقع منه صلى الله عليه وآله وسلم الارشاد إلى الصلح والشفاعة في ترك بعض الدين، وفيه فضيلة الصلح وحسن التوسط بين المتخاصمين. قوله: قد فعلت الخ يحتمل أن يكون نزاعهما في مقدار الدين كأن يدعي صاحب الدين مقدارا زائدا على ما يقر به المديون، فأمره صلى الله عليه وآله وسلم أن يضع الشطر من المقدار الذي ادعاه فيكون الصلح حينئذ عن إنكار، ويدل الحديث على جوازه. ويحتمل أن يكون النزاع بينهما في التقاضي باعتبار
[ 185 ]
حلول الاجل وعدمه مع الاتفاق على مقدار أصل الدين، فلا يكون في الحديث دليل على جواز الصلح عن إنكار، وقد ذهب إلى بطلان الصلح عن إنكار الشافعي ومالك وأبو حنيفة والهادوية. قوله: ثم فاقضه قيل: هذا أمر على جهة الوجوب لان رب الدين لما طاوع بوضع الشطر تعين على المديون أن يعجل إليه دينه لئلا يجمع على رب المال بين الوضيعة والمطل. باب أن حكم الحاكم ينفذ ظاهرا لا باطنا عن أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار رواالجماعة، وقد احتج به من لم ير أن يحكم الحاكم بعمله. قوله: إنما أنا بشر البشر يطلق على الجماعة والواحد بمعنى أنه منهم، والمراد أنه مشارك للبشر في أصل الخلقة، ولو زاد عليهم بالمزايا التي اختص بها في ذاته وصفاته، والحصر هنا مجازي لانه يختص بالعلم الباطن ويسمى قصر قلب، لانه أتى به ردا على من زعم أن من كان رسولا فإنه يعلم كل غيب حتى لا يخفى عليه المظلوم من الظالم، وقد أطال الكلام على بيان معنى هذا الحصر علماء المعاني والبيان فليرجع إلى ذلك. قوله: ألحن بالنصب على أنه خبر كان أي أفطن بها، ويجوز أن يكون معناه أفصح تعبيرا عنها وأظهر احتجاجا حتى يخيل أنه محق وهو في الحقيقة مبطل. والاظهر أن معناه أبلغ كما وقع في رواية في الصحيحين أي أحسن إيرادا للكلام، ولا بد في هذا التركيب من تقدير محذوف لتصحيح معناه أي وهو كاذب، ويسمى هذا عند الاصوليين دلالة اقتضاء، لان هذا المحذوف اقتضاه اللفظ الظاهر المذكور بعده. وقال في النهاية: اللحن الميل عن جهة الاستقامة، يقال: لحن فلان في كلامه إذا مال عن صحيح المنطق وأراد أن بعضهم يكون أعرف بالحجة وأفطن لها من غيره، ويقال لحنت لفلان إذا قلت له قولا يفهمه ويخفى على غيره لانك تميله بالتورية عن الواضح المفهوم انتهى. قوله: فإنما أقطع له قطعة من النار أي الذي قضيت له بحسب الظاهر إذا كان في الباطن لا يستحقه فهو عليه حرام يؤل به
[ 186 ]
إلى النار، وهو تمثيل يفهم منه شدة التعذيب على ما يتعاطاه فهو من مجاز التشبيه كقوله تعالى: * إنما يأكلون في بطونهم نارا) * (النساء: 10) وقد قدمنا الكلام على بعض ألفاء الحديث في كتاب الصلح، فوقع تكرار البعض هنا لتكرار الفائدة. (وفي الحديث) دليل على إثم من خاصم في باطل حتى استحق به في الظاهر شيئا هو في الباطن حرام عليه، وأن من احتال لامر باطل بوجه من وجوه الحيل حتى يصير حقا في الظاهر ويحكم له به أنه لا يحل له تناوله في الباطن ولا يرتفع عنه الاثم بالحكم، وفيه أن المجتهد إذا أخطأ لا يلحقه إثم بل يؤجر كما في الحديث الصحيح، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر، وفيه أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقضي بالاجتهاد فيما لم ينزل عليه فيه شئ، وخالف في ذلك قوم، وهذا الحديث من أصرح ما يحتج به عليهم، وفيه أنه ربما أداه اجتهاده إلى أمر فيحكم به ويكون في الباطن بخلاف ذلك. قال الحافظ: لكن مثل ذلك لو وقع لم يقر عليه صلى الله عليه وآله وسلم لثبوت عصمته، واحتج من منع مطلقا بأنه لو جاز وقوع الخطأ في حكمه للزم أمر المكلفين بالخطأ لثبوت الامر باتباعه في جميع أحكامه حتى قال تعالى: * (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) * (النساء: 65) الآية، وبأن الاجماع معصوم من الخطأ فالرسول أولى بذلك. وأجيب عن الاول بأن الامر إذا استلزم الخطأ لا محذور فيه لانه موجود في حق المقلدين فإنهم مأمورون باتباع المفتي والحاكم ولو جاز عليه الخطأ. وأجيب عن الثاني برد الملازمة، فإن الاجماع إذا فرض وجوده دل على أن مستندهم ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فرجع الاتباع إلى الرسول لا إلى نفس الاجماع. قال الحافظ: وفي الحديث أيضا أن من ادعى مالا ولم يكن له بينة فحلف المدعى عليه وحكم الحاكم ببراءة الحالف أنه لا يبرأ في الباطن ولا يرتفع عنه الاثم بالحكم، والحديث حجة لمن أثبت أنه قد يحكم صلى الله عليه وآله وسلم بالشئ في الظاهر ويكون الامر في الباطن بخلافه، ولا مانع من ذلك إذ لا يلزم منه محال عقلا ولانقلا. وأجاب من منع بأن الحديث يتعلق بالحكومات الواقعة في فصل الخصومات المبنية على الاقرار أو البينة، ولا مانع من وقوع ذلك فيها ومع ذلك لا يقر على الخطأ، وإنما الذي يمتنع وقوع الخطأ فيه أن يخبر عن أمر بأن الحكم الشرعي فيه كذا ويكون ذلك ناشئا عن اجتهاده، فإنه لا يكون إلا حقا لقوله تعالى: * (وما ينطق عن الهوى) * (النجم: 3) وأجيب بأن ذلك يستلم الحكم الشرعي
[ 187 ]
فيعود الاشكال كما كان، والمقام يحتاج إلى بسط طويل ومحله الاصول فليرجع إليها. قا الطحاوي: ذهب قوم إلى أن الحكم بتمليك مال أو إزالة ملك أو إثبات نكاح أو فرقة أو نحو ذلك إن كان في الباطن كما هو في الظاهر نفذ على ماحكم به، وإن كافي الباطن على خلاف ما استند إليه الحاكم من الشهادة أو غيرها لم يكن الحكم موجبا للتمليك ولا الازالة ولا النكاح ولا الطلاق ولاغيرها وهو قول الجمهور ومعهم أبو يوسف. وذهب آخرون إلى أن الحكم إن كان في مال وكان الامر في الباطن بخلاف ما استند إليه الحاكم من الظاهر لم يكن ذلك موجبا لحله للمحكوم له، وإن كان في نكاح أو طلاق فإنه ينفذ ظاهرا وباطنا، وحملوا حديث الباب على ما ورد فيه وهو المال واحتجوا لما عداه بقصة المتلاعنين، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم فرق بين المتلاعنين مع احتمال أن يكون الرجل قد صدق فيما رماها به، قالوا: فيؤخذ من هذأن كل قضاء ليس فيه تمليك مال أنه على الظاهر ولو كان الباطن بخلافه، وأن حكم الحاكم يحدث في ذلك التحريم والتحليل بخلاف الاموال، وتعقب بأن الفرقة في اللعان إنما وقعت عقوبة للعلم بأن أحدهما كاذب وهو أصل برأسه فلا يقاس عليه. وقال بعض الحنفية مجيبا على من استدل بالحديث لما تقدم: بأن ظاهر الحديث يدل على أن ذلك مخصوص بما يتعلق بسماع كلام الخصم حيث لا بينة هناك ولا يمين، وليس النزاع فيه وإنما النزاع في الحكم المرتب على الشهادة، وبأن من في قوله: فمن قضيت له شرطية وهي لا تستلزم الوقوع فيكون من فرض ما لم يقع وهو جائز فيما يتعلق به غرض، وهو هنا محتمل لان يكون للتهديد والزجر عن الاقدام على أخذ أموال الناس بالمبالغة في الخصومة، وهو وإن جاز أن يستلزم عدم نفوذ الحكم باطنا في العقود والفسوخ لكنه لم يسق لذلك فلا يكون فيه حجة لمن منع، وبأن الاحتجاج به يستلزم أنه صلى الله عليه وآله وسلم يقر على الخطأ لانه لا يكون ما قضى به قطعة من النار إلا إذا استمر الخطأ، وإلا فمتى فرض أنه يطلع عليه فإنه يجب أن يبطل ذلك الحكم ويرد الحق لمستحقه. وظاهر الحديث يخالف ذلك، فإما أن يسقط الاحتجاج به ويؤول على ما تقدم، وإما أن يستلزم استمرار التقرير على الخطأ وهو باطل، والجواب عن الاول أنه خلاف الظاهر بل من التحريف الذي لا يفعله منصف وكذا الثاني. والجواب عن الثالث أن الخطأ الذي لا يقر عليه هو الحكم الذي صدر عن اجتهاده فيما لم يوح إليه فليس النزاع
[ 188 ]
فيه، وإنما النزاع في الحكم الصادر منه عن شهادة زور أو يمين فاجرة، فلا يسمى خطأ للاتفاق على العمل بالشهادة وبالايمان، وإلا لكان الكثير من الاحكام يسمى خطأ، وليس كذلك لما في حديث: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم فيحكم بإسلام من تلفظ بالشهادتين، ولو كان في نفس الامر يعتقد خلاف ذلك، ولما في حديث المتلاعنين حيث قال: لولا الايمان لكان لي ولها شأن فإنه لو كان خطأ لم يترك استدراكه والعمل بما عرفه. وكذلك حديث: إني لم أومر بالتنقيب عن قلوب الناس فالحجة من حديث الباب شاملة للاموال والعقود والفسوخ، وقد حكى الشافعي الاجماع على أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام. قال النووي: والقول بأن حكم الحاكم يحلل ظاهرا وباطنا مخالف لهذا الحديث الصحيح وللاجماع المذكور، ولقاعدة أجمع عليها العلماء ووافقهم القائل المذكور وهي أن الابضاع أولى بالاحتياط من الاموال، وفي المقام مقاولات ومطاولات، ومع وضوح الصواب لا فائدة في الاطناب. وقد استدل المصنف رحمه الله تعالى بالحديث على أن الحاكم لا يحكم بعلمه، وسيأتي الكلام على ذلك في باب مستقل إن شاء الله تعالى، وفيه الرد على من حكم بما يقع في خاطره من غير استناد إلى أمر خارجي من بينة ونحوها، ووجه الرد عليه أنه صلى الله عليه وآله وسلم أعلى في ذلك من غيره مطلقا، ومع ذلك فقد دل حديثه هذا على أنه إنما يحكم بالظاهر في الامور العامة، فلو كان المدعي صحيحا لكان الرسول أحق بذلك فإنه أعلم أنه تجري الاحكام على ظاهرها، مع أنه يمكن أن الله يطلعه على غيب كل قضية، وسبب ذلك أن تشريع الاحكام واقع على يده، فكأنه أراد تعليم غيره من الحكام أن يعتمدوا ذلك، نعم لو شهدت البينة مثلا بخلاف ما يعلمه مشاهدة أو سماعا أو ظنا راجحا لم يجز له أن يحكم بما قامت به البينة. قال الحافظ: ونقل بعضهم فيه الاتفاق وإن وقع الاختلاف فيه في القضاء بالعلم كما سيأتي. باب ما يذكر في ترجمة الواحد في حديث زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره فتعلم كتاب اليهود وقال: حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كتبه وأقرأته كتبهم إذا
[ 189 ]
كتبوا إليه رواه أحمد والبخاري. قال البخاري: قال عمر بن الخطاب وعنده أمير المؤمنين علي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف: ماذا تقول هذه؟ فقال عبد الرحمن بن حاطب: فقلت تخبرك بالذي صنع بها قال وقال أبو جمرة: كنت أترجم بين ابن عباس وبين الناس. قوله: حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كتبه يعني إليهم هذا الحديث من الاحاديث المعلقة في البخاري، وقد وصله في تاريخه بلفظ: أن زيد بن ثابت قال: أتي بي النبي صلى الله عليه وآله وسلم مقدمه المدينة فأعجب بي فقيل له: هذا غلام من بني النجار قد قرأ مما أنزل الله عليك بضع عشرة سورة فاستقرأني فقرأت ق. فقال لي: تعلم كتاب يهود فإني ما آمن يهود على كتابي، فتعلمته في نصف شهر حتى كتبت له إلى يهود وأقرأ له إذا كتبوا إليه وأخرجه أيضا موصولا أبو داود والترمذي وصححه، وأخرجه أحمد وإسحاق، وأخرجه أيضا أبو يعلى بلفظ: إني أكتب إلى قوم فأخاف أن يزيدوا علي وينقصوا فتعلم السريانية وظاهره أن اللغة السريانية كانت معروفة يومئذ وهي غير العبرانية، فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يتعلم اللغتين. قوله: ماذا تقول هذه أي المرأة التي وجدت حبلى. قوله: وقال أبو جمرة بالجيم المفتوحة والميم الساكنة والراء المهملة. (وفي الحديث) جواز ترجمة واحد، قال ابن بطال: أجاز الاكثر ترجمة واحدة وقال محمد بن الحسن: لا بد من رجلين أو رجل وامرأتين. وقال الشافعي: هو كالبينة. وعن مالك روايتان. ونقل الكرابيسي عن مالك والشافعي الاكتفاء بترجمان واحد. وعن أبي حنيفة الاكتفاء بواحد. وعن أبي يوسف باثنين. وعن زفر لا يجوز أقل من اثنين. وقال الكرماني: لا نزاع لاحد أنه يكفي ترجمان واحد عند الاخبار، وأنه لا بد من اثنين عند الشهادة، فيرجع الخلاف إلى أنها أخبار أو شهادة، فلو سلم الشافعي أنها أخبار لم يشترط العدد، ولو سلم الحنفي أنها شهادة لقال بالعدد. وقال ابن المنذر: القياس يقتضي اشتراط العدد في الاحكام، لان كل شئ غاب عن الحاكم لا تقبل فيه إلا البينة الكاملة، والواحد ليس بينة كاملة حتى يضم إليه كمال النصاب، غير أن الحديث إذا صح سقط النظر. وفي الاكتفاء بزيد بن ثابت وحده حجة ظاهرة لا يجوز خلافها انتهى. وتعقبه الحافظ فقال: يمكن
[ 190 ]
أن يجاب بأنه ليس غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الحكام في ذلك مثله لامكان اطلاعه على ما غاب عنه بالوحي بخلاف غيره بل لا بد له من أكثر من واحد، فمهما كان طريقه الاخبار يكتفي فيه بالواحد، ومهما كان طريقه الشهادة لا بد فيه من استيفاء النصاب، وقد نقل الكرابيسي أن الخلفاء الراشدين والملوك بعدهم لم يكن لهم إلا ترجمان واحد. وقد نقل ابن التين من رواية ابن عبد الحكم لا يترجم إلا حر عدل. وإذا أقر المترجم بشئ وجب أن يسمع ذلك منه شاهدان ويرفعان ذلك إلى الحاكم. باب الحكم بالشاهد واليمين عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بيمين وشاهد رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة. وفي رواية لاحمد: إنما كان ذلك في الاموال. وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى باليمين مع الشاهد رواه أحمد وابن ماجة والترمذي، ولاحمد من حديث عمارة بن حزم وحديث سعد بن عبادة مثله. وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن أمير المؤمنين علي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بشهادة شاهد واحد ويمين صاحب الحق وقضى به أمير المؤمنين علي بالعراق رواه أحمد والدارقطني وذكره الترمذي. وعن ربيعة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باليمين مع الشاهد الواحد رواه ابن ماجة والترمذي وأبو داود وزاد: قال عبد العزيز الداروردي فذكرت ذلك لسهيل فقال: أخبرني ربيعة وهو عندي ثقة أني حدثته إياه ولا أحفظه، قال عبد العزيز: وقد كان أصاب سهيلا علة أذهبت بعض عقله ونسي بعض حديثه فكان سهيل بعد يحدثه عن ربيعه عنه عن أبيه. وعن سرق: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجاز شهادة الرجل ويمين الطالب رواه ابن ماجة. حديث ابن عباس قال في التخليص قال فيه الشافعي: وهذا الحديث ثابت لا يرده أحد من أهل العلم لو لم يكن فيه غيره مع أن معه غيره مما يشده. وقال النسائي: إسناده جيد. وقال البزار: في الباب أحاديث حسان أصحها حديث ابن عباس. وقال
[ 191 ]
ابن عبد البر: لا مطعن لاحد في إسناده. وقال عباس الدوي في تاريخ يحيى بن معين: ليس بمحفوظ. وقال البيهقي: أعله الطحاوي بأنه لا يعلم قيسا يحدث عن عمرو بن دينار بشئ، قال: وليس ما لا يعلمه الطحاوي لا يعلمه غيره. ثم روي بإسناد جيد حديثا من طريق وهب بن جرير عن أبيه عن قيس بن سعد عن عمرو بن دينار حديث الذي وقصته ناقته وهو محرم ثم قال: وليس من شرط قبول رواية الاخبار كثرة رواية الراوي عمن روى عنه، ثم إذا روى الثقة عمن لا ينكر سماعه منه حديثا واحدا وجب قبوله، وإن لم يكن يروى عنه غيره على أن قيسا قدتوبع عليه، رواه عبد الرزاق عن محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار، أخرجه أبو داود وتابع عبد الرزاق أبو حذيفة. وقال الترمذي في العلل: سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال: لم يسمعه عندي عمرو من ابن عباس. قال الحاكم: قد سمع عمرو من ابن عباس عدة أحاديث، وسمع من جماعة من أصحابه، فلا ينكر أن يكون سمع منه حديثا وسمعه من بعض أصحابه عنه. وأما رواية عصام البلخي وغيره ممن زاد بين عمرو وابن عباس طاوسا فهم ضعفاء. قال البيهقي: ورواية الثقات لا تعلل برواية الضعفاء، انتهى ما في التلخيص على الحديث. وحديث جابر أخرجه أيضا البيهقي وهو من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر. قال الترمذي: رواه الثوري وغيره عن جعفر عن أبيه مرسلا وهو أصح، وقيل عن أبيه عن أمير المؤمنين علي انتهى. وقد ذكر المصنف رحمه الله الطريقين كما ترى. وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه وأبي زرعة: هو مرسل. وقال الدارقطني: كان جعفر ربما أرسله وربما وصله. وقال الشافعي والبيهقي: عبد الوهاب وصله وهو ثقة. قال البيهقي: روى إبراهيم بن أبي هند عن جعفر عن أبيه عن جابر رفعه: أتاني جبريل وأمرني أن أقضي باليمين مع الشاهد وإبراهيم ضعيف جدا، رواه ابن عدي وابن حبان في ترجمته، وقد صحح حديث جابر أبو عوانة وابن خزيمة، وحديث عمارة قال في مجمع الزوائد: رجاله ثقات ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى باليمين والشاهد وحديث سعد بن عبادة لفظه في مسند أحمد عن إسماعيل بن عمرو بن قيس بن سعد بن عبادة عن أبيه: أنهم وجدوا في كتاب سعد بن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى باليمين والشاهد انتهى، وإسماعيل بن عمرو قال الحافظ الحسيني: شيخ محله الصدق، وأبوه لم يذكر بشئ، وسائر الاسناد رجاله رجال الصحيح. وأخرجه البيهقي وأبو عوانة في
[ 192 ]
صحيحه من حديثه بسند آخر. وحديث أبي هريرة قال الحافظ في الفتح: رجاله مدنيون ثقات، ولا يضره أن سهيل بن أبي صالح نسيه بعد أن حدث به ربيعة لانه كان بعد ذلك يرويه عن ربيعة عن نفسه انتهى. وأخرجه أيضا الشافعي. وروى ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه أنه صحيح. ورواه البيهقي من حديث مغيرة بن عبد الرحمن عن أبي الزناد عن الاعرج عن أبي هريرة. وقال الترمذي بعد إخراج الطريق الاولى: حسن غريب. قال ابن رسلان في شرح السنن: أنه صحح حديث الشاهد واليمين الحافظان أبو زرعة وأبو حاتم من حديث أبي هريرة وزيد بن ثابت، وحديث سرق في إسناده رجل مجهول وهو الراوي له عنه فإنه قال ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا جويرة بن أسماء، حدثنا عبد الله بن يزيد مولى المنبعث عن رجل من أهل مصر عن سرق فذكره ورجال إسناده رجال الصحيح لولا هذا الرجل المجهول، وقد أخرجه أيضا أحمد. قال في التلخيص فائدة: ذكر ابن الجوز في التحقيق عدد من رواه فزاد على عشرين صحابيا، وأصح طرقه حديث ابن عباس ثم حديث أبي هريرة. وأخرج الدارقطني من حديث أبي هريرة مرفوعا قال: استشرت جبريل في القضاء باليمين والشاهد فأشار علي بالاموال لا نعد ذلك وإسناده ضعيف. وفي الباب عن الزبيب بضم الزاي وفتح الموحدة وسكون المثناة وهو ابن ثعلبة فذكر قصة وفيها أنه قال له صلى الله عليه وآله وسلم: هل لك بينة على أنكم أسلمتم قبل أن تؤخذوا في هذه الايام؟ قلت نعم، قال: من بينتك؟ قلت سمرة رجل من بني العنبر ورجل آخر سماه له، فشهد الرجل وأبي سمرة أن يشهد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد أبى أن يشهد لك فتحلف مع شاهدك الآخر؟ قلت نعم، فاستحلفني فحلفت بالله لقد أسلمنا يوم كذا وكذا، ثم ذكر تمام القصة وفيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمل بالشاهد واليمين، أخرجه أبو داود مطولا. قال الخطابي: إسناده ليس بذاك. وقال أبو عمر النمري: إنه حديث حسن، قال المنذري: وقد روى القضاة بالشاهد واليمين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من رواية عمر بن الخطاب وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وسعد بن عبادة والمغيرة بن شعبة وجماعة من الصحابة انتهى، فجملة عدد من ذكره المصنف رحمه الله سبعة، وزبيب وعمر بن الخطاب والمغيرة وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عمر بن الخطاب
[ 193 ]
وأبو سعيد الخدري وبلال بن الحرث ومسلمة بن قيس وعامر بن ربيعة وسهل بن سعد وتميم الداري وأم سلمة وأنس، هؤلاء أحد وعشرون رجلا من الصحابة وهو المشار إليهم بقول ابن الجوزي: فزاد عددهم على عشرين. وقد استدل بأحاديث الباب جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم فقالوا: يجوز الحكم بشاهد ويمين المدعي، وقد حكى ذلك صاحب البحر عن أمير المؤمنين علي وأبي بكر وعمر وعثمان وأبي وابن عباس وعمر بن عبد العزيز وشريح والشعبي وربيعة وفقهاء المدينة والناصر والهادوية ومالك والشافعي. وحكي أيضا عن زيد بن علي والزهري والنخعي وابن شبرمة والامام يحيى وأبي حنيفة وأصحابه أنه لا يجوز الحكم بشاهد ويمين. وقد حكى البخاري وقوع المراجعة في ذلك ما بين أبي الزناد وابن شبرمة فاحتج أبو الزناد على جواز القضاء بشاهد ويمين بالخبر الوارد في ذلك، فأجاب عليه ابن شبرمة بقوله تعالى: * (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) * (البقرة: 282) قال الحافظ: وإنما تتم له الحجة بذلك على أصل مختلف فيه بين الفريقين يعني الكوفيين والحجازيين، وهو أن الخبر إذا ورد متضمنا لزيادة على ما في القرآن هل يكون نسخا والسنة لا تنسخ القرآن؟ أو لا يكون نسخا بل زيادة مستقلة بحكم مستقل إذا ثبت سنده وجب القول به، والاول مذهب الكوفيين، والثاني مذهب الحجازيين. ومع قطع النظر عن ذلك لا تنهض حجة ابن شبرمة لانها تصير معارضة للنص بالرأي وهو غير معتد به، وقد أجاب عنه الاسماعيلي فقال: الحاجة إلى إذكار إحداهما الاخرى إنما هو فيما إذا شهدتا، فإن لم تشهدا قامت مقامهما يمين الطالب ببيان السنة الثابتة، واليمين ممن هي عليه لو انفردت لحلت محل البينة في الاداء والابراء، فلذلك حلت اليمين هنا محل المرأتين في الاستحقاق بها مضافة إلى الشاهد الواحد، قال: ولو لزم إسقاط القول بالشاهد واليمين لانه ليس في القرآن للزم إسقاط الشاهد والمرأتين لانهما ليستا في السنة لانه صلى الله عليه وآله وسلم قال: شاهداك أو يمينه وحاصله أنه لا يلزم من التنصيص على الشئ نفيه عما عداه، لكن مقتضى ما بحثه أنه لا يقضي باليمين مع الشاهد الواحد إلا عند فقد الشاهدين أو ما قام مقامهما من الشاهد والمرأتين، وهو وجه للشافعية وصححه الحنابلة، ويؤيده ما روى الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: قضى الله ورسوله في الحق بشاهدين، فإن جاء بشاهدين أخذ حقه، وإن جاء بشاهد واحد حلف مع شاهده
[ 194 ]
وأجاب بعض الحنفية بأن الزيادة على القرآن نسخ، وأخبار الآحاد لا تنسخ المتواتر، ولا تقبل الزيادة من الاحاديث إلا إذا كان الخبر بها مشهورا. وأجيب بأن النسخ رفع الحكم ولا رفع هنا. وأيضا فالناسخ والمنسوخ لا بد أن يتواردا على محل واحد، وهذا غير متحقق في الزيادة على النص. وغاية ما فيه أن تسمية الزيادة كالتخصيص نسخا اصطلاح، ولا يلزم منه نسخ الكتاب بالسنة، لكن تخصيص الكتاب بالسنة جائز، وكذلك الزيادة عليه كما في قوله تعالى: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * (النساء: 24) وأجمعوا على تحريم نكاح العمة مع بنت أخيها، وسند الاجماع في ذلك السنة الثابتة، وكذلك قطع رجل السارق في المرة الثانية ونحو ذلك. وقد أخذ من رد الحكم بالشاهد واليمين لكونه زيادة على ما في القرآن ترك العمل بأحاديث كثيرة في أحكام كثيرة كلها زائدة على ما في القرآن كالوضوء بالنبيذ والوضوء من القهقهة، ومن القئ واستبراء المسبية، وترك قطع من سرق ما يسرع إليه الفساد، وشهادة المرأة الواحدة في الولادة، ولا قود إلا بالسيف، ولا جمعة إلا في مصر جامع، ولا تقطع الايدي في الغزو، ولا يرث الكافر المسلم، ولا يؤكل الطافي من السمك، ويحرم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير، ولا يقتل الوالد بالولد، ولا يرث القاتل من القتيل، وغير ذلك من الامثلة التي تتضمن الزيادة على عموم الكتاب. وأجابوا بأن الاحاديث الواردة في هذه المواضع المذكورة أحاديث شهيرة، فوجب العمل بها لشهرتها فيقال لهم، وأحاديث القضاء بالشاهد واليمين رواها عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نيف وعشرون نفسا كما قدمنا، وفيها ما هو صحيح كما سلف، فأي شهرة تزيد على هذه الشهرة؟ قال الشافعي: القضاء بشاهد ويمين لا يخالف ظاهر القرآن لانه لا يمنع أن يجوز أقل مما نص عليه، يعني والمخالف لذلك لا يقول بالمفهوم أصلا فضلا عن مفهوم العدد. قال ابن العربي: أظرف ما وجدت لهم في رد الحكم بالشاهد واليمين أمران: أحدهما أن المراد قضى بيمين المنكر مع شاهد الطالب، والمراد أن الشاهد الواحد لا يكفي في ثبوت الحق فتجب اليمين على المدعى عليه، فهذا المراد بقوله: قضى بالشاهد واليمين. وتعقبه ابن العربي بأنه جهل باللغة، لان المعية تقتضي أن تكون من شيئين في جهة واحدة لا في المتضادين، ثانيهما حمله على صورة مخصوصة، وهي أن رجلا اشترى من آخر عبدا مثلا فادعى المشتري أن
[ 195 ]
به عيبا وأقام شاهدا واحدا فقال البائع: بعته بالبراءة، فيحلف المشتري أنه ما اشتراه بالبراءة ويرد العبد وتعقبه بنحو ما تقدم وبندور ذلك، فلا يحمل الخبر على النادر. وأقول: جميع ما أورده المانعون من الحكم بشاهد ويمين غير نافق في سوق المناظرة عند من له أدنى إلمام بالمعارف العلمية وأقل نصيب من أنصاف، فالحق أن أحاديث العمل بشاهد ويمين زيادة على ما دل عليه قوله تعالى: * (واستشهدوا شهيدين) * الآية. وعلى ما دل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: شاهداك أو يمينه غير منافية للاصل فقبولها متحتم، وغاية ما يقال على فرض التعارض وإن كان فرضا فاسدا أن الآية والحديث المذكورين يدلان بمفهوم العدد على عدم قبول الشاهد واليمين والحكم بمجردهما، وهذا المفهوم المردود عند أكثر أهل الاصول لا يعارض المنطوق وهو ما ورد في العمل بشاهد ويمين، على أنه يقال: العمل بشهادة المرأتين مع الرجل مخالف لمفهوم حديث شاهداك أو يمينه. (فإن قالوا) قدمنا على هذا المفهوم منطوق الآية الكريمة. قلنا: ونحن قدمنا على ذلك المفهوم منطوق أحاديث الباب هذا على فرض أن الخصم يعمل بمفهوم العدد، فإن كان لا يعمل به أصلا فالحجة عليه أوضح وأتم . قوله: وعن سرق بضم السين المهملة وتشديد الراء بعدها قاف وهو ابن أسد صحابي مصري لم يرو عنه إلا رجل واحد. باب ما جاء في امتناع الحاكم من الحكم بعلمه عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقا فلاحه رجفي صدقته فضربه أبو جهم فشجه فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: القويا رسول الله، فقال: لكم كذا وكذا فلم يرضوا، فقال: لكم كذا وكذا فرضوا، فقال: إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم، قالوا نعم، فخطب فقال: إن هؤلاء الذين أتوني يريدون القود فعرضت عليهم كذا وكذا فرضوا أفرضيتم؟ قالوا لا، فهم المهاجرون بهم فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يكفوا عنهم فكفوا، ثم دعاهم فزادهم فقال: أفرضيتم؟ قالوا نعم، قال: إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم، قالوا نعم، فخطب فقال: أرضيتم؟ فقالوا نعم رواه الخمسة
[ 196 ]
إلا الترمذي. وعن جابر قال: أتى رجل بالجعرانة منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقبض منها يعطي الناس فقال: يا محمد اعدل، فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل؟ لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، فقال عمر: دعني يا رسول الله أقتل هذا المنافق، فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أنا أقتل أصحابي إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية رواه أحمد ومسلم. قال أبو بكر الصديق: لو رأيت رجلا على حد من حدود الله ما أخذته ولا دعوت له أحدا حتى يكون معي غيري. حكاه أحمد. حديث عائشة سكت عنه أبو داود والمنذري، قال المنذري: ورواه يونس بن يزيد عن الزهري منقطعا. قال البيهقي: ومعمر بن رشاد حافظ قد أقام إسناده فقامت به الحجة. وأثر أبي بكر قال الحافظ في الفتح: رواه ابن شهاب عن زيد بن الصلت أن أبا بكر فذكره وصحح إسناده. (وقد اختلف) أهل العلم في جواز القضاء من الحاكم بعلمه، فروى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف مثل ما ذكره المصنف عن أبي بكر، واستدل البخاري أيضا على أنه لا يحكم الحاكم بعلمه بما قاله عمر لولا أن يقول الناس زاد عمر آية في كتاب الله لكتبت آية الرجم. قال المهلب: وأفصح بالعلة في ذلك بقوله: لولا أن يقول الناس الخ، فأشار إلى أن ذلك من قطع الذرائع، لئلا يجد حكام السوء السبيل إلى أن يدعو العلم لمن أحبوا له الحكم بشئ، قال البخاري: وقال أهل الحجاز الحاكم لا يقضي بعلمه سواء علم بذلك في ولايته أو قبلها. قال الكرابيسي: لا يقضي القاضي بما علم لوجود التهمة إذ لا يؤمن على التقى أن تتطرق إليه التهمة، قال: ويلزم من أجاز للقاضي أن يقضي بعلمه مطلقا أنه لو عمد إلى رجل مستور لم يعهد منه فجور قط أن يرجمه ويدعي أنه رآه يزني، أو يفرق بينه وبين زوجته ويزعم أنه سمعه يطلقها، أو بينه وبين أمته ويزعم أنه سمعه يعتقها، فإهذا الباب لو فتح لوجد كل قاض السبيل إلى قتل عدوه وتفسيقه والتفريق بينه وبيمن يحب، ومن ثم قال الشافعي: لولا قضاة السوء لقلت إن للحاكم أن يحكم بعلمه. قال ابن التين: ما ذكره البخاري عن عمر وعبد الرحمن هو قول مالك وأكثر أصحابه. وقال بعض أصحابه: يحكم بما علمه فيما أقر به أحد الخصمين عنده في مجلس الحكم. وقال ابن القاسم وأشهب: لا يقضي بما يقع
[ 197 ]
عنده في مجلس الحكم إلا إذا شهد به عنده. وقال ابن المنير: مذهب مالك أن من حكم بعلمه نقض على المشهور إلا إن كان علمه حادثا بعد الشروع في المحاكمة فقولان، وأما ما أقر به عنده في مجلس الحكم فيحكم ما لم ينكر الخصم بعد إقراره وقبل الحكم عليه، فإن ابن القاسم قال: لا يحكم عليه حينئذ ويكون شاهدا. وقال ابن الماجشون: يحكم بعلمه. قال البخاري: وقال بعض أهل العراق ما سمع أو رآه في مجلس القضاء قضى به، وما كان في غيره لم يقض إلا بشاهدين يحضرهما إقراره. قال في الفتح: وهذا قول أبي حنيفة ومن تبعه، ووافقهم مطرف وابن الماجشون وأصبغ وسحنون من المالكية. قال ابن التين: وجرى به العمل، وروى عبد الرزاق نحوه عن شريح. قال البخاري: وقا آخرون منهم يعني أهل العراق بل يقضي به لانه مؤتمن. قال في الفتح: وهو قول أبيوسف ومن تبعه ووافقهم الشافعي فيما بلغني عنه أنه قال: إن كان القاضي عدلا لا يحكم بعلمه في حد ولا قصاص إلا ما أقر به بين يديه، ويحكم بعلمه في كل الحقوق مما علمه قبل أن يلي القضاء أو بعدما ولي فقيد ذلك بكون القاضي عدلا إشارة إلى أنه ربما ولي القضاء من ليس بعدل، قال البخاري: وقال بعضهم يعني أهل العراق يقضي بعلمه في الاموال ولا يقضي في غيرها. قال في الفتح: هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف فيما نقله الكرابيسي عنه وهي رواية لاحمد. قال أبو حنيفة: القياس أنه يحكم في ذلك بعلمه، ولكن أدع القياس واستحسن أن لا يقضى في ذلك بعلمه، وحكي مثل ذلك في الفتح عن بعض المالكية فقالوا: إنه يقضي بعلمه في كل شئ إلا في الحدود، قال: وهذا هو الراجح عند الشافعية. وقال ابن العربي: لا يقضي بعلمه، والاصل فيه عندنا الاجماع على أنه لا يحكم بعلمه في الحدود، قال: ثم أحدث بعض الشافعية قولا إنه يجوز فيها أيضا حين رأوا أنها لازمة لهم. قال الحافظ: كذا قال، فجرى على عادته في التهويل والاقدام على نقل الاجماع مع شهرة الاختلاف. وقد حكفي البحر القول بأن الحاكم يحكم بعلمه عن العترة والشافعي وأبي حنيفة وأحمد، وحكي المنع عن شريح والشعبي والاوزاعي ومالك وإسحاق وأحد قولي الشافعي، والاقوال في المسألة فيها طول قد ذكر البخاري وشراح كتابه بعضا منها في باب الشهادة تكون عند الحاكم وبعضا في باب من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه. وذكر البخاري في البابين أحاديث يستدل بها على الجواز وعدمه وهي
[ 198 ]
في غاية البعد عن الدلالة على المقصود. وكذلك ما ذكره المصنف في هذا الباب، فإن حديث عائشة ليس فيه إمجرد وقوع الاخبار منه صلى الله عليه وآله وسلم بما وقع به الرضا من الطالبين للقود، وإن كان الاحتجاج بعدم القضاء منه صلى الله عليه وآله وسلم عليهم بما رضوا به المرة الاولى فلم يكن هناك مطالب له بالحكم عليهم. وكذلك حديث جابر المذكور لا يدل على المطلوب بوجه، وغاية ما فيه الامتناع عن القتل لمن كان في الظاهر من الصحابة لئلا يقول الناس تلك المقالة، والاخبار للحاضرين بما يكون من أمر الخوارج، وترك أخذهم بذلك لتلك العلة، ومن جملة ما استدل به البخاري على الجواز حديث هند زوجة أبي سفيان لما أذن لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها، قال ابن بطال: احتج من أجاز للقاضي أن يحكم بعلمه بهذا الحديث لانه إنما قضى لها ولولدها بوجوب النفقة لعلمه بأنها زوجة أبي سفيان ولم يلتمس على ذلك بينة، وتعقبه ابن المنير بأنه لا دليل فيه لانه خرج مخرج الفتيا، وكلام المفتي يتنزل على تقدير صحة كلام المستفتي اه. فإن قيل: إن محل الدليل إنما هو عمله بعلمه أنها زوجة أبي سفيان فكيف صح هذا التعقب؟ فيجاب بأن الذي يحتاج إلى معرفة المحكوم له هو الحكم لا الافتاء فإنه يصح للمجهول، فإذا ثبت أن ذلك من قبيل الافتاء بطلت دعوى أنه حكم بعلمه أنها زوجة، وقد تعقب الحافظ كلام ابن المنير فقال: وما ادعى نفيه بعيد، فإنه لو لم يعلم صدقها لم يأمرها بالاخذ، واطلاعه على صدقها ممكن بالوحي دون من سواه فلا بد من سبق علم. ويجاب عن هذا بأن الامر لا يستلزم الحكم لان المفتي يأمر المستفتي بما هو الحق لديه وليس ذلك من الحكم في شئ، ومن جملة ما استدل به على المنع الحديث المتقدم عن أم سلمة: فأقضي بنحو ما أسمع ولم يقل بما أعلم. ويجاب بأن التنصيص على السماع لا ينفي كون غيره طريقا للحكم، على أنه يمكن أن يقال إن الاحتجاج بهذا الحديث للمجوزين أظهر، فإن العلم أقوى من السماع، لانه يمكن بطلان ما سمعه الانسان ولا يمكن بطلان ما يعلمه. ففحوى الخطاب تقتضي جواز القضاء بالعلم. ومن جملة ما استدل به المانعون حديث: شاهداك أو يمينه وفي لفظ: وليس لك إلا ذلك ويجاب بما تقدم من أن التنصيص على ما ذكر لا ينفي ما عداه. وأما قوله: وليس لك إلا ذلك فلم يقله النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد علم بالمحق منهما من المبطل حتى يكون دليلا على عدم حكم الحاكم بعلمه، بل المراد أنه ليس للمدعي من المنكر إلا اليمين
[ 199 ]
وإن كان فاجرا حيث لم يكن للمدعي برهان. والحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن يقال: إن كانت الامور التي جعلها الشارع أسبابا للحكم كالبينة واليمين ونحوهما أمورا تعبدنا الله بها لا يسوغ لنا الحكم إلا بها، وإن حصل لنا ما هو أقوى منها بيقين. فالواجب علينا الوقوف عندها والتقيد بها وعدم العمل بغيرها في القضاء كائنا ما كان، وإن كانت أسبابا يتوصل الحاكم بهو إلى معرفة المحق من المبطل والمصيب من المخطئ غير مقصودة لذاتها بل لامر آخر، وهو حصول ما يحصل للحاكم بها من علم أو ظن، وأنها أقل ما يحصل له ذلك في الواقع، فكان الذكر لها لكونها طرائق لتحصيل ما هو المعتبر، فلا شك ولا ريب أنه يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه، لان شهادة الشاهدين والشهود لا تبلغ إلى مرتبة العلم الحاصل عن المشاهدة أو ما يجري مجراها، فإن الحاكم بعلمه غير الحاكم الذي يستند إلى شاهدين أو يمين. ولهذا يقول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: فمقضيت له بشئ من مال أخيه فلا يأخذه إنما أقطع له قطعة من نار فإذا جاز الحكم مع تجويز كون الحكم صوابا وتجويز كونه خطأ فكيف لا يجوز مع القطع بأنه صواب لاستناده إلى العلم اليقين؟ ولا يخفى رجحان هذا وقوته لان الحاكم به قد حكم بالعدل والقسط والحق كما أمر الله تعالى. ويؤيد هذا ما سيأتي في باب استحلاف المنكر حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم للكندي: ألك بينة؟ فإن البينة في الاصل ما به يتبين الامر ويتضح، ولا يرد على هذا أنه يستلزم قبول شهادة الواحد والحكم بها، لانا نقول: إذا كان القضاء بأحد الاسباب المشروعة فيجب التوقف فيه على ما ورد. وقد قال تعالى: * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) * (الطلاق: 2) وقال صلى الله عليه وآله وسلم: شاهداك وإنما النزاع إذا جاء بسبب آخر من غير جنسها هو أولى بالقبول منها كعلم الحاكم. واستدل المستثني للحدود بما تقدم من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لولا الايمان لكان لي ولها شأن. وفي لفظ: لو كنت راجما أحدا من غير بينة لرجمتها أخرجه مسلم وغيره من حديث ابن عباس في قصة الملاعنة. وظاهره أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد علم وقوع الزنا منها ولم يحكم بعلمه. ومن ذلك قول أبي بكر وعبد الرحمن المتقدمان. ويمكن أن يجاب عن الحديث بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما لم يعمل بعلمه لكونه قد
[ 200 ]
حصل التلاعن وهو أحد الاسباب الشرعية الموجبة للحكم بعدم الرجم، والنزاع إنما هو في الحكم بالعلم من دون أن يتقدم سبب شرعي ينافيه، وقد تقدم في اللعان ما يزيد هذا وضوحا. ومن الادلة الدالة على جواز الحكم بالعلم ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم من حديث عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن الاعرج عن أبي هريرة قال: جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال للمدعي أقم البينة فلم يقمها، فقال للآخر: احلف فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عنده شئ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد فعلت ولكن غفر لك بإخلاص لا إله إلا الله. وفي روايه للحاكم: بل هو عندك ادفع إليه حقه، ثم قال: شهادتك أن لا إله إلا الله كفارة يمينك. وفي رواية لاحمد: فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إنه كاذب إن له عنده حقه فأمره أن يعطيه وكفارة يمينه معرفة لا إله إلا الله وأعله ابن حزم بأبي يحيى وهو مصدع المعرقب، كذا قال ابن عساكر، وتعقبه المزي بأنه وهم بل اسمه زياد، كذا اسمه عند أحمد والبخاري وأبي داود في هذا الحديث. وأعله أبو حاتم برواية شعبة عن عطاء بن السائب عن البختري بن عبيد عن أبي الزبير مختصرا: أن رجلا حلف بالله وغفر له قال: وشعبة أقدم سماعا من غيره. وفي الباب عن أنس من طريق الحارث بن عبيد عن ثابت وعن ابن عمر. قال الحافظ: أخرجهما البيهقي، والحارث بن عبيد هو أبو قدامة. فهذا الحديث فيه أنه صلى الله عليه وآله وسلم قضى بعلمه بعد وقوع السبب الشرعي وهو اليمين، فبالاولى جواز القضاء بالعلم قبل وقوعه. وقد حكي في البحر عن الامام يحيى وأحد قولي المؤيد بالله وأحد قولي الشافعي أنه يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في الحدود وغيرها، واستدل لهم بأنه لم يفصل الدليل. وحكي عن أبي حنيفة ومحمد أنه إن علم الحد قبل ولايته أو في غير بلد ولايته لم يحكم به إذ ذلك شبهة، وإن علم به في بلد ولايته أو بعد ولايته حكم بعلمه.
[ 201 ]
باب من لا يجوز الحكم بشهادته عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لاهل البيت، والقانع الذي ينفق عليه أهل البيت رواه أحمد وأبو داود. وقال: شهادة الخائن والخائنة إلى آخره، ولم يذكر تفسير القانع. ولابي داود في رواية: لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا زان ولا زانية، ولا ذي غمر على أخيه. وعن أبي هريرة: أنسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قريرواه أبو داود وابن ماجة. حديث عمرو بن شعيب أخرجه البيهقي وابن دقيق العيد قال في التلخيص: وسنده قوي اه. وقد ساقه أبو داود بإسنادين: الاسناد الاول قال: حدثنا حفص بن عمر حدثنا محمد بن راشد يعني المكحولي الدمشقي نزيل البصرة وثقه أحمد وابن معين حدثنا سليمان بن موسى يعني القرشي الاموي فقيه أهل الشام، وكان أوثق أصحاب مكحول وأعلاهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهذا إسناد لا مطعفيه. ورواية عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده لا يخرج بها الحديث عن الحسن والصلاحية للاحتجاج. والسند الثاني قال: حدثنا محمد بن خلف بن طارق الرازي حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد يعني الدمشقي الخزاعي وهو ثقة حدثنا سعيد بن عبد العزيز يعني ابن يحيى التنوخي الدمشقي روى له البخاري في الادب وسائر الجماعة عن سليمان بن موسى المتقدم عن عمرو بن شعيب بالاسناد المتقدم وهذا كالاسناد الاول. وفي الباب من حديث عائشة مرفوعا بلفظ: لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر لاخيه ولا ظنين ولا قرابة أخرجه الترمذي والدارقطني والبيهقي وفيه يزيد بن زياد الشامي وهو ضعيف. قال الترمذي: لا يعرف هذا من حديث الزهري إلا من هذا الوجه ولا يصح عندنا إسناده. وقال أبو زرعة في العلل: منكر. وضعفه عبد الحق وابن حزم وابن الجوزي. وفي الباب أيضا من حديث عبد الله
[ 202 ]
بن عمر بن الخطاب نحوه، أخرجه الدارقطني والبيهقي وفي إسناده عبد الاعلى وهو ضعيف وشيخه يحيى بن سعيد الفارسي وهو أيضا ضعيف. قال البيهقي: لا يصح من هذا شئ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الباب أيضا عن عمر: لا تقبل شهادة ظنين ولا خصم أخرجه مالك في الموطأ موقوفا وهو منقطع. قال الامام في النهاية: واعتمد الشافعي خبرا صحيحا وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تقبل شهادة خصم على خصم قال الحافظ: ليس له إسناد صحيح، لكن له طرق يتقوى بعضها ببعض، فروى أبو داود في المراسيل من حديث طلحة بن عبد الله بن عوف: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث مناديا أنها لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين ورواه أيضا البيهقي من طريق الاعرج مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تجوز شهادة ذي الظنة والحنة يعني الذي بينك وبينه عداوة. ورواه الحاكم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة برفعه مثله. وفي إسناده نظر. وحديث الباب عن أبي هريرة أخرجه البيهقي وقال: هذا الحديث مما تفرد به محمد بن عمر وبن عطاء عن عطاء بن يسار. وقال المنذري: رجال إسناده احتج بهم مسلم في صحيحه اه. وسياقه في سنن أبي داود قال: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني أخبرنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أيوب ونافع بن يزيد يعني الكلاعي عن أبي الهاد يعني يزيد بن عبد الله بن الهاد الليثي عن محمد بن عمرو بن عطاء يعني القرشي العامري عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة. قوله: لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة صرح أبو عبيد بأن الخيانة تكون في حقوق الله كما تكون في حقوق الناس من دون اختصاص. قوله: ولا ذي غمر قال ابن رسلان: بكسر الغين المعجمة وسكون الميم بعدها راء مهملة، قال أبو داود: الغمر الحنة والسحناء، والحنة بكسر الحاء المهملة وتخفيف النون المفتوحة لغة في أحنة وهي الحقد، قال الجوهري: يقال في صدره على أحنة ولا يقال حنة، والمواحنة المعاداة، والصحيح أنها لغة كما ذكره أبو داود وجمعها حنات. قال ابن الاثير: وهي لغة قليلة في الاحنة. وقال الهروي: هي لغة رديئة، والشحناء بالمد العداوة. وهذا يدل على أن العداوة تمنع من قبول الشهادة لانها تورث التهمة وتخالف الصداقة، فإن في شهادة الصديق لصديقه بالزور نفع غيره بمضرة نفسه وبيع آخره بدنيا غيره، وشهادة العدو على عدوه
[ 203 ]
يقصد بها نفع نفسه بالتشفي من عدوه فافترقا. فإن قيل: لم قبلتم شهادة المسلمين على الكفار مع العداوة؟ قال ابن رسلان قلنا: العداوة ههنا دينية والدين لا يقتضي شهادة الزور بخلاف العداوة الدنيوية. قال: وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد والجمهور. وقال أبو حنيفة: لا تمنع العداوة الشهادة لانها لا تخل بالعدالة فلا تمنع الشهادة كالصداقة اه. وإلى الاول ذهبت الهادوية، وإلى الثاني ذهب المؤيد بالله أيضا، والحق عدم قبول شهادة العدو على عدوه لقيام الدليل على ذلك، والادلة لا تعارض بمحض الآراء، وليس للقائل بالقبول دليل مقبول. قال في البحر مسألة: العداوة لاجل الدين لا تمنع كالعدلي على القدري والعكس ولاجل الدنيا تمنع. قوله: ولا تجوز شهادة القانع لاهل البيت هو الخادم المنقطع إلى الخدمة، فلا تقبل شهادته للتهمة بجلب النفع إلى نفسه وذلك كالاجير الخاص. وقد ذهب إلى عدم قبول شهادته للمؤجر له الهادي والقاسم والناصر والشافعي قالوا: لان منافعه قد صارت مستغرقة فأشبه العبد. وقد حكى في البحر الاجماع على عدم قبول شهادة العبد لسيده. قوله: ولا زان ولا زانية المانع من قبول شهادتهما الفسق الصريح. وقد حكي في البحر الاجماع على أنها لا تصح الشهادة من فاسق لصريح قوله تعالى: * (وأشهدوا ذوي عدل) * (الطلاق: 2) وقوله: * (إن جاءكم فاسق) * (الحجرات: 6) اه. واختلف في شهادة الولد لوالده والعكس، فمنع من ذلك الحسن البصري والشعبي وزيد بن علي والمؤيد بالله والامام يحيى والثوري ومالك والشافعية والحنفية وعللوا بالتهمة فكان كالقانع. وقال عمر ابن الخطاب وشريح وعمر بن عبد العزيز والعترة وأبو ثور وابن المنذر والشافعي في قول له إنها تقبل لعموم قوله تعالى: * (ذوي عدل) * وهكذا وقع الخلاف في شهادة أحد الزوجين للآخر لتلك العلة، ولا ريب أن القرابة والزوجية مظنة للتهمة لان الغالب فيهما المحاباة. وحديث ولا ظنين المتقدم يمنع من قبول شهادة المتهم، فمن كان معروفا من القرابة ونحوهم بمتانة الدين البالغة إلى حد لا يؤثر معها محبة القرابة فقد زالت حينئذ مظنة التهمة، ومن لم يكن كذلك فالواجب عدم القبول لشهادته لانه مظنة للتهمة. قوله: لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية البدوي هو الذي يسكن البادية في المضارب والخيام ولا يقيم في موضع خاص بل يرتحل من مكان إلى مكان. وصاحب القرية هو الذي يسكن القرى وهي المصر الجامع. قال في النهاية: إنما كره شهادة البدوي لما فيه من الجفاء في الدين والجهالة بأحكام الشرع، ولانهم في الغالب
[ 204 ]
لا يضبطون الشهادة على وجهها. قال الخطابي: يشبه أن يكون إنما كره شهادة أهل البدو لما فيهم من عدم العلم بإتيان الشهادة على وجهها ولا يقيمونها على حقها لقصور علمهم عما يغيرها عن وجهها، وكذلك قال أحمد. وذهب إلى العمل بالحديث جماعة من أصحاب أحمد. وبه قال مالك وأبو عبيد. وذهب الاكثر إلى القبول. قال ابن رسلان: وحملوا هذا الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو، والغالب أنهم لا تعرف عدالتهم اه. وهذا حمل مناسب لان البدوي إذا كان معروف العدالة كان رد شهادته لعلة كونه بدويا غير مناسب لقواعد الشريعة، لان المساكن لا تأثير لها في الرد والقبول لعدم صحة جعل ذلك مناطا شرعيا ولعدم انضباطه، فالمناط هو العدالة الشرعية إن وجد للشرع اصطلاح في العدالة، وإلا توجه الحمل على العدالة اللغوية، فعند وجود العدالة يوجد القبول، وعند عدمها يعدم، ولم يذكر صلى الله عليه وآله وسلم المنع من شهادة البدوي إلا لكونه مظنة لعدم القيام بما تحتاج إليه العدالة، وإلا فقد قبل صلى الله عليه وآله وسلم في الهلال شهادة بدوي. باب ما جاء في شهادة أهل الذمة بالوصية في السفر عن الشعبي: أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا الاشعري يعني أبا موسى فأخبراه وقدما بتركته ووصيته، فقال الاشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا، وإنها لوصية الرجل وتركته فأمضى شهادتهما رواه أبو داود والدارقطني بمعناه. وعن جبير بن نفير قال: دخلت على عائشة فقالت: هل تقرأ سورة المائدة؟ قلت نعم، قالت: فإنها آخر سورة أنزلت، فما وجدتم فيها من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه رواه أحمد. وعن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدموا بتركته فقدوا جاما من فضة مخوصا بذهب، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم وجد الجام
[ 205 ]
بمكة فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي بن بداء، فقام رجلان من أوليائه فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم، قال: وفيهم نزلت هذه الآية: * (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم) * (المائدة: 106) رواه البخاري وأبو داود. حديث أبي موسى سكت عنه أبو داود والمنذري. قال الحافظ في الفتح: إن رجال إسناده ثقات اه. وسياقه عند أبي داود قال: حدثنا زياد بن أيوب يعني الطوسي شيخ البخاري، حدثنا هشيم، أخبرنا زكريا يعني ابن أبي زائدة عن الشعبي، وأثر عائشة رجاله في المسند رجال الصحيح. وأخرجه أيضا الحاكم. قال في الفتح: صح عن عائشة وابن عباس وعمرو بن شرحبيل وجمع من السلف أن سورة المائدة محكمة. وحديث ابن عباس قال البخاري في صحيحه: وقال لي علي بن المديني فذكره. قال المنذري: وهذه عادته فيما لم يكن على شرطه. وقد تكلم علي بن المديني على هذا الحديث وقال: لا أعرف ابن أبي القاسم، وقال: وهو حديث حسن اه. وابن أبي القاسم هذا هو محمد بن أبي القاسم، قال يحيى بن معين: ثقة قد كتبت عنه، وكذلك وثقه أبو حاتم، وتوقف فيه البخاري، وأخرج هذا الحديث الترمذي وقال: حسن غريب. وقد أشار في الفتح إلى مثل كلام المنذري فقال على قول البخاري: وقال لي علي بن المديني، وهذا مما يقوي مما قررته غير مرة أنه يعبر بقوله: وقال لي في الاحاديث التي سمعها، لكن حيث يكون في إسنادها عنده نظر أو حيث تكون موقوفة. وأما من زعم أنه يعبر بها فيما أخذه في المذاكرة أو بالمناولة فليس عليه دليل. قوله: بدقوقا بفتح الدال المهملة وضم القاف وسكون الواو بعدها قاف مقصورة وقد مدها بعضهم وهي بلد بين بغداد وإربل. قوله: من أهل الكتاب يعني نصرانيين كما بين ذلك البيهقي وبين أن الرجل من خثعم ولفظه عن الشعبي: توفي رجل من خثعم فلم يشهد موته إلا رجلان نصرانيان. قوله: فأحلفهما يقال في المتعدي أحلفته إحلافا وحلفته بالتشديد تحليفا واستحلفته. قوله: بعد العصر هذا يدل على جواز التغليظ بزمان من الازمنة. قوله: ولا بدلا بتشديد الدال. قوله: من بني سهم هو بديل بضم الموحدة وفتح الدال مصغرا، وقيل بريل بالراء المهملة. قوله: وعدي بن بداء بفتح الموحدة وتشديد المهملة مع المد. قوله: فقدوا جاما بالجيم وتخفيف الميم أي إناء. قوله: مخوصا بخاء معجمة وواو ثقيلة بعدها مهملة
[ 206 ]
أي منقوشا فيه صفة الخوص. ووقع في رواية مخوضا بالضاد المعجمة أي مموها والاول أشهر. قوله: فقام رجلان الخ وقع في رواية الكلبي: فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم، قال مقاتل بن سليمان: هو المطلب بن أبي وداعة وهو سهمي ولكنه سمى الاول عبد الله بن عمرو بن العاص، واستدل بهذا الحديث على جواز رد اليمين على المدعي فيحلف ويستحق، واستدل به ابن سريج الشافعي على الحكم بالشاهد واليمين وتكلف في انتزاعه فقال قوله تعالى: * (فإن عثر على أنهما استحقا إثما) * (المائدة: 107) لا يخلو إما أن يقرا أو يشهد عليهما شاهدان أو شاهد وامرأتان أو شاهد واحد، قال: وقد أجمعوا على أن الاقرار بعد الانكار لا يوجب يمينا على الطالب، وكذلك مع الشاهدين ومع الشاهد والمرأتين فلم يبق إلا شاهد واحد، فلذلك استحقه الطالبان بيمينيهما مع الشاهد الواحد، وتعقبه الحافظ بأن القصة وردت من طرق متعددة في سبب النزول، وليس في شئ منها أنه كان هناك من يشهد بل في رواية الكلبي: فسألهم البينة فلم يجدو افأمرهم أن يستحلفوه أي عديا بما يعظم على أهل دينه، واستدل بهذا الحديث علجواز شهادة الكفار بناء على أن المراد بالغير في الآية الكريمة الكفار. والمعنمنكم أي من أهل دينكم أو آخران من غيركم أي من غير أهل دينكم، وبذلك قال أبو حنيفة ومن تبعه وتعقب بأنه لا يقول بظاهرها فلا يجيز شهادة الكفار على المسلمين، وإنما يجيز شهادة بعض الكفار على بعض. وأجيب بأن الآية دلت بمنطوقها على قبول شهادة الكافر على المسلم، وبإيمائها على قبول شهادة الكافر على الكافر بطريق الاولى، ثم دل الدليل على أن شهادة الكافر على المسلم غير مقبولة، فبقيت شهادة الكافر على الكافر على حالها، وهذا الجواب على التعقب في غير محله، لان التعقب هو باعتبار ما يقوله أبو حنيفة لا باعتبار استدلاله، وخص جماعة القبول بأهل الكتاب وبالوصية وبفقد المسلم حينئذ، ومنهم ابن عباس وأبو موسى الاشعري وسعيد بن المسيب وشريح وابن سيرين والاوزاعي والثوري وأبو عبيد وأحمد وأخذوا بظاهر الآية. وحديث الباب فإن سياقه مطابق لظاهر الآية. وقيل: المراد بالغير غير العشيرة، والمعنى منكم أي من عشيرتكم أو آخران من غيركم أي من غير عشيرتكم، وهو قول الحسن البصري. واستدل له النحاس بأن لفظ آخر لا بد أن يشارك الذي قبله في الصفة حتى لا يسوغ
[ 207 ]
أن يقول: مررت برجل كريم ولئيم آخر، فعلى هذا فقد وصف الاثنان بالعدالة، فتعين أن يكون الآخران كذلك، وتعقب بأن هذا وإن ساغ في الآية لكن الحديث دل على خلاف ذلك، والصحابي إذا حكى سبب النزول كان ذلك في حكم الحديث المرفوع. قال في الفتح اتفاقا وأيضا ففيما قال رد المختلف فيه بالمختلف فيه، لان اتصاف الكافر بالعدالة مختلف فيه، وهو فرع قبول شهادته، فمن قبلها وصفه بها ومن لا فلا. واعترض أبو حيان على المنال الذي ذكره النحاس بأنه غير مطابق، فلو قلت: جاءني رجل مسلم وآخر كافر صح، بخلاف ما لو قلت: جاءني رجل مسلم وكافر آخر، والآية من قبيل الاول لا الثاني، لان قوله آخران من جنس قوله اثنان لان كلا منهما صفة رجلان، فكأنه قال: فرجلان اثنان ورجلان آخران. وذهب جماعة من الائمة إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: * (ممن ترضون من الشهداء) * (البقرة: 282) واحتجوا بالاجماع على رد شهادة الفاسق والكافر شر من الفاسق. وأجاب الاولون أن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وأن الجمع بين الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، وبأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن وأنها محكمة كما تقدم. وأخرج الطبري عن ابن عباس بإسناد رجاله ثقات أن الآية نزلت فيمن مات مسافرا وليس عنده أحد من المسلمين، وأنكر أحمد على من قال: إن هذه الآية منسوخة، وقد صح عن أبي موسى الاشعري أنه عمل بذلك كما في حديث الباب. وذهب الكرابيسي والطبري وآخرون إلى أن المراد بالشهادة في الآية اليمين قالوا: وقد سمى الله اليمين شهادة في آية اللعان، وأيدوا ذلك بالاجماع على أن الشاهد لا يلزمه أن يقول أشهد بالله، وأن الشاهد لا يمين عليه أنه شهد بالحق، قالوا: فالمراد بالشهادة اليمين لقوله: * (فيقسمان بالله) * (المائدة: 106) أي يحلفان، فإن عرف أنهما حلفا على الاثم رجعت اليمين على الاولياء، وتعقب بأن اليمين لا يشترط فيها عدد ولا عدالة بخلاف الشهادة. وقد اشترط في القصة فقوي حملها على أنها شهادة، وأما اعتلال من اعتل في ردها بأن الآية تخالف القياس والاصول لما فيها من قبول شهادة الكافر وحبس الشاهد وتحليفه، وشهادة المدعي لنفسه، واستحقاقه بمجرد اليمين، فقد أجاب من قال به بأنه حكم بنفسه مستغن عن نظيره، وقد قبلت شهادة الكافر في بعض المواضع كما في الطب، وليس المراد بالحبس السجن، وإنما المراد الامساك لليمين ليحلف بعد الصلاة. وأما تحليف الشاهد فهو مخصوص بهذه السورة عند
[ 208 ]
قيام الريبة. وأما شهادة المدعي لنفسه واستحقاقه بمجرد اليمين فإن الآية تضمنت نقل الايمان إليه عند ظهور اللوث بخيانة الوصيين، فيشرع لهما أن يحلفا ويستحقا، كما يشرع لمدعي القسامة أن يحلف ويستحق، فليس هو من شهادة المدعي لنفسه، بل من باب الحكم له بيمينه القائمة مقام الشهادة لقوة جانبه، وأي فرق بين ظهور اللوث في صحة الدعوى بالدم وظهوره في صحة الدعوى بالمال؟ وحكى الطبري أن بعضهم قال: المراد بقوله: * (اثنان ذوا عدل منكم) * (المائدة: 106) الوصيان، قال: والمراد بقوله: * (شهادة بينكم) * (المائدة: 106) معنى الحضور بما يوصيهما به الوصي ثم زيف ذلك، وهذا الحكم يختص بالكافر الذمي، وأما الكافر الذي ليس بذمي فقد حكي في البحر الاجماع على عدم قبول شهادته على المسلم مطلقا. باب الثناء على من أعلم صاحب الحق بشهادة له عنده وذم من أدى شهادة من غير مسألة [ رح 3913 ] عن زيد بن خالد الجهني: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ألا أخبركم بخير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها؟ رواه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة. وفي لفظ: الذين يبدؤون بشهادتهم من غير أن يسألوا عنها رواه أحمد. وعن عمران بن حصين: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، ثم إن من بعدهم قوما يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن متفق عليه. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خير أمتي القرن الذي بعثت فيه، ثم الذين يلونهم، والله أعلم أذكر الثالث أم لا؟ قال: ثم يخلف بقوم يشهدون قبل أن يستشهدوا رواه أحمد ومسلم. قوله: ألا أخبركم بخير الشهداء جمع شهيد كظرفاء جمع ظريف ويجمع أيضا على شهود. والمراد بخير الشهداء أكملهم في رتبة الشهادة وأكثرهم ثوابا
[ 209 ]
عند الله. قوله: قبل أن يسألها في رواية: قبل أن يستشهد وهذه هي شهادة الحسبة، فشاهدها خير الشهداء لانه لو لم يظهرها لضاع حكم من أحكام الدين وقاعدة من قواعد الشرع. وقيل: إن ذلك في الامانة والوديعة ليتيم لا يعلم مكانها غيره فيخبر بما يعلم من ذلك. وقيل: هذا مثل في سرعة إجابة الشاهد إذا استشهد فلا يمنعها ولا يؤخرها كما يقال: الجواد يعطي قبل سؤاله عبارة عن حسن عطائه وتعجيله. قوله: خير أمتي قرني قال في القاموس: القرن يطلق من عشر إلى مائة وعشرين سنة ورجح الاطلاق على المائة. وقال صاحب المطالع: القرن أمة هلكت فلم يبق منهم أحد. قال في النهاية: القرن أهل كل زمان، وهو مقدار المتوسط في أعمار أهل كل زمان مأخوذ من الاقتران، فكأنه المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم. قيل: القرن أربعون سنة، وقيل: ثمانون، وقيل: مائة، وقيل: هو مطلق من الزمان وهو مصدر قرن يقرن اه. قال الحافظ: لم نر من صرح بالتسعين ولا بمائة وعشرة، وما عدا ذلك فقد قال به قائل. والمراد بقرنه صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث هم الصحابة كما في حديث أبي هريرة المذكور بلفظ: الذي بعثت فيه والمراد بالذين يلونهم التابعون والذين يلونهم تابعو التابعين. وفيه دليل على أن الصحابة أفضل الامة، والتابعين أفضل من الذين بعدهم، وتابعي التابعين أفضل ممن بعدهم. وثم أحاديث معارضة في الظاهر لهذا الحديث، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله في باب ذكر من حلف قبل أن يستحلف وهو آخر أبواب الكتاب. قوله: يخونون بالخاء المعجمة مشتق من الخيانة، وزعم ابن حزم أنه وقع في نسخة يحربون بسكون المهملة وكسر الراء بعدها موحدة قال: فإن كان محفوظا فهو من قولهم حربه يحربه إذا أخذ ماله وتركه بلا شئ، ورجل محروب أي مسلوب المال. قوله: ولا يؤتمنون من الامانة أي لا يثق الناس بهم لخيانتهم. وقال النووي: وقع في نسخ مسلم ولا يتمنون بتشديد الفوقية. قال غيره هو نظير قوله: يتزر بالتشديد موضع يأتزر. قوله: ويظهر فيهم السمن بكسر المهملة وفتح الميم بعدها نون أي يحبون التوسع في المآكل والمشارب وهي أسباب السمن. وقال ابن التين: المراد ذم محبته وتعاطيه لا من يخلق كذلك. وقيل: المراد يظهر فيهم كثرة المال. وقيل: المراد أنهم
[ 210 ]
يتسمنون أي يتكثرون بما ليس فيهم ويدعون ما ليس لهم من الشرف. قال في الفتح: ويحتمل أن يكون جميع ذلكمرادا. وقد ورد في لفظ من حديث عمران عند الترمذي بلفظ: ثم يجئ قوم متسمنون ويحبون السمن قال الحافظ: وهو ظاهر في تعاطي السمن على حقيقته فهو أولى ما حمل عليه خبر الباب. وإنما كان ذلك مذموما لان السمين غالبا يكون بليد الفهم ثقيلا عن العبادة كما هو مشهور. قوله: ويشهدون ولا يستشهدون يحتمل أن يكون التحمل بدون تحميل أو الاداء بدون طلب. قال الحافظ: والثاني أقرب، وأحاديث الباب متعارضة، فحديث زيد بن خالد الجهني يدل على استحباب شهادة الشاهد قبل أن يستشهد. وحديث عمران وأبي هريرة يدلان على كراهة ذلك. وقد اختلف أهل العلم في ذلك فبعضهم جنح إلى الترجيح، فرجح ابن عبد البر حديث زيد بن خالد لكونه من رواية أهل المدينة فقدمه على حديث عمران لكونه من رواية أهل العراق، وبالغ فزعم أن حديث عمران المذكور لا أصل له، وجنح غيره إلى ترجيح حديث عمران لاتفاق صاحبي الصحيح عليه وانفراد مسلم بإخراج حديث زيد، وذهب آخرون إلى الجمع، فمنهم من قال: إن المراد بحديث زيد من عنده شهادة لانسان بحق لا يعلم بها صاحبها فيأتي إليه فيخبره بها، أو يموت صاحبها العالم بها ويخلف ورثة فيأتي الشاهد إلى ورثته فيعلمهم بذلك، قال الحافظ: وهذا أحسن الاجوبة، وبه أجاب يحيى بن سعيد شيخ مالك ومالك وغيرهما. ثانيها إن المراد بحديث زيد شهادة الحسبة وهي ما لا يتعلق بحقوق الآدميين المختصة بهم محضا، ويدخل في الحسبة مما يتعلق بحق الله أو فيه شائبة منه العتاق والوقف والوصية العامة والعدة والطلاق والحدود ونحو ذلك. (وحاصله) أن المراد بحديث زيد الشهادة في حقوق الله، وبحديث عمران وأبي هريرة الشهادة في حقوق الآدميين. ثالثها: أنه محمول على المبالغة في الاجابة إلى الاداء فيكون لشدة استعداده لها كالذي أداها قبل أن يسألها. وهذه الاجوبة مبنية على أن الاصل في أداء الشهادة عند الحاكم أنه لا يكون إلا بعد الطلب من صاحب الحق، فيخص ذم من يشهد قبل أن يستشهد بمن ذكر ممن يخبر بشهادته ولا يعلم بها صاحبها، وذهب بعضهم إلى جواز أداء الشهادة قبل السؤال على ظاهر عموم حديث زيد، وتأولوا حديث عمران بتأويلات، أحدها: أنه محمول على شهادة الزور أي يؤدون شهادة لم يسبق لهم تحملها، وهذا حكاه الترمذي عن بعض أهل العلم. ثانيها: المراد
[ 211 ]
بها الشهادة في الحلف يدل عليه ما في البخاري من حديث ابن مسعود بلفظ: كانوا يضربوننا على الشهادة أي قول الرجل: أشهد بالله ما كان إلا كذا على معنى الحلف، فكره ذلك، كما كره الاكثار من الحلف، واليمين قد تسمى شهادة كما تقدم، وهذا جواب الطحاوي. ثالثها: المراد بها الشهادة على المغيب من أمر الناس، فيشهد على قوم أنهم في النار، وعلى قوم أنهم في الجنة بغير دليل، كما يصنع ذلك أهل الاهواء، حكاه الخطابي. رابعها: المراد به من ينتصب شاهدا وليس من أهل الشهادة. خامسها: المراد به التسارع إلى الشهادة وصاحبها بها عالم من قبل أن يسأله. (والحاصل) أن الجمع مهما أمكن فهو مقدم على الترجيح فلا يصار إلى الترجيح في أحاديث الباب، وقد أمكن الجمع بهذه الامور. باب التشديد في شهادة الزور عن أنس قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال: الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين، وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور أو قال شهادة الزور. وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا بلى يا رسول الله، قال: الاشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس وقال: ألا وقول الزور فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت متفق عليهما. [ رح 3918 ] وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب الله له النار رواه ابن ماجة. حديث ابن عمر انفرد ابن ماجة بإخراجه كما في الجامع وغيره، وسياق إسناده في سنن ابن ماجة هكذا: حدثنا سويد بن سعيد حدثنا محمد بن الفرات عن محارب بن دثار عن ابن عمر فذكره، ومحمد بن الفرات هو الكوفي كذبه أحمد، وقال في التقريب: كذبوه. قوله: ذكر الكبائر أو سئل عنها هذه رواية محمد بن جعفر. ورواية في البخاري سئل عن الكبائر. ورواية أحمد أو ذكرها. قال في الفتح: وكأن المراد بالكبائر أكبرها لما في حديث أبي بكرة المذكور، وليس القصد حصر الكبائر
[ 212 ]
فيما ذكر. وقد ذكر الله الثلاث المذكورة في الحديث في آيتين الاولى: * (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) * (الاسراء: 23) والثانية: * (فاجتنبوا الرجس من الاوثان واجتنبوا قول الزور) * (الحج: 30). قوله: وكان متكئا فجلس هذا يشعر باهتمامه صلى الله عليه وآله وسلم بذلك حتى جلس بعد أن كان متكئا، ويفيد ذلك تأكيد تحريمه وعظيم قبحه، وسبب الاهتمام بشهادة الزور كونها أسهل وقوع على الناس والتهاون بها أكثر، فإن الاشراك ينبو عنه قلب المسلم، والعقوق يصرف عنه الطبع. وأما الزور فالحوامل عليه كثيرة كالعداوة والحسد وغيرهما فاحتيج إلى الاهتمام به، وليس ذلك لعظمه بالنسبة إلى ما ذكر معه من الاشراك قطعا بل لكون مفسدته متعدية إلى الغير، بخلاف الاشراك فإن مفسدته مقصورة عليه غالبا، وقول الزور أعم من شهادة الزور، لانه يشمل كل زور من شهادة أو غيبة أو بهت أو كذب، ولذا قال ابن دقيق العيد: يحتمل أن يكون من الخاص بعد العام، لكن ينبغي أن يحمل على التوكيد، فإنا لو حملنا القول على الاطلاق لزم أن تكون الكذبة الواحدة كبيرة وليس كذلك، قال: ولا شك في عظم الكذب ومراتبه متفاوتة بحسب تفاوت مفاسده، ومنه قوله تعالى: * (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا) * (النساء: 112). قوله: حتى قلنا ليته سكت أي شفقة عليه وكراهية لما يزعجه، وفيه ما كانوا عليه من كثرة الادب معه صلى الله عليه وآله وسلم والمحبة له والشفقة عليه. (وفي الحديث) انقسام الذنوب إلى كبير وأكبر، وليس هذا موضع بسط الكلام على الكبائر، وستأتي إشارة إلى طرف من ذلك في باب التشديد في اليمين الكاذبة، ويؤخذ من الحديث ثبوت الصغائر لان الكبائر بالنسبة إليها أكبر منها، والاختلاف في ثبوت الصغائر مشهور، وأكثر ما تمسك به من قال: ليس في الذنوب صغيرة، كونه نظر إلى عظم المخالفة لامر الله ونهيه، فالمخالفة بالنسبة إلى جلال الله كبيرة، لكن لمن أثبت الصغائر أن يقول: وهي بالنسبة إلى ما فوقها صغيرة كما دل عليه حديث الباب. وقد فهم الفرق بين الصغيرة والكبيرة من مدارك الشرع، ويدل على ثبوت الصغائر قوله تعالى: * (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) * (النساء: 31) فلا ريب أن السيئات المكفرة ههنا هي غير الكبائر المجتنبة، لانه لا يكفر إلا ذنب قد فعله المذنب، لا ما كان مجتنبا من الذنوب فإنه لا معنى لتكفيره،
[ 213 ]
والكبائر المرادة في الآية مجتنبة، فالسيئات المكفرة غيرها، وليست إلا الصغائر لانها المقابلة لها، وكذلك يؤيد ثبوت الصغائر حديث تكفير الذنوب الوارد في الصلاة والوضوء مقيدا باجتناب الكبائر، فثبت أن من الذنوب ما يكفر بالطاعات، ومنها ما لا يكفر وذلك عين المدعي. ولهذا قال الغزالي: إنكار الفرق بين الكبيرة والصغيرة لا يليق بالفقيه. ثم إن مراتب الصغائر والكبائر تختلف بحسب تفاوت مفاسدها. قوله: حتى يوجب الله له النار في هذا وعيد شديد لشاهد الزور حيث أوجب الله له النار قبل أن ينتقل من مكانه. ولعل ذلك مع عدم التوبة. أما لو تاب وأكذب نفسه قبل العمل بشهادته فالله يقبل التوبة عن عباده. باب تعارض البينتين والدعوتين عن أبي موسى: أن رجلين ادعيا بعيرا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبعث كل واحد منهما بشاهدين فقسمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهما نصفين رواه أبو داود. وعن أبي موسى: أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في دابة ليس لواحد منهما بينة فجعلها بينهما نصفين رواه الخمسة إلا الترمذي. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عرض على قوم اليمين فأسرعوا فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف رواه البخاري. وفي رواية: أن رجلين تدارآ في دابة ليس لواحد منهما بينة فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يستهما على اليمين أحبا أو كرها رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وفي رواية: تدارآ في بيع. وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا كره الاثنان اليمين أو استحباها فليستهما عليها رواه أحمد وأبو داود. حديث أبي موسى أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي وذكر الاختلاف فيه على قتادة وقال: هو معلول، فقد رواه حماد بن سلمة عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة. ومن هذا الوجه أخرجه ابن حبان في صحيحه، واختلف فيه على سعيد بن أبي عروبة فقيل عنه عن قتادة عن سعيد بن أبي بردة
[ 214 ]
عن أبيه عن أبي موسى. وقيل عنه عن سماك بن حرب عن تميم بن طرفة قال: أنبئت أن رجلين قال البخاري: قال سماك بن حرب أنا حدثت أبا بردة بهذا الحديث. فعلى هذا لم يسمع أبو بردة هذا الحديث من أبيه ورواه أبو كامل عن أبيه. ورواه أبو كامل مطهر بن مدرك عن حماد عن قتادة عن النضر بن أنس عن أبي برد مرسلا. قال حماد: فحدثت به سماك بن حرب فقال: أنا حدثت به أبا بردة. وقال الدار قطني والبيهقي والخطيب: الصحيح أنه عن سماك مرسلا. ورواه ابن أبي شيب عن أبي الاحوص عن سماك عن تميم بن طرفة: أن رجلين ادعيا بعيرا فأقام كل واحد منهما بينة أنه له فقضى به صلى الله عليه وآله وسلم بينهما. ووصله الطبراني بذكر جابر بن سمرة فيه بإسنادين: في أحدهما حجاج بن أرطأة والراوي عنه سويد بن عبد العزيز. وفي الآخر ياسين الزيات والثلاثة ضعفاء كذا قال الحافظ. قال المنذري في مختصر السنن حاكيا عن النسائي أنه قال: هذا خطأ. ومحمد بن كثير المصيصي هو صدوق إلا أنه كثير الخطأ. وذكر أنه خولف في إسناده ومتنه. قال المنذري: ولم يخرجه أبو داود من حديث محمد بن كثير وإنما أخرجه بإسناد كلهم ثقات انتهى. وقد ذكر أبو داود لحديث أبي موسى ثلاثة أسانيد ليس في واحد منها محمد بن كثير. وحديث أبي هريرة أخرج الرواية الثانية عنه النسائي أيضا. والرواية الثالثة عزاها المنذري إلى البخاري. قوله: فقسمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بينهما نصفين فيه أنه لو تنازع رجلان في عين دابة أو غيرها فادعى كل واحد منهما أنها ملكه دون صاحبه ولم يكن بينهما بينة وكانت العين في يديهما، فكل واحد مدع في نصف ومدعى عليه في نصف، أو أقاما البينة كل واحد على دعواه تساقطتا وصارتا كالعدم وحكم به الحاكم نصفين بينهما لاستوائهما في اليد. وكذا إذا لم يقيما بينة كما في الرواية الثانية. وكذا إذا حلفا أو نكلا. قال ابن رسلان: يحتمل أن تكون القصة في حديث أبي موسى الاول والثاني واحدة إلا أن البينتين لما تعارضتا تساقطتا وصارتا كالعدم. ويحتمل أن يكون أحدهما في عين كانت في يديهما. والآخر كانت العين في يد ثالث لا يدعيها بدليل ما وقع في رواية للنسائي: ادعيا دابة وجداها عند رجل فأقام كل منهما شاهدين فلما أقام كل واحد منهما شاهدين نزعت من يد الثالث ودفعت إليهما
[ 215 ]
قال: وهذا أظهر، لان حمل الاسنادين على معنيين متعددين أرجح من حملهما على معنى واحد، لان القاعدة ترجيح ما فيه زيادة علم على غيره. قوله: أحبا أو كرها قال الخطابي: الاكراه هنا يراد به حقيقته لان الانسان لا يكره على اليمين، وإنما المعنى إذا توجهت اليمين على اثنين وأرادا الحلف سواء كانا كارهين لذلك بقلبهما وهو معنى الاكراه أو مختارين لذلك بقلبهما وهو معنى المحبة وتنازعا أيهما يبدأ فلا يقدم أحدهما على الآخر بالتشهي بل بالقرعة، وهو المراد بقوله: فليستهما أي فليقترعا. وقيل: صورة الاشتراك في اليمين أن يتنازع اثنان عينا ليست في يد أحدهما ولا بينة لواحد منهما فيقرع بينهما فمن خرجت له القرعة حلف واستحقها، ويدل على ذلك الرواية الثانية من حديث أبي هريرة، ويحتمل أن تكون قصة أخرى، فيكون القوم المذكورون مدعى عليهم بعين في أيديهم مثلا وأنكروا، ولا بينة للمدعى عليهم، فتوجهت عليهم اليمين فسارعوا إلى الحلف والحلف لا يقع معتبرا إلا بتلقين المحلف، فقطع النزاع بينهم بالقرعة فمن خرجت له بدئ به. وقال البيهقي في بيان معنى الحديث: أن القرعة في أيهما تقدم عند إرادة تحليف القاضي لهما، وذلك أنه يحلف واحدثم يحلف الآخر، فإن لم يحلف الثاني بعد حلف الاول قضى بالعين كلها للحالف أولا، وإن حلف الثاني فقد استويا في اليمين فتكون العين بينهما كما كانت قبل أن يحلفا، وهذا يشهد له الرواية الثالثة في حديث أبي هريرة المذكورة في الباب. وقد حمل ابن الاثير في جامع الاصول الحديث على الاقتراع في المقسوم بعد القسمة وهو بعيد، ويرده الرواية الثالثة فإنها بلفظ فليستهما عليها أي على اليمين. قوله: فليستهما عليها وجه القرعة أنه إذا تساوى الخصمان فترجيح أحدهما بدون مرجح لا يسوغ، فلم يبق إلا المصير إلى ما فيه التسوية بين الخصمين وهو القرعة، وهذا نوع من التسوية المأمور بها بين الخصوم، وقد طول أئمة الفقه الكلام على قسمة الشئ المتنازع فيه بين متنازعيه إذا كان في يد كل واحد منهم أو في يد غيرهم مقربة لهم. وأما إذا كان في يد أحدهما فالقول قوله واليمين عليه والبينة علخصمه. وأما القرعة في تقديم أحدهما في الحلف فالذي في فروع الشافعية أن الحاكمه يعين لليمين منهما من شاء على ما يراه، قال البرماوي: لكن الذي ينبغي العمل به هو القرعة للحديث، وقد قدمنا في كتاب الصلح في العمل بالقرعة كلاما مفيدا.
[ 216 ]
باب استحلاف المنكر إذا لم تكن بينة وأنه ليس للمدعي الجمع بينهما عن الاشعث بن قيس قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: شاهداك أو يمينه؟ فقلت: إنه آذن يحلف ولا يبالي، فقال: من حلف على يمين يقتطع بها امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان متفق عليه. واحتج به من لم يرد الشاهد واليمين ومن رأى العهد يمينا. وفي لفظ: خاصمت ابن عم لي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بئر كانت لفي يده فجحدني فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بينتك أنها بئرك وإلا فيمينه، قلت: ما لي بينة وأن يجعلها يمينه تذهب بئري إن خصمي امرؤ فاجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان رواه أحمد. وعن وائل بن حجر قال: جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرض كانت لابي، قال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحضرمي: ألك بينة؟ قال لا، قال فلك يمينه، فقال: يا رسول الله الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع من شئ، قال: ليس لك منه إلا ذلك، فانطلق ليحلف، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أدبر الرجل: أما لئن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله وهو عنه معرض رواه مسلم والترمذي وصححه، وهو حجة على عدم الملازمة والتكفيل وعدم رد اليمين. قوله: كان بيني وبين رجل خصومة قد تقدم في كتاب الغصب أن الاشعث بن قيس قال: إن رجلا من كندة ورجلا من حضرموت اختصما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهكذا وقع في رواية أبي داود، وذلك يقتضي أن الخصومة بين رجلين غيره. ورواية حديث الباب تقتضي أنه أحد الخصمين، ويمكن الجمع بالحمل على تعدد الواقعة، فإن في رواية لابي
[ 217 ]
داود في حديث الاشعث هذا بلفظ: كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فيها ففي هذا تصريح بأن خصمه كان يهوديا، بخلاف ما تقدم في الغصب فإنه قال: إن رجلا من كندة ورجلا من حضرموت، والكندي هو امرؤ القيس بن عابس الصحابي الشاعر، والحضرمي هو ربيعة بن عبدان بكسر العين. وكذلك حديث وائل المذكور ههنا بأن الخصومة فيه بين الكندي والحضرمي وهما المذكوران في حديث الاشعث المتقدم، فلعل الرواية لقصة الكندي والحضرمي من طريق الاشعث ومن طريق وائل. وأما المخاصمة بين الاشعث وغريمه فقصة أخرى رواها الاشعث والله أعلم. قوله: في بئر في رواية أبي داود في أرض، ولا امتناع أن يكون المجموع صحيحا، فتارة ذكرت الارض لان البئر داخلة فيها، وتارة ذكرت البئر لانها المقصودة. قوله: يقتطع بها مال امرئ مسلم التقييد بالمسلم ليس لاخراج غير المسلم، بل كأن تخصيص المسلمين بالذكر لكون الخطاب معهم، ويحتمل أن تكون العقوبة العظيمة مختصة بالمسلمين وإن كان أصل العقوبة لازما في حق الكفار. قوله: لقي الله وهو عليه غضبان هذا وعيد شديد لان غضب الله سبب لانتقامه وانتقامه بالنار، فالغضب منه عزوجل يستلزم دخول المغضوب عليه النار، ولهذا وقع في رواية لمسلم: من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار ولا بد من تقييد ذلك بعدم التوبة، وسيأتي بقية الكلام على هذا في باب التشديد في اليمين الكاذبة. قوله: ليس يتورع من شئ أصل الورع الكف عن الحرام، والمضارع بمعنى النكرة في سياق النفي فيعم ويكون التقدير ليس له ورع عن شئ. قوله: ليس لك منه إلا ذلك في هذا دليل على أنه لا يجب للغريم على غريمه اليمين المردودة، ولا يلزمه التكفيل، ولا يحل الحكم عليه بالملازمة ولا بالحبس، ولكنه قد ورد ما يخصص هذه الامور من عموم هذا النفي وقتقدم بعض ذلك، ولنذكر ههنا ما ورد في جواز الحبس لمن استحقه، فأخرج أبو داوود الترمذي والنسائي من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حبس رجلا في تهمة قال الترمذي: حسن وزاد هو والنسائي: ثم خلى عنه. وقد تقدم الكلام على حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، ولكنه قد روى هذا لحديث الحاكم وقال صحيح الاسناد، وله شاهد من حديث أبي هريرة ثم أخرجه، ولعله ما رواه
[ 218 ]
ابن القاص بسنده عن عراك بن مالك عن أبيه عن جده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حبس في تهمة يوما وليلة استظهارا وطلبا لاظهار الحق بالاعتراف. وأخرج أبو داود من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: جيراني بما أخذوا، فأعرض عنه مرتين لكونه كلمه في حال الخطبة، ثم ذكر شيئا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: خلوا له عن جيرانه، فهذا يدل على أنهم كانوا محبوسين، ويدل أيضا على جواز الحبس ما تقدم في باب ملازمة الغريم، فإن تسليط ذي الحق عليه وملازمته له نوع من الحبس، وكذلك يدل على الجواز حديث: مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته لان العقوبة مطلقة، والحبس من جملة ما يصدق عليه المطلق، وقد تقدم الحديث في كتاب التفليس. وحكى أبو داود عن ابن المبارك أنه قال في تفسير الحديث: يحل عرضه أي يغلظ عليه وعقوبته يحبس له. وروى البيهقي: أن عبدا كان بين رجلين فأعتق أحدهما نصيبه فحبسه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى باع غنيمة له وفيه انقطاع، وقد روي من طريق أخرى عن عبد الله بن مسعود مرفوعا، وقد بوب البخاري على ذلك في صحيحه، فقال في الابواب التي قبل كتاب اللقطة ما لفظه: باب الربط والحبس في الحرم، قال في الفتح: كأنه أشار بهذا التبويب إلى رد ما نقل عن طاوس أنه كان يكره السجن بمكة ويقول: لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة. وأورد البخاري في الرد عليه أن نافع بن عبد الحرث اشترى دارا للسجن بمكة وكان نافع عاملا لعمر على مكة. وأخرج عمر بن شبة في كتاب مكة عن محمد بن يحيى بن غسان الكناني عن هشام بن سليمان عن ابن جريج أن نافع بن عبد الحرث الخزاعي كان عاملا لعمر على مكة فابتاع دار السجن من صفوان، فذكر نحو ما ذكره البخاري وزاد في آخره: وهو الذي يقال له سجن عارم بمهملتين. قال البخاري: وسجن ابن الزبير بمكة انتهى. (والحاصل) أن الحبس وقع في زمن النبوة وفي أيام الصحابة والتابعين فمن بعدهم إلى الآن في جميع الاعصار والامصار من دون إنكار، وفيه من المصالح ما لا يخفى لو لم يكن منها إلا حفظ أهل الجرائم المنتهكين للمحارم الذين يسعون في الاضرار بالمسلمين ويعتادون ذلك ويعرف من أخلاقهم، ولم يرتكبوا ما يوجب حدا ولا قصاصا حتى يقام ذلك عليهم فيراح منهم العباد والبلاد،
[ 219 ]
فهؤلاء إن تركوا وخلي بينهم وبين المسلمين بلغوا من الاضرار بهم إلى كل غاية، وإن قتلوا كان سفك دمائهم بدون حقها، فلم يبق إلا حفظهم في السجن، والحيلولة بينهم وبين الناس بذلك، حتى تصح منهم التوبة أو يقضي الله في شأنهم ما يختاره. وقد أمرنا الله تعالى بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بهما في حق من كان كذلك، لا يمكن بدون الحيلولة بينه وبين الناس بالحبس، كما يعرف ذلك من عرف أحوال كثير من هذا الجنس. وقد استدل البخاري على جواز الربط بما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم من ربط ثمامة بن أثال بسارية من سواري مسجده الشريف كما في القصة المشهورة في الصحيح. [ رم ] (1037) باب استحلاف المدعى عليه في الاموال والدماء وغيرهما عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى باليمين على المدعى عليه متفق عليه. وفي رواية: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه رواه أحمد ومسلم. قوله: قضى باليمين على المدعى عليه اختلف الفقهاء في تعريف المدعي والمدعى عليه. قال في الفتح: والمشهور فيه تعريفان الاول أن المدعي من تخالف دعواه الظاهر، والمدعى عليه بخلافه. والثاني من إذا سكت ترك وسكوته، والمدعى عليه من لا يخلى إذا سكت. والاول أشهر، والثاني أسلم. وقد أورد على الاول بأن المودع إذا ادعى الردأ والتلف فإن دعواه تخالف الظاهر، ومع ذلك فالقول قوله. (واستدل بالحديث) على أن اليمين على المدعى عليه، وقد ذهب إلى ذلك الجمهور، وحملوه على عمومه في حق كل أحد، سواء كان بين المدعي والمدعى عليه اختلاط أم لا. وعن مالك: لا تتوجه اليمين إلا على من بينه وبين المدعي اختلاط لئلا يبتذل أهل السفه أهل الفضل بتحليفهم مرارا، وقريب من مذهب مالك قول الاصطخري من الشافعية أن قرائن الحال إذا شهدت بكذب المدعي لم يلتفت إلى دعواه. قوله: لو يعطى الناس الخ، هذا هو وجه الحكمة في جعل اليمين على المدعى عليه. وقال
[ 220 ]
جماعة من أهل العلم: الحكمة في ذلك أن جانب المدعي ضعيف لانه يقول بخلاف الظاهر، فكلف الحجة القوية وهي البينة لانها لا تجلب لنفسها نفعا ولا تدفع عنها ضررا فيقوى بها ضعف المدعي. وأما جانب المدعى عليه فهو قوي لان الاصل فراغ ذمته فاكتفى فيه باليمين وهي حجة ضعيفة لان الحالف يجلب لنفسه النفع ويدفع عنها الضرر فكان ذلك في غاية الحكمة. وقد أخرج الحديث البيهقي بإسناد صحيح كما قال الحافظ بلفظ البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وزعم الاصيلي أن قوله البينة الخ إدراج في الحديث. وأخرج ابن حبان عن ابن عمر نحوه. وأخرج الترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه. وأخرجه أيضا الدارقطني بإسناد فيه مسلم بن خالد الزنجي وهو ضعيف. وظاهر أحاديث الباب أن اليمين على المنكر والبينة على المدعي ومن كانت اليمين عليه فالقول قوله مع يمينه، ولكنه ورد ما يدل على أنه إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع، فأخرج أبو داود والنسائي من حديث الاشعث: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا اختلف البيعان ليس بينهما بينة فهو ما يقول رب السلعة أويتتاركان. وأخرجه أيضا الترمذي وابن ماجة من حديث عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن مسعود، قال الترمذي: هذا مرسل عون بن عبد الله لم يدرك ابن مسعوانتهى. قال المنذري في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ولا يحتج به، وعبد الرحمن لم يسمع من أبيه فهو منقطع، وقد روى هذا الحديث من طرق عن عبد الله بن مسعود كلها لا تصح، قال البيهقي: وأصح إسناد روي في هذا الباب رواية أبي العميس عن عبد الرحمن ابن قيس بن محمد بن الاشعث عن أبيه عن جده، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في كتاب البيوع في باب ما جاء في اختلاف المتبايعين بما هو أبسط من هذا، وبين أحاديث الباب وهذه الاحاديث عموم وخصوص من وجه، فظاهر أحاديث الباب أن اليمين على المدعى عليه فيكون القول قوله من غير فرق بين كونه بائعا أم لا ما لم يكن مدعيا، فإن كان كذلك فعليه البينة فلا يكون القول قوله. وظاهر الاحاديث المتقدمة في كتاب البيع أن القول قول البائع، وذلك يستلزم أنه لا بينة عليه بل عليه اليمين فقط سواء كان مدعيا أو مدعى عليه، وقد وقع التصريب استحلاف البائع كما تقدم في رواية في البيع، فمادة التعارض حيث كان البائع مدعيا، والواجب في مثل
[ 221 ]
ذلك الرجوع إلى الترجيح، وأحاديث الباب أرجح، فيكون القول ما يقوله البائع ما لم يكن مدعيا. (فإن قيل) الجمع ممكن بجعل الاحاديث الواردة في المتبايعين مخصصة لعموم أحاديث الباب، فيبنى العام على الخاص، ويكون القول قول البائع مطلقا، سواء كان مدعيا أو مدعى عليه إذا كان التنازع بينه وبين المشتري، وما عدا البائع فإن كان مدعيا فعليه البينة، وإن كان مدعى عليه فالقول قوله مع يمينه. قلت: هذا متوقف على أمرين: أحدهما أأحاديث الباب أعم مطلقا من أحاديث اختلاف المتبايعين. والثاني أن أحاديث اختلاف البيعين صالحة للاحتجاج بها منتهضة لتخصيص أحاديث الباب، وفي كلا الامرين نظر أما الاول: فلان التخصيص إنما يكون بإخراج فرد من العام عن الامر المحكوم به عليه، والعام ههنا هو المدعى عليه، والمحكوم به عليه هو وجوب اليمين عليه. وحديث اختلاف البيعين له صورتان: إحداهما أن يكون البائع مدعى عليه، والثانية أن يكون مدعيا، والاولى موافقة للعام داخلة تحت حكمه غير مستثناة منه، والثانية مخالفة للعام لان العام هو باعتبار المدعى عليه وهذا مدع لا مدعى عليه فهو مخالف له، فلا يصح أن يقال بأنه مخصص له، وإن كان التخصيص بالنسبة إلى عموم الاحاديث الدالة على وجوب البينة على المدعي. ووجه التخصيص أن يقال: هذا مدع ولم تجب عليه البينة فهذا مستقيم وإن لم يدعه القائل بالتخصيص، ولكن حديث فالقول ما يقول البائع مع قوله في بعض ألفاظ الحديث كما تقدم في البيع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالبائع أن يستحلف، هو أعم من الاحاديث القاضية بوجوب البينة على المدعي من وجه لشموله لصورة أخرى وهي حيث كان البائع مدعى عليه فالاظهر العموم والخصوص من وجه لا مطلقا. وأما الثاني فقد عرفت عدم انتهاض الاحاديث المذكورة للتخصيص لما فيها من المقال. باب التشديد في اليمين الكاذبة عن أبي أمامة الحارثي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال رجل: وإن كان شيئا يسيرا؟ قال: وإن كان قضيبا من أراك رواه أحمد ومسلم وابن ماجة
[ 222 ]
والنسائي. وعن عبد الله بن عمرو: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الكبائر الاشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس رواه أحمد والبخاري والنسائي. وعن عبد الله بن أنيس الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن من الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين واليمين الغموس وما حلف حالف بالله يمين صبر فأدخل فيها مثل جنابعوضة إلا جعله الله نكتة في قلبه إلى يوم القيامة رواه أحمد والترمذي. حديث عبد الله بن أنيس أخرجه أيضا الحاكم وابن حبان وحسن الحافظ في الفتح إسناده وقال: له شاهد من حديث عبد الله بن عمر. وأخرجه ابن أبي حاتم بإسناد حسن. قوله: وإن كان قضيبا من أراك هذا مبالغة في القلة، وأن استحقاق النار يكون بمجرد اليمين في اقتطاع الحق وإن كان شيئا يسيرا لا قيمة له. قوله: الكبائر الخ قد اختلف السلف في انقسام الذنوب إلى صغيرة وكبيرة، فذهب إلى ذلك الجمهور، ومنعه جماعة منهم الاسفراييني، ونقله ابن عباس، وحكاه القاضي عياض عن المحققين، ونسبه ابن بطال إلى الاشعرية، وقد تقدم قريبا وجه القولين وبيان الراجح منهما. قال الطيبي: الكبيرة والصغيرة أمران نسبيان فلا بد من أمر يضافان إليه وهو أحد ثلاثة أشياء: الطاعة والمعصية والثواب. فأما الطاعة فكل ما تكفره الصلاة مثلا فهو من الصغائر. وأما المعصية فكل معصية يستحق فاعلها بسببها وعيدا أو عقابا أزيد من الوعيد أو العقاب المستحق بسبب معصية أخرى فهي كبيرة. وأما الثواب ففاعل المعصية إن كان من المقربين فالصغيرة بالنسبة إليه كبيرة، فقد وقعت المعاتبة في حق بعض الانبياء على أمور لم تعد من غيرهم معصية انتهى. قال الحافظ: وكلامه فيما يتعلق بالوعيد والعقاب تخصيص عموم من أطلق أن علامة الكبيرة ورود الوعيد أو العقاب في حق فاعلها، لكن يلزم منه أن مطلق قتل النفس مثلا ليس كبيرة وإن ورد الوعيد فيه والعقاب، لكن ورد الوعيد والعقاب في حق قاتل ولده أشد. فالصواب ما قاله الجمهور، وأن المثال المذكور وما أشبهه ينقسم إلى كبير وأكبر. قال النووي: واختلفوا في ضبط الكبيرة اختلافا كثيرا منتشرا. فروي عن ابن عباس أنها كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. قال: وجاء نحو هذا عن الحسن البصري. وقال آخرون: هي ما أوعد الله
[ 223 ]
عليه بنار في الآخرة أو أوجب فيه جزاء في الدنيا. (قلت): وممن نص على هذا الاخير الامام أحمد فيما نقله القاضي أبو يعلى. ومن الشافعية الماوردي ولفظه الكبيرة ما أوجبت فيها الحدود أو توجه إليها الوعيد. والمنقول عن ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم بسند لا بأس به إلا أن فيه انقطاعا. وأخرج من وجه آخر متصل لا بأس برجاله أيضا عن ابن عباس قال: ما توعد الله عليه بالنار كبيرة. وقد ضبط كثير من الشافعية الكبائر بضوابط أخر منها قول إمام الحرمين: كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة. وقال الحليمي: كل محرم لعينه منهي عنه لمعنى في نفسه. وقال الرافعي: هي ما أوجب الحد. وقيل: ما يلحق الوعيد بصاحبه بنص كتاب أو سنة، هذا أكثر ما يوجد للاصحاب وهم إلى ترجيح الاول أميل، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر انتهى. وقد استشكل بأن كثيرا مما وردت النصوص بكونه كبيرة لا حد فيه كالعقوق. وأجيب بأن مراد قائله ضبط ما لم يرد فيه نص بكونه كبيرة. وقال ابن عبد السلام في القواعد: لم أقف لاحد من العلماء على ضابط للكبيرة لا يسلم من الاعتراض، والاولى ضبطها بما يشعر بتهاون مرتكبها بذنبه إشعارا دون الكبائر المنصوص عليها. قال الحافظ: وهو ضابط جيد. وقال القرطبي في المفهم: الراجح أن كل ذنب نص على كبره أو عظمه أو توعد عليه بالعقاب أو علق عليه حد أو اشتد النكير عليه فهو كبيرة. وكلام ابن الصلاح يوافق ما نقل أولا عن ابن عباس وزاد إيجاب الحد، وعلى هذا يكثر عدد الكبائر. وهذا الكلام في غير ما قد ورد النص الصريح فيه أنه كبيرة أو من الكبائر أو أكبر الكبائر. وقال الواحدي: ما لم ينص الشارع على كونه كبيرة فالحكمة في إخفائه أن يمتنع العبد من الوقوع فيه خشية أن يكون كبيرة كإخفاء ليلة القدر وساعة الجمعة والاسم الاعظم. قوله: يمين صبر أي ألزم بها وحبس عليها وكانت لازمة لصاحبها من جهة الحكم، وإنما أطلق الصبر عليها وإن كان صاحبها هو المصبور لانه إنما صبر من أجلها أي حبس، فوصفت بالصبر وأضيفت إليه مجازا، كذا في النهاية والنكتة الاثر.
[ 224 ]
باب الاكتفاء في اليمين بالحلف بالله وجواز تغليظها باللفظ والمكان والزمان عن ابى عمر: عن بن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله رواه ابن ماجة. وعنابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل حلفه: احلف بالله الذي لا إله إلا هو مله عندي شئ يعني المدعي رواه أبو داود. وعن عكرمة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له يعني ابن صوريا: أذكركم بالله الذي نجاكم من آل فرعون وأقطعكم البحر وظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المن والسلوى وأنزل التوراة على موسى أتجدون في كتابكم الرجم؟ قال: ذكرتني بعظيم ولا يسعني أن أكذبك وساق الحديث رواه أبو داود. وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يحلف عند هذا المنبر عبد ولا أمة على يمين آثمة ولو على سواك رطب إلا أوجب الله له النار. وعن جابر: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يحلف أحد على منبري كاذبا إلا تبوأ مقعده من النار رواهما أحمد وابن ماجة. وعن أبي هريره: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع الامام لا يبايعه إلا للدنيا فإن أعطاه منها وفى له وإن لم يعطه لم يف له، ورجل باع سلعة بعد العصر فحلف بالله لاخذها بكذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك رواه الجماعة إلا الترمذي. وفي رواية: ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم: رجل حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، ورجل منع فضل ماء فيقول الله له اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك رواه أحمد والبخاري. حديث ابن عمر قال ابن ماجة في سننه: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة، حدثنا
[ 225 ]
أسباط بن محمد عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر فذكره، ومحمد بن إسماعيل المذكور ثقة وبقية إسناده رجال الصحيح. وحديث ابن عباس أخرجه أيضا النسائي وفي إسناده عطاء بن السائب وفيه مقال، وقد أخرج له البخاري مقرونا بآخر. وحديث عكرمة هو مرسل وقد سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح، ويؤيده ما أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعني لليهود: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى وفي إسناده مجهول لان الزهري قال: أخبرنا رجل من مزينة ونحن عند سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. وحديث أبي هريرة الاول المذكور في الباب أخرجه أيضا الحاكم في المستدرك. وحديث جابر أخرجه أيضا مالك وأبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم كذا في الفتح ورجال إسناده عند ابن ماجة كلهم ثقات. وفي الباب عن أبي أمامة بن ثعلبة عند النسائي بإسناد رجاله ثقات رفعه: من حلف عند منبري هذا بيمين كاذبة يستحل بها مال امرئ مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا. قوله: من حلف بالله فيه دليل على أنه يكفي مجرد الحلف بالله تعالى من دون أن ينضم إليه وصف من أوصافه، ومن دون تغليظ بزمان أو مكان. قوله: قال له يعني ابن صوريا بضم الصاد المهملة وسكون الواو وكسر الراء المهملة ممدودا. أصل القصة أن جماعة من اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو جالس في المسجد فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة زنيا؟ فقال: ائتوني بأعلم رجل منكم فأتوه بابن صوريا. قوله: وأنزل عليكم المن والسلوى أكثر المفسرين على أن المن هو الترنجبين وهو شئ أبيض كالثلج، والسلوى طير يقال السماني، فيه دليل على جواز تغليظ اليمين على أهل الذمة، فيقال لليهودي بمثل ما قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن أراد الاختصار قال قل: والله الذي أنزل التوراة على موسى. وإن كان نصرانيا، قال له قل: والله الذي أنزل الانجيل على عيسى. قوله: ذكرتني بتشديد الكاف المفتوحة. قوله: أن أكذبك بفتح الهمزة وكسر الذال المعجمة يعني فيما ذكرته لي. قوله: عبد ولا أمة أي ذكر ولا أنثى. قوله: ولو على سواك رطب إنما خص الرطب لانه كثير الوجود لا يباع بالثمن، وهو لا يكون كذلك إلا في مواطن نباته، بخلاف اليابس
[ 226 ]
فإنه قد يحمل من بلد إلى بلد فيباع. قوله: ثلاثة لا يكلمهم الله الخ، فيه دليل على أن حالهم يوم القيامة حال المغضوب عليهم، لان هذه الامور لا تكون إلا عند الغضب فهي كناية عن حلول العذاب بهم. قوله: رجل على فضل ماء بالفلاة قد تقدم الكلام على منع فضل الماء وحكم مانعه. قوله: بعد العصخصه لشرفه بسبب اجتماع ملائكة الليل والنهار. قوله: لقد أعطي بها الخ، قال في الفتح: وقع مضبوطا بضم الهمزة وفتح الطاء على البناء للمجهول، وفي بعضها بفتح الهمزة والطاء على البناء للفاعل والضمير للحالف وهي أرجح، ومعنى لاخذها بكذا أي لقد أخذها، وقد استدل بأحاديث الباب على جواز التغليظ على الحالف بمكان معين كالحرم والمسجد ومنبره صلى الله عليه وآله وسلم، وبالزمان كبعد العصر ويوم الجمعة ونحو ذلك. وقد ذهب إلى هذا الجمهور كما حكاه صاحب الفتح. وذهبت الحنفية إلى عدم جواز التغليظ بذلك. وعليه دلت ترجمة البخاري فإنه قال في الصحيح: (باب يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين) وذهبت العترة إلى مثل ما ذهبت إليه الحنفية كما حكى ذلك عنهم صاحب البحر. وذهب بعض أهل العلم إلى أن ذلك موضع اجتهاد للحاكم. وقد ورد عن جماعة من الصحابة طلب التغليظ على خصومهم في الايمان بالحلف بين الركن والمقام وعلى منبره صلى الله عليه وآله وسلم. وورد عن بعضهم الامتناع من الاجابة إلى ذلك. وروي عن بعض الصحابة التحليف على المصحف. والحاصل أنه لم يكن في أحاديث الباب ما يدل على مطلوب القائل بجواز التغليظ، لان الاحاديث الواردة في تعظيم ذنب الحالف على منبره صلى الله عليه وآله وسلم. وكذلك الاحاديث الواردة في تعظيم ذنب الحالف بعد العصر لا تدل على أنها تجب إجابة الطالب للحلف في ذلك المكان أو ذلك الزمان. وقد علمنا صلى الله عليه وآله وسلم كيف اليمين فقال للرجل الذي حلفه: احلف بالله الذي لا إله إلا هو كما في حديث ابن عباس. وقال في حديث ابن عمر المذكور في الباب: ومن حلف له بالله فليرض ومن لم يرض فليس من الله وهذا أمر منه صلى الله عليه وآله وسلم بالرضا لمن حلف له بالله، ووعيد لمن لم يرض بأنه ليس من الله، ففيه أعظم دلالة على عدم وجوب الاجابة إلى التغليظ بما ذكر، وعدم جواز طلب ذلك ممن لا يساعد عليه. وقد كان الغالب من تحليفه صلى الله عليه وآله وسلم لغيره وحلفه
[ 227 ]
هو الاقتصار على اسم الله مجردا عن الوصف كما في قوله: والله لا أحلف على شئ فأرى غيره خيرا منه إلا أتيت الذي هخير وكفرت عن يميني وكما في تحليفه صلى الله عليه وآله وسلم لركانة فإنه اقتصر على اسم الله. وتارة كان يحلف صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: لا والذي نفسي بيده لا ومقلب القلوب. وقال تعالى: * (فيقسمان بالله) * (المائدة: 106) ومن جملة ما استدل به البخاري على عدم وجوب التغليظ حديث: شاهداك أو يمينه ووجه ذلك أن الذي أوجبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو مطلق اليمين، وهي تصدق على من حلف في أي زمان وأي مكان، فمن بذل لخصمه أن يحلف له حنث هو ولم يجبه إلى مكان مخصوص ولا إلى زمان مخصوص، فقد بذل ما أوجبه عليه الشارع ولا يلزمه الزيادة على ذلك، لان الذي تعبد به هو اليمين على أي صفة كانت، ولم يتعبد بأشد الايمان جرما وأعظمها ذنبا. على أنه قد ورد في اليمين التي يقتطع بها حق امرئ مسلم من الوعيد ما ليس عليه من مزيد كما في الباب الذي قبل هذا أنها من الكبائر ومن موجبات النار، وليس في الحلف على منبره صلى الله عليه وآله وسلم وبعد العصر زيادة على هذا، فالحق عدم وجوب إجابة الحالف لمن أراد تحليفه في زمان مخصوص أو مكان مخصوص أو بألفاظ مخصوصة. وقد روى ابن رسلان أنهم ليختلفوا في جواز التغليظ على الذمي، فإن صح الاجماع فذاك عند من يقول بحجيته، وإن لم يصح فغاية ما يجوز التغليظ به هو ما ورد في حديث الباب وما يشابهه من التغليظ باللفظ، وأما التغليظ بزمان معين أو مكان معين على أهل الذمة مثل أن يطلب منه أن يحلف في الكنائس أو نحوها فلا دليل على ذلك. باب ذم من حلف قبل أن يستحلف عن ابن عمر قال: خطبنا عمر بالجابية فقال: يا أيها الناس إني قمت فيكم كقيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فينا، قال: أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف، ويشهد الشاهد ولا يستشهد، ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان، عليكم
[ 228 ]
بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد. من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة. من سرته حسنته وساءته سيئته فذلك المؤمن رواه أحمد والترمذي. قال الترمذي بعد إخراج هذا الحديث: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتهى. وأخرجه أيضا ابن حبان وصححه. قوله: أوصيكم بأصحابي قد وقد الاختلاف فيمن يستحق إطلاق اسم الصحابي عليه وهو مبسوط في مواطنه من علم الاصطلاح. قوله: الجابية بالجيم قال في القاموس: هو حوض ضخم والجماعة وقرية بدمشق وباب الجابية من أبوابها انتهى. والمراد هنا القرية. قوله: ثم يفشو الكذب رتب صلى الله عليه وآله وسلم فشو الكذب على انقراض الثالث. فالقرن الذي بعده ثم من بعده إلى القيامة، قد فشا فيهم الكذب بهذا النص. فعلى المتيقظ من حاكم أو عالم أن يبالغ في تعرف أحوال الشهادة والمخبرين، وأن لا يجعل الاصل في ذلك الصدق، لان كل شهادة وكل خبر قد دخله الاحتمال، ومع دخول الاحتمال يمتنع القبول إلا بعد معرفة صدق المخبر والشاهد بأي دليل. وأقل الاحوال أنه ليس ممن يتجارأ على الكذب ويجازف في أقواله. ومن هذه الحيثية لم يقبل المجهول عند علماء المنقول لان العدالة ملكة، والملكات مسبوقة بالعدم، فمن لا تعرف عدالته لا تقبل روايته، لان الفسق مانع فلا بد من تحقق عدمه. وكذلك الكذب مانع فلا بد من تحقق عدمه كما تقرر في الاصول. وفي الحديث التوصية بخير القرون وهم الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. وقد وعدنا أن نذكر ههنا طرفا من الكلام على ما ورد من معارضة الاحاديث القاضية بأفضلية الصحابة فنقول: قد تقدم في باب من أعلم صاحب الحق بشهادة له عنده، وذم من أدى شهادة من غير مسألة حديث عمران بن حصين وحديث أبي هريرة: أن خير القرون قرنه صلى الله عليه وآله وسلم وفي ذلك دليل على أنهم الخيار من هذه الامة وأنه لا أكثر خيرا منهم. وقد ذهب الجمهور إلى أن ذلك باعتبار كل فرد فرد. وقال ابن عبد البر: إن التفضيل إنما هو بالنسبة إلى مجموع الصحابة فإنهم أفضل ممن بعدهم لا كل فرد منهم. وقد أخرج الترمذي بإسناد
[ 229 ]
قوي من حديث أنس مرفوعا مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره وأخرجه أبو يعلى في مسنده بإسناد ضعيف وصححه ابن حبان من حديث عمار. وأخرج ابن أبي شيبة من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير بإسناد حسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليدركن المسيح أقواما إنهم لمثلكم أو خير ثلاثا. ولن يخزي الله أمة أنا أولها والمسيح آخرها ولكنه مرسل، لان عبد الرحمن تابعي. وأخرج الطيالسي بإسناد ضعيف عن عمر رفعه: أفضل الخلق إيمانا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولا يروني. وأخرج أحمد والدارمي والطبراني بإسناد حسن من حديث أبي جمعة قال: قال أبو عبيدة: يا رسول الله أحد خير منا أسلمنا معك وجاهدنا معك، قال: قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني وقد صححه الحاكم. وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة رفعه: بدأ الاسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء. وأخرج أبو داود والترمذي من حديث ثعلبة رفعه: تأتي أيام للعامل فيهن أجر خمسين، قيل: منهم أو منا يا رسول الله؟ قال: بل منكم وجمع الجمهور بأن الصحابة لها فضيلة ومزية لا يوازيها شئ من الاعمال، فلمن صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضيلة الصحبة وإن قصر في الاعمال، وفضيلة من بعد الصحابة باعتبار كثرة الاعمال المستلزمة لكثرة الاجور، فحاصل هذا الجمع أن التنصيص على فضيلة الصحابة باعتبار فضيلة الصحبة، وأما باعتبار أعمال الخير فهم كغيرهم قد يوجد فيمن بعدهم من هو أكثر أعمالا منهم أو من بعضهم فيكون أجره باعتبار ذلك أكثر، فكان أفضل من هذه الحيثية، وقد يوجد فيمن بعدهم ممن هو أقل عملا منهم أو من بعضهم فيكون مفضولا من هذه الحيثية، ويشكل على هذا الجمع ما ثبت في الاحاديث الصحيحة في الصحابة بلفظ: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه فإن هذا التفضيل باعتبار خصوص أجور الاعمال لا باعتبار فضيلة الصحبة، ويشكل عليه أيضا حديث ثعلبة المذكور فإنه قال: للعامل فيهن أجر خمسين رجلا ثم بين أن الخمسين من الصحابة، وهذا صريح في أن التفضيل باعتبار الاعمال، فاقتضى الاول أفضلية الصحابة في الاعمال إلى حد يفضل نصف مدهم مثل أحد ذهبا. واقتضى الثاني تفضيل من بعدهم إلى حد يكون أجر العامل أجر خمسين رجلا من الصحابة. وفي بعض ألفاظ حديث ثعلبة: فإن من ورائكم أياما الصبر فيهن كالقبض على الجمر أجر العامل فيهن أجر خمسين رجلا، فقال
[ 230 ]
بعض الصحابة: منا يا رسول الله أو منهم؟ فقال: بل منكم فتقرر بما ذكرناه عدم صحة ما جمع به الجمهور. وقال النووي في حديث: أمتي كالمطر أنه يشتبه على الدين يرون عيسى ويدركون زمانه وما فيه من الخير أي الزمانين أفضل، قال: وهذا الاشتباه مندفع بصريح قوله صلى الله عليه وآله وسلم: خير القرون قرني ولا يخفى ما في هذا من التعسف الظاهر، والذي أوقعه فيه عدم ذكر فاعل يدري فحمله على هذا، وغفل عن التشبيه بالمطر المفيد لوقوع التردد في الخيرية من كل أحد، والذي يستفاد من مجموع الاحاديث أن للصحابة مزية لا يشاركهم فيها من بعدهم وهي صحبته صلى الله عليه وآله وسلم ومشاهدته والجهاد بين يديه وإنفاذ أوامره ونواهيه، ولمن بعدهم مزية لا يشاركهم الصحابة فيها وهي إيمانهم بالغيب في زمان لا يرون فيه الذات الشريفة التي جمعت من المحاسن ما يقود بزمام كل مشاهد إلى الايمان إلامن حقت عليه الشقاوة، وأما باعتبار الاعمال فأعمال الصحابة فاضلة مطلقا من غير تقييد بحالة مخصوصة كما يدل عليه: لو أنفق أحدكم مثل أحد الحديث. إلا أن هذه المزية هي للسابقين منهم، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاطب بهذه المقالة جماعة من الصحابة الذين تأخر إسلامهم كما يشعر بذلك السبب، وفيه قصة مذكورة في كتب الحديث، فالذين قال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا هم جماعة من الصحابة الذين تأخرت صحبتهم، فكان بين منزلة أول الصحابة وآخرهم أن إنفاق مثل أحد ذهبا من متأخريهم لا يبلغ مثل إنفاق نصف مد من متقدميهم. وأما أعمال من بعد الصحابة فلم يرد ما يدل على كونها أفضل على الاطلاق، إنما ورد ذلك مقيدا بأيام الفتنة وغربة الدين حتى كان أجر الواحيعدل أجر خمسين رجلا من الصحابة، فيكون هذا مخصصا لعموم ما ورد في أعمال الصحابة، فأعمال الصحابة فاضلة، وأعمال من بعدهم مفضولة إلا في مثل تلك الحالة، ومثل حالة من أدرك المسيح إن صح ذلك المرسل وبانضمام أفضلية الاعمال إلى مزية الصحبة يكونون خير القرون، ويكون قوله: لا يدرى خير أوله أم آخره باعتبار أن في المتأخرين من يكون بتلك المثابة من كون أجر خمسين، هذا باعتبار أجور الاعمال، وأما باعتبار غيرها فلكل طائفة مزية كما تقدم ذكره، لكن مزية الصحابة فاضلة مطلقا باعتبار مجموع القرن لحديث: خير القرون قرني فإذا اعتبرت كل قرن قرن ووازنت بين مجموع القرن الاول مثلا ثم الثاني
[ 231 ]
ثم كذلك إلى انقراض العالم فالصحابة خير القرون، ولا ينافي هذا تفضيل الواحد من أهل قرن أو الجماعة على الواحد أو الجماعة من أهل قرن آخر، فإن قلت: ظاهر الحديث المتقدم أن أبي عبيدة قال: يا رسول الله أحد خير منا أسلمنا معك وجاهدنا معك؟ فقال: قوم يكونون من بعدكم يؤمنون بي ولا يروني يقتضي تفضيل مجموع قرن هؤلاء على مجموع قرن الصحابة. قلت: ليس في هذا الحديث ما يفيد تفضيل المجموع على المجموع، وإن سلم ذلك وجب المصير إلى الترجيح لتعذر الجمع، ولا شك أن حديث: خير القرون قرني أرجح من هذا الحديث بمسافات لو لم يكن إلا كونه في الصحيحين، وكونه ثابتا من طرق، وكونه متلقى بالقبول، فظهر بهذا وجه الفرق بين المزيتين من غير نظف الى الاعمال، كما ظهر وجه الجمع باعتبار الاعمال على ما تقدم تقريره، فلم يبق ههنا إشكال والله أعلم. قوله: لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان سبب ذلك أن الرجل يرغب إلى المرأة لما جبل عليه من الميل إليها، لما ركب فيه من شهوة النكاح، وكذلك المرأة ترغب إلى الرجل، لذلك فمع ذلك يجد الشيطان السبيل إلى إثارة شهوة كل واحد منهما إلى الآخر فتقع المعصية. قوله: بحبوحة الجنة قال في النهاية: بحبوحة الدار وسطها، يقال: بحبح إذا تمكن وتوسط المنزل، والمقام والبحبوحة بمهملتين وموحدتين، والمراد أن لزوم الجماعة سبب الكون في بحبوحة الجنة، لان يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار كما ثبت في الحديث. قوله: من سره حسنته الخ، فيه دليل على أن السرور لاجل الحسنة، والحزن لاجل السيئة من خصال الايمان، لان من ليس من أهل الايمان لا يبالي أحسن أم أساء. وأما من كان صحيح الايمان خالص الدين فإنه لا يزال من سيئته في غم لعلمه بأنه مأخوذ بها محاسب عليها، ولا يزال من حسنته في سرور، لانه يعلم أنها مدخرة له في صحائفه، فلا يزال حريصا على ذلك حتى يوفقه الله عزوجل لحسن الخاتمة. والى هنا انتهى الشرح الموسوم تبيل الاوطار من اسرار منتقى الاخبار بعناية مؤلفه (محمد بن على بن محمد الشوكاني) غفر الله له ذنوبه وستر عيوبه وتقبل اعماله واصلح اقواله وافعاله وخم له بخير ودفع عنه كل بؤس وضير. وصلى الله على سيرنا محمد وعلى آله وسلم. (تم)
[ 232 ]
الحمد لله الذى امتن علينا بنعمتي الايمان والاسلام وهدانا الى شريعته التى هي اتم الشرائع وخاتمتها. والصلاة والسلام على من بمتابعته تفتح ابواب الجنان وتفلق دونه ابواب النيران باذن الواحة القهار * وعلى آله اصحابه ومتابعيه الذين ما مالوا عن سبيل هديه ما وجدوا إليه سبيلا * اما بعد فيقول عبد الله وابن امته محمد منير بن عبده اغا الدمشقي الازهرى قد وفقني الله سبحانه وتعالى الى اتمام طبع كتاب نيل الوطار شرح منتقى الاخبار من احاديث سيد الاخيار للعالم العلامة والحبر البحر الفهامة اقضي قضاة القطر اليماني المجتهد الامام محمد بن على الشوكاني وذلك في سنة خمس واربعين وثلاثمائة بعد الالف وما آليت جهدي في تصحيحه ومراجعة اصوله مع مساعدة لجنة من علماء العصر الحاضر قبل الطبع ووضع حواشى عليه عند الحاجة فجاء بحمدالله وعظم انعامه غاية في الصحة مع بذل المجهود في انتقاء الورق وحسن الحروف واماتم طبعه اشار الينا جملة من خيار اهل العلم بمراجعته بعد طبعه على اصوله لثلا يكون وقع خلل في اثناء الطبع من الاغلاط المطبعية التى قل ان يسلم منها كتاب باخترنا لجنة من خيار علماء الازهر ونبغائها لذلك وبعد المقابلة وعرض هذه النسخة على الاصول استدركنا وتفلق دونه ابواب النيران باذن الواحة القهار * وعلى آله اصحابه ومتابعيه الذين ما مالوا عن سبيل هديه ما وجدوا إليه سبيلا * اما بعد فيقول عبد الله وابن امته محمد منير بن عبده اغا الدمشقي الازهرى قد وفقني الله سبحانه وتعالى الى اتمام طبع كتاب نيل الوطار شرح منتقى الاخبار من احاديث سيد الاخيار للعالم العلامة والحبر البحر الفهامة اقضي قضاة القطر اليماني المجتهد الامام محمد بن على الشوكاني وذلك في سنة خمس واربعين وثلاثمائة بعد الالف وما آليت جهدي في تصحيحه ومراجعة اصوله مع مساعدة لجنة من علماء العصر الحاضر قبل الطبع ووضع حواشى عليه عند الحاجة فجاء بحمدالله وعظم انعامه غاية في الصحة مع بذل المجهود في انتقاء الورق وحسن الحروف واماتم طبعه اشار الينا جملة من خيار اهل العلم بمراجعته بعد طبعه على اصوله لثلا يكون وقع خلل في اثناء الطبع من الاغلاط المطبعية التى قل ان يسلم منها كتاب باخترنا لجنة من خيار علماء الازهر ونبغائها لذلك وبعد المقابلة وعرض هذه النسخة على الاصول استدركنا اغلاطا مطبعية فوضعنا ها لتصحح بالقلم وهذا العمل قل من يصنعه بل لرتما عدوه عببا كبيرا فيتركه ويرعى ان هذا يحط من قيمة النسخة ولا ينفق سوق بيعها في عالم المطبوعات وهذا ما يدعيه جل باعة الكتب الذين لا ينتسبون الى العلم. وهذا ادعا فاسدو دعوى كاذبة لان العلم امانة فيجب على من راى غلطا ان يصلحه ويبينه وهذه عادتنا فلا يغرنك ايها الكطلع قبل اطلاعك على هذه النسخة مقالة هؤلاء المغالطين فانك لو اطلعت على مطبوعات غير نالو جدت فيها تحريفا كثيرا وتصحيفا وحذفا لا يمكنك الا هتداء إليه الا بتكلف إذا كنت من اهل النقد والفكر الثاقب * مدير ادارة الطباعة المنيريه محمد منير الدمشقي من علماء الازهر