نيل الأوطار
الشوكاني ج 8
[ 1 ]
نيل الاوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار للشيخ الامام المجتهد العلامة الرباني قاضى قضاة القطر اليماني محمد بن علي ابن محمد الشوكاني المتوفى سنة 1255 ه الجزء الثامن - 1973 دار الجيل بيروت - لبنان ص، پ - 8747
[ 2 ]
بسم الله الرحمن الرحيم أبواب أحكام الردة والاسلام (1) باب قتل المرتد عن عكرمة قال: أتي أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تعذبوا بعذاب الله، ولقتلتهم لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من بدل دينه فاقتلوه رواه الجماعة إلا مسلما، وليس لابن ماجة فيه سوى: من بدل دينه فاقتلوه. وفي حديث لابي موسى: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: اذهب إلى اليمن ثم أتبعه معاذ بن جبل فلما قدم عليه ألقى له وسادة وقال: انزل وإذا رجل عنده موثق قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديا فأسلم ثم تهود، قال: لا أجلس حتى يقتل قضاء الله ورسوله متفق عليه. وفي رواية لاحمد: قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه. ولابي داود في هذه القصة: فأتي أبو موسى برجل قد ارتد عن الاسلام فدعا عشرين ليلة أو قريبا منها فجاء معاذ فدعاه فأبى فضرب عنقه. وعن محمد بن عبد الله بن عبد القاري قال: قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبي موسى فسأله عن الناس فأخبره ثم قال: هل من مغربة خبر؟ قال: نعم، كفر رجل بعد إسلامه، قال: فما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه، فقال عمر: هلا حبستموه ثلاثا
[ 3 ]
وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله؟ اللهم إني لم أحضر ولم أرض إذ بلغني رواه الشافعي. أثر عمر أخرجه أيضا مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري عن أبيه، قال الشافعي: من لا يتأنب المرتد زعموا أن هذا الاثر عن عمر ليس بمتصل. ورواه البيهقي من حديث أنس قال: لما نزلنا على تستر فذكر الحديث وفيه: فقدمت على عمر رضي الله عنه فقال: يا أنس ما فعل الستة الرهط من بكر بن وائل الذين ارتدوا عن الاسلام فلحقوا بالمشركين؟ قال: يا أمير المؤمنين قتلوا بالمعركة، فاسترجع عمر، قلت: وهل كان سبيلهم إلا القتل؟ قال: نعم، قال: كنت أعرض عليهم الاسلام فإن أبوا أودعتهم السجن. (وفي الباب) عن جابر: أن امرأة أم رومان وفي التلخيص: أن الصواب أم مروان ارتدت فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعرض عليها الاسلام فإن تابت وإلا قتلت. أخرجه الدارقطني والبيهقي من طريقين وزاد في أحدهما: فأبت أن تسلم فقتلت قال الحافظ: وإسناداهما ضعيفان. وأخرج البيهقي من وجه آخر ضعيف عن عائشة: أن امرأة ارتدت يوم أحد فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت. وأخرج أبو الشيخ في كتاب الحدود عن جابر: أنه صلى الله عليه وآله وسلم استتاب رجلا أربع مرات. وفي إسناده العلاء بن هلال وهو متروك عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر. ورواه البيهقي من وجه آخر من حديث عبد الله بن وهب عن الثوري عن رجل عن عبد الله بن عبيد بن عمير مرسلا وسمي الرجل نبهان. وأخرج الدارقطني والبيهقي: أن أبا بكر استتاب امرأة يقال لها أم قرفة كفرت بعد إسلامها فلم تتب فقتلها. قال الحافظ: وفي السير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قتل أم قرفة يوم قريظة وهي غير تلك. وفي الدلائل عن أبي نعيم: أن زيد بن ثابت قتل أم قرفة في سريته إلى بني فزارة. قوله بزنادقة بزاي ونون وقاف جمع زنديق بكسر أوله وسكون ثانيه. قال أبو حاتم السجستاني وغيره: الزنديق فارسي معرب أصله زنده كرد أي يقول بدوام الدهر، لان زنده الحياة وكرد العمل، ويطلق على من يكون دقيق النظر في الامور. وقال ثعلب ليس في كلام العرب زنديق وإنما يقال زندقي لمن يكون شديد التحيل، وإذا أرادوا ما تريد العامة قالوا ملحد ودهري بفتح الدال أي يقول بدوام الدهر، وإذا
[ 4 ]
قالوها بالضم أرادوا كبر السن. وقال الجوهري: الزنديق من الثنوية، وفسره بعض الشراح بأنه الذي يدعي مع الله إلها آخر، وتعقب بأنه يلزم منه أن يطلق على كل مشرك. قال الحافظ: والتحقيق ما ذكره من صنف في الملل والنحل أن أصل الزندقة اتباع ديصان ثم ماني ثم مزدك الاول بفتح الدال المهملة وسكون التحتية بعدها صاد مهملة، والثاني بتشديد النون وقد تخفف والياء خفيفة، والثالث بزاي ساكنة ودال مهملة مفتوحة ثم كاف. (وحاصل) مقالتهم أن النور والظلمة قديمان وأنهما امتزجا فحدث العالم كله منهما، فمن كان من أهل الشر فهو من الظلمة، ومن كان من أهل الخير فهو من النور، وأنه يجب أن يسعى في تخليص النور من الظلمة فيلزم إزهاق كل نفس، وكان بهرام جد كسرى تحيل على ماني حتى حضر عنده وأظهر له أنقبل مقالته ثم قتله وقتل أصحابه وبقيت منهم بقايا اتبعوا مزدك المذكور وقام الاسلام. والزنديق يطلق على من يعتقد ذلك، وأظهر جماعة منهم الاسلام خشية القتل فهذا أصل الزندقة. وأطلق جماعة من الشافعية الزندقة على من يظهر الاسلام ويخفي الكفر مطلقا. وقال النووي في الروضة: الزنديق الذي لا ينتحل دينا. وقد اختلف الناس في الذين وقع لهم مع أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ما وقع وسيأتي. قوله: لنهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تعذبوا بعذاب الله أي لنهيه عن القتل بالنار بقوله: ولا تعذبوا بعذاب الله. وهذا يحتمل أن يكون مما سمعه ابن عباس من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويحتمل أن يكون سمعه من بعض الصحابة. وقد أخرج البخاري من حديث أبي هريرة حديثا وفيه: وأن النار لا يعذب بها إلا الله ذكره البخاري في الجهاد. وأخرج أبو داود من حديث ابن مسعود في قصة بلفظ: وإنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار. قوله: من بدل دينه فاقتلوه هذا ظاهره العموم في كل من وقع منه التبديل، ولكنه عام يخص منه من بدله في الباطن ولم يثبت عليه ذلك في الظاهر فإنه تجري عليه أحكام الظاهر، ويستثنى منه من بدل دينه في الظاهر ولكن مع الاكراه هكذا في الفتح، قال فيه: واستدل به على قتل المرتدة كالمرتد، وخصه الحنفية بالذكر وتمسكوا بحديث النهي عن قتل النساء، وحمل الجمهور النهي على الكافرة الاصلية إذا لم تباشر القتال لقوله في بعض طرق حديث النهي عن قتل النساء لما رأى امرأة مقتولة:
[ 5 ]
ما كانت هذه لتقاتل. ثم نهى عن قتل النساء. واحتجوا بأن من الشرطية لا تعم المؤنث، وتعقب بأن ابن عباس راوي الخبر وقد قال بقتل المرتدة. وقتل أبو بكر الصديق في خلافته امرأة ارتدت كما تقدم والصحابة متوافرون فلم ينكر عليه أحد ذلك، واستدلوا أيضا بما وقع في حديث معاذ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أرسله إلى اليمن قال له: أيما رجل ارتد عن الاسلام فادعه فإن عاد وإلا فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الاسلام فادعها فإن عادت وإلا فاضرب عنقها. قال الحافظ: وسنده حسن، وهو نص في موضع النزاع فيجب المصير إليه، ويؤيده اشتراك الرجال والنساء في الحدود كلها الزنا والسرقة وشرب الخمر والقذف، ومن صور الزنا رجم المحصن حتى يموت، فإن ذلك مستثنى من النهي عن قتل النساء فيستثنى قتل المرتدة مثله. (واستدل) بالحديث بعض الشافعية على أنه يقتل من انتقل من ملة من ملل الكفر إلى ملة أخرى. وأجيب بأن الحديث متروك الظاهر فيمن كان كافرا ثم أسلم اتفاقا مدخوله في عموم الخبر، فيكون المراد من بدل دينه الذي هو دين الاسلام، لان الدين في الحقيقة هو دين الاسلام، قال الله تعالى: * (إن الدين عند الله الاسلام) * (آل عمران: 19) ويؤيده أن الكفر ملة واحدة، فإذا انتقل الكافر من ملة كفرية إلى أخرى مثلها لم يخرج عن دين الكفر، ويؤيده أيضا قوله تعالى: * (ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه) * (آل عمران: 85). قد ورد في بعض طرق الحديث ما يدل على ذلك، فأخرج الطبراني من وجه آخر عن ابن عباس رفعه: من خالف دينه دين الاسلام فاضربوا عنقه واستدل بالحديث المذكور في الباب، على أنه يقتل الزنديق من غير استتابة، وتعقب بأنه وقع في بعض طرق الحديث أن أمير المؤمنين عليا رضي الله عنه استتابهم كما في الفتح من طريق عبد الله بن شريك العامري عن أبيه قال: قيل لعلي إن هنا قوما على باب المسجد يزعمون أنك ربهم فدعاهم فقال لهم: ويلكم ما تقولون؟ قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا، قال: ويلكم إنما أنا عبد مثلكم آكل الطعام كما تأكلون وأشرب كما تشربون، إن أطعت الله أثابني إن شاء، وإن عصيته خشيت أن يعذبني، فاتقوا الله وارجعوا، فأبوا فلما كان الغد غدوا عليه فجاء قنبر فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام، فقال: أدخلهم فقالوا كذلك، فلما كان الثالث قال: لئن قلتم ذلك لاقتلنكم بأخبث قتلة، فأبوا إلا ذلك، فأمر علي
[ 6 ]
أن يخد لهم أخدود بين باب المسجد والقصر وأمر بالحطب أن يطرح في الاخدود ويضرم بالنار ثم قال لهم: إني طارحكم فيها أو ترجعوا، فأبوا أن يرجعوا فقذف بهم حتى إذا احترقوا قال: [ شع ] إني إذا رأيت أمرا منكرا أوقدت ناري ودعوت قنبرا [ / سع ] قال الحافظ: إن إسناد هذا صحيح. وزعم أبو مظفر الاسفراييني في الملل والنحل أن الذين أحرقهم علي رضي الله عنه طائفة من الروافض ادعوا فيه الالهية وهم السبئية وكان كبيرهم عبد الله بن سبأ يهوديا ثم أظهر الاسلام وابتدع هذه المقالة. وأما ما رواه ابن أبي شيبة أنهم أناس كانوا يعبدون الاصنام في السر فسنده منقطع، فإن ثبت حمل على قصة أخرى. وقد ذهب الشافعي إلى أنه يستتاب الزنديق كما يستتاب غيره. وعن أحمد وأبي حنيفة روايتان: إحداهما لا يستتاب، والاخرى إن تكرر منه لم تقبل توبته وهو قول الليث وإسحاق. وحكي عن أبي إسحاق المروزي من أئمة الشافعية، قال الحافظ: ولا يثبت عنه بل قيل إنه تحريف من إسحاق بن راهويه والاول هو المشهور عن المالكية. وحكي عن مالك أنه إن جاء تائبا قبل وإلا فلا، وبه قال أبو يوسف، واختاره أبو إسحاق الاسفراييني وأبو منصور البغدادي، وعن جماعة من الشافعية إن كان داعية لم يقبل وإلا قبل. وحكي في البحر عن العترة وأبي حنيفة والشافعي ومحمد أنها تقبل توبة الزنديق لعموم أن ينتهوا. وعن مالك وأبي يوسف والجصاص لا تقبل إذ يعرف منهم التظهر تقية بخلاف ما ينطقون به. قال المهدي: فيرتفع الخلاف حينئذ فيرجع إلى القرائن لكن الاقرب العمل بالظاهر وإن التبس الباطن لقوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن يستأذنه في قتل منافق: أليس يشهد أن لا إله إلا الله الخبر ونحوه اه. قال في الفتح: واستدل من منع من قبول توبة الزنديق بقوله تعالى: * (إلا الذين تابوا وأصلحوا) * (البقرة: 160) فقال الزنديق لا يطلع على إصلاحه لان الفساد إنما أتى مما أسره، فإذا أطلع عليه وأظهر الاقلاع عنه لم يرد على ما كان عليه، ولقوله تعالى: * (إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم) * (النساء: 37) وأجيب بأن المراد من مات منهم على ذلك كما فسره ابن عباس أخرجه عنه ابن أبي حاتم وغيره. واستدل لمن قال بالقبول بقوله تعالى: * (اتخذوا أيمانهم جنة) * (المجادلة: 16) فدل على أن إظهار الايمان يحصن من القتل، قال الحافظ: وكلهم أجمعوا على أن أحكام الدنيا
[ 7 ]
على الظاهر والله يتولى السرائر، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم لاسامة: هلا شققت عن قلبه وقال للذي ساره في قتل رجل: أليس يصلي؟ قال نعم، قال: أولئك الذين نهيت عن قتلهم. وقال صلى الله عليه وآله وسلم لخاللما استأذنه في قتل الذي أنكر القسمة: إني لم أومر بأن أنقب عن قلوب الناس. وهذه الاحاديث في الصحيح والاحاديث في هذا الباب كثيرة. قوله: ثم أتبعه بهمزة ثم مثناة ساكنة. قوله: معاذ بن جبل بالنصب أي بعثه بعده، ظاهره أنه ألحقه به بعد أن توجه، ووقع في بعض النسخ وأتبعه بهمزة وصل وتشديد المثناة ومعاذ بالرف. قوله: فلما قدم عليه في البخاري في كتاب المغازي: أن كلا منهما كان على عمل مستقل، وأن كلا منهما كان إذا سار في أرضه بقرب من صاحبه أحدث به عهدا، وفي أخرى له فجعلا يتزاوران. قوله: وسادة هي ما تجعل تحت رأس النائم كذا قال النووي قال: وكان من عادتهم أن من أرادوا إكرامه وضعوا الوسادة تحته مبالغة في إكرامه. قوله: وإذا رجل عنده إلخ هي جملة حالية بين الامر والجواب، قال الحافظ، ولم أقف على اسمه. قوله: قضاء الله خبر مبتدأ محذوف ويجوز النصب. قوله: فضرب عنقه في رواية للطبراني: فأتى بحطب فألهب فيه النار فكتفه وطرحه فيها، ويمكن الجمع بأنه ضرب عنقه ثم ألقاه في النار. قوله: هل من مغربة خبر بضم الميم وسكون الغين المعجمة وكسر الراء وفتحها مع الاضافة فيهما معناه هل من خبر جديد من بلاد بعيدة؟ قال الرافعي: شيوخ الموطأ فتحوا الغين وكسروا الراء وشددوها. قوله: هلا حبستموه إلخ، وكذلك قوله في الحديث الاول: فدعاه عشرين ليلة إلخ، استدل بذلك من أوجب الاستتابة للمرتد قبل قتله، وقد قدمنا في أول الباب ما في ذلك من الادلة: قال ابن بطال: اختلفوا في استتابة المرتد فقيل يستتاب فإن تاب وإلا قتل وهو قول الجمهور. وقيل: يجب قتله في الحال، وإليه ذهب الحسن وطاوس، وبه قال أهل الظاهر، ونقله ابن المنذر عن معاذ وعبيد بن عمير، وعليه يدل تصرف البخاري فإنه استظهر بالآيات التي لا ذكر فيها للاستتابة والتي فيها أن التوبة لا تنفع وبعموم قوله: من بدل دينه فاقتلوه وبقصة معاذ المذكورة ولم يذكر غير ذلك. قال الطحاوي: ذهب هؤلاء إلى أن حكم من ارتد عن الاسلام حكم الحربي الذي بلغته الدعوة فإنه
[ 8 ]
يقاتل من قبل أن يدعى، قالوا: وإنما تشرع الاستتابة لمن خرج عن الاسلام لا عن بصيرة، فأما من خرج عن بصيرة فلا. ثم نقل عن أبي يوسف موافقتهم، لكن إن جاء مبادرا بالتوبة خلي سبيله ووكل أمره إلى الله. وعن ابن عباس: إن كان أصله مسلما لم يستتب وإلا استتيب، واستدل ابن القصار لقول الجمهور بالاجماع يعني السكوتي، لان عمر كتب في أمر المرتد: هلا حبستموه ثلاثة أيام؟ ثم ذكر الاثر المذكور في الباب ثم قال: ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة كأنهم فهموا من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: من بدل دينه فاقتلوه أي إن لم يرجع، وقد قال تعالى: * (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) * (التوبة: 5). واختلف القائلون بالاستتابة هل يكتفي بالمرة أم لا بد من ثلاث؟ وهل الثلاث في مجلس أو في يوم أو في ثلاثة أيام؟ ونقل ابن بطال عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه يستتاب شهرا، وعن النخعي يستتاب أبدا. باب ما يصير به الكافر مسلما عن ابن مسعود قال: إن الله عزوجل ابتعث نبيه لادخال رجل الجنة فدخل الكنيسة فإذا يهود وإذا يهودي يقرأ عليهم التوراة، فلما أتوا على صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمسكوا وفي ناحيتها رجل مريض، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما لكم أمسكتم؟ فقال المريض: إنهم أتوا على صفة نبي فأمسكوا ثم جاء المريض يحبو حتى أخذ التوراة فقرأ حتى أتى على صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمته فقال: هذه صفتك وصفة أمتك أشهد أن لاإله إلا الله وأنك رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاصحابه: لوا أخاكم رواه أحمد. وعن أبي صخر العقيلي قال: حدثني رجل من الاعراب قال: جلبتجلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما فرغت من بيعتي قلت: لالقين هذا الرجل ولاسمعن منه، قال: فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون فتبعتهم في أقفائهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشرا التوراة يقرؤها يعزي بها نفسه على ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله، فقال رسول
[ 9 ]
الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنشدك بالذي أنزل التوراة هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي؟ فقال: برأسه هكذا أي لا، فقال ابنه: أي والله الذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال: أقيموا اليهودي عن أخيكم ثم ولي دفنه وجننه والصلاة عليه رواه أحمد. وعن أنس: أن يهوديا قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أشهد أنك رسول الله ثم مات، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صلوا على صاحبكم رواه أحمد في رواية مهنا محتجا به. وعن ابن عمر قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خالد ابن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الاسلام فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل ويأسر ودفع إلى كل رجل منا أسيره، حتى أصبح أمر خالد أن يقتل كل رجل منا أسيره فقلت: والله لا أقتل أسيري ولا يقتل رجل من أصحابي أسيره حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين رواه أحمد والبخاري، وهو دليل على ان الكناية مع النية كصريح لفظ الاسلام. حديث ابن مسعود أخرجه أيضا الطبراني قافي مجمع الزوائد في إسناده عطاء بن السائب وقد اختلط. وحديث أبي صخر العقيلي قال في مجمع الزوائد: أبو صخر لم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح. وقال ابن حجر في المنفعة قلت: اسمه عبد الله بن قدامة وهو مختلف في صحبته. وجزم البخاري ومسلم وابن حبان وغيرهم بأن له صحبة، ثم ذكر ابن حجر في المنفعة الاضطراب في إسناده. وحديث أنس قال في مجمع الزوائد: أخرجه أبو يعلى بإسناد رجاله رجال الصحيح، والاحاديث المذكورة في الباب بعضها يشهد لبعض، وقد ورد في معناها أحاديث. منها ما أخرجه في الموطأ عن رجل من الانصار أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بجارية له فقال: يا رسول الله علي رقبة مؤمنة أفأعتق هذه؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أتشهدين أن لا إله إلا الله؟ قالت: نعم، قال: أتشهدين أن محمدا رسول الله؟ قالت: نعم، قال: أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟ قالت: نعم، قال: أعتقها. وأخرج أبو داود والنسائي من حديث الشريد
[ 10 ]
بن سويد الثقفي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لجارية: من ربك؟ قالت: الله، قال: فمن أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة وأخرج مسلم ومالك في الموطأ وأبو داود والنسائي من حديث معاوية بن الحكم السلمي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لجارية أراد معاوية بن الحكم أن يعتقها عن كفارة: أين الله؟ فقالت في السماء، فقال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال: أعتقها. وأخرج نحوه أبو داود من حديث أبي هريرة، ومثل ذلك أحاديث: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله كما في الامهات عن جماعة من الصحابة. قوله: ابتعث الله نبيه أي بعثه الله من بيته ليحصل بذلك إدخال رجل الجنة وهو الرجل المريض في الكنيسة فإن دخوله صلى الله عليه وآله وسلم إليها كان سبب إسلامه الذي صار سببا في دخوله الجنة. قوله: لوا أخاكم فيه الامر لمن كان من المسلمين في حضرته صلى الله عليه وآله وسلم بأن يلوا أمر ذلك الرجل المريض لانه قد صار بسبب تكلمه بالشهادتين أخا لهم. قوله: وجنته الجنن بالجيم ونونين القبر ذكره في النهاية. قوله: صبأنا صبأنا أي دخلنا في دين الصابئة، وكان أهل الجاهلية يسمون من أسلم صابئا، وكأنهم قالوا: أسلمنا أسلمنا، والصابئ في الاصل الخارج من دين إلى دين. قال في القاموس: صبأ كمنع وكرم، صبأ وصبوأ خرج من دين إلى دين اه. قوله: مما صنع خالد تبرأ صلى الله عليه وآله وسلم من صنع خالد ولم يتبرأ منه، وهكذا ينبغي أن يقال لمن فعل ما يخالف الشرع ولا سيما إذا كان خطأ، وقد استدل المصنف بأحاديث الباب على أنه يصير الكافر مسلما بالتكلم بالشهادتين، ولو كان ذلك على طريق الكناية بدون تصريح كما وقع في الحديث الآخر. وقد وردت أحاديث صحيحة قاضية بأن الاسلام مجموع خصال. أحدها: التلفظ بالشهادتين منها حديث ابن عمر عند مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم إذ طلع عليه رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر. وفيه فقال: يا محمد أخبرني عن الاسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الاسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن
[ 11 ]
استطعت إليه سبيلا ومنها ما أخرجه الشيخان وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة وفيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الاسلام أن تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة المكتوبة ووتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان. ومنها ما أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بني الاسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان. ومنها ما أخرجه الشيخان ومالك في الموطأ وأبو داود والنسائي من حديث طلحة بن عبد الله: أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجل فسأله عن الاسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة وصيام رمضان وذكر له الزكاة. وأخرج النسائي عن بهز بن حكيم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن آيات الاسلام فقال أن تقول: أسلمت وجهي وتخليت وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة. وأخرج النسائي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم وأخرج الشيخان وأبو داود والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. وأخرج مسلم من حديث جابر والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي من حديث أبي موسى نحو ذلك. وأخرج الشيخان من حديث عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم إلا بحق الاسلام وحسابهم على الله تعالى. وأخرج البخاري والترمذي وأبو داود والنسائي من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأمحمدا رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله واستقبلوا قبلتنا وأكلوا ذبيحتنا وصلوا صلاتنا حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها. ولفظ البخاري: من شهد أن لا إله إلا الله واستقبل قبلتنا وصلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ما للمسلم وعليه ما على المسلم. فهذه الاحاديث ونحوها تدل على أن الرجل لا يكون مسلما إلا إذا فعل جميع الامور المذكورة
[ 12 ]
فيها. والاحاديث الاولة تدل على أن الانسان يصير مسلما بمجرد النطق بالشهادتين. قال الحافظ في الفتح عند الكلام على حديث: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله في باب قتل من أبى من قبول الفرائض من كتاب استتابة المرتدين والمعاندين ما لفظه: وفيه منع قتل من قال: لا إله إلا الله ولو لم يزد عليها وهو كذلك، لكن هل يصير بمجرد ذلك مسلما؟ الراجح لا، بل يجب الكف عن قتله حتى يختبر، فإن شهد بالرسال والتزم أحكام الاسلام حكم بإسلامه، وإلى ذلك الاشارة بالاستثناء بقوله: إلا بحق الاسلام. قال البغوي: الكافر إذا كان وثنيا أو ثنويا لا يقر بالوحدانية، فإذا قال: لا إله إلا الله حكم بإسلامه ثم يجبر على قبول جميع الاحكام ويبرأ من كل دين خالف الاسلام، وأما من كان مقرا بالوحدانية منكرا للنبوة فإنه لا يحكم بإسلامه حتى يقول: محمد رسول الله، فإن كان يعتقد أن الرسالة المحمدية إلى العرب خاصة فبد أن يقول إلى جميع الخلق، فإن كان كفره بجحود واجب أو استباحة محرم فيحتاج إلى أن يرجع عن اعتقاده. قال الحافظ: ومقتضى قوله يجبر أنه إذا لم يلتزم يجري عليه حكم المرتد، وبه صرح القفال واستدل بحديث الباب وادعى أنه لم يرد في خبر من الاخبار: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وهي غفلة عظيمة، فإن ذلك ثابت في الصحيحين في كتاب الايمان منهما كما قدمنا الاشارة إلى ذلك انتهى. باب صحة الاسلام مع الشرط الفاسد عن نصر بن عاصم الليثي عن رجل منهم أنه أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم على أن يصلي صلاتين فقبل منه رواه أحمد. وفي لفظ آخر له: على أن لا يصلي إلا صلاة فقبل منه وعن وهب قال: سألت جابرا عن شأن ثقيف إذا بايعت فقال: اشترطت على النبصلى الله عليه وآله وسلم أن لا صدقة عليها ولا جهاد، وأنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك يقول: سيتصدقون ويجاهدون رواه أبو داود. وعن أنس: أن رسول الله صلى الله
[ 13 ]
عليه وآله وسلم قال لرجل: أسلم، قال: أجدني كارها، قال أسلم وإن كنت كارها رواه أحمد. هذه الاحاديث فيها دليل على أنه يجوز مباية الكافر وقبول الاسلام منه وإن شرط شرطا باطلا، وأنه يصح إسلام من كان كارها. وقسكت أبو داود والمنذري عن حديث وهب المذكور وهو وهب بن منبه وإسناده لا بأس به. وأخرج أبو داود أيضا من حديث الحسن البصري عن عثمان بن أبي العاص: أن وفثقيف لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم، فاشترطوا عليه أن لا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لكم أن لا تحشروا ولا تعشروا، ولا خير في دين ليس فيه ركوع. قال المنذري: قد قيل إن الحسن البصري لم يسمع من عثمان بن أبي العاص، والمراد بالحشر جمعهم إلى الجهاد والنفير إليه. وبقوله: يعشروا أخذ العشور من أموالهم صدقة. وبقوله: ولا يجبوا بفتح الجيم وضم الباء الموحدة المشددة، وأصل التجبية أن يقوم الانسان مقام الراكع وأرادوا أنهم لا يصلون. قال الخطابي: ويشبه أن يكون إنما سمح لهم بالجهاد والصدقة لانهما لم يكونا بعد واجبتين في العاجل، لان الصدقة إنما تجب بانقطاع الحول، والجهاد إنما يجب بحضوره، وأما الصلاة فهي راتبة فلم يجز أن يشترطوا تركها انتهى. ويعكر على ذلك حديث نصر بن عاصم المذكور في الباب فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل من الرجل أن يصلي صلاتين فقط أو صلاة واحدة على اختلاف الروايتين، ويبقى الاشكال في قوله في الحديث الذي ذكرناه: لا خير في دين ليس فيه ركوع فإن ظاهره يدل على أنه لا خير في إسلام من أسلم بشرط أن لا يصلي، ويمكن أن يقال: إن نفي الخيرية لا يستلزم عدم جواز قبول من أسلم بشرط أن لا يصلي، وعدم قبوله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك الشرط من ثقيف لا يستلزم عدم جواز القبول مطلقا.
[ 14 ]
باب تبع الطفل لابويه في الكفر ولمن أسلم منهما في الاسلام وصحة إسلام المميز عنأبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة: فطرة الله التي فطر الناس عليها الآية متفق عليه. وفي رواية: متفق عليها أيضا. قالوا: يا رسول الله أفرأيت من يموت منهم وهو صغير؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين. [ رح 3213 ] وعن ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد قتل عقبة بن أبي معيط قال: من للصبية؟ قال: النار رواه أبو داود والدارقطني في الافراد وقال فيه: النار لهم ولابيهم. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الوللم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم رواه البخاري وأحمد وقال فيه: ما من رجل مسلم وهو عام فيما إذا كانوا من مسلمة أو كافرة. قال البخاري: فكان ابن عباس مع أنه من المستضعفين ولم يكن مع أبيه على دين قومه. حديث ابن مسعود سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات إلا علي بن حسين الرقي وهو صدوق كما قال في التقريب. وأخرج نحوه البيهقي من طريق محمد بن يحيى بن سهل بابي خيثمة عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أقبل بالاسارى فكان بعرق الظبية أمر عاصم بن ثابت فضرب عنق عقبة بن أبي معيط صبرا فقال: من للصبية يا محمد؟ قال: النار لهم ولابيهم. قوله: على الفطرة للفطرة معان: منها الخلقة، ومنها الدين. قال في القاموس: والفطرة صدقة الفطر، والخلقة التي خلق عليها المولود في رحم أمه والدين انتهى. والمناسب ههنا هو المعنى الآخر أعني الدين أي كل مولود يولد على الدين الحق، فإذا لزم غيره فذلك لاجل ما يعرض له بعد الولادة من التغييرات من جهة أبويه أو سائر من
[ 15 ]
يربيه. قول: جمعاء بفتح الجيم وسكون الميم بعدها عين مهملة، قال في القاموس: والجمعاء الناقة المهزولة، ومن البهائم التي لم يذهب من بدنها شئ انتهى. والمراد ههنا المعنى الآخر. لقوله: هل تحسون فيها من جدعاء. والجدع قطع الانف أو الاذن أو اليد أو الشفة كما في القاموس. قال: والجدعة محركة ما بقي بعد القطع انتهى. والمعنى: أن البهائم كما أنها تولد سليمة من الجدع كاملة الخلقة، وإنما يحدث لها نقصان الخلقة بعد الولادة بالجدع، ونحوه كذلك أولاد الكفار يولدون على الدين الحق الكامل، وما يعرض لهم من التلبس بالاديان المخالفة له فإنما هو حادث له بعد الولادة بسبب الابوين ومن يقوم مقامهما. وحديث أبي هريرة فيه دليل على أن أولاد الكفار يحكم لهم عند الولادة بالاسلام، وأنه إذا وجد الصبي في دار الاسلام دون أبويه كان مسلما، لانه إنما صار يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا بسبب أبويه، فإذا عدما فهو باق على ما ولد عليه وهو الاسلام. قوله: الله أعلم بما كانوا عاملين فيه دليل على أن أحكام أولاد الكفار عند الله إذا ماتوا صغارا غير متعينة، بل منوطة بعمله الذي كان يعمله لو عاش. وفي حديث ابن مسعود المذكور دليل على أنهم من أهل النار لقوله فيه: النار لهم ولابيهم ويشكل ذلك على مذهب العدلية لعدم وقوع موجب التعذيب منهم. (والحاصل) أن مسألة أطفال الكفار باعتبار أمر الآخرة من المعارك الشديدة لاختلاف الاحاديث فيها، ولها ذيول مطولة لا يتسع لهم المقام، وفي الوقف عن الجزم بأحد الامرين سلامة من الوقوع في مضيق لم تدع إليه حاجة ولا ألجأت إليه ضرورة، وأما باعتبار أحكام الدنيا فقد ثبت في صحيح البخاري في باب أهل الدار من كتاب الجهاد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن أولاد المشركين هل يقتلون مع آبائهم؟ فقال: هم منهم. قال في الفتح: أي في الحكم في تلك الحالة، وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم، بل المراد إذا لم يمكن الوصول إلى الآباء إلا بوطئ الذرية، فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم انتهى. وأخرج أبو داود: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما بع ث إلى ابن أبي الحقيق نهى عن قتل النساء والصبيان ويحمل هذا على أنه لا يجوز قتلهم بطريق القصد. وأخرج الطبراني في الاوسط من حديث ابن عمر قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة أتي بامرأة مقتولة فقال: ما كانت هذه تقاتل، ونهى عن قتل النساء
[ 16 ]
والصبيان. وأخرج نحوه أبو داود في المراسيل من حديث عكرمة، وقد ذهب مالك والاوزاعي إلى أنه لا يجوز قتل النساء والصبيان بحال، حتى لتترس أهل الحرب بالنساء والصبيان لم يجز رميهم ولا تحريقهم. وذهب الشافعي والكوفيون وغيرهم إلى الجمع بما تقدم وقالوا: إذا قاتلت المرأة جاز قتلها، ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود والنسائي وأبو حبان من حديث رباح بن الربيع التميمي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة فرأى الناس مجتمعين فرأى امرأة مقتولة فقال: ما كانت هذه لتقاتل فإن مفهومه أنها لو قاتلت لقتلت. وقد نقل ابن بطال وغيره الاتفاق على منع القصد إلى قتل النساء والولدان. وأما حديث أنس المذكور في الباب فمحله كتاب الجنائز، وإنما ذكره المصنف ههنا للاستدلال به على أن الولد يكون مسلما بإسلام أحد أبويه لما في قوله: ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد فإنه يقتضي أن من كان له ذلك المقدار من الاولاد دخل الجنة وإن كانوا من امرأة غير مسلمة، ونفعهم لابيهم في ذلك الامر إنما يصح بعد الحكم بإسلامهم لاجل إسلام أبيهم. [ رح 3215 ] وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه، فإذا أعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا رواه أحمد. وقد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه عرض الاسلام على ابن صياد صغيرا فروى ابن عمر: أن عمر بن الخطاب انطلق مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في رهط من أصحابه قبل ابن صياد حتى وجده يلعب مع الصبيان عند أطم بني مغالة، وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم، فلم يشعر حتى ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ظهره بيده، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابن صياد: أتشهد أني رسول الله فنظر إليه ابن صياد فقال: أشهد أنك رسول الاميين، فقال ابن صياد لرسول الله: أتشهد أني رسول الله؟ فرفضه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: آمنت بالله وبرسله وذكر الحديث متفق عليه. وعن عروة قال: أسلم علي وهو ابن ثمان سنين أخرجه البخاري تاريخه. وأخرج أيضا عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قتل علي رضي الله عنه وهو ابن ثمان وخمسين سنة، قلت: وهذا يبين إسلامه صغيرا لانه أسلم في أوائل
[ 17 ]
المبعث. وروي عن ابن عباس قال: كان علي رضي الله عنه أول من أسلم من الناس بعخديجة رواه أحمد. وفي لفظ: أول من صلى علي رضي الله عنه رواه الترمذي. وعن عمرو بن مرة عنأبي حمزة عن رجل من الانصار قال: سمعت زيد بن أرقم يقول: أول من أسلم علي رضي الله عنه، قال عمرو بن مرة: فذكرت ذلك لابراهيم النخعي قال: أول من أسلم أبو بكر الصديق رواه أحمد والترمذي وصححه. وقد صح أن من مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى وفاته نحو ثلاث وعشرين سنة، وأن عليا رضي الله عنه عاش بعده نحو ثلاثين سنة، فيكون قد عمر بعد إسلامه فوق الخمسين وقد مات ولم يبلغ الستين، فعلم أنه أسلم صغيرا. حديث جابر أصله في الصحيحين. وحديث ابن عمر الذي ذكره المصنف في شأن ابن صياد لم يذكر من أخرجه، ولم تجر له عادة بذلك، وهو في الصحيحين وسنن أبي داود والترمذي والموطأ. وفي بعض النسخ قال متفق عليه: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ماذا ترى؟ قال: يأتيني صادق وكاذب، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: خلط عليك الامر، ثم قال له صلى الله عليه وآله وسلم: إني قد خبأت لك خبيئا، فقال ابن صياد: هو الدخ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اخسأ فلن تعدو قدرك فقال عمر: ذرني يا رسول الله أضرب عنقه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن يكن هو فلن تسلط عليه، وإن لم يكن هو فلا خير لك في قتله زاد الترمذي بعد قوله: خبأت لك خبيئا: وخبأ له يوم تأتي السماء بدخان مبين وحديث عروة مرسل، وكذلك حديث جعفر بن محمد عن أبيه. وحديث ابن عباس قال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث غريب من هذا الوجه لا نعرفه من حديث شعبة عن أبي بلج إلا من حديث محمد بن حميد، وأبو بلج اسمه يحيى بن أبي سليم. وقال بعض أهل العلم: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، وأسلم علي وهو غلام ابن ثمان سنين، وأول من أسلم من النساء خديجة انتهى. وحديث زيد بن أرقم قال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث حسن صحيح انتهى. وفي إسناده ذلك الرجل المجهول، ولم يقع التصريح بأنه من الصحابة حتى تغتفر جهالته كما قررنا ذلك غير
[ 18 ]
مرة، بل روايته بواسطة تدل على أنه ليس من الصحابة، فلا يكون حديثه حينئذ صحيحا ولا حسنا. وأما قول إبراهيم النخعي فهو مرسل فلا يصلح لمعارضة ما رواه زيد بن أرقم وابن عباس. وقد أخرج الترمذي أيضا عن أنس بن مالك قال: بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الاثنين وصلى علي رضي الله عنه يوم الثلاثاء قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث مسلم الاعور، ومسلم الاعور ليس عندهم بذاك القوي. وقد روي هذا عن مسلم عن حية عن علي نحو هذا اه. والاولى الجمع بين ما ورد مما يقتضي أن عليا أول الناس إسلاما، وأن أبا بكر أولهم إسلاما، بأن يقال: علي كان أول من أسلم من الصبيان، وأبو بكر أول من أسلم من الرجال، وخديجة أول من أسلم من النساء. قوله: حتى يعرب عنه لسانه فيه دليل على أنه لا يحكم للصبي ما دام غير مميز إلا بدين الاسلام، فإذا أعرب عنه لسانه بعد تمييزه حكم عليه بالملة التي يختارها. قوله: قبل ابن صياد بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهته. وابن صياد اسمه صاف وأصله من اليهود. وقد اختلف الناس في أمر ابن صياد اختلافا شديدا وأشكل أمره حتى قيل فيه كل قول. وظاهر الحديث المذكور أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مترددا في كونه هو الدجال أم لا، ومما يدل على أنه هو الدجال ما أخرجه الشيخان وأبو داود عن محمد بن المنكدر قال: كان جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن صياد الدجال، فقلت: أتحلف بالله؟ فقال: إني سمعت عمر بن الخطاب يحلف على ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا ينكره. وقد أجيب عن التردد منه صلى الله عليه وآله وسلم بجوابين: الاول أنه تردد صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يعلمه الله بأنه هو الدجال فلما أعلمه لم ينكر على عمر حلفه. والثاني: أن العرب قد تخرج الكلام مخرج الشك وإن لم يكن في الخبر شك، ومما يدل على أنه هو الدجال ما أخرجه عبد الرزاق بإسناد صحيح عن ابن عمر قال: لقيت ابن صياد يوما ومعه رجل من اليهود فإذا عينه قد طفت وهي خارجة مثل عين الحمار، فلما رأيتها قلت: أنشدك الله يا ابن صياد متى طفت عينك؟ قال: لا أدري والرحمن، قلت: كذبت وهي في رأسك، قال: فمسحها ونخر ثلاثا فزعم اليهودي أني ضربت بيدي صدره وقلت: اخسأ فلم تعدو قدرك، فذكرت ذلك لحفصة فقالت
[ 19 ]
حفصة: اجتنب هذا الرجل فإنا نتحدث أن الدجال يخرج عند غضبة يغضبها وأخرج مسلم هذا الحديث بمعناه من وجه آخر عن ابن عمر ولفظه: لقيته مرتين فذكر الاولى ثم قال: ثم لقيته لقية أخرى وقد نفرت عينه فقلت: متى فعلت عينك ما أرى؟ فقال: لا أدري، فقلت: لا تدري وهي في رأسك، قال: إن شاء الله فعلها في عصاك هذه ونخر كأشد نخير حمار سمعت، فزعم أصحابي أني ضربته بعصا كانت معي حتى تكسرت وأنا والله ما شعرت، قال: وجاء حتى دخل على حفصة فحدثها فقالت: ما تريد إليه؟ ألم تسمع أنه قد قال صلى الله عليه وآله وسلم: أول ما يبعثه على الناس غضب يغضبه. ثم قال ابن بطال: فإن قيل: هذا أيضا يدل على التردد في أمره. فالجواب: أنه قد وقع الشك في أنه الدجال الذي يقتله عيسى بن مريم، ولم يقع الشك في أنه أحد الدجالين الكذابين الذين أنذر بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: إن بين يدي الساعة دجالين كذابين وهو في الصحيحين، وتعقبه الحافظ بأن الظاهر أن حفصة وابن عمر أرادا الدجال الاكبر، واللام في القصة الواردة عنهما للعهد لا للجنس، وكذلك حلف عمر وجابر السابق على أن ابن الصياد هو الدجال. وقد أخرج أبو داود بسند صحيح أن ابن عمر كان يقول: والله لا أشك أن المسيح الدجال هو ابن صياد. وأخرج مسلم عن أبي سعيد قال: صحبني ابن صياد إلى مكة فقال: ماذا لقيت من الناس يزعمون أني الدجال، ألست سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنه لا يولد له؟ قلت: بلى، قال: فإنه قد ولد لي، قال: أو لست سمعته يقول: لا يدخل المدينة ولا مكة؟ قلت: بلى، قال: فقد ولدت بالمدينة وأنا أريد مكة. وأخرج مسلم أيضا عن أبي سعيد أنه قال له ابن صياد هذا: عذرت الناس ما لي وأنتم يا أصحاب رسول الله ألم يقل نبي الله أن الدجال يهودي وقد أسلمت فذكر نحو الاول. وفي مسلم أيضا عن أبي سعيد أنه قال له ابن صياد: لقد هممت أن آخذ حبلا فأعلقه بشجرة ثم أختنق به مما يقول الناس، يا أبا سعيد من خفي عليه حديث رسول الله ما خفي عليكم يا معشر الانصار، ثم ذكر نحو ما تقدم وزاد: قال أبو سعيد حتى كدت أعذره. وفي آخر كل من الطرق أنه قال: إني لاعرفه وأعرف مولده وأين هو الآن، قال أبو سعيد: فقلت له تبا لك سائر اليوم. وأجاب البيهقي بأن سكوت
[ 20 ]
النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حلف عمر يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان متوقفا في أمره ثم جاءه التثبت من الله تعالى بأنه غيره على ما تقتضيه قصة تميم الداري، وبه تمسك من جزم بأن الدجال غير ابن صياد وطريقه أصح وتكون الصفة التي في ابن صياد وافقت ما في الدجال. وقد أخرج قصة تميم مسلم من حديث فاطمة بنت قيس قال البيهقي: وفيها أن الدجال الاكبر الذي يخرج في آخر الزمان غير ابن صياد، وكان ابن صياد أحد الدجالين الكذابين الذين أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخروجهم وقد خرج أكثرهم، وكان الذين يجزمون بأن ابن صياد هو الدجال لم يسمعوا قصة تميم وقد خطب بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر أن تميما أخبره أنه لقي هو وجماعة معه في دير في جزيرة لعب بهم الموج شهرا حتى وصلوا إليها رجلا كأعظم إنسان رأوه قط خلقا وأشده وثاقا مجموعة يداه إلى عنقه بالحديد فقالوا له: ويلك ما أنت فذكر الحديث وفيه أنه سألهم عن نبي الاميين هل بعث؟ وأنه قال: إن تطيعوه فهو خير لكم، وفيه أنه قال: إني مخبركم عند أنا المسيح الدجال وإني أوشك أن يؤذن لي في الخروج فأخرج فأسير في الارض فلا أدقرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة. وفي بعض طرقه أنه شيخ قال الحافظ: وسندها صحيح. وهذا الحديث ينافي ما استدل به على أن ابن صياد هو الدجال، ولا يمكن الجمع أصلا، إذ لا يلتئم أن يكون من كان في الحياة النبوية شبه المحتلم ويجتمع به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويسأله أن يكون شيخا في آخرها مسجونا في جزيرة من جزائر البحر موثوقا بالحديد يستفهم عن خبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل خرج أم لا، فينبغي أن يحمل حلف عمر وجابر على أنه وقع قبل علمهما بقصة تميم. قال ابن دقيق العيد في أوائل شرح الالمام ما ملخصه: إذا أخبر شخص بحضرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أمر ليس فيه حكم شرعي فهل يكون سكوته صلى الله عليه وآله وسلم دليلا على مطابقته ما في الواقع كما وقع لعمر فحلفه على ابن صياد أنه الدجال كما فهمه جابر حتى صار يحلف عليه ويستند إلى حلف عمر أو لا يدل؟ فيه نظر، قال: والاقرب عندي أنه لا يدل، لان مأخذ المسألة ومناطها هو العصمة من التقرير على باطل، وذلك يتوقف على تحقق البطلان ولا يكفي فيه عدم تحقق الصحة. قال الخطابي: اختلف السلف في أمر ابن
[ 21 ]
صياد بعد كبره، فروي أنه تاب من ذلك القول ومات بالمدينة، وأنهم لما أرادوا الصلاة عليه كشفوا وجهه حتى يراه الناس وقيل لهم اشهدوا. وقال النووي قال العلماء: قصة ابن صياد مشكلة وأمره مشتبه، ولكن لا شك أنه دجال من الدجاجلة، والظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يوح إليه في أمره بشئ، وإنما أوحى إليه بصفات الدجال، وكان في ابن صياد قرائن محتملة، فلذلك كان صلى الله عليه وآله وسلم لا يقطع في أمره بشئ انتهى. وقد أخرج أبو نعيم الاصبهاني في تاريخ أصبهان ما يؤيد كون ابن صياد هو الدجال عن حسان بن عبد الرحمن عن أبيه قال: لما افتتحنا أصبهان كان بين عسكرنا وبين اليهود فرسخ فكنا نأتيها فنمتار منها، فأتينا يوما فإذا اليهود يزفنون، فسألت صديقا لي منهم فقال: هذا ملكنا الذي نستفتح به العرب، فدخلت فبت على سطح فصليت الغداة فلما طلعت الشمس إذ الوهج من قبل العسكر فنظرت فإذا هو ابن صياد فدخل المدينة فلم يعد حتى الساعة. قال الحافظ في الفتح بعد أن ساق هذه القصة: وعبد الرحمن بن حسان ما عرفته والباقون ثقات. وقد أخرج أبو داود بسند صحيح عن جابر قال: فقدنا ابن صياد يوم الحرة وفتح أصبهان كان في خلافة عمر، كما أخرجه أبو نعيم في تاريخها. وقد أخرج الطبراني في الاوسط من حديث فاطمة بنت قيس مرفوعا: أن الدجال يخرج من أصبهان. وأخرجه أيضا من حديث عمران بن حصين، وأخرجه أيضا بسند صحيح كما قال الحافظ من حديث أنس لكن عنده من يهودية أصبهان، قال أبو نعيم: وإنما سميت يهودية أصبهان لانها كانت تختص بسكنى اليهود. قال الحافظ في الفتح: وأقرب ما يجمع بين ما تضمنه حديث تميم وكون ابن صياد هو الدجال أن الدجال بعينه هو الذي شاهده تميم موثقا، وأن ابن صياد هو سلطان تبدى في صورة الدجال في تلك المدة إلى أن توجه إلى أصبهان فاستتر مع قرينه إلى أن تجئ المدة التي قدر الله تعالى خروجه فيها. وقصة تميم السابقة قد توهم بعضهم من عدم إخراج البخاري لها أنها غريبة وهو وهم فاسد، وهي ثابتة عند أبي داود من حديث أبي هريرة، وعند ابن ماجة عن فاطمة بنت قيس. وأخرجها أبو يعلى عن أبي هريرة من وجه آخر. وأخرجها أبو داود بسند حسن من حديث جابر وغير ذلك، وفي هذا المقدار كفاية. وإنما تكلمنا على قصة ابن صياد مع كون المقام ليس مقام الكلام عليها، لانها
[ 22 ]
من المشكلات المعضلات التي لا يزال أهل العلم يسألون عنها، فأردنا أن نذكر ههنا ما فيه تحليل ذلك الاشكال وحسم مادة ذلك الاعضال. قوله: عند أطم بضم الهمزة والطاء المهملة وهو البناء المرتفع قوله: أتشهد أني رسول الله استدل به المصنف رحمه الله تعالى على صحة إسلام المميز كما ذكر ذلك في ترجمة الباب، وكذلك يدل على ذلك بقية الاحاديث المذكورة في الباب في إسلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقد اختلف في مقدار سنه عند الموت على أقوال مذكورة في كتب التاريخ. باب حكم أموال المرتدين وجناياتهم عن طارق بن شهاب قال: جاء وفد بزاخة من أسد وغطفان إلى أبي بكر يسألونه الصلح فخيرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية، فقالوا: هذه المجلية قد عرفناها فما المخزية؟ قال: تنزع منكم الحلقة والكراع، ونغنم ما أصبنا منكم، وتردون علينا ما أصبتم منا، وتدون قتلانا، وتكون قتلاكم في النار، وتتركون أقواما يتبعون أذناب الابل حتى يري الله خليفة رسوله والمهاجرين والانصار أمرا يعذرونكم به، فعرض أبو بكر ما قال على القوم، فقام عمر بن الخطاب فقال: قد رأيت رأيا وسنشير عليك، أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسلم المخزية فنعم ما ذكرت، وأما ما ذكرت أن نغنم ما أصبنا منكم وتردون ما أصبتم منا فنعم ما ذكرت، وأما ما ذكرت تدون قتلانا وتكون قتلاكم في النار فإن قتلانا قاتلت فقتلت على أمر الله أجورها على الله ليس لها ديات، فتبايع القوم على ما قال عمر رواه البرقاني على شرط البخاري. هذا الاثر أخرج بعضه البخاري في صحيحه، وأخرج بقيته البرقاني في مستخرجه بطوله كما ذكره المصنف، وأخرجه أيضا البيهقي من حديث ابن إسحاق عن عاصم بن حمزة. قوله: بزاخة بضم الباء الموحدة ثم زاي وبعد الالف خاء معجمة هو موضع قيل بالبحرين وقيل ماء لبني أسد كذا في التلخيص. وفي القاموس: وبزاخة بالضم موضع به وقعة أبي بكر رضي الله عنه انتهى. قوله: المجلية يحتمل أن يكون
[ 23 ]
بالخاء المعجمة أي المهلكة، قال في القاموس: خلا مكانه مات، وقال أيضا: خلا المكان خلوا وخلاء وأخلى واستخلى فرغ، ومكان خلاء ما فيه أحد، وأخلاه جعله أو وجده خاليا، وخلا وقع في موضع خال لا تزاحم فيه انتهى. ويحتمل أن يكون بالجيم، قال في القاموس: جلا القوم عن الموضع ومنه جلوا وجلاء وأجلوا تفرقوا أو جلا من الخوف وأجلى من الجدب انتهى. والمراد الحرب المفرقة لاهلها لشدة وقعها وتأثيرها. وقال في الفتح: المجلية بضم الميم وسكون الجيم بعدها لام مكسورة ثم تحتانية من الجلاء بفتح الجيم وتخفيف اللام مع المد، ومعناه الخروج عن جميع المال. قوله: والسلم المخزية بالخاء المعجمة والزاي أي المذلة، قال في القاموس: خزي كرضي خزيا بالكسر، وخزى وقع في شهرة فذل بذلك كأخزوزي، وأخزاه الله فضحه، ومن كلامهم لمن أتى بمستهجن ماله أخزاه الله؟ قال: وخزي بالكسر خزى وخزاية يالقصر الستحيا النتهى قوله: الحلقة بفتح الحاء المهملة وسكون اللام وخزاية بالقصر استحيا انتهى بعدها قاف قال في القاموس: الحلقة الدرع والخيل انتهى. وقال في النهاية: والحلقة بسكون اللام السلاح عاما، وقيل: الدروع خاصة، والمراد بالكراع الخيل. قال في القاموس: هو اسم لجميع الخيل، فعلى هذا يكون المراد بالحلقة الدروع أو هي وسائر السلاح الذي يحارب به. قوله: يتبعون أذناب الابل أي يمتهنون بخدمة الابل ورعيها والعمل بها لما في ذلك من الذلة والصغار. وقد استدل بالاثر المذكور على أنه يجوز مصالحة الكفار المرتدين على أخذ أسلحتهم وخيلهم ورد ما أصابوه من المسلمين. وقد اختلف هل يملك الكفار ما أخذوه على المسلمين؟ فذهب الهادي وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد إلى أنهم يملكون علينا ما استولوا عليه قهرا، وإذا استولينا عليه فصاحبه أحق بعينه ما لم يقسم، فإن قسم لم يستحقه إلا بدفع القيمة لمن صار في يده. وذهب أبو بكر الصديق وعمر وعبادة بن الصامت وعكرمة والشافعي والمؤيد بالله إلى أنهم لا يملكون علينا، ولو أدخلوه قهرا فصاحبه أحق به قبل القسمة وبعدها بلا شئ. وأما ما أخذوه من أموال أهل الاسلام في دارهم قهرا كالعبد الآبق فذهب الهادي والنفس الزكية وأبو حنيفة إلى أنهم لا يملكونه علينا إذ دار الحرب دار إباحة فالملك فيها غير حقيقي. وذهب مالك والاوزاعي والزهري وعمرو بن دينار وأبو يوسف ومحمد إلى أنهم يملكونه علينا وهو مروي عن أبي طالب، ولعله يأتي تحقيق هذا البحث إن شاء الله تعالى.
[ 24 ]
[ رك ] كتاب الجهاد والسير [ رم ] باب الحث على الجهاد وفضل الشهادة والرباط والحرس عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها متفق عليه. وعن أبي عبس الحارثي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار رواه أحمد والبخاري والنسائي والترمذي. وعن أبي أيوب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: غدوة أو روحة في سبيل الله خير مما طلعت عليه الشمس وغربت رواه أحمد ومسلم والنسائي. وللبخاري من حديث أبي هريرة مثله. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة رواه أحمد والترمذي. وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف رواه أحمد ومسلم والترمذي. وعن ابن أبي أوفى: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الجنة تحت ظلال السيوف رواه أحمد والبخاري. وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها متفق عليه. حديث أبي هريرة الآخر قال الترمذي: هو حديث حسن، ولفظه عن أبي هريرة قال: مر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشعب فيه عيينة من ماء عذبة فأعجبته لطيبها فقال: لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر ذلك لرسول الله صلى
[ 25 ]
الله عليه وآله وسلم فقال: لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟ اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة. قوله: كتاب الجهاد قال في الفتح: الجهاد بكسر الجيم أصله لغة المشقة، يقال: جاهدت جهادا أي بلغت المشقة، وشرعا بذل الجهد في قتال الكفا، ويطلق أيضا على مجاهدة النفس والشيطان والفساق. فأما مجاهدة النفس فعلى تعلم أمور الدين ثم على العمل بها ثم على تعليمها. وأما مجاهدة الشيطان فعلى دفع ما يأتي به من الشبهات وما يزينه من الشهوات. وأما مجاهدة الكفار فتقع باليد والمال واللسان والقلب، وأما الفساق فباليد ثم اللسان ثم القلب. ثم قال: واختلف في جهاد الكفار هل كان أولا فرض عين أو كفاية؟ ثم قال في باب وجوب النفير: فيه قولان مشهوران للعلماء وهما في مذهب الشافعي. وقال الماوردي : كان عينا على المهاجرين دون غيرهم، ويؤيده وجوب الهجرة قبل الفتح في حق كل من أسلم إلى المدينة لنصر الاسلام. وقال السهيلي: كان عينا على الانصار دون غيرهم. ويؤيده مبايعتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة على أن يؤوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وينصروه، فيخرج من قولهما أنه كان عينا على الطائفتين كفاية في حق غيرهم، ومع ذلك فليس في حق الطائفتين على التعميم، بل في حق الانصار إذا طرق المدينة طارق، وفي حق المهاجرين إذا أريد قتال أحد من الكفار ابتداء. وقيل: كان عينا في الغزوة التي يخرج فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون غيرها، والتحقيق أنه كان عينا على من عينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حقه وإن لم يخرج، وأما بعده صلى الله عليه وآله وسلم فهو فرض كفاية على المشهور إلا أن تدعو الحاجة كأن يدهم العدو، ويتعين على من عينه الامام، ويتأدي فرض الكفاية بفعله في السنة مرة عند الجمهور، ومن حججهم أن الجزية تجب بدلا عنه، ولا تجب في السنة أكثر من مرة اتفاقا فليكن بدلها كذلك. وقيل: يجب كلما أمر وهو قوي. قال: والتحقيق أن جنس جهاد الكفار متعين على كل مسلم إما بيده وإما بلسانه وإما بماله وإما بقلبه انتهى. وأول ما شرع الجهاد بعد الهجرة النبوية إلى المدينة اتفاقا. قوله: لغدوة أو روحة الغدوة بالفتح واللام للابتداء وهي المرة الواحدة من الغدو وهو الخروج في أي وقت كان من أول
[ 26 ]
النهار إلى انتصافه. والروحة المرة الواحدة من الرواح وهو الخروج في أي وقت كان من زوال الشمس إلى غروبها. قوله: في سبيل الآآآله أي الجهاد. قوله: خير من الدنيا وما فيها قال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون من باب تنزيل الغائب منزلة المحسوس تحقيقا له في النفس لكون الدنيا محسوسة في النفس مستعظمة في الطباع ولذلك وقعت المفاضلة بها، وإلا فمن المعلوم أن جميع ما في الدنيا لا يساوي ذرة مما في الجنة. والثاني: أن المراد أن هذا القدر من الثواب خير من الثواب الذي يحصل لمن لو حصلت له الدنيا كلها لانفقها في طاعة الله تعالى. ويؤيد هذا الثاني ما رواه ابن المبارك في كتاب الجهاد من مرسل الحسن قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جيشا فيهم عبد الله بن رواحة فتأخر ليشهد الصلاة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: والذي نفسي بيده لو أنفقت ما في الارض ما أدركت فضل غدوتهم. (والحاصل) أن المراد تسهيل أمر الدنيا وتعظيم أمر الجهاد، وأن من حصل له من الجنة قدر سوط يصير كأنه حصل له أعظم من جميع ما في الدنيا فكيف لمن حصل منها أعلى الدرجات؟ والنكتة في ذلك أن سبب التأخير عن الجهاد الميل إلى سبب من أسبا ب الدنيا. قوله: من اغبرت قدماه زاد أحمد من حديث أبي هريرة: ساعة من نهار وفيه دليل على عظم قدر الجهاد في سبيل الله، فإن مجرد مس الغبار للقدم إذا كان من موجبات السلامة من النار فكيف بمن سعى وبذل جهده واستفرغ وسعه. قوله: خير مما طلعت عليه الشمس وغربت هذا هو المراد بقوله في الحديث الاول: خير من الدنيا وما فيها. قوله: فواق ناقة هو قدر ما بين الحلبتين من الاستراحة. قوله: تحت ظلال السيوف الظلال جمع ظل، وإذا تدانى الخصمان صار كل واحد منهما تحت ظل سيف صاحبه لحرصه على رفعه عليه، ولا يكون ذلك إلا عند التحام القتال. قا القرطبي: وهو من الكلام النفيس الجامع الموجز المشتمل على ضروب من البلاغة مع الوجازة وعذوبة اللفظ، فإنه أفاد الحض على الجهاد والاخبار بالثواب عليه والحض على مقاربة العدو واستعمال السيوف والاجتماع حين الزحف حتى تصير السيوف تظل المتقاتلين. وقال ابن الجوزي: المراد أن الجنة تحصل بالجهاد. قوله وموضع سوط أحدكم في رواية للبخاري: وقاب قوس أحدكم أي قدره.
[ 27 ]
وعن معاذ بن جبل: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قاتل في سبيل الله من رجل مسلفواق ناقة وجبت له الجنة، ومن جرح جرحا في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجئيوم القيامة كأغزر ما كانت، لونها الزعفران وريحها المسك رواه أبو داود والنسائي والترمذي وصححه. وعن عثمان بن عفان قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل رواه أحمد والترمذي والنسائي. ولابن ماجة معناه. وعن سلمان الفارسي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان رواه أحمد ومسلم والنسائي. وعن عثمان بن عفان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة بقيام ليلها وصيام نهارها رواه أحمد. [ رح 3232 ] وعن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله رواه الترمذي. وقال: حديث حسن غريب. وعن أبي أيوب قال: إنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الانصار لما نصر الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأظهر الاسلام، قلنا: هل نقيم في أموالنا ونصلحها؟ فأنزل اللتعالى: * (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * (البقرة 195) فالالقاء بأيدينا إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد رواه أبو داود. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم رواه أحمد وأبو داود والنسائي. حديث معاذ أخرجه أيضا ابن ماجة وإسناد الترمذي وابن ماجة صحيح، وأما إسناد أبي داود ففيه بقية بن الوليد وهو متكلم فيه ولفظه عند أبي داود: من قاتل في سبيل الله فواق ناقة فقد وجبت له الجنة، ومن سأل الله القتل من نفسه صادقا ثم مات أو قتل فإن له أجر شهيد، ومن جرح جرحا في سبيل الله أو نكب نكبة فإنها تجئ يوم القيامة كأغزر ما كانت لونها لون الزعفران وريحها ريح المسك، ومن خرج به خراج في سبيل الله عزوجل فإن عليه طابع الشهداء وذكر المصنف
[ 28 ]
رحمه الله أن الترمذي صحح حديث معاذ المذكور ولم نجد ذلك في جامعه وإنما صحح حديث أبي هريرة بمعناه، ولكنه قد وافق المصنف على حكاية تصحيح الترمذي لحديث معاذ جماعة منهم المنذري في مختصر السنن والحافظ في الفتح، وصححه أيضا ابن حبان والحاكم. وحديث عثمان قا الترمذي بعد إخراجه إنه حديث حسن صحيح غريب. وحديث سلمان الفارسي أخرجه أيضا الترمذي. وحديث عثمان الثاني أشار إليه الترمذي. وحديث ابن عباس قال الترمذي بعد إخراجه: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث شعيب بن رزيق. وحديث أبي أيوب أخرجه أيضا النسائي والترمذي وقال: حسن صحيح وصححه أيضا ابن حبان والحاكم، ولفظ الحديث عند أبي داود عن أسلم بن عمران قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد والروم ملصقو ظهورهم بحائط المدينة فحمل رجل على العدو فقال الناس: مه مه لا إله إلا الله يلقي بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب: إنما أنزلت هذه الآية فذكره. وفي الترمذي فضالة بن عبيد بدل عبد الرحمن بن خالد بن الوليد. وحديث أنس سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح وصححه النسائي. (والاحاديث) في فضل الجهاد كثيرة جدا لا يتسع لبسطها إلا مؤلف مستقل. قوله: من جرح جرحا ظاهر هذا أنه لا يختص بالشهيد الذي يموت من تلك الجراحة بل هو حاصل لكل من جرح. ويحتمل أن يكون المراد بهذا الجرح هو ما يموت صاحبه بسببه قبل اندماله لا ما يندمل في الدنيا، فإن أثر الجراحة وسيلان الدم يزول، ولا ينفي ذلك كونه له فضل في الجملة. قال في الفتح قال العلماء: الحكمة في بعثه كذلك أن يكون معه شاهفضيلته ببذل نفسه في طاعة الله. قوله: أو نكب نكبة بضم النون من نكب وكسر الكاف، قال في القاموس: نكب عنه كنصر وفرح نكبا ونكبا ونكوبا عدل كنكب وتنكب ونكبه تنكبا نحاه لازم متعد، وطريق منكوب على غير قصد، ونكبه الطريونكب به عنه عدل، والنكب الطرح انتهى. وقال في الفتح: النكبة أن يصيب العضو شئ فيدميه انتهى. قوله: لونها الزعفران في حديث أبي هريرة عند الترمذي وغيره: اللون لون الدم والريح ريح المسك. قوله: رباط يوم في سبيل الله بكسر الراء وبعدها موحدة ثم طاء مهملة قال في القاموس: المرابطة أن يربط كل من الفريقين خيولهم في ثغرة وكل معد لصاحبه
[ 29 ]
فسمي المقام في الثغر رباطا ومنه قوله تعالى: * (وصابروا ورابطوا) * (آل عمران: 200) انتهى. قوله: أمن الفتان بفتح الفاء وتشديد التاء الفوقية وبعد الالف نون قال في القاموس: الفتان اللص والشيطان كالفاتن والصانع، والفتانان الدرهم والدينار، ومنكر ونكير. قال في النهاية، وبالفتح هو الشيطان لانه يفتن الناس عن الدين انتهى. والمراد ههنا الشيطان أو منكر ونكير. قوله: حرس هو مصدر حرس والمراد هنا حراسة الجيش يتولاها واحد منهم فيكون له ذلك الاجر لما في ذلك من العناية بشأن المجاهدين والتعب في مصالح الدين، ولذلك قال في الحديث الآخر: عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله. قوله: فالالقاء بأيدينا إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا إلخ، هذا فرد من أفراد ما تصدق عليه الآية، لانها متضمنة للنهي لكل أحد عن كل ما يصدق عليه أنه من باب الالقاء بالنفس إلى التهلكة، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإذا كانت تلك الصورة التي قال الناس إنها من باب الالقاء لما رأوا الرجل الذي حمل على العدو كما سلف من صور الالقاء لغة أو شرعا فلا شك أنها داخلة تحت عموم الآية، ولا يمنع من الدخول اعتراض أبي أيوب بالسبب الخاص، وقد تقرر في الاصول رجحان قول من قال: إن الاعتبار بعموم اللفظ، ولا حرج في اندراج التهلكة باعتبار الدين وباعتبار الدنيا تحت قوله: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * (البقرة: 195) ويكون ذلك من باب استعمال المشترك في جميع معانيه، وهو أرجح الاقوال الستة المعروفة في الاصول في استعمال المشترك. وفي البخاري في التفسير، أن التهلكة هي ترك النفقة في سبيل الله. وذكر صاحب الفتح هنالك أقوالا أخر فليراجع. وقد أخرج الحاكم من حديث أنس: أن رجلا قال: يا رسول الله أرأيت إن انغمست في المشركين فقاتلتهم حتى قتلت أإلى الجنة؟ قال: نعم فانغمس الرجل في صف المشركين فقاتل حتى قتل. وفي الصحيحين عن جابر قال: قال رجل: أين أنا يا رسول الله إن قتلت؟ قال: في الجنة، فألقى ثمرات كن بيده ثم قاتل حتى قتل. وروى ابن إسحاق في المغازي عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: لما التقى الناس يوم بدر قال عوف بن الحرث: يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده؟ قال: أن يراه غمس يده في القتال يقاتل حاسرا فنزع درعه ثم تقدم فقاتل حتى قتل. قوله: جاهدوا المشركين إلخ، فيه دليل على وجوب المجاهدة للكفار بالاموال والايدي
[ 30 ]
والالسن. وقد ثبت الامر القرآني بالجهاد بالانفس والاموال في مواضع. وظاهر الامر الوجوب، وقد تقدم الكلام على ذلك وسيأتي أيضا. باب أن الجهاد فرض كفاية وأنه شرع مع كل بروفاجر عن عكرمة عن ابن عباس قال: * (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما) * (التوبة: 39) و * (ما كان لاهل المدينة إلى قوله يعملون) * (التوبة: 120 و 121) نسختها الآية التي تليها: * (وما كان المؤمنون) * (التوبة: 122) رواه أبو داود. وعن عروة بن الجعد البارقي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الخيل معقود في نواصيها الخير الاجر والمغنم إلى يوم القيامة متفق عليه. ولاحمد ومسلم والنسائي من حديث جرير البجلي مثله، وفيه مستدل بعمومه على الاسهام لجميع أنواع الخيل، وبمفهومه على عدم الاسهام لبقية الدواب. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ثلاث من أصل الايمان: الكف عمن قال لا إله إلا الله لا نكفره بذنب ولا نخرجه من الاسلام بعمل، والجهاد ماض مذ بعثني الله إلى أيقاتل آخر أمتي الدجال لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، والايمان بالاقدار رواه أبو داود وحكاه أحمد في رواية ابنه عبد الله. حديث ابن عباس سكت عنه أبو داوود المنذري وإسناده ثقات إلا علي بن الحسن بن واقد وفيه مقال وهو صدوق، وبوب عليه أبو داود باب في نسخ نفير العامة بالخاصة وحسنه الحافظ في الفتح. وأخرج أبو داود عن ابن عباس أنه سأله نجدة بن نفيع عن هذه الآية * (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما) * (التوبة: 122) قال: فأمسك عنهم المطر وكان عذابهم. ونجدة بن نفيع الحنفي مجهول كما قاله صاحب الخلاصة. وحديث أنس سكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده يزيد بن أبي نشبة وهو مجهول. وأخرجه أيضا سعيد بن منصور وفيه ضعف وله شواهد. قوله: نسختها الآية التي تليها: * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) * (التوبة: 122) قال الطبري: يجوز أن يكون * (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما) * (التوبة: 39) خاصا والمراد به من استنفره النبي صلى الله عليه وآله وسلم فامتنع. قال الحافظ: والذي يظهر أنها مخصوصة وليست بمنسوخة، وقد وافق ابن عباس على دعوى النسخ عكرمة والحسن البصري، كما روى ذلك الطبري عنهما، وزعم بعضهم أن قوله تعالى: * (انفروا
[ 31 ]
ثبات) * (النساء: 71) ناسخة لقوله تعالى: * (انفروا خفافا وثقالا) * (التوبة: 41) وثبات جمع ثبة ومعناه جماعات متفرقة، ويؤيده قوله تعالى بعده: * (أو انفروا جميعا) * (النساء: 71) قال الحافظ: والتحقيق أنه لا نسخ بل المرجع في الآيتين يعني هذه وقوله تعالى: * (إلا تنفروا) * (التوبة: 39) مع قوله: * (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) * (التوبة: 122) إلى تعيين الامام وإلى الحاجة. قوله: الخيل معقود إلخ، المراد بها المتخذة للغزو بأن يقاتل عليها أو ترتبط لاجل ذلك، وقد روى أحمد من حديث أسماء بنت يزيد مرفوعا: الخيل في نواصيها الخيمعقود أبدا إلى يوم القيامة، فمن ربطها عدة في سبيل الله وأنفق عليها احتساب كان شبعها وجوعها وريها وظمؤها وأرواثها وأبوالها فلاحا في موازينه يوم القيامة. قوله: الاجر والمغنم بدل من قوله الخير، أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هو الاجر والمغنم، ووقع عند مسلم من رواية جرير: فقالوا: لم ذاك يا رسول الله؟ قال: الاجر والمغنم. قال الطيبي: يحتمل أن يكون الخير الذي فسر بالاجر والمغنم استعارة لظهوره وملازمته، وخص الناصية لرفعة قدرها، فكأنه شبهه لظهوره بشئ محسوس معقود على ما كان مرتفعا، فنسب الخير إلى لازم المشبه به، وذكر الناصية تجريد للاستعارة، والمراد بالناصية هنا الشعر المسترسل على الجبهة، قاله الخطابي وغيره. قالوا: ويحتمل أن يكون كنى بالناصية عن جميع ذات الفرس كميقال: فلان مبارك الناصية، ويبعده ما رواه مسلم من حديث جرير قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلوي ناصية فرسه بإصبعه ويقول فذكر الحديث، فيحتمل أن تكون خصت بذلك لكونها المقدم منها إشارة إلى أن الفضل في الاقدام بها على العدو دون المؤخر لما فيه من الاشارة إلى الادبار. قوله: والجهاد ماض إلخ، فيه دليل على أن الجهاد لا يزال ما دام الاسلام والمسلمون إلى ظهور الدجال. وأخرج أبو داود وأبو يعلى مرفوعا وموقوفا من حديث أبي هريرة: الجهاد ماض مع البر والفاجر ولا بأس بإسناده إلا أنه من رواية مكحول عن أبي هريرة ولم يسمع منه. وأخرج أبو داود من حديث عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال. قوله: لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل فيه دليل على أنه لا فرق في حصول فضيلة الجهاد بين أن يكون الغزو مع الامام العادل أو الجائر. وقد استدل المصنف بما ذكره في الباب على أن الجهاد فرض كفاية، وقد تقدم الكلام على ذلك في
[ 32 ]
أول الكتاب. وقد حكي في البحر عن العترة والشافعية والحنفية أنه فرض كفاية، وعن ابن المسيب أنه فرض عين، وعن قوم فرض عين في زمن الصحابة. باب ما جاء في إخلاص النية في الجهاد وأخذ الاجرة عليه والاعانة عن أبي موسى قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله رواه الجماعة. وعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون غنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم في الآخرة ويبقى لهم الثلث، وإن لم يصيبوا غنيمة ثم لهم أجرهم رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. [ رح 3240 ] وعن أبي أمامة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: أرأيت رجلا غزا يلتمس الاجر والذكر ما له؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا شئ له، فأعادها ثلاث مرات يقول له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا شئ له، ثم قال: إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه رواه أحمد والنسائي. حديث أبي أمامة جود الحافظ إسناده في فتح الباري. وقد أخرج أبو موسى المديني في الصحابة عن لاحق بن ضميرة الباهلي قال: وفدت على النبي صلى الله عليه وآله وسلفسألته عن الرجل يلتمس الاجر والذكر فقال: لا شئ له وفي إسناده ضعف. وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضا من عرض الدنيا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا أجر له، فأعاد ذلك مرة أخرى ثم ثالثة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا أجر له. قوله: يقاتل شجاعة في رواية للبخاري: في الجهاد، والرجل يقاتل للذكر أي ليذكر بين الناس ويشتهر بالشجاعة. قوله: ويقاتل رياء في رواية للبخاري: والرجل يقاتل ليرى مكانه
[ 33 ]
ومرجعه إلى الرياء والمراد بالمقاتلة لاجل الحمية أن يقاتل لمن يقاتل لاجله من أهل أو عشيرة أو صاحب، ويحتمل أن تفسر الحمية بالقتال لدفع المضرة، والقتال غضبا لجلب المنفعة. وفي رواية للبخاري: والرجل يقاتل للمغنم. وفي أخرى له: والرجل يقاتل غضبا والحاصل من الروايات أن القتال يقع بسبب خمسة أشياء: طلب المغنم وإظهار الشجاعة والرياء والحمية والغضب، وكل منها يتناوله المدح والذم ولهذا لم يحصل الجواب بالاثبات ولا بالنفي. قوله: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله المراد بكلمة الله دعوة الله إلى الاسلام، ويحتمل أن يكون المراد به أنه لا يكون في سبيل الله إلا من كان سبب قتاله طلب إعلاء كلمة الله فقط، بمعنى أنه لو أضاف إلى ذلك سببا من الاسباب المذكورة أخل به. وصرح الطبري بأنه لا يخل إذا حصل ضمنا لا أصلا ومقصودا، وبه قال الجمهور كما حكاه صاحب الفتح، ولكنه يعكر على هذا ما في حديث أبي أمامة المذكور من أن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا، ويمكن أن يحمل على قصد الامرين معا على حد واحد فلا يخالف ما قاله الجمهور. (فالحاصل) أنه إما أن يقصد الشيئين معا أو يقصد أحدهما فقط، أو يقصد أحدهما ويحصل الآخر ضمنا، والمحذور أن يقصد غير الاعلاء، سواء حصل الاعلاء ضمنا أو لم يحصل، ودونه أن يقصدهما معا، فإنه محذور على ما دل عليه حديث أبي أمامة، والمطلوب أن يقصد الاعلاء فقط، سواء حصل غير الاعلاء ضمنا أو لم يحصل. قال ابن أبي جمرة: ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الاول قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما ينضاف إليه، وعلى هذا يحمل حديث أبي هريرة الذي ذكرناه. وأما حديث عبد الله بن عمرو المذكور فليس فيه ما يدل على جواز قصد غير الغزو في سبيل الله لان الغنيمة إنما حصلت بعد أن كان الغزو في سبيل الله ولم يكن مقصوده في الابتداء، ولهذا قال في أول الحديث: ما من غازية تغزو في سبيل الله إلخ. قال في الفتح: والحاصل مما ذكر أن القتال منشؤه القوة العقلية والقوة الغضبية والقوة الشهوانية، ولا يكون في سبيل الله إلا الاول. وقال ابن بطال: إنما عدل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن لفظ جواب السائل لان الغضب والحمية قد يكونان لله فعدل النبي (ص) عن ذلك إلى لفظ جامع، فأفاد رفع الالتباس وزيادة الافهام، وفيه بيان أن الاعمال إنما تحتسب بالنية الصالحة، وأن الفضل الذي ورد في المجاهدين يختص بمن ذكر.
[ 34 ]
[ رح 3241 ] وعن أبي هريرة: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت ولكن قاتلت أن يقال جرئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى يلقى في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمه فعرفها فقال: ما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار. ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتي به فعرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه فألقي في النار رواه أحمد ومسلم. [ رح 3242 ] وعن أبي أيوب: أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ستفتح عليكم الامصار وستكونون جنودا مجندة يقطع عليكم بعوث فيكره الرجل منكر البعث فيها فيتخلص من قومه ثم يتصفح القبائل يعرض نفسه عليهم يقول: من أكفيه بعث كذا؟ من أكفيه بعث كذا؟ ألا وذلك الاجير إلى آخر قطرة من دمه رواه أحمد وأبو داود. وعن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: للغازي أجره وللجاعل أجره وأجر الغازي رواه أبو داود. وعن زيد بن خالد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا متفق عليه. حديث أبي أيوب سكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده أبو سورة ابن أخي أبي أيوب وفيه ضعف، وكذلك حديث عبد الله بن عمرو سكتا عنه ورجال إسناده ثقات. قوله: إن أول الناس إلخ، لفظ الترمذي: أول ما يدعى به يوم القيامة رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله تعالى للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ فيقول: بلى يا رب، قال: فما عملت فيما علمت؟ فيقول: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله تعالى: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، إنما أردت أن يقال فلان قارئ وقد قيل ذلك. وذكر نحو ذلك في الذي قتل في سبيل الله والذي له مال كثير. قوله: نعمه بكسر النون وفتح العين المهملة
[ 35 ]
جمع نعمة بسكون العين، وهذا الحديث فيه دليل على أن فعل الطاعات العظيمة مع سوء النية من أعظم الوبال على فاعله، فإن الذي أوجب سحبه في النار على وجهه هو فعل تلك الطاعة المصحوبة بتلك النية الفاسدة، وكفى بهذا رادعا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، اللهم إنا نسألك صلاح النية وخلوص الطوية. وقد أخرج مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه وأخرج الترمذي عن كعب بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من طلب العلم ليجاري به العلماء ويماري به السفهاء ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار. وأخرج الترمذي أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تعوذوا بالله من جب الحزن، قالوا: يا رسول الله وما جب الحزن؟ قال: واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم مائة مرة، قيل: يا رسول الله ومن يدخله، قال: القراء المراؤون بأعمالهم. وأخرج الترمذي أيضا عن أبي هريرة وابن عمر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يكون في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين يلبسون للناس جلود الضأن ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم قلوب الذئاب، يقول الله تعالى: أبي تغترون أم علي تجترؤون فبي حلفت لابعثن على أولئك منهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران. وأخرج الشيخان عن أبي وائل قال: سمعت أسامة يقول: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فتجتمع إليه أهل النار فيقولون يا فلان ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه. وأخر الحاكم من حديث معاذ يرفعه قال: إن يسير الرياء شرك قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد ولا يحفظ له علة. وأخرج ابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه من حديث عائشة مرفوعا: الشرك في هذه الامة أخفى من دبيب النمل. وفي الباب عن أبي سعيد رواه أحمد. وعن أبي موسى وأبي بكر وحذيفة ومعقل بن يسار رواها الهيثمي. وأخرج أحمد من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: من سمع بعلمه سمع الله به سامع خلقه وصغره وحقره. قوله: بعوث جمع بعث وهو طائفة من الجيش يبعثون في الغزو كالسرية،
[ 36 ]
وفيه دليل على أنه يحرم على الرجل أن يمتنع من الخروج إلى الغزو مع قومه ثم يذهب يعرض نفسه على غير قومه ممن طلبوا إلى الغزو ليكون عوضا عن أحده بالاجرة، فإن من فعل ذلك كان خروجه للدنيا لا للدين، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: فهو الاجير إلى آخر قطرة من دمه أي لا يكون في سبيل الله من دمه شئ بل في سبيل ما أخذه من الاجرة. قوله: وللجاعل أجره وأجر الغازي فيه دليل على أنه لا يستحق أجر الغزو من خرج بالاجرة بل يكون أجره للمستأجر وهو الذي أعطاه الجعالة أي ما جعله له من الاجرة، ويكون ذلك أي أجر المجعول له منضما إلى أجر الجاعل إذا كان غازيا، وإن لم يكن غازيا فله أجر الذي دفعه من الاجرة وأجر المجعول له. قوله: من جهز غازيا أي هيأ له أسباب سفره وما يحتاج إليه مما لا بد منه. قوله: فقد غزا قال ابن حبان: معناه أنه مثله في الاجر وإن لم يغز حقيقة. ثم أخرج الحديث من وجه آخر بلفظ: كتب له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجره شئ. وأخرج ابن ماجة وابن حبان أيضا من حديث ابن عمر بلفظ: من جهز غازيا حتى يستقل كان له مثل أجره حتى يموت أو يرجع. وأما ما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث بعثا وقال: ليخرج من كل رجلين رجل والاجر بينهما. وفي رواية له ثم قال للقاعد: أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج. ففيه إشارة إلى أن الغازي إذا جهز نفسه وقام بكفاية من يخلفه بعده كان له الاجر مرتين. وقال القرطبي: لفظة نصف يحتمل أن تكون مقحمة من بعض الرواة، وقد احتج بها من ذهب إلى أن المراد بالاحاديث التي وردت بمثل ثواب الفعل حصول أصل الاجر له بغير تضعيف، وأن التضعيف يختص بمن باشر العمل، قال: ولا حجة له في هذا الحديث لوجهين: أحدهما أنه لا يتناول محل النزاع لان المطلوب إنما هو أن الدال على الخير مثلا هل له مثل أجر فاعله مع التضعيف أو بغير تضعيف؟ والحديث المذكور إنما يقتضي المشاركة والمشاطرة فافترقا. ثانيهما: ما تقدم من احتمال كون لفظة نصف زائدة. قال الحافظ: لا حاجة لدعوى زيادتها بعد ثبوتها في الصحيح، والذي يظهر في توجيهها أنها أطلقت بالنسبة إلى مجموع الثواب الحاصل للغازي والخالف له بخير، فإن الثواب إذا انقسم بينهما نصفين كان لكل منهما مثل ما للآخر،
[ 37 ]
فلا تعارض بين الحديثين، وأما من وعد بمثل ثواب العمل وإن لم يعمله إذا كان له فيه دلالة أو مشاركة أو نية صالحة فليس على إطلاقه في عدم التضعيف لكل أحد، وصرف الخبر عن ظاهره يحتاج إلى مستند، وكأن مستند القائل أن العامل يباشر المشقة بنفسه بخلاف الدال ونحوه، لكن من جهز الغازي بماله مثلا، وكذا من يخلفه فيمن ترك بعده يباشر شيئا من المشقة أيضا، فإن الغازي لا يتأتى منه الغزو إلا بعد أن يكفي ذلك العمل فصار كأنه يباشر معه الغزو، بخلاف من اقتصر على النية مثلا انتهى. قوله: ومن خلفه في أهله بخير بفتح الخاء المعجمة واللام الخفيفة أي قام بحال من يتركه. باب استئذان الابوين في الجهاد عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي، قال: الجهاد في سبيل الله، حدثني بهن ولو استزدته لزادني متفق عليه. وعن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال: أحي والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد رواه البخاري والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه. وفي رواية: أتى رجل فقال: يا رسول الله إني جئت أريد الجهاد معك ولقد أتيت وأن والدي يبكيان، قال: فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وعن أبي سعيد: أن رجلا هاجر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم من اليمن فقال: هل لك أحد باليمن؟ فقال: أبواي، فقال: أذنا لك؟ فقال: لا، قال: ارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما رواه أبو داود. وعن معاوية بن جاهمة السلمي: أن جاهمة أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أردت الغزو وجئتك أستشيرك، فقال: هل لك من أم؟ قال: نعم، فقال: الزمها فإن الجنة عند رجليها رواه أحمد والنسائي. وهذا كله إن لم يتعين عليه الجهاد، فإذا تعين فتركه معصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الله عزوجل.
[ 38 ]
الرواية الثانية من حديث عبد الله بن عمرو أخرجها أيضا النسائي وابن حبان. وأخرجها أيضا مسلم وسعيد بمنصور من وجه آخر في نحو هذه القصة قال: ارجع إلى والدتك فأحسن صحبتها. وحديث أبي سعيد صححه ابن حبان. وحديث معاوية بن جاهمة أخرجه أيضا البيهقي من طريق ابن جريج عن محمد بن طلحة بن ركانة عن معاوية، وقد اختلف في إسناده على محمد بن طلحة اختلافا كثيرا، ورجال إسناد النسائي ثقات إلا محمد بن طلحة وهو صدوق يخطئ. قوله: أي العمل أحب إلى الله في رواية للبخاري وغيره: أي العمل أفضل وظاهره أن الصلاة أحب الاعمال وأفضلها. قال في الفتح: وحاصل ما أجاب به العلماء عن هذا الحديث ونحوه مما اختلف فيه الاجوبة بأنه أفضل الاعمال أن الجواب اختلف لاختلاف أحوال السائلين بأن أعلم كل قوم بما يحتاجون إليه أو بما لهم فيه رغبة أو بما هو لائق بهم، أو كان الاختلاف باختلاف الاوقات، بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره، فقد كان الجهاد في أول الاسلام أفضل الاعمال لانه الوسيلة إلى القيام بها والتمكن من أدائها، وقد تظافرت النصوص على أن الصلاة أفضل من الصدقة، ومع ذلك ففي وقت مواساة الفقراء المضطرين تكون الصدقة أفضل، أو أن أفضل ليست على بابها بل المراد بها الفضل المطلق، أو المراد من أفضل الاعمال فحذفت من وهي مرادة. وقال ابن دقيق العيد: الاعمال في هذا الحديث محمولة على البدنية، وأريد بذلك الاحتراز عن الايمان لانه من أعمال القلوب، فلا تعارض بينه وبين حديث أبي هريرة: أفضل الاعمال إيمان بالله الحديث. وقال غيره: المراد بالجهاد هنا ما ليس بفرض عين لانه يتوقف على إذن الوالدين، فيكون برهما مقدما عليه. قوله: الصلاة على وقتها قال ابن بطال: فيه أن البدار إلى الصلاة في أول الوقت أفضل من التراخي فيها، لانه إنما شرط فيها أن تكون أحب الاعمال إذا أقيمت لوقتها المستحب. قال الحافظ: وفي أخذ ذلك من اللفظ المذكور نظر. قال ابن دقيق العبد: ليس في هذا اللفظ ما يقتضي أولا ولا آخرا، وكان المقصود به الاحتراز عما إذا وقعت قضاء، وتعقب بأن إخراجها عن وقتها محرم، ولفظ أحب يقتضي المشاركة في الاستحباب، فيكون المراد الاحتراز عن إيقاعها آخر الوقت. وأجيب أن المشاركة إنما هي بالنسبة إلى الصلاة وغيرها من الاعمال فإن وقعت الصلاة
[ 39 ]
في وقتها كانت أحب إلى الله من غيرها من الاعمال، فوقع الاحتراز عما إذا وقعت خارجة عن وقتها من معذور كالنائم والناسي فإن إخراجهلها عن وقتها لا يوصف بالتحريم، ولا يوصف بكونه أفضل الاعمال مع كونه محبوبا لكن إيقاعها في الوقت أحب. وقد روى الحديث الدارقطني والحاكم والبيهقي بلفظ: الصلاة في أول وقتها وهذا اللفظ مما تفرد به علي بن حفص وهو شيخ صدوق من رجال مسلم. قال الدارقطني: ما أحسبه حفظه لانه كبر وتغير حفظه. قال الحافظ: ورواه الحسين المعمري في اليوم والليلة عن أبي موسى محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة كذلك. قال الدارقطني: تفرد به المعمري فقد رواه أصحاب أبي موسى عنه بلفظ: على وقتها ثم أخرجه الدارقطني عن المحاملي عن أبي موسى كرواية الجماعة، وكذا رواه أصحاب غندر عنه، والظاهر أن المعمري وهم فيه لانه كان يحدث من حفظه، وقد أطلق النووي في شرح المهذب أن رواية في أول وقتها ضعيفة، وتعقبه الحافظ بأن لها طريقا أخرى أخرجها ابن خزيمة في صحيحه والحاكم وغيرهما من طريق عثمان بن عمر عن مالك بن مغول عن الوليد وتفرد عثمان بذلك، والمعروف عن مالك بن مغول كرواية الجماعة، وكان من رواها كذلك ظن أن المعنى واحد، ويمكن أن يكون أخذه من لفظة على لانها تقتضي الاستعلاء على جميع الوقت فتعين أوله، والظاهر أن على بمعنى اللام أي لوقتها. قال القرطبي وغيره: أن اللام في لوقتها للاستقبال مثل: * (فطلقوهن لعدتهن) * (الطلاق: 1) أي مستقبلات عدتهن، وقيل للابتداء كقوله: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس) * (الاسراء: 78) وقيل بمعنى في أي في وقتها، وقيل إنها لارادة الاستعلاء على الوقت وفائدته تحقق دخول الوقت ليقع الاداء فيه. قوله: ثم أي قيل الصواب أنه غير منون لانه موقوف عليه في الكلام والسائل ينتظر الجواب والتنوين لا يوقف عليه، فتنوينه ووصله بما بعده خطأ فيوقف عليه ثم يؤتى بما بعده. قال الفاكهاني: وحكى ابن الجوزي وابن الخشاب الجزم بتنوينه لانه معرب غير مضاف، وتعقب بأنه مضاف تقديرا والمضاف إليه محذوف لفظا والتقدير: ثم أي العمل أحب فوقف عليه بلا تنوين. قوله: بر الوالدين كذا للاكثر، وللمستملي، ثم بر الوالدين بزيادة ثم. وفي الحديث فضل تعظيم الوالدين، وأن أعمال البدن يفضل بعضها على بعض وفيه فوائد غير ذلك. قوله: ففيهما فجاهد
[ 40 ]
أي خصصهما بجهاد النفس في رضائهما. قال في الفتح: ويستفاد منه جواز التعبير عن الشئ بضده إذا فهم المعنى، لان صيغة الامر في قوله: فجاهد ظاهرها إيصال الضرر الذي كان يحصل لغيرهما بهما، وليس ذلك مرادا قطعا، وإنما المراد إيصال القدر المشترك من كلفة الجهاد وهو تعب البدن وبذل المال، ويؤخذ منه أن كل شئ يتعب النفس يسمى جهادا اه. ولا يخفى أن كون المفهوم من تلك الصيغة إيصال الضرر بالابوين، إنما يصح قبل دخول لفظ في عليها، وأما بعد دخولها كما هو الواقع في الحديث فليس ذلك المعنى هو المفهوم منها، فانه لا يقال جاهد في الكفار بمعنى جاهدهم له هو جاهده في الله فالجهاد الذي يراد منه إيصال الضرر لمن وقعت المجاهدة له هو جاهده لا جاهد فيه وله. وفي الحديث دليل على أن بر الوالدين قد يكون أفضل من الجهاد. قوله: فإن أذنا لك فجاهد فيه دليل على أنه يجب استئذان الابوين في الجهاد وبذلك قال الجمهور وجزموا بتحريم الجهاد إذ منع منه الابوان أو أحدهما، لان برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد فلا إذن، ويشهد له ما أخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمر وقال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسأله عن أفضل الاعمال قال: الصلاة، قال: ثم مه؟ قال: الجهاد، قال: فإن لي والدين، فقال: آمرك بوالديك خيرا، فقال: والذي بعثك نبيا لاجاهدن ولاتركنهما، قال: فأنت أعلم وهو محمول على جهاد فرض العين توفيقا بين الحديثين، وهذا بشرط أن يكون الابوان مسلمين، وهل يلحق بهما الجد والجدة؟ الاصح عند الشافعية ذلك، وظاهره عدم الفرق بين الاحرار والعبيد. قال في الفتح: واستدل بالحديث على تحريم السفر بغير إذنهما لان الجهاد إذا منع منه مع فضيلته، فالسفر المباح أولى، نعم إن كان سفره لتعلم فرض عين حيث يتعين السفر طريقا إليه فلا منع، وإن كان فرض كفاية ففيه خلاف. باب لا يجاهد من عليه دين إلا برضا غريمه عن أبي قتادة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنه قام
[ 41 ]
فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والايمان بالله أفضل الاعمال، فقام رجل فقال: يا رسول الله أرأيت إن قتلت فسبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نعم إن قتلت في سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كيف قلت؟ قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي وصححه. ولاحمد والنسائي من حديث أبي هريرة مثله. وعن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: يغفر الله للشهيد كل ذنب إلا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك رواه أحمد ومسلم. [ رح 3252 ] وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: القتل في سبيل الله يكفر كل خطيئة، فقال جبريل: إلا الدين، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إلا الديرواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. حديث أبي هريرة رجال إسناده في سنن النسائي ثقات، وقد أشار إليه الترمذي فقال بعد إخراجه لحديث أبي قتادة: وفي الباب عن أنس ومحمد بن جحش وأبي هريرة اه. قوله: أفضل الاعمال فيه دليل على أن الجهاد في سبيل الله والايمان بالله أفضل من غيرهما من أعمال الخير، وهو يعارض في الظاهر ما تقدم في الباب الاول ويتوجه الجمع بما سلف. قوله: نعم فيه دليل على أن الجهاد بشرط أن يكون في سبيل الله مع الاحتساب وعدم الانهزام من مكفرات جميع الذنوب والخطايا، فيكون الشهيد بالشهادة مستحقا للمغفرة العامة إلا ما كان من الديون اللازمة للآدميين فإنها لا تغفر للشهيد ولا تسقط عنه بمجرد الشهادة، وذلك لكونه حقا لآدمي، وسقوطه إنما يكون برضاه واختياره، ولهذا امتنع صلى الله عليه وآله وسلم من الصلاة على من عليه دين كما تقدم في الضمانة، ويلحق بالدين ما كان حقا لآدمي من دم أو عرض بجامع أن كل واحد حق لآدمي يتوقف سقوطه على إسقاطه. قوله: فإن جبريل قال لي ذلك لعل الجواب منه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله نعم من غير استثناء كان بالاجتهاد، ثم لما أخبره جبريل بما أخبر استعاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من السائل سؤاله ثم أخبره بأن استثناء
[ 42 ]
الدين ليس هو من جهته وإنما هو بأمر الله له بذلك. وقد استدل بأحاديث الباب على أنه لا يجوز لمن عليه دين أن يخرج إلى الجهاد إلا بإذن من له الدين لانه حلآدمي، والجهاد حق لله تعالى، وينبغي أن يلحق بذلك سائر حقوق الآدميين كمتقدم لعدم الفرق بين حق وحق. ووجه الاستدلال بأحاديث الباب على عدم جواز خروج المديون إلى الجهاد بغير إذن غريمه أن الدين يمنع من فائدة الشهادة وهي المغفرة العامة وذلك يبطل ثمرة الجهاد، وقد أشار صاحب البحر إلى مثل ذلك فقال: ومن عليه دين حال لم يخرج إلا بإذن الغريم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: نعم إلا الدين الخبر، فإذا منع الشهادة بطلت ثمرة الجهاد اه. ولا يخفى أن بقاء الدين في ذمة الشهيد لا يمنع من الشهادة بل هو شهيد مغفور له كل ذنب إلا الدين، وغفران ذنب واحد يصح جعله ثمرة للجهاد، فكيف بمغفرة جميع الذنوب إلا واحدا منها؟ فالقول بأن ثمرة الشهادة مغفرة جميع الذنوب ممنوع، كما أن القول بأن عدم غفران ذنب واحد يمنع من الشهادة ويبطل ثمرة الجهاد ممنوع أيضا، وغاية ما اشتملت عليه أحاديث الباب هو أن الشهيد يغفر له جميع ذنوبه إلا ذنب الدين، وذلك لا يستلزم عدم جواز الخروج إلى الجهاد إلا بإذن من له الدين، بل إن أحب المجاهد أن يكون جهاده سببا لمغفرة كل ذنب استأذن صاحب الدين في الخروج، وإن رضي بأن يبقى عليه ذنب واحد منها جاز له الخروج بدون استئذان، وهذا إذا كان الدين حالا، وأما إذا كان مؤجلا ففي ذلك وجهان. قال الامام يحيى: أصحهما يعتبر الاذن أيضا إذ الدين مانع للشهادة، وقيل لا كالخروج للتجارة. قال في البحر: ويصح الرجوع عن الاذن قبل التحام القتال إذ الحق له لا بعده لما فيه من الوهن. باب ما جاء في الاستعانة بالمشركين عن عائشة قالت: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل بدر فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل قد كان تذكر منه جرأة ونجدة، ففرح به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين رأوه، فلما أدركه قال: جئت
[ 43 ]
لاتبعك فأصيب معك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تؤمن بالله ورسوله قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك، قالت: ثم مضى حتى إذا كان بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال أول مرة، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما قال أول مرة فقال لا، قال: فارجع فلن استعين بمشرك، قال: فرجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أول مرة: تؤمن بالله ورسوله؟ قال: نعم، فقال له: فانطلق رواه أحمد ومسلم. وعن خبيب بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يريد غزوا أنا ورجل من قومي ولم نسلم، فقلنا: إنا نستحي أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم، فقال: أسلمتما؟ فقلنا: لا، فقال: إنا لا نستعين بالمشركين على المشركين، فأسلمنا وشهدنا معه رواه أحمد. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا على خواتيمكم عربيا رواه أحمد والنسائي. وعن ذي مخبر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ستصالحون الروم صلحا وتغزون أنتم وهم عدوا من ورائكم رواه أحمد وأبو داود. وعن الزهري: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استعان بناس من اليهود في خيبر في حربه فأسهم لهم رواه أبو داود في مراسيله. حديث خبيب بن عبد الرحمن أخرجه الشافعي والبيهقي، وأورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه، وقال في مجمع الزوائد: أخرجه أحمد والطبراني ورجالهما ثقات. وحديث أنس في إسناده عند النسائي أزهر بن راشد وهو ضعيف وبقية رجال إسناده ثقات. وحديث ذي مخبر أخرجه أيضا ابن ماجة وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناد أبي داود رجال الصحيح. وحديث الزهري أخرجه أيضا الترمذي مرسلا والزهري مراسيله ضعيفة. ورواه الشافعي فقال: أخبرنا يوسف، حدثنا حسن بن عمارة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: استعان النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر مثله وقال: ولم يسهم لهم. قال البيهقي: لم أجده إلا من طريق الحسن بن عمارة وهو ضعيف، والصحيح ما أخبرنا الحافظ أبو عبد الله فساق بسنده إلى أبي حميد الساعدي قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا خلف ثنية الوداع إذا كتيبة قال: من هؤلاء؟ قالوا: بنو قينقاع رهط عبد الله بن سلام، قال: أو تسلموا؟ قالوا: لا، فأمرهم أن يرجعوا وقال: إنا لا نستعين
[ 44 ]
بالمشركين فأسلموا. وحديث عائشة فيه دليل على أنها لا تجوز الاستعانة بالكافر، وكذلك حديث خبيب بن عبد الرحمن، ويعارضهما في الظاهر حديث ذي مخبر وحديث الزهري المذكوران، وقد جمع بأوجه: منها ما ذكره البيهقي عن نص الشافعي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تفرس الرغبة في الذين ردهم فردهم رجاء أن يسلموا فصدق الله ظنه. وفيه نظر لان قوله: لا أستعين بمشرك نكرة في سياق النفي تفيد العموم. ومنها: أن الامر في ذلك إلى رأي الامام وفيه النظر المذكور بعينه. ومنها: أن الاستعانة كانت ممنوعة ثم رخص فيها قال الحافظ في التلخيص: وهذا أقربها وعلي نص الشافعي، وإلى عدم جواز الاستعانة بالمشركين ذهب جماعة من العلماء وهو مروي عن الشافعي، وحكى في البحر عن العترة وأبي حنيفة وأصحابه أنها تجوز الاستعانة بالكفار والفساق حيث يستقيمون على أوامره ونواهيه، واستدلوا باستعانته صلى الله عليه وآله وسلم بناس من اليهود كما تقدم، وباستعانته صلى الله عليه وآله وسلم بصفوان بن أمية يوم حنين، وبإخباره صلى الله عليه وآله وسلم بأنها ستقع من المسلمين مصالحة الروم ويغزون جميعا عدوا من وراء المسلمين. قال في البحر: وتجوز الاستعانة بالمنافق إجماعا لاستعانته صلى الله عليه وآله وسلم بابن أبي وأصحابه، وتجوز الاستعانة بالفساق على الكفار إجماعا، وعلى البغاة عندنا لاستعانة علي عليه السلام بالاشعث انتهى. وقد روي عن الشافعي المنع من الاستعانة بالكفار على المسلمين، لان في ذلك جعل سبيل للكافر على المسلم وقد قال تعالى: * (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * (النساء: 141) وأجيب بأن السبيل هو اليد وهي للامام الذي استعان بالكافر، وشرط بعض أهل العلم ومنهم الهادوية أنها لا تجوز الاستعانة بالكفار والفساق إلا حيث مع الامام جماعة من المسلمين يستقل بهم في إمضاء الاحكام الشرعية على الذين استعان بهم ليكونوا مغلوبين لا غالبين، كما كان عبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين يخرجون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقتال وهم كذلك، ومما يدل على جواز الاستعانة بالمشركين أن قزمان خرج مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد وهو مشرك فقتل ثلاثة من بني عبد الدار حملة لواء المشركين حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم: أن الله ليأزر هذا الدين بالرجل الفاجر كما ثبت ذلك عند أهل السير
[ 45 ]
، وخرجت خزاعة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قريش عام الفتح. (والحاصل) أن الظاهر من الادلة عدم جواز الاستعانة بمن كان مشركا مطلقا لما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: إنا لا نستعين بالمشركين من العموم. وكذلك قوله: أنا لا أستعين بمشرك ولا يصلح مرسل الزهري لمعارضة ذلك لما تقدم من أن مراسيل الزهري ضعيفة، والمسند فيه الحسن بن عمارة وهو ضعيف، ويؤيد هذا قوله تعالى: * (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * (النساء: 141) وقد أخرج الشيخان عن البراء قال: جاء رجل مقنع بالحديد فقال: يا رسول الله أقاتل أو أسلم؟ قال: أسلم ثم قاتل، فأسلم ثم قاتل فقتل، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: عمل قليلا وأجر كثيرا وأما استعانته صلى الله عليه وآله وسلم بابن أبي فليس ذلك إلا لاظهاره الاسلام، وأما مقاتلة قزمان مع المسلمين فلم يثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم أذن له بذلك في ابتداء الامر، وغاية ما فيه أنه يجوز للامام السكوت عن كافر قاتل مع المسلمين. قوله: بحرة الوبرة الحرة بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء والوبرة بفتح الواو والباء الموحدة بعدها راء وبسكون الموحدة أيضا موضع على أربعة أميال من المدينة. قوله: بالشجرة اسم موضع وكذلك البيداء. قوله: ولا تنقشوا على خواتيمكم عربيا بفتح العين المهملة والراء وبعدها موحدة. قال في القاموس في مادة عرب: ولا تنقشوا على خواتيمكم عربيا أي لا تنقشوا محمد رسول الله كأنه قال: نبيا عربيا يعني نفسه صلى الله عليه وآله وسلم انتهى. نهى صلى الله عليه وآله وسلم أن ينقشوا على خواتيمهم مثل ما كان ينقش على خاتمه وهو محمد رسول الله، لانه كان علامة له في ذلك الوقت يختم به كتبه. باب ما جاء في مشاورة الامام الجيش ونصحه لهم ورفقه بهم وأخذهم بما عليهم عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، فتكلم أبو بكر فأعرض عنه، ثم تكلم عمر فأعرض عنه، فقام سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد يا رسول الله، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحر لاخضناها،
[ 46 ]
ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى برك الغماد لفعلنا، قال: فندب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس فانطلقوا رواه أحمد ومسلم. وعن أبي هريرة قال: ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لاصحابه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد والشافعي. قوله: حين بلغه إقبال أبي سفيان هذا الامر كافي غزوة بدر، وقد اقتصر المصنف ههنا على أول الحديث لكونه محل الحاجة وتمامه: فانطلقوا حتى نزلوا بدرا، ووردت عليهم روايا قريش وفيهم غلام أسود لبني الحجاج، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسألونه عن أبي سفيان وأصحابه فيقول لهم: ما لي علم بأبي سفيان ولكن هذا أبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف في الناس، فإذا قال ذلك ضربوه ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائم يصلي، فلما رأى ذلك انصرف فقال: والذي نفسي بيده إنكم لتضربونه إذا صدقكم وتتركونه إذا كذبكم، ثم قال: هذا مصرع فلان ويضع يده على الارض ههنا وههنا قال: فوالله ما ماط أحد منهم عن موضعه. قوله: أن نخيضها أي الخيل وهو بالخاء المعجمة بعدها مثناة تحتية ثم ضاد معجمة، قال في القاموس: خاض الماء يخوضه خوضا وخياضا دخله كخوضه واختاضه وبالفرس أورده كأخاضه انتهى. قوله: برك بكسر الباء الموحدة وفتحها مع سكون الراء. والغماد بغين معجمة مثلثة كما في القاموس وهو موضع في ساحل البحر بينه وبين جدة عشرة أميال وهو البندر القديم. وحكى صاحب القاموس عن ابن عليم في الباهر أنه أقصى معمور الارض. قوله: ما رأيت أحدا قط إلخ، فيه دليل على أنه يشرع للامام أن يستكثر من استشارة أصحابه الموثوق بهم دينا وعقلا، وقد ذهبت الهادوية إلى وجوب استشارة الامام لاهل الفضل، واستدلوا بظاهر قوله تعالى: * (وشاورهم في الامر) * (آل عمران: 159) وقيل: إن الامر في الآية للندب إيناسا لهم وتطييبا لخواطرهم، وأجيب بأن ذلك نوع من التعظيم وهو واجب، والاستدلال بالآية على الوجوب إنما يتم بعد تسليم أنها غير خاصة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو بعد تسليم أن الخطاب الخاص به يعم الامة أو الائمة، وذلك مختلف فيه عند أهل الاصول. وعن معقل بن يسار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما من عبد يسترعيه الله رعييموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله
[ 47 ]
عليه الجنة متفق عليه. وفي لفظ ما من أمير يلي أمور المسلمين ثم لا يجتهد لهم ولا ينصح لهم إلا لم يدخل الجنة رواه مسلم. وعن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به رواه أحمد ومسلم. وعن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتخلف في المسير فيزجي الضعيف ويردف ويدعو لهم رواه أبو داود. وعن سهل بن معاذ عن أبيه قال: غزونا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزوة كذا وكذا فضيق الناس الطريق فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مناديا فنادى: من ضيق منزلا أو قطع طريقا فلا جهاد له رواه أحمد وأبو داود. حديث جابر سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح إلا الحسن ابن شوكر، وقد قيل: إن البخاري روى له كما ذكره صاحب التقريب، وحديث سهل بن معاذ في إسناده إسماعيل بن عياش وفيه مقال قد تقدم، وسهل بن معاذ ضعيف كما قال المنذري. قوله: إلا حرم الله عليه الجنة في رواية للبخاري: لم يجد رائحة الجنة زاد الطبراني: وعرفها يوجد يوم القيامة من مسيرة سبعين عاما وأصل هذا الحديث أن عبيدالله ابن زياد لما أفرط في سفك الدماء وكان معقل بن يسار حينئذ مريضا مرضه الذي مات فيه، فأتى عبيدالله يعوده فقال له معقل: إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكره. وفي مسلم أنه لما حدثه بذلك قال: ألا كنت حدثتني قبل هذا اليوم؟ قال: لم أكن لاحدثك قبل سبب ذلك، والمراد بهذا السبب هو ما كان يقع منه من سفك الدماء، ووقع في رواية الاسماعيلي من الوجه الذي أخرجه مسلم: لولا أني ميت ما حدثتك، فكأنه كان يخشى بطشه، فلما نزل به الموت أراد أن يكف بعض شره عن المسلمين. وأخرج الطبراني في الكبير عن الحسن قال: قدم علينا عبيدالله بن زياد أميرا أمره علينا معاوية غلاما سفيها يسفك الدماء سفكا شديدا وفينا عبد الله بن معقل المزني، فدخل عليه ذات يوم فقال له: انته عما أراك تصنع، فقال له: وما أنت وذاك؟ قال: ثم خرج إلى المسجد فقلنا له: ما كنت تصنع بكلام هذا السفيه على رؤوس الناس؟ فقال: إنه كان عندي علم فأحببت أن لا أموت حتى أقول به على رؤوس الناس، ثم قام فما لبث أن مرض مرضه الذي توفي فيه، فأتاه عبيد الله بن
[ 48 ]
زياد يعوده فذكر نحو حديث الباب، فيحتمل أن تكون القصة وقعت للصحابيين. قوله: ما من أمير في رواية للبخاري: ما من وال يلي رعية من المسلمين. قوله: ثم لا يجتهد في رواية أبي المليح: ثم لا يجد له بجيم ودال مشددة من الجد بالكسر ضد الهزل. قوله: يلي قال ابن التين: يلي جاء على غير القياس، لان ماضيه ولي بالكسر فمستقبله يولي بالفتح وهو مثل ورث يرث، قال ابن بطال: هذا وعيد شديد على أئمة الجور، فمن ضيع من استرعاه الله أو خانهم أو ظلمهم فقد توجه إليه الطلب بمظالم العباد يوم القيامة، فكيف يقدر على التحلل من ظلم أمة عظيمة؟ ومعنى حرم الله عليه الجنة أي أنفذ عليه الوعيد ولم يرض عنه المظلومين. ونقل ابن التين عن الداودي نحوه قال: ويحتمل أن يكون هذا في حق الكافر لان المؤمن لا بد له من نصحه. قال الحافظ: وهو احتمال بعيد جدا والتعليل مردود، والكافر أيضا قد يكون ناصحا فيما تولاه ولا يمنعه ذلك الكفر انتهى. ويمكن أن يجاب عن هذا بأن النصح من الكافر لا حكم له لعدم كونه مثابا عليه، والاولى في الجواب أن يقال: إن الواقع في الحديث نكرة في سياق النفي وهي تعم الكافر والمسلم فلا يقبل التخصيص إلا بدليل. وقال بعضهم: يحمل على المستحل. قال الحافظ: والاولى أنه محمول على غير المستحل وإنما أريد به الزجر والتغليظ. قال: وقد وقع في رواية لمسلم بلفظ: لم يدخل معهم الجنة وهو يؤيد أن المراد أنه لا يدخل الجنة في وقت دون وقت انتهى. ويجاب بأن الحمل على الزجر والتغليظ خلاف الظاهر فلا يصار إليه إلا لدليل، ورواية مسلم لا تدل على أن عدم الدخول في بعض الاوقات، لان النفي فيها مطلق وغاية ما فيه أنه غير مؤكد كما في النفي بلن. قال الطيبي: إن قوله وهو غاش قيد للفعل مقصود بالذكر يريد أن الله تعالى إنما ولاه على عباده ليديم لهم النصيحة لا ليغشهم حتى يموت على ذلك، فمن قلب القضية استحق أن يعاقب. قوله: فيزجي الضعيف بضم التحتية وسكون الزاي بعدها جيم قال في القاموس: زجاه ساقه ودفعه كزجاه وأزجاه. قوله: ويردف قال في القاموس: الردف بالكسر الراكب خلف الراكب انتهى، والمراد أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يردف خلفه من ليس له راحلة إذا كان يضعف عن المشي، وهذا من حسن خلقه الذي وصفه الله تعالى به وذكر عظمه فقال: * (إنك لعلى خلق عظيم) * (القلم: 4) * (بالمؤمنين رؤوف
[ 49 ]
رحيم) * (التوبة: 128). قوله: فلا جهاد له فيه أنه لا يجوز لاحد تضييق الطريق التي يمر بها الناس، ونفى جهاد من فعل ذلك على طريق المبالغة في الزجر والتنفير، وكذلك لا يجوز تضييق المنازل التي ينزل فيها المجاهدون لما في ذلك من الاضرار بهم. باب لزوم طاعة الجيش لاميرهم ما لم يأمر بمعصية عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: الغزو غزوان: فأما من ابتغى وجه الله وأطاع الامام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب الفساد فإن نومه ونبهه أجر كله، وأما من غزا فخرا ورياء وسمعة وعصى الامام وأفسد في الارض فإنه لن يرجع بالكفاف رواه أحمد وأبو داود والنسائي. [ رح 3264 ] وعن أبي هريرة: أن النبصلى الله عليه وآله وسلم قال: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الامير فقد أطاعني، ومن يعص الامير فقد عصاني متفق عليه. وعن ابن عباس في قوله تعالى: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) (النساء: 29) قال: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي بعثه رسول اللصلى الله عليه وآله وسلم في سرية رواه أحمد والنسائي. وعن علي رضي الله عنه قا: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الانصا وأمرهم أن يسمعوا له ويطيعوا، فعصوه في شئ فقال: اجمعوا لي حطبا فجمعوا، ثم قال: أوقدوا نارا فأوقدوا، ثم قال: ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تسمعوا وتطيعوا؟ قالوا: بلى، قال: فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من النار فكانوا كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: لو دخلوها لم يخرجوا منها أبدا، وقال: لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف متفق عليه. حديث معاذ في إسناده بقية بن الوليد وفيه مقال، قال في التقريب: صدوق كثير التدليس عن الضعفاء، وقد صرح بالتحديث في سند هذا الحديث عن بجير،
[ 50 ]
وحديث ابن عباس أخرجه أبو داود. قال المنذري في مختصر السنن: وأخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. قوله: وأنفق الكريمة هي الفرس التي يغزى عليها، قال في القاموس: والكريمان الحج والجهاد. ومنه: خير الناس مؤمن بين كريمين، أو معناه بين فرسين يغزو عليهما، أو بعيرين يستقى عليهما اه. ويحتمل أن يكون المراد إنفاق الخصلة الكريمة عند المنفق المحبوبة إليه من غير تعيين. قوله: وياسر الشريك أي سامحه وعامله باليسر ولم يعاسره. قوله: ونبهه بفتح النون وسكون الموحدة أي انتباهه في سبيل الله. قوله: لن يرجع بالكفاف أي لم يرجع لا عليه ولا له من ثواب تلك الغزوة وعقابها، بل يرجع وقد لزمه الاثم، لان الطاعات إذا لم تقع بصلاح سريرة انقلبت معاصي والعاصي آثم. قوله: من أطاعني فقد أطاع الله إلخ، هذا الحديث فيه دليل على أن طاعة من كان أميرا طاعة له صلى الله عليه وآله وسلم، وطاعته طاعة لله، وعصيانه عصيان له، وعصيانه عصيان لله، وقد قدمنا من الادلة الدالة على وجوب طاعة الائمة والامراء في باب الصبر على جور الائمة من آخر كتاب الحدود ما فيه كفاية فليرجع إليه. وقد نص القرآن على ذلك فقال: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم) * (النساء: 29) وهي نازلة في طاعة الامراء كما في رواية ابن عباس المذكورة في الباب. وقد قيل: إن أولى الامر هم العلماء كما وقع في الكشاف وغيره من كتب التفسير. قوله: رجلا من الانصار روى أحمد وابن ماجة وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم من حديث أبي سعيد: أن الرجل المذكور هو علقمة بن مجزز، وكذا ذكر ابن إسحاق. وقيل: إنه عبد الله بن حذافة السهمي وكان من أصحاب بدر وكانت فيه دعابة، ويجمع بينهما بأن كل واحد منهما كان أميرا على بعض من تلك السرية، ويدل على ذلك حديث أبي سعيد الذي أشرنا إليه ولفظه: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علقمة بن مجزز على بعث أنا فيهم حتى إذا انتهينا إلى رأس غزاتنا إذ كنا ببعض الطريق إذ بطائفة من الجيش وأمر عليهم عبد الله بن حذافة السهمي وكان من أصحاب بدر وكان فيه دعابة الحديث. وقد بوب البخاري على هذا الحديث فقال: باب سرية عبد الله بن حذافة السهمي وعلقمة بن مجزز المدلجي. قوله: أوقدوا نارا إلخ، قيل إنه لم يقصد دخولهم النار حقيقة، وإنما أشار بذلك إلى أن طاعة الامير واجبة، ومن ترك الواجب دخل
[ 51 ]
النار، فإذا شق عليكم دخول هذه النار فكيف بالنار الكبرى؟ وكان قصده أنه لو رأى منهم الجد في ولوجها لمنعهم. قوله: لو دخلوها لم يخرجوا منها قال الداوودى: يريد تلك النار، لانهم يموتون بتحريقها فلا يخرجون منها أحياء، قال: وليس المراد بالنار نار جهنم ولا أنهم يخلدون فيها، لانه قد ثبت في حديث الشفاعة أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، قال: وهذا من المعاريض التي فيها مندوحة يريد أنه سيق مساق الزجر والتخويف ليفهم السامع أن من فعل ذلك خلد في النار، وليس ذلك مرادا وإنما أريد به الزجر والتخويف، وقد ذكر له صاحب الفتح توجيهات في كتاب المغازي. قوله: لا طاعة في معصية الله أي لا تجب بل تحرم على من كان قادرا على الامتناع. وفي حديث معاذ عند أحمد: لا طاعة لمن لم يطع الله. وعند البزار في حديث عمران بن حصين والحكم بن عمرو الغفاري: لا طاعة في معصية الله وسنده قوي. وفي حديث عبادة بن الصامت عند أحمد والطبراني: لا طاعة لمن عصى الله ولفظ البخاري في حديث الباب: فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة وهذا تقييد لما أطلق في الاحاديث المطلقة القاضية بطاعة أولي الامر على العموم، والقاضية بالصبر على ما يقع من الامير مما يكره والوعيد على مفارقة الجماعة، والمراد بقوله: لا طاعة في معصية الله نفي الحقيقة الشرعية لا الوجودية. وقوله: إنما الطاعة في المعروف فيه بيان ما يطاع فيه من كان من أولي الامر وهو الامر المعروف لا ما كان منكرا، والمراد بالمعروف ما كان من الامور المعروفة في الشرع لا المعروف في العقل أو العادة، لان الحقائق الشرعية مقدمة على غيرها على ما تقرر في الاصول. باب الدعوة قبل القتال عن ابن عباس قال: ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوما قط إلا دعاهم رواه أحمد. وعن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراثم قال: اغزوا بسم الله في سبيل
[ 52 ]
الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلو ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ادعهم إلى الاسلام فإن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم الذي يجري على المسلمين، ولا يكون لهم في الفئ والغنيمة شئ إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فسلهم الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم إن تخفروا ذمتكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن وأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟ رواه أحمد ومسلم وابن ماجة والترمذي وصححه. وهو حجة في أن قبول الجزية لا يختص بأهل الكتاب، وأن ليس كل مجتهد مصيبا، بل الحق عند الله واحد، وفيه المنع من قتل الولدان ومن التمثيل. حديث ابن عباس أخرجه أيضا الحاكم من طريق عبد الله بن أبي نجيح عن أبيه عنه. قال في مجمع الزوائد: أخرجه أحمد وأبو يعل والطبراني ورجاله رجال الصحيح. وظاهر قوله إلا دعاهم يخالف حديث نافع عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون. قوله: أو سرية هي القطعة من الجيش تنفصل عنه ثم تعود إليه، وقيل: هي قطعة من الخيل زهاء أربعمائة، كذا قال إبراهيم الحربي. وسميت سرية لانها تسري ليلا على خفية. قوله: ولا تغلوا بضم الغين أي لا تخونوا إذا غنمتم شيئا. قوله: ولا تغدروا بكسر الدال وضمها وهو ضد الوفاء. قوله: وليدا هو الصبي. قوله: فادعهم وقع في نسخ مسلم ثم ادعهم. قال عياض: الصواب إسقاط ثم، وقد أسقطها أبو عبيد في كتابه وأبو داود في سننه وغيرهما، لانه تفسير للخصال الثلاث. وقال المازري: إن ثم دخلت لاستفتاح
[ 53 ]
الكلام، وفي هذا دليل على أنه يشرع للامام إذا أرسل قومه إلى قتال الكفار ونحوهم أن يوصيهم بتقوى الله وينهاهم عن المعاصي المتعلقة بالقتال كالغلول والغدر والمثلة وقتل الصبيان، وفيه دليل على وجوب تقديم دعاء الكفار إلى الاسلام قبل المقاتلة، وفي المسألة ثلاثة مذاهب. الاول: أنه يجب تقديم الدعاء للكفار إلى الاسلام من غير فرق بين من بلغته الدعوة منهم ومن لم تبلغه، وبه قال مالك والهادوية وغيرهم وظاهر الحديث معهم. والمذهب الثاني: أنه لا يجب مطلقا وسيأتي في هذا الباب دليل من قال به. المذهب الثالث: أنه يجب لمن لم تبلغهم الدعوة ولا يجب إن بلغتهم لكن يستحب. قال ابن المنذر: وهو قول جمهور أهل العلم، وقد تظاهرت الاحاديث الصحيحة على معناه، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف من الاحاديث، وقد زعم الامام المهدي أن وجوب تقديم دعوة من لم تبلغه الدعوة مجمع عليه، ويرد ذلك ما ذكرنا من المذاهب الثلاثة، وقد حكاها كذلك المازري وأبو بكر بن العربي. قوله: ثم ادعهم إلى التحول فيه ترغيب الكفار بعد إجابتهم وإسلامهم إلى الهجرة إلى ديار المسلمين، لان الوقوف بالبادية ربما كان سببا لعدم معرفة الشريعة لقلة من فيها من أهل العلم. قوله: ولا يكون لهم في الفئ والغنيمة شئ إلخ، ظاهر هذا أنه لا يستحق من كان بالبادية ولم يهاجر نصيبا في الفئ والغنيمة إذا لم يجاهد، وبه قال الشافعي وفرق بين مال الفئ والغنيمة وبين مال الزكاة وقال: إن للاعراب حقا في الثاني دون الاول. وذهب مالك وأبو حنيفة والهادوية إلى عدم الفرق بينهما، وأنه يجوز صرف كل واحد منهما في مصرف الآخر. وزعم أبو عبيد أن هذا الحكم منسوخ وإنما كان في أوائل الاسلام، وأجيب بمنع دعوى النسخ. قوله: فسلهم الجزية ظاهره عدم الفرق بين الكافر العجمي والعربي والكتابي وغير الكتابي، وإلى ذلك ذهب مالك والاوزاعي وجماعة من أهل العلم، وخالفهم الشافعي فقال: لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب والمجوس عربا كانوا أو عجما، واستدل بقوله تعالى: * (حتى يعطوا الجزية عن يدوهم صاغرون) * (التوبة: 29) بعد ذكر أهل الكتاب. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: سنوا بهم سنة أهل الكتاب وأما سائر المشركين فهم داخلون تحت عموم: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم. وذهبت العترة وأبو حنيفة إلى أن الجزية لا تقبل من العربي غير الكتابي وتقبل من الكتابي ومن العجمي، ولعله يأتي لهذا البحث
[ 54 ]
مزيد بسط. قوله: ذمة الله الذمة عقد الصلح والمهادنة، وإنما نهى عن ذلك لئلا ينقض الذمة من لا يعرف حقها، وينتهك حرمتها بعض من لا تمييز له من الجيش فيكون ذلك أشد، لان نقض ذمة الله ورسوله أشد من نقض ذمة أمير الجيش أو ذمة جميع الجيش وإن كان نقض الكل محرما. قوله: أن تخفروا بضم التاء الفوقية وبعدها خاء معجمة ثم فاء مكسورة وراء، يقال: أخفرت الرجل إذا نقضت عهده، وخفرته بمعنى أمنته وحميته. قوله: فلا تنزلهم على حكم الله الخ، هذا النهي محمول على التنزيه والاحتياط، وكذلك الذي قبله والوجه ما سلف، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم: فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا؟. وفيه دليل لمن قال: إن الحق مع واحد، وأن ليس كل مجتهد مصيبا، والخلاف في المسألة مشهور مبسوط في مواضعه، والحق أن كل مجتهد مصيب من الصواب لا من الاصابة. وقد قيل: إن هذا الحديث لا ينتهض للاستدلال به على أن ليس كل مجتهد مصيبا، لان ذلك كان في زمن النبي، والاحكام الشرعية إذ ذاك لا تزال تنزل وينسخ بعضها بعضا ويخصص بعضها ببعض، فلا يؤمن أن ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكم خلاف الحكم الذي قد عرفه الناس. وعن فروة بن مسيك قال: قلت: يا رسول الله أقاتل بمقبل قومي مدبرهم؟ قال: نعم، فلما وليت دعاني فقال: لا تقاتلهم حتتدعوهم إلى الاسلام رواه أحمد. وعن ابن عوف قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال فكتب إلي إنما كان ذلك في أول الاسلام، وقد أغار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية ابنة الحرث، حدثني به عبد الله بن عمر وكان في ذلك الجيش متفق عليه. وهو دليل على استرقاق العرب. وعن سهل بن سعد أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر فقال: أين علي؟ فقيل: إنه يشتكي عينيه، فأمر فدعا له فبصق في عينيه فبرأ مكانه حتى كأن لم يكن به شئ فقال: نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الاسلام وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لان يهتدي بك رجل واحد خير لك من حمر النعم متفق عليه. وعن البراء بن عازب قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رهطا من
[ 55 ]
الانصار إلى أبي رافع فدخل عبد الله بن عتيك بيته ليلا فقتله وهو نائم رواه أحمد والبخاري. حديث فروة أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه، وقد أورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه. قوله: على بني المصطلق بضم الميم وسكون المهملة وفتح الطاء وكسر اللام بعدها قاف وهو بطن شهير من خزاعة. والمصطلق أبوهم وهو المصطلق بن سعد بن عمرو بن ربيعة، ويقال المصطلق لقبه واسمه جذيمة بفتح الجيم وكسر الذال المعجمة. قوله: وهم غارون بغين معجمة وتشديد الراء جمع غار بالتشديد أي غافلون، والمراد بذلك الاخذ على غرة أي غفلة. قوله: وسبي ذراريهم فيه دليل على جواز استرقاق العرب، لان بني المصطلق عرب من خزاعة كما سلف، وسيأتي الكلام على ذلك في باب جواز استرقاق العرب. قوله: فبصق في عينيه فبرأ مكانه فيه معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه منقبة لعلي عليه السلام الله ورحمته وبركاته، فإن هذه الغزوة هي التي قال فيه صلى الله عليه وآله وسلم: لاعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فتطاول الناس لها فقال: ادعوا لي عليا فأتي به أرمد فبصق في عينيه ودفع إليه الراية ففتح الله عليه هذا لفظ مسلم والترمذي. قوله: حتى يكونوا مثلنا المراد من المثلية المذكورة أن يتصفوا بوصف الاسلام، وذلك يكون في تلك الحال بالتكلم بالشهادتين، وليس المراد أنهم يكونون مثلهم في القيام بأمور الاسلام كلها، فإن ذلك لا يمكن امتثاله حال المقاتلة. قوله: على رسلك بكسر الراء وسكون السين أي امشي إليهم على الرفق والتؤدة، قال في القاموس: الرسل بالكسر الرفق والتؤدة. قوله: بساحتهم قال في القاموس: الساحة الناحية وفضاء بين دور الحي الجمع ساح وسوح وساحات انتهى. قوله: فوالله لان يهتدي بك رجل الخ، فيه الترغيب في التسبب لهداية من كان على ضلالة، وأن ذلك خير للانسان من أجل النعم الواصلة إليه في الدنيا. وفي حديث فروة وسهل بن سعد دليل على وجو ب تقديم دعاء الكفار إلى الاسلام على الاطلاق، وقد تقدم الخلاف في ذلك، والصواب الجمع بين الاحاديث المختلفة بما سلف لحديث ابن عمر المذكور فإن فيه التصريح بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقدم الدعوة لبني المصطلق. قوله: إلى أبي رافع هو عبد الله بن أبي الحقيق، وهذا طرف من الحديث
[ 56 ]
أورده المصنف ههنا لانه محل الحاجة باعتبار ترجمة الباب لتضمنه وقوع القتل لابي رافع قبل تقديم الدعوة إليه، وعدم أمره صلى الله عليه وآله وسلم لمن بعثه لقتله بأن يقدم الدعوة له إلى الاسلام، والقصة مشهورة ساقها البخاري بطولها في المغازي من صحيحه. قوله: رهطا من الانصار هم عبد الله بن عتيك وعبد الله بن عتبة، وعند ابن إسحاق: ومسعود بن سنان وعبد الله بن أنيس وأبو قتادة وخزاعي بن الاسود. قوله: ابن عتيك بفتح المهملة وكسر المثناة وهو ابن قيس بن الاسود من بني سلمة بكسر اللام، وكان سبب أمره صلى الله عليه وآله وسلم بقتله أنه كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويعين عليه كما في الصحيح. باب ما يفعله الامام إذا أراد الغزومن كتمان حاله والتطلع على حال عدوه عن كعب بن مالك عن النبي صلى الله عليوآله وسلم: أنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها متفق عليه وهو لابي داود وزاد: والحرب خدعة. وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الحرب خدعة. وعن أبي هريرة قال: سمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحرب خدعة. وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من يأتيني بخبر القوم يوم الاحزاب؟ فقال الزبير: أنا، ثم قال: من يأتيني بخبر القوم؟ قال الزبير: أنا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لكل نبي حواري وحواري الزبير متفق عليهم. وعن أنس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبسا عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان فجاء فحدثه الحديث، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتكلم فقال: إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضرا فليركب معنا، فجعل رجال يستأذنونه في ظهرهم في علو المدينة، فقال: لا إلا من كان ظهره حاضرا، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حتى سبقوا ركب المشركين إلى بدر رواه أحمد
[ 57 ]
ومسلم. قوله: ورى أي ستر، ويستعمل في إظهار شئ مع إرادة غيره، وأصله من الورى بفتح الواو وسكون الراء هو ما يجعل وراء الانسان لان من ورى بشئ كأنه جعله وراءه. وقيل هو في الحرب أخذ العدو على غرة. وقيده السيرافي في شرح كتاب سيبويه بالهمزة قال: وأصحاب الحديث لم يضبطوا فيه الهمزة فكأنهم سهلوها. قوله: خدعة بفتح الخاء المعجمة وضمها مع سكون الدال المهملة وبضم أوله وفتح ثانيه قال النووي: اتفقوا على أن الاولى أفصح، وبذلك جزم أبو ذر الهروي والقزاز. والثانية ضبطت كذلك في رواية الاصيلي ورجح ثعلب الاولى وقال: بلغنا بهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال أبو بكر بن طلحة: أراد ثعلب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يستعمل هذه البنية كثيرا لو جازة لفظها ولكونها تعطي معنى البنيتين الآخرتين، قال: ويعطي معناهما أيضا الامر باستعمال الحيلة مهما أمكن ولو مرة، قال: فكانت مع اختصارها كثيرة المعنى. ومعنى خدعة بالاسكان أنها تخدع أهلها من وصف الفاعل باسم المصدر أو من وصف المفعول، كما يقال: هذا الدرهم ضرب الامير أي مضروبه. وقال الخطابي: معناه أنها مرة واحدة أي إذا خدع مرة واحدة لم تقل عثرته، وقيل: الحكمة في الاتيان بالتاء للدلالة على الوحدة، فإن الخداع إن كان من المسلمين فكأنه حضهم على ذلك ولو مرة واحدة، وإن كان من الكفار فكأنه حذرهم من مكرهم ولو وقع مرة واحدة، فلا ينبغي التهاون بهم لما ينشأ عنه من المفسدة ولو قل. وفي اللغة الثالثة صيغة المبالغة كهمزة ولمزة. وحكى المنذري لغة رابعة بالفتح فيهما قال: وهو جمع خادع أي أن أهلها بهذه الصفة فكأنه قال: أهل الحرب خدعة. وحكى مكي ومحمد بن عبد الله الواحد لغة خامسة كسر أوله مع الاسكان وأصله إظهار أمر وإضمار خلافه، وفيه التحريض على أخذ الحذر في الحرب والندب إلى خداع الكفار، وإن من لم يتيقظ لم يأمن أن ينعكس الامر عليه. قال النووي: واتفقوا على جواز خداع الكفار في الحرب كيف ما أمكن إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يجوز. قال ابن العربي: الخداع في الحرب يقع بالتعريض وبالكمين ونحو ذلك. وفي الحديث الاشارة إلى استعمال الرأي في الحرب، بل الاحتياج إليه آكد من الشجاعة. قال ابن المنير: معنى الحرب خدعة أي الحرب الجيدة لصاحبها الكاملة في مقصودها إنما هي المخادعة لا المواجهة، وذلك لخطر المواجهة، ولحصول الظفر مع المخادعة بغير
[ 58 ]
خطر. قوله: بسبسا بضم الباء الموحدة الاولى وبعدها سين مهملة ساكنة وبعدها باء موحدة مفتوحة ثم سين مهملة وهو ابن عمرو ويقال ابن بشر. وفي سنن أبي داود: بسبسة بزيادة تاء التأنيث، وقيل: فيه أيضا بسيسة بالباء الموحدة مضمومة في أوله وفتح السين المهملة ثم ياء مثناة تحتية ساكنة. قوله: فقال إن لنا طلبة بكسر اللام كما في القاموس. وفي النهاية: الطلبة الحاجة هذا فيه إبهام للمقصود، وقد أورده المصنف للاستدلال به، على أن الامام يكتم أمره كما وقع في الترجمة. باب ترتيب السرايا والجيوش واتخاذ الرايات وألوانها عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خير الصحابة أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولا تغلب اثنا عشر ألفا من قلة رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن، وذكر أنه في أكثر الروايات عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا. وتمسك به من ذهب إلى أن الجيش إذا كان اثني عشر ألفا لم يجز أن يفر من أمثاله وأضعافه وإن كثروا. وعن ابن عباس قال: كانت راية النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوداء ولواؤه أبيض رواه الترمذي وابن ماجه. وعن سماك عن رجل من قومه عن آخر منهم قال: رأيت راية النبي صلى الله عليه وآله وسلم صفراء رواه أبو داود. وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل مكة ولواؤه أبيض رواه الخمسة إلا أحمد. وعن الحرث بن حسان البكري قال: قدمنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر وبلال قائم بين يديه متقلد بالسيف وإذا رايات سود، فسألت ما هذه الرايات؟ فقالوا: عمرو بن العاص قدم من غزاة رواه أحمد وابن ماجة. وفي لفظ: قدمت المدينة فدخلت المسجد فإذا هو غاص بالناس وإذا رايات سود، وإذا بلال متقلد بالسيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قلت: ما شأن الناس؟ قالوا: يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها رواه الترمذي. وعن البراء بن عازب: أنه سئل عن راية رسول
[ 59 ]
الله صلى الله عليه وآله وسلم ما كانت؟ قال: كانت سوداء مربعة من نمرة رواه أحمد وأبو داود والترمذي. حديث ابن عباس الاول سكت عنه أبو داود، واقتصر المنذري في مختصر السنن على نقل كلام الترمذي. وأخرجه أيضا الحاكم وقال: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين وحديث ابن عباس الثاني أخرج نحوه أبو داود والنسائي. وفي إسناد حديث الباب يزيد بن حيان أخو مقاتل بن حيان قال البخاري: عنده غلط كثير. وأخرج البخاري هذا الحديث في تاريخه مقتصرا على الراية. وحديث سماك في إسناده رجل مجهول وهو الذي روى عنه سماك، ومجهول آخر وهو الذي قال: رأيت راية النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن جهالة الرجل الآخر غير قادحة إن كان صحابيا لما قررنا غير مرة أن مجهول الصحابة مقبول، وليس في هذا الحديث ما يدل على أنه صحابي، لان يمكن أنه رأى راية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد موته ولم تثبت رؤيته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وحديث جابر أخرجه أيضا الحاكم وابن حبان، وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن آدم عن شريك، قال: وسألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فلم يعرفه إلا من حديث يحيى بن آدم عن شريك. وحديث الحرث بن حسان رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي بكر بن عياش عن عاصم عن الحرث بن حسان فذكره، وهؤلاء رجال الصحيح. وهذا الحديث إنما أشار إليه الترمذي في كتاب الجهاد إشارة لانه قال بعد إخراج حديث البراء المذكور ما لفظه: وفي الباب عن علي والحرث بن حسان وابن عباس ولم يذكر اللفظ الذي ذكره المصنف ونسبه إليه، ولعله ذكره في موضع آخر من جامعه. وحديث البراء قال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة انتهى. وفي إسناده أبو يعقوب الثقفي واسمه إسحاق بن إبراهيم قال ابن عدي الجرجاني: روى عن الثقات ما لا يتابع عليه. وقال أيضا: وأحاديثه غير محفوظة انتهى. وفي الباب عن سلمة في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لاعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فأعطاها عليا. وعن يزيد بن جابر الغفري عند ابن السكن قال: عقد رسول الله صلى الله
[ 60 ]
عليه وآله وسلم رايات الانصار وجعلهن صفرا وعن أنس عند النسائي أن ابن أم مكتوم كانت معه راية سوداء في بعض مشاهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال المنذري: وهو حديث حسن. وقال ابن القطان: صحيح. وعن أبي هريرة عند ابن عد، وعن بريدة عند أبي يعلى. وعن أنس حديث آخر عند أبي يعلى رفعه: أن الله أكرم أمتي بالالوية وإسناده ضعيف. وعن ابن عباس غير ما تقدم عند أبي الشيخ بلفظ: كان مكتوبا على راية النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا إله إلا الله محمد رسول الله وسنده ضعيف أيضا. قوله: خير الصحابة أربعة فيه دليل على أن خير الصحابة أربعة أنفار، وظاهره أن ما دون الاربعة من الصحابة موجود فيها أصل الخير من غير فرق بين السفر والحضر، ولكنه قد أخرج أهل السنن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: الراكب شيطان والراكبان شيطانان والثلاثة ركب وصحح الحاكم وابن خزيمة. وأخرجه أيضا الحاكم من حديث أبي هريرة وصححه. وظاهره أما دون الثلاثة عصاة لان معنى قوله شيطان أي عاص. وقال الطبري: هذا الزجر زجر أدب وإرشاد لما يخشى على الواحد من الوحشة والوحدة وليس بحرام، فالسائر وحده في فلاة وكذا البائت في بيت وحده لا يأمن من الاستيحاش، لا سيما إذا كان ذا فكرة رديئة وقلب ضعيف، والحق أن الناس يتباينون في ذلك، فيحتمل أن يكون الزجع عنه لحسم المادة فلا يتناول ما إذا وقعت الحاجة لذلك. وقيل في تفسير قوله: الراكب شيطان أي سفره وحده يحمله عليه الشيطان أو أشبه الشيطان في فعله. وقيل: إنما كره ذلك لان الواحد لو مات في سفره ذلك لم يجد من يقوم عليه، وكذلك الاثنان إذا ماتا أو أحدهما لم يجد الآخر من يعينه، بخلاف الثلاثة ففي الغالبتؤمن الوحشة والخشية. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر: لو يعلم الناس ما في الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده. وقد ثبت في الصحيح أن الزبير انتدب وحده ليأتي النبي بخبر بني قريظة. قال ابن المنير: السير لمصلحة الحرب أخص من السفر، فيجوز السفر للمنفرد للضرورة والمصلحة التي لا تنتظم إلا بالافراد كإرسال الجاسوس والطليعة، والكراهة لما عدا ذلك. ويحتمل أن تكون حالة الجواز مقيدة بالحاجة عند الامن، وحالة المنع مقيدة بالخوف حيث لا ضرورة. وقد وقع في كتب المغازي بعث جماعة منفردين منهم حذيفة ونعيم بن مسعود وعبد الله بن أنيس وخوات بن جبير وعمرو
[ 61 ]
بن أمية وسالم بن عمير وبسبسة وغيرهم، وعلى هذا فوجود أصل الخير في سائر الاسفار غير سفر الحرب ونحوه إنما هو في الثلاثة دون الواحد والاثنين، والاربعة خير من الثلاثة، كما يدل على ذلك حديث الباب. قوله: وخير الجيوش أربعة آلاف ظاهر هذا أن هذا الجيش خير من غيره من الجيوش، سواء كان أقل منه أو أكثر، ولكن الاكثر إذا بلغ إلى اثني عشر ألفا لم يغلب من قلة وليس بخير من أربعة آلاف وإن كانت تغلب من قلة، كما يدل على ذلك مفهوم العدد. قوله: راية النبي صلى الله عليه وآله وسلم سوداء ولواؤه أبيض اللواء بكسر اللام والمد وهو الراية، ويسمى أيضا العلم، وكان الاصل أن يمسكها رئيس الجيش، ثصارت تحمل على رأسه، كذا في الفتح. وقال أبو بكر بن العربي: اللواء غير الراية، فاللواء ما يعقد في طرف الرمح ويلوي عليه، والراية ما يعقد فيه ويترك حتى تصفقه الرياح، وقيل: اللواء دون الراية، وقيل: اللواء العلم الضخم، والعلم علامة لمحل الامير يدور معه حيث دار، والراية يتولاها صاحب الحرب، وجنح الترمذي إلى التفرقة فترجم الالوية وأورد حديث جابر المتقدم، ثم ترجم الرايات وأورد حديث البراء المتقدم أيضا. قوله: من نمرة هي ثوب حبرة، قال في القاموس: النمرة بالضم النكتة من أي لون كان، والانمر ما فيه نمرة بيضاء وأخرى سوداء، ثم قال: والنمرة الحبرة وشملة فيها خطوط بيض وسود أو بردة من صوف يلبسها الاعراب انتهى. باب ما جاء في تشييع الغازي واستقباله عن سهبن معاذ عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لان أشيع غازيا فأكفيه في رحله غدوة أو روحة أحب إلي من الدنيا وما فيها رواه أحمد وابن ماجة. وعن السائب بن يزيد قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة تبوك خرج الناس يتلقونه من ثنية الوداع قال السائب: فخرجت مع الناس وأنا غلام رواه أبو داود والترمذي وصححه. وللبخاري نحوه. وعن ابن عباس قال: مشى معهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
[ 62 ]
إلى بقيع الغرقد ثم وجههم ثم قال: انطلقوا على اسم الله، وقال: اللهم أعنهم يعني النفر الذين وجههم إلى كعب بن الاشرف رواه أحمد. حديث معاذ في إسناده أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف. وفي إسناده أيضا رجل لم يسم، وقد أخرجه الطبراني. وحديث ابن عباس في إسناده ابن إسحاق وهو مدلس وبقية إسناد رجاله رجال الصحيح. وقد أخرجه أيضا البزار والطبراني. وفي الباب ما في الصحيحين: أن ابن الزبير وابن جعفر وابن عباس لقوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو قادم فحمل اثنين منهم وترك الثالث. وأخرج البخاري عن ابن عباس قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة استقبله أغيلمة لبني عبد المطلب فحمل واحدا بين يديه وآخر خلفه. وأخرج أحمد والنسائي عن عبد الله بن جعفر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حمله خلفه وحمل قتم بن عباس بين يديه. قوله: أشيع غازيا التشييع الخروج مع المسافر لتوديعه، يقال: شيع فلانا خرج معه ليودعه ويبلغه منزله. قوله: أحب إلي من الدنيا وما فيها قد تقدم الكلام على مثل هذه العبارة في أول كتاب الجهاد. (وفي هذا الحديث) الترغيب في تشييع الغازي وإعانته على بعض ما يحتاج إلى القيام بمؤنته، لان الجهاد من أفضل العبادات، والمشاركة في مقدماته من أفضل المشاركات. قوله: من ثنية الوداع. قال في القاموس: الثنية العقبة أو طريقها أو الجبل أو الطريق فيه أو إليه انتهى. قال في القاموس أيضا: وثنية الوداع بالمدينة سميت لان من سافر إلى مكة كان يودع ثم ويشيع إليها انتهى. قوله: بقيع الغرقد قد تقدم ضبطه وتفسيره، وفي الحديث دليل على مشروعية تلقي الغازي إلى خارج البلد لما في الاتصال به من البركة والتيمن بطلعته، فإنه في تلك الحال ممن حرمه الله على النار كما تقدم، ولما في ذلك من التأنيس له والتطييب لخاطره والترغيب لمن كان قاعدا في الغزو. قوله: وقال اللهم أعنهم فيه استحباب الدعاء للغزاة وطلب الاعانة من الله لهم، فإن من كان ملحوظا بعين العناية الربانية ومحوطا بالاعانة الالهية ظفر بمراده.
[ 63 ]
باب استصحاب النساء لمصلحة المرضى والجرحى والخدمة عن الربيع بنت معوذ قالت: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نسقي القوم ونخدمهم ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة رواه أحمد والبخاري. وعن أم عطية الانصاري قالت: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبع غزوات أخلفهم في رحالهم وأصنع لهم الطعام وأداوي الجرحى وأقوم على الزمنى رواه أحمد ومسلم وابن ماجة. وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغزو بأم سليم ونسوة معها من الانصار يسقين الماء ويداوين الجرحى رواه مسلم والترمذي وصححه. [ رح 3290 ] وعن عائشة أنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور رواه أحمد والبخاري. قوله: عن الربيع بالتشديد وأبوها معوذ بالتشديد للواو وبعدها ذال معجمة. قوله: كنا نغزو الخ، جعلت الاعانة للغزاة غزوا، ويمكن أن يقال: إنهن ما أتين لسقي الجرحى ونحو ذلك إلا وهن عازمات على المدافعة عن أنفسهن، وقد وقع في صحيح مسلم عن أنس أن أم سليم اتخذت خنجرا يوم حنين فقالت: اتخذته إن دنا مني أحد من المشركين بقرت بطنه، ولهذا بوب البخاري باب غزو النساء وقتالهن. قوله: وأداوي الجرحى فيه دليل على أنه يجوز للمرأة الاجنبية معالجة الرجل الاجنبي للضرورة. قال ابن بطال: ويختص ذلك بذوات المحارم، وإن دعت الضرورة فليكن بغير مباشرة ولا مس، ويدل على ذلك اتفاقهم على أن المرأة إذا ما ماتت ولم توجد امرأة تغسلها أن الرجل لا يباشر غسلها بالمس بل يغسلها من وراء حائل في قول بعضهم كالزهري وفي قول الاكثر تيمم. وقال الاوزاعي: تدفن كماهي. قال ابن المنير: الفرق بين حال المداواة وغسل الميت أن الغسل عبادة والمداواة ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات اه. وهكذا يكون حال المرأة في رد القتلى والجرحى فلا تباشر بالمس مع إمكان ما هو دونه. وحديث عائشة قد تقدم في أول كتاب الحج. قال ابن بطال: دل حديث عائشة على أن الجهاد غير
[ 64 ]
واجب على النساء، ولكن ليس في قوله أفضل الجهاد حج مبرور، وفي رواية البخاري: جهاد كالحج، ما يدل على أنه ليس لهن أن يتطوعن بالجهاد، وإنما لم يكن واجبا لما فيه من مغايرة المطلوب منهم من الستر ومجانبة الرجال، فلذلك كان الحج أفضل لهن من الجهاد. باب الاوقات التي يستحب فيها الخروج إلى الغزو والنهوض إلى القتال عن كعب بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج في يوم الخميس في غزوة تبوك، وكان يحب أن يخرج يوم الخميس متفق عليه. وعن صخر الغامدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم بارك لامتي في بكورها، قال: فكان إذا بعث سرية أو جيشا بعثهم من أول النهار، وكان صخر رجلا تاجرا وكان يبعث تجارته من أول النهار فأثرى وكثر ماله رواه الخمسة إلا النسائي. وعن النعمان بن مقرن: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر رواه أحمد وأبو داود وصححه والبخاري وقال: انتظر حتى تهب الارواح وتحضر الصلوات. وعن ابن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحب أن ينهض إلى عدوه عند زواالشمس رواه أحمد. حديث صخر حسنه الترمذي وقال: لا نعرف له غير هذا الحديث اه. وفي إسناده عمارة بن حديد سئل عنه أبو حاتم الرازي فقال: مجهول، وسئل عنه أبو زرعة الرازي فقال: لا يعرف. وقال أبو علي بن السكن: إنه مجهول لم يرو عنه غير يعلى بن عطاء الطائفي، وذكر أنه روي من حديث مالك مرسلا. وقال النمري: هو مجهول لم يرو عنه غير يعلى الطائفي. وقال أبو القاسم البغوي وابن عبد البر: أنه ليس لصخر غير هذا الحديث. وذكر بعضهم أنه قد روى حديثا آخر وهو قوله: لاتسبوا الاموات فتؤذوا الاحياء وقد تقدم في الجنائز. وأخرج حديث صخر بن حبان، قال ابن طاهر في تخريج أحاديث الشهاب: هذا الحديث رواه جماعة من الصحابة ولم يخرج شيئا منها في الصحيحين. وأقر بها إلى الصحة والشهرة
[ 65 ]
هذا الحديث. وذكره عبد القادر الرهاوي في أربعينيته من حديث علي والعبادلة وابن مسعود وجابر وعمران بن حصين وأبي هريرة وعبد الله بن سلام وسهل بن سعد وأبي رافع وعبادة بن وثيمة وأبي بكرة وبريدة بن الحصيب. وحديث بريدة صححه ابن السكن ورواه ابن منده في مستخرجه عن واثلة بن الاسقع ونبيط بن شريط. وزاد ابن الجوزي في العلل المتناهية عن أبي ذر وكعب بن مالك وأنس والعريض بن عميرة وعائشة وقال: لا يثبت منها شئ وضعها كلها. وقد قال أبو حاتم: لا أعلم في: اللهم بارك لامتي في بكورها حديثا صحيحا. وحديث ابن أبي أوفى المذكور في الباب أخرجه أيضا سعيد بن منصور والطبراني وضعف إسناده في مجمع الزوائد. قوله: كان يحب أن يخرج يوم الخميس قال في الفتح: لعل سببه ما روي من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: بورك لامتي في بكورها يوم الخميس وهو حديث ضعيف أخرجه الطبراني من حديث نبيط بنون وموحدة مصغرا ابن شريط بفتح الشين المعجمة قال: وكونه صلى الله عليه وآله وسلم كان يحب الخروج يوم الخميس لا يستلزم المواظبة عليه لقيام مانع منه. وقد ثبت أنه صلى الله عليه وآله وسلم خرج لحجة الوداع يوم السبت كما تقدم في الحج اه. وقد أخرج حديث نبيط المذكور البزار من حديث ابن عباس وأنس. وفي حديث ابن عباس عنبسة بن عبد الرحمن وهو كذاب. وفي حديث أنس عمرو بن مساور وهو ضعيف وروي بلفظ: اللهم بارك لامتي في بكورها يوم سبتها ويوم خميسها. وسئل أبو زرعة عن هذه الزيادة فقال: هي مفتعلة. وحديث صخر المذكور فيه مشروعية التبكير من غير تقييد بيوم مخصوص، سواء كان ذلك في سفر جهاد أو حج أو تجارة أو في الخروج إلى عمل من الاعمال ولو في الحضر. قوله: حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر ظاهر هذا أن التأخير ليدخل وقت الصلاة لكونه مظنة الاجابة وهبوب الريح قد وقع النصر به في الاحزاب فصار مظنة لذلك، ويدل على ذلك ما أخرجه الترمذي من حديث النعمان بن مقرن من وجه آخر غير الوجه الذي روي منه حديثه المذكور في الباب ولفظه قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان إذا طلع الفجر أمسك حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قاتل، فإذا انتصف النهار أمسك حتى تزول الشمس فإذا زالت قاتل، فإذا دخل
[ 66 ]
وقت العصر أمسك حتى يصليها ثم يقاتل. وكان يقال عند ذلك تهيج رياح النصر وتدعو المؤمنين لجيوشهم في صلاتهم قال في الفتح: لكن فيه انقطاع. باب ترتيب الصفوف وجعل سيما وشعار يعرف وكراهة رفع الصوت عن أبي أيوب قال: صففنا يوم بدر فبدرت منا بادرة أمام الصف فنظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: معي معي. وعن عمار بن ياسر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يستحب للرجل أن يقاتل تحت راية قومه رواهما أحمد. وعن المهلب بن أبي صفرة عمن سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن بيتكم العدو فقولوا: حم لا ينصرون رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وعن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنكم ستلقون العدو غدا فإن شعاركم حم لا ينصرون رواه أحمد. وعن سلمة بن الاكوع قال: غزونا مع أبي بكر زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان شعارنا: أمت أمت رواه أحمد وأبو داود. وعن الحسن عن قيس بن عباد قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكرهون الصوت عند القتال. وعن أبي بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمثل ذلك، رواهما أبو داود. حديث أبي أيوب قال في مجمع الزوائد: في إسناده ابن لهيعة وفيه ضعف، والصحيح أن أبا أيوب لم يشهد بدرا اه. وحديث عمار قال في مجمع الزوائد: إسناده منقطع، قال: وأخرجه أبو يعلى والبزار والطبراني وفي إسناده إسحاق بن أبي إسحاق الشيباني ولم يضعفه أحد وبقية رجاله ثقات اه. وقد أخرج نحو حديث أبي أيوب الترمذي من حديث عبد الرحمن بن عوف والبزار من طريق عكرمة عن ابن عباس عنه قال: عبانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عند البخاري من حديث مروان والمسور في قصة الفتح وقصة أبي سفيان، قال: ثم مرت كتيبة لم ير مثلها فقال: من هؤلاء؟ قيل له: الانصار
[ 67 ]
عليهم سعد بن عبادة ومعه الراية، وفيه: وجاءت كتيبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورايته مع الزبير الحديث بطوله، وهو شاهد لحديث عمار بن ياسر المذكور. وأخرج البخاري وأبو داود من حديث حمزة بن أبي أسيد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين اصطففنا يوم بدر: إذا أكثبوكم يعني إذا غشوكم فارموهم بالنبل واستبقوا نبلكم. وحديث المهلب ذكر الترمذي أنه روي عن المهلب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا، وأخرجه الحاكم موصولا وقال: صحيح، قال: والرجل الذي لم يسمه المهلب هو البراء. ورواه النسائي من هذا الوجه بلفظ: حدثني رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحديث البراء أخرجه أيضا النسائي والحاكم. وحديث سلمة بن الاكوع أخرجه النسائي وابن ماجة وسكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص. وأخرجه الحاكم من حديث عائشة: جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شعار المهاجرين يوم بدر عبد الرحمن والخزرج عبد الله الحديث. وأخرج أيضا عن ابن عباس رفعه: جعل الشعار للازد يا مبرور يا مبرور. وفي الباب عن سمرة بن جندب عند أبي داود قال: كان شعار المهاجرين عبد الله وشعار الانصار عبد الرحمن وهو من رواية الحسن عنه، وفي سماعه منه خلاف قد مر غير مرة، وفي إسناده الحجاج بن أرطأة ولا يحتج بحديثه. وحديث قيس بن عباد وأبي بردة سكت عنهما أبو داود والمنذري ورجالهما رجال الصحيح. قوله: صففنا يوم بدر الخ، فيه دليل على مشروعية الاصطفاف حال القتال لما في ذلك من الترهيب على العدو والتقوية للجيش، ولكونه محبوبا لله تعالى، قال عزوجل: * (إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص) * (الصف: 4). قوله: أن يقاتل تحت راية قومه إنما كان ذلك مشروعا لما يتكلفه الانسان من إظهاره القوة والجلادة إذا كان بمرأى من قومه ومسمع، بخلاف ما إذا كان في غير قومه فإنه لا يفعل كفعله بين قومه لما جبلت عليه النفوس من محبة ظهور المحاسن بين العشيرة وكراهة ظهور المساوئ بينهم، ولهذا أفرد صلى الله عليه وآله وسلم كل قبيلة من القبائل التي غزت معه غزوة الفتح بأميرها ورايتها كما يحكي ذلك كتب الحديث والسير. قوله: حم لا ينصرون هذا اللفظ فيه التفاؤل بعدم انتصار الخصم مع حصول الغرض بالشعار وهو العلامة في الحرب، يقال: نادوا بشعارهم أو جعلوا لانفسهم شعارا، والمراد أنهم جعلوا العلامة بينهم لمعرفة بعضهم بعضا في ظلمة
[ 68 ]
الليل هو التكلم عند أن يهجم عليهم العدو بهذا اللفظ. قوله: أمت أمت أمر بالموت وفيه التفاؤل بموت الخصم. وفي لفظ: يا منصور أمت أمت وفي آخر: يا منص وهو ترخيم منصور محذوف الراء والواو. قوله: يكرهون الصوت عند القتال فيه دليل على أن رفع الصوت حال القتال وكثرة اللغط والصراخ مكروهة ولعل وجه كراهتهم لذلك أن التصويت في ذلك الوقت ربما كان مشعرا بالفزع والفشل بخلاف الصمت فإنه دليل الثبات ورباط الجأش. باب استحباب الخيلاء في الحرب عن جابر بن عتيك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن من الغيرة ما يحب الله، ومن الغيرة ما يبغض الله، وإن من الخيلاء ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله، فأما الغيرة التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغض الله فالغيرة في غير الريبة، والخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل بنفسه عند القتال واختياله عند الصدقة، والخيلاء التي يبغض الله فاختيال الرجل في الفخر والبغي رواه أحمد وأبو داود والنسائي. الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده عبد الرحمن بن جابر بن عتيك وهو مجهول، وقد صحح الحديث الحاكم. قوله: فالغيرة في الريبة نحو أن يغتار الرجل على محارمه إذا رأى منهم فعلا محرما، فإن الغيرة في ذلك ونحوه مما يحبه الله، وفي الحديث الصحيح: ما أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الزنا. وأما الغيرة في غير الريبة فنحو أن يغتار الرجل على أمه أن ينكحها زوجها وكذلك سائر محارمه، فإن هذا مما يبغضه الله تعالى، لان ما أحله الله تعالى فالواجب علينا الرضا به، فإن لم نرض به كان ذلك من إيثار حمية الجاهلية على ما شرعه الله لنا. واختيال الرجل بنفسه عند القتال من الخيلاء الذي يحبه الله لما في ذلك من الترهيب لاعداء الله والتنشيط لاوليائه، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم لابي دجانة لما رآه يختال عند القتال: إن هذه مشية يبغضها الله ورسوله إلا في هذا الموطن. وكذلك الاختيال عند الصدقة فإنه ربما
[ 69 ]
كان من أسباب الاستكثار منها والرغوب فيها. وأما اختيال الرجل في الفخر فنحو أن يذكر ما له من الحسب والنسب وكثرة المال والجاه والشجاعة والكرم لمجرد الافتخار ثم يحصل منه الاختيال عند ذلك، فإن هذا الاختيال مما يبغضه الله تعالى، لان الافتخار في الاصل مذموم والاختيال مذموم، فينضم قبيح إلى قبيح، وكذلك الاختيال في البغي نحو أن يذكر الرجل أنه قتل فلانا وأخذ ماله ظلما، أو يصدر منه الاختيال حال البغي على مال الرجل أو نفسه، فإن هذا يبغضه الله، لان فيه انضمام قبيح إلى قبيح كما سلف. باب الكف وقت الاغارة عمن عنده شعار الاسلام عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا غزا قوما لم يغز حتى يصبح، فإذا سمع أذانا أمسك وإذا لم يسمع أذانا أغار بعدما يصبح رواه أحمد والبخاري. وفي رواية: كان يغير إذا طلع الفجر وكان يستمع الاذان، فإذا سمع أذانا أمسك وإلا أغار، وسمع رجلا يقول: الله أكبر الله أكبر فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الفطرة، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله فقال: خرجت من النار رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه. وعن عصام المزني قال: كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث السرية يقول: إذا رأيتم مسجدا أو سمعتمناديا فلا تقتلوا أحدا رواه الخمسة إلا النسائي. حديث عصام قال الترمذي بعد إخراجه: هذا حديث حسن غريب وهو من رواية ابن عصام عن أبيه قيل اسمه عبد الله. وقيل اسمه عبد الرحمن، قال في التقريب: لا يعرف. قوله: وإذا لم يسمع أذاناأغار فيه دليل على جواز قتال من بلغته الدعوة بغير دعوة، ويجمع بينه وبين متقدم في باب الدعوة قبل القتال بأن يقال: الدعوة مستحبة لا شرط، هكذا في الفتح. وقد قدمنا الخلاف في ذلك، وما ذكره الامام المهدي من أن وجوب تقديم الدعوة مجمع عليه والاعتراض عليه، وفي هذا الحديث الذي بعده دليل على جواز الحكم بالدليل لكونه صلى الله عليه وآله وسلم كف عن القتال
[ 70 ]
بمجرد سماع الاذان، وفيه الاخذ بالاحوط في أمر الدماء لانه كف عنهم في تلك الحال، مع احتمال أن لا يكون ذلك على الحقيقة. قوله: على الفطرة فيه أن التكبير من الامور المختصة بأهل الاسلام، وأنه يصح الاستدلال به على إسلام أهل قرية سمع منهم ذلك. قوله: خرجت من النار هو نحو الادلة القاضية بأن من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، وهي مطلقة مقيدة بعدم المانع جمعا بين الادلة، وللكلام على ذلك موضع آخر. قوله: إذا رأيتم مسجدا فيه دليل على أن مجرد وجود المسجد في البلد كاف في الاستدلال به على إسلام أهله وإن لم يسمع منهم الاذان، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمسراياه بالاكتفاء بأحد الامرين: إما وجود مسجد، أو سماع الاذان. باب جواز تبييت الكفار ورميهم بالمنجنيق وإن أدى إلى قتل ذراريهم تبعا عن الصعب بن جثامة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن أهل الدار من المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم ثم قال: هم منهم رواه الجماعة إلا النسائي. وزاد أبو داود: وقال الزهري: ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل النساء والصبيان. وعن ثور بن يزيد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نصب المنجنيق على أهل الطائف أخرجه الترمذي هكذا مرسلا. وعن سلمة بن الاكوع قال: بيتنا هوازن مع أبي بكر الصديق وكان أمره علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد. الزيادة التي زادها أبو داود عن الزهري أخرجها الاسماعيلي من طريق جعفر الفريابي عن علي بن المديني عن سفيان بلفظ: وكان الزهري إذا حدث بهذا الحديث قال: وأخبرني ابن كعب بن مالك عن عمه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما بعث إلى ابن أبي الحقيق نهى عن قتل النساء والصبيان وأخرجه أيضا ابن حبان مرسلا كأبي داود، قال في الفتح: وكأن الزهري أشار بذلك إلى نسخ حديث الصعب. وحديث ثور بن يزيد أخرجه أيضا أبو داود في المراسيل من طريق مكحول عنه. وأخرجه أيضا الواقدي
[ 71 ]
في السيرة وزعم أن الذي أشار به سلمان الفارسي، وقد أنكر ذلك يحيى بن أبي كثير وإنكاره ليس بقادح فإن من علم حجة على من لم يعلم. وحديث سلمة أخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن ماجة، وهو طرف من الحديث الذي تقدم في باب ترتيب الصفوف. قوله: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل السائل هو الصعب بن جثامة الراوي للحديث، كما يدل على ذلك ما في صحيح ابن حبان من طريق محمد بن عمرو عن الزهري بسنده عن الصعب قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أولاد المشركين أتقتلهم معهم؟ قال: نعم. قوله: عن أهل الدار أي المنزل هكذا في البخاري وغيره. ووقع في بعض نسخ مسلم: سئل عن الذراري قال عياض: الاول هو الصواب، ووجه النووي الثاني. قوله: هم منهم أي في الحكم في تلك الحالة، وليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم، بل المراد إذا لم يمكن الوصول إلى المشركين إلا بوطئ الذرية فإذا أصيبوا لاختلاطهم بهم جاز قتلهم، وسيأتي الخلاف في ذلك في الباب الذي بعد هذا، وقد تقدمت الاشارة إليه. قوله: ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخ، استدل به من قال: إنه لا يجوز قتلهم مطلقا. وسيأتي قوله: بيتنا هوازن البيات هو الغارة بالليل. (وفي الحديث) دليل على أنه يجوز تبييت الكفار، قال الترمذي: وقد رخص قوم من أهل العلم في الغارة بالليل وأن يبيتوا، وكرهه بعضهم، قال أحمد وإسحاق: لا بأس أن يبيت العدو ليلا. باب الكف عن قصد النساء والصبيان والرهبان والشيخ الفاني بالقتل عن ابن عمر قال: وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل النساء والصبيان رواه الجماعة إلا النسائي. وعن رياح بن ربيع: أنه خرج مع رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة غزاها وعلى مقدمته خالد بن الوليد، فمر رياح وأصحاب
[ 72 ]
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة، فوقفوا ينظرون إليها يعني وهم يتعجبون من خلقها حتى لحقهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على راحلته فأفرجوا عنها، فوقف عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ما كانت هذه لتقاتل، فقال لاحدهم: الحق خالدا فقل له لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا رواه أحمد وأبو داود. وعن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: انطلقوا باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا صغيرا، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين رواه أبو داود. وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث جيوشه قال: اخرجوا باسم الله تعالى تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع. وعن ابن كعب بن مالك عن عمه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين بعث إلى ابن أبي الحقيق بخيبر نهى عن قتل النساء والصبيان. وعن الاسود بن سريع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تقتلوا الذرية في الحرب، فقالوا: يا رسول الله أو ليس هم أولاد المشركين؟ قال: أو ليس خياركم أولاد المشركين؟ رواهن أحمد. حديث رياح بكسر الراء المهملة وبعدها تحتانية هكذا في الفتح. وقال المنذري بالباء الموحدة، ويقال بالياء التحتانية، ورجح البخاري أنه بالموحدة، أخرجه أيضا النسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم والبيهقي واختلف فيه على المرقع بن صيفي، فقيل: عن جده رياح، وقيل: عن حنظلة بن الربيع، وذكر البخاري وأبو حاتم أن الاول أصح. وحديث أنس في إسناده خالد بن الفزر بكسر الفاء وسكون الزاي وبعدها راء مهملة، وحديث ابن عباس في إسناده إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة وهو ضعيف ووثقه أحمد. وحديث ابن كعب بن مالك أخرجه أيضا الاسماعيلي في مستخرجه، وأخرجه أبو داود وابن حبان من حديث الزهري مرسلا كما تقدم، وقال في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح. وحديث الاسود بن سريع قال في مجمع الزوائد أيضا: ورجال أحمد رجال الصحيح. (وفي الباب) عن علي عند
[ 73 ]
البيهقي بنحو حديث ابن عباس المذكور. وعن جرير عند ابن أبي حاتم في العلل. وعن سمرة عند أحمد والترمذي وصححه بلفظ: اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم وأحاديث الباب تدل على أنه لا يجوز قتل النساء والصبيان، وإلى ذلك ذهب مالك والاوزاعي، فلا يجوز ذلك عندهما بحال من الاحوال، حتى لو تترس أهل الحرب بالنساء والصبيان، أو تحصنوا بحصن أو سفينة وجعلوا معهم النساء والصبيان لم يجز رميهم ولا تحريقهم. وذهب الشافعي والكوفيون إلى الجمع بين الاحاديث المذكورة فقالوا: إذا قاتلت المرأة جاز قتلها. وقال ابن حبيب من المالكية: لا يجوز القصد إلى قتلها إذا قاتلت إلا إن باشرت القتل أو قصدت إليه، ويدل على هذا ما رواه أبو داود في المراسيل عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بامرأة مقتولة يوم حنين فقال: من قتل هذه؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله غنمتها فأردفتها خلفي فلما رأت الهزيمة فينا أهوت إلى قائم سيفي لتقتلني فقتلتها فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووصله الطبراني في الكبير وفيه حجاج بن أرطأة. وأرسله ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن يحيى الانصاري. ونقل ابن بطال أنه اتفق الجميع على المنع من القصد إلى قتل النساء والولدان، أما النساء فلضعفهن، وأما الولدان فلقصورهم عن فعل الكفار، ولما في استبقائهم جميعا من الانتفاع إما بالرق أو بالفداء فيمن يجوز أن يفادى به. قال في الفتح: وقد حكى الحازمي قولا بجواز قتل النساء والصبيان على ظاهر حديث الصعب وزعم أنه ناسخ لاحاديث النهي وهو غريب. قوله: ولا عسيفا بمهملتين وفاء كأجير وزنا ومعنى، وفيه دليل على أنه لا يجوز قتل من كان مع القوم أجيرا ونحوه لانه من المستضعفين. قوله: لا تقتلوا شيخا فانيا ظاهره أنه لا يجوز قتل شيوخ المشركين، ويعارضه حديث: اقتلوا شيوخ المشركين الذي ذكرناه. وقد جمع بين الحديثين بأن الشيخ المنهي عن قتله في الحديث الاول هو الفاني الذي لم يبق فيه نفع للكفار ولا مضرة على المسلمين، وقد وقع التصريح بهذا الوصف بقوله شيخا فانيا. والشيخ المأمور بقتله في الحديث الثاني هو من بقي فيه نفع للكفار ولو بالرأي كما في دريد بن الصمة فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما فرغ من حنين بعث أبا عامر على جيش أوطاس فلقي دريد ابن الصمة وقد كان نيف على المائة
[ 74 ]
وقد أحضروه ليدبر لهم الحرب فقتله أبو عامر ولم ينكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك عليه كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أبي موسى والقصة معروفة. قال أحمد بن حنبل في تعليل أمره صلى الله عليه وآله وسلم بقتل الشيوخ: الشيخ لا يكاد يسلم والصغير أقرب إلى الاسلام. قوله: ولا تغلوا سيأتي الكلام على تحريم الغلول والغدر والمثلة. قوله: وضموا غنائمكم أي اجمعوها. قوله: ولا أصحاب الصوامع فيه دليل على أنه لا يجوز قتل من كان متخليا للعبادة من الكفار كالرهبان لاعراضه عن ضر المسلمين، والحديث وإن كان فيه المقال المتقدم لكنه معتضد بالقياس على الصبيان والنساء بجامع عدم النفع والضرر وهو المناط، ولهذا لم ينكر صلى الله عليه وآله وسلم على قاتل المرأة التي أرادت قتله، ويقاس على المنصوص عليهم بذلك الجامع من كان مقعدا أو أعمى أو نحوهما ممن كان لا يرجى نفعه ولا ضره على الدوام. باب الكف عن المثلة والتحريق وقطع الشجر وهدم العمران إلا لحاجة ومصلحة عن صفوان بن عسال قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سرية فقال: سيروا باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تمثلوا ولا تغدروا ولا تقتلوا وليدا رواه أحمد وابن ماجة. وعن أبي هريرة قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعث فقال: إن وجدتم فلانا وفلانا لرجلين فأحرقوهما بالنار، ثم قال حين أردنا الخروج: إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا وإن النار لا يعذب بها إلا الله فإن وجدتموهما فاقتلوهما رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وصححه. وعن يحيى بن سعيد: أن أبا بكر بعث جيوشا إلى الشام فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان، وكان يزيد أمير ربع من تلك الارباع فقال: إني موصيك بعشر خلال: لا تقتل امرأة ولا صبيا ولا كبيرا هرما، ولا تقطع شجرا مثمرا، ولا تخرب عامرا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرا إلا لمأكله، ولا تعقرن نخلا ولا تحرقه، ولا تغلل، ولا تخبن رواه مالك في الموطأ عنه.
[ 75 ]
حديث صفوان بن عسال قال ابن ماجة: حدثنا الحسن بن علي الخلال، حدثنا أبو أسامة قال: حدثني عطية بن الحرث بن روق الهمداني قال: حدثني أبو العريف عبد الله بن خليفة عن صفوان فذكره، وعطية صدوق وعبد الله بن خليفة ثقة، وأخرجه أيضا النسائي. وهذا الحديث همثل حديث ابن عباس المتقدم في الباب الاول، وجميع ما اشتمل عليه قد تقدم أيضا في حديث بريدة المتقدم في باب الدعوة قبل القتال. وأثر يحيى بن سعيد المذكور مرسل لانه لم يدرك زمن أبي بكر. ورواه البيهقي من حديث يونس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب. ورواه سيف في الفتوح عن الحسن بن أبي الحسن مرسلا. قوله: ولا تمثلوا فيه دليل على تحريم المثلة، وقد وردت في ذلك أحاديث كثيرة قد سبق في هذا المشروح وشرحه بعض منها. قوله: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخ، زاد الترمذي: أن هذين الرجلين من قريش. وفي رواية لابي داود: إن وجدتم فلانا فاحرقوه بالنار هكذا بالافراد. وروي في فوائد علي بن حرب عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح أن اسمه هبار بن الاسود. ووقع في رواية ابن إسحاق: إن وجدتم هبار بن الاسود والرجل الذي سبق منه إلى زينب ما سبق فحرقوهما بالنار يعني زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان زوجها أبو العاص بن الربيع لما أسره الصحابة ثم أطلقه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المدينة شرط عليه أن يجهز إليه ابنته زينب فجهزها فتبعها هبار بن الاسود ورفيقه فنخسا بعيرها فأسقطت ومرضت من ذلك، والقصة مشهورة عن ابن إسحاق وغيره. وقال في روايته: وكان نخسا بزينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين خرجت من مكة. وقد أخرجه سعيد بن منصور عن ابن عيينة عن أبي ابن نجيح أن هبار بن الاسود أصاب زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشئ في خدرها فأسقطت فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية فقال: إن وجدتموه فاجعلوه بين حرمتي حطب ثم أشعلوا فيه النار، ثم قال: لا نستحي من الله لا ينبغي لاحد أن يعذب بعذاب الله الحديث. فكأن إفراد هبار بالذكر في الرواية السابقة لكونه كان الاصل في ذلك والآخر كان تبعا له. وسمى ابن السكن في روايته من طريق ابن إسحاق الرجل الآخر نافع بن عبد قيس، وبه جزم ابن هشام في رواية السيرة عنه. وحكى السهيلي عن مسند البزار أنه خالد بن عبد قيس فلعله تصحف عليه وإنما هو نافع كذلك هو في النسخ المعتمدة من مسند البزار،
[ 76 ]
وكذلك أورده ابن السكن أولا من مسند البزار، وأخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في تاريخه من طريق ابن لهيعة كذلك، قال الحافظ: وقد أسلم هبار هذا، ففي رواية ابن أبي نجيح المذكورة: فلم تصبه السرية وأصابه الاسلام فهاجر فذكر قصة إسلامه، وله حديث عند الطبراني وآخر عند ابن منده، وعاش إلى أيام معاوية، وهو بفتح الهاء وتشديد الباء الموحدة، قال الحافظ أيضا: ولم أقف لرفيقه على ذكر في الصحابة، فلعله مات قبل أن يسلم. قوله: وإن النار لا يعذب بها إلا الله هو خبر بمعنى النهي، وقد اختلف السلف في التحريق، فكره ذلك عمر وابن عباس وغيرهما مطلقا، سواء كان في سبب كفر أوفي حال مقاتلة أو في قصاص، وأجازه علي وخالد بن الوليد وغيرهما. قال المهلب: ليس هذا النهي على التحريم بل على سبيل التواضع، ويدل على جواز التحريق فعل الصحابة، وقد سمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعين العرنيين بالحديد كما تقدم، وقد أحرق أبو بكر بالنار في حضرة الصحابة. وحرق خالد بن الوليد ناسا من أهل الردة، وكذلك حرق علي كما تقدم في كتاب الحدود. قوله: ولا تعقرن بالعين المهملة والقاف والراء في كثير من النسخ، وفي نسخ: ولا تعزقن بالعين المهملة والزاي المكسورة والقاف ونون التوكيد. قال في النهاية: هو القطع، وظاهر النهي في حديث الباب التحريم وهو نسخ للامر المتقدم سواء كان بوحي إليه أو اجتهاد، وهو محمول على من قصد إلى ذلك في شخص بعينه. وعن جرير بن عبد الله قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا تريحني من ذي الخلصة؟ قال: فانطلقت في خمسين ومائة فارس من أحمس وكانوا أصحاب خيل، وكان ذو الخلصة بيتا في اليمن لخثعم وبجيلة فيه نصب يعبد يقال له كعبة اليمانية، قال: فأتاها فحرقها بالنار وكسرها ثم بعث رجلا من أحمس يكنى أبا أرطأة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبشره بذلك، فلما أتاه قال: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما جئت حتى تركتها كأنها جمل أجرب، قال: فبرك النبي صلى الله عليه وآله وسلم على خيل أخمس ورجالها خمس مرات متفق عليه. وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطع نخل بني النضير وحرق، ولها يقول حسان: [ شع ] وهان على سراة بني لؤيحريق بالبويرة مستطير
[ 77 ]
[ / شع ] وفي ذلك نزلت: * (ما قطعتم من لينة أو تركتموها) * (الحشر: 5) الآية متفق عليه، ولم يذكر أحمد الشعر. وعن أسامة بن زيد قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قرية يقال لها أبنى فقال: ائتها صباحا ثم حرق رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وفي إسناده صالح بن أبي الاخضر قال البخاري: هو لين. حديث أسامة بن زيد سكت عنه أبو داود والمنذري وفي إسناده من ذكره المصنف. وقال يحيى بن معين: هو ضعيف. وقال أحمد: يعتبر به. وقال العجلي: يكتب حديثه وليس بالقوي. وقال في التقريب: ضعيف. قوله: ذي الخلصة بفتح المعجمة واللام والمهملة وحكي بتسكين اللام، قال في القاموس: وذو الخلصة محركة وبضمتين بيت كان يدعى الكعبة اليمانية لخثعم كان فيه صنم اسمه الخلصة، أو لانه كان منبت الخلصة انتهى. وهي نبات له حب أحمر. قوله: من أحمس بالمهملتين على وزن أحمد، قال في القاموس: الحمس الامكنة الصلبة جمع أحمس وبه لقب قريش وكنانة وجديلة ومن تابعهم في الجاهلية لتحمسهم في دينهم أو لالتجائهم بالحمساء وهي الكعبة لان حجرها أبيض إلى السواد، والحماسة الشجاعة، والاحمس الشجاع كالحميس كذا في القاموس. وفي الفتح هم رهط ينسبون إلى أحمس بن الغوث بن أنمار، قال: وفي العرب قبيلة أخرى يقال لها أحمس ليست مرادة هنا ينسبون إلى أحمس بن ضبيعة بن ربيعة بن نزار. قوله: نصب بضم النون والصاد أي صنم. قوله: كعبة اليمانية أي كعبة الجهة اليمانية. قوله: فبرك بفتح الموحدة وتشديد الراء أي دعا لهم بالبركة. قوله: كأنها جمل أجرب بالجيم والموحدة وهو كناية عن نزع زينتها وإذهاب بهجتها. وقال الحافظ: أحسب المراد أنها صارت مثل الجمل المطلي بالقطران من جربه، أشار إلى أنها صارت سوداء لما وقع فيها من التحريق. قوله: سراة بفتح المهملة وتخفيف الراء جمع سرى وهو الرئيس. قوله: بني لؤي بضم اللام وفتح الهمزة وهو أحد أجداد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبنوهم قريش، وأراد حسان تعيير مشركي قريش بما وقع في حلفائهم من بني النضير. قوله: بالبويرة بالباء الموحدة تصغير بورة وهي الحفرة وهي هنا مكان معروف بين الحديبية وتيماء وهي من جهة قبلة مسجد قباء إلى جهة الغرب، ويقال لها أيضا البويلة باللام بدل الراء. قوله: من لينة قال السهيلي في تخصيص اللينة بالذكر إيماء إلى أن الذي يجوز قطعه من شجر العدو هو ما لا يكون معدا للاقتيات لانهم
[ 78 ]
كانوا يقتاتون العجوة والبرني دون اللينة، وكذا ترجم البخاري في التفسير فقال: ما قطعتم من لينة نخلة ما لم تكن برنية أو عجوة. وقيل: اللينة الدقل. وفي معالم التنزيل: اللينة فعلة من اللون وتجمع على ألوان، وقيل: من اللين ومعناه النخلة الكريمة وجمعها ليان. وقال في القاموس: إنها الدقل من النخل. قوله: يقال لها أبنى بضم الهمزة والقصر ذكره في النهاية. وحكى أبو داود أن أبا مسهر قيل له أبنى فقال: نحن أعلم هي يبنا فلسطين، والاحاديث المذكورة فيها دليل على جواز التحريق في بلاد العدو. قال في الفتح: ذهب الجمهور إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد العدو، وكرهه الاوزاعي والليث وأبو ثور واحتجوا بوصية أبي بكر لجيوشه أن لا يفعلوا شيئا من ذلك وقد تقدمت في أول الباب. وأجاب الطبري بأن النهي محمول على القصد لذلك، بخلاف ما إذا أصابوا ذلك في حال القتال، كما وقع في نصب المنجنيق على الطائف، وهو نحو مما أجاب به في النهي عن قتل النساء والصبيان، وبهذا قال أكثر أهل العلم، وقال غيره: إنما نهى أبو بكر عن ذلك، لانه قد علم أن تلك البلاد تفتح فأراد بقاءها على المسلمين انتهى. ولا يخفى أن ما وقع من أبي بكر لا يصلح لمعارضة ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما تقرر من عدم حجية قول الصحابي. باب تحريم الفرار من الزحف إذا لم يزد العدو على ضعف المسلمين إلا المتحيز إلى فئة وإن بعدت عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات متفق عليه. وعن ابن عباس: لما نزلت * (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) * (الانفال: 65) فكتب عليهم أن لا يفر عشرون من مائتين. ثم نزلت: * (الآن خفف الله عنكم) * (الانفال: 66) الآية فكتب أن لا تفر مائة من مائتين رواه البخاري وأبو داود
[ 79 ]
. [ رح 3322 ] وعن ابن عمر قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحاص الناس حيصة وكنت فيمن حاص فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا: لو دخلنا المدينة فبتنا، ثم قلنا: لو عرضنا نفوسنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا، فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال: من الفرارون؟ فقلنا: نحن الفرارون، قال: بل أنتم العكارون، أنا فئتكم وفئة المسلمين، قال: فأتيناه حتى قبلنا يده رواه أحمد وأبو داود. حديث ابن عمر أخرجه أيضا الترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: حسن لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد انتهى. ويزيد بن أبي زياد تكلم فيه غير واحد من الائمة. قوله: الموبقات أي المهلكات، قال في القاموس: وبق كوعد ووجل وورث، وبوقا هلك كاستوبق، وكمجلس المهلك والموعد والمجلس وواد في جهنم وكل شئ حال بين شيئين، وأوبقه حبسه وأهلكه اه. (وفي الحديث) دليل على أن هذه السبع المذكورة من كبائر الذنوب، والمقصود من إيراد الحديث ههنا هو قوله فيه: والتولي يوم الزحف فإن ذلك يدل على أن الفرار من الكبائر المحرمة، وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الفرار من موجبات الفسق. قال في البحر مسألة: ومهما حرمت الهزيمة فسق المنهزم لقوله تعالى: * (فقد باء بغضبمن الله) * (الانفال: 16) وقوله: الكبائر سبع إلا متحرفا لقتال وهو أن يرى القتال في غير موضعه أصلح وأنفع فينتقل إليه. قال ابن عباس: وكانت هزيمة المسلمين في أوطاس انحرافا من مكان إلى مكان، أو متحيزا إلى فئة وإن بعدت إذ لم تفصل الآية، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم لاهل غزوة مؤتة: أنا فئة كل مسلم الخبر ونحوه انتهى. ومن ذلك قوله في حديث الباب: أنا فئتكم وفئة المسلمين والاصل في جواز ذلك قوله تعالى: * (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله) * (الانفال: 16) وقد جوزت الهادوية الفرار إلى منعة من جبل أو نحوه وإن بعدت، ولخشية استئصال المسلمين أو ضرر عام للاسلام، وأما إذا ظنوا أنهم يغلبون إذا لم يفروا ففي جواز فرارهم وجهان: قال الامام يحيى أصحهما أنه يجب الهرب لقوله تعالى: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * (البقرة: 195) ولا إذ قال له رجل: يا رسول الله أرأيت لو انغمست في المشركين؟
[ 80 ]
وقد تقدم في أول الجهاد، وتقدم تفسير الآية. قوله: لما نزلت: * (إن يكن منكم عشرون صابرون) * الخ، قال في البحر وكانت الهزيمة محرمة وإن كثر الكفار لقوله تعالى: * (فلا تولوهم الادبار) * (الانفال: 65) ثم خفف عنهم بقوله: * (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين) * (الانفال: 65) فأوجب على كل واحد مصابرة عشرة ثم خفف عنهم وأوجب على الواحد مصابرة اثنين بقوله: * (الآن خفف الله عنكم) * (الانفال: 66) الآية، واستقر الشرع على ذلك، فحينئذ حرمت الهزيمة لقول ابن عباس: من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فلم يفر انتهى. قوله: فحاص الناس حيصة بالمهملات. قال ابن الاثير: حصت عن الشئ حدث عنه وملت عن جهته هكذا قال الخطابي. قال المصنف رحمه الله تعالى: وقوله حاصوا أي حادوا حيدة ومنه قوله تعالى: * (ما لهم من محيص) * (فصلت: 48) ويروى: جاضوا جيضة بالجيم والضاد المعجمتين وهو بمعنى حادوا انتهى. قوله: ثم قلنا لو دخلنا المدينة الخ ، لفظ أبي داود: فقلنا ندخل المدينة فنبيت فيها لنذهب ولا يرانا أحد فدخلنا فقلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن كانت لنا توبة أقمنا وإن كان غير ذلك ذهبنا، فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا: نحن الفرارون، فأقبل إلينا فقال: لا أنتم العكارون، فدنونا فقبلنا يده فقال: أنا فئة المسلمين. قوله: العكارون بفتح العين المهملة وتشديد الكاف قيل: هم الذين يعطفون إلى الحرب، وقيل: إذا حاد الانسان عن الحرب ثم عاد إليها، يقال: قد عكر وهو عاكر وعكار. قال في القاموس: العكار الكرار العطاف، واعتكروا اختلطوا في الحرب، والعكر رجع بعضه على بعض فلم يقدر على عده انتهى. باب من خشي الاسر فله أن يستأسر وله أن يقاتل حتى يقتل عن أبي هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عشر رهطا عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت الانصاري، فانطلقوا حتى إذا كانوا بالهداة وهو بين عسفان ومكة ذكروا لبني لحيان فنفروا لهم قريبا من مائتي رجل كلهم رام فاقتصوا أثرهم، فلما رآهم عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد وأحاط بهم القوم فقال لهم: انزلوا وأعطوا
[ 81 ]
بأيديكم ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحدا، قال عاصم بن ثابت أمير السرية: أما أنا فوالله لا أنزل اليوم في ذمة كافر، اللهم خبر عنا نبيك، فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة، فنزل إليهم ثلاثة رهطبالعهد والميثاق منهم خبيب الانصاري وابن دثنة ورجل آخر، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فأوثقوهم، فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر والله لا أصحبكم إن لي في هؤلاء لاسوة يريد القتلى، فجرروه وعالجوه على أن يصحبهم فأبى فقتلوه وانطلقوا بخبيب وابن دثنة حتى باعوهما بمكة بعد وقعة بدر، وذكر قصة قتل خبيب إلى أن قال: استجاب الله لعاصم بن ثابت يوم أصيب فأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه خبرهم وما أصيبوا مختصر لاحمد والبخاري وأبو داود. تمام الحديث: فاشترى خبيبا بنو الحرث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو قتل يوم بدر الحارث، فمكث عندهم أسيرا حتى أجمعوا على قتله، فاستعار موسى من بعض بنات الحرث ليستحد بها فأعارته قالت: فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه فوضع على فخذه فلما رأيته فزعت فزعة حتى عرف ذلك مني وفي يده الموسى فقال: أتخشين أن أقتله، ما كنت لافعل ذلك إن شاء الله تعالى، وكانت تقول: ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب، لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذ ثمرة وإنه لموثق بالحديد، وما كان إلا رزقا رزقه الله خبيبا، فخرجوا به من الحرم ليقتلوه فقال: دعوني أصلي ركعتين ثم انصرف إليهم فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت، فكان أول من صلى الركعتين عند القتل وقال: اللهم احصهم عددا، وقال: [ شع ] ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي شق كان في الله مصرعي [ / شع ] [ شع ] وذلك في ذات الاله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع [ / شع ] ثم قام إليه عقبة بن الحرث فقتله، وبعث قريش إلى عاصم ليأتوا بشئ من جسده بعد موته وكان قتل عظيما من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم فلم يقدروا منه على شئ هكذا في صحيح البخاري وسنن أبي داود. قوله: عينا العين الجاسوس على ما في القاموس وغيره، وفيه مشروعية بعث الاعيان. وقد أخرج مسلم وأبو داود من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث بسبسة عينا ينظر ما صنعت عير أبي سفيان. قوله: بالهدأة بفتح الهاء
[ 82 ]
وسكون الدال المهملة بعدها همزة مفتوحة كذا للاكثر، وللكشميهني بفتح الدال وتسهيل الهمزة. وعند ابن إسحاق الهدة بتشديد الدال بغير ألف، قال: وهي على سبعة أميال من عسفان. قوله: لبني لحيان هم قبيلة معروفة اسم أبيهم لحيان بكسر اللام وقيل بفتحها وسكون المهملة وهو ابن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر. قوله: فنفروا لهم أي أمروا جماعة منهم أن ينفروا إلى الرهط المذكورين. قوله: الفدفد بفاءين ودالين مهملتين الموضع الغليظ المرتفع. قال في مختصر النهاية: هو المكان المرتفع. قوله: خبيب بضم الخاء المعجمة وفتح الموحدة وسكون التحتية وآخره موحدة أيضا وهو ابن عدي من الانصار. قوله: دثنة بفتح الدال المهملة وكسر المثلثة بعدها نون واسمه زيد. قوله: ورجل آخر هو عبد الله بن طارق، وعالجوه: أي مارسوه والمراأنهم خادعوه ليتبعهم فأبى. والاستحداد: حلق العانة. والقطف: العنقود وهو اسم لكل ما تقطفه. والشلو: العضو من الانسان. والممزع: بتشديد الزاي بعدها مهملة المفرق، والظلة: الشئ المظل من فوق. والدبر: بتشديد الدال السكون الباء وبعدها راء مهملة جماعة النحل. وقد استدل المصنف رحمه الله تعالى بهذا الحديث على أنه يجوز لمن لم يقدر على المدافعة ولا أمكنه الهرب أن يستأسر، وهكذا ترجم البخاري على هذا الحديث باب هل يستأسر الرجل ومن لم يستأسر، أي هل يسلم نفسه للاسر أم لا؟ ووجه الاستدلال بذلك أنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنكر ما وقع من الثلاثة المذكورين من الدخول تحت أسر الكفار، ولا أنكر ما وقع من السبعة المقتولين من الاصرار على الامتناع من الاسر، ولو كان ما وقع من إحدى الطائفتين غير جائز لاخبر صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بعدم جوازه وأنكره، فدل ترك الانكار على أنه يجوز لمن لا طاقة له بعدوه أن يمتنع من الاسر وأن يستأسر. باب الكذب في الحرب عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من لكعب بن الاشرف فإنه قد آذى الله ورسوله؟ قال محمد بن مسلمة: أتحب أن أقتله يا رسول
[ 83 ]
الله؟ نعم، قال: فأذن لي، فأقول قال: قد فعلت، قال: فأتا فقال: إن هذا يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد عنانا وسألنا الصدقة، قال وأيضا والله قال: فإنا قد اتبعناه فنكره أن ندعه حتى ننظر إلى ما يصير أمره، قال: فلم يزل يكلمه حتى استمكن منه فقتله متفق عليه. [ رح 3325 ] وعن أم كلثوم بنت عقبة قالت: لم أسمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرخص في شئ من الكذب مما تقول الناس إلا في الحرب والاصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها رواه أحمد ومسلم وأبو داود. حديث جابر هو في بعض الروايات كما ساقه المصنف مختصرا، وفي بعضها أنه قال له بعد قوله حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمره: قد أردت أن تسلفني سلفا، قال فما ترهنني ترهنني نساؤكم، قال: أنت أجمل العرب أترهنك نساءنا؟ قال: فترهنون أبناءكم، قال: يسب ابن أحدنا فيقال رهن في وسق أو وسقين من تمر ولكن نرهنك اللامة يعني السلاح، قال: نعم وواعده أن يأتيه بالحرث وأبي عبس بن جبر وعباد بن بشر، قال: فجاؤوا فدعوه ليلا فنزل إليهم فقالت له امرأته: إني لاسمع صوتا كأنه صوت الدم، فقال: إنما هو محمد بن مسلمة ورضيعي أبو نائلة إن الكريم إذا دعي إلى طعنة ليلا أجاب، قال محمد: إذا جاء فسوف أمد يدي إلى رأسه فإذا استمكنت منه فدونكم، قال: فنزل وهو متوشح فقالوا: نجد منك ريح الطيب، فقال: نعم تحتي فلانة أعطر نساء العرب، فقال محمد: أفتأذن لي أن أشم منك؟ قال: نعم فشم ثم قال: أتأذن لي أن أعود؟ قال: نعم فاستمكن منه ثم قال: دونكم فقتلوه. أخرجه الشيخان وأبو داود. وحديث أم كلثوم هو أيضا في صحيح البخاري في كتاب الصلح منه ولكنه مختصر. وقد ورد في معنى حديث أم كلثوم أحاديث أخر منها حديث أسماء بنت يزيد عند الترمذي قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أيها الناس ما يحملكم أن تتابعوا على الكذب كتتابع الفراش في النار؟ الكذب كله على ابن آدحرام إلا في ثلاث خصال: رجل كذب على امرأته ليرضيها، ورجل كذب في الحرب فإن الحرب خدعة، ورجل كذب بين مسلمين ليصلح بينهما. والتتابع التهافت في الامر. والفراش الطائر الذي يتواقع في ضوء السراج فيحترق. وأخرج مالك في الموطأ عن صفوان بن سليم الزرقي: أن رجلا قال: يا رسول الله أكذب امرأتي؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا خير في الكذب، قال: فأعدها وأقول لها، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا جناح عليك. وأخرج أحمد والنسائي وابن حبان والحاكم وصححاه من حديث أنس في
[ 84 ]
قصة الحجاج بن علاط في استئذانه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول عنه ما شاء لمصلحته في استخلاص ماله من أهل مكة، وأذن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإخباره لاهل مكة أن أهل خيبر هزموا المسلمين. وأخرج الطبراني في الاوسط الكذب كله إثم إلا ما نفع به مسلم أو دفع به عن دين وأخرج الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام إلا ثلاث كذبات: ثنتين في كتاب الله تعالى قوله: * (إني سقيم) * (الصافات: 89) وقوله: * (بل فعله كبيرهم هذا) * (الانبياء: 63) وواحد في شأن سارة الحديث. قوله: فأذن لي فأقول أي أقول ما لا يحل في جانبك. قوله: عنانا بفتح العين المهملة وتشديد النون الاولى أي كلفنا بالاوامر والنواهي. وقوله: سألنا الصدقة أي طلبها منا ليضعها مواضعها. وقوله: فنكره أن ندعه إلى آخره معناه نكره فراقه. (والحديث) المذكور قد استدل به على جواز الكذب في الحرب، وكذلك بوب عليه البخاري باب الكذب في الحرب. قال ابن المنير: الترجمة غير مطابقة لان الذي وقع بينهم في قتل كعب بن الاشرف يمكن أن يكون تعريضا، ثم ذكر أن الذي وقع في حديث الباب ليس فيه شئ من الكذب، وأن معنى ما في الحديث هو ما ذكرناه في تفسير ألفاظه وهو صدق. قال الحافظ: والذي يظهر أنه لم يقع منهم فيما قالوه شئ من الكذب أصلا وجميع ما صدمنهم تلويح كما سبق، لكن ترجم يعني البخاري لقول محمد بن مسلمة أولا: ائذن لي أن أقول، قال: قل، فإنه يدخل فيه الاذن في الكذب تصريحا وتلويحا. قوله: إلا في الحرب الخ، قال الطبري: ذهبت طائفة إلى جواز الكذب لقصد الاصلاح وقالوا: إن الثلاث المذكورة كالمثال، وقالوا: إن الكذب المذموم إنما هو فيما فيه مضرة وليس فيه مصلحة. وقال آخرون: لا يجوز الكذب في شئ مطلقا. وحملوا الكذب المراد هنا على التورية والتعريض كمن يقول للظالم: دعوت لك أمس وهو يريد قوله: اللهم اغفر للمسلمين، ويعد امرأته بعطية شئ ويريد إن قدر الله ذلك وأن يظهر من نفسه قوة قلب، وبالاول جزم الخطابي، وبالثاني جزم المهلب والاصيلي وغيرهما. قال النووي: الظاهر إباحة حقيقة لكذب في الامور الثلاثة لكن التعريض أولى. وقال ابن العربي: الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص رفقا بالمسلمين لحاجتهم إليه وليس للعقل فيه مجال، ولو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب حلالا انتهى. ويقوي ذلك حديث الحجاج بن علاط المذكور، ولا يعارض ما ورد في جواز الكذب في الامور المذكورة ما أخرجه النسائي من طريق مصعب بن سعد عن أبيه في قصة عبد الله بن أبي سرح، وقول
[ 85 ]
الانصار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما كف عن بيعته: هلا أومأت إلينا بعينك؟ قال: ما ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الاعين. لان طريق الجمع بينهما أن المأذون فيه بالخداع والكذب في الحرب حالة الحرب خاصة. وأما حالة المبايعة فليست بحالة حرب كذا قيل، وتعقب بأن قصة الحجاج بن علاط أيضا لم تكن في حال حرب. قال الحافظ: والجواب المستقيم أن يقال: المنع مطلقا من خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يتعاطى شيئا من ذلك وإن كان مباحا لغيره، ولا يعارض ذلك ما تقدم من أنه كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها، فإن المراد أنه كان يريد أمرا فلا يظهره، كأن يريد أن يغزو جهة المشرق فيسأل عن أمر في جهة المغرب ويتجهز للسفر فيظن من يراه ويسمعه أن يريد جهة المغرب. وأما أنه يصرح بإرادته المغرب ومراده المشرق فلا. قال ابن بطال: سألت بعض شيوخي عن معنى هذا الحديث فقال: الكذب المباح في الحرب ما يكون في المعاريض لا التصريح بالتأمين مثلا. وقال المهلب: لا يجوز الكذب الحقيقي في شئ من الدين أصلا، قال: ومحال أن يأمر بالكذب من يقول: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ويرده ما تقدم. قال الحافظ: واتفقوا على أن المراد بالكذب في حق المرأة والرجل إنما هو فيما لا يسقط حقا عليه أو عليها أو أخذ ما ليس له أو لها، وكذا في الحزب في غير التأمين، واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار، كما لو قصد ظالم قتل رجل هو مختف عنده فله أن ينفي كونه عنده ويحلف على ذلك ولا يأثم انتهى. وقال القاضي زكريا: وضابط ما يباح من الكذب وما لا يباح أن الكلام وسيلة إلى المقصود، فكل مقصود محمود إن أمكن التوصل إليه بالصدق فالكذب فيه حرام، وإن لم يمكن إلا بالكذب فهو مباح إن كان المقصود مباحا، وواجب إن كان المقصود واجبا انتهى. والحق أن الكذب حرام كله بنصوص القرآن والسنة من غير فرق بين ما كان منه في مقصد محمود أو غير محمود، ولا يستثنى منه إلا ما خصه الدليل من الامور المذكورة في أحاديث الباب، نعم إن صح ما قدمنا عن الطبراني في الاوسط كان من جملة المخصصات لعموم الادلة القاضية بالتحريم على العموم.
[ 86 ]
باب ما جاء في المبارزة عن أمير المؤمنين علي رضوان الله عليه قال: تقدم عتبة بن ربيعة ومعه ابنه وأخوه فنادى من يبارز؟ فانتدب له شباب من الانصار فقال: من أنتم؟ فأخبروه فقال: لا حاجة لنا فيكم إنا أردنا بني عمنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قم يا حمزة، قم يا علي، قم يا عبيدة بن الحرث، فأقبل حمزة إلى عتبة وأقبلت إلى شيبة، واختلف بين عبيدة والوليد ضربتان فأثخن كل واحد منا صاحبه ثم ملنا إلى الوليد فقتلناه واحتملنا عبيدة رواه أحمد وأبو داود. وعن قيس بن عباد عن علي قال: أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الرحمن يوم القيامة، قال قيس: فيهم نزلت هذه الآية: * (هذان خصمان اختصموا في ربهم) * (الحج: 19) قال: هم الذين تبارزوا يوم بدر علي وحمزة وعبيدة بن الحرث، وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة. وفي رواية: أن عليا قال: فينا نزلت هذه الآية وفي مبارزتنا يوم بدر: * (هذان خصمان اختصموا في ربهم) * رواهما البخاري. وعن سلمة بن الاكوع: قال: بارز عمي يوم خيبر مرحب اليهودي رواه أحمد في قصة طويلة ومعناه لمسلم. حديث علي الاول سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات. وفي الباب عن أبي ذر عند الشيخين في ذكر المبارزة المذكورة مختصرا. وأخرج ابن إسحاق في المغازي: أن عليا بارز يوم الخندق عمرو بن عبد ود ووصله الحاكم من حديث أنس بنحوه. وأخرج ابن إسحاق أيضا في المغازي عن جابر قال: خرج مرحب اليهودي من حصن خيبر قد جمع سلاحه وهو يرتجز فذكر الشعر، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من لهذا؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا يا رسول الله فذكر الحديث والقصة، ورواه أحمد والحاكم وقال: صحيح الاسناد، والذي في صحيح مسلم من حديث سلمة بن الاكوع مطولا أنه بارز علي وفيه فخرج مرحب وهو يقول:
[ 87 ]
[ شع ] قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب [ / شع ] فقال علي عليه السلام: [ شع ] أنا الذي سمتني أمي حيدره كليث غابات كرية المنظره [ / شع ] وضرب رأس مرحب فقتله. قال الحافظ في التلخيص: إن الاخبار متواترة أن عليا هو الذي قتل مرحبا انتهى. ورواية سلمة التي ذكرها المصنف في الباب تدل على أن الذي بارز مرحبا هو عمه. ويمكن الجمع بأن يقال: إن محمد بن مسلمة وكذلك عم سلمة بن الاكوع بارزاه أولا ولم يقتلاه، ثم بارزه علي آخرا فقتله، ومما يرشد إلى ذلك ما أخرجه الحاكم بسند فيه الواقدي أنه ضرب محمد بن مسلمة ساقي مرحب فقطعهما ولم يجهز عليه فمر به علي فضرب عنقه وأعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلبه محمد بن مسلمة. وروى الحاكم بسند منقطع فيه الواقدي أيضا أن أبا دجانة قتله، وجزم ابن إسحاق في السيرة أن محمد بن مسلمة هو الذي قتله. قال الحافظ في التلخيص في باب قسمة الفئ: والصحيح أن علي بن أبي طالب هو الذي قتله كما ثبت في صحيح مسلم من حديث سلمة بن الاكوع، وفي مسند أحمد عن علي انتهى. وفي الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن عوف أن عوفا ومعوذا ابني عفراخرجا يوم بدر إلى البراز فلم ينكر عليهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وروى ابن إسحاق في المغازي أن عبد الله بن رواحة خرج يوم بدر إلى البراز هو ومعوذ وعوف ابنا عفراء قوله: فانتدب له شباب من الانصار هم عبد الله بن رواحة ومعوذ وذكر القصة وعوف ابنا عفراء كما بين ذلك ابن إسحاق في المغازي. قوله: قم يا عبيدة بن الحرث قال ابن إسحاق: إن عبيدة بن الحارث وعتبة بن ربيعة كانا أسن القوم، فبرز عبيدة لعتبة وحمزة لشيبة وعلي للوليد. وروى موسى بن عقبة أنه برز حمزة لعتبة وعبيدة لشيبة وهو المناسب لحديث الباب فقتل علي وحمزة من بارزاهما واختلف عبيدة ومن بارزه بضربتين فوقعت الضربة في ركبة عبيدة فمات منها لما رجعوا بالصفراء، ومال حمزة وعلي إلى الذي بارز عبيدة فأعاناه على قتله، وفي الاحاديث التي ذكرها المصنف وذكرناها دليل على أنه تجوز المبارزة، وإلى ذلك ذهب الجمهور، والخلاف في ذلك للحسن البصري. وشرط الاوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق إذن الامير كما في هذه الرواية فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن للمذكورين. قوله: فأثخن كل واحد منا صاحبه لفظ أبي داود: فأثخن كل واحد منهما صاحبه أي كل واحد من المذكورين
[ 88 ]
وهما عبيدة والوليد. ومعنى الرواية المذكورة في الباب أنه أثخن حمزة من بارزه وهو عتبة، وأثخن علي من بارزه وهو شيبة ثم مالا إلى الوليد. قال في القاموس: أثخن في العدو بالغ في الجراحة فيهم، وفلانا أوهنه، وحتى إذا أثخنتموهم أي غلبتموهم وكثر فيهم الجراح انتهى. قوله: ثم ملنا إلى الوليد فيه دليل على أنه يجوز أن تعين كل طائفة من الطائفتين المتبارزتين بعضهم بعضا. باب من أحب الاقامة بموضع النصر ثلاثا عن أنس عن أبي طلحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال متفق عليه. وفي لفظ لاحمد والترمذي: بعرصتهم. وفي رواية لاحمد: لما فرغ من أهل بدر أقام بالعرصة ثلاثا. قوله: أقام بالعرصة بفتح العين المهملة وسكون الراء بعدها صاد مهملة وهي البقعة الواسعة بغير بناء من دار أو غيرها. (وفي الحديث دليل) على أنها تشرع الاقامة بالمكان الذي ظهر به حزب الحق على حزب الباطل ثلاث ليال. قال المهلب: حكمة الاقامة لاراحة الظهر والانفس. وقال ابن الجوزي: إنما كان ذلك لاظهار تأثير الغلبة وتنفيذ الاحكام وقلة الاحتفال بالعدو، وكأنه يقول: من كانت فيه قوة منكم فليرجع إلينا. وقال ابن المنير: يحتمل أن يكون المراد أن تقع ضيافة الارض التي وقعت فيها المعاصي بإيقاع الطاعة فيها بذكر الله تعالى وإظهار شعار المسلمين، وإذا كان ذلك في حكم الضيافة ناسب أن يقيم عليها ثلاثا لان الضيافة ثلاث، قال الحافظ: ولا يخفى أن محله إذا كان في أمن من عدو طارق. باب أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين وأنها لم تكن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن عمرو بن عبسة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
[ 89 ]
إلى بعير من المغنم، فلما سلم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال: ولا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس، والخمس مردود فيكم روا أبو داود والنسائي بمعناه. وعن عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى بهم في غزوتهم إلى بعير من المقسم، فلما سلم قام إلى البعير من المقسم فتناول وبرة بين أنملتيه فقال: إن هذا من غنائمكم وأنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط وأكبر من ذلك وأصغر رواه أحمد في المسند. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في قصة هوازن: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دنا من بعير فأخذ وبرة من سنامه ثم قال: يا أيها الناس إنه ليس لي من هذا الفئ شئ ولا هذه إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط رواه أحمد وأبو داود والنسائي ولم يذكر: وأدوا الخيط والمخيط. حديث عمرو بن عبسة سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات. وحديث عبادة بن الصامت أخرجه أيضا النسائي وابن ماجة وحسنه الحافظ في الفتح. قال المنذري: وروي أيضا من حديث جبير بن مطعم والعرباض بن سارية انتهى. وحديث عمرو بن شعيب قد قدمنا الكلام على الاسانيد المروية عنه عن أبيه عن جده، وقد أخرج هذا الحديث مالك والشافعي، ووصله النسائي من وجه آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وحسنه الحافظ في الفتح. قوله: وبرة بفتح الواو والباء الموحدة بعدها راء قال في القاموس: الوبر محركة صوف الابل والارانب ونحوها الجمع أوبار. قوله: والمخيط هو ما يخاط به كالابرة ونحوها، وفيه دليل على التشديد في أمر الغنيمة، وأنه لا يحل لاحد أن يكتم منها شيئا وإن كان حقيرا، وسيأتي الكلام على ذلك في باب التشديد في الغلول. (وأحاديث) الباب فيها دليل على أنه لا يأخذ الامام من الغنيمة إلا الخمس ويقسم الباقي منها بين الغانمين، والخمس الذي يأخذه أيضا ليس هو له وحده بل يجب عليه أن يرده على المسلمين على حسب ما فصله الله تعالى في كتابه بقوله: * (واعلموا أنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) * (الانفال: 21) وروى الطبراني في الاوسط وابن مردويه في التفسير من حديث ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا بعث سرية قسم وخمس الغنيمة فضرب ذلك الخمس في خمسة ثم قرأ
[ 90 ]
: * (واعلموا أنما غنمتم من شئ) * الآية، فجعل سهم الله وسهم رسوله واحدا، وسهم ذوي القربى هو والذي قبله في الخيل والسلاح، وجعل سهم اليتامى وسهم المساكين وسهم ابن السبيل لا يعطيه غيرهم، ثم جعل الاربعة الاسهم الباقية للفرس سهمان ولراكبه سهم وللراجل سهم. وروى أيضا أبو عبيد في الاموال نحوه. (وفي أحاديث) الباب أيضا دليل على أنه لا يستحق الامام السهم الذي يقال له الصفي. واحتج من قال بأنه يستحق بما أخرجه أبو داود عن الشعبي وابن سيرين وقتادة أنهم قالوا: كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سهم يدعى الصفي ولا يقوم بمثل هذا المرسل حجة. وأما اصطفاؤه صلى الله عليه وآله وسلم سيفه ذا الفقار من غنائم بدر فقد قيل: إن الغنائم كانت له يومئذ خاصة، فنسخ الحكم بالتخميس، كما حكى ذلك صاحب البحر عن الامام يحيى. وأما صفية بنت حيي بن أخطب فهي من خيبر ولم يقسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للغانمين منها إلا البعض، فكان حكمها حكم ذلك البعض الذي لم يقسم، على أنه قد روي أنها وقعت في سهم دحية بن خليفة الكلبي فاشتراها منه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبعة أرؤس. وقد ذهب إلى أن الامام يستحق الصفي العترة وخالفهم الفقهاء، وسيذكر المصنف رحمه الله الادلة القاضية باستحقاق الامام للصفي في باب مستقل سيأتي. باب أن السلب للقاتل وأنه غير مخموس وعن أبي قتادة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين فلما التقينا كانت للمسلمين جولة قال: فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت ثم أدرك الموت، فأرسلني فلحقت عمر بن الخطاب فقال: ما للناس؟ فقلت: أمر الله، ثم إن الناس رجعوا وجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه، قال: فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال: مثل ذلك، قال: فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال ذلك الثالثة، فقمت فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما لك يا أبا قتادة؟ فقصصت عليه القصة، فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله سلب ذلك القتيل عندي فأرضه من حقه، فقال أبو بكر الصديق: لاها الله إذا لا
[ 91 ]
يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: صدق فأعطه إياه فأعطاني، قال: فبعت الدرع فابتعت به مخرقا في بني سلمة فإنه لاومال تأثلته في الاسلام متفق عليه. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قايوم حنين: من قتل رجلا فله سلبه، فقتل أبو طلحة عشرين رجلا وأخذ أسلابهم رواه أحمو أبو داود. وفي لفظ: من تفرد بدم رجل فقتله فله سلبه، قال: فجاء أبو طلحة بسلب أحد وعشرين رجلا رواه أحمد. وعن عوف بن مالكأنه قال لخالد بن الوليد: ما علمت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالسلب للقاتل، قال: بلى رواه مسلم. وعن عوف وخالد أيضا: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يخمس السلب رواه أحمد وأبو داود. حديث أنس سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده رجال الصحيح، وتمامه: ولقي أبو طلحة أم سليم ومعها خنجر فقال: يا أم سليم ما هذا معك؟ قالت: أردت والله إن دنا مني بعضهم أبعج به بطنه، فأخبر بذلك أبو طلحة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأخرج قصة أم سليم مسلم أيضا. وحديث عوف وخالد أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يخمس السلب أخرجه أيضا ابن حبان والطبراني، قال الحافظ بعد ذكره في التلخيص ما لفظه: وهو ثابت في صحيح مسلم في حديث طويل فيه قصة لعوف بن مالك مع خالد بن الوليد اه. وفيه نظر، فإن هذا اللفظ الذي هو محل الحجة لم يكن في صحيح مسلم، بل الذي فيه هو ما سيأتي قريبا، وفي إسناد هذا الحديث إسماعيل بن عياش وفيه كلام معروف قد تقدم ذكره مرارا. قوله: جولة بفتح الجيم وسكون الواو أي حركة فيها اختلاط، وهذه الجولة كانت قبل الهزيمة. قوله: فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين قال الحافظ: لم أقف على اسميهما. قوله: على حبل عاتقه حبل العاتق عصبه، والعاتق موضع الرداء من المنكب. قوله: وجدت منها ريح الموت أي من شدتها وأشعر ذلك بأن هذا المشرك كان شديد القوة جدا. قوله: فأرسلني أي أطلقني. قوله: فلحقت عمر بن الخطاب الخ، في السياق حذف تبينه الرواية الاخرى من حديثه في البخاري وغيره بلفظ: ثم قتلته وانهزم
[ 92 ]
المسلمون وانهزمت معهم فإذا بعمر بن الخطاب. قوله: أمر الله أي حكم الله وما قضى به. قوله: فله سلبه السلب بفتح المهملة واللام بعدها موحدة هو ما يوجد مع المحارب من ملبوس وغيره عند الجمهور. وعن أحمد: لا تدخل الدابة. وعن الشافعي: يختص بأداة الحرب. وقد ذهب الجمهور أيضا إلى أن القاتل يستحق السلب، سواء قال أمير الجيش قبل ذلك: من قتل قتيلا فله سلبه أم لا. وذهبت العترة والحنفية والمالكية إلى أنه لا يستحقه القاتل إإن شرط له الامام ذلك. وروي عن مالك أنه يخير الامام بين أن يعطي القاتل السلب أو يخمسه واختاره القاضي إسماعيل. وعن إسحاق: إذا كثرت الاسلاب خمست. وعن مكحول والثوري: يخمس مطلقا. وقد حكي عن الشافعي أيضا. وحكاه في البحر عن ابن عمر وابن عباس والقاسمية. وحكي أيضا عن أبي حنيفة وأصحابه والشافعي والامام يحيى أنه لا يخمس. وحكي أيضا عن علي مثل قول إسحاق. (واحتج) القائلون بتخميس السلب بعموم قوله تعالى: * (واعلموا أنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه) * (الانفال: 21) الآية، فإنه لم يستثن شيئا. واستدل من قال إنه لا خمس فيه بحديث عوف بن مالك وخالد المذكور في الباب وجعلوه مخصصا لعموم الآية. قوله: فقال رجل من القوم قال الواقدي: اسمه أسود من خزاعة. قال الحافظ وفيه نظر، لان في الرواية الصحيح أن الذي أخذ السلب قرشي. قوله: لاها الله قال الجوهري: ها للتنبيه وقد يقسم بها، يقال: لاها الله ما فعلت كذا. قال ابن مالك: فيه شاهد على جواز الاستغناء عن واو القسم بحرف التنبيه، قال: ولا يكون ذلك إلا مع الله أي لم يسمع لاها الرحمن كما سمع لا والرحمن، قال: وفي النطق بها أربعة أوجه، أحدها: ها الله باللام بعد الهاء بغير إظهار شئ من الالفين. ثانيها: مثله لكن بإظهار ألف واحدة بغير همز كقولهم: التقت حلقتا البطان. ثالثها: ثبوت الالفين بهمزة قطع. رابعها: بحذف الالف وثبوت همزة القطع اه. قال الحافظ: والمشهور في الرواية من هذه الاوجه الثالث ثم الاول. وقال أبو حاتم السجستاني: العرب تقول لا ها الله ذا بالهمزة والقياس ترك الهمزة. وحكى ابن التين عن الداودي أنه رواه برفع الله قال: والمعنى يأبى الله، وقال غيره: إن ثبتت الرواية بالرفع فتكون ها للتنبيه، والله مبتدأ ولا يعمد خبره ولا يخفى تكلفه. قال الحافظ: وقد نقل الائمة الاتفاق على
[ 93 ]
الجر فلا يلتفت إلى غيره، قال: وأما إذا فثبت في جميع الروايات المعتمدة والاصول المحققة من الصحيحين وغيرهما بكسر الالف ثم ذال معجمة منونة. وقال الخطابي: هكذا يروونه وإنما هو في كلامهم أي العرب لاها الله ذا والهاء فيه بمنزلة الواو، والمعنى: لا والله يكون ذا. ونقل عياض في المشارق عن إسماعيل القاضي أن المازني قال: قول الرواة لاها الله إذ خطأ، والصواب لاها الله ذا أي ذا يميني وقسمي. وقال أبو زيد: ليس في كلامهم لاها الله إذا، وإنما هو لاها الله ذا، وذا صلة في الكلام والمعنى: لا والله هذا ما أقسم به، ومنه أخذ الجوهري فقال: قولهم لاها الله ذا معناه لا والله هذا، ففرقوا بين حرف التنبيه والصلة والتقدير لا والله ما فعلت ذا، وتوارد كثير ممن تكلم على هذا الحديث، على أن الذي وقع في الحديث بلفظ إذا خطأ، وإنما هو ذتبعا لاهل العربية، ومن زعم أنه ورد في شئ من الروايات خلاف ذلك فلم يصب بل يكون ذلك من إصلاح من قلد أهل العربية. وقد اختلف في كتابة إذا هذه هل تكتب بألف أو بنون؟ وهذا الخلاف مبني على أنها اسم أو حرف، فمن قال هي اسم قال الاصل فيمن قيل له سأجئ إليك فأجاب إذا أكرمك أي إذا جئتني أكرمك ثم حذف جئتني وعوض عنه التنوين وأضمرت أن فعلى هذا تكتب بالنون، ومن قال هي حرف وهم الجمهور اختلف، فمنهم من قال هي بسيطة وهو الراجح، ومنهم من قال مركبة من إذ وأن فعلى الاول تكتب بالالف وهو الراجح وبه وقع رسم المصاحف، وعلى الثاني تكتب بنون واختلف في معناها فقال سيبويه معناها الجواب والجزاء، وتبعه جماعة فقالوا هي حرف جواب يقتضي التعليل، وأفاد أبو علي الفارسي أنها قد تتمحض للتعليل، وأكثر ما تجئ جواب لو وإن ظاهرا أو مقدارا قال في الفتح: فعلى هذا لو ثبتت الرواية بلفظ إذا لاختل نظم الكلام لانه يصير هكذا لا والله إذا لا يعمد إلى أسد الخ، وكان حق السياق أن يقول إذا يعمد أي لو أجابك إلى ما طلبت لعمد إلي أسد الخ، وقد ثبتت الرواية بلفظ لا يعمد الخ، فمن ثم ادعى من ادعى أنها تغيير، ولكن قال ابن مالك: وقع في الرواية إذا بألف وتنوين وليس ببعيد، وقال أبو البقاء: هو بعيد ولكن يمكن أن يوجه بأن التقدير لا والله لا يعطي إذا ويكون لا يعمد الخ تأكيدا للنفي المذكور وموضحا للسبب فيه، وقال الطيبي: ثبتت في الرواية لاها الله إذا فحمله بعض النحويين على أنه من تغيير بعض الرواة، لان العرب لا تستعمل لاها الله بدون ذا، وإن سلم استعماله بدون ذا
[ 94 ]
فليس هذا موضع إذا، لانها حرف جزاء، ومقتضى الجزاء أن لا يذكر لا في قوله لا يعمد، بل كانوا يقولون إذا يعمد إلى أسد الخ ليصح جوابا لطالب السلب. قال: والحديث صحيوالمعنى صحيح وهو كقولك لمن قال لك افعل كذا فقلت له: والله إذا لا أفعل، فالتقدير والله إذا لا يعمد إلى أسد، قال: ويحتمل أن تكون إذا زائدة كما قال أبو البقاء إنها زائدة في قول الحماسي: إذا لقام بنصري معشر خشن. في جواب قوله: لو كنت من مازن لم تستبح إبلي. قال: والعجب ممن يعتني بشرح الحديث ويقدم نقل بعض الادباء على أئمة الحديث وجها بذاته وينسبون إليهم الغلط والتصحيف، ولا أقول إن جهابذة المحدثين أعدل وأتقن في النقل، إذ يقتضي المشاركة بينهم، بل أقول: لا يجوز العدول عنهم في النقل إلى غيرهم، وقد سبقه إلى مثل ذلك القرطبي في المفهم فإنه قال: وقع في رواية في مسلم لاها الله ذا بغير ألف ولا تنوين وهو الذي جزم به من ذكرناه، يعني من قدم النقل عنه من أئمة العربية، قال: والذي يظهر لي أن الرواية المشهورة صواب وليست بخطأ، وذلك أن هذا الكلام وقع على جواب إحدى الكلمتين للاخرى، والهاء هي التي عوض بها عن واو القسم، وذلك أن العرب تقول في القسم: الله لافعلن بمد الهمزة وبقصرها، فكأنهم عوضوا عن الهمزة هاء فقالوا: ها الله لتقارب مخرجهما، وكذلك قالوا: ها بالمد والقصر، وتحقيقه أن الذي مدمع الهاء كأنه نطق بهمزتين أبدل من إحداهما ألفا استثقالا لاجتماعهما كما يقول الله، والذي قصر كأنه نطق بهمزة واحدة كما يقول الله. وأما إذا فهي بلا شك حرف جواب وتعليل وهي مثل التي وقعت في قوله صلى الله عليه وآله وسلم وقد سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: أينقص الرطب إذا جف، قالو نعم، قال: فلا إذا قال فلا والله إذا لكان مساويا لما وقع هنا وهو لاها الله إذا من كل وجه، لكنه لم يحتج هنا إلى القسم فتركه، قال: فقد وضح تقرير الكلام ومناسبته واستقامته معنى ووضعا من غير حاجة إلى تكلف بعيد يخرج عن البلاغة ولا سيما من ارتكب أبعد وأفسد فجعل الهاء للتنبيه وذا للاشارة وفصل بينهما بالمقسم به، قال: وليس هذا قياسا فيطرد، ولا فصيحا فيحمل عليه الكلام النبوي، ولا مرويا برواية ثابتة، قال: وما وجد للعذري وغيره في مسلم فإصلاح ممن اغتر بما حكي عن أهل العربية والحق أحق أن يتبع. قال في الفتح: قال أبو جعفر الغرناطي في حاشية نسخته
[ 95 ]
من البخاري: استرسل جماعة من القدماء في هذا الاشكال إلى أن جعلوا المخلص منه أن اتهموا الاثبات بالتصحيف فقالوا: والصواب لاها الله ذا باسم الاشارة، قال: ويا عجباه من قوم يقبلون التشكيك على الروايات الثابتة ويطلبون لها تأويلا. وجوابهم أن ها الله لا يستلزم اسم الاشارة كما قال ابن مالك. وأما جعل لا يعمد جواب فأرضه فهو سبب الغلط وليس بصحيح ممن زعمه، وإنما هو جواب شرط مقدر يدل عليه قوله صدق فارضه، فكأن أبا بكر فقال: إذا صدق في أنه صاحب السلب إذ لا يعمد إلى السلب فيعطيك حقه، فالجزاء على هذا صحيح لان صدقه سبب أن لا يفعل ذلك، قال: وهذا لا تكلف فيه انتهى. قال الحافظ في الفتح: وهوتوجيه حسن والذي قبله أقعد، ويؤيد ما رجحه من الاعتماد على ما ثبتت به الرواية كثرة وقوع هذه الجملة في كثير من الاحاديث، منها ما وقع في حديث عائشة في قصة بريرة لما ذكرت أن أهلها يشترطون الولاء قالت: فانتهرتها فقلت: لاها الله إذا. ومنها ما وقع في حديث جليبيب: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب عليه امرأة من الانصار إلى أبيها فقال: حتى أستأمر أمها، قال: فنعم إذا قال: فذهب إلى امرأته فذكر لها ذلك فقالت لاها الله إذا وقد منعناها فلانا الحديث، صححه ابن حبان من حديث أنس. ومنها ما أخرجه أحمد في الزهد قال مالك بن دينار للحسن: يا أبا سعيد أو لبس مثل عباءتي هذه. قال: لا ها الله إذا لا ألبس مثل عباءتك هذه. وغير ذلك من الاحاديث، والراجح أن إذا الواقعة في حديث الباب وما شابهه حرف جواب وجزاء والتقدير لا والله حينئذ، ثم أراد بيان السبب في ذلك فقال: لا يعمد إلى أسد الخ. قوله: لا يعمد الخ، معناه لا يقصد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى رجل كأنه أسد في الشجاعة يقاتل عن دين الله ورسوله فيأخذ حقه ويعطيك بغير طيبة من نفسه، هكذا ضبط للاكثر بالتحتانية في يعمد وفي يعطيك وضبطه النووي بالنون فيهما. قوله: فيعطيك سلبه أي سلب قتيله وأضافه إليه باعتبار أنه ملكه. قوله: فابتعت به ذكر الواقدي أن الذي اشتراه منه حاطب بن أبي بلتعة وأن الثمن كان سبع أواق. قوله: مخرفا بفتح الميم والراء ويجوز كسر الراء أي بستانا سمي بذلك لانه يخترف منه التمر أي يجتني، وإما بكسر الميم فهو اسم الآلة التي يخترف بها. قوله: في
[ 96 ]
بني سلمة بكسر اللام وهم بطن من الانصار من قوم أبي قتادة. قوله: تأثلته بمثناة ثم مثلثة أي أصلته، وأثلة كل شئ أصله. قوله: من تفرد بدم رجل فيه دليل على أنه لا يستحق السلب إلا من تفرد بقتل المسلوب، فإن شاركه في ذلك غيره كان السلب لهما. قوله: لم يخمس السلب فيه دليل لمن قال: إنه لا يخمس السلب، وقد تقدم الخلاف في ذلك. [ رح 3337 ] وعن عوف بن مالك قال: قتل رجل من حمير رجلا من العدو فأراد سلبه فمنع خالد بن الوليد وكان واليا عليهم، فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عوف بن مالك فأخبره بذلك فقال لخالد: ما منعك أن تعطيه سلبه؟ فقال: استكثرته يا رسول الله، قال: ادفعه إليه، فمر خالد بعوف فجر بردائه ثم قال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فسمعه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاستغضب فقال: لا تعطه يا خالد، هل أنتم تاركون لي أمرائي؟ إنما مثلكم ومثلهم كمثل رجل استرعى إبلا وغنما فرعاها ثم تحين سقيها فأوردها حوضا فشرعت فيه فشربت صفوه وتركت كدره، فصفوه لكم وكدره عليهم رواه أحمد ومسلم. وفي رواية قال: خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة موتة ورافقني مددي من أهل اليمن ومضينا، فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهب وسلاح مذهب، فجعل الرومي يفري في المسلمين، فقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر وعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله عزوجل للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ السلب، قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى بالسلب للقاتل قال: بلى ولكن استكثرته، قلت: لتردنه إليه أو لاعرفنكها عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأبى أن يرد عليه، قال عوف: فاجتمعنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد وذكر بقية الحديث بمعنى ما تقدم رواه أحمد وأبو داود. وفيه حجة لمن جعل السلب المستكثر إلى الاما وأن الدابة من السلب. وعن سلمة بن الاكوع قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هوازن، فبينا نحن نتضحى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ جاء رجل على جمل
[ 97 ]
أحمر فأناخه ثم انتزع طلقا من جعبته فقيد به الجمل ثم تقدم فتغدى مع القوم وجعل ينظر وفينا ضعفة ورقة من الظهر وبعضنا مشاة، إذ خرج يشتد فأتى جمله فأطلق قيده ثم أناخه فقعد عليه فأثاره فاشتد به الجمل فاتبعه رجل على ناقة ورقاء، قال سلمة: فخرجت أشتد فكنت عند ورك الناقة، ثم تقدمت حتى كنت عند ورك الجمل، ثم تقدمت حتى أخذت بخطام الجمل فأنخته، فلما وضع ركبتيه في الارض اخترطت سيفي فضربت رأس الرجل فندر، ثم جئت بالجمل أقوده عليه رحله وسلاحه، فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والناس معه فقال: من قتل الرجل؟ فقالوا: سلمة بن الاكوع، قال: له سلبه أجمع متفق عليه. قوله: رجل من حمير هو المددي المذكور في الرواية الثانية. قوله: لا تعطه يا خالد فيه دليل على أن للامام أن يعطي السلب غير القاتل لامر يعرض فيه مصلحة من تأديب أو غيره. قوله: هل أنتم تاركون لي أمرائي فيه الزجر عن معارضة الامراء ومغاضبتهم والشماتة بهم لما تقدم من الادلة الدالة على وجوب طاعتهم في غير معصية الله. قوله: في غزوة موتة بضم الميم وسكون الواو بغير همز لاكثر الرواة وبه جزم المبرد، ومنهم من همزها وبه جزم ثعلب والجوهري وابن فارس. وحكى صاحب الواعي الوجهين. وأما الموتة التي وردت الاستعاذة منها وفسرت بالجنون فهي بغير همز. قوله: مددي بفتح الميم ودالين مهملتين قال في النهاية: الامداد جمع مدد وهم الاعوان والانصار الذين كانوا يمدون المسلمين في الجهاد، ومددي منسوب إليه اه. قوله: يفري بفتح أوله بعده فاء ثم راء، والفري شدة النكاية فيهم، يقال: فلان يفري إذا كان يبالغ في الامر، وأصل الفري القلع، قال في القاموس: وهو يفري الفري كغني يأتي بالعجب في عمله اه. قوله: فعرقب فرسه أي قطع عرقوبها، قال في القاموس: عرقبه قطع عرقوبه اه. قوله: فبينا نحن نتضحى أي نأكل في وقت الضحى كما يقال نتغذى، ذكر معنى ذلك في النهاية. قوله: من جعبته بالجيم والعين المهملة قال في النهاية: الجعبة التي يجعل فيها النشاب والطلق بفتح اللام قيد من جلود. قوله: له سلبه أجمع فيه دليل على أن القاتل يستحق جميع السلب وإن كان كثيرا، وعلى أن القاتل يستحق السلب في كل حال حتى قال أبو ثور وابن المنذر: يستحقه ولو كان المقتول منهزما. وقال أحمد:
[ 98 ]
لا يستحقه إلا بالمبارزة. وعن الاوزاعي: إذا التقى الزحفان فلا سلب. وقد اختلف إذا كان المقتول امرأة هل يستحق سلبها القاتل أم لا؟ فذهب أبو ثور وابن المنذر إلى الاول، وقال الجمهور: شرطه أن يكون المقتول من المقاتلة، واتفقوا على أنه لا يقبل قول من ادعى السلب إلا ببينة تشهد له بأنه قتله، والحجة في ذلك ما تقدم من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه فمفهومه أنه إذا لم يكن له بينة لا تقبل. وعن الاوزاعي: يقبل قوله بغير بينة لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطاه أبا قتادة بغير بينة وقد تقدم وفيه نظر، لانه وقع في مغازي الواقدي أن أوس بن خولي شهد لابي قتادة، وعلى تقدير أن لا يصح فيحمل على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علم أنه القاتل بطريق من الطرق، وأبعد من قال من المالكية أن المراد بالبينة هنا الذي أقر له أن السلب عنده فهو شاهد، والشاهد الثاني وجود المسلوب فإنه بمنزلة الشاهد على أنه قتله ولذلك جعل لوثا في باب القسامة، وقيل: إنما استحقه أبو قتادة بإقرار الذي هو بيده وهذا ضعيف، لان الاقرار إنما يفيد إذا كان المال منسوبا لمن هو بيده فيؤاخذ بإقراره والمال هنا لجميع الجيش. ونقل ابن عطية عن أكثر الفقهاء أن البينة هنا يكفي فيها شاهد واحد، وقد اختلف في المرأة والصبي هل يستحقان سلب من قتلاه؟ في ذلك وجهان: قال الامام يحيى أصحهما يستحقان لعموم من قتل قتيلا فله سلبه. قال في البحر: وإنما يستحق السلب حيث قتله والحرب قائمة، لا لو قتله نائما أو فارا قبل مبارزته أو مشغولا بأكل، ولا لو رماه بسهم إذ هو في مقابلة المخاطرة بالنفس ولا مخاطرة هنا، ولا لو قتل أسيرا أو عزيلا عن السلاح، ولا لو قتل من لا سطوة له كالمقعد والزمن، فإن قطع يديه ورجليه استحق سلبه إذ قد كفى شره، ولو جرحه رجل ثم قتله آخر فالسلب للآخر إذ لم يعط صلى الله عليه وآله وسلم ابن مسعود سلب أبي جهل وقد جرحه بل قاتليه من الانصار، قال: فلو ضرب أحدهما يده والآخر رقبته فالسلب لضارب الرقبة إن لم تكن ضربة الآخر قاتلة وإلا اشتركا انتهى. والمراد بالسلب هو ما أجلب به المقتول من ملبوس ومركوب وسلاح لا ما كان باقيا في بيته، قال الامام يحيى: ولا المنطقة والخاتم والسوار والجنيب من الخيل فليس بسلب. قال المهدي: بل المذهب أن كل ما ظهر على القتيل أو معه
[ 99 ]
فهو سلب، لا ما يخفى من جواهر أو دراهم أو نحوها، والظاهر من حديث الباب المؤكد بلفظ أجمع أنه يقال لكل شئ وجد مع المقتول وقت القتل سلب، سواء كان مما يظهر أو يخفى، واختلفوا هل يدخل الامام في العموم إذا قال: من قتل قتيلا فله سلبه؟ فذهب أبو حنيفة والهادوية إلى الاول لعموم اللفظ، إلا لقرينة مخصصة نحو أن يقول: من قتل منكم، وذهب الشافعي والمؤيد بالله في قول له إنه لا يدخل، ومرجع هذا إلى المسألة المعروفة في الاصول وهي: هل يدخل المخاطب في خطاب نفسه أم لا؟ وفي ذلك خلاف معروف. [ رح 3339 ] وعن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر نظرت عن يميني فإذا أنا بين غلامين من الانصار حديثة أسنانهما تمنيت لو كنت بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قال، قلت: نعم وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتيموت الاعجل منا، قال: فعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال مثلها، فلم أنشب أنظرت إلى أبي جهل يزول في الناس فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، قال: فابتدراه بسيفهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبراه فقال: أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ ابن عفراء متفق عليه. وعن ابن مسعود قال: نفلني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدرسيف أبي جهل كان قتله رواه أبو داود، ولاحمد معناه، وإنما أدرك ابن مسعود أبجهل وبه رمق فأجهز عليه، روى معنى ذلك أبو داود وغيره. حديث ابن مسعود هو من رواية ابنه أبي عبيدة عنه ولم يسمع منه كما تقدم غير مرة. ولفظ مسند أحمد الذي أشار إليه المصنف عن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود أنه وجد أبا جهل يوبدر وقد ضربت رجله وهو صريع يذب الناس عنه بسيف له فأخذه عبد الله بن مسعود فقتله به فنفله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسلبه. قوله: حديثة أسنانهما بالجر صفة لغلامين وأسنانهما
[ 100 ]
بالرفع. قوله: بين أضلع منهما من الضلاعة وهي القوة، قال في النهاية: معناه بين رجلين أقوى من اللذين كنت بينهما وأشد. ووقع في رواية الحموي بين أصلح منهما بالصاد والحاء المهملتين. قوله: لا يفارق سوادي سواده السواد بفتح السين المهملة وهو الشخص. قوله: حتى يموت الاعجل منا أي الاقرب أجلا، وقيل إن لفظ الاعجل تصحيف وإنما هو الاعجر وهو الذي يقع في كلام العرب كثيرا، قال في الفتح: والصواب ما وقع في الرواية لوضوح معناه. قوله: فنظر في السيفين قال المهلب: نظره صلى الله عليه وآله وسلم في السيفين واستلاله لهما ليرى ما بلغ الدم من سيفيهما ومقدار عمق دخولهما في جسم المقتول ليحكم بالسلب لمن كان في ذلك أبلغ، ولذلك سألهما أولا: هل مسحتما سيفيكما أم لا؟ لانهما لو مسحاهما لما تبين المراد من ذلك، وقد استشكل ما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم من القضاء بالسلب لاحدهما بعد حكمه بأن كلا منهما قتله حتى استدل بذلك من قال إن إعطاء السلب مفوض إلى رأي الامام، وقرره الطحاوي وغيره بأنه لو كان يجب للقاتل لكان السلب مستحقا بالقتل ولجعله بينهما لاشتراكهما في قتله، فلما خص به أحدهما دل على أنه لا يستحق بالقتل وإنما يستحق بتعيين الامام. وأجاب الجمهور بأن في السياق دلالة على أن السلب يستحقه من أثخن في الجرح ولو شاركه غيره في الضرب أو الطعن. قال المهلب: وإنما قال كلاكما قتله وإن كان أحدهما هو الذي أثخنه لتطييب نفس الآخر. وقال الاسماعيلي: أقول إن الانصاريين ضرباه فأثخناه فبلغا به المبلغ الذي يعلم معه أنه لا يجوز بقاؤه على تلك الحال إلا قدر ما يطفا، وقد دل قوله كلاكما قتله على أن كلا منهما وصل إلى قطع الحشوة وإبانتها، ولما لم يعلم أن عمل كل من سيفيهما كعمل الآخر غير أن أحدهما سبق بالضرب فصار في حكم المثبت بجراحته حتى وقعت به ضربة الثاني فاشتركا في القتل إلا أن أحدهما قتله وهو ممتنع والآخر قتله وهو مثبت، فلذلك قضى بالسلب للسابق إلى إثخانه. وقد أخرج الحاكم من طريق ابن إسحاق: حدثني ثور بن يزيد عن عكرمة عن ابن عباس، قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر بحزم قال: قال معاذ بن عمرو بن الجموح: سمعتهم يقولون أبو جهل لا يخلص إليه فجعلته من شأني فعمدت نحوه فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح
[ 101 ]
يدي، قال: ثم عاش معاذ إلى وقت عثمان. قال: ومر بأبي جهل معوذ ابن عفراء فضربه حتى أثبته وبه رمق ثم قاتل معوذ حتى قتل فمر عبد الله بن مسعود بأبي جهل لعنه الله فوجده بآخر رمق فذكر ما تقدم. قال في الفتح: فهذا الذي رواه ابن إسحاق يجمع بين الاحاديث، لكنه يخالف ما في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف فإنه رأى معاذا ومعوذا شدا عليه جميعا حتى طرحاه، وابن إسحاق يقول: إن ابن عفراء هو معوذ بتشديد الواو، والذي في الصحيح معاذ، فيحتمل أن يكون معاذ ابن عفراء شد عليه مع معاذ بن عمرو كما في الصحيح وضربه بعد ذلك معوذ حتى أثبته ثم حز رأسه ابن مسعود، فتجتمع الاقوال كلها، وإطلاق كونهما قتلاه يخالف في الظاهر حديث ابن مسعود أنه وجده وبه رمق، وهو محمول على أنهما بلغا به بضربهما إياه بسيفيهما منزلة المقتول حتى لم يبق له إلا مثل حركة المذبوح، وفي تلك الحالة لقيه ابن مسعود فضرب عنقه. وأما ما وقع عند موسى بن عقبة وكذا عند أبي الاسود عن عروة أن ابن مسعود وجد أبا جهل مصروعا بينه وبين المعركة غير كثير متقنعا في الحديد واضعا سيفه على فخذه لا يتحرك منه عضو فظن عبد الله أنه مثبت جراحا فأتاه من ورائه فتناول قائم سيف أبي جهل فاستله ورفع بعضد أبي جهل عن قفاه فضربه فوقع رأسه بين يديه، فيحمل على أن ذلك وقع له بعد أن خاطبه بما تقدم. قوله: والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ ابن عفراء وقع في البخاري في الخمس أنهما ابنا عفراء فقيل: إن عفراء أم معاذ واسم أبيه الحرث، وأما معاذ بن عمرو بن الجموح فليس اسم أمه عفراء وإنما أطلق عليه تغليبا، ويحتمل أن تكون أم معاذ أيضا تسمى عفراء، وأنه لما كان لمعوذ أخ يسمى معاذا باسم الذي شركه في قتل أبي جهل ظنه الراوي أخاه. قوله: نفلني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر سيف أبي جهل يمكن الجمع بأنه صلى الله عليه وآله وسلم نفل ابن مسعود سيفه الذي قتله به فقط، وعلى ذلك يحمل قوله في رواية أحمد: فنفلني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسلبه جمعا بين الاحاديث.
[ 102 ]
باب التسوية بين القوي والضعيف ومن قاتل ومن لم يقاتل عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر: من فعل كذا وكذا فله من النفل كذا وكذا، قال: فتقدم الفتيان ولزم المشيخة الرايات فلم يبرحوا بها، فلما فتح الله عليهم قال المشيخة: كنا ردءا لكم لو انهزمتم لفئتم إلينا فلا تذهبوا بالمغنم ونبقى، فأبى الفتيان وقالوا: جعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنا، فأنزل الله عزوجل: * (يسئلونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول) * إلى قوله عز وجل: * (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون) * (الانفال: 5 1) يقول: فكان ذلك خيرا لهم وكذلك هذا أيضا فأطيعوني فإني أعلم بعاقبة هذا منكم، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسواء رواه أبو داود. وعن عبادة بن الصامت قال: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فشهدت معه بدرا فالتقى الناس فهزم الله العدو، فانطلقت طائفة في أثرهم يهزمون ويقتلون، وأكبت طائفة على الغنائم يحوونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها فليس لاحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو: لستم بأحق بها منا نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لستم بأحق منا نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخفنا أيصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به، فنزلت * (يسئلونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) * فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فواق بين المسلمين. وفي لفظ مختصر: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقسمه فينا على بواء يقول على السواء رواه أحمد. وعسعد بن مالك قال قلت: يا رسول الله الرجل يكون حامية القوم أيكون سهمه وسهم غيره سواء؟ قال: ثكلتك أمك ابن أم سعد وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟ رواه أحمد. [ رح 3344 ] وعن مصعب
[ 103 ]
بن سعد قال: رأى سعد أن فضلا على من دونه فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟ رواه البخاري والنسائي. وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ابغوني ضعفاءكم فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه. حديث ابن عباس سكت عنه أبو داود المنذري، وأخرجه أيضا الحاكم، وصححه أبو الفتح في الاقتراح على شرط البخاري. وحديث عبادة قال في مجمع الزوائد: رجال أحمد ثقات انتهى. وأخرجه أيضا الطبراني وأخرج نحوه الحاكم عنه. وحديث سعد بن مالك في إسناده محمد بن راشد المكحولي قال في التقريب: صدوق يهم. وحديث أبي الدرداء سكت عنه أبو داود، وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الاسناد ولم يخرجاه، وللنسائي زيادة تبين المراد من الحديث ولفظها: قال نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما نصر هذه الامة بضعفائها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم. قوله: من النفل بفتح النون والفاء زيادة يزادها الغازي على نصيبه من الغنيمة، ومنه نفل الصلاة وهو ما عدا الفرض. وقال في القاموس: النفل محركة الغنيمة والهبة، والجمع أنفال ونفال اه. قوله: ولزم المشيخة بفتح الميم كما في شمس العلوم هو جمع شيخ، ويجمع أيضا على شيوخ وأشياخ وشيخة وشيخان ومشايخ. قوله: ردءا بكسر الراء وسكون الدال بعده همزة هو العون والمادة على ما في القاموس. والمراد بقوله: لفئتم أي رجعتم إلينا. قوله: فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالسواء فيه دليل على أنها إذا انفردت منه قطعة فغنمت شيئا كانت الغنيمة للجميع. قال ابن عبد البر: لا يختلف الفقهاء في ذلك، أي إذا خرج الجيش جميعه ثم انفردت منه قطعة انتهى. وليس المراد الجيش القاعد في بلاد الاسلام، فإنه لا يشارك الجيش الخارج إلى بلاد العدو، بل قال ابن دقيق العيد: إن المنقطع من الجيش عن الجيش الذي فيه الامام ينفرد بما يغنمه، قال: وإنما قالوا هو بمشاركة الجيش لهم إذا كانوا قريبا منهم يلحقهم عونه وغوثه لو احتاجوا انتهى. قوله: فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فواق أي قسمها بسرعة في قدر ما بين الحلبتين. وقيل: المراد فضل في القسمة فجعل بعضهم أفوق من بعض على قدر عنايته. قوله: على بواء بفتح
[ 104 ]
الموحدة والواو بعدها همزة ممدودة وهو السواء كما فسره المصنف رحمه الله. قوله: حامية القوم بالحاء المهملة قال في القاموس: والحامية الرجل يحمي أصحابه والجماعة أيضا حامية، وهو على حامية القوم أي آخر من يحميهم في مضيهم انتهى. قوله: رأى سعد أي ابن أبي وقاص وهو والد مصعب الراوي عنه. قال في الفتح: وصورة هذا السياق مرسلة لان مصعبا لم يدرك زمان هذا القول لكنه محمول على أنه سمع ذلك من أبيه. وقد وقع التصريح عن مصعب بالرواية له عن أبيه عند الاسماعيل فأخرج من طريق معاذ بن هانئ حديث محمد بن طلحة فقال فيه: عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذكر المرفوع دون ما في أوله. وكذا أخرجه هو والنسائي من طريق مسعر عن طلحة بن مصرف عن مصعب عن أبيه ولفظه: أنه ظن أن له فضلا على من دونه الحديث. ورواه عمرو بن مرة عن مصعب بن سعد عن أبيه مرفوعا أيضا لكنه اختصره ولفظه: ينصر المسلمون بدعاء المستضعفين أخرجه أبو نعيم في ترجمته في الحلية من رواية عبد السلام بن حرب عن أبي خالد الدالاني عن عمرو بن مرة وقال غريب من حديث عمرو تفرد به عبد السلام، والمراد بقوله: رأى سعد أي ظن كما هو رواية النسائي. قوله: على من دونه أي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما هو مصرح به في رواية النسائي أيضا، وسبب ذلك ما له من الشجاعة والاقدام في ذلك الموطن. قوله: هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم قال ابن بطال: تأويل الحديث أن الضعفاء أشد إخلاصا في الدعاء وأكثر خشوعا في العبادة لخلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا. وقال المهلب: أراصلى الله عليه وآله وسلم بذلك حض سعد على التواضع ونفي الزهو على غيره وتر ك احتقار المسلم في كل حالة. وقد روى عبد الرزاق من طريق مكحول في قصة سعد هذه زيادة مع إرسالها فقال: قال سعد: يا رسول الله أرأيت رجلا يكون حامية القوم ويدفع عن أصحابه أيكون نصيبه كنصيب غيره؟ فذكر الحديث، وعلى هذا فالمراد بالفضل إرادة الزيادة من الغنيمة، فأعلمه صلى الله عليه وآله وسلم أن سهام المقاتلة سواء، فإن كان القوي يترجح بفضل شجاعته فإن الضعيف يترجح بفضل دعائه وإخلاصه. قوله: أبغوني ضعفاءكم أي اطلبوا لي ضعفاءكم، قال في القاموس: بغيته أبغيه بغاء
[ 105 ]
وبغى وبغية بضمهن، وبغية بالكسر طلبته كابتغيته وتبغيته واستبغيته، والبغية ما ابتغى كالبغية، قال: وأبغاه الشئ طلبه له كبغاه إياه كرماه أو أعانه على طلبه انتهى. باب جواز تنفيل بعض الجيش لباسه وغنائمه أو تحمله مكروها دونهم عن سلمة بن الاكوع وذكر قصة إغارة عبد الرحمن الفزاري على سرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واستنقاذه منه قال: فلما أصبحنا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة، قال: ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سهم الفارس وسهم الراجل فجعلهما لي جميعا رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وعن سعد بن أبي وقاص قال: جئت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر بسيف فقلت: يا رسول الله إن الله قد شفى صدري اليوم من العدو فهب لي هذا السيف، فقال: إن هذا السيف ليس لي ولا لك، فذهبت وأنا أقول: يعطاه اليوم من لم يبل بلائي، فبينا أنا إذ جاءني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أجب فظننت أنه نزل في شئ بكلامي فجئت فقال لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنك سألتني هذا السيف وليس هو لي ولا لك وإن الله قد جعله لي فهو لك ثم قرأ: * (يسئلونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول) * (الانفال: 1) إلى آخر الآية، رواه أحمد وأبو داود. حديث سعد بن أبي وقاص عزاه المنذري في مختصر السنن إلى مسلم والترمذي والنسائي، وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الاسناد ولم يخرجاه. قوله: عبد الرحمن الفزاري هو ابن عيينة بن حصن. وعن ابن إسحاق: أن رأس القوم الذين أغاروا على السرح هو عيينة بن حصن. قوله: سرح بفتح السين المهملة وسكون الراء بعدها حاء مهملة، قال في القاموس: السرح المال السائم، وسوم المال كالسروح وأسامتها كالتسريح انتهى. ولفظ البخاري: كانت لقاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترعى واللقاح بكسر اللام وتخفيف القاف ثم مهملة ذوات الدر من الابل، واحدتها لقحة بالكسر وبالفتح أيضا، واللقوح الحلوب، وذكر ابن سعد أنها كانت عشرين لقحة، قال: وكان فيهم ابن أبي ذر وامرأته فأغار المشركون عليهم فقتلوا الرجل
[ 106 ]
وأسروا المرأة، والقصة مبسوطة في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما. قوله: واستنقاذه أي السرح منه، أي من عبد الرحمن المذكور. قوله: ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخ، فيه دليل على أنه يجوز للامام أن ينفل بعض الجيش ببعض الغنيمة إذا كان له من العناية والمقاتلة ما لم يكن لغيره. وقال عمرو بن شعيب: ذلك مختص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم دون من بعده، وكره مالك أن يكون بشرط من أمير الجيش، كأن يحرض على القتال ويعد بأن ينفل الربع أو الثلث قبل القسمة أو نحو ذلك، لان القتال حينئذ يكون للدنيا فلا يجوز، قال في الفتح: وفي هذا رد على من حكى الاجماع على مشروعيته، وقد اختلف العلماء هل هو من أصل الغنيمة أو من الخمس، أو من خمس الخمس، أو مما عدا الخمس؟ على أقوال. واختلفت الرواية عن الشافعي في ذلك فروي عنه أنه من أصل الغنيمة، وروي عنه أنه من الخمس، وروي عنه أنه من خمس الخمس، والاصح عند الشافعية أنه من خمس الخمس، ونقله منذر بن سعيد عن مالك وهو شاذ عندهم، وسيأتي في البا ب الذي بعد هذا ما يرد هذا القول. وقال الاوزاعي وأحمد وأبو ثور وغيرهم: النفل من أصل الغنيمة، وإلى ذلك ذهبت الهادوية، وقال مالك وطائفة: لا نفل إلا من الخمس. قال الخطابي: أكثر ما روي من الاخبار يدل على أن النفل من أصل الغنيمة. قال ابن عبد البر: إن أراد الامام تفضيل بعض الجيش لمعنى فيه فذلك من الخمس لا من رأس الغنيمة، وإن انفردت قطعة فأراد أن ينفلها مما غنمت دون سائر الجيش فذلك من غير الخمس بشرط أن لا يزيد على الثلث، وسيأتي بيان الخلاف في المقدار الذي يجوز تنفيله. باب تنفيل سرية الجيش عليه واشتراكهما في الغنائم عن حبيب بن مسلمة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفل الربع بعد الخمس في بدأته، ونفل الثلث بعد الخمس في رجعته رواه أحمد وأبو داود. وعن عبادة بن الصامت: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينفل في البدأة الربع وفي الرجعة الثلث رواه أحمد وابن ماجة والترمذي. وفي رواية: كان إذا غاب في أرض العدو نفل الربع، وإذا أقبل راجعا وكل الناس نفل الثلث، وكان يكره
[ 107 ]
الانفال ويقول: ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم رواه أحمد. حديث حبيب أخرجه أيضا ابن ماجة وصححه ابن الجارود وابن حبان والحاكم، وقد رواه أبو داود عنه من طرق ثلاث: منها عن مكحول بن عبد الله الشامي قال: كنت عبدا بمصر لامرأة من بني هذيل فأعتقتني فما خرجت من مصر وبها علم إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الحجاز فما خرجت منها وبها علم إلا حويته فيما أرى، ثم أتيت العراق فما خرجت منها وبها علم إلا حويته فيما أرى، ثم أتيت الشام فغربلتها، كل ذلك أسأل عن النفل فلم أجد أحدا يخبرني فيه بشئ، حتى لقيت شيخا يقال له زياد بن جارية التميمي فقلت له: هل سمعت في النفل شيئا؟ قال نعم سمعت حبيب بن مسلمة الفهري يقول: شهدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة. قال المنذري: وأنكر بعضهم أن يكون لحبيب هذا صحبة وأثبتها له غير واحد، وقد قال في حديثه: شهدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكنيته أبو عبد الرحمن، فكان يسمى حبيبا الرومي لكثرة مجاهدته الروم انتهى. وولاه عمر بن الخطاب أعمال الجزيرة وأذربيجان، وكان فاضلا مجاب الدعوة، وهو بالحاء المهملة المفتوحة بموحدتين بينهما مثناة تحتية. وحديث عبادة بن الصامت صححه أيضا ابن حبان. (وفي الباب) عن معن بن يزيد قال: سمعت رسول الله صلى الله عدليه وآله وسلم يقول: لا نفل إلا بعد الخمس رواه أحمد وأبو داود وصححه الطحاوي. قوله: نفل الربع بعد الخمس في بدأته الخ، قال الخطابي: البدأة ابتداء السفر للغزو، وإذا نهضت سرية من جملة العسكر، فإذا أوقعت بطائفة من العدو فما غنموا كان لهم فيه الربع ويشركهم سائر العسكر في ثلاثة أرباعه، فإن قفلوا من الغزوة ثم رجعوا فأوقعوا بالعدو ثانية كان لهم مما غنموا الثلث، لان نهوضهم بعد القفل أشق لكون العدو على حذر وحزم انتهى. ورواية أحمد المذكورة في حديث عبادة تدل على أن تنفيل الثلث لاجل ما لحق الجيش من الكلال وعدم الرغبة في القتال، لا لكون العدو قد أخذ حذره منهم. قوله: بعد الخمس فيه دليل على أنه يجب تخميس الغنيمة قبل التنفيل، وكذلك حديث معن الذي ذكرناه. (وفي الحديثين) أيضا دليل على أنه يصح أن يكون النفل زيادة على مقدار الخمس، وفيه رد على من قال إنه لا يصح التنفيل إلا من الخمس أو خمس الخمس،
[ 108 ]
وقد تقدم بيان القائل بذلك، وسيأتي تفصيل الخلاف في المقدار الذي يجوز التنفيل إليه. وعن ابن عمر: أالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لانفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش، والخمس في ذلك كله واجب. وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية قبل نجد فخرجت فيها فبلغت سهماننا اثني عشر بعيرا، ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعيرا بعيرا متفق عليهما. وفي رواية قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية قبل نجد فأصبنا نعما كثيرا، فنفلنا أميرنا بعيرا بعيرا لكل إنسان، ثم قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيننا غنيمتنا فأصاب كل رجل منا اثني عشر بعيرا بعد الخمس، وما حاسبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالذي أعطانا صاحبنا ولا عاب عليه ما صنع، فكان لكل رجل منا ثلاثة عشر بعيرا بنفله رواه أبو داود. [ رح 3353 ] وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، يرد مشدهم على مضعفهم ومتسريهم على قاعدهم رواه أبو داود. وقال أحمد في رواية أبي طالب: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: السرية ترد على العسكر، والعسكر يرد على السرية. حديث عمرو بن شعيب أخرجه أيضا ابن ماجة وسكت عنه أبو داود والمنذري، وأخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر مطولا. ورواه ابن ماجة من حديث معقل بن يسار مختصرا. ورواه الحاكم عن أبي هريرة مختصرا أيضا. ورواه أبو داود والنسائي والحاكم من حديث علي وقد تقدم في أول كتاب الدماء. قوله: والخمس في ذلك كله واجب فيه دليل على أنه يجب تخميس النفل، ويدل على ذلك أيضا حديث حبيب بن مسلمة المتقدم فإن فيه: أنه صلى الله عليه وآله وسلم نفل الربع بعد الخمس، ونفل الثلث بعد الخمس. وكذلك حديث معن الذي تقدم قريبا بلفظ: لا نفل إلا بعد الخمس. قوله: قبل نجد بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهتها. قوله: فبلغت سهماننا أي انصباؤنا، والمراد أنه بلغ نصيب كل واحد هذا القدر،
[ 109 ]
وتوهم بعضهم أن ذلك جميع الانصباء. قال النووي: وهو غلط. قوله: اثني عشر بعيرا ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعيرا بعيرا هكذا وقع في رواية. وفي رواية أخرى للبخاري: اثني عشر بعيرا أو أحد عشر بعيرا. وقد وقع بيان هذا الشك في غيره من الروايات المذكور بعضها في الباب. وفي رواية لابي داود: فكان سهمان الجيش اثني عشر بعيرا اثني عشر بعيرا، ونفل أهل السرية بعيرا بعيرا، فكان سهامهم ثلاثة عشر بعيرا وأخرج ابن عبد البر من هذا الوجه أن ذلك الجيش أربعة آلاف. قوله: ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخ، فيه دليل على أن الذي نفلهم هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد وقع الخلاف بين الرواة في القسم والتنفيل هل كانا جميعا من أمير ذلك الجيش أو من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو أحدهما من أحدهما؟ فهذه الرواية صريحة أن الذي نفلهم هو النبي (ص). ورواية أبي داود المذكورة بعدها مصرحة بأن الذي نفلهم هو الامير ورواية ابن إسحاق مصرحة أن التنفيل كان من الامير، والقسم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وظاهر رواية مسلم من طريق الليث عن نافع أن ذلك صدر من أمير الجيش، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مقررا لذلك ومجيزا له، لانه قال فيه: ولم يغيره النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ويمكن الجمع بأن المراد بالرواية التي صرح فيها بأن المنفل هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه وقع منه التقرير. قال النووي: معناه أن أمير السرية نفلهم فأجازه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجازت نسبته إلى كل منهما. وفي هذا التنفيل دليل على أنه يصح أن يكون التنفيل أكثر من خمس الخمس. قال ابن بطال: وحديث الباب يرد على هذا القول معنى قول من قال: إن التنفيل يكون من خمس الخمس لانهم نفلوا نصف السدس وهو أكثر من خمس الخمس، وقد زاده ابن المنير إيضاحا فقال: لو فرضنا أنهم كانوا مائة لكان قد حصل لهم ألف ومائتا بعير، ثم بين مقدار الخمس وخمسه، وأنه لا يمكن أن يكون لكل إنسان منه بعير. قال ابن التين: قد انفصل من قال من الشافعية بأن التنفيل من خمس الخمس بأوجه: منها أن الغنيمة لم تكن كلها أبعربل كان فيها أصناف أخرى فيكون التنفيل وقع من بعض الاصناف دون بعض. ثانيها: أن يكون نفلهم من سهمه من هذه الغزاة وغيرها فضم هذا إلى هذا فلذلك زادت العدة. ثالثها: أن يكون
[ 110 ]
نفل بعض الجيش دون بعض، قال: وظاهر السياق يرد هذه الاحتمالات، قال: وقد جاء أنهم كانوا عشرة وأنهم غنموا مائة وخمسين بعيرا، فخرج منها الخمس وهو ثلاثون وقسم عليهم البقية فحصل لكل واحد اثنا عشر، ثم نفلوا بعيرا بعيرا، فعلى هذا يكون نفلوا ثلث الخمس، وقد قدمنا عن ابن عبد البر أنه قال: إن أراد الامام تفضيل بعض الجيش لمعنى فيه فذلك من الخمس لامن رأس الغنيمة، وإن انفردت قطعة فأراد أن ينفلها مما غنمت دون سائر الجيش فذلك من غير الخمس بشرط أن لا يزيد على الثلث انتهى. قال الحافظ في الفتح: وهذا الشرط قال به الجمهور، وقال الشافعي: لا يتحدد بل هو راجع إلى ما يراه الامام من المصلحة، ويدل له قوله تعالى: * (قل الانفال لله والرسول) * (الانفال: 1) ففوض إليه أمرها انتهى. وقد حكى صاحب البحر هذا الذي قال به الشافعي عن أبي حنيفة والهادي والمؤيد بالله. وحكي عن الاوزاعي أنه لا يجاوز الثلث. وعن ابن عمر يكون بنصف السدس. قال الاوزاعي: ولا ينفل من أول الغنيمة، ولا ينفل ذهبا ولا فضة، وخالفه الجمهور، ولم يأت في الاحاديث الصحيحة ما يقضي بالاقتصار على مقدار معين ولا على نوع معين، فالظاهر تفويض ذلك إلى رأي الامام في جميع الاجناس. قوله: المسلمون تتكافأ دماؤهم هذا قد سبق شرحه في كتاب الدماء إلى قوله: وهم يد على من سواهم وقد ذكره المصنف هنالك من حديث علي. قوله: يرد مشدهم على مضعفهم أي يرد من كان له فضل قوة على من كان ضعيفا، والمراد بالمتسري الذي يخرج في السرية، وقد تقدم الكلام على هذا. باب بيان الصفي الذي كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسهمه مع غيبته عن يزيد بن عبد الله قال: كنا بالمربد إذ دخل رجل معه قطعة أديم فقرأناها فإذا فيها: من محمد رسول الله إلى بني زهير بن أقيش إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وأديتم الخمس من
[ 111 ]
المغنم وسهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسهم الصفي أنتم آمنون بأمان الله ورسوله، فقلنا: من كتب لك هذا؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه أبو داود والنسائي. وعن عامر الشعبي قال: كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم سهم يدعى الصفي إن شاء عبدا، وإن شاء أمة، وإن شاء فرسا يختاره قبل الخمس. وعن ابن عون قال: سألت محمدا عن سهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصفي قال: كان يضرب له سهم مع المسلمين وإن لم يشهد، والصفي يؤخذ له رأس من الخمس قبل كل شئ رواهما أبو داود وهما مرسلان. وعن عائشة قالت: كانت صفية من الصفي رواه أبو داود. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تنفل سيفه ذا الفقار يوم بدر، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن غريب. حديث يزيد بن عبد الله سكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح، قال المنذري: ورواه بعضهم عن يزيد بن عبد الله وسمي الرجل النمر بن تولب الشاعر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويقال: إنه ما مدح أحدا ولا هجا أحدا، وكان جوادا لا يكاد يمسك شيئا، وأدرك الاسلام وهو كبير انتهى. ويزيد ابن عبد الله المذكور وهو ابن الشخير. وحديث عامر الشعبي سكت عنه أيضا أبو داود ورجاله ثقات وهو مرسل، وأخرجه أيضا النسائي. وحديث ابن عون سكت أيضا عنه أبو داود ورجاله ثقات وهو مرسل كما قال المصنف، لان الشعبي وابن سيرين لم يدركا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخرجه أيضا النسائي. وحديث عائشة سكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله رجال الصحيح، وأخرجه ابن حبان والحاكم وصححه أيضا، ويشهد له ما أخرجه أبو داود من حديث عمرو بن أبي عمرو عن أنس بن مالك قال: قدمنا خيبر فلما فتح الله الحصن ذكر له جمال صفية بنت حيي وقد قتل زوجها وكانت عروسا فاصطفاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لنفسه فخرج بها حتى بلغنا سد الصبهاء حلت فبنى بها ويعارضه ما أخرجه الشيخان وأبو داود وابن ماجة من حديث عبد العزيز بن صهيب عن أنس بن مالك أيضا قال: صارت صفية لدحية الكلبي، ثم صارت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وما أخرجه أيضا مسلم وأبو داود من طريق ثابت البناني
[ 112 ]
عنه قال: وقع في سهم دحية جارية جميلة فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسبعة أرؤوس ثم دفعها إلى أم سليم تصنعها وتهيئها، قال حماد يعني ابن زيد: وأحسبه قال: وتعتد في بيتها وهي صفية بنت حيي. وما أخرجه البخاري ومسلم والنسائي عن أنس أيضا من طريق عبد العزيز بن صهيب قال: جمع السبي يعني بخيبر فجاء دحية فقال: يا رسول الله أعطني جارية من السبي فقال: اذهب فخذ جارية فأخذ صفية بنت حيي، فجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا نبي الله أعطيت دحية صفية بنت حيي سيدة قريظة. والنضير ما تصلح إلا لك، قال: ادعوا بها، فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: خذ جارية من السبي غيرها، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعتقها وتزوجها. وبهذه الرواية يجمع بين الروايات المختلفة. وأما ما وقع من أنه صلى الله عليه وآله وسلم اشتراها بسبعة أرؤس فلعل المراد أنه عوضه عنها بذلك المقدار، وإطلاق الشراء على العوض على سبيل المجاز، ولعله عوضه عنها جارية أخرى من قرابتها فلم تطب نفسه فأعطاه زيادة على ذلك سبعة أرؤس من جملة السبي. قال السهيلي: لا معارضة بين هذه الاخبار فإنه أخذها من دحية قبل القسمة والذي عوضه عنها ليس على سبيل البيع. وقد أشار الحافظ في الفتح إلى مثل ما ذكرنا من الجمع، والحكمة في استرجاعها من دحية أنه لما قيل له إنها بنت ملك من ملوكهم ظهر له أنها ليست ممن توهب لدحية لكثرة من كان في الصحابة مثل دحية وفوقه، وقلة من كان في السبي مثل صفية في نفاستها، فلو خصه بها لامكن تغير خاطر بعضهم فكان من المصلحة العامة ارتجاعها منه واختصاص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بها فإن في ذلك رضا الجميع، وليس ذلك من الرجوع في الهبة في شئ. وحديث ابن عباس المذكور في الباب قال الترمذي بعد إخراجه وتحسينه: إنما نعرفه من هذا الوجه من حديث أبي الزناد. وأخرجه ابن ماجة والحاكم وصححه. قوله: ذاالفقار بفتح الفاء قال في القاموس: وذو الفقار بالفتح سيف العاص بن منبه قتل يوم بدر كافرا فصار إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم إلى علي انتهى. قوله: وهو الذي رأى فيه الرؤيا أي رأى أن فيه فلولا فعبره بقتل واحد من أهله فقتل حمزة بن عبد المطلب، والقضية مشهورة والاحاديث المذكورة تدل على أن للامام أن يختص
[ 113 ]
من الغنيمة بشئ لا يشاركه فيه غيره وهو الذي يقال له الصفي، وقد قدمنا الخلاف في ذلك في باب أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين. باب من يرضخ له من الغنيمة عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة، وأما بسهم فلم يضرب لهن. وعنه أيضا: أنه كتب إلى نجدة الحروري سألت عن المرأة والعبد هل كانا لهما سهم معلوم إذا حضر الناس؟ وأنه لم يكن لهما سهم معلوم إلا أن يحذيا من غنائم القوم رواهما أحمد ومسلم. وعن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعطي المرأة والمملوك من الغنائم دون ما يصيب الجيش رواه أحمد. وعن عمير مولى آبي اللحم قال: شهدت خيبر مع سادتي فكلموا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمر بي فقلدت سيفا فإذا أنا أجره فأخبر أني مملوك فأمر لي بشئ من خرثى المتاع رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه. وعن حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه: أنها خرجت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم غزوة خيبر سادس ست نسوة، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبعث إلينا فجئنا فرأينا فيه الغضب فقال: مع من خرجتن وبإذن من خرجتن؟ فقلنا: يا رسول الله خرجنا نغزل الشعر ونعين في سبيل الله، ومعنا دواء للجرحى، ونناول السهام، ونسقي السويق، قال: قمن فانصرفن، حتى إذا فتح الله عليه خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال، قال: فقلت لها: يا جدة وما كان ذلك؟ قالت: تمرا رواه أحمد وأبو داود. وعن الزهري: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسهم لقوم من اليهود قاتلوا معه رواه الترمذي وأبو داود في مراسيله. وعن الاوزاعي قال: أسهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصبيان بخيبر رواه الترمذي، ويحمل الاسهام فيه وفيما قبله على الرضخ. حديث ابن عباس الاول والثاني أخرجهما أيضا أبو داود والترمذي وصححهما. وحديث عمير أخرجه أيضا ابن ماجة والحاكم وصححه، وزاد الترمذي بعد قوله: فأمر لي بشئ من خرثي المتاع ما لفظه: وعرضت عليرقية كنت أرقي بها
[ 114 ]
المجانين فأمرني بطرح بعضها وحبس بعضها. وحديث حشرج أخرجه أيضا النسائي وسكت عنه أبو داود وفي إسناده رجل مجهول وهو حشرج قاله الحافظ في التلخيص. وقال الخطابي: إسناده ضعيف لا تقوم به حجة. وحديث الزهري رواه الترمذي عن قتيبة بن سعيد قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد عن عروة بن ثابت عن الزهري قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب انتهى وهذا مرسل. وحديث الاوزاعي رواه الترمذي عن علي بن خشرم قال: أخبرنا عيسى ابن يونس عن الاوزاعي ولفظه: أسهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للصبيان بخيبر، وأسهم أئمة المسلمين لكل مولود ولد في أرض الحرب، وأسهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم للنساء بخيبر، وأخذ بذلك المسلمون بعده انتهى وهذا أيضا مرسل. قوله: إلى نجدة الحروري بفتح النون وسكون الجيم وبعدها دال مهملة وهو ابن عامر الحنفي الخارجي وأصحابه يقالهم النجدات محركة. والحروري نسبة إلى حروراء وهي قرية بالكوفة. قوله: يحذين بالحاء المهملة والذال المعجمة أي يعطين، قال في القاموس: الحذوة بالكسر العطية انتهى. قوله: آبي اللحم هو اسم فاعل من أبى يأبى فهو آبي، قال أبو داود، قال أبو عبيد: كان حرم اللحم على نفسه فسمي آبي اللحم. قوله: من خرثى المتاع بالخاء المعجمة المضمومة وسكون الراء المهملة بعدها مثلثة وهو سقطه. قال في النهاية: هو أثاث البيت. وقال في القاموس: الخرثى بالضم أثاث البيت أو أراد المتاع والغنائم. قوله: وعن حشرج بفتح الحاء المهملة وسكون الشين المعجمة وبعدها راء مهملة مفتوحة وجيم. قوله: عن جدته هي أم زياد الاشجعية وليس لها سوى هذا الحديث. قوله: ونسقي السويق هو شئ يعمل من الحنطة والشعير. (وقد اختلف) أهل العلم هل يسهم للنساء إذا حضرن؟ فقال الترمذي: إنه لا يسهم لهن عند أكثر أهل العلم، قال: وهو قول سفيان الثوري والشافعي. قال: وقال بعضهم يسهم للمرأة والصبي وهو قول الاوزاعي. وقال الخطابي: إن الاوزاعي قال يسهم لهن، قال: وأحسبه ذهب إلى هذا الحديث يعني حديث حشرج بن زياد وإسناده ضعيف لا تقوم به حجة اه. وقد حكي في البحر عن العترة والشافعية والحنفية أنه لا يسهم للنساء والصبيان والذميين. وعن مالك أنه قال: لا أعلم العبد يعطى شيئا. وعن الحسن بن صالح أنه يسهم
[ 115 ]
للعبد كالحر. وعن الزهري أنه يسهم الذمي لا للعبد. والنساء والصبيان فيرضخ لهم. وقال الترمذي بعد أن أخرج حديث عمير مولى آبي اللحم المذكور في الباب: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم أنه لا يسهم للمملوك ولكن يرضخ له بشئ وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال أيضا: إن العمل عند بعض أهل العلم على أنه لا يسهم لاهل الذمة وإن قاتلوا مع المسلمين العدو، ورأى بعض أهل العلم أنه يسهم لهم إذا شهدوا القتال مع المسلمين انتهى. والظاهر أنه لا يسهم للنساء والصبيان والعبيد والذميين، وما ورد من الاحاديث مما فيه إشعار بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسهم لاحد من هؤلاء فينبغي حمله على الرضخ وهو العطية القليلة جمعا بين الاحاديث، وقد صرح حديث ابن عباس المذكور في أول الباب بما يرشد إلى هذا الجمع، فإنه نفى أن يكون للنساء والعبيد سهم معلوم وأثبت الحذية، وهكذا حديثه الآخر فإنه صرح بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعطي المرأة والمملوك دون ما يصيب الجيش. وهكذا حديث عمير المذكور فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رضخ له بشئ من الاثاث ولم يسهم له، فيحمل ما وقع في حديث حشرج من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسهم للنساء بخيبر على مجرد العطية من الغنيمة، وهكذا يحمل ما وقع في مرسل الزهري المذكور من الاسهام لقوم من اليهود، وما وقع في مرسل الاوزاعي المذكور أيضا من الاسهام للصبيان، كما لمح إلى ذلك المصنف رحمه الله تعالى. باب الاسهام للفارس والراجل عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم: سهم له وسهمان لفرسه رواه أحمد وأبو داود. وفي لفظ: أسهم للفرس سهميوللرجل سهما متفق عليه. وفي لفظ: أسهم يوم حنين للفارس ثلاثة أسهم: للفرس سهمان وللرجل سهم رواه ابن ماجة. وعن المنذر بن الزبير عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى الزبير سهما وأمه سهما وفرسه سهمين رواه أحمد. وفي لفظ قال: ضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر للزبير أربعة أسهم
[ 116 ]
: سهم للزبير، وسهم لذي القربى لصفية أم الزبير، وسهمين للفرس رواه النسائي. وعن أبي عمرة عن أبيه قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعة نفر ومعنا فرس فأعطى كل إنسان منا سهما وأعطى الفرس سهمين رواه أحمد وأبو داود. واسم هذا الصحابي عمرو بن محصن. وعن أبي رهم قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا وأخي ومعنا فرسان فأعطانا ستة أسهم: أربعة أسهم لفرسينا وسهمين لنا. وعن أبي كبشة الانماري قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة كان الزبير على المجنبة اليسرى، وكان المقداد على المجنبة اليمنى، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة وهدأ الناس جاءا بفرسيهما فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح الغبار عنهما وقال: إني جعلت للفرس سهمين وللفارس سهما فمن نقصهما نقصه الله رواهما الدارقطني. وعنابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسم لمائتي فرس بخيبر سهمين سهمين. [ رح 3372 ] وعن خالد الحذاء قال: لا يختلف فيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم رواهما الدارقطني. وعن مجمع بن جارية الانصاري قال: قسمت خيبر على أهل الحديبية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ثمانية عشر سهما، وكان الجيش ألفا وخمسمائة فيهم ثلاثمائة فارس، فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما رواه أحمد وأبو داود، وذكر أن حديث ابن عمر أصح، قال: وأتى الوهم في حديث مجمع أنه قال: ثلاثمائة فارس، وإنما كانوا مائتي فارس. حديث ابن عمر له ألفاظ في الصحيحين وغيرهما غير ما ذكره المصنف وهو في الصحيحين من حديثه. وحديث أنس وحديث عروة بن الجعد البارقي، وفي الباب عن أبي هريرة عند الترمذي والنسائي. وعن عتبة بن عبد عند أبي داود. وعن جرير عند مسلم وأبي داود. وعن جابر وأسماء بنت يزيد عند أحمد. وعن حذيفة عن أحمد والبزار، وله طرق أخرى جمعها الدمياطي في كتاب الخيل. قال الحافظ: وقد لخصته وزدت عليه في جزء لطيف. وحديث المنذر بن الزبير قال في مجمع الزوائد: رجال أحمد ثقات، وقد أخرج نحوه النسائي من طريق يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن جده، وروى الشافعي من حديث مكحول: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى الزبير خمسة أسهم لما حضر خيبر بفرسين وهو مرسل.
[ 117 ]
وقد روى الشافعي أيضا عن ابن الزبير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعط الزبير إلا لفرس واحد، وقد حضر يوم خيبر بفرسين، وولد الرجل أعرف بحديثه. ولكنه روى الواقدي عن عبد الملك بن يحيى عن عيسى بن معمر قال: كان مع الزبير يوم خيبر فرسان فأسهم له النبي صلى الله عليه وآله وسلم خمسة أسهم، وهذا المرسل يوافق مرسل مكحول لكن الشافعي كان يكذب الواقدي. وحديث أبي عمرة في إسناده المسعودي وهو عبدالرحمبن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود وفيه مقال وقد استشهد به البخاري. ورواه أبو داود أيضا من طريق أخرى عن رجل من آل أبي عمرة عن أبي عمرة وزاد: فكان للفارس ثلاثة أسهم. وحديث أبي رهم أخرجه أيضا أبو يعلى والطبراني وفي إسناده إسحاق بن أبي فروة وهو متروك. وحديث أبي كبشة أخرجه أيضا الطبراني وفي إسناده عبد الله بن بسر الحبراني وثقه ابن حبان وضعفه الجمهور، وبقية أحاديث الباب القاضية بأنه يسهم للفرس ولصاحبه ثلاثة أسهم تشهد لها الاحاديث الصحيحة التي ذكرها المصنف وذكرناها. وأما حديث مجمع بن جارية فقال أبو داود: حديث أبي معاوية أصح والعمل عليه ونعني به حديث ابن عمر المذكور في أول الباب، قال: وأرى الوهم في حديث مجمع أنه قال ثلثمائة فارس وإنما كانوا مائتي فارس. وقال الحافظ في الفتح: إن في إسناده ضعفا، ولكنه يشهد له ما أخرجه الدارقطني من طريق أحمد بن منصور الرمادي عن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة وابن نمير كلاهما عن عبيدالله بن عمر بلفظ: أسهم للفارس سهمين، قال الدارقطني عن شيخه أبي بكر النيسابوري: وهم فيه الرمادي أو شيخه، وعلى فرض صحته فيمكن تأويله بأن المراد أسهم للفارس بسبب فرسه سهمين غير سمه المختص به كما أشار إلى ذلك الحافظ. قال: وقد رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ومسنده بهذا الاسناد فقال للفرس. وكذلك أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب الجهاد له عن ابن أبي شيبة قال: فكأن الرمادي رواه بالمعنى. وقد أخرجه أحمد عن أبي أسامة وابن نمير معا بلفظ: أسهم للفرس، قال: وعلى هذا التأويل يحمل ما رواه نعيم بن حماد عن ابن المبارك عن عبيدالله مثل رواية الرمادي أخرجه الدارقطني، وقد رواه علي بن الحسن بن شقيق وهو أثبت من نعيم عن ابن المبارك بلفظ: أسهم للفرس. وقيل: إن إطلاق
[ 118 ]
الفرس على الفارس مجاز مشهور، ومنه قولهم: يا خيل الله اركبي كما ورد في الحديث. ولا بد من المصير إلى تأويل حديث مجمع وما ورد في معناه لمعارضته للاحاديث الصحيحة الثابتة عن جماعة من الصحابة في الصحيحين وغيرهما كما تقدم. وقد تمسك أبو حنيفة وأكثر العترة بحديث مجمع المذكور وما ورد في معناه فجعلوا للفارس وفرسه سهمين، وقد حكي ذلك عن علي وعمر وأبي موسى. وذهب الجمهور إلى أنه يعطي الفرس سهمين والفارس سهما والراجل سهما. قال الحافظ في الفتح: والثابت عن عمر وعلي كالجمهور. وحكي في البحر عن علي وعمر والحسن البصري وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز وزيد بن علي والباقر والناصر والامام يحيى ومالك والشافعي والاوزاعي وأبي يوسف ومحمد وأهل المدينة وأهل الشام أنه يعطي الفارس وفرسه ثلاثة سهام واحتج لهم ببعض أحاديث الباب، ثم أجاب عن ذلك فقال قلت: يحتمل أالثالث في بعض الحالات تنفيل جمعا بين الاخبار انتهى. ولا يخفى ما في هذا الاحتمال من التعسف، وقد أمكن الجمع بين أحاديث الباب بما أسلفنا، وهو جمع نير دلت عليه الادلة التي قدمناها، وقد تقرر في الاصول أن التأويل في جانب المرجوح من الادلة لا الراجح، والادلة القاضية بأن للفارس وفرسه سهمين مرجوحة لا يشك في ذلك من له أدنى إلمام بعلم السنة. وقد نقل عن أبي حنيفة أنه احتج لما ذهب إليه بأنه يكره أن تفضل البهيمة على المسلم، وهذه حجة ضعيفة وشبهة ساقطة، ونصبها في مقابلة السنة الصحيحة المشهورة مما لا يليق بعالم. وأيضا السهام في الحقيقة كلها للرجل لا للبهيمة. وأيضا قد فضلت الحنفية الدابة على الانسان في بعض الاحكام فقالوا: لو قتل كلب صيد قيمته أكثر من عشرة آلاف أداها، فإن قتل عبدا مسلما لم يؤد فيه إلا دون عشرة آلاف درهم. وقد استدل للجمهور في مقابلة هذه الشبهة بأن الفرس تحتاج إلى مؤنة لخدمتها وعلفها، وبأنه يحصل بها من الغناء في الحرب ما لا يخفى. وقد اختلف فيمن حضر الوقعة بفرسين فصاعدا هل يسهم لكل فرس أم لفرس واحدة؟ فروي عن سليمان بن موسى أنه يسهم لكل فرس سهمان بالغا ما بلغت. قال القرطبي في المفهم: ولم يقل أحد أنه يسهم لاكثر من فرسين إلا ما روي عن سليمان بن موسى. وحكي في البحر عن الشافعية والحنفية والهادوية أن من حضر بفرسين أو أكثر أسهم
[ 119 ]
لواحد فقط. وعن زيد بن علي والصادق والناصر والاوزاعي وأحمد بن حنبل، وحكاه في الفتح عن الليث وأبي يوسف وأحمد وإسحاق أنه يسهم لفرسين لا أكثر. قال الحافظ في التلخيص: فيه أحاديث منقطعة أحدها عن الاوزاعي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يسهم للخيل ولا يسهم للرجل فوق فرسين وإن كامعه عشرة أفراس رواه سعيد بن منصور عن إسماعيل بن عياش وهو معضل. ورواه سعيد من طريق الزهري: أن عمر كتب إلى أبي عبيدة أنه يسهم للفرس سهمين وللفرسين أربعة أسهم ولصاحبه سهما فذلك خمسة أسهم، وما كان فوق الفرسين فهو جنائب. وروى الحسن عن بعض الصحابة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يقسم إلا لفرسين. وأخرج الدارقطني بإسناد ضعيف عن أبي عمرة قال: أسهم لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفرسي أربعة ولي سهما فأخذت خمسة وقد قدمنا اختلاف الرواية في حضور الزبير يوم خيبر بفرسين هل أعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم سهم فرس واحدة أو سهم فرسين؟ والاسهام للدواب خاص بالافراس دون غيرها من الحيوانات. قال في البحر مسألة: ولا يسهم لغير الخيل من البهائم إجماعا إذ لا إرهاب في غيرها، ويسهم للبرذون والمقرف والهجين عند الاكثر، وقال الاوزاعي: لا يسهم للبرذون. باب الاسهام لمن غيبه الامير في مصلحة عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام يعني يوم بدر فقال: إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله وأنا أبايع له، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسهم ولم يضرب لاحد غاب غيره رواه أبو داود. وعن ابن عمر قال: لما تغيب عثمان عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت مريضة فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن لك أجر رجل وسهمه رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه.
[ 120 ]
حديث ابن عمر الاول سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده موثقون. قوله: وأنا أبايع له في رواية للبخاري: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: بيده اليمنى أي أشار بها وقال: هذه يد عثمان أي بدلها فضرب بها على يده اليسرى فقال: هذه أي البيعة لعثمان أي عن عثمان. قوله: وكانت مريضة أخرج الحاكم في المستدرك من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه قال: خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عثمان وأسامة بن زيد على رقية في مرضها لما خرج إلى بدر، فماتت رقية حين وصل زيد بن حارثة بالبشارة، وكان عمر رقية لما ماتت عشرين سنة. قال ابن إسحاق: ويقال إن ابنها عبد الله بن عثمان مات بعدها سنة أربع من الهجرة وله ست سنين. وقد استدل بقصة عثمان المذكورة على أنه يسهم الامام لمن كان غائبا في حاجة له بعثه لقضائها، وأما من كان غائبا عن القتال لا لحاجة الامام وجاء بعد الواقعة فذهب أكثر العترة والشافعي ومالك والاوزاعي والثوري والليث إلى أنه لا يسهم له، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يسهم لمن حضر قبل إحرازها إلى دار الاسلام، وسيأتي في باب ما جاء في المدد يلحق بعد تقضي الحرب ما استدل به أهل القول الاول وأهل القول الثاني. باب ما يذكر في الاسهام لتجار العسكر وأجرائهم عن خارجة بن زيد قال: رأيت رجلا سأل أبي عن الرجل يغزو ويشتري ويبيع ويتجر في غزوه فقال له: إنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتبوك نشتري ونبيع وهو يرانا ولا ينهانا رواه ابن ماجة. وعن يعلى بن منية قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالغزو وأنا شيخ كبير ليس لي خادم، فالتمست أجيرا يكفيني وأجري له سهمه، فوجدت رجلا فلما دنا الرحيل أتاني فقال: ما أدري ما السهمان وما يبلغ سهمي؟ فسم لي شيئا كان السهم أو لم يكن، فسميت له ثلاثة دنانير، فلما حضرت غنيمة أردت أن أجري له سهمه فذكرت الدنانير فجئت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكرت أمره فقال: ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي سمى رواه أبو داود. وقد صح أن سلمة
[ 121 ]
بن الاكوع كان أجيرا لطلحة حين أدركه عبد الرحمن بن عيينة لما أغار على سرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأعطاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم سهم الفارس والراجل، وهذا المعنى لاحمد ومسلم في حديث طويل. ويحمل هذا على أجير يقصد مع الخدمة الجهاد، والذي قبله على من لا يقصده أصلا جمعا بينهما. الحديث الاول في إسناده عند ابن ماجة سنيد بن داود المصيصي وهو ضعيف، ويشهد له ما أخرجه أبو داود وسكت عنه هو والمنذري عن عبيدالله بن سليمان: أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم حدثه قال: لما فتحنا خيبر أخرجوا غنائمهم من المتاع والسبي فجعل الناس يتبايعون غنائمهم، فجاء رجل فقال: يا رسول الله لقد ربحت ربحا ما ربح اليوم مثله أحد من أهل هذا الوادي، فقال: ويحك وما ربحت؟ قال: ما زلت أبيع وأبتاع حتى ربحت ثلاثمائة أوقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا أنبئك بخير رجل ربح، قال: وما هو يا رسول الله؟ قال: ركعتين بعد الصلاة. فهذا الحديث وحديث خارجة المذكور فيهما دليل على جواز التجارة في الغزو، وعلى أن الغازي مع ذلك يستحق نصيبه من المغنم، وله الثواب الكامل بلا نقص، ولو كانت التجارة في الغزو موجبة لنقصان أجر الغازي لبينه صلى الله عليه وآله وسلم، فلما لم يبين ذلك بل قرره دل على عدم النقصان، ويؤيد ذلك جواز الاتجار في سفر الحج لما ثبت في الحديث الصحيح أنه لما تحرج جماعة من التجار في سفر الحج أنزل الله تعالى: * (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) * (البقرة: 198). والحديث الثاني سكت عنه أيضا أبو داود والمنذري، وأخرجه الحاكم وصححه، وأخرجه البخاري بنحوه وبوب عليه باب الاجير، وقد اختلف العلماء في الاسهام للاجير إذا استؤجر للخدمة، فقال الاوزاعي وأحمد وإسحاق: لا يسهم له، وقال الاكثر: يسهم له واحتجوا بحديث سلمة الذي أشار إليه المصنف وفيه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسهم له، وأما إذا استؤجر الاجير ليقاتل فقالت الحنفية والمالكية: لا سهم له، وقال الاكثر: له سهمه. وقال أحمد: لو استأجر الامام قوما على الغزو لم يسهم لهم سوى الاجرة. وقال الشافعي: هذفيمن لم يجب عليه الجهاد، أما الحر البالغ المسلم إذا حضر الصف فإنه يتعين عليه الجهاد فيسهم له ولا يستحق أجرة. وقال الثوري: لا يسهم للاجير إلا إن قاتل. وقال الحسن وابن سيرين:
[ 122 ]
يقسم للاجير من المغنم، هكذا رواه البخاري عنهما تعليقا، ووصله عبد الرزاق عنهما بلفظ: يسهم للاجير، ووصله ابن أبي شيبة عنهما بلفظ: العبد والاجير إذا شهدا القتال أعطوا من الغنيمة، والاولى المصير إلى الجمع الذي ذكره المصنف رحمه الله، فمن كان من الاجراء قاصدا للقتال استحق الاسهام من الغنيمة، ومن لم يقصد فلا يستحق إلا الاجرة المسماة. قوله: يعلى بن منية هو يعلى بن أمية المشهور، ومنية أمه، وقد ينسب تارة إليها كما وقع في هذا الحديث وقصة سلمة بن الاكوع في مقاتلته للقوم الذين أغاروا على سرح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واستنقاذه للسرح وقتل بعض القوم وأخذ بعض أموالهم قد تقدمت الاشارة إليها قريبا، وهي قصة مبسوطة في كتب الحديث والسير فلا حاجة إلى إيرادها هنا بكمالها. باب ما جاء في المدد يلحق بعد تقضي الحرب عن أبي موسى قال: بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أحدهما أبو بردة والآخر أبو رهم، إما قال في بضعة، وإما قال في ثلاثة وخمسين أو اثنين وخمسين رجلا من قومي، قال: فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده، فقال جعفر: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثنا ههنا وأمرنا بالاقامة، قال: فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا، فوافقنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين افتتح خيبر فأسهم لنا أو قال أعطانا منها، وما قسم لاحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلا لمن شهد معه إلا لاصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم متفق عليه. وعن أبي هريرة أنه حدث سعيد بن العاص: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبان بن سعيد بن العاص على سرية من المدينة قبل نجد، فقدم أبان بسعيد وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر بعد أن فتحها وأن حزم خيلهم ليف، فقال أبان: اقسم لنا يا رسول الله، قال أبو هريرة، فقلت: لا تقسم لهم يا رسول الله، قال أبان: أنت بها يا وبر تحدر علينا من رأس ضال، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اجلس يا أبان، ولم يقسم لهم رسول الله صلى الله
[ 123 ]
عليه وآله وسلم رواه أبو داود وأخرجه البخاري تعليقا. قوله: بلغنا مخرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ظاهره أنه لم يبلغهم شأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بعد الهجرة بمدة طويلة، وهذا إذا أراد بالمخرج البعثة، وإن أراد الهجرة فيحتمل أن يكون بلغتهم الدعوة فأسلموا وأقاموا ببلادهم إلى أن عرفوا بالهجرة فعزموا عليها، وإنما تأخروا هذه المدة لعدم بلوغ الخبر إليهم بذلك. وإما لعلمهم بما كان المسلمون فيه من المحاربة مع الكفار فلما بلغتهم المهادنة أمنوا وطلبوا الوصول إليه. وقد روى ابن منده من وجه آخر عن أبي بردة عن أبيه: خرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى جئنا إلى مكة أنا وأخوك وأبو عامر بن قيس وأبورهم ومحمد بن قيس وأبو بردة وخمسون من الاشعريين وستة من عك، ثم خرجنا في البحر حتى أتينا المدينة وصححه ابن حبان من هذا الوجه، ويجمع بينه وبين ما في الصحيح أنهم مروا بمكة في حال مجيئهم إلى المدينة، ويجوز أيكونوا دخلوا مكة لان ذلك كان حال الهدنة. قوله: أنا وأخوان لي زاد البخاري: أنا أصغرهم واسم أبي بردة عامر، وأبورهم بضم الراء وسكون الهاء اسمه مجدي بفتح الميم وسكون الجيم وكسر المهملة وتشديد التحتانية قاله ابن عبد البر، وجزم ابحبان في الصحابة بأن اسمه محمد. وذكر ابن قانع أن جماعة من الاشعريين أخبروه وحققوا وكتبوا خطوطهم أن اسم أبي رهم مجيلة بكسر الجيم بعدها تحتانية خفيفة ثم لام ثم هاء. قوله: إما قال في بضعة الخ، قد بين في الرواية المتقدمة أنهم كانوا خمسين من الاشعريين وهم قومه، فلعل الزائد على ذلك هو أبو موسى وإخوته، فمن قال اثنين أراد من ذكرهما في حديث الباب وهما أبو بردة وأبورهم، ومن قال ثلاثة أو أكثر فعلى الخلاف في عدد من كان معه من إخوته. وأخرج البلاذري بسند له عن ابن عباس أنهم كانوا أربعين، والجمع بينه وبين ما قبله بالحمل على الاصول والاتباع. وقال ابن إسحاق: كانوا ستة عشر رجلا وقيل أقل. قوله: فوافقنا جعفر بن أبي طالب أي بأرض الحبشة. وقد سمى ابن إسحاق من قدم مع جعفر فسرد أسماءهم وهم ستة عشر رجلا. قوله: وما قسم لاحد غاب عن فتح خيبر الخ، فيه دليل على أنه يجوز للامام أن يجتهد في الغنيمة ويعطي بعض من حضر من المدد دون بعض. فإنه صلى الله عليه وآله وسلم أعطى من قدم مع جعفر ولم
[ 124 ]
يعط غيرهم. وقد استدل به أبو حنيفة على قوله المتقدم أنه يسهم للمدد. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون أعطاهم برضا بقية الجيش، وبهذا جزم موسى بن عقبة في مغازيه. ويحتمل أن يكون إنما أعطاهم من الخمس. وبهذا جزم أبو عبيد في كتاب الاموال. ويحتمل أن يكون أعطاهم من جميع الغنيمة لكونهم وصلوا قبل القسمة وبعد حوزها وهو أحد الاقوال للشافعي. وقد احتج أبو حنيفة بإسهامه صلى الله عليه وآله وسلم لعثمان يوم بدر كما تقدم في باب الاسهام لمن غيبه الامير في مصلحة. وأجيب عن ذلك بأجوبة: منها أن ذلك خاص به وبمن كان مثله. ومنها أن ذلك كان حيث كانت الغنيمة كلها للنبي صلى الله عليوآله وسلم عند نزول قوله تعالى: * (يسألونك عن الانفال) * (الانفال: 1). ومنها أنه أعطاه من الخمس على فرض أن يكون ذلك بعد فرض الخمس. ومنها التفرقة بين من كان في حاجة تتعلق بمنفعة الجيش أو بإذن الامام فيسهم له بخلاف غيره، وهذا مشهور مذهب مالك. وقال ابن بطال: لم يقسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غير من شهد الواقعة إلا في خيبر فهي مستثناة من ذلك فلا تجعل أصلا يقاس عليه، فإنه قسم لاصحاب السفينة لشدة حاجتهم، وكذلك أعطى الانصار عوض ما كانوا أعطوا المهاجرين عند قدومهم عليهم. وقال الطحاوي: يحتمل أن يكون استطاب أنفس أهل الغنيمة بما أعطى الاشعريين وغيرهم. ومما يؤيد أنه لا نصيب لمن جاء بعد الفراغ من القتال ما رواه عبد الرزاق بإسناد صحيح وابن أبي شيبة أن عمر قال: الغنيمة لمن شهد الواقعة. وأخرجه الطبراني والبيهقي مرفوعا وموقوفا وقال: الصحيح موقوف. وأخرجه ابن عدي من طريق أخرى عن علي موقوفا. ورواه الشافعي من قول أبي بكر وفيه انقطاع. قوله: وإن حزم بمهملة وزاي مضمومتين. وقوله: ليف بكسر اللام وسكون التحتية بعدها فاء وهو معروف. قوله: يا وبر بفتح الواو وسكون الموحدة دابة صغيرة كالسنور وحشية. ونقل أبو علي عن أبي حاتم أن بعض العر ب يسمي كل دابة من حشرات الجبال وبرا. قال الخطابي: أراد أبان تحقير أبي هريرة، وأنه ليس ومعنى قوله: في قدر من يشير بعطاء ولا بمنع وأنه قليل القدرة على القتال وأنت بها أي وأنت بهذا المكان والمنزلة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع كونك لست من أهله ولا من قومه ولا من بلاده. ولفظ البخاري: وأنت بهذا. قوله: تحدر بالحاء المهملة وتشديد الدال المهملة أيضا. وفي رواية للبخاري تدلى وهو بمعناه. وفي رواية له
[ 125 ]
أيضا تدأدأ بمهملتين بينهما همزة ساكنة قيل: أصله تدهدء فأبدلت الهاء همزة، وقيل: الدأدأة صوت الحجارة في المسيل. قوله: من رأس ضال فسر البخاري الضال بالسدر كما في رواية المستملي، وكذا قال أهل اللغة إنه السدر البري. وفي رواية للبخاري: من رأس ضأن بالنون قيل: هو رأس الجبل، لانه في الغالب موضع مرعى الغنم، وقيل: هو جبل دوس وهم قوم أبي هريرة. باب ما جاء في إعطاء المؤلفة قلوبهم عن أنس قال: لما فتحت مكة قسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلك الغنائم في قريش فقالت الانصار: إن هذا لهو العجب إن سيوفنا تقطر من دمائهم وإن غنائمنا ترد عليهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجمعهم فقال: ما الذي بلغني عنكم؟ قالوا: هو الذي بلغك وكانوا لا يكذبون، فقال: أما ترضون أن ترجع الناس بالدنيا إلى بيوتهم وترجعون برسول الله إلى بيوتكم؟ فقالوا: بلى، فقال: لو سلك الناس واديا أو شعبا وسلكت الانصار واديا وشعبا لسلكت وادي الانصار وشعب الانصار. وفي رواية قال: قال ناس من الانصار حين أفاء الله على رسوله ما أفاء من أموال هوازن فطفق يعطي رجالا المائة من الابل فقالوا: يغفر الله لرسول الله يعطي قريشا ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فحدث بمقالتهم فجمعهم وقال: إني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر أتألفهم، أما ترضون أن يذهب الناس بالاموال وتذهبون بالنبي إلى رحالكم؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به، قالوا: يا رسول الله قد رضينا. وعن ابن مسعود قال: لما آثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أناسا في القسمة فأعطى الاقرع بن حابس مائة من الابل وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أناسا من أشراف العرب وآثرهم يومئذ في القسمة قال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله، فقلت: والله لاخبرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتيته فأخبرته فقال: فمن يعدل إذا لم يعدل الله ورسوله؟ ثم قال: رحم الله موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر متفق عليهن. وعن عمرو بن تغلب: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتي بمال أو بسبي فقسمه فأعطى قوما ومنع آخرين فكأنهم عتبوا عليه فقال: إني أعطي قوما أخاف ضلعهم
[ 126 ]
وجزعهم، وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الخير والغنى منهم عمرو بن تغلب، فقال عمرو بن تغلب: ما أحب أن لي بكلمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حمر النعم رواه أحمد والبخاري، والظاهر أن إعطاءهم كان من سهم المصالح من الخمس، ويحتمل أن يكون نفلا من أربعة أخماس الغنيمة عند من يجيز التنفيل منها. قوله: واديا أو شعبا الوادي هو المكان المنخفض، وقيل: الذي فيه ماء، والمراد هنا بلدهم، والشعب بكسر الشين المعجمة اسم لما انفرج بين جبلين. وقيل: الطريق في الجبل، وأراد صلى الله عليه وآله وسلم بهذا وما بعده التنبيه على جزيل ما حصل لهم من ثواب النصرة والقناعة بالله ورسوله عن الدنيا ومن هذا وصفه، فحقه أن يسلك طريقه ويتبع حاله. قال الخطابي: لما كانت العادة أن المرء يكون في نزوله وارتحاله مع قومه وأرض الحجاز كثيرة الاودية والشعاب، فإذا تفرقت في السفر سلك كل قوم منهم واديا وشعبا فأراد أنه مع الانصار. قال: ويحتمل أن يريد بالوادي المذهب كما يقال: فلان في واد وأنا في واد انتهى. وقد أثنى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الانصار في هذه الواقعة ومدحهم، فمن جملة ما قاله لهم: لولا الهجرة لكنت امرأ من الانصار وقال: الانصار شعار والناس دثار كما في صحيح البخاري وغيره. قوله: حين أفاء الله على رسوله ما أفاء من أموال هوازن أي أعطاه غنائم الذين قاتلهم منهم يوم حنين. وأصل الفئ الرد والرجوع، ومنه سمي الظل بعد الزوال فيئا لانه رجع من جانب إلى جانب، فكأن أموال الكفار سميت فيئا، لانها كانت في الاصل للمؤمنين، إذ الايمان هو الاصل والكفر طارئ، فإذا غلب الكفار على شئ من المال فهو بطريق التعدي، فإذا غنمه المسلمون منهم فكأنه رجع إليهم ما كان لهم. قوله: فطفق يعطي رجالا هم المؤلفة قلوبهم، والمراد بهم ناس من قريش أسلموا يوم الفتح إسلاما ضعيفا، وقيل: كان فيهم من لم يسلم بعد كصفوان بن أمية، وقد اختلف في المراد بالمؤلفة الذين هم أحد المستحقين للزكاة فقيل: كفار يعطون ترغيبا في الاسلام، وقيل: مسلمون لهم أتباع كفار يتألفونهم، وقيل: مسلمون أول ما دخلوا في الاسلام ليتمكن الاسلام من قلوبهم، والمراد بالرجال الذين أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ههنا هم جماعة قد سرد أبو الفضل بن طاهر في المبهمات له أسماؤهم فقال: هم أبو سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، وحكيم بن حزام، وأبو السنابل بن بعكك، وصفوان
[ 127 ]
بن أمية، وعبد الرحمن بن يربوع، وهؤلاء من قريش. وعيينة بن حصن الفزاري، والاقرع بن حابس التميمي، وعمرو بن الاهتم التميمي، وعباس بن مرادس السلمي، ومالك بن عوف النصري، والعلاء بن حارثة الثقفي. قال الحافظ في الفتح: وفي ذكر الاخيرين نظر، وقيل: إنما جاءا طائعين من الطائف إلى الجعرانة. وذكر الواقدي في المؤلفة معاوية ويزيد بن أبي سفيان وأسيد بن حارثة ومخرمة بن نوفل وسعيد بن يربوع وقيس بن عدي وعمرو بن وهب وهشام بن عمرو، زاد ابن إسحاق: النضر بن الحرث بن هشام وجبير بن مطعم، وممن ذكره أبو عمر: سفيان بن عبد الاسد والسائب بن أبي السائب ومطيع بن الاسود وأبو جهم بن حذيفة، وذكر ابن الجوزي فيهم: زيد الخيل وعلقمة بن علاثة وحكيم بن طليق بن سفيان بن أمية وخالد بن قيس السهمي وعمير بن مرداس، وذكر غيرهم فيهم قيس بن مخرمة وأحيحة بن أمية بن خلف وأبي بن شريق وحرملة بن هوذة وخالد بن هوذة وعكرمة بن عامر العبدري وشيبة بن عثمان وعمرو بن ورقة ولبيد بن ربيعة والمغيرة بن الحارث وهشام بن الوليد المخزومي. قوله: أن يذهب الناس بالاموال في رواية للبخاري: بالشاة والبعير. قوله: إلى رحالكم بالحاء المهملة أي بيوتكم. قوله: لما آثر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أناسا هم من تقدم ذكرهم. قوله: قال رجل في رواية الاعمش: فقال رجل من الانصار، وفي رواية الواقدي أن اسمه معتب بن قشير من بني عمرو بن عوف وكان من المنافقين، وفيه رد على مغلطاي حيث قال: لم أرد أحدا قال إنه من الانصار إلا ما وقع في رواية الاعمش وجزم بأنه حرقوص بن زهير السعدي المتقدم ذكره في باب ذكر الخوارج، وتبعه ابن الملقن وأخطأ في ذلك، فإن قصة حرقوص غير هذه كما تقدم قوله: ما أريد فيها وجه الله في رواية البخاري: ما أراد بهذا. قوله: رحم الله موسى الخ، فيه الاعراض عن الجاهل والصفح عن الاذى والتأسي بمن مضى من النظراء. قوله: ضلعهم بفتح الضاد المعجمة واللام وهو الاعوجاج، وفي أحاديث الباب دليل على أنه يجوز للامام أن يؤثر بالغنائم أو ببعضها من كان مائلا من أتباعه إلى الدنيا تأليفا له واستجلابا لطاعته، وتقديمه على من كان من أجناده قوي الايمان مؤثرا للآخرة على الدنيا.
[ 128 ]
باب حكم أموال المسلمين إذا أخذها الكفار ثم أخذت منهم عن عمران بن الحصين قال: أسرت امرأة من الانصار وأصيبت العضباء، فكانت المرأة في الوثاق وكان القوم يريحون نعمهم بين يدي بيوتهم، فانفلتت ذات ليلة من الوثاق فأتت الابل فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى تنتهي إلى العضباء فلم ترغ، قال: وهي ناقة منوقة. وفي رواية: مدربة فقعدت في عجزها ثم زجرتها فانطلقت ونذروا بها فأعجزتهم، قال: ونذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة رآها الناس فقالوا: العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: إنها نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكروا ذلك فقال: سبحان الله بئسما جزتها نذرت لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها، لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما لا يملك العبد رواه أحمد ومسلم. وعن ابن عمر: أنه ذهب فرس له فأخذه العدو فظهر عليهم المسلمون فرد عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأبق عبد له فلحق بأرض الروم وظهر عليهم المسلمون فرده خالد بن الوليد بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم رواه البخاري وأبو داود وابن ماجة. وفي رواية: أن غلاما لابن عمر أبق إلى العدو فظهر عليه المسلمون فرده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ابن عمر ولم يقسم رواه أبو داود. قوله: العضباء بفتح العيل المهملة وسكون الضاد المعجمة بعدها موحدة وهي ناقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: فانفلتت بالنون والفاء أي المرأة. قوله: منوقة بالنون والقاف أي مذللة. قوله: مدربة بالدال المهملة والراء المشددة المفتوحة بعدها موحدة وهي المؤدبة المعودة للركوب والتدريب، مأخوذ من الدربة وهي المعرفة بالشئ. قوله: ونذروا بها بضم النون وكسر الذال المعجمة أي علموا بها. وفي شرح النووي هو بفتح النون. قوله: لا وفاء لنذر في معصية الله سيأتي الكلام على هذا في كتاب النذور إن شاء الله. قوله:
[ 129 ]
ذهب فرس له فأخذه في رواية الكشميهني: ذهبت فأخذها، والفرس اسم جنس يذكر ويؤنث. قوله: في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كذا وقع في رواية ابن نمير أن قصة الفرس في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقصة العبد بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وخالفه يحيى القطان عن عبيدالله العمري فجعلهما بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في رواية للبخاري، وكذا وقع في رواية موسى بن عقبة عن نافع وصرح بأن قصة الفرس كانت في زمن أبي بكر. وقد وافق ابن نمير إسماعيل بن زكريا، أخرجه الاسماعيلي من طريقه وأخرجه من طريق ابن المبارك عن عبيد الله فلم يعين الزمان لكن قال في روايته: أنه افتدى الغلام بروميتين، وكأن هذا الاختلاف هو السبب في ترك البخاري الجزم في الترجمة على هذا الحديث فإنه قال: باب إذا غنم المشركون مال المسلم ثم وجده المسلم أي هل يكون أحق به أو يدخل في الغنيمة؟ ولكنه يمكن الاحتجاج بوقوع ذلك في زمن أبي بكر والصحابة متوافرون من غير نكير منهم. وقد اختلف أهل العلم في ذلك فقال الشافعي وجماعة: لا يملك أهل الحرب بالغلبة شيئا من المسلمين ولصاحبه أخذه قبل القسمة وبعدها. وعن علي والزهري وعمرو بن دينار والحسن: لا يرد أصلا ويختص به أهل المغانم. وقال عمر وسلمان بن ربيعة وعطاء والليث ومالك وأحمد وآخرون، وهي رواية عن الحسن أيضا، ونقلها ابن أبي الزناد عن أبيه عن الفقهاء السبعة: إن وجده صاحبه قبل القسمة فهو أحق به، وإن وجده بعد القسمة فلا يأخذه إلا بالقيمة. واحتجوا بحديث عن ابن عباس مرفوع بهذا التفصيل أخرجه الدارقطني وإسناده ضعيف جدا. وإلى هذا التفصيل ذهبت الهادوية، وعن أبي حنيفة كقول مالك إلا في الآبق فقال هو والثوري، صاحبه أحق به مطلقا. باب ما يجوأخذه من نحو الطعام والعلف بغير قسمة عن ابن عمر قال: كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه رواه البخاري. وعن ابن عمر: أن جيشا غنموا في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم طعاما وعسلا فلم يؤخذ منهم الخمس رواه أبو داود. وعن عبد الله بن المغفل قال:
[ 130 ]
أصبت جرابا من شحم يوم خيبر فالتزمته فقلت: لا أعطي اليوم أحدا من هذا شيئا، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متبسما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. وعن ابن أبي أوفى قال: أصبنا طعاما يوم خيبر وكان الرجل يجئ فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينطلق. وعن القاسم مولى عبد الرحمن عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كنا نأكل الجزر في الغزو ولا نقسمه حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأخرجتنا مملوءة منه رواهما أبو داود. حديث ابن عمر الاول زاد فيه أبو داود: فلم يؤخذ منهم الخمس وصحح هذه الزيادة ابن حبان. وحديث ابن عمر الثاني أخرجه أيضا ابن حبان وصححه البيهقي ورجح الدارقطني وقفه. وحديث عبد الله بن المغفل أخرجه أيضا البخاري وزاد فيه الطيالسي في مسنده بإسناد صحيح فقال: هو لك. وحديث ابن أبي أوفى أخرجه الحاكم والبيهقي، قال ابن الصلاح في كلامه على الوسيط: هذا الحديث لم يذكر في كتاب الاصول انتهى. وقد صححه الحاكم وابن الجارود. وأخرجه أيضا الطبراني من حديثه بلفظ: لم يخمس الطعام يوم خيبر. وحديث القاسم مولى عبد الرحمن سكت عنه أبو داود، وقال المنذري: إنه تكلم في القاسم غير واحد انتهى. وفي إسناده أيضا ابن حرشف وهو مجهول. قوله: كنا نصيب في مغازينا الخ، زاد الاسماعيلي في رواية: والفواكه. وفي رواية له بلفظ: كنا نصيب السمن والعسل في المغازي فنأكله. وفي رواية له من وجه آخر: أصبنا طعاما وأغناما يوم اليرموك فلم تقسم قال في الفتح: وهذا الموقوف لا يغاير الاول لاختلاف السياق، وللاول حكم الرفع للتصريح بكونه في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما يوم اليرموك فكان بعده فهو موقوف يوافق المرفوع انتهى. ولا يخفى أنه ليس في روايات الحديث تصريح بأنه في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما فيه أن إطلاق المغازي من الصحابي ظاهر في أنها مغازي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وليس ذلك من التصريح في شئ. قوله: ولا نرفعه أي ولا نحمله على سبيل الادخار، ويحتمل أن يريد ولا نحمله إلى متولي أمر الغنيمة، أو إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا نستأذنه في أكله اكتفاء بما سبق منه من الاذن. قوله: عبد الله بن المغفل بالمعجمة والفاء بوزن محمد. قوله: جرابا بكسر الجيم. قوله: فالتزمته في رواية للبخاري: فنزوت بالنون والزاي أي وثبت مسرعا، وموضع الحجة من الحديث عدم إنكار النبي صلى
[ 131 ]
الله عليه وآله وسلم ولا سيما مع وقوع التبسم منه صلى الله عليه وآله وسلم، فإن ذلك يدل على الرضا، وقد قدمنا أن أبا داود الطيالسي زاد فيه فقال: هو لك، وكأنه صلى الله عليه وآله وسلم عرف شدة حاجته إليه فسوغ له الاستئثار به. وفي الحديث جواز أكل الشحوم التي توجد عند اليهود وكانت محرمة على اليهود وكرهها مالك، وروي عنه وعن أحمد تحريمها. قوله: الجزر بفتح الجيم جمع جزور وهي الشاة التي تجزر أي تذبح كذا قيل. وفي غريب الجامع: الجزر جمع جزور وهو الواحد من الابل يقع على الذكر والانثى. وفي القاموس في مادة جزر ما لفظه: والشاة السمينة، ثم قال: والجزور البعير أو خاض بالناقة المجزورة ثم قال: وما يذبح من الشاة انتهى. وقد قيل: إن الجزر في الحديث بضم الجيم والزاي جمع جزور وهو ما تقدم تفسيره. (وأحاديث) الباب تدل على أنه يجوز أخذ الطعام، ويقاس عليه العلف للدواب بغير قسمة، ولكنه يقتصر من ذلك على مقدار الكفاية كما في حديث ابن أبي أوفى. وإلى ذلك ذهب الجمهور سواء أذن الامام أو لم يأذن. والعلة في ذلك أن الطعام يقل في دار الحرب وكذلك العلف فأبيح للضرورة. والجمهور أيضا على جواز الاخذ ولو لم تكن ضرورة، وقال الزهري: لا نأخذ شيئا من الطعام ولا غيره إلا بإذن الامام. وقال سليمان بن موسى: يأخذ إلا إن نهية الامام. وقال ابن المنذر: قد وردت الاحاديث الصحيحة في التشديد في الغلول، واتفق علماء الامصار على جواز أكل الطعام، وجاء الحديث بنحو ذلك فليقتصر عليه، وقال الشافعي ومالك: يجوز ذبح الانعام للاكل كما يجوز أخذ الطعام، ولكن قيده الشافعي بالضرورة إلى الاكل حيث لا طعام. باب أن الغنم تقسم بخلاف الطعام والعلف عن رجل من الانصار قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد وأصابوا غنما فانتهبوها، فإن قدورنا لتغلي إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمشي على قوسه فأكفأ قدورنا بقوسه ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ثم قال: إن النهبة ليست بأحل
[ 132 ]
من الميتة، وإن الميتة ليست بأحل من النهبة رواه أبو داود. وعن معاذ قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيبر فأصبنا فيها غنما فقسم فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طائفة وجعل بقيتها في المغنم رواه أبو داود. الحديث الاول سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده موثقون، ولكن لفظه بالشك هكذا: إن النهبة ليست بأحل من الميتة، أو إن الميتة ليست بأحل من النهبة قال: والشك من هنادوهو ابن السري. وأخرجه أيضا البيهقي. والحديث الثاني سكت عنه أيضا أبو داود والمنذري وفي إسناده أبو عبد العزيز شيخ من الاردن وهو مجهول ولفظه عن عبد الرحمن بن غنم قال: رابطنا مدينة قنسرين مع شرحبيل بن السمط فلما فتحها أصاب فيها غنما وبقرا، فقسم فينا طائفة منها وجعل بقيتها في المغنم، فلقيت معاذ بن جبل فحدثته فقال معاذ: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحديث. قوله: ثم جعل يرمل اللحم بالتراب أي يضع التراب عليه. قال في القاموس: وأرمل الطعام جعل فيه الرمل والثوب لطخه بالدم انتهى. والحديث الاول ليس فيه دليل على ما ترجم له المصنف من أن الغنم تقسم لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما منع من أكلها لاجل النهبى كما وقع التصريح بذلك، لا لاجل كونها غنيمة مشتركة لا يجوز الانتفاع بها قبل القسمة. نعم الحديث الثاني فيه دليل على أن الامام يقسم بين المجاهدين من الغنم ونحوها من الانعام ما يحتاجونه حال قيام الحرب ويترك الباقي في جملة المغنم، وهذا مناسب لمذهب الجمهور المتقدم، فإنهم يصرحون بأنه يجوز للغانمين أخذ القوت وما يصلح به، وكل طعام يعتاد أكله على العموم من غير فرق بين أن يكون حيوانا أو غيره، وقد استدل على أن المنع من ذبح الحيوانات المغنومة بغير إذن الامام بما في الصحيح من حديث رافع بن خديج في ذبحهم الابل التي أصابوها لاجل الجوع وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإكفاء القدور. قال المهلب: إنما أكفأ القدور ليعلم أن الغنيمة إنما يستحقونها بعد القسمة، ويمكن أن يحمل ذلك على أنه وقع الذبح في غير الموضع الذي وقع فيه القتال، وقد ثبت في هذا الحديث أن القصة وقعت في دار الاسلام لقوله فيها بذي الحليفة. وقال القرطبي: المأمور بأكفائه إنما
[ 133 ]
هو المرق عقوبة للذين تعجلوا، وأما نفس اللحم فلم يتلف بل يحمل على أنه جمع، ورد إلى المغانم لاجل النهي عن إضاعة المال باب النهي عن الانتفاع بما يغنمه الغانم قبل أن يقسم إلا حالة الحرب عن رويفع بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم حنين: لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبتاع مغنما حتى يقسم، ولا يلبس ثوبا من فئ المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه، ولا أن يركب دابة من فئ المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه رواه أحمد وأبو داود. وعن ابن مسعود قال: انتهيت إلى أبي جهل يوم بدر وهو صريع وهو يذب الناس عنه بسيف له، فجعلت أتناوله بسيف لي غير طائل فأصبت يده فنذر سيفه فأخذته فضربته حتى قتلته ثم أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرته فنفلني بسلبه رواه أحمد. الحديث الاول في إسناده محمد بن إسحاق وفيه مقال معروف قد تقدم التنبيه عليه غير مرة، وأخرجه أيضا الدارمي والطحاوي وابن حبان وحسن الحافظ في الفتح إسناده. وقال في بلوغ المرام: رجاله ثقات لا بأس بهم. والحديث الثاني أورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه وهو من رواية أبي عبيدة عن أبيه ولم يسمع منه. وقال في مجمع الزوائد: إن رجاله رجال الصحيح غير محمد بن وهب بن أبي كريمة وهو ثقة انتهى. وأخرج نحوه أبو داود ولفظه عن أبي عبيدة وهو ابن عبد الله بن مسعود عن أبيه أنه قال: مررت فإذا أبو جهل صريع قد ضربت رجله فقلت: يا عدو الله يا أبا جهل قد أخزى الله الآخر قال ولا أهابه عند ذلك، فقال أبعد من رجل قتله قومه، فضربته بسيف غير طائل فلم يغن شيئا حتى سقط سيفه من يده فضربته حتى برد وأخرج نحوه النسائي مختصرا. وقوله: أبعد من رجل الخ، قال الخطابي في المعالم: هكذا رواه أبو داود وهو غلط وإنما هو أعمد بالميم بعد العين كلمة للعرب معناها هل زاد على رجل قتله قومه يهون على نفسه ماحل بها انتهى. والحديث الاول فيه دليل على أنه لا يحل لاحد من المجاهدين أن يبيع شيئا من الغنيمة قبل قسمتها، لان ذلك من الغلول، وقد وردت الاحاديث الصحيحة النهي عنه،
[ 134 ]
ولا يحل أيضا أن يأخذ ثوبا منها فيلبسه حتى يخلقه ثم يرده، أو يركب دابة منها حتى إذا أعجفها ردها، لما في ذلك من الاضرار بسائر الغانمين والاستبداد بما لهم فيه نصيب بغير إذن منهم. قال في الفتح: وقد اتفقوا على جواز ركوب دوابهم يعني أهل الحرب ولبس ثيابهم واستعمال سلاحهم حال الحرب، ورد ذلك بعد انقضاء الحرب، وشرط الاوزاعي فيه إذن الامام وعليه أن يرد كلما فرغت حاجته، ولا يستعمله في غير الحرب، ولا ينتظر برده انقضاء الحرب لئلا يعرضه للهلاك، قال: وحجته حديث رويفع المذكور. ونقل عن أبي يوسف أنه حمله على ما إذا كان الآخذ غير محتاج يتقي به دابته أو ثوبه، بخلاف من ليس له ثوب ولا دابة. ووجه استدلال المصنف رحمه الله تعالى بحديث ابن مسعود على ما ترجمه في الباب أنه وقع من ابن مسعود الضرب بسيف أبي جهل قبل أن يستأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك ولم ينكره عليه، فدل على جواز استعمال السلاح المغنوم ما دامت الحرب قائمة بغير إذن الامام، وقد تقدم الكلام على قوله: فنفلني بسلبه في باب أن السلب للقاتل. باب ما يهدى للامير والعامل أو يؤخذ من مباحات دار الحرب عن أبي حميد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هدايا العمال غلول رواه أحمد. وعن أبي الجويرية قال: أصبت جرة حمراء فيها دنانير في إمارة معاوية في أرض الروم، قال: وعلينا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بني سليم يقال له معن بن يزيد فأتيته بها فقسمها بين المسلمين وأعطاني مثل ما أعطى رجلا منهم ثم قال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا نفل إلا بعد الخمس لاعطيتك، قال: ثم أخذ يعرض علي من نصيبه فأبيت رواه أحمد وأبو داود. الحديث الاول أخرجه أيضا الطبراني وفى إسناده إسماعيل بن عباس عن أهل الحجاز وهو ضعيف في الحجازيين، ويشهد له ما أخرجه الشيخان وأبو داود من حديث أبي حميد المذكور قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا على
[ 135 ]
الازد يقال له ابن اللتبية، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا الحديث. والحديث الثاني في إسناده عاصم بن كليب قال علي ابن المديني: لا يحتج به إذا انفرد، وقال الامام أحمد: لا بأس بحديثه، وقال أبو حاتم الرازي: صالح، وقال النسائي: ثقة واحتج به مسلم، وقد أخرجه الطحاوي وصححه من حديث معن بن يزيد المذكور قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا نفل إلا بعد الخمس. قوله: غلول بضم المعجمة واللام أي خيانة. قوله: وعن أبي الجويرية اسمه حطان بن خفاف قال في الخلاصة: وثقه أحمد. قوله: لا نفل إلا بعد الخمس قد تقدم الكلام على ذلك، وقد استدل المصنف بالحديث الاول على أنها لا تحل الهدية للعمال، وقد تقدم في الزكاة في باب العاملين عليها حديث بريدة عند أبي داود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من استعملناه على عمل فرزقنا رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول. وظاهره المنع من الزيادة على المفروض للعامل، من غير فرق بين ما كان من الصدقات المأخوذة من أرباب الاموال أو من أربابها على طريق الهدية أو الرشوة. والحديث الثاني بوب عليه أبو داود باب النفل من الذهب والفضة ومن أول مغنم أي هل يجوز أم لا؟ واستدل به المصنف على حكم ما يؤخذ من مباحات دار الحرب وأنها تكون بين الغانمين لا يختص بها. باب التشديد في الغلول وتحريق رحل الغال عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر ففتح الله عزوجل علينا فلم نغنم ذهبا ولا ورقا، غنمنا المتاع والطعام والثياب، ثم انطلقنا إلى الوادي ومع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد له وهبه له رجل من جذام يسمى رفاعة بن يزيد من بني الضبيب، فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يحل رحله فرمي بسهم فكان فيه حتفه فقلنا:
[ 136 ]
هنيئا له الشهادة يا رسول الله، فقال: كلا والذي نفس محمد بيده إن الشملة لتلتهب عليه نارا، أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم، قال: ففزع الناس فجاء رجل بشراك أو شراكين فقال: يا رسول الله أصبت هذا يوم خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: شراك من نار أوشراكان من نار متفق عليه. وعن عمر قال: لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: فلان شهيد وفلان شهيد حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس: أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، قال: فخرجت فناديت أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون رواه أحمد ومسلم. وعن عبد الله بن عمر قال: كان على ثقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل يقال له كركرة فمات فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هو في النار، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها رواه أحمد والبخاري. قوله: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هكذا وقع في رواية ثور بن يزيد، وقد حكى الدارقطني عن موسى بن هارون أنه قال: وهم ثور في هذا الحديث، لان أبا هريرة لم يخرج مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى خيبر وإنما قدم بعد خروجهم، وقدم عليهم خيبر بعد أن فتحت، قال أبو مسعود: ويؤيده حديث عنبسة بن سعيد عن أبي هريرة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر بعدما افتتحوها قال: ولكن لا يشك أحد أن أبا هريرة حضر قسمة الغنائم، والغرض من هذه القصة المذكورة غلول الشملة. قال الحافظ: وكأن محمد بن إسحاق استشعر توهم ثور بن يزيد في هذه اللفظة فرواه عنه في المغازي بدونها، وأخرجه ابن حبان والحاكم وابن منده من طريقه بلفظ: انصرفنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى وادي القرى. وروى البيهقي في الدلائل من وجه آخر عن أبي هريرة قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خيبر إلى وادي القرى فلعل هذا أصل الحديث. وحديث قدوم أبي هريرة المدينة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر أخرجه أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من طريق
[ 137 ]
خثيم بن عراك بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة قال: قدمت المدينة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر وقد استخلف سباع بن عرفطة فذكر الحديث وفيه: فزودنا شيئا حتى أتينا خيبر وقد افتتحها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكلم المسلمين فأشركونا في سهامهم. قوله: غنمنا المتاع والطعام والثياب. رواية البخاري: إنما غنمنا البقر والابل والمتاع والحوائط وهذه المذكورة رواية مسلم، ورواية الموطأ: إلا الاموال والثياب والمتاع. قوله: عبد له هو مدعم كما وقع في رواية البخاري بكسر الميم وسكون المهملة وفتح العين المهملة أيضا. قوله: رفاعبن زيد قال الواقدي: كان رفاعة وفد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ناس من قومه قبل خروجه إلى خيبر فأسلموا وعقد له على قومه. قوله: من بنهي الضبيب بضم الضاد المعجمة ثم موحدتين بينهما تحتية بصيغة التصغير. وفي رواية للبخاري: أحد بني الضباب بكسر الضاد المعجمة وموحدتين بينهما ألف بصيغة جمع الضب وهم بطن من جذام. قوله: يحل رحله رواية البخاري: فبينما مدعم يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، زاد البيهقي في الرواية المذكورة: وقد استقبلتنا يهود بالرمي ولم نكن على تعبية. قوله: لتلتهب عليه نارا يحتمل أن يكون ذلك حقيقة بأن تصير الشملة نفسها نارا فيعذب بها، ويحتمل أن يكون المراد أنها سبب لعذاب النار، وكذا القول في الشراك المذكور. قوله: فجاء رجل قال الحافظ لم أقف على اسمه. قوله: بشراك أو شراكين الشراك بسكر المعجمة وتخفيف الراء سير النعل على ظهر القدم. قوله: على ثقل بمثلثة وقاف مفتوحتين العيال وما ثقل حمله من الامتعة. قوله: يقال له كركرة اختلف في ضبطه فذكر عياض أنه يقال بفتح الكافين وبكسرهما، وقال النووي: إنما اختلف في كافه الاولى وأما الثانية فمكسورة اتفاقا، قال عياض: هو للاكثر بالفتح في رواية علي وبالكسر في رواية ابن سلام. وعند الاصيلي بالكسر في الاول، وقال القابسي: لم يكن عند المروزي فيه ضبط إلا أني أعلم أن الاول خلاف الثاني، قال الواقدي: إنه كان أسود يمسك دابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند القتال. وروى أبو سعيد النيسابوري في شرف المصطفى أنه كان ثوبيا أهداه له هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة فأعتقه
[ 138 ]
، وذكر البلاذري أنه مات في الرق. قوله: هو في النار أي يعذب على معصيته، أو المراد هو في النار إن لم يعف الله عنه. وظاهر الروايتين أن كركرة المذكور مدعم الذي قبله، وكلام القاضي عياض يشعر بأن قصتهما متحدة. قال الحافظ: والذي يظهر من عدة أوجه تغايرهما، قال: نعم عند مسلم من حديث عمر، ثم ذكر الحديث المذكور في الباب ثم قال: فهذا يمكن تفسيره بكركرة، بخلاف قصة مدعم فإنها كانت بوادي القرى ومات بسهم وغل شملة، والذي أهدى كركرة هوذة، والذي أهدى مدعم رفاعة فافترقا. (وأحاديث الباب) تدل على تحريم الغلول من غير فرق بين القليل منه والكثير، ونقل النووي الاجماع على أنه من الكبائر، وقد صرح القرآن والسنة بأن الغال يأتي يوم القيامة والشئ الذي غله معه، فقال الله تعالى: * (ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة) * (آل عمران: 161) وثبت في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس على رقبته شاة الحديث، وظاهر قوله: شراك من نار الخ أن من أعاد إلى الامام ما غله بعد القسمة لم يسقط عنه الاثم، وقد قال الثوري والاوزاعي والليث ومالك يدفع إلى الامام خمسه ويتصدق بالباقي، وكان الشافعي لا يرى ذلك ويقول: إن كان ملكه فليس عليه أن يتصدق به، وإن كان لم يملكه فليس له الصدقة بمال غيره، قال: والواجب أن يدفع إلى الامام كالاموال الضائعة انتهى. وأما قبل القسمة فقال ابن المنذر: أجمعوا على أن للغال أن يعيد ما غل قبل القسمة. وعن عبد الله بن عمرو قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيؤن بغنائمهم فيخمسه ويقسمه، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال: يا رسول الله هذا فيما كنا أصبنا من الغنيمة، فقال: أسمعت بلالا نادى ثلاثا؟ قال: نعم، قال: فما منعك أن تجئ به؟ فاعتذر إليه فقال: كن أنت تجئ به يوم القيامة فلن أقبله منك رواه أحمد وأبو داود. قال البخاري: قد روي في غير حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الغال ولم يأمر بحرق متاعه. وعن صالح بن محمد بن زائدة قال: دخلت مع مسلمة أرض الروم فأتي برجل قد غل فسأل سالما عنه فقال: سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه
[ 139 ]
واضربوه، قال: فوجد في متاعه مصحفا فسأل سالما عنه فقال: بعه وتصدق بثمنه رواه أحمد وأبو داود. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه رواه أبو داود، وزاد فرواية ذكرها تعليقا: ومنعوه سهمه. حديث عبد الله بن عمرو سكت عنه أبو داود والمنذري وأخرجه الحاكم وصححه. وحديث صالح بن محمد أخرجه أيضا الترمذي والحاكم والبيهقي، قال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وقال: سألت محمدا عن هذا الحديث فقال: إنما روى هذا صالح بن محمد بن زائدة الذي يقال له أبوواكد الليثي وهو منكر الحديث، قال المنذري: وصالح بن محمد بن زائدة تكلم فيه غير واحد من الائمة، وقد قيل: إنه تفرد به. وقال البخاري: عامة أصحابنا يحتجون بهذا في الغلول وهو باطل ليس بشئ. وقال الدارقطني: أنكروا هذا الحديث على صالح بن محمد، قال: وهذا حديث لم يتابع عليه ولا أصل لهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والمحفوظ أن سالما أمر بذلك وصحح أبو داود وقفه. ورواه من وجه آخر باللفظ الذي ذكره المصنف وقال: هذا أصح. وحديث عمرو بن شعيب أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي وفي إسناده زهير بن محمد وهو الخراساني نزيل مكة، وقال البيهقي: يقال هو غيره وأنه مجهول، وقد رواه أبو داود أيضا من وجه آخر عن زهير موقوفا قال في الفتح: وهو الراجح. قوله: ولم يأمر بحرق متاعه هذا لفظ رواية الترمذي عن البخاري، ولفظ البخاري في الجهاد في باب القليل من الغلول، ولم يذكر عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه حرق متاعه، يعني في حديثه الذي ساقه في ذلك الباب وهو الحديث الذي تقدم في أول هذا الباب، ثم قال البخاري: وهذا أصح. قال في الفتح: أشار إلى تضعيف حديث عبد الله بن عمر في الامر بحرق رحل الغال والاشارة بقوله هذا إلى الحديث الذي ساقة. والحرق بفتح الحاء المهملة والراء وقد تسكن الراء كما في النهاية مصدر حرق بفتح الحاء المهملة وكسر الراء، وقد ذهب إلى الاخذ بظاهر حديث الاحراق أحمد في رواية وهو قول مكحول والاوزاعي، وعن الحسن: يحرق متاعه كله إلا الحيوان والمصحف. وقال الطحاوي: لو صح الحديث لاحتمل أن يكون حين كانت العقوبة بالمال انتهى وقد قدمنا الكلام على العقوبة بالمال في كتاب الزكاة. وفي حديث عبد الله بن عمر دليل على أنه لا يقبل الامام
[ 140 ]
من الغال ما جاء به بعد وقوع القسمة ولو كان يسيرا وقد تقدم الخلاف في ذلك قريبا. قوله: ومنعوه سهمه فيه دليل على أنه يجوز للامام بعد عقوبة الغال بتحريق متاعه أن يعاقبه عقوبة أخرى بمنعه سهمه من الغنيمة، وكذلك يعاقبه عقوبة ثالثة بضربه كما وقع في الحديث المذكور. باب الموالفداء في حق الاسارى عن أنس: أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من حيال التنعيم عند صلاة الفجر ليقتلوهم، فأخذهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلما فأعتقهم فأنزل الله عزوجل: * (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة) * (الفتح: 24) إلى آخر الآية رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي. وعن جبير بن مطعم: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال في أسارى بدر: لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له رواه أحمد والبخاري وأبو داود. وعن أبي هريرة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ قال: عندي يا محمد خير إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى كان بعد الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فتركه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى كان الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي ما قلت لك، إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أطلقوا ثمامة فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، يا محمد والله ما كان على الارض أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي،
[ 141 ]
والله ما كان من بلد أبغض إلي مبلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت؟ فقال: لا ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا والله لا تأتيكم من يمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متفق عليه. قوله سلما بفتح السين المهملة واللام عن بعضهم وعن الاكثرين بسكون اللام يعني مع كسر السين والاول أصوب، والسلم الاسير لانه أسلم، والسلم الصلح كذا في المشارق. قوله: لو كان المطعم الخ، إنما قال صلى الله عليه وآله وسلم كذلك، لانها كانت للمطعم عنده يد، وهي أنه دخل صلى الله عليه وآله وسلم في جواره لما رجع من الطائف فأراد أن يكافأه بها، والمطعم المذكور هو والد جبير الراوي لهذا الحديث، والنتنى جمع نتن بالنون والتاء المثناة من فوق، المراد بهم أسارى بدر، وصفهم بالنتن لما هم عليه من الشرك كما وصفوا بالنجس. قوله: لتركتهم له يعني بغير فداء، وبين السبب في ذلك ابن شاهين بنحو ما قدمنا. وقد ذكر ابن إسحاق القصة في ذلك مبسوطة، وكذلك الفاكهي بإسناد حسن مرسل وفيه: أن المطعم أمر أولاده الاربعة فلبسوا السلاح وقام كل واحد منهم عند ركن من الكعبة، فبلغ ذلك قريشا فقالوا له: أنت الرجل لا تخفر ذمتك، وقيل: إن اليد التي كانت له أنه كان من أشد من سعى في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش في قطيعة بني هاشم ومن معهم من المسلمين حين حصروهم في الشعب. قوله: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيلا الخ، زعم سيف في كتاب الردة له أن الذي أخذ ثمامة وأسره هو العباس بن عبد المطلب، قال في الفتح، وفيه نظر، لان العباس إنما قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في زمان فتح مكة، وقصة ثمامة تقتضي أنها كانت قبل ذلك بحيث اعتمر ثمامة ثم رجع إلى بلاده، ثم منعهم أن يميروا أهل مكة، ثم شكا أهل مكة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، ثم بعث يشفع فيهم عند ثمامة. قوله: من بني حنيفة هو ابن لجيم بجيم ابن صهيب بن علي بن بكر بن وائل، وهي قبيلة كبيرة مشهورة ينزلون اليمامة بين مكة واليمن. قوله: ثمامة بضم المثلثة، وأثال بضم الهمزة وبمثلثة خفيفة وهو ابن النعمان
[ 142 ]
بن مسيلمة الحنفي وهو من فضلاء الصحابة. قوله: ماذا عندك؟ أي: أي شئ عندك؟ ويحتمل أن تكون ما استفهامية وذا موصولة وعندك صلة، أي ما الذي استقر في ظنك أن أفعله بك؟ فأجاب بأنه ظن خيرا، فقال: عندي يا محمد خير أي، لانك لست ممن يظلم بل ممن يعفو ويحسن. قوله: تقتل ذا دم بمهملة وتخفيف الميم للاكثر، وللكشميهني ذم بمعجمة بعدها ميم مشددة. قال النووي: معنى رواية الاكثر إن تقتل تقتل ذا دم بمهملة أي صاحب دم لدمه موقع يستشفي قاتله بقتله ويدرك ثأره لرياسته وعظمته، ويحتمل أن يكون المعنى عليه دم وهو مطلوب به فلا لوم عليك في قتله، وأما الرواية بالمعجمة فمعناها ذا ذمة وثبت ذلك في رواية أبي داود، وضعفها عياض بأنه ينقلب المعنى، لانه إذا كان ذا ذمة يمتنع قتله، وقال النووي: يمكن تصحيحها بأن يحمل على الوجه الاول، والمراد بالذمة الحرمة في قومه. وأوجه الجميع الثاني لانه مشاكل لقوله بعد ذلك: وإن تنعم تنعم على شاكر وجميع ذلك تفصيل لقوله: عندي خير، وفعل الشرط إذا كرر في الجزاء دل على فخامة الامر. قوله: قال عندي ما قلت لك إن تنعم الخ، قدم في اليوم الاول القتل وفي اليومين الآخرين الانعام وفي ذلك نكتة، وهي أنه قدم أول يوم أشق الامرين عليه وأشفاهما لصدر خصومه وهو القتل، فلما لم يقع قدم الانعام استعطافا، وكأنه رأى في اليوم الاول إمارات الغضب دون اليومين الآخرين. قوله: أطلقوا ثمامة في رواية ابن إسحاق قال: قد عفوت عنك يا ثمامة وأعتقتك وزاد أيضا: أنه لما كان في الاسر جمعوا ما كان في أهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طعام ولبن فلم يقع ذلك من ثمامة موقعه، فلما أسلم جاؤوا بالطعام فلم يصب منه إلا قليلا فتعجبوا فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الكافر يأكل في سبعة أمعاء، وإن المسلم يأكل في معي واحد. قوله: فبشره أي بخير الدنيا والآخرة، أو بشره بالجنة، أو بمحو ذنوبه وتبعاته السابقة. قوله: صبوت هذا اللفظ كانوا يطلقونه على من أسلم وأصله يقال لمن دخل في دين الصابئة وهم فرقة معروفة. قوله: ولا ولكن أسلمت الخ، كأنه قال لا ما خرجت من الدين لان عبادة الاوثان ليست دينا، فإذا تركتها أكون قد خرجت من دين بل استحدثت دين الاسلام. وقوله: مع محمد أي وافقته على دينه فصرنا متصاحبين في الاسلام. وفي رواية ابن هشام: ولكني تبعت خير الدين دين محمد. قوله: ولا والله
[ 143 ]
فيه حذف تقديره: والله لا أرجع إلى دينكم ولا أرفق بكم فأترك الميرة تأتيكم من اليمامة قوله: حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زاد ابن هشام: ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئا، فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنك تأمر بصلة الرحم، فكتب إلى ثمامة أن يخلي فيما بينهم وبين الحمل إليهم. وفي هذه القصة من الفوائد ربط الكافر في المسجد، والمن على الاسير الكافر، وتعظيم أمر العفو عن المسئ، لان ثمامة أقسم أن بغضة القلب انقلبت حبافي ساعة واحدة لما أسداه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليه من العفو والمن بغير مقابل، وفيه الاغتسال عند الاسلام، وأن الاحسان يزيل البغض ويثبت الحب، وأن الكافر إذا أراد عمل خير ثم أسلم شرع له أن يستمر في عمل ذلك الخير، وفيه الملاطفة لمن يرجى إسلامه من الاسارى إن كان في ذلك مصلحة للاسلام، ولا سيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير من قومه، وفيه بعث السرايا إلى بلاد الكفار، وأسر من وجد منهم، والتخيير بعد ذلك في قتله والابقاء عليه. وعن ابن عباس قال: لما أسروا الاسارى يعني يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لابي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الاسارى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون لنا قوة على الكفار وعسى الله أن يهديهم للاسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ فقال: لا والله ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكني من فلان نسيبا لعمر فأضرب عنقه، ومكن فلانا من فلان قرابته، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قاله أبو بكر ولم يهو ما قلت فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شئ تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة شجرة قريبة منه، وأنزل الله عزوجل: * (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض، إلى قوله: فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا) * (الانفال: 69) فأحل الله الغنيمة لهم رواه أحمد ومسلم
[ 144 ]
. وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة رواه أبو داود. وعن عائشة قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال وبعثت فيه بقلادة كانت لها عند خديجة أدخلتها بها على أبي العاص قالت: فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رق لها رقة شديدة فقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا لها الذي لها، قالوا: نعم رواه أحمد وأبو داود. وعن عمران بن حصين: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين من بني عقيل رواه أحمد والترمذي وصححه ولم يقل فيه من بني عقيل. [ رح 3409 ] وعن ابن عباس قال: كان ناس من الاسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء، فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الانصار الكتابة، قال: فجاء يوما غلام يبكي إلى أبيه فقال: ما شأنك؟ قال: ضربني معلمي، قال: الخبيث يطلب بذحل بدر والله لا تأتيه أبدا رواه أحمد. حديث ابن عباس الثاني أخرجه أيضا النسائي والحاكم وسكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص ورجاله ثقات إلا أبا العنبس وهو مقبول. وحديث عائشة أخرجه أيضا الحاكم وفي إسناده محمد بن إسحاق. وحديث عمران بن حصين أخرجه أيضا مسلم مطولا كما سيأتي، وأخرجه ابن حبان مختصرا، وحديث ابن عباس الثالث في إسناده علي بن عاصم وهو كثير الغلط والخطأ وقد وثقه أحمد. وفي الباب عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه عند الترمذي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن جبريل هبط فقال له: خيرهم يعني أصحابك في أسارى بدر القتل أو الفداء على أن يقتل منهم قابل مثلهم قالوا: الفداء ويقتل منا قال الترمذي. وفي الباب عن ابن مسعود وأنس وأبي برزة الاسلمي وجبير بن مطعم قال هذا يعني حديث علي حديث حسن غريب من حديث الثوري لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة. ورواه أبو أسامة عن هشام عن ابن سيرين عن عبيدة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه. وروى ابن عون عن ابن سيرين عن عبيدة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه مرسلا. وأخرج أبو داود والنسائي والحاكم من حديث أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استشار الناس في أسارى بدر فقال أبو بكر: نرى أن تعفو عنهم وتقبل منهم الفداء وأخرج البخاري عن أنس: أن رجالا من الانصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
[ 145 ]
فقالوا: أتأذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه؟ فقال: لا تدعوا منه درهما. وأخرج البيهقي من حديث ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: * (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض) * (الانفال: 67) إن ذلك كان يوم بدر والمسلمون في قلة، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله تعالى: * (فإما منا بعد وإما فداء) * (محمد: 4) فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنين بالخيار فيهم إن شاؤوا قتلوهم، وإن شاؤوا استعبدوهم، وإن شاؤوا فادوهم، وفي إسناده علي بن أبي طلحة عن ابن عباس وهو لم يسمع منه، لكنه إنما أخذ التفسير عن ثقات أصحابه كمجاهد وغيره، وقد اعتمده البخاري وأبو حاتم وغيرهما في التفسير. وأخرج أبو داود عن ابن عباس من وجه آخر قال: حدثني عمر بن الخطاب. قال: لما كان يوم بدر فأخذ يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم الفداء أنزل الله تعالى: * (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الارض) * إلى قوله: * (عذاب أليم) * ثم أحل لهم الغنائم. قوله: لما أسروا الاسارى قد ساق ابن إسحاق في المغازي تفصيل أمر فداء الاسارى فذكر ما يشفي ويكفي. قوله: قاعدين يبكيان إنما وقع البكاء منه صلى الله عليه وآله وسلم ومن أبي بكر لما أنزل الله من المعاتبة، ولما وقع من عرض العذاب على الذين أخذوا الفداء كما في الحديث المذكور. قوله: من بني عقيل بضم العين المهملة كذا في المشارق. قوله: بذحل بفتح الذال المعجمة وسكون الحاء المهملة قال في مختصر النهاية: الذحل الوتر وطلب المكافأة بجناية جنيت عليه. وقال في القاموس: الذحل الثأر أو طلب مكافأة بجناية جنيت عليك، أو عداوة أتت إليك، أو العداوة والحقد، الجمع أذحال وذحول. وقد استدل المصنف بالاحاديث التي ذكرها على ما ترجم الباب به من المن والفداء في حق الاسارى، ومذهب الجمهور أن الامر في الاسارى الكفرة من الرجال إلى الامام يفعل ما هو الاحظ للاسلام والمسلمين. وقال الزهري ومجاهد وطائفة: لا يجوز أخذ الفداء من أسرى الكفار أصلا. وعن الحسن وعطاء: لا تقتل الاسرى بل يتخير بني المن والفداء. وعن مالك: لا يجوز المن بغير فداء. وعن الحنفية: لا يجوز المن أصلا لا بفداء ولا بغيره. قال الطحاوي: وظاهر الآية يعني قوله تعالى: * (فإما منا بعد وإما فداء) * حجة للجمهور. وكذا حديث أبي هريرة في قصة ثمامة المذكورة في أول الباب. وقال أبو بكر الرازي: احتج
[ 146 ]
أصحابنا لكراهة فداء المشركين بالمال بقوله تعالى: * (لولا كتاب من الله سبق) * (الانفال: 68) الآية، ولا حجة لهم في ذلك، لانه كان قبل حل الغنيمة كما قدمنا عن ابن عباس. والحاصل أن القرآن والسنة قاضيان بما ذهب إليه الجمهور، فإنه قد وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم المن وأخو الفداء كما في أحاديث الباب ووقع منه القتل، فإنه قتل النضر بن الحرث وعقببن أبي معيط وغيرهما، ووقع منه فداء رجلين من المسلمين برجل من المشركين كما في حديث عمران بن حصين، قال الترمذي بعد أن ساق حديث عمران بن حصين المذكور: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيرهم أن للامام أن يمن على من شاء من الاسارى، ويقتل من شاء منهم، ويفدي من شاء، واختار بعض أهل العلم القتل على الفداء، قال: قال الاوزاعي: بلغني أن هذه الآية منسوخة يعني قوله: * (فإما منا بعد وإما فداء) * (محمد: 4) نسخها قوله: * (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) * (البقرة: 191) حدثنا بذلك هناد، أخبرنا ابن المبارك عن الاوزاعي قال إسحاق بن منصور: قلت لاحمد: إذا أسر الاسير يقتل أو يفادي أحب إليك؟ قال: إن قدر أن يفادي فليس به بأس، وإن قتل فما أعلم به بأسا، قال إسحاق بن إبراهيم: الاثخان أحب إلي إلا أن يكون معروفا طمع به الكثير انتهى. وقد ذهب إلى جواز فك الاسير من الكفار بالاسير من المسلمين جمهور أهل العلم، لحديث عمران بن حصين المذكور. باب أن الاسير إذا أسلم لم يزل ملك المسلمين عنه عن عمران بن حصين قال: كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رجلا من بني عقيل وأصابوا معه العضباء، فأتى عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الوثاق فقال: يا محمد، فأتاه فقال: ما شأنك؟ فقال: بما أخذتني وأخذت سابقة الحاج يعني العضباء؟ فقال: أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف ثم انصرف، فناداه فقال: يا محمد يا محمد، فقال: ما شأنك؟ قال: إني مسلم، قال: لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح ثم انصرف عنه، فناداه: يا محمد يا محمد، فأتاه
[ 147 ]
فقال: ما شأنك؟ فقال: إني جائع فأطعمني، وظمآن فاسقني، قال: هذه حاجتك ففدي بعد بالرجلين رواه أحمد ومسلم. قوله: لبني عقيل بضم العين المهملة كما تقدم. قوله: العضباء بفتح المهملة وسكون الضاد المعجملة ثم باء موحدة، وقد تقدم الكلام في ضبطها في كتاب الحج. قوله: بجريرة حلفائك الجريرة الجناية. قال في النهاية: ومعنى ذلك أن ثقيفا لما نقضوا الموادعة التي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينكر عليهم بنو عقيل صاروا مثلهم في نقض العهد. (وفي الحديث) دليل على ما ترجم المصنف الباب به من أنه لا يزول ملك المسلمين عن الاسير بمجرد إسلامه، لان هذا الرجل أخبر بأنه مسلم وهو في الاسر، فلم يقبل منه صلى الله عليه وآله وسلم ولم يفكه من أسره، ولم يخرج بذلك عن ملك من أسره. وفيه أيضا دليل على أن للامام أن يمتنع من قبول إسلام من عرف منه أنه لم يرغب في الاسلام وإنما دعته إلى ذلك الضرورة، ولا سيما إذا كان في عدم القبول مصلحة للمسلمين، فإن هذا الرجل استنقذ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلين مسلمين من أسر الكفار، ولو قبل منه الاسلام لم يحصل ذلك، ويمكن أن يقال: إن معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح أي لو قلت كلمة الاسلام أو هذه الكلمة التي أخبرت بها عن الاسلام قبل أن يقع عليك الاسر لكنت آمنا ولم يجر عليك ما جرى من الاسر وأخذ المال، ولم يرد بذلك رد إسلامبل قبله منه، ولكنه لم يحصل بإسلامه الفكاك من الاسر وإرجاع ما أخذ من ماله، فلم يحصل له كل الفلاح، لانه لم يعامل في تلك الحال معاملة المسلمين، بل عومل معاملة الكفار، فبقي في وثاقه وتحت ملك من أسره، وعلى هذا يكون في الحديث دليل على ما أراد المصنف، لان الرجل صار مسلما ولم يزل عنه ملك المسلمين. وأما على تقدير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقبل منه الاسلام من الاصل فلا يكون فيه دليل على ذلك بأن الرجل باق على كفره. (وفي الحديث) مشروعية إجابة الاسير إذا دعا وإن كرر ذلك مرات والقيام بما يحتاج إليه من طعام وشراب. ومعنى قوله: هذه حاجتك أي حاضرة يؤتي إليك بها الساعة.
[ 148 ]
[ رم ] باب الاسير يدعي الاسلام قبل الاسد وله شاهد عن ابن مسعود قال: لما كان يوم بدر وجئ بالاسارى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ينفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق، قال عبد الله بن مسعود: فقلت: يا رسول الله إلا سهيل ابن بيضاء فإني قد سمعته يذكر الاسلام، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما رأيتني في يوم أخوف أن يقع علي حجارة من السماء مني في ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إلا سهيل ابن بيضاء، قال: ونزل القرآن: * (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) * (الانفال: 68) إلى آخر الآيات رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن. الحديث هو من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه وقد قدمنا أنه لم يسمع منه. قال الترمذي بعد إخراج هذا الحديث: هذا حديث حسن وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه. قوله: لا ينفلتن أي لا يخرج من الاسر أحد إلا بأحد الامرين: إما الفداء أو القتل، وفيه متمسك لمن قال: إنه لا يجوز المن بغير فداء وهو مالك كما سلف، ولكن غاية ما فيه أنه يدل بمفهوم الحصر على عدم جواز ذلك، وقوله تعالى: * (فإما منا بعد وإما فداء) * (محمد: 4) يدل بمنطوقه على الجواز، ويؤيده ما تقدم من منه صلى الله عليه وآله وسلم على ثمامة بن أثال، وعلى الثمانين الرجل الذين هبطوا عليه من جبال التنعيم كما سلف، وعلى أهل مكة حيث قال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء. قوله: ونزل القرآن * (ما كان لنبي) * الخ، لفظ الترمذي: ونزل القرآن بقول عمر * (ما كان لنبي) * الخ. (والحديث) يدل على ما ترجم به المصنف الباب من أنه يجوز فك الاسير من الاسر بغير فداء إذا ادعى الاسلام قبل الاسر ثم شهد له بذلك شاهد، وكذلك إذا لم تقع منه دعوى وشهد له شاهد أنه كان قد أسلم قبل الاسر كما وقع في حديث الباب فإنه لم يذكر فيه أن سهيل ابن بيضاء ادعى الاسلام أولا ثم شهد له بعد ذلك ابن مسعود، بل ليس فيه إلا مجرد صدور الشهادة من ابن مسعود بذكره للاسلام قبل الاسر.
[ 149 ]
باب جواز استرقاق العرب عن أبي هريرة قال: لا أزال أحب بني تميم بعد ثلاث سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقولها فيهم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: هم أشد أمتي على الدجال، قال: وجاءت صدقاتهم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هذه صدقات قومنا، قال: وكان سبية منهم عند عائشة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل متفق عليه. وفي رواية: ثلاث خصال سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بني تميم لا أزال أحبهم بعده، كان على عائشة محرر فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أعتقي من هؤلاء، وجاءت صدقاتهم فقال: هذه صدقات قومي، قال: وهم أشد الناس قتالا في الملاحم رواه مسلم. وعن مروان بن الحكم ومسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم وسبيهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال وقد كنت استأنيت بكم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف ، فلما تبين لهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير راد إليهم إلا إحدى الطائفتين قالوا: فإنا نختار سبينا، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المسلمين فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء قد جاؤونا تائبين وإني رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أحب أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفئ الله علينا فليفعل، فقال الناس: قد طيبنا ذلك يارسول الله لهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى ترفع إلينا عرفاؤكم أمركم، فرجع الناس فكلمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا، فهذا الذي بلغنا عن سبي هوازن رواه أحمد
[ 150 ]
والبخاري وأبو داود. وعن عائشة قالت: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في السبي لثابت بن قيس بن شماس أو لابن عم له، فكاتبته عن نفسها وكانت امرأة حلوة ملاحة، فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله إني جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، فجئتك أستعينك على كتابتي، قال: فهل لك في خير من ذلك؟ قالت: وما هو يا رسول الله، قال: أقضي كتابتك وأتزوجك، قالت: نعم يا رسول الله، قال: قد فعلت، قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تزوج جويرية بنت الحارث، فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأرسلوا ما بأيديهم، قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها رواه أحمد واحتج به في رواية محمد بن الحكم وقال: لا أذهب إلى قول عمر: ليس على عربي ملك، قد سبى النبي صلى الله عليه وآله وسلم العرب في غير حديث، وأبو بكر وعلي حين سبى بني ناجية. حديث عائشة في قصة بني المصطلق أخرجه أيضا الحاكم وأبو داود والبيهقي، وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر كما تقدم في باب الدعوة قبل القتال. قوله: أحب بني تميم هم القبيلة الشهيرة ينسبون إلى تميم بن مر بضم الميم بلا هاء ابن أد بضم أوله وتشديد الدال المهملة ابن طابخة بموحدة مكسورة ومعجمة ابن إلياس بن مضر قوله: بعد ثلاث زاد أحمد من وجه آخر عن أبي زرعة عن أبي هريرة: وما كان قوم من الاحياء أبغض إلي منهم فأحببتهم انتهى، وإنما كان يبغضهم لما كان بينهم وبين قومه في الجاهلية من العداوة. قوله: هم أشد أمتي على الدجال في الرواية الثانية: وهم أشد الناس قتالا في الملاحم وهي أعم من الرواية الاولى، ويمكن أن يحمل العام في ذلك على الخاص، فيكون المراد بالملاحم أكثرها وهي قتال الدجال ليدخل غيره بطريق الاولى. قوله: هذه صدقات قومي وأما نسبهم إليه لاجتماع نسبه بنسبهم في إلياس بن مضر، قال: وكانت سبية منهم أي من تميم وهي بوزن فعيلة مفتوح الاول من السبي أو السباء في رواية الاسماعيلي نسمة بفتح النون والمهملة أي نفس. قوله: محرر بمهملات اسم مفعول، وقد بين ذلك الطبراني أن الذي كان
[ 151 ]
على عائشة نذر ولفظه: نذرت عائشة أن تعتق محررا من بني إسماعيل. وله في الكبير: أن عائشة قالت: يا نبي الله إني نذرت عتيقا من ولد إسماعيل، فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اصبري حتى يجئ فئ بني العنبر غدا، فجاء فئ بني العنبر فقال: خذي منهم أربعة الحديث. قوله: وقد كنت استأنيت بكم أي أخرت قسم السبي لتحضروا فأبطأتم، وكان صلى الله عليه وآله وسلم قد ترك السبي بغير قسمة وتوجه إلى الطائف فحاصرها ثم رجع عنها إلى الجعرانة ثم قسم الغنائم هناك فجاءه وفد هوازن بعد ذلك فبين لهم أنه انتظرهم. وقوله: بضع عشرة ليلة بيان لمدة الانتظار. قوله: قفل بفتح القاف والفاء أي رجع. وذكر الواقدي أن وفد هوازن كانوا أربعة وعشرين بيتا فيهم الزبرقان السعدي فقال: يا رسول الله إن في هذه الحظائر إلا أمهاتك وخالاتك وحواضنك ومرضعاتك فامنن علينا من الله عليك. قوله: أن يطيب بفتح الطاء المهملة وتشديد الياء التحتانية أي يعطي ذلك على طيبة من نفسه من غير عوض. قوله: على حظه أي يرد السبي بشرط أن يعطي عوضه. قوله: يفئ الله علينا بضم أوله ثم فاء مكسورة وهمزة بعد التحتانية الساكنة أي يرجع إلينا من مال الكفار من خراج أو غنيمة أو غير ذلك ولم يرد الفئ الاصطلاحي وحده. قوله: عرفاؤكم بضم العين المهملة جمع عريف بوزن عظيم وهو القائم بأمر طائفة من الناس من عرفت بالضم وبالفتح على القوم عرافة فأنا عارف وعريف وليت أمر سياستهم وحفظ أمورهم، وسمي بذلك لكونه يتعرف أمورهم. قوله: فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا نسبة التطييب والاذن إلى الجميع حقيقة لكن سبب ذلك مختلف، فالاغلب الاكثر منهم طابت أنفسهم أن يردوا السبي لاهله بغير عوض، وبعضهم رده بشرط التعويض، ومعنى طيبوا حملوا أنفسهم على ترك السبايا حتى طابت بذلك، يقال: طيبت نفسي بكذا إذا حملتها على السماح به من غير إكراه فطابت بذلك، ويقال: طيبت نفس فلان إذا كلمته بما يوافقه. وإنما قلنا إن بعضهم رده بشرط العوض، مع أن ظاهر الحديث يدل على أنه لم يشترط العوض أحد منهم لما في رواية موسى بن عقبة بلفظ: فأعطى الناس ما بأيديهم إلا قليلا من الناس سألوا الفداء. وفي رواية عمرو بن شعيب: فقال المهاجرون: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقالت الانصار كذلك، وقال الاقرع بن حابس: أما أنا وبنو تميم فلا، وقال عيينة: أما أنا وبنو فزارة فلا، وقال العباس
[ 152 ]
بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا، فقالت بنو سليم: بلى ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من تمسك منكم بحقه فله بكل إنسان ست فرائض من أول فئ نصيبه، فردوا إلى الناس نساءهم وأبناءهم. قال ابن بطال: في الحديث مشروعية إقامة العرفاء، لان الامام لا يمكنه أن يباشر جميع الامور بنفسه، فيحتاج إلى إقامة من يعاونه ليكفيه ما يقيمه فيه. قال: والامر والنهي إذا توجه إلى الجميع يقع التواكل فيه من بعضهم فربما وقع التفريط، فإذا أقام على كل قوم عريفا لم يسع كل أحد إلا الانقياد بما أمر به. وفيه أن الخبر الوارد في ذم العرفاء لا يمنع إقامة العرفاء، لانه محمول إن ثبت على أن الغالب على العرفاء الاستطالة ومجاوزة الحد وترك الانصاف المفضي إلى الوقوع في المعصية. والحديث في ذم العرفاء أخرجه أبو داود من طريق المقدام بن معد يكرب رفعه: العرافة حق ولا بد للناس من عريف والعرفاء في النار ولاحمد وصححه ابن خزيمة من طريق عباد بن علي عن أبي حازم عن أبي هريرة رفعه: ويل للامراء ويل للعرفاء قال الطيبي: قوله والعرفاء في النار ظاهر أقيم مقام الضمير يشعر بأن العرافة على خطر، ومن باشرها غير آمن الوقوع في المحظور المفضي إلى العذاب فهو كقوله تعالى: * (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا) * (النساء: 10). فينبغي للعاقل أن يكون على حذر منها لئلا يتورط فيما يؤديه إلى النار. قال الحافظ: ويؤيد هذا التأويل الحديث الآخر حيث توعد الامراء بما توعد به العرفاء، فدل على أن المراد بذلك الاشارة إلى أن كل من يدخل في ذلك لا يسلم، فإن الكل على خطر والاستثناء مقدر في الجميع. ومعنى العرافة حق أن أصل نصبهم حق، فإن المصلحة مقتضية لما يحتاج إليه الامير من المعاونة على ما لا يتعاطاه بنفسه. ويكفي في الاستدلال لذلك وجودهم في العهد النبوي كما دل عليه حديث الباب. قوله: بني المصطلق قد تقدم ضبطه وتفسيره في باب الدعوة قبل القتال. قوله: وقعت جويرية بالجيم مصغرا بنت الحرث بن أبي ضرار بن الحرث بن مالك بن المصطلق وكان أبوها سيد قومه وقد أسلم بعد ذلك. قوله: ملاحة بضم الميم وتشديد اللام بعدها حاء مهملة أي مليحة، وقيل شديدة الملاحة وجمعه ملاح وأملاح وملاحون بتخفيف اللام وملاحون بتشديدها، ذكر معنى ذلك في القاموس. وقد استدل المصنف رحمه الله
[ 153 ]
تعالى بأحاديث الباب على جواز استرقاق العرب، وإلى ذلك ذهب الجمهور، كما حكاه الحافظ في كتاب العتق من فتح الباري. وحكي في البحر عن العترة وأبي حنيفة أنه لا يقبل من مشركي العرب إلا الاسلام أو السيف واستدل لهم بقوله تعالى: * (فإذا انسلخ الاشهر الحرم فاقتلوا المشركين) * (التوبة: 5) الآية، قال: والمراد مشركوا العرب إجماعا إذ كان العهد لهم يومئذ دون العجم اه. ثم قال في موضع آخر من البحر: فأما الاسترقاق فإن كان أعجميا أو كتابيا جاز لقول ابن عباس في تفسير: * (فإما منا بعد وإما فداء) * (محمد: 4) خير الله تعالى نبيه في الاسر بين القتلى والفداء والاسترقاق وإن كان عربيا غير كتابي لم يجز الشافعي يجوز لنا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لو كان الاسترقاق ثابتا على العرب الخبر اه. وهو يشير إلى حديث معاذ الذي أخرجه الشافعي والبيهقي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم حنين: لو كان الاسترقاق جائزا على العرب لكان اليوم إنما هو أسرى وفي إسناده الواقدي وهو ضعيف جدا. ورواه الطبراني من طريق أخرى فيها يزيد بن عياض وهو أشد ضعفا من الواقدي، ومثل هذا لا تقوم به حجة. وظاهر الآية عد الفرق بين العربي والعجمي. وقد خصت الهادوية عدم جواز الاسترقاق بذكور العرب دون إناثهم، ومن أدلتهم على عدم جواز استرقاق الذكور من العرب أنه لو ثبت الاسترقاق لهم لوقع، ولم يرد في وقوعه شئ على كثرة أسر العرب في زمانه صلى الله عليه وآله وسلم، فإن المكروه أيضا لا بد أن يقع ولو لبيان الجواز، ولا يجوز أن يخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبليغ حكم الله. قال في المنار مستدلا على ما ذهب إليه الجمهور: وقد استفتحت الصحابة أرض الشام وهم عرب، وكذلك في أطراف بلاد العرب المتصلة بالعجم، ولم يفتشوا العربي من العجمي، والكتابي من الامي، بل سووا بينهم، لم يرو عن أحد خلاف ذلك، ثم ذكر قول أحمد بن حنبل الذي ذكره المصنف. (والحاصل) أنه قد ثبت في جنس أسارى الكفار جواز القتل والمن والفداء والاسترقاق، فمن ادعى أن بعض هذه الامور تختص ببعض الكفار دون بعض لم يقبل منه ذلك إلا بدليل ناهض يخصص العمومات، والمجوز قائم في مقام المنع. وقول علي وفعله عند بعض المانعين من استرقاق ذكور
[ 154 ]
العرب حجة، وقد استرق بني ناجية ذكورهم وإناثهم وباعهم كما هو مشهور في كتب السير والتواريخ، وبنو ناجية من قريش فكيف ساغت لهم مخالفته؟. باب قتل الجاسوس إذا كان مستأمنا أو ذميا عن سلمة بن الاكوع قال: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عين وهو في سفر، فجلس عند بعض أصحابه يتحدث ثم انسل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اطلبوه فاقتلوه، فسبقتهم إليه فقتلته فنفلني سلبه رواه أحمد والبخاري وأبو داود. وعن فرات بن حيان: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتله وكان ذميا وكان عينا لابي سفيان وحليفا لرجل من الانصار، فمر بحلقة من الانصار فقال: إني مسلم، فقال رجل من الانصار: يا رسول الله إنه مسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن منكم رجالا نكلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن حيان رواه أحمد وأبو داود وترجمه بحكم الجاسوس الذمي. [ رح ] وعن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا والزبير والمقداد بن الاسود قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة ومعها كتاب فخذوه منها، فانطلقنا تتعادى بناخيلنا حتى انتهينا إلى الروضة، فإذا نحن بالظعينة فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب، فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لنلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل مكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا حاطب ما هذا؟ قال: يا رسول الله لا تعجل علي إني كنت امرأ ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا ولا رضا بالكفر بعد الاسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لقد صدقكم، فقال عمر: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال: إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم متفق عليه.
[ 155 ]
حديث فرات بن حيان في إسناده أبو همام الدلال محمد بن محبب ولا يحتج بحديثه وهو يرويه عن سفيان الثوري ولكنه قد روى الحديث المذكور عن سفيان بشر بن السري البصري وهو ممن اتفق البخاري ومسلم على الاحتجاج بحديثه. ورواه عن الثوري أيضا عباد بن موسى الازرق العباداني وكان ثقة. قوله: أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عين في روايلمسلم أن ذلك كان في غزوة هوازن، وسمى الجاسوس عينا لان عمله بعينه أو لشدة اهتمامه بالرؤية واستغراقه فيها كأن جميع بدنه صار عينا. قوله: فنفلني في رواية البخاري فنفله بالالتفات من ضمير المتكلم إلى الغيبة. وسبب قتله أنه اطلع على عورة المسلمين كما وقع عند مسلم من رواية عكرمة بلفظ: فقيد الجمل ثم تقدم يتغدى مع القوم وجعل ينظر وفينا ضعفة ورقة في الظهر إذ خرج يشتد. وفي رواية لابي نعيم في المستخرج من طريق يحيى الحماني عن أبي العميس أدركوه فإنه عين. وفي الحديث دليل على أنه يجوز قتل الجاسوس. قال النووي فيه قتل الجاسوس الحربي الكافر وهو باتفاق. وأما المعاهد والذمي فقال مالك والاوزاعي: ينتقض عهده بذلك، وعند الشافعية خلاف. أما لو شرط عليه ذلك في عهده فينتقض اتفاقا. وحديث فرات المذكور في الباب يدل على جواز قتل الجاسوس الذمي. وذهبت الهادوية إلى أنه يقتل جاسوس الكفار والبغاة إذا كان قد قتل أو حصل القتل بسببه وكانت الحرب قائمة، وإذا اختل شئ من ذلك حبس فقط. قوله: وعن فرات بضم الفاء وراء مهملة وبعد الالف تاء مثناة فوقية وهو عجلي سكن الكوفة وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يزل يغزو معه إلى أن قبض فنزل الكوفة. قوله: روضة خاخ بخاءين معجمتين منقوطتين من فوق. قوله: ظعينة بالظاء المعجمة بعدها عين مهملة وهي المرأة. قوله: من عقاصها جمع عقيصة وهي الضفيرة من شعر الرأس وتجمع أيضا على عقص. قوله: من حاطب بحاء مهملة، وبلتعة بفتح الموحدة وسكون اللام وفتح التاء المثناة من فوق بعدها عين مهملة. قوله: أنه قد شهد بدرا ظاهر هذا أن العلة في ترك قتله كونه ممن شهد بدرا، ولولا ذلك لكان مستحقا للقتل، ففيه متمسك لمن قال إنه يقتل الجاسوس ولو كان من المسلمين. وقد روى ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة قال: لما أجمع رسول الله صلى الله عليه وآله
[ 156 ]
وسلم المسير إلى مكة كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يخبرهم ثم أعطاه امرأة من مزينة وذكر ابن إسحاق أن اسمها سارة. وذكر الواقدي أن اسمها كنود، وفي رواية له أخرى سارة، وفي أخرى له أيضا أم سارة. وذكر الواقد أن حاطبا جعل لها عشرة دنانير على ذلك وقيل دينارا واحدا. وقيل: إنها كانت مولاة العباس. قال السهيلي: كان حاطب حليفا لعبدالله بن حميد بن زهير بن أسد بن عبد العزى، واسم أبي بلتعة عمرو، وقيل: كان أيضا حليفا لقريش. وذكر يحيى بن سلام في تفسيره أن لفظ الكتاب: أما بعد يا معشر قريش فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاءكم بجيش كالليل يسير كالسيل، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده فانظروا لانفسكم والسلام. كذا حكاه السهيلي. وروى الواقدي بسند له مرسل أن حاطبا كتب إلى سهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وعكرمة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أذن في الناس بالغزو ولا أراه يريد غيركم وقد أحببت أن تكون لي عندكم يد. قوله: وما يدريك لعل الله الخ، هذه بشارة عظيمة لاهل بدر رضوان الله عليهم لم نقع لغيرهم، والترجي المذكور قد صرح العلماء بأنه في كلام الله وكلام رسوله للوقوع. وقد وقع عند أحمد وأبي داود وابن أبي شيبة من حديث أبي هريرة بالجزم ولفظه: أن الله أطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. وعند أحمد بإسناد على شرط مسلم من حديث جابر مرفوعا: لن يدخل النار أحد شهد بدرا وقد استشكل قوله: اعملوا ما شئتم فإن ظاهره أنه للاباحوهو خلاف عقد الشرع. وأجيب بأنه إخبار عن الماضي أي كل عمل كان لكم فهو مغفور، ويؤيده أنه لو كان لما يستقبلونه من العمل لم يقع بلفظ الماضي ولقال: فسأغفره لكم، وتعقب بأنه لو كان للماضي لما حسن الاستدلال به في قصة حاطب، لانه صلى الله عليه وآله وسلم خاطب به عمر منكرا عليه ما قال في أمر حاطب، وهذه القصة كانت بعد بدر بست سنين، فدل على أن المراد ما سيأتي، وأورده بلفظ الماضي مبالغة في تحققه، وقيل: إن صيغة الامر في قوله اعملوا للتشريف والتكريم، فالمراد عدم المؤاخذة بما يصدر منهم بعد ذلك، وأنهم خصوا بذلك لما حصل لهم من الحال العظيمة التي اقتضت محو ذنوبهم السالفة وتأهلوا لان يغفر الله لهم الذنوب اللاحقة إن وقعت أي كل ما عملتموه بعد هذه الوقعة من أي عمل كان فهو مغفور
[ 157 ]
وقيل: إن المراد أن ذنوبهم تقع إذا وقعت مغفورة، وقيل: هي بشارة بعدم وقوع الذنوب منهم، وفيه نظر ظاهر لما وقع في البخاري وغيره في قصة قدامة بن مظعون من شربه الخمر في أيام عمر وأن عمر حده، ويؤيد القول بأن المراد بالحديث أن ذنوبهم إذا وقعت تكون مغفورة، ما ذكره البخاري في باب استتابة المرتدين عن أبي عبد الرحمن السلمي التابعي الكبير أنه قال لحبان بن عطية: قد علمت الذي جرأ صاحبك على الدماء يعني عليا كرم الله وجهه. قال في الفتح: واتفقوا أن البشارة المذكورة فيما يتعلق بأحكام الآخرة لا بأحكام الدنيا من إقامة الحدود وغيرها اه. باب أن العبد الكافر إذا خرج إلينا مسلما فهو حر عن ابن عباس قال: أعتق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الطائف من خرج إليه من عبيد المشركين رواه أحمد. وعن الشعبي عن رجل من ثقيف قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرد إلينا أبا بكرة وكان مملوكنا فأسلم قبلنا فقال: لا هو طليق الله ثم طليق رسوله رواه أبو داود. وعن علي قال: خرج عبدان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني يوم الحديبية قبل الصلح فكتب إليه مواليهم فقالوا: والله يا محمد ما خرجوا إليك رغبة في دينك وإنما خرجوا هربا من الرق، فقال ناس: صدقوا يا رسول الله ردهم إليهم، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا، وأبى أن يردهم وقال: هم عتقاء الله عزوجل رواه أبو داود. حديث ابن عباس أخرجه أيضا ابن أبي شيبة، وأخرجه أيضا ابن سعد من وجه آخر مرسلا، وقصة أبي بكرة في تدليه من حصن الطائف مذكورة في صحيح البخاري في غزوة الطائف، وحديث على اخرجه أيضا الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه محديث ربعي عن علي، وقال أبو بكر البزار: لا نعلمه يروي عن علي بن أبي طالب إلامن حديث ربعي. قوله: من عبيد المشركين منهم أبو بكرة
[ 158 ]
والمنبعث وكان عبدا لعثمان بن عامر بن معتب. ومنهم مرزوق زوج سمية والدة زياد. والازرق وكان لكلدة الثقفي. وورد أنه كان لعبيد الله بن ربيعة. ويحنس وكان لابن مالك الثقفي وإبراهيم بن جارية وكان لخرشة الثقفي، ويقال: كان معهم زياد ابن سمية، والصحيح أنه لم يخرج حينئذ لصغره. وقد روي أنهم ثلاثة وعشرون عبدا من الطائف من جملتهم أبو بكرة كما ذكره البخاري في المغازي، وفيه رد على من زعم أن أبا بكرة لم ينزل من سور الطائف غيره، وهو شئ قاله موسى بن عقبة في مغازيه وتبعه الحاكم، وجمع بعضهم بين القولين أن أبا بكرة نزل وحده أولا ثم نزل الباقون بعده وهو جمع حسن. قوله: أن يرد إلينا أبا بكرة اسمه نفيع بن الحرث وكان مولى الحرث بن كلدة الثقفي فتدلى من حصن الطائف ببكرة فكنى أبا بكرة لذلك، أخرج ذلك الطبراني بإسناد لا بأس به من حديث أبي بكرة. قوله: عبدان جمع عبد. وفي أحاديث الباب دليل على أن من هرب من عبيد الكفار إلى المسلمين صار حرا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: هم عتقاء الله ولكن ينبغي للامام أن ينجز عتقهم كما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم في عبيد الطائف كما في حديث ابن عباس المذكور في الباب. باب أن الحربي إذا أسلم قبل القدرة عليه أحرز أمواله قد سبق قوله عليه السلام: فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. وعن صخر بن عيلة: أن قوما من بني سليم فروا عن أرضهم حين جاء الاسلام فأخذتها فأسلموا فخاصموني فيها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فردها عليهم وقال: إذا أسلم الرجل فهو أحق بأرضه وماله رواه أحمد وأبو داود بمعناه وقال فيه، فقال: يا صخر إن القوم إذا أسلموا أحرزوا أموالهم ودماءهم. وعن أبي سعيد الاعشم قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العبد إذا جاء فأسلم ثم جاء مولاه فأسلم أنه حر، وإذا جاء المولى ثم جاء العبد بعدما أسلم مولاه فهو أحق به رواه أحمد في رواية أبي طالب وقال: اذهب إليه، قلت: وهو مرسل. الحديث الذي أشار إليه المصنف بقوله: قد سبق الخ تقدم في أول كتاب
[ 159 ]
الصلاة. وحديث صخر بن عيلة قا الحافظ في بلوغ المرام: رجاله موثقون اه. وعيلة بفتح العين المهملة وسكو التحتانية وهي أم صخر. وفي الباب عن أبي هريرة عند أبي يعلى مرفوعا: من أسلم على شئ فهو له وضعفه ابن عدي بياسين الزيات الراوي عن أبي هريرة، قال البيهقي: وإنما يروى عن ابن أبي مليكة وعن عروة مرسلا، وفي الباب أيضا عن عروة مرسلا عند سعيد بن منصور برجال ثقات: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاصر بني قريظة فأسلم ثعلبة وأسيد بن سعية فأحرز لهما إسلامهما أموالهما وأولادهما الصغار. وأخرج ابن إسحاق في المغازي عن شيخ من بني قريظة أنه قال له: هل تدري كيف كان إسلام ثعلبة وأسيد ونفر من هذيل لم يكونوا من بني قريظة والنضير كانوا فوق ذلك؟ أنه قدم علينا رجل من الشام من يهود يقال له ابن الهيبان فأقام عندنا، فوالله ما رأينا رجلا قط لا يصلي الخمس خيرا منه، فقدم علينا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسنين وكان يقول: إنه يتوقع خروج نبي قد أظل زمانه فذكر الحديث، فلما كانت الليلة التي افتتح فيها قريظة قال أولئك الفتية الثلاثة: يا معشر يهود. والله إنه للرجل الذي كان ذكر لكم ابن الهيبان، قالوا: ما هو إياه، قال: بلى والله إنه لهو، قال: فنزلوا وأسلموا وكانوا شبابا، فخلوا أموالهم وأولادهم وأهليهم في الحصن عند المشركين، فلما فتح رد ذلك عليهم. وأخرجه أيضا البيهقي. وأسيد المذكور بفتح الهمزة وكسر السين، وسعية بفتح السين المهملة وإسكان العين المهملة أيضا وفتح التحتية. وقيل: بالنون بدل الياء، قال النووي: وهو تصحيف من بعض الفقهاء، والهيبان بفتح الهاء والياء المثناة من تحت والباء الموحدة كذا ضبطه المطرزي في المغرب. وفي القاموس: الهيبان بالتشديد وقد يخفف صحابي أسلم. قوله: دماءهم وأموالهم الظاهر أن الاموال تشمل المنقول وغير المنقول، فيكون المسلم طوعا أحق بجميع أمواله، وقد صرح بدخول الارض في حديث صخر المذكور في الباب لقوله فيه، بأرضه وماله. وقد ذهب الجمهور إلى أن الحربي إذا أسلم طوعا كانت جميع أمواله في ملكه، ولا فرق بين أن يكون إسلامه في دار الاسلام أو دار الكفر على ظاهر الدليل. وقال بعض الحنفية: إن الحربي إذا أسلم في دار الحرب وأقام بها حتى غلب المسلمون عليها فهو أحق بجميع ماله إلا أرضه وعقاره فإنها تكون فيئا للمسلمين، وقد خالفهم أبو يوسف في ذلك فوافق الجمهور، وذهبت الهادوية إلى مثل ما ذهب إليه بعض الحنفية إذا
[ 160 ]
كان إسلامه في دار الحرب، قالوا: وإن كان إسلامه في دار الاسلام كانت أمواله جميعها فيئا من غير فرق بين المنقول وغيره إلا أطفاله فإنه لا يجوز سبيهم، ويدل على ما ذهب إليه الجمهور أنه صلى الله عليه وآله وسلم أقر عقيلا على تصرفه فيما كان لاخويه علي وجعفر، وللنبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدور والرباع بالبيع وغيره، ولم يغير ذلك ولا انتزعها ممن هي في يده لما ظفر، فكان ذلك دليلا على تقرير من بيده دار أو أرض إذا أسلم وهي في يده بطريق الاولى، وقد بوب البخاري على قصة عقيد هذه فقال: باب إذا أسلم قوم في دار الحرب ولهم مال وأرضون فهي لهم، قال القرطبي: يحتمل أن يكون مراد البخاري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من على أهل مكة بأموالهم ودورهم قبل أن يسلموا، فتقرير من أسلم يكون بطريق الاولى. قوله: فأخذتها الآخذ هو صخر المذكور. قوله: قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في العبد الخ، فيه دليل على أن من أسلم من عبيد الكفار قبل إسلامهم صار حرابمجرد إسلامه، لما تقدم في الباب الاول أن العبيد الذين يفرون من دار الحرب إلى دار الاسلام عتقاء الله، ومن أسلم بعد إسلام سيده كان مملوكا لسيده لان إسلام السيد قد أحرز ماله ودمه والعبد من جملة أمواله. (والحديث) المذكور وإن كان مرسلا إلا أنه يدل على معناه الحديث المتفق عليه الذي أشار إليه المصنف لقوله فيه: فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم فلو حكم بحرية عبد الرجل المسلم إذا أسلم لكان بعض ماله خارجا عن العصمة، وهكذا يدل على هذا المعنى حديث صخر المذكور، وأحاديث الباب الاول تدل على ما دل عليه حديث أبي سعيد المذكور من أن عبد الحربي إذا أسلم صار حرا بإسلامه، فقد دل على جميع ما اشتمل عليه من التفصيل غيره من الاحاديث فلا يضر إرساله. باب حكم الارضين المغنومة عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أيما قرية أتيتموها فأقمتم فيها فسهمكفيها، وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ورسوله ثم هي لكم رواه أحمد ومسلم. وعن أسلم مولى عمر قال: قال عمر: أما والذي نفسي
[ 161 ]
بيده لولا أن أتر ك آخر الناس ببانا ليس لهم من شئ ما فتحت علي قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيبر، ولكن أتركها خزانة لهم يقتسمونها رواه البخاري. وفي لفظ قال: لئن عشت إلى هذا العام المقبل لا تفتح للناس قرية إلا قسمتها بينهم كما قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيبر رواه أحمد. وعن بشير بن يسار عن رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أدركهم يذكرون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين ظهر على خيبر قسمها على ستة وثلاثين سهما جمع كل سهم مائة سهم فجعل نصف ذلك كله للمسلمين، فكان في ذلك النصف سهام المسلمين وسهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معها، وجعل النصف الآخر لمن ينزل به من الوفود والامور ونوائب الناس رواه أحمد وأبو داود. وعن بشير بن يسارعن سهل بن أبي حثمة قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيبر نصفين نصفا لنوائبه وحوائجه ونصفا بين المسلمين، قسمها على ثمانية عشر سهما رواه أبو داود. وعن سعيد بن المسيب: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم افتتح بعض خيبر عنوة رواه أبو داود. [ رح ] وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، وعدتم من حيث بدأتم، شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه رواه أحمد ومسلم وأبو داود. حديث بشير بن يسار سكت عنه أبو داود والمنذري، وأخرجه أيضا أبو داود عنه من طريق أخرى أنه سمع نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: فذكر هذا الحديث قال: فكان النصف سهام المسلمين وسهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعزل النصف للمسلمين لما ينوبه من الامور والنوائب. وأخرجه أبو داود أيضا من طريق ثالثة عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا واسطة بأطول من اللفظين المذكورين سابقا وهو مرسل، فإنه لم يدرك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أدرك فتح خيبر. وحديث بشير أيضا الذي رواه من طريق سهل سكت عنه أبو داود والمنذري. قوله: أيما قرية الخ، فيه التصريح بأن الارض المغنومة تكون للغانمين، قال الخطابي: فيه دليل على أن أرض العنوة
[ 162 ]
حكمها حكم سائر الاموال التي تغنم، وأن خمسها لاهل الخمس، وأربعة أخماسها للغانمين. قوله: ببانا بموحدتين مفتوحتين الثانية ثقيلة وبعد الالف نون كذا للاكثر. قال أبو عبيد بعد أن أخرجه عن ابن مهدي: قال ابن مهدي يعني شيئا واحدا. قال الخطابي: ولا أحسب هذه اللفظة عربية ولم أسمعها في غير هذا الحديث. وقال الازهري: بل هي لغة صحيحة لكنها غير فاشية هي لغة معد، وقد صححها صاحب العين وقال: ضوعفت حروفه يقال: هم على بيان واحد. وقال الطبري: البيان المعدم الذي لا شئ له، فالمعنى: لولا أني أتركهم فقراء معدمين لا شئ لهم أي متساوين في الفقر. وقال أبو سعيد الضرير فيما تعقبه على أبي عبيد: صوابه بيانا بالموحدة ثم تحتانية بدل الموحدة الثانية أي شيئا واحدا، فإنهم قالوا لمن لا يعرف هو هيان بن بيان اه. وقد وقع من عمر ذكر هذه الكلمة في قصة أخرى وهو أنه كان يفضل في القسمة فقال: لئن عشت لاجعلن للناس ببانا واحدا، ذكره الجوهري وهو مما يؤيد تفسيره بالتسوية. قوله: يقتسمونها أي يقتسمون خراجها. قوله: كما قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيبر فيه تصريح بما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنه عار ض ذلك عنده حسن النظر لآخر المسلمين فيما يتعلق بالارض خاصة فوقفها على المسلمين وضرب عليها الخراج الذي يجمع مصلحتهم. وروى أبو عبيد في كتاب الاموال من طريق أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن عمر أنه أراد أن يقسم السواد فشاور في ذلك فقال له علي رضي الله عنه: دعه يكون مادة للمسلمين فتركه. وأخرجه أيضا من طريق عبد الله بن أبي قيس أن عمر أراد قسمة الارض فقال له معاذ: إن قسمتها صار الريع العظيم في أيدي القوم يبيدون فيصير إلى الرجل الواحد أو المرأة، ويأتي قوم يسدون من الاسلام مسدا ولا يجدون شيئا، فانظر أمرا يسع أولهم وآخرهم، فاقتضى رأعمر تأخير قسم الارض وضرب الخراج عليها للغانمين ولمن يجئ بعدهم. وقد اختلف في الارض التي يفتتحها المسلمون عنوة. قال ابن المنذر: ذهب الشافعي إلى أن عمر استطاب أنفس الغانمين الذين افتتحوا أرض السواد، وأن الحكم في أرض العنوة أن تقسم كما قسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيبر، وتعقب بأنه مخالف لتعليل عمر بقوله: لولا أن أترك آخر الناس الخ، لكن يمكن أن يقال معناه: لولا أن أترك آخر الناس ما استطبت أنفس
[ 163 ]
الغانمين. وأما قول عمر: كما قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيبر فإنه يريد بعض خيبر لا جميعها، كذا قال الطحاوي وأشار بذلك إلى ما في حديث بشير بن يسار المذكور في الباب: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عزل نصف خيبر لنوائبه وما ينزل به وقسم النصف الباقي بين المسلمين والمراد بالذي عزله ما افتتح صلحا، وبالذي قسمه ما افتتح عنوة. وقد اختلف في الارض التي أبقاها عمر بغير قسمة، فذهب الجمهور إلى أنه وقفها لنوائب المسلمين وأجرى فيها الخراج ومنع بيعها. وقال بعض الكوفيين: أبقاها ملكا لمن كان بها من الكفرة وضرب عليهم الخراج. قال في الفتح: وقد اشتد نكير كثير من فقهاء أهل الحديث لهذه المقالة انتهى. وقد ذهب مالك إلى أن الارض المغنومة لا تقسم بل تكون وقفا يقسم خراجها في مصالح المسلمين من أرزاق المقاتلة وبناء القناطر والمساجد وغير ذلك من سبل الخير، إلا أن يرى الامام في وقت من الاوقات أن المصلحة تقتضي القسمة فإن له أن يقسم الارض. وحكى هذا القول ابن القيم عن جمهور الصحابة ورجحه وقال: إنه الذي كان عليه سيرة الخلفاء الراشدين. قال: ونازع في ذلك بلال وأصحابه وطلبوا أن يقسم بينهم الار ض التي فتحوها، فقال عمر: هذا غير المال ولكن أحسبه فيئا يجري عليكم وعلى المسلمين، فقال بلال وأصحابه: اقسمها بيننا، فقال عمر: اللهم اكفني بلالا وذويه، فما حال الحول ومنهم عين تطرف، ثم وافق سائر الصحابة عمر، قال: ولا يصح أن يقال إنه استطاب نفوسهم ووقفها برضاهم فإنهم قد نازعوه فيها وهو يأبى عليهم، ثم قال: ووافق عمر جمهور الائمة وإن اختلفوا في كيفية إبقائها بلا قسمة، فظاهر مذهب أحمد وأكثر نصوصه على أن الامام مخير فيها تخيير مصلحة لا تخيير شهوة، فإن كان الاصلح للمسلمين قسمتها قسمها، وإن كان الاصلح أن يقفها على جماعتهم وقفها، وإن كان الاصلح قسمة البعض ووقف البعض فعله، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعل الاقسام الثلاثة، فإنه قسم أرض قريظة والنضير وترك قسمة مكة، وقسم بعض خيبر وترك بعضها لما ينوبه من مصالح المسلمين. وفي رواية لاحمد: أن الارض تصير وقفا بنفس الظهور والاستيلاء من غير وقف من الامام وله رواية ثالثة: إن الامام يقسمها بين الغانمين كما يقسم بينهم المنقول إلى أن يتركوا حقهم منها قال: وهو مذهب الشافعي بناء من الشافعي على أن آية الانفال وآية الحشر متواردتان، وأن الجميع يسمى فيئا وغنيمة، ولكنه يرد
[ 164 ]
عليه أن ظاهر سوق آية الحشر أن الفئ غير الغنيمة وأن له مصرفا عاما، ولذلك قال عمر: إنها عمت الناس بقوله: * (والذين جاؤوا من بعدهم) * (الحشر: 10) ولا يتأتى حصة لمن جاء من بعدهم إلا إذا بقيت الارض محبسة للمسلمين، إذ لو استحقها المباشرون للقتال وقسمت بينهم توارثها ورثة أولئك، فكانت القرية والبلد تصير إلى امرأة واحدة أو صبي صغير، وذهبت الحنفية إلى أن الامام مخير بين القسمة بين الغانمين، وأن يقرها لاربابها على خراج أو ينتزعها منهم ويقرها مع آخرين، وعند الهادوية الامام مخير بين وجوه أربعة معروفة في كتبهم. قوله: افتتح بعض خيبر عنوة العنوة بفتح العين المهملة وسكون النون القهر. قوله: وقفيزها القفيز مكيال ثمانية مكاكيك قوله منعت العراق مديها المدى مائة واثنان وتسعون مدا وهو صاع أهل العراق. قوله: ومنعت مصر أردبها بالراء والدال المهملتين بعدهما موحدة، قال في القاموس: الاردب كقرشب مكيال ضخم بمصر ويضم أربعة وعشرون صاعا انتهى. قوله: وعدتم من حيث بدأتم أي رجعتم إلى الكفر بعد الاسلام، وهذا الحديث من أعلام النبوة لاخباره صلى الله عليه وآله وسلم بما سيكون من ملك المسلمين هذه الاقاليم ووضعهم الجزية والخراج ثم بطلان ذلك، إما بتغلبهم وهو أصح التأويلين وفي البخاري ما يدل عليه، ولفظ المنع في الحديث يرشد إلى ذلك، وإما بإسلامهم. ووجه استدلال المصنف بهذا الحديث على ما ترجم الباب به من حكم الارضين المغنومة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد علم بأن الصحابة يضعون الخراج على الارض ولم يرشدهم إلى خلاف ذلك بل قرره وحكاه لهم. باب ما جاء في فتح مكة هو عنوة أو صلح؟ عن أبي هريرة أنه ذكر فتح مكة فقال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخل مكة، فبعث الزبير على إحدى المجنبتين، وبعث خالدا على المجنبة الاخرى، وبعث أبا عبيدة على الحسر، فأخذوا بطن الوادي ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في كتيبته، قال: وقد وبشت قريش أوباشها وقالوا: نقدم هؤلاء فإن كان لهم شئ كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سئلنا. قال أبو هريرة: ففطن فقال لي: يا أبا هريرة قلت: لبيك يا رسول الله،
[ 165 ]
قال: اهتف لي بالانصار ولا يأتيني إلا أنصاري، فهتف بهم فجاؤوا فطافوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ترون إلى أوباش قريش وأتباعهم ثم قال بيديه إحداهما على الاخرى: احصدوهم حصدا حتى توافوني بالصفا، قال أبو هريرة: فانطلقنا فما يشاء أحد منا أن يقتل منهم ما شاء إلا قتله، وما أحد منهم يوجه إلينا شيئا، فجاء أبو سفيان فقال: يا رسول الله أبيدت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، فأغلق الناس أبوابهم، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحجر فاستلمه ثم طاف بالبيت وفي يده قوس وهو آخذ بسية القوس، فأتى في طوافه على صنم إلى جنب البيت يعبدونه فجعل يطعن به في عينه ويقول: جاء الحق وزهق الباطل، ثم أتى الصفا فعلا حيث ينظر إلى البيت فرفع يده فجعل يذكر الله بما شاء أن يذكره ويدعوه والانصار تحته، قال: يقول بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته، قال أبو هريرة: وجاء الوحي وكان إذا جاء لم يخف علينا فليس أحد من الناس يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يقضى، فلما قضي الوحي رفع رأسه ثم قال: يا معشر الانصار أقلتم أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته قالوا قلنا ذلك يا رسول الله، قال: فما اسمي إذن، كلا إني عبد الله ورسوله، هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم والممات مماتكم، فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الظن برسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فإن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم رواه أحمد ومسلم. وعن أم هانئ قالت: ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة ابنته تستره بثوب، فسلمت عليه فقال: من هذه؟ فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال: مرحبا يا أم هانئ، فلما فرغ من غسله قام يصلي ثمان ركعات ملتحفا في ثوب واحد فلما انصرف قلت: يا رسول الله زعم ابن أمي علي بن أبي طالب أنه قاتل رجلا قد أجرته فلان ابن هبيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ، قالت: وذلك ضحى متفق عليه. وفي لفظ لاحمد قالت: لما كان يوم فتح مكة أجرت رجلين من أحمائي فأدخلتهما
[ 166 ]
بيتا وأغلقت عليهما بابا فجاء ابن أمي علي فتفلت عليهما بالسيف وذكرت حديث أمانهما. قوله: على إحدى المجنبتين بضم الميم وفتح الجيم وكسر النون المشددة قال في القاموس: والمجنبة بفتح النون المقدمة، والمجنبتان بالكسر الميمنة والميسرة انتهى. فالمراد هنا أنه صلى الله عليه وآله وسلم بعث الزبير إما على الميسرة أو الميمنة وخالدا على الاخرى. قوله: على الحسر بضم الحاء المهملة وتشديد السين المهملة أيضا ثم راء جمع حاسر وهو من لا سلاح معه. قوله: في كتيبته هي الجيش. قوله: وبشت قريش أوباشها الاوباش بموحدة ومعجمة الاخلاط والسفلة كما في القاموس، والمراد أن قريشا جمعت السفلة منها. قوله: اهتف لي بالانصار أي أصرخ بهم، قال في القاموس: هتفت الحمامة تهتف صاتت وبه هتافا بالضم صاح. قوله: ثم قال بيديه إحداهما على الاخرى فيه استعارة القول للفعل، والمراد أنه أشار بيديه إشارة تدل على الامر منه صلى الله عليه وآله وسلم بقتل من يعرض لهم من أوباش قريش. وقوله: احصدوهم حصدا تفسير منه صلى الله عليه وآله وسلم لما دلت عليه الاشارة بالقول، هكذا وقع عند المصنف فيما رأيناه من النسخ بدون لفظ أي المشعرة بأن ما بعدها تفسير للاشارة من الراوي ولفظ مسلم أي احصدوهم حصدا. قوله: أبيد ت خضراء قريش في رواية، أبيحت وخضراء قريش بالخاء والضاد المعجمتين بعدهما راقال في القاموس: والخضراء سواد القوم ومعظمهم. قوله: لا قريش بعد اليوم يجوفي قريش الفتح لكنه يحتاج إلى تأويل أي لا أحد من قريش، لانه لا يفتح بعد لا إلا النكرة، والرفع أيضا على أنها بمعنى ليس وهو شاذ حتى قيل: إنه لم يرد إلا في الشعر. قوله: بسية قوسه سية القوس ما انعطف من الطرفين لانهما مستويان وهي بكسر السين المهملة وفتح الياء التحتية مخففة. قوله: على صنم إلى جنب البيت في رواية للبخاري: أن الاصنام كانت ثلاثمائة وستين. قوله: يطعن بضم العين وبفتحها والاول أشهر. قوله: ويقول جاء الحق زاد في حديث ابن عمر عند الفاكهي وصححه ابن حبان: فيسقط الصنم ولا يمسه. وللفاكهي والطبراني من حديث ابن عباس فلم يبق وثن استقبله إلا سقط على قفاه مع أنها كانت ثابتة في الارض، وقد شد لهم إبليس أقدامها بالرصاص،
[ 167 ]
وإنما فعل ذلك صلى الله عليه وآله وسلم لها إذلالا لها ولعابديها، وإظهارا لعدم نفعها، لانها إذا عجزت عن أن تدفع عن نفسها فهي عن الدفع عن غيرها أعجز. قوله: الضن بكسر الضاد المعجمة مشددة بعدها نون أي الشح والبخل أن يشاركهم أحد في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: يصدقانكم ويعذرانكم فيه جواز الجمع بين ضمير الله ورسوله، وكذلك وقع الجمع بينهما في حديث النهي عن لحوم الحمر الاهلية بلفظ: إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الاهلية فلا بد من حمل النهي الواقع في حديث الخطيب الذي خطب بحضرته صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى الحديث وقد تقدم على من اعتقد التسوية كما قدمنا ذلك في موضعه. قوله: وعن أم هانئ قد تقدم الكلام على أطراف من هذا الحديث في صلاة الضحى. قوله: زعم ابن أمي في رواية للبخاري في أول كتاب الصلاة: زعم ابن أبي والكل صحيح فإنه شقيقها، وزعم هنا بمعنى ادعى. قوله: أنه قاتل رجلا فيه إطلاق اسم الفاعل على من عزم على التلبس بالفعل. قوله: فلان ابن هبيرة بالنصب على البدل أو الرفع على الحذف. وفي رواية أحمد المذكورة رجلين من أحمائي وقد أخرجها الطبراني. قال أبو العباس بن سريج: هما جعدة ابن هبيرة ورجل آخر من بني مخزوم، وكانا فيمن قاتل خالد بن الوليد ولم يقبلا الامان فأجارتهما أم هانئ وكانا من أحمائها. وقال ابن الجوزي: إن كان ابن هبيرة منهما فهو جعدة انتهى. قال الحافظ: وجعدة معدود فيمن له رواية ولم يصح له صحبة، وقد ذكره من حيث الرواية في التابعين البخاري وابن حبان وغيرهما فكيف يتهيأ لمن هذه سبيله في صغر السن أن يكون عام الفتح مقاتلا حتى يحتاج إلى الامان؟ انتهى. وهبيرة المذكور هو زوج أم هانئ، فلو كان الذي أمنته أم هانئ هو ابنها منه لم يهم علي بقتله، لانها كانت قد أسلمت وهرب زوجها وترك ولدها عندها. وجوز ابن عبد البر أن يكون ابنا لهبيرة من غيرها، مع نقله عن أهل النسب أنهم لم يذكروا لهبيرة ولدا من غير أم هانئ. وجزم ابن هشام في تهذيب السيرة بأن اللذين أجارتهما أم هانئ هما الحرث بن هشام وزهير بن أبي أمية المخزوميان. وروى الازرقي بسند فيه الواقدي في حديث أم هانئ هذا أنهما الحرث ابن هشام وعبد الله بن أبي ربيعة. وحكى
[ 168 ]
بعضهم أنهما الحرث بن هشام وهبيرة بن أبي وهب وليس بشئ، لان هبيرة هرب بعد فتح مكة إلى نجران، فلم يزل بها مشركا حتى مات، كذا جزم به ابن إسحاق وغيره، فلا يصح ذكره فيمن أجارته أم هانئ. وقا الكرماني: قال الزبير بن بكار: فلان ابن هبيرة هو الحرث بن هشام وقد تصرف في كلام الزبير، والواقع عند الزبير في هذه القصة موضع فلان ابن هبيرة الحرث بن هشام. قال الحافظ: والذي يظهر لي أن في رواية الحديث حرفا كان فيه فلان ابن عم ابن هبيرة فسقط لفظ عم، أو كان فيه فلان قريب ابن هبيرة فتغير لفظ قريب إلى لفظ ابن، وكل من الحرث ابن هشام وزهير بن أبي أمية وعبد الله بن أبي ربيعة يصح وصفه بأنه ابن عم هبيرة وقريبه لكون الجميع من بني مخزوم. وقد تمسك بحديث أبي هريرة وحديث أم هانئ من قال: إن مكة فتحت عنوة، ومحل الحجة من الاول أمره صلى الله عليه وآله وسلم للانصار بالقتل لاوباش قريش ووقع القتل منهم، ومحل الحجة من الثاني ما وقع من علي من إرادة قتل من أجارته أم هانئ، ولو كانت مكة مفتوحة صلحا لم يقع منه ذلك، وسيأتي ذكر الخلاف وما هو الحق في ذلك. [ رح ] وعن هشام بن عروة عن أبيه قال: لما سار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الفتح فبلغ ذلك قريشا خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يلتمسون الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أتوا مر الظهران، فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذوهم وأتوا بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسلم أبو سفيان فلما سار قال للعباس: احبس أبا سفيان عند خطم الجبل حتى ينظر إلى المسلمين، فحبسه العباس فجعلت القبائل تمر كتيبة بعد كتيبة على أبي سفيان حتى أقبلت كتيبة لم ير مثلها قال: يا عباس من هذه؟ قال: هؤلاء الانصار عليهم سعد بن عبادة ومعه الراية، فقال سعد بن عبادة: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الكعبة، فقال أبو سفيان: يا عباس حبذا يوم الذمار، ثم جاءت كتيبة وهي أقل الكتائب فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وراية النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الزبير بن العوام، فلما مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أبي سفيان قال: ألم تعلم ما قال سعد بن عبادة؟ قال: ما قال؟ قال: قال كذا كذا وكذا، فقال:
[ 169 ]
كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة، وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تركز رايته بالحجون، قال عروة: فأخبرني نافع بن جبير بن مطعم قال: سمعت العباس يقول للزبير بن العوام: يا أبا عبد الله ههنا أمرك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تركز الراية؟ قال: نعم، قال: وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ خالد بن الوليد أن يدخل من أعلى مكة من كداء، ودخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من كدى رواه البخاري. قوله: عن هشام بن عروة عن أبيه قال لما سار الخ، هكذا أورده البخاري مرسلا، قال في الفتح: ولم أره في شئ من الطرق موصولا عن عروة، ولكن آخر الحديث موصول لقول عروة فيه فأخبرني نافع بن جبير بن مطعم قال: سمعت العباس الخ. قوله: فبلغ ذلك قريشا يحتمل أن يكون ذلك بطريق الظن لا أن مبلغا بلغهم حقيقة ذلك. قوله: حتى أتوا مر الظهران بفتح الميم وتشديد الراء مكان معروف، والعامة تقوله بسكون الراء وزيادة واو، والظهر أن بفتح المعجمة وسكون الهاء بلفظ تثنية ظهر. قوله: فرآهم ناس من حرس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخذوهم الخ، في رواية ابن إسحاق: فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر الظهران قال العباس: والله لئن دخل رسول الله مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه إنه لهلاك قريش: قال: فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى جئت الاراك فقلت لعلي: أجد بعض الحطابة أو ذا حاجة يأتي مكة فيخبرهم إذ سمعت كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء، قال: فعرفت صوته فقلت: يا أبا حنظلة، قال: فعرف صوتي، فقال أبو الفضل قلت: نعم، قال: ما الحيلة؟ قلت: فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأستأمنه لك، قال: فركب خلفه ورجع صاحباه وهذا مخالف لما في حديث الباب أنهم أخذوهم. وفي رواية ابن عائذ: فدخل بديل وحكيم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأسلما. قال في الفتح: فيحمل قوله: ورجع صاحباه أي بعد أن أسلما، واستمر أبو سفيان عند العباس لامر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له أن يحبسه حتى يرى العساكر، ويحتمل أن يكونا رجعا لما التقى العباس بأبي سفيان فأخذهما العسكر أيضا. وفي مغازي موسى بن عقبة: فلقيهم العباس فأجارهم وأدخلهم على رسول الله صلى الله
[ 170 ]
عليه وآله وسلم فأسلم بديل وحكيم وتأخر أبو سفيان بإسلامه إلى الصبح. ويجمع بين الروايات بأن الحرس أخذوهم فلما رأوا أبا سفيان مع العباس تركوه معه. قوله: احبس أبا سفيان في رواية موسى بن عقبة: أن العباس قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني لا آمن أن يرجع أبو سفيان فيكفر فأحبسه حتى يرى جنود الله ففعل، فقال أبو سفيان: أغدرا يا بني هاشم؟ قال له العباس: لا ولكن لي إليك حاجة فتصبح فتنظر جنود الله وما أعد الله للمشركين، فحبسه بالمضيق دون الاراك حتى أصبحوا. قوله: عند خطم الجبل في رواية النسفي والقابسي: بفتح الخاء المعجمة وسكون المهملة وبالجيم والموحدة أي أنف الجبل وهي رواية ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي، وفي رواية الاكثر بفتح المهملة من اللفظة الاولى وبالخاء المعجمة وسكون التحتانية من الثانية أي ازدحامها، وإنما حبسه هناك لكونه كان مضيقا ليرى الجميع ولا تفوته رؤية أحد منهم. قوله: كتيبة بوزن عظيمة وهي القطعة من الجيش من الكتب وهو الجمع. قوله: ومعه الراية أي راية الانصار، وكانت راية المهاجرين مع الزبير كما هو مذكور في آخر الحديث. قوله: يوم الملحمة بالحاء المهملة أي يوم حرب لا يوجد منه مخلص أو يوم القتل، يقال: لحم فلان فلانا إذا قتله. قوله: يوم الذمار بكسر المعجمة وتخفيف الميم أي الهلاك، قال الخطابي: تمنى أبو سفيان أن يكون له يد فيحمي قومه ويدفع عنهم. وقيل: المراد هذا يوم الغضب للحريم والاهل. وقيل: المراد هذا يوم يلزمك فيه حفظي وحمايتي من أن ينالني فيه مكروه. قوله: وهي أقل الكتائب أي أقلها عددا، لان عدد المهاجرين كان أقل من عدد غيرهم من القبائل. وقال القاضي عياض: وقع للجميع بالقاف، ووقع في الجمع للحميدي أجل بالجيم. قوله: كذب سعد فيه إطلاق الكذب على الاخبار بغير ما سيقع، ولو قاله القائل بناء على ظنه وقوة القرينة، والخلاف في ماهية الكذب معروف. قوله: يعظم الله فيه الكعبة وهذا إشارة إلى ما وقع من إظهار الاسلام، وأذان بلال على ظهر الكعبة، وإزالة الاصنام عنها، ومحو ما فيها من الصور وغير ذلك. قوله: ويوم تكسى فيه الكعبة قيل: إن قريشا كانت تكسو الكعبة في رمضان فصادف ذلك اليوم، أو المراد باليوم الزمان، أو أشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى أنه هو الذي يكسوها في ذلك العام. قوله:
[ 171 ]
بالحجون بفتح المهملة وضم الجيم الخفيفة وهو مكان معروف بالقرب من مقبرة مكة. قوله: فأخبرني نافع بن جبير لم يدرك نافع يوم الفتح، ولعله سمع العباس يقول للزبير ذلك في حجة اجتمعوا فيها بعد أيام النبوة فإن نافعا لا صحبة له. قوله: قال وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخ، القائل هو عروة وهو من بقية الخبر المرسل، وليس فيه من المرفوع إلا ما صرح بسماعه من نافع، وأما باقيه فيحتمل أن يكون عروة تلقاه عن أبيه أو عن العباس فإنه أدركه وهو صغير، أو جمعه من نقل جماعة له بأسانيد مختلفة، قال الحافظ: وهو الراجح. قوله: من كداء بالمد مع فتح الكاف والآخر بضم الكاف والقصر، والاول يسمى المعلى والثاني الثنية السفلى، وهذا يخالف ما وقع في سائر الاحاديث في البخاري وغيره أن خالدا دخل من أسفل مكة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم من أعلاها، وأمر الزبير أن يغرز رايته بالحجون ولا يبرح حتى يأتيه، وبعث خالدا في قبائل قضاعة وسليم وغيرهم، وأمره أن يدخل من أسفل مكة، وأن يغرز رايته عند أدنى البيوت، وتمام الحديث المذكور في الباب: فقتل من خيل خالد يومئذ رجلان كما في صحيح البخاري، وكان على المصنف أن يذكر ذلك لانه يدل على ما ترجم الباب به. وفي مغازي موسى بن عقبة: أنه قتل من المشركين يومئذ نحو عشرين رجلا قتلهم أصحاب خالد وذكر ابن سعد أن عدة من أصيب من الكفار أربعة وعشرون رجلا. وروى الطبراني من حديث ابن عباس قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن الله حرم مكة الحديث فقيل له: هذا خالد بن الوليد يقتل، فقال: قم يا فلان فقل له فليرفع القتل، فأتاه الرجل فقال له: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لك: اقتل من قدرت عليه، فقتل سبعين، ثم اعتذر الرجل إليه فسكت قال: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر الامراء أن لا يقتلوا إلا من قاتلهم، غير أنه كان أهدر دم نفر سماهم انتهى. وعن سعد قال: لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين وسماهم رواه النسائي وأبو داود. وعن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد قتل من الانصار ستون رجلا ومن المهاجرين ستة، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لنربين عليهم، فلما كان يوم الفتح قال رجل لا يعرف: لا قريش
[ 172 ]
بعد اليوم، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمن الاسود والابيض إلا فلانا وفلانا ناس سماهم، فأنزل الله عز وجل: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين) * (النحل: 126) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نصبر ولا نعاقب رواه عبد الله بن أحمد في المسند، وقد سبق حديث أبي هريرة وأبي شريح إلا أن فيهما: وإنما أحلت لي ساعة من نهار وأكثر هذه الاحاديث تدل على أن الفتح عنوة. وعن عائشة قالت: قلنا: يا رسول الله ألا تبني بيتا بمنى يظلك؟ قال: لا منى مناخ لمن سبق رواه الخمسة إلا النسائي. وقال الترمذي: حديث حسن. وعن علقمة بن نضلة قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر وما تدعى رباع مكة إلا السوائب من احتاج سكن ومن استغننى أسكن رواه ابن ماجة. حديث سعد أورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه وتمامه: اقتلوهم وإن وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل وعبد الله بن خطل من بني غنم، ومقيس بن صبابة وعبد الله بن سعد بن أبي السرح، فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو معلق بأستار الكعبة، فاستبق سعيد بن الحرث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا وكان أشب الرجلين فقتله الحديث بطوله من طريق عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد المخزومي عن جده عن أبيه وفيه: فأما ابن خطل فقتله الزبير بن العوام وجزم أبو نعيم في المعرفة بأن الذي قتله هو أبوبرزة. وذكر ابن هشام أن عبد الله بن خطل قتله سعيد بن حريث وأبو برزة الاسلمي اشتركا في دمه. وذكر ابن حبيب أنه أمر بقتل هند بنت عتبة وقريبة بالقاف والموحدة وسارة فقتلتا وأسلمت هند. وذكر ابن إسحاق أن سارة أمنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن استؤمن لها، ومنهم الحويرث بن نقيد بنون وقاف مصغرا، وهبار بن الاسود، وفرتنا بالفاء المفتوحة والراء الساكنة والتاء المثناة الفوقية والنون. وذكر أبو معشر فيمن أهدر دمه الحرث بن طلاطل الخزاعي، وذكر الحاكم ممن أهدر دمه كعب بن زهير ووحشي بن حرب وأرنب مولاة ابن خطل. وقد ذكر الحافظ في الفتح جملة من لم يؤمنهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأسمائهم فكانوا ثمانية رجال وست نسو، منهم من أسلم، ومنهم من قتل، ومنهم من هرب. وحديث أبي أخرجه أيضا الترمذي
[ 173 ]
وقال: حسن غريب من حديث أبي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن خزيمة في الفوائد، وابن حبان والطبراني وابن مردويه والحاكم والبيهقي في الدلائل. وحديث أبي هريرة وأبي شريح تقدما في باب: هل يستوفي القصاص والحدود في الحرم أم لا؟ من كتاب الدماء. وحديث عائشة سكت عنه أبو داود والمنذري، وأخرجه الترمذي وابن ماجة عن أم مسيكية وذكر غيرهما أنها مكية. وحديث علقمة بن نضلة رجال إسناده ثقات، فإن ابن ماجة قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد بن أبي حسين عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة فذكره، وعمر بن سعيد وعثمان بن أبي سليمان ثقتان، وأما أبو بكر وعيسى فمن رجال الصحيح. قوله: لنربين أي لنزيدن عليهم. وفي حديث سعد وحديث أبي بن كعب دليل على أن مكة فتحت صلحا. وقد اختلف أهل العلم في ذلك فذهب الاكثر إلى أنها فتحت عنو، وعن الشافعي ورواية عن أحمد أنها فتحت صلحا لما ذكر في حديث الباب من التأمين ولانها لم تقسم، ولان الغانمين لم يملكوا دورها، وإلا لجاز إخراج أهل الدور منها، وحجة الاولين ما وقع من التصريح بالامر بالقتال ووقعه من خالد بن الوليد وتصريحه صلى الله عليه وآله وسلم بأنها أحلت له ساعة من نهار، ونهيه عن التأسي به في ذلك، كما وقع جميع ذلك في الاحاديث المذكورة في الباب تصريحا وإشارة، وأجابوا عن ترك القسمة بأنها لا تستلزم عدم العنوة، فقد تفتح البلد عنوة ويمن على أهلها، وتترك لهم دورهم وغنائمهم، ولان قسمة الارض المغنومة ليست متفقا عليها، بل الخلاف ثابت عن الصحابة فمن بعدهم، وقد فتحت أكثر البلاد عنوة فلم تقسم وذلك في زمن عمر وعثمان ومع وجود أكثر الصحابة، وقد زاد ت مكة عن ذلك بأمر يمكن أن يدعي اختصاصها به دون بقية البلاد، وهي أنها دار النسك ومتعبد الخلق، وقد جعلها الله تعالى حرما سواء العاكف فيه والباد. وأما قول النووي: احتج الشافعي بالاحاديث المشهورة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة ففيه نظر، لان الذي أشار إليه إن كان مراده ما وقع من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن كما تقدم، وكذا من دخل المسجد كما عند ابن إسحاق، فإن ذلك لا يسمى صلحا إلا إذا التزم من أشير إليه بذلك الكف عن القتال، والذي ورد في الاحاديث الصحيحة ظاهر في أن قريشا لم يلتزموا ذلك، لانهم استعدوا للحرب
[ 174 ]
كما تقدم في حديث أبي هريرة أن قريشا وبشت أوباشا، فإن كان مراده بالصلح وقوع عقده فهذا لم ينفل كما قال الحافظ قال: ولا أظنه عنى إلا الاحتمال الاول، أعني قوله: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، وتمسك أيضا من قال: إنه أمنهم بما وقع عند ابن إسحاق في سياق قصة الفتح فقال العباس لعلي: أجد بعض الحطابة أو صاحب لبن أو ذا حاجة يأتي مكة يخبرهم بما كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة. ثم قال في القصة بعد قصة أبي سفيان: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد وعند موسى بن عقبة في المغازي وهي أصح ما صنف في ذلك كما قال الحافظ. وروي ذلك عن الجماعة ما نصه: أن أبا سفيان وحكيم بن حزام قالا: يا رسول الله كنت حقيقا أن تجعل عدتك وكيدك لهوازن فإنهم أبعد رحما وأشد عداوة، فقال: إني لارجو أن يجمعهما الله لي فتح مكة وإعزاز الاسلام بها وهزيمة هوازن وغنيمة أموالهم. فقال أبو سفيان وحكيم بن حزام: فادع الناس بالامان أرأيت إن اعتزلت قريش وكفت أيديها آمنون هم؟ قال: من كف يده وأغلق داره فهو آمن، قالوا: فابعثا نؤذن بذلك فيهم، قال: فانطلقوا فمن دخل داأبي سفيان فهو آمن، ومن دخل دار حكيم فهو آمن، ودار أبي سفيان بأعلى مكة ودارحكيم بأسفلها. فلما توجها قال العباس: يا رسول الله إني لا آمن أبا سفيان أيرتد فرده حتى تريه جنود الله، قال: افعل. فذكر القصة. وفي ذلك تصريح بعموم التأمين، فكان هذا أمانا منه لكل من لم يقاتل من أهل مكة. ثم قال الشافعي كانت مكة مؤمنة ولم يكن فتحها عنوة والامان كالصلح، وأما الذين تعرضوا للقتال والذين استثنوا من الامان وأمر أن يقتلوا ولو تعلقوا بأستار الكعبة فلا يستلزم ذلك أنها فتحت عنوة. ويمكن الجمع بين حديث أبي هريرة في أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالقتال، وبين حديث عروة المتقدم المصرح بتأمينه صلى الله عليه وآله وسلم لهم. وكذلك حديث سعد وحديث أبي بن كعب المذكوران بأن يكون التأمين علق على شرط وهو ترك قريش المجاهرة بالقتال، فلما تفرقوا إلى دورهم ورضوا بالتأمين المذكور لم يستلزم أن أوباشهم الذين لم يقبلوا ذلك وقاتلوا خالد بن الوليد ومن
[ 175 ]
معه حتى قاتلهم وهزمهم أن تكون البلد فتحت عنوة، لان العبرة بالاصول لا بالاتباع، وبالاكثر لا بالاقل، كذا قال الحافظ في الفتح. ويجاب عنه بما تقدم في أول الباب من حديث أبي هريرة أن قريشا وبشت أوباشا لها وقالوا: نقدم هؤلاء الخ، فإنه يدل على أن غير الاوباش لم يرضوا بالتأمين، بل وقع التصريح في ذلك الحديث بأنهم قالوا: فإن كان للاوباش شئ كنا معهم، وإن أصيبوا أعطينا الذي سألنا. ومما احتج به الشافعي ما وقع في سنن أبي داود بإسناد حسن عن جابر أنه سئل: هل غنمتم يوم الفتح شيئا؟ قال: لا. ويجاب بأن عدم الغنيمة لا يستلزم عدم العنوة لجواز أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عليهم بالاموال كما من عليهم بالانفس حيث قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء ومن أوضح الادلة على أنها فتحت عنوة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: وإنما أحلت لي ساعة من نهار فإن هذا تصريبأنها أحلت له في ذلك يسفك بها الدماء وأن حرمتها ذهبت فيه وعادت بعده، ولو كانت مفتوحة صلحا لما كان لذلك معنى يعتد به. وقد وقع في مسند أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن تلك الساعة استمرت من صبيحة يوم الفتح إلى العصر واحتجت طائفة منهم الماوردي إلى أن بعضها فتح عنوة لما وقع من قصة خالد بن الوليد المذكورة، وقرر ذلك الحاكم في الاكليل وفيه جمع بين الادلة. قال الحافظ في الفتح: والحق أن صورة فتحها كان عنوة، ومعاملة أهلها معاملة من دخلت بأمان، ومنع قوم منهم السهيلي ترتب عدم قسمتها وجواز بيع دورها وإجارتها على أنها فتحت صلحا. وذكر المصنف رحمه الله لحديث عائشة وحديث علقمة بن نضلة في أحاديث الباب يشعر بأنه من القائلين بالترتب، ولا وجه لذلك لان الامام مخير بين قسمة الارض المغنومة بين الغانمين وبين إبقائها وقفا على المسلمين ويلزم من ذلك منع بيع دورها وإجارتها. وأيضا قد قال بعضهم: لا تدخل الارض في حكم الاموال، لان من مضى كانوا أن غلبوا على الكفار لم يغنموا إلا الاموال وتنزل النار فتأكلها وتصير الارض لهم عموما كما قال تعالى: * (ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم) * (المائدة: 21) الآية. وقال تعالى: * (وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها) * (الاعراف: 137) الآية.
[ 176 ]
باب بقاء الهجرة من دار الحرب إلى دار الاسلام وأن لا هجرة من دار أسلم أهلها عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله رواه أبو داود. وعن جرير بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث سرية إلى خثعم فاعتصم ناس بالسجود فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأمر لهم بنصف العقل وقال: أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا: يا رسول الله ولم؟ قال: لا تتراءى ناراهما رواه أبو داود والترمذي. وعن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها رواه أحمد وأبو داود. وعن عبد الله بن السعدي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو رواه أحمد والنسائي. وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا رواه الجماعة الا ابن ماجه لكن له منه إذا استنفرتم فانفروا وروت عائشة مثله متفق عليه. وعن عائشة وسئلت عن الهجرة فقالت: لا هجرة اليوم، كان المؤمن يفر بدينه إلى ا ورسوله مخافة أن يفتن، فأما اليوم فقد أظهر الله الاسلام، والمؤمن يعبد ربه حيث شاء رواه البخاري. وعن مجاشع بن مسعود: أنه جاء بأخيه مجالد بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: هذا مجالد جاء يبايعك على الهجرة، فقال: لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن أبايعه على الاسلام والايمان والجهاد متفق عليه. حديث سمرة قال الذهبي: إسناده مظلم لا نقوم بمثله حجة. وحديث جرير أخرجه أيضا ابن ماجة ورجال إسناده ثقات، ولكن صحح البخاري وأبو حاتم وأبو داود والترمذي والدارقطني إرساله إلى قيس بن أبي حازم، ورواه الطبراني أيضا موصولا،
[ 177 ]
وحديث معاوية أخرجه أيضا النسائي، قال الخطابي: إسناده فيه مقال. وحديث عبد الله السعدي أخرجه أيضا ابن ماجة وابن منده والطبراني والبغوي وابن عساكر. قوله: فهو مثله فيه دليل على تحريم مساكنة الكفار ووجوب مفارقتهم، والحديث وإن كان فيه المقال المتقدم لكن يشهد لصحته قوله تعالى: * (فلا تقعدوا معهم إنكم إذا مثلهم) * (النساء: 140) وحديث بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده مرفوعا: لا يقبل الله من مشرك عملا بعدما أسلم أو يفارق المشركين. قوله: لاتترائ ناراهما يعني لا ينبغي أن يكونا بموضع بحيث تكون نار كل واحد منهما في مقابلة الاخرى على وجه لو كانت متمكنة من الابصار لابصرت الاخرى فإثبات الرؤية للنار مجاز. قوله: ما قوتل العدو فيه دليل على أن الهجرة باقية ما بقيت المقاتلة للكفار. قوله: لا هجرة بعد الفتح أصل الهجرة هجر الوطن، وأكثر ما تطلق على من رحل من البادية إلى القرية. قوله: ولكن جهاد ونية قال الطيبي وغيره: هذا الاستدراك يقتضي مخالفة حكم ما بعده لما قبله، والمعنى: أن الهجرة التي هي مفارقة الوطن التي كانت مطلوبة على الاعيان إلى المدينة انقطعت، إلا أن المفارقة بسبب الجهاد باقية، وكذلك المفارقة بسبب نية صالحة، كالفرار من دار الكفر، والخروج في طلب العلم، والفرار بالدين من الفتن والنية في جميع ذلك. قوله: وإذا استنفرتم فانفروا قال النووي: يريد أن الخير الذي انقطع بانقطاع الهجرة يمكن تحصيله بالجهاد والنية الصالحة، وإذا أمركم الامام بالخروج إلى الجهاد ونحوه من الاعمال الصالحة فاخرجوا إليه. قال الطيبي: إن قوله: ولكن جهاد الخ معطوف على محل مدخول لا هجرة أي الهجرة من الوطن، إما للفرار من الكفار، أو إلى الجهاد، أو إلى غير ذلك كطلب العلم، فانقطعت الاولى وبقيت الاخريان فاغتنموهما ولا تقاعدوا عنهما، بل إذا استنفرتم فانفروا. قال الحافظ: وليس الامر في انقطاع الهجرة من الكفار على ما قال انتهى. وقد اختلف في الجمع بين أحاديث الباب فقال الخطابي وغيره: كانت الهجرة فرضا في أول الاسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع، فلما فتح الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجا، فسقط فرض الهجرة إلى المدينة، وبقي فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدو انتهى. قال الحافظ: وكانت الحكمة أيضا في وجوب الهجرة على من أسلم ليسلم من أذى
[ 178 ]
من يؤذيه من الكفار، فإنهم كانوا يعذبومن أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه وفيهم نزلت: * (إن الذين توفاهم الملائكه ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) * (النساء: 97) الآية، وهذه الهجرة باقية الحكم في حق من أسلم في دار الكفر وقدر على الخروج منها. وقال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام، فالاقامة فيها أفضل من الرحلة عنها لما يترجى من دخول غيره في الاسلام، ولا يخفى ما في هذا الرأي من المصادمة لاحاديث الباب القاضية بتحريم الاقامة في دار الكفر. وقال الخطابي أيضا: إن الهجرة افترضت لما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة إلى حضرته للقتال معه وتعلم شرائع الدين، وقد أكد الله ذلك في عدة آيات حتى قطع الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر فقال: * (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا) * (الانفال: 72) فلما فتحت مكة ودخل الناس في الاسلام من جميع القبائل انقطعت الهجرة الواجبة وبقي الاستحباب. وقال البغوي في شرح السنة: يحتمل الجمع بطريق أخرى، فقوله: لا هجرة بعد الفتح أي من مكة إلى المدينة. وقوله: لا تنقطع أي من دار الكفر في حق من أسلم إلى دار الاسلام. قال: ويحتمل وجها آخر وهو أن قوله: لا هجرة أي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث كان بنية عدم الرجوع إلى الوطن المهاجر منه إلا بإذن. فقوله: لا تنقطع أي هجرة من هاجر على غير هذا الوصف من الاعراب ونحوهم، وقد أفصح ابن عمر بالمراد فيما أخرجه الاسماعيلي بلفظ: انقطعت الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار أي ما دام في الدنيا دار كفر فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي أن يفتن على دينه، ومفهومه أنه لو قدر أن لا يبقى في الدنيا دار كفر أن الهجرة تنقطع لانقطاع موجبها. وأطلق ابن التين أن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت واجبة، وأن من أقام بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بغير عذر كان كافرا. قال الحافظ: وهو إطلاق مردود. وقال ابن العربي: الهجرة هي الخروج من دار الحرب إلى دار الاسلام وكانت فرضا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستمرت بعده لمن خاف على نفسه،
[ 179 ]
والتي انقطعت أصلا هي القصد إلى حيث كان. وقد حكي في البحر أن الهجرة عن دار الكفر واجبة إجماعا حيث حمل على معصية فعل أو ترك أو طلبها الامام بقوته لسلطانه. وقد ذهب جعفر بن مبشر وبعض الهادوية إلى وجوب الهجرة عن دار الفسق، قياسا على دار الكفر وهو قياس مع الفارق والحق عدم لانها دار إسلام، وإلحاق دار الاسلام بدار الكفر بمجرد وقوع المعاصي فيها على وجه الظهور ليس بمناسب لعلم الرواية ولا لعلم الدراية. وللفقهاء في تفاصيل الدور والاعذار المسوغة لترك الهجرة مباحث ليس هذا محل بسطها. [ رم ] أبواب الامان والصلح والمهادنة باب تحريم الدم بالامان وصحته من الواحد عن أنس: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لكل غادر لواء يوم القيامة يعرف به متفق عليه. وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدرته، ألا ولا غادر أعظم غدرا من أمير عامة رواه أحمد ومسلم. وعن علي رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم رواه أحمد. وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن المرأة لتأخذ للقوم يعني تجير على المسلمين رواه الترمذي وقال: حسن غريب. حديث علي تقدم في أول كتاب الدماء، وقد أخرجه أبو داود والنسائي والحاكم، وأخرجه أيضا أحمد وأبو داود وابن ماجة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا بلفظ: يد المسلمين على من سواهم تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم ورواه ابن حبان في صحيحه من حديث ابن عمر مطولا. ورواه ابن ماجة من حديث معقل بن يسار
[ 180 ]
مختصرا بلفظ: المسلمون يد على من سواهم تتكافأ دماؤهم ورواه الحاكم عن أبي هريرة مختصرا بلفظ: المسلمون تتكافأ دماؤهم ورواه من حديث أيضا مسلم بلفظ: إن ذمة المسلمين واحدة فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وهو أيضا متفق عليه من حديث علي من طريق أخرى بأطول من هذا. وأخرجه البخاري من حديث أنس، وأخرجه ابن أبي شيبة من حديث أبي عبيدة بلفظ: يجير على المسلمين بعضهم وفي إسناده حجاج بن أرطأة وهو ضعيف. وأخرجه أيضا أحمد من حديث أبي أمامة بنحوه. وأخرجه أيضا الطيالسي في مسنده من حديث عمرو بن العاص بلفظ: يجير على المسلمين أدناهم ورواه أحمد من حديث أبي هريرة، وحديث أبي هريرة المذكور في الباب رواه الترمذي من طريق يحيى بن أكثم: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة فذكره ثم قال: وفي الباب عن أم هانئ، وهذا حديث حسن غريب انتهى. وقد تقدم حديث أم هانئ قريبا. وأخرج أبو داود والنسائي عن عائشة قالت: إن كانت المرأة لتجير على المؤمنين فيجوز. قوله: يعرف به في رواية للبخاري: ينصب وفي أخرى له: يرى. ولمسلم من حديث أبي سعيد عنه استه قال ابن المنير: كأنه عومل بنقيض قصده، لان عادة اللواء أن يكون على الرأس فنصبه عند السفل زيادة في فضيحته، لان الاعين غالبا تمتد إلى الالوية، فيكون ذلك سببا لامتدادها للذي بدت له ذلك اليوم فيزداد بها فضيحة. قوله: بقدر غدرته قال في القاموس: والغدرة بالضم والكسر ما أغدر من شئ. قال القرطبي: هذا خطاب منه للعرب بنحو ما كانت تفعل، لانهم كانوا يرفعون للوفاء راية بيضاء، وللغدر راية سوداء ليلوموا الغادر ويذموه، فاقتضى الحديث وقوع مثل ذلك للغادر ليشتهر بصفته في القيامة فيذمه أهل الموقف. وقد زاد مسلم في رواية له: يقال هذه غدرة فلان قال في الفتح: وأما الوفاء فلم يرد فيه شئ ولا يبعد أن يقع كذلك. وقد ثبت لواء الحمد لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم. وفي حديث أنس وحديث أبي سعيد دليل على تحريم الغدر وغلظه لا سيما من صاحب الولاية العامة، لان غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثير، ولانه غير مضطر إلى الغدر لقدرته على الوفاء. قال القاضي عياض: المشهور أن هذا الحديث ورد في ذم الامام إذا غدر في عهوده لرعيته أو لمقابلته أو للامامة
[ 181 ]
التي تقلدها والتزم القيابها، فمن حاف فيها أو ترك الرفق فقد غدر بعهده. وقيل: المراد نهي الرعية عن الغدر بالامام، فلا تخرج عليه ولا تتعرض لمعصيته لما يترتب على ذلك من الفتنة، قال: والصحيح الاول. قال الحافظ: ولا أدري ما المانع من حمل الخبر على أعم من ذلك؟ وحكى في الفتح في موضع آخر أن الغدر حرام بالاتفاق، سواء كان في حق المسلم أو الذمي. قوله: يسعى بها أدناهم أي أقلهم، فدخل كل وضيع بالنص وكل شريف بالفحوى، ودخل في الادنى المرأة والعبد والصبي والمجنون، فأما المرأة فيدل على ذلك حديث أبي هريرة وحديث أم هانئ المتقدم. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة إلا شيئا ذكره عبد الملك بن الماجشون صاحب مالك لا أحفظ ذلك عن غيره قال: إن أمر الامان إلى الامام، وتأول ما ورد مما يخالف ذلك على قضايا خاصة. قال ابن المنذر: وفي قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يسعى بذمتهم أدناهم دلالة على إغفال هذا القائل. قال في الفتح: وجاء عن سحنون مثل قول ابن الماجشون فقال: هو إلى الامام إن أجازه جاز، وإن رده رد انتهى وأما العبد فأجاز الجمهور أمانه قاتل أو لم يقاتل. وقال أبو حنيفة: إن قاتل جاز أمانه وإلا فلا. وقال سحنون: إن أذن له سيده في القتال صح أمانه وإلا فلا. وأما الصبي فقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم أن أمان الصبي غير جائز، قال الحافظ: وكلام غيره يشعر بالتفرقة بين المراهق وغيره، وكذا المميز الذي يعقل، والخلاف عن المالكية والحنابلة، وأما المجنون فلا يصح أمانه بلا خلاف كالكافر، لكن قال الاوزاعي: إن غزا الذمي مع المسلمين فأمن أحدا فإن شاء الامام أمضاه وإلا فليرده إلى مأمنه. وحكى ابن المنذر عن الثوري أنه استثنى من الرجال الاحرار الاسير في أرض الحرب فقال: لا ينفذ أمانه وكذلك الاجير. باب ثبوت الامان للكافر إذا كان رسولا عن ابن مسعود قال: جاء ابن النواحة وابن أثال رسولا مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهما: أتشهدان أني رسول الله؟ قالا: نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: آمنت بالله ورسوله لو كنت قاتلا رسولا
[ 182 ]
لقتلتكما، قال عبد الله: فمضت السنة أن الرسل لا تقتل رواه أحمد. وعن نعيم بن مسعود الاشجعي قال: سمعت حين قرئ كتاب مسيلمة الكذاب قال للرسولين: فما تقولان أنتما؟ قالا: نقول كما قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما رواه أحمد وأبو داود. وعن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: بعثتني قريش إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقع في قلبي الاسلام فقلت: يا رسول الله لا أرجع إليهم، قال: إني لا أخيس بالعهد ولا أحبس البرد، ولكن ارجع إليهم فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع رواه أحمد وأبو داود وقال: هذا كان في ذلك الزمان اليوم لا يصلح. ومعناه والله أعلم أنه كان في المرة التي شرط لهم فيها أن يرد من جاءه منهم مسلما. حديث ابن مسعود أخرجه أيضا الحاكم، وأخرجه أيضا أبو داود والنسائي مختصرا. وحديث نعيم بن مسعود سكت عنه أبو داود والمنذري والحافظ في التلخيص. وأخرج أبو نعيم في الصحابة: أن مسيلمة بعث إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة وتين وابن شغاف الحنفي وابن النواحة، فأما وتين فأسلم، وأما الآخران فشهدا أنه رسول الله وأن مسيلمة من بعده، فقال: خذوهما فأخذا فخرجوا بهما إلى البيت فحبسا، فقال رجل: هبهما لي يا رسول الله ففعل. وحديث أبي رافع أخرجه أيضا النسائي وصححه ابن حبان. قوله: ابن النواحة بفتح النون وتشديد الواو وبعد الالف مهملة. وفي سنن أبي داود من طريق حارثة بن مضرب: أنه أتى عبد الله يعني ابن مسعود فقال: ما بيني وبين أحد من العرب حنة، وأني مررت بمسجد لبني حنيفة فإذا هم يؤمنون بمسيلمة، فأرسل إليهم عبد الله فجئ بهم فاستتابهم غير ابن النواحة، قال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لولا أنك رسول لضربت عنقك فأنت اليوم لست برسول، فأمر قرظة بن كعب فضرب عنقه في السوق ثم قال: من أراد أن ينظر إلى ابن النواحة قتيلا في السوق. قوله: وابن أثال بضم الهمزة وبعدها مثلثة. قوله: لا أخيس بالخاء المعجمة والسين المهملة بينهما مثناة تحتية أي لا أنقض العهد، من خاس الشئ في الوعاء إذا فسد. قوله: ولا أحبس بالحاء المهملة والموحدة. (والحديثان) الاولان يدلان على تحريم قتل الرسل الواصلين
[ 183 ]
من الكفار وإن تكلموا بكلمة الكفر في حضرة الامام أو سائر المسلمين. (والحديث) الثالث فيه دليل على أنه يجب الوفاء بالعهد للكفار كما يجب للمسلمين، لان الرسالة تقتضي جوابا يصل على يد الرسول فكان ذلك بمنزلة عقد العهد. باب ما يجوز من الشروط مع الكفار ومدة المهادنة وغير ذلك عن حذيفة بن اليمان قال: ما منعني أن أشهد بدرا إلا أني خرجت أنا وأبي الحسيل قال: فأخذنا كفار قريش فقالوا: إنكم تريدون محمدا، فقلنا: ما نريده وما نريد إلا المدينة، قال: فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننطلق إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرناه الخبر فقال: انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم رواه أحمد ومسلم. وتمسك به من رأى يمين المكره منعقدة. وعن أنس: أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاشترطوا عليه أن من جاء منكم لا نرده عليكم، ومن جاء رددتموه علينا، فقالوا: يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال: نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاء منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا رواه أحمد ومسلم. قوله: وأبي الحسيل بضم الحاء المهملة وفتح السين المهملة أيضا وسكون الياء بلفظ التصغير وهو والد حذيفة، فيكون لفظ الحسيل عطف بيان. قوله: فاشترطوا عليه أن من جاء منكم الخ، في لفظ البخاري الآتي بعد هذا: أن سهيلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا. قوله: فقالوا: يا رسول الله الخ، سمى الواقدي جماعة ممن قال ذلك منهم أسيد بن حضير وسعد بن عبادة. وذكر البخاري في المغازي أن سهل بن حنيف كان ممن أنكر ذلك أيضا. وقال الحافظ في الفتح: وقائل ذلك يشبه أن يكون هو عمر. ولابن عائذ من حديث ابن عباس نحوه، وسيأتي بعد هذا الحديث بسط قصة الصلح، وقد أطال ابن إسحاق في القصة وزاد على ما عند غيره، وقد استدل المصنف بالحديثين المذكورين على جواز مصالحة الكفار على ما وقع فيهما، وسيأتي بسط الكلام في ذلك.
[ 184 ]
وعن عروة بن الزبير عن المسور ومروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه قالا: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم زمن الحديبية حتى إذا كان ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين، فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة فانطلق يركض نذيرا لقريش، وسار النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به ناقته فقال الناس: حل حل فألحت، فقالوا: خلات القصواء خلات القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما خلات القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل، قال: والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، ثم زجرها فوثبت قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل يتبرضه الناس تبرضا فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العطش فانتزع سهما من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه، فبينا هم كذلك إذ جاءهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أهل تهامة فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنا لم نجئ لقتال أحد ولكن جئنا معتمرين، وأن قريشا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة ويحلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد جموا، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لاقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره، فقال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتى قريشا فقال: إنا قد جئناكم من عند هذا الرجل وقد سمعناه يقول قولا، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا إلى أن تخبرنا عنه بشئ، وقال ذو الرأي منهم: هات ما سمعته يقول، قال: سمعته يقول كذا وكذا فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم ألستم بالوالد؟ قالوا: بلى، قال: أو لست بالولد؟ قالوا: بلى، قال: فهل تتهموني؟ قالوا: لا، قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا علي جئتكم
[ 185 ]
بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا: بلى، قال: فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد اقبلوها وذروني آته، قالوا: ائته فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوا من قوله لبديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإن تكن الاخرى فإني والله لارى وجوها أو أني لارى أشوابا من الناس خليقا أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر: امصص ببظر اللات إن نحن نفر عنه وندعه، فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، فقال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي ولم أجزك بها لاجبتك، قال: وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه السيف وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وآله وسلم ضرب يده بنصل السيف وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فرفع عروة رأسه فقال: من هذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة، قال: أي غدر ألست أسعى في غدرتك؟ وكان المغيرة صحب قوما في الجاهلية قتلهم وأخذ أموالهم ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أما الاسلام فأقبل، وأما المال فلست منه في شئ. ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعينه قال: فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له، فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم والله لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إن رأيت ملكا قط تعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيما له، وأنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له فبعثوها له واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي
[ 186 ]
لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت، فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آته، فقالوا: ائته، فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا مكرز بن حفص وهو رجل فاجر، فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فبينا هو يكلمه جاء سهيل بن عمرو قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قد سهل الله لكم من أمركم، قال معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا وبينكم كتابا، فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكاتب فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو؟ ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: اكتب باسمك اللهم، ثم قال: هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمد بن عبد الله، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله، قال الزهري: وذلك لقوله: لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به، قال سهيل: والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة ولكن ذلك من العام المقبل فكتب، فقال سهيل: وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، قال المسلمون: سبحان الله كيف يرد إلى المشركين من جاء مسلما، فبينا هم كذلك إذ جاء أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده وقد خرمن أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد، قال: فوالله إذن لا أصالحك على شئ أبدا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فأجره لي، فقال: ما أنا بمجيره لك، فقال: بلى فافعل، قال: ما أنا بفاعل، قال مكرز: بلى قد أجرناه لك، قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى
[ 187 ]
المشركين وقد جئت مسلما؟ ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله، قال: فقال عمر بن الخطاب: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري، قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى فأخبرتك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به، قال: بلى، قال: فإنك آتيه ومطوف به، قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذن؟ قال: أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره فاستمسك بغرزه فوالله إنه على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك إذن آتيه ومطوف به، قال عمر: فعملت لذلك أعمالا. فلما فرغ من قضية الكتاب قال صلى الله عليه وآله وسلم لاصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا، فوالله ما قام منهم أحد حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك أخرج ولا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حالقا فيحلقك، فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك نحربدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما، ثم جاء نسوة مؤمنات فأنزل الله عز وجل: * (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات مهاجرات، حتى بلغ: بعصم الكوافر) * (الممتحنة: 10) فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان والاخرى صفوان بن أمية، ثم رجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة، فجاءه أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين: فخرجا به حتى بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون تمرا لهم فقال أبو بصير لاحد الرجلين: والله إني لارى سيفك هذا يا فلان جيدا فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت، فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه فضربه به حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين رآه: لقد رأى هذا ذعرا،
[ 188 ]
فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: قتل والله صاحبي وإني لمقتول، فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر قال: وتفلت منهم أبو جندل بن سهل فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرمن قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها فقتلوهم وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه منهم فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم وأنزل الله عز وجل: * (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم حتى بلغ حمية الجاهلية) * (الفتح: 26 24) وكان حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي، ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم، وحالوا بينه وبين البيت رواه أحمد والبخاري. ورواه أحمد بلفظ آخر وفيه: وكانت خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مشركها ومسلمها. وفيه: هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس. وفيه: وإن بيننا عيبة مكفوفة، وإنه لا إغلال ولا إسلال. وكان في شرطهم حين كتبوا الكتاب أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، فتواثبت خزاعة فقالوا: نحفي عقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم. وفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا. وفيه: فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في الحرم وهو مضطرب في الحل. [ رح ] وعن مروان والمسور قالا: لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لا يأتيك أحد منا وإن كان على دينك إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه، فكره المسلمون ذلك وامتعضوا منه، وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك، فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما. وجاء المؤمنات مهاجرات
[ 189 ]
وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله عزوجل فيهن: * (إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن إلى ولا هم يحلون لهن) * (الممتحنة: 10) رواه البخاري. وعن الزهري قال عروة: فأخبرتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يمتحنهن، وبلغنا أنه لما أنزل الله: * (أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا على من هاجر من أزواجهم) *، وحكم على المسلمين أن لا يمسكوا بعصم الكوافر، أن عمر طلق امرأتين قريبة بنت أبي أمية وابنة جرول الخزاعي، فتزوج قريبة معاوية، وتزوج الاخرى أبو جهم، فلما أبى الكفار أن يقروا بأداء ما أنفق المسلمون على أزواجهم أنزل الله تعالى: * (وإن فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم) * (الممتحنة: 11) والعقاب ما يؤدي المسلمون إلى من هاجرت امرأته من الكفار، فأمر أن يعطي من ذهب له زوج من المسلمين ما أنفق من صداق نساء الكفار اللائي هاجرن، وما يعلم أحد من المهاجرات ارتدت بعد إيمانها أخرجه البخاري. قوله: الاحابيش أي الجماعة المجتمعة من قبائل، والتحبش التجمع والجنب الامر، يقال: ما فعلت كذا في جنب حاجتي، وهو أيضا القطعة من الشئ تكون معظمه أو كثيرا منه، ومحروبين أي مسلوبين قد أصيبوا بحرب ومصيبة، ويروى موتورين والمعنى واحد. وقوله: العوذ المطافيل يعني النساء والصبيان، والعائذ الناقة القريب عهدها بالولادة، والمطفل التي معها فصيلها وحل حل زجر للناقة، وألحت أي لزمت مكانها، وخلات أي حرنت. والثمد الماء القليل. والتبرض أخذه قليلا قليلا، والبرض القليل، والاعداد جمع عد وهو الماء الذي لا انقطاع لمادته. وجاشت بالري أي فارت به. وعيبة نصحه أي موضع سره لان الرجل إنما يضع في عيبته حر متاعه. وجموا أاستراحوا، والسالفة صفحة العنق، والخطة الامر والشأن. والاشواب الاخلاط من الناس مقلوب الاوباش. والضغطة بالضم الشدة والتضييق. والرسف مشي المقيد. والغرز للرحل بمنزلة الركاب من السرج. وقوله: حتى برد أي مات، ومسعر حرب أي موقد حرب، والمسعر والمسعار ما يحمى به النار من خشب ونحوه. وسيف البحر: ساحله. وامتعضوا منه كرهوا وشق عليهم. والعاتق الجارية حين تدرك. والعيبة
[ 190 ]
المكفوفة المشرجة، وكنى بذلك عن القلوب ونقائها من الغل والخداع. والاغلال الخيانة. والاسلال من السلة وهي السرقة، وقد جمع هذا الحديث فوائد كثيرة فنشير إلى بعضها إشارة تنبه من يتدبره على بقيتها. فيه أن ذا الحليفة ميقات للعمرة كالحج، وأن تقليد الهدي سنة في نفل النسك وواجبه، وأن الاشعار سنة وليس من المثلة المنهي عنها، وأن أمير الجيش ينبغي له أن يبعث العيون أمامه نحو العدو، وأن الاستعانة بالمشرك الموثوق به في أمر الجهاد جائزة للحاجة، لان عينه الخزاعي كان كافرا، وكانت خزاعة مع كفرها عيبة نصحه، وفيه استحباب مشورة الجيش إما لاستطابة نفوسهم أو استعلام مصلحة. وفيه جواز سبي ذراري المشركين بانفرادهم قبل التعرض لرجالهم، وفي قول أبي بكر لعروة جواز التصريح باسم العورة لحاجة ومصلحة، وأنه ليس بفحش منهي عنه، وفي قيام المغيرة على رأسه بالسيف استحباب الفخر والخيلاء في الحرب لارهاب العدو، وأنه ليس بداخل في ذمه لمن أحب أن يتمثل له الناس قياما وفيه أن مال المشرك المعاهد لا يملك بغنيمة بل يرد عليه. وفيه بيان طهارة النخامة والماء المستعمل. وفيه استحباب التفاؤل وأن المكروه الطيرة وهي التشاؤم. وفيه أن المشهود عليه إذا عرف باسمه واسم أبيه أغنى عن ذكر الجد. وفيه أن مصالحة العدو ببعض ما فيه ضيم على المسلمين جائزة للحاجة والضرورة دفعا لمحذور أعظم منه. وفيه أن من وعد أو حلف ليفعلن كذا ولم يسم وقتا فإنه على التراخي. وفيه أن الاحلال نسك على المحصر. وأن له نحر هديه بالحل، لان الموضع الذي نحروا فيه بالحديبية من الحل بدليل قوله تعالى: * (والهدي معكوفا أن يبلغ محله) * (الفتح: 25). وفيه أن مطلق أمره عليه السلام على الفور، وأن الاصل مشاركة أمته له في الاحكام. وفيه أن شرط الرد لا يتناول من خرج مسلما إلى غير بلد الامام. وفيه أن النساء لا يجوز شرط ردهن للآية. وقد اختلف في دخولهن في الصلح فقيل: لم يدخلن فيه لقوله: على أن لا يأتيك منا رجل إلا رددته. وقيل: دخلن فيه لقوله في رواية أخرى: لا يأتيك منا أحد، لكن نسخ ذلك أو بين فساده بالآية، وفيما ذكرناه تنبيه على غيره. قوله: عن المسور ومروان هذه الرواية بالنسبة إلى مروان مرسلة، لانه لا صحبة له، وأما المسور فهي بالنسبة إليه أيضا مرسلة، لانه لم يحضر القصة، وقد ثبت
[ 191 ]
في رواية للبخاري في أول كتاب الشروط من صحيحه عن الزهري عن عروة أنه سمع المسور ومروان يخبران عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكرا بعض هذا الحديث. وقد سمع المسور ومروان من جماعة من الصحابة شهدوا هذه القصة كعلي وعمر وعثمان والمغيرة وأم سلمة وسهل بن حنيف وغيرهم. ووقع في بعض هذا الحديث شئ يدل على أنه عن عمر كما سيأتي التنبيه عليه في مكانه. وقد روى أبو الأسود عن عروة هذه القصة فلم يذكر المسور ولا مروان لكن أرسلها، وكذلك أخرجها ابن عائذ في المغازي، وأخرجها الحاكم في الاكليل من طريق أبي الاسود أيضا عن عروة منقطعة. قوله: زمن الحديبية هي بئر سمي المكان بها، وقيل: شجرة حدباء صغرت وسمي المكان بها. قال المحب الطبري: الحديبية قرية قريبة من مكة أكثرها في الحرم. ووقع عند ابن سعد: أنه صلى الله عليه وآله وسلم خرج يوم الاثنين لهلال ذي القعدة زاد سفيان عن الزهري في رواية ذكرها البخاري في المغازي، وكذا في رواية أحمد عن عبد الرزاق: في بضع عشرة مائة، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأحرم منها بعمرة وبعث عينا له من خزاعة وروى عبد العزيز الافاقي عن الزهري في هذا الحديث عند ابن أبي شيبة: خرج صلى الله عليه وآله وسلم في ألف وثمانمائة وبعث عينا له من خزاعة يدعى ناجية يأتيه بخبر قريش كذا سماه ناجية، والمعروف أن ناجية اسم الذي بعث معه الهدي كما جزم به ابن إسحاق وغيره. وأما الذي بعثه عينا لخبر قريش فاسمه بسر بن سفيان، كذا سماه ابن إسحاق وهو بضم الموحدة وسكون المهملة على الصحيح. قوله: بالغميم بفتح المعجمة، وحكى عياض فيها التصغير، قال المحب الطبري: يظهر أن المراد كراع الغميم الذي وقع ذكره في الصيام وهو الذي بين مكة والمدينة انتهى. وسياق الحديث ظاهر في أنه كان قريبا من الحديبية، فهو غير كراع الغميم الذي بين مكة والمدينة، وأما الغميم هذا فقال ابن حبيب: هو مكان بين رابغ والجحفة. وقد بين ابن سعد أن خالدا كان بهذا الموضع في مائتي فارس فيهم عكرمة ابن أبي جهل، والطليعة مقدمة الجيش. قوله: بقترة بفتح القاف والمثناة من فوق وهو الغبار الاسود، وفي نسخة من هذا الكتاب بغبرة بالغين المعجمة وسكون الموحدة. قوله: حتى إذا كان بالثنية في رواية ابن إسحاق: فقال صلى الله عليه وآله وسلم: من يخرجنا على
[ 192 ]
طريق غير طريقهم الذي هم بها؟ قال: فحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن رجلا من أسلم قال: أنا يا رسول الله فسلك بهم طريقا وعرا، فلما خرجوا منه بعد أن شق عليهم وأفضوا إلى أرض سهلة قال لهم: استغفروا الله ففعلوا فقال: والذي نفسي بيده إنها للحطة التي عرضت على بني إسرائيل فامتنعوا. وهذه الثنية هي ثنية المرار بكسر الميم وتخفيف الراء، وهي طريق في الجبل تشرف على الحديبية، وزعم الداودي أنها الثنية التي أسفل مكة وهو وهم، وسعى ابن سعد الذي سلك بهم حمزة بن عمرو الاسلمي. قوله: بركت به ناقته في رواية للبخاري: راحلته. وحل بفتح الحاء المهملة وسكون اللام كلمة تقال للناقة إذا تركت السير. وقال الخطابي: إن قلت حل واحدة فبالسكون، وإن أعدتها نونت في الاول وسكنت في الثانية، وحكى غيره السكون فيهما، والتنوين كنظيره في بخ بخ، يقال: حلحلت فلانا إذا أزعجته عن موضعه. قوله: فألحت بتشديد المهملة أو تمادت على عدم القيام وهو من الالحاح. قوله: خلات الخلاء بالمعجمة وبالمد للابل كالحران للخيل. وقال ابن قتيبة: لا يكون الخلاء إلا للنوق خاصة. وقال ابن فارس: لا يقال للجمل خلا ولكن الخ. والقصواء بفتح القاف بعدها مهملة، ومد اسم ناقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قيل: كان طرف أذنها مقطوعا، والقصو القطع من طرف الاذن، وكان القياس أن تكون بالقصر وقد وقع ذلك في بعض نسخ أبي ذر، وزعم الداودي أنها كانت لا تسبق فقيل لها القصواء، لانها بلغت من السبق أقصاه. قوله: وما ذاك لها بخلق أي بعادة قال ابن بطال وغيره في هذا الفصل: جواز الاستتار عن طلائع المشركين ومفاجأتهم بالجيش طلبا لغرتهم وجواز التنكب عن الطريق السهل إلى الوعر للمصلحة وجواز الحكم على الشئ بما عرف من عادته وإن جاز أن يطرأ عليه غيره، وإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها لا ينسب إليها ويرد على من نسبه إليها ومعذرة من نسبه ممن لا يعرف صورة الحال. قوله: حبسها حابس الفيل زاد ابن إسحاق: عن مكة أي حبسها الله تعالى عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها. وقصة الفيل مشهورة، ومناسبة ذكرها أن الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة وصدهم قريش عن ذلك لوقع بينهم قتال قد يفضي إلى سفك الدماء ونهب الاموال، كما لو قدر دخول الفيل وأصحابه مكة، لكن سبق في علم الله تعالى في الموضعين أنه سيدخل في الاسلام
[ 193 ]
خلق منهم، وسيخرج من أصلابهم ناس يسلمون ويجاهدون، وكان بمكة في الحديبية جمع كثير مؤمنون من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، فلو طرق الصحابة مكة لما أمن أن يصاب منهم ناس بغير عمد كما أشار إليه تعالى في قوله: * (ولولا رجال مؤمنون) * (الفتح: 25) الآية، ووقع للمهلب استبعاد جواز هذه الكلمة وهي حابس الفيل على الله تعالى فقال: المراد حبسها أمر الله عزوجل، وتعقب بأنه يجوز إطلاقه في حق الله تعالى فيقال: حبسها الله حابس الفيل، كذا أجاب ابن المنير وهو مبني على الصحيح من أن الاسماء توقيفية، وقد توسط الغزالي وطائفة فقالوا: محل المنع ما لم يرد نص بما يشتق منه، بشرط أن لا يكون ذلك الاسم المشتق مشعرا بنقص فيجوز تسميته بواقي لقوله تعالى: * (ومن تق السيئات يومئذ فقد رحمته) * (غافر: 9) ولا يجوز تسميته البناء، وإن ورد قوله تعالى: * (والسماء بنيناها بأيد) * (الذاريات: 47) قال في الفتح: وفي هذه القصة جواز التشبيه من الجهة العامة وإن اختلفت الجهة الخاصة، لان أصحاب الفيل كانوا على باطل محض، وأصحاب هذه الناقة كانوا على حق محض، ولكن جاء التشبيه من جهة إرادة الله تعالى منع الحرم مطلقا، أما من أهل الباطل فواضح، وأما من أهل الحق فللمعنى الذي تقدم ذكره. وقال الخطابي: معنى تعظيم حرمات الله في هذه القصة ترك القتال في الحرم والجنوح إلى المسالمة والكف عن إرادة سفك الدماء. قوله: والذي نفسي بيده قال ابن القيم: وقد حفظ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحلف في أكثر من ثمانين موضعا. قوله: خطة بضم الخاء المعجمة أي خصلة يعظمون فيها حرمات الله أي من ترك القتال في الحرم، وقيل: المراد بالحرمات حرم الحرم والشهر والاحرام. قال الحافظ: وفي الثالث نظر لانهم لو عظموا الاحرام ما صدوه. ووقع في رواية لابن إسحاق: يسألونني فيها صلة الرحوهي من جملة حرمات الله. قوله: إلا أعطيتهم إياها أي أجبتهم إليها، قال السهيلي: لم يقع في شئ من طرق الحديث أنه قال إن شاء الله مع أنه مأمور بها في كل حالة. والجواب أنه كان أمرا واجبا حتما فلا يحتاج فيه إلى الاستثناء كذا قال، وتعقب بأنه تعالى قال في هذه القصة: * (لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) * (الفتح: 27) فقال إن شاء الله مع تحقق وقوع ذلك تعليما وإرشادا، فالاولى أن يحمل على أن الاستثناء سقط من الراوي، أو كانت القصة قبل نزول الامر بذلك، ولا قوله: ثم يعارضه كون الكهف مكية إذ لا مانع أن يتأخر نزول
[ 194 ]
بعض السورة زجرها أي الناقة فوثبت أي قامت. قوله: على ثمد بفتح المثلثة والميم أي حفيرة فيها ماء قليل، يقال: ماء مثمود أي قليل، فيكون لفظ قليل بعد ذلك تأكيد الدفع توهم أن يراد لغة من يقول إن الثمد الماء الكثير، وقيل الثمد ما يظهر من الماء في الشتاء ويذهب في الصيف. قوله: يتبرضه الناس بالموحدة وتشديد الراء وبعدها ضاد معجمة وهو الاخذ قليلا قليلا، وأصل البرض بالفتح والسكون اليسير من العطاء، وقال صاحب العين: هو جمع الماء بالكفين. قوله: فلم يلبث لفظ البخاري: فلم يلبثه بضم أوله وسكون اللام من الالباث. وقال ابن التين: بفتح اللام وكسر الموحدة المثقلة أي لم يتركوه يلبث أي يقيم. قوله: وشكي بضم أوله على البناء للمجهول. فانتزع سهما من كنانته أي أخرج سهما من جعبته. قوله: ثم أمرهم أن يجعلوه فيه في رواية ابن إسحاق: أن ناجية بن جندب هو الذي نزل بالسهم، وكذا رواه ابن سعد. قال ابن إسحاق: وزعم بعض أهل العلم أنه البراء بن عازب. وروى الواقدي أنه خالد بن عبادة الغفاري، ويجمع بأنهم تعاونوا على ذلك بالحفر وغيره. وفي البخاري في المغازي من حديث البراء في قصة الحديبية: أنه صلى الله عليه وآله وسلم جلس على البئر ثم دعا بإناء فمضمض ودعا ثم صبه فيها ثم قال: دعوها ساعة، ثم أنهم ارتووا بعد ذلك ويمكن الجمع بوقوع الامرين جميعا. قوله: يجيش بفتح أوله وكسر الجيم وآخره معجمة أي يفور. وقوله: بالري بكسر الراء ويجوز فتحها. وقوله: صدروا عنه أي رجعوا رواء بعد ورودهم. قوله: بديل بموحدة مصغرا ابن ورقاء بالقاف والمد صحابي مشهور. قوله: في نفر من قومه سمى الواقدي منهم عمرو بن سالم وخراش بن أمية. وفي رواية أبي الاسود عن عروة منهم خارجة بن كرز ويزيد بن أمية كذا في الفتح. قوله: وكانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العيبة بفتح المهملة وسكون التحتانية بعدها موحدة ما يوضع فيه الثياب لحفظها، أي أنهم موضع النصح له والامانة على سره، ونصح بضم النون وحكى ابن التين فتحها كأنه شبه الصدر الذي هو مستودع السر بالعيبة التي هي مستودع الثياب. وقوله: من أهل تهامة بكسر المثناة وهي مكة وما حولها وأصلها من التهم وهو شدة الحرور كود الريح. قوله: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي إنما اقتصر على هذين لكون قريش الذين كانوا بمكة أجمع ترجع أنسابهم إليهما، وبقي من قريش
[ 195 ]
بنو سامة بن لؤي وبنو عوف ابن لؤي ولم يكن بمكة منهم أحد، وكذلك قريش الظواهر الذين منهم بنو تميم بن غالب ومحارب بن فهر، قال هشام بن الكلبي: بنو عامر بن لؤي وكعب بن لؤي هما الصريحان لا شك فيهما، بخلاف سامة وعوف أي ففيهما الخلاف، قال: وهم قريش البطاح أي بخلاف قريش الظواهر. قوله: نزلوا أعداد مياه الحديبية الاعداد بالفتح جمع عد بالكسر والتشديد وهو الماء الذي لا انقطاع له. وغفل الداودي فقال: هو موضع بمكة، وقول بديل هذا يشعر بأنه كان بالحديبية مياه كثيرة، وأن قريشا سبقوا إلى النزول عليها، فلذا عطش المسلمون حيث نزلوا على الثمد المذكور. قوله: معهم العوذ المطافيل العوذ بضم المهملة وسكون الواو بعدها معجمة جمع عائذ وهي الناقة ذات اللبن، والمطافيل الامهات اللائي معها أطفالها، يريد أنهم خرجوا معهم بذوات الالبان من الابل ليتزودوا ألبانها ولا يرجعوا حتى يمنعوه، أو كنى بذلك عن النساء معهن الاطفال، والمراد أنهم خرجوا معهم بنسائهم وأولادهم لارادة طول المقام وليكون أدعى إلى عدم الفرار. قال الحافظ: ويحتمل إرادة المعنى الاعم. قال ابن فارس: كا أنثى إذا وضعت فهي إلى سبعة أيام عائذ والجمع عوذ، كأنها سميت بذلك، لانها تعوذ ولدها وتلتزم الشغل به. وقال السهيلي: سميت بذلك وإن كان الولد هو الذي يعوذ بها، لانها تعطف عليه بالشفقة والحنو كما قالوا: تجارة رابحة وإن كانت مربوحا فيها. ووقع عند ابن سعد معهم العوذ المطافيل والنساء والصبيان. قوله: قد نهكتهم بفتح أوله وكسر الهاء أي أبلغت فيهم حتى أضعفتهم، إما أضعفت قوتهم وإما أضعفت أموالهم. قوله: ماددتهم أي جعلت بيني وبينهم مدة نترك الحرب بيننا وبينهم فيها، والمراد بالناس المذكورين سائر كفار العرب وغيرهم. قوله: فإن أظهر فإن شاؤوا هو شرط بعد شرط، والتقدير: فإن ظهر على غيرهم كفاهم المؤنة، وإن أظهر أنا على غيرهم فإن شاؤوا أطاعوني وإلا فلا تنقضي مدة الصلح إلا وقد جموا أي استراحوا وهو بفتح الجيم وتشديد الميم المضمومة أي قووا. ووقع في رواية ابن إسحاق: وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة وإنما ردد الامر مع أنه جازم بأن الله سينصره ويظهره لوعد الله تعالى له بذلك على طريق التنزل مع الخصم وفرض الامر كما زعم الخصم. قال في الفتح: ولهذه النكتة حذف القسم الاول وهو التصريح بظهور غيره عليه، لكن وقع
[ 196 ]
التصريح به في رواية ابن إسحاق ولفظه: فإن أصابوني كان الذي أرادوا. ولابن عائذ من وجه آخر عن الزهري: فإن ظهر الناس علي فذلك الذي يبتغون، فالظاهر أن الحذف وقع من بعض الرواة تأدبا. قوله: حتى تنفرد سالفتي السالفة بالمهملة وكسر اللام بعدها فاء صفحة العنق، وكنى بذلك عن القتل، قال الداودي: المراد الموت أي حتى أموت وأبقى منفردا في قبري. ويحتمل أن يكون أراد أنه يقاتل حتى ينفرد وحده في مقاتلتهم. وقال ابن المنير: لعله صلى الله عليه وآله وسلم نبه بالادنى على الاعلى، أي أن لي من القوة بالله والحول به ما يقتضي أني أقاتل عن دينه لو انفردت، فكيف لا أقاتل عن دينه مع وجود المسلمين وكثرتهم ونفاذ بصائرهم في نصر دين الله تعالى. قوله: أو لينفذن الله بضم أوله وكسر الفاء أي ليمضين الله أمره في نصر دينه. ولفظ البخاري: ولينفذن الله أمره بدون شك. قال الحافظ: وحسن الاتيان بهذا الجزم بعد ذلك التردد للتنبيه على أنه لم يورده إلا على سبيل الفرض. قوله: فقام عروة بن مسعود هو ابن معتب بضم أوله وفتح المهملة وتشديد الفوقية المكسورة بعدها موحدة الثقفي. قوله: ألستم بالوالد هكذا رواية الاكثر من رواة البخاري. ورواية أبي ذر: ألستم بالولد وألست بالوالد والصواب الاول وهو الذي في رواية أحمد وابن إسحاق وغيرهما. وزاد ابن إسحاق عن الزهري: أن أم عروة هي سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف فأراد بقوله، ألستم بالوالد أنكم حي قد ولدوني في الجملة لكون أمي منكم. قوله: استنفرت أهل عكاظ بضم العين المهملة وتخفيف الكاف وآخره معجم أي دعوتهم إلى نصركم. قوله: فلما بلحوا بالموحدة وتشديد اللام المفتوحتين ثم مهملة مضمومة أي امتنعوا، والتبلح التمنع من الاجابة، وبلح الغريم إذا امتنع من اداء ما عليه. زاد ابن إسحاق فقالوا: صدقت ما أنت عندنا بمتهم. قوله: خطة رشد بضم الخاء المعجمة وتشديد المهملة، والرشد بضم الراء وسكون المعجمة وبفتحهما أي خصلة خير وصلاح وإنصاف. وقد بين ابن إسحاق في روايته أن سبب تقديم عروة لهذا الكلام عند قريش ما رآه من ردهم العنيف على من يجئ من عند المسلمين. قوله: آته بالمد والجزم وقالوا: ائته بألف وصل بعدها همزة ساكنة ثم مثناة من فوق مكسورة. قوله: اجتاح بجيم ثم مهملة أي أهلك أهله بالكلية، وحذف الجزاء من قوله إن تكن
[ 197 ]
الاخرى تأدبا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتقدير: إن تكن الغلبة لقريش لا آمنهم عليك مثلا. قوله: فإني والله لارى وجوها إلى آخره كالتعليل لهذا المحذوف. قوله: أشوابا بتقديم المعجمة على الواو وكذا للاكثر، ووقع لابي ذر عن الكشميهني أوباشا بتقديم الواو، والاشواب الاخلاط من أنواع شتى. والاوباش الاخلاط من السلفة، فالاوباش أخص من الاشواب كذا في الفتح. قوله: امصص ببظر اللات بألف وصل ومهملتين الاولى مفتوحة بصيغة الامر. وحكى ابن التين عن رواية القابسي ضم الصاد الاولى وخطأها، والبظر بفتح الموحدة وسكون المعجمة قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة، واللات اسم أحد الاصنام التي كانت قريش وثقيف يعبدونها، وكانت عادة العرب الشتم بذلك ولكن بلفظ الام، فأراد أبو بكر المبالغة في سب عروة بإقامة من كان يعبدها مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه من نسبة المسلمين إلى الفرار، وفيه جواز النطق بما يستبشع من الالفاظ لارادة زجر من بدا منه ما يستحق به ذلك. قوله: لولا يد أي نعمة، وقد بين عبد العزيز الآفاقي عن الزهري في هذا الحديث أن اليد المذكورة هي أن عروة كان تحمل بدية فأعانه فيها أبو بكر بعون حسن. وفي رواية الواقدي بعشر قلائص. قوله: بنعل السيف هو ما يكون أسفل القراب من فضة أو غيرها. قوله: أخر يدك فعل أمر من التأخير، زاد ابن إسحاق: قبل أن لا تصل إليك. قوله: أي غدر بالمعجمة بوزن عمر معدول عن غادر مبالغة في وصفه بالغدر. قوله: ألست أسعى في غدرتك أي في دفع شر غدرتك. وقد بسط القصة ابن إسحاق وابن الكلبي والواقدي بما حاصله: أنه خرج المغيرة لزيارة المقوقس بمصر هو وثلاثة عشر نفرا من ثقيف من بني مالك فأحسن إليهم وأعطاهم وقصر بالمغيرة فحصلت له الغيرة منهم، فلما كانوا بالطريق شربوا الخمر فلما سكروا وناموا وثب المغيرة فقتلهم ولحق بالمدينة فأسلم، فتهايج الفريقان بنو مالك والاحلاف رهط المغيرة، فسعى عروة بن مسعود وهو عم المغيرة حتى أخذوا منه دية ثلاثة عشر نفسا والقصة طويلة. قوله: وأما المال فلست منه في شئ أي لا أتعرض له لكونه مأخوذا على طريقة الغدر، واستفيد من ذلك أنها لا تحل أموال الكفار غدرا في حال الامن، لان الرفقة يصطحبون على الامانة، والامانة تؤدى إلى أهلها مسلما كان أو كافرا، فإن أموال الكفار إنما تحل بالمحاربة والمغالبة، ولعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم
[ 198 ]
ترك المال في يده لامكان أن يسلم قومه فيرد إليهم أموالهم. قوله: يرمق بضم الميم وآخره قاف أي يلحظ. قوله: وما يحدون إليه النظر بضم أوله وكسر المهملة أي يديمون. قوله: ووفدت على قيصر هو من عطف الخاص على العام، وخص قيصر ومن بعده لكونهم أعظم ملوك ذلك الزمان. قوله: فقال رجل من بني كنانة في رواية الآفاقي فقام الحليس بمهملتين مصغرا، وسمى ابن إسحاق والزبير بن بكار أباه علقمة وهو من بني الحرث بن عبد مناة. قوله: فابعثوها له أي أثيروها دفعة واحدة، في رواية ابن إسحاق: فلما رأى الهدي يسيل عليه من عرض الوادي بقلائده قد حبس عن محله رجع ولم يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وعند الحاكم أنه صاح الحليس: هلكت قريش ورب الكعبة إن القوم إنما أتوا عمارا، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أجل يا أخا بني كنانة فأعلمهم بذلك. قال الحافظ: فيحتمل أن يكون خاطبه على بعد. قوله: مكرز بكسر الميم وسكون الكاف وفتح الراء بعدها زاي هو من بني عامر بن لؤي. قوله: وهو رجل فاجر في رواية ابن إسحاق غادر ورجحها الحافظ، ويؤيد ذلك ما في مغازي الواقدي أنه قتل رجلا غدرا. وفيها أيضا أنه أراد أن يبيت المسلمين بالحديبية فخرج في خمسين رجلا فأخذهم محمد بن مسلمة وهو على الحرس فانفلت منهم مكرز، فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم أشار إلى ذلك. قوله: إذ جاء سهيل بن عمرو في رواية ابن إسحاق، فدعت قريش سهيل بن عمرو فقالوا: اذهب إلى هذا الرجل فصالحه. قوله: فأخبرني أيوب عن عكرمة الخ، قال الحافظ: هذا مرسل لم أقف على من وصله بذكر ابن عباس فيه، لكن له شاهد موصوعنه عند ابن أبي شيبة من حديث سلمة ابن الاكوع قال: بعثت قريش سهيل بن عمر وحويطب بن عبد العزى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليصالحوه فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سهيلا قال: لقد سهل لكم من أمركم. وللطبراني نحوه من حديث عبد الله بن السائب. قوله: فدعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكاتب هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما بينه إسحاق بن راهويه في مسنده في هذا الوجه عن الزهري. وذكره البخاري أيضا في الصلح من حديث البراء. وأخرج عمر بن شبة من طريق عمرو بن سهيل بن عمرو عن أبيه أنه قال: الكتاب عندنا كاتبه محمد بن مسلمة. قال الحافظ: ويجمع أن أصل كتاب الصلح
[ 199 ]
بخط علي رضي الله عنه كما هو في الصحيح. ونسخ محمد بن مسلمة لسهيل بن عمرو مثله. قوله: هذا ما قاضى بوزن فاعل من قضيت الشئ فصلت الحكم فيه. قوله: ضغطة بضم الضاد وسكون الغين المعجمتين ثم طاء مهملة أي قهرا. وفي رواية ابن إسحاق أنها دخلت علينا عنوة. قوله: فقال المسلمون الخ، قد تقدم بيان القائل في أول الباب. قوله: أبو جندل بالجيم والنون بوزن جعفر وكان اسمه العاصي فتركه لما أسلم وكان محبوسا بمكممنوعا من الهجرة وعذب بسبب الاسلام، وكان سهيل أوثقه وسجنه حين أسلم فخرج من السجن وتنكب الطريق وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ففرح به المسلمون وتلقو. قوله: يرسف بفتح أوله وبضم المهملة بعدها فاء أي يمشي مشيا بطيئا بسبب القيد. قوله: إنا لم نقض الكتاب أي لم نفرغ من كتابته. قوله: فأجزه لي بالزاي بصيغة فعل الامر من الاجازة أي امض فعلي فيه فلا أرده إليك وأستثنيه من القضية. ووقع عند الحميدي في الجمع بالراء، ورجح ابن الجوزي الزاي، وفيه أن الاعتبار في العقود بالقول ولو تأخرت الكتابة والاشهاد، ولاجل ذلك أمضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لسهيل الامر في رد ابنه إليه، وكان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تلطف معه لقوله: لم نقض الكتاب بعد رجاء أن يجيبه. قوله: قال مكرز بلى قد أجزناه هذه رواية الكشميهني ورواية الاكثر من رواة البخاري بل بالاضراب، وقد استشكل ما وقع من مكرز من الاجازة، لانه خلاف ما وصفه صلى الله عليه وآله وسلم به من الفجور. وأجيب بأن الفجور حقيقة، ولا يستلزم أن لا يقع منه شئ من البر نادرا، أو قال ذلك نفاقا وفي باطنه خلافه، ولم يذكر في هذا الحديث ما أجاب به سهيل على مكرز لما قال ذلك، وقد زعم بعض الشراح أن سهيلا لم يجبه، لان مكرزا لم يكن ممن جعل له أمر عقد الصلح بخلاف سهيل، وتعقب بأن الواقدي روى أن مكرزا كان ممن جاء في الصلح مع سهيل، وكان معهما حويطب بن عبد العزى، لكن ذكر في روايته ما يدل على أن إجازة مكرز لم تكن في أن لا يرده إلى سهيل بل في تأمينه من التعذيب ونحو ذلك، وأن مكرزا وحويطبا أخذا أبا جندل فأدخلاه فسطاطا وكفا أباه عنه. وفي مغازي ابن عائذ نحو ذلك كله ولفظه: فقال مكرز بن حفص وكان ممن أقبل مع سهيل بن عمرو في التماس الصلح: أنا له جار وأخذ بيده فأدخله فسطاطا. قال الحافظ: وهذا لو ثبت لكان أقوى من
[ 200 ]
الاحتمالات الاول، فإنه لم يجزه بأن يقره عند المسلمين، بل ليكف العذاب عنه ليرجع إلى طواعية أبيه فما خرج بذلك عن الفجور، لكن يعكر عليه ما في رواية الصحيح السابقة بلفظ: فقال مكرز قد أجزناه لك، يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك. قوله: فقال أبو جندل: أي معشر المسلمين الخ زاد ابن إسحاق: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أبا جندل اصبر واحتسب فإنا لا نغدر، وأن الله جاعل لك فرجا ومخرجا. قال الخطابي: تأول العلماء ما وقع في قصة أبي جندل على وجهين: أحدهما أن الله تعالى قد أباح التقية للمسلم إذا خاف الهلاك، ورخص له أن يتكلم بالكفر مع إضمار الايمان إن لم تمكنه التورية، فلم يكن رده إليهم إسلاما لابي جندل إلى الهلاك مع وجود السبيل إلى الخلاص من الموت بالتقية. والوجه الثاني: أنه إنما رده إلى أبيه، والغالب أن أباه لا يبلغ به إلى الهلاك وإن عذبه أو سجنه فله مندوحة بالتقية أيضا. وأما ما يخاف عليه من الفتنة فإن ذلك امتحان من الله يبتلي به صبر عباده المؤمنين. (واختلف العلماء) هل يجوز الصلح مع المشركين على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا؟ فقيل: نعم على ما دلت عليه قصة أبي جندل وأبي بصير، وقيل: لا، وأن الذي وقع في القصة منسوخ، وأن ناسخه حديث أنا برئ من كل مسلم بين مشركين وقد تقدم وهو قول الحنفية. وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان. وقال بعض الشافعية: ضابط جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار الحرب. قوله: ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى زاد الواقدي من حديث أبي سعيد قال: قال عمر: لقد دخلني أمر عظيم وراجعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم مراجعة ما راجعته مثلها قط. قوله: فلم نعطي الدنية بفتح المهملة وكسر النون وتشديد التحتية. قوله: أو ليس كنت حدثتنا الخ، في رواية ابن إسحاق: كان الصحابة لا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلما رأوا الصلح دخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون. وعند الواقدي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان رأى في منامه قبل أن يعتمر أنه دخل هو وأصحابه البيت فلما رأوا تأخير ذلك شق عليهم. قال في الفتح: ويستفاد من هذا الفصل جواز البحث في العلم حتى يظهر المعنى، وأن الكلام يحمل على عمومه وإطلاقه حتى
[ 201 ]
تظهر إرادة التخصيص والتقييد، وأن من حلف على فعل شئ ولم يذكر مدة معينة لم يحنث حتى تنقضي أيام حياته. قوله: فأتيت أبا بكر الخ، لم يذكر عمر أنه راجع أحدا في ذلك غير أبي بكر لما له عنده من الجلالة. وفي جواب أبي بكر عليه بمثل ما أجاب به النبي صلى الله عليه وآله وسلم دليل على سعة علمه وجودة عرفانه بأحوال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: فاستمسك بغرزه بفتح الغين المعجمة وسكون الراء بعدها زاي، قال المصنف: هو للابل بمنزلة الركاب للفرس، والمراد التمسك بأمره وترك المخالطة له كالذي يمسك بركاب الفارس فلا يفارقه. قوله: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا القائل هو الزهري كما في البخاري وهمنقطع، لان الزهري لم يدرك عمر، قال بعض الشراح: المراد بقوله أعمالا أي من الذهاب والمجئ والسؤال والجواب، ولم يكن ذلك شكا من عمر بل طلبا لكشف ما خفي عليه وحثا على إذلال الكفار بما عرف من قوته في نصرة الدين. قال في الفتح: وتفسير الاعمال بما ذكر مردود، بل المراد به الاعمال الصالحة لتكفر عنه ما مضى من التوقف في الامتثال ابتداء. وقد ورد عن عمر التصريح بمراده، ففي رواية ابن إسحاق وكان عمر يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به. وعند الواقدي من حديث ابن عباس قال عمر: لقد أعتقت بسبب ذلك رقابا وصمت دهرا. قال السهيلي: هذا الشك الذي حصل لعمر هوما لا يستمر صاحبه عليه وإنما هو من باب الوسوسة. قال الحافظ: والذي يظهر أنه توقف منه ليقف على الحكمة وتنكشف عنه الشبهة، ونظيره قصته في الصلاة على عبد الله بن أبي وإن كان في الاولى لم يطابق اجتهاده الحكم بخلاف الثانية وهي هذه القصة، وإنما عمل الاعمال المذكورة لهذه، وإلا فجميع ما صدر منه كان معذورا فيه، بل هو فيه، مأجور لانه مجتهد فيه. قوله: فلما فرغ من قضية الكتاب زاد ابن إسحاق، فلما فرغ من قضية الكتاب أشهد جماعة على الصلح رجال من المسلمين ورجال من المشركين منهم علي وأبو بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهل بن عمرو ومكرز بن حفص وهو مشرك. قوله: فوالله ما قام منهم أحد قيل: كأنهم توقفوا لاحتمال أن يكون الامر بذلك للندب، أو لرجاء نزول الوحي بإبطال الصلح المذكور، أو أن يخصصه بالاذن بدخولهم مكة ذلك العام لاتمام نسكهم،
[ 202 ]
وسوغ لهم ذلك، لانه كان زمان وقوع النسخ. ويحتمل أن يكون أهمتهم صورة الحال فاستغرقوا في الفكر لما لحقهم من الذل عند أنفسهم مع ظهور قوتهم واقتدارهم في اعتقادهم على بلوغ غرضهم وقضاء نسكهم بالقهر والغلبة، أو أخروا الامتثال لاعتقادهم أن الامر المطلق لا يقتضي الفور. قال الحافظ: ويحتمل مجموع هذه الامور لمجموعهم. قوله: فذكر لها ما لقي من الناس فيه دليل على فضل المشورة، وأن الفعل إذا انضم إلى القول كان أبلغ من القول المجرد، وليس فيه أن الفعل مطلقا أبلغ من القول، نعم فيه أن الاقتداء بالافعال أكثر منه بالاقوال وهذا معلوم مشاهد. وفيه دليل على فضل أم سلمة ووفور عقلها حتى قال إمام الحرمين: لا نعلم امرأة أشارت برأي فأصابت إلا أم سلمة، وتعقب بإشارة بنت شعيب على أبيها في أمر موسى. ونظير هذه القصة ما وقع في غزوة الفتح فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرهم بالفطر في رمضان فلما استمروا على الامتناع تناول القدح فشرب فلما رأوه يشرب شربوا. قوله: نحر بدنه زاد ابن إسحاق عن ابن عباس أنها كانت سبعين بدنة كان فيها جمل لابي جهل في رأسه برة من فضة ليغيظ به المشركين، وكان غنممنه في غزوة بدر. قوله: ودعا حالقه قال ابن إسحاق: بلغني أن الذي حلقه في ذلك اليوم هو خراش بمعجمتين ابن أمية بن الفضل الخزاعي. قوله: فجاءه أبو بصير بفتح الموحدة وكسر المهملة اسمه عتبة بضم المهملة وسكون الفوقية ابن أسيد بفتح الهمزة وكسر المهملة ابن جارية بالجيم الثقفي حليف بني زهرة، كذا قال ابن إسحاق وبهذا يعرف أن قوله في حديث الباب رجل من قريش أي بالحلف، لان بني زهرة من قريش. قوله: فأرسلوا في طلبه رجلين سماهما ابن سعد في الطبقات خنيس بمعجمة ونون وآخره مهملة مصغرا ابن جابر ومولى له يقال له كوير. وفي رواية للبخاري أن الاخنس بن شريق هو الذي أرسل في طلبه، زاد ابن إسحاق: فكتب الاخنس بن شريق والازهر بن عبد عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتابا وبعثا به مع مولى لهما ورجل من بني عامر استأجراه اه. قال الحافظ: والاخنس من ثقيف رهط أبي بصير، وأزهر من بني زهرة حلفاء أبي بصير، فلكل منهما المطالبة برده، ويستفاد منه أن المطالبة بالرد تختص بمن كان من عشيرة المطلوب بالاصالة أو الحلف، وقيل: إن اسم أحد
[ 203 ]
الرجلين مرثد بن حمران، زاد الواقدي: فقدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام. قوله: فقال أبو بصير لاحد الرجلين في رواية ابن إسحاق للعامري. وفي رواية ابن سعد لخنيس بن جابر. قوله: فاستله الآخر أي صاحب السيف أخرجه من غمده. قوله: حتى برد بفتح الموحدة والراء أي خمدت حواسه وهو كناية عن الموت، لان الميت تسكن حركته وأصل البرد السكون. قال الخطابي: وفي رواية ابن إسحاق فعلاه حتى قتله. قوله: وفر الآخر في رواية ابن إسحاق: وخرج المولى يشتد أي هربا. قوله: ذعرا بضم المعجمة وسكون المهملة أي خوفا. قوله: قتل صاحبي بضم القاف، وفي هذا دليل على أنه يجوز للمسلم الذي يجئ من دار الحرب في زمن الهدنة قتل من جاء في طلب رده إذا شرط لهم ذلك، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينكر على أبي بصير قتله للعامري ولا أمر فيه بقود ولادية. قوله: ويل أمه بضم اللام ووصل الهمزة وكسر الميم المشددة وهي كلمة ذم تقولها العرب في المدح، ولا يقصدون معنى ما فيها من الذم لان الويل الهلاك، فهو كقولهم: لامه الويل ولا يقصدون، والويل يطلق على العذاب والحرب والزجر، وقد تقدم شئ من ذلك في الحج في قوله للاعرابي: ويلك. وقال الفراء: أصله وي فلان أي لفلان أي حزن له فكثر الاستعمال فألحقوا بها اللام فصارت كأنها منها وأعربوها، وتبعه ابن مالك إلا أنه قال تبعا للخليل: أن وي كلمة تعجب وهي من أسماء الافعال واللام بعدها مكسورة ويجوز ضمها اتباعا للهمزة، وحذفت الهمزة تخفيفا. قوله: مسعحرب بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة أيضا وبالنصب على التمييز، وأصله من مسعر حرب أي يسعرها. قال الخطابي: يصفه بالاقدام في الحر ب والتسعير لنارها. قوله: لو كان له أحد أي يناصره ويعاضده. قوله: سيف البحر بكسر المهملة وسكون التحتانية بعدها فاء أي ساحله. قوله: عصابة أي جماعة وواحد لها من لفظها وهي تطلق على الاربعين فما دونها. وفي رواية ابن إسحاق: أنهم بلغوا نحو السبعين نفسا، وزعم السهيلي أنهم بلغوا ثلاثمائة رجل. قوله: ما يسمعون بعير بكسر المهملة أي بخبر عير وهي القافلة. قوله: فأرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليهم في رواية موسى بن عقبة عن الزهري: فكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أبي بصير فقدم كتابه وأبو بصير يموت فمات وكتاب رسول الله صلى
[ 204 ]
الله عليه وسلم في يده فدفنه أبو جندل مكانه وجعل عند قبره مسجدا. وفي الحديث دليل على أن من فعل مثل فعل أبي بصير لم يكن عليه قود ولا دية. وقد وقع عند ابن إسحاق أن سهيل بن عمرو لما بلغه قتل العامري طالب بديته، لانه من رهطه، فقال له أبو سفيان: ليس على محمد مطالبة بذلك، لانه وفى بما عليه وأسلمه لرسولكم ولم يقتله بأمره، ولا على آل أبي بصير أيضا شئ، لانه ليس على دينهم. قوله: فأنزل الله تعالى: * (وهو الذي كف أيديهم عنكم) * (الفتح: 24) ظاهره أنها نزلت في شأن أبي بصير، والمشهور في سبب نزولها ما أخرجه مسلم من حديث سلمبن الاكوع، ومن حديث أنس بن مالك، وأخرجه أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مغفل بإسناد صحيح أنها نزلت بسبب القوم الذين أرادوا من قريش أن يأخذوا من المسلمين غرة فظفروا بهم وعفا عنهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلت الآية كما تقدم. وقيل في نزولها غير ذلك. قوله: على وضع الحرب عشر سنين هذا هو المعتمد عليه كما ذكره ابن إسحاق في المغازي وجزم به ابن سعد، وأخرجه الحاكم من حديث علي، ووقع في مغازي ابن عائذ في حديث ابن عباس وغيره أنه كان سنتين، وكذا وقع عند موسى بن عقبة، ويجمع بأن العشر السنين هي المدة التي وقع الصلح عليها، والسنتين هي المدة التي انتهى أمر الصلح فيها حتى وقع نقضه على يد قريش. وأما ما وقع في كامل ابن عدي ومستدرك الحاكم في الاوسط للطبراني من حديث ابن عمر أن مدة الصلح كانت أربع سنين فهو مع ضعف إسناده منكر مخالف للصحيح. وقد اختلف العلماء في المدة التي تجوز المهادنة فيها مع المشركين فقيل: لا تجاوز عشر سنين على ما في هذا الحديث وهو قول الجمهور، وقيل: تجوز الزيادة، وقيل: لا تجاوز أربع سنين، وقيل: ثلاثا، وقيل: سنتين، والاول هو الراجح. قوله: عيبة مكفوفة أي أمرا مطويا في صدور سليمة، وهو إشارة إلى ترك المؤاخذة بما تقدم بينهم من أسباب الحرب وغيرها والمحافظة على العهد الذي وقع بينهم. قوله: وأنه لا إغلال ولا إسلال أي لا سرقة ولا خيانة، يقال: أغل الرجل أي خان، أما في الغنيمة فيقال: غل بغير ألف، والاسلال من السلة وهي السرقة، وقيل: من سل السيوف، والاغلال من لبس الدروع ووهاه أبو عبيد، والمراد أن يأمن الناس بعضهم من بعض في نفوسهم وأموالهم سرا وجهرا. قوله: وامتعضوا منه بعين مهملة وضاد معجمة أي أنفوا وشق عليهم. قال
[ 205 ]
الخليل: معض بكسر المهملة والضاد المعجمة من الشئ، وامتعض توجع منه. وقال ابن القطاع: شق عليه وأنف منه. ووقع من الرواة اختلاف في ضبط هذه اللفظة فالجمهور على ما هنا، والاصيلي والهمداني بظاء مشالة، وعند القابسي: امعظوا بتشديد الميم، وعند النسفي: انغضوا بنون وغين معجمة وضاد معجمة غير مشالة. قال عياض: وكلها تغييرات حتى وقع عند بعضهم انفضوا بفاء وتشديد، وبعضهم أغيظوا من الغيظ. قوله: وهي عاتق أي شابة. قوله: فامتحنوهن الآية أي اختبروهن فيما يتعلق بالايمان باعتبار ما يرجع إلى ظاهر الحال دون الاطلاع على ما في القلوب وإلى ذلك أشار بقوله تعالى: * (الله أعلم بإيمانهن) * (الممتحنة: 10) وأخرج الطبري عن ابن عباس قال: كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وأخرج الطبري أيضا والبزار عن ابن عباس أيضا: كان يمتحنهن والله ما خرجن من بغض زوج، والله ما خرجن رغبة عن أرض إلى أرض، والله ما خرجن التماس دنيا. قوله: قال عروة أخبرتني عائشة هو متصل كما في مواضع في البخاري. قوله: لما أنزل الله أن يردوا إلى المشركين ما أنفقوا يعني قوله تعالى: * (واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا) * (الممتحنة: 10). قوله: قريبة بالقاف والموحدة مصغر في أكثر نسخ البخاري. وضبطها الدمياطي بفتح القاف وتبعه الذهبي. وكذا الكشميهني، وفي القاموس بالتصغير وقد تفتح انتهى. وهي بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي أخت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: فلما أبى الكفار أن يقروا الخ، أي أبوا أن يعملوا بالحكم المذكور في الآية. وقد روى البخاري في النكاح عن مجاهد في قوله تعالى: * (واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا) * قال: من ذهب من أزواج المسلمين إلى الكفار فليعطهم الكفار صدقاتهن وليمسكوهن. ومن ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب محمد فكذلك، هذا كله في صلح بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين قريش. وروى البخاري أيضا عن الزهري في كتاب الشروط قال: بلغنا أن الكفار لما أبوا أن يقروا بما أنفق المسلمون على أزواجهم كما في الآية، وهو أن المرأة إذا جاءت من المشركين إلى المسلمين مسلمة لم يردها المسلمون إلى زوجها المشرك بل يعطونه ما أنفق عليها من صداق ونحوه، وكذا بعكسه. فامتثل المسلمون ذلك وأعطوهم، وأبى المشركون أن يمتثلوا ذلك، فحبسوا من جاءت إليهم مشركة ولم
[ 206 ]
يعطوا زوجها المسلم ما أنفق عليها فلهذا نزلت: * (وإن فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتهم) * (الممتحنة: 11) أأصبتم من صدقات المشركات عوض ما فات من صدقات المسلمات. قوله: وما يعلم أحد من المهاجرات الخ، هذا النفي لا يرده ظاهر ما دلت عليه الآية والقصة، لان مضمون القصة أن بعض أزواج المسلمين ذهبت إلى زوجها الكافر فأبى أن يعطي زوجها المسلم ما أنفق عليها، فعلى تقدير أن تكون مسلمة فالنفي مخصوص بالمهاجرات، فيحتمل كون من وقع منها ذلك من غير المهاجرات كالاعرابيات مثلا أو الحصر على عمومه، وتكون نزلت في المرأة المشركة إذا كانت تحت مسلم مثلا فهربت منه إلى الكفار. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله تعالى: * (وإن فاتكم شئ من أزواجكم) * قال: نزلت في أم الحكم بنت أبي سفيان ارتدت فتزوجها رجل ثقفي، ولم ترتد امرأة من قريش غيرها، ثم أسلمت مع ثقيف حين أسلموا، فإن ثبت هذا استثنى من الحصر المذكور في الحديث، أو يجمع بأنها لم تكن هاجرت فيما قبل ذلك. قوله: الاحابيش لم يتقدم في الحديث ذكر هذا اللفظ، ولكنه مذكور في غيره في بعض ألفاظ هذه القصة أنه صلى الله عليه وآله وسلم بعث عينا من خزاعة فتلقاه فقال: إن قريشا قد جمعوا لك الاحابيش وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أشيروا علي أترون أن أميل على ذراريهم؟ فإن يأتونا كان الله قد قطع جنبا من المشركين، وإلا تركناهم محروبين، فأشار إليه أبو بكر بترك ذلك فقال: امضوا بسم الله. والاحابيش هم بنو الحرث بن عبد مناة بن كنانة، وبنو المصطلق بن خزاعة، والقارة وهو ابن الهون بن خزيمة. باب جواز مصالحة المشركين على المال وإن كان مجهولا عن ابن عمر قال: أتى رسول اللصلى الله عليه وآله وسلم أهل خيبر فقاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم وغلبهم على الارض والزرع والنخل فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصفراء والبيضاء والحلقة وهي السلاح ويخرجون منها، واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا
[ 207 ]
يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد، فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي ابن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعم حيي واسمه سعية: ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير؟ فقال: أذهبته النفقات والحروب، فقال: العهد قريب والمال أكثر من ذلك، وقد كان حيي قتل قبل ذلك، فدفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سعية إلى الزبير فمسه بعذاب فقال: قد رأيت حييا يطوف في خربة ههنا، فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة، فقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابني أبي الحقيق وأحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب، وسبى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نساءهم وذراريهم وقسم أموالهم بالنكث الذنكثوا، وأراد أن يجليهم منها فقالوا: يا محمد دعنا نكون في هذه الارض نصلحها ونقوم عليها، ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا لاصحابه غلمان يقومون عليها وكانوا لا يفرغون أن يقوموا عليها، فأعطاهم خيبر على أن لهم الشطر من كل زرع وشئ ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان عبد الله بن رواحة يأتيهم في كل عام فيخرصها عليهم ثم يضمنهم الشطر، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شدة خرصه وأرادوا أن يرشوه فقال عبد الله: تطعموني السحت والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إلي، ولانتم أبغض إلي من عدتكم من القردة والخنازير، ولا يحملني بغضي إياكم وحبي إياه على أن لا أعدل عليكم، فقالوا: بهذا قامت السموات والارض، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطي كل امرأة من نسائه ثمانين وسقا من تمر كل عام، وعشرين وسقا من شعير، فلما كان زمن عمر غشوا فألقوا ابن عمر من فوق بيت ففدعوا يديه فقال عمر بن الخطاب: من كان له سهم بخيبر فليحضر حتى نقسمها بينهم، فقسمها عمر بينهم، فقال رئيسهم: لا تخرجنا دعنا نكون فيها كما أقرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر، فقال عمر لرئيسهم: أتراه سقط على قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ كيف بك إذا رقصت بك راحلتك نحو الشام يوما ثم يوما، ثم يوما. وقسمها عمر بين من كان شهد خيبر من أهل الحديبية رواه البخاري وفيه من الفقه أن تبين عدم الوفاء بالشرط المشروط يفسد الصلح حتى في حق النساء والذرية، وأن قسمة الثمار خرصا من غير تقابض جائزة، وأن عقد المزارعة والمساقاة من غير تقدير مدة جائز، وأن معاقبة
[ 208 ]
من يكتم مالا جائزة، وأن ما فتح عنوة يجوز قسمته بين الغانمين وغير ذلك من الفوائد. وعن رجل من جهينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لعلكم تقاتلون قوما فيظهرون عليكم فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم وأبنائهم فتصالحونهم على صلح فلا تصيبوا منهم فوق ذلك فإنه لا يصلح رواه أبو داود. حديث الرجل الذي من جهينة أخرجه أيضا ابن ماجة وسكت عنه أبو داود، وفي إسناده رجمجهول، لانه من رواية رجل من ثقيف عن رجل من جهينة. ورواه أبو داود أيضا من طريق خالد بن معدان عن جبير بن نفير قال: انطلق بنا إلى ذي مخبر رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكره. قوله: على أن يجلوا منها قال في القاموس: جلا القوم عن الموضع ومنه جلوا أو جلاء، وجلوا تفرقوا، أو جلا من الخوف، وأجلى من الجدب، ثم قال: والجالية أهل الذمة، لان عمر أجلاهم من جزيرة العرب انتهى. وقال الهروي: جلا القوم عن مواطنهم وأجلى بمعنى واحد، والاسم الجلاء والاجلاء. قوله: الصفراء والبيضاء والحلقة بفتح الحاء المهملة وسكون اللام وهي كما فسره المصنف رحمه الله تعالى السلاح، وهذا فيه مصالحة المشركين بالمال المجهول. قوله: فغيبوا مسكا بفتح الميم وسكون الهملة قال في القاموس: المسك الجلد أو خاص بالسخلة الجمع مسوك وبهاء القطعة منه. قوله: لحيي بضم الحاء تصغير حي. وأخطب بالخاء المعجمة. وسعية بفتح السين المهملة وسكون العين المهملة أيضا بعدها تحتية. قوله: فمسه بعذاب فيه دليل على جواز تعذيب من امتنع من تسليم شئ يلزمه تسليمه وأنكر وجوده إذا غلب في ظن الامام كذبه، وذلك نوع من السياسة الشرعية. قوله: فقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابني أبي الحقيق بمهملة وقافين مصغرا وهو رأس يهود خيبر، قال الحافظ: ولم أقف على اسمه إنما قتلهما لعدم وفائهم بما شرطه عليهم لقوله في أول الحديث: فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد. قوله: ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في لفظ للبخاري: نقركم على ذلك ما شئنا. وفي لفظ له آخر: نقركم ما أقركم الله والمراد ما قدر الله أنا نترككم فيها إذا شئنا فأخرجناكم، تبين أن الله قد أخرجكم. قوله: ففدعوا يديه الفدع بفتح الفاء والدال المهملة بعدها عين مهملة زوال المفصل، فدعت يداه إذا أزيلتا من مفاصلهما. وقال الخليل: الفدع عوج في المفاصل وفي خلق الانسان إذا زاغت القدم من أصلها من
[ 209 ]
الكعب وطرف الساق فهو الفدع. قال الاصمعي: هو زيغ في الكف بينها وبين الساعد، وفي الرجل بينها وبين الساق. ووقع في رواية ابن السكن شدع بالشين المعجمة بدل الفاء، وجزم به الكرماني، قال الحافظ: وهو وهم، لان الشدع بالمعجمة كسر الشئ المجوف قاله الجوهري، ولم يقع ذلك لابن عمر في هذه القصة، والذي في جميع الروايات بالفاء. وقال الخطابي: كان اليهود سحروا عبد الله بن عمر فالتفت يداه ورجلاه، قال: ويحتمل أن يكونوا ضربوه، والواقع في حديث الباب أنهم ألقوه من فوق بيت. قوله: فقال رئيسهم لا تخرجن لعل في الكلام محذوفا، ووقع في رواية للبخاري في الشروط بلفظ: وقد رأيت إجلاءهم فلما أجمع الخ، فيكون المحذوف من حديث الباب هو هذا، أي لما أجمع عمر على إجلائهم قال رئيسهم. وظاهر هذا أن سبب الاجلاء هو ما فعلوه بعبد الله بن عمر. قال في الفتح: وهذا لا يقتضي حصر السبب في إجلاء عمر إياهم، وقد وقع لي فيه سببان آخران أحدهما رواه الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن عتبة قال: ما زال عمر حتى وجد الثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا يجتمع بجزيرة العرب دينان، فقال: من كان له من أهل الكتابين عهد فليأت به أنفذه له وإلا فإني مجليكم فأجلاهم أخرجه ابن أبي شيبة وغيره. ثانيهما: رواه عمر بن شبة في أخبار المدينة من طريق عثمان بن محمد الاخنسي قال: لما كثر العيال أي الخدم في أيدي المسلمين وقووا على العمل في الارض أجلاهم عمر ويحتمل أن يكون كل من هذه الاشياء جزء علة في إخراجهم، والاجلاء الاخراج عن المال والوطن على وجه الازعاج والكراهة اه. قوله: كيف بك إذا رقصت بك راحلتك أي ذهبت بك راقصة نحو الشام. وفي لفظ للبخاري: تعدو بك قلوصك والقلوص بفتح القاف وبالصاد المهملة الناقة الصابرة على السير، وقيل الشابة، وقيل أول ما تركب من إناث الابل، وقيل الطويلة القوائم، فأشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى إخراجهم من خيبر، فكان ذلك من إخباره بالمغيبات. والمراد بقوله: رقصت أي أسرعت. قوله: نحو الشام قد ثبت أن عمر أجلاهم إلى تيماء وأريحاء، وقد وهم المصنف رحمه الله في نسبة جميع ما ذكره من ألفاظ هذا الحديث إلى البخاري، ولعله نقل لفظ الحميدي في الجمع بين الصحيحين، والحميدي كأنه نقل السياق من مستخرج البرقاني كعادته، فإن كثيرا من هذه الالفاظ ليس في صحيح البخاري،
[ 210 ]
وإنما هي في مستخرج البرقاني من طريق حماد بن سلمة. وكذلك أخرج هذا الحديث بلفظ البرقاني أبو يعلى في مسنده، والبغوي في فوائده، ولعل الحميدي ذهل عن عز وهذا الحديث إلى البرقاني وعزاه إلى البخاري فتبعه المصنف في ذلك، وقد نبه الاسماعيلي على أن حمادا كان يطوله تارة ويرويه تارة مختصرا، وقد قدمنا الكلام على بعض فوائد هذا الحديث في المزارعة. قوله: فلا تصيبوا منهم فوق ذلك فإنه لا يصلح فيه دليل على أنه لا يجوز للمسلمين بعد وقوع الصلح بينهم وبين الكفار على شئ أن يطلبوا منهم زيادة عليه، فإن ذلك من ترك الوفاء بالعهد ونقض العقد وهما محرمان بنص القرآن والسنة. باب ما جاء فيمن سار نحو العدو في آخر مدة الصلح بغتة عن سليمان بن عامر قال: كان معاوية يسير بأرض الروم وكان بينه وبينهم أمد، فأراد أن يدنو منهم فإذا انقضى الامد غزاهم، فإذا شيخ على دابة يقول: الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدر، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدنها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم عهدهم على سواء، فبلغ ذلك معاوية فرجع، فإذا الشيخ عمرو بن عبسة رواأحمد وأبو داود والترمذي وصححه. الحديث أخرجه أيضا النسائي، وقال الترمذي بعد إخراجه: حسن صحيح. قوله: وكان بينه وبينهم أمد الخ، لفظ أبي داود: كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على فرس أو برذون. قوله: وفاء لا غدر أي أن الله سبحانه وتعالى شرع لعباده الوفاء بالعقود والعهود ولم يشرع لهم الغدر، فكان شرعه الوفاء لا الغدر. قوله: فلا يحلن عقدة استعار عقدة الحبل لما يقع بين المسلمين من المعاهدة، ونهى عن حلها أي نقضها وشدها أي تأكيدها بشئ لم يقع التصالح عليه، بل الواجب الوفاء بها على الصفة التي كان وقوعها عليها بلا زيادة ولا نقصان. قوله: أو ينبذ إليهم عهدهم على سواء النبذ في أصل اللغة الطرح، قال في القاموس: النبذ طرحك الشئ أمامك أو وراءك أو عام انتهى. والمراد هنا
[ 211 ]
إخبار المشركين بأن الذمة قدانقضت، وإيذانهم بالحرب إن لم يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. وفي الحديث دليل على ما ترجم به المصنف الباب من أنه لا يجوز المسير إلى العدو في آخر مدة الصلح بغتة، بل الواجب الانتظار حتى تنقضي المدة أو النبذ إليهم على سواء. باب الكفار يحاصرون فينزلون على حكم رجل من المسلمين عن أبي سعيد: أن أهل قريظة نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى سعد فأتاه على حمار فلما دنا قريبا من المسجد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قوموا إلى سيدكم أو خيركم، فقعد عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن هؤلاء نزلوا على حكمك، قال: فإني أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، فقال: لقد حكمت بما حكم به الملك وفي لفظ: قضيت بحكم الله عزوجل متفق عليه. قوله: قوموا إلى سيدكم قد اختلف هل المخاطب بهذا الخطاب الانصار خاصة أم هم وغيرهم؟ وقد بين ذلك صاحب الفتح في كتاب الاستئذان. قوله: فإني أحكم في رواية للبخاري فيهم، وفي رواية له أخرى فيه أي في هذا الامر. قوله: بما حكم به الملك بكسر اللام، وفي رواية: لقد حكمت اليوم فيهم بحكم الله الذي حكم به من فوق سبع سموات. وفي حديث جابر عند ابن عائذ فقال: احكم فيهم يا سعد، فقال: الله ورسوله أحق بالحكم، قال: قد أمرك الله أن تحكم فيهم. وفي رواية ابن إسحاق: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة والارقعة بالقاف جمع وقيع وهو من أسماء السماء، قيل: سميت بذلك، لانها رقعت بالنجوم، وهذا كله يدفع ما وقع عند الكرماني بحكم الملك بفتح اللام وفسره بجبريل، لانه الذي كان ينزل بالاحكام، قال السهيلي: من فوق سبع سموات معناه أن الحكم نزل من فوق، قال: ومثله قول زينب بنت جحش: زوجني الله من نبيه من فوق سبع سموات أي نزل تزويجها من فوق. قال: ولا يستحيل وصفه تعالى بالفوق على المعنى الذي يليق بجلاله، لا على المعنى الذي يسبق إلى الوهم من التحديد الذي يفضي إلى التشبيه. وفي
[ 212 ]
الحديث دليل على أنه يجوز نزول العدو على حكم رجل من المسلمين ويلزمهم ما حكم به عليهم من قتل وأسر واسترقاق. وقد ذكر ابن إسحاق أن بني قريظة لما نزلوا علحكم سعد حبسوا في دار بنت الحرث. وفي رواية أبي الاسود عن عروة في دار أسامة بن زيد ويجمع بينهما بأنهم جعلوا في البيتين. ووقع في حديث جابر عند ابن عائذ التصريح بأنهم جعلوا في بيتين. قال ابن إسحاق: فخندقوا لهم خنادق فضربت أعناقهم فجرى الدم في الخندق، وقسم أموالهم ونساءهم وأبناءهم على المسلمين وأسهم للخيل، فكان أول يوم وقعت فيه السهمان لها. وعند ابن سعد من مرسل حميد بن هلال: أن سعد بن معاذ حكم أيضا أن تكون دورهم للمهاجرين دون الانصار فلامه الانصار فقال: إني أحببت أن يستغنوا عن دوركم، واختلف في عدتهم، فعند ابن إسحاق أنهم كانوا ستمائة وبه جزم أبو عمر بن عبد البرقي ترجمة سعد بن معاذ، وعند ابن عائذ من مرسل قتادة كانوا سبعمائة، قال السهيلي: المكثر يقول: إنهم مابين الثمانمائة إلى السبعمائة. وفي حديث جابر عند الترمذي والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح أنهم كانوا أربعمائة مقاتل، فيجمع بأن الباقين كانوا أتباعا، وقد حكى ابن إسحاق أنه قيل: إنهم كانوا تسعمائة. باب أخذ الجزية وعقد الذمة عن عمر أنه لم يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذها من مجوس هجر رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي. وفي رواية: أن عمر ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: سنوا بهم سنة أهل الكتاب رواه الشافعي، وهو دليل على أنهم ليسوا من أهل الكتاب. [ رح 3463 ] وعن المغيرة بن شعبة أنه قال لعامل كسرى: أمرنا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية رواه أحمد والبخاري. وعن ابن عباس قال: مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشكوه إلى أبي طالب فقال: يا ابن
[ 213 ]
أخي ما تريد من قومك؟ قال: أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم بها العجم الجزية، قال: كلمة واحدة؟ قال: كلمة واحدة قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: إلها واحدا ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق، قال: فنزل فيهم القرآن: * (ص والقرآن ذي الذكر) * إلى قوله: * (إن هذا إلا اختلاق) * رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن. حديث عمر وعبد الرحمن ورد بألفاظ من طرق منها ما ذكره المصنف وقد أخرجه الترمذي بلفظ: فجاءنا كتاب عمر انظر مجوس من قبلك فخذ منهم الجزية فإن عبد الرحمن بن عوف أخبرني فذكره. وأخرج أبو داود من طريق ابن عباس قال: جاء رجل من مجوس هجر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلما خرج قلت له: ما قضاء الله ورسوله فيكم؟ قال: شر الاسلام أو القتل وقال عبد الرحمن بن عوف: قبل منهم الجزية. قال ابن عباس: فأخذ الناس بقول عبد الرحمن وتركوا ما سمعت. وروى أبو عبيد في كتاب الاموال بسند صحيح عن حذيفة: لولا أني رأيت أصحابي أخذوا الجزية من المجوس ما أخذتها. وفي الموطأ عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر قال: لا أدري ما أصنع بالمجوس؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: سنوا بهم سنة أهل الكتاب وهذا منقطع ورجاله ثقات. ورواه الدارقطني وابن المنذر في الغرائب من طريق أبي علي الحنفي عن مالك فزاد فيه عن جده أي جد جعفر بن محمد وهو أيضا منقطع، لان جده علي بن الحسين لم يلحق عبد الرحمن بن عوف ولا عمر، فإن كان الضمير في جده يعود إلى محمد بن علي فيكون متصلا، لان جده الحسين بن علي صلوات الله عليهم سمع من عمر بن الخطاب ومن عبد الرحمن بن عوف، وله شاهد من حديث مسلم بن العلاء بن الحضرمي أخرجه الطبراني في آخر حديث بلفظ: سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب قال ابن عبد البر: هذا من الكلا العام الذي أريد به الخاص، لان المراد سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية فقط، واستدل بقوله: سنة أهل الكتاب على أنهم ليسوا أهل كتاب، لكن روى الشافعي وعبد الرزاق وغيرهما بإسناد حسن عن علي: كان المجوس أهل كتاب يدرسونه وعلم يقرؤونه، فشرب أميرهم الخمر فوقع على أخته فلما أصبح دعا أهل الطمع فأعطاهم وقال: إن آدم كان ينكح أولاده بناته فأطاعوه وقتل من
[ 214 ]
خالفه، فأسرى على كتابهم وعلى ما في قلوبهم منه فلم يبق عندهم منه شئ. وروى عبد بن حميد في تفسير سورة البروج بإسناد صحيح عن ابن أبزى: لما هزم المسلمون أهل فارس قال عمر: اجتمعوا فقال إن المجوس ليسوا أهل كتاب فنضع عليهم ولا من عبدة الاوثان فنجري عليها أحكامهم، فقال علي: بل هم أهل كتاب، فذكر نحوه لكن قال: وقع على ابنته، وقال في آخره: فوضع الاخدود لمن خالفه، فهذا حجة من قال كان لهم كتاب. وأما قول ابن بطال: لو كان لهم كتاب ورفع لرفع حكمه. ولما استثنى حل ذبائحهم ونكاح نسائهم، فالجواب أن الاستثناء وقع تبعا للاثر الوارد، لان في ذلك شبهة تقتضحقن الدم، بخلاف النكاح فإنه مما يحتاط له. وقال ابن المنذر: ليس تحريم نكاحهم وذبائحهم متفقا عليه، ولكن الاكثر من أهل العلم عليه، وحديث ابن عباس أخرجه النسائي أيضا وصححه الترمذي والحاكم. قوله: حتى تعبدوا الله وحده الخ، فيه الاخبار من المغيرة بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتال المجوس حتى يؤدوا الجزية. زاد الطبراني: وإنا والله لا نرجع إلى ذلك الشقاء حتى نغلبكم على ما في أيديكم. قوله: وتؤدي إليهم بها العجم الجزية فيه متمسك لمن قال: لا تؤخذ الجزية من الكتابي إذا كان عربيا، قال في الفتح: فأما اليهود والنصارى فهم المراد بأهل الكتاب بالاتفاق، وفرق الحنفية فقالوا: تؤخذ من مجوس العجم دون مجوس العرب. وحكى الطحاوي عنهم أنها تقبل الجزية من أهل الكتاب ومن جميع كفار العجم، ولا يقبل من مشركي العرب إلا الاسلام أو السيف. وعن مالك: تقبل من جميع الكفار إلا من ارتد، وبه قال الاوزاعي وفقهاء الشام. وحكى ابن القاسم عن مالك أنها لا تقبل من قريش. وحكى ابن عبد البر الاتفاق على قبولها من المجوس، لكن حكى ابن التين عن عبد الملك أنها لا تقبل إلا من اليهود والنصارى فقط. ونقل أيضا الاتفاق على أنه لا يحل نكاح نسائهم ولا أكل ذبحائهم، وحكى غيره عن أبي ثوحل ذلك. قال ابن قدامة: وهذا خلاف إجماع من تقدمه. قال الحافظ: وفيه نظر، فقد حكى ابن عبد البر عن سعيد بن المسيب أنه لم يكن يرى بذبيحة المجوسي بأسا إذا أمره المسلم بذبحها. وروى ابن أبي شيبة عنه وعن عطاء وطاوس وعمرو بن دينار أنهم لم يكونوا يرون بأسا بالتسري بالمجوسية. وقال الشافعي: تقبل من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ويلتحق بهم المجوس في ذلك. قال أبو عبيد:
[ 215 ]
ثبتت الجزية على اليهود والنصارى بالكتاب وعلى المجوس بالسنة. قال العلماء: الحكمة في وضع الجزية أن الذي يلحقهم يحملهم على الدخول في الاسلام مع ما في مخالطة المسلمين من الاطلاع على محاسن الاسلام، واختلف في السنة التي شرعت فيها فقيل في سنة ثمان، وقيل في سنة تسع. عن عمر بن عبد العزيز: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتب إلى أهل اليمن: إن على كل إنسان منكم دينارا كل سنة أو قيمته من المعافر يعني أهل الذمة منهم، رواه الشافعي في مسند وقد سبق هذا المعنى في كتاب الزكاة في حديث لمعاذ. وعن عمرو بن عوف الانصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي متفق عليه. وعن الزهري قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسا رواه أبو عبيد في الاموال. وعن أنس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة فأخذوه فأتوا به فحقن دمه وصالحه على الجزية رواه أبو داود. وهو دليل على أنها لا تختص بالعجم لان أكيدر دومة عربي من غسان. وعنابن عباس قال: صالح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر والبقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين، وعارية ثلاثين درعا وثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها، والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد ذات غدر، على أن لا يهدم لهم بيعة، ولا يخرج لهم قس، ولا يفتنوا عن دينهم ما لم يحدثوا حدثا أو يأكلوا الربا أخرجه أبو داود. حديث عمر بن عبد العزيز هو مرسل، ولكنه يشهد له ما أشار إليه المصنف من حديث معاذ، وقد سبق في باب صدقة المواشي من كتاب الزكاة وفيه: ومن كل حالم دينارا أو عدله معافر وقد قدمنا الكلام عليه هنالك. وحديث الزهري هو أيضا مرسل، وقد تقدم ما يشهد له في أول الباب. وحديث أنس أخرجه أيضا البيهقي وسكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده ثقات وفيه عنعنة محمد بن إسحاق. وحديث ابن عباس هو من رواية السدي عنه قال المنذري: وفي سماع السدي من
[ 216 ]
عبد الله بن عباس نظر، وإنما قيل إنه رآه ورأى ابن عمر وسمع من أنس بن مالك. وكذا قال الحافظ: إن في سماع السدي منه نظرا لكن له شواهد، منها ما أخرجه ابن أبي شيبة عن الشعبي قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل نجران وهم نصارى: إن من بايع منكم بالربا فلا ذمة له. وأخرج أيضا عن سالم قال: أن أهل نجران قد بلغوا أربعين ألفا، وكان عمر رضي الله عنه يخافهم أن يميلوا على المسلمين فتحاسدوا بينهم فأتوا عمر فقالوا: أجلنا، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد كتب لهم كتابا أن لا يجلوا فاغتنمها عمر فأجلاهم، فندموا فأتوه فقالوا: أقلنا فأبى أن يقيلهم، فلما قدم علي أتوه فقالوا: إنا نسألك بخط يمينك وشفاعتك عند نبيك إلا ما أقلتنا، فأبى وقال: إن عمر كان رشيد الامر. قوله: من المعافر بعين مهملة وفاء اسم قبيلة وبها سميت الثياب وإليها ينسب البز المعافري. قوله: الانصاري كذا في صحيح البخاري، والمعروف عند أهل المغازي أنه من المهاجرين، وقد وقع أيضا في البخاري أنه حليف لبني عامر بن لؤي وهو يشعر بكونه من أهل مكة، قال في الفتح: ويحتمل أن يكون وصفه بالانصاري بالمعنى الاعم، ولا مانع أن يكون أصله من الاوس والخزرج نزل مكة وحالف بعض أهلها، فبهذا الاعتبار يكون أنصاريا مهاجريا، قال: ثم ظهر لي أن لفظة الانصاري وهم وقد تفرد بها شعيب عن الزهري، ورواه أصحاب الزهري عنه بدونها في الصحيحين وغيرهما، وهو معدود في أهل بدر باتفاقهم، ووقع عند موسى بن عقبة في المغازي أنه عمير بن عوف بالتصغير. قوله: إلى البحرين هي البلد المشهور بالعراق وهو بين البصرة وهجر. وقوله: يأتي بجزيتها أي يأتي بجزية أهلها، وكان غالب أهلها إذ ذاك المجوس، ففيه تقوية للحديث الذي تقدم، ومن ثم ترجم عليه النسائي أخذ الجزية من المجوس. وذكر ابن سعد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد قسمة الغنائم بالجعرانة أرسل العلاء إلى المنذر بن ساوي عامل الفرس على البحرين يدعوه إلى الاسلام فأسلم وصالح مجوس تلك البلاد على الجزية. قوله: وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلخ، كان ذلك في سنة الوفود سنة تسع من الهجرة. قوله: إلى أكيدر بضم الهمزة تصغير أكدر، قال في التلخيص: إن ثبت أن أكيدرا كان كنديا ففيه دليل على أن الجزية لا تختص بالعجم من أهل الكتاب لان أكيدرا كان عربيا اه. قوله: صالح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهل نجران الخ، هذا
[ 217 ]
المال الذي وقعت عليه المصالحة هو في الحقيقة جزية، ولكن ما كان مأخوذا على هذه الصفة يختص بذوي الشوكة، فيؤخذ ذلك المقدار من أموالهم ولا يضربه الامام على رؤوسهم. قوله: إن كان باليمن كيد ذات غدر إنما أنث الكيد هنا، لانه أراد به الحرب، ولفظ الجامع كيد إذا بغدر. وفي الارشاد: كيد أو غدر، وهكذا لفظ أبي داود. قوله: ولا يخرج لهم قس بفتح القاف وتشديد المهملة بعدها قال في القاموس: هو رئيس النصارى في العلم. قوله: أو يأكلوا الربا زاد أبو داود: قال إسماعيل قد أكلوا الربا. وعن ابن شهاب قال: أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب أهل نجران وكانوا نصارى رواه أبو عبيد في الاموال. [ رح 3471 ] وعن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاة فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الانصار فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله عزوجل: * (لا إكراه في الدين) * (البقرة: 256) رواه أبو داود، وهو دليل على أن الوثني إذا تهود يقر ويكون كغيره من أهل الكتاب. [ رح 3472 ] وعنابن أبي نجيح قال: قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: جعل ذلك من قبيل اليسار أخرجه البخاري. حديث ابن شهاب مرسل. وحديث ابن عباس أخرجه أيضا النسائي، وقد رواه أبو داود من ثلاث طرق والنسائي من طريقين وجميع رجاله لا مطعن فيهم. قوله: مقلاة بكسر الميم وسكون القاف قال في مختصر النهاية: هي المرأة التي لا يعيش لها ولد. قوله: فأنزل الله عزوجل: * (لا إكراه في الدين) * فيه دليل على أنه إذا اختار الوثني الدخول في اليهودية أو النصرانية جاز تقريره علذلك بشرط أن يلتزم بما وضعه المسلمون على أهل الذمة. قوله: ما شأن أهل الشام الخ، أشار بهذا الاثر إلى جواز التفاوت في الجزية، وأقل الجزية عند الجمهود دينار في كل سنة من كل حالم لحديث معاذ المتقدم وما ورد في معناه، وظاهره المساواة بين الغني والفقير، وخصته الحنفية بالفقير، قالوا: وأما المتوسل فعليه ديناران وعلى الغني أربعة، وهو موافق لاثر مجاهد المذكور، وعند الشافعية أن للامام أن يماكس حتى يأخذها منهم، وبه قال أحمد. وحكي في البحر عن الهادي والقاسم والمؤيد بالله وأبي حنيفة وأصحابه أنها تكون من الفقير اثنتي عشرة قفلة، ومن الغني ثمانيا وأربعين، ومن المتوسط أربعا وعشرين، وتمسكوا بما رواه أبو عبيد من طريق أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب
[ 218 ]
عن عمر أنه بعث عثمان بن حنيف بوضع الجزية على أهل السواد ثمانية وأربعين، وأربعة وعشرين، واثني عشر. قال في الفتح: وهذا على حساب الدينار باثني عشر. وأخرجه البيهقي من طريق مرسلة بلفظ: أن عمر ضرب الجزية على الغني ثمانية وأربعين درهما، وعلى المتوسط أربعة وعشرين، وعلى الفقير المكتسب اثني عشر وأخرج البيهقي أيضا عن عمر: أنه وضع على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق ثمانية وأربعين. وأخرج أيضا عنه أنه قال: دينار الجزية اثنا عشر درهما قال: ويروى عنه بإسناد ثابت: عشرة دراهم قال: ووجهه التقويم باختلاف السعر. وقال مالك: لا يزيد على الاربعين وينقص منها عمن لا يطيق. قال في الفتح: وهذا يحتمل أن يكون جعله على حساب الدينار بعشرة، والقدر الذي لا بد منه دينار. وحكي في البحر عن النفس الزكية وأبي حنيفة والشافعي في قول له: إنه لا جزية على فقير، وهذا يخالف ما حكاه في الفتح عن الحنفية والشافعية كما قدمنا، ولعل ما وقع من عمر وغيره من الصحابة من الزيادة على الدينار، لانهم لم يفهموا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم حدا محدودا، أو أن حديث معاذ المتقدم واقعة عين لا عموم لها، وأن الجزية نوع من الصلح كما قدمنا. وقد تقدم ما كان يأخذه صلى الله عليه وآله وسلم من أهل نجران. وحكي في البحر عن الهادي أن الغني من يملك ألف دينار نقدا وبثلاثة آلاف دينار عروضا ويركب الخيل ويتختم الذهب. وقال المؤيد بالله: إن الغني هو العرفي وقواه المهدي، وقال المنصور بالله: بل الشرعي. قال في الفتح: (واختلف السلف) في أخذها من الصبي فالجمهور قالوا: لا تؤخذ على مفهوم حديث معاذ، وكذا لا تؤخذ من شيخ فان ولا زمن ولا امرأة ولا مجنون ولا عاجز عن الكسب ولا أجير ولا من أصحاب الصوامع في قول، والاصح عند الشافعية الوجوب على من ذكر آخرا اه. وقد أخرج البيهقي من طريق زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر كتب إلى أمراء الاجناد: أن لا تضربوا الجزية إلا على من جرت عليه المواسي وكان لا يضرب على النساء والصبيان. ورواه من طريق أخرى بلفظ: ولا تضعوا الجزية على النساء والصبيان. ولكنه قد أخرج أبو عبيد في كتاب الاموال عن عثمان بن صالح عن ابن لهيعة عن أبي الاسود عن عروة قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهل اليمن أنه من كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا ينزعها
[ 219 ]
وعليه الجزية على كل حال ذكرا أو أنثى، عبد أو أمة، دينار واف أو قيمته. ورواه ابن زنجويه في الاموال عن النضبن شميل عن عوف عن الحسن قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكره، قال الحافظ: وهذان مرسلان يقوي أحدهما الآخر. وروى أبو عبيد أيضا في الاموال عن يحيى بن سعيد عن قتادة عن شقيق العقيلي عن أبي عياض عن عمر قال: لا تشتروا رقيق أهل الذمة فإنهم أهل خراج يؤدي بعضهم عن بعض. وعن ابن عباس قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تصلح قبلتان في أرض، وليس على مسلم جزية رواه أحمد وأبو داود، وقد احتج به على سقوط الجزية بالاسلام، وعلى المنع من إحدا ث بيعة أو كنيسة. وعن رجل من بني تغلب: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ليس على المسلمين عشور إنما العشور على اليهود والنصارى رواه أحمد وأبو داود. وعن أنس: أن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجئ بها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسألها عن ذلك فقالت: أردت أن أقتلك، فقال: ما كان الله ليسلطك على ذلك، قال فقالوا: ألا نقتلها؟ قال: لا، فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه أحمد ومسلم، وهو دليل على أن العهد لا ينتقض بمثل هذا الفعل. حديث ابن عباس سكت عنه أبو داود ورجال إسناده موثقون، وقد تكلم في قابوس ابن الحصين بن جندب ووثقه ابن معين. وقال المنذري: أخرجه الترمذي وذكر أنه مرسل، ويشهد له ما تقدم أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: المسلم والكافر لا تتراءى ناراهما وأخرج مالك في الموطأ عن ابن شهاب: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا يجتمع دينان في جزيرة العرب قال ابن شهاب: ففحص عمر عن ذلك حتى أتاه الثلج واليقين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا فأجلى يهود خيبر. قال مالك: وقد أجلى عمر يهود نجران وفدك. ورواه مالك في الموطأ أيضا عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه سمع عمر بن عبد العزيز يقول: بلغني أنه كان من آخما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن قال: قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد لا يبقى دينان بأرض العرب. ووصله
[ 220 ]
صالح بن أبي الاخضر عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة، أخرجه إسحاق في مسنده. ورواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب فذكره مرسلا وزاد: فقال عمر: من كان منكم عنده عهد من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فليأت به وإلا فإني مجليكم. ورواه أحمد في مسنده موصولا عن عائشة ولفظه قالت: آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يترك بجزيرة العرب دينان. أخرجه من طريق ابن إسحاق حدثني صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عنها. وحديث الرجل الذي من بني تغلب أخرجه البخاري في التاريخ وساق الاضطراب فيه. وقال: لا يتابع عليه. قال المنذري: وقد فرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم العشور فيما أخرجت الارض في خمسة أوساق. وقد أخرجه أبو داود أيضا من طريق أخرى من حديث حرب بن عبيدالله عن جده أبي أمه عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما العشور على اليهود والنصارى وليس على المسلمين عشور ولم يتكلم أبو داود ولا المنذري على إسناده. وأخرجه أيضا من طريق أخرى عن حرب بن عبيدالله فقال: الخراج مكان العشور. وأخرجه أيضا من طريق أخرى عن رجل من بكر بن وائل عن خاله قال: قلت يا رسول الله أعشر قومي؟ قال: إنما العشور على اليهود والنصارى. وقد سكت أبو داود والمنذري عنه وفي إسناده الرجل البكري وهو مجهول وخاله أيضا مجهول ولكنه صحابي. قوله: لا تصلح قبلتان سيأتي الكلام على ذلك في الباب الذي بعد هذا. قوله: وليس على مسلم جزية، لانها إنما ضربت على أهل الذمة ليكون بها حقن الدماء وحفظ الاموال، والمسلم بإسلامه قد صار محترم الدم والمال. قوله: عشور هي جمع عشر وهو واحد من عشرة أي ليس عليهم غير الزكاة من الضرائب والمكس ونحوهما. قال في القاموس: عشرهم يعشرهم عشرا وعشورا أخذ عشر أموالهم انتهى. وقال الخطابي: يريد عشور التجارات دون عشور الصدقات، قال: والذي يلزم اليهود والنصارى من العشور هو ما صولحوا عليه، وإن لم يصالحوا عليه فلا شئ عليهم غير الجزية انتهى. ولعله يريد على مذهب الشافعي. وأما عند الحنفية والزيدية فإنهم يقولون: يؤخذ من تجار أهل الذمة نصف عشر ما يتجرون به إذا كان نصابا وكان ذلك الاتجار بأماننا، ويؤخذ من تجار أهل الحرب مقدار ما يأخذون من تجارنا، فإن التبس المقدار وجب الاقتصار
[ 221 ]
على العشر. وقد أخرج البيهقي عن محمد بن سيرين أن أنس بن مالك قال له: أبعثك على ما بعثت عليه عمر؟ فقال: لا أعمل لك عملا حتى تكتب لي عهد عمر الذي كان عهد إليك، فكتب لي أن تأخذ لي من أموال المسلمين ربع العشر، ومن أموال أهل الذمة إذا اختلفوا للتجارة نصف العشر، ومن أموال أهل الحرب العشر. وأخرج سعيد بن منصور عن زياد بن حدير قال: استعملني عمر بن الخطاب على العشور فأمرني أن آخذ من تجار أهل الحرب العشر، ومن تجار أهل الذمة نصف العشر، ومن تجار المسلمين رب العشر. وأخرج مالك عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه: كان عمر يأخذ من القبط من الحنطة والزيت نصف العشر يريد بذلك أن يكثر الحمل إلى المدينة، ولا يؤخذ ذلك منهم إلا في السنة مرة لظاهر اقترانه بربع العشر الذي على المسلمين. وأما اشتراط النصاب والانتقال بأمان المسلمين كما قاله جماعة من الزيدية فلم أقف في شئ من السنة أو أفعال أصحابه على ما يدل عليه، وفعل عمر وإن لم يكن حجة لكنه قد عمل الناس به قاطبة فهو إجماع سكوتي. ويمكن أن يقال: لا يسلم الاجماع على ذلك، والاصل تحريم أموال أهل الذمة حتى يقوم دليل والحديث محتمل. وقد استنبط المصنف رحمه الله من حديث ابن عباس المذكور في الباب المنع من إحداث بيعة أو كنيسة. وأخرج البيهقي من طريق حزام بن معاوية قال: كتب إلينا عمر أبو الخيل ولا يرفع بين ظهرانيكم الصليب ولا تجاوركم الخنازير. وفي إسناده ضعف. وأخرجه أيضا الحافظ الحراني. وروى ابن عدي عن عمر مرفوعا: لا تبنى كنيسة في الاسلام ولا يجدد ما خرب منها. وروى البيهقي عن ابن عباس: كل مصر مصره المسلمون لا تبنى فيه بيعة ولا كنيسة، ولا يضرب فيه ناقوس، ولا يباع فيه لحم خنزير. وفي إسناده حنش وهو ضعيف. وروى أبو عبيد في كتاب الاموال عن نافع عن أسلم: أن عمر أمر في أهل الذمة أن تجز نواصيهم، وأن يركبوا على الاكف عرضا، ولا يركبوا كما يركب المسلمون وأن يوثقوا المناطق. قال أبو عبيد: يعني الزنانير. وروى البيهقي عن عمر: أنه كتب إلى أمراء الاجناد أن يختموا رقاب أهل الذمة بخاتم الرصاص، وأن تجز نواصيهم، وأن تشد المناطق. وحديث أنس المذكور في الباب استدل به المنصف رحمه الله على أن إرادة القتل من الذمي لا ينتقض بها عهده، لان النبي صلى
[ 222 ]
الله عليه وآله وسلم لم يقتلها بعد أن اعترفت بذلك، والقصة معروفة في كتب السير والحديث والخلاف فيها مشهور. وقد جزم بعض أهل العلم بأنه يقتل من سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل الذمة، واستدل بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتل من كان يشتمه من كفار قريش كما سبق، وتعقبه ابن عبد البر بأن كفار قريش المأمور بقتلهم يوم الفتح كانوا حربيين. وأخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرت أن أبا عبيدة بن الجراح وأبا هريرة قتلا كتابيين أرادا امرأة على نفسها مسلمة. وروى البيهقي من طريق الشعبي عن سويد بن غفلة قال: كنا عند عمر وهو أمير المؤمنين بالشام فأتى نبطي مضروب مشجج يستعدي فغضب عمر وقال لصهيب: أنظر من صاحب هذا؟ فذكر القصة فجئ به فإذا هو عوف بن مالك فقال: رأيته يسوق بامرأة مسلمة فنخس الحمار ليصرعها فلم تصرع، ثم دفعها فخرت عن الحمار فغشيها ففعلت به ما ترى، فقال عمر: والله ما على هذا عاهدناكم، فأمر به فصلب، ثم قال: يا أيها الناس فوا بذمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمن فعل منهم هذا فلا ذمة له. باب منع أهل الذمة من سكنى الحجاز عن ابن عباس قال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعه يوم الخميس وأوصى عند موته بثلاث: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، ونسيت الثالثة متفق عليه، والشك من سليمان الاحول. وعن عمر: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لاخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلما رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه. وعن عائشة قالت: آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن قال: لا يترك بجزيرة العرب دينان. وعن أبي عبيدة بن الجراح قال: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أخرجوا يهود أهل الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب رواهما أحمد. وعن ابن عمر: أن عمر أجلى اليهود والنصارى من أرض الحجاز وذكر يهود خيبر إلى أن قال: أجلاهم عمر إلى تيماء وأريحاء رواه البخاري.
[ 223 ]
حديث عائشة قد قدمنا أنه رواه أحمد في مسنده من طريق ابن إسحاق قال: حدثني صالح بن كيسان عن الزهري عن عبيد اللبن عبد الله بن عتبة عنها. وحديث أبي عبيدة أخرجه أيضا البيهقي وهو في مسند مسدد وفي مسند الحميدي أيضا. قوله: من جزيرة العرب قال الاصمعي: جزيرة العرب ما بين أقصى عدن أبين إلى ريف العراق طولا، ومن جدة وما والاها من أطراف الشام عرضا، وسميت جزيرة لاحاطة البحار بها يعني بحر الهند وبحر فارس والحبشة. وأضيفت إلى العرب، لانها كانت بأيديهم قبل الاسلام وبها أوطانهم ومنازلهم. قال في القاموس: وجزيرة العرب ما أحاط بها بحر الهند وبحر الشام ثم دجلة والفرات، أو ما بين عدن أبين إلى أطراف الشام طولا، ومن جدة إلى ريف العراق عرضا انتهى. وظاهر حديث ابن عباس أنه يجب إخراج كل مشرك من جزيرة العرب سواء كان يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا. ويؤيد هذا ما في حديث عائشة المذكور بلفظ: لا يترك بجزيرة العرب دينان وكذلك حديث عمر وأبي عبيدة بن الجراح لتصريحهما بإخراج اليهود والنصارى، وبهذا يعرف أن ما وقع في بعض ألفاظ الحديث من الاقتصار على الامر بإخراج اليهود لا ينافي الامر العام، لما تقرر في الاصول أن التنصيص على بعض أفراد العام لا يكون مخصصا للعام المصرح به في لفظ آخر وما نحن فيه من ذلك. قوله: ونسيت الثالثة قيل هي تجهيز أسامة، وقيل يحتمل أنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تتخذوا قبري وثنا. وفي الموطأ ما يشير إلى ذلك. وظاهر الحديث أنه يجب إخراج المشركين من كل مكان داخل في جزيرة العرب. وحكى الحافظ في الفتح في كتاب الجهاد عن الجمهور أن الذي يمنع منه المشركون من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة، قال: وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها، لا فيمسوى ذلك مما يطلق عليه اسم جزيرة العرب، لاتفاق الجميع على أن اليمن لا يمنعومنها مع أنها من جملة جزيرة العرب، قال: وعن الحنفية يجوز مطلقا إلا المسجد، وعن مالك يجوز دخولهم الحرم للتجارة. وقال الشافعي: لا يدخلون الحرم أصلا إلا بإذن الامام لمصلحة المسلمين انتهى. قال ابن عبد البر في الاستذكار ما لفظه: قال الشافعي جزيرة العرب التي أخرج عمر اليهود والنصارى منها مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها، فأما اليمن فليس من جزيرة العرب انتهى. قال في البحر مسألة: ولا يجوز إقرارهم في الحجاز، إذ أوصى صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثة
[ 224 ]
أشياء: إخراجهم من جزيرة العرب الخبر ونحوه، والمراد بجزيرة العرب في هذه الاخبار مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها ووج والطائف وما ينسب إليهما، وسمي الحجاز حجازا لحجزه بين نجد وتهامة، ثم حكى كلام الاصمعي السابق، ثم حكى عن أبي عبيدة أنه قال: جزيرة العرب هي ما بين حفر أبي موسى وهو قريب من البصرة إلى أقصى اليمن طو، وما بين يبرين إلى السماوة عرضا، ثم قال لنا: ما روى أبو عبيدة أن آخر ما تكلم به النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أخرجوا اليهود من جزيرة العرب الخبر. وأجلى عمر أهل الذمة من الحجاز، فلحق بعضهم بالشام وبعضهم بالكوفة. وأجلى أبو بكر قوما فلحقوا بخيبر. فاقتضى أن المراد الحجاز لا غير انتهى. ولا يخفى أنه لكان حديث أبي عبيدة باللفظ الذي ذكره لم يدل على أن المراد بجزيرة العرب هو الحجاز فقط ولكنه باللفظ الذي ذكره المصنف، فيكون دليلا لتخصيص جزيرة العرب بالحجاز وفيه ما سيأتي. قال المهدي في الغيث ناقلا عن الشفاء للامير الحسين: إنما قلنا بجواز تقريرهم في غير الحجاز، لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قال: أخرجوهم من جزيرة العرب ثم قال: أخرجوهم من الحجاز عرفنا أن مقصوده بجزيرة العرب الحجاز فقط. ولا مخصص للحجاز عن سائر البلاد إلا برعاية أن المصلحة في إخراجهم منه أقوى، فوجب مراعاة المصلحة إذا كانت في تقريرهم أقوى منها في إخراجهم انتهى. وقد أجيب عن هذا الاستدلال بأجوبة: منها أن حمل جزيرة العرب على الحجاز وإن صح مجازا من إطلاق اسم الكل على البعض فهو معارض بالقلب وهو أن يقال: المراد بالحجاز جزيرة العرب، إما لانحجازها بالابحار كانحجازها بالحرار الخمس، وإما مجاز من إطلاق اسم الجزء على الكل، فترجيح أحد المجازين مفتقر إلى دليل، ولا دليل إلا ما ادعاه من فهم أحد المجازين. ومنها: أن في خبر جزيرة العرب زيادة لم تغير حكم الخبر والزيادة كذلك مقبولة. ومنها: أن استنباط كون علة التقرير في غير الحجاز هي المصلحة فرع ثبوت الحكم أعني التقرير لما علم من ان المستنبطة إنما تؤخذ من حكم الاصل بعد ثبوته، والدليل لم يدل إلا على نفي التقرير لا ثبوته لما تقدم في حديث: المسلم والكافر لا تتراءى ناراهما. وحديث: لا يترك بجزيرة العرب دينان ونحوهما، فهذا الاستنباط واقع في مقابلة النص المصرح فيه بأن العلة كراهة اجتماع دينين، فلو
[ 225 ]
فرضنا أنه لم يقع النص إلا على اخراجهم من الحجاز لكان المتعين إلحاق بقية جزيرة العرب به هذه العلة، فكيف والنص الصحيح مصرح بالاخراج من جزيرة العرب؟ وأيضا هذا الحديث الذي فيه الامر بالاخراج من الحجاز فيه الامر بإخراج أهل نجران كما وقع في حديث الباب، وليس نجران من الحجاز، فلو كان لفظ الحجاز مخصصا للفظ جزيرة العرب على انفراده أدالا على أن المراد بجزيرة العرب الحجاز فقط، لكان في ذلك إهمال لبعض الحديث وإعمال لبعض وأنه باطل، وأيضا غاية ما في حديث أبي عبيدة الذي صرح فيه بلفظ أهل الحجاز مفهومه معارض لمنطوق ما في حديث ابن عباس المصرح فيه بلفظ جزيرة العرب، والمفهوم لا يقوى على معارضة المنطوق فكيف يرجح عليه؟ (فإن قلت): فهل يخصص لفظ جزيرة العرب المنزل منزلة العام لماله من الاجزاء بلفظ الحجاز عند من جوز التخصيص بالمفهوم؟ قلت: هذا المفهوم من مفاهيم اللقب، وهو غير معمول به عند المحققين من أئمة الاصول حتى قيل: إنه لم يقل به إلا الدقاق، وقد تقرر عند فحول أهل الاصول أن ما كان من هذا القبيل يجعل من قبيل التنصيص على بعض الافراد لا من قبيل التخصيص إلا عند أبي ثور. قوله: أهل الحجاز قال في القاموس: والحجاز مكة والمدينة والطائف ومخاليفها، لانها حجزت بين نجد وتهامة، أو بين نجد والسراة، أو لانها احتجزت بالحرار الخمس: حرة بني سليم، وواقم، وليلى، وشوران، والنار، انتهى. باب ما جاء في بداءتهم بالتحية وعيادتهم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقها متفق عليه. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم متفق عليه. وفي رواية لاحمد: فقولوا عليكم بغير واو. [ رح 3483 ] وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن اليهوإذا سلم أحدهم إنما يقول: السام عليكم، فقل: عليك متفق عليه. وفي رواية لاحمد ومسلم: وعليك بالواو. وعن عائشة قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله
[ 226 ]
عليه وآله وسلم فقالوا: السام عليك، قالت عائشة: ففهمتها فقلت: عليكم السام واللعنة، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مهلا يا عائشة إن الله يحب الرفق في الامر كله، فقلت: يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا؟ فقال قد قلت: وعليكم متفق عليه. وفي لفظ: عليكم أخرجها. وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني راكب غدا اليهود فلا تبدؤوهم بالسلام، وإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم رواه أحمد. قوله: لا تبدؤوا اليهود الخ، فيه تحريم ابتداء اليهود والنصارى بالسلام، وقد حكاه النووي عن عامة السلف وأكثر العلماء. قال: وذهبت طائفة إلى جواز ابتدائنا لهم بالسلام، روي ذلك عن ابن عباس وأبي أمامة وابن محيريز، وهو وجه لبعض أصحابنا، حكاه الماوردي لكنه قال يقول: السلام عليك، ولا يقول: عليكم بالجمع، واحتج هؤلاء بعموم الاحاديث الواردة في إفشاء السلام، وهو من ترجيح العمل بالعام على الخاص. وذلك مخالف لما تقرر عند جميع المحققين، ولا شك أن هذا الحديث الوارد في النهي عن ابتداء اليهود والنصارى بالسلام أخص منها مطلقا، والمصير إلى بناء العام على الخاص واجب. وقال بعض أصحاب الشافعي: يكره ابتداؤهم بالسلام ولا يحرم، وهو مصير إلى معنى النهي المجازي بلا قرينة صارفة إليه. وحكى القاضي عياض عن جماعة أنه يجوز ابتداؤهم به للضرورة والحاجة وهو قول علقمة والنخعي. وروي عن الاوزاعي أنه قال: إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون. قوله: وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقها أي ألجؤوهم إلى المكان الضيق منها، وفيه دليل على أنه لا يجوز للمسلم أن يترك للذمي صدر الطريق، وذلك نوع من إنزال الصغار بهم والاذلال لهم. قال النووي: وليكن التضييق بحيث لا يقع في وهدة ولا يصدمه جدار، ونحوه قوله: فقولوا وعليكم في الرواية الاخرى: فقولوا عليكم وفي الرواية الثالثة: فقل عليك فيه دليل على أنه يرد على أهل الكتاب إذا وقع منهم الابتداء بالسلام، ويكون الرد بإثبات الواو وبدونها، وبصيغة المفرد والجمع، وكذا يرد عليهم لو قالوا السام بحذف اللام وهو عندهم الموت. قال النووي في شرح مسلم: اتفق العلماء على الرد على أهل الكتاب إذا سلموا لكن لا يقال لهم: وعليكم السلام، بل يقال: عليكم أو وعليكم
[ 227 ]
، فقد جاءت الاحاديث بإثبات الواو وحذفها وأكثر الروايات بإثباتها. قال: وعلى هذا في معناه وجهان، أحدهما: أنه على ظاهره فقالوا: عليكم الموت، فقال: وعليكم أيضا، أي نحن وأنتم فيه سواء كلنا نموت. والثاني: أن الواو هنا للاستئناف لا للعطف والتشريك وتقديره: وعليكم ما تستحقونه من الذم. وأما من حذف الواو فتقديره: بل عليكم السلام. قال القاضي: اختار بعض العلماء منهم ابن حبيب المالكي حذف الواو فتقديره: بل عليكم السلام. وقال غيره بإثباتها. قال: وقال بعضهم يقول: عليكم السلام بكسر السين أي الحجارة وهذا ضعيف. وقال الخطابي: عامة المحدثين يروون هذا الحرف وعليكم بالواو، وكان ابن عيينة يرويه بغير واو، قال: وهذا هو الصواب، لانه إذا حذف الواو صار كلامهم بعينه مردودا عليهم خاصة، وإذا أثبت الواو اقتضى الشركة معهم فيما قالوه. قال النووي: والصواب أن إثبات الواو جائز كما صحت به الروايات، وأن الواو أجود ولا مفسدة فيه، لان السام الموت وهو علينا وعليهم فلا ضرر في المجئ بالواو. وحكى النووي بعد أن حكى الاجماع المتقدم عن طائفة من العلماء أنه لا يرد على أهل الكتاب السلام. قال: ورواه ابن وهب وأشهب عن مالك. وحكى الماوردي عن بعض أصحاب الشافعي أنه يجوز أن يقال في الرد عليهم: وعليكم السلام، ولكن لا يقول: ورحمة الله. قال النووي: وهو ضعيف مخالف للاحاديث. قال: ويجوز الابتداء على جمع فيهم مسلمون وكفار أو مسلم وكافر ويقصد المسلمين للحديث الثابت في الصحيح: أنه صلى الله عليه وآله وسلم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين. قوله: إن الله يحب الرفق في الامر كله هذا من عظيم خلقه صلى الله عليه وآله وسلم وكمال حلمه، وفيه حث على الرفق والصبر والحلم وملاطفة الناس ما لم تدع حاجة إلى المخاشنة، وفي الحديث استحباب تغافل أهل الفضل عن سفه المبطلين إذا لم يترتب عليه مفسدة. قال الشافعي: الكيس العاقل هو الفطن المتغافل. [ رح 3486 ] وعن أنس قال: كان غلام يهودي يخدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عند فقال له: أطع أبا القاسم فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقو: الحمد لله الذي أنقذه بي من النار رواه أحمد والبخاري
[ 228 ]
وأبو داود. وفي رواية لاحمد: أن غلاما يهوديا كان يضع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وضوءه ويناوله نعليه فمرض فذكر الحديث. قوله: كان غلام يهودي زعم بعضهم أن اسمه عبد القدوس. وفي الحديث دليل على جواز زيارة أهل الذمة إذا كان الزائر يرجو بذلك حصول مصلحة دينية كإسلام المريض. قال المنذري: قيل يعاد المشرك ليدعي إلى الاسلام إذا رجى إجابته، ألا ترى أن اليهودي أسلم حين عرض عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ فأما إذا لم يطمع في الاسلام ولا يرجو إجابته فلا ينبغي عيادته. وهكذا قال ابن بطال أنها إنما تشرع عيادة المشرك إذا رجى أن يجيب إلى الدخول في الاسلام، فأما إذا لم يطمع في ذلك فلا. قال الحافظ: والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف المقاصد، فقد يقع بعيادته مصلحة أخرى. قال الماوردي: عيادة الذمي جائزة، والقربة موقوفة على نوع حرمة تقترن بها من جوار أو قرابة. وقد بوب البخاري على هذا الحديث باب عيادة المشرك. باب قسمة خمس الغنيمة ومصرف الفئ عن جبير بن مطعم قال: مشيت أنا وعثمان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا، قال: إنما بنو المطلب وبنو هاشم شئ واحد، قال جبير: ولم يقسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل شيئا رواه أحمد والبخاري والنسائي وابن ماجة. وفي رواية: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سهم ذي القربى من خيبر بين بني هاشم وبني المطلب جئت أنا وعثمان بن عفان فقلنا: يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله عزوجل منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا؟ وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة، قال: إنهم لم يفارقوني فجاهلية ولا إسلام، وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد، قال: ثم شبك بين أصابعه رواه أحمد والنسائي وأبو داود والبرقاني وذكر أنه على شرط مسلم.
[ 229 ]
قوله: مشيت أنا وعثمان إنما اختص جبير وعثمان بذلك، لان عثمان من بني عبد شمس وجبير من بني نوفل، وعبد شمس ونوفل وهاشم والمطلب هم بنو عبد مناف، فهذا معنى قولهما: ونحن وهم منك بمنزلة واحدة أي في الانتساب إلى عبد مناف. قوله: شئ واحد بالشين المعجمة المفتوحة والهمزة كذا للاكثر. وقال عياض: هكذا في البخاري بغير خلاف. وفي رواية للكشميهني والمستملي بالمهملة المكسورة وتشديد التحتانية وكذا كان يرويه يحيى بن معين. قال الخطابي: هو أجود في المعنى. وحكاه عياض رواية خارج الصحيح وقال: الصواب رواية الكافة لقوله فيه: وشبك بين أصابعه وهذا دليل على الاختلاط والامتزاج كالشئ الواحد لا على التمثيل والتنظير. ووقع في رواية أبي زيد المروزي شئ أحد بغير واو وبهمز الالف فقيل هما بمعنى. وقيل: الاحد الذي ينفرد بشئ لا يشاركه فيه غيره، والواحد أول العدد. وقيل: الاحد المنفرد بالمعنى، والواحد المنفرد بالذات. وقيل: الاحد لنفي ما يذكر معه من العدد، والواحد اسم لمفتاح العدد ومن جنسه. وقيل: لا يقال أحد إلا لله تعالى، حكى ذلك جميعه عياض. قوله: ولم يقسم الخ، هذا أورده البخاري في كتاب الخمس معلقا ووصله في المغازي عن يحيى بن بكير عن الليث عن يونس بتمامه، وزاد أبو داود بهذا الاسناد: وكان أبو بكر يقسم الخمس نحو قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير أنه لم يكن يعطي قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان عمر يعطيهم منه وعثمان بعده. وهذه الزيادة مدرجة من كلام الزهري، والسبب الذي لاجله أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بني المطلب مع بني هاشم دون غيرهم ما تقدم لهم من المعاضدة لبني هاشم والمناصرة، فمن ذلك أنه لما كتبت قريش الصحيفة بينهم وبين بني هاشم وحصروهم في الشعب دخل بنو المطلب مع بني هاشم ولم يدخل بنو نوفل وبنو عبد شمس كما ثبت ذلك في كتب الحديث والسير. وفي هذا الحديث دليل للشافعي ومن وافقه أن سهم ذوي القربى لبني هاشم والمطلب خاصة دون بقية قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قريش. وعن عمر بن عبد العزيز: هم بنو هاشم خاصة، وبه قال زيد بن أرقم وطائفة من الكوفيين، وإليه ذهب جميع أهل البيت. وهذا الحديث حجة لاهل القول الاول. وقد قيل: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما أعطى بني المطلب لعلة الحاجة، ورد بأنه لو كان الامر كذلك لم يخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم
[ 230 ]
قوما دون قوم، وأيضا الحديث مصرح بأنه إنما أعطاهم لكونهم هم وذرية هاشم شئ واحد وبمنزلة واحدة، لكونهم لم يفارقوه في جاهلية ولا إسلام. (والحاصل) أن الآية دلت على استحقاق قربى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي متحققة في بني عبد شمس وبني نوفل. واختلفت الشافعية في سبب إخراجهم فقيل: العلة القرابة مع النصرة. فلذلك دخل بنو هاشم وبنو المطلب ولم يدخل بنو عبد شمس وبنو نوفل لفقدان جزء العلة أو شرطها. وقيل: سبب الاستحقاق القرابة. ووجد في بني عبد شمس ونوفل مانع لكونهم انحازوا عبني هاشم وحاربوهم. وقيل: إن القربى عام خصصته السنة. وعن علي رضي الله عنه قال: اجتمعت أنا والعباس وفاطمة وزيد بن حارثة عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: يا رسول الله إن رأيت أن توليني حقنا من هذا الخمس في كتاب الله تعالى فاقسمه في حياتك كيلا ينازعني أحد بعدك فافعل، قال: ففعل ذلك فقسمته حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم ولانيه أبو بكر حتى كانت آخر سنة من سني عمر فإنه أتاه مال كثير رواه أحمد وأبو داود. وعن علي رضي الله عنه قال: ولاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمس الخمس فوضعته مواضعه حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحياة أبي بكر وحياة عمر رواه أبو داود، وهو دليل على أن مصارف الخمس خمسة. وعن يزيد بن هرمز: أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن الخمس لمن هو؟ فكتب إليه ابن عباس: كتبت تسألني عن الخمس لمن هو فإنا نقول: هو لنا فأبى علينا قومنا ذلك رواه أحمد ومسلم. وفي رواية: أن نجدة الحروري حين خرج في فتنة ابن الزبير أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذي القربى لمن يراه؟ فقال: هو لنا لقربي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم، قسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم، وقد كان عمر عرض علينا شيئا منه رأيناه دون حقنا فرددناه إليه وأبينا أن نقبله، وكان الذي عرض عليهم أن يعين ناكحهم وأن يقضي عن غارمهم، وأن يعطي فقيرهم وأبى أن يزيدهم على ذلك رواه أحمد والنسائي. [ رح 3491 ] وعن عمر بن الخطاب قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب فكانت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكان ينفق على أهله نفقة سنته. وفي لفظ: يحبس لاهله
[ 231 ]
قوت سنتهم ويجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله متفق عليه. حديث علي الاول في إسناده حسين بن ميمون الخندقي، قال أبو حاتم الرازي: ليس بقوي الحديث يكتب حديثه. وقال علي بن المديني: ليس بمعروف. وذكر له البخاري في تاريخه هذا الحديث قال: وهو حديث لا يتابع عليه. وزاد أبو داود بعد قوله: فإنه أتاه مال كثير ما لفظه: فعزل حقنا ثم أرسل إلي فقلت بنا عنه العام غنى وبالمسلمين إليه حاجة فاردده عليهم، ثم لم يدعني إليه أحد بعد عمر، فلقيت العباس بعدما خرجت من عند عمر فقال: يا علي حرمتنا الغداة شيئا لا يرد علينا أبدا وكان رجلا داهيا. وحديث علي الثاني في إسناده أبو جعفر الرازي عيسى بن ماهان، وقيل: ابن عبد الله بن ماهان، وثقه علي بن المديني وابن معين. ونقل عنهما خلاف ذلك، وتكلم فيه غير واحد. قال في التقريب: صدوق سيئ الحفظ خصوصا عن مغيرة من كبار السابعة مات في إحدى وستين. وتمام الحديث عند أبي داود فأتي بمال يعني عمر فدعاني فقلت: خذه، قال: خذه فأنتم أحق به، قلت: قد استغنينا عنه فجعله في بيت المال. قوله: وعن يزيد بن هرمز بضم الهاء وسكون الراء وضم الميم وبعدها زاي. قوله: أن نجدة بفتح النون وسكون الجيم بعدها دال مهملة وقد تقدم ذكره. قوله: وكانت أموال بني النضير الخ، قال في البخاري قال الزهري: كانت غزوة بني النضير وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر قبل أحد، هكذا ذكره معلقا، ووصله عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري أتم من هذا، وهو في حديث عن عروة: ثم كانت غزوة بني النضير وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر، وكانت منازلهم ونخلهم بناحية المدينة، فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى نزلوا على الجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الابل من الامتعة والاموال إلا الحلقة يعني السلاح فأنزل الله فيهم: * (سبح لله) * (الحديد: 1) إلى قوله: * (لاول الحشر) * وقاتلهم حتى صالحهم على الجلاء فأجلاهم إلى الشام، وكانوا من سبط لم يصبهم جلاء فيما خلا، وكان الله قد كتب عليهم الجلاء، ولولا ذلك لعذبهم في الدنيا بالقتل والسبي. وحكى ابن التين عن الداودي أنه رجح ما قال ابن إسحاق من أن غزوة بني النضير كانت بعد بئر معونة مستدلا بقوله تعالى: * (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم) * (الاحزاب: 26) قال: وذلك في قصة الاحزاب. قال في الفتح: وهو استدلال واه، فإن الآية نزلت في شأن بني قريظة فإنهم هم الذين ظاهروهم أي من الاحزاب،
[ 232 ]
وأما بنو النضير فلم يكن لهم في الاحزاب ذكر، بل كان من أعظم الاسباب في جمع الاحزاب ما وقع من إجلائهم فإنه كان من رؤوسهم حيي بن أخطب وهو الذي حسن لبني قريظة الغدر وموافقة الاحزاب حتى كان من هلاكهم ما كان، فكيف يصير السابق لاحقا؟ انتهى. (والاحاديث) المذكورة في الباب فيها دليل على أن من مصارف الخمس قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد تقدم الخلاف في ذلك. وروى أبو داود في حديث أن أبا بكر كان يقسم الخمس نحو قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، غير أنه لم يكن يعطي قربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان عمر يعطيهم منه وعثمان بعده، وقد استدل من قال: إن الامام يقسم الخمس حيث شاء بما أخرجه أبو داود وغيره من ضباعة بنت الزبير قالت: أصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبيا فذهبت أنا وأختي فاطمة نسأله فقال: سبقتكما يتامى بدر. وفي الصحيح: أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اشتكت ما تلقى من الرحا مما تطحن فبلغها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي بسبي فأتته تسأله خادما فذكر الحديث وفيه: ألا أدلكما على خير مما سألتما؟. فذكر الذكر عند النوم. قال إسماعيل القاضي: هذا الحديث يدل على أن للامام أن يقسم الخمس حيث يرى، لان الاربعة الاخماس استحقاق للغانمين، والذي يختص بالامام هو الخمس، وقمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ابنته وأعز الناس عليه من قرابته وصرفه إلى غيرهم. وقال بنحو ذلك الطبري والطحاوي. قال الحافظ: في الاستدلال بذلك نظر، لانه يحتمل أن يكون ذلك من الفئ. قوله: مما أفاء الله على رسوله قد تقدم الكلام في مصرف الفئ. وعن عوف بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أتاه الفئ قسمه في يومه فأعطى الآهل حظين وأعطى العزب حظا رواه أبو داود، وذكره أحمد في رواية أبي طالب وقال: حديث حسن. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما أعطيكم ولا أمنعكم أنا قاسم أضع حيث أمرت رواه البخاري، ويحتج به من لم ير الفئ ملكا له. وعن زيد بن أسلم: أن ابن عمر دخل على معاوية فقال: حاجتك يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: عطاء المحررين فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أول ما جاءه شئ بدأ بالمحررين رواه أبو داود حديث عوف بن مالك سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناده
[ 233 ]
ثقات، وزاد ابن المصنف: فدعينا وكنت أدعى قبل عمار، فدعيت فأعطاني حظين وكان لي أهل، ثم دعا بعدي عمار بن ياسر فأعطي حظا واحدا. وحديث زيد بن أسلم سكت عنه أيضا أبو داود والمنذري، وفي إسناده هشام بن سعد وفيه مقال. قوله: فأعطى الآهل أي من له أهل يعني زوجة. وفيه دليل على أنه ينبغي أن يكون العطاء على مقدار أتباع الرجل الذي يلزم نفقتهم من النساء وغيرهن، إذ غير الزوجة مثلها في الاحتياج إلى المؤنة. قوله: ما أعطيكم الخ، فيه دليل على التفويض، وأن النفع لا تأثير فيه لاحد سوى الله جل جلاله. والمراد بقوله: أضع حيث أمرت إما الامر الالهامي أو الامر الذي طريقه الوحي. وقد استدل به من لم يجعل الفئ ملكا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد تقدم تفصيل ذلك. قوله: عطاء المحررين جمع محرر وهو الذي صار حرا بعد أن كان عبدا، وفي ذلك دليل على ثبوت نصيب لهم في الاموال التي تأتي إلى الائمة، وأما نصيبهم من الزكاة فقد تقدم الكلام فيه. وقد أخرج أبو داود من حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي بظبية فيها خرز فقسمها للحرة والامة قالت عائشة: كان أبي يقسم للحر والعبد. قوله: بدأ بالمحررين فيه استحباب البداءة بهم وتقديمهم عند القسمة على غيرهم. وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لو قد جاءني مال البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا فلم يجئ حتى قبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما جاء مال البحرين أمر أبو بكر مناديا فنادى: من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دين أو عدة فليأتنا، فأتيته فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لي كذا وكذا، فحثى لي حثية وقال: عدها فإذا هي خمسمائة، فقال: خذ مثليها متفق عليه. وعن عمر بن عبد العزيز أنه كتب أن من سأل عن مواضع الفئ فهو ما حكم فيه عمر بن الخطاب، فرآه المؤمنون عدلا موافقا لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل الله الحق على لسان عمر وقلبه، فرض الاعطية وعقد لاهل الاديان ذمة بما فرض الله عليهم من الجزية، ولم يضرب فيها بخمس ولا مغنم رواه أبو داود. حديث عمبن عبد العزيز فيه راو مجهول وأيضا فيه انقطاع، لان عمر بن عبد العزيز لم يدرك عمر بن الخطاب والمرفوع منه مرسل. وقد أخرج أبو داود من طريق أبي ذر
[ 234 ]
رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن الله تعالى وضع الحق على لسان عمر يقول به أخرجه أيضا ابن ماجة وفي إسناده محمد بن إسحاق وفيه مقال مشهور وقد تقدم. قوله: مال البحرين هو من الجزية، وقد قال ابن بطال: يحتمل أن يكون من الخمس أو من الفئ. وفي البخاري في باب الجزية: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها أي بجزية أهلها وكان الغالب أنهم إذ ذاك مجوس. وقد ترجم النسائي على هذا الحديث باب أخذ الجزية من المجوس. وذكر ابن سعد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد قسمة الغنائم بالجعرانة أرسل العلاء إلى المنذر بن ساوي عامل الفرس على البحرين يدعوه إلى الاسلام فأسلم وصالح مجوس تلك البلاد على الجزية. قوله: أمر أبو بكر مناديا ينادي قال الحافظ: لم أقف على اسمه ويحتمل أن يكون بلالا. قوله: فحثى لي بالمهملة والمثلثة. قوله: حثية الخ، في رواية للبخاري: فحثى لي ثلاثا وفي رواية له: وجعل سفيان يحثو بكفيه وهذا يقتضي أن الحثية ما يؤخذ باليدين جميعا، والذي قاله أهل اللغة أن الحثية ما تملا الكف، والحفنة ماتملا الكفين، ثم ذكر أبو عبيد الهروي أن الحثية والحفنة بمعنى، والحثية من حثى يحثي، ويجوز حثوة من حثا يحثو وهما لغتان. قوله: قد جعل الله الحق على لسان عمر فيه منقبة ظاهرة لعمر. قوله: ولم يضرب فيها بخمس فيه دليل على عدم وجوب الخمس في الجزية، وفي ذلك خلاف معروف في الفقه. وعن مالك بن أوس قال كان عمر يحلف على أيمان ثلاث: والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد، وما أنا أحق به من أحد، ووالله ما من المسلمين أحد إلا وله في هذا المال نصيب إلا عبدا مملوكا، ولكنا على منازلنا من كتاب الله، وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فالرجل وبلاؤه في الاسلام، والرجل وقدمه في الاسلام، والرجل وغناؤه في الاسلام، والرجل وحاجته، ووالله لئن بقيت لهم لاوتين الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال وهو يرعى مكانه رواه أحمد في مسنده. [ رح 3498 ] وعن عمر أنه قال يوم الجابية وهو يخطب الناس: إن الله عزوجل جعلني خازنا لهذا المال وقاسما له، ثم قال: بل الله قاسمه، وأنا بادئ بأهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم أشرفهم، ففرض لازواج النبي صلى الله عليه وآله
[ 235 ]
وسلم عشرة آلاف إلا جويرية وصفية وميمونة، فقالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعدل بيننا فعدل بينهن عمر، ثم قال: إني بادئ بأصحابي المهاجرين الاولين فإنا أخرجنا من ديارنا ظلما وعدوانا، ثم أشرفهم ففرض لاصحاب بدر منهم خمسة آلاف، ولمن كان شهد بدر امن الانصار أربعة آلاف وفرض لمن شهد احدا ثلاثة آلاف قال: ومن أسرع في الهجرة أسرع به في العطاء، ومن أبطأ في الهجرة أبطئ به في العطاء، يلومن رجل إلا مناخ راحلته رواه أحمد. لاثر الاول أخرجه أيضا البيهقي، والاثر الآخر قال في مجمع الزوائد: رجال أحمد ثقات، والاثران فيهما أن عمر كان يفاضل في العطاء على حسب البلاء في الاسلام والقدم فيه والغناء والحاجة، ويفضل من شهد بدرا على غيره ممن لم يشهد، وكذلك من شهد أحدا، ومن تقدم في الهجرة. وقد أخرج الشافعي في الام أن أبا بكر وعليا ذهبا إلى التسوية بين الناس في القسمة، وأن عمر كان يفضل. وروى البزار والبيهقي من طريق أبي معشر عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: قدم على أبي بكر مال البحرين فقال: من كان له على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدة فليأت، فذكر الحديث بطوله في تسويته بين الناس في القسمة، وفي تفضيل عمر الناس على مراتبهم. وروى البيهقي من وجه آخر من طريق عيسى بن عبد الله الهاشمي عن أبيه عن جده قال: أتت عليا امرأتان فذكر القصة وفيها: أني نظرت في كتاب الله فلم أر فضلا لولد إسماعيل على ولد إسحاق. وروى البيهقي عن عثمان أيضا أنه كان يفاضل بين الناس كما كان عمر يفاضل. قوله: وما أنا أحق به من أحد فيه دليل على أن الامام كسائر الناس لا فضل له على غيره في تقديم ولا توفير نصيب. قوله: إلا عبدا مملوكا فيه دليل على أنه لا نصيب للعبد المملوك في المال المذكور، ولكن حديث عائشة المتقدم قريبا الذي أخرجه أبو داود عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتي بظبية فيها خرز فقسمها للحرة والامة وقول عائشة: أن أبا بكر كان يقسم للحر والعبد. ولا شك أن أقوال الصحابة لا تعارض المرفوع، فمنع العبيد اجتهاد من عمر، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أعطى الامة ولا فرق بينها وبين العبد، ولهذا كان أبو بكر يعطي العبيد. قوله: ولكنا على منازلنا من كتاب الله تعالى وقسمنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه إشعار بأن التفضيل لم يقع من عمر بمجرد الاجتهاد، وأنه فهم ذلك من الكتاب العزيز والسنة
[ 236 ]
النبوية. قوله: وغناؤه بالغين المعجمة وهو في الاصل الكفاية، فالمراد أن الرجل إذا كان له في القيام ببعض الامور ما ليس لغيره كان مستحقا للتفضيل. قوله: لئن بقيت لاؤتين الراعي فيه مبالغة حسنة، لان الراعي الساكن في جبل منقطع عن الحي في مكان بعيد إذا نال نصيبه فبالاولى أن يناله القريب من المتولي للقسمة، ومن كان معروفا من الناس ومخالطا لهم. قوله: يوم الجابية بالجيم وبعد الالف موحدة وهي موضع بدمشق على ما في القاموس وغيره. قوله: فإنا أخرجنا من ديارنا هو تعليل للبداءة بالمهاجرين الاولين، لان في ذلك مشقة عظيمة، ولهذا جعله الله قرينا لقتل الانفس، وكذلك في بعد العهد بالاوطان مشقة زائدة على مشقة من كان قريب العهد، والمهاجرون الاولون قد أصيبوا بالمشقتين فكانوا أقدم من غيرهم، ولهذا قال في آخر الكلام: ومن أسرع في الهجرة أسرع به في العطاء الخ. والمراد بقوله: فلا يلومن رجل إلا مناخ راحلته البيان لمن تأخر في العطاء بأنه أتى من قبل نفسه حيث تأخر عن المسارعة إلى الهجرة وأناخ راحلته ولم يهاجر عليها، ولكنه كنى بالمناخ عن القعود عن السفر إلى الهجرة، والمناخ بضم الميم كما في القاموس. وعن قيس بن أبي حازم قال: كان عطاء البدريين خمسة آلاف خمسة آلاف. وقال عمر: لافضلنهم على من بعدهم. وعن نافع مولى ابن عمر: أن عمر كان فرض للمهاجرين الاولين أربعة آلاف، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: هو من المهاجرين فلم نقصته من أربعة آلاف؟ قال: إنما هاجر به أبوه، يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه. وعن أسلم مولى عمر قال: خرجت مع عمر بن الخطاب إلى السوق فلحقت عمر امرأة شابة فقالت: يا أمير المؤمنين هلك زوجي وترك صبية صغارا، والله ما ينضجون كراعا ولا لهم زرع ولا ضرع، وخشيت أن تأكلهم الضبع، وأنا ابنة خفاف بن إيماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فوقف معها عمر ولم يمض وقال: مرحبا بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعير ظهير كان مربوطا في الدار فحمل عليه غرارتين ملاهما طعاما وجعل بينهما نفقة وثيابا ثم ناولها خطامه فقال: اقتاديه فلن يفنى هذا حتى يأتيكم الله بخير، فقال رجل: يا أمير المؤمنين أكثرت لها، فقال: ثكلتك أمك فوالله إني لارى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصنا زمانا فافتتحاه فأصبحنا نستفئ سهمانهما فيه أخرجهن البخاري. وعن محمد
[ 237 ]
بن علي: أن عمر لما دون الدواوين قال: بمن ترون أبدأ؟ قيل له: ابدأ بالاقرب فالاقرب بك، قال: بل أبدأ بالاقرب فالاقرب برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رواه الشافعي. قوله: لافضلنهم على من بعدهم فيه إشعار بمزية البدريين من الصحابة، وأنه لا يلحق بهم من عداهم وإن هاجر ونصر لحديث: إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وقد تقدم هذا الحديث وشرحه. قوله: إنما هاجر به أبوه فيه دليل على أن الهجرة التي يستحق بها كمال أجر الدين والدنيا وهي التي تكون باختيار وقصد لا مجرد الانتقال من المكان إلى المكان، فإن ذلك وإن كان هجرة في السورة والحقيقة لكن كمال الاجر يتوقف على ما قدمنا، ولهذا جعل عمر هجرة ابنه عبد الله كلا هجرة، وقال: إنما هاجر به أبوه، مع أنه قد كان مميزا وقت الهجرة. قوله: ما ينضجون بضم أوله ثم نون ثم ضاد معجمة ثم جيم، أي لم يبلغوا إلى سن من يقدر على الطبخ، ومع ذلك فليسوا بأهل أموال يستغنون بغلتها، ولا أهل مواش يعيشون بما يحصل من ألبانها وأدهانها وأصوافها. قوله: الضبع بضم الباء وسكونها هي مؤنثة اسم لسبع كالذئب معروف، ولكن ليس ذلك هو المراد هنا، إنما المراد السنة المجدبة، قال في القاموس: والضبع كرجل السنة المجدبة. قوله: خفاف بكسر الخاء المعجمة وفاءين خفيفتين بينهما ألف، وايماء بفتح الهمزة وكسرها والكسر أشهر وسكون الياء. قوله: فوقف معها عمر أي لم يجاوز المكان الذي سألته وهو فيه، بل وقف حتى سمع منها، ثم انصرف بعد ذلك لقضاء حاجتها. والمراد بالنسب القريب الذي يعرفه السامع بلا سرد لكثير من الآباء، وذلك إنما يكون في الاشراف المشاهير. قوله: وجعل بينهما نفقة أي دراهم، قال في القاموس: النفقة ما تنفقه من الدراهم ونحوها. قوله: ثكلتك أمك قال في القاموس: الثكل بالضم: الموت والهلاك وفقدان الحبيب أو الولد ويحرك، وقد ثكله كفرح، فهو ثاكل وثكلان، وهي ثاكل وثكلانة قليلة، وثكول وأثكلت لزمها الثكل فهي مثكل من مثاكيل انتهى. قوله: نستفئ قال في النهاية: أي نأخذها لانفسنا ونقتسمها. قوله: بل أبدأ بالاقرب فالاقرب برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه مشروعية البداءة بقرابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتقديمهم على غيرهم.
[ 238 ]
[ رم ] أبواب السبق والرمي باب ما يجوز المسابقة عليه بعوض عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر رواه الخمسة ولم يذكر فيه ابن ماجة أو نصل. وعن ابن عمر قال: سابق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الخيل فأرسلت التي ضمرت منها وأمدها الحفياء إلى ثنية الوداع، والتي لم تضمر أمدها ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق رواه الجماعة. وفي الصحيحين عن موسى بن عقبة: أن بين الحفياء إلى ثنية الوداع ستة أميال أو سبعة وللبخاري قال سفيان: من الحفياء إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة، ومن ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ميل. حديث أبي هريرة أخرجه أيضا الشافعي والحاكم من طرق، وصححه ابن القطان وابن حبان وابن دقيق العيد، وحسنه الترمذي، وأعله الدارقطني بالوقف، ورواه الطبراني وأبو الشيخ من حديث ابن عباس. قوله: لا سبق وهو بفتح السين والباء الموحدة مفتوحة أيضا ما يجعل للسابق على سبقه من جعل، قاله الخطابي وابن الصلاح. وحكى ابن دقيق العيد فيه الوجهين، وقيل: هو بفتح السين وسكون الموحدة مصدر، وبفتحها الجعل وهو الثابت في كتب اللغة. وقوله: في خف كناية عن الابل والحافر عن الخيل. والنصل عن السهم أي ذي خف أو ذي حافر أو ذي نصل، والنصل حديدة السهم، وفيه دليل على جواز السباق علجعل، فإن كان الجعل من غير المتسابقين كالامام يجعله للسابق فهو جائز بلا خلاف، وإن كان من أحد المتسابقين جاز ذلك عند الجمهور كما حكاه الحافظ في الفتح وكذا إذا كان معهما ثالث محلل بشرط أن لا يخرج من عنده شيئا ليخرج العقد عن صورة القمار، وهو أن يخرج كل منهما سبقا، فمن غلب أخذ السبقين فإن هذا مما وقع الاتفاق على منعه، كما حكاه الحافظ في الفتح. ومنهم من شرط في المحلل أن يكون لا يتحقق السبق، وهكذا وقع الاتفاق على جواز المسابقة بغير عوض، لكن قصرها مالك والشافعي على
[ 239 ]
الخف والحافر والنصل، وخصه بعض العلماء بالخيل، وأجازه عطاء فكل شئ. وقد حكي في البحر عن أبي حنيفة أن عقد المسابقة على مال باطل. وحكي عن مالك أيضا أنه لا يجوز أن يكون العوض من غير الامام. وحكي أيضا عن مالك وابن الصباغ وابن خيران أنه لا يصح بذل المال من جهتهما وإن دخل المحلل. وروي عن أحمد بن حنبل أنه لا يجوز السبق على الفيلة. وروي عن الامام يحيى وأصحاب الشافعي أنه يجوز على الاقدام مع العوض. وذكر في البحر أن شروط صحة العقد خمسة، الاول: كون العوض معلوما. الثاني: كون المسابقة معلومة الابتداء والانتهاء. الثالث: كون السبق بسكون الموحدة معلوما يعني المقدار الذي يكون من سبق به مستحقا للجعل. الرابع: تعيين المركوبين. الخامس: إمكان سبق كل منهما فلو علم عجز أحدهما لم يصح إذا القصد الخبرة. قوله: ضمرت لفظ البخاري: التي أضمرت والتي لم تضمر بسكون الضاد المعجمة، والمراد به أن تعلف الخيل حتى تسمن وتقوى، ثم يقلل علفها بقدر القوت وتدخل بيتا وتغشى بالجلال حتى يحمى فتعرق، فإذا جف عرقها خف لحمها وقيت على الجري، هكذا في الفتح، وذكر مثل معناه في النهاية، وزاد في الصحاح: وذلك في أربعين يوما. قوله: الحفياء بفتح المهملة وسكون الفاء بعدهم تحتانية ثم همزة ممدودة ويجوز القصر، وحكى الحازمي تقديم التحتانية على الفاء، وحكى عياض ضم أوله وخطأه. قوله: ثنية الوداع هي قريب المدينة، سميت بذلك، لان المودعين يمشون مع حاج المدينة إليها. قوله: زريق بتقديم الزاي. (والحديث) فيه مشروعية المسابقة وأنها ليست من العبث، بل من الرياضة المحمودة الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو والانتفاع بها عند الحاجة، وهي دائرة بين الاستحباب والاباحة بحسب الباعث على ذلك. قال القرطبي: لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب وعلى الاقدام، وكذا الرمي بالسهام واستعمال الاسلحة لما في ذلك من التدرب على الجري، وفيه جواز تضمير الخيل، وبه يندفع قول من قال: إنه لا يجوز لما فيه من مشقة سوقها، ولا يخفى اختصاص ذلك بالخيل المعدة للغزو. وفيه مشروعية الاعلام بالابتداء والانتهاء عند المسابقة. عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبق بالخيل وراهن. وفي لفظ: سبق بين الخيل وأعطى السابق رواهما أحمد. وعنابن عمر: أن النبي صلى
[ 240 ]
الله عليه وآله وسلم سبق بين الخيل وفضل القرح في الغاية رواه أحمد وأبو داود. وعن أنس: وقيل له: أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ أكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يراهن؟ قال: نعم والله لقد راهن على فرس يقاله سبحة فسبق الناس فبهش لذلك وأعجبه رواه أحمد. وعن أنس قال: كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ناقة تسمى العضباء وكانت لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين وقالوا: سبقت العضباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه رواه أحمد والبخاري. حديث ابن عمر الاول أخرجه أيضا ابن أبي عاصم من حديث نافع عنه وقوي إسناده الحافظ. وقال في مجمع الزوائد: رواه أحمد بإسنادين رجال أحدهما ثقات، ويشهد له ما أخرجه ابن حبان وابن أبي عاصم من حديث ابن عمر بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سابق بين الخيل وجعل بينهما سبقا وفي إسناده عاصم بن عمر وهو ضعيف، وقد اضطرب فيه رأي ابن حبان فصحح حديثه تارة، وقال في الضعفاء: لا يجوز الاحتجاج به. وقال في الثقات: يخطئ ويخالف. وحديث ابن عمه الثاني سكت عنه أبو داود والمنذري وصححه ابن حبان. وحديث الاول قال في مجمع الزوائد: رجال أحمد ثقات، وأخرجه أيضا الدارمي والدارقطني والبيهقي من حديث أبي لبيد قال: أتينا أنس بن مالك، وأخرج نحوه البيهقي من طريق سليمان بن حزم عن حماد بن زيد أو سعيد بن زيد عن واصل مولى أبي عتبة قال: حدثني موسى بن عبيقال: كنا في الحجر بعدما صلينا الغداة، فلما أسفرنا إذا فينا عبد الله بن عمر فجعل يستقربنا رجلا رجلا ويقول: صليت يا فلان؟ حتى قال: أين صليت يا أبا عبيد؟ فقلت: ههنا، فقال: بخ بخ ما يعلم صلاة أفضل عند الله من صلاة الصبح جماعة يوم الجمعة، فسألوه أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم لقد راهن على فرس يقال لها سبحة فجاءت سابقة. قوله: سبق بفتح السين المهملة وتشديد الموحدة بعدها قاف. قوله: وفضل القرح بالقاف مضمومة وتشديد الراء بعدها حاء مهملة جمع قارح وهو ما كملت سنه كالبازل من الابل. قوله: سبحة بفتح المهملة وسكون الموحدة
[ 241 ]
حاء مهملة هو من قولهم: فرس سباح إذا كاحسن مد اليدين في الجري. قوله: فبهش بالباء الموحدة والشين المعجمة أي هش وفرح، كذا في التلخيص. قوله: تسمى العضباء بفتح العين المهملة وسكون الضاد المعجمة ومد، وقد تقدم ضبطها وتفسيرها غير مرة. قوله: وكانت لا تسبق زاد البخاري قال حميد: أو لا تكاد تسبق؟ شك منه وهو موصول بإسناد الحديث المذكور كما قال الحافظ. قوله: فجاء أعرابي قال الحافظ: لم أقف على اسم هذا الاعرابي بعد التتبع الشديد. قوله: على قعود بفتح القاف وهو ما استحق الركوب من الابل. وقال الجوهري: هو البكر حتى يركب، وأقل ذلك أن يكون ابن سنتين إلى أن يدخل في السادسة فيسمى جملا. وقال الازهري: لا يقال إلا للذكر، ولا يقال للانثى قعودة وإنما يقال لها قلوص. قال: وقد حكى الكسائي في النوادر قعودة للقلوص وكلاالاكثر على غيره. وقال الخليل: القعودة من الابل ما يقتعده الراعي لحمل متاعه والهاء فيه للمبالغة. قوله: أن لا يرفع شيئا الخ، في رواية موسى بن إسماعيل: أن لا يرتفع وكذلك في رواية للبخاري، وفي رواية للنسائي: أن لا يرفع شئ نفسه في الدنيا. وفي الحديث اتخاذ الابل للركوب والمسابقة عليها، وفيه التزهيد في الدنيا للاشارة إلى أن كل شئ منها لا يرتفع إلا اتضع، وفيه حسن خلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتواضعه. باب ما جاء في المحلل وآداب السبق عن أبي هريرة أالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من أدخل فرسا بين فرسين وهو لا يأمن أن يسبق فلا بأس، ومن أدخل فرسا بين فرسين وهو آمن أن يسبق فهو قمار رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وعن رجل من الانصار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الخيل ثلاثة: فرس يربطه الرجل في سبيل الله فثمنه أجر، وركوبه أجر، وعاريته أجر، وعلفه أجر. وفرس يغالق فيه الرجل ويراهن فثمنه وزر، وعلفه وزر، وركوبه وزر. وفرس للبطنة فعسى أن يكون سدادا من الفقر إن شاء الله. وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: الخيل ثلاثة: فرس للرحمن، وفرس للانسان وفرس للشيطان. فأما فرس الرحمن فالذي
[ 242 ]
يرتبط في سبيل الله فعلفه وروثه وبوله وذكر ما شاء الله. وأما فرس الشيطان فالذي يقامر أو يراهن عليه. وأما فرس الانسان فالفرس يرتبطه الانسان يلتمس بطنها فهي ستر فقر رواهما أحمد ويحملان على المراهنة من الطرفين. حديث أبي هريرة أخرجه أيضا الحاكم وصححه، والبيهقي وابحزم وصححه. وقال الطبراني في الصغير: تفرد به سعيد بن بشير عن قتادة عن سعيد بن المسيب، وتفرد به عنه الوليد، وتفرد به عنه هشام بن خالد. ورواه أيضا أبو داود عن محمود بن خالد عن الوليد لكنه أبدل قتادة بالزهري. ورواه أبو داود وغيره ممن تقدم من طريق سفيان بن حسين عن الزهري، وسفيان ضعيف في الزهري، وقد رواه معمر وشعيب وعقيل عن الزهري عن رجال من أهل العلم. كذا قال أبو داود وقا: هذا أصح عندنا. وقال أبو حاتم: أحسن أحواله أن يكون موقوفا على سعيد بن المسيب. فقد رواه يحيى بن سعيد عنه، وهو كذلك في الموطأ عن سعيد من قوله. وقال ابن أبي خيثمة: سألت ابن معين فقال: هذا باطل وضرب على أبي هريرة. وحكى أبو نعيم في الحلية أنه من حديث الوليد عن سعيد بن عبد العزيز. قال الدارقطني: والصواب سعيد بن بشير كما عند الطبراني والحاكم. وحكى الدارقطني في العلل أن عبيد بن شريك رواه عن هشام بن عمار عن الوليد عن سعيد بن بشير عن قتادة عن ابن المسيب عن أبي هريرة وهو وهم أيضا. فقد رواه أصحاب هشام عنه عن الوليد عن سعيد عن الزهري. قال الحافظ: وقد رواه عبدان عن هشام أخرجه ابن عدي مثل ما قال عبيد وقال: إنه غلط، قال: فتبين بهذا أن الغلط فيه من هشام وذلك أنه تغير حفظه. وأما حديث الرجل من الانصار وكذلك حديث ابن مسعود فقال في مجمع الزوائد: إن حديث الرجل من الانصار رجال أحمد فيه رجال الصحيح. وحديث ابن مسعود قال أيضا: رجال أحمد ثقات، وقد تقدم ما يشهد لهما في أوائل كتاب الزكاة. قوله: وهو لا يأمن أن يسبق استدل به من قال: إنه يشترط في المحلل أن لا يكون متحقق السبق وإلا كان قمارا. وقيل: إن الغرض الذي شرع له السباق هو معرفة الخيل السابق منها والمسبوق، فإذا كان السابق معلوما، فات الغرض الذي شرع لاجله. قوله: الخيل ثلاثة الخ، قد سبق شرحه وشرح ما بعده في كتاب الزكاة. وقوله: يغالق بالغين المعجمة والقاف من المغالقة. قال في القاموس: المغالقة المراهنة فيكون
[ 243 ]
قوله: ويراهن عطف بيان، وهو محمول على المراهنة المحرمة كما سبق تحقيقه. قوله: وفرس للبطنة قال في القاموس: أبطن البعير شد بطانه كبطنه، فلعل المراد هنا الفرس الذي يتخذ للركوب. وتقدم في كتاب الزكاة تقسيم الخيل إلى ثلاثة أقسام: منها الخيل المعدة للجهاد وهي الاجر. ومنها الخيل المتخذة أشرا وبطرا وهي الوزر. ومنها الخيل المتخذة تكرما وتجملا وهي الستر. فيمكن أن يكون المراد بالفرس التي للبطنة المذكورة هنا هو المتخذ للتكرم والتجمل. ويؤيد ذلك قوله في حديث ابن مسعود المذكور في الباب. وأما فرس الانسان فالفرس الذي يرتبطه الانسان يلتمس بطنها. ويمكن أن يكون المراد ما يتخذ من الافراس للنتاج. قال في النهاية: رجل ارتبط فرسا ليستبطنها أي يطلب ما في بطنها من النتاج. قوله: فالذي يقامر أو يراهن عليه قال في القاموس: قامره مقامرة وقمارا فقمره كنصره وتقمره راهنه فغلبه، فيكون على هذا قوله: أو يراهن عليه شكا من الراوي. قوله: ويحملان على المراهنة من الطرفين أي بأن يكون الجعل المسابق من المسبوق من غير تعيين. وعن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قال: لا جلب ولا جنب يوم الرهان رواه أبو داود. وعن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا جلب ولا جنب ولا شغار في الاسلام رواه أحمد. [ رح 3514 ] وروي عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: يا علي قد جعلت إليك هذه السبقة بين الناس، فخرج علي فدعا سراقة بن مالك فقال: يا سراقة إني قد جعلت إليك ما جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عنقي من هذه السبقة في عنقك فإذا أتيت الميطان، قال أبو عبد الرحمن: والميطان مرسلها من الغاية، فصف الخيل ثم ناد: هل من مصلح للجام أو حامل لغلام أو طارح لجل؟ فإذا لم يجبك أحد فكبر ثلاثا ثم خلها عند الثالثة يسعد الله بسبقه من شاء من خلقه، وكان علي يقعد عند منتهى الغاية ويخط خطا ويقيم رجلين متقابلين عند طرف الخط طرفه بين إبهامي أرجلهما وتمر الخيل بين الرجلين، ويقول إذا خرج أحد الفرسين على صاحبه بطرف أذنيه أو أذن أو عذار: فاجعلوا السبقة له فإن شككتما فاجعلا سبقهما نصفين، فإذا قرنتم ثنتين فاجعلوا الغاية من غاية أصغر الثنتين، ولا جلب ولا جنب ولا شغار في الاسلام رواه الدارقطني.
[ 244 ]
حديث عمران بن حصين قد تقدم في كتاب الزكاة وزيادة يوم الرهان انفرد بها أبو داود. وحديث ابن عمر هو من طريق حميد عن الحسن عنه. وقد تقدم بيان ذلك وبيان ما في الباب من الاحاديث في الزكاة. (وفي الباب) عن ابن عباس مرفوعا: ليس منا من أجلب على الخيل يوم الرهان رواه أبو يعلى بإسناد صحيح. وعنه أيضا حديث آخر بلفظ: لا جلب في الاسلاأخرجه الطبراني وفيه أبو شيبة وهو ضعيف. وعن أنس مرفوعا عند الطبراني بإسناد صحيح: لا شغار في الاسلام ولا جلب ولا جنب وتقدم أيضا هنالك تفسير الجلب والجنب. والمراد بالجلب في الرهان أو يأتي برجل يجلب على فرسه أي يصيح عليه حتى يسبق. والجنب أن يجنب فرسا إلى فرسه حتى إذا فتر المركوب تحول إلى المجنوب. وقال ابن الاثير: له تفسيران، ثم ذكر معنى في الرهان ومعنى في الزكاة كما سلف وتبعه المنذري في حاشيته. والرهان المسابقة على الخيل كما في القاموس، والشغار بالشين والغين معجمتين قد تقدم تفسيره في النكاح. وحديث علي أخرجه البيهقي بإسناد الدارقطني وقال: هذا إسناد ضعيف. قوله: هذه السبقة بضم السين المهملة وسكون الموحدة بعدها قاف هو الشئ الذي يجعله المتسابقان بينهما يأخذه من سبق منهما. قال في القاموس: السبقة بالضم الخطر يوضع بين أهل السباق، الجمع أسباق. قوله: فإذا أتيت الميطان بكسر الميم. قال في القاموس: والميطان بالكسر الغاية. قوله: فصف الخيل هي خيل الحلبة. قال في القاموس: الحلبة بالفتح الدفعة من الخيل في الرهان وخيل تجتمع للسباق من كل أوب. قال الجوهري: ترتيبها المجلي، ثم المصلي، ثم المسلي، ثم التالي، ثم العاطف، ثم المرتاح، ثم المؤمل، ثم الحظي، ثم اللطيم، ثم السكيت. قال في النهاية: وسمي المصلي، لان رأسه عند صلا السابق وهو ما عن يمين الذنب وشماله. قال القتيبي: والسكيت مخفف ومشدد وهو بضم السين. قال في الكفاية: والمحفوظ المجلي والمصلي والسكيت وباقي الاسماء محدثة انتهى. وقد تعرض بعض الشعراء لضبطها نظما في أبيات منها: [ شع ] شهدنا الرهان غداة الرهان بمجمعه ضمها الموسم [ / شع ] [ شع ] فجلى الاغر وصلى الكميت وسلى فلم يذمم الادهم [ / شع ] [ شع ] وجاء اللطيم لها تالياومن كل ناحية يلطم
[ 245 ]
[ / شع ] وغاب عني بقية النظم وضبطها بعضهم فقال: [ شع ] سبق المجلي والمصلي بعده ثم المسلي بعد والمرتاح [ / شع ] [ شع ] ولعاطف ولحظيها ومؤمل ولطيمها وسكيتها إيضاح [ / شع ] [ شع ] والعاشر المنعوت منها فسكل فافهم هديت فما عليك جناح [ / شع ] وجمعها أيضا الامام المهدي فقال: [ شع ] مجل مصل مسل لها ومرتاح عاطفها والحظي [ / شع ] [ شع ] ومسحنفر ومؤملها وبعد اللطيم السكيت البطي [ / شع ] قوله: ثم ناد الخ، فيه استحباب التأني قبل إرسال خيل الحلبة وتنبيههم على إصلاح ما يحتاج إلى إصلاحه، وجعل علامة على الارسال من تكبير أو غيره، وتأمير أمير يفعل ذلك. قوله: يسعد الله بسبقه الخ، فيه أن السباق حلال، وقد تقدم البحث عن ذلك. قوله: ويخط خطا الخ، فيه مشروعية التحري في تبيين الغاية التي جعل السباق إليها لما يلزم من عدم ذلك من الاختلاف والشقاق والافتقار. قوله: بطرف أذنيه الخ، فيه دليل على أن السبق يحصل بمقدار يسير من الفرس كطرف الاذنين أو طرف أذن واحدة. قوله: فإن شككتما إلخ، فيه جواز قسمة ما يراهن عليه المتسابقون عند الشك في السابق. قوله: فإذا قرنتم ثنتين أي إذا جعل الرهان بين فرسين من جانب وفرسين من الجانب الآخر فلا يحكم لاحد المتراهنين بالسبق بمجرد سبق أكبر الفرسين إذا كانت إحداهما صغرى والاخرى كبرى بل الاعتبار بالصغرى. باب الحث على الرمي عن سلمة بالاكوع قال: مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نفر من أسلم ينتضلون بالسوق فقال: ارموا يا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا، ارموا وأنا مع بني فلان، قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما لكم لا ترمون؟ قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال: قوله: ينتضلون بالضاد المعجمة أي ارموا وأنا معكم كلكم رواه أحمد والبخاري.
[ 246 ]
قوله ينتضلون باضاد الكعجمة أي يترامون. والنضال الترامي للسبق، ونضل فلان فلانا إذا غلبه. قال في القاموس: ناضله مناضلة ونضالا وتنضالا باراه في الرمي، ونضلته سبقته فيه. قوله: وأنا مع بني فلان في حديث أبي هريرة عند ابن حبان والبزار في مثل هذه القصة: وأنا مع ابن الادرع اه. واسم ابن الادرع محجن. وعند الطبراني من حديث حمزة بن عمرو الاسلمي في هذا الحديث: وأنا مع محجن بن الادرع وقيل: اسمه سلمة حكاه ابن مندة. قال: والادرع لقب واسمه ذكوان. قوله: قالوا كيف نرمي وأنت معهم؟ ذكر ابن إسحاق في المغازي عن سفيان بن فروة الاسلمي عن أشياخ من قومه من الصحابة قال: بينا محجن بن الادرع يناضل رجلا من أسلم يقال له نضلة فذكر الحديث وفيه: فقال نضلة وألقى قوسه من يده: والله لا أرمي معه وأنت معه. قوله: وأنا معكم كلكم بكسر اللام تأكيد للضمير. وفي رواية، وأنا مع جماعتكم. والمراد بالمعية معية القصد إلى الخير. ويحتمل أن يكون قام مقام المحلل فيخرج السبق من عنده أو لا يخرج وقد خصه بعضهم بالامام. وفي رواية للطبراني أنهم قالوا: من كنت معه فقد غلب. وكذا في رواية ابن إسحاق فهذه هي علة الامتناع. (وفي الحديث) الندب إلى اتباع خصال الآباء المحمودة والعمل بمثلها، وفيه أيضا حسن أدب الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحسن خلقه معهم والتنويه بفضيلة الرمي. وعن عقبة بن عامر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي. وعنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من علم الرمي ثم تركه فليس منا رواهما أحمد ومسلم. قوله: ألا إن القوة الرمي قال القرطبي: إنما فسر القوة بالرمي، وإن كانت القوة تظهر بإعداد غيره من آلات الحرب لكون الرمي أشد نكاية في العدو وأسهل مؤنة له، لانه قد يرمي رأس الكتيبة فيصاب فينهزم من خلفه اه. وكرر ذلك للترغيب في تعلمه وإعداد آلاته. وفيه دليل على مشروعية الاشتغال بتعليم آلات الجهاد والتمرن فيها والعناية في إعدادها ليتمرن بذلك على الجهاد ويتدرب فيه ويروض أعضاءه. قوله: فليس منا قد تقدم الكلام على تأويل مثل هذه العبارة
[ 247 ]
في مواضع. وفي ذلك إشعار بأن من أدرك نوعا من أنواع القتال التي ينتفع بها في الجهاد في سبيل الله ثم تساهل في ذلك حتى تركه كان آثما شديدا، لان ترك العناية بذلك يدل على ترك العناية بأمر الجهاد، وترك العناية بالجهاد يدل على ترك العناية بالدين لكونه سنامه وبه قام. وعنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير، والذي يجهز به في سبيل الله، والذي يرمي به في سبيل الله. وقال: ارموا واركبوا، فإن ترموا خير لكم من أن تركبوا. وقال: كل شئ يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثا: رميه عن قوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله فإنهن من الحق رواه الخمسة. وعن علي عليه السلام قال: كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوس عربية فرأى رجلا بيده قوس فارسية فقال: ما هذه ألقها وعليك بهذه وأشباهها ورماح القنا فإنهما يؤيد الله بهما في الدين ويمكن لكم في البلاد رواه ابن ماجة. وعن عمرو بن عبسة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر رواه الخمسة وصححه الترمذي. ولفظ أبي داود: من بلغ العدو بسهم في سبيل الله فله درجة. وفي لفظ للنسائي: من رمى بسهم في سبيل الله بلغ العدو أو لم يبلغ كان له كعتق رقبة. الحديث الاول في إسناده خالد بن زيد أو ابن يزيد وفيه مقال وبقية رجاله ثقات. وقد أخرجه الترمذي وابن ماجة من غيطريقه. وأخرجه أيضا ابن حبان، وزاد أبو داود: ومن ترك الرمي بعدما علمه فإنهنعمة تركها. وحديث علي في إسناده أشعث بن سعيد السمان أبو الربيع النضري وهمتروك. وقد ورد في الترغيب في الرمي أحاديث كثيرة غير ما ذكره المصنف رحمه الله. منها ما أخرجه صاحب مسند الفردوس من طريق ابن أبي الدنيا بإسناده عن مكحول عن أبي هريرة رفعه: تعلموا الرمي فإن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنوفي إسناده ضعف وانقطاع. وأخرج البيهقي من حديث جابر: وجبت محبتي على من سعى بين الغرضين. وأخرج الطبراني عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من مشى بين الغرضين كان له بكل خطوة حسنة. وروى البيهقي من حديث أبي رافع: حق الولد على
[ 248 ]
الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرمي وإسناده ضعيف. قوله: يدخل بالسهم الواحد الخ، فيه دليل على أن العمل في آلات الجهاد وإصلاحها وإعدادها كالجهاد في استحقاق فاعله الجنة، ولكن بشرط أن يكون ذلك لمحض التقرب إلى الله بإعانة المجاهدين، ولهذا قال: الذي يحتسب في صنعته الخير. وأما من يصنع ذلك لما يعطاه من الاجرة فهو من المشغولين بعمل الدنيا لا بعمل الآخرة، نعم يثاب مع صلاح النية كمن يعمل بالاجرة التي يستغني بها عن الناس أو يعول بها قرابته، ولهذا ثبت في الصحيح أن الرجل يؤجر حتى على اللقمة يضعها في فم امرأته. قوله: والذي يجهز به في سبيل الله أي الذي يعطي السهمجاهدا يجاهد به في سبيل الله. قوله: فإن ترموا خير لكم الخ، فيه تصريح بأالرمي أفضل من الركوب، ولعل ذلك لشدة نكايته في العدو في كل موطن يقوم فيه القتال وفي جميع الاوقات، بخلاف الخيل فإنها لا تقابل إلا في المواطن التي يمكن فيها الجولان، دون المواضع التي فيها صعوبة لا تتمكن الخيل من الجريان فيها، وكذلك المعاقل والحصون. قوله: كل شئ يلهو به ابن آدم فهو باطل الخ، فيه أن ما صدق عليه مسمى اللهو داخل في حيز البطلان إلا تلك الثلاثة الامور فإنها وإن كانت في صورة اللهو فهي طاعات مقربة إلى الله عزوجل مع الالتفات إلى ما يترتب على ذلك الفعل من النفع الديني. قوله: ما هذه ألقها فيه دليل على كراهة القوس العجمية واستحباب ملازمة القوس العربية للعلة التي ذكرها صلى الله عليه وآله وسلم من أن الله يؤيد بها وبرماح القنا الدين ويمكن للمسلمين في البلاد، وقد كان ذلك، فإن الصحابة رضي الله عنهم فتحوا أراضي العجم كالروم وفارس وغيرهما ومعظم سلاحهم تلك السهام والرماح. قوله: فهو عدل محرر أي محرر من رق العذاب الواقع على أعداء الدين أو عدل ثواب محرر من الرق أي ثواب من أعتق عبدا. قوله: بلغ العدو أو لم يبلغ في هذا دليل على أن الاجر يحصل لمن رمى بسهم في سبيل الله بمجرد الرمي، سواء أصاب بذلك السهم أو لم يصب، وسواء بلغ إلى جيش العدو أو لم يبلغ، تفضلا من الله جل جلاله على عباده لجلالة هذه القربة العظيمة الشأن التي هي لاصل الاسلام أعظم أس وبنيان.
[ 249 ]
باب النهي عن صبر البهائم وإخصائها والتحريش بينها ووسمها في الوجه عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا. وعن أنس: أنه دخل دار الحكم بن أيوب فإذا قوم قد نصبوا دجاجة يرمونها فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تصبر البهائم متفق عليهما. وعنابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا رواه الجماعة إلا البخاري. وعن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن إخصاء الخيل والبهائم، ثم قا ابن عمر: فيها نماء الخلق رواه أحمد. وعن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن التحريش بين البهائم رواه أبو داود والترمذي. وعن جابقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ضرب الوجه وعن وسم الوجه رواه أحمد ومسلم والترمذي وصححه. وفي لفظ: مر عليه بحمار قد وسم في وجهه فقال: لعن الله الذي وسمه رواه أحمد ومسلم. وفي لفظ: مر عليه بحمار قد وسم في وجهه فقال: أما بلغكم أني لعنت من وسم البهيمة في وجهها أو ضربها في وجهها؟ ونهى عن ذلك رواه أبو داود. وعن ابن عباس قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حمارا موسوم الوجه فأنكر ذلك قال: فوالله لا أسمه إلا في أقصى شئ من الوجه، وأمر بحماره فكوي في جاعرتيه فهو أول من كوى الجاعرتين رواه مسلم. حديث ابن عمر الثاني في إسناده عبد الله بن نافع وهو ضعيف. وأخرج البزار بإسناد صحيح محديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن صبر الروح وعن إخصاء البهائم نهيا شديدا حديث ابن عباس الثاني في إسناده أبويحيى القتات وهو ضعيف. قوله: لعن من اتخذ شيئا فيه الروح غرضا الغرض بفتح الغين المعجمة والراء وهو المنصوب للرمي، واللعن دليل على التحريم. قوله: أن تصبر البهائم بضم أوله أي تحبس لترمى حتى تموت، وأصل الصبر الحبس،
[ 250 ]
قال النووي: قال العلماء: صبر البهائم أن تحبس وهي حية لتقتل بالرمي ونحوه وهو معنى: لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا، أي لا تتخذوا الحيوان الحي غرضا ترمون إليه كالغرض من الجلود وغيرها. وهذا النهي للتحريم، ويدل على ذلك ما ورد من لعن من فعل ذلك كما في حديث ابن عمرو لان الاصل في تعذيب الحيوان وإتلاف نفسه وإضاعة المال التحريم. قوله: دجاجة بفتح الدال المهملة. وفي القاموس: والدجاجة معروف للذكر والانثى وتثلث، وهذه الرواية مفسرة لما وقع في صحيح مسلم بلفظ: نصبوا طيرا. قوله: عن إخصاء الخيل الاخصاء سل الخصية، قال في القاموس: وخصاه خصيا سل خصيته. وفيه دليل على تحريم خصي الحيوانات، وقول ابن عمر فيها نماء الخلق أي زيادته إشارة إلى أن الخصي مما تنمو به الحيوانات، ولكن ليس كل ما كان جالبا لنفع يكون حلالا، بل لا بد من عدم المانع وإيلام الحيوان ههنا مانع لانه إيلام لم يأذن به الشارع بل نهى عنه. قوله: عن التحريش بين البهائم قال في القاموس: التحريش الاغراء بين القوم أو الكلاب اه. فجعله مختصا ببعض الحيوانات. وظاهر الحديث أن الاغراء بين ما عدا الكلاب من البهائم يقال له تحريش. ووجه النهي أنه إيلام للحيوانات وإتعاب له بدون فائدة بل مجرد عبث. قوله: وعن وسم الوجه الوسم بفتح الواو وسكون المهملة كذا قال القاضي عياض. قال النووي: وهو الصحيح المعروف في الروايات وكتب الحديث. قال القاضي عياض: وبعضهم يقوله بالمهملة وبالمعجمة، وبعضهم فرق فقال بالمهملة في الوجه وبالمعجمة في سائر الجسد. (وفيه دليل) على تحريم وسم الحيوان في وجهه وهو معنى النهي حقيقة. ويؤيد ذلك اللعن الوارد لمن فعل ذلك كما في الرواية المذكورة في حديث الباب فإنه لا يلعن صلى الله عليه وآله وسلم إلا من فعل محرما وكذلك ضرب الوجه. قال النووي: وأما الضرب في الوجه فمنهي عنه في كل الحيوان المحترم من: الآدمي والحمير والخيل والابل والبغال والغنم وغيرها، لكنه في الآدمي أشد، لانه مجمع المحاسن، مع أنه لطيف يظهر فيه أثر الضرب، وربما شانه، وربما آذى بعض الحواس. قال: وأما الوسم في الوجه فمنهي عنه بالاجماع للحديث ولما ذكرناه، فأما الآدمي فوسمه حرام: لكرامته، ولانه لا حاجة إليه ولا يجوز تعذيبه، وأما غير الآدمي فقال جماعة من أصحابنا يكره. وقال البغوي من أصحابنا
[ 251 ]
لا يجوز، فأشار إلى تحريمه وهو الاظهر: لان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعن فاعله واللعن يقتضي التحريم. وأما وسم غير الوجه من غير الآدمي فجائز بلا خلاف عندنا، لكن يستحب في نعم الزكاة والجزية ولا يستحب في غيرها ولا ينهى عنه. قال أهل اللغة: الوسم أثر الكية، وقد وسمه يسمه وسما وسمة. والميسم الشئ الذي يسم به وهو بكسر الميم وفتح السين وجمعه مياسيم ومواسم، وأصله كله من السمة وهي العلامة، ومنه موسم الحج أي معلم يجمع الناس، وفلان موسوم بالخير، وعليه سمة الخير أي علامته، وتوسمت فيه كذا أي رأيت فيه علامته. قوله: في جاعرتيه بالجيم والعين المهملة بعدها راء مهملة. والجاعرتان حرفا الورك المشرفان مما يلي الدبر. قال النووي: وأما القائل فوالله لا أسمه إلا في أقصى شئ من الوجه فقد قال القاضي عياض: هو العباس بن عبد المطلب كذا ذكره في سنن أبي داود، وكذا صرح به في رواية البخاري في تاريخه. قال القاضي وهو في كتاب مسلم مستشكل يوهم أنه من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والصواب أنه من قول العباس كما ذكرناه. قال النووي: ليس هو بظاهر فيه، بل ظاهره أنه من كلام ابن عباس، وحينئذ فيجوز أن تكون القضية جرت للعباس ولابنه. قال النووي: يستحب أن يسم الغنم في آذانها والابل والبقر في أصول أفخاذها، لانه موضع صلب فيقل الالم فيه ويخف شعره فيظهر الوسم، وفائدة الوسم تمييز الحيوان بعضه من بعض. ويستحب أن يكتب في ماشية الجزية جزية أو صغار، وفي ماشية الزكاة زكاة أو صدقة. قال الشافعي وأصحابه: يستحب كون ميسم الغنم ألطف من ميسم البقر، والبقر ألطف من ميسم الابل. وحكى الاستحباب النووي عن الصحابة كلهم وجماهير العلماء بعدهم. ونقل ابن الصباغ وغيره إجماع الصحابة عليه. وقال أبو حنيفة: هو مكروه، لانه تعذيب ومثلة وقد نهي عن المثلة، وحجة الجمهور هذه الاحاديث وغيرها. والجواب عن النهي عن المثلة والتعذيب أنه عام وحديث الوسم خاص فوجب تقديمه كما تقرر في الاصول.
[ 252 ]
باب ما يستحب ويكره من الخيل واختيار تكثير نسلها عن أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: خير الخيل الادهم الاقرح الارثم ثم المحجل طلق اليمين فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الشية رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وصححه. [ رح 3529 ] وعنابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يمن الخيل في شقرها رواه أحمد وأبو داود والترمذي. [ رح 3530 ] وعن أبي وهب الجشمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: عليكم بكل كميت أغر محجل، أو أشقر أغر محجل، أو أدهم أغر محجل رواه أحمد والنسائي وأبو داود. وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكره الشكال من الخيل، والشكال أن يكون الفرس في رجله اليمنى بياض وفي يده اليسرى، أو في يده اليمنى وفي رجله اليسرى رواه مسلم وأبو داود. [ رح 3532 ] وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبدا مأمورا ما اختصنا بشئ دون الناس إلا بثلاث: أمرنا أنسبغ الوضوء، وأن لا نأكل الصدقة، وأن لا ننزي حمارا على فرس رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. وعن علي عليه السلام قال: أهديت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بغلة فقلنا: يا رسول الله لو أنزينا الحمر على خيلنا فجاءتنا بمثل هذه، فقال: إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون رواه أحمد وأبو داود. وعن علي عليه السلام قال: قال لي النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي أسبغ الوضوء وإن شق عليك، ولا تأكل الصدقة، ولا تنز الحمر على الخيل، ولا تجالس أصحاب النجوم رواه عبد الله بن أحمد في المسند. حديث أبي قتادة له طريقان عند الترمذي: إحداهما فيها ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب. والثانية عن يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب وقال: هذا حديث حسن غريب صحيح. وحديث ابن عباس الاول قال الترمذي: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث شيبان. وحديث أبي وهب الجشمي سكت عند أبو داود والمنذري وفي إسناده عقيل بن شبيب وقيل ابن سعيد قيل هو مجهول. وحديث أبي هريرة أخرجه أيضا الترمذي وقال: حسن صحيح. وحديث
[ 253 ]
ابن عباس الثاني. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواه سفيان الثوري عن أبي جهضم فقال: عن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن ابن عباس. وسمعت محمدا يقول: حديث الثوري غير محفوظ وهم فيه الثوري، والصحيح ما رواه إسماعيل بن علية وعبد الوارث بن سعيد عن أبي جهضم عن عبد الله بن عبيدالله بن عباس عن ابن عباس. وحديث علي الاول سكت عنه أبو داود والمنذري ورجال إسناد أبي داود ثقات. وقد أخرجه النسائي من طرق، وأخرجه ابن ماجة أيضا، وأشار إليه الترمذي فقال (وفي الباب) عن علي وحديثه الآخر في إسناده القاسم بن عبد الرحمن وهو ضعيف، وتشهد له أحاديث إسباغ الوضوء، وأحاديث تحريم الصدقة على الآل، وأحاديث النهي عن إنزاه الحمر على الخيل. وأحاديث النهي عن إتيان المنجمين، فإن المجالسة إتيان وزيادة، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: من أتى كاهنا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: الادهم هو شديد السواد ذكره في الضياء. قوله: الاقرح هو الذي في جبهته قرحة وهي بياض يسير في وسطها. قوله: الارثم هو الذي شفته العليا بياض. قوله: طلق اليمين بضم الطاء واللام أي غير محجلها وكذا في شمس العلوم. قوله: فكميت هو الذي لونه أحمر يخالطه سواد ويقال للمذكر والانثى، ولا يقال: أكمت ولا كمتاء، والجمع كمت، وقيل: إن الكميت ما فيه حمرة مخالطة لسواد، وليست سوادا خالصا وحمرة خالصة. ويقال: الكميت أشد الخيل جلودا وأصلبها حوافر. قوله: على هذه الشية بكسر الشين المعجمة وتخفيف المثناة التحتية. قال في النهاية: الشية كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره وأصله من الوشي والهاء عوض عن الواو. يقال: وشيت الثوب أشيه وشيا وشية والوشي النقش. أراد على هذه الصفة وهذا اللون من الخيل. وهذا الحديث فيه دليل على أن أفضل الخيل الادهم المتصف بتلك الصفات ثم الكميت. قوله: يمن الخيل في شقرها اليمن البركة. والاشقر قال في القاموس: هو من الدواب الاحمر في مغرة حمرة بحمر منها العرف والذنب اه. وقيل: الاشقرمن الخيل نحو الكميت، إلا أن الاشقر أحمر الذيل والناصية والعرف، والكميت أسودها، والادهم شديد السواد كذا في الضياء. قوله: بكل كميت أغر محجن في رواية لابي داود: عليكم بكل شقر أغر محجل أو كميت أغر محجل فذكر نحوه، والاغر هو ما كان له غرة في
[ 254 ]
جبهته بيضاء فوق الدرهم. قوله: يكره الشكال من الخيل هوأن يكون الفرس في رجله اليمنى بياض وفي يده اليسرى، أو يده اليمنى ورجله اليسرى كما في الرواية المذكورة في الباب. وقيل: الشكال أن يكون ثلاث قوائم محجلة وواحدة مطلقة، أو الثلاث مطلقة وواحدة محجلة، ولا يكون الشكال إلا في رجل. وقال أبو عبيد: وقد يكون الشكال ثلاث قوائم مطلقة وواحدة محجلة، قال: ولا تكون المطلقة من المحجلة إلا الرجل. وقال ابن دريد: الشكال أن يكون محجلا من شق واحد في رجله ويده، فإن كان مخالفا قيل شكال مخالف. قال القاضي عياض: قال أبو عمر: الشكال بياض الرجل اليمنى واليد اليمنى. وقيل: بياض الرجل اليسرى واليد اليسرى. وقيل: بياض اليدين. وقيل: بياض الرجلين. وقيل: بياض الرجلين ويد واحدة. وقيل: بياض اليدين ورجل واحدة. كذا في شرح مسلم. وفي شرح مسلم أيضا أنه إنما أسمى شكالا تشبيها بالشكال الذي يشكل به الخيل فإنه يكون في ثلاثة قوائم غالبا. قال القاضي قال العلماء: كره، لانه على صورة المشكول. وقيل: يحتمل أن يكون قد جرب ذلك الجنس فلم تكن فيه نجابة. قال بعض العلماء: إذا كان مع ذلك أغر زالت الكراهة لزوال شبهه للشكال. قوله: وأن لا ننزي حمارا على فرس قال الخطابي: يشبه أن يكون المعنى فيه والله أعلم أن الحمر إذا حملت على الخيل قل عددها وانقطع نماؤها وتعطلت منافعها، والخيل يحتاج إليها للركوب والركض والطلب والجهاد وإحراز الغنائم، ولحمها مأكول، وغير ذلك من المنافع، وليس للبغل شئ من هذه، فأحب أن يكثر نسلها ليكثر الانتفاع بها، كذا في النهاية. باب ما جاء في المسابقة على الاقدام والمصارعة واللعب بالحراب وغير ذلك عن عائشة قالت: سابقني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسبقته فلبثنا حتى إذا أرهقني اللحم سابقني فسبقني فقال: هذه بتيك رواه أحمد وأبو داود. وعن سلمة بن الاكوع قال: بينا نحن نسير وكان رجل من الانصار لا يسبق شدا فجعل يقول: ألا مسابق إلى المدينة؟ هل من مسابق؟ فقلت: أما تكرم
[ 255 ]
كريما ولا تهاب شريفا؟ قال: لا إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ذرني فلاسابق الرجل، قال: إن شئت، قال: فسبقته إلى المدينة مختصرا من أحمد ومسلم. [ رح 3537 ] وعن محمد بن علي بن ركانة: أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم رواه أبو داود. وعن أبي هريرة قال: بينا الحبشة يلعبون عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحرابهم دخل عمر فأهوى إلى الحصباء فحصبهم بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: دعهم يا عمر متفق عليه. وللبخاري في رواية في المسجد. وعن أنس: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة لعبت الحبشة لقدومه بحرابهم فرحا بذلك متفق عليه. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يتبع حمامة فقال: شيطان يتبع شيطانة رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وقال: يتبع شيطانا. حديث عائشة أخرجه أيضا الشافعي والنسائي وابن ماجوابن حبان والبيهقي من حديث هشام بن عروة عن أبيه عنها، واختلف فيه على هشا. فقيل: هكذا، وقيل: عن رجل عن أبي سلمة عنها. وقيل: عن أبيه وعن أبي سلم عن عائشة. وحديث محمد بن علي بن ركانة في إسناده أبو الحسن العسقلاني وهو مجهو. وأخرجه أيضا الترمذي من حديث أبي الحسن العسقلاني عن أبي جعفر محمد بن ركانة وقال: غريب وليس إسناده بالقائم. وروى أبو داود في المراسيل عن سعيد بن جبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبطحاء فأتى عليه يزيد بن ركانة أو ركانة بن يزيد ومعه عير له فقال له: يا محمد هل لك أن تصارعني؟ فقال: ما تسبقني، قال: شاة من غنمي، فصارعه فصرعه فأخذ الشاة فقال ركانة: هل لك في العود ففعل ذلك مرارا، فقال: يا محمد ما وضع جنبي أحد إلى الارض، وما أنت بالذي تصرعني فأسلم ورد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه غنمه. قال الحافظ: إسناده صحيح إلى سعيد بن جبير إلا أن سعيدا لم يدرك ركانة. قال البيهقي: وروي موصولا. وفي كتاب السبق لابي الشيخ من رواية عبيدالله بن يزيد المصري عن حماد عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مطولا. ورواه أبو نعيم في معرفة الصحابة من حديث أبي أمامة مطولا وإسنادهما ضعيف. روى عبد الرزاق عن معمر عن يزيد
[ 256 ]
بن أبي زياد وأحسبه عن عبد الله بن الحرث قال: صارع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا ركانة في الجاهلية وكان شديدا فقال شاة بشاة، فصرعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: عاودني في أخرى، فصرعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: عاودني فصرعه صلى الله عليه وآله وسلم الثالثة، فقال أبو ركانة: ماذا أقول لاهلي؟ شاة أكلها الذئب وشاة نشزت فما أقول في الثالثة؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما كنا لنجمع عليك أن نصرعك فنغرمك خذ غنمك هكذا وقع فيه أبو ركانة والصواب ركانة. وحديث أبي هريرة الثاني في إسناده محمد بن عمرو بن علقمة الليثي، استشهد به مسلم، ووثقه ابن معين ومحمد بن يحيى الذهلي والنسائي، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. وقال ابن معين مرة: ما زال الناس يتقون حديثه. وقال السعدي: ليس بالقوي، وغمزه الامام مالك. وقال ابن المديني: سألت يحيى القطان عن محمد بن عمرو بن علقمة كيف هو؟ قال: تريد العفو أو تشدد؟ قلت: بل أشدد، قال: فليس هو ممن تريد. قوله: حتى إذا أرهقني اللحم أي كثر لحمي، قال في القاموس: أرهقه طغيانا غشاه إياه، وقال: رهقه كفرح غشيه. (وفي الحديثين) دليل على مشروعية المسابقة على الارجل، وبين الرجال والنساء والمحارم، وأن مثل ذلك لا ينافي الوقار والشرف والعلم والفضل وعلو السن، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يتزوج عائشة إلا بعد الخمسين من عمره، لا فرق بين الخلاء والملا لما في حديث سلمة. قوله: أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه دليل على جواز المصارعة بين المسلم والكافر، وهكذا بين المسلمين ولا سيما إذا كان مطلوبا لا طالبا، وكان يرجو حصول خصلة من خصال الخير بذلك أو كسر سورة كبر متكبر أو وضع مترفع بإظهار الغلب له، وكما روي من مصارعته صلى الله عليه وآله وسلم ركانة روي أنه تصارع هو وأبو جهل، قال الحافظ عبد الغني: ما روي من مصارعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا جهل لا أصل له، وحديث ركانة أمثل ما روي في مصارعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله: يلعبون عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحرابهم فيه جواز ذلك في المسجد كما في الرواية الثانية. وحكى ابن التين عن أبي الحسن اللخمي أن اللعب بالحراب في المسجد منسوخ بالقرآن والسنة، أما القرآن فقوله تعالى: * (في بيوت أذن الله أن ترفع) * (النور: 36) وأما السنة فحديث جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وتعقب بأن الحديث ضعيف، وليس فيه ولا في الآية تصريح بما ادعاه ولا
[ 257 ]
عرف التاريخ فيثبت النسخ. وحكى بعض المالكية عن مالك أن لعبهم كان خارج المسجد وكانت عائشة في المسجد، وهذا لا يثبت عن مالك فإنه خلاف ما صرح به في طرق هذا الحديث. واللعب بالحراب ليس لعبا مجردا، بل فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب والاستعداد للعدو. قال المهلب: المسجد موضوع لامر جماعة المسلمين، فما كان من الاعمال يجمع منفعة الدين وأهله جاز فيه، وفي الحديث جواز النظر إلى اللهو المباح. قوله: ودخل عمر الخ. قال ابن التين: يحتمل أن يكون عمر لم ير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يعلم أنه رآهم أو ظن أنه رآهم واستحيا أن يمنعهم، وهذا أولى لقوله في الحديث: يلعبون عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويحتمل أن يكون إنكاره لهذه شبيها لانكاره على المغنيتين وكان من شدته في الدين ينكر خلاف الاولى، والجد في الجملة أولى من اللعب المباح، وأما النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان بصدد بيان الجواز. قوله: فقال شيطان الخ، فيه دليل على كراهة اللعب بالحمام وأنه من اللهو الذي لم يؤذن فيه، وقد قال بكراهته جمع من العلماء، ولا يبعد على فرض انتهاض الحديث تحريمه، لان تسمية فاعله شيطانا يدل على ذلك، وتسمية الحمامة شيطانة إما لانها سبب اتباع الرجل لها، أو أنها تفعل فعل الشيطان حيث يتولع الانسان بمتابعتها واللعب بها لحسن صورتها وجودة نغمتها. باب تحريم القمار واللعب بالنرد وما في معنى ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله. ومن قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق متفق عليه. وعن بريدة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه رواه أحمد ومسلم وأبو داود. وعن أبي موسى: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة ومالك في الموطأ. وعن أبي موسى: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من لعب بالكعاب فقد عصى الله ورسوله رواه أحمد. وعن عبد الرحمن الخطمي قال: سمعت أبي يقول: سمعت
[ 258 ]
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: مثل الذي يلعب بالنرد ثم يقوم فيصلي مثل الذي يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي رواه أحمد. حديث أبي موسى الاول رجال إسناده ثقات، وأخرجه أيضا الحاكم والدارقطني والبيهقي. وحديث أبي موسى الثاني قال في مجمع الزوائد: رواه الطبراني وفي إسناده علي بن زيد وهو متروك. وحديث عبد الرحمن الخطمي قال أحمد: حدثنا المكي بن إبراهيم، حدثنا الجعيد عن موسى بن عبد الرحمن فذكره. وأورده الحافظ في التلخيص من كتاب الشهادات وسكت عنه. وقال في مجمع الزوائد: فيه موسى بن عبد الرحمن الخطمي ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح قوله: فليقل لا إله إلا الله في الامر لمن حلف باللات والعزى أن يتكلم بكلمة الشهادة دليل على أنه قد كفر بذلك، وسيأتي تحقيق المسألة في كتاب الايمان إشاء الله. قوله: فليتصدق فيه دليل على المنع من المقامرة، لان الصدقة المأمور بها كفارة عن الذنب، قال في القاموس: وقامره مقامرة وقمارا فقمره كنصر وتقمره راهنه فغلبه وهو التقامر اه. فالمراد بالقمار المذكور هنا الميسر ونحوه مما كانت تفعله العرب، وهو المراد بقول الله تعالى: * (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ) * (المائدة: 91)، وكل مالا يخلو اللاعب فيه من غنم أو غرم فهو ميسر، وقد صرح القرآن بوجوب اجتنابه قال الله تعالى: * (إنما الخمر والميسر) * (المائدة: 90) الآية، وقد صرحت بتحريمه السنة كما سيأتي في الباب الذي بعد هذا. قوله: من لعب بالنردشير قال النووي: النردشير هو النرد عجمي معرب، وشير معناه حلو، وكذا في النهاية، وقيل: هو خشبة قصيرة ذات فصوص يلعب بها. وقيل: إنما سمي بذلك الاسم، لان واضعه أردشير بن بابك من ملوك الفرس، قال النووي: وهذا الحديث حجة للشافعي والجمهور في تحريم اللعب بالنرد. وقال أبو إسحاق المروزي: يكره ولا يحرم، قيل: وسبب تحريمه أن وضعه على هيئة الفلك بصورة شمس وقمر وتأثيرات مختلفة تحدث عند اقترانات أوضاعه ليدل بذلك على أن أقضية الامور كلها مقدرة بقضاء الله ليس للكسب فيها مدخل، ولهذا ينتظر اللاعب به ما يقضي له به، والتمثيل بقوله: فكأنما صبغ يده في لحم خنزير الخ، فيه إشارة إلى التحريم لان التلوث بالنجاسا ت من المحرمات. وقوله: فقد عصى الله ورسوله تصريح بما يفيد التحريم. قوله: ملعب بالكعاب هي فصوص النرد
[ 259 ]
وقد كرهها عامة الصحابة، وروي أنه رخص فيها ابن مغفل وابن المسيب على غير قمار. واختلف في الشطرنج قال النووي: مذهبنا أنه مكروه وليس بحرام وهو مروي عن جماعة من التابعين. وقال مالك وأحمد: هو حرام، قال مالك: هو شر من النرد وألهى. وروى ابن كثير في إرشاده أن أول ظهور الشطرنج في زمن الصحابة وضعه رجل هندي يقال له صصة، قال: وروى البيهقي من حديث جعفر بن محمد عن أبيه أن عليا قال في الشطرنج: هو من الميسر. قال ابن كثير: وهو منقطع جيد. وروي عن ابن عباس وابن عمر وأبي موسى الاشعري وأبي سعيد وعائشة أنهم كرهوا ذلك. وروي عن ابن عمر أنه شر من النرد كما قال مالك. وحكي في ضوء النهار عن ابن عباس وأبي هريرة وابن سيرين وهشام بن عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب وابن جبير أنهم أباحوه. وقد روي في تحريمه أحاديث أخرج الديلمي من حديث واثلة مرفوعا: إن لله في كل يوم ثلاثمائة نظرة ولا ينظر فيها إلى صاحب الشاه. وفي لفظ: يرحم بها عباده ليس لاهل الشاه فيها نصيب يعني الشطرنج. وأخرج من حديث ابن عباس يرفعه: ألا إن أصحاب الشاه في النار الذين يقولون قتلت والله شاهك. وأخرج الديلمي أيضا عن أنس يرفعه: ملعون من لعب بالشطرنج وأخرج ابن حزم وعبدان: ملعون من لعب بالشطرنج والناظر إليهم كالآكل لحم الخنزير من حديث جميع بن مسلم. وأخرج الديلمي عن علي مرفوعا: يأتي على الناس زمان يلعبون بها ولا يلعب بها إلا كل جبار والجبار في النار. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن علي كرم الله وجهه أنه قال: النرد والشطرنج من الميسر. وأخرج عنه عبد بن حميد أنه قال: الشطرنج ميسر العجم وأخرج عنه ابن عساكر أنه قال: لا يسلم على أصحاب النردشير والشطرنج قال ابن كثير والاحاديث المروية فيه لا يصح منها شئ، ويؤيد هذا ما تقدم من أن ظهوره كان في أيام الصحابة. وأحسن ما روي فيه ما تقدم عن علي كرم الله وجهه. وإذا كان بحيث لا يخلو أحد اللاعبين من غنم أو غرم فهو من القمار، وعليه يحمل ما قاله على إنه من الميسر، والمجوزون له قالوا إن فيه فائدة وهي معرفة تدبير الحروب ومعرفة المكايد فأشبه السبق والرمي، قالوا: وإذا كان على عوض فهو كمال الرهان وقد تقدم حكمه، ولا نزاع أنه نوع من اللهو الذي نهى الله عنه، ولا ريب أنه يلزمه إيغار الصدور
[ 260 ]
وتتأثر عنه العداوات، وتنشأ منه المخاصمات، فطالب النجاة لنفسه لا يشتغل بما هذا شأنه، وأقل أحواله أن يكون من المشتبهات والمؤمنون وقافون عند الشبهات. وفي الشفاء للامير الحسين قبل آخر الكتاب بنحو ثلاث ورق عن علي عليه السلام أنه أمر بتحريق رقعة الشطرنج وإقامة كل واحد ممن لعب بها معقولا على فرد رجل إلى صلاة الظهر ثم ذكر غير ذلك. باب ما جاء في آلة اللهو عن عبد الرحمن بن غنم قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الاشعري سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف أخرجه البخاري. وفي لفظ: ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات يخسف الله بهم الارض ويجعل منهم القردة والخنازير رواه ابن ماجة. وقال عن أبي مالك الاشعري ولم يشك: والمعازف الملاهي، قاله الجوهري وغيره. وعن نافع: أن ابن عمر سمع صوت زمارة راع فوضع أصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع أتسمع؟ فأقول: نعم، فيمضي حتى قلت: لا، فرفع يده وعدل راحلته إلى الطريق وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمع زمارة راع فصنع مثل هذا رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وعن عبد الله بن عمر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام رواه أحمد وأبو داود. وفي لفظ: أن الله حرم على أمتي الخمر والميسر والمزر والكوبة والقنين رواه أحمد. حديث أبي مالك الاشعري باللفظ الذي ساقه ابن ماجة هو من طريق ابن محيريز عن ثابت بن السمط، وأخرجه أبو داود وصححه ابن حبان وله شواهد. وحديث ابن عمر الاول أورده الحافظ في التلخيص وسكت عنه، قال أبو علي وهو اللؤلؤي: سمعت أبا داود يقول: وهو حديث منكر. وحديثه الثاني سكت عنه الحافظ في التلخيص أيضا وفي إسناده الوليد بن عبدة الراوي له عن ابن عمر، قال أبو
[ 261 ]
حاتم الرازي: هو مجهول. وقال ابن يونس في تاريخ المصريين: إنه روى عنه يزيد بن أبي حبيب. وقال المنذري: إن الحديث معلول ولكنه يشهد له ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن حبان والبيهقي من حديث ابن عباس بنحوه وسيأتي. وأخرجه أحمد من حديث قيس بن سعد بن عبادة. قوله: يستحلون الحر ضبطه ابن ناصر بالحاء المهملة المكسورة والراء الخفيفة وهو الفرج. قال في الفتح: وكذا هو في معظم الروايات من صحيح البخاري، ولم يذكر عياض ومن تبعه غيره. وأغرب ابن التين فقال: إنه عند البخاري بالمعجمتين. وقال ابن العربي: هو بالمعجمتين تصحيف وإنما رويناه بالمهملتين وهو الفرج والمعنى يستحلون الزنا. قال ابن التين: يريد ارتكاب الفرج لغير حله. وحكى عياض فيه تشديد الراء والتخفيف هو الصواب. ويؤيد الرواية بالمهملتين ما أخرجه ابن المبارك في الزهد عن علي مرفوعا بلفظ: يوشك أن تستحل أمتي فروج النساء والحرير ووقع عند الداودي بالمعجمتين ثم تعقبه بأنه ليس بمحفوظ، لان كثيرا من الصحابة لبسوه. وقال ابن الاثير: المشهور في روايا ت هذا الحديث بالاعجام وهو ضرب من الابريسم. وقال ابن العربي: الخز بالمعجمتين والتشديد مختلف فيه فالاقوى حله وليس فيه وعيد ولا عقوبة بالاجماع، وقد تقدم الكلام على ذلك في كتاب اللباس. قوله: والمعازف بالعين المهملة والزاي بعدها فاء جمع معزفة بفتح الزاي وهي آلات الملاهي. ونقل القرطبي عن الجوهري أن المعازف الغناء، والذي في صحاحه أنها اللهو، وقيل: صوت الملاهي. وفي حواشي الدمياطي: المعازف الدفوف وغيرها مما يضرب به، ويطلق على الغناء عزف، وعلى كل لعب عزف. قوله: زمارة قال في القاموس: والزمارة كجبانة ما يزمر به كالمزمار. قوله: فصنع مثل هذا فيه دليل على أن المشروع لمن سمع الزمارة أن يصنع كذلك، واستشكل إذن ابن عمر لنافع بالسماع ويمكن أنه إذ ذاك لم يبلغ الحلم. وسيأتي بيان وجه الاستدلال به والجواب عليه. قوله: والميسر هو القمار وقد تقدم. قوله: والكوبة بضم الكاف وسكون الواو ثم باء موحدة قيل هي الطبل كما رواه البيهقي من حديث ابن عباس وبين أن هذا التفسير من كلام علي بن بذيمة. قوله: والغبيراء بضم الغين المعجمة قال في التلخيص: اختلف في تفسيرها فقيل الطنبور، وقيل العود، وقيل البربط، وقيل مزر يصنع من الذرة أو من القمح وبذلك فسره في النهاية. قوله: والمزر
[ 262 ]
بكسر الميم وهو نبيذ الشعير. قوله: والقنين هو لعبة للروم يقامرون بها، وقيل: هو الطنبور بالحبشية، كذا في مختصر النهاية. وقد استدل المصنف بهذه الاحاديث على ما ترجم به الباب، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى. وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة وكل مسكر حرام رواه أحمد والكوبة الطبل، قاله سفيان عن علي بن بذيمة. وقال ابن الاعرابي: الكوبة النرد، وقيل: البربط والقنين هو الطنبور بالحبشية والتقنين الضرب به قاله ابن الاعرابي. وعن عمران بن حصين: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: في هذه الامة خسف ومسخ وقذف، فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله ومتى ذلك؟ قال: إذا ظهرت القيان والمعازف وشربت الخمور رواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا اتخذ الفئ دولا، والامانة معتما، والزكاة مغرما، وتعلم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته، وعق أمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه، وظهرت الاصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القيان والمعازف، وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الامة أولها، فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع بعضه بعضا رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن غريب. [ رح 3552 ] وعن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: تبيت طائفة من أمتي على أكل وشرب ولهو ولعب، ثم يصبحون قردة وخنازير، وتبعث على أحياء من أحيائهم ريح فتنسفهم كما نسف من كان قبلكم باستحلالهم الخمر وضربهم بالدفوف واتخاذهم القينات رواه أحمد وفي إسناده فرقد السبخي، قال أحمد: ليس بقوي، وقال ابن معين: هو ثقة. وقال الترمذي: تكلم فيه يحيى بن سعيد وقد روى عنه الناس. [ رح 3553 ] وعن عبيدالله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عنأبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين، وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات يعني البرابط والمعازف والاوثان التي كانت تعبد في الجاهلية رواه أحمد، قال البخاري: عبيدالله بن زحر ثقة، وعلي بن يزيد ضعيف، والقاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن ثقة، وبهذا الاسناد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن ولا تعلموهن ولا خير في تجارة فيهن
[ 263 ]
وثمنهن حرام، في مثل هذا أنزلت هذه الآية: * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله) * إلى آخر الآية رواه الترمذي. ولاحمد معناه ولم يذكر نزول الآية فيه. ورواه الحميدي في مسنده ولفظه: لا يحل ثمن المغنية ولا بيعها ولا شراؤها ولا الاستماع إليها. حديث ابن عباس قد تقدم أنه أخرجه أيضا أبو داود وابن حبان والبيهقي. وحديث عمران بن حصين قال الترمذي بعد إخراجه عن عباد بن يعقوب الكوفي: حدثنا عبد الله بن عبد القدوس عن الاعمش عن هلال بن يساف عن عمران ما لفظه. وقد روي هذا الحديث عن الاعمش عن عبد الرحمن بن ساباط عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا وهذا حديث غريب. وحديث أبي هريرة قال الترمذي بعد أن أخرجه من طريق علي بن حجر: حدثنا محمد بن يزيد الواسطي عن المسلم بن سعيد عن رميح الجذامي عنه ما لفظه: وفي الباب عن علي وهذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وحديث علي هذا الذي أشار إليه هو ما أخرجه في سننه قبل حديث أبي هريرة عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء وفيه: وشربت الخمور ولبس الحرير واتخذت القيان والمعازف وقال بعد تعداد الخصال: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث علي إلا من هذا الوجه، ولا نعلم أحدا رواه عن يحيى بن سعيد الانصاري غير الفرج بن فضالة، والفرج بن فضالة قد تكلم فيه بعض أهل الحديث وضعفه من قبل حفظه، وقد روى عنه وكيع وغير واحد من الائمة انتهى. وحديث أبي أمامة الاول والثاني قد تكلم المصنف عليهما. وحديثه الثالث قال الترمذي بعد إخراجه: إنما يعرف مثل هذا من هذا الوجه، وقد تكلم بعض أهل العلم في علي بن يزيد وضعفه وهو شامي انتهى. وأخرجه أيضا ابن ماجة وسعيد بن منصور والواحدي وعبيد الله ابن زحر، قال أبو مسهر: إنه صاحب كل معضلة. وقال ابن معين: ضعيف، وقال مرة: ليس بشئ. وقال ابن المديني: منكر الحديث. وقال الدارقطني: ليس بالقوي. وقال ابن حبان: روى موضوعات عن الاثبات، وإذا روي عن علي بن يزيد أتى بالطامات. (وفي الباب) عن ابن مسعود عند ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أنه قال في قوله: * (من الناس من يشتري لهو الحديث) * قال: هو والله الغناء. وأخرجه الحاكم والبيهقي وصححاه. وأخرجه البيهقي أيضا عن ابن عباس بلفظ هو الغناء
[ 264 ]
وأشباهه. (وفي الباب) أيضا عن ابن مسعود عند أبي داود والبيهقي مرفوعا بلفظ: الغناء ينبت النفاق في القلب وفيه شيخ لم يسم، ورواه البيهقي موقوفا، وأخرجه ابن عدي من حديث أبي هريرة، وقال ابن طاهر: أصح الاسانيد في ذلك أنه من قول إبراهيم. وأخرج أبو يعقوب محمد بن إسحاق النيسابوري من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من قعد إلى قينة يسمع صب في أذنه الآنك. وأخرج أيضا من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمع رجلا يتغنى من الليل فقال: لا صلاة له، لا صلاة له، لا صلاة له وأخرج أيضا من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: استماع الملاهي معصية، والجلوس عليها فسق، والتلذذ بها كفر وروى ابن غيلان عن علي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: بعثت بكسر المزامير وقال صلى الله عليه وآله وسلم: كسب المغني والمغنية حرام وكذا رواه الطبراني من حديث عمر مرفوعا ثمن القينة سحت وغناؤها حرام. وأخرج القاسم بن سلام عن علي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن ضرب الدف والطبل وصوت الزمارة. (وفي البا ب) أحاديث كثيرة. وقد وضع جماعة من أهل العلم في ذلك مصنفات، ولكنه ضعفها جميعا بعض أهل العلم حتى قال ابن حزم: إنه لا يصح في الباب حديث أبدا وكل ما فيه فموضوع. وزعم أن حديث أبي عامر أو أبي مالك الاشعري المذكور في أول البا ب منقطع فيما بين البخاري وهشام، وقد وافقه على تضعيف أحاديث الباب من سيأتي قريبا. قال الحافظ في الفتح: وأخطأ في ذلك يعني في دعوى الانقطاع من وجوه والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح والبخاري، قد يفعل مثل ذلك لكونه قد ذكر الحديث في موضع آخر من كتابه وأطال الكلام على ذلك بما يشفي. قوله: الكبارات جمع كبار قال في القاموس في مادة ك ب ر: والطبل الجمع كبار وأكبار انتهى. والبربط العود قال في القاموس: البربط كجعفر معرب بربط أي صدر الاوز لانه يشبهه انتهى. وقد اختلف في الغناء مع آلة من آلات الملاهي وبدونها، فذهب الجمهور إلى التحريم مستدلين بما سلف. وذهب أهل المدينة ومن وافقهم من علماء الظاهر وجماعة من الصوفية إلى الترخيص في السماع ولو مع العود واليراع. وقد حكى الاستاذ أبو منصور البغدادي الشافعي في مؤلفه في السماع أن عبد الله بن جعفر كان لا يرى بالغناء بأسا ويصوغ الالحان لجواريه ويسمعها منهن على أوتاره، وكان ذلك في زمن أمير
[ 265 ]
المؤمنين علي رضي الله عنه. وحكى الاستاذ المذكور مثل ذلك أيضا عن القاضي شريح وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والزهري والشعبي. وقا إمام الحرمين في النهاية وابن أبي الدم: نقل الاثبات من المؤرخين أن عبد الله بن الزبير كان له جوار عوادات، وأن ابن عمر دخل عليه وإلى جنبه عود فقال: ما هذا يا صاحب رسول الله؟ فناوله إياه فتأمله ابن عمر فقال: هذا ميزان شامي، قال ابن الزبير: يوزن به العقول. وروى الحافظ أبو محمد بن حزم في رسالته في السماع لسنده إلى ابن سيرين قال: أن رجلا قدم المدينة بجوار فنزل على عبد الله بن عمر وفيهن جارية تضرب، فجاء رجل فساومه فلم يهو منهن شيئا، قال: انطلق إلى رجل هو أمثل لك بيعا من هذا، قال: من هو؟ قال: عبد الله بن جعفر فعرضهن عليه فأمر جارية منهم فقال لها: خذي العود فأخذته فغنت فبايعه ثم جاء إلى ابن عمر إلى آخر القصة. وروى صاحب العقد العلامة الاديب أبو عمر الاندلسي أن عبد الله بن عمر دخل على أبي جعفر فوجد عنده جارية في حجرها عود ثم قال لابن عمر: هل ترى بذلك بأسا؟ قال: لا بأس بهذا. وحكى الماوردي عن معاوية وعمرو بن العاص أنهما سمعا العود عند ابن جعفر. وروى أبو الفرج الاصبهاني أن حسان بن ثابت سمع من عزة الميلاء الغناء بالمزهر بشعر من شعره. وذكر أبو العباس المبرد نحو ذلك، والمزهر عند أهل اللغة العود. وذكر الادفوي أن عمر بن عبد العزيز كان يسمع من جواريه قبل الخلافة. ونقل ابن السمعاني الترخيص عن طاوس. ونقله ابن قتيبة وصاحب الامتاع عن قاضي المدينة سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الزهري من التابعين. ونقله أبو يعلى الخليلي في الارشاد عن عبد العزيز بن سلمة الماجشون مفتي المدينة. وحكى الروياني عن القفال أن مذهب مالك بن أنس إباحة الغناء بالمعازف. وحكى الاستاذ أبو منصور الفوراني عن مالك جواز العود. وذكر أبو طالب المكي في قوت القلوب عن شعبة أنه سمع طنبورا في بيت المنهال بن عمرو المحدث المشهور. وحكى أبو الفضل بن طاهر في مؤلفه في السماع أنه لا خلاف بين أهل المدينة في إباحة العود. قال ابن النحوي في العمدة قال ابن طاهر: هو إجماع أهل المدينة. قا ابن طاهر: وإليه ذهبت الظاهرية قاطبة. قال الادفوي: لم يختلف النقلة في نسب الضرب إلى إبراهيم بن سعد المتقدم الذكر، وهو ممن أخرج
[ 266 ]
له الجماعة كلهم. وحكى الماوردي إباحة العود عن بعض الشافعية. وحكاه أبو الفضل بن طاهر عن أبي إسحاق الشيرازي. وحكاه الاسنوي في المهمات عن الروياني والماوردي. ورواه ابن النحوي عن الاستاذ أبي منصور. وحكاه ابن الملقن في العمدة عن ابن طاهر. وحكاه الادفوي عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام. وحكاه صاحب الامتاع عن أبي بكر بن العربي، وجزم بالاباحة الادفوي، هؤلاء جميعا قالوا بتحليل السماع مع آلة من الآلات المعروفة، وأما مجرد الغناء من غير آلة فقال الادفوي في الامتاع: أن الغزالي في بعض تآليفه الفقهية نقل الاتفاق على حله. ونقل ابن طاهر إجماع الصحابة والتابعين عليه. ونقل التاج الفزاري وابن قتيبة إجماع أهل الحرمين عليه. ونقل ابن طاهر وابن قتيبة أيضا إجماع أهل المدينة عليه. وقال الماوردي: لم يزل أهل الحجاز يرخصون فيه في أفضل أيام السنة المأمور فيه بالعبادة والذكر. قال ابن النحوي في العمدة: وقد روي الغناء وسماعه عن جماعة من الصحابة والتابعين، فمن الصحابة عمر كما رواه ابن عبد البر وغيره. وعثمان كما نقله الماوردي وصاحب البيان والرافعي. وعبد الرحمن بن عوف كما رواه ابن أبي شيبة. وأبو عبيدة بن الجراح كما أخرجه البيهقي. وسعد بن أبي وقاص كما أخرجه ابن قتيبة. وأبو مسعود الانصاري كما أخرجه البيهقي. وبلال وعبد الله بن الارقم وأسامة بن زيد كما أخرجه البيهقي أيضا. وحمزة كما في الصحيح. وابن عمر كما أخرجه ابن طاهر. والبراء بن مالك كما أخرجه أبو نعيم. وعبد الله بن جعفر كما رواه ابن عبد البر. وعبد الله بن الزبير كما نقله أبو طالب المكي. وحسان كما رواه أبو الفرج الاصبهاني. وعبد الله بن عمر كما رواه الزبير بن بكار. وقرظة بن كعب كما رواه ابن قتيبة. وخوات بن جبير ورباح المعترف كما أخرجه صاحب الاغاني. والمغيرة بن شعبة كما حكاه أبو طالب المكي. وعمرو بن العاص كما حكاه الماوردي. وعائشة والربيع كما في صحيح البخاري وغيره. وأما التابعون فسعيد بن المسيب وسالم بن عمرو بن حسان وخارجة بن زيد وشريح القاضي وسعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبد الله بن أبي عتيق وعطاء بن أبي رباح ومحمد بن شهاب الزهري وعمر بن عبد العزيز وسعد بن إبراهيم الزهري. وأما تابعوهم فخلق لا يحصون منهم الائمة الاربعة وابن عيينة وجمهور الشافعية، انتهى كلام ابن النحوي. واختلف هؤلاء المجوزون، فمنهم
[ 267 ]
من قال بكراهته، ومنهم من قال باستحبابه، قالوا: لكونه يرق القلب ويهيج الاحزان والشوق إلى الله، قال المجوزون: إنه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في معقولهما من القياس، والاستدلال ما يقتضي تحريم مجرد سماع الاصوات الطيبة الموزونة مع آلة من الآلات، وأما المانعون من ذلك فاستدلوا بأدلة: منها حديث أبي مالك أو أبي عامر المذكور في أول الباب. وأجاب المجوزون بأجوبة، الاول ما قاله ابن حزم وقد تقدم وتقدم جوابه. والثاني: أن في إسناده صدقة بن خالدوقد حكى ابن الجنيد عن يحيى بن معين أنه ليس بشئ. وروى المزي عن أحمد أنه ليس بمستقيم، ويجاب عنه بأنه من رجال الصحيح. ثالثها: أن الحديث مطرب سندا ومتنا، أما الاسناد فللتردد من الراوي في اسم الصحابي كما تقدم. وأما متنا فلان في بعض الالفاظ يستحلون وفي بعضها بدونه. وعند أحمد وابن أبي شيبة بلفظ: ليشربن أناس من أمتي الخمر. وفي رواية الحر بمهملتين، وفي أخرى بمعجمتين كما سلف. ويجاب عن دعوى الاضطراب في السند بأنه قد رواه أحمد وابن أبي شيبة من حديث أبي مالك بغير شك. ورواه أبو داود من حديث أبي عامر وأبي مالك وهي رواية ابن داسة عن أبي داود. ورواية ابن حبان أنه سمع أبا عامر وأبا مالك الاشعريين فتبين بذلك أنه من روايتهما جميعا. وأما الاضطراب في المتن فيجاب بأن مثل ذلك غير قادح في الاستدلال، لان الراوي قد يترك بعض ألفاظ الحديث تارة ويذكرها أخرى. والرابع: أن لفظة المعازف التي هي محل الاستدلال ليست عند أبى داود، ويجاب بأنه قد ذكرها غيره وثبتت في الصحيح والزيادة من العدل مقبولة. وأجاب المجوزون أيضا على الحديث المذكور من حيث دلالته فقالوا: لا نسلم دلالته على التحريم، وأسندوا هذا المنع بوجوه. أحدها أن لفظة يستحلون ليست نصافى التحريم، فقد ذكر أبو بكر بن العربي لذلك معنيين، أحدهما: أن المعنى يعتقدون أن ذلك حلال. الثاني: أن يكون مجازا عن الاسترسال في استعمال تلك الامور. ويجاب بأن الوعيد على الاعتقاد يشعر بتحريم الملابسة بفحوى الخطاب. وأما دعوى التجوز فالاصل الحقيقة ولا ملجئ إلى الخروج عنها. وثانيها أن المعازف مختلف في مدلولها كما سلف. وإذا كان اللفظ محتملا لان يكون للآلة ولغير الآلة لم ينتهض للاستدلال، لانه إما أن يكون مشتركا والراجح التوقف فيه، أو حقيقة ومجازا، ولا يتعين المعنى
[ 268 ]
الحقيقي، ويجاب بأنه يدل على تحريم استعمال ما صدق عليه الاسم، والظاهر الحقيقة في الكل من المعاني المنصوص عليها من أهل اللغة وليس من قبيل المشترك، لان اللفظ لم يوضع لكل واحد على حدة بل وضع للجميع، على أنه الراجح جواز استعمال المشترك في جميع معانيه مع عدم التضاد كما تقرر في الاصول. وثالثها أنه يحتمل أن تكون المعازف المنصوص على تحريمها هي المقترنة بشرب الخمر كما ثبت في رواية بلفظ: ليشربن أناس من أمتي الخمر تروح عليهم القيان وتغدو عليهم المعازف. ويجاب بأن الاقتران لا يدل على أن المحرم هو الجمع فقط، وإلا لزم أن الزنا المصرح به في الحديث لا يحرم إلا عند شرب الخمر واستعمال المعازف، واللازم باطل بالاجماع فالملزوم مثله. وأيضا يلزم في مثل قوله تعالى: * (إنه كان لا يؤمن بالله العظيم ولا يحض على طعام المسكين) * (الحاقة: 34) أنه لا يحرم عدم الايمان بالله إلا عند عدم الحض على طعام المسكين. فإن قيل: تحريم مثل هذه الامور المذكورة في الالزام قد علم من دليل آخر. فيجاب بأن تحريم المعازف قد علم من دليل آخر أيضا كما سلف، على أنه لا ملجئ إلى ذلك حتى يصار إليه. ورابعها أن يكون المراد يستحلون مجموع الامور المذكورة، فلا يدل على تحريم واحد منها على الانفراد، وقد تقرر أن النهي عن الامور المتعددة أو الوعيد على مجموعها لا يدل على تحريم كل فرد منها. ويجاب عنه بما تقدم في الذي قبله. واستدلوا ثانيا بالاحاديث المذكورة في الباب التي أوردها المصنف رحمه الله تعالى، وأجاب عنها المجوزون بما تقدم من الكلام في أسانيدها، ويجاب بأنها تنتهض بمجموعها ولا سيما وقد حسن بعضها، فأقل أحوالها أن تكون من قسم الحسن لغيره، ولا سيما أحاديث النهي عن بيع القينات المغنيات فإنها ثابتة من طرق كثيرة: منها ما تقدم، ومنها غيره قد استوفيت ذلك في رسالة، وكذلك حديث: إن الغناء ينبت النفاق فإنه ثابت من طرق قد تقدم بعضها وبعضها لم يذكر، منه عن ابن عباس عند ابن صصري في أماليه، ومنه عن جابر عند البيهقي، ومنه عن أنس عند الديلمي، وفي الباب عن عائشة وأنس عند البزار والمقدسي وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي بلفظ: صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة ورنة عند مصيبة. وأخرج ابن سعد في السنن عن جابر أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة وخمش وجه وشق جيب ورنة شيطان. وأخرج الديلمي عن أبي أمامة مرفوعا: أن الله يبغض صوت
[ 269 ]
الخلخال كما يبغض الغناء والاحاديث في هذا كثيرة قد صنف في جمعها جماعة من العلماء كابن حزم وابن طاهر وابن أبي الدنيا وابن حمدان الاربلي والذهبي وغيرهم. وقد أجاب المجوزون عنها بأنه قد ضعفها جماعة من الظاهرية والمالكية والحنابلة والشافعية، وقد تقدم ما قاله ابن حزم، ووافقه على ذلك أبو بكر بن العربي في كتابه الاحكام وقال: لم يصح في التحريم شئ، وكذلك قال الغزالي وابن النحو في العمدة، وهكذا قال ابن طاهر إنه لم يصح منها حرف واحد، والمراد ما هو مرفوع منها، وإلا فحديث ابن مسعود في تفسير قوله تعالى: * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله) * (لقمان: 6) قد تقدم أنه صحيح، وقد ذكر هذا الاستثناء ابن حزم فقال: إنهم لو أسندوا حديثا واحدا فهو إلى غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا حجة في أحد دونه، كما روي عن ابن عباس وابن مسعود في تفسير قوله تعالى: * (ومن الناس) * الآية، أنهما فسرا اللهو بالغناء، قال: ونص الآية يبطل احتجاجهم لقوله تعالى: * (ليضل عن سبيل الله) * وهذه صفة من فعلها كان كافرا، ولو أن شخصا اشترى مصحفا ليضل به عن سبيل الله ويتخذها هزوا لكان كافرا، فهذا هو الذي ذم الله تعالى، وما ذم من اشترى لهو الحديث ليروح به نفسه لا ليضل به عن سبيل الله انتهى. قال الفاكهاني: لم أعلم في كتاب الله ولا في السنة حديثا صحيحا صريحا في تحريم الملاهي، وإنما هي ظواهر وعمومات يتأنس بها لا أدلة قطعية، واستدل ابن رشد بقوله تعالى: * (وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه) * (القصص: 55) وأي دليل في ذلك على تحريم الملاهي والغناء وللمفسرين فيها أربعة أقوال، الاول: أنها نزلت في قوم من اليهود أسلموا فكان اليهود يلقونهم بالسب والشتم فيعرضون عنهم والثاني: أن اليهود أسلموا فكانوا إذا سمعوا ما غيره اليهود من التوراة وبدلوا من نعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصفته أعرضوا عنه وذكروا الحق. الثالث: أنهم المسلمون إذا سمعوا الباطل لم يلتفتوا إليه. الرابع: أنهم ناس من أهل الكتاب لم يكونوا يهودا ولا نصارى وكانوا على دين الله، كانوا ينتظرون بعث محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلما سمعوا به بمكة أتوه فعرض عليهم القرآن فأسلموا، وكان الكفار من قريش يقولون لهم: أف لكم اتبعتم غلاما كرهه قومه وهم أعلم به منكم، وهذا الاخير قاله ابن العربي في أحكامه، وليت شعري كيف يقوم الدليل من هذه الآية؟ انتهى. ويجاب بأن الاعتبار بعموم اللفظ
[ 270 ]
لا بخصوص السبب واللغو عام، وهو في اللغة الباطل من الكلام الذي لا فائدة فيه، والآية خارجمخرج المدح لمن فعل ذلك، وليس فيها دلالة على الوجوب، ومن جملة ما استدلوبه حديث: كل لهو يلهو به المؤمن هو باطل إلا ثلاثة: ملاعبة الرجل أهله، وتأديبه فرسه، ورميه عن قوسه. قال الغزالي قلنا: قوله صلى الله عليه وآله وسلم فهو باطل لا يدل على التحريم بل يدل على عدم الفائدة انتهى. وهو جواب صحيح، لان ما لا فائدة فيه من قسم المباح، على أن التلهي بالنظر إلى الحبشة وهم يرقصون في مسجده صلى الله عليه وآله وسلم كما ثبت في الصحيح خارج عن تلك الامور الثلاثة، وأجاب المجوزون عن حديث ابن عمر المتقدم في زمارة الراعي بما تقدم من أنه حديث منكر، وأيضا لو كان سماعه حراما لما أباحه صلى الله عليه وآله وسلم لابن عمر، ولا ابن عمر لنافع، ولنهى عنه وأمر بكسر الآلة، لان تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وأما سده صلى الله عليه وآله وسلم لسمعه فيحتمل أنه تجنبه كما كان يتجنب كثيرا من المباحات، كما تجنب أن يبيت في بيته درهم أو دينار وأمثال ذلك. لا يقال: يحتمل أن تركه صلى الله عليه وآله وسلم للانكار على الراعي إنما كان لعدم القدرة على التغيير. لانا نقول: ابن عمر إنما صاحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بالمدينة بعد ظهور الاسلام وقوته، فترك الانكار فيه دليل على عدم التحريم، وقد استدل المجوزون بأدلة منها قوله تعالى: * (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) * (الاعراف: 157) ووجه التمسك أن الطيبات جمع محلى باللام فيشمل كل طيب، والطيب يطلق بإزاء المستلذ وهو الاكثر المتبادر إلى الفهم عند التجرد عن القرائن، ويطلق بإزاء الطاهر والحلال، وصيغة العموم كلية تتناول كل فرد من أفراد العام فتدخل أفراد المعاني الثلاثة كلها، ولو قصرنا العام على بعض أفراده لكان قصره على المتبادر هو الظاهر. وقد صرح ابن عبد السلام في دلائل الاحكام أن المراد في الآية بالطيبات المستلذات، ومن جملة ما استدل به المجوزون ما سيأتي في الباب الذي بعد هذا، وسيأتي الكلام عليه. ومن جملة ما استدل به المجوزون أنا لو حكمنا بتحريم اللهو لكونه لهوا لكان جميع ما في الدنيا محرما، لانه لهو لقوله تعالى: * (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو) * (محمد: 36) ويجاب بأنه لا حكم على جميع ما يصدق عليه مسمى اللهو لكونه لهوا، بل الحكم بتحريم لهو خاص وهو لهو الحديث المنصوص عليه في القرآن، لكنه لما علل في الآية بعلة الاضلال عن سبيل الله لم ينتهض للاستدلال به على المطلوب، وإذا تقرر جميع ما حررناه من حجج
[ 271 ]
الفريقين فلا يخفى على الناظر أن محل النزاع إذا خرج عن دائرة الحرام لم يخرج عن دائرة الاشتباه، والمؤمنون وقافون عند الشبهات كما صرح به الحديث الصحيح، ومن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ولا سيما إذا كان مشتملا على ذكر القدود والخدود والجمال والدلال والهجر والوصال ومعاقرة العقار وخلع العذار والوقار، فإن سامع ما كان كذلك لا يخلو عن بلية، وإن كان من التصلب في ذات الله على حديقصر عنه الوصف، وكم لهذه الوسيلة الشيطانية من قتيل دمه مطلول، وأسير بهموم غرامه وهيامه مكبول، نسأل الله السداد والثبات، ومن أراد الاستيفاء للبحث في هذه المسألة فعليه بالرسالة التي سميتها: إبطال دعوى الاجماع على تحريم مطلق السماع. باب ضرب النساء بالدف لقدوم الغائب وما في معناه عن بريدة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول الله إني كنت نذرت إن ردك الله صالحا أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى، قال لها: إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا، فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضر ب، ثم دخل عمر فألقت الدف تحت أستها ثم قعدت عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الشيطان ليخاف منك يا عمر، إني كنت جالسا وهي تضرب فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلت أنت يا عمر ألقت الدف رواه أحمد والترمذي وصححه. الحديث أخرجه أيضا ابن حبان والبيهقي، وفي الباب عن عبد الله بن عمر وعند أبي داود. وعن عائشة عند الفاكهاني في تاريخ مكة بسند صحيح، وقد استدل المصنف بحديث الباب علجواز ما دل عليه الحديث عند القدوم من الغيبة، والقائلون بالتحريم يخصون مثل ذلك من عموم الادلة الدالة على المنع، وأما المجوزون فيستدلون به على مطلق الجواز لما سلف، وقد دلت الادلة على أنه لا نذر في معصية الله، فالاذن منه صلى الله عليه وآله وسلم لهذه المرأة بالضرب يدل على أن ما فعلته ليس بمعصية في مثل ذلك الموطن، وفي بعض
[ 272 ]
ألفاظ الحديث أنه قال لها: أوفي بنذرك. ومن جملة مواطن التخصيص للهو في العرسات، وقد تقدمت الاحاديث في ذلك في كتا ب الوليمة من كتاب النكاح. ومن مواطن التخصيص أيضا في الاعياد لما في الصحيحين من حديث عائشة قالت: دخل علي أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الانصار تغنيانني بما تقاولت به الانصار يوم بعاث وليستا بمغنيتين، فقال أبو بكر: مزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك في يوم عيد، فقال: يا أبا بكر لكل قوم عيد وهذا عيدنا. وروى المبرد والبيهقي في المعرفة عن عمر أنه إذا كان داخلا في بيته ترنم بالبيت والبيتين. ورواه المعافى النهرواني في كتاب الجليس والانيس، وابن منده في المعرفة في ترجمة أسلم الحادي. وأخرج النسائي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لعبدالله بن رواحة: حرك بالقوم فاندفع يرتجز. [ رك ] كتاب الاطعمة والصيد والذبائح [ رم ] باب في أن الاصل في الاعيان والاشياء الاباحة إلى أن يرد منع أو إلزام عن سعد بن أبي وقاص: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شئ لم يحرم على الناس فحرم من أجل مسألته. وعن أبي هريرة: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شئ فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم متفق عليهما. وعن سلمان الفارسي قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال: الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا لكم رواه ابن ماجة والترمذي. وعن علي عليه السلام قال: لما نزلت: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا
[ 273 ]
) * (المائدة: 101) قالوا: يا رسول الله في كل عام؟ فسكت، فقالوا: يا رسول الله في كل عام؟ قال: لا، ولو قلت نعم لوجبت. فأنزل الله: * (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) * (المائدة: 101) رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن. حديث سلمان قيل: إنه لم يوجد في سنن الترمذي، ويدل على ذلك أنه روى صاحب جامع الاصول شطرا منه من قوله: الحلال ما أحل الله الخ، ولم ينسبه إلى الترمذي بل بيض له، ولكنه قد عزاه الحافظ في الفتح في باب ما يكره من كثرة السؤال إلى الترمذي كما فعله المصنف. والحديث أورده الترمذي في كتاب اللباس وبوب له باب ما جاء في لباس الفراء. وأخرجه أيضا الحاكم في المستدرك. وقد ساقه ابن ماجة بإسناد فيه سيف بن هارون البرجمي وهو ضعيف متروك. وحديث علي أخرجه أيضا الحاكم وهو منقطع كما قال الحافظ. وصورة إسناده في الترمذي قال: حدثنا أبو سعيد الاشج، حدثنا منصور بن زاذان عن علي بن عبد الاعلى عن أبيه عن أبي البختري عن علي فذكره، قال أبو عيسى الترمذي: حديث علي حديث غريب، واسم أبي البختري سعيد بن أبي عمران وهو سعيد ابن فيروز انتهى. وفي الباب عن ابن عباس وأبي هريرة وقد تقدما في أول كتاب الحج. (وفي الباب) أحاديث ساقها البخاري في باب ما يكره من كثرة السؤال، وأخرج البزار وقال: سنده صالح، والحاكم وصححه من حديث أبي الدرداء رفعه بلفظ: ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا وتلا: * (وما كان ربك نسيا) * (مريم: 64). وأخرج الدارقطني من حديث أبي ثعلبة رفعه: أن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد خدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها. وأخرج مسلم من حديث أنس وأصله في البخاري قال: كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن شئ الحديث. وفي البخاري من حديث ابن عمر: فكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسائل وعابها. وأخرج أحمد عن أبي أمامة قال: لما نزلت: * (يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء) * الآية، كنا قد اتقينا أن نسأله صلى الله عليه وآله وسلم الحديث. والراجح في تفسير الآية أنها نزل في النهي عن كثرة المسائل عما كان وعما لم يكن، وقد أنكر ذلك جماعة من أهل العلم منهم القاضي أبو بكر بن العربي فقال: اعتقد قوم من
[ 274 ]
الغافلين منع السؤال عن النوازل إلى أن تقع تعلقا بهذه الآية وليس كذلك، لانها مصرحة بأن المنهي عنه ما تقع المساءة في جوابه، ومسائل النوازل ليست كذلك، قال الحافظ: وهو كما قال، إلا أن ظاهرها اختصاص ذلك بزمان نزول الوحي، ويؤيده حديث سعد المذكور في أول الباب لانه قد أمن من وقوع التحريم لاجل المسألة، ولكن ليس الظاهر ما قاله ابن العربي من الاختصاص، لان المساءة مجوزة في السؤال عن كل أمر لم يقع، وأما ما ثبت في الاحاديث من وقوع المسائل من الصحابة فيحتمل أن ذلك قبل نزول الآية، ويحتمل أن النهي في الآية لا يتناول ما يحتاج إليه مما تقرر حكمه، كبيان ما أجمل أو نحو ذلك مما وقعت عنه المسائل، وقد وردت عن الصحابة آثار كثيرة في المنع من ذلك ساقها الدارمي في أوائل مسنده. منها عن زيد بن ثابت أنه كان إذا سئل عن الشئ يقول: هل كان هذا؟ فإن قيل: لا، قال: دعوه حتى يكون. قال في الفتح: والتحقيق في ذلك أن البحث عما لا يوجد فيه نص على قسمين، أحدهما: أن يبحث عن دخوله في دلالة النص على اختلاف وجوهها فهذا مطلوب لا مكروه، بل ربما كان فرضا على من تعين عليه من المجتهدين. ثانيهما: أن يدقق النظر في وجوه الفرق، فيفرق بين متماثلين بفرق ليس له أثر في الشرع مع وجود وصف الجمع أو بالعكس بأن يجمع بين مفترقين لوصف طردي مثلا، فهذا الذي ذمه السلف، وعليه ينطبق حديث ابن مسعود رفعه: هلك المتنطعون أخرجه مسلم، فرأوا أن فيه تضييع الزمان بما لا طائل تحته، ومثله الاكثار من التفريع على مسألة لا أصل لها في الكتاب ولا السنة ولا الاجماع، وهي نادرة الوقوع جدا، فيصرف فيها زمانا كان صرفه في غيرها أولى، ولا سيما إن لزم من ذلك المقال التوسع في بيان ما يكثر وقوعه، وأشد من ذلك في كثرة السؤا البحث عن أمور مغيبة، ورد الشرع بالايمان بها مع ترك كيفيتها. ومنها: ما لا يكون له شاهد في عالم الحس، كالسؤال عن وقت الساعة، وعن الروح، وعن مدة هذه الامة، إلى أمثال ذلك مما لا يعرف إلا بالنقل، والكثير منه لم يثبت فيه شئ، فيجب الايمان به من غير بحث، وأشد من ذلك ما يوقع كثرة البحث عنه في الشك والحيرة، كما صح من حديث أبي هريرة رفعه عند البخاري وغيره: لا يزال الناس يتساءلون هذا: الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ قال الحافظ: فمن سد باب المسائل حتى فاته كثير من الاحكام التي
[ 275 ]
يكثر وقوعها فإنه يقل فهمه وعلمه، ومن توسع في تفريع المسائل وتوليدها ولا سيما فيما يقل وقوعه أو يندر، ولا سيما إن كان الحامل على ذلك المباهاة والمغالبة فإنه يذم فعله، وهو عين الذي كرهه السلف، ومن أمعن البحث عن معاني كتاب الله تعالى، محافظا على ما جاء في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعن الصحابة الذين شاهدوا التنزيل، وحصل من الاحكام ما يستفاد من منطوقه ومفهومه، وعن معاني السنة وما دلت عليه كذلك مقتصرا على ما يصلح للحجة فيها، فإنه الذي يحمد وينفع وينتفع به، وعلى ذلك يحمل عمل فقهاء الامصار من التابعين فمن بعدهم، حتى حدثت الطائفة الثانية فعارضتها الطائفة الاولى، فكثر بينهم المراء والجدال وتولدت البغضاء، وهم من أهل دين واحد، والوسط هو المعتدل من كل شئ، وإلى ذلك يشير قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المذكور في الباب: فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإن الاختلاف يجر إلى عدم الانقياد، وهذا كله من حيث تقسيم المشتغلين بالعلم، وأما العمل بما ورد في الكتاب والسنة والتشاغل به فقوقع الكلام في أيهما أولى يعني هل العلم أو العمل؟ والانصاف أن يقال: كل ما زاد على ما هو في حق المكلف فرضعين، فالناس فيه على قسمين: من وجد من نفسه قوة على الفهم والتحرير فتشاغله بذلك أولى من إعراضه عنه، وتشاغله بالعبادة لما فيه من النفع المتعدي، ومن وجد من نفسه قصورا فإقباله على العبادة أولى به لعسر اجتماع الامرين، فإن الاول لو ترك العلم لاوشك أن يضيع بعض الاحكام بإعراضه، والثاني لو أقبل على العلم وترك العبادة فإنه الامران لعدم حصول الاول له وإعراضه عن الثاني انتهى. قوله: إن أعظم المسلمين إلخ، هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: إن أعظم الناس جرما قال الطيبي: فيه من المبالغة أنه جعله عظيما، ثم فسره بقوله جرما ليدل على أنه نفسه جرم، قال: وقوله في المسلمين أي في حقهم. قوله: فحرم بضم الحاء المهملة وتشديد الراء قال ابن بطال عن المهلب: ظاهر الحديث يتمسك به القدرية في أن الله يفعل شيئا من أجل شئ وليس كذلك بل هو على كل شئ قدير، فهو فاعل السبب والمسبب، ولكن الحديث محمول على التحذير مما ذكر، فعظم جرم من فعل ذلك لكثرة الكارهين لفعله. وقال غيره: أهل السنة لا ينكرون إمكان التعليل وإنما ينكرون وجوبه، فلا يمتنع أن يكون الشئ الفلاني تتعلق به الحرمة إن سئل عنه،
[ 276 ]
فقد سبق القضاء بذلك، إلا أن السؤال علة للتحريم. وقال ابن التين قيل: الجرم اللاحق به إلحاق المسلمين المضرة لسؤاله، وهي منعهم التصرف فيما كان حلالا قبل مسألته. وقال القاضي عياض: المراد بالجرم هنا الحدث على المسلمين لا الذي هو بمعنى الاثم المعاقب عليه، لان السؤال كان مباحا ولهذا قال: سلوني. وتعقبه النووي فقال: هذا الجواب ضعيف أو باطل، والصوا ب الذي قاله الخطابي والتيمي وغيرهما أن المراد بالجرم الاثم والذنب، وحملوه على من سأل تكلفا وتعنتا فيما لا حاجة له به إليه، وسبب تخصيصه ثبوت الامر بالسؤاعما يحتاج إليه لقوله تعالى: * (فاسألوا أهل الذكر) * (النحل: 34) فمن سأل عن نازلة وقعت له لضرورته إليها فهو معذور فلا إثم عليه ولا عتب، فكل من الامر بالسؤال والزجر عنه مخصوص بجهة غير الاخرى. قال: ويؤخذ منه أن من عمل شيئا أضربه غيره كان آثما. وأورد الكرماني على الحديث سؤالا فقال: السؤال ليس بجريمة، ولئن كان فليس بكبيرة، ولئن كان فليس بأكبر الكبائر. وأجاب أن السؤال عن الشئ بحيث يصير سببا لتحريم شئ مباح هو أعظم الجرم، لانه صار سببا لتضييق الامر على جميع المكلفين، فالقتل مثلا كبيرة ولكن مضرته راجعة إلى المقتول وحده أو إلى من هو منه بسبيل، بخلاف صورة المسألة فضررها عام للجميع انتهى. وقد روي ما يدل على أنه قد وقع في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم من المسائل ما كان سببا لتحريم الحلال. أخرج البزار عن سعد بن أبي وقاص قال: كان الناس يتساءلون عن الشئ من الامر فيسألون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو حلال فلا يزالون يسألونه عن الشئ حتى يحرم عليهم. قوله: ذروني في رواية البخاري دعوني ومعناهما واحد. قوله: ما تركتكم أي مدة تركي إياكم بغير أمر بشئ ولا نهى عن شئ. قال ابن فرج: معناه لا تكثروا من الاستفصال عن المواضع التي تكون مفيدة لوجه ما ظاهره ولو كانت صالحة لغيره، كما أن قوله: حجوا وإن كان صالحا للتكرار فينبغ أن يكتفي بما يصدق عليه اللفظ وهو المرة، فإن الاصل عدم الزيادة، ولا يكثر التعنت عن ذلك فإنه قد يفضي إلى مثل ما وقع لبني إسرائيل في البقرة. قوله: واختلافهم يجوز فيه الرفع والجر. قوله: فإذا نهيتكم هذا النهي عام في جميع المناهي، ويستثنى من ذلك ما يكره المكلف على فعله، وإليه ذهب الجمهور، وخالف قوم فتمسكوا بالعموم فقالوا: الاكراه على ارتكاب المعصية لا يبيحها. قوله: وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم أي
[ 277 ]
اجعلوه قدر استطاعتكم، قال النووي: هذا من جوامع الكلم وقواعد الاسلام، ويدخل فيه كثير من الاحكام كالصلاة لمن عجز عن ركن منها أو شرط فيأتي بالمقدور، وكذا الوضوء، وستر العورة، وحفظ بعض الفاتحة، وإخراج بعض زكاة الفطر لمن لم يقدر على الكل، والامساك في رمضان لمن أفطر بالعذر ثم قدر في أثناء النهار، إلى غير ذلك من المسائل التي يطول شرحها، واستدل به على أن من أمر بشئ فعجز عن بعضه ففعل المقدور أنه يسقط عنه ما عجز عنه، وبذلك استدل المزني على أن ما وجب أداؤه لا يجب قضاؤه، ومن ثم كان الصحيح أن القضاء بأمر جديد، واستدل بهذا الحديث على أن اعتناء الشارع بالمنهيات فوق اعتنائه بالمأمورات، لانه أطلق الاجتناب في المنهيات ولو مع المشقة في الترك، وقيد في المأمورات بالاستطاعة، وهذا منقول عن الامام أحمد. (فإن قيل): إن الاستطاعة معتبرة في النهي أيضا إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، فجوابه أن الاستطاعة تطلق باعتبارين كذا قيل. قال الحافظ: والذي يظهر أن التقييد في الامر بالاستطاعة لا يدل على المدعي من الاعتبار بل هو من جهة الكف، إذكل واحد قادر على الكف لولا داعية الشهوة مثلا فلا يتصور عدم الاستطاعة من الكف، بل كل مكلف قادر على الترك بخلاف الفعل فإن العجز عن تعاطيه محسوس، فمن ثم قيد في الامر بحسب الاستطاعة دون النهي. قال ابن فرج في شرح الاربعين: إن الامر بالاجتناب على إطلاقه حتى يوجد ما يبيحه كأكل الميتة عند الضرورة وشرب الخمر عند الاكراه، والاصل في ذلك جواز التلفظ بكلمة الكفر إذا كان القلب مطمئنا بالايمان كما نطق به القرآن. قال الحافظ: والتحقيق أن المكلف في كل ذلك ليس منهيا في تلك الحال. وقال الماوردي: إن الكف عن المعاصي ترك وهو سهل، وعمل الطاعة فعل وهو شاق، فلذلك لم يبح ارتكاب المعصية ولو مع العذر، لانه ترك والترك لا يعجز المعذور عنه، وادعى بعضهم أن قوله تعالى: * (فاتقوا الله ما استطعتم) * (التغابن: 16) يتناول امتثال المأمور واجتناب المنهي وقد قيد بالاستطاعة فاستويا، وحينئذ تكون الحكمة في تقييد الحديث بالاستطاعة في جانب الامر دون النهي أن العجز يكثر تصوره في الامر، بخلاف النهي فإن تصور العجز فيه محصور في الاضطرار وهو قوله تعالى: * (إلا ما اضطررتم إليه) * (الانعام: 119) وهو مضطر، ولا يرد الاكراه لانه مندرج في الاضطرار، وزعم بعضهم أن قوله تعالى: * (فاتقوا الله ما استطعتم) * (التغابن: 16) نسخ بقوله تعالى: * (اتقوا الله
[ 278 ]
حق تقاته) * (آل عمران: 102) قال الحافظ: والصحيح أنه لا نسخ، بل المراد بحق تقاته امتثال أمره واجتناب نهيه مع القدرة لا مع العجز. قوله: الفراء بفتح الفاء مهموز حمار الوحش كذا في مختصر النهاية، ولكن تبويب الترمذي الذي ذكرناه سابقا يدل على أن الفراء بكسر الفاء جمع فرو. قوله: الحلال ما أحل الله في كتابه الخ، المراد من هذه العبارة وأمثالها مما يدل على حصر التحليل والتحريم على الكتاب العزيز هو باعتبار اشتماله على جميع الاحكام ولو بطريق العموم أو الاشارة أو باعتبار الاغلب لحديث: إني أوتيت القرآن ومثله معه وهو حديث صحيح. قوله: وعن علي إلخ، قد تقدم الكلام على ما اشتمل عليه حديث علي في أول كتاب الحج. باب ما يباح من الحيوان الانسي [ رح 3559 ] عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الاهلية وأذن في لحو الخيل متفق عليه وهو للنسائي وأبي داود. وفي لفظ: أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر رواه الترمذي. وصححه. وفي لفظ: سافرنا يعني مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكنا نأكل لحوم الخيل ونشرب ألبانها رواه الدارقطني. [ رح 3560 ] وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: ذبحنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فرسا ونحن بالمدينة فأكلناه متفق عليه. ولفظ أحمد: ذبحنا فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأكلناه نحن وأهل بيته. وعن أبي موسى قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأكل لحم دجاج متفق عليه. قوله: نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الاهلية فيدليل على تحريمها، وسيأتي الكلام على ذلك. قوله: وأذن في لحوم الخيل استدل بالقائلون بحل أكلها، قال الطحاوي: ذهب أبو حنيفة إلى كراهة أكل الخيل، وخالفه صاحباه وغيرهما واحتجوا بالاخبار المتواترة في حلها، ولو كان ذلك مأخوذا مطريق النظر لما كان بين الخيل والحمر الاهلية فرق، ولكن الآثار إذا صحت عن رسول الله صلى
[ 279 ]
الله عليه وآله وسلم أولى أن نقول بها مما يوجبه النظر، ولا سيما وقد أخبر جابر أنه صلى الله عليه وآله وسلم أباح لهم لحوم الخيل في الوقت الذى منعهم فيه من لحوم الحمر، فدل ذلك على اختلاف حكمهما. قال الحافظ: وقد نقل الحل بعض التابعين عن الصحابة من غير استثناء أحد، فأخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح على شرط الشيخين عن عطاء أنه قال لابن جريج: لم يزل سلفك يأكلونه، قال ابن جريج: قلت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: نعم. وأما ما نقل في ذلك عن ابن عباس من كراهتها فأخرجه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق بسندين ضعيفين، وسيأتي في الباب الذي بعد هذا عن ابن عباس أنه استدل لحل الحمر الاهلية بقوله تعالى: * (قل لا أجد فيما أوحي إلي) * (الانعام: 145) الآية، وذلك يقوي أنه من القائلين بالحل. وأخرج الدارقطني عنه بسند قوي قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن لحوم الحمر الاهلية وأمر بلحوم الخيل قال في الفتح: وصح القول بالكراهة عن الحكم ابن عتيبة ومالك وبعض الحنفية، وعن بعض المالكية والحنفية التحريم، قال الفاكهاني: المشهور عند المالكية الكراهة، والصحيح عند المحققين منهم التحريم، وقد صحح صاحب المحيط والهداية والذخيرة عن أبي حنيفة التحريم وإليه ذهبت العترة كما حكاه في البحر، ولكنه حكى الحل عن زيد بن علي، واستدل القائلون بالتحريم بما رواه الطحاوي وابن حزم من طريق عكرم بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن لحوم الحمر والخيل والبغال قال الطحاوي: أهل الحديث يضعفون عكرمة بن عمار، قال الحافظ: لا سيما في يحيى بن أبي كثير، فإن عكرمة وإن كان مختلفا في توثيقه قد أخرج له مسلم، لكن إنما أخرج له من غير روايته عن يحيى بن أبي كثير، وقال يحيى بن سعيد القطان: أحاديثه عن يحيى بن أبي كثير ضعيفة. وقال البخاري: حديثه عن يحيى مضطرب. وقال النسائي: ليس به بأس إلا في يحيى. وقال أحمد: حديثه من غير إياس بن سلمة مضطرب. وعلى تقدير صحة هذه الطريق فقد اختلف على عكرمة فيها، فإن الحديث عند أحمد والترمذي من طريقه ليس فيه للخيل ذكر، وعلى تقدير أن يكون الذي زاده حفظه فالروايات المتنوعة عن جابر المفصلة بين لحوم الخيل والحمر في الحكم أظهر اتصالا وأتقن رجالا وأكثر عددا، ومن أدلتهم ما رواه في السنن من حديث خالد ابن الوليد: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الخيل. وتعقب
[ 280 ]
بأنه شاذ منكر، لان في سياقه أنه شهد خيبر وهو خطأ، فإنه لم يسلم إلا بعدها على الصحيح. وقد روي الحديث من طريق أخرى عن خالد وفيها مجهول، ولا يقال إن جابرا أيضا لم يشهد خيبر كما أعل الحديث بذلك بعض الحنفية. لانا نقول: ذلك ليس بعلة مع عدم التصريح بحضوره، فغايت أن يكون من مراسيل الصحابة. وأما الرواية الثانية عنه المذكورة في الباب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أطعمهم لحوم الخيل، وفي الاخرى أنهم سافروا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فليس في ذلك تصريح بأنه كان في خيبر فيمكن أن يكون في غيرها، ولو فرضنا ثبوت حديث خالد وسلامته عن العلل لم ينتهض لمعارضة حديث جابر وأسماء المتفق عليهما، مع أنه قد ضعف حديث خالد أحمد والبخاري وموسى بن هارون والدارقطني والخطابي وابن عبد البر وعبد الحق وآخرون. ومن جملة ما استدل به القائلون بالتحريم قوله تعالى: * (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة) * (النحل: 8) وقد تمسك بها أكثر القائلين بالتحريم وقرروا ذلك بأن اللام للتعليل، فدل على أنها لم تخلق لغير ذلك، لان العلة المنصوصة تفيد الحصر، فإباحة أكلها تقتضي خلاف الظاهر من الآية، وقرره أيضا بأن العطف يشعر بالاشتراك في الحكم، وبأن الآية سيقت مساق الامتنان، فلو كان ينتفع بها في الاكل لكان الامتنان به أعظم، وأجيب إجمالا بأن الآية مكية اتفاقا، والاذن كان بعد الهجرة، وأيضا ليست نصا في منع الاكل، والحديث صريح في الحل، وأجيب أيضا تفصيلا بأنا لو سلمنا أن اللام للعلة لم نسلم إفادته الحصر في الركوب والزينة، فإنه ينتفع بالخيل في غير هما وفي غير الاكل اتفاقا، ونظير ذلك حديث البقرة المذكور في الصحيحين حين خاطبت راكبها فقالت: إنا لم نخلق لهذا إنما خلقنا للحرث، فإنه مع كونه أصرح في الحصر لكونه بإنما مع اللام لا يستدل به على تحريم أكلها، وإنما المراد الاغلب من المنافع، وهو الركوب في الخيل والتزين بها والحرث في البقر، وأيضا يلزم المستدل بالآية أنه لا يجوز حمل الاثقال على الخيل والبغال والحمير ولا قائل به. وأما الاستدلال بالعطف فغايته دلالة اقتران وهي من الضعف بمكان. وأما الاستدلال بالامتنان فهو باعتبار غالب المنافع. قوله: ذبحنا فرسا لفظ البخاري: نحرنا فرسا وقد جمع بين الروايتين بحمل النحر على الذبح مجازا وقد وقع ذلك مرتين. قوله: يأكل لحم دجاج هو اسم جنس مثلث الدال، ذكره المنذري وابن مالك وغيرهما، ولم يحك النووي أن ذلك مثلث، وقيل: إن الضم ضعيف، قال
[ 281 ]
الجوهري: دخلتها التاء للوحدة مثل الحمامة. وقال إبراهيم الحربي: إن الدجاجة بالكسر اسم للذكران دون الاناث والواحد منها ديك، وبالفتح الاناث دون الذكران والواحدة دجاجة بالفتح أيضا. وفي القاموس: والدجاجة معروف للذكر والانثى وتثلث اه. وقد تقدم نقله. وفي الحديث قصة وهو أن رجلا امتنع من أكل الدجاج وحلف على ذلك فأفتاه أبو موسى بأنه يكفر عن يمينه ويأكل، وقص له الحديث. باب النهي عن الحمر الانسية عنأبي ثعلبة الخشني قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحوم الحمر الاهلية متفق عليه، وزاد أحمد: ولحم كل ذي ناب من السباع. [ رح 3562 ] وعن البراء بن عازب قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الانسية نضيجا ونيا. وعن ابن عمر قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن أكل لحوم الحمر الاهلية متفق عليهما. وعنابن أبي أوفى قال: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن لحوم الحمر رواه أحمد والبخاري. وعن زاهر الاسلمي وكان ممن يشهد الشجرة قال: إني لا وقد تحت القدور بلحوم الحمر إذ نادى مناد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهاكم عن لحوم الحمر. وعن عمرو بن دينار قال: قلت لجابر بن زيد: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الحمر الاهلية، قال: قد كان يقول ذلك الحكم ابن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس وقرأ : * (قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما) * (االانعام: 145) رواهما البخاري. وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حرم يوم خيبر كل ذي ناب من السباع والمجثمة والحمار الانسي رواه أحمد والترمذي وصححه. وعنابن أبي أوفى قال: أصابتنا مجاعة ليالي خيبر، فلما كان يوم خيبر وقعنا في الحمر الاهلية فانتحرناها فلما غلت بها القدور نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن اكفؤوا القدور لا تأكلوا من لحوم الحمر شيئا، فقال ناس: إنما نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لانها لم تخمس، وقال آخرون: نهى عنها البتة متفق عليه. وقد ثبت النهي من رواية علي وأنس وقد ذكرا. قوله: الانسية قال في الفتح: بكسر الهمزة وسكون النون منسوبة إلى الانس،
[ 282 ]
ويقال فيه أنسية بفتحتين، وزعم ابن الاثير أن في كلام أبي موسى المديني ما يقتضي أنها بالضم ثم السكون، وقد صرح الجوهري أن الانس بفتحتين ضد الوحشة، ولم يقع في شئ من روايات الحديث بضم ثم سكون مع احتمال جوازه، نعم زيف أبو موسى الرواية بكسر أوله ثم السكون، فقال ابن الاثير: إن أراد من جهة الرواية وإلا فهو ثابت في اللغة، والمراد بالانسية الاهلية كما وقع في سائر الروايات، ويؤخذ من التقييد بها جواز أكل الحمر الوحشية، ولعله يأتي البحث عنها إن شاء الله. قوله: إذ نادى مناد وقع عند مسلم أن الذي نادى بذلك أبو طلحة، ووقع عند مسلم أيضا أن بلالا نادى بذلك. وعند النسائي أن المنادي بذلك عبد الرحمن بن عوف، ولعل عبد الرحمن نادى أولا بالنهي مطلقا، ثم نادى أبو طلحة وبلال بزيادة على ذلك وهو قوله: فإنها رجس. قوله: وقرأ قل لا أجد الآية، هذا الاستدلال إنما يتم في الاشياء التي لم يرد النص بتحريمها، وأما الحمر الانسية فقد تواترت النصوص على ذلك، والتنصيص على التحريم مقدم على عموم التحليل وعلى القياس وأيضا الآية مكية. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: إنما حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحمر الاهلية مخافة قلة الظهر. رواه ابن ماجة والطبراني وإسناده ضعيف. وفي البخاري في المغازي أن ابن عباس تردد هل كان النهي لمعنى خاص أو للتأبيد؟ وعن بعضهم إنما نهى عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لانها كانت تأكل العذرة. وفي حديث ابن أبي أوفى المذكور في الباب فقال ناس: إنما نهى عنها، لانها لم تخمس. قال الحافظ: وقد أزال هذه الاحتمالات من كونها لم تخمس أو كانت جلالة أو غيرهما حديث أنس حيث جاء فيه: فإنها رجس وكذلك الامر بغسل الاناء في حديث سلمة اه. والحديثان متفق عليهما، وقد تقدما في أول الكتاب في باب نجاسة لحم الحيوان الذي لا يؤكل إذا ذبح من كتاب الطهارة. قال القرطبي: ظاهره أن الضمير في أنها رجس عائد على الحمر، لانها المتحدث عنها المأمور بإكفائها من القدور وغسلها، وهذا حكم النجس. فيستفاد منه تحريم أكلها لعينها لا لمعنى خارج. وقال ابن دقيق العيد: الامر بإكفاء القدور ظاهر أنه بسبب تحريم لحم الحمر. قال الحافظ: وقد وردت علل أخر إن صح رفع شئ منها وجب المصير إليه، لكن لا مانع أن يعلل الحكم بأكثر من علة. وحديث أبي ثعلبة صريح في التحريم فلا معدل عنه. وأما التعليل بخشية قلة الظهر فأجاب عنه الطحاوي بالمعارضة بالخيل، فإن في حديث جابر النهي عن الحمر والاذن في الخيل مقرونان، فلو كانت العلة لاجل
[ 283 ]
الحمولة لكانت الخيل أولى بالمنع لقلتها عندهم وعزتها وشدة حاجتهم إليها. قال النووي: قال بتحريم الحمر الاهلية أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم، ولم نجد عن أحد من الصحابة في ذلك خلافا إلا عن ابن عباس وعند مالك ثلاث روايات ثالثها الكراهة. وقد أخرج أبو داود عن غالب بن أبجر قال: أصابتنا سنة فلم يكن في مالي ما أطعم أهلي إلاسمان حمر، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: إنك حرمت لحوم الحمر الاهلية وقد أصابتنا سنة، قال: أطعم أهلك من سمين حمرك فإنما حرمتها من أجل جوال القرية بفتح الجيم والواو وتشديد اللام جمع جالة مثل سوام جمع سامة بتشديد الميم، وهوام جمع هامة يعني الجلالة وهي التي تأكل العذرة. (والحديث) لا تقوم به حجة، قال الحافظ: إسناده ضعيف والمتن شاذ مخالف للاحاديث الصحيحة فلا اعتماد عليه. وقال المنذري: اختلف في إسناده كثيرا، وقال البيهقي: إسناده مضطرب. قال ابن عبد البر: روى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحريم الحمر الاهلية علي عليه السلام وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وجابر والبرا وعبد الله بن أبي أوفى وأنس وزاهر الاسلمي بأسانيد صحاح وحسان. وحديث غالب بن أبجر لا يعرج على مثله مع ما يعارضه، ويحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رخص لهم في مجاعتهم، وبين علة تحريمها المطلق بكونها تأكل العذرات. وأما الحديث الذي أخرجه الطبراني عن أم نصر المحاربية: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الحمر الاهلية فقال: أليس ترعى الكلا وتأكل الشجر؟ قال: نعم، قال: فأصب من لحومها. وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق رجل من بني مرة قال: سألت فذكر نحوه، فقال الحافظ: في السندين مقال، ولو ثبتا احتمل أن يكون قبل التحريم. قال الطحاوي: لولا تواتر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بتحريم الحمر الاهلية لكان النظر يقتضي حلها، لان كل ما حرم من الاهلي أجمع على تحريمه إذا كان وحشيا كالخنزير، وقد أجمع على حل الوحشي فكان النظر يقتضي حل الحمار الاهلي. قال في الفتح: وما ادعاه من الاجماع مردود، فإن كثيرا من الحيوان الاهلي مختلف في نظيره من الحيوان الوحشي كالهر. قوله: كل ذي ناب من السباع سيأتي الكلام فيه. قوله: المجثمة بضم الميم وفتح الجيم وتشديد المثلثة على صيغة اسم المفعول، وهي كل حيوان ينصب ويقتل، إلا أنها قد كثرت في الطير والارنب وما يجثم في الارض أي يلزمها، والجثم في الاصل
[ 284 ]
لزوم المكان أو الوقوع على الصدر أو التلبد بالارض كما في القاموس، فالتجثيم نوع من المثلة. باب تحريم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير عنأبي ثعلبة الخشني: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: كل ذي ناب من السباع فأكله حرام رواه الجماعة إلا البخاري وأبا داود. وعن ابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. [ رح 3571 ] وعن جابر قال: حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني يوم خيبر لحوم الحمر الانسية ولحوم البغال وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير رواه أحمد والترمذي. وعن عرباض بن سارية: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرم يوم خيبر كل ذي مخلب من الطير ولحوم الحمر الاهلية والخلسة والمجثمة رواه أحمد والترمذي وقال نهى بدل لفظ التحريم، وزاد في رواية: قال أبو عاصم المجثمة أن ينصب الطير فيرمى. والخلسة الذئب أو السبع يدركه الرجل فيأخذ منه يعني الفريسة فتموت في يده قبل أن يذكيها. حديث جابر أصله في الصحيحين كما سلف، وهو بهذا اللفظ بسند لا بأس به كما قاله الحافظ في الفتح، وكذلك حديث العرباض بن سارية لا بأس بإسناده. قوله: كل ذي ناب الناب السن الذي خلف الرباعية جمعه أنياب، قال ابن سينا: لا يجتمع في حيوان واحد ناب وقرن معا، وذو الناب من السباع كالاسد والذئب والنمر والفيل والقرد، وكل مله ناب يتقوى به ويصطاد، فقال في النهاية: وهو ما يفترس الحيوان ويأكل قسراكالاسد والنمر والذئب ونحوها. وقال في القاموس: والسبع بضم الباء وفتحها المفترس من الحيوان اه. ووقع الخلاف في جنس السباع المحرمة فقال أبو حنيفة: كل ما أكل اللحم فهو سبع حتى الفيل والضبع واليربوع والسنور. وقال الشافعي: يحرم من السباع ما يعدو على الناس كالاسد والنمر والذئب. وأما الضبع والثعلب فيحلان عنده، لانهما لا يعدوان. قوله: وكل ذي مخلب المخلب بكسر الميم وفتح اللام قال أهل اللغة: المخلب للطير والسباع بمنزلة الظفر
[ 285 ]
للانسان. وفي الحديث دليل على تحريم ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير، وإلى ذلك ذهب الجمهور. وحكى ابن عبد الحكم وابن وهب عن مالك مثل قول الجمهور. وقال ابن العربي: المشهور عنه الكراهة. قال ابن رسلان: ومشهور مذهبه على إباحة ذلك، وكذا قال القرطبي. وقال ابن عبد البر: اختلف فيه عن ابن عباس وعائشة، وجاء عن ابن عمر من وجه ضعيف وهو قول الشعبي وسعيد بن جبير يعني عدم التحريم واحتجوا بقوله تعالى: * (قل لا أجد في ما أوحي إلي) * (الانعام: 145) الآية، وأجيب بأنها مكية، وحديث التحريم بعد الهجرة، وأيضا هي عامة والاحاديث خاصة، وقد تقدم الجواب عن الاحتجاج بالآية مفصلا. وعن بعضهم: أن آية الانعام خاصة ببهيمة الانعام، لانه تقدم قبلها حكاية عن الجاهلية أنهم كانوا يحرمون أشياء من الازواج الثمانية بآرائهم فنزلت الآية: * (قل لا أجد) * أي من المذكورات، ويجاب عن هذا أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله: ولحوم البغال فيه دليل علتحريمه وبه قال الاكثر، وخالف في ذلك الحسن البصري كما حكاه عنه في البحر. قوله: والخلسة بضم الخاء وسكون اللام بعدها سين مهملة وهي ما وقع التفسير فيه في المتن. قوله: والمجثمة قد تقدم ضبطها وتفسيرها. باب ما جاء في الهر والقنفذ عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن أكل الهر وأكل ثمنها رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي. [ رح 3574 ] وعن عيسى بن نميلة الفزاري عن أبيه قال: كنت عند ابن عمر فسئل عن أكل القنفذ فتلا هذه الآية: * (قل لا أجد فيما أوحى إلي محرما) * الآية، فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: خبيثة من الخبائث، فقال ابن عمر: إن كان قاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو كما قال رواه أحمد وأبو داود. حديث جابر في إسناده عمر بن زيد الصنعاني، قال المنذري وابن حبان: لا يحتج به. وقال ابن رسلان في شرح السنن: لم يرو عنه غير عبد الرزاق، وقد أخرج النهي عن أكل ثمن الكلب والسنور مسلم في صحيحه. وحديث عيسى بن نميلة قال الخطابي: ليس إسناده بذاك، وقال البيهقي: إسناده غير قوي ورواه شيخ مجهول. وقال في بلوغ
[ 286 ]
المرام: إسناده ضعيف. وقد استدل بالحديث الاول على تحريم أكل الهر، وظاهره عدم الفرق بين الوحشي والاهلي، ويؤيد التحريم أنه من ذوات الانياب وللشافعية وجه في حل الهر الوحشي كحمار الوحش إذا كان وحشي الاصل لا إن كان أهليا ثم توحش. قوله: عن عيسى بن نميلة بضم النون وتخفيف الميم مصغر نملة ذكره ابن حبان في الثقات. قوله: القنفذ هو واحد القنافذ، والانثى الواحدة قنفذة وهو بضم القاف وسكون النون وضم الفاء وبالذال المعجمة وقد تفتح الفاء، وهو نوعان: قنفذ يكون بأرض مصر قدر الفأر الكبير، وآخر يكون بأرض الشام في قدر الكلب وهو مولع بأكل الافاعي ولا يتألم بها، كذا قال ابن رسلان في شرح السنن. وقد استدل بالحديث على تحريم القنفذ، لان الخبائث محرمة بنص القرآن، وهو مخصص لعموم الآية الكريمة كما سلف في مثل ذلك. وقد حكي التحريم في البحر عن أبي طالب والامام يحيى، قال ابن رسلان راويا عن القفال: أنه قال: إن صح الخبر فهو حرام وإلا رجعنا إلى العرب والمنقول عنهم أنهم يستطيبونه. وقال مالك وأبو حنيفة: القنفذ مكروه، ورخص فيه الشافعي والليث وأبو ثور اه. وحكي الكراهة في البحر أيضا عن المؤيد بالله، والراجح أن الاصل الحل حتى يقوم دليل ناهض ينقل عنه أو يتقرر أنه مستخبث في غالب الطباع، ويؤيد القول بالحل ما أخرجه أبو داود عن ملقام بن تلب عن أبيه قال: صحبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم أسمع لحشرات الارض تحريما وهذا يؤيد الاصل، وإن كان عدم السماع لا يستلزم عدم ورود دليل ولكن قال البيهقي: إن إسناده غير قوي. وقال النسائي: ينبغي أن يكون ملقام بن التلب ليس بالمشهور، قال ابن رسلان: إن حشرات الارض كالضب والقنفذ واليربوع وما أشبهها وأطال في ذلك. باب ما جاء في الضب عن ابن عباس عن خالد بن الوليد: أنه أخبره أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ميمونة وهي خالته وخالة ابن عباس فوجد عندها ضبا محنوذا قدمت به أختها حفيدة بنت الحرث من نجد، فقدمت الضب لرسول
[ 287 ]
الله صلى الله عليه وآله وسلم فأهوى بيده إلى الضب، فقالت امرأة من النسوة الحضور: أخبرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما قدمتن له، قلن: هو الضب يا رسول الله، فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده فقال خالد بن الوليد: أحرام الضب يا رسول الله؟ قا: لا ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه، قال خالد: فاجتررته فأكلته ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينظر فلم ينهني رواه الجماعة إلا الترمذي. وعنابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن الضب فقال: لا آكله ولا أحرمه متفق عليه. وفي رواية عنه: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان معه ناس فيهم سعد فأتوا بلحم ضب فنادت امرأة من نسائه إنه لحم ضب، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كلوا فإنه حلال ولكنه ليس من طعامي رواه أحمد ومسلم. [ رح 3577 ] وعن جابر: أن عمر بن الخطاب قال في الضب: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يحرمه، وأن عمر قال: إن الله لينفع به غير واحد، وإنما طعام عامة الرعاء منه، ولو كان عندي طعمته رواه مسلم وابن ماجة. وعن جابر قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بضب فأبى أن يأكل منه وقال: لا أدري لعله من القرون التي مسخت. وعن أبي سعيد: أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إني في غائط مضبة وإنه عامة طعام أهلي، قال: فلم يجبه، فقلنا: عاوده فعاوده فلم يجبه ثلاثا، ثم ناداه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الثالثة فقال: يا أعرابي إن الله لعن أو غضب على سبط من بني إسرائيل فمسخهم دواب يدبون في الارض ولا أدري لعل هذا منها فلم آكلها ولا أنهى عنها رواهما أحمد ومسلم. وقد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم أن الممسوخ لا نسل له، والظاهر أنه لم يعلم ذلك إلا بوحي، وأن تردده في الضب كان قبل الوحي بذلك. والحديث يرويه ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكرت عنده القردة قال مسعر: وأراه قال: والخنازير مما مسخ، فقال: إن الله لم يجعل لمسخ نسلا ولا عقبا وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك. وفي رواية: أن رجلا قال: يا رسول الله القردة والخنازير هي مما مسخ الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله لم يهلك أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا روى ذلك أحمد ومسلم. قوله: فوجد عندها ضبا هو دويبة تشبه الحرذون ولكنه أكبر منه قليلا،
[ 288 ]
ويقال للانثى ضبة. قال ابن خالويه: إنه يعيش سبعمائة سنة، وإنه لا يشرب الماء ويبول في كل أربعين يوما قطرة، ولا يسقط له سن، ويقال: بل أسنانه قطعة واحدة. قوله: محنوذا بحاء مهملة ونون مضمومة وآخره ذال معجمة أي مشويا بالحجارة المحماة، ووقع في رواية بضب مشوي. قوله: أختها حفيدة بمهملة مضمومة بعدها فاء مصغرة. قوله: لم يكن بأرض قومي قال ابن العربي: اعترض بعض الناس على هذه اللفظة وقال: إن الضباب موجودة بأرض الحجاز، فإن كان أراد تكذيب الخبر فقد كذب هو، فإنه ليس بأرض الحجاز منها شئ وربما أنها حدثت بعد عصر النبوة، وكذا أنكر ذلك ابن عبد البر ومن تبعه. قال الحافظ: ولا يحتاج إلى شئ من هذا، بل المراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم بأرض قومي قريش فقط يختص النفي بمكة وما حولها، ولا يمنع ذلك أن تكون موجودة بسائر بلاد الحجاز. قوله: فأجدني أعافه أي أكره أكله، يقال: عفت الشئ أعافه. قوله: فاجتررته بجيم وراءين مهملتين، هذا هو المعروف في كتب الحديث، وضبطه بعض شراح المهذب بزاي قبل الراء وقد غلطه النووي. قوله: لا آكله ولا أحرمه فيه جواز أكل الضب. قال النووي: وأجمع المسلمون على أن الضب حلال ليس بمكروه إلا ما حكي عن أصحاب أبي حنيفة من كراهته، وإلا ما حكاه القاضي عياض عن قوم أنهم قالوا هو حرام وما أظنه يصح عن أحد، فإن صح عن أحد فمحجوج بالنصوص وإجماع من قبله اه. قال الحافظ قد نقله ابن المنذر عن علي رضي الله عنه فأين يكون الاجماع مع مخالفته؟ ونقل الترمذي كراهته عن بعض أهل العلم. وقال الطحاوي في معاني الآثار: كره قوم أكل الضب منهم أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد ابن الحسن: وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه نهى عن أكل لحم الضب أخرجه أبو داود من حديث عبد الرحمن بن شبل. قال الحافظ في الفتح: وإسناده حسن فإنه من رواية إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي راشد الحبراني عن عبد الرحمن بن شبل. وحديث ابن عياش عن الشاميين قوي، وهؤلاء شاميون ثقات، ولا يغتر بقول الخطابي ليس إسناده بذاك. وقول ابن حزم فيه ضعفاء ومجهولون. وقول البيهقي تفرد به إسماعيل بن عياش وليس بحجة. وقول ابن الجوزي لا يصح. ففي كل ذلك تساهل لا يخفى. فإن رواية إسماعيل عن الشاميين قوية عند البخاري
[ 289 ]
وقد صحح الترمذي بعضها. وأخرج أحمد وأبو داود وصححه ابن حبان والطحاوي وسنده على شرط الشيخين من حديث عبد الرحمن بن حسنة: نزلنا أرضا كثيرة الضباب الحديث وفيه: أنهم طبخوا منها فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب فأخشى أن تكون هذه فاكفؤها. ومثله حديث أبي سعيد المذكور في الباب. قال في الفتح: والاحاديث وإن دلت على الحل تصريحا وتلويحا نصا وتقريرا فالجمع بينها وبين الحديث المذكور حمل النهي فيه على أول الحال عند تجويز أن يكون مما مسخ. وحينئذ أمر بإكفاء القدور ثم توقف فلم يأمر به ولم ينه عنه. وحمل الاذن فيه على ثاني الحال لما علم أن الممسوخ لا نسل له، وبعد ذلك كان يستقذره فلا يأكله ولا يحرمه وأكل على مائدته بإذنه فدل على الاباحة. وتكون الكراهة للتنزيه في حق من يتقذره، وتحمل أحاديث الاباحة على من لا يتقذره. وقد استدل على الكراهة بما أخرجه الطحاوي عن عائشة أنه أهدي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ضب فلم يأكله فقام عليهم سائل فأرادت عائشة أن تعطيه فقال لها: أتعطينه ما لا تأكلين؟. قال محمد بن الحسن: دل ذلك على كراهته لنفسه ولغيره. وتعقبه الطحاوي باحتمال أن يكون ذلك من جنس ما قال الله تعالى: * (ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) * البقرة: 267) ثم ساق الاحاديث الدالة على كراهة التصدق بحشف التمر، وكحديث البراء كانوا يحبون الصدقة بأردأ تمرهم فنزلت: * (أنفقوا من طيبات ما كسبتم) * (البقرة: 267) قال: فلهذا المعنى كره لعائشة أن تصدق بالضب لا لكونه حراما، وهذا يدل على أن الطحاوي فهم عن محمد أن الكراهة فيه للتحريم. والمعروف عن أكثر الحنفية فيه كراهة التنزيه. وجنح بعضهم إلى التحريم. وقال: اختلفت الاحاديث وتعذرت معرفة المتقدم فرجحنا جانب التحريم، ودعوى التعذر ممنوعة بما تقدم. قوله: في غائط مضبة قال النووي: فيه لغتان مشهورتان إحداهما فتح الميم والضاد، والثانية ضم الميم وكسر الضاد، والاول أشهر وأفصح، والمراد ذات ضباب كثيرة، والغائط الارض المطمئنة. قوله: يدبون بكسر الدال. قوله: ولا أدري لعل هذا منها قال القرطبي: إنما كان ذلك ظنا منه قبل أن يوحى إليه أن الله لم يجعل لمسخ نسلا، فلما أوحى إليه بذلك زال التظنن وعلم أن الضب ليس مما مسخ كما في الحديث المذكور في الباب. ومن العجيب أن ابن العربي قال: إن قولهم الممسوخ لا نسل له
[ 290 ]
دعوى، فإنه أمر لا يعرف بالفعل وإنما طريقه النقل، وليس فيه أمر يعول عليه، وكأنه لم يستحضره من صحيح مسلم، ثم قال: وعلى تقدير كون الضب ممسوخا فذلك لا يقتضي تحريم أكله، لان كونه آدميا قد زال حكمه ولم يبق له أثر أصلا، وإنما كره النبي صلى الله عليه وآله وسلم الاكل منه لما وقع عليه من سخط الله، كما كره الشرب من مياه ثمود اه. ولا منافاة بين كونه صلى الله عليه وآله وسلم عاف الضب وبين ما ثبت أنه كان لا يعيب الطعام، لان عدم العيب إنما هو فيما صنعه الآدمي لئلا ينكسر خاطره وينسب إلى التقصير فيه، وأما الذي خلق ذلك فليس نفور الطبع منه ممتنعا. باب ما جاء في الضبع والارنب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمارة قال: قلت لجابر الضبع أصيد هي؟ قال: نعم، قلت: آكلها؟ قال: نعم، قلت: آكلها؟ قال: نعم، قلت: أقاله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم رواه الخمسة وصححه الترمذي. ولفظ أبي داود عن جابر: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الضبع فقال: هي صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم. وعن أنس قال: أنفجنا أرنبا بمر الظهران فسعى القوم فلغبوا وأدركتها فأخذتها فأتيت بها أبا طلحة فذبحها وبعث إلى رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بوركها وفخذها فقبله رواه الجماعة. ولفظ أبي داود: صدت أرنبا فشويتها، فبعث معي أبو طلحة بعجزها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتيته بها. [ رح 3582 ] وعن أبي هريرة قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأرنب قد شواها ومعها صنابها وأدمها فوضعها بين يديه فأمسك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يأكل وأمر أصحابه أن يأكلوا رواه أحمد والنسائي. [ رح 3583 ] وعن محمد بن صفوان: أنه صاد أرنبين فذبحهما بمروتين فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمره بأكلهما رواه أحمد والنسائي وابن ماجة. حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمارة أخرجه أيضا الشافعي والبيهقي وصححه أيضا البخاري وابن حبان وابن خزيمة والبيهقي، وأعله ابن عبد البر
[ 291 ]
بعبد الرحمن المذكور وهو وهم، فإنه وثقه أبو زرعة والنسائي ولم يتكلم فيه أحد ثم إنه لم ينفرد به. وحديث أبي هريرة قال في الفتح: رجاله ثقات إلا أنه اختلف فيه على موسى بن طلحة اختلافا كثيرا. وحديث محمد بن صفوان أخرجه أيضا بقية أصحاب السنن وابن حبان والحاكم. قوله: الضبع هو الواحد الذكر، والانثى ضبعان ولا يقال ضبعة. ومن عجيب أمره أنه يكون سنة ذكرا وسنة أنثى، فيلقح في حال الذكورة ويلد في حال الانوثة، وهو مولع بنبش القبور لشهوته للحوم بني آدم. قوله: قال نعم فيه دليل على جواز أكل الضبع. وإليه ذهب الشافعي وأحمد، قال الشافعي: ما زال الناس يأكلونها ويبيعونها بين الصفا والمروة من غير نكير، ولان العرب تستطيبه وتمدحه. وذهب الجمهور إلى التحريم، واستدلوا بما تقدم في تحريم كل ذي ناب من السباع. ويجاب بأن حديث الباب خاص، فيقدم على حديث كل ذي ناب، واستدلوا أيضا بما أخرجه الترمذي من حديث خزيمة بن جزء قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الضبع فقال: أو يأكل الضبع أحد؟ وفي رواية: ومن يأكل الضبع؟ فيجاب: بأن هذا الحديث ضعيف، لان في إسناده عبد الكريم بن أمية وهو متفق على ضعفه، والراوي عنه إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف. قال ابن رسلان: وقد قيل إن الضبع ليس لها ناب، وسمعت من يذكر أن جميع أسنانها عظم واحد كصفيحة نعل الفرس، فعلى هذا لا يدخل في عموم النهي اه. قوله: ويجعل فيه كبش فيه دليل على أن الكبش مثل الضبع. وفيه أن المعتبر في المثلية بالتقريب في الصورة لا بالقيمة، ففي الضبع الكبش سواء كان مثله في القيمة أو أقل أو أكثر. قوله: أنفجنا أرنبا بنون ثم فاء مفتوحة وجيم ساكنة أي أثرنا. يقال: نفج الارنب إذا ثار، وأنفجته أي أثرته من موضعه، ويقال: الانتفاج الاقشعرار وارتفاع الشعر وانتفاشه. والارنب دويبة معروفة تشبه العناق لكن في رجليها طول بخلاف يديها، والارنب اسم جنس للذكر والانثى. قوله: بمر الظهران اسم موضع على مرحلة من مكة، والراء من قوله بمر مشددة. قوله: فلغبوا بمعجمة وموحدة أي تعبوا وزنا ومعنى. قوله: صنابها بالصاد المهملة بعدها نون. قال في القاموس: الصناب ككتاب اه. وهو صبغ يتخذ من الخردل والزبيب ويؤتدم به، فعلى هذا عطف أدمها عليه للتفسير. ويمكن أن يكون من عطف العام على الخاص. قوله: بوركها الورك بكسر الراء وبكسر الواو وسكون الراء وهما وركان فوق الفخدين كالكتفين فوق العضدين كذا في المصباح. قوله: وأمر أصحابه أن يأكلوا فيه دليل على جواز أكل الارنب. قال في الفتح: وهو قول
[ 292 ]
العلماء كافة. إلا ما جاء في كراهتها عن عبد الله بن عمرو بن العاص من الصحابة، وعن عكرمة من التابعين، وعن محمد بن أبي ليلى من الفقهاء. واحتجوا بحديث خزيمة بن جزء قال: قلت: يا رسول الله ما تقول في الارنب؟ قال: لا آكله ولا أحرمه، قلت: ولم يا رسول الله؟ قال: نبئت أنها تدمى. قال الحافظ: وسنده ضعيف ولو صح لم يكن فيه دلالة على الكراهة، وله شاهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظ: جئ بها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلم يأكلها ولم ينه عنها وزعم أنها تحيض أخرجه أبو داود، وله شاهد أيضا عند إسحاق بن راهويه في مسنده، وهذا إذا صح صلح للاحتجاج به على كراهة التنزيه لا على التحريم. والمحكي عن عبد الله بن عمر والتحريم كما في شرح ابن رسلان للسنن. وحكى الرافعي عن أبي حنيفة أنه حرمها، وغلطه النووي في النقل عن أبي حنيفة. وقد حكي في البحر عن العترة الكراهة يعني كراهة التنزيه وهو القول الراجح. باب ما جاء في الجلالة عنابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن شرب لبن الجلالة رواه الخمسة إلا ابن ماجوصححه الترمذي. [ رح 2585 ] وفي رواية: نهى عن ركوب الجلالة رواه أبو داود. وعنابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أكل الجلالة وألبانها رواه الخمسة إلا النسائي. [ رح 3587 ] وفي رواية: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الجلالة في الابل أن يركب عليها أو يشرب من ألبانها رواه أبو داود. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن لحوم الحمر الاهلية وعن الجلالة عن ركوبها وأكل لحومها رواه أحمد والنسائي وأبو داود. حديث ابن عباس أخرجه أيضا أحمد وابن حبان والحاكم والبيهقي، وصححه أيضا ابن دقيق العيد ولفظه: وعن أكل الجلالة وشرب ألبانها. وحديث ابن عمر حسنه الترمذي. وقد اختلف في حديث ابن عمر على ابن أبي نجيح فقيل: عن مجاهد عنه، وقيل: عن مجاهد مرسلا، وقيل: عن مجاهد عن ابن عباس. وحديث عمرو بن شعيب أخرجه أيضا الحاكم والدارقطني والبيهقي. وفي الباب عن أبي هريرة مرفوعا وفيه النهي عن الجلالة
[ 293 ]
وهي التي تأكل العذرة. قال في التلخيص: إسناده قوي. قوله: عن شرب لبن الجلالة بفتح الجيم وتشديد اللام من أبنية المبالغة وهي الحيوان الذي يأكل العذرة، والجلة بفتح الجيم هي البعرة. وقال في القاموس: الجلة مثلثة البعر أو البعرة اه. وتجمع على جلالات على لفظ الواحدة وجوال كدابة ودواب، يقال: جلت الدابة الجلة وأجلتها فهي جالة وجلالة. وسواء في الجلالة البقر والغنم والابل وغيرها كالدجاج والاوز وغيرهما. وادعى ابن حزم أنها لا تقع إلا على ذات الاربع خاصة، ثم قيل: إن كان أكثر علفها النجاسة فهي جلالة، وإن كان أكثر علفها الطاهر فليست جلالة، وجزم به النووي في تصحيح التنبيه. وقال في الروضة تبعا للرافعي: الصحيح أنه لا اعتداد بالكثرة بل بالرائحة والنتن فإن تغير ريح مرقها أو لحمها أو طعمها أو لونها فهي جلالة. والنهي حقيقة في التحريم. فأحاديث الباب ظاهرها تحريم أكل لحم الجلالة وشرب لبنها وركوبها. وقد ذهبت الشافعية إلى تحريم أكل الجلالة. وحكاه في البحر عن الثوري وأحمد بن حنبل. وقيل: يكره فقط كما في اللحم المذكى إذا أنتن. قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: لو غذى شاة عشر سنين بأكل حرام لم يحرم عليه أكلها ولا على غيره. وهذا أحد احتمالي البغوي، وإذا قلنا بالتحريم أو الكراهة فإن علفت طاهرا فطاب لحمها حل لان علة النهي التغير وقد زالت. قال ابن رسلان: ونقل الامام فيه الاتفاق، قال الخطابي: كرهه أحمد وأصحاب الرأي والشافعي وقالوا: لا تأكل حتى تحبس أياما. وفي حديث أن البقر تعلف أربعين يوما ثم يؤكل لحمها. وكان ابن عمر يحبس الدجاجة ثلاثا، ولم ير بأكلها بأسا مالك من دون حبس اه. قال ابن رسلان في شرح السنن: وليس للحبس مدة مقدرة. وعن بعضهم في الابل والبقر أربعين يوما، وفي الغنم سبعة أيام، وفي الدجاج ثلاثة. واختاره في المهذب والتحرير. قال الامام المهدي في البحر: فإن لم تحبس وجب غسل أمعائها ما لم يستحل ما فيه استحالة تامة. قوله: نهى عن ركوب الجلالة علة النهي أن تعرق فتلوث ما عليها بعرقها وهذا ما لم تحبس، فإذا حبست جاز ركوبها عند الجميع، كذا في شرح السنن. وقد اختلف في طهارة لبن الجلالة، فالجمهور على الطهارة، لان النجاسة تستحيل في باطنها فيطهر بالاستحالة كالدم يستحيل في أعضاء الحيوانات لحما ويصير لبنا.
[ 294 ]
باب ما استفيد تحريمه من الامر بقتله أو النهي عن قتله عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية والغراب الابقع والفأرة والكلب العقور والحديا رواه أحمد ومسلم وابن ماجة والترمذي. [ رح 3590 ] وعنسعد بن أبي وقاص: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتل الوزغ وسماه فويسقا رواه أحمد ومسلم. وللبخاري منه الامر بقتله. وعن أم شريك: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتل الوزغ متفق عليه، زاد البخاري قال: وكان ينفخ على إبراهيم عليه السلام. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من قتل وزغا في أول ضربة كتب له مائة حسنة، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك رواه أحمد ومسلم ولابن ماجة والترمذي معناه. وعنابن عباس قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصرد رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وعن عبد الرحمن بن عثمان قال: ذكر طبيب عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دواء وذكر الضفدع يجعل فيه فنهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل الضفدع رواه أحمد وأبو داود والنسائي. [ رح 3595 ] وعن أبي لبابة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن قتل الجنان التي تكون في البيوت إلا الابتر وذا الطفيتين فإنهما اللذان يخطفان البصر ويتبعان ما في بطون النساء متفق عليه. وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن لبيوتكم عمارا فحرجوا عليهن ثلاثا فإن بدا لكم بعد ذلك شئ فاقتلوه رواه أحمد ومسلم والترمذي. وفي لفظ لمسلم: ثلاثة أيام. حديث أبو عباس قال الحافظ: رجاله رجال الصحيح. وقال البيهقي: هو أقوى ما ورد في هذا الباب. ثم رواه من حديث سهل بن سعد وزاد فيه: والضفدع. وفيه عبد المهيمن بن عباس بن سهل بن سعد وهو ضعيف. وحديث عبد الرحمن بن عثمان أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي، قال البيهقي: ما ورد في النهي. وروى البيهقي من حديث أبي هريرة النهي عن قتل الصرد والضفدع والنمل والهدهد، وفي إسناده
[ 295 ]
إبراهيم بن الفضل وهو متروك. وروى البيهقي أيضا من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفا: لا تقتلوا الضفادع فإن نقيقها تسبيح، ولا تقتلوا الخفاش فإنه لما خرب بيت المقدس قال: يا رب سلطني على البحر حتى أغرقهم. قال البيهقي: إسناده صحيح. قال الحافظ: وإن كان إسناده صحيحا لكن عبد الله بن عمرو كان يأخذ عن الاسرائيليات. ومن جملة ما نهى عن قتله الخطاف. أخرج أبو داود في المراسيل من طريق عباد بن إسحاق عن أبيه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قتل الخطاطيف. ورواه البيهقي معضلا أيضا من طريق ابن أبي الحويرث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ورواه ابن حبان في الضعفاء من حديث ابن عباس وفيه الامر بقتل العنكبوت. وفيه عمرو بن جميع وهو كذاب. وقال البيهقي: روى فيه حديث مسند وفيه حمزة النصيبي وكان يرمى بالوضع. ومن ذلك الرخمة أخرج ابن عدي والبيهقي عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن أكل الرخمة. وفي إسناده خارجة بن مصعب وهو ضعيف جدا. ومن ذلك العصفور، أخرج الشافعي وأبو داود والحاكم من حديث عبد الله بن عمر وقال صحيح الاسناد مرفوعا: ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلا سأل الله عنها، قال: يا رسول الله ومحقها؟ قال: يذبحها ويأكلها ولا يقطع رأسها ويطرحها وأعله ابن القطان بصهيب مولى ابن عباس الراوي عن عبد الله فقال: لا يعرف حاله. ورواه الشافعي وأحمد والنسائي وابن حبان عن عمرو بن الشريد عن أبيه مرفوعا: من قتل عصفورا عبثا عج إلى الله يوم القيامة يقول: يا رب إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني منفعة. قوله: خمس فواسق إلخ، هذا الحديث قد تقدم الكلام عليه في كتاب الحج. قوله: أمر بقتل الوزغ قال أهل اللغة: هي من الحشرات المؤذيات وجمعه أوزاغ وسام أبرص جنس منه وهو كباره، وتسميته فويسقا كتسمية الخمس فواسق، وأصل الفسق الخروج والوزغ والخمس المذكورة خرجت عن خلق معظم الحشرات ونحوها بزيادة الضر والاذى. قوله: وكان ينفخ على إبراهيم أي في النار وذلك لما جبل عليه طبعها من عداوة نوع الانسان. قوله: في أول ضربة كتب له مائة حسنة في رواية أخرى: سبعون. قال النووي: مفهوم العدد لا يعمل به عند جمهور الاصوليين، فذكر سبعين لا يمنع المائفلا معارضة بينهما، ويحتمل أنه صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بالسبعين ثم تصدق
[ 296 ]
الله بالزيادة إلى المائة، فأعلم بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين أوحي إليه بعد ذلك. ويحتمل أن ذلك يختلف باختلاف قاتل الوزغ بحسب نياتهم وإخلاصهم وكمال أحوالهم ونقصها، لتكون المائة للكامل منهم والسبعون لغيره. وأما سبب تكثير الثواب في قتله بأول ضربة ثم ما يليها، فالمقصود به الحث على المبادرة بقتله والاعتناء به وتحريض قاتله على أن يقتله بأول ضربة، فإنه إذا أراد أن يضربه ضربات ربما انفلت وفات قتله. قوله: والصرد هو طائر فوق العصفور. وأجاز مالك أكله. وقال ابن العربي: إنما نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قتله، لان العرب كانت تشاءم به، فنهى عن قتله ليزول ما في قلوبهم من اعتقاد التشاؤم. وفي قول للشافعي مثل مالك، لانه أوجب فيه الجزاء على المحرم إذا قتله. وأما النمل فلعله إجماع على المنع من قتله. قال الخطابي: إن النهي الوارد في قتل النمل المراد به السليماني أي لانتفاء الاذى منه دون الصغير، وكذا في شرح السنة. وأما النحلة فقد روي إباحة أكلها عن بعض السلف. وأما الهدهد فقد روي أيضا حل أكله وهو مأخوذ من قول الشافعي أنه يلزم في قتله الفدية. قوله: فنهى عن قتل الضفدع فيه دليل على تحريم أكلها بعد تسليم أن النهي عن القتل يستلزم تحريم الاكل. قال في القاموس: الضفدع كزبرج وجندب ودرهم وهذا أقل أو مردود دابة نهرية. قوله: ينهى عن قتل الجنان هو بجيم مكسورة ونون مشددة وهي الحيات جمع جان وهي الحية الصغيرة. وقيل: الدقيقة الخفيفة. وقيل: الدقيقة البيضاء. قوله: إلا الابتر هو قصير الذنب. وقال النضر بن شميل: هو صنف من الحيات أزرق مقطوع الذنب لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها. وهو المراد من قوله: يتبعان ما في بطون النساء أي يسقطان. قوله: وذا الطفيتين هو بضم الطاء المهملة وإسكان الفاء وهما الخطان الابيضان على ظهر الحية، وأصل الطفية خوصة المقل وجمعها طفى شبه الخطين على ظهرها بخوصتي المقل. قوله: يخطفان البصر أي يطمسانه بمجرد نظرهما إليه لخاصية جعلها الله تعالى في بصرهما إذا وقع علبصر الانسان. قال النووي قال العلماء: وفي الحيات نوع يسمى الناظر إذا وقع بصره على عين إنسان مات من ساعته. قوله: فحرجوا عليهن ثلاثا بحاء مهملة ثم راء مشددة ثم جيم والمراد به الانذار. قال المازري والقاضي: لا تقتلوا حيات مدينة النبي صلى الله
[ 297 ]
عليه وآله وسلم إلا بإنذار كما جاء في هذه الاحاديث، فإذا أنذرها ولم تنصرف قتلها. وأما حيات غير المدينة في جميع الارض والبيوت والدور فيندب قتلها من غير إنذار لعموم الاحاديث الصحيحة في الامر بقتلها، ففي الصحيح بلفظ: اقتلوا الحيات ومن ذلك حديث الخمس الفواسق المذكورة في أول الباب. وفي حديث الحية الخارجة بمنى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقتلها ولم يذكر إنذارا ولا نقل أنهم أنذروها، فأخذ بهذه الاحاديث في استحباب قتل الحيات مطلقا، وخصت المدينة بالانذار للحديث الوارد فيها، وسببه ما صرح به في صحيح مسلم وغيره أنه أسلم طائفة من الجن بها، وذهبت طائفة من العلماء إلى عموم النهي في حيات البيوت بكل بلد حتى تنذر. وأما ما ليس في البيوت فيقتل من غير إنذار، قال مالك: يقتل ما وجد منها في المساجد. قال القاضي وقال بعض العلماء: الامر بقتل الحيات مطلقا مخصوص بالنهي عن حيات البيوت إلا الابتر وذا الطفيتين فإنه يقتل على كل حال، سواء كان في البيوت أم غيرها، وإلا ما ظهر منها بعد الانذار. قالوا: ويخص من النهي عن قتل حيات البيوت الابتر وذو الطفيتين اه. وهذا هو الذي يقتضيه العمل الاصولي في مثل أحاديث الباب فالمصير إليه أرجح. وأما صفة الاستئذان فقال القاضي: روى ابن حبيب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه يقول: أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكن سليمان بن داود أن تؤذننا وأن تظهرن لنا وقال مالك: يكفيه أن يقول: أحرج عليك بالله واليوم الآخر أن تبدو لنا ولا تؤذننا، ولعل مالكا أخذ لفظ التحريج من لفظ الحديث المذكور. وتبويب المصنف في هذا الباب فيه إشارة إلى أن الامر بالقتل والنهي عنه من أصول التحريم. قال المهدي في البحر: أصول التحريم إما نص الكتاب أو السنة أو الامر بقتله كالخمسة وما ضر من غيرها فمقيس عليها، أو النهي عن قتله كالهدهد والخطاف والنحلة والنملة والصرد، أو استخباث العرب إياه كالخنفساء والضفدع والعظاية والوزغ والحرباء والجعلان وكالذباب والبعوض والزنبور والقمل والكتان والنامس والبق والبرغوث لقوله تعالى: * (يحزم عليهم الخبائث) * (الاعراف: 157) وهي مستخبثة عندهم، والقرآن نزل بلغتهم، فكان استخباثهم طريق تحريم، فإن استخبثه البعض اعتبر الاكثر، والعبرة باستطابة أهل السعة لا ذوي الفاقة اه. والحاصل أن الآيات القرآنية والاحاديث الصحيحة المذكورة في
[ 298 ]
أول الكتاب وغيرها قد دلت على أن الاصل الحل، وأن التحريم لا يثبت إلا إذا ثبت الناقل عن الاصل المعلوم وهو أحد الامور المذكورة، فلما لم يرد فيه ناقل صحيح فالحكم بحله هو الحق كائنا ما كان، وكذلك إذا حصل التردد فالمتوجه الحكم بالحل، لان الناقل غير موجود مع التردد، ومما يؤيد أصالة الحل بالادلة الخاصة استصحاب البراءة الاصلية. قدتم بعون الباري تعالى وحوله طبع الجزء الثامن من نيل الاوطار شرح منتقى الاخبار من احاريث سيد الاخيار للعلامة الشوكاني ويتلوه ان شاء الله تعالى الجزء التاسع واوله (ابواب الصيد) وبه يتم الكتاب ان شاء الله تعالى عنه وكرمه